وإذا تبين براءة السلف من تكفير المخالفين، فيحسن العلم أن هذا المذهب في تكفير المخالف من أقوال أهل البدع ومنهجهم، وتابعهم فيه من أخطأ من أهل السنة والحق، يقول ابن تيمية: " فمنهم من يكفر أهل البدع مطلقاً، ثم يجعل كل من خرج عما هو عليه من أهل البدع، وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة الجهمية، وهذا القول أيضاً يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة، وليس هو قول الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وليس فيهم من كفر كل مبتدع، بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك".265
يقول محمد صديق خان متحسراً على تكفير بعض الفقهاء للمتأولين: "وأما قول بعض أهل العلم : إن المتأول كالمرتد، فههنا تسكب العبرات، ويناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر، لا بسنة ولا قرآن، ولا ببيان من الله ولا برهان".266
فالتأويل – كما رأيتَ – عذر ما زال العلماء يلوذون به من رمي مخالفيهم بالكفر والضلال، فلا كفر قبل قيام الحجة وزوال الشبهة، فهذا مذهب أهل السنة والحق في الاعتذار لمخالفيهم، بينما يهدر هذا العذر الأغرار ممن فاتهم لبوس العلم ومعارف العلماء، ومثله حال المبتدعة الذين مازال ديدنهم تكفير مخالفيهم مع غير إعذار ولا روية.
ثالثاً : التأويل الذي لا عذر فيه
وإذا كان التأويل عذراً يمنع من تكفير المتأول، فإنه لا يصلح جُنة وملاذاً يلوذ به كل متلاعب بالدين يبطن الكفر ويتقي بالتأويل.
وقد بين العلماء نماذج من التأويل الذي لا عذر لمن ادعاه، لأنه لا وجه له ولا احتمال، فتعلق أهل البدع فيه، لكنه في حقيقته تكذيب، إذ ليس مرده شبهة عارضة أو سوء فهم، بل هو من باب المغالطة والجحود.
يقول ابن تيمية: " ولا بد من التنبيه لقاعدة أخرى، وهي أن المخالف قد يخالف نصاً متواتراً ويزعم أنه مؤول، ولكن ذكر تأويله لا انقداح له أصلاً عن اللسان، لا على قرب، ولا على بعد، فذلك كفر، وصاحبه مكذب وإن كان يزعم أنه مؤول.
مثاله ما رأيته في كلام بعض الباطنية، أن الله تعالى واحد، بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها، وعالم بمعنى أنه يعطي العلم ويخلقه لغيره، وموجود بمعنى أنه يوجد غيره، فأما أن يكون في نفسه واحداً أو موجوداً وعالماً بمعنى اتصافه به فلا.
وهذا كفر صراح، لأن حمل الوحدة على إيجاد الوحدة ليس من التأويل في شيء، ولا تحتمله لغة العرب أصلاً، ولو كان خالق الوحدة يسمى واحداً لخلقِه الوحدة لسمي ثلاثاً أو أربعاً، لأنه خلق الأعداد أيضاً، فأمثلة هذه المقالات تكذيبات، وإن عبر عنها بالتأويلات".267
قال ابن الوزير عن متعمدي تكذيب الأنبياء: "لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع، وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله، كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى، بل جميع القرآن والشرائع والمعاد الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار ".268
ومثله فإن أصول الإسلام التي لا تخفى، والتي يعرفها المسلم بداهة، فإن جحدها كفر، لا يدفعه ادعاء التأول، قال الشافعي رحمه الله: " العلم علمان: علم عامة لا يسع العاجز مغلوب على عقله جهله... مثل أن الصلوات خمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر وما كان في معنى هذا مما كلف العباد أن يفعلوه ويعلموه ويعطوه من أنفسهم وأموالهم، وأن يكفوا عنه مما حرم عليهم منه، وهذا الصنف كله من العلم موجود نصاً في كتاب الله عز وجل وموجود عاماً عند أهل الإسلام ينقله عوامهم عمن مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله r ولا ينازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم، هذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر ولا التأويل، ولا يجوز فيه التنازع".269
ويبين ابن حجر ضابطاً آخر للتأويل غير السائغ، وهو خروجه عن طريقة العرب وأساليبها في الكلام، يقول رحمه الله عن التأويل السائغ: " قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم، إذا كان تأويله سائغاً في لسان العرب، وكان له وجه في العلم".270
ومن التأويل المردود مخالفة قطعي الدلالة الذي لا يختلف المسلمون في تأويله، يقول ابن حزم: "وأما من خالف الإسلام إلى دين آخر، وأقر بنبوة أحد بعد رسول الله، فإن كان بعد رسول الله ممن بلغته النذارة فهو كافر، لا يعذر بتأويل أصلاً، لأن النص ورد بأن من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وبأنه لا نبي بعد محمد r ".271
قال القرني: "إذا ظهر أن التأويل عذر في المسألة التكفير، فإن هذا لا يعني أن كل من ادعى التأول فهو معذور بإطلاق، بل يشترط في ذلك التأويل أن لا يكون في أصل الدين الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، وقبول شريعته، لأن هذا الأصل الشهادتين لا يمكن تحقيقه مع حصول الشبهة فيه، ولهذا أجمع العلماء على كفر الباطنية - مثلاً - وأنهم لا يعذرون بالتأويل، لأن حقيقة مذهبهم الكفر بالله تعالى، وعدم عبادة الله وحده، وإسقاط شرائع الإسلام".272
وهكذا فالتأويل عذر مادام القول فيه منضبطاً بقواعد الشريعة ملازماً لفهوم العرب في دلالات الألفاظ والتراكيب، وهو بذلك ليس جُنة للمتلاعبين لألفاظ النصوص، المعطلين لها، والجاحدين لما شرعه الله فيها، المستترين من إعمالها والإذعان لها بالتأويل الفاسد، الذي هو في حقيقته الجحود والتعطيل.
العذر بالإكراه
ومن الموانع التي تمنع تكفير المسلم إذا ارتكب مكفراً الإكراه، إذ قد يكره المسلم على أمر هو من الكفر، لكن لا مخرج منه، فهذا مما يعذر الله به عباده، فإن التكاليف الشرعية منوطة بالاستطاعة، والإكراه أمر خارج عنها، لذا فإن الله لم يكلف به عباده رحمة منه وفضلاً.(3/11)
ودليل هذه المسألة مقرر في قول الله تعالى: ] من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم [ (النحل : 106).
قال الجصاص: "قال أبو بكر: هذا أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه".273
قال ابن حجر : " وأمّا من أكره على ذلك فهو معذور بالآية , لأنّ الاستثناء من الإثبات نفي، فيقتضي أن لا يدخل الذي أكره على الكفر تحت الوعيد..".274
ومن أدلة قاعدة العذر بالإكراه أيضاً قوله تعالى: ] لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيءٍ إلا أن تتقوا منهم تقاةً ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير [ (آل عمران: 28).
قال ابن حجر: "ومعنى الآية : لا يتّخذ المؤمن الكافر وليّاً في الباطن ولا في الظّاهر إلّا للتّقيّة في الظّاهر، فيجوز أن يواليه إذا خافه، ويعاديه باطناً...".275
كما عذر الله في التخلف عن الهجرة المستضعفين المكرهين على البقاء في مكة، واستثناهم من أليم عذابه وشديد وعيده، حين قال متوعداً المتخلفين في مكة: ] فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً [ (النساء: 97-98).
قال البخاري: "فعذر الله المستضعفين الذين لا يمتنعون من ترك ما أمر الله به، والمكره لا يكون إلا ممتنعاً من فعل ما أمر به".276
وجاء في الحديث المشهور المروي عن النبي r أنه قال: ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)).277
قال القاضي أبو بكر ابن العربي: " والخبر وإن لم يصح سنده، فإن معناه صحيح باتفاق من العلماء ".278
وقال الشاطبي في معنى الحديث: "هو معنى متفق عليه في الجملة، لا خلاف فيه".279
وقال ابن حجر عن هذا الحديث: " وهو حديث جليل , قال بعض العلماء : ينبغي أن يعدّ نصف الإسلام , لأنّ الفعل إمّا عن قصد واختيار أو لا , الثّاني ما يقع عن خطأ أو نسيان أو إكراه، فهذا القسم معفوّ عنه باتّفاق".280
واختلف أهل العلم في تحديد معنى الإكراه، كما اختلفوا في مقدار ما يباح للمسلم حال الإكراه.
وفي تعريف الإكراه بقول ابن حجر : " هو إلزام الغير بما لا يريده".281
ويزيد ابن حزم التعريف شرحاً وبياناً، فيقول: "والإكراه هو كل ما سمي في اللغة إكراهاً، وعرف بالحس أنه إكراه، كالوعيد بالقتل ممن لا يؤمن منه إنفاذ ما توعد به، والوعيد بالضرب كذلك، أو الوعيد بالسجن كذلك، أو الوعيد بإفساد المال كذلك، أو الوعيد في مسلم غيره بقتل أو ضرب أو سجن أو إفساد مال ".282
وقال القرطبي: "وقال النخعي: القيد إكراه، والسجن إكراه، وهذا قول مالك، إلا أنه قال: والوعيد المخوف إكراه، وإن لم يقع، إذا تحقق ظلم المعتدي وإنفاذه لما يتوعد به....
وتناقض الكوفيون، فلم يجعلوا السجن والقيد إكراهاً على شرب الخمر وأكل الميتة، لأنه يخاف منهما التلف، وجعلوهما إكراهاً في إقراره: لفلان عندي ألف درهم.
قال ابن سحنون: وفي إجماعهم على أن الألم والوجع الشديد إكراه ما يدل على أن الإكراه يكون تلف نفس، وذهب مالك إلى أن من أكره على يمين بوعيد أو سجن أو ضرب أنه يحلف ولا حنث عليه، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور ".283
واعتبار السجن والتعذيب والقيد من صور الإكراه منقول عن الصحابة رضي الله عنهم،، فقد "أخرج عبد بن حميد بسندٍ صحيح عن عمر قال: (ليس الرّجل بأمينٍ على نفسه إذا سجن أو أوثق أو عذّب)، ومن طريق شريح نحوه وزيادة، ولفظه: (أربع كلهنّ كره : السّجن والضّرب والوعيد والقيد )، وعن ابن مسعود قال: ( ما كلام يدرأ عنّي سوطين إلا كنت متكلماً به )، وهو قول الجمهور ".284
وعلى الرغم من اعتبار العلماء لهذه الصور المختلفة إكراهاً، فإنهم لم يجيزوا التلفظ بكلمة الكفر في كل من هذه الصور، إذ لا يكفي أن يوضع القيد في معصم مسلم ليتقيه بالكفر، بل الإكراه أمر نسبي، يختلف باختلاف المكره عليه، يقول ابن تيمية : "تأملت المذاهب، فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره عليه، فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد قد نص في غير موضع على أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بتعذيب من ضرب أو قيد، ولا يكون الكلام إكراهاً.
وقد نص على أن المرأة لو وهبت زوجها صداقها أو مسكنها، فلها أن ترجع بناء على أنها لا تهب له إلا إذا خافت أن يطلقها أو يسيء عشرتها، فجعل خوف الطلاق أو سوء العشرة إكراها في الهبة.. ومثل هذا لا يكون إكراهاً على الكفر، فإن الأسير إذا خشي من الكفار أن لا يزوجوه وأن يحولوا بينه وبين امرأته لم يبح له التكلم بكلمة الكفر".285
قال ابن العربي: "والإكراه المبيح لذلك هو أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أمره به، فأبيح له في هذه الحال أن يظهر كلمة الكفر".286
ونقل ابن بطّال الإجماع على جواز التقية من القتل بالكفر، فقال: "أجمعوا على أنّ من أكره على الكفر حتّى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئنّ بالإيمان أنّه لا يحكم عليه بالكفر ولا تبين منه زوجته..".287
ولئن اتفق العلماء على جواز التقية في الأقوال، فإنهم اختلفوا في جوازها في الأفعال، والراجح أن الإكراه يبيح تقية القول والفعل على السواء، إلا في قتل النفس المعصومة، فإنه لا يجوز قتلها تقية بالإجماع.(3/12)
قال ابن حجر : " ولا فرق بين الإكراه على القول والفعل عند الجمهور , ويستثنى من الفعل ما هو محرّم على التّأبيد كقتل النّفس بغير حقّ... فقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي : انعقد الإجماع على أنّ المكره على القتل مأمور باجتناب القتل والدّفع عن نفسه، وأنّه يأثم إن قتل من أكره على قتله , وذلك يدلّ أنّه مكلََّف حالة الإكراه ".288
ويوافق ابن حزم على اعتبار إتيان بعض الأفعال حال الإكراه مستوجباً العذر، لكنه يضيف أن ثمة " ما لا تبيحه الضرورة كالقتل والجراح والضرب وإفساد المال، فهذا لا يبيحه الإكراه، فمن أكره على شيء من ذلك لزمه القود والضمان، لأنه أتى محرماً عليه إتيانه".289
ويرد الشوكاني على من منع تقية الفعل290 متعلقاً بسبب ورود قوله تعالى: ] إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان[ (النحل: 106)، فإنها نزلت في عمار، وقد أباح له الرسول e القول، فقالوا التقية تكون بالقول لا الفعل، لكن الشوكاني يرده، ويرى أنه قول مردود: "يدفعه ظاهر الآية، فإنّها عامّة فيمن أكره من غير فرق بين القول والفعل، ولا دليل لهؤلاء القاصرين للآية على القول، وخصوص السبب لا اعتبار به مع عموم اللفظ، كما تقرّر في علم الأصول".291
وبعد هذا كله لن يفوتنا التذكير بأن الصبر على البلاء والامتناع عن هذه الرخصة من عزم الأمور وفضائل العبادات، وزهوق نفس المؤمن وفوات مصالحه الدنيوية في هذا السبيل تجعله في مصاف سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه، فقد قال e : ((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله)).292
قال ابن حجر: "قال ابن بطال: أجمعوا على أن من أكره على الكفر واختار القتل أنه أعظم أجراً عند الله ممن اختار الرخصة ".293
وأما قوله e لعمار بن ياسر: ((إن عادوا فعد)).294 فهو رخصة، و "هو على وجه الإباحة، لا على وجهة الإيجاب، ولا على الندب ".295
وهكذا فإن إعذار المكره وترك عقوبته صورة من صور رحمة الله وأثر من آثار فضله وعدله، فإنه تبارك وتعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولا يؤاخذ واحداً بكسب غيره وعدم اختياره، فهذا مما تجاوز الله عنه لأمة محمد r تكرماً منه وفضلاً.
التفريق بين مسائل العقيدة ومسائل الأحكام في مسألة التكفير وموانعه
لكن ما ذكرنا من الأعذار التي تصرف الكفر عن صاحب العمل المكفر يصطدم بأمر نراه كثيراً يتردد على ألسنة بعض طلاب العلم، وهو أن الإعذار والرحمة والتأني في التبديع والتكفير للمخالف إنما هو في أبواب الفقه لا العقيدة، فالخلاف في أبواب الفقه يقبل الاجتهاد والاعتذار، بينما مسائل الاعتقاد لا يسوغ فيها خلاف، ولا يصح فيه إعذار.
وقالوا: إذا عذرنا المسلم في قضايا الاعتقاد، فما بالنا لا نعذر الكافر بمثل عذره، وهذا يؤدي إلى عذر كل أحد.
والحق أن اختلاف المسلمين في مسائل الاعتقاد كالخلاف في مسائل الفقه سواء بسواء، منه ما يسوغ، وهو ما يتعلق بفروع المسائل التي لم يرد دليل قطعي الدلالة على وجه من وجوهها.
ومنه ما لا يسوغ، وهو ما يتعلق بالمسائل الأصولية التي دلت عليها الأدلة القطعية الدلالة من الكتاب والسنة. فالخلاف في بعض المسائل الفرعية - من أي نوع كانت - لا يجيز الحكم بهلكة الآخرين وبطلان أعمالهم.
والتفريق بين مسائل الاعتقاد والفقه تفريق اصطلاحي، لا أثر له في أحكام الشريعة، وأهل البدع هم الذين فرقوا في الأحكام بين النوعين.
يقول شيخ الإسلام: "قالوا: والفرق بين مسائل الأصول والفروع إنما هو من أقوال أهل البدع من أهل الكلام من المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم، وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه، ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره.
قالوا: والفرق في ذلك بين مسائل الأصول والفروع كما أنه بدعة محدثة في الإسلام، لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع، بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة، فهي باطلة عقلاً، فإن المفرقين بين ما جعلوه مسائل أصول ومسائل فروع لم يفرقوا بينهما بفرق صحيح يميز بين النوعين، بل ذكروا ثلاثة فروق أو أربعة كلها باطلة.." 296
ويقول رحمه الله: " المتأول الذي قصده متابعة الرسول لا يكفر، بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية.
وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفر المخطئين فيها، وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم، كالخوارج والمعتزلة والجهمية، ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم".297
ثم ذكر رحمه الله بعض الأمثلة التي تثبت وقوع الاختلاف بين السلف في مسائل الاعتقاد، ولم يكفر بعضهم بعضاً، بل عذروا مخالفيهم فيها كما عذروهم في مسائل الأحكام فقال: "وأيضاً فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل، واتفقوا على عدم التكفير بذلك مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة، وأنكر بعضهم رؤية محمد ربه، ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام معروف، وكذلك لبعضهم في قتال بعض، ولعن بعض، وإطلاق تكفير بعض، أقوال معروفة".
ويكمل شيخ الإسلام بذكر مواضع أهم من الخلاف بين السلف في مسائل الاعتقاد، فيقول: "وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ: ]بل عجبتُ[ (الصافات: 12)، ويقول: إن الله لا يعجب … فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة.(3/13)
وكذلك بعض السلف أنكر بعضهم حروفاً من القرآن، مثل إنكار بعضهم قوله: ] أفلم ييأس الذين آمنوا[ (الرعد: 31) وقال: إنما هي: أو لم يتبين الذين آمنوا، وإنكار الآخر قراءة قوله: ]وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه [(الإسراء: 23).، قال: إنما هي: ووصى ربك.
وبعضهم كان حذف المعوذتين، وآخر يكتب سورة القنوت، وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر، ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا، وإن كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر..".298
ويقول وهو يذكر صوراً أخرى من الاختلاف في مسائل العقيدة خالف فيها بعضهم مذهب الحق ولم يكفرهم أهل السنة، لأن "الخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية.. كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه، مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته، أو اعتقد أن الله لا يرى لقوله: ]لا تدركه الأبصار[ (الأنعام: 103)، ولقوله: ]وما كان لبشرٍ أن يكلّمه اللّه إلاّ وحياً أو من وراء حجابٍ[ (الشورى: 51). نقل عن بعض التابعين أن الله لا يرى، وفسروا قوله ] وجوه يومئذٍ نّاضرة إلى ربّها ناظرة[ (القيامة: 22-23). بأنها تنتظر ثواب ربها كما نقل عن مجاهد وأبي صالح...
وكما أنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي لاعتقادهم أن معناه أن الله يحب ذلك ويرضاه ويأمر به.. وكالذي قال لأهله: ((إذا أنا مِتّ فأحرقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين)). وكثير من الناس لا يعلم ذلك، إما لأنه لم تبلغه الأحاديث، وإما لأنه ظن أنه كذب وغلط".299
ونقل رحمه الله عن العلماء من السلف أنهم كانوا "لا يؤثمون مجتهداً مخطئاً، لا في المسائل الأصولية ولا في الفروعية، كما ذكر عنهم ابن حزم وغيره، ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية، ويصححون الصلاة خلفهم، والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين، ولا يصلي خلفه. وقالوا: هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين: إنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحداً من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة عملية [فقهية] ولا علمية [اعتقادية]".300
وقال شيخ الإسلام: " فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه كائناً ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي e وجماهير أئمة الإسلام".301
وعليه نجمل فنقول بأن ما ذكرنا عن الإعذار بالجهل أو التأويل أو الإكراه وغيرها هو رحمة من الله يتفضل بها على عباده الذين ما قصدوا محادّته ، ولا عمدوا إلى مخالفة أمره، وهي فضل يشمل قضايا المعتقد والفقه بلا تفريق، فالتفريق بينها عند أهل العلم : في باب التعليم والتدريس، لا الأحكام، فإنّ من أخطأ - مع استفراغ الوسع والجهد - في باب من أبواب المعتقد كان كمن أخطأ في مسائل الفقه والأحكام سواء بسواء، فعفو الله ورحمته تنال الجميع.
الحكم بغير ما أنزل الله
لعل قضية الحكم بغير ما أنزل الله من أهم القضايا التي زلت بها الأقدام في مسألة التكفير، إذ أدت بالبعض إلى تكفير كل حاكم بغير ما أنزل الله من غير تفريق بين صنوفه المختلفة، واستجرهم ذلك إلى تكفير ولاتهم ووزرائهم ثم شرطتهم، ثم سائر أفراد المجتمع الذين رضوا بحكمهم ولم يثوروا عليهم.
وفي البدء نؤكد أن الحكم بما أنزل الله حق لله تعالى، وأنه من أخص خصائص الألوهية التي هي حق لله بموجب ربوبيته ] ألا له الخلق والأمر [ (الأعراف: 54).
يقول ابن تيمية: " ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يجب تحكيم الرسول r في كل ما شجر بين الناس في أمر دينهم ودنياهم في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلهم إذا حكم بشيء أن لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما حكم ويسلموا تسليماً".302
وقوله مصداق لقول الله تعالى: ]فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً[ (النساء: 65).
أما النكول عن تحكيم شرع الله، إلى شرع غيره، فهو عبادة للطاغوت، وصورة من صور الشرك بالله العظيم ] ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً [ (النساء: 60).
وجعل الله التحاكم إلى شرعه والانقياد لأمره ميزاناً يستبين فيه الإيمان من النفاق، فحال المنافقين كما قال الله تعالى: ]ويقولون آمنّا باللّه وبالرّسول وأطعنا ثمّ يتولّى فريق مّنهم مّن بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى اللّه ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق مّنهم مّعرضون وإن يكن لّهم الحقّ يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف اللّه عليهم ورسوله بل أولئك هم الظّالمون [(النور: 47 – 50).
وأما المؤمنون فإن حالهم مختلف ] إنّما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى اللّه ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون[ (النور:51).
يقول شيخ الإسلام: "ذم [الله عز وجل] المدعين الإيمان بالكتب كلها، وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة، ويتحاكمون إلى بعض الطواغيت المعظمة من دون الله، كما يصيب ذلك كثيراً ممن يدعي الإسلام وينتحله في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أو غيرهم، أو إلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الإسلام من ملوك الترك وغيرهم ".303(3/14)
قال ابن كثير: "فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا [قانون التتار] وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كَفَر بإجماع المسلمين".304
وإذا كان الحكم بشريعة الله من مقتضيات الإيمان ومن أَولى حقوق الرحمن، فإن من نازع الله هذا الحق، فقد جعل نفسه شريكاً لله في ربوبيته وألوهيته على خلقه ]أم لهم شركاء شرعوا لهم مّن الدّين ما لم يأذن به اللّه[ (الشورى: 21).
فقد عرّف محمد رشيد رضا الشرك ببعض مظاهره وصوره، فقال: "إسناد الخلق والتدبير إلى غير الله تعالى معه، أو أن تؤخذ أحكام الدين في عبادة الله تعالى والتحليل والتحريم عن غيره، أي غير كتابه ووحيه الذي بلغه عنه رسله".305
والذي يشرع يجعل من نفسه إلهاً مع الله، وهذا كافر باتفاق المسلمين، يقول ابن تيمية: " والإنسان متى حلّل الحرام المجمع عليه، أو حرّم الحلال المجمع عليه، أو بدّل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء".306
وتقييده رحمه الله بالمجمع عليه يخرج من أخطأ في الاجتهاد، بينما الذي يكفر هو المكذب لله ولرسوله الجاحد لحكمهما، لا المخطئ الحريص على متابعتهما.
ويقول القاضي أبو يعلى مؤكداً ذات المعنى: " ومن اعتقد تحليل ما حرم الله ورسوله بالنص الصريح، أو أجمع المسلمون على تحريمه فهو كافر، كمن أباح شرب الخمر ومنع الصلاة والصيام والزكاة، وكذلك من اعتقد تحريم شيء حلله الله وأباحه بالنص الصريح، أو أباحه رسوله أو المسلمون مع العلم بذلك، فهو كافر كمن حرم النكاح والبيع والشراء على الوجه الذي أباحه الله عز وجل، والوجه فيه أن في ذلك تكذيباً لله تعالى ولرسوله في خبره، وتكذيباً للمسلمين في خبرهم، ومن فعل ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين".307
والتشريع كفر أيضاً من جهة أنه تقديم لرأي من شرعه على شرع الله وحكمه، وهذا ولا ريب من الكفر البيِّن، الذي يحكم بالكفر على قائله، ولو أذعن لحكم الله وانقاد له، يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب ضمن تعداده لنواقض الإسلام: " من اعتقد أن غير هدي النبي r أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر".308
يقول شيخ الإسلام: " ثم إن هذا الامتناع والإباء [أي عن الإذعان والانقياد للشرع]، إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته، فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمرداً أو اتباعاً لغرض النفس، وحقيقته كفر، هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول: أنا لا أقر بذلك، ولا ألتزمه، وأبغض هذا الحق، وأنفر منه، فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع".309
فهذا الممتنع إباء، والمتشكك في حكمة الخالق مكذب لصفات الله العليم الحكيم، وهو مستهين بالله وشرعه، فهو كافر بذلك، يقول ابن أبي العز شارح الطحاوية: "إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر".310
ويمتد الكفر في مسألة الحاكمية ليشمل كل من وافق الحكام بما استحلوه من استحلال الحرام، فهو يكفر أيضاً، وفعله من جنس فعل النصارى الذين اتبعوا أحبارهم ورهبانهم، فكانوا لهم عابدين: ]اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون اللّه [ (التوبة: 31). قال عدي رضي الله عنه: سمعت الرسول e يقرؤها، فقال: ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه)).311
قال ابن تيمية مبيناً وجه كفر هؤلاء الأتباع: " أن يعلموا أنههم بدلوا دين الله، فيتبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، اتباعاً لرؤسائهم، مع علمهم أنه خالفوا دين الرسول، فهذا كفر. وقد جعله الله ورسوله شركاً، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم. فكان من اتبع غيره في خلاف الدين، مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك، دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء".312
ومما يدل أيضاً على كفر الأتباع حيث رضوا بحكم الطاغوت واتبعوه قول الله تعالى: ]ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه وإنّه لفسق وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليآئهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنّكم لمشركون[ (الأنعام:121). يقول ابن كثير موضحاً صورة الشرك في أكل ما لم يذكر عليه اسم الله: "أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره، فقدمتم ذلك، فهذا هو الشرك".313
قال القرطبي: "وإن أطعتموهم أي في تحليل الميتة إنكم لمشركون، فدلت الآية على أن من استحل شيئاً مما حرم الله تعالى صار به مشركاً، وقد حرم الله سبحانه الميتة نصاً، فإذا قبِل تحليلها من غيره فقد أشرك".314
ومن المعلوم أنه ليس كل من أكل ما لم يذكر اسم الله عليه يكون مشركاً. إنما المشرك من أكل المحرم مستحلاً ومتابعاً في ذلك لمن بدل حكم الله وأحله، بل هو يكفر بالإقرار دون الفعل.
أما من أطاع الحاكم بفعل المعصية من غير اعتقاد استحلالها ولا موافقة الحاكم على إسقاط حكم الله فيها، كمن زنى في بلد يبيح قانونه الزنا، فهذا وقع في معصية لا يكفر بها، لأنه معتقد حرمتها، فحاله كحال سائر الذنوب التي يقع فيها المسلم ولا يستحلها، يقول شيخ الإسلام: "أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب".315(3/15)
قال ابن العربي: "إنما يكون المؤمن بطاعة المشرك مشركاً، إذا أطاعه في اعتقاده الذي هو محل الكفر والإيمان، فإذا أطاعه في الفعل، وعقده سليم مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص، فافهموه".316
قال النسفي في تفسيره لقول الله تعالى: ]وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللّه ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مّبينًا[ (الأحزاب:36): " فإن كان العصيان عصيان رد وامتناع عن القبول فهو ضلال كفر، وإن كان عصيان فعل مع قبول الأمر واعتقاد الوجوب فهو ضلال خطأ وفسق".317
ويكفي في تبيان هذا المعنى فهم قول النبي e : ((إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع)).318
قال النووي : " معناه: ولكن الإثم والعقوبة على من رضي وتابع، وفيه دليل على أن من عجز عن إزالة المنكر لا يأثم بمجرد السكوت، بل إنما يأثم بالرضا به أو بأن لا يكرهه بقلبه أو بالمتابعة عليه ".319
إذاً الحكم بما أنزل الله شرعة لازمة لا انفكاك للمجتمع المسلم عنها، والتولي عن شرع الله وتبديل أحكامه كفر مخرج من الملة ، واتباع للهوى وعبادة للطاغوت من دون الله.
الكفر الأصغر
لكن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون من الكفر الأصغر، بل قد لا يكون معصية أصلاً.
وقد عدد العلماء الحالات التي لا يخرج فيها الحاكم بغير شريعة الله من الإسلام.
وأولها: أن يترك الحكم بما أنزل الله في بعض مسائله لهوى في نفسه، مع اعتقاده أن شرع الله هو الخير المطلق الذي لا يعدله هدي غيره ولا يدانيه.
يقول القرطبي: " إن حكم به [بغير ما أنزل الله] هوى ومعصية، فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين ".320
ويقول ابن تيمية: " أما من كان ملتزماً لحكم الله ورسوله باطناً وظاهراً، لكن عصى واتبع هواه، فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة".321
يقول ابن القيم: " إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصياناً، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر".322
يقول الطحاوي: " الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة، وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة، ويكون كفراً إما مجازياً وإما كفراً أصغر.. وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاص، ويسمى كافراً كفرا مجازياً أو كفراً أصغر".323
وهذه الصورة هي التي عناها ابن عباس والتابعون من بعده، حين وصفوا الحكم بغير شرع الله أنه كفر دون الكفر الأكبر، قال ابن عباس: "إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفراً ينقل عن الملة ]ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون[ (المائدة: 44) كفر دون كفر".324
وقال عطاء: "كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم".325
وقال طاووس: " ليس بكفر ينقل عن الملة".326
وثانيها : أن يكون عاجزاً عن تطبيق الشريعة، فهذا لا يكفر، لأن الأوامر الشرعية مقرونة بالاستطاعة ] فاتقوا الله ما استطعتم [ (التغابن: 16).
وقد ضرب العلماء أمثلة لذلك، أوضحها النجاشي رحمه الله، فقد كان ملكاً على قومه، فأسلم دونهم، وما قدر على تعلم الشريعة فضلاً عن تطبيقها، ومع ذلك فإن أحداً لا يشك في صحة إسلامه رحمه الله.
يقول شيخ الإسلام: " النجاشي، هو وإن كان ملك النصارى، فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام، بل إنما دخل معه نفر منهم، ولهذا لما مات لم يكن هناك من يصلي عليه، فصلى عليه النبي r بالمدينة، خرج بالمسلمين إلى المصلى، فصفهم صفوفاً، وصلى عليه، وأخبرهم بموته يوم مات وقال: ((إن أخاً لكم صالحاً من أهل الحبشة مات)).327
وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها، لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر ولم يجاهد، ولا حج البيت، بل قد روي أنه لم يكن يصلي الصلوات الخمس، ولا يصوم شهر رمضان، ولا يؤدي الزكاة الشرعية، لأن ذلك كان يظهر عند قومه، فينكرونه عليه، وهو لا يمكنه مخالفتهم، ونحن نعلم قطعاً أنه لم يكن يمكنه، أن يحكم بينهم بحكم القرآن.. فإن قومه لا يقرونه على ذلك.. النجاشيُّ وأمثاله سعداء في الجنة، وإن كانوا لم يلتزموا مع شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها، ولهذا جعل الله هؤلاء من أهل الكتاب".328
كما مثّل رحمه الله بالقضاة الذين ولوا القضاء زمن التتار، فحكموا بغير الشريعة، وما كانوا يقدرون على غير ذلك، يقول: "وكثيراً ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضياً، بل وإماماً، وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها، فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها".329
وبهذا تستبين هذه المسألة التي زلّت عندها الأقدام، ويستبين الحق، فما كل تارك لحكم الله كافر، بل الأمر - كما رأيتَ - فيه تفصيل، وفي الوقوف عند كلام العلماء وتحقيقهم للمناط فيها مندوحة عن الكثير من موارد الغلو والزلل والشطط.
الخاتمة
وبعد، فإن خطورة هذه الظاهرة وما تستتبعه من قتل وخروج على ولاة الأمر وتمزيق لصف المسلمين، برمي مخطئهم الجاهل والمقلد بالكفر، كل ذلك يدعو إلى وقفة جادة للبحث عن مخرج من هذا المرض قبل اسستفحاله.
وإن علاج ظاهرة التكفير يبدأ بإدراكنا لخطورتها ووقوفنا على أسبابها، والتي يكفل لنا تجفيفها القضاء على هذه الظاهرة الشاذة التي عادت تتسرب من جديد.
وأهم علاج وأنجعه هو صنيع النبي e، وأصحابه الكرام، وهو نشر العلم الصحيح الموروث عن الله وعن رسوله r في الكتاب والسنة، وفهمهما على هدي وفهم السلف الصالح من أصحاب القرون المفضلة.(3/16)
وقد أمر الله تعالى المؤمنين حال تنازعهم بالعود إلى كتاب الله وسنة نبيه، ولأن أفهامهم مختلفة أرشدهم إلى سؤال العالمين الذين يستبطونه منهم ]ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم [ (النساء: 83).
وأمر الله المؤمنين بسؤال العلماء والصدور عن قولهم، فقال تعالى: ]وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ (الأنبياء: 7).
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله في تفسيره: "وهذه الآية وإن كان سببها خاصاً بالسؤال عن حالة الرسل المتقدمين من أهل الذكر، وهم: أهل العلم، فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين أصوله وفروعه، إذا لم يكن عند الإنسان علم منها، أن يسأل من يعلمها، ففيه الأمر بالتعلم والسؤال لأهل العلم... وفي تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم نهيٌ عن سؤال المعروف بالجهل وعدم العلم، ونهي له أن يتصدى لذلك.." 330
ولله در ابن مسعود فقيه الصحابة إذ يقول: "وستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، عليكم بالعلم، وإياكم والبدع والتعمق، عليكم بالعتيق".331
كما ندعو إلى المزيد من اللجوء إلى الحوار بالتي هي أحسن، واعتماد اللين والحكمة وحسن البيان طريقاً في معالجة النشوز الفكري للشباب الذي تعاور عليه الجهل والتسرع.
فإن الشبهة والفهم المغلوط إذا غلبا على المؤمن التقي لا علاج لهما إلا بالحجة والدليل والبرهان، إذ بهما تزول الشبهة، وتقام الحجة، فتستبين المحجة، ويظهر الحق لمن أراده فأخطأه.
وعن طريق الحوار استطاع علي رضي الله عنه إضعاف فتنة الخوارج، حين بعث إليهم حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه وعن أبيه، فناظرهم فرجع معه جمع غفير منهم، ليثبت أن الحوار خير وسيلة للقضاء على هذه الفتنة.
وهكذا تبين لنا أن التكفير مسألة خطيرة لا يجوز أن يصدر فيه المسلم عن رأي أو هوى، ولا يجوز شهره سيفاً على المخالفين واتخاذه وسيلة للانتقام منهم والتشفي بهم، إذ هو حكم شرعي ، بل لعله أخطر الأحكام الشرعية، إذ هو حكم بالردة والخلود في النار على مسلم، كما يستتبع التكفير عدداً من الأحكام الدنيوية كمنع التوارث والتفريق بين الزوجين، وأهم من ذلك استباحة الدماء والأعراض.
لذا تكاثرت النصوص الشرعية تحذر المسلمين من الوقوع في ظلامته، ومن بعدها أطبق علماء الإسلام على أبلغ التحذير من هذه القاصمة، وبينوا أسبابها، وحذروا من دركاتها.
لقد أبانوا بما آتاهم الله من نور العلم والفقه في الدين الموانع التي تدفع عن المسلم معرة التكفير، إذ الأصل فيه الإسلام، وقد ثبت له بيقين، فلا يرفع إلا بمثله، ولا اعتبار للحدس والتخمين في هذا الباب ، فقد أمرنا الله بتصديق المسلم وقبول علانيته، دون التقحم في السرائر التي لا يطلع عليها إلا الله ، ولا يحكم عليها إلا هو.
وتلمس العلماء بهدي النبوة ما يعتذر فيه للمسلم ويتقى به عرضه، فاعتبروا الجهل والخطأ والإكراه والتأويل أعذاراً معتبرة يفيء إليها المسلم الحريص على دينه إيثاراً للسلامة وصوناً لعرض إخوانه.
كما جلّى أهل العلم الحق الصراح في مشكل المسائل ومتشابه النصوص التي اندفع المتسرعون في فهمها إلى تكفير المسلمين، دون فقه أو فهم لدلالات النصوص الشرعية.
وأبان العلماء أيضاً غلط من عذر بالجهل أو الخطأ في مسائل الأحكام، ومنع ذلك في مسائل الاعتقاد ، فالتفريق بين النوعين اصطلاحي علمي ، لا أثر له في الأحكام الشرعية.
واللهَ نسأل أن يجنبنا الزلل والشطط، وأن يرزقنا الإخلاص والقصد، إنه ولي ذلك، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصادر والمراجع
* أحكام القرآن، أبو بكر ابن العربي المالكي، تحقيق: علي البجاوي، ط1، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
* الأم، محمد بن إدريس الشافعي، مكتبة الكليات الأزهرية.
* إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات، ابن الوزير، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987م.
* الإيمان: معالمه وسننه واستكماله ودرجاته، أبو عبيد القاسم بن سلام، تحقيق ناصر الدين الألباني، ط2، المكتب الإسلامي، 1403هـ.
* البحر الرائق شرح كنز الدقائق، ابن نجيم الحنفي، ط2، دار الكتاب الإسلامي.
* بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، أبو بكر الكاساني، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت، 1406هـ.
* تحفة المحتاج، ابن حجر الهيتمي، دار صادر، بيروت.
* التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبد البر القرطبي، تحقيق: محمد بوخبزة وسعيد أحمد أعراب، 1410هـ.
* تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مركز صالح بن صالح الثقافي، عنيزة، 1407هـ.
* جامع بيان العلم وفضله، ابن عبر البر، دار الفكر.
* درء تعارض العقل والنقل، أحمد عبد السلام بن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط1، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض.
* الدرة فيما يجب اعتقاده، علي بن حزم، تحقيق: د. ناصر الحمد ود. سعيد القزقي، ط1 ، مكتبة دار التراث، 1408هـ.
* شرح العقيدة الطحاوية، أبو جعفر الطحاوي، ط8، المكتب الإسلامي.
* شرح فتح القدير، ابن الهمام الحنفي، ط2، دار الفكر.
* الشفا بتعريف حقوق المصطفى، أبو الفضل عياض اليحصبي، دار الكتب العلمية، بيروت.
* ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة، د. عبد الله بن محمد القرني، ط2، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، 1420هـ.
* العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، محمد بن إبراهيم الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، ط1، مؤسسة الرسالة، 1412هـ.
* فتاوى السبكي، أبو الحسن علي السبكي، دار المعرفة، بيروت، لبنان.(3/17)
* فتح القدير الجامع بين فنيّ الرواية والدراية في علم التفسير، محمد بن علي الشوكاني، ط2، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1383هـ.
* الفصل في الملل والأهواء والنحل، علي بن حزم، تحقيق: د. محمد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، لبنان.
* كشاف القناع عن متن الإقناع، منصور البهوتي، مكتبة النصر الحديثة، الرياض.
* مجموع الفتاوى، ابن تيمية، طبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1416هـ.
* محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي، ط2، دار الفكر، بيروت، 1398هـ.
* المحلى في الآثار، علي ابن حزم، دار الآفاق الجديدة، بيروت.
* منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط1، مؤسسة قرطبة، 1406هـ.
* الموافقات في أصول الأحكام، أبو إسحاق إبراهيم الشاطبي، دار الكتب العلمية، بيروت.
* نواقض الإيمان الاعتقادية، وضوابط التكفير عند السلف، د. محمد بن عبد الله الوهيبي، ط2، دار المسلم للنشر والتوزيع، 1422هـ.
* نواقض الإيمان القولية والعملية، د. عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف، ط2، دار الوطن، 1415هـ.
===============
قتل المرتد إذا لم يتب
تمهيد
إذا ثبتت الردة على الشخص ترتب عليها أحكام دنيوية وأحكام أخروية.
وأهم الأحكام المتعلقة بالآخرة حبوط العمل والخلود في نار جهنم، أعاذنا الله منها، وقد وردت بذلك نصوص كثيرة وقد جمعت الأمرين معاً آية البقرة..
? وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ?. [البقرة:217].
أما الأحكام المتعلقة بالدنيا فكثيرة نذكر أولا: قتل المرتد إذا لم يتب، ثم نذكر ما تيسر منها في مباحث أخرى.
إن قتل المرتد إذا لم يتب من ردته، حكم ثابت في أحاديث صحيحة لا مطعن فيها، وعمل بها الصحابة رضي الله عنهم في زمن الخلفاء الراشدين، وبعد عهدهم رضي الله عنهم، وأطبق عليها جماهير أهل العلم، ونقلوا عليه الإجماع في المذاهب الإسلامية المعتبرة.
وهو مما يحسم تذب ضعاف الإيمان، ويجعلهم يظهرون لأمتهم ولغيرها الثبات على مبدأ الإسلام العظيم.
وإن الثبات على المبدأ والصبر عليه، يجعل غير أهله يفكرون في شأنه ويبحثون عن سبب الثبات عليه، ويغريهم ذلك بالدخول فيه.
وعلى علماء المسلمين تقع المسئولية العظمى في الثبات على المبدأ وتثبيت أهله عليه، بعدم التنازل عن ثوابته في تعليمهم وإفتائهم وقضائهم ونصحهم لمن بيدهم الأمر في مراعاة أحكام الإسلام وتنفيذها، ففي الثبات على المبدأ والصبر عليه وتثبيت أمته عليه يكمن بقاء هذه الأمة وفلاحها ونجاتها من الامحاق والذوبان.
ولقد ثبت أهل الإيمان على إيمانهم رغم ما لاقوا من محن وأذى.
من أوضح الأدلة على ذلك قصة أصحاب الأخدود، التي كان سببها ذلك الغلام الذي ثبت على دينه، مع شدة ما لقيه من تعذيب الملك الظالم الجبار الذي اتخذ كل وسيلة لقتله، فلم ينجح في ذلك، حتى قال له الغلام: إذا شئت أن تقتلني فاجمع الناس، وقل: بسم الله رب الغلام وارمني بقوسك، ففعل الملك ذلك فمات الغلام، فقال الحاضرون من الناس: آمنا برب الغلام....
والقصة في صحيح مسلم (4/2300) وساقها المفسرون في سورة البروج، عند قوله تعالى: ?قتل أصحاب الأخدود...?
وهذا بخلاف المبدأ الذي يضطرب أهله، ولا يثبتون على منهجه، فإن الناس يزهدون فيه وينفرون منه، ويقولون في أنفسهم: لو كان حقا لثبت عليه أهله، ولم يخرجوا عن صراطه.
فهل يليق بالأمة الإسلامية أن تترك أبناءها يحققون لأعدائها هذا الهدف الخطير، بخروج من نشأ منهم مسلما في أسرة مسلمة عن الإسلام، أو من دخل في الإسلام من غير المسلمين مختارا مقرا بأن هذا الدين هو الدين الحق، عالما بكل ما يترتب على إسلامه من أحكام وجزاءات، ثم يخرج منه.
ولقد شكك في قتل المرتد طائفتان
الطائفة الأولى: أعداء الإسلام والجهلة من أبنائه فيه، وزعموا أن للمسلم الحق في تغيير دينه إلى أي دين آخر، ادعاء منهم أن ذلك من أهم حقوق الإنسان التي تمنحه حرية التدين، وبناء على ذلك يرون أن للمسلم أن ينتقل من دين الإسلام إلى أي دين من الأديان من الأديان السماوية المحرفة، كاليهودية والنصرانية، أو العقائد الوثنية كالهندوسية والبوذية وغيرها.
الطائفة الثانية: بعض العلماء المعاصرين الذين تأولوا بعضا من عمومات النصوص، مقدمين لها على نصوص أخرى خاصة صحيحة في نفس الموضوع، وزعموا أن المسلم إذا غيير دينه إلى غيره من الأديان لا يقتل من أجل ذلك، ويمكن عقابه تعزيرا، ومنهم من رأى عدم معاقبته مطلقا على ذلك، ولو بتكرار استتابته، كما قال بعضهم:
"ولا أنكر أن بعض أولئك المنافقين كانت التوبة تبسط لهم فيتوبون، ولكن هذه التوبة المبسوطة لهم كانت توبة اختيارية لا يكرهون عليها بسيف ولا غيره من وسائل الإكراه، وهذا هو ما أذهب إليه في ثبوت الحرية الدينية للمرتد، فلا أريد إلا أن تكون توبته اختيارية كتوبة أولئك المنافقين، فيدعى إلى العودة إلى الإسلام بالتي هي أحسن، ولا يكره عليها بقتل كما يذهب إليه بعضهم، "ولا بحبس أنفسنا عليه باستتابة دائمة كما يذهب إليه القائلون بهذه الاستتابة، لأن فيها شبه إكراه له، ونحن نريدها حرية دينية كاملة غير منقوصة..." وخالصة من الإكراه وشبه الإكراه، ليكون الإسلام وحده دين الحرية، ويمتاز بهذا على غيره من الأديان، وتكون مفخرة له على طول الزمان." [[الحرية الدينية للشيخ عبد المتعال الصعيدي ص: 148دار المعارف بمصر](3/18)
ويرى أن في عقابه على خروجه من الإسلام إلى غيره، يعتبر اعتداء على الحرية الدينية التي يرون أن نصوص القرآن كفلت ذلك له، كما كفلتها له مبادئ حقوق الإنسان."
ترجيح وأدلة:
والذي نراه وندين الله به أنه إذا ثبتت الردة على من كان مسلما في الأصل، أو دخل في دين الإسلام حرا مختارا، وفهمه حق الفهم، وفهم ما يترتب على إسلامه، ومن ذلك حد المرتد عن الإسلام، أن هذا الحكم إذا توفرت شروطه ثابت لا مراء فيه.
أما إذا كان حديث عهد بالإسلام، لم يفهم حقيقته وما يترتب على إسلامه فلا يقتل بل ينصح بالبقاء على الإسلام ويبين له ما فيه من المحاسن وما في تركه من المساوي، فإن رجع إلى الإسلام فبها ونعمت وإن أبى خلي سبيله.
ولا يجوز أن نَخضَع لآراء أعداء الإسلام، ولا من حاول اقتحام عقبة الفتوى فيما لا ناقة له ولا جمل من أحكام الإسلام، كما لا نعذر من ادعى أنه طبيب مختص وهو يجهل الطب، وعبث في أجساد البشر فأفسدها.
ولكنا نعذر من تأول نصوص القرآن مجتهدا من علماء الإسلام، ونرجو الله أن يغفر له خطأه، معتمدين على قول الباري الرحيم: ?ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا? [البقرة (286)] وقول الله في جواب هذا الدعاء: (قد فعلت) [صحيح مسلم (1/116) وقول رسوله الكريم: (تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) [المستدرك على الصحيحين (2/ 216) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
أدلة قتل المرتد إذا توفرت شروط قتله
سبق أن للمرتد أحكاما في الدنيا وأخرى في الآخرة، والذي يعنينا في هذا الكتاب، هو أحكام الدنيا، أما أحكام الآخرة فهي موكولة إلى الله تعالى، والذي نعلمه من كتابه من حكم الله تعالى على من ارتد عن الإسلام أمران:
الأمر الأول: حبوط العمل.
الثاني: والخلود في نار جهنم، أعاذنا الله منها، وقد وردت بذلك نصوص كثيرة وقد جمعت الأمرين معاً آية البقرة..
? وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ?. [البقرة:217].
ومن أحكام المرتد في الدنيا: قتله بعد استتابته وإصراره على كفره.
ومن الأدلة الصحيحة على هذا الحكم ما يأتي:
الدليل الأول: سنة الرسول صلى الله عليه وسلم:
أولها: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قَال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة) [(صحيح البخاري (6/2521) و صحيح مسلم (3/1302)
ثانيها: حديث: عكرمة أن عليا رضي الله عنه حرق قوما فبلغ بن عباس فقال: "لو كنت أنا لم أحرقهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تعذبوا بعذاب الله) ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) [صحيح البخاري رقم(2854 (3/1098)
ثالثها: ومن أصرح الأدلة في ذلك، التنصيص على قتل الرجل والمرأة المرتدين، كما وقع في بعض الروايات في حديث معاذ عندما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن.. وقال له: ( أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن عادت وإلا فاضرب عنقها).. ذكر هذه الرواية الحافظ في فتح الباري وحسنها. [فتح الباري (12/272)
رابعها: حديث جابر أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام فإن رجعت وإلا قتلت. [سنن الدارقطني (3/118) وسنن البيهقي الكبرى (8/203)]
خامسها: فعل الصحابيين الجليلين: أبي موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل وقد صرح فيه معاذ بن جبل أنه قضاء الله ورسوله.
كما روى ذلك أبو موسى وفيه: (اذهب أنت يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس إلى اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه ألقى له وسادة قال أنزل وإذا رجل عنده موثق قال ما هذا قال كان يهوديا فأسلم ثم تهود قال اجلس قال لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات فأمر به فقتل) [صحيح البخاري (6/ 2537) وصحيح مسلم (صحيح مسلم (3/1456) قال الحافظ رحمه الله: "وبين أبو داود في روايته أنهما كررا القول أبو موسى يقول اجلس ومعاذ يقول لا أجلس. فتح الباري (12/274)]
وتكرار معاذ لأبي موسى أن هذا الحكم هو قضاء الله ثلاث مرات، يدل على أنه علمه من النبي صلى الله عليه وسلم، وليس مجرد اجتهاد منه.
وذكر الدكتور يوسف القرضاوي عشرة من الصحابة رضي الله عنهم، وهم: ابن عباس وأبو موسى ومعاذ وعلي وعثمان وابن مسعود وعائشة وأنس وأبي هريرة ومعاوية بن حيدة .رووا قتل المرتد، ثم قال: "وحديث قتل المرتد رواه جمع غفير من الصحابة، ذكرنا عددًا منهم، فهو من الأحاديث المستفيضة المشهورة."
الدليل الثالث: إجماع الأمة على قتل المرتد الذي توافرت فيه شروط القتل: سبقت الأدلة الثابتة الصحيحة الصريحة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، على وجوب قتل المرتد بعد استتابته، وقد طبق ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده وبعد وفاته، وأجمع العلماء على ذلك.
قال ابن قدامة رحمه الله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه، وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد وغيرهم، ولم ينكر ذلك فكان إجماعا" [المغني (9/16)]
قال الدكتور يوسف القرضاوي:(3/19)
"ثانيًا: أن من مصادر التشريع المعتمدة لدى الأمة مصدر الإجماع. وقد أجمع فقهاء الأمة من كل المذاهب، السنية وغير السنية، والفقهاء من خارج المذاهب على عقوبة المرتد وأوشكوا أن يتفقوا على أنها القتل، إلا ما رُوي عن عمر والنخعي والثوري ولكن التجريم في الجملة مجمع عليه."
قلت: وكل من روي عنه عدم القتل روي عنه عكس ذلك، وهو القتل، والذي ري عن عمر رضي الله عنه هو حبسه قبل قتله رجاء أن يتوب، وليس ترك قتله مطلقا، وهذا نص ما نقل عنه رضي الله عنه:
"قدم مجزأة بن ثور أو شقيق بن ثور على عمر يبشره بفتح تستر فقال له عمر هل كانت مغربة يخبرنا بها قال لا إلا أن رجلا من العرب ارتد فضربنا عنقه قال عمر ويحكم فهلا طينتم عليه بابا وفتحتم له كوة فأطعمتموه كل يوم منها رغيفا وسقيتموه كوزا من ماء ثلاثة أيام ثم عرضتم عليه الإسلام في الثالثة فلعله أن يرجع اللهم لم أحضر ولم آمر ولم أعلم" [المحلى 11/191)]
فقوله "ثم عرضتم عليه الثالثة، فلعله أن يرجع" ظاهر في أنه يرى عرض التوبة عليه ثلاثا، لعله يرجع، فإذا لم يرجع بعد استتابته ثلاثا، قتل.
وفي رواية عن عمر زيادة: " فإن تاب قبلتم منه وإن أقام كنتم قد أعذرتم إليه" [التمهيد (5/307)] أي قطعتم عذره الذي يستحق بقطعه قتله.
وقد صرح بقتله إذا لم يرجع في رواية أخرى.
قال: "أفلا أدخلتموه بيتا وأغلقتم عليه بابا وأطعمتموه كل يوم رغيفا ثم استتبتموه ثلاثا فإن تاب وإلا قتلتموه ثم قال اللهم لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذ بلغني أو قال حين بلغني" [مصنف ابن أبي شيبة (5/562)
وتؤكد هذا المعنى عن عمر ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال "كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب أن رجلا يبدل بالكفر بعد إيمان فكتب إليه عمر استتبه فإن تاب فاقبل منه وإلا فاضرب عنقه"
وبذلك جزم ابن عبد البر رحمه الله، فقال:
"قال أبو عمر يعني استودعتهم السجن حتى يتوبوا، فان لم يتوبوا قتلوا، هذا لا يجوز غيره لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاضربوا عنقه" [الاستذكار (7/154)]
وأما ما نقل عن الإمام إبراهيم النخعي رحمه الله، فبرد عليهم بروايات عنه تعارض ذلك النقل، بل يرى قتل الرجل المرتد و المرأة المرتدة التي خالف في قتلها الحنفية.
قال ابن عبد البر رحمه الله: "واختلف الفقهاء أيضا في المرتدة، فقال مالك والأوزاعي وعثمان البتي والشافعي والليث بن سعد تقتل المرتدة كما يقتل المرتد سواء وهو قول إبراهيم النخعي وحجتهم ظاهر هذا الحديث لأنه لم يخص ذكرا" [التمهيد (5/312) وممن نسب إلى النخعي قتل المرأة الحافظ ابن حجر رحمه الله فتح الباري 12/268]
وجزم ابن حجر رحمه الله أن الرواية المثبتة عنه لقتل المرتد والمرتدة أقوى من الرواية النافية عنه، بل ضعف الرواية النافية عنه.
قال رحمه الله:
"وأخرج سعيد بن منصور عن هشيم عن عبيدة بن مغيث عن إبراهيم قال إذا أرتد الرجل أو المرأة عن الإسلام استتيبا فان تابا تركا وأن أبيا قتلا وأخرج بن أبي شيبة عن حفص عن عبيدة عن إبراهيم لا يقتل والأول أقوى فان عبيدة ضعيف وقد اختلف نقله عن إبراهيم" [فتح الباري (12/268)]
ولهذا يجب حمل ما روي عنه من أن المرتد يستتاب أبدا أنه إذا تكررت منه الردة، يستتاب في كل مرة، وليس المراد الاستمرار في استتابته من ردة واحدة طول حياته، لأن قوله: يستتاب أبدا، مجمل، والرواية السابقة التي رجحها ابن حجر مُبَيِّنة، ومعروف أن المجمل يحمل على المبين. [مصنف ابن أبي شيبة (6/440)]
وبهذا يظهر ثبوت الإجماع، وأن من روي عنه القول بعدم قتل المرتد، عارضه ما روي عنه من قتله، وترجح الروايات بالقتل على الروايات بعدمه، لموافقتها للسنة الصحيحة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وتطبيق صحابته وغيرهم لما ثبت عنه في حياته وبعد مماته
ثم لو فرضنا ثبوت القول بعدم قتل المرتد عن فرد أو أفراد من العلماء، فلا حجة في ذلك لإطباق غيرهم على القول بقتله، ولثبوت قتله عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل أصحابه في حياته وبعد مماته.
تقتل المرتدة إذا لم تتب كالمرتد
والأحاديث الواردة في قتل المرتد شاملة للذكر والأنثى جميعا، إما بصيغ عمومها، كقوله: (من بدل دينه فاقتلوه) وإما بذكرها نصا مع الرجل كما مضى.
ويدل على استواء المرتد والمرتدة في الحكم، أن الحدود تقام عليهما جميع، فالزانية تحد جلدا ورجما كالزاني وكذا القاتلة عمداً تقتل كما يقتل الرجل، ولا يقال: إن هذا استدلال بدلالة الاقتران والاستدلال بها ضعيف، لأن ضعف دلالة الاقتران عند من يقول به من العلماء، إنما يكون حيث يستدل بها عارية عن أدلة ثابتة غيرها، والأدلة هنا ثابتة كما ترى.
وإذا أنعمت النظر في هذه الأدلة وجدت كل واحد منها صالحاً للاحتجاج به على حدة فكيف بها مجتمعة..؟ وقوله: "من بدل دينه فاقتلوه" يشمل الذكر والأنثى، لأن "من" اسم موصول، وهي من صيغ العموم، كما قال في مراق السعود:
ومَا شُمُولُ "مَنْ" لِلُانثى جَنَفُ.
أي إن شمول من للذكر والأنثى ليس فيه ميل عن جادة الصواب.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة) لفظ "امرئ" يشمل كذلك الذكر والأنثى.
وقد فسر العلماء لفظ "امرئ" بـ"نفس" كما في تفسير ابن كثير:
(4/ص243)
وذهب أبو حنيفة رحمه الله، إلى أن المرأة لا تقتل بل تحبس ويضيق عليها حتى تتوب، و استدل على ذلك بالنهي عن قتل النساء وبأن المرأة لا تقتل بالكفر الأصلي، فلا تقتل بالكفر الطارئ.
وهذا الاستدلال غير ناهض، فالنهي ورد في الكافرة الأصلية كما هو واضح في القصة التي ورد النهي بسببها..(3/20)
ولو فرضنا العموم لكان الأمر بقتل المرتد معارضاً له بعمومه.. فكيف وقد ورد الأمر بقتل المرتدة بخصوصه؟
ثم إنه يفرق بين الكفر الأصلي والكفر الطارئ من وجوه أهمها:
أن الرجل يقر على كفره الأصلي ولا يقر على الكفر الطارئ. [فتح الباري (12/272) المغني (9/3) المقنع (3/516) فتح القدير (6/71)].
وقال القرطبي رحمه الله: "واختلفوا في المرتدة:
فقال مالك والأوزاعى والشافعى والليث بن سعد: تقتل كما يقتل المرتد سواء، وحجتهم ظاهر الحديث: (من بدل دينه فاقتلوه) و"مَن" يصلح للذكر والأنثى.
وقال الثورى وأبو حنيفة وأصحابه: لا تقتل المرتدة، وهو قول بن شبرمة، وإليه ذهب بن علية وهو قول عطاء والحسن، واحتجوا بأن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من بدل دينه فاقتلوه)
ثم إن بن عباس لم يقتل المرتدة، ومن روى حديثا كان أعلم بتأويله، وروي عن على مثله، ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.
واحتج الأولون بقوله عليه السلام (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان) فعم كل من كفر بعد إيمانه وهو أصح" [تفسير القرطبي (3/48)]
وقال ابن الأمير رحمه الله:"ذهب الجمهور إلى أنها تقتل المرأة المرتدة، لأن كلمة "مَن" هنا تعم الذكر والأنثى، ولأنه أخرج بن المنذر عن بن عباس راوي الحديث أنه قال: تقتل المرأة المرتدة، ولما أخرجه هو والدارقطني، أن أبا بكر رضي الله عنه، قتل امرأة مرتدة في خلافته والصحابة متوافرون ولم ينكر عليه أحد، وهو حديث حسن" [سبل السلام (3/265)]
والخلاصة أن المرتد عن الإسلام، رجلا كان أو امرأة يجب قتله إذا استتيب فلم يرجع، والأدلة على ذلك واضحة كما مضى.
آراء شاذة في قتل المرتد:
ومع ثبوت الأدلة الصحيحة وتعددها على قتل المرتد، فقد ظهرت آراء شاذة مخالفة لهذا الحكم، نجمل أدلتها فيما يأتي، مع مناقشة كل دليل منها على حدة بإذن الله.
الرأي الأول: التفريق بين الخروج من الإسلام والخروج عليه، هذا الرأي يعتبر الردة عن الإسلام من الأفراد الذين لا يدعون إلى الدين الذي خرجوا إليه من، لا يقام عليهم حد الردة، وعللوا هذا الرأي بأمرين:
الأمر الأول: أنهم خرجوا من الجماعة ولم يخرجوا عليها، فلم يحدثوا بذلك ضررا على غيرهم، بل أحدثوه على أنفسهم.
الأمر الثاني: العمل بمبدأ الحرية الدينية كما سيأتي الكلام عنه قريبا.
واستدلوا في زعمهم بأدلة:
الدليل الأول: من القرآن الكريم: مثل قوله تعالى: ?لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ? [البقرة (256)] ورأوا أن إكراه المرتد على الرجوع إلى الإسلام، هو إكراه له على الدخول في دين لا يرضى الدخول فيه، وفيه مصادرة للحرية الدينية.
والجواب عن هذا الاستدلال من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا نص عام يشمل الكافر الأصلي الذي لم يسبق له الدخول في الإسلام، ويشمل من دخل في الإسلام ثم خرج منه إلى أي دين غيره.
والقاعدة الأصولية أن النص الخاص يُخرج ما دل عليه من النص العام، ويبقى العام دالا ما عدا ما أخرجه النص الخاص، وعلى هذا يكون عدم الإكراه مقصورا على من لم يدخل الإسلام أصلا، ويخص بالقتل من خرج من الإسلام من المسلمين، عملا بالأدلة السابقة من الأحاديث الصحيحة والعمل بها في عهد الرسول والخلفاء الراشدين، ومن تبعهم، وما قام على العمل بها من إجماع الأمة.
الوجه الثاني: أن الحرية الدينية يجب أن تقيد بما قيدته به الشريعة، والشريعة قيدت هذه الحرية بمن لم يدخل في الإسلام أصلا، أما المسلم أصلا، أومن دخل فيه مختارا عالما حقيقته وما تترتب عليه من أحكام، ومنها حكم المرتد الذي بينته الأدلة، فليس له نصيب من هذه الحرية، لأنه دخل في الإسلام مختارا عالما أنه لا يجوز له الخروج منه، وأنه يترتب على خروجه منه قتله إن لم يرجع إليه.
الوجه الثالث: أن الإنسان ليس حرا فيما يضر به نفسه لأن نفسه ليست ملكا له يتصرف فيها كما يشاء، فليس له حق أن يجرح نفسه بدون سبب أو يقتلها، ولا أن يحرق أمواله، ولا يتعاطى ما يذهب عقله، ولو لم يضر غيره بذلك، فتعاطيه لما ضرره عليه أعظم وهو الخروج من الإسلام من باب أولى، وقد شرع الله تعالى عقوبة، لهذه الجريمة، يجب الأخذ بها وتنفيذها.
الوجه الرابع: تعليلهم بأن المرتد لا يقتل لأنه لم يحرج على الإسلام وإنما خرج منه، وأن ردته "ليس فيها استهزاء بالدين، ولا تمثل تهديدا للأمة، أو لكيان الدين، ولا يقصد بها العبث بشعور أو شعائر المسلمين!".
نقول لهم: أي استهزاء بالدين أعظم من أن يخرج منه من دخل فيه باختياره دون إكراه وهو يعلم أحكام شريعته، ومنها قتل المرتد، أو نشأ في بيئة إسلامية وذاق فيها حلاوة الإسلام وخصائصه التي لا توجد في أي دين سواه في الأرض؟
وكيف لا تمثل ردة الأفراد تهديدًا للأمة أو لكيان الدين، ونحن نرى تهديد الأمة وكيان الدين من قوم بين أظهرنا، لا يزالون يدَّعون الإسلام، ويقفون في صف من يحاربون تطبيق الإسلام من أعداء الإسلام، باسم الحداثة والحرية وحقوق الإنسان؟
هل المرتد عن الإسلام سيحمي الإسلام، أو سيقف محايدا لا ينصر أعداء الإسلام؟
وهل سيترك الدعوة إلى دينه الجديد سرا أو جهرا، وبخاصة في هذا العصر الذي يدعم أعداء الإسلام أي فرد أو جماعة تعارض هذا الدين أو شيئا منه، حتى يصح القول: "فيخرج من الإسلام في هدوء وفردية" وأن "فاعل ذلك لا يكون مصيره القتل، بل له حرية ذلك طالما بقي خروجه ليس فيه تهديدٌ لأمن الأمة."
وقد خالف أستاذنا العلامة الدكتور يوسف القرضاوي - مع ميله إلى عدم قتل المرتد الذي لم يقم بالدعوة إلى الدين الذي ارتد إليه كما يأتي - خالف التهوين من شأن الردة الفردية التي يقال عنها: إنها خروج من الدين وليست خروجا عليه، فقال:(3/21)
"ولا بد من مقاومة الردة الفردية وحصارها، حتى لا تتفاقم ويتطاير شررها، وتغدو ردة جماعية، فمعظم النار من مستصغر الشرر.
ومن ثم أجمع فقهاء الإسلام على عقوبة المرتد، وإن اختلفوا في تحديدها، وجمهورهم على أنها القتل وهو رأي المذاهب الأربعة بل الثمانية......"
ثم قال:
"سر التشديد في عقوبة الردة
وسر التشديد في مواجهة الردة أن المجتمع المسلم يقوم أول ما يقوم على العقيدة والإيمان. فالعقيدة أساس هويته ومحور حياته وروح وجوده.
ولهذا لا يسمح لأحد أن ينال من هذا الأساس أو يمس هذه الهوية، ومن هنا كانت الردة المعلنة كبرى الجرائم في نظر الإسلام؛ لأنها خطر على شخصية المجتمع وكيانه المعنوي، وخطر على الضرورية الأولى من الضروريات الخمس التي حرص الإسلام على صيانتها عبر كل نسقه التشريعي والأخلاقي، وهي: "الدين والنفس والنسل والعقل والمال"، والدين أولها؛ لأن المؤمن يضحي بنفسه ووطنه وماله من أجل دينه.
والإسلام لا يكره أحدًا على الدخول فيه، ولا على الخروج من دينه إلى دين ما؛ لأن الإيمان المعتد به هو ما كان عن اختيار واقتناع.
وقد قال الله تعالى في القرآن المكي: "أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس: 99)، وفي القرآن المدني قال تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" (البقرة: 256).
ولكنه لا يقبل أن يكون الدين ألعوبة يدخل فيها اليوم من يريد الدخول، ثم يخرج منه غدًا على طريقة بعض اليهود الذين قالوا: "آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (آل عمران: 72(. انتهى
[المرجع: الإسلام على الطريق.]
ونحن نقول للذين يرون أن ردة الأفراد لا يكون فيها ضرر على غيرهم، ولا يصدر منهم استهزاء بالدين: كيف سيكون شعور أبوي المرتد عن الإسلام، وشعور إخوانه وأبنائه وزوجه، وأسرته وجيرانه وأصدقائه، وشعور كل مسلم عَلِم بخروج عضو من أعضاء أمته من عقيدتها ودينها؟ هل سيقيمون له احتفالا يحتفون بردته؟ وإذا لم تكن الردة عن الإسلام استهزاء بدين الله، فما هو الاستهزاء؟ هل الإسلام ملعب كرة أو صالة عرض سينمائي، يحق لكل إنسان أن يحمل على صدره بطاقة للدخول فيهما والخروج منهما متى شاء؟
ثم نقول مرة أخرى: إننا لم نر مرتدا عن الإسلام، خرج منه بهدوء كما قال بعض الكتاب، مع استثناء الجهال الذين يضلهم المنصرون في أدغال أفريقيا أو غابات بورنيو، وحتى هؤلاء إذا ارتد منهم كبير الأسرة أو كبير القبيلة لحق به أتباعه.بل إن الذين يعلنون ردتهم وكفرهم بالإسلام، يصبحون مع ردتهم دعاةً إلى ما انتقلوا إليه من دين محرف، أو منحازين إلى مؤسساته مستهزئين بالإسلام وأهله وشعائره وعلمائه، متخذين كل وسيلة متاحة لنشر أفكارهم وهجومهم على هذا الدين.
الدليل الثاني: ومن أدلتهم على عدم قتل المرتد، أن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يقتل أحدا من المنافقين الذين كفروا بعد إسلامهم، مع علمه بكفرهم، وقد وصفه أحدهم بالجور –حاشاه صلى الله عليه وسلم –
كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: لما كان يوم حنين، آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله.
قال فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيته فأخبرته بما قال، قَال: فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال: (فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله) قال ثم قال: (يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر) [صحيح البخاري (3/1148) و صحيح مسلم (2/739)]
وجه استدلالهم بالحديث أن الرجل وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالجور، وهو مقتض لكفره، ومع ذلك لم يأمر بقتله، وهو دليل على أن المرتد عن الإسلام لا يقتل، ولو كان قتله واجبا لما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد أجاب عن ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله، بأن ترك قتله كان للتأليف، كما خص بعض حديثي الإسلام بالعطاء تأليفا لهم، وساق حديثين لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أخرج أحدهما الطبراني، و في آخره زيادة : "فغفل عن الرجل فذهب، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه فطُلب فلم يُدرَك" قال الحافظ: "وسنده جيد"
وأخرج الحديث الثاني الإمام أحمد، وفيه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بقتل رجل فوُجد يصلي متخشعا، فكرهوا لذلك أن يقتلوه، فقال: (إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون) وهذا نص ما ذكره الحافظ رحمه الله:
"تنبيه"
جاء عن أبي سعيد الخدري قصة أخرى، تتعلق بالخوارج فيها ما يخالف هذه الرواية، وذلك فيما أخرجه أحمد بسند جيد عن أبي سعيد، قال: جاء أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: إني مررت بوادي كذا فإذا رجل حسن الهيئة متخشع يصلي فيه.
فقال (اذهب إليه فاقتله) قال فذهب إليه أبو بكر فلما رآه يصلي كره أن يقتله، فرجع.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: (اذهب فاقتله) فذهب فرآه على تلك الحالة، فرجع.
فقال: (يا علي اذهب إليه فاقتله) فذهب علي فلم يره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه فاقتلوهم هم شر البرية) وله شاهد من حديث جابر أخرجه أبو يعلى ورجاله ثقات.(3/22)
ويمكن الجمع بأن يكون هذا الرجل هو الأول، وكانت قصته هذه الثانية متراخبة عن الأولى، وأذن صلى الله عليه وسلم في قتله بعد أن منع منه لزوال علة المنع، وهي التألف فكأنه استغنى عنه بعد انتشار الإسلام، كما نهى عن الصلاة على من ينسب إلى النفاق بعد أن كان يجري عليهم أحكام الإسلام قبل ذلك.
وكأن أبا بكر وعمر تمسكا بالنهي الأول عن قتل المصلين وحملا الأمر هنا على قيد أن لا يكون لا يصلي، فلذلك عللا عدم القتل بوجود الصلاة أو غلبا جانب النهي.
ثم وجدت في مغازي الأموي من مرسل الشعبي في نحو أصل القصة ثم دعا رجالا فأعطاهم، فقام رجل فقال: انك لتقسم وما نرى عدلا، قال: (إذًا لا يعدل أحد بعدي) ثم دعا أبا بكر فقال: (اذهب فاقتله) فذهب فلم يجده، فقال: (لو قتلته لرجوت أن يكون أولهم وآخرهم) ["فتح الباري" (12/298-2299)]
الدليل الثالث: من السنة أيضا، وهو أن أعرابيا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأصاب الأعرابي وعكٌ بالمدينة، فجاء الأعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أقلني بيعتي، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبى، ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبى، فخرج الأعرابي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وتنصع طيبها) [صحيح البخاري، برقم (6891) وصحيح مسلم، برقم (1383)]
قال النووي في معنى "ينصع": "هو بفتح الياء والصاد المهملة، أي يصفو ويخلص ويتميز، والناصع الصافي الخالص، ومنه قولهم ناصع اللون أي صافية وخالصة، ومعنى الحديث: أنه يخرج من المدينة من لم يخلص إيمانه، ويبقى فيها من خلص إيمانه"]
وجه الدلالة عند من استدل بالحديث، أن هذا الرجل طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقيله من الإسلام، وهذا الطلب يعتبر ردة، ومع ذلك لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه خرج عن الإسلام ولم يخرج عليه.
قال المستدل: "دلت النصوص التي سنورد بعضًا منها في النقطة الخامسة على هذا التفريق، فالقتل يكون لمن خرج على الإسلام وقصد الإساءة أو العبث بالدين، أو مسَّ أمن وسلامة الأمة ونظام الدولة، كما أنه يُعدُّ جرمًا ضد نظام الحكم في الدولة، وخروجًا على أحكام الدين الذي تعتنقه الأمة، ويُعتَبر حينذاك مرادفًا لجريمة "الخيانة العظمى" التي تحرمها كل الشرائع والدساتير والقوانين، وهذا العقاب لم يكن مقتصرًا على الدول التي يقوم الحكم فيها على أساس الدين." [المرجع: موقع الإسلام على الطريق
http://www.islamonline.net/Daawa/Arabic/display.asp?hquestionID=5625
وأرى أن هذا استدلال بعيد، لأربعة أمور:
الأمر الأول: الظاهر أن هذا الأعرابي طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم إقالته من البقاء في المدينة، ولم يصبر على ما أصابه فيها من المرض، لضعف إيمانه ولم يطلب الإقالة من الإسلام، وهذا ما فهمه جماهير العلماء، ومنهم شراح الحديث.
قال النووي رحمه الله:
"قال العلماء: إنما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم بيعته، لأنه لا يجوز لمن أسلم أن يترك الإسلام، ولا لمن هاجر إلى النبي صلى الله للمقام عنده أن يترك الهجرة ويذهب إلى وطنه أو غيره.
قالوا: وهذا الأعرابي كان ممن هاجر وبايع النبي صلى الله عليه وسلم على المقام معه.
قال القاضي: ويحتمل أن بيعة هذا الأعرابي كانت بعد فتح مكة، وسقوط الهجرة إليه صلى الله عليه وسلم، وإنما بايع على الإسلام وطلب الإقالة منه، فلم يُقِله، والصحيح الأول ... " [شرح النووي على صحيح مسلم (9/155-156)]
وقال الحافظ في شرح هذا الحديث: "قال بن التين إنما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من إقالته، لأنه لا يعين على معصية، لأن البيعة في أول الأمر كانت على أن لا يخرج من المدينة إلا بإذن، فخروجه عصيان.
قال [أي ابن التين] وكانت الهجرة إلى المدينة فرضا قبل فتح مكة على كل من أسلم، ومن لم يهاجر لم يكن بينه وبين المؤمنين موالاة، لقوله تعالى: ?والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا? فلما فتحت مكة قال صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح)ففي هذا إشعار بان مبايعة الأعرابي المذكور كانت قبل الفتح.
وقال بن المنير: ظاهر الحديث ذم من خرج من المدينة، وهو مشكل، فقد خرج منها جمع كثير من الصحابة وسكنوا غيرها من البلاد، وكذا من بعدهم من الفضلاء. والجواب أن المذموم من خرج عنها كراهة فيها ورغبة عنها كما فعل الأعرابي المذكور.
وأما المشار إليهم فإنما خرجوا لمقاصد صحيحة، كنشر العلم وفتح بلاد الشرك والمرابطة في الثغور وجهاد الأعداء، وهم مع ذلك على اعتقاد فضل المدينة وفضل سكناها..." [فتح الباري 13/200)]
وقال الحافظ في شرح رواية البخاري: (فبايعه على الإسلام، فجاء من الغد محموما فقال: أقلني) ظاهره أنه سأل الإقالة من الإسلام، وبه جزم عياض، وقال غيره: إنما استقاله من الهجرة، وإلا لكان قتله على الردة" [فتح الباري (4/97)]
الأمر الثاني: ما ورد في قصة معاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، عندما بعثهما الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، "فزار معاذ أبا موسى، فإذا رجل موثق، فقال: ما هذا فقال أبو موسى: يهودي أسلم ثم ارتد فقال معاذ لأضربن عنقه" [صحيح البخاري، برقم (4088)]
وفي رواية: "فقال معاذ: لا أجلس حتى أضرب عنقه، قضى الله وقضى رسوله" [مصنف ابن أبي شيبة (5/562)]
وكلمة "قضى" تدل على أن قتل المرتد هو حكم قضائي يجب على ولي الأمر تنفيذه، وليس هو من باب التعزير كما زعم بعض الكتاب المعاصرين.(3/23)
فهذا يهودي واحد خرج عن الإسلام، ولم يذكر في الحديث ما يدل على صفة أخرى استحق بها القتل غير الردة، ولو كان المرتد لا يقتل إلا إذا ضم إلى خروجه من الإسلام خروجه عليه، لذكر ذلك أبو موسى ومعاذ رضي الله عنهما...
الأمر الثالث: الأحاديث الصحيحة العامة في قتل من كفر بعد إيمانه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) وقوله:
(لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان)
فتبديل المسلم دينه، وهو كفره بعد إيمانه، وصف كاف في استحقاقه القتل، كما سبق...
ولو كان يجب ضم معنى آخر إلى معنى الردة، لنص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يرتب الحكم الذي تزهق به الأرواح على معنى ناقص، يتنزه عنه شرع الله.
الأمر الرابع: لو فرضنا أن الأعرابي طلب الإقالة من الإسلام كما جزم به القاضي عياض، فيجب حمله على أنه كان من المنافقين الذين كف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتلهم، وعاشرهم كما عاشر عامة المسلمين، وبخاصة أن الرجل لم يعلن تركه الإسلام، وإنما اكتفى بخروجه بدون إذن من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد مضى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)[صحيح البخاري (صحيح البخاري، برقم (4622) وصحيح مسلم، برقم (2584)]
الدليل الرابع: دليل عقلي عندهم، وهو أن العلماء أجمعوا على اشتراط الاختيار في صحة الإسلام، فهو شرط في صحة إسلام كل شخص سواء أكان ممن لم يسبق منه إسلام أم كان ممن سبق منه وارتد منه وحينئذٍ لا يصح أخذ المرتد إلى الإسلام بالإكراه كما لم يصح فيما سبق إكراه من لم يسبق منه إسلام على الإسلام، لأنه يكون إسلاماً باطلاً لا فائدة فيه، ولا ينجي صاحبه من عقاب الله تعالى في الآخرة، وحينئذٍ يكون من العبث إكراهه عليه.
والجواب على هذا الاستدلال: أن نقول: ?قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ? [(140) البقرة]
إن بقاء الإنسان في الظاهر على إسلامه، مختلط بأسرته، وبمجتمعه الإسلامي في المساجد والمناسبات الجماعية، وحضور دروسهم ووعظهم وإرشاده، قد يحرك فيه عاطفة سبق أن تلبس بها، وقد يدعوه تفكيره وعقله إلى الموازنة بين الإسلام الذي كان عليه، وبين الدين الذي رجع عنه، فيبدأ إيمانه يقوى حتى يعود إلى الإيمان الحق، فيثبت في قلبه، وقد يفوق في قوة إيمانه غيره من المسلمين.
بخلاف ما إذا انتقل إلى أهل الدين الجديد وخالطهم، فإنه سيلقى منهم الفرح والسرور بردته، وسيشجعونه على الاستمرار على دينهم، وقد يغروته بالمناصب والأموال والشهوات والشبهات التي تجعله يستمر في ردته وتأييده لأهل الملة الجديدة، وهذا ما نشاهده في واقع الحال في أي مرتد يلجأ إلى أهل الدين الجديد.
ونحن نعلم أن غالب أحكام الشريعة، واضحة الحكم والمصالح، وقليل منها قد لا ندرك حكمته، فنقبله مستسلمين لله تعالى في تشريعه، لعلمنا أن الدين كله حق، وما ذكرنا يظهر لنا شيئا من حكمة قتل المرتد وإجباره إلى الرجوع إلى الإسلام، ولو فرضنا أنما ذكرناه غير صحيح وأن الحكمة لم تظهر لنا فيه، فالواجب علينا التسليم المطلق لشرع الله، وقد الذي ثبت بسنة رسوله الصحيحة، وهي وحي كالقرآن إلا أن القرآن يتعبد بتلاوته، بخلاف السنة.
الدليل الخامس : أن الذي يكره على الرجوع إلى الإسلام، سيكون في واقع الأمر باقيا على معتقده، وإظهاره الإسلام يكون من باب النفاق، وهذا يقتضي أن يكثر المنافقون في صف المسلمين، يتتبعون عوراتهم ويتجسسون عليهم لأعدائهم، أفلا يكون وضوح كفرهم أولى ليتمكن المسلمون من الحذر منهم
والجواب على ذلك أنه لا تخلوا الأمة الإسلامية من وجود منافقين في صفوفها من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وسيستمر ذلك، ونحن لا نيأس من هداية الله لمنافق يوجد بين المسلمين كما مضى.
وقد يتوب بعض المنافقين وتحسن توبته وإسلامه، قال أبو عطية الأندلسي رحمه الله:
"وروي أن الجلاس تاب من النفاق فقال إن الله قد ترك لي باب التوبة فاعترف وأخلص وحسنت توبته" [المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (3/61)]
ولو ترك للمسلمين الخروج من دينهم إلى غيره من الأديان، لكثر المرتدون كثرة تضعف بها الأمة تذهب هيبتها وهيبة دينها، لأن كل من ضعف إيمانه قد يعلن ردته.
وبقاء ضعيف الإيمان، أو من تظهر عليه سمات النفاق، بين الجماعة المسلمة، خير له وللأمة من إعلانه ترك دينه، لأنه يرجى له بما معه من إيمان ضعيف أو ما اعتراه من صفات المنافقين، أن يقوى إيمانه المؤمن ويموت على الإسلام، وأن تتغلب عاطفة الإيمان على صفات المنافقين، فينجوان من الخلود في جهنم، ويبقيان مكثرين لسواد المسلمين، مشاركين لهم في تعاونهما معهم على البر والتقوى بمقدار إيمانهما، ولو فرض أنهما لم يتعاونا مع المسلمين، فإنهما بحكم انتمائهما الظاهر إليهم قد يتورعان عن التعاون مع أعدائهم عليهم...
والغالب أن بلدان المسلمين لا تخلو من رعايا غير مسلمين، يجب أن يحتاط المسلمون من كيد من يريد الكيد بهم، والغالب أن المنافقين تظهر على معاشرتهم قرائن تدل على نفاقهم، فليحتاطوا منهم كما احتاطوا من غير المسلمين، والدول غير المسلمة، تجند كثيرا من المسلمين للتجسس لها، وكثير منهم لا يظهرون لعامة الناس إلا بعد انتهاء مهمتهم والكشف عنهم.
وضعاف الإيمان في البلدان الإسلامية إذا عرفوا أن عقوبة المرتد القتل إذا لم يتب سيقَدَّرون لأرجلهم مواضعها قبل أن ينزلقوا في إظهارهم الكفر، والذين يظهرون الكفر اليوم غالبهم ينضمون إلى أهل ملتهم الجديد ويظاهرونهم على أهل بلدانهم علنا، لعلمهم أنهم سيفلتون من العقوبة.(3/24)
الدليل السادس: أن أحاديث قتل المرتد، أحاديث آحاد، ودليل عدم إكراه المرتد على الدخول في الإٍسلام من القرآن والقرآن متواتر، فيجب ترجيحه على أحاديث الآحاد.
والجواب من أوجه:
الوجه الأول: أننا لا نحتاج إلى ترجيح المتواتر على الآحاد إلا إذا تعارضا تَعارضا لا يمكن فيه الجمع بينهما، وهنا قد أمكن الجمع وهو تقديم الخاص على العام كما مضى، ومضى الكلام على هذه القاعدة في مبحث الخوارج والمعتزلة.
الوجه الثاني: أن غالب الأحكام الشرعية لم تنقل بالتواتر، بل نقلت جمهرتها عن طريق الآحاد، ولو اتبعنا مسلم من يشكك في أخبار الآحاد، لضاع غالب الأحكام الشرعية، فلا يلتفت إلى هذا المسلك إلا عند التعارض المستعصي على الجمع أو النسخ.
الوجه الثالث: أن أئمة الإسلام قد ردوا هذا المسلك ردا حاسما، يدحض مذهب من يلجأ إليه لرد كثير من الأحكام الثابتة بدون مسوغ مقبول، ومن هؤلاء الأئمة الإمام الشافعي رحمه الله، حيث قال في كتاب "الرسالة":
وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله من أدلة العمل بخبر الآحاد، حديث ابن سعود رضي الله عنه فقال: "فإن قال قائل: اذكر الحجة في تثبيت خبر الواحد بنص خبر أو دلالة فيه أو إجماع
فقلت له: أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي قال: "نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من روائهم، فلما ندب رسول الله إلى استمع مقالته وحفظها وأدائها امرأ يؤديها والامرء واحد، دل على أنه لا يأمر أن يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه، لأنه إنما يؤدي عنه حلال، وحرام يجتنب، وحد يقام، ومال يؤخذ ويعطى ونصيحة في دين ودنيا [الرسالة (1/401) -403]
وقال بعد ذلك "أخبرنا سفيان قال أخبرني سالم أبو النضر انه سمع عبيد الله بن أبي رافع يخبر عن أبيه قَال قال النبي (لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما نهيت عنه أو أمرت به فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) وقد ساق في الرسالة تلك الحجج [من صفحة 369 إلى صفحة 471 أي في "102" من الصفحات] أمثلة كثيرة من القرآن والسنة، ومن مذاهب فقهاء الأمة، تدل على وجوب العمل بخبر الآحاد في عهد الرسول صلى الله، وفي عهد الصحابة وفي عهد التابعين فمن بعدهم إلى عصره رحمه الله. وفي كتابه "الأم" أمثلة كثيرة من تلك الحجج.
ولا زال علماء الأمة من المحدثين والأصوليين وغيرهم يرون وجوب العمل بما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ما تواتر منه ومال لم يتواتر.
وممن أخرج هذا الحديث الحاكم [المستدرك على الصحيحين، وقال: "وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" (1/190) وأبو داود في سننه (4/200) وغيرهم، فيجب التسليم للحديث الصحيح كالتسليم للقرآن، وسلوك مسلك الجمع بين ما قد يظهر فيه التعارض، ومن لم يظهر له الجمع فليدعه لمن يظهر له.
هذا وقد رجح شيخنا العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في "مذكرة أصول الفقه" التي درسناها على يديه في الكلية أن خبر الآحاد ظني من حيث الثبوت أي مطابقة الخبر للواقع في نفس الأمر، قطعي من حيث العمل به.
قال: "الذي يظهر لي أنه هو التحقيق في هذه المسألة والله جل وعلا أعلم، أن خبر الآحاد الذي لم يبلغ حد التواتر، ينظر إليه من جهتين، هو من إحداهما قطعي، ومن الأخر ظني.
ينظر إليه من حيث إن العمل به واجب، وهو من هذه الناحية قطعي، لأن العمل بالبينات مثلا قطعي منصوص في الكتاب والسنة، وقد أجمع عليه المسلمون وهي أخبار الآحاد.
وينظر إليه من ناحية أخرى، وهي: هل ما أخبروا به مطابق للواقع في نفس الأمر.
فلو قتلنا رجلا قصاصا بشهادة رجلين فَقَتْلنا هذا له قطعي شرعا لا شك فيه، وصدق الشاهدين فيما أخبرا به، مظنون في نفس الأمر لا مقطوع به لعدم العصمة.
ويوضح هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة المتفق عليه: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع.
فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من نار، فليأخذها أو ليتركها"
فعَمَل النبي صلى الله عليه وسلم في قضائه قطعيُّ الصوابِ شرعا، مع أنه صرح بأنه لا يقطع بحقيقة الواقع في نفس لأمر كما ترى. [مذكرة في أصول الفقه 116..]
الدليل السابع: أن القرآن الكريم لم يذكر عقابا للمرتد عن الإسلام في الدنيا، بل ذكر عقابه في الآخرة، مثل قوله تعالى:
?وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ? [البقرة (217)] وغيرها من الآيات، ولو كان للمرتد عقاب في الدنيا، لما أغفله القرآن الكريم، فلنسلك بالمرتد مسلك القرآن الكريم، فلا نعاقبه.
ولا أدري هل يريد هؤلاء أن يعطلوا كل حديث صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يتبين لهم الجمع بينه وبين ما ورد في القرآن أولم يذكر في القرآن حكمه، ولا يقبلوا أحكام السنة التي لم ترد أحكامها في القرآن، وما فائدة السنة إذا عطلت أحكامها غير الواردة في القرآن؟
الدليل الثامن: أن باب الاجتهاد مفتوح، ولمن عنده أهلية الاجتهاد أن يخالف من سبقه ولو ادعي فيه الإجماع، بناء على استنباط من كتاب الله وسنة رسوله وإعمال القياس الصحيح.(3/25)
ونحن لا نحجر على من هو أهل للاجتهاد في أن يجتهد، ولا نقول: لم يترك الأول للآخر شيئا، بل نقول: كم ترك الأول للآخر، ولكن الاجتهاد لا قيمة له إذا عارض نصا صحيحا واضح الدلالة، كما هو الحال في موضوعنا هذا الذي استفاضت فيه الأحاديث الصحيحة وصح العمل به، وأجمعت عليه الأمة؟!
والعقل يجب أن ينتهي حيث انتهى الدليل الشرعي، وإلا ضل وهو لا يدري. [بينت مجال العقل وحدوده له الحق أن يسرح ويمرح فيها في كتابي"السباق إلى العقول" وقد طبع حديثا في دار ابن حزم في بيروت]
ولنعد للإمام الشافعي رحمه الله الذي حرص كل الحرص في جميع كتبه وحواراته على وجوب التمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وعد مخالفتها، على كل من عرفها ثابتة صحيحة، قال:
"وإذا ثبت عن رسول الله الشيء فهو لازم لجميع من عرفه لا يقويه ولا يوهنه شيء غيره بل الفرض الذي على الناس اتباعه ولم يجعل لأحد معه أمرا يخالف أمره" [الرسالة (1/330)
ولا شك أن الاجتهاد المخالف للنص باطل، و الأقيسة المخالفة له فاسدة.
الدليل التاسع: ومما استدل به أهل هذا الرأي قوله في الحديث السابق: (والتارك لدينه المفارق للجماعة)
ووجه الدلالة عنده وصف (التارك لدينه) بـ(المفارق للجماعة)
حيث رأى أن المفارق للجماعة هو الخارج على نظامها قاصدا الإضرار بها، وليس مجرد تركه لدينها.
وهو يدعم بهذا الاستدلال قوله قبل ذلك:
" فـ"الخروج من الإسلام" بصورةٍ فرديةٍ ليس فيها الاستهزاء بالدين، ولا تمثل تهديدًا للأمة أو لكيان الدين، ولا يقصد بها العبث بشعور أو شعائر المسلمين، وإنما منبعها الوحيد شعور "المرتد" بعدم الاقتناع بالإسلام والاقتناع بغيره، فيخرج من الإسلام في هدوء وفردية، فاعل ذلك لا يكون مصيره القتل، بل له حرية ذلك طالما بقي خروجه ليس فيه تهديدٌ لأمن الأمة."
قال: "يوحي هذا الحديث بما نقول: (... والتارك لدينه المفارق للجماعة)، فنص "المفارق للجماعة" يوحي بالانسلاخ من الكيان وإرادة الضرر به، فكان ترك الدين وحده ليس سببًا لحِلِّ الدم، بل يجب مفارقة الجماعة أيضًا، وقد نقل الإمام ابن حجر في "فتح الباري" عن الإمام القرطبيِّ قوله: "ظاهر قوله: (المفارق للجماعة) أنه نعتٌ للتارك لدينه"، أي تارك دينه الموصوف بأنه فارق الجماعة، وليس مجرد تارك دينه فقط." انتهى
والصحيح أن هذا الوصف: (التارك لدينه) وصف كاشف، أي مفسر للتارك لدينه، وليس وصفا مستقلا، وهو الذي رجحه المحققون من العلماء.
فقد قال ابن دقيق العيد: رحمه الله مبينا هذا المعنى ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله، إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) وكذلك المفارق للجماعة كالتفسير لقوله التارك لدينه والمراد بالجماعة جماعة المسلمين وإنما فراقهم بالردة عن الدين وهو سبب لإباحة دمه بالإجماع في حق الرجل..." [إحكام الأحكام (4/83- 84)]
قال الحافظ رحمه الله: "والمراد بالجماعة جماعة المسلمين، أي فارقهم أو تركهم بالارتداد، فهي صفة للتارك أو المفارق لا صفة مستقلة، وإلا لكانت الخصال أربعا، وهو كقوله قبل ذلك: (مسلم يشهد أن لا إله إلا الله) فإنها صفة مفسرة لقوله: مسلم وليست قيدا فيه، إذ لا يكون مسلما إلا بذلك.
ويؤيد ما قلته أنه وقع في حديث عثمان: (أو يكفر بعد إسلامه) أخرجه النسائي بسند صحيح، وفي لفظ له صحيح أيضا: (ارتد بعد إسلامه) وله من طريق عمرو بن غالب عن عائشة: (أو كفر بعد ما أسلم)
وفي حديث بن عباس عند النسائي: (مرتد بعد إيمان)
قال بن دقيق العيد: "الردة سبب لإباحة دم المسلم بالإجماع في الرجل..." [فتح الباري [12/201 -202]
وقال أبو العلاء المبارك فوري رحمه الله: (والتارك لدينه المفارق للجماعة): "أي تَركُ التاركِ، والمفارق للجماعة صفة مولدة للتارك لدينه، أي الذي ترك جماعة المسلمين وخرج من جملتهم، وانفرد عن أمرهم بالردة، التي هي قطع الإسلام قولا أو فعلا أو اعتقادا فيجب قتله إن لم يتب" [تحفة الأحوذي (4/547)]
وقال شمس الحق العظيم آبادي رحمه الله: (المفارق للجماعة): "أي الذي ترك جماعة المسلمين وخرج من جملتهم وانفرد عن أمرهم بالردة" [عون المعبود (12/5)]
وقال البجيرمي الفقيه الشافعي رحمه الله:
"وقوله: (المفارق) صفة مؤكدة للتارك، والمراد بالجماعة جماعة المسلمين، فالتارك لدينه هو المفارق للجماعة".
وقيل هو من باب التأسيس لأن التارك لدينه قد لا يفارق الجماعة، كاليهودي والنصراني إذا أسلم، فهو تارك لدينه غير مفارق بل هو موافق لهم داخل فيهم، والحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد "شوبري" وهو بعيد لأن فرض الحديث في المسلم فلا يشمل غيره" [حاشية البجيرمي على كتاب الإقناع للماوردي (4/129)]
ومن العلماء المعاصرين الذين رجحوا أنه وصف كاشف، الدكتور يوسف القرضاوي، حيث قال:
"وكلمة المفارق للجماعة وصف كاشف لا منشئ؛ فكل مرتد عن دينه مفارق للجماعة".
[المرجع: الإسلام على الطريق:
http://www.islamonline.net/Arabic/contemporary/2002/02/article2a.shtml ]
وإذا كان علماء المسلمين، قد نقل عنهم الإجماع قديما وحديثا على قتل المرتد، إلا من شذ – وفي صحة نسبة الخلاف إليه شك كما سيأتي – فكلهم على هذا الرأي، وهو أن "المفارق للجماعة" صفة مؤكدة أو كاشفة، وليست تأسيسية، لأنهم لو فهموا أنها تأسيسية لما أجمعوا على الاكتفاء بالردة في قتل المرتد، بل لا بد أن يجتمع الوصفان في من يستحق عقوبة القتل...
الدليل العاشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقتل أحدا من المرتدين، ومنهم من عرفوا بالنفاق، مثل كبيرهم عبد الله بن أبي.
والجواب من ثلاثة أوجه:(3/26)
الوجه الأول: يفينا أمره الصريح بقتل التارك لدينه، وقد سبقت الأحاديث المفيدة لذلك.
الوجه الثاني: أمره بفتل أم مروان عندما ارتدت، إذا لم تتب، كما في حديث جابر أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام فإن رجعت وإلا قتلت.
الوجه الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم، كان يتألف الناس من أجل دخولهم في الإسلام، ويخشى إذا تسامع الناس بأن يقتل المنافقين ، وهم يظهرون الإسلام، أن ينفر من يريد الدخول في الإسلام، بسبب ذلك، ولهذا عندما كلن يستأذنه بعض أصحابه أن يقتل من ظهر منهم النفاق ومنهم عمر رضي الله عنه، الذي استأذنه في قتل رأس المنافقين "عبد الله بن أبي" لم يأذن له بل قال له: (دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) والصحبة هنا هي الصحبة الظاهرية التي يعاشر بها المنافق معاشرة سائر المسلمين.
ومعلوم أن المنافقين لا يصرحون بأنهم ارتدوا عن الإسلام، وإنما كانت تظهر منهم قرائن، تدل على نفاقهم، فلم يكن يأخذ بتلك القرائن، مع ما يظهرونه من الإسلام الذي لم يكن إظهارهم له إلا ليتقوا به ما قد ينزل بهم من معاملة الكفار، كما قال تعالى عنهم: ?إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً...? [المنافقون (1، 2)]
وقد سبق الكلام على معاشرته صلى الله عليه وسلم المنافقين بالتفصيل.
ما دخوله في الإسلام عقد لازم يجب لله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود? [المائدة (1)]
الوفاء به، لقول ال
من يرى عدم قتل المرتد مطلقا ووجه استدلاله
هذا وقد وجد في هذا العصر من أراد تعطيل قتل المرتد، بل يرى عدم عقابه مطلقا،
ثم يقولون: إن ذلك مخالف لما تضمنه القرآن الكريم، من النهي عن الإكراه في الدين، كما قال تعالى: ?لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ? [البقرة (256)]
يضاف إلى ذلك ما هو معلوم من أن منع من أراد تغيير دينه إلى غيره من الأديان، وإلزامه بالبقاء على دينه الذي لم يعد يطمئن إليه، يبعث على نفاق وكثرة المنافقين بين المسلمين...
ونحن نرد على هؤلاء المشككين بالأمور الآتية:
الأمر الأول: أن الحرية الحقيقية، لا توجد إلا في الإسلام، الذي حدد للمسلم معبودا واحدا، وهو الله مالك الملك الذي أراد من الإنسان أن يتحرر من كل معبود سواه، وأن تكون حياته كلها وتصرفاته ومآله إلى الله لا إلى سواه، كما قال تعالى:
?قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ...? [الأنعام (164)]
والمسلم الذي يعبد الإله الواحد الحق، له منهج يهديه إلى ما ينفعه في دنياه وأخراه، ويمنعه من الظلم والإضرار بمن سواه...
أما الذي يخرج من دين يعبد فيه ربا واحدا، إلى دين يعبد فيه آلهة شتى، لا يمكن أن يكون حرا، بل هو عبد تتنازعه تلك الآلهة، فهو يعبد مخلوقات الله من أشجار وأحجار وحيوان، وملائكة وأنبياء، بدلا من عبادة خالق تلك المخلوقات.
كما يعبد هواه الذي لا يقف به عند حد من المتناقضات التي تحرمه الحياة المطمئنة، لأنه كلما تعاطى شيئا من الشهوات التي دفعه إلى تعاطيها هواه، تاقت نفسه لغيره فتتعدد شهواته بتعدد ما يميل إليه هواه، فلا يقنع بطعام ولا شراب ولا مسكن ولا مركب، ولا حلال ولا حرام.
وليس له منهج يعبد الله به، يمنعه من ظلم غيره من البشر والحيوانات والإفساد في الأرض، ولا يغنيه جاه ولا منصب ولا وظيفة.
ولقد نبه الله تعالى على خطر الهوى الذي يتبعه صاحبه على غير هدى من الله، فسماه بسبب اتباعه إياه إلها يعبده من دون الله، كما قال تعالى: ((أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً)) [الفرقان:43].
فأيهما الحر الذي يعبد إلها واحدا، يأمره بالخير الذي يجمع له بين مصالح الدنيا والآخرة، و ينهاه عن الشر الذي يدفع عنه مفاسد الدنيا والآخرة و مضارهما، أم الذي يعبد آلهة شتى تتعدد أوامرها المتناقضة له، كما تتعدد نواهيها المتضادة كذلك، فتضطرب حياته في الدنيا، وينال أشد العذاب في الآخرة؟
أيهما الحر الذي يستغل خيرات الدنيا في طاعة ربه، دون أن تسترقه وتستعبده، أم الذي يكون عبدا لدنياه؟
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أُعطيَ رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثَ رأسُه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع له) [البخاري(3/1057)]
لقد ضرب الله لحرية من يعبد إلها واحدا، وعبودية من يعبد آلهة متعددة بهذا المثل الواضح البين:
?ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ? [الزمر (29)]
وكم من ناس نالوا من الدنيا ما نالوا من مال وسلطان وجاه وملك، وهم في حقيقة أمرهم عبيد أسرى، وكم من ناس حرموا ذلك بل قد يقعون أسرى مستعبدين تحت قهر الأعداء، وهم أعزة أحرار؟!
ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله:(3/27)
(.. فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استُعبِد بدنه واستُرِق، لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب-الذي هو الملك-رقيقا مستعبدا لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض...فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب.....-إلى أن قال-: وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض، قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم ... فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم..) [مجموع الفتاوى: (10/186-189)]
الأمر الثاني: أن منع المسلم من تغيير دينه إلى دين آخر، ليس إكراها له على الدخول في دين الإسلام، بل هو إعانة له على بقائه على الحق ومنعه من الانضمام إلى أهل الباطل، وفي ذلك تحقيق أعظم مصلحة له في الدنيا والآخرة، وحفظ له من خسارة محققة، وأي خسارة أعظم من خسارة المسلم دينه الذي لا يوجد في الأرض دين يقبله الله ويرضاه غيره:
?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ? [آل عمران (19)]
?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ? [آل عمران (85)]
?وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)? [سورة العصر]
إن الذي ينعم الله تعالى عليه بالإسلام، فيتمتع بما فيه من خير وحرية وعدل ومساواة وطمأنينة قلب وراحة بال، ثم يكفر بتلك النعمة التي لا تعقبها إلا خسارة الدارين، إنما هو أشد ممن يحجر عليه بسبب سفهه الذي يبذر بسببه أمواله تبذيرا لا تجيزه الأديان ولا العقول السليمة.
قال تعالى: ?وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ...? [النساء (5،6)]
فأيهما أولى بالحجر والمنع الصغير والسفيه اللذان يبذران أموالهما، وكذلك الحجر الذي تطبقه الحكومات على أملاك المفلسين من الأفراد والشركات، أهؤلاء أولى بالحجر أم الذين يتبدلون الكفر بالإيمان: ?وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ? [البقرة (108)]
وسبحان الله الذي وصف من رغب عن ملة الإسلام بسفه النفس، فقال تعالى:
?وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ? (130)
قال ابن كثير رحمه الله "قال تعالى: ?ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه?: أي ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره، بتركه الحق إلى الضلال، حيث خالف طريق من اصطُفي في الدنيا للهداية والرشاد، من حداثة سنه إلى أن اتخذه الله خليلا، وهو في الآخرة من الصالحين السعداء، فمن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته، واتبع طرق الضلالة والغي، فأي سفه أعظم من هذا أم أي ظلم أكبر من هذا، كما قال تعالى: ?إن الشرك لظلم عظيم?" [تفسير القرآن العظيم تفسير (1/ص186)]
الأمر الثالث: أن ما قد يخشى من بعث حكم الردة على النفاق، فسيكون عدد الواقعين في النفاق قليلا جدا، لأن عامة المسلمين راضون بدينهم مطمئنون، لا يبغون به بديلا، وكونه قد يوجد عدد قليل يظهر الإيمان ويبطن الكفر، أهون من إظهار الكفر بعد إظهار الإيمان.
ولو ترك للمسلمين الخروج من دينهم إلى غيره من الأديان، لكثر المرتدون كثرة تضعف بها الأمة تذهب هيبتها وهيبة دينها، لأن كل من ضعف إيمانه قد يعلن ردته.
وبقاء ضعيف الإيمان على إيمانه، خير له وللأمة من تركه دينه، لأنه يرجى له بما معه من الإيمان أن يقوى إيمانه ويموت على الإسلام، فينجو من الخلود في جهنم، ويبقى مكثرا لسواد المسلمين، مشاركا لهم في تعاونه معهم على البر والتقوى بمقدار إيمانه، ولو فرض أنه لم يتعاون مع المسلمين، فإنه بحكم انتمائه إليهم يتورع عن التعاون مع أعدائهم عليهم.
والذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر وهو المنافق، يبقى ملتزما أمام قانون الشرع بالشرع، ومما يجب عليه التزامه النصح للمسلمين، وعدم التعاون مع عدوهم ضدهم ولو في الظاهر، ويؤاخذ على مخالفته شرعا...
وقد وجد المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاملهم معاملة من سواهم من المسلمين، بناء على الظاهر كما مضى...
وعندما استأذن منه بعض أصحابه أن يقتل من ظهر منهم النفاق ومنهم عمر رضي الله عنه، الذي استأذنه في قتل رأس المنافقين "عبد الله بن أبي" لم يأذن له بل قال له: (دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) والصحبة هنا هي الصحبة الظاهرية التي يعاشر بها المنافق معاشرة سائر المسلمين.
وما أظهروا الإسلام إلا ليتقوا به ما قد ينزل بهم من معاملة الكفار، كما قال تعالى عنهم: ?إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً...? [المنافقون (1، 2)]
حماية الأفراد والأسر والأمة من خطر الردة(3/28)
إن أول ما يتعرض لخطر الردة، نظام الأمة العام، ثم أسرة المرتد، من زوج وأولاد، وأقارب، ثم استشراء ذلك في ضعاف الإيمان من الأمة...
ومن هنا نعلم شيئا من حكمة الله تعالى في منع المسلم من الارتداد عن دينه إلى دين آخر، لأن في ترك المسلمين لدينهم هدما لهذا الدين الحق الذي يجب أن يحفظ، وتوهينا لأهله الذين يجب أن يعتصموا بحبل الله، ليكونوا قدوة للعالمين في سلوك صراط الله المستقيم: ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه? [آل عمران(110)]
قال ابن تيمية رحمه الله: "وأما المرتد فالمبيح عنده - أي المبيح للقتل عند الإمام أحمد - هو الكفر بعد الإيمان، وهو نوع من الكفر، فإنه لو لم يقتل ذلك لكان الداخل في الدين يخرج منه، فقتله حفظ لأهل الدين وللدين، فإن ذلك يمنعهم من النقص ويمنعهم من الخروج بخلاف من لم يدخل فيه". [مجموع الفتاوى (20/9-103)، (28/413) راجع أيضاً المبسوط (10/98)، وبدائع الصنائع (59/438)].
وقال أحمد فتحي بهنسي:
"جريمة الردة في الفقه الإسلامي فيها شيء من المماثلة لجريمة تغيير النظام الاجتماعي في الفقه الغربي.. كالفوضوية.. وغيرها من المذاهب الهدامة". [المسؤولية الجنائية (18)].
وقال سيد سابق رحمه الله:
"الإسلام منهج كامل للحياة فهو..
دين ودولة..
وعبادة وقيادة..
ومصحف وسيف..
وروح ومادة..
ودنيا وآخرة..
وهو مبني على العقل والمنطق..
وقائم على الدليل والبرهان..
وليس في عقيدته ولا شريعته ما يصادم فطرة الإنسان، أو يقف حائلاً دون الوصول إلى كماله المادي والأدبي..
ومن دخل فيه وعرف حقيقته، وذاق حلاوته، فإذا خرج منه وارتد عنه بعد دخوله فيه وإدراكه له، كان في الواقع خارجاً على الحق والمنطق ومنكرا للدليل والبرهان وحائداً عن الحق السليم والفطرة المستقيمة.
والإنسان حين يصل إلى هذا المستوى، يكون قد ارتد إلى أقصى دركات الانحطاط.
ومثل هذا الإنسان لا ينبغي الحفاظ على حياته، ولا الحرص على بقائه لأن حياته ليست لها غاية كريمة ولا مقصد نبيل؟.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الإسلام وهو منهج عام للحياة ونظام شامل للسلوك الإنساني لا غنى له من سياج يحميه، ودرع يقيه..
فإن أي نظام لا قيام له إلا بالحماية والوقاية والحفاظ عليه من كل ما يهز أركانه ويزعزع بنيانه، ولا شيء أقوى في حماية النظام ووقايته من منع الخارجين عليه، لأن الخروج عليه يهدد كيانه، ويعرضه للسقوط والتداعي..
إن الخروج على الإسلام والارتداد عنه، إنما هو ثورة عليه والثورة عليه ليس لها من جزاء إلا الجزاء الذي اتفقت عليه القوانين الوضعية فيمن خرج على نظام الدولة وأوضاعها المقررة.
إن أي إنسان سواء كان في الدول الشيوعية أم الدول الرأسمالية، إذا خرج على نظام الدولة، فإنه يتهم بالخيانة العظمى لبلاده والخيانة العظمى جزاؤها الإعدام.
فالإسلام في تقرير عقوبة الإعدام للمرتدين منطقي مع نفسه ومتلاق مع غيره من النظم". [فقه السنة (2/457)].
راجع أيضا [كتاب الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي (2/101، 188)]
وخلاصة القول أن الارتداد عن الإسلام تمرد على النظام، وإضعاف للجماعة، وتكثير لسواد الأعداء وإفشاء لأسرار المسلمين الخطيرة، وغير ذلك مما لا يتسع له المقام..
شبهة من جعل المرتد كالكافر الأصلي في حرية الاعتقاد
وما زعمه بعض المعاصرين، من المساواة بين المسلم المرتد والكافر الأصلي، في أن لكل منهما حرية الاعتقاد، ودخولهما في النهي عن الإكراه في الدين، الوارد في كتاب الله، مثل قوله تعالى: ?لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيّ? [آل عمران: (256)]هو زعم باطل، من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: ما سبق من المفاسد المترتبة على ارتداد المسلمين، وتأثيره الخطير على الأمة ودينها...
الوجه الثاني: أن النهي عن الإكراه في الدين، حكم عام أريد به الخاص، وهو الكافر الأصلي الذي لم يدخل في الإسلام، بدليل ما ورد من السنة في حكم المرتد، ولو فرض أن المرتد يدخل في عموم النهي عن الإكراه في الدين، فإنه يجب تخصيصه بما ورد في السنة من حكم المرتد، لأن الخاص مقدم على العام.
الوجه الثالث: إجماع علماء الأمة على القول بحكم المرتد الذي ورد في السنة الصحيحة، وكذلك عمل الصحابة وغيرهم من ولاة الأمور به.
ولا يجوز أن يساوى بين المسلم المرتد عن الإسلام، والكافر الأصلي، لأن الداخل في الإسلام، لا يخلو من أحد شخصين: شخص نشأ مسلما في أسرة مسلمة وشعب مسلم، وهذا لعمر الله جدير بشكر نعمة الله عليه، حيث هيأ الله تعالى له بيئة لم تتلوث برجس الكفر الذي لا يتمكن كثير من أهله من الاهتداء إلى هذا الدين والدخول فيه.
وشخص آخر لم يكن مسلما، ولكنه دخل في الإسلام مختارا حرا لم يكرهه على الدخول فيه أحد، بل دخله بسبب قيام حججه وبراهينه التي تضطر العقل على الاعتراف بأنه الدين الحق الذي لم يعد في الأرض دين حق سواه.
وهو يعلم كذلك أنه لا يجوز لمن دخل في الإسلام الخروج منه إلى غيره
ويعلم أنه بنطقه بالشهادتين، قد أسلم وجهه لله، وأصبح بذلك خاضعا لشرعه الكامل وحكمه العادل الذي إذا ثبت أي حكم من أحكامه، وجب تطبيقه عليه رضيه أو كرهه.
تشكيك يجب رفضه
ومع هذه الأدلة الصحيحة الصريحة في قتل المرتد، والعمل بها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعهد خلفائه الراشدين، وعهود أخرى تلت ذلك، ومع ما نقل من انعقاد إجماع العلماء على العمل بها، نجد من يشكك في تطبيق هذا الحكم في هذا العصر.
وهؤلاء قسمان:(3/29)
القسم الأول: بعض المنتسبين إلى الإسلام من تلاميذ المستشرقين الذين انبروا لمهاجمة أصول هذا الدين وفروعه، وغالب هؤلاء التلاميذ يفقدون الفقه في دين الله، مع فقدهم الولاء الصادق لله ولرسوله وللمؤمنين.
ولهذا تأثروا بآراء أساتذتهم وقلدوهم في الحق وفي الباطل على غير هدى من الله، ونصبوا أنفسهم وكلاء لهم في البلدان الإسلامية، ناشرين أفكارهم مدافعين عنها، مشككين في كتاب الله وسنة رسوله، وفي صلاحية تطبيق شرع الله في هذه العصور.
القسم الثاني: بعض العلماء الأفاضل وبعض الكتاب، هالتهم الهجمات الشديدة، التي يشنها أعداء الإسلام الذين لم يزالوا ولا زالوا ولن يزالوا، يحاربون أصول الإسلام و فروعه، حربا شاملة لكتابه وسنة رسوله، ومناهجه وشريعته ودعاته وعلمائه، ووسائل انتشاره، من مال واقتصاد وتعليم وإعلام وغير ذلك مما لا يخفى على أحد اليوم.
حاربوا هذا الدين بكل وسيلة أتيحت لهم، وعلى رأس هذه الوسائل القوة العسكرية التي احتلوا بها بعض بلدان المسلمين، وهددوا بها بعضها الآخر، متذرعين بحقوق الإنسان التي تحوي موادها حرية الاعتقاد الشاملة للخروج من دين إلى دين آخر، سواء كان الخارج فردا أو جماعة.
ومما لا شك فيه أن إخراج المسلمين من دينهم هو الهدف الأساسي عند اليهود والصليبيين والوثنيين، ولم نر هجوما شنوه في الماضي، ويشنونه في الحاضر، وسيشنونه في المستقبل، على أي دين وجد في الأرض مثل هجومهم على دين الإسلام، فهو هدفهم الرئيس من حملاتهم الظالمة اليوم وقبل اليوم وبعد اليوم، كما قال تعالى:
?وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ? [البقرة (120)]
وقال تعالى:
?وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ? [البقرة (217) البقرة]
ولقد تدخل أعداء الله في كل شأن من شئون هذا الدين، وبخاصة في أصول ديننا وشريعتنا، وهاهي مؤسساتهم التي تدعمها الدول الغربية، تلح على الأمم المتحدة - التي تسيرها الدولة المعتدية على أمتنا – لحماية المرتدين عن الإسلام مما تسميه اضطهادا - هذا مع العلم أن كثيرا من المرتدين لا يقام عليهم حكم الشرع، في غالب حكومات الشعوب الإسلامية:
"هيئة تنصيرية تطالب بحرية الردة "
وجهت منظمة تنصيرية إنجليزية نداءً للأمم المتحدة يوم الأربعاء 29 يوليو؛ كي تتصدى لاضطهاد المرتدين عن الدين في البلدان الإسلامية على حد زعمهم.
وجاء ذلك في الوقت الذي أشادت فيه جماعات حقوقية بما ورد في تقرير التنمية البشرية لعام 2004 الصادر عن الأمم المتحدة من التأكيد على أن "الأفراد يجب أن يكونوا أحراراً لا في انتقاد الدين الذي ولدوا عليه فحسب، بل وفي التحول عنه أيضاً إلى دين آخر أو البقاء بلا دين".
وجاء نداء الأربعاء طبقاً لموقع الإسلام اليوم في شكل التماس أعدته جماعة نصرانية بريطانية اسمها صندوق برنابا "Barnaba Fund" دعت فيه مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة والحكومات والهيئات الدولية، إلى رفع أصواتها وإثارة هذه القضية "كأمر ملح" مع التجمعات الإسلامية.
وقال مدير الدعاية بالصندوق بول كوك الذي رحب بما ورد في تقرير التنمية البشرية باعتباره "تأكيداً مشجعاً جدّاً" على "حق الردة" إن جهود جماعته من أجل الدخول في حوار مع الهيئات الإسلامية بشأن هذا الأمر قوبلت بالصمت..
يذكر أن حد الردة غير مطبق في معظم الدول الإسلامية خاصة أن أحكام الشريعة الإسلامية كلها معطلة."
[مجلة المجتمع، عدد: 1613، تاريخ 7/8/2004م المجتمع الإسلامي]
أقول: إن هذا الهجوم الشديد وهذه الحملات الظالمة التي ما فتئ أعداء الإسلام يشنونها عليه، جعلت بعض العلماء الأفاضل الغيورين وبعض الكتاب في هذا العصر، يتحفزون لرد الشبهات التي أُطْلِقت سهامها إلى صميم هذا الدين واتهام نصوصه بالتعارض والتناقض، ومن ذلك ما زعموه من تعارض بين قوله تعالى: ?لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ? [البقرة (256)] وما ورد من النصوص في قتل المرتد.
ومن هؤلاء العلماء والكتاب من نفى قتل المرتد مطلقا، ومنهم من نفى قتل بعض المرتدين دون بعض.
ألسنا نرى ونسمع بعض المرتدين عن الإسلام يجاهرون في وسائل الإعلام كلها: الفضائيات والإذاعات، والصحف والمجلات، والشبكة العالمية للمعلومات "الإنترنت" وينصبون أنفسهم مفتين يهاجمون ما علم من الدين بالضرورة؟
أما تعليل إسقاط عقوبة المرتد بأنه "لا يقصد بها العبث بشعور أو شعائر المسلمين!".
فنقول: إن مناط عقوبة الردة هو وقوعها مستوفية شروطها، فإذا خرج من دخل في الإسلام منه، فقد استحق هذه العقوبة الشرعية، ولسنا مكلفين بالتنقيب عن قصده من ردته...
ثم نقول كيف سيكون شعور أبوي المرتد عن الإسلام، وشعور إخوانه وأبنائه وزوجه، وأسرته وجيرانه وأصدقائه، وشعور كل مسلم عَلِم بخروج عضو من أعضاء أمته من عقيدتها ودينها؟ هل سيقيمون له احتفالا يحتفون بردته؟
وإذا لم تكن الردة عن الإسلام استهزاء بدين الله، فما هو الاستهزاء؟ هل الإسلام ملعب كرة أو صالة عرض سينمائي، يحق لكل إنسان أن يحمل على صدره بطاقة للدخول فيهما والخروج منهما متى شاء؟(3/30)
ثم نقول مرة أخرى: إننا لم نر مرتدا عن الإسلام، خرج منه بهدوء كما قال الكاتب، مع استثناء الجهال الذين يضلهم المنصرون في أدغال أفريقيا أو غابات بورنيو، وحتى هؤلاء إذا ارتد منهم كبير الأسرة أو كبير القبيلة لحق به أتباعه.
بل إن الذين يعلنون ردتهم وكفرهم بالإسلام، يصبحون مع ردتهم دعاةً إلى ما انتقلوا إليه من دين محرف، أو منحازين إلى مؤسساته مستهزئين بالإسلام وأهله وشعائره وعلمائه، متخذين كل وسيلة متاحة لنشر أفكارهم وهجومهم على هذا الدين.
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
=============
مقاصد الشريعة .. أساس لحقوق الإنسان
الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي
مقدمة:
الحمد لله، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام على الإنسان الكامل، معلم الناس الخير، ومرشد البشرية إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم؛ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
فقد كرّم الله الإنسان، واصطفاه على سائر خلقه، وجعله سيدًا في الأرض، وأمده بالوحي السماوي، والرعاية الإلهية، والشرع القويم، وأرسل له الأنبياء والرسل، وأنزل عليه الكتب، ليسير على الهدي السديد، والصراط المستقيم، وشرع له الأحكام لبيان الحقوق والواجبات..ولكن الإنسان ظلوم جهول.. جُبِل على العدوان والشر أحيانًا، وكثيرًا ما يكون ذئبًا على أخيه الإنسان، إن لم يكن أشد فتكًا به من الوحوش الضارية.
وظهر ظلم الإنسان للإنسان، والاعتداء عليه، طوال التاريخ في صور عديدة، وتحت شعارات مختلفة، ولأسباب متنوعة، داخلية وخارجية، عرقية وعنصرية، أخلاقية ومالية، دينية واقتصادية، وخاصة في العصور المظلمة في أوروبا، المسماة بـ (العصور الوسطى)، مع غياب العقيدة الصحيحة، والدين الحق، والشريعة السمحاء.. وتكرر الدمار والإبادة للإنسان من أخيه الإنسان، في القرن العشرين في عدة حروب، ثم كانت الحرب المدمرة الفتاكة الأولى في القرن الحادي والعشرين، وقد يتفاقم الظلم والعدوان في إطار الأسرة الواحدة.
وقام المفكرون والمصلحون في أوروبا خاصة، وفي العالم عامة، يحذرون من هذا الظلم والعدوان، ويدعون للاعتراف بحقوق الإنسان، حتى ظهر لأول مرة إعلان حقوق الإنسان في فرنسا، عام 1789م. ولكنه اقتصر على الدعاية، وكان مجرد شعار، لكنه ترك أثره في توعية الأفراد والشعوب، حتى صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م، ثم الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية عام 1966م، وظهرت منظمات حقوق الإنسان.
ومع غياب الوعي الإسلامي الشامل خلال القرنين الماضيين، وتخلف المسلمين، وإلغاء تطبيق الشريعة الإسلامية في معظم البلاد الإسلامية، وفرض الفكر الأجنبي، والغزو الثقافي والقوانين المستوردة، اختل وضع المواطن المسلم، وظهرت انتهاكات الحقوق، وارتفع على الأفق السؤال والاستفسار عن حقوق الإنسان في الإسلام، فنهض العلماء والدعاة والمصلحون لبيان تكريم الله للإنسان، وأن الشرع الحنيف جاء -أصلاً- من أجل الإنسان، وأن مقاصد الشريعة المقررة أساسًا هي المنطلق الرئيس لإنسانية الإنسان، وهي المرجعية الوحيدة لحقوق الإنسان، وهذا يستدعي العودة أولاً لحظيرة الدين، لينعم الإنسان بظلال الشريعة الوارفة، ويمارس عمليًا حقوق الإنسان، ويطبقها فعلاً وليس دعاية وشعارًا.
وهذا موضوع البحث في هذه الورقات المعدودة، لنذكّر بمقاصد الشريعة، وما تحتويه من حقوق، وما تتضمنه من التزام حقيقي بذلك، دون الوقوف وراء النصوص البراقة، والدعايات الخادعة، والمتاجرة بالمبادئ، والكيل بمكيالين، والتستر وراء منظمات حقوق الإنسان، لتسويق السموم والأهداف الاستعمارية الفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية، للتأكيد أن الله تعالى قرر حقوق الإنسان لخلقه، وبيّنها في شرعه، وجعلها واجبات دينية فرض أداءها على العباد، لتأخذ طريقها للتطبيق الصحيح، مع الثواب لفاعلها، والعقاب الديني والدنيوي لمن يتجاوزها أو ينتهكها.
ونسأل الله التوفيق والسداد، وعليه التكلان.
مفهوم المقاصد:
المقاصد لغة: جمع مَقْصَد، من قصد الشيء، وقصد له، وقصد إليه قصدًا، من باب ضرب، بمعنى طلبه، وأتى إليه، واكتنزه، وأثبته.. والقصد: هو طلب الشيء، أو إثبات الشيء، أو الاكتناز في الشيء، أو العدل فيه[1].
ومقاصد الشريعة في اصطلاح العلماء هي: الغايات والأهداف والنتائج والمعاني التي أتت بها الشريعة، وأثبتتها في الأحكام، وسعت إلى تحقيقها وإيجادها والوصول إليها في كل زمان ومكان[2].
تحديد مقاصد الشريعة:
إن الله تعالى خلق الإنسان على أحسن تقويم، وكرّم بني آدم غاية التكريم، وفضلهم على سائر المخلوقات، وسخر لهم ما في الأرض جميعًا وما في السموات وجعلهم الخلفاء في الأرض.
وإن الله تعالىلم يخلق الإنسان عبثًا، ولم يتركه سدى، وإنما أرسل له الرسل والأنبياء، وأنزل عليهم الكتب والشرائع، إلى أن ختم الله الرسل بسيدنا محمدصلى الله عليه وسلم: (( رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ )) (الأحزاب:40)، وختم الكتب والشرائع بالقرآن العظيم وشريعة الإسلام، فأكمل به الدين : (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً )) (المائدة:3).(3/31)
وتهدف هذه الشريعة إلى تحقيق السعادة للإنسان في الدنيا لتحقيق خلافته في الأرض، فجاءت أحكامها لتأمين مصالحه، وهي جلب المنافع له، ودفع المضار عنه، فترشده إلى الخير، وتهديه إلى سواء السبيل، وتدله على البر، وتأخذ بيده إلى الهدي القويم، وتكشف له المصالح الحقيقية، ثم وضعت له الأحكام الشرعية لتكون سبيلاً ودليلاً لتحقيق هذه المقاصد والغايات، وأنزلت عليه الأصول والفروع لإيجاد هذه الأهداف، ثم لحفظها وصيانتها، ثم لتأمينها وضمانها وعدم الاعتداء عليها.
وحدد العلماء مقاصد الشريعة بأنها تحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة، أو في العاجل والآجل، قال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: «اعلم أن الله سبحانه لم يشرع حكمًا من أحكامه إلا لمصلحة عاجلة أو آجلة، أو عاجلة وآجلة، تفضلاً منه على عباده»، ثم قال: «وليس من آثار اللطف والرحمة واليسر والحكمة أن يكلف عباده المشاق بغير فائدة عاجلة ولا آجلة، لكنه دعاهم إلى كل ما يقربهم إليه»[3].. ومصالح الناس في الدنيا هي كل ما فيه نفعهم وفائدتهم وصلاحهم وسعادتهم وراحتهم، وكل ما يساعدهم على تجنب الأذى والضرر، ودفع الفساد، إن عاجلاً أو آجلاً.
وقد وردت الأحكام الشرعية لجلب المصالح للناس، ودفع المفاسد عنهم، وأن كل حكم شرعي إنما نزل لتأمين أحد المصالح، أو لدفع أحد المفاسد، أو لتحقيق الأمرين معًا.
وما من مصلحة في الدنيا والآخرة إلا وقد رعاها المشرع، وأوجد لها الأحكام التي تكفل إيجادها والحفاظ عليها.
وإن الشرع الحكيم لم يترك مفسدة في الدنيا والآخرة، في العاجل والآجل، إلا بينها للناس، وحذرهم منها، وأرشدهم إلى اجتنابها والبعد عنها، مع إيجاد البديل لها[4].
والدليل على ذلك الاستقراء الكامل للنصوص الشرعية من جهة، ولمصالح الناس من جهة ثانية، وأن الله لا يفعل الأشياء عبثًا في الخلق والإيجاد والتهذيب والتشريع، وأن النصوص الشرعية في العقائد والعبادات، والأخلاق والمعاملات، والعقود المالية، والسياسة الشرعية، والعقوبات، وغيرها، جاءت معللة بأنها لتحقيق المصالح ودفع المفاسد.
فالعقيدة بأصولها وفروعها جاءت لرعاية مصالح الإنسان في هدايته إلى الدين الحق، والإيمان الصحيح، مع تكريمه والسمو به عن مزالق الضلال والانحراف، وإنقاذه من العقائد الباطلة، والأهواء المختلفة، والشهوات الحيوانية، فجاءت أحكام العقيدة لترسيخ الإيمان بالله تعالى، واجتناب الطاغوت، ليسمو الإنسان بعقيدته وإيمانه إلى العليا، وينجو من الوقوع في شرك الوثنية، وتأليه المخلوقات من بقر وقرود، وشمس وقمر، ونجوم وشياطين، وإنس وجن، ويترفع عن الأوهام والسخافات والخيالات، والأمثلة على ذلك واضحة وصريحة وكثيرة، من التاريخ القديم والحديث، ومذكورة في النصوص الشرعية.
وفي مجال العبادات وردت نصوص كثيرة تبين أن الحكمة والغاية من العبادات إنما هي تحقيق مصالح الإنسان، وأن الله تعالى غني عن العبادة والطاعة، فلا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، وأن العبادات تعود منافعها للإنسان في كل ركن من أركانها، أو فرع من فروعها، والنصوص الشرعية صريحة في ذلك وكثيرة.
وفي المعاملات بيّن الله تعالى الهدف والحكمة منها، وأنها لتحقيق مصالح الناس بجلب النفع والخير لهم، ودفع المفاسد والأضرار والمشاق عنهم، وإزالة الفساد والغش والحيف والظلم من العقود، لتقوم على المساواة والعدل بين الأطراف.
وتتجلى مصالح العباد في تحريم الخبائث والمنكرات لدفع الفساد والضرر عن الإنسان، وحمايته من كل أذى أو وهن.
وتظهر مصالح الإنسان بشكل قطعي في الدعوة إلى مكارم الأخلاق، وحسن التعامل، والإحسان إلى الإنسان، وتجنب الإساءة إليه ولو بالحركة والإشارة والكلمة واللسان، واليد والتصرفات، لتسود المودة بين الناس، ويكونوا كما صورهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»[5]، وهذا يوجب بيان أهمية معرفة المقاصد.
أهمية معرفة المقاصد وفوائدها:
إن تحديد الهدف والمقصد لعمل ما، هو الباعث لأدائه، والمحرك لتحقيقه، والدافع لإنجازه والامتثال له، والموضح للغاية منه.
كما أن الهدف والمقصد يحدد الطريق السوي للوصول إليه، لاختصار الوقت، واختيار المنهج الأمثل له، حتى لا تتشعب الأهواء وتتبدد الجهود.. وإن معرفة مقاصد الشريعة في أحكامها وفروعها لها أهمية عظيمة وفوائد كثيرة، للمسلم عامة، وللباحث والعالم والفقيه والمجتهد خاصة، وتتجلى في الأمور التالية:
1- إن معرفة المقاصد تبين الإطار العام للشريعة، والتصور الكامل للإسلام، وتوضح الصورة الشاملة للتعاليم والأحكام، لتتكون النظرة الكلية الإجمالية للفروع، وبذلك يعرف الإنسان ما يدخل في الشريعة، وما يخرج منها.. فكل ما يحقق مصالح الناس في العاجل والآجل، في الدنيا والآخرة، فهو من الشريعة، ومطلوب من المسلم (فهو واجب عليه، وحق لغيره، وبالعكس).. وكل ما يؤدي إلى الفساد والضرر والمشقة والاضطراب فهو ليس من الشريعة، بل هو منهي عنه، فيحرم على المسلم فعله لأنه يضر بنفسه أو بغيره، ويجب على الآخرين الامتناع عنه رعاية لحق سائر الناس[6].
2- إن معرفة مقاصد الشريعة تبين الأهداف السامية التي ترمي إليها الشريعة في الأحكام، وتوضح الغايات الجليلة التي جاءت بها الرسل وأنزلت لها الكتب، فيزداد المؤمن إيمانًا إلى إيمانه، وقناعة في وجدانه، ومحبة لشريعته، وتمسكًا بدينه، وثباتًا على صراطه المستقيم، فيفخر برسوله، ويعتز بإسلامه، وخاصة إذا قارن ذلك مع بقية التشريعات والديانات والأنظمة الوضعية.(3/32)
3- إن مقاصد الشريعة تعين في الدراسة المقارنة على ترجيح القول الذي يحقق المقاصد، ويتفق مع أهدافها في جلب المنافع ودفع المفاسد، مثل مراعاة جانب الفقراء في الزكاة، ورعاية جانب الصغار والأيتام والوقف في المعاملات، وهي المنارة والمشكاة التي تضئ للحكام في السياسة الشرعية، وقضاء المظالم، وفيما لا نص فيه.. كما تساعد المقاصد على الترجيح عند تعارض الأدلة الكلية والجزئية في الفروع والأحكام، مما يؤكد أن التعارض ظاهري بين الأدلة، ويحتاج إلى معرفة السبيل للتوفيق بينها، قال تعالى: (( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً)) (النساء:82).
4- إن بيان مقاصد الشريعة يبرز هدف الدعوة الإسلامية التي ترمي إلى تحقيق مصالح الناس، ودفع المفاسد عنهم، وذلك يرشد إلى الوسائل والسبل التي تحقق السعادة في الدنيا، والفوز برضوان الله في الآخرة.
وإن مهمة الأنبياء والرسل كانت تهدف إلى تحقيق هذه المقاصد، وإن العلماء ورثة الأنبياء في الدعوة إلى الصلاح والإصلاح، وتسعى للخير والبر والفضيلة، وتحذر من الفساد والإثم والرزيلة والشر، لذلك كانت وظائف الأنبياء أنبل الأعمال وأشرف الأمور في تقرير حقوق الإنسان، وهي أسمى الغايات وأقدس المهمات، ومن سار على طريقهم لحق بهم، ونال أجرهم، ولذلك يحرص الدعاة والمصلحون إلى اقتفاء الرسل، والدعوة إلى التزام الشرع الحنيف لتحقيق السعادة لبني الإنسان، ومنع الاعتداء على حقوقه، أو تجاوز حدوده.
5- إن مقاصد الشريعة تنير الطريق في معرفة الأحكام الشرعية الكلية والجزئية من أدلتها الأصلية والفرعية المنصوص عليها، وتعين الباحث والمجتهد والفقيه إلى فهم النصوص الشرعية وتفسيرها بشكل صحيح عند تطبيقها على الوقائع، كما ترشد إلى الصواب في تحديد مدلولات الألفاظ الشرعية ومعانيها، لتعيين المعنى المقصود منها، لأن الألفاظ والعبارات قد تتعدد معانيها، وتختلف مدلولاتها، فتأتي المقاصد لتحديد المعنى المقصود منها.
6- إذا فقد النص على المسائل والوقائع الجديدة، رجع المجتهد والفقيه والقاضي والإمام إلى مقاصد الشريعة لاستنباط الأحكام بالاجتهاد والقياس والاستحسان، وسد الذرائع والاستصلاح والعرف، بما يتفق مع روح الدين، ومقاصد الشريعة وأحكامها الأساسية.
هذه الفوائد تحتم على الباحث والعالم والفقيه والمجتهد أن يضع مقاصد الشريعة نصب عينيه، لتضئ له الطريق، وتصحح له المسار، وتعينه على الوصول إلى الحق والعدل والصواب والسداد.
وقد لمس رجال التشريع هذه الأهمية والفوائد، ولجأت السلطات التشريعية في الدول المعاصرة إلى وضع المذكرة التفسيرية للقانون، أو للنظام، لتبين للناس المقصد العام له، والمقصد الخاص لكل مادة، ليستطيع القضاة والمحامون وشراح القانون من حسن فهم القانون وحسن تطبيقه وتنفيذه والقياس عليه، أو التوسع فيه، أو الحفاظ عليه، أو تطويره، بما يتفق مع روح التشريع والقصد الذي وضع من أجله..وتطلب معظم الأنظمة من القضاة أن يحكموا بمبادئ العدالة، وبما يتفق مع المبادئ العامة عندما يفقدون النص في النظام على أمر ما.
واتفق فقهاء الشريعة على أن تصرفات الإمام أو من ينوب عنه منوطة بالمصلحة، أي أن جميع تصرفات الحكام والمسؤولين مرتبطة بتحقيق مصالح الناس، فإن خرجت من المصلحة إلى المفسدة كانت باطلة، وتعرض أصحابها إلى المسؤولية في الدنيا والآخرة، ووضع الفقهاء القاعدة الفقهية المشهورة: «التصرف على الرعية منوط بالمصلحة»[7].
تقسيم المقاصد بحسب المصالح:
تبين مما سبق أن مقاصد الشريعة هي تحقيق مصالح الناس، ولكن المصالح ليست على درجة واحدة من حيث الأهمية والخطورة وحاجة الناس إليها، وإنما هي على مستويات مختلفة، ودرجات متعددة، فبعض المصالح ضروري وجوهري يتعلق بوجود الإنسان ومقومات حياته، وبعضها يأتي في الدرجة الثانية، ليكون وسيلة مكملة للمصالح الضرورية السابقة، وتساعد الإنسان على الاستفادة الحسنة من جوانب الحياة المختلفة في السلوك والمعاملات وتنظيم العلاقات، وبعض المصالح لا تتوقف عليها الحياة، ولا ترتبط بحاجيات الإنسان، وإنما تتطلبها مكارم الأخلاق والذوق الصحيح، والعقل السليم، لتأمين الرفاهية للناس، وتحقيق الكماليات لهم[8].
ومن هنا حصر العلماء مصالح الناس، وقسموها بحسب أهميتها وخطورتها وأثرها في الحياة وحاجة الناس إليها إلى ثلاثة أقسام، وأن مقاصد الشريعة جاءت لتحقيق هذه المصالح بأقسامها الثلاثة، وهي:
1- المصالح الضرورية:
وهي التي تقوم عليها حياة الناس الدينية والدنيوية، ويتوقف عليها وجودهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة، وإذا فقدت هذه المصالح الضرورية اختل نظام الحياة، وفسدت مصالح الناس، وعمّت فيهم الفوضى، وتعرض وجودهم للخطر والدمار والضياع والانهيار، وضاع النعيم في الآخرة، وحل العقاب.
وهذه المصالح الضرورية هي الأساس لحقوق الإنسان، وهي السند لها، والركيزة التي تعتمد عليها، والكوكب الذي تشع منه، سواء كانت حقوقًا عامة تنادي بها جميع الأمم والشعوب والدساتير والمواثيق العالمية، والقوانين والاتفاقات الدولية، وتسمى الحقوق الأساسية للإنسان، ومنها حق الحياة، وحق التدين، وحق الحرية، وحق المساواة، أم كانت حقوقًا فرعية وخاصة، وكلا النوعين هي واجبات على الآخرين يجب عليهم الالتزام بها، وحفظها لأصحابها، لأن كل حق يقابله واجب، والحق هو مصلحة مقررة شرعًا أو قانونًا، فالحق منفعة تثبت لإنسان على آخر، فالحق مصلحة قررها الشرع أو القانون، لينتفع بها صاحبها، ويتمتع بمزاياها، وبالتالي تكون واجبًا والتزامًا على آخر يؤديه، لتحقق الغاية منها [9].
- حصر المصالح الضرورية:(3/33)
وتنحصر المصالح الضرورية للناس في نظر الإسلام في خمسة أشياء، وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسل أو العرض أو النسب، والمال.
وجاءت الشريعة الغراء لحفظ هذه المصالح الضرورية، وذلك بتشريع الأحكام التي تحفظ الدين، وتحفظ النفس، وتحفظ العقل، وتحفظ النسل أو العرض أو النسب، وتحفظ المال[10].
واتفقت الشرائع السماوية على مراعاة هذه الحقوق الأساسية والمصالح الضرورية للناس، فنادت بها، وحرصت عليها، وعملت على حمايتها وحفظها.
قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى: «ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة» ثم قال: «وهذ الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح»[11].
ثم قال الغزالي: «وتحريم تفويت هذه الأمور الخمسة، والزجر عنها، يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل، وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق، ولذا لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتل، والزنى، والسرقة، وشرب المسكر»[12].
2- المصالح الحاجية:
وهي الأمور التي يحتاجها الناس لتأمين شؤون الحياة بيسر وسهولة، وتدفع عنهم المشقة، وتخفف عنهم التكاليف، وتساعدهم على تحمل أعباء الحياة، وإذا فقدت هذه الأمور لا يختل نظام الحياة، ولا يتهدد وجود الناس، ولا ينتابهم الخطر والدمار والفوضى، ولكن يلحقهم الحرج والضيق والمشقة، ولذلك تأتي الأحكام التي تحقق هذه المصالح الحاجية للناس، لترفع عنهم العسر، وتيسر لهم سبل التعامل، وتساعدهم على صيانة مصالحهم الضرورية وتأديتها، والحفاظ عليها عن طريق الأحكام الحاجية، كالرخص في العبادات، وأحكام المعاملات[13]، كما سيأتي بيانها.
3- المصالح التحسينية:
وهي الأمور التي تتطلبها المروءة والآداب والذوق العام، ويحتاج إليها الناس لتسيير شؤون الحياة على أحسن وجه، وأكمل أسلوب، وأقوم نهج، وإذا فقدت هذه الأمور فلا تختل شؤون الحياة، ولا ينتاب الناس الحرج والمشقة، ولكن يحسون بالضجر والخجل، وتتقزز نفوسهم، وتستنكر عقولهم، وتأنف فطرتهم من فقدها.
وهذه الأمور التحسينية ترجع إلى ما تقتضيه الأخلاق الفاضلة، والأذواق الرفيعة، وتكمل المصالح الضرورية، والمصالح الحاجية على أرفع مستوى وأحسن حال[14].
الوسائل الشرعية لتحقيق المقاصد:
جاءت الشريعة الإسلامية لتأمين المصالح جميعها، بأن نصت على كل منها، وبينت أهميتها، وخطورتها ومكانتها، في تحقيق السعادة للإنسان، ثم شرعت الأحكام لتحقيقها.
ويدل الاستقراء والبحث والدراسة والتأمل بأن الشرع الحنيف جاء لتحقيق مصالح الناس الضرورية والحاجية والتحسينية، وأن الأحكام الشرعية كلها إنما شرعت لتحقيق هذه المصالح، وأنه ما من حكم شرعي إلا قصد به تحقيق أحد هذه المصالح أو أكثر، بحيث يكفل التشريع جميع المصالح بأقسامها الثلاثة.
وكان منهج التشريع الإسلامي لرعاية هذه المصالح باتباع طريقين أساسيين: الأول: تشريع الأحكام التي تؤمن تكوين هذه المصالح وتوفر وجودها.. الثاني: تشريع الأحكام التي تحفظ هذه المصالح وترعاها وتصونها، وتمنع الاعتداء عليها أو الإخلال بها، وتؤمن الضمان والتعويض عنها عند إتلافها أو الاعتداء عليها[15]، وبذلك تصان حقوق الإنسان، وتحفظ، وينعم الناس بها، ويتمتعون بإقرارها عمليًا في الحياة، وهو ما نريد تفصيله.
أولاً: حفظ الدين، وحق التدين:
الدين الحق مصلحة ضرورية للناس، لأنه ينظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بنفسه، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان ومجتمعه، والدين الحق يعطي التصور الرشيد عن الخالق، والكون، والحياة، والإنسان، وهو مصدر الحق والعدل، والاستقامة، والرشاد.
والدين الذي نقصده هو الإسلام بمعناه الكامل، الذي يعني الاستسلام لله سبحانه وتعالى، ودعا له الأنبياء جميعًا، وخصه ربنا بقوله: (( إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ)) (آل عمران:19)، وقوله تعالى : (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )) (آل عمران:85).
وقد شرع الإسلام أحكام الدين، وتكفل الله تعالى بيانه للناس منذ لحظة وجودهم على الأرض، فقال تعالى: (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )) (البقرة:38)، وأناط الله تعالى التكليف والمسؤولية بعد بيان الدين، فقال سبحانه وتعالى: (( وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)) (الإسراء:15).
فبين الشرع أحكام العقيدة والإيمان كاملة في آيات كثيرة، وشرع الإسلام أركان الدين الخمسة، وبيّن أنواع العبادات وكيفيتها، لتنمية الدين في النفوس، وترسيخه في القلوب، وإيجاده في الحياة والمجتمع، ونشره في أرجاء المعمورة، وأوجب الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
ومن أجل حفظ الدين ورعايته، وضمانه سليمًا، وعدم الاعتداء عليه، ومنع الفتنة فيه، شرع الإسلام الجهاد في سبيل الله، فقال تعالى: (( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للَّهِ)) (البقرة:193)، وقال سبحانه وتعالى: ((وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ))(الحج:78)، وقال تعالى: ((ياأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ )) (التوبة:73).(3/34)
وشرع الإسلام عقوبة المرتد، لأن ردته عبث في الدين والمقدسات، قال تعالى: (( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) (البقرة:217)، واتفق الفقهاء على وجوب قتل المرتد لقوله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه»[16]، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»[17].
وشرع الإسلام -لحماية الدين- عقوبة المبتدع، والمنحرف عن دينه، وطلب الأخذ على يد تارك الصلاة، ومانع الزكاة، والمفطر في رمضان، والمنكر لما عُلِم من الدين بالضرورة، وغير ذلك، لإبعاد الناس عن الخبط في العقائد، والعزوف عن منابع الإيمان، ولحفظهم عن مفاسد الشرك، ولإنقاذهم من وساوس الشياطين، وعدم الوقوع في الانحراف والضلال، وحتى لا يسفَّ العقل في تأليه الطواغيت وعبادتها، فينقذ البشرية من الاعتقادات الباطلة، والعبادات المزيفة، والترانيم السخيفة[18].
ولم يقتصر الإسلام على أحكام إيجاد الدين وحفظه، بل شرع الأحكام الحاجية لصيانة الدين، وبقائه على أحسن صورة، وأجملها، فشرع الرخص في العبادات والعقيدة لرفع الحرج والمشقة عند الناس للتخفيف عنهم، فأجاز النطق بالكفر عند الإكراه، وأباح الفطر في رمضان للأعذار، وشرع قصر الصلاة وجمعها للمسافر والحاج، وأجاز للعاجز صلاة الفرض قاعدًا أو مستلقيًا على جنب، وأباح التيمم والمسح على الجبيرة، والمسح على الخفين.
ثم شرع الإسلام الأحكام التحسينية للناس للحفاظ على الدين، فشرع الله في العبادات أحكامًا متنوعة، لتكون العبادة على أقوم السبل، كالطهارة وستر العورة، وأخذ الزينة عند كل مسجد، والتطوع بنوافل العبادات، وإقامة المساجد، والنداء للصلاة بالآذان، وهو شعار الإسلام لإعلان التوحيد الخالص.. وشرع صلاة الجماعة، وترتيب الصفوف للصلاة، وخطبة الجمعة، والعيدين، لتعليم الناس دينهم ودنياهم.. وفي الجهاد حرّم قتل النساء والصبيان والرهبان، ومنع قطع الشجر وإتلاف المزروعات، ونهى عن الغدر والتمثيل بالقتلى، وطلب الإحسان في معاملة الأسرى، وفرض التبليغ قبل الحرب، ومنع الإكراه في الدين.. وهذا يقودنا للتفصيل في أهم حقوق الإنسان الأساسية، وهو حق التدين.
حق التدين:
يعتبر حق التدين، أو حرية الاعتقاد، من أهم حقوق الإنسان بعد حق الحياة، إن لم يسبقه معنويًا ويفوق عليه؛ لأن الدين أحد الضروريات الخمس، وهو أهم الضروريات، ويقدم على حق الحياة، لذلك شُرع الجهاد في سبيل الدين، وشرع الجهاد بالنفس والاستشهاد في سبيل الدعوة والحفاظ على الدين، لضمان حرية العقيدة، وحق التدين، ليحيا الإنسان الحياة الكريمة العزيزة، منسجمًا مع معتقده ودينه، وخاصة إذا كان الدين هو الحق الثابت، المنزل من الله تعالى، المحفوظ من التحريف والتبديل، المنسجم مع الفطرة والواقع، والتصور الصحيح عن الكون والحياة والإنسان.
وحق التدين مرتبط بالعقل والفكر، وحرية الإرادة والاختيار والقناعة الشخصية للإنسان، والعقيدة تنبع من القلب، ولا سلطان لأحد عليها إلا لله تعالى.
لذلك نص القرآن الكريم على حرية الاعتقاد وحق التدين صراحة، مع التحذير من الضلال والفساد، فقال تعالى: ((لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ)) (البقرة: 256) ، وقال تعالى: (( وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ )) (يونس:99).. وأرشد القرآن إلى الدين الحق، وهو دين الفطرة، فقال تعالى: ((فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ )) (الروم:30).
ثم هدد القرآن من أعرض عن الإيمان الصحيح بالله تعالى، وبشريعته الغراء، فقال تعالى: (( وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)) (الكهف:29)، لأن الإنسان يولد أصلاً على الفطرة، حتى يبدلها بفعل إنساني، أو إيحاء شيطاني، فقال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»[19].
التسامح الديني:
إن الإسلام ضمن حرية الاعتقاد للمسلمين أولاً، ومنع الإكراه على الدين ثانيًا، وقرر التسامح الديني مع سائر الأديان، مما لا يعرف التاريخ له مثيلاً، ويظهر ذلك في المبادئ التالية:
1- حرية الاعتقاد لغير المسلم:
إن الإسلام لا يلزم الإنسان البالغ العاقل على الدخول في الإسلام، مع القناعة واليقين أن الإسلام هو الدين الحق المبين، وأن عقيدته هي الصواب والصراط المستقيم، وأنها المتفقة مع العقل، ومع ذلك يترك للإنسان البالغ حرية الاعتقاد، واختيار الدين الذي يريده، على أن يتحمل نتيجة هذ الاختيار، لما ورد في الآية السابقة: ((لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا))(البقرة:256).(3/35)
وأكد القرآن هذه المعاني في عدة آيات، فقال الله تعالى: ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ)) (يونس:99)، وقال تعالى: ((لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء)) (البقرة:272). فالهداية من الله تعالى.. والرسول صلى الله عليه وسلم والدعاة والعلماء من بعده، مجرد مبلغين وناصحين ومذكرين، قال تعالى: ((فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ)) (الغاشية:21-22).
وبالتالي فإن الإسلام يترك للإنسان حريته واختياره في العقيدة؛ لأن الإيمان أساسه إقرار القلب وتسليمه، وليس مجرد كلمة تلفظ باللسان، أو طقوس وحركات تؤدي بالأبدان. ولكن القرآن دعا إلى إعمال العقل، وإجهاد الفكر لمعرفة الحق، والوصول إلى الخالق الواحد الأحد، وحث لذلك على معرفة الحقائق، واكتشاف أسرار الكون، وخزائن الأرض، مما يجعل التفكير ليس مجرد حق، بل هو فريضة إسلامية وعقلية.
2- احترام بيوت العبادة:
وهذا فرع من حرية الاعتقاد واحترام للعقيدة التي يختارها الإنسان، لذلك يترك الإسلام لغير المسلم حرية ممارسة العبادات التي تتفق مع عقيدته، ثم يأمر بالمحافظة على بيوت العبادة التي يمارس فيها شعائره، ويحرم على المسلمين الاعتداء على بيوت العبادة أو هدمها أو تخريبها، أو الاعتداء على القائمين فيها، سواء في حالتي السلم والحرب.. والوثائق التاريخية كثيرة في وصية الخلفاء لقادة الجيوش، وفي المعاهدات التي أبرمت في التاريخ الإسلامي، وعند الفتوحات ومنها الوثيقة العمرية مع أهل بيت المقدس، والدليل المادي الملموس شاهد على ذلك ببقاء أماكن العبادة التاريخية القديمة لليهود والنصارى وغيرهم في معظم ديار الإسلام والمسلمين.
3- المعاملة الإنسانية من المسلم لغير المسلمين:
يطلب الإسلام من المسلم أن يعامل الناس جميعًا بالأخلاق الفاضلة، والمعاملة الحسنة، وحسن المعاشرة، ورعاية الجوار، والمشاركة بالمشاعر الإنسانية في البر والرحمة والإحسان، وهي أمور يومية وشخصية وحساسة وذات تأثير نفسي كبير، بدءًا من معاملة الأبوين المشركين، إلى الإحسان للأسير، إلى الإنفاق على الأقارب وصلة الرحم والجيران غير المسلمين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور أهل الكتاب، ويكرمهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم، وسار المسلمون على سنته ونهجه طوال التاريخ.. وكان هذ السلوك القويم أحسن وسيلة للدعوة للإسلام، والترغيب فيه، والتحبيب بأحكامه، مما دفع الملايين إلى اعتناقه.
وإن منهج الإسلام في المعاملة الإنسانية لا يفرق بين الناس في الدين والعقيدة، لذلك أوجب إقامة العدل بين جميع الناس، ومنع الظلم عامة، وحمى الدماء والأبدان والأموال والأعراض للمسلمين ولغير المسلمين، وأمر بالإنصاف ولو مع العداوة واختلاف الدين، قال تعالى: (( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )) (المائدة:8).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ظلم مُعاهِدًا، أو انتقصه حقًا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة»[20]، وروى الخطيب -بإسناد حسن- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من آذى ذميًا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة»، وفي رواية للطبراني -في الأوسط- بإسناد حسن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من آذى ذميًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»[21].
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل القادمين من الأقاليم عن حال أهل الذمة، كما يسأل عن المسلمين والولاة والقضاة، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول: «إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا»، وسار على هذا المنهج الخلفاء والولاة.
وكانت هذه المعاملة الأدبية الإنسانية مع غير المسلمين سببًا رئيسًا في ترغيب الناس في الإسلام، ودخولهم في العقيدة، ومشاركتهم في الدين، وانضوائهم تحت راية الإسلام.
4- المعاملة المالية بين المسلمين وغيرهم:
قرر الشرع الإسلامي أن غير المسلم له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، وبالتالي أجاز الإسلام التعامل الكامل مع غير المسلمين، وقرر لهم الحقوق والواجبات نفسها التي وضعها للمسلمين، وكفلها لجميع المواطنين في دار الإسلام.
ونتيجة لذلك عاش غير المسلمين في ظلال الخلافة الإسلامية، وفي أحضان المجتمع الإسلامي طوال الأحقاب والقرون، وكانوا ينعمون بالأمن والأمان، والعدل والإحسان، والحرية الدينية، والمشاركة في شؤون الحياة المالية والعلمية والوظائف كما ينعم المسلمون، وأنه إذا وقع ظلم أو اعتداء في بعض فترات التاريخ فإنه يقع مثله على المسلمين، وقد يكون أشد، كما حصل مع اليهود والمسلمين في الأندلس، والمسلمين والنصارى في فلسطين المحتلة، مع التركيز على المعاملة المتميزة لأهل الكتاب في بلاد المسلمين.
وعرف التسامح الإسلامي في التاريخ بصورة مشرقة لم تعرف البشرية له مثيلاً ولا نظيرًا في القديم والحديث، وشهادات المستشرقين والمؤرخين تؤكد ذلك، ويحسن مقارنتها بما فعل الرومان قبل الإسلام مع المخالفين لهم في العقيدة، وما فعله الأسبان في الأندلس، وما ارتكبه الصليبيون في القدس وبلاد الشام، وما يزال يفعله في كثير من بلاد المسلمين اليوم، مما لا مجال للتوسع فيه.
حكم الارتداد عن الإسلام:(3/36)
وهنا تثار مسألة يظهر فيها شيء من التناقض والتعارض بين حرية التدين والاعتقاد وتحريم الردة عن الإسلام، لما أجمع عليه الفقهاء من اعتبار الردة جريمة كبرى، تستوجب العقاب الشديد في الدنيا، والعقاب الوبيل في الآخرة، لقوله تعالى: (( مَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) (البقرة:217)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه»[22].
والحقيقة أن هذا الحكم الشديد للمرتد هو فرع عن حرية التدين والاعتقاد، لأن الإسلام لا يكره أحدًا على اعتناقه والدخول فيه، إلا إذا حصل عنده القناعة التامة، والرضى الكامل، والإقرار بأن الإسلام حق، فيعلن إسلامه، وينضوي تحت لوائه.. واتفق العلماء على أنه لا يقبل التقليد في العقيدة والإيمان، ولا بد من موافقة العقل والتفكير على ذلك، فإن ارتد بعد ذلك فهو إما أنه دخل الإسلام نفاقاً ورياء، ولمصلحة خسيسة، وبقي الكفر في قلبه، فهذا يتلاعب في العقيدة والمقدسات ونظام الأمة، فيستحق القتل لهذه الجريمة؛ وإما أنه خرج من الإسلام لوسوسة شياطين الإنس والجن، وإغوائهم وإغرائهم، فهنا يستتاب، وتكشف له الحقائق، ويناقش في شبهاته، حتى لا يبقى له حجة، وتزال عنه الأوهام، فإن أصر على الباطل فإنه يقتل لجريمة العبث بالمقدسات والعقائد والأديان، وخروجه عن النظام العام، وخيانته للأمة التي ترعاه، والدولة التي تحميه، فقتل المرتد هو بحد ذاته حماية لحق التدين حتى لا يصبح هذا الحق ألعوبة وسخرية ومهانًا ورخيصًا كسقط المتاع.
لذلك انفرد الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان في هذه النقطة المجمع عليها عن غيره، ونص أنه يتعين على المسلم -بعد أن اهتدى إلى الإسلام بالإيمان الصحيح المقنع بوجود الله تعالى، والاعتراف بوحدانيته، وتصديق نبيه- يتعين عليه الثبات عليه، ونصت المادة العاشرة منه على أنه «لما كان على الإنسان أن يتبع دين الفطرة، فإنه لا يجوز ممارسة أي لون من الإكراه عليه، كما لا يجوز استغلال فقره أو ضعفه أو جهله لتغيير دينه إلى دين آخر، أو إلى الإلحاد».
أما في المواثيق الدولية وإعلانات حقوق الإنسان فإن حق التدين، وحرية الاعتقاد، ليس لها تاريخ بعيد في الغرب وأوروبا خاصة، وسائر أنحاء العالم، وإنما كان الإكراه على الدين هو السائد، والتعصب الديني هو السياسة العامة حتى قامت الثورة الفرنسية وأعلنت حرية التدين.
وجاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فنص على ذلك بتواضع واستحياء، ولم يخصص لذلك مادة مستقلة، وإنما جاء عرضًا ضمن المادة (81) التي تنص «لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء أن ذلك سرًا أم مع الجماعة».
كما نشير إلى أن الجهاد لم يهدف إلى إكراه أحد على الإسلام، وإنما كان منصبًا على تبليغ الدعوة، وإزالة حكم الطواغيت، وإخراج الناس من عبادة العباد إلي عبادة الله، ومن جَوْر الحكام إلى عدل الإسلام، ولرفع العقبات أمام الدعوة، لتنفيذ حرية العقيدة والتدين، وإزالة الظلم، حتى يتمكن الناس من التفكير في العقيدة، واختيار الدين الحق، والإيمان الصحيح، قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: «إنا لا نكره أحدًا على الإسلام، ولو كان الكافر يُقَاتَل حتى يسلم لكان هذا أعظم الإكراه على الدين».
ثانيًا: حفظ النفس وحق الحياة:
المراد بها النفس الإنسانية، وهي ذات الإنسان، وهي مقصودة بذاتها في الإيجاد والتكوين، وفي الحفظ والرعاية.
وشرع الإسلام لإيجادها وتكوينها: الزواج للتوالد والتناسل لضمان البقاء الإنساني، وتأمين الوجود البشري من أطهر الطرق، وأحسن الوسائل، ولاستمرار النوع الإنساني السليم على أكمل وجه وأفضله وأحسنه، ثم حرم الزنى وبقية أنواع الأنكحة الفاسدة الباطلة التي كانت في الجاهلية، وتسود في الظلام، ومنع المومسات والخوادن، واستئجار الرجل لنسله، وتعدد الرجال.
وشرع الإسلام لحفظ النفس وحمايتها، وعدم الاعتداء عليها، وجوب تناول الطعام والشراب واللباس والمسكن، وأوجب القصاص والدية والكفارة، وحرم الإجهاض والوأد.
ثم شرع الإسلام الأحكام الحاجية في إيجاد النفس وحمايتها، فطلب رعاية الحمل والجنين، ومنح الحامل والمرضع رخصًا للتخفيف عنهما ورعاية وضعهما، ثم وضع الأحكام للأولاد بدءًا من الولادة في التسمية والحضانة والتربية والتأديب، والغذاء الحلال، والتعليم حتى البلوغ.
كما شرع الإسلام الطلاق، كدواء لأمراض الزوجية المستعصية، وهو أبغض الحلال إلى الله، وجعل الدية على العاقلة في القتل الخطأ، تخفيفًا على القاتل، وأن الحدود تدرأ بالشبهات، ورغب ولي القتيل بالعفو عن القصاص والإحسان إلى الجاني.
وفي سبيل حماية النفس، حرم الإسلام الانتحار، لأنه اعتداء على النفس الإنسانية، وشرع القصاص في النفس والأعضاء والجروح لحماية النفس من جهة، وإبقائها على أحسن صورة خلقها الله تعالى، ونص القرآن الكريم على الحكمة من القصاص، فقال تعالى: ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ يأُولِي الالْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة:179).
وأثنى الله تعالى على المتقين الذين يعفون، ثم يحسنون، فقال تعالى: (( الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) (آل عمران:134).(3/37)
وشرع الله الأحكام الحاجية والتحسينية لحفظ النفس، والحفاظ الكامل على الذات الإنسانية، فشرع الكسب للرزق الحلال الطيب، وأباح الطيبات من المطعومات والثمار، واهتم برعاية الجسم رعاية كاملة، فدعا إلى النظافة والطهارة، وندب إلى الرياضة والمبارزة، واعتبر الجسم السليم والقوة الجسدية ميزة في الأشخاص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: ما قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»[23]، وفي الحديث علاج لأمراض النفس، لمنع التردد والقلق والاضطراب.
ونلاحظ أن الحديث جمع بين القوة الجسدية والقوة النفسية والمعنوية، ثم ربط الأمرين بالإيمان بالله تعالى، وبالتسليم بالقضاء والقدر.
وطلب الإسلام البعد عن كل ما فيه هلاك محقق للجسم، أو خطر محدق، أو ضرر منتظر، وحرم كل ما يضر بالجسم، أو يوهنه، أو يضعفه، واتخذ جميع الوسائل لحفظ الحياة، وبذل الطاقة في صيانتها وسلامتها، والعناية بكمال الصفات، وكمال البدن، وحرم لحم الخنزير والميتة والدم، لضررها بالجسم وفساد تركيبها، وحذّر من الأمراض، وخاصة المعدية، وشرع التداوي، وأباح الزينة، وطلب الاعتدال في الطعام والإنفاق والشراب، وغيرها من الطيبات، وأنكر الامتناع عن الطعام زهدًا وتقشفًا، ونهى عن التبتل في العبادة، لأنه يضني الجسم، وحرم صوم الوصال، ومنع صيام الدهر، وجعل التكليف بقدر الاستطاعة، وفتح أبواب الرخص في العبادة والأحكام خشية العنت والمشقة، وصرح الفقهاء بقاعدة «صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان»، وأقام الإسلام منهجًا سديدًا لتنظيم الغرائز المختلفة والميول المتباينة، والعواطف المتعددة، وحرص على التوازن بينها، دون أن تطغى غريزة على أخرى، فيقع الإنسان في المهالك، وينتابه الشذوذ، أو تتحكم فيه الأهواء والشهوات، وتصرفه عن الجوانب العقلية والنفسية والروحية، فيختل نظام الإنسان والحياة.
حق الحياة:
يعتبر حق الحياة أول الحقوق الأساسية وأهمها بين حقوق الإنسان، وهو الحق الأول للإنسان، وبعده تبدأ سائر الحقوق، وعند وجوده تطبق بقية لحقوق، وعند انتهائه تنعدم الحقوق.
وحق الحياة هو حق للإنسان في الظاهر، ولكنه في الحقيقة منحة من الله تعالى الخالق البارئ، وليس للإنسان فضل في إيجاده، وكل اعتداء عليه يعتبر جريمة في نظر الإسلام[24].
ولكن هذا الحق اعتراه الخلل والخطر في أحقاب التاريخ، فكانت بعض الشرائع تجيز قتل الأرقاء، ويتولى – أحيانًا - رئيس العائلة أو القبيلة أو الملك والسلطان حق الحياة والموت على الأفراد، وكان الأب - في الجاهلية- يحق له وأد البنات، ولا يزال هذا الخطر الداهم يهدد الإنسان حتى في الوقت الحاضر، وكثيرًا ما يقتل الأبرياء جورًا وظلمًا وعدوانًا لأوهى الحجج، وأسخف المسوغات التي لا يقرها العقل والشرع، وكثيرًا ما تكون حياة الإنسان محلاً للتجارب عند صنع الأدوية وأدوات التدمير الشامل.
ثم جاءت المواثيق المعاصرة تؤكد على حق الحياة، فنص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ذلك، فقال: «لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه» (المادة/3)، ونصت الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان المدنية والسياسية، أنه «لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة، ويحمي القانون هذا الحق، ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي» (م/6ف1)، ونص الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان على هذا الحق بصيغة إسلامية، فقال: «الحياة هبة الله، وهي مكفولة لكل إنسان، وعلى الأفراد والمجتمعات والدول حماية هذا الحق من كل اعتداء عليه، ولا يجوز إزهاق روح دون مقتضى شرعي» (م/2ف).
فحق الحياة حق مقدس ومحترم في نظر الشريعة الإسلامية، ويجب حفظه ورعايته وعدم الاعتداء عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه»[25]، وجاء في خطبة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا»[26].
وحق الحياة مكفول في الشريعة لكل إنسان حتى للجنين.. ويجب على سائر الأفراد أولاً، والمجتمع ثانيًا، والدولة ثالثًا، حماية هذا الحق من كل اعتداء، مع وجوب تأمين الوسائل اللازمة لضمانه، من الغذاء والطعام والدواء والأمن، وعدم الانحراف. وينبني على ذلك عدة أحكام شرعية نذكرها باختصار شديد:
1- تحريم قتل الإنسان: إلا لأسباب محددة، لأن حق الحياة مصون ومقدس بالنصوص القاطعة والدامغة، لما ورد في الحديثين السابقين ، ولقوله تعالى: (( وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَق)) (الأنعام:151)، وقرر القرآن الكريم العقوبة المناسبة للقاتل، وهو القصاص، مع الإشارة إلى حكمته من ذلك، فقال الله سبحانه وتعالى: ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ يأُولِي الالْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة:179)، وقال تعالى: (( يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)) (البقرة:178)، فإن وقع القتل خطأ فيجب الدية تعويضًا للمجني عليه وورثته، مع الكفارة على الجاني[27].
2- تحريم الانتحار: لأن الحياة ليست في الحقيقة ملكاً لصاحبها، بل هي هبة من الله تعالى، والروح أمانة في يد صاحبها، فلا يحل له الاعتداء عليها، ولذلك اعتبر الإسلام الانتحار جريمة شنيعة، وأن لصاحبه أشد الإثم والعقاب في الآخرة، لما روى الشافعي رحمه الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من قتل نفسه بشيء من الدنيا عُذّب به يوم القيامة»[28].(3/38)
3- تحريم الإذن بالقتل: وهذا فرع عن الأمر السابق، ويثبت الإثم للآذن وللمأذون له إن نفذ، لأن حق الحياة لا يجوز التصرف فيه إلا لله تعالى المحيي المميت.
4- تحريم المبارزة: وهي الاقتتال بين شخصين لإثبات حق، أو لدفع العار والإهانة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله، ما بال المقتول؟ قال: كان حريصًا على قتل صاحبه»[29].
5- تحريم الإجهاض: وهو قتل الجنين في الرحم، فإن حصل عمدًا، وباعتداء، وجب فيه الغُرة، وهي نصف عشر الدية، وإن نزل حيًا ثم مات فتجب فيه الدية كاملة.
6- إباحة المحظورات للحفاظ على الحياة: وذلك باتفاق الفقهاء للقاعدة: «الضرورات تبيح المحظورات».
7- حرمة إفناء النوع البشري: وذلك عندما يستعر القتال بين قبيلتين أو شعبين، أو تكتل دولي ضد آخر، أو ضد شعب أو أمة، ولذلك حرص الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان على التحذير من هذا الوباء، وخاصة في عصرنا الحاضر الذي تطورت فيه الأسلحة الفتاكة والمدمرة، كالقنابل الذرية أو النووية أو الجرثومية أو الكيميائية أو المشعة، وغيرها من أسلحة الدمار الشامل والفتك الإجرامي الذي يصيب الأبرياء والأطفال والشيوخ حتى أثناء الحرب.
ومن هذا المنطلق حرم جمهور العلماء فكرة تحديد النسل، والقضاء على الذرية، ولم يسمحوا إلا في صور محددة لتنظيمه وترشيده.
ويلحق بحق الحياة وجوب المحافظة على الكرامة الإنسانية، لأن الإنسان جسد فيه الحياة، وروح تتسامى في العلياء، وعقل يقدر الأشياء، فلا يقتصر حق الحياة على الجسد مع المهانة والمذلة، والله سبحانه كرّم بني آدم، كما سبق، وخلقه في أحسن تقويم.. كما يتصل بحق الحياة احترام الإنسان الميت، فيكرم بالغسل والتكفين والصلاة عليه ودفنه، ويحرم الجلوس على القبر، ونبشه، مع وجوب وفاء ذمة الميت قبل توزيع التركة[30].
ثالثاً: حفظ العقل، وحق التفكير والحرية:
العقل أسمى شيء في الإنسان، وأبرز ميزة وصفة تميزه عن بقية الحيوان.. وهو أعظم منحة من رب العالمين للإنسان، ليرشده إلى الخير، ويبعده عن الشر، ويكون معه مرشدًا ومعينًا.
والعقل هو مناط التكريم والتفضيل للإنسان، قال القرطبي رحمه الله: «وإنما التكريم والتفضيل بالعقل»، وقال: «والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكيف، وبه يعرف الله، ويفهم كلامه»[31].
وإن وجود العقل لا دخل للإنسان فيه، وإنما هو مجرد جزء من إيجاد النفس، وذلك منحة وهبة من الله الخالق البارئ، وليس للعقل أحكام خاصة به بالذات، وإنما أحكامه أحكام النفس والجسم عامة، وربط الله تعالى به التكليف، مع الصلة الوثيقة بين النفس والعقل، أو الجسد والعقل والروح.
ولكن الحفاظ على العقل يختلف عن الحفاظ على النفس، ويختص بوسائل خاصة، فشرع الإسلام أحكامًا للحفاظ على العقل، مع أحكام الحفاظ على النفس، فدعا الإسلام إلى الصحة الكاملة في الجسم، لتأمين العقل الكامل، فالعقل السليم في الجسم السليم، وحرّم الإسلام الخمر وجميع المسكرات التي تضر سائر الجسم، ثم تزيل العقل خاصة، وتلغي وجوده، وتؤثر عليه.
وشرع الإسلام حد الخمر لمن يتناول هذه المشروبات الكحولية النجسة الضارة، لأن الحفاظ على العقل يمثل مصلحة ضرورية للإنسان، وإلا فقد أعز ما يملك[32].
ومن الوسائل الحاجية للحفاظ على العقل، واعتباره في الأحكام والتصرفات وسائر أعمال الإنسان، وضع الفقهاء أحكام الصبي المميز، والمعتوه، وأحكام تصرفات المجنون، وأحكام الحجر على السفيه والمبذر.
ومن أجل الاحتياط التحسيني على حفظ العقل وصيانته حرّم الإسلام القليل من الخمر، وإن لم يسكر، سدًا للذرائع، ودرءًا للمفاسد، فكل ما أدى إلى الحرام فهر حرام، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام»[33]، وقال عليه الصلاة والسلام: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام»[34]، وقال أيضًا: «كل شراب أسكر فهو حرام»[35]، واعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر «أم الخبائث»[36]، و«مفتاح كل شر»[37]، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شارب الخمر، وساقيها، وبائعها، ومشتريها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه»[38]، لأن الإسلام يريد أن يسد منافذ الشيطان بشكل حاسم، ويقطع دابر الشر عند العقل احترامًا وتقديسًا واعتبارًا.
كما تحرم المخدرات والمفترات، وسائر ما يزيل العقل ويؤثر عليه.
حق التفكير، وحرية الرأي والتعبير:
ويرتبط بالعقل حق الإنسان بالتفكير، حتى بالتدين والاعتقاد، كما سبق، وأن الإسلام جعل التفكير فريضة دينية، لإعمال العقل، وحثّه على الانطلاق والعمل، والنظر في الكون والحياة، وفي الأرض والسماء، ومنحه الحرية في الاعتقاد والتدين، وحرية التفكير المرتبط بالبحث والاختيار لكشف الحقائق، ومعرفة أسرار الكون، والاستفادة مما فيه، وحرية التعبير والدعوة إلى الخير، وحرية العمل، والمسكن، والانتقال، وغيره.
وتعني الحرية -عادة- الملكة الخاصة التي تميز الكائن الناطق عن غيره، وتمنحه السلطة في التصرف والأفعال، عن إرادة وروية ورضى، دون إجبار، أو إكراه، أو قسر خارجي، وذلك بإعمال العقل، والتفكير في الأسباب والنتائج، والوسائل والغايات، لأن الإنسان يختار أفعاله عن قدرة واستطاعة على العمل أو الامتناع عنه، دون ضغط خارجي ودون الوقوع تحت تأثير القوى الأجنبية عنه، فالحرية هي حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان من جهة، وبما يصدر عنه باختياره من جهة أخرى.(3/39)
ولكن هذه الحرية ليست مطلقة، وإلا أدت إلى الفوضى والدمار والتناقض، ولذلك يجب تقييدها، ولها قيدان أساسيان، الأول: أن تتوقف حرية الشخص عند حرية الآخرين، والثاني: أن تقييد حرية التفكير في حدود العقل وإمكانياته المادية، دون الغيبية، وأن تقيد بالأنظمة والقوانين العادلة التي ترعى المصالح العامة، وتشرف على ممارسة الحريات حتى لا تنقلب وبالاً على أصحابها، وهو ما نراه اليوم في إطلاق الحريات في بعض الجوانب، وغلّ يد الأفراد والشعوب في جوانب أخرى.
وتظهر حرية الرأي جلية بما قرره الإسلام من حق الاجتهاد في أمور الدين والدنيا، وهو بذل الجهد في معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها، مع فتح باب الاجتهاد على مصراعيه للعلماء.
وتظهر أيضًا في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي مراقبة الحكام، ونصحهم، ومشاركتهم في اتخاذ القرار بالشورى، دون استبداد أو تحكم أو تسلط، مع ممارسة الحرية السياسية.
وكان الخلفاء والحكام يطلبون من الناس إبداء الرأي، ويلتمسون منهم النصح والإرشاد، ويتخذون ذلك ديدنًا لهم بجماعة خاصة، وبشكل عام مع الجماهير مما لا مجال للتوسع فيه[39].
وكانت حرية الرأي والتعبير من أكبر الجرائم في أوروبا، وكان الحكام يحتجون بالحق الإلهي في الحكم والعصمة والسداد في الرأي، حتى ظهرت الثورة الفرنسية فأعلنت حرية الرأي والتعبير، ونص على ذلك الدستور الفرنسي، ثم نص عليها معظم الدساتير وإعلانات الحريات الأساسية، وكرسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة التاسعة، مع تقييدها في المادة (92)، ثم نص عليها الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان في المادة (22).
رابعًا: حفظ العرض أو النسل، وحقوق الأسرة:
العرض فرع عن النفس الإنسانية، والأمر الضروري فيه حفظ النسل من التعطيل، ويأتي حفظ النسب أو العرض أمرًا حاجيًا ووسيلة له.. والعرض ما يمدح به الإنسان أو يذم، وهو أحد الصفات الأساسية للإنسان، التي تميزه عن بقية الحيوان، وهو ما حرص عليه العرب، وجاء الإسلام فأقره، وصار حفظ النسل من الضروريات، والقصد حفظه بأرقى الوسائل وأشرف الطرق.
وإن وجود النسل فرع عن وجود النفس التي شرع الله تعالى لوجودها الزواج، ويتأكد وجود النسل والنسب الصحيح بأحكام الأسرة من حسن اختيار الخطيبة، ثم عقد الزواج والمهر، ثم رعاية الزوجة والحمل، ثم وجود الأحكام الخاصة لكل من الزوجين، والمصاهرة، والمحرمات في الزواج، ووجوب النفقة الزوجية ونفقة الأقارب، ثم الوصية بالأولاد عامة، والبنات خاصة، وإقرار الميراث بسبب الزوجية والقرابة لتوثيق الروابط المادية والمعنوية.
وإن الحفاظ على النسل مقصود لذاته من جهة، ويعتمد على وسيلة حفظ العرض، ورعاية الذرية من جهة أخرى، حتى لا تختلط الأنساب، وتضيع الذرية، ويتشرد الأطفال، فتحل بالإنسانية النكبات والويلات والأمراض الاجتماعية والجنسية.
وشرع الإسلام للحفاظ على النسل والعرض أحكامًا كثيرة تبدأ من غض البصر، ومنع القذف، والإساءة للعرض.. وأقام الشرع حد القذف، وهو ما انفرد به الإسلام في العالم القديم والحديث، بأن جعل مجرد الشتم في العرض والنسب من حدود الله تعالى، كما هو ثابت بنص القرآن الكريم، في سورة النور، ثم يأتي حد الزنا على المعتدي على العرض والنسل ماديًا وعمليًا.
وحرّم الإسلام التبني، لأنه اعتداء على نسب الطفل، ونسل أبيه، وأنه يمثل سرقة الدم الحقيقي للإنسان.. ومنع الإسلام الخلوة بالأجنبية، لأنها ذريعة للزنى، وإشاعة للفاحشة، وسوء الظن والاتهام في العرض.. كما حرم الإسلام الخصاء الذي يؤدي إلى قطع النسل، كما حرم تحديد النسل، خشية أن يؤدي لنقص البشرية، وانقراض الجنس البشري، وهو ما ظهرت بوادره في معظم دول أوروبا وروسيا من نقص مخيف في عدد السكان، ولذلك يسعون لتعويضه بالسماح بالهجرة ومنح الجنسية والتوطين من بلاد أخرى.
وإكمالاً لهذه الأحكام وضع الشارع الحكيم ما يراعي المصالح الحاجية والتحسينية لحفظ النسل والعرض، فوضع شروطًا لعقوبة الزنا، والقذف، لأن الحد عقوبة كاملة، فيشترط كون الجريمة كاملة، وندب الشرع إلى الستر في ذلك، وأمر بدرء الحدود بالشبهات، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة»[40].
حقوق الأسرة:
يرتبط حفظ النسل والعرض بتكوين الأسرة التي تعتبر الخلية الأولى في المجتمع الإنساني، وهي نواته وعماده، لأن الإنسان يولد فيها، وينشأ في أحضانها، ويترعرع في جنباتها، ويتطبع بطباعها، وتنغرس فيه بذور الخير والشر، أو الفضيلة والرذيلة، أو الاستقامة والانحراف، ثم يخرج إلى المجتمع متأثرًا بأسرته وتربيته الأولى.
وتشمل الأسرة الأبوين والأولاد والإخوة الذين ينضوون تحت اسم العائلة الصغرى، ثم تتوسع لتشمل الأقارب من جهتي الأب والأم، والجد والجدة.
وتكوين الأسرة يتم - في نظر الإسلام- حصرًا بالزواج الذي يتحقق منه الإنجاب، ومن ثم حرّم الإسلام جميع العلاقات الواهية التي كانت منتشرة في الجاهلية الأولى، والتي بدأت تعود إلى الظهور، مما يثبت الشرع والعقل والواقع والنتائج صحة النظرة الإسلامية وسلامتها.
لذلك شرع الإسلام الزواج، وجعله سنة ومندوبًا للأفراد، وواجبًا للأمة عامة،ونظم الشرع الحنيف شؤون الزواج، وخصّه بمجموعة كبيرة من الآيات والأحاديث، وأفرده الفقهاء في جميع المذاهب بأبواب مستقلة، ولعله أهم الأبواب وأوسعها بعد العبادات، مما لا مجال لعرضه مفصلاً، ويدرس اليوم في الأحوال الشخصية.(3/40)
لكن أصابت الأسرة في التاريخ القديم والحديث نكبات شديدة، واعتراها خطب شديد، ولعب الهوى والشهوة والجنس دورًا شيطانيًا خبيثًا، ولا تزال الأسرة تُستهدف بوسائل متعددة، وتعقد لذلك المؤتمرات والندوات، ولكن استقر العمل في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بما يتفق مع الشرع الإسلامي الذي سبقه بأربعة عشر قرنًا، فاعتبر الأسرة هي أساس المجتمع، وأناط بها سائر المسؤوليات العائلية (م/61ف2).
ونصت المادة العاشرة من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على وجوب منح الأسرة أوسع حماية ومساعدة ممكنة، إذ أنها الوحدة الاجتماعية والطبيعية الأساسية في المجتمع، ثم أكدت المادة (32) من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية على أهمية الأسرة، ونصت صراحة على أن «العائلة هي الوحدة الاجتماعية الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها الحق بالتمتع بحماية المجتمع والدولة، وتعترف بحق الرجال والنساء... بتكوين أسرة».. وجاء الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان، فنظم بعض أحكام الأسرة والزواج باختصار شديد في المادة الخامسة، وأحال بالتوسع إلى كتب الفقه الإسلامي.
خامسًا: حفظ المال:
المال شقيق الروح كما يقولون، وهو ما يقع عليه الملك، ويستبد به المالك عن غيره، وهو الوسيلة الأساسية التي تساعد الناس على تأمين العيش وتبادل المنافع والاستفادة من جوانب الحياة الكثيرة، وهو ما سخره الله تعالى للإنسان في هذا الكون، ولذلك كان المال مصلحة ضرورية، وإلا صارت حياة الناس فوضى وبدائية وهمجية.
وشرع الإسلام لإيجاد المال وتحصيله السعي في مناكب الأرض والكسب المشروع وإحياء الموات والاصطياد في البر والبحر، واستخراج كنوز الأرض.
وشرع الإسلام في سبيل الانتفاع بالمال المعاملات الشرعية التي تكفل الحصول عليه، وتوفيره للمسلم، والتبادل به، كالبيوع، والهبة، والشركات، والإجارة وسائر العقود المالية.
وشرع الإسلام لحفظه وحمايته ومنع الاعتداء عليه أحكامًا كثيرة، فحرم السرقة، وأقام الحد على السارق، وحرم قطع الطريق، وسمى فاعليه بالمحاربين لله، وأقام لهم حدًا متميزًا، وهو حد المحاربين أو قطاع الطريق، وأجاز تقويم الأموال، وحرم أكل أموال الناس بالباطل، واعتبر العقد عليها باطلاً، ومنع اتلاف أموال الآخرين، وشرع الضمان والتعويض على المتلف والمعتدي[41].
وأرشد الإسلام إلى حسن استعمال الأموال والتصرف فيها، حتى قرر المبدأ الإسلامي: «نعم المال الصالح للرجل الصالح»، فإن أساء صاحب المال ذاته في ماله، وتعسّف في استعماله، ووضعه في غير مواضعه الشرعية قرر الإسلام الحجر على المعتوه، والسفيه، والمبذر.
وشرع الإسلام - لتنمية المال وتداوله- البيوع، والشركات، والإجارة، لتأمين التعامل الصحيح بين الناس، وإرشادهم إلى القواعد السليمة والأسس العادلة في التبادل والأخذ والعطاء، لتأمين حاجات الناس، وجلب النفع لهم، ودفع الضرر عنهم.
وقرر الإسلام المؤيدات المدنية في الأموال والعقود، منها: البطلان، والفساد، والخيارات، ورخّص في بعض العقود التي لا تنطبق عليها الأسس العامة في العقود، فشرع السَّلَم، وهو بيع المعدوم، وأجاز الاستصناع، والمزارعة، والمساقاة، لرفع الحرج عن الناس في التعامل.
كما حرّم الإسلام الغش والتدليس والاحتكار، وحرم الإسراف والتقتير في الإنفاق، وإضاعة المال، ونهى عن بيع الإنسان ما ليس عنده، وبيع الإنسان على بيع أخيه، ونهى عن بيع النجاسات، ولم يعتبرها مالاً، لضررها على الإنسان، ونهى عن الغرر، والجهالة في البدلين، وكل ما يؤدي إلى التخاصم، لتتم مصالح الناس دون الوقوع في الخصومات والخلافات والأحقاد والضغائن بين الأفراد.
وجمع الإسلام بين الأحكام المالية والأخلاق السامية، ورعاية القيم والآداب الراقية، والفضائل الحميدة، ومن ذلك شروط الطهارة، والإحسان بالتعامل، والإنفاق من الطيب، وإحسان الأضحية... وغيرها.
وهكذا نلاحظ أن الإسلام شرع لكل مصلحة ضرورية للناس أحكامًا تكفل إيجادها وتكوينها، وترعى حفظها وصيانتها، وأحكامًا مكملة ومتممة، لتأمين المصالح الحاجية والتحسينية لكل مصلحة ضرورية، وذلك ليؤمن للناس حفظ الضروريات، ويكفل بقاءها واستمرارها، ثم أباح الله تعالى المحظورات إذا تعرضت المصالح الضرورية للخطر والتهديد.
حق التملك:
ويتعلق بحفظ المال عدة حقوق من حقوق الإنسان، وأبرزها وأهمها حق التملك، ويعني الاعتراف بحق الملكية الفردية للإنسان، وتمكين المالك من سلطة التصرف بالشيء، والاستفادة منه واستغلاله.. والأصل أن يكون في الأعيان، ثم قرر في المنافع والحقوق، واليوم شمل الحقوق الأدبية.
والتملك في الأصل يقع على المال، الذي هو أحد الضروريات الخمس في الإسلام، ويعتبر المال أحد الدعائم الأساسية في التعامل، ويلعب رأس المال دورًا مهمًا في الحياة، وهوأحد عناصر الإنتاج، مع العمل والموارد الطبيعية، ويشكل حجر الزاوية في نظام الدول، وانقسامها -بحسب موقفها من المال والملكية- إلى أنظمة مختلفة، بل ومتباينة.. والمال نفسه من نعم الحياة من جهة، وهو زينتها، وفُطر الإنسان على حبه من جهة أخرى.(3/41)
وأقر القرآن الكريم حق التملك، فنسب المال إلى الإنسان والناس، لأنهم يستأسرون به، ويعملون على حيازته، والاستفادة منه، والتصرف فيه، فقال تعالى مقررًا مشروعية الملكية، وسبل انتقالها: (( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ)) (النساء:29)، وقال تعالى: (( وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ)) (البقرة:188)، وقال تعالى: ((وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً )) (النساء:5)، وقال سبحانه وتعالى: ((ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ)) (المنافقون:9)، وقال تعالى: ((وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)) (البقرة:279).
كما أثبت القرآن الكريم حق التصرف بالمال، فقال تعالى: ((وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى (17) الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى )) (الليل:17-18)، وقال تعالى: ((مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ)) (البقرة:261)، وقال تعالى: ((الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبّهِمْ)) (البقرة:274)، مع إقرار سبل الكسب والاستثمار، كما سبق.
والأصل في الملكية أن تكون للأفراد، وهي الملكية الفردية.. وأقر الإسلام الملكية العامة للدولة في الأموال التي تتعلق بها حاجات الأمة، وتهم مصالح الناس، ويتصرف فيها ولي الأمر بما فيه المصلحة العامة، كتملك مصادر الثروة، ومصانع الأسلحة، والصناعات الكبيرة، والموارد الطبيعية.. وأقر الشرع الملكية الشخصية الاعتبارية، كالوقف والمسجد والشركات.
ويتفرع على ذلك حماية المال الذي ثبت في النصوص الشرعية السابقة التي منعت أكل أموال الناس بالباطل، مع الاستعانة بأجهزة الدولة في ذلك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه»[42].
وقال في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا...»[43].
وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»[44].
وقرر الفقهاء القواعد الفقهية لذلك، منها: «لا يجوز لأحد أن يأخذ مال أحد بلا سبب شرعي»، و«لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير بلا إذن»[45].
وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من إتلاف المال، فقال: «من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله»[46]، وقال أيضًا: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه»[47]، وقرر الفقهاء ضمان الأموال.
وإن حق التملك، وحرمة الملك، لا يعني الاستئثار المطلق، وحرية التصرف المطلقة، وإنما رسم الشارع لذلك نظامًا محكمًا لصرف المال والانتفاع به، وصرفه في طرقه المشروعة، وتعلق حق الآخرين فيه، وهي واجبات على المالك، وحقوق لغيره، ومنها:
1- إخراج الزكاة والصدقات.
2- النفقة على النفس والأهل والأولاد والأقارب.
3- استثمار المال في الوجوه المباحة شرعًا، فيجب استثماره، وخاصة مال اليتيم والمحجور عليه، ويحرم ادخاره واكتنازه وتعطيل منافعه.
4- تطبيق نظام الميراث على التركة بعد الموت.
5- قيود الملكية الواردة على المحل، وعلى سلطات المالك في الانتفاع والتصرف والاستغلال، والقيود المتعلقة بالمصلحة العامة، والقيود المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، والتكافل بين الأفراد، مع الاعتراف بحرية التعاقد للتصرف بالملك حسب الإرادة والرضى.
وإن حق التملك مقرر في جميع الأنظمة والشرائع، مع تفاوتها في القيود، وأسباب التملك، وسلطات المالك، وطرق الانتفاع والاستثمار.. ولما طغى الإقطاع في أوروبا وظهرت الرأسمالية واستبداد الأغنياء بمقدرات الشعوب والأمم، وجاء رد الفعل بالشيوعية وإنكار الملكية، جاءت إعلانات حقوق الإنسان والاتفاقات الدولية بإقرار حق الملكية -المادة (71) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة الأولى من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية، والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية، والمادة (51) من الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان- مما يتفق مع ما جاء في الشرع الحكيم.
وبعد:
فهذه لمحات سريعة، ومقتطفات يانعة عن مقاصد الشريعة الإسلامية وصلتها بحقوق الإنسان، ونستنتج الأمور التالية:
1- إن مقاصد الشريعة هي المنطلق الحقيقي والأساس لحقوق الإنسان.
2- إن الشرع الحنيف جاء أصلاً من أجل الإنسان، وتحقيق مقاصده، وذلك بجلب النفع له، ودفع الضرر عنه، وتأمين السبل الموصلة لذلك، وضمان الرعاية والعناية للحفاظ على الحقوق.
3- إن التطبيق الحقيقي لحقوق الإنسان يكمن في التطبيق العملي للدين الحق، وهذا يستدعي العودة الجادة للالتزام بالعقيدة الصحيحة، والتدين الكامل الشامل، دون الاقتصار على الدعاية والشعارات والمتاجرة بحقوق الإنسان لأهداف استعمارية: سياسية، واقتصادية، وفكرية، وتربوية، وثقافية، ومصالح ذاتية.
4- تتدرج مصالح الإنسان على درجات، أهمها المصالح الضرورية، وهي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل أو العرض، وحفظ المال، ثم تأتي المصالح الحاجية التي ترعى المقاصد الخمسة، ثم المصالح التحسينية التي تكمل المقاصد، وتصونها في أحسن أحوالها.
5- إن معرفة مقاصد الشريعة لها أهمية بالغة في بيان الإطار العام للشريعة، وتحديد أهدافها السامية، والمعاونة على الدراسة المقارنة والترجيح، وإبراز هدف الدعوة، والإنارة في الاجتهاد والاستنباط.(3/42)
6- ورد في الشرع أحكامًا كثيرة، لبيان أحكامًا الدين وحفظه ومنع التلاعب فيه، وأعطى حق التدين حقه، وربطه بالفكر والعقل، وحرية الاعتقاد، واحترام بيوت العبادة، والمسامحة مع غير المسلمين، وعدم الإكراه في الدين، والتساوي في المعاملة المالية بين المسلم وغيره، مع تشريع العقوبة للمرتد، لأنه متلاعب بالدين، ويخالف النظام العام، ويعبث بالعقيدة، فاقتضى ذلك الحماية للدين نفسه.
7- نظم الإسلام إيجاد النفس بأفضل الطرق، وحرص على المحافظة عليها، ومنع الانتحار، والاعتداء عليها، وأوجب القصاص على العدوان العمد، وقرر حق الحياة لكل إنسان حتى للجنين، وأباح المحظورات للضرورة عند الحفاظ على النفس، وحرم إفناء النوع البشري بأية وسيلة تدميرية.
8- كرم الله الإنسان، وفضله بالعقل، ولذلك أوجب حفظه وترشيده في الصحة الكاملة، وحرم كل ما يؤثر عليه أو يزيله، ثم منحه حق التفكير، بل فرض التفكير على الإنسان، وأعطاه حرية الرأي والتعبير ضمن قيود مضبوطة.
9- إن حفظ النسل والعرض والنسب من خصائص الإنسان، فأوجب الشرع الحفاظ عليه حتى تدوم البشرية في أنصع صورها، مع أفضل القيم والأخلاق، ومنع اختلاط الأنساب والتبني، وأسهب الفقهاء في أحكام الأسرة، وجودًا، وحفظًا، وحماية، لأنها اللبنة الأولى في المجتمع، ومحط آمال العقلاء.
10- المال شقيق الروح، وشرع الإسلام الأحكام لإيجاده وتحصيله، واستثماره، وتداوله في المعاملات المتنوعة، وأقر حق التملك، والتصرف بالمال، وأوجب فيه الحقوق لأداء الصفة الاجتماعية فيه، لتحقيق التكافل والمواساة، ليكون الملك والمال وسيلة لتأمين رفاهية الإنسان وكفايته وتلبية حاجاته.
ويظهر كل من ذلك الصلة الوثيقة بين مقاصد الشريعة وحقوق الإنسان، التي تعتبر واجبات والتزامات متبادلة بين الأفراد لإقامة العدل والإحسان والمساواة ورعاية شؤون الإنسان فردًا وجماعة.
نسأل الله أن يرد المسلمين إلى دينهم، ردًا جميلاً، لينعموا بسعادة الدارين، كما حصل للأجيال السابقة، فيكونوا خير خلف لخير سلف. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،
والحمد لله رب العالمين.
الهوامش :
[1] القاموس المحيط، 1/327، مادة قصد؛ معجم مقاييس اللغة، 5/95؛ المصباح المنير، 2/691؛ مختار الصحاح، ص536؛ تهذيب الأسماء واللغات، 2/93.
[2] مقاصد الشريعة الإسلامية، الطاهر بن عاشور، ص13؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، الدكتور وهبة الزحيلي، ص61.
[3] شجرة المعارف والأحوال، له، ص401.
[4] انظر: ضوابط المصلحة، للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، ص45 وما بعدها، وقال العلامة القرافي رحمه الله تعالى: "الشرائع مبنية على المصالح"، شرح تنقيح الأصول، ص427؛ وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "جاءت هذه الشريعة لتحصيل المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد وتعطيلها"، الفتاوى الكبرى، 20/48؛ السياسة الشرعية، له، ص47.
[5] هذا الحديث أخرجه البخاري بلفظ "ترى المؤمنين..." (5/2238 رقم5665)؛ ومسلم باللفظ الأعلى (16/140 رقم2586)؛ وأحمد (4/270).
[6] يقول العلامة ابن القيم: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها"، أعلام الموقعين، 3/5، تحقيق الوكيل، 3/14 (بدون تحقيق).
[7]القواعد الفقهية على المذهب الحنفي والشافعي،ص436؛المادة78 من مجلة الأحكام العدلية.
[8] انظر: قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام، 1/29 ومابعدها، 42 وما بعدها، ص71 وما بعدها؛ حقوق الإنسان في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي، ص80.
[9] حقوق الإنسان في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي، ص9، 140.
[10] المستصفى، 1/286؛ الموافقات للشاطبي، 2/4؛ علم أصول الفقه، الشيخ عبد الوهاب خلاف،ص199، ط8؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، الزحيلي، ص60-61.
[11] المستصفى، له، 1/287.
[12] المستصفى، 1/288؛ وانظر: فلسفة العقوبة، للشيخ محمد أبو زهرة، ص42؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، ص5.
[13] المستصفى 1/289.
[14] الموافقات، 2/6؛ علم أصول الفقه، خلاف، ص200؛ المستصفى، 1/290.
[15] الموافقات، 2/5، علم أصول الفقه، ص201؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، ص65.
[16] هذا الحديث أخرجه البخاري (3/1098رقم 2854) وأصحاب السنن وأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما (نيل الأوطار، 7/201؛ الفتح الكبير،3/175)، مسند أحمد (1/2، 7، 282، 283، 5/231).
[17] هذا الحديث أخرجه البخاري (6/2521 رقم 6484)، ومسلم (11/164 رقم1676)، وأصحاب السنن وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (نيل الأوطار، 7/7؛ الفتح الكبير 3/356).
[18] المستصفى، 1/287؛ الموافقات 2/5؛ ضوابط المصلحة، ص119.
[19] هذا الحديث أخرجه البخاري (1/456 رقم 1292)، ومسلم (16/207 رقم2658).
[20] هذا الحديث أخرجه أبو داود (2/152)، والبيهقي (5/205).
[21] انظر الفتح الكبير (3/144).
[22] هذا الحديث صحيح، وسبق بيانه.
[23] هذا الحديث أخرجه مسلم (16/215 رقم 2664)، وابن ماجه (1/31)، وأحمد (2/366،370)؛ وانظر: الفتح الكبير (3/251).
[24] انظر بحثًا مستفيضًا عن حق الحياة في اشتراكية الإسلام، لأستاذنا العلامة الداعية الدكتور مصطفى السباعي، ص59 وما بعدها؛ حقوق الإنسان في الإسلام، للدكتور محمد الزحيلي، ص86، 141.(3/43)
[25] هذا جزء من حديث أخرجه مسلم (16/120رقم 2564)، وابن ماجه (2/1298)، وأبو داود والترمذي (انظر: نزهة المتقين، 1/251، الفتح الكبير، 2/322) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[26] هذا جزء من حديث أخرجه البخاري عن ابن عمر (6/2490 رقم 6403)، وعن أبي بكرة (1/37، 52، رقم 67، 105)، ومسلم عن جابر(8/182 رقم1218).
[27] انظر اشتراكية الإسلام، ص61؛ التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، 1/446 -447.
[28] الأم (6/4)، وأحاديث تحريم الانتحار وأدلته كثيرة.
[29] هذا الحديث أخرجه البخاري (1/20 رقم31)، ومسلم (18/11 رقم 2888)، وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (الفتح الكبير، 1/87).
[30] انظر اشتراكية الإسلام، ص66 وما بعدها؛ حقوق الإنسان في الإسلام، ص141 وما بعدها.
[31] تفسير القرطبي 10/294؛ وانظر تفسير الطبري، 15/125، 30/242؛ تفسير القاسمي، 10/3950؛ في ظلال القرآن، سيد قطب، 5/346؛ تفسير ابن عربي، 4/194.
[32] انظر الأصول العامة لوحدة الدين الحق، الدكتور وهبة الزحيلي، ص136.
[33] هذا الحديث أخرجه أبو داود (2/294)، والترمذي (5/607)، وابن ماجه وأحمد (6/71، 72، 131)، وابن حبان والنسائي عن جابر وعائشة (الفتح الكبير، 3/79).
[34] هذا الحديث أخرجه البخاري (1/95، 5/2121)، ومسلم (13/169، 172) وأحمد (2/16، 29، 31، 134)، وأبو داود(2/293)، والترمذي (5/598)، وابن ماجه (2/1124)، وانظر التلخيص الحبير، 4/73.
[35] هذا الحديث رواية ثانية للحديث الأول أخرجها البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها.
[36] هذا الحديث أخرجه القضاعي بهذا اللفظ، وأخرجه الدار قطني والطبراني في الأوسط بألفاظ قريبة.
[37] هذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك (4/145).
[38] هذا الحديث أخرجه أبو داود (2/292)، وأحمد (1/316، 2/97) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه الحاكم (الفتح الكبير، 3/13).
[39] انظر الحرية السياسية في الإسلام، في: اشتراكية الإسلام، ص85؛ حقوق الإنسان في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي، ص183 وما بعدها.
[40] هذا الحديث أخرجه الترمذي مرفوعًا وموقوفًا (4/688)، وابن ماجه (2/850)، والحاكم (4/384)، والبيهقي (8/238)؛ وانظر نيل الأوطار (7/110)؛ التلخيص الحبير (4/56).
[41] انظر الموافقات، 2/5؛ علم أصول الفقه، خلاف، ص201؛ قواعد الأحكام، 2/5؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، ص153.
[42] هذا حديث صحيح، سبق بيانه.
[43] هذا جزء من حديث صحيح، سبق بيانه.
[44] هذا الحديث أخرجه البيهقي عن خيفة الرقاشي وغيره (6/97، 100)، وأحمد (5/425)، والدار قطني (3/25، 26)، وابن حبان (موارد الظمآن، ص283)، والحاكم وغيره (الفتح الكبير، 3/359).
[45] المادة (96، 97 من مجلة الأحكام العدلية)؛ القواعد الفقهية في المذهب الحنفي والشافعي، الدكتور محمد الزحيلي، ص504، 511.
[46] هذا جزء من حديث أخرجه البخاري (2/841 رقم 2257)، وأحمد(2/361، 417)، وابن ماجه (2/806)، الفتح الكبير (3/151).
[47] هذا حديث أخرجه أحمد (5/8، 13)، والحاكم(2/47)، وأبو داود (2/265)، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح (4/482)، وابن ماجه (2/802)، والبيهقي (6/90، 94)، والدارمي (2/262).
================
التكفير والنفاق ومذاهب العلماء فيهما
تأليف
الدكتور/عبدالله قادري الأهدل
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
إن أمر التكفير خطير، كما أن التساهل الذي يؤدي إلى عدم تكفير الكافر خطير كذلك.
والواجب الوقوف عند نصوص الشريعة وقواعدها، دون إفراط أو تفريط، والحكم في ذلك لله وليس لغيره، والمرجع في تكفير الشخص المعين هم لعلماء الذين تفقهوا في دين الله، وتمكنوا من معرفة نصوص القرآن والسنة وفقهوا معانيهما، وتبينوا من واقع الأشخاص الذين يراد الحكم عليهم وظروفهم، ثم التحقق من صحة تنزيل الحكم على كل شخص بعينه.
ولا يجوز أن يترك الحكم بتكفير المسلم لمن يدعي العلم وهو منه خلي، ممن لم يتفقهوا على أيدي العلماء الذين أخذوا العلم عن أهله في الكتاب والسنة، وما يخدمهما من علوم الآلة، كأصول الحديث، وعلوم التفسير، وقواعد اللغة العربية، وقواعد الضرورات... وأقوال أهل العلم وأوجه استدلالاتهم من مصادرها الأصلية.
فقد سلط كثير من هؤلاء ألسنتهم الحداد على المسلمين بالتكفير، على جهل بقواعد التكفير التي بينها علماء المسلمين.
وإن الواجب على علماء المسلمين أن يَقفوا أمثال هؤلاء عند حدهم، ويبينوا للمسلمين خطرهم ولا يجوز سكوتهم عنهم، لأن ذلك يجرئهم على الاستمرار في السباحة في هذا البحر المتلاطم الأمواج الذي لا يجيد السباحة فيه إلا أهله.
وقوع التكفير قديما وحدبثا.
بعض المهتمين بالدعوة إلى الإسلام، ممن لم يتعمقوا في العلوم الإسلامية، وبخاصة العقائد التي تخالف العقيدة الإسلامية الصحيحة التي مضى عليها أهل القرون المفضلة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان...
بعض هؤلاء ينكرون على من يتعرض لتلك العقائد ويبين فسادها، زاعمين أنها قد ماتت واندثرت مع الفرق التي كانت تعتقدها وتدعو إليها، وألا فائدة في الاشتغال بها وإحيائها، وأن الواجب الاشتغال بما يفيد المسلمين مما هو واقع، من الأفكار والمذاهب المعاصرة، والشئون السياسية والاقتصادية والإعلامية....
ولقد حصل حوار طويل بيني وبين قائد من قادة الجماعات الإسلامية في موضوع من هذه الموضوعات، فقال لي: إنكم تريدون نبش الموتى من قبورهم، هذه أمور عفا عليها الزمن، ولم تعد توجد إلا في صفحات الكتب الصفراء!
ونحن نوافقهم - في الجملة - على أن غالب تلك الفرق لم يعد موجودا باسم الفرقة، كالمعتزلة والخوارج والمرجئة والقدرية....(3/44)
ولكنا على يقين من أن غالب تلك العقائد لا زالت موجودة في صفوف المسلمين من أفراد وجماعات، ولا أظن أن عصرا من العصور خلا من ذلك.
نعم قد تقل تلك العقائد أو بعضها في بلد وتكثر في آخر، وتقل في زمن وتكثر في آخر، ولكنها لا تندثر اندثارا كاملا.
ولسنا نريد إطالة الكلام في سرد جميع تلك العقائد وإقامة البرهان من الواقع على وجودها، وإنما نقتصر على ما نحن بصدده هنا، وهو وجود من يغلو في التكفير بالمعاصي.
وكذلك وجود ما يترتب على هذا الغلو، من معاملة من يُكَفرونه من الحكم عليه بالردة وما يترتب على ذلك من أحكام المرتد، كعدم استحقاق أقاربه إرثه، وعدم استحقاقه إرث أقاربه، وعدم تطبيق أحكام الجنازة عليه، فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين...
والغالب أن الأشخاص أو الجماعة الذين يتصفون بهذا الغلو، يستحلون قتل من يحكمون عليه بالردة بأنفسهم، فيَعْتَدون مرتين:
المرة الأولى: الغلو في التكفير وإخراج كثير من المسلمين من ملة الإسلام بدون برهان.
والمرة الثانية: إعطاء أنفسهم حق تنفيذ العقوبات الذي هو حق للجماعة التي ينوب عنها في تنفيذه ولي الأمر، ويكون من آثار ذلك إهدار ضرورات الحياة التي من أعظمها حفظ النفس، وانتشار الفوضى في الأرض، وفقد المسلمين أمنهم في ديارهم، كما هو واقع مشاهد اليوم.
[يراجع في من له حق إقامة الحدود كتابنا: "الحدود والسلطان".]
وقد تشعبت آراء الطوائف في هذا الباب:
"فمنهم من أفرط، ومنهم من فرَّط، ومنهم من اعتدل".
[حاشية ابن عابدين (4/229-238) ومجموع فتاوى ابن تيمية (12/466-501) (10/435)].
والمقصود هنا ذكر هذه الآراء باختصار، ليتضح حكم مرتكب الذنب على اختلاف أنواعه عند كل طائفة..
وسنبين في هذا البحث ثلاثة مذاهب لثلاث طوائف:
المذهب الأول: مذهب الخوارج والمعتزلة:
يرى الخوارج والمعتزلة أن أي كبيرة يرتكبها المسلم ولم يتب منها، تكون مخلدة له في النار..
إلا أن الخوارج يطلقون عليه - مع تخليدهم له في النار - الكفر في الدنيا...
والمعتزلة لا يطلقون عليه الكفر ولا الإيمان، بل اسم الفسق في الدنيا، واستدلت كلتا الطائفتين بنصوص الوعيد الواردة في القرآن والسنة، ولهذا سماهم العلماء بالوعيدية، لتغليبهم نصوص الوعيد على نصوص الوعد...
وقد ساق شارح الطحاوية رحمه الله - وغيره من أهل العلم - كثيرا من النصوص التي استدلوا بها، من القرآن والسنة:
فمن القرآن قول الله تعالى: ((ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون)). [المائدة (44)]
وقوله تعالى: ((وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)) [النساء (93)]
وقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70))) [الفرقان]
ومن الستة حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) [البخاري، برقم (48) ومسلم، برقم (64)]
ومنها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) [البخاري، برقم (4141) ومسلم، برقم (66)]
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) [البخاري، برقم (5752)]
ومنها في حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) [البخاري، برقم (34) و مسلم، برقم (58)]
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن والتوبة معروضة بعد) [البخاري، برقم (2343) ومسلم، برقم (57)]
ومنها حديث جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين المسلم وبين الكفر والشرك ترك الصلاة) [مسلم، برقم (82)].
ومنها حديث أبي شريح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن) قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: (الذي لا يأمن جارُه بوائقه) [صحيح البخاري، برقم (5670) وصحيح مسلم من حديث أبي هريرة، برقم (46)]
ومنها حديث أبي هريرة قال: (من أتى كاهنا فصدقه أو أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد) [أحمد (9532)
ومنها حديث قال: (من حلف بغير الله فقد كفر) رواه الحاكم بهذا اللفظ.
ومنها حديث قال: (ثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت)
أوجه استدلال الخوارج والمعتزلة بهذه النصوص على مهبهم
الوجه الأول: إطلاق الشارع الكفر على من أتى معصية.
مثل: ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)) وغيره من النصوص.
الوجه الثاني: نفي الإيمان عمن ارتكب معصية.
مثل: (والله لا يؤمن...) وقوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن..)
الوجه الثالث: الحكم على من ارتكب معصية أنه من أهل النار.
مثل قوله تعالى: ((ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم))(3/45)
ففي هذه النصوص وما شابهها دلالة عندهم على أن أهل المعاصي كفار في الدنيا عند الخوارج، و مخلدون في النار عندهم وعند المعتزلة.
المذهب الثاني: مذهب المرجئة.
المراد بالمرجئة الفرق التي تنفي دخول الأعمال في معنى الإيمان، وسموا بذلك لإرجائهم الأعمال أي تأخيرها عن الإيمان.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
"والمرجئة بضم الميم وكسر الجيم بعدها ياء مهموزة، ويجوز تشديدها بلا همز، نسبوا إلى الإرجاء وهو التأخير، لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان، فقالوا الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، ولم يشترط جمهورهم النطق، وجعلوا للعصاة اسم الإيمان على الكمال، وقالوا لا يضر مع الإيمان ذنب أصلا ومقالاتهم مشهورة في كتب الأصول" [فتح الباري (1/110)]
وقيل: "سميت المرجئة لنفيهم الإرجاء، وأنه لا أحد مرجأٌ لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم" [شرح العقيدة الطحاوية (1/592) وشرح المقاصد للتفتازاني (2/238)]
يعني أن جميع المرتكبين لكبائر الذنوب هم من أهل الجنة قطعا، ولا يقال: فيهم: نرجئ أمرهم إلى الله تعالى، إن شاء غفر لهم وإن شاء عذبهم...
وهم متفاوتون في الإرجاء، أشدهم غلوا فيه الجهمية، ومن تبعهم، سيأتي ذكر ما اعتمدوا عليه في مذهبهم.
وأساس النزاع بين أهل السنة وغيرهم من الفرق، اختلافهم في معنى "الإيمان"
[راجع مجموع الفتاوى لابن تيمية ( 7/510)، ( 10/748-751)، ( 14/498).]
ومذهب المرجئة مبني على ثلاثة أسس:
الأساس الأول: تعريف الإيمان وما يترتب عليه عندهم من أحكام في الدنيا والآخرة:
للمرجئة في تعريف الإيمان اختلا طويل.
وبسبب ذلك تعددت فرقهم التي بلغت اثنتي عشر فرقة كما بين ذلك أبو الحسن الأشعري رحمه الله، فقال:
"فالفرقة الأولى منهم، يزعمون "أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ما جاء من عند الله فقط".
وأن ما سوى المعرفة، من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب، والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما، والخوف منهما [ينبغي تقييد الخوف من الله وحده] والعمل بالجوارح، فليس بإيمان.
وزعموا أن الكفر بالله هو الجهل به، وهذا قول يحكى عن جهم بن صفوان، وزعمت الجهمية أن الإنسان إذا أتى بالمعرفة، ثم جحد بلسانه، أنه لا يكفر بجحده، وأن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل، أهله فيه، وأن الإيمان والكفر لا يكونان إلا في القلب، دون غيره من الجوارح" [مقالات الإسلاميين (1/132)]
هذا مع العلم أن بعضهم يضمون التصديق بالرب إلى المعرفة المذكورة، فإذا جحد التصديق بالله تعالى، فهو كافر عندهم.
وبعضهم لا يجزمون بأن أحدا من عصاة المؤمنين يدخل النار، إهمالا لما ورد في القرآن من وعيد الله تعالى لمن عصاه، وما فصل في السنة الصحيحة من دخول بعض أهل المعاصي النار وإخراجهم منها، كما سبق ذكر كثير منها في الرد على الخوارج، ومنها أحاديث الشفاعة.
ولنكتف بمذهب هذه الفرقة من فرق المرجئة، التي تخص الإيمان بمعرفة الله ومعرفة رسله ومعرفة ما جاء من عنده.
وصاحب هذه المعرفة مؤمن كامل الإيمان عندهم، ولو أنكر قلبه وجحد لسانه الإيمان بالله وبرسله وكل ما جاء من عنده، لأن الإيمان هو المعرفة ليس إلا، وبناء على ذلك يكون إبليس مؤمنا، والمشركون واليهود والنصارى والمرتدون عن الإسلام مؤمنين، ما داموا يعرفون تلك المعرفة...
وكل من عرف تلك المعرفة عندهم فهو من أهل الجنة مطلقا، ولا يستحق العقاب ودخول النار، مهما أتى من الأعمال، كالقتل والسرقة والزنا وشرب الخمر وغير ذلك، أي إنهم على الضد من مذهب الخوارج والمعتزلة...
الأساس الثاني: التمسك بنصوص الوعد.
ومما احتج به المرجئة على مذهبهم الآيات والأحاديث التي وعد الله فيها عباده الموحدين بدخول الجنة والنجاة من النار، مثل قوله تعالى: ((قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [سورة الروم (53)]
ويدخل في ذلك كل النصوص التي وردت في القرآن أو السنة، مما وعد الله تعالى فيها عباده بالمغفرة والرحمة والعفو.
ومنها حديث أبي ذر رضي الله عنه، قالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب منى ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا، لقيته بمثلها مغفرة)[ صحيح مسلم ( 4/2068) رقم (2687) والحاكم في المستدرك من وجه آخر (4/269) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ويراجع مسند الإمام أحمد (5/148) وروى نحوه الترمذي من حديث أنس، (5/548)]
الأساس الثالث: تأويل نصوص الوعيد
ومن غرائب تأويلهم ما سبق من أن كُلُّ مَنْ كَفَّرَهُ الشَّارِعُ، فَإِنَّمَا كَفَّرَهُ لعدم معرفته بالله، أو لِانْتِفَاءِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِالرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
ومن ذلك تأويلهم نصوص الوعيد التي وردت في القرآن والسنة أو غيرهما من الكتب السماوية السابقة،إنما قصد به تخويف الناس لينزجروا عما نهوا عنه، وليس له حقيقة في الواقع، قال ابن تيمية:(3/46)
"وَقَدْ يَقُولُ حُذَّاقُ هَؤُلاءِ مِنْ الإسماعيلية وَالْقَرَامِطَةِ وَقَوْمٍ يَتَصَوَّفُونَ أَوْ يَتَكَلَّمُونَ وَهُمْ غَالِيَةُ الْمُرْجِئَةِ : إنَّ الْوَعِيدَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْكُتُبُ الإلَهِيَّةُ، إنَّمَا هُوَ تَخْوِيفٌ لِلنَّاسِ لِتَنْزَجِرَ عَمَّا نُهِيَتْ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقِيقَةٌ، بِمَنْزِلَةِ مَا يُخَوِّفُ الْعُقَلاءُ الصِّبْيَانَ وَالْبُلْهَ بِمَا لا حَقِيقَةَ لَهُ لِتَأْدِيبِهِمْ، وَبِمَنْزِلَةِ مُخَادَعَةِ الْمُحَارِبِ لِعَدُوِّهِ إذَا أَوْهَمَهُ أَمْرًا يَخَافُهُ لِيَنْزَجِرَ عَنْهُ أَوْ لِيَتَمَكَّنَ هُوَ مِنْ عَدُوِّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ" [مجموع الفتاوى (19/150)]
وتأولوا قوله تعالى((ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)) "فقالوا: لمن يشاء معناه لمن يشاء أن يؤمن"يعني أن من شاء الله تعالى إيمانه على مذهبهم، لا بد أن يغفر له، ولا يستحق العقاب. [يراجع كتاب التسهيل لعلوم التنزيل (1/145) للمفسر الأندلسي الكلبى]
وبهذا يعلم أنه لا يوجد عند غلاة المرجئة كافر على وجه الأرض، ممن عرف ربه بقلبه، فلا يعتبر كافرا ولا مرتدا من عرف ربه وجحد وحيه ورسالة رسله، أو أنكر شيئا معلوما من الدين بالضرورة، كأركان الإسلام...
وهو عكس مذهب الخوارج الذين يعتبر كل من عصا الله كافرا خارجا من ملة الإسلام... وهو مخلد عندهم وعند المعتزلة في النار، لا يخرج منها ولا يدخل الجنة مطلقا.
وبهذا يظهر كذلك ما بين الطائفتين: الخوارج والمعتزلة وغلاة المرجئة من التناقض الشديد، وضرب بعض النصوص ببعض.
مذهب جماهير أهل السنة
هذا المذهب يخالف المذهبين السابقين ويعتبر وسطا بينهما، حيث جمع أهل السنة بين نصوص الوعد ونصوص الوعيد، وأنزلوا كلا منها منزلته، بدون تعارض ولا تناقض.
فإذا كان المذهب الأول قد أفرط، ناظراً إلى نصوص الوعيد وحدها، وفتح بناء على ذلك أبواب جهنم لعصاة المسلمين، وأغلق عنهم أبواب الجنة.
والمذهب الثاني قد فرط، ناظراً إلى نصوص الوعد وحدها، وفتح أبواب الجنة لجميع العصاة حتى من وقع في الشرك الأكبر إذا كان قد عرف الله مجرد معرفة، أو صدق بقلبه فقط، وأغلق عنهم أبواب النار التي قامت الأدلة على دخول بعض عصاة المؤمنين فيها ثم خروجهم منها
فإن مذهب أهل السنة قد اعتدل، لجمعه بين نصوص الوعيد ونصوص الوعد معاً، فنزل كلا منهما منزلته.
فالذنب الذي يخلد صاحبه في النار ويجعله مرتداً عن الإسلام، هو الكفر والشرك الأكبران اللذان يموت صاحبهما عليهما.
وما عداهما من الكبائر لا يخرج فاعله من الملة ولا يخلده في النار، بل هو تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه بقدر ذنبه ثم أخرجه من النار وأدخله الجنة، وإن شاء غفر له ابتداء.
وعلى هذا المذهب الحق دلت نصوص الكتاب والسنة..
كما قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)). [النساء:48].
وقال تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) إلى أن قال: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)). [الحجرات:9-10]. فجعل الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين، وجعلهما إخوة لمن أصلح بينهما من المؤمنين.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ) [اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (1/19)].
و( أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ). [المرجع السابق (1/51)].
وفي هذه النصوص وأشباهها رد على الخوارج والمعتزلة، كما سبق و هو واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.
والنصوص في هذا الباب كثيرة، فأهل الحق عملوا بالنصوص كلها، وأهل الباطل اقترفوا فأخذت كل طائفة منها".
[راجع لهذا البحث.. شرح النووي رحمه الله على مسلم (1/150) وكذلك فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (7/188،222،217،242،258)، (12/466)
و (10/230) وشرح الطحاوية ص293-118-479-501].
إفراط، وتفريط، ووسطية
قال ابن تيمية: "فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب إذا كانوا مقرين باطنا وظاهرا بما جاء به الرسول وما تواتر عنه، أنهم من أهل الوعيد، وأنه يدخل النار منهم من أخبر الله ورسوله بدخوله إليها، ولا يخلد منهم فيها أحد، ولا يكونون مرتدين مباحي الدماء.
ولكن الأقوال المنحرفة، قول من يقول بتخليدهم في النار كالخوارج والمعتزلة، وقول غلاة المرجئة الذين يقولون: ما نعلم أن أحدا منهم يدخل النار، بل نقف في هذا كله، وحكي عن بعض غلاة المرجئة الجزم بالنفي العام" [مجموع الفتاوى (7/297)]
رد أهل السنة على الخوارج والمعتزلة.
ولبيان الرد على هؤلاء ينبغي الكلام على المسائل الخمس الآتية:
المسألة الأولى: خطر التكفير ومن له الحق في إطلاقه
المسألة الثانية: وجود نصوص يخالف ظاهرُها، ما استدل بظاهره الخوارج والمعتزلة من النصوص السابقة
المسألة الثالثة: وجوب الجمع بين النصوص التي قد يظهر منها التعارض.
المسألة الأولى: خطر التكفير، ومن له الحق في إطلاقه.
معلوم ما يعنيه دخول الإنسان في الإسلام، إنه يعني خروجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ويعني اهتداءه لصراط الله المستقيم، وترك سبل الشيطان عدو الإنسان.
ويعني أنه عضو في جماعة المسلمين له ما لهم من حقوق وعليه ما عليهم من واجبات، يتعاون معهم على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، ويعني أنه يطمع في مغفرة الله ورحمته وثوابه والنجاة من عقابه... ويعني فوق ذلك كله أنه أصبح من أهل الأمل في رضا الله والنجاة من سخطه...(3/47)
فهل يجوز لأحد من البشر أن يخرج من دخل هذه الدائرة التي هذا شأنها من دخلها مختارا، من باب قاعدة قواعد الإسلام "لا إله إلا الله محمد رسول الله"؟ التي أثبت الرسول صلى الله عليه وسلم لمن قالها صادقا مخلصا من قلبه، دخول الجنة والخروج من النار؟
وقد حذر علماء الإسلام من تكفير من دخل في الإسلام، إلا إذا توفرت شروط التكفير وانتفت موانعه... والذين لهم الحق في إثبات توفر شروط التكفير وانتفاء موانعه، هم علماء الأمة الإسلامية الذين فقههم الله في دينه.
وليس ذلك لصغار طلاب العلم الذين نصبوا أنفسهم مفتين وقضاة ومنفذين، وهم إلى الجهل أقرب، وإلى الاستجابة للعواطف أميل، ولاتباع الأهواء والتقليد أسرع...
ولما كان للتكفير خطره العظيم الذي تترتب عليه أحكام كثيرة، تتعلق بمن حُكِم عليه بالكفر في الدنيا والآخرة، وبمن له به صلة من قرابة وأزواج، وبما له به ارتباط كماله ووظائفه وغيرها، فقد حذر علماء الإسلام من الانزلاق في هذا الباب والاقتحام لعقباته، تبعا لتحذير الشارع من ذلك...
فقال ابن تيمية رحمه الله:
"ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ فيه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: ((آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بن أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)) [البقرة (285)]
وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.
والخوارج المارقون الذين أمر النبي بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يُكفروا مع أمر الله ورسوله بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟
فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعا جهال بحقائق ما يختلفون فيه.
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم، عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) مجموع الفتاوى(3/282- 288)]
والحديث الذي أشار إليه ابن تيمية في قول: "وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم". رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال:
"لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير)) [البقرة (284)]
قال فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة،وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها:((آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير))
فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل:
((لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)) قال: نعم. ((ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا)) قال: نعم. ((ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به)) قال: نعم. ((واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين)) قال: نعم" [صحيح مسلم [صحيح مسلم (1/115) رقم (125) والآية التي ذكر فيها استجابة الله للمؤمنين، هي الآية الأخيرة من سورة البقرة (286)]
والشاهد في الحديث: استجابة الله تعالى لعباده المؤمنين الذين اشتد خوفهم من قوله تعالى: ((إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله)) فقال لهم: (نعم) في عدم محاسبتهم على الخطأ، وعدم تحميلهم الإصر الذي حمله الأمم قبلهم، وعدم تحميلهم مالا يطيقون، ثم منحهم عفوه ومغفرته ورحمته ونصرهم على أعدائهم الكافرين.
وقال ابن تيمية أيضا:
"ومن البدع المنكرة تكفير الطائفة غيرها من طوائف المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم، ..... ونحو ذلك فإن هذا عظيم لوجهين:
أحدهما: أن تلك الطائفة الأخرى قد لا يكون فيها من البدعة أعظم مما في الطائفة المكفرة لها، بل تكون بدعة المكفرة أغلظ أو نحوها أو دونها.
وهذا حال عامة أهل البدع الذين يكفر بعضهم بعضا، فإنه إن قدر أن المبتدع يَكْفُر كَفَر هؤلاء وهؤلاء، وإن قدر أنه لم يَكْفُر لم يَكْفُر هؤلاء ولا هؤلاء.
فكونُ إحدى الطائفتين تُكَفِّر الأخرى ولا تُكَفِّر طائفتَها، هو من الجهل والظلم، وهؤلاء من الذين قال الله تعالى فيهم: ((إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء))(3/48)
والثاني: أنه لو فرض أن إحدى الطائفتين مختصة بالبدعة، لم يكن لأهل السنة أن يكفروا كل من قال قولا أخطأ فيه، فان الله سبحانه قال: ((ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطانا)) وثبت في الصحيح، أن الله قال: (قد فعلت) وقال تعالى: ((ولا جناح عليكم فيما اخطأتم به))
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان) وهو حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره. [سنن ابن ماجه (1/659) (2043) سنن البيهقي الكبرى سنن البيهقي الكبرى (7/356) قال ابن رجب في شرح الحديث: "حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما" جامع العلوم والحكم (1/371) وقال الهيثمي: "وفيه محمد ابن مصفى وثقه أبو حاتم وغيره، وفيه كلام لا يضر وبقيه رجاله رجال الصحيح" مجمع الزوائد (6/250)]
وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين، على أنه ليس كل من قال قولا أخطأ فيه أنه يكفر بذلك، وان كان قوله مخالفا للسنة فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع.
لكن للناس نزاع في مسائل التكفير قد بسطت في غير هذا الموضع.
و المقصود هنا أنه ليس لكل من الطوائف المنتسبين إلى شيخ من الشيوخ ولا إمام من الأئمة، أن يكفروا من عداهم بل في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) [مجموع الفتاوى (7/684)]
ضلال من لم يأخذ العلم والتزكية على أهلهما
إن من أهم أسباب ضلال من ضل من الفرق والجماعات والأفراد المنتسبين إلى العلم، عدم أخذهم العلم والتزكية الربانية عن أهلهما، بالطريقة التي سلكها سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
إذ يسلك بعض الجهلة المغرورين الذين ينصبون أنفسهم للتعليم والفتوى وقد يدعون أنهم من المجتهدين، وهم على جهل بقواعد العلوم الشرعية وعلومها وآلات تلك العلوم، بسبب قراءتهم لبعض الأبواب في بعض الكتب، وسوء فهمهم لكثير مما قرأوه، وعدم اقتدائهم بالصحابة والتابعين وعامة السلف الصالح في أخذ العلم عن أهله المتحققين به.
وهذا من أهم أسباب الزيغ، وهو منطلق المُفرِطين والمُفَرِّطين. ولهذا حث فقهاء الإسلام طلاب العلم على سلوك نهج السلف في طلب العلم على أيدي أهله الذين يجمعون بين العلم والعمل، والتربية، وحذروهم من سلوك نهج فرق الضلال.
ومن ذلك قول الشاطبي رحمه الله:
"من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به، أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام.. وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات:
إحداها: العمل بما علم، حتى يكون قوله مطابقاً لفعله، فإن كان مخالفاً له، فليس بأهل لأن يؤخذ عنه، ولا أن يُقتدَى به في علم..
والثانية: أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم، وملازمته لهم، فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا شأن السلف الصالح.
فأول ذلك ملازمة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذهم بأقواله وأفعاله واعتمادهم على ما يرد منه، كائناً ما كان، وعلى أي وجه صدر..
وصار مثلُ ذلك أصلاً لمن بعدهم، فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى فقهوا ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية.
وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالماً اشتهر في الناس الأخذ عنه، إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك. وقلما وجدت فرقة زائغة ولا أحدا مخالفا للسنة، إلا وهو مفارق لهذا الوصف". [كتاب الموافقات في أصول الشريعة (1/91-95) بتحقيق الأستاذ محمد عبد الله دراز، باختصار]
وذكر في موضع آخر أن فرق الضلال، يعمدون إلى ظواهر الأدلة التي لا يعجزون عن الاستدلال بها على مذاهبهم، أي وهم يتركون ظواهر أدلة تخالف مذهبهم دون تمحيص ولا جمع بين تلك الأدلة والعمل بكل منها في موضعه.
قال: "ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة، ولا أحدا من
المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية، يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة، وقد مر من ذلك أمثلة، بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة" [الموافقات(3/76)]
وقال ابن تيمية رحمه الله في رده على بعض المخالفين:
"والعلم شيئان إما نقل مصدق، وإما بحث محقق، وما سوى ذلك فهذيان مسروق، وكثير من كلام هؤلاء هو من هذا القسم من الهذيان، وما يوجد فيه من نقل فمنه ما لا يميز صحيحه عن فاسده، ومنه ما لا ينقله على وجهه، ومنه ما يضعه في غير موضعه...
وقد قيل: إنما يفسد الناس نصف متكلم، ونصف فقيه، ونصف نحوي، ونصف طبيب، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد اللسان، وهذا يفسد الأبدان" [مجموع الفتاوى [(2/729- 730 )]
وإذا كان "أَنصاف" هؤلاء الأصناف يفسدون المعاني – وبخاصة الأديان – وغيرها من المحسوسات والماديات، فإنا نجد اليوم من لا يبلغ "أرباع" ولا "أثمان" ما بلغه أولئك الأنصاف، ولهذا تضاعف فسادهم، وبخاصة في هذا العصر الذي يستطيع فيه كل مفسد أن ينشر فساده ويعممه عن طريق وسائل الاتصال التي لم يتمكن منها المفسدون في القرون الأولى.
إطلاق الكفر على غير معين
ويجب التنبيه على أن ما علم شرعا بأنه كفر، يطلق عليه ذلك، فيقال: من فعل كذا فقد كفر، ومن قال فقد كفر، مع استحضار أمرين:
الأمر الأول: أن الكفر يطلق على الكفر الأكبر المخرج من الملة، وعلى الكفر الأصغر، وهو كبائر الذنوب التي لا يخرج مرتكبها من الملة كما سبق، والفقهاء في الدين هم الذين يميزون بين الكفرين.
الأمر الثاني: أن الكفر يطلق إطلاقا عاما، ولا يطلق على كل معين فعل أو قال ما هو كفر، لأن المعين قد يفعل الكفر أو يقوله، مع جهله بذلك أو تأوله أو نسيانه، فيكون معذورا، لعدم توفر شروط تكفيره ووجود موانعه...(3/49)
ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله:
"وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع، يقال: هي كفر قولا يطلق، كما دل على ذلك الدلائل الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم.
ولا يجوز أن يُحكَم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر، حتى تثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه.
مثل من قال: إن الخمر أو الربا حلال، لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاما أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وما كان الصحابة يشكون في أشياء، مثل رؤية الله وغير ذلك، حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومثل الذي قال: إذا أنا مت فاسحقوني وذروني في اليم لعلي أضل عن الله ونحو ذلك، فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقام عليهم الحجة بالرسالة، كما قال الله تعالى: ((لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)) [النساء (165)] وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد أشبعنا الكلام في القواعد التي في هذا الجواب في أماكنها..) [مجموع الفتاوى: (35/165)]
وقصة الرجل الذي قال: "إذا أنا مت فاسحقوني..." رواها أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
(أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه، فقال إذا أنا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم أذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه به أحدا.
قال ففعلوا ذلك به، فقال للأرض أدى ما أخذت، فإذا هو قائم فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال خشيتك يا رب أو قال مخافتك فغفر له بذلك) [صحيح البخاري (3/1283) رقم (3294) و صحيح مسلم (4/2110) ورقم (2756)]
وقال ابن تيمية في موضع آخر:
"والأصل الثاني: أن التكفير العام-كالوعيد العام-يجب القول بإطلاقه وعمومه.
وأما الحكم على المعين بأنه كافر، و مشهود له بالنار: فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه........
وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم-بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار-لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم الحجة الرسالية التي يتبين بها بأنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر.
وهذا الكلام في تكفير جميع المعينين.. فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة..). [مجموع الفتاوى (12/497-501، :523)].
المسألة الثانية: نصوص يخالف ظاهرها ما استدل بظاهره الخوارج والمعتزلةا.
النصوص السابقة التي استدل بها من يرون التكفير بالمعاصي وتخليد أصحابها في النار، وردت بإزائها نصوص أخرى كثيرة، تدل دلالة واضحة على أن كبائر الذنوب والمعاصي، لا تخرج مرتكبها من ملة الإسلام، ما عدا الشرك بالله...
1-نصوص من القرآن الكريم.
منها قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً)) [النساء (48)]
فقد دلت الآية على أن كل ذنب غير الشرك، داخل في مشيئة الله، فإن شاء غفره لصاحبه ابتداء وأدخله الجنة دون أن يعذبه عليه وإن لم يتب، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة، بخلاف الشرك فإن الله لا يغفره لمن مات عليه.
وجه الدلالة على ذلك من الآية، هو العموم في لَفْظَيْ "ما" و "من" في قوله تعالى: ((ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)) فما دون الشرك شامل لجميع المعاصي، ولمن يشاء شامل لكل مسلم ارتكب معصية دون الشرك ولم يتب منها.
ولما كان الخوارج والمعتزلة لا يفرقون بين الشرك وغيره من المعاصي، ويشترطون في مغفرة الله لمرتكبها التوبة، فقد حاول الزمخشري رحمه الله – عند تفسيره الآية - لَيَّ عنقها وصرفها عن ظاهرها الذي تدعمه النصوص الأخرى الآتي ذكرها، ليوافق تأويلُه مذهبَه [المُعْتَزِلِي]
فقال:"فإن قلت: قد ثبت أن الله عز وجل يغفر الشرك لمن تاب منه، وأنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة، فما وجه قول الله تعالى: ((إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء))؟
قلت: الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعا، موجهين إلى قوله تعالى: "لمن يشاء" كأنه قيل: إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك. على أن المراد بالأول من لم يتب، وبالثاني من تاب..." [الكشاف (1/551؛ 552)]
وهو كما ترى تأويل متَكَلَّف ينزه عنه كلام الله تعالى، ويأباه فصحاء العرب، فإنه تعالى لو أراد هذا المعنى، وهو عدم التفريق بين الشرك وغيره من المعاصي، وأنه لا يغفرها جميعا إلا بالتوبة، لبين ذلك بعبارة لا تحتاج إلى هذا التكلف في تأويل كلامه...
ولو كان المتكلم من البشر، وأراد هذا المعنى، لما عجز أن يقول: إن الله لا يغفر الشرك وغيره من الكبائر إلا بالتوبة، ولا يحتاج إلى التقييد بالمشيئة، ولكنه التعصب الذي يوقع صاحبه في مثل هذا التعسف العجيب!
ومن النصوص الدالة على عدم التكفير بكبائر الذنوب غير الشرك، قوله تعالى:
((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) (10) [الحجرات](3/50)
تدل الآيتان على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: وصف الله الطائفتين المقتتلتين أنهما من المؤمنين.
الوجه الثاني: جعل الطائفتين المتقاتلتين أخوين للمؤمنين، وهي أخوة دينية كما هو واضح...
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره: "في هذه الآية والتي قبلها دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين.
قال الحارث الأعور: سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو القدوة في قتال أهل البغي من أهل الجمل وصفين: أمشركون هم؟
قال: لا، من الشرك فروا. فقيل: أمنافقون؟ قال لا، لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: له فما حالهم؟ قال إخواننا بغوا علينا" [الجامع لأحكام القرآن (16/323) ويراجع تفسير البغوي (4/213)]
ونسب إلى الإمام مالك رحمه الله، القول بتكفير الخوارج الذين كفروا المسلمين، وبخاصة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، استدلالا بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (أيما رجل قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما) [صحيح البخاري (5/2264) رقم (5753) وصحيح مسلم (1/79) رقم (60)]
قال الحافظ ابن حجر: "وقيل: محمول على الخوارج، لأنهم يكفرون المؤمنين، هكذا نقله عياض عن مالك وهو ضعيف، لأن الصحيح عند الأكثرين أن الخوارج لا يكفرون ببدعتهم.
قلت: ولِما قاله مالك وجه، وهو أن منهم من يكفر كثيرا من الصحابة ممن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وبالإيمان، فيكون تكفيرهم من حيث تكذيبهم للشهادة المذكورة، لا من مجرد صدور التكفير منهم بتأويل..." [فتح الباري (10/466)]
وقال ابن كثير رحمه الله: "((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما)) فسماهم مؤمنين مع الاقتتال.
وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم.
وهكذا ثبت في صحيح البخاري، من حديث الحسن عن أبي بكرة رضي الله عنه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خطب يوما ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي الله عنهما، فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى، ويقول: (إن ابني هذا سيد ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) فكان كما قال صلى الله عليه وسلم، أصلح الله تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق، بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة".[تفسير القرآن العظيم (4/212)]
فقد أطلق صلى الله عليه وسلم على وصف الإسلام الطائفتين المقتتلتين (طائفتين عظيمتين من المسلمين) والمكفرون بالكبائر يسلبون هذا الوصف ممن ارتكب كبيرة.
فمن أحق بالاتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاءنا بهذا الدين، أو غيره ممن أخذ من النصوص ما وافق هواه ونبذ منها ما خالفه؟!
وقال ابن تيمية رحمه الله: "فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضها من أهل الجمل وصفين ونحوهم، وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى:
((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)) فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل
ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضا مولاة الدين، لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض ويأخذ بعضهم العلم عن بعض، ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض، مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك." [مجموع الفتاوى (3/284، 485)]
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "وفي هاتين الآيتين من الفوائد غير ما تقدم، أن الاقتتال بين المؤمنين مناف للأخوة الإيمانية، ولهذا كان من أكبر الكبائر.
وأن الإيمان والأخوة الإيمانية لا يزولان مع وجود الاقتتال، كغيره من الذنوب الكبائر التي دون الشرك. وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة" [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/801)]
2-نصوص الشفاعة من القرآن والسنة:
أولا من القرآن الكريم:
الشفاعة ثبتت في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي في الجملة مجمع على القول بها، إلا أن الوعيدية [الخوارج والمعتزلة] يثبتونها لأهل الصغائر، وينكرون الشفاعة في أهل الكبائر، جريا على مذهبهم المعروف.
وعامة أهل السنة يثبتونها في كبائر الذنوب ما عدا الشرك، وأيدوا مذهبهم بأحاديث الشفاعة التي بينت بيانا شافيا ثبوت الشفاعة في الكبائر.
فقد بين القرآن الكريم أن الشفاعة لا تكون إلا ممن رضي الله عنهم وأذن لهم، من الأنبياء، ومن شاء تعالى من عباده الصالحين، ولا تكون إلا لمن شاء من عباده المؤمنين، ولا تكون لغيرهم من المشركين.
قال تعالى: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)) [البقرة (255)]
وقال تعالى:((وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)) [الأنبياء (28)]
وقال تعالى: ((يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً)) [طه (109)]
وقال تعالى: ((وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ...)) [سبأ (23)]
والآيات غيرها كثيرة، وهي كما ترى دالة على أنه لا يشفع أحد عنده لأحد، إلا إذا رضي تعالى عن الشافع والمشفوع له، وأذن بالشفاعة للشافع...(3/51)
ومن هنا نعلم أن الشفاعة المنفية في كتاب الله غير الشفاعة المثبتة فيه، فالشفاعة المنفية هي ما كان يدعيها المشركون ممن يعبدونه من غير الله تعالى، والشفاعة المثبتة هي شفاعة الأنبياء ومن شاء من عباده الصالحين في المؤمنين من أهل الكبائر، وقد وضحت ذلك لك السنة أكمل توضيح.
قال ابن حزم رحمه الله، بعد أن ساق بعض الآيات المثبتة للشفاعة، وبعض الآيات النافية لها:
" فقد صحت الشفاعة بنص القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فصح يقينا أن الشفاعة التي أبطلها الله عز وجل هي غير الشفاعة التي أثبتها عز وجل.
وإذ لا شك في ذلك، فالشفاعة التي أبطل عز وجل، هي الشفاعة للكفار الذين هم مخلدون في النار، قال تعالى: ((لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ)) نعوذ بالله منها. [الآية من سورة فاطر(36)]
فإذ لا شك فيه فقد صح يقينا أن الشفاعة التي أوجب الله عز وجل لمن أذن له واتخذ عنده عهدا ورضي قوله، فإنما هي لمذنبي أهل الإسلام وهكذا جاء الخبر الثابت..." [الفصل في الملل (4/54)]
ثانيا نصوص في الشفاعة من السنة
وأحاديث الشفاعة في أهل الكبائر الدالة على خروجهم من النار يوم القيامة ودخولهم الجنة وبقاؤهم فيها، بلغت حد التواتر، وعليها اعتمد سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
قال ابن تيمية رحمه الله: "إنَّ أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ فِي " أَهْلِ الْكَبَائِرِ " ثَابِتَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; وَقَدْ اتَّفَقَ عَلَيْهَا السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ; وَإِنَّمَا نَازَعَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ، وَلَا يَبْقَى فِي النَّارِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ بَلْ كُلُّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيَبْقَى فِي الْجَنَّة"ِ[مجموع الفتاوى (4/309)]
وقال في موضع آخر: "وَأَمَّا شَفَاعَتُهُ لِأَهْلِ الذُّنُوبِ مِنْ أُمَّتِهِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ، وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَأَنْكَرَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالزَّيْدِيَّةِ وَقَالَ هَؤُلَاءِ : مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا لَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا، وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ مَا ثَمَّ إلَّا مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَلَا يَدْخُلُ النَّارَ وَمَنْ يَدْخُلُ النَّارَ فَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَجْتَمِعُ عِنْدَهُمْ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ.
وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ كَالْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ النَّارِ قَوْمًا بَعْدَ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ يُخْرِجُهُمْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَيُخْرِجُ آخَرِينَ بِشَفَاعَةِ غَيْرِهِ وَيُخْرِجُ قَوْمًا بِلَا شَفَاعَةٍ." [مجموع الفتاوى (1/148)]
ومن أحاديث الشفاعة، حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: (با أبا هريرة لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه) [صحيح البخاري (1/49) رقم (99)]
و حديثه الآخر قَال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته. وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا) [صحيح مسلم (1/189) رقم (199)
فقد دل الحديثان على أن كل من (قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه) و (من مات لا يشرك بالله شيئا] ينال شفاعته صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، واستثناء أهل الكبائر من هذا النص يحتاج إلى دليل، ولا دليل...
بل جاء النص منه صلى الله عليه وسلم دالا على إثبات شفاعته لأهل الكبائر من هذه الأمة، كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلا قول الله عز وجل: ((ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)) فقال صلى الله عليه وسلم: (إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) رواه الترمذي من حديث أنس، برقم (2435) وقال: "حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه وفي الباب عن جابر" [(4/625) "و رواه أبو داود من حديث أنس أيضا برقم (4739) والحاكم في المستدرك (2/414)] برقم (3442) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"]
وحديث عوف بن مالك الأشجعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (أتدرون ما خيرني به ربي الليلة؟)
فقلنا الله ورسوله أعلم.
قال: (فإنه خيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة) قلنا: يا رسول الله أدع الله أن يجعلنا من أهلها. قال: (هي لكل مسلم)
[الحاكم في المستدرك (1/60) رقم (224) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ورواته كلهم ثقات على شرطهما جميعا وليس له علة وليس في سائر أخبار الشفاعة وهي لكل مسلم" وابن حبان في صحيحه (16/185) رقم (7207)]
3- دلالة السنة على عدم خروج مرتكبي الكبائر من الإسلام(3/52)
وقد دلت الأحاديث الصحيحة المستفيضة، أن الأصل بقاء المسلم على إسلامه، ولا يخرج من الإسلام بمجرد ارتكاب المعاصي مهما عظمت، ما عدا الشرك.
ومن ذلك حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه، قَال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تُخفروا الله في ذمته) [صحيح البخاري (1/153) رقم (384).
ومعنى "تُخفروا" بضم التاء من الرباعي: تَغدُروا وتنقضوا... يقال: خفر بمعنى حَمَى وحفظ، وأخفر بمعنى غدر ونقض...
بَيِّنٌ من الحديث أن الأصل فيمن أظهر الإسلام بقوله أو فعله، الإسلام فهو مسلم ليس لأحد أن يحكم عليه بالكفر المخرج من الملة، إلا بدليل قاطع، كأن يصرح هو بأنه بدل دينه من الإسلام إلى غيره، أو ينكر ركنا من أركان الإيمان، أو ما علم وجوبه من الدين بالضرورة، أو استحل ما علم تحريمه من الدين بالضرورة، وأقيمت عليه الحجة في كل ذلك ثم عاند واستمر على ما صدر منه.
ولهذا قال الطحاوي رحمه الله في رسالته المشهورة القيمة، التي لقيت قبولا من غالب طوائف هذه الأمة:
"ونسمى أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ماداموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين"
وقال شارح الرسالة رحمه الله: قال رسول الله من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا.
ويشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام، إلى أن الإسلام والإيمان واحد وأن المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الذنب، ما لم يستحله.
والمراد بقوله أهل قبلتنا من يدعي الإسلام ويستقبل الكعبة، وإن كان من أهل الأهواء أو من أهل المعاصي، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول" [شرح الطحاوية (1/355)]
ومنها ما رواه عبيد الله بن عدى بن الخيار، أن رجلا من الأنصار حدثه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس، فساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين.
فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أليس يشهد أن لا إله إلا الله)؟
قال الأنصاري بلى يا رسول الله ولا شهادة له.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أليس يشهد أن محمدا رسول الله)؟
قال: بلى يا رسول الله.
قال: (أليس يصلي)؟
قال بلى يا رسول الله، ولا صلاة له.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أولئك الذين نهاني الله عنهم) [مسند الإمام أحمد بن حنبل (5/432) رقم (23720) قال الهيثمي في مجمع الزوائد:(1/24): " رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح"
ومنها: حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: (ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة.)
قلت: وإن زنى وإن سرق؟
قال: (وإن زنى وإن سرق)
قلت: وإن زنى وإن سرق؟
قال: (وإن زنى وإن سرق)
قلت: وإن زنى وإن سرق؟
قال: (وإن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي ذر)
وكان أبو ذر إذا حدث بهذا، قال: وإن رغم أنف أبي ذر"
[صحيح البخاري(5/2193) رقم (5489) وصحيح مسلم (1/95) رقم (94) ]
قال الحافظ ابن حجر، رحمه الله: "وفي الحديث أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار، وأن الكبائر لا تسلب اسم الإيمان، وأن غير الموحدين لا يدخلون الجنة.
والحكمة في الاقتصار على الزنا والسرقة الإشارة إلى جنس حق الله تعالى وحق العباد.." [فتح الباري (3/111) يعني لا فرق بين الكبائر التي يرتكبها المسلم بين حق الله أو حق عباده، فكلها لا تحول بين المسلم وبين دخوله الجنة بمشيئة الله]
خروج من دخل النار من المسلمين
وقد ذكر ابن أبي العز الحنفي رحمه الله أن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ونصوص الوعد. [شرح العقيدة الطحاوية (1/356)]
ومن الأحاديث الدالة على عدم خلود أهل الكبائر في النار وإن لم يتوبوا، حديث أنس، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
(يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير. ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير. ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير) قال أبو عبد الله: قال أبان حدثنا قتادة حدثنا أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من إيمان مكان من خير) صحيح البخاري (1/24) رقم (44) وصحيح مسلم (1/182) رقم 193]
فهذا الحديث واضح بأن الله تعالى يخرج من النار من دخلها، وهو يرد على من زعم خلود من دخل النار فيها... وبينت الأحاديث الصحيحة الكثيرة أن الذين يخرجهم الله من النار يدخلون الجنة.
ومن أصرح الأحاديث في غفران الكبائر التي لم يتب أصحابها منها: حديث عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: (تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه) [صحيح البخاري، برقم (7030) وصحيح مسلم، برقم (1709)]
\فقد جعل صلى الله عليه وسلم المسلمين الذين يبايعونه على ترك كبائر الذنوب، ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: وفى بعهده، وهو موعود بالأجر من ربه.
الصنف الثاني: لم يف بكل ما عاهد عليه، بل ارتكب شيئا منه، وعوقب عليه في الدنيا بحد أو غيره، كأن يبتليه الله ببعض المصائب ويجعلها كفارة له.(3/53)
الصنف الثالث: أصاب شيئا من المعاصي التي عاهد على تركها، ولم يعاقب عليه في الدنيا، بل ستره الله عليه، وهذا أمره إلى الله تعالى، إن شاء غفر له ابتداء وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه على معاصيه ثم أدخله الجنة، وهذا هو محل الشاهد من الحديث.
ويجب هنا التنبيه على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: عدم دخول الشرك في العفو إذا لم يتب متعاطيه، بأدلة أخرى كما سبق وبإجماع الأمة.
الأمر الثاني: أن في الحديث وعدا بالعفو عمن أصاب شيئا من الكبائر وإن لم يتب.
الأمر الثالث: أن الذنوب الموعود بالعفو عنها هي الكبائر، لا الصغائر فقط كما يدعي الخوارج والمعتزلة، بدليل أن ما ذكر في الحديث من الذنوب، كله من أكبر الكبائر، وهي الزنا والسرقة وقتل النفس التي حرم الله...
4- التفريق بين مرتكب الكبائر والمرتدين.
فقد فرق شرع الله، من الكتاب والسنة بين مرتكبي الكبائر، وبين المرتدين، فجعل عقوبة بعض الكبائر التي يكفر بها الخوارج من تعاطاها، الحدود والقصاص، وجعل عقوبة المرتد القتل، ولو كان مرتكبو الكبائر من أهل القبلة كفارا، لكانوا مرتدين ولكانت عقوبتهم القتل ردة.
قال ابن تيمية رحمه الله:
"ويقال للخوارج الذين نفوا عن السارق والزاني والشارب وغيرهم الإيمان، هو لم يجعلهم مرتدين عن الإسلام، بل عاقب هذا بالجلد وهذا بالقطع ولم يقتل أحدا، إلا الزاني المحصن، ولم يقتله قتل المرتد فإن المرتد يقتل بالسيف بعد الاستتابة، وهذا يرجم بالحجارة بلا استتابة.
فدل ذلك على أنه وإن نفى عنهم الإيمان، فليسوا عنده مرتدين عن الإسلام مع ظهور ذنوبهم، وليسوا كالمنافقين الذين كانوا يظهرون الاسلام ويبطنون الكفر، فأولئك لم يعاقبهم إلا على ذنب ظاهر" [مجموع الفتاوى (7/298)]
المسألة الثالثة: وجوب الجمع بين ما ظاهره التعارض من الأدلة
وإذ قد تبين لنا من نصوص القرآن والسنة في المسألة الثانية الدلالة الواضحة على غفران الله تعالى كبائر الذنوب - غير الشرك - لمن شاء عباده، وأنه يخرج من النار من دخلها منهم، وأن من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، وجب الجزم بأنه لا تعارض بين هذه النصوص وبين النصوص التي استدل بها الخوارج والمعتزلة، لإمكان الجمع بينها.
الأصل عدم تعارض أدلة الشريعة
إن أدلة الشريعة الثابتة في القرآن والسنة، لا يحصل بينها تعارض عند الراسخين المحققين من علماء الأمة، لأنها وحي من الله، والوحي معصوم من التعارض والتناقض، وإنما يحصل التعارض بين ظواهرها عند غير الراسخين في العلم، أو عند أهل الأهواء والبدع...
وهذا ما عناه الشاطبي رحمه الله، بقوله: "كل من تحقق بأصول الشريعة فأدلتها عنده لا تكاد تتعارض، كما أن كل من حقق مناط المسائل فلا يكاد يقف في متشابه، لأن الشريعة لا تعارض فيها ألبتة، فالمتحقق بها متحقق بما في الأمر، فيلزم أن لا يكون عنده تعارض.
ولذلك لا تجد ألبتة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما، بحيث وجب عليهم الوقوف، لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من الخطأ أمكن التعارض بين الأدلة عندهم" [الموافقات(4/294)]
وقال في موضع آخر: "ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحد من المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية، يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة، وقد مر من ذلك أمثلة، بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة" [الموافقات (3/76)]
وإذا ظهر تعارض للمجتهد بين دليلين، فلا يخلو الأمر من إمكان الجمع بينهما، أو عدم إمكانه، فإن أمكن الجمع وجب الأخذ به، بحمل كل منهما على معنى يخرجهما عن التعارض.
وإن لم يمكن الجمع بعد التحقيق الصادر من المجتهد في العلم، وجب الترجيح بينهما، وإن تعذر الترجيح وعلم تاريخ المتقدم منهما فهو منسوخ والمتأخر ناسخ.
ويجب أن يعلم أنه لا يحصل تعارض بين قطعيين، بل بين قطعي وظني، أو بين ظنيين، والقطعي مقدم على الظني.
قال الشاطبي رحمه الله: "ومعلوم أن الناسخ والمنسوخ إنما هو فيما بين دليلين يتعارضان، بحيث لا يصح اجتماعهما بحال، وإلا لما كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا، والفرض خلاف" [الموافقات)4/121)]
وقال رحمه الله، وهو يرد على المبتدعة [ومنهم الخوارج والمعتزلة] الذين يردون الأحاديث الصحيحة الثابتة، بحجة معارضتها للقرآن العظيم:
"فإما أن لا يمكن الجمع بينهما أصلا وإما أن يمكن، فإن لم يمكن فهذا الفرض بين قطعي وظني أو بين ظنيين، فأما بين قطعيين فلا يقع في الشريعة ولا يمكن وقوعه لأن تعارض القطعيين محال.
فإن وقع بين قطعي وظني بطل الظني، وإن وقع بين ظنيين فهاهنا للعلماء فيه الترجيح والعمل بالأرجح متعين.
وإن أمكن الجمع، فقد اتفق النظار على إعمال وجه الجمع وإن كان وجه الجمع ضعيفا، فإن الجمع أولى عندهم، وإعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها، فهؤلاء المبتدعة لم يرفعوا بهذا الأصل رأسا إما جهلا به أو عنادا..." [الاعتصام (2/247)]
وقال النووي رحمه الله: "وأما إذا تعارض حديثان في الظاهر، فلا بد من الجمع بينهما أو ترجيح أحدهما، وانما يقوم بذلك غالبا الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه، والأصوليون المتمكنون في ذلك الغائصون على المعاني الدقيقة الرائضون أنفسهم في ذلك.
فمن كان بهذه الصفة لم يشكل عليه شيء من ذلك إلا النادر في بعض الأحيان.
ثم المختلف قسمان: أحدهما يمكن الجمع بينهما فيتعين ويجب العمل بالحديثين جميعا، ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجه يكون أعم للفائدة تعين المصير إليه، ولا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع، لأن في النسخ إخراج أحد الحديثين عن كونه مما يعمل به..." [شرح النووي على صحيح مسلم (1/35)](3/54)
وقال شيخنا العلامة محمد الأمين الشنقيطي، رحمه الله، بعد أن ذَكَر اختلاف العلماء في كفر تارك الصلاة عمدا:
"هذا هو حاصل كلام العلماء وأدلتهم في مسألة ترك الصلاة عمدا مع الاعتراف بوجوبها، وأظهر الأقوال أدلةً عندي قول من قال: إنه كافر وأجرى الأقوال على مقتضى الصناعة الأصولية وعلوم الحديث، قول الجمهور: إنه كفر غير مخرج عن الملة، لوجوب الجمع بين الأدلة إذا أمكن.
وإذا حُمِلَ الكفر والشرك المذكوران في الأحاديث على الكفر الذي لا يخرج عن الملة، حصل بذلك الجمع بين الأدلة.
والجمع واجب إذا أمكن، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما كما هو معلوم في الأصول وعلم الحديث.
وقال النووي في شرح المهذب،بعد أن ساق أدلة من قالوا إنه غير كافر ما نصه: "ولم يزل المسلمون يورثون تارك الصلاة ويورثون عنه، ولو كان كافرا لم يغفر له ولم يرث ولم يورث
وأما الجواب عما احتج به من كفره من حديث جابر وبريدة ورواية ابن شقيق، فهو أن كل ذلك محمول على أنه شارك الكافر في بعض أحكامه وهو القتل، وهذا التأويل متعين للجمع بين نصوص الشرع وقواعده التي ذكرناها.." انتهى محل الغرض منه
[أضواء البيان - الشنقيطي (3/456)]
وبهذا يعلم أن الواجب هو الجمع بين نصوص الوعيد الواردة في القرآن والسنة الصحيحة التي استدل بها الخوارج والمعتزلة على تكفير مرتكبي الكبائر من مسلمي هذه الأمة، وبين نصوص الوعد التي استدل بها أهل السنة والجماعة...
وقد سلك هذا المسلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرهم من سلف هذه الأمة.
ومنهم حَبْر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة. ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)) كفر دون كفر" [الحاكم في المستدرك (2/342) رقم (3219) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"
ويمكن مراجعة التفاسير الآتية" تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/62) وجامع الأحكام للقرطبي (6/190) وما بعدها و تفسير البغوي (2/41) وفتح القدير للشوكاني (2/ 45) وأحكام القرآن للجصاص (4/93)]
قال شارح الطحاوية: "وهنا أمر يجب أن يتفطن له، وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملة.
وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة، ويكون كفرا إما مجازيا، وإما كفرا أصغر على القولين المذكورين، وذلك بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه أو استهان به مع تيقنه أنه حكم، الله فهذا كفر أكبر.
وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاص ويسمى كافرا كفرا مجازيا، أو كفرا أصغر.
وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه، فهذا مخطئ له أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور." [شرح الطحاوية (1/364)]
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "((ومن لم يحكم بما أنزل الله)) من الحق المبين، وحَكَمَ بالباطل الذي يعلمه لغرض
من أغراضه الفاسدة ((فأولئك هم الكافرون)) فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر، وقد يكون كفرا ينقل عن الملة وذلك إذا اعتقد حله وجوازه، وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب ومن أعمال الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد" [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/233)]
وينطبق هذا الجمع على ماورد من النصوص ظاهره كفر من ارتكب كبيرة ولم يتب منها، وما ورد ظاهره معارضا لها.
تَعَيُّنُ الجمع بين النصوص.
فيجب الجمع بين النصوص النافية للإيمان عن مرتكبي الكبائر، والنصوص المثبتة لإيمانهم.
مثل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جارُه بوائقَه) [صحيح البخاري (5/2240) رقم(5670) وصحيح مسلم (1/68) ورقم (46)
ومثله حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: (إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس) [صحيح مسلم (1/93) رقم (91)]
فقد نفى صلى الله عليه وسلم، عمن آذى جاره فخدعه أو خانه دخول الجنة، ونفى ذلك عمن كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولو حمل الحديثان على ظاهرهما – وهو عدم دخوله الجنة –لما كان بينهما وبين من يعبد الأوثان فرق، لاشتراكهم في الخلود في النار، وهو مذهب الخوارج والمعتزلة، وجهلة المغالين في التكفير ممن قد ينتسبون إلى أهل السنة، ولكان في ذلك إهدار لمعاني كل ما ورد من النصوص الدالة على غفران الله ذنوب من لقي الله لا يشرك به شيئا، والنصوص التي تضمنت خروج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان بشفاعة وبغير شفاعة.
ومثل نفيِ دخول الجنة عمن ارتكب كبيرة، نفْيُ الإيمان عنه كحديث ابي هريرة – أيضا – الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن.) [البخاري (2/875) رقم (2343) ومسلم (1/76)
فهذان الحديثان وغيرهما من الأحاديث التي نُفِيَ فيها الإيمانُ أو دخولُ الجنة عن مرتكبي الكبائر، يدل ظاهرها على سلب الإيمان عنهم، وسلب الإيمان يقتضي ظاهره إثبات الكفر المخرج لهم من الملة وعدم مغفرة الله لهم وخلود هم في النار...
والأخذ بظاهر هذين الحديثين وما في معناهما يلزم منه إهدار نصوص كثيرة من القرآن والسنة، وقد مضى ذكر بعضها في المسألة الثانية...(3/55)
ومنها حديث أبي ذر الصريح في أنه (ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة.)
وفيه كرر أبو ذر سؤاله للرسول صلى الله عليه وسلم "وإن زنى وإن سرق؟" ورسول الله يكرر له الجواب: (وإن زنى وإن سرق).
ولم ينته أبو ذر من ترديد سؤاله الذي أبدى فيه عجبه من نيل هذا العبد الذي يعصي ربه بالتعدي على حقوقه وحقوق عباده، هذه الرحمةَ العظيمة من خالقه، لم ينته أبو ذر من سؤاله، إلا بعد أكدت له هذه العبارة النبوية (على رغم أنف أبي ذر) أن تلك الهبة الربانية لمن مات على توحيد حقيقة، لا مرية فيها.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث:
"وفي الحديث أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار، وأن الكبائر لا تسلب اسم الإيمان، وأن غير الموحدين لا يدخلون الجنة.
والحكمة في الاقتصار على الزنا والسرقة الإشارة إلى حق الله تعالى وحق العباد.
وكأن أبا ذر استحضر قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...) لأن ظاهره معارض لظاهر هذا الخبر.
لكن الجمع بينهما على قواعد أهل السنة، بحمل هذا على الإيمان الكامل، وبحمل حديث الباب على عدم التخليد في النار" [فتح الباري (3/111)]
والإيمان الكامل المنفي هنا يجب حمله على الواجب منه، مثل نفيه صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لا يأمن جاره آذاه وخيانته، وليس الإيمان المندوب، مثل رد السلام الذي قام به غيره، ومثل الصلاة على الجنازة التي قام بالصلاة عليها سواه، فإن كلا منهما من الإيمان، فلإيمان غير الواجب إذا تركه المسلم لا ينفى عنه الإيمان، وإنما ينفى عمن ترك الإيمان الواجب.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وكل أهل السنة متفقون على أنه قد سلب كمال الإيمان الواجب، فزال بعض إيمانه الواجب لكنه من أهل الوعيد..." [مجموع الفتاوى (7/258)]
وفيما سلكه الراسخون في العلم الأمة نجاة
وإن فيما ذكر عن ابن عباس وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، مخرج من ورطة الخوارج والمعتزلة الذين أخذوا بظواهر بعض الأدلة وأهملوا غيرها، حيث قال في كفر من حكم يغير ما أنزل الله: "كفر دون كفر" وجملوا الكفر المخرج من الملة على من استحل الحكم بغير ما أنزل الله...
ومعلوم أن في مسلك المجتهدين الراسخين في العلم من سلف هذه الأمة قدوة للمجتهدين الذين جاءوا من بعدهم، لأن اجتهاد الأولين وعملهم بالدليل يزيده قوة، ولهذا لم يخرج عن اجتهادهم في الحكم بالكفر المخرج من الملة على العصاة، إلا من فقد الاجتهاد، أو اتبع هواه كالخوارج والمعتزلة.
قال الشاطبي رحمه الله: "ولكن المخالف على ضربين:
أحدهما أن يكون من أهل الاجتهاد، فلا يخلو أن يبلغ في اجتهاده غاية الوسع أولا.
فإن كان كذلك فلا حرج عليه وهو مأجور على كل حال، وإن لم يُعطِ الاجتهادَ حقَّه وقصر فيه، فهو آثم حسبما بينه أهل الأصول.
والثاني أن لا يكون من أهل الاجتهاد، وإنما أدخل نفسه فيه غلطا أو مغالطة، إذ لم يشهد له بالاستحقاق أهل الرتبة ولا رأوه أهلا للدخول معهم فهذا مذموم
وقلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا من أهل هذا القسم، لأن المجتهدين وإن اختلفوا في الأمر العام في المسائل التي اختلفوا فيها، لا يختلفون إلا فيما اختلف فيه الأولون أوفى مسألة موارد الظنون لا ذكر لهم فيها.
فالأول يلزم منه اختلاف الأولين في العمل، والثاني يلزم منه الجريان على ما ورد فيه عمل" [الموافقات (3/76)]
نخلص من كل ما مضى في هذه المسألة إلى أمور أربعة:
الأمر الأول: تعين الجمع حيث أمكن بين الأدلة التي قد يظهر منها التعارض عند بعض المجتهدين.
الأمر الثاني: أنه لا يجوز لغير المجتهدين المحققين إدخال أنفسهم في ميادين الاجتهاد، لأنهم ليسوا من أهله.
الأمر الثالث: أنه لا يجوز لأحد إخراج أحد من ملة الإسلام تحقق دخوله فيها إلا بدليل قطعي فيه من الله برهان.
الأمر الرابع: أن عامة من حكموا على أهل المعاصي بالكفر أو الخلود في النار، هم من أهل الأهواء أو ممن ليسوا أهلا الاجتهاد.
المنافقون وأقسامهم وحكمهم
قد يشكل على أهل الغلو في التكفير ما يظهر من قرائن تدل على كفر من يدعي الإسلام، كمن يعارض تطبيق بعض أحكام الشريعة، أو نصر أهل الكفر على أهل الإسلام، أو تثبيط المسلمين عن جهاد أعدائهم الكفار، أو السخرية من علماء المسلمين الذين يدعون إلى تطبيق الإسلام...
والجواب على هذا الإشكال أن من ظهرت منه القرائن التي تدل على كفره كما في الأمثلة السابقة، مع ادعائه أنه باق على الإسلام، هو من أهل النفاق الاعتقادي المخرج من الملة.
وكفرا لمنافقين أعظم وأشد من كفر من صرح بالكفر، لأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، ولكن إظهارهم الإسلام يجعلهم يأخذون أحكام المسلمين في الدنيا، فيصلون صلاتهم ويحجون حجهم ويزكون زكاتهم، ويتزوجون نساء المسلمين، ويتزوج المسلمون نساءهم، ويخرجون للجهاد مع المسلمين، وتقام عليهم الحدود والقصاص، ويقتص لهم من المسلمين...
وهذا المعنى واضح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته المطهرة...
صفات المنافقين في القرآن تدل على كفرهم.
والذي يتابع الآيات التي نزلت في المنافقين، وما جبلوا عليه من ادعاء الإيمان وهم كافرون، وادعاء الإصلاح وهم مفسدون، والاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ووصفهم بالصفات التي هم بها متلبسون، وموالاة أعداء الله الكافرين على أوليائه المؤمنين...
الذي يتابع تلك الآيات يتبين خطرهم وتأكيد شدة كفرهم، وهي كثيرة جدا مبثوثة في كثير من سور القرآن الكريم، وبخاصة السور الآتية:
[البقرة ، آل عمران، النساء، الأنفال، التوبة، الأحزاب، محمد، الفتح، الحديد، المنافقون](3/56)
وسنقتصر على ذكر بعض تلك الآيات، وندعها تتحدث إلى القارئ عن هذا الصنف الخطير من الكافرين.
قال تعالى: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16))) [البقرة]
وقال تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (62) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63))) [النساء]
وقال تعالى: ((يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68))) [التوبة]
وقال تعالى: ((هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12))) [الأحزاب]
وقال تعالى:((أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) [الحشر (11)]
وقال تعالى: ((إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8))) [المنافقون]
كيف عامل الرسول هذا الصنف من الكفار؟
لقد عامل الرسول صلى الله عليه وسلم، المنافقين الذين كان كفرهم أشد من الكفار الصرحاء، معاملة المسلمين في أحكام الدنيا، فلم يفرق بينهم وبين غيرهم من صحابته رضي الله عنهم، على رغم أن سيرتهم كانت دالة دلالة لا لبس فيها أنهم يكفرون بالله ورسوله وباليوم الآخر، ولم يكونوا مؤمنين مطلقا.
وبهذا يعلم أن من أظهر الإسلام ودلت القرائن على كفره، لا يعامل معاملة الكفار حتى يكون كفره صريحا...(3/57)
وقد كان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتخذون ما يبدو لهم من القرائن الدالة على خيانة بعض الأشخاص ممن أظهروا إسلامهم حجة على عدم إيمانهم، ويستأذنونه في قتلهم ويصفونهم بالمنافقين لما يظهر لهم من أن نفاقهم نفاق اعتقادي أي إنهم كفار وليسوا بمسلمين.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم، يدافع عمن عرف صدقه وإيمانه ويقبل عذره ويذكر ما له من فضائل، كما في قصة "حاطب بن أبي بلتعة" رضي الله عنه، الذي كشف في رسالة له سر رسول الله صلى الله عليه وسلم من عزمه على فتح مكة أرسلها إليهم مع امرأة، وكان صلى الله عليه وسلم قد أخفاه ليهاجم قريشا قبل أن يستعدوا لقتاله.
وأظهر الله أمره قبل أن تصل رسالة حاطب إلى قريش، فبعث عليا والزبير والمقداد، فأدركوا المرأة وأخذوا الرسالة منها، وسلموها للرسول صلى الله عليه وسلم، فأنكر على حاطب فعله، فاعتذر حاطب بأنه أراد أن يتخذ عند قريش يدا يحمي بها قرابته التي لا يوجد من يحميهم كبقية قرابات قريش ونفى عن نفسه الارتداد عن الإسلام...
فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) [صحيح البخاري (4/1557) رقم (4025)
فكأن عمر رضي الله عنه، فهم أن حاطبا رضي الله عنه يظهر الإسلام ويبطن الكفر، لأن ما فعله لا يصدر من مسلم يؤمن بالله ورسوله، وهو قرينة على كان منافقا في إسلامه... ولم يقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، بل أثنى على حاطب وعذره. وقد روى قصة حاطب بطولها الإمام البخاري وغيره كما سبق، وذكرها المفسرون في تفسير سورة الممتحنة.
وكذلك أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من رمى " مالك بن الدخشن" بالنفاق، واستدل على ذلك بقرينة وهي نصحه للمنافقين، أي لمصلحتهم.
كما في قصة صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكان من بيت عتبان بن مالك ليتخذه مسجدا، التي رواها محمود بن الربيع رضي الله عنه... قال قائل ممن اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين مالك بن الدخيشن أو بن الدخشن؟ فقال بعضهم ذلك منافق لا يحب الله ورسوله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقل ذلك ألا تراه قد قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله) قال: الله ورسوله أعلم، قال فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) [صحيح البخاري (1/164) رقم (415) وصحيح مسلم (1/61) رقم (33)]
أما من دلت القرائن على نفاقه ولم يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم صدقه، بل قد يترجح له أنه منافق فعلا، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يدافع عنه ولا يثني عليه، ولكنه لا يقر أحدا على قتله، ويعلل ذلك بأنه قد أظهر للناس أنه من المسلمين، والإسلام يعصم دماء من أظهره وماله، فإذا إذن في قتله ظن الناس أن محمدا يقتل من آمن به...
كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كنا في غزاة... فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين!
فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما بال دعوى جاهلية)؟
قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار. فقال: (دعوها فإنها منتنة)
فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق!
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) [صحيح البخاري (4/1861) رقم (4622) وصحيح مسلم (4/1998) رقم (2584)]
ويؤخذ مما سبق الأمور الآتية:
الأمر الأول: أن المنافق نفاقا اعتقاديا يعتبر كافرا في الواقع.
الأمر الثاني: أنه لا يعامل في أحكام الدنيا معاملة الكفار، بل معاملة المسلمين، لأنه قد عصم دمه وما له بإعلان إسلامه، وتلك هي الجنة التي ذكرها الله تعالى في كتابه: ((اتخذوا أيمانهم جنة)) [الممتحنة (16)]
فإذا ظهر من المنافقين ما يدل على الكفر والردة عن الإسلام، أقسموا الأيمان المغلظة على أنهم مؤمنون، فيتحصنون بذلك من حكم المرتد.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: ((اتخذوا أيمانهم جنة)) "يعني والله أعلم من القتل، فمنعهم من القتل، ولم يُزِل عنهم في الدنيا أحكام الإيمان بما أظهروا منه، وأوجب لهم الدرك الأسفل من النار، بعلمه بسرائرهم وخلافها لعلانيتهم بالإيمان" [أحكام القرآن (1/299- 300)]
الأمر الثالث: جهل من يستحلون دماء وأموال من يظهرون الإسلام فيصلون ويصومون ويحجون، بحجة أنهم معارضتهم لتطبيق شرع الله، مع أن هؤلاء يسلكون سبيل المنافقين في اتخاذهم إظهار الإسلام جنة يتحصنون به من اتهامهم بالكفر...
ومن عجب أن هؤلاء المستحلين لدماء وأموال من يظهر الإسلام ويسلك سبيل المنافقين، ليسوا حكاما للبلدان الإسلامية، بل هم أفراد أو جماعات ليسوا أهل حل ولا عقد، ومع مخالفتهم للرسول صلى الله عليه وسلم في أصل الحكم، وهو معاملة من أظهر الإسلام ودلت القرائن على كفره معاملة المسلم في أحكام الدنيا، هم يخالفونه كذلك ويخالفون جماهير علماء الأمة قديما وحديثا في توليهم تنفيذ قتل من لا يشرع قتله، فأحدثوا بذلك على الأمة الإسلامية من الأضرار ما الله به عليم.
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يتلقى الوحي من الله، وكان ولي أمر المسلمين في عهده، لم يقتل المنافقين ولم يأذن بقتلهم، فكيف يستحل غيره قتل من شابه أولئك المنافقين؟(3/58)
وقد يكون بعض من تظهر عليهم قرائن النفاق، ليس نفاقهم نفاقا عَقَدِيا، بل قد يصدر ذلك منهم عن جهل أو تأويل، وقد يرجعون عن ذلك إذا أقيمت عليهم الحجة...
رأي الإمام الشافعي في المنافقين
وقد بين الإمام الشافعي رحمه الله أن المنافقين لا يدخلون في أحكام المرتدين، مع شدة كفرهم، بل تجري عليهم في الدنيا أحكام المسلمين، واستدل على ذلك بأدلة من القرآن والسنة، ومما قاله فذلك ما يأتي:
" قال الشافعي رحمه الله: "قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)) إلى ((يفقهون)).
قال الشافعي: فبين أن إظهار الإيمان ممن لم يزل مشركا حتى أظهر الإيمان، وممن أظهر الإيمان ثم أشرك بعد إظهاره ثم أظهر الإيمان، مانع لدم من أظهره في أي هذين الحالين كان، وإلى أي كفر صار كفر يسره أو كفر يظهره، وذلك أنه لم يكن للمنافقين دين يظهر كظهور الدين الذي له أعياد وإتيان كنائس، إنما كان كفر جحد وتعطيل.
وذلك بين في كتاب الله عز وجل ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن الله عز وجل أخبر عن المنافقين بأنهم اتخذوا أيمانهم جنة، يعني والله أعلم من القتل، ثم أخبر بالوجه الذي اتخذوا به أيمانهم جنة فقال: ((ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا..))
فأخبر عنهم بأنهم آمنوا ثم كفروا بعد الإيمان كفرا، إذا سئلوا عنه أنكروه وأظهروا الإيمان وأقروا به وأظهروا التوبة منه، وهم مقيمون فيما بينهم وبين الله على الكفر، قال الله جل ثناؤه ((يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم)).
فأخبر بكفرهم وجَحْدهم وكذب سرائرهم، وذكر كفرهم في غير آية، وسماهم بالنفاق إذ أظهروا الإيمان وكانوا على غيره، قال جل وعز: ((إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا))
فأخبر عز وجل عن المنافقين بالكفر، وحكم فيهم بعلمه من أسرار خلقه ما لا يعلمه غيره، بأنهم في الدرك الأسفل من النار، وأنهم كاذبون بأيمانهم، وحكم فيهم جل ثناؤه في الدنيا بأن ما أظهروا من الإيمان، وإن كانوا به كاذبين، لهم جنة من القتل وهم المسرون الكفر المظهرون الإيمان.
وبين على لسانه صلى الله عليه وسلم، مثل ما أنزل في كتابه من أن إظهار القول بالإيمان جنة من القتل أقر من شُهِد عليه [بالكفر] بالإيمان بعد الكفر أو لم يقر، إذا أظهر الإيمان فإظهاره مانع من القتل.
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا حقن الله تعالى دماء من أظهر الإيمان بعد الكفر، أن لهم حكم المسلمين من الموارثة والمناكحة وغير ذلك من أحكام المسلمين.
فكان بينا في حكم الله عز وجل في المنافقين ثم حكم رسوله صلى الله عليه وسلم، أن ليس لأحد أن يحكم على أحد بخلاف ما أظهر من نفسه، وأن الله عز وجل إنما جعل للعباد الحكم على ما أظهر، لأن أحدا منهم لا يعلم ما غاب إلا ما علمه الله عز وجل، فوجب على من عقل عن الله أن يجعل الظنون كلها في الأحكام معطلة فلا يحكم على أحد بظن وهكذا دلالة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت لا تختلف "
وقال في موضع آخر:
"قال الشافعي: "وأخبر الله جل ثناؤه عن المنافقين في عدد آي من كتابه بإظهار الإيمان والاستسرار بالشرك، وأخبرنا بأن قد جزاهم بعلمه عنهم بالدرك الأسفل من النار، فقال: ((إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا))
فأعلم أن حكمهم في الآخرة النار بعلمه أسرارهم، وأن حكمه عليهم في الدنيا إن أظهروا الإيمان جُنَّة لهم، وأخبر عن طائفة غيرهم فقال: ((وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا))
وهذه حكاية عنهم وعن الطائفة معهم، مع ما حكي من كفر المنافقين منفردا، وحكي من أن الإيمان لم يدخل قلوب من حكي من الأعراب.
وكل من حقن دمه في الدنيا بما أظهر مما يعلم جل ثناؤه خلافه من شركهم، لأنه أبان أنه لم يول الحكم على السرائر غيره، وأن قد ولي نبيه الحكم على الظاهر وعاشرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقتل منهم أحدا ولم يحبسه ولم يعاقبه ولم يمنعه سهمه في الإسلام إذا حضر القتال، ولا مناكحة المؤمنين وموارثتهم والصلاة على موتاهم وجميع حكم الإسلام وهؤلاء من المنافقين" [الأم (6/157 – (6/166)]
قلت: قد يشكل على ما سبق من تطبيق أحكام الإسلام على المنافقين، كما تطبق على غيرهم من المسلمين، نَهيُ الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليهم بعد أن صلى على رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول، كما قال تعالى: ((وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ)) [التوبة ((84))]
كما حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: "لما مات عبد الله بن أبي بن سلول، دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت إليه، فقلت: يا رسول الله! أتصلي على بن أبي وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا أعدد عليه قوله.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (أخر عني يا عمر) فلما أكثرت عليه، قال: (إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها)
قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة: ((ولا تصل على أحد منهم مات أبد)) إلى ((وهم فاسقون))
قال فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ والله ورسوله أعلم" [صحيح البخاري (1/459) رقم (1300) ورواه من حديث عبد الله ابن عمر بلفظ آخر (1/ص427) رقم (1210) وهو صحيح مسلم (4/ 1865) رقم (2400)](3/59)
وقد أجاب الشافعي رحمه الله على هذا الإشكال، بقوله في تفسير الآية:
"فأما أمره أن لا يصلي عليهم، فإن صلاته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم مخالفة صلاة غيره، وأرجو أن يكون قضى إذ أمره بترك الصلاة على المنافقين، أن لا يصلي على أحد إلا غفر له، وقضى أن لا يغفر لمقيم على شرك، فنهاه عن الصلاة على من لا يغفر له
قال الشافعي ولم يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليهم مسلما ولم يقتل منهم بعد هذا أحدا" [أحكام القرآن للشافعي (1/297)]
وتوسع في الجواب على هذا الإشكال في "الأم" :
"فإن قال قائل فإن الله عز وجل قال: ((ولا تصل على أحد منهم مات أبدا)) إلى قوله: ((فاسقون))؟
فإن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفة صلاة المسلمين سواه، لأنا نرجو أن لا يصلى على أحد إلا صلى الله عليه ورحمه، وقد قضى الله إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا.
وقال جل ثناؤه: ((استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم))
فإن قال قائل: ما دل علي الفرق بين صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نهى عنهم، وصلاة المسلمين غيره؟
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى عن الصلاة عليهم بنهى الله له، ولم ينه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها، ولا عن مواريثهم...
قال الشافعي: وقد عاشروا أبا بكر وعمر وعثمان أئمة الهدي وهم يعرفون بعضهم، فلم يقتلوا منهم أحدا، ولم يمنعوه حكم الإسلام في الظاهر، إذ كانوا يظهرون الإسلام.
وكان عمر يمر بحذيفة بن اليمان إذا مات ميت، فإن أشار عليه أن اجلس جلس واستدل على أنه منافق، ولم يمنع من الصلاة عليه مسلما، وإنما يجلس عمر عن الصلاة عليه لأن الجلوس عن الصلاة عليه، مباح له في غير المنافق إذا كان لهم من يصلي عليهم سواه..." [الأم (1/259- 260)]
وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن النهي عن الصلاة على المنافقين، كان في عدد معين منهم، قال:
"ظاهر الآية أنها نزلت في جميع المنافقين، لكن ورد ما يدل على أنها نزلت في عدد معين منهم، قال الواقدي: أنبأنا معمر عن الزهري قال قَال: حذيفة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني مسر إليك سرا فلا تذكره لأحد، إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان رهط ذوي عدد من المنافقين" [فتح الباري فتح الباري (8/387-338)]
وبهذا يتضح أن الأصل بقاء تطبيق أحكام الإسلام على كل من أظهر الإسلام منهم، ولو ظهرت على بعضهم علامات النفاق، وأن النهي عن الصلاة عليهم خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه المسلمين عن الصلاة عليهم، وأن الصحابة استمروا في الصلاة عليهم، وأن عمر رضي الله عنه الذي قال لرسول صلى الله عليه وسلم عندما أراد الصلاة على ابن أبي.
حكم إسناد الولايات العامة للمنافقين.
سبق أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاشر المنافقين كما عاشر عامة المسلمين في أحكام الدنيا، ولكنه لم يأتمن أحدا منهم – فيما أعلم - على مصالح الأمة في وظائفهم العامة، فلم يسند إليهم جباية الأموال، ولا الإمارة في الحرب، ولا القضاء بين الناس، ولا إمامتهم في الصلاة، ولا غيرها من الولايات التي يتمكنون بها من تدبير شئون المسلمين.
والسبب في ذلك أنهم يكفرون بالله ورسوله، ويحاربون الله ورسوله والمؤمنين، يضاف إلى ذلك فقدهم الأمانة التي هي أحد أسس الولايات على المسلمين.
والأمانة مطلب أساسي عند المسلم وغير المسلم، فقد أغرت فتاة مدين أباها الصالح باستئجار موسى عليه السلام، بصفتين عظيمتين يقل في كثير من الناس اجتماعهما:
الصفة الأول: الأمانة.
والصفة الثانية: القوة.
كما قال تعالى عنها: ((قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ)) [القصص (26)]
وكانت الأمانة من أعظم الصفات التي جعلت ملك مصر، وهو غير مسلم، يمكين يوسف عليه السلام من الولاية على أهم الوظائف في عهده، وهي "خزائن الأرض" كما قال تعالى:
((وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)))
لقد أكَّد الله سبحانه وتعالى فرض أداء الأمانات إلى أهلها، فقال: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)) [النساء:(58)].
قال القرطبي رحمه الله:
"هذه الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرع".
ثم ذكر الخلاف في المراد بالمخاطب بها، ورجح العموم فقال:
"والأظهر أنها عامة في جميع الناس، فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات، وتتناول من دونهم ". إلى أن قال: "فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة". [الجامع لأحكام القرآن (5/255ـ257)].
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن إضاعة الأمانة من علامات الساعة، وأن من أبرز إضاعتها إسناد الأمور إلى غير أهلها، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: (إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). [البخاري (7/188)].(3/60)
وأثني صلى الله عليه وسلم على الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة به نفسه، وجعله أحد المتصدقين، مع أن المال الذي تصدق منه ليس ملكا له وإنما هو خازن فقط، فلما كان والياً لخزانته وأدى حقوق الناس في ولايته طيبة نفسه بما أدى، استحق ذلك التكريم لأمانته.
روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة نفسه أحد المتصدقين). [البخاري (3/47-48) ومسلم (2/710)].
وأثنى صلى الله عليه وسلم على أبي عبيدة بن الجراح بأمانته، كما روى ذلك أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه قال: (لكل أمة أمين، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح). [البخاري (4/216)].
وعندما أراد صلى الله عليه وسلم بعث أبى عبيدة هذا إلى أهل نجران، ذكر أبرز مؤهلاته لهذا الاختيار، وهي الأمانة التي أشرف لها أصحابه رضي الله عنهم لينالوا شرفها..
روى حذيفة رضي الله عنه قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: (لأبعثن عليكم أميناً حق أمين، فأشرف أصحابه، فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه). [المرجع السابق..].
وأثني صلى الله عليه وسلم على الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة به نفسه، وجعله أحد المتصدقين، مع أن المال الذي تصدق منه ليس ملكه وإنما هو خازن فقط، فلما كان والياً لخزانته وأدى حقوق الناس في ولايته طيبة نفسه بما أدى، استحق ذلك التكريم لأمانته.
روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة نفسه أحد المتصدقين). [البخاري (3/47-48) ومسلم (2/710)].
وأثنى صلى الله عليه وسلم على أبي عبيدة بن الجراح بأمانته، كما روى ذلك أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه قال: (لكل أمة أمين، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح). [البخاري (4/216)].
وعندما أراد صلى الله عليه وسلم بعث أبى عبيدة هذا إلى أهل نجران، ذكر أبرز مؤهلاته لهذا الاختيار، وهي الأمانة التي أشرف لها أصحابه رضي الله عنهم لينالوا شرفها..
روى حذيفة رضي الله عنه قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: (لأبعثن عليكم أميناً حق أمين، فأشرف أصحابه، فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه). [المرجع السابق..].
والذي لا يتصف بالأمانة يكون متصفاً بضدها وهي الخيانة، والخيانة من علامات النفاق، والمنافق ليس كفؤاً لولاية أمور المسلمين.
ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، يعامل المنافقين معاملة سائر المسلمين بحسب ظواهره، ولكنه لم يكن يسند إليهم ولاية شئون أمته، لأنه قد وصفهم بالخيانة على ما يؤتمنون عليه.
روى أبو هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (آية المنافق ثلاث..)، وفيها: (وإذا اؤتمن خان). [البخاري (1/14) ومسلم (1/78)].
وقد عَرَّف صلى الله عليه وسلم المؤمن بأنه الذي يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم، ونفى كمال الإيمان الواجب عمن خان أمانته، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال قَال رسول الله :
(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم) [سنن الترمذي، برقم (2627) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال قَال رسول الله (المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السوء، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه) [المستدرك على الصحيحين، برقم (25) وقال: "وزيادة أخرى صحيحة سليمة من رواية المجروحين في متن هذا الحديث ولم يخرجاها"
وأقسم صلى الله عليه وسلم على نفي هذا الإيمان عمن خان جاره، فلم يأمن شروره ومفاسده، كما عن أبي شريح [وأبي هريرة رضي الله عنهما، أن النبي قال:
(والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن) قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه) [صحيح البخاري، برقم (5670) وصحيح مسلم، برقم (46)]
ومعنى هذه الأحاديث أن الإيمان الصادق إنما يظهر للناس من معاملة صاحبه لهم، و من أبرز الأدلة على صدق إيمانه أن يأمنوه على دمائهم وأموالهم وأسرارهم، فلا يخون أمانته، وليست دعوى الإنسان الإيمان كافية على صدق إيمانه.
والمنافقون يفقدون الصدق كما يفقدون الأمانة، كما قال الله تعالى عنهم:
((أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) [الحشر (11)]
وقال تعالى: ((إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)]
والخائن الكاذب المخادع، لا يجوز أن يأمنه الناس على تدبير مصالحهم ولا أسرارهم، لأنه كما سبق لا يضمر للمسلمين إلا الشر والكيد، وهم أولياء لإخوانهم الكفار ينصرونهم على المسلمين، يتجسسون لهم عليهم، فلا يحل لوال مسلم أن يسند إلى المنافقين أي ولاية يحصل منهم بها ضرر المسلمين.
الإنكار على ما يقترفه المنافقون في ولاياتهم(3/61)
فالأصل عدم تولية المنافقين على شئون المسلمين، لأنهم غير مؤتمنين على تدبير شئونهم، ولكن إذا ما ابتلي المسلمون بولاية المنافقين عليهم مكرهين، بأن قويت شوكتهم فاغتصبوا الأمر بدون رضاهم، أو تحالفوا مع الكفار من اليهود والنصارى والوثنيين، فمكنوهم من السيطرة على الشعوب الإسلامية.
فالواجب على المسلمين أن ينكروا عليهم ما يخالفون فيه كتاب الله وسنة رسوله، بحسب مراتب المخالفة ومراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع مراعاة المصالح والمفاسد في الأمر والنهي.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاعدة من أهم قواعد الإسلام التي لا يجوز التقصير فيها، وهي من فروض الكفاية التي إذا تركت أثم كل قادر على القيام بها من الأمة الإسلامية، حتى يوجد من يقوم بها قياما كافيا.
وكون مرتكب الكفر المعين لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة، لا يبيح للمسلمين السكوت عنه وإشعاره بأنه مسلم، بل إن ذلك يوجب عليهم، أن يبينوا له أن الكفر يخرج صاحبه بعد إقامة الحجة عليه من الملة، و أن صاحبه مخلد في النار إذا مات عليه.
ومن أمثلة ذلك إنكار ما علم من الدين بالضرورة وجوبه، كاعتقاد تحكيم شرع الله والحكم به، وهو كثير في أبواب الفقه الإسلامي، ومنه أركان الإسلام، وإقامة الحدود، وتقسيم الميراث بين الورثة كما نزل بها القرآن.
وكذلك استحلال ما علم من الدين بالضرورى تحريمه، كشرب المسكر وأكل الميتة والزنا ...
فكل ذلك يجب على المسلمين وبخاصة العلماء إنكاره وبيانه لمن اتصف به، فإذا أنكروه وبينوه وقامت الحجة على صاحبه ولم يؤب إلى الله ويستسلم لحكمه أصبح بعينه مستحق للتكفير...
ويجب أن يعلم أنه كلما كانت المخالفة أشد كان وجوب الإنكار أعظم، وكلما كانت القدرة على إنكار المنكر أقوى كان وجوبه أشد، وكلما كانت مصالح الأمر والنهي أكثر من مفاسدهما، كانا أوجب.
ومعرفة تحقق هذه الأمور والموازنة بينهما تعود إلى أهل الحل والعقد، من علماء الأمة وعقلائها وأعيانها وذوي التخصصات المتنوعة فيها.
وليس ذلك إلى غوغاء الناس وجهالها وسفهائها وذوي العواطف غير المنضبطة الذين يضرون الأمة أكثر مما ينفعونها.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وَجِمَاعُ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي "الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ": فِيمَا إذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ، وَالْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ أَوْ تَزَاحَمَتْ ; فَإِنَّهُ يَجِبُ تَرْجِيحُ الرَّاجِحِ مِنْهَا فِيمَا إذَا ازْدَحَمَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ، وَتَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ.
فَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ وَدَفْعِ مَفْسَدَةٍ، فَيُنْظَرُ فِي الْمُعَارِضِ لَهُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَفُوتُ مِنْ الْمَصَالِحِ أَوْ يَحْصُلُ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَكْثَرَ، لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ; بَلْ يَكُونُ مُحَرَّمًا إذَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ" [مجموع الفتاوى(28/129)]
وذكر ابن القيم رحمه الله: أن لإنكار المنكر أربع درجات، فقال:
"فإنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الأوليان مشروعتان
والثالثة موضع اجتهاد
والرابعة محرمة" [إعلام الموقعين (3/4)]
أسباب الإطالة في معنى الكفر والنفاق
لقد أطلت الكلام في معنى الكفر والتكفير والنفاق وبيان خطرهما.
وترجع هذه الإطالة إلى اٍلأسباب الآتية
السبب الأول: بروز جماعات وأفراد من شباب المسلمين المتحمسين لهذا الدين، الذين هيَّجت عواطفَهم وألهبت مشاعرَهم، محاربةُ غالب حكومات الشعوب الإسلامية لتطبيق شريعتهم في حياة أمتهم، متواطئين في ذلك مع أعداء الإسلام من غير المسلمين.
فرأوا تطبيق القوانين الوضعية التي يخالف غالبها كتاب الله وسنة رسوله، ورأوا انتشار الظلم وانزوراء العدل، كما رأوا اختفاء كثير من الأخلاق الإسلامية، وسيطرة كثير من الأخلاق الفاسدة، ورأوا ارتكاب الكبائر واستباحة المحرمات، ورأوا إهانة دعاة الإسلام وعلماء الأمة والزج بهم في السجون والمعتقلات والمنافي.
بل رأوا قتل كثير منهم بغير جرم ارتكبوه إلا أن يدعوا الناس إلى تطبيق معنى "لا إله إلا الله" ورأوا الأعداء يحتلون أرضهم وينتهكون أعراضهم، ورأوا فريضة الجهاد معطلة في وقت اشتدت حاجة الأمة إليه... ورأوا سكوت كثير من علماء الأمة عن مناصحة من بيدهم زمام أمور الشعوب الإسلامية ومقاليدها.
ورأوا الواقع العملي في الجهاد الأفغاني يؤيد ما جاء به وحي الله من الكتاب والسنة، من وجوب إعداد العدة لجهاد أعداء الله الكافرين المعتدين، وأنه لا مخرج من عدوان المعتدين إلا بذلك.
فلم تطق هذه الجماعات وهؤلاء الأفراد الصبر على بقاء هذه المآسي في هذه الأمة، فلجئوا إلى التسلح بسلاحين خطيرين:
السلاح الأول: سلاح العقيدة والفكر.
السلاح الثاني: سلاح القوة والتنفيذ
أما سلاح العقيدة والفكر، فقد تمثل في اعتقاد كفر حكومات الشعوب الإسلامية إجمالا وتفصيلا كفرا مخرجا من ملة الإسلام، وأعني بالإجمال أن حكومةَ دولةٍ مّا من تلك الحكومات كافرة، وأعني بالتفصيل أن كل فرد بعينه وباسمه كافر ...
بل إن بعض تلك الجماعات حكمت بالكفر على كل موظفي الدولة ومنهم العلماء الذين سموهم بـ(علماء السلطة) بحجة أنهم يوالون الحكام ويعينونهم على كفرهم، بل إن بعضهم كفروا الشعوب بحجة أنهم ساكتون عن كفر الحكومات راضون به...(3/62)
ولهذا وجدت جماعات كثيرة تعتقد هذا الاعتقاد في غالب البلدان الإسلامية، مع الاحتلاف في قلة تلك الجماعات وكثرتها في كل بلد منها، وقد بدأت بعض هذه الجماعات في مراجعة مواقفها والرجوع عن اعتقادها الذي ترتبت عليه آثار خطيرة مشروعة.
وأما سلاح القوة والتنفيذ، فهو حمل السلاح واستحلال قتل من اعتقدوا كفره، من الحكام والموظفين والشعوب...
وترتب على ذلك ما ترتب من إزهاق لأرواح المسلمين في بلدانهم وهدم لمنشآتهم وإهدار لأموالهم، بل إن بعضهم اجترؤوا على سبي لفتيات مسلمات في بعض البلدان...
السبب الثاني: أن هؤلاء الشباب وتلك الجماعات رتبوا على تكفير من خالفهم في رأيهم وعدم اعتبار رأيه ومواقفه، ورأوا خلو البلدان الإسلامية من جهة تطاع أو تستشار.
ورأوا أن الجهاد في سبيل الله الذي فرضه الله على عباده، قد عطل ونكست رايته، حتى احتل الكفار بعض بلدان المسلمين أو سيطروا على حكامها الذين أصبحوا ينفذون في الشعوب الإسلامية ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله...
فرتبوا على ذلك أنه يجب عليهم القيام بهذه الفريضة فاتجهوا إلى التدريب القتالي وحيازة السلاح والقيام بغزو بلاد الكفار، وهو ما يسمى بـ(جهاد الطلب) الذي يباح فيه قتل الكفار وإفساد أموالهم وتخريب ديارهم إذا تعينت المصلحة في ذلك، وقتل غير المقاتلين إذا تترس بهم المقاتلون.
واعتبروا أن القدرة المشروعة هي تلك القدرة التي توفرت لهم، من مال وتدريب وحمل سلاح واستعماله، ولم يفكروا فيما يترتب على تدبيرهم من عواقب وخيمة على الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، حيث إنهم يفقدون القدرة على حماية تلك الأمة من عواقب تدبيرهم...
وقد سبق الكلام على وجوب الموازنة بين المصالح والمفاسد وتقديم أعلى المصلحتين إن لم يمكن الجمع بينهما، وترك أعظم المفسدتين إن لم يمكن تركهما جميعا.
السبب الثالث: مرور صاحب هذا البحث بتجربة خطيرة، يرى شباب المسلمين اليوم يمرون بها، ورأى أن الواجب عليه نقل تجربته إليهم ليتعظوا بها.
نعم لقد بدأت هذه التجربة سنة (1374هـ - 1954م) ولم يتضح له خطرها اتضاحا كاملا، إلا سنة (1383هـ - 1964م) يعني أن التجربة استمرت عشرة أعوام تقريبا.
فما هي تلك التجربة وكيف تبين لصاحبها خطرها والخطأ فيها؟
أولا: التجربة:
معلوم ما كان عليه غالب أهل اليمن في تلك الفترة من جهل عام شامل: عام في أصول الدين وفروعه، وشامل لغالب الشعب... ولست بصدد التفصيل في ذينكم الأمرين، وإنما أذكر ما يتعلق بالتجربة...
كان الناس يتبركون بالقبور، وبخاصة قبور آبائي وأجدادي، وكانوا يستغيثون بالموتى ويدعونهم من دون الله ويطلبون منهم ما لا يطلب إلا من الله، كطلب المرأة العاقر من الميت أن يرزقها الولد، وكانوا يذبحون للموتى الذبائح يطلبون منهم نزول الغيث عند الجدب...
وعندما بدأت طلب العلم في قرية "صامطة" في جنوب غرب المملكة العربية السعودية، عرفت أن كثيرا من تلك الأمور من الشرك الأكبر المخرج من الملة، ولم أعلم أنه لا يجوز تكفير المعين إلا بعد إقامة الحجة عليه.
فاعتقدت كفر المسلمين هناك، وأول من شمله تكفيري أسرتي، اعتقدت كفر أبي الذي مات وأنا حمل، واعتقدت كفر أمي التي توفيت وأنا صغير، واعتقدت كفر إخواني الذين كاد أحدهم يقتلني، وحرمت أكل ذبائح كل الناس الذين لم يعلنوا إسلامهم من جديد ويكفروا بما كانوا يعتقدون.
ثم ألفت منظومة، وكتبت عليها تعليقات من بعض كتب التوحيد، وسميتها "بهجة القلوب في توحيد علام الغيوب" ذكرت فيها تلك الأعمال الشركية وكفرت أشخاصا بأعيانهم ذكرتهم في المنظومة بأسمائهم، وقد طبعت ووزعت في غالب قرى اليمن، وبخاصة بلدان تهامة....
كيف تبين لي خطر التجربة وخطؤها؟
كنت قبل مجيئي إلى الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية، قد تمكنت من قراءة ما نشر من كتب علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، ومنها كتابه "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" وكان كثيرا ما يذكر في كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه وينقل كلامه، وتأثرت بأسلوب الرجل لسهولته واعتداله... ولكني لا أذكر شيئا علق بذهني من تلك القراءة في التكفير...
وعندما جئت درست في الجامعة الإسلامية وجدت في شرح كتاب الطحاوية ما يخالف ما كنت أراه، فسألت أستاذنا الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني رحمه الله، فقال: إن الكافر المعين الذي لم يدخل في الإسلام ويعلن إسلامه، نطبق عليه أحكام الكفر كلها في الدنيا، ولكنا لا نحكم عليه بجنة ولا نار في الآخرة وندع أمره إلى ربه، لأنا لسنا مكلفين بالحكم على الناس في الآخرة...
وطال الحوار بيني وبينه رحمه الله، وكان يمتاز عن كثير من الأساتذة باللطف و الصبر والحوار، قوي الحجة في الإقناع...فأقنعني بأنه لا يجوز تكفير المعين قبل إقامة الحجة عليه ولو أتى ما هو كفر، ولا يجوز الحكم على معين بأنه مخلد في النار، كما لا يحكم لأحد بأنه من أهل الجنة إلا إذا قام الدليل على ذلك...
ونصحني بالإكثار من قراءة كتب ابن تيمية رحمه الله، فنفذت نصيحته... وقرأت بعد أن انتهيت من دراسة الجامعة سنة 1385هـ عشرين مجلدا من مجموع الفتاوى، فوجدت فيها بغيتي، ومنها تبين لي خطأي في تلك التجربة، وسبق ذكر بعض النصوص التي أثبتها هنا في هذا الكتاب من كلامه رحمه الله... كما أثبتها في كتابي: "الإيمان هو الأساس" وحمدت الله تعالى أن تبين لي الحق الذي كنت أجهله، وبسبب ذلك الجهل كفرت أقرب المقربين إلي وهما الأبوان، ولم أكن أستغفر لهما...(3/63)
هذه تجربتي أنقلها لأبنائنا الشباب المتحمسين الذين يجب أن يراجعوا أنفسهم ولا ينساقوا وراء المكفرين ممن لم يصقل عقولهم فقهاء الإسلام، ولم تتوفر لهم معرفة دراسة قواعد العلوم وأصولها على أيدي مشايخ العلم المتمكنين منه، كما قال الإمام الشاطبي فيما سبق:
"من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به، أخذُه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام.... وقلما وجدتُ فرقةً زائغة ولا أحدا مخالفا للسنة، إلا وهو مفارق لهذا الوصف".
رد أهل السنة على المرجئة
سبق أن المرجئة بنوا مذهبهم على ثلاثة أسس:
الأساس الأول: تعريف الإيمان أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ما جاء من عند الله فقط".
الأساس الثاني: التمسك بنصوص الوعد.
الأساس الثالث: تأويل نصوص الوعيد
وقد رد أهل السنة على نقض هذه الأسس، فعرفوا الإيمان تعريفا يخالف تعريف المرجئة، وبينوا أن نصوص القرآن والسنة تدل على صحة تعريفهم، وتأبى تعريف المرجئة:
معنى الإيمان عند أهل السنة
عرف جماهير أهل السنة الإيمان، بأنه :"اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان".
ومعنى هذا أن الإيمان في عرف الشرع، شامل لاعتقاد القلب، بحيث لو نطق بالشهادة ولم يكن مصدقا بها قلبه، لا يكون مؤمنا، ولو اعتقد بقلبه معنى الشهادة، ورفض النطق بها، لم يدخل في دائرة أهل الإيمان، وإذا نطق بالشهادة واعتقدها بقلبه، وترك ما أمره الله بفعله من الفرائض، وارتكب ما نهاه الله عنه من الكبائر، يكون ناقص الإيمان.
وهو معرض لعقاب الله على ترك الفرائض وفعل المحرمات، وإذا مات قبل التوبة، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة.
قال ابن كثير رحمه الله:
"والإيمان كلمة جامعة للإيمان بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل.
قلت: أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض، وقد يستعمل في القرآن والمراد به ذلك، كما قال تعالى: ((يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين)) وكما قال إخوة يوسف لأبيهم: ((وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين))
وكذلك إذا استعمل مقرونا مع الأعمال كقوله تعالى: ((إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات))
فأما إذا استعمل مطلقا فالإيمان الشرعي المطلوب، لا يكون إلا اعتقادا وقولا وعملا، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيدة وغير واحد إجماعا، أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أفردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة" [تفسير ابن كثير تفسير ابن كثير (1/41-42)]
ويظهر لي من الآيات الآتية دلالة على صحة تعريف الإيمان عند أهل السنة، وعدم صحة تعريفه عند المرجئة:
قال تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4))) [الأنفال]
فقد حصرت هاتان الآيتان المؤمنين في المتصفين بهذه الصفات التي هي من أجزاء الإيمان:
الصفة الأولى: وجل القلوب عند ذكر الله، أي خوفها منه تعالى.
الصفة الثانية: ازديادهم إيمانا عندما تتلى عليهم آيات الله.
الصفة الثالثة: التوكل على الله، أي الاعتماد عليه.
الصفة الرابعة: إقامة الصلاة.
الصفة الخامسة: الإنفاق مما رزقهم الله.
والصفات الثلاث الأولى من أعمال القلوب – إلا أن زيادة الإيمان شاملة لعمل القلب وغيره – وكذلك الرابعة والخامسة شاملتان لأعمال القلوب والجوارح.
ومما يدل على أن هذه الصفات أجزاء للإيمان أمران:
الأمر الأول: الحصر المذكور قبل هذه الصفات في قوله تعالى: ((إنما المؤمنون))
الأمر الثاني: التوكيد البالغ بعد ذكر تلك الصفات في قوله: ((أولئك هم المؤمنون حقا)) ولا يقال: إن الحصر منصب على المؤمنين لا على الإيمان، لأن المؤمنين إنما اتصفوا بتلك الصفات لكونها من الإيمان.
وقال تعالى: ((إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16))) [السجدة]
فقد حصرت الآيتان الكريمتان الإيمان في المتصفين بهذه الصفات المذكورة فيهما، وهي: السجود لله عند التذكير بآياته، والتسبيح بحمده، والخضوع له بعبادته وعدم الاستكبار عنها، ومفارقتهم للمضاجع في الأوقات التي تشتد حاجتهم إلى الالتصاق بها، من أجل إقبالهم إلى الله تعالى، ودعاء الله تعالى، وخوف عقابه، والطمع في مثوبته وأجره، والإنفاق من رزقه في طاعته.
فالسجود والتسبيح والدعاء والإنفاق ومفارقة المضاجع، من أعمال الجوارح. والخضوع لله الذي تضمنه ترك الاستكبار، والخوف من عقاب الله والطمع في ثوابه من أعمال القلوب.
وهذا يدل على أن تلك الصفات كلها من أجزاء الإيمان.
وقال تعالى: ((وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) )) [المائدة]
فالآية تدل على أن موالاة أعداء الله وميل القلب إليهم ونصرهم ينافي الإيمان الواجب.
وقال تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (15))) [الحجرات](3/64)
وهذه الآية تدل على أن استمرار اليقين في القلب الذي هو ضد الشك والريب، وكذلك الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس من الإيمان، وانتفاء ذلك يدل على انتفاء الإيمان الواجب.
والتصديق الذي لا يخالطه شك من الإيمان، وهو من أعمال القلب، والجهاد من الإيمان وهو من أعمال الجوارح.
وقال تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143))) [البقرة]
وقد ورد في سبب نزول هذه الآية ما يدل على أن المراد بالإيمان هنا الصلاة، لأنها نزلت في قوم ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس – قبل الأمر بالتوجه إلى الكعبة – فتساءل ناس عنهم، أي عن حكم صلاتهم التي لم يتوجهوا بها إلى بيت الله الحرام؟ فنزلت الآية تطمئن المتسائلين على أنهم مثابون على صلواتهم كما يثاب غيرهم ممن أدرك القبلة الجديدة.
وهذا يدل على أن الصلاة - بكل ما فيها من قراءة وذكر وقيام وقعود وخشوع – من الإيمان.
ومن الآيات السابقة – وغيرها كثير – يظهر أن الشارع يطلق لفظ الإيمان على التصديق الجازم بالقلب كما في قوله تعالى: ((إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا)) وعلى أعمال القلب غير التصديق كما في قوله تعالى: ((إنما المؤمنون الذي إذا ذكر الله وجلت قلوبهم … وعلى ربهم يتوكلون)) ويطلق على أعمال الجوارح، كقوله تعالى: ((إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم … تتجافى جنوبهم عن المضاجع …ومما رزقناهم ينفقون))
وذكر ابن تيمية رحمه الله، الأصول التي أخطأ فيها الجهمية، فقال:
"وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ غَلِطُوا فِي ثَلاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ يَكُونُ تَامًّا بِدُونِ الْعَمَلِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ تَصْدِيقٌ بِلَا عَمَلٍ لِلْقَلْبِ، كَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ وَخَوْفِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالشَّوْقِ إلَى لِقَائِهِ.
و الثَّانِي: ظَنُّهُمْ أَنَّ لإيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ يَكُونُ تَامًّا بِدُونِ الْعَمَلِ الظَّاهِرِ، وَهَذَا يَقُولُ بِهِ جَمِيعُ الْمُرْجِئَةِ .
والثَّالِثُ: قَوْلُهُمْ كُلُّ مَنْ كَفَّرَهُ الشَّارِعُ، فَإِنَّمَا كَفَّرَهُ لِانْتِفَاءِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِالرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى" [مجموع الفتاوى (7/363-7364)]
وقد رد أهل السنة على ما استدل بظاهره المرجئة من نصوص الوعد، بنصوص كثيرة ورد فيها من الوعيد ما يدحض مذهبهم، مثل قوله تعالى:
((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلا مَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)). [الفرقان:68-69-70].
وقوله تعالى: ((وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)). [النساء:93].
ويدخل في ذلك كل النصوص التي استدل بها الخوارج والمعتزلة، من القرآن والسنة من نصوص الوعيد، فإنها ترد على مذهب المرجئة، وقد سبق ذكرها ومناقشة الاستدلال بها على التكفير أو الخلود في النار.
تبيين وتلخيص:
ونختم هذين المطلبين، بنصين لعالمين جليلين، لخصا فيهما بيان زيف مذهب طائفتي الخوارج والمعتزلة والمرجئة، ومذهب أهل الحق في هذه المسألة، وهما: أبو العز الحنفي، والمفسر الأندلسي الكلبي، رحمهما الله.
فقال أبو العز:"وأهل السنة أيضا متفقون على أنه يستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب كما وردت به النصوص، لا كما يقوله المرجئة من انه لا يضر مع الإيمان ذنب ولا ينفع مع الكفر طاعة.
وإذا جمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة، ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة، تبين لك فساد القولين، ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى" [شرح العقيدة الطحاوية (1/362)]
وقال الكلبي في قوله تعالى: ((إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء))
"هذه الآية هي الحاكمة في مسئلة الوعيد، وهي المبينة لما تعارض فيها من الآيات، وهي الحجة لأهل السنة والقاطعة بالخوارج والمعتزلة والمرجئة.
وذلك أن مذهب أهل السنة أن العصاة من المؤمنين في مشيئة الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، وحجتهم هذه الآية، فإنها نص في هذا المعنى.
ومذهب الخوارج أن العصاة يعذبون ولا بد سواء كانت ذنوبهم صغائر أو كبائر، ومذهب المعتزلة أنهم يعذبون على الكبائر ولا بد.
ويرد على الطائفتين قوله ((ويغفر ما دون ذلك)) فإنه تخصيص لبعض العصاة.
وقد تأولت المعتزلة الآية على مذهبهم، فقالوا: لمن يشاء وهو التائب لا خلاف أنه لا يعذب، وهذا التأويل بعيد لأن قوله إن الله لا يغفر أن يشرك به في غير التائب من الشرك، وكذلك قوله ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء في غير التائب من العصيان، ليكون أول الآية وآخرها على نسق واحد.
وتأولتها المرجئة على مذهبهم فقالوا لمن يشاء معناه لمن يشاء أن يؤمن، وهذا أيضا بعيد لا يقتضيه اللفظ.
وقد ورد في القرآن آيات كثيرة في الوعيد، فحملها المعتزلة على العصاة وحملها المرجئة على الكفار، وحملها أهل السنة على الكفار وعلى من لا يغفر الله له من العصاة.(3/65)
كما حملوا آية الوعد على المؤمنين الذين لم يذنبوا وعلى المذنبين التائبين وعلى من يغفر الله له من العصاة غير التائبين.
فعلى مذهب أهل السنة لا يبقى تعارض بين آية الوعد وآية الوعيد، بل يجمع بين معانيها، بخلاف قول غيرهم فإن الآيات فيه تتعارض.
وتخليص المذاهب أن الكافر إذا تاب من كفره غفر له بإجماع، وإن مات على كفره لم يغفر له وخلد في النار بإجماع، وأن العاصي من المؤمنين إن تاب غفر له، وإن مات دون توبة فهو الذي اختلف الناس فيه.
التسهيل لعلوم التنزيل الكلبى (1/144- 145)]
سبب الإكثار من الأدلة والنقل عن العلماء؟
سألني بعض طلابي الذين نتدارس معهم بعض المصادر في العلوم الإسلامية: لماذا الإكثار من ذكر النصوص من القرآن والسنة، للاستدلال على حكم أو مسألة، أ لا يكفي المؤلف أن يستدل بأية أو حديث مثلا، ثم لماذا الإكثار عن العلماء الأقدمين؟
وكان جوابي: أن ذلك يعود إلى موضوع البحث، فقد يكون الإكثار من ذكر الأدلة من القرآن والسنة، والإكثار من النقل عن العلماء الأقدمين، مطلوبان لما يعلم الكاتب من وجود شك أو شبهة عند بعض الناس في المسألة أو الحكم، فيدعم قوله بكثرة الأدلة وبأقوال العلماء، لإزالة الشك وكشف الشبهة.
وقد يكون ذلك لتثبيت المعنى في نفس القارئ أو السائل، لما في تضافر الأدلة من مزيد الاطمئنان.
وليس الإكثار من الأدلة بدعا في منهج علماء الإسلام، فقد رأينا لكبار الأئمة في ذلك الشيء الكثير...
ومنهم الإمام الشافعي رحمه الله الذي يسوق كثيرا من الآيات والأحاديث وبخاصة في كتابيه "الأم" و"الرسالة" للاستدلال بها على المسألة الواحدة، وكثيرا ما يعقد في مسائله المناظرات في أوجه الاستدلال...
وهكذا غيره من العلماء، وبخاصة من ألف في الفقه المقارن، كالإمام النووي الشافعي في "المجموع" وابن قدامة الحنبلي في "المغني" والكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" وابن حزم في "المحلى".
وإذا كان الأمر كذلك في فروع الفقه، فإن العقيدة أولى بذلك وأحرى، وبخاصة مسألة التكفير وعدمه التي نحن بصددها في هذا الكتاب، فإنها من أهم مسائل العقيدة التي كثر فيها الأخذ والرد، وقصر فيها قوم وتجاوز آخرون فيها الحد.
وقد يكون الاختصار أولى عندما يعلم الكاتب أنه لا يوجد شك ولا تعرض شبهة، مع وضوح المعنى أو الحكم في نفوس القراء، الذين لا يحتاجون إلى كثرة الأدلة.
ولقد تعمدت الإطالة في موضوع التكفير وعدمه، والإكثار من نقل نصوص القرآن والسنة، والإكثار من نقل أقوال العلماء في هذا الباب.
والسبب في ذلك شدة الحاجة إلى لفت نظر طلاب العلم إلى خطر هذا الموضوع العظيم الذي لا ينبغي أن يغوص في أمواج بحاره المتلاطمة، غير أهله القادرين على السباحة فيها والرسو في شاطئ الأمان...
مع العلم أن كثيرا من هؤلاء قد رمى نفسه في محيطات تلك الأمواج، وهو لا يجيد السباحة في جدول صغير من الماء، فغرق فيها وأغرق معه من قلده على غير هدى وبرهان، فوقعوا جميعا فيما وقعوا فيه من الغلو المنهي عنه بسبب الجهل، وبنوا على ذلك تصرفات ظنوها شرعية والشرع منها براء، ولا عاصم من الغلو والإفراط أو التقصير والتفريط، إلا الفقه في دين الله عن طريق من فقههم الله فيه من علماء سلف الأمة:
((وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122(( [التوبة]
وفي حديث معاوية رضي الله عنه، قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين...) [صحيح البخاري (1/39) وصحيح مسلم (2/718)
===============
أمواج الردة وصخرة الإيمان
الردة مفهومها وأسبابها في العقيدة والشريعة
د.عبد العزيز آل عبد اللطيف
هناك ظاهرة، تتكرر كل حين، في شكل موجات عاتية من الهجوم على ثوابت هذه الأمة وعقائدها ومناهجها، وهي موجات وهجمات تتحد في غاياتها، وإن كانت تختلف في أساليبها وفي أدواتها ورموزها... وهذا الملف، يعالج أخطر وأسوأ مظاهر هذا الهجوم على الدين، وهو ما يجري على ألسنة أدعياء الثقافة والعلم والأدب،...... ما هي حقيقتهم... ما هي أقوالهم... ما هو حكم الشريعة في أمثالهم... ثم... موقف القوانين الوضعية من الردة.. وهل كانت سبباً في الترويح لدعاوى الردة في بلاد المسلمين؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الله ـ تعالى ـ أتم هذا الدين وجعل شريعة الإسلام أكمل الشرائع وأحسنها، وقد جاء هذا الدين شاملاً لجميع جوانب الحياة البشرية، ولذا أوجب الله ـ تعالى ـ على عباده الالتزام بجميع أحكام الإسلام فقال سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) [البقرة: 208]، كما جاء هذا الدين موافقاً للفطرة السوية الصحيحة، فقال ـ تعالى ـ: ((فِطْرَتَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)) [الروم: 30].
فإذا كان الشخص مسلماً لله ـ تعالى ـ، والتزم بدين الله ـ تعالى ـ، فأبى إلا أن ينسلخ من الهدى، ويتلبس بالضلال، فيمرق من الحق والنور إلى الباطل والظلمات، فهذا مرتد عن دين الإسلام، ناقض لعقد الإيمان، مصادم لما عليه هذا الكون الفسيح ـ من سماء وأرض ونبات وحيوان ـ من الاستسلام لله ـ تعالى ـ والخضوع له، كما قال سبحانه: ((وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [آل عمران: 83].(3/66)
وإذا كانت قوانين البشر ـ مع ما فيها من القصور والتناقض والاضطراب ـ توجب مخالفتها ـ عند أصحابها ـ الجزاءات والعقوبات؛ فكيف بمناقضة شرع الله ـ تعالى ـ، والانسلاخ من حكمه وهو أفضل الأحكام على الإطلاق؟
لقد شرع الله ـ تعالى ـ إقامة الحدود، ومنها: حد الردة تحقيقاً لأهم مقاصد الشريعة وهو حفظ الدين، وهو ـ سبحانه ـ الحكيم في شرعه، الرحيم بعباده، العليم بما يصلح أحوال خلقه في معاشهم ومعادهم.
وفي الآونة الأخيرة تطاول شرذمة من السفهاء على هذه الشريعة، فوصفوا الأحكام الشرعية المترتبة على المرتد بأنها استبداد وقسوة ومناقضة للحرية الفكرية... فقام من يرد ذلك الإفك بضعف وتأوّل متكلف وانهزامية ظاهرة (فلا الإسلامَ نصروا ولا (السفهاء) كسروا).
ولذا سنعرض في هذه المقالة لمعنى الردة وشيء من أحكامها وتطبيقاتها، وأسباب الوقوع فيها.
إذا رجعنا إلى كتب الفقه، فإننا نجد أن الفقهاء ـ في كل مذهب من المذاهب الأربعة ـ يعقدون باباً مستقلاً للمرتد وأحكامه، ونورد فيما يلي أمثلة لتعريفاتهم للردة، ـ أعاذنا الله منهاـ.
ففي بدائع الصنائع للكاساني الحنفي (ت587هـ): (أما ركن الردة فهو إجراء كلمة الكفر على اللسان بعد وجود الإيمان؛ إذ الردة عبارة عن الرجوع عن الإيمان) [7/134].
ويقول (الصاوي) المالكي (ت 1241هـ) في الشرح الصغير: (الردة كفر مسلم بصريح من القول، أو قول يقتضي الكفر، أو فعل يتضمن الكفر) [6/144].
وجاء في مغني المحتاج للشربيني الشافعي (ت: 977هـ): (الردة هي قطع الإسلام بينة، أو فعل سواءً قاله استهزاء، أو عناداً، أو اعتقاداً) [4/133].
ويقول البهوتي الحنبلي في كشاف القناع: (المرتد شرعاً الذي يكفر بعد إسلامه نطقاً أو اعتقاداً، أو شكاً، أو فعلاً) [6/136].
وبنظرة في هذه التعريفات نجد أن الردة رجوع عن الإيمان، فهي رجوع باعتبار المعنى اللغوي؛ فالمرتد هو الراجع، ومن قوله ـ تعالى ـ: ((وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)) [المائدة: 21].
والردة رجوع عن الإيمان باعتبار المعنى الشرعي؛ فالشرع يخصص اللغة ويقيّدها، كما أن الردة هي قطع الإسلام؛ لأن الإسلام عقد وميثاق، وحبل الله المتين، فإذا ارتد الشخص فقد نقض العقد وقطع هذا الحبل.
والردة، كما ذكر البهوتي قد تكون نطقاً، أو اعتقاداً، أو شكاً، أو فعلاً، لكن يسوغ أن ندرج الشك ضمن الاعتقاد باعتبار أن الشك يكون في عمل القلب المتعلق بالاعتقاد.
ويمكن أن نخلص إلى أن الردة هي الرجوع عن الإسلام إما باعتقاد أو قول أو فعل، ولا يخفى أن هذا التعريف يقابل تعريف الإيمان بأنه: اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح، وإذا قلنا: إن الإيمان قول وعمل ـ كما في عبارات متقدمي أئمة السلف ـ أي قول القلب وعمله، وقول اللسان، وعمل الجوارح، فإن الردة ـ أيضاً ـ قول وعمل، فقد تكون الردة قولاً قلبياً كتكذيب الله ـ تعالى ـ في خبره، أو اعتقاد أن خالقاً مع االله ـ عز وجل ـ، وقد تكون عملاً قلبياً كبغض الله ـ تعالى ـ أو رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو الاتباع والاستكبار عن اتباع الرسول، وقد تكون الردة قولاً باللسان كسبِّ الله ـ تعالى ـ أو رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو الاستهزاء بدين الله ـ تعالى ـ، وقد تقع الردة بعمل ظاهر من أعمال الجوارح كالسجود للصنم، أو إهانة المصحف.
فإذا تقرر مفهوم الردة، فإن من تلبّس بشيء من تلك (النواقض) يكون مرتداً عن دين الإسلام، فيقتل بسيف الشرع؛ فالمبيح لدمه هو الكفر بعد الإيمان، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في هذا المقام: (فإنه لو لم يقتل ذلك [المرتد] لكان الداخل في الدين يخرج منه؛ فقتله حفظ لأهل الدين وللدين؛ فإن ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه) [الفتاوى 20/102].
كما يقتل المرتد، فإنه لا يغسّل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث ولا يورث، بل يكون ماله فيئاً لبيت مال المسلمين كما هو مبسوط في موضعه(1).
ومما يدل على مشروعية قتل المرتد ما أخرجه البخاري ـ رحمه الله ـ أن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أُتى بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فقال: لو كنت أنا لم أحرِّقهم لنهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تعذِّبوا بعذاب الله، ولقتلتهم لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من بدّل دينه فاقتلوه).
والمراد من قول: (بدّل، دينه) أي بدل الإسلام بدين غيره؛ لأن الدين في الحقيقة هو الإسلام، قال الله ـ تعالى ـ: ((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ)) [آل عمران: 85](2).
وقد التزم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بهذا الحكم، فعندما زار معاذ بن جبل أخاه أبا موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ، وكانا أميرين في اليمن، فإذا رجل موثق، فقال معاذ: ما هذا؟ قال أبو موسى: كان يهودياً، فأسلم ثم تهوّد، ثم قال: اجلس، فقال معاذ: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله (ثلاث مرات)، فأمر به فقتل (3).
وقد قام خلفاء وملوك الإسلام وفي عصور مختلفة بإقامة حكم الله ـ تعالى ـ في المرتدين تأسياً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فلا يخفى موقف الصديق ـ رضي الله عنه ـ تجاه المرتدين وقتاله لهم، وسار على ذلك بقية الخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان.
واشتهر المهدي الخليفة العباسي بمتابعة الزنادقة المرتدين، حيث عيّن رجلاً يتولى أمور الزنادقة.
يقول ابن كثير في حوادث سنة 167هـ: (وفيها تتبع المهدي جماعة من الزنادقة في سائر الآفاق فاستحضرهم وقتلهم صبراً بين يديه)(4).(3/67)
ويعدّ الحلاّج من أشهر الزنادقة الذين تمّ قتلهم بسيف الشرع دون استتابة، يقول القاضي عياض: (وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية على قتل الحلاج وصلبه لدعواه الإلهية والقول بالحلول، وقوله: (أنا الحق) مع تمسكه في الظاهر بالشريعة، ولم يقبلوا توبته)(5).
وقد بسط الحافظ ابن كثير الحديث عن أحوال الحلاج وصفة مقتله، فكان مما قال: (قُدِّم (الحلاج) فضُرِبَ ألف سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، وحز رأسه، وأحرقت جثته، وألقى رمادها في دجلة، ونصب الرأس يومين ببغداد على الجسر، ثم حمل إلى خراسان وطيف في تلك النواحي)(6).
من أهم أخبار المرتدين وأكثرها عبرة ما سجله الحافط ابن كثير في حوادث 726هـ حيث (ضربت عنق ناصر بن الشرف أبي الفضل الهيثي على كفره واستهانته بآيات الله وصحبته الزنادقة.
قال البرازلي: وربما زاد هذا المذكور المضروب العنق عليهم بالكفر والتلاعب بدين الإسلام والاستهانة بالنبوة والقرآن.
وحضر قتله العلماء والأكابر وأعيان الدولة، قال: (وكان هذا الرجل قد حفظ التنبيه، وكان يقرأ في الختم بصوت حسن، وعنده نباهة وفهم، ثم إنه انسلخ من ذلك جميعه، وكان قتله عزاً للإسلام، وذلاً للزنادقة وأهل البدع، قال ابن كثير: وقد شهدتُ قتله، وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية حاضراً يومئذ، وقد أتاه وقرّعه على ما كان يصدر عنه قبل قتله، ثم ضربت عنقه وأنا شاهد ذلك)(7).
ومما يجدر ذكره في هذه المقالة أن الردة التي جاهر بها بعض زنادقة هذا العصر كـ (رشدي)، و (نسرين)، و (نصر أبو زيد)، و (البغدادي)، وأضرابهم أشنع من ردة أسلافهم كـ (الحلاج)، و (الهيثي)، والله المستعان.
وبالجملة فردة هؤلاء الزنادقة في القديم والحديث ليست مجرد ردة فحسب، بل ضموا إلى هذه الردة المحاربة لله ـ تعالى ـ ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، والإفراط في العداوة، والمبالغة في الطعن في دين الله ـ تعالى ـ، وصاحب هذه الردة المغلظة لا يسقط عنه القتل ـ وإن تاب ـ بعد القدرة عليه.
كما حرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بقوله: (إن الردة على قسمين: ردة مجردة، وردة مغلظة شرع القتل على خصوصها، وكلتاهما قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبها؛ والأدلة الدالة على سقوط القتل بالتوبة لا تعمّ القسمين، بل إنما تدل على القسم الأول (الردة المجردة)، كما يظهر ذلك لمن تأمل الأدلة على قبول توبة المرتد، فيبقى القسم الثاني (الردة المغلظة) وقد قام الدليل على وجوب قتل صاحبه، ولم يأت نص ولا إجماع بسقوط القتل عنه، والقياس متعذر مع وجود الفرق الجلي، فانقطع الإلحاق؛ والذي يحقق هذه الطريقة أنه لم يأت في كتاب ولا سنة ولا إجماع أن كل من ارتد بأي قول أو أي فعل كان فإنه يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه، بل الكتاب والسنة والإجماع قد فرّق بين أنواع المرتدين...)(8).
وأما أسباب الوقوع في الردة فثمة أسباب متعددة لذلك منها:
ـ الجهل بدين الله ـ تعالى ـ، وضعف التمسك بالمعتقد الصحيح عند الكثير من المسلمين، مما أوقفهم ـ بسبب جهلهم وضعف تمسكهم ـ في جملة من المكفرات، فعلى الدعاة والعلماء أن يجتهدوا في إظهار العلم الشرعي وتبليغ دين الله ـ تعالى ـ، عبر برامج مرتبة، فيرغب أهل الإسلام بالمعتقد الصحيح علماً وعملاً، ويحذرون من الردة وأنواعها، عن طرق حِلَقِ التعليم، والخطب، والمؤلفات، والأشرطة، ونحوها، فيعنى بالتوحيد تقريراً والتزاماً، كما يعنى بالتحذير من مظاهر الردة في الزمن المعاصر، ومن ذلك أن تُدرّس رسالة (نواقض الإسلام) للشيخ (محمد بن عبد الوهاب) ـ رحمه الله ـ فهي رسالة مع كونها في غاية الإيجاز إلا أنها بينت أهم النواقض وأشملها، وأكثرها وقوعاً وانتشاراً(9).
وأن يبيّن للناس الأحكام الشرعية المترتبة على المرتد من: القتل، وعدم الصلاة عليه، وحل ماله، وأن تذكر أخبار المرتدين وأحوالهم وما نالوه في الدنيا من العقوبات والمثلات، وما أعدّ لهم من العذاب المقيم في الدار الآخرة.
وأن يراعى ـ أثناء التحذير من الردة وأنواعها ـ عوارض الأهلية عند الحكم على الأشخاص كالجهل والتأويل والخطأ والإكراه ونحوه، فربما وقع البعض في غلو وإفراط بمجرد علمهم بجملة من أنواع الردة، فيحكمون بذلك على أشخاص بأعيانهم دون التفات إلى اجتماع الشروط وانتفاء الموانع.
ـ ومن أسباب الوقوع في الردة: ظهور الإرجاء في هذه الأوقات.. فالإرجاء في مسألة الإيمان يقرر عبر مؤسسات تعليمية شرعية منتشرة في بلاد المسلمين، حيث تتبنى هذه المؤسسات المذهب الأشعري والماتريدي ـ ذي النزعة الإرجائية الغالية ـ، كما ساعد على ظهور الإرجاء بعض المنهزمين إزاء واقعنا الحاضر المليء بالانحرافات التي تناقض العقيدة السلفية، فقاموا (يبررون)، و (يسوغون) ذلك الانحراف بأنواع من التأويلات المتكلفة.
كما أن الغلو في التكفير والنزعة الخارجية ـ في هذا العصر ـ كان سبباً مساعداً في ظهور الإرجاء كنتيجة عكسية، فجاء ذلك الإرجاء رد فعل لهذا الغلو.
فإذا كان الإيمان ـ عند طوائف من المرجئة ـ هو التصديق فحسب، ففي المقابل سيكون الكفر ـ أو الردة ـ هو التكذيب فقط عند قوم آخرين، فلا يكون الشخص مرتداً عن دين الله ـ تعالى ـ إلا إذا كان مكذباً جاحداً! فلا يكون الشخص عند هؤلاء المرجئة مرتداً بمجرد استهزائه بالله ـ تعالى ـ أو رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو دينه، كما لا يكون الشخص عندهم مرتداً بمجرد سجوده للصنم أو إهانة المصحف!!.
فالردة عندهم مجرد اعتقاد، فلا تقع الردة بقول أو عمل!(3/68)
ـ وسبب ثالث وهو تنحية شرع الله ـ عز وجل ـ في كثير من بلاد المسلمين، فلا يخفى أن وجود الولاية الشرعية سبب في حفظ الدين، فحيث تقام الحدود ومنها حد الردة فلن يتطاول زنديق مارق على دين الله ـ تعالى ـ، لكن (من أمن العقوبة أساء الأدب)، والله حسبنا ونعم الوكيل، ورحم الله ابن العربي عندما وصف كفر غلاة الشيعة بأنه (كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف)(10).
وإليك ـ أخي القارئ ـ واقعة تاريخية توضح المراد كما دوّنها القاضي عياض في كتابه: (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) بقوله: (وقد أفتى ابن حبيب وأصبغ بن خليل من فقهاء قرطبة بقتل المعروف بـ (ابن أخي عَجَب)، وكان خرج يوماً، فأخذه المطر، فقال: بدأ الخرّاز يرش جلوده.
وكان بعض الفقهاء بها (أي بقرطبة): (أبو زيد)، و (عبد الأعلى بن وهب)، و (ابن عيسى)، قد توقفوا عن سفك دمه، وأشاروا إلى أنه عبث من القول يكفي فيه الأدب، وأفتى بمثله القاضي حينئذ (موسى بن زياد)، فقال (ابن حبيب): دمه في عنقي، أيشتمُ رباً عبدناه، ولا ننصر له؟ إنا إذاً لعبيد سوء، وما نحن له بعابدين، وبكى، ورفع المجلس إلى الأمير بها (عبد الرحمن بن الحكم) الأموي (ت282هـ).
وكانت عجَب عمة هذا المطلوب من حظاياه (أي من أحب الزوجات لعبد الرحمن بن الحكم)، وأُعلم باختلاف الفقهاء، فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول (ابن حبيب وصاحبه)، وأمر بقتله، فقُتل وصُلب بحضرة الفقيهين: (ابن حبيب وأصبغ)، وعزل القاضي لتهمته بالمداهنة في هذه القصة، ووبّخ بقية الفقهاء وسبّهم)(11).
ولنا وقفة يسيرة مع هذه القصة فإن ابن أخي (عجب) تلفّظ بعبارة تقتضي استخفافاً بالربّ ـ جل جلاله ـ، وقد لا تكون صريحة في ذلك، والرجل لم يجاهر بهذه العبارة عبر إعلام مقروء أو منطوق أو نظم أو منثور، ومع ذلك فهذه العبارة في غاية النشاز والاشمئزاز في المجتمع الإسلامي ـ آنذاك ـ، فلم يقبلها بالكلية، بل ونفر منها تماماً، حتى بلغت أهل العلم ـ في قرطبة ـ فاجتمعوا لها فحكموا على صاحبها.
وأخيراً: تتجلى روعة الموقف عندما يمضي (عبد الرحمن بن الحكم الأموي) حكم القتل على ابن أخي زوجته (عجب) وهي أحب زوجاته إليه، ولا يكتفي بذلك بل ويعزل القاضي متهماً له بالمداهنة، ويعاتب بقية الفقهاء.
فانظر ـ رعاك الله ـ إلى أثر الولاية الشرعية في تحقيق حفظ الدين وإقامة حكم الله ـ تعالى ـ على من تطاول على دين الله ـ تعالى ـ.
ـ وأما السبب الرابع في ظهور الردة، فإن الفوضى الفكرية التي يعيشها العالم المعاصر، والاضطراب الهائل في المفاهيم، والتناقض المكشوف في المعتقدات والمبادئ كان سبباً في الإخلال بالثوابت والتمرد على الدين والأخلاق.
لقد وجد الانسلاخ من الدين في العالم الغربي، والخروج عما استقر في الفطر السليمة والعقول الصحيحة، وأجلب أعداء الله ـ تعالى ـ بخيلهم ورجلهم، وسعوا إلى بث هذا الانحراف في بلاد المسلمين، وجاء أقوام من هذه الأمة يتتبعون مسلك أولئك المنتكسين حذو القذة بالقذة.
فلا عجب أن تظهر الحداثة ـ مثلاً ـ في بلاد المسلمين، بعد أن ظهرت في العالم الغربي، والتي تنادي برفض ما هو قديم وثابت، بما في ذلك المعتقدات والأخلاق ـ وتغيير المسلّمات والحقائق الثابتة، وضرورة التحول والتطور من الأفكار القديمة إلى مواقف مستنيرة.
ثم (تؤصل) هذه الردة، وتقصّد، وتنشر في الآفاق عبر ملاحق أدبية، ومجلات متخصصة، ومن خلال محاضرات وندوات ومهرجانات.
وأخيراً:
فإن تقصير بعض علماء أهل السنة ودعاتهم تجاه هذا الانحراف الخطير ـ الردة ـ كان سبباً مساعداً في ظهوره واستفحاله، فلو أن علماء أهل السنة ودعاتهم قاموا بواجب التبليغ لدين الله ـ تعالى ـ، وإظهار عقيدة التوحيد، والتحذير من الردة وأنواعها ووسائلها لما كان لمظاهر الكفر أن تنتشر كما هي عليه الآن.
إن الناظر إلى إخواننا من أهل السنة يرى تواكلاً وكسلاً، وتحميلاً للتبعات والمسؤوليات على الآخرين، وتلاوماً فيما بينهم، ألا فليجتهد الجميع في الحرص على ما ينفع، وأن نسعى في تبليغ ديننا والتحذير مما يضاده ويناقضه (ورحم الله من أعان على الدين ولو بشطر كلمة، وإنما الهلاك في ترك ما يقدر عليه العبد من الدعوة إلى هذا الدين)(12).
----------------
الهوامش :
(1) تحدث الفقهاء ـ رحمهم الله ـ عن هذه المسائل تفصيلاً، وألفت رسائل علمية مطبوعة في أحكام المرتد، منها: أحكام الردة والمرتدين لجبر الفضيلات، وأحكام المرتد لنعمان السامرائي
(2) انظر: فتح الباري، 13/272.
(3) أخرجه البخاري.
(4) البداية 10/149.
(5) الشفا، 2/1091.
(6) البداية والنهاية، 11/143.
(7) البداية، 14/122.
(8) الصارم المسلول، 3/696.
(9) شرح هذه الرسالة غير واحد، ومن أفضل الشروح: (التبيان شرح نواقض الإسلام) للشيخ سليمان بن ناصر العلوان.
(10) العواصم من القواصم، ص 247.
(11) الشفا، 2/1093، 1094.
(12) هذه العبارة سطّرها العلامة عبد الرحمن السعدي، في القول السديد، ص 36.
البيان العدد 125 محرم 1419 هـ
=============
تعقيباً على تقرير أيديولوجيا التكفير والإرهاب
التكفير حكم شرعي له ضوابطه وأبو بكر الصِّدِّيق براء من ذلك الوصف
خالد بن عبدالرحمن الشايع
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وبعد :
فقد كتب أحد محرري جريدة الرياض ( العدد 13375ـ 25/12/1425هـ ـ ملحق الإرهاب ) تقريراً كان مطلعه محل النقد والاستنكار الشديد ، نستغربه على المحرر ، وعلى الجريدة التي تصدر من قلب المملكة العربية السعودية ، حاملة لواء السنة وحامية الشريعة ، لما في مطلع التقرير من الاتهام والتهجم على أفضل الخلق بعد أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام.(3/69)
كان ذلك من المحرر حين اعتبر الخليفة الراشد أبا بكر الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ أول من أوجد ( أيديولوجيا التكفير ) وزعم المحرر أن حروب الردة هي أول واقعة تاريخية عبرت عن ميلاد ( فكرة التكفير في الإسلام ) وأنها ( أول بيان رسمي يعلن ميلاد أيديولوجيا التكفير ، ويقرن التعبير عن حكم التكفير بقتال الجهة التي يشملها الحكم إياه ) .
ومما ساءني وساء كل مسلم ومسلمة أن محرر جريدة الرياض نظم الصِّدِّيق أبا بكر رضي الله عنه في قائمة الغلو والإرهاب ، واعتبر جهاد أبي بكر والصحابة رضي الله عنهم للمرتدين من جملة أعمال الإرهاب التي يحمل عليها التكفير . إلى غير ذلك مما جاء في التقرير ، والذي يغلب على ظني أن المحرر قد استقى بعض معلوماته من مصادر غير أمينه ، إذ يبعد أن يكون معتقداً لهذه الإساءات في حق الصِّدِّيق رضي الله عنه .
ومهما يكن ، فإنَّ من الواجب على كل مسلم أن يستنكر هذه الإدعاءات ، وأن يُنَزِّه الصِّدِّيق عنها ، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " رواه مسلم في صحيحه .
وموقفنا من تلك الادعاءات التي جاءت في التقرير أجمله في المسائل التالية :
الأولى : أن أبا بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه بمنزلة عالية كريمة ، بما يعتبر معها كل من نال منه أو رماه بسوء مسيئاً لنفسه ، وظالماً لها ، ومرتكساً في ضلال كبير وذنب عظيم ، ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه مقدم الأمة ، وسابقهم في جميع الأوصاف الحميدة فإنه ، كان صدِّيقاً تقياً كريماً جواداً ، بذَّالاً لأمواله في طاعة مولاه ، وصاحب فضل على المسلمين ، بما جعل الله له من الأسبقية في الإيمان ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد حاز الصِّدِّيق تزكية رب العباد في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وزكاه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ، فماذا بعد الحق إلا الضلال .
قال الله تعالى : ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) الآية ( التوبة : 40 ) .
وقد ذكر المفسر الفخر الرازي رحمه الله أن هذه الآية تدل على فضيلة أبي بكر من اثني عشر وجهاً ، ثم شرع في بيانها .
وقد أجمع المفسرون على أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه هو المراد في قول الله تعالى : (وسيجنبها الأتقى . الذي يؤتي ماله يتزكى ) ( الليل : 17 و 18 ) .
وقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ، ثم عمر ثم عثمان ... إلخ.
زاد الطبراني في رواية : فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فلا ينكره .
وثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصباً رأسه بخرقة ، فقعد على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " إنه ليس من الناس أحدٌ أَمَنَّ عليَّ في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ، ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن خُلَّة الإسلام أفضل ، سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد ، غير خوخة أبي بكر " لفظ البخاري .
وروى أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان من طريق ربعي بن خراش عن حذيفة قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوساً فقال : " إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم ، فاقتدوا باللذين من بعدي " وأشار إلى أبي بكر وعمر . الحديث .
وثبت في المسند وجامع الترمذي وسنن ابن ماجة عن علي رضي الله عنه قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، فقال : " يا عليّ ، هذان سيدا كهول أهل الجنة وشبابها بعد النبيين والمرسلين " .
وثبت في صحيح البخاري من حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس قال : صعد رسول الله أحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ، فرجف بهم الجبل ، فضربه رسول الله برجله ، وقال : " اثبت ، فإنما عليك نبيٌّ وصدِّيق وشهيدان " .
وثبت في المسند أن علياً قام على المنبر ، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستخلف أبو بكر فعمل بعمله ، وسار بسيرته ، حتى قبضه الله على ذلك ، ثم استخلف عمر فعمل بعملهما ، وسار بسيرتهما ، حتى قبضه الله على ذلك ".
فهذا جانب من فضل الصِّدِّيق وثناء الله عليه ، وثناء رسوله ، وثناء خيار المؤمنين ، أوردته تشريفاً لهذا المقال ، وما تركته مما يبين فضله أضعاف هذا ، وهو معلوم لدى عامة أهل الإسلام ، فكيف تسمح نفس أي مسلم بعد هذا أن يأتي بمثل ما جاءت الإشارة إليه مما قاله المحرر.
المسألة الثانية : لقد كانت حروب الردة التي قادها ورفع لواءها الصِّدِّيق رضي الله عنه واحدةً من نعم الله على الأمة المحمدية ، والتي حفظ الله بها دين الإسلام من الاضمحلال ، ولذا كانت من أعظم محامد أبي بكر وأجل مناقبه .
وقد جاءت تزكية حروب الردة وتزكية من رفع لواءها وشارك فيها في قول الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) الآية . ( المائدة : 54 ) .
قال الإمام أبو جعفر الطبري : قال بعضهم : هو أبو بكر الصِّدِّيق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ، حتى أدخلوهم من الباب الذي خرجوا منه . اختار ذلك علي والحسن والضحاك وقتادة وابن جريج .(3/70)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " منهاج السنة النبوية " : وهذا من كماله الذي صار به خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا اشتد في قتال أهل الردة شدةً برز بها على عمر وغيره ، حتى روي أن عمر قال له : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم تألف الناس. فقال: علام أتألفهم ! أعلى حديث مفترى ؟ أم على شعر مفتعل ؟.انتهى .
وقد كان حكم أبي بكر بردة الذي منعوا الزكاة ، بعد أن كانوا يأدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي سبق لإصابته قبل غيره من الصحابة ، فكان مقدماً عليهم ، كما كان مقدماً في غيره من المواقف ، حتى رجعوا إلى قوله ، وأجمعوا على سداد رأيه وصحة فعله .
وفي مثل هذه المسألة يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله : واستقر الإجماع عليه في حق من جحد شيئاً من الفرائض بشبهة ، فيطالب بالرجوع ، فإن نصب القتال قوتل وأقيمت عليه الحجة ، فإن رجع وإلا عومل معاملة الكافر حينئذ .
الثالثة : أن التقرير قد اشتمل على مغالطة كبرى تناقض ما جاءت به شرائع الأنبياء قاطبة من الحكم على كل من كفَّره الله بالكفر والضلال .
إن مما فات من حرر التقرير أن يعلم أن التكفير حكم شرعي ، لا ولن يستطيع أحدٌ إبطاله ما بقيت السموات والأرض ، أليس الله يقول : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ) ( المائدة : 73 ) ويقول : ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية ) ( البينة : 6 ) ونحوها من الآيات .
وروى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من بدل دينه فاقتلوه" .
نعم قد وقع إخلال كبير في تطبيق هذا الحكم ، حتى أطلق على من ليس له بأهل ، وسبب ذلك أن الذين اجترءوا عليه هم غير العلماء ، ولذا فلا يجوز أن يتكلم فيه إلا هم ، ولا ريب أن أعلم الخلق بعد النبيين هو أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه ، بشهادة الصحابة رضي الله عنهم ، حتى قال أبو سعيد رضي الله عنه في بعض المناسبات : كان أبو بكر أعلمنا . متفق عليه .
الرابعة : أن التقرير قد اعتبر أبا بكر الصِّدِّيق قدوة المكفرين الباغين الظالمين ، حينما جعل جهاد أبي بكر والصحابة معه ضد المرتدين في رأس قائمة الإرهاب والأفكار الشاذة ، أفكار الخوارج وأصحاب العنف والتطرف ، وهذه الفرية مما يفرح به المبطلون من فئات الضلال ، ويكون التقرير الصحفي بذلك خادماً لمسلكهم المنحرف ، وأنى لهم ذلك ، فأبو بكر على هدى وسنة ، وأما هم فعلى ضلال وعدوان .
وأذكر أخيراً بما رواه البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله بعثني إليكم ، فقلتم : كذبتَ ، وقال أبو بكر : صدق ، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركو لي صاحبي ؟! " مرتين ، فما أوذي بعدها .
فكيف يستسيغ أهل الإسلام مثل هذا التطاول على صديق الأمة ومقدمها ، اللهم عفواً وغفراً .
وبما تقدم يعلم أن المسائل الشرعية يجب أن تؤخذ من مصادر أمينة ، بعيدة عن الغلو وعن الجفاء ، وعن الإفراط والتفريط ، وهذه المصادر متوافرة بحمد الله لمن طلبها ، فهي منهج أئمة الدعوة في المملكة ، السائرين على درب السلف من الصحابة والتابعين ، اتباعاً لسنة سيد الخلق محمد عليه الصلاة والسلام .
وفق الله الجميع لما فيه الخير ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
تحريراً في 1/1/1426هـ
khalidshaya@hotmail.com
================
حكم تكريم بعض المنحرفين واستقبالهم والاحتفاء بهم
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على إمام المجاهدين الصابرين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد ,
فقد ورد إلينا سؤال من بعض الاخوة حول حكم تكريم بعض المنحرفين واستقبالهم والاحتفاء بهم وفتح المجال لهم لينشروا فكرهم المنحرف وأدبهم الحداثي العفن من أمثال محمود درويش الحداثي الفلسطيني وأحد أعضاء حزب ركاح الشيوعي في إسرائيل والذي يقول في أحد دواوينه ( نامي فعين الله نائمة ) ، وسميح القاسم الدرزي الفلسطيني والعضو في الحزب المشار إليه والذي يقول في أحد دواوينه ( ولأي كهف ينزوي الله المعفر بالغبار وبالدخان والشرر ) ، واليساري السعودي تركي الحمد الذي يقول في روايته الكراديب ( الانتحار نصر على الله ) وغيرهم من هذه الطائفة .
وسئلنا أيضا عن رأينا فيمن يقول عن هذه المقولات : ( نصوص أدبية لا يحكم على الناس من خلالها ) . وقولهم : ( حرية الفكر تقتضي عدم تكفير الناس وعلينا أن نكل أمرهم إلى خالقهم ) .
فأقول مستعينا بالله تعالى جواب ذلك من وجوه :
أولا / تمكين هؤلاء من نشر أفكارهم وفتح المنابر الإعلامية والثقافية لهم ولأمثالهم منكر عظيم وفعل محرم ، ومنع هؤلاء من نشر ضلالهم ( فضلا عن أن يكون فيه سب لله أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو الدين وأهله ) من أهم واجبات العلماء والولاة والمحتسبين بل وسائر المسلمين ولم يختلف في ذلك أحد من أهل العلم حسب علمنا .
ومن المعلوم أن من تكلم بكلام كفري من سب الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو لدين الإسلام يجب إقامة حد الردة عليه فورا بلا استتابة على قول كثير من أهل العلم لقوله عليه الصلاة والسلام : ( من بدل دينه فاقتلوه ) وقوله : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ) وقصة معاذ رضي الله عنه لما جاء إلى أبى موسى في اليمن فوجد عنده رجلا موثقا فقال : ما هذا ؟ قال : أسلم ثم تهود ، قال لا أجلس حتى يقتل , قضاء الله ورسوله . وكل هذه الأحاديث في الصحيح .(3/71)
فإذا كان الحكم فيه كذلك على قول كثير من العلماء فكيف يستساغ شرعا تكريمهم أو تمكينهم من نشر ضلالهم ، ولا شك أن في ذلك مناهضة عظيمة لله تعالى ولشرعه الحكيم .
ثانيا / أن قائل الكلمات الكفرية أو المتضمنة للبدعة والضلالة أو تلك التي تحوي الفسق والمجون ممن يجب الإنكار عليه باتفاق أهل العلم سواء حكمنا على قائل الكفر بكفره أو لم نحكم فالإنكار قائم بكل حال .
ومقولة أن هذه النصوص أدبية لا يمكن أن يحكم على الناس من خلالها فأحسن أحوال هذا القائل أن يكون جاهلا بشرع الله سبحانه وتعالى ، ولا يجوز القول على الله بغير علم سيما في مثل هذه المسائل الخطيرة .
أما من يكتب هذه النصوص التي يسمونها أدبا وهي مشتملة على ما يوجب الكفر فلا يخلو من أن يكون معتقدا لما يقول قاصدا لمعنى ما يكتب أو أن يكون قال ذلك على سبيل وصف ما يختلج في النفس من مشاعر وتصويرها تصويرا إبداعيا كما يزعمون أو نحو ذلك من المقاصد .
فإن كانت الأولى فنحكم عليه من خلال مقولته وكتابته وهذا إجماع أهل العلم قاطبة وقد ذكرنا آنفا قول العلماء أن من سب الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو سخر من الدين فإنه مرتد يقتل فورا ولا يستتاب . وذكر العلماء في باب حكم المرتد وباب حد الردة وفي كتب العقائد ما يتعلق بهذه المسألة وما يخرج به المرء عن الإسلام ، فنصيحتي لمن قال هذه المقولة ولأمثاله أن يرجع إلى أهل العلم قبل أن يقول على الله بغير علم .
وأما إن كان قائل ذلك وكاتبه إنما قال ذلك وكتبه على سبيل الصنعة الأدبية من هذا الباب وليس من جنس المسألة الأولى فإنه مؤاخذ بما كتب وقال ، ويحكم عليه بنص القرآن الكريم : {{ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم }} فهذه الآية صريحة في الحكم على هؤلاء بالكفر من خلال حديثهم وإن كان على سبيل اللعب والتسلية كما ثبت في سبب نزول الآية .
فكيف يُعتذر بعد هذا لمن سب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو استهزأ بشيء من شعائر الدين بأن هذا محض نصوص إبداعية وجدانية أو مجرد صنعة أدبية .
ثالثا / أن دعوى حرية الفكر إذا كانت مفضية إلى حرية الكفر فهي باطلة بنص القرآن وإجماع الأمة وقد تقدم آنفا ذكر الآيات والأحاديث الدالة على ذلك ، ولو كانت حرية الفكر المفضية إلى الأقوال الكفرية جائزة في الشرع لما كان لحد الردة معنى وهو الذي لم يخل منه كتاب من كتب الفقه ، بل إن الذمي والمعاهد إذا بدر منه سب لله أو لرسوله انتقض عهده ووجب قتله عند عامة أهل العلم .
أما من يقول دع الناس لخالقهم فهذا صحيح إذا لم يظهر منهم ما يوجب الإنكار ، فالتفتيش عن نوايا الناس أو التنقيب عما في صدورهم أمر لا يجوز ، وقد أمرنا الشارع الحكيم بأن نعامل الناس بما ظهر لنا منهم من قول أو فعل ويحكم عليهم من خلال ذلك ، ولا تبرأ الذمة في ذلك إلا بالإنكار عليهم واستتابتهم وإقامة حد الردة عليهم إن ظهر ما يوجب ذلك ، فإن تاب وأعلن رجوعه فحينئذ يدرأ عنه الحد ونكل أمره إلى الله ، وإن لم نتحقق من صدق توبته ، إلا إذا كان فعله أو قوله مما لا تؤثر فيه التوبة فإنه يقتل حدا في الدنيا وتوبته بينه وبين ربه كما هو رأي كثير من أهل العلم . والله تعالى أعلم .
أسأل الله العلي القدير أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويؤيد بالحق المجاهدين في سبيله الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من أبناء هذا الدين إنه ولي ذلك والقادر عليه . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
أملاه فضيلة الشيخ
أ. حمود بن عقلاء الشعيبي
15/1/1421هـ
==============
القول المُصيب في حكم زواج المسلمة من عابد الصليب
مقدمة
الحمد لله ، وبعد :
لقد سمعنا ورأينا عن طريق وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة قصة زواج الشابة البحرانبة من ذلك الكافر عابد الصليب ، وقد أصابت الدهشة الناس من هذا الخبر ، وأصبحت القصة فاكهة المجالس ، والعجيب أن وسائل الإعلام الأمريكية - كما هي عادتها - جعلت هذا الموضوع حديث غالب شبكاتها الإعلامية ، وأثارت الموضوع بشكل ملفت للنظر .
ولست بصدد التحدث عن وقائع تلك القصة فهذا أمر ننزه أسماعنا عنه ، وإنما نريد أن نقف مع حكم شرعي من خلال هذه الحادثة ألا وهو حكم زواج المسلمة من الكافر ، وذلك من خلال نصوص الوحيين ، وكلام العلماء .
أدلة تحريم زواج المسلمة من الكافر :
الأدلة من القران الكريم :
1 - قال تعالى : " وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ " [البقرة :221]
ذكر الله تعالى في هذه الآية حكمين :
الحكم الأول : زواج المسلم من المشركة ، والمقصود بالمشركة هنا الوثنية التي لم ينزل عليها كتاب من الكتب السماوية .
روى الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله - في تفسيره (4/363) بإسناد حسن عن قتادة أنه قال في قوله تعالى : " وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ " : يعني مشركات العرب اللاتي ليس فيهن كتاب يقرأنه .
وقد استثنى الله من هؤلاء المشركات اللاتي ليس لهن دين سماوي نساء أهل الكتاب قال تعالى : " وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ " [المائدة :5] .(3/72)
قال ابن جرير - رحمه الله - بعد ذكر الأقوال في مسألة نكاح المشركة (4/365) : وأولى الأقوال بتأويل هذه الآية ما قاله قتادة من أن الله تعالى ذكره عنى بقوله : " وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ " من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات وأن الآية عام على ظاهرها خاص باطنها ، لم ينسخ منها شيء وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها . وذلك أن الله تعالى ذكره أحل بقوله : " وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ " للمؤمنين من نكاح محصناتهن ، مثل الذي أباح لهم من نساء المؤمنات .ا.هـ.
وقال ابن كثير في تفسيره (1/474) : هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا من المشركات من عبدة الأوثان ثم إن كان عومها مراداً وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية فقد خُص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله : " وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ " . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : " وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ " استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب . وهكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومكحول والحسن والضحاك وزيد بن أسلم والربيع بن أنس وغيرهم . وقيل : بل المراد بذلك المشركون من عبدة الأوثان ولم يُرد أهل الكتاب بالكلية والمعنى قريب من الأول والله أعلم .ا.هـ.
الحكم الثاني : حكم نكاح المسلمة من الكافر - وهو ما يهمنا - فالآية صريحة في تحريم نكاح المسلمة من الكافر سواء كان وثنيا أو يهوديا أو نصرانيا .
قال أبو جعفر الطبري - رحمه الله - في تفسيره (4/370) : يعني تعالى ذكره بذلك ، أن الله حرَّم على المؤمنات أن ينكحن مشركا كائنا من كان المشرك ، ومن أي أصناف الشرك كان ، قلا تنكحوهن أيها المؤمنون منهم ، فإن ذلك حرام عليكم ، ولأن تزوجوهن من عبد مؤمن مصدق بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله ، خير لكم من أن تزوجوهن من حر مشرك ، ولو شرُف نسبه وكرم أصله ، وإن أعجبكم حسبه ونسبه .ا.هـ.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - في تيسير الكريم المنان (ص99) : " وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا " وهذا عام لا تخصيص فيه .ا.هـ.
2 - قال تعالى : " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ " [ الممتحنة : 11]
قال ابن كثير في تفسيره (8/93) : وقوله : " لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ " هذه الآية حَرّمَت المسلمات على المشركين ، وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة .ا.هـ. فهذان دليلان من كتاب الله صريحان في تحريم زواج الكافر من المسلمة .
الأدلة من السنة :
أما الأدلة من السنة فلا يكاد يثبت حديث في هذه المسألة ، وإنما الوارد في ذلك أحاديث معلولة وهي :
1 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع ، وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول ، ولم يحدث شهادة ولا صداقا .
رواه الإمام أخمد (1/261) ، وأبو داود (2240) ، والترمذي (1143) ، وابن ماجة (2009) .
والحديث من رواية داود بن الحصين عن عكرمة ، وقد قال عنها أبو داود : أحاديثه - أي داود بن الحصين - عن عكرمة مناكير ، وأحاديثه عن شيوخه مستقيمة .
قال الحافظ في التقريب : ثقة إلا في عكرمة .
2 - روى الإمام مالك في الموطأ (2/543) فقال : حدثني مالك عن بن شهاب انه بلغه ان نساء كن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلمن بأرضهن وهن غير مهاجرات وأزواجهن حين أسلمن كفار منهن بنت الوليد بن المغيرة وكانت تحت صفوان بن أمية فأسلمت يوم الفتح وهرب زوجها صفوان بن أمية من الإسلام فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بن عمه وهب بن عمير برداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانا لصفوان بن أمية ودعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وان يقدم عليه فإن رضى أمرا قبله وإلا سيره شهرين فلما قدم صفوان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه ناداه على رؤوس الناس فقال يا محمد إن هذا وهب بن عمير جاءني بردائك وزعم انك دعوتني إلى القدوم عليك فإن رضيت أمرا قبلته وإلا سيرتني شهرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انزل أبا وهب فقال لا والله لا أنزل حتى تبين لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لك تسير أربعة أشهر فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هوازن بحنين فأرسل إلى صفوان بن أمية يستعيره أداة وسلاحا عنده فقال صفوان أطوعا أم كرها فقال بل طوعا فأعاره الأداة والسلاح التي عنده ثم خرج صفوان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر فشهد حنينا والطائف وهو كافر وامرأته مسلمة ولم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين امرأته حتى اسلم صفوان واستقرت عنده امرأته بذلك النكاح .
قال ابن عبد البر في التمهيد (12/19) : هذا الحديث لا أعلمه يتصل من وجه صحيح ، وهو حديث مشهور معلوم عند أهل السير وابن شهاب إمام أهل السير وعالمهم وكذلك الشعبي ، وشهرة هذا لحديث أقوى من إسناده إن شاء الله .ا.هـ.
3 - عن جابر - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا .
وهذا الحديث فيه ثلاث علل :(3/73)
- شريك بن عبدالله النخعي قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب : صدوق ، يخطىء كثيرا ، تغير حفظه منذ ولي القضاء في الكوفة .
- أشعث بن سوار الكندي ، قال الحافظ ابن حجر في التقريب : ضعيف .
- الانقطاع بين الحسن البصري وجابر – رضي الله عنه - . قال علي بن المديني : الحسن لم يسمع من جابر بن عبد الله شيئا .
والصحيح أن الحديث موقوف على جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما - ، كما رواه البيهقي في الكبرى (7/172) .
أما آثار الصحابة :
1 – روى ابن جرير الطبري في تفسيره (4/366) بإسناده عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال : المسلم يتزوج النصرانية ، ولا يتزوج النصراني المسلمة .
والأثر في إسناده يزيد بن أبي زياد الهاشمي ، قال الحافظ ابن حجر في التقريب : ضعيف كبر فتغير وصار يتلقن وكان شيعيا .
الأدلة من الإجماع :
قال ابن عبد البر في التمهيد (12/21) : ومما يدل على أن قصة أبي العاص منسوخة بقوله : " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ " إلى قوله : " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " إجماع العلماء على أن أبا العاص بن الربيع كان كافرا وأن المسلمة لا يحل أن تكون زوجة لكافر .ا.هـ.
وقال القرطبي في " جامع أحكام القرآن " (3/72) : الأولى : قوله تعالى : " وَلَا تُنكِحُوا " أي لا تزوجوا المسلمة من المشرك ، وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام .
لماذا حلت الكافرة من أهل الكتاب للمسلم ، ولم تحل المسلمة للكافر من أهل الكتاب ؟
طرح الشيخ عطية محمد سالم في إكماله لأضواء البيان (8/164-165) فقال في جوابه عنه :
والجواب من جانبين :
الأول : أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه والقوامة في الزواج للزوج قطعا لجانب الرجولة ، وإن تعادلا في الحلية بالعقد ، لأن التعادل لا يلغي الفوارق كما في ملك اليمين ، فإذا امتلك رجل امرأة حلَّ له أن يستمتع منها بملك اليمين ، والمرأة إذا امتلكت عبدا لا يحل لها أن تستمتع منه بملك اليمين ، ولقوامة الرجل على المرأة وعلى أولادها وهو كافر لا يسلم لها دينها ، ولا لأولادها .
والجانب الثاني : شمول الإسلام وقصور غيره ، وينبني عليه أمر اجتماعي له مساس بكيان الأسرة وحسن العشرة ، وذلك أن المسلم إذا تزوج كتابية ، فهو يؤمن بكتابها ورسولها ، فسيكون معها على مبدأ من يحترم دينها لإيمانه به في الجملة ، فسيكون هناك مجال للتفاهم ، وقد يحصل التوصل إلى إسلامها بموجب كتابها ، أما الكتابي إذا تزوج مسلمة ، فهو لا يؤمن بدينها ، فلا تجد منه احتراما لمبدئها ودينها ، ولا مجال للمفاهمة معه في أمر لا يؤمن به كلية ، وبالتالي فلا مجال للتفاهم ولا للوئام ، وإذا فلا جدوى من هذا الزواج بالكلية ، فمنع منه ابتداءً .ا.هـ.
وبعد هذا البيان لهذه المسألة يظهر أن زواج الكافر من المسلمة محرم ، ولا يشك في هذا الأمر إلا مكابر معاند .
فتاوى العلماء في حكم هذا النكاح :
سئل الشيخ صالح بن فوازان بن عبد الله الفوزان – حفظه الله - : ما موقف الإسلام من امرأة مسلمة تزوجت من رجل غير مسلم حيث إنها كانت في حاجة إلى ذلك ، أي : مجبرة لهذا الزواج ؟
فأجاب : لا يجوز زواج المسلمة بالكافر ، ولا يصح النكاح .
قال تعالى :" وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا " وقال تعالى :" فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ " .
وإجبارها على ذلك لا يسوغ لها الخضوع والاستسلام لهذا التزويج . قال صلى الله عليه وسلم : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . ويعتبر هذا النكاح باطلا ، والوطء به زنى .
فتوى المرأة المسلمة (2/696) .
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين – حفظه الله - : ما حكم زواج المسلمة من المسيحي ، وما حجم شرعية أبناء هذا الزواج ، وما الحكم على المأذون الذي قام بإتمام هذا الزواج ، وما حكم الزوجة لو كانت تعلم ببطلان هذا الزواج ، وهل يقام عليها الحد الشرعي أم لا ؟
وإذا أسلم الزوج فما حكم الزواج الأول وكيف يتم النكاح الجديد ؟
فأجاب : يحرم على المسلمة نكاح النصراني وغيره من الكفار لقوله تعالى : " وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا " وقوله : " لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ " ومتى عقد له عليها وجب الفسخ فورا فإن علمت بذلك الزوجة وعرفت الحكم استحقت التعزير وكذا يعزر الوالي والشهود والمأذون إذا علموا ذلك ، لإغن ولد لهما أولاد تبعوا أمهم في الإسلام فإن أسلم الزوج بعد العقد جدد له عقد النكاح وذلك بعد التأكد من صحة إسلامه كيلا يكون حيلة فإن ارتد بعد ذلك ضربت عنقه لحديث : من بدل دينه فاقتلوه .
فتوى المرأة المسلمة (2/697) .
وسئل أيضا : هل يجوز للفتاة المسلمة أن تتزوج من رجل مسيحي قرر الإسلام لأجلها الإسلامي حيث أنه طلب الزواج منها وأخبره بأنه سوف يترك دينه ويتحول إلى الدين الإسلامي أفيدوني ، فأنا أعلم أنني سبب لإسلام هذا الشخص ؟(3/74)
فأجاب : لا يجوز للمسلمة أن تتزوج بكافر أصلا لقوله تعالى : " لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ " وقال تعالى : " وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ " فإن أسلم وحسن إسلامه جاز ذلك ولكن لا بد من اختباره قبل النكاح بمحافظته على الصلاة والصوم وسائر العبادات وتعلمه القرآن والأحكام وتركه الشرك والخمر وجميع المحرمات وتبديل الديانة في إقامته وجوازه وهويته الشخصية والانتظار بعد إسلامه مدة يتحقق بها كونه مسلما حقا لئلا يتخذ الإسلام حيلة إلى الزواج ثم يرتد على عقبيه فإن فعل وجب قتله لقوله صلى الله عليه وسلم : من بدل دينه فاقتلوه .
فتوى المرأة المسلمة (2/697) .
لماذا يُقتل المرتد عن الإسلام
سؤال:
رغم أني غير مسلم ، إلا إنني من المغرمين جدًا بعقيدتكم. لكن من الصعب فهم الداعي إلى الحكم بالموت على رجل بسبب كلام قاله فقط ، أعني سلمان رشدي . أعتقد أننا بصفتنا بشر ليس من حقنا إصدار مثل هذه القرارات، فقط الله هو الذي يحكم في مثلها.
الجواب:
الحمد لله
نشكر لك ثقتك لإرسال هذا السؤال ، وغرامك بعقيدتنا ، وحرصك على معرفة الجواب ، فأهلاً بك زائراً وقارئاً ومستفيداً .
أيها السائل : إن مما استوقفنا كثيراً في رسالتك هو تصريحك بالإعجاب بدين الإسلام ، وهذه بشارة خير لنا ولك ، أما من جهتنا فإننا نسعد بوصول ديننا إلى أمثالك ممن يبحث عن الحق ، وهو ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم من أن هذا الدين سيبلغ كل مكان على هذه الأرض فعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلَامَ وَذُلا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ " رواه أحمد (16344) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3) .
وأما بالنسبة لك فإن إعجابك بهذا الدين سيكون دافعاً لك للإطلاع على ما جاء به هذا الدين الحنيف ، من موافقته للفِطَر السليمة ، والعقول المُستَقِيمة ، فننصحك بالتجرد الكامل من كل مؤثر ، والقراءة المتأنية لتعاليم دين الإسلام ، ولعلك أن تقرأ ما يتعلق بالإسلام في هذا الموقع مثل الأسئلة (219)،(21613)،(20756)،(10590) .
أما قولك : " من الصعب فهم الداعي إلى الحكم بالموت على رجل بسبب كلام قاله فقط .... أعتقد أننا بصفتنا بشر ليس من حقنا إصدار مثل هذه القرارات ، فقط الله هو الذي يحكم في مثلها " فكلامك صحيح ، إذ ليس لأحد أن يحكم على شخص بالقتل بدون دليل من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
والحكم بالقتل من أجل كلمة يسمى عند علماء المسلمين بـ" الردة " ، فما هي الردة ؟ بماذا تكون الردة ؟
وما هو حكم المرتد ؟
أولاً : الردة ... هي كفر المسلم بقول صريح ، أو لفظ يقتضيه (أي يقتضي الكفر) أو فعل يتضمنه (أي : فعل يتضمن الكفر) .
ثانياً : بماذا تكون الردة ...
تنقسم الأمور التي تحصل بها الردة إلى أربعة أقسام :
أ - ردة بالاعتقاد ، كالشرك بالله أو جحده أو نفي صفةٍ ثابتة من صفاته أو إثبات الولد لله فمن اعتقد ذلك فهو مرتد كافر .
ب -ردة بالأقوال ، كسب الله تعالى أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم .
ج- ردة بالأفعال ، كإلقاء المصحف في محلٍ قذر ؛ لأن فعل ذلك استخفاف بكلام الله تعالى ، فهو أمارة عدم التصديق ، وكذلك السجود لصنم أو للشمس أو للقمر .
د- الردة بالترك ، كترك جميع شعائر الدين ، والأعراض الكلي عن العمل به .
ثالثاً : ما هو حكم المرتد ؟
إذا ارتد مسلمٌ ، وكان مستوفياً لشروط الردة - بحيث كان عاقلاً بالغاً مختاراً - أُهدر دمه ، ويقتله الإمام - حاكم المسلمين - أو نائبه - كالقاضي - ولا يُغسَّل ولا يُصلى عليه ولا يُدفن مع المسلمين .
ودليل قتل المرتد هو قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من بدل دينه فاقتلوه " رواه البخاري (2794) . والمقصود بدينه أي الإسلام .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " رواه البخاري 6878 ومسلم 1676
أنظر الموسوعة الفقهية 22/180
وبهذا يتبين لك أيها السائل أن قتل المرتد حاصلٌ بأمر الله سبحانه حيث أمرنا بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقتل المرتد كما تقدم بقوله : " من بدل دينه فاقتلوه " .
وقد تحتاج هذه المسألة منك إلى وقت للاقتناع ، وإلى تأملٍ فيها ، ولعلك تفكر في مسألة أن الإنسان إذا اتبع الحق ودخل فيه واعتنق هذا الدين الوحيد الصحيح الذي أوجب الله ، ثم نجيز له أن يتركه بكل سهولة في أي وقت يشاء وينطق بعبارة الكفر التي تُخرج منه ، فيكفر بالله ورسوله وكتابه ودينه ثم لا تحدث العقوبة الرادعة له ، كيف سيكون تأثير ذلك عليه وعلى الداخلين الآخرين في الدين .
ألا ترى أن ذلك يجعل الدين الصحيح الواجب اتباعه كأنه محل أو دكان يدخل فيه الشخص متى شاء ويخرج متى شاء وربما يُشجع غيره على ترك الحق .(3/75)
ثم هذا ليس شخصاً لم يعرف الحق ولم يمارس ويتعبد ، وإنما شخص عرف ومارس وأدى شعائر العبادة ، فليست العقوبة أكبر مما يستحق وإنما مثل هذا الحكم القوي لم يُوضع إلا لشخص لم تعد لحياته فائدة لأنه عرف الحق واتبع الدين ، ثم تركه وتخلى عنه ، فأي نفس أسوأ من نفس هذا الشخص .
وخلاصة الجواب أن الله الذي أنزل هذا الدين وفرضه هو الذي حكم بقتل من دخل فيه ثم تخلى عنه ، وليس هذا الحكم من أفكار المسلمين واقتراحاتهم واجتهاداتهم ، وما دام الأمر كذلك فلابد من إتباع حكم الله ما دمنا ارتضيناه رباً وإلهاً .
والله يوفقنا وإياك لما يحب ويرضى ، ونشكرك مرة أخرى
والسلام على من اتبع الهدى .
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
===============
الردة
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- معنى الردة. 2- شمولية الإسلام لمناحي الحياة. 3- الحذر من التكفير. 4- متى يكون المسلم مرتداً. 5- ذكر بعض نواقض الإسلام. 6- أحكام المرتد. 7- أسباب الارتداد عن الإسلام. 8- موقف المسلم من الردة.
-------------------------
الخطبة الأولى
ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [البقرة:217]. العبد مخير بين الإسلام والكفر لا إكراه في الدين، فإذا أسلم وجب عليه الالتزام فإن رجع إلى الكفر فقد أبطل كل خير عمله في الدنيا ويوم القيامة.
فما الردة؟ ومتى يكون المسلم مرتدا؟ وما أحكام المرتد؟ وما أسبابها؟ وما موقف المسلم منها؟
الردة: لغة الرجوع في الطريق الذي جاء منه.
اصطلاحا: رجوع المسلم البالغ العاقل عن الإسلام إلى الكفر باختياره دون إكراه من أحد.
وينبغي أن تعلم:
أن الإسلام عقيدة وشريعة: عقيدة تتضمن الإيمان بالله والنبوات والبعث والجزاء، وشريعة تتضمن العبادات والآداب، والمعاملات، والأحوال الشخصية، والعقوبات الجنائية، والعلاقات الدولية، والمسلم هو الذي يعتقد شمولية الإسلام للحياة ويعمل على تطبيق ذلك في واقعه.
وينبغي الحذر من إطلاق لفظ المرتد أو الكافر دون دراية أو معرفة حقة للحديث: ((إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما))(1)[1]).
كما أن الوساوس وخواطر السوء لا يؤاخذ عليها العبد إذا لم يعمل العبد بموجبها أو ينشرها بقصد الإفساد والتشكيك للحديث: ((إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به))(2)[2]).
وأما متي يكون المسلم مرتدا؟:
فلا يعتبر المسلم مرتدا حتى يشرح صدره للكفر ويطمئن قلبه به، ويدخل فيه بالفعل لقوله تعالى: ولكن من شرح بالكفر صدرا [النحل:106].
من صور الردة:
1- الردة عن الدين: بأن يغير دينه فالردة مقصورة على المسلمين فالردة عن الدين بأن يترك المسلم دين الإسلام ويخرج عليه بعد اعتناقه، وذكر العلماء: أن اليهودي إذا انتقل إلى دين آخر كالنصرانية لا يتعرض له لأنه انتقل من دين باطل إلى دين يماثله في البطلان بسبب التحريف، والكفر ملة واحدة، ولكن الانتقال من الإسلام إلى غيره من الأديان فإنه انتقال من الهدى إلى الضلال ومن دين الحق إلى دين الكفر قال تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [آل عمران: 85].
2- الردة بالإنكار لوجود الله تعالى: والشيوعية مذهب هدّام أنشأها (كارل ماركس) سنة 1847م وهو رجل يهودي واليهود من أحقد الناس على الإسلام قال تعالى: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا [المائدة:82].
وللحديث: ((وما خلا يهودي بمسلم إلا همّ بقتله))(3)[3]). وأساس عقيدته هي الإلحاد فهو القائل: (لا إله والحياة مادة) ويتساءل الملاحدة إذا كان الله موجودا فلماذا لا نراه؟ علما أن قاعدة وصفها العلماء فقالوا: ليس كل ما لا تدركه بحواسك ليس موجودا، فنحن لا نرى الكهرباء، ولا جاذبية الأرض، وقبل قرن من الزمن لم نكن نعلم بوجود شيء اسمه الجراثيم والبكتريا حتى جاء المجهر واستطعنا به أن نرى ما عجزت عيوننا عن رؤيته وصدق الله العظيم: فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون [الحاقة:37-38]، وقد أجمع العلماء أن الشيوعي كافر ومن اعتنق مبدأهم من المسلمين فهو مرتد عن الإسلام.
3- الردة بالإنكار لمصدر من مصادر التشريع كالسنة النبوية المطهرة: والسنة ثلاثة أنواع قولية وفعلية وتقريرية (والتقريرية: ما صدر من أصحابه من أفعال وأقوال أقرها الرسول الله بسكوته وعدم إنكاره) والقرآن هو المصدر الأول للتشريع.
والسنة هي المصدر الثاني وأحكام السنة لا يمكن الاستغناء عنها كما ادعى سفهاء زماننا جهلا وغباء وردة.
فالسنة هي المفسرة والشارحة للقرآن مما جاء مجملا لقوله تعالى: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [النحل:44].
فالسنة هي التي فصلت كيفية إقامة الصلاة وأوقاتها وأركانها وسننها وما جاء في كتاب الله مجمل كقوله تعالى: وأقيموا الصلاة وكذا بالنسبة للزكاة في الأنصبة والشروط ومصارف الزكاة تفصيلا لقوله: وآتوا الزكاة ثم إن السنة جاءت بأحكام سكت عنها القرآن كقول النبي في الذهب والحرير: ((هذان حرامان على رجال أمتي حلالان لنسائها))(4)[4]). ((لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها))(5)[5]). وقوله: ((يحرم الرضاع ما يحرم من النسب))(6)[6]). فمنكر السنة مرتد عن الإسلام.(3/76)
4- الردة بالسخرية والاستهزاء والسب لله أو الرسول أو الدين: وكم رأينا وسمعنا وقرأنا أنواعا من السخرية بالحجاب وأنه يعيق المرأة من العمل والتفكير، ومن يسخر بعذاب القبر وملائكته الكرام ومن يسخر بالله والرسول والأصحاب في فكاهة بمجلة الأطفال (أن خمسة دخلوا مطعما ورفضوا دفع الحساب وقال: أحدهم أنا محمد وهذا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فقال صاحب المطعم: وأنا الله وسوف أعاقبكم). وآخر يتشفى بأن امرأة سوف تحكم ويجعل في هذا الانتصار انتصار على الدين، ورسول الله يقول: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة))(7)[7]).
ويقف المسلم متحيرا في أمر هؤلاء الجبناء الذين لا يصارحون الأمة بكفرهم وردتهم فهم يلمزون ويلدغون ويفسرون الإسلام تفسيرا معوقا يدل على اعوجاج في القلوب والعقول معا، يصفون من يتمسك بدينه ويغار عليه بالمتعصب الرجعي ويظنون في أنفسهم العقل والحكمة والدهاء.
إن كل من يسخر بالإسلام وأحكامه كافر مرتد عن الإسلام قال تعالى: ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [التوبة:66].
وأما أحكام المرتد فإن المرتد يستتاب، وتقدم له الأدلة والبراهين التي تعيد الإيمان إلى القلب فإن رجع وأقر بالشهادتين وبرئ من كل دين إلا دين الإسلام قبلت توبته وإلا أقيم عليه الحد، ومن الأحكام التي تترتب على الردة:
القتل: للحديث ((من بدل دينه فاقتلوه))، رواه البخاري ومسلم، يقول الشهيد عبد القادر عودة صاحب كتاب التشريع الجنائي في الإسلام: (وتعاقب الشريعة على الردة بالقتل لأنها تقع ضد الدين والإسلام وعليه يقوم النظام، وأكثر الدور الاجتماعي للجماعة، فالتساهل في هذه الجريمة يؤدي إلى زعزعة هذا النظام، وأكثر الدول تحمي نظامها بأشد العقوبات تفرضها على من يخرج على هذا النظام أو يحاول هدمه أو إضعافه، وهي الإعدام فالقوانين الوضعية تعاقب على الإخلال بالنظام الاجتماعي بنفس العقوبة التي وضعتها الشريعة لحماية النظام الاجتماعي الإسلامي) ويقول أيضا: (فالدولة الشيوعية تعاقب من رعاياها من يترك المذهب الشيوعي وينادي بالديمقراطية، وكذا تحارب الدول الديمقراطية الشيوعية وتعتبرها جريمة وهكذا)(8)[8]).
إنهاء العلاقة الزوجية: إذا ارتد الزوج أو الزوجة انقطعت علاقة كل منها بالآخر وهذه الفرقة تعتبر فسخا فإذا تاب وعاد إلى الإسلام كان لا بد من عقد ومهر جديدين، والمرتد عن الإسلام لا ينكح لأنه ليس بمسلم، ولا يجوز لمسلمة أن ترضى بمرتد عن الإسلام زوجا وحكمه حكم اليهودي والنصراني.
والمرتد لا يرث أحدا من أقاربه المسلمين، لأن المرتد لا دين له، فإن قتل المرتد ولم يرجع إلى الإسلام، انتقل ماله هو إلى ورثته المسلمين للحديث: ((لا يرث الكافر المسلم))(9)[9]).
وأما أسباب الارتداد:
شكوك وشبهات: وأعداء الله تعالى لم يتركوا بابا للشك إلا أثاروه فالمناهج والمبادئ والنظريات والأفكار المدمرة التي لبست ثوب العلم فأغرت الكثير من أبناء الإسلام على تصديقها، ثم الشبهات حول ذات الله ووجوده وشريعة الإسلام واتهامها بالرجعية والقصور، وأنها عقبة أمام العلم واتهام الحدود الشرعية بالوحشية وظلم المرأة وغير ذلك كثير مما أوقع البلبلة في قلوب وعقول الكثير من أبناء الإسلام.
الشهوة العارمة: والعبد إذا غلبته شهوته هان عليه دينه، ذكر ابن الجوزي رحمه الله في كتابه (ذم الهوى) بابا سماه: باب في ذكر من كفر بسبب العشق وأورد هذه القصة: بلغني عن رجل كان ببغداد، يقال له صالح المؤذن، أذن أربعين سنة، وكان يعرف بالصلاح، فصعد يوما إلى المنارة ليؤذن، فرأى بنت رجل نصراني كان بيته إلى جانب المسجد، فافتتن بها، فجاء فطرق الباب، فقالت: من؟ فقال: أنا صالح المؤذن، ففتحت له، فلما دخل ضمها إليه وطلبها زوجة له فقالت: لا إلا أن تترك دينك، فقال: أنا بريء من الإسلام ومما جاء به محمد، ثم دنا إليها، فقالت: إنما قلت هذه لتقضي غرضك ثم تعود إلى دينك، فكل من لحم الخنزير، فأكل، قالت: فاشرب الخمر، فشرب، فلما دنا منها وقد سكر ولعبت الخمرة بعقله، قالت له: اصعد إلى السطح حتى إذا جاء أبي زوجني منك وصعد مترنحا فسقط فمات فجاء أبوها وعرف القصة وأخرجه في الليل ورماه في قارعة الطريق ثم ظهر خبره فرمي في مزبلة(10)[10]). نسأل الله العافية.
وكذلك في واقعنا أن فتاة مسلمة في مدرسة أجنبية عشقت نصرانيا فسافرت معه وتزوجت وولدت منه: فلما جاءها بعد ذلك من يخبرها أن المسلمة يحرم عليها أن تتزوج نصرانيا، قالت: أول مرة في حياتي أسمع هذا.
البيئة الفاسدة: وللبيئة أثرها في إفساد العبد في دينه فيكون الإفساد من جهة:
أ- الوالدان: للحديث: ((ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه))(11)[11]).
ب- المجتمع: قال تعالى في شأن بلقيس: وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين [النمل:43]. أي إنها كانت من قوم راسخين في الكفر فلم تكن قادرة على إظهار إسلامها وهي بين ظهرانيهم(12)[12]).
ج- رفقه السوء: وللرفقة أثرها البالغ في استقامة أو انحراف العبد للحديث: ((المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل))(13)[13]). ويقال: (قل لي من تصحب أقول لك من أنت) (إن الطيور على أشكالها تقع).(3/77)
د- الاستعلاء الأثيم: جبلة بن الأيهم ملك من ملوك الغساسنة أسلم زمن عمر ، جاء لأداء فريضة الحج وكان يطوف حول البيت الحرام، فداس أعرابي خطأ على إزاره فسقط فلطمه جبلة فهشم أنفه، فشكى الأعرابي أمره إلى الخليفة عمر ، فطلب جبلة، وخيّر الأعرابي بين القصاص والدية فأبى الأعرابي إلا القصاص، فقال له عمر: يا جبلة مكن الأعرابي منك ليقتص، فقال جبلة: أتمكنه مني وما هو إلا من سوقة الناس وعامتهم فقال عمر: دعك من هذا فقد سوى الإسلام بينكما، فقال جبلة: إذن أمهلني إلى غد، فلما كان الليل هرب ولحق بملك الروم وتنصّر.
وأما موقف المسلم من الردة:
عدم الانسياق وراء وسواس وشكوك وليكن صاحب اعتقاد جازم بأنه على الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال فلا يتحدث به على سبيل الإشاعة لهذا الشك للحديث: ((جاء أناس من أصحاب النبي فسألوه فقالوا: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به! قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم قال: ذلك صريح الإيمان))(14)[14]). أي استعظام الكلام به فضلا عن اعتقاده.
أن نتعرف على إسلامنا بشكل أكثر جدية وعمق، فكل منا جندي في موقعه من جند الله وعليه أن يكون مزودا بالحجة والدليل على صدق ما يحمله وإمكانية الرد على أعداء الله وشكوكهم وهذا يفرض علينا أن تكون لنا صلة بالكتاب الإسلامي الموثق وكذا سؤال أصحاب العلم والخبرة والتجربة قال تعالى: فاسألوا أهل الذكر أن كنتم لا تعلمون [النحل:43].
ألا نذل لشهواتنا ذلا يخرجنا عن إسلامنا، ويا خيبة الغبي الذي يبيع دينه وآخرته لأجل نزوة حيوانية تذهب لذتها وتبقى تبعتها وسواد وجه صاحبها في الدنيا والآخرة وليكن لنا في ديننا عاصم وفي يوسف عليه السلام قدوة قال تعالى حكاية عنه: قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين [يوسف:33].
-------------------------
الخطبة الثانية
لم ترد .
__________
(1) رواه مسلم .
(2) رواه مسلم .
(3) الحفاظ ابن مردويه.
(4) أحمد وابن ماجة .
(5) مسلم .
(6) البخاري .
(7) أحمد والبخاري والنسائي .
(8) التشريع الجنائي مجلد 1 ص 536.
(9) رواه الأربعة .
(10) 10])ذم الهوى ص 348.
(11) 11])البخاري ومسلم .
(12) 12])الألوسي ج19 ص207.
(13) 13])أبو داود بإسناد حسن .
(14) 14])مسلم .
==============
الردة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
9/5/1420
النور
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- تعريف الردة 2- حكم المرتد في الدنيا وحكمه في الآخره 3- أنواع الردة وكيف يحذر المسلم منها 4- الحكمة من وجوب قتل المرتد 5- عمل أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع المرتدين وأثر ذلك على أمة الإسلام 6- أسباب الردة
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
الردة: حكم شرعي حكم الله به على من كفر بعد إسلامه طواعيةً بنطق أو اعتقاد أو فعل أو شك ولو كان هازلاً.
والمرتد له حكم في الدنيا وله حكم في الآخرة. أما حكمه في الدنيا فقد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((من بدل دينه فاقتلوه)) رواه البخاري. وقد أجمع العلماء على ذلك وما يتبعه من أحكام من عزل زوجته عنه، ومنعه من التصرف في ماله قبل قتله، فإن قتل مرتداً صار ماله فيئاً لبيت مال المسلمين من حين موته، لأنه لا وارث له، فلا يرثه أحد من المسلمين لأن المسلم لا يرث الكافر ولا يرثه أحد من الكفار ولو من أهل الدين الذي انتقل إليه لأنه لا يقر على ردته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)). قال ابن قدامة رحمه الله: "من ارتد عن الاسلام من الرجال والنساء وكان بالغاً عاقلاً، دعي إليه ثلاثة أيام وضيق عليه، فإن رجع فبها ونعمت، وإلا قتل". قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المرتد شرّ من الكافر الأصلي من وجوه كثيرة". انتهى.
وأما حكمه في الآخرة فقد بينه الله تعالى بقوله: ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .(3/78)
أيها المسلمون: وأنواع الردة كثيرة: أعظمها الشرك بالله تعالى بعد إسلام، ويدخل تحت هذا صوراً كثيرة من دعاء غير الله من الموتى والأولياء والصالحين أو ذبح لقبورهم أو نذر لها أو طلب الغوث والمدد من الموتى كما يفعل عباد القبور اليوم قال الله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . ومن جحد بعض الرسل أو بعض الكتب الإلهية أو جحد الملائكة فهو مرتد. ومن جحد البعث بعد الموت فهو مرتد، ومن سب الله تعالى أو سب نبيه صلى الله عليه وسلم فهو مرتد. ومن جحد تحريم الزنى أو جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها كشرب الخمر وأكل الخنزير أو حرّم شيئاً مجمعاً على حله فهو مرتد. ومن استهزأ بالدين أو سخر بوعد الله أو بوعيده أو امتهن القرآن الكريم أو زعم أن القرآن نقص منه شيء أو كتم منه شيء فلا شك في ارتداده، ومن جحد وجوب عبادة من العبادات الخمس الواردة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام)) فهو مرتد. ومن سوّغ لنفسه اتباع غير دين الإسلام ولو في جزئية أو اتباع غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو مرتد. ومن لم يكفر من دان بغير الإسلام كاليهود والنصارى والشيوعيين والملاحدة أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم فقد ارتد وكفر بالله عز وجل. ومن ادعى علم الغيب فهو مرتد، ومن اعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه أو أن حكم غيره أحسن من حكمه أو أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مرتد. ومن تولى وظاهر المشركين وأعان اليهود أو النصارى على المسلمين فهو مرتد. ومن حكّم القوانين الوضعية بدل الشريعة الإسلامية ويرى أنها أصلح للناس من شريعة رب العالمين فهو مرتد. ومن سب الصحابة أو أحداً منهم كأن كان دينه سب أبي بكر وعمر واقترن بسبه دعوى أن علياً إله أو نبي وأن جبريل غلط فلا شك عند أهل السنة في ردته وكفره. ومن اعتنق فكر الشيوعية أو القومية العربية أو العلمانية بديلاً عن الإسلام فلا شك في ردته، ومن ترك الصلاة إما جحوداً أو تهاوناً مع الإقرار بوجوبها فإنه مرتد لقوله صلى الله عليه وسلم: ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) ولقوله تعالى: ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين وقد كثر اليوم التهاون بالصلاة والتكاسل عنها والأمر خطير جداً فيجب على من يتهاون بالصلاة أن يتوب إلى الله وينقذ نفسه من الردة ومن النار.
أيها المسلمون: إن نماذج الردة أكثر مما ذكر، وما سبق عبارة عن أمثلة فقط، والمتأمل يرى أن صوراً كثيرة منها وقعت وانتشرت بين المسلمين، لذا يجب الحذر، وأول خطوات الحذر: التعلم والتفقه في الدين، فإن من لا يعرف الردة يوشك أن يقع فيه. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية".
أيها المسلمون: ومن ارتد عن الإسلام فإن حكم الشرع فيه أن يستتاب ويمهل ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتل، لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما بلغه أن رجلاً كفر بعد إسلامه فضربت عنقه قبل استتابته، فقال: "فهلا حبستموه ثلاثاً، فأطعمتموه كل يوم رغيفاً واستتبتموه لعله يتوب أو يراجع أمر الله، اللهم إني لم أحضر ولم أرض إذ بلغني" رواه مالك في الموطأ.
والحكمة في وجوب قتل المرتد أنه لما عرف الحق وتركه صار مفسداً في الأرض لا يصلح للبقاء لأنه عضو فاسد يضر المجتمع ويسىء إلى الدين، وقد يفتح المرتد لأعداء الأمة ثغرات للإضرار بها بما يقدمه لهم من معلومات، وقد تؤدي الردة إلى اضطراب المجتمع بإغراء البسطاء بالإقتداء بالمرتد حين يظفر بحماية أعداء الملة وما يغدوقون عليه من رفاهية العيش. لذا كان من محاسن حكم الشريعة قطع رقبة المرتد.
أيها الأحبة: معلوم ذلك الموقف العظيم الذي وقفه أبو بكر الصديق رضي الله عنه من المرتدين تلك الوقفة الخالدة الذي كان تطبيقاً عملياً لتنفيذ حكم الله، فعقد أحد عشر لواءً وأرسل بهذه الجحافل نحو الذين امتنعوا من دفع الزكاة وارتدوا على أعقابهم وكتب إليهم كتاباً مع قواد المسلمين جاء فيه: أما بعد: فقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به اغتراراً بالله تعالى وجهالة بأمره وإجابة للشيطان، وإني بعثت إليكم فلاناً في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، وأمرته ألاّ يقاتل أحداً ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقر وكفّ وعمل صالحاً قَبِل منه ذلك وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك .. إلى آخر الرسالة. لقد كان لحزم أبي بكر رضي الله عنه وصلابته في التعامل مع هؤلاء المرتدين أثره الواضح في استئصال شأفة الردة من جميع أنحاء البلاد وحفظ بذلك وحدة الأمة ووقاها من الهلكة يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "لقد قمنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً كدنا نهلك فيه لولا أن الله منّ علينا بأبي بكر"(3/79)
عباد الله: للردة أسباب، ولعلي أن أشير إلى بعضها: من أسباب الردة: الذكاء والعقل والاعتداد بالرأي والاعتداد بالنفس والثقة المطلقة بها: لا شك بأن العقل نعمة من الله جل وتعالى على العبد، لكن ينبغي أن يعلم العبد بأن للعقل حدوداً، وهناك قضايا ينبغي للعبد أن لا يخوضها بعقله وإلاّ هلك مثل قضايا الغيب ونحوها، فهناك من العباد من أعطاهم المولى عقولاً غير عادية، لكن هذا العقل كان سبباً في ردتهم قال عنهم شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: "أوتوا ذكاءً ولم يؤتوا زكاءً". من هؤلاء عدد ذكرهم الذهبي في تاريخه كالسهروردي الذي كان يتوقد ذكاءً وكان بارعاً في أصول الفقه قال عنه الذهبي: مفرط الذكاء لم يناظر أحداً إلا أربى عليه إلا أنه قليل الدين. فهذا الرجل مع ما أعطاه الله من الذكاء إلا أن علماء وقته أفتوا بقتله، لأن عقله أدخله في التعطيل والانحلال، فقتل بسبب عقله وذكائه، ومات مرتداً والعياذ بالله(1)[1]. ومنهم أيضاً الحلاج الذي اشتهر بالذكاء لكنه تزندق، وأفتى العلماء بقتله ردة وقتل، نسأل الله العفو والعافية(2)[2].
قال الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله: من قال إنه يؤمن بعقله فقط دون الشرع فإنه يبين له أن هذا كفر، فإن أصر على مقالته فهو كافر مرتد عن الإسلام، يستتاب من جهة ولاة الأمر فإن تاب وإلاّ قتل مرتداً(3)[3].
ومن أسباب الردة: الشهوات: سواء كانت شهوة الفرج أو شهوة المنصب ولكل ضحايا سقطوا فيها، وقد جمع بين الأمرين أحد أبناء الملك السلطان المعز التركماني حاكم مصر في القرن السادس الهجري و كان ديناً عاقلاً لكن أحد أولاده تعلق قلبه بامرأة نصرانية فتزوجها وأنجبت له أولاد تأثروا بأمهم فعاشوا على النصرانية ثم تنصر هو في النهاية وسمى نفسه ميخائيل، قال الذهبي رحمه الله في السير في ترجمته (4)[4]: نعوذ بالله من الشقاء فهذا بعد سلطنة مصر كفر وتعثر. وممن ترك الحق من غير ردة بسبب شهوة الملك والسطان هرقل وقصته معروفة مشهورة ذكرها البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس حيث ذكر اللقاء التي تم بين سفيان بن حرب وهرقل حيث سأل هرقل عن بعض الأمور المتعلقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، عن نسبه وهل أتباعه يزيدون أم ينقصون وهل يتهم بينكم بالكذب وهل يغدر ثم سأله بماذا يأمركم فقال يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ فقال هرقل في آخر كلامه: فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ. فهرقل كان يعلم صدق النبي صلى الله عليه وسلم فماذا الذي جعله لا يتجشم الصعاب حتى يخلص إليه؟ ولماذا لم يسلم؟ إنها شهوة الملك. لأنه يعلم أنه بمجرد إسلامه سيفقد الحكم والسلطان.
ومن أسباب الردة أيضاً: الفقر: فقد يكفر الانسان بسبب الفقر، والذي لم يجرب الفقر لا يمكن له أن يتصور الأمر، نسأل الله تعالى أن لا يرينا ذلك. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الفقر. فنعوذ بالله من الفقر.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول هذه القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد:
ومن أسباب الردة أيضاً: تبني الشخص لبعض الأفكار، وقد تكون البداية عبارة عن قراءات واطلاعات ثم يبدأ بالإقتناع بهذه الأفكار ثم يعتنقها ويعتقدها بديلاً عن الإسلام ثم يبدأ بالدفاع عنها وترويجها وربما الكتابة والتأليف، ولو تتبعنا أغلب من اقتنع بمبادئ العلمانية أو الحداثة فإنهم بهذا الشكل، مطالعات وقراءات حتى تصل إلى حد القناعة والإقتناع ثم تصبح العلمانية أو الحداثة هو الدين الجديد الذي يعتنقه بديلاً عن الإسلام، ومثلهم من اقتنع بمبائ الشيوعية والماركسية وصاروا يعتقدون أنها أفضل من مبادئ الإسلام. وتأسف كثيراً عندما تطالع على صفحات المجلات والجرائد كتابات من هذا النوع تطرح الفكر العلماني وتنادي بالحداثة وتهاجم أصول الدين بأنها من الموروثات القديمة البالية والتي يجب أن تستبدل بما عند الغرب، ويزداد أسفك عندما تجد من هو غارق في الشيوعية الحمراء إلى أذنيه بل ويتنقص الذات الإلهية والعياذ بالله، ثم تجد هناك من يمدحه ويثني عليه ويتأسف على فقده ولعل من أقرب الأمثلة القريبة على ذلك ذلك الشاعر الهالك المدعو بالبياتي والذي هلك قريباً والحمد لله، ومع كل أسف بعض جرائدنا ومنذ أكثر من أسبوع وما زالت تكتب المقالات في مدحه والثناء عليه والأسف على فقده. إسمع لبعض ما يقول البياتي: يقول في ديوانه - كلمات لا تموت - وهو يمجّد الشيوعية فيقول: ولم يزل، لينين، في صوته الأخضر، إنساناً من الشعب، ولم تزل، موسكو، على عهدها، منارة للسلم والحب. انتهى.
فنسأل الله أن يحشرك مع لينين وأن يبعثك على حب موسكو.
ويقول ونعوذ بالله من هذا الكلام في ديوانه السابق - كلمات لا تموت - في قصيدة عنون لها بأقوال، يقول:
يا رفيقة الليال، الله في مدينتي يبيعه اليهود، الله في مدينتي مشرد طريد، أراده الغزاة أن يكون، لهم أجيراً، شاعراً، قواد، يخدع في قيثارة المذّهب العباد، لكنه أصيب بالجنون، لأنه أراد أن يصون، زنابق الحقول من جرادهم، الله في مدينتي يباع بالمزاد، دعارة الفكر، هنا رائجة، ودعارة الأجساد. انتهى.(3/80)
فأي كفر وردة عن الدين أكثر من هذا والعياذ بالله، يصل الوقاحة والاستهزاء بالله عز وجل إلى هذا الحد، ثم يمدح الرجل وتكتب المقالات في الثناء عليه والخسارة على فقده. وبالمناسبة فإن معظم الحداثيين تفوح من قصائدهم وشعرهم تنقص الذات الإلهية والعياذ بالله، وكأن الحداثة لا تكون إلا بذلك، وأما البياتي الهالك فقد اجتمع فيه الأمران الحداثة بمفهومها المنحرف والفكر الشيوعي الماركسي.
أزكموا أنوفنا عندما هلك نزار قباني وسطر الحداثيون والعلمانيون المقالات في مدحه وكأن الأمة خسرت عالماً من علمائها أو مجاهداً من مجاهديها، واليوم هلك البياتي والقصة تتكرر. وكل من كتب مقالاً في مدح البياتي أو التأسف على موته فإنك تشك في دينه وعقيدته.
أيها المسلمون: الحذ الحذر مما ينشر ويكتب ويقال، فإن هناك من يدس السم في العسل، وغالب الناس لا يميزون ولا يقرأون ما وراء السطور، ولو دقق الشخص وتأمل لرأى الردة عن الدين بعينها.
__________
(1) نزهة الفضلاء 3/1483
(2) نزهة الفضلاء 2/1042
(3) فتاوى اللجنة الدائمة 2/7
(4) نزهة الفضلاء 3/1594
-===============
هل يقتل المسلم بالوراثة إذا ارتدَّ
المجيب …د. هاني بن عبدالله الجبير
قاضي بمحكمة مكة المكرمة
التصنيف …
التاريخ …8/6/1424هـ
السؤال
هل يقتل المسلم بالوراثة إذا ارتدَّ عن الإسلام؟ أي أنه لم يكن مسلماً بإرادته، وعندما بلغ سن الرشد قرر الاعتقاد بدين آخر.
الجواب
الحمد لله وحده، وبعد:
فالمسلم سواء اعتنق الإسلام برغبته واختياره أو كان مسلماً لأن أحد أبويه مسلم متى ارتد عن دينه وجبت استتابته، فإن تاب وإلا قتل لعموم النص.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من بدل دينه فاقتلوه" أخرجه البخاري (3017).
ولأنه أعظم في الجرم إذا عرف الإسلام وولد عليه، فارتداده عنه بعد ذلك دليل على عظم الفساد عنده. والله الموفق والهادي لا إله إلا هو
============
ثبوت حد الردة!
المجيب …عاصم بن ناصر القاسم
القاضي بمحكمة تمير
التصنيف …الفهرسة/ أصول الفقه /السياسة الشرعية
التاريخ …24/05/1427هـ
السؤال
سمعت فتوى لبعض أهل العلم يقول فيها: إن حَدَّ الردة لم يرد في القرآن الكريم، أو السنة المطهرة، وأنه اجتهاد من العلماء المتأخرين، وذكر أن للمسلم مطلق الحرية في ترك دينه دون أي مساءلة! فما حكم الشرع في الرِّدَّة؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فعقوبة المرتد عن دين الإسلام هي القتل بعد أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، كما في صحيح البخاري (6922) وغيره، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بدل دينه فاقتلوه". وفي الصحيحين عن معاذ -رضي الله عنه أنه- قال في مرتد رآه عند أبي موسى الأشعري في اليمن: لا أجلس حتى يقتل، -قضاء الله ورسوله- صحيح البخاري (6923)، وصحيح مسلم (1824). وقد حُكِي الإجماع على وجوب قتل المرتد، وروي ذلك عن أبي بكر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد وغيرهم ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة -رضوان الله عليهم- فكان إجماعاً.
وأنصح السائل وغيره بالرجوع في مثل هذه المسائل إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما عليه صحابته الكرام -رضوان الله عليهم- وصلى الله وسلم على محمد.
============
هل أحرق الإمام علي بعض الخوارج؟
المجيب …العلامة/ أ.د. عبد الله بن المحفوظ بن بيه
وزير العدل في موريتانيا سابقاً
التصنيف …الفهرسة/ السيرة والتاريخ والتراجم/أسانيد الحوادث التاريخية
التاريخ …27/04/1425هـ
السؤال
قرأت في أحد المواقع على الشبكة أن علياً بن أبي طالب -رضي الله عنه- أحرق بعض الخارجين عليه أثناء فترة خلافته، وهذا الشيء سبب لي حيرة بسبب الحديث الذي نعرفه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن التعذيب بالنار؛ لأنه شرك، فكيف يفعل علي -رضي الله عنه- ذلك؟.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
هذا الأثر ذكره الإمام البخاري (6922) عن عكرمة قال: أتى علي - رضي الله عنه - بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تعذبوا بعذاب الله" ولقتلتهم ، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من بدل دينه فاقتلوه". فأمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- لما ضل فيه الضُّلَّال السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ اليهودي واعتقدوا فيه - والعياذ بالله - الربوبية وشيئاً من هذا القبيل أشعل ناراً، وقال في ذلك:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً *** أوقدت ناري ودعوت قنبرا(3/81)
إضافة إلى أن هذه المسألة تعتبر من قضايا الأعيان التي لا عموم لها كما يقول الشاطبي، والحديث عموماً توجد اختلافات كثيرة في تأويله هل حرقهم بعد أن قتلهم أو هل همّ بحرقهم ولم يفعل .. وأياً كان الأمر فهو اجتهاد صحابي لا علاقة له بالشرك، وحرق الإنسان لا يجوز شرعاً، لكنه ليس شركاً، الشرك هو أن تعبد مع الله إلهاً آخر، أو أن تعتقد آلهة مع الله - سبحانه وتعالى- نعم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم- عن الحرق فقال: "إن النار لا يعذب بها إلا الله .." الحديث رواه البخاري (3016)، وليس معنى ذلك أن من أحرق بالنار فهو مشرك، لكن معناه أن هذه العقوبة هي عقوبة أخروية وليست عقوبة دنيوية، هذا الذي يجب أن نعتقده، فالمسألة ليست من باب الشرك، وكما سبق قد لا يثبت هذا التأويل حيث يحتمل أنه هم بتحريقهم ولم يفعل أو أراد تحريقهم بعد قتلهم، وإذا ما ثبت أنه حرقهم فيكون من اجتهاد الصحابي - رضي الله عنه - الذي يخالف نصاً، والمآل إلى نص الشارع، وليس إلى اجتهاد أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خالفت اجتهاداتهم نصوصاً في الشرع مع اعتقاد أنهم -رضي الله عنهم- مجتهدون،وأنهم كانوا يتصرفون طبقاً لهذا الاجتهاد، وأنهم كانوا هداة.
============
تكفير المعين المستهزئ بالدين
المجيب …العلامة/ عبد الرحمن بن ناصر البراك
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف …الفهرسة/ العقائد والمذاهب الفكرية/التكفير والعذر بالجهل
التاريخ …26/5/1424هـ
السؤال
من المعلوم أن الاستهزاء بالدين أحد نواقض الإسلام، وكفر مخرج من الملة، ولكن هل يقال بأن هذا المستهزئ -بعد إقامة الحجة عليه وإصراره على ذلك- كافر؟ أي هل يكفر بعينه؟ أفيدونا مأجورين.
الجواب
الحمد لله، من استهزأ بشيء مما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من القرآن ومن السنة الصحيحة أو شرائع الإسلام، كالصلاة والصيام والحج فإنه يكفر بذلك بعينه، ومثل هذا لا يجهل تحريمه وقبحه من كان عائشاً بين المسلمين، فإن الله تعالى قال في المنافقين الذين سخروا من النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- فأنزل الله فيهم:"قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ*لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم"
[التوبة: 65-66]، فحكم عليهم سبحانه وتعالى بالكفر بأعيانهم، فمن استهزأ بالله أو بالرسول -صلى الله عليه وسلم- أو بالقرآن أو بشرائع الإسلام عالماً عامداً مختاراً فإنه كافر بعينه، فنقول هو كافر، يعني أنه يصير مرتداً عن الإسلام، تجب استتابته، فإن تاب وإلا قتل؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-:"من بدل دينه فاقتلوه" رواه البخاري (3017) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- نعوذ بالله من زيغ القلوب، والله أعلم.
=============
إقامة الحد من غير الإمام
المجيب …د. هاني بن عبدالله الجبير
قاضي بمحكمة مكة المكرمة
التصنيف …
التاريخ …27/3/1423
السؤال
ما حكم قتل المرتد من دون إذن الإمام؟
الجواب
الحمد لله وحده، وبعد: الأصل أن إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام وإثبات موجبها هو من اختصاص الإمام وله إنابة غيره في ذلك؛ لأن ترك الناس ينفذون الأحكام بأنفسهم يؤدي إلى حصول الفوضى فيعتدي بعض الناس على بعض، ثم يتذرعون بأن المجني عليه ارتكب حداً.
وحتى لو أثبت الفاعل أن المجني عليه قد ارتكب ما يوجب الحد، فإن لولي الأمر أن يعزره على فعله؛ لأنه افتيات عليه فيما هو من اختصاصه.
ومع ذلك فقد يسوغ أحياناً أن يقيم الحد غير الإمام إذا لم يترتب على ذلك مفسدة عامة ولا خاصة وأثبت المنفذ موجب الحد، فإن رجلاً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت له أم ولد تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقع فيه، فأخذ المعول فوضعها في بطنها واتكأ عليها وقتلها، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي، فقال:" ألا اشهدوا أن دمها هدر". (سنن أبي داود 4361)، (سنن النسائي 7/107)، و(الحاكم 4/354)، وصححه ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر:" رواته ثقات".
وجندب - رضي الله عنه - قتل ساحراً عند الوليد بن عقبة دون إذنه (البيهقي 8/136) (ابن أبي شيبة 10/135).
والمرتد لابد أن يستتاب ويدعى للإسلام قبل أن يقتل، وفق الله الجميع لهداه، وصلى الله على محمد.
================
إكراه المسلمات على الردة سيناريو مكرر وحقائق غائبة وردود معلبة
همام عبد المعبود
سيناريو مكتوب ببراعة فائقة، وينفذ بدقة شديدة، يتكرر مرات ومرات، وما من أحد يعتبر، فهل من مدكر؟!.......... )
... فتاة أو امرأة مسيحية آمنت بالله سرا، ودرست الإسلام جيدا لمدة عام أو عامين، تسأل من تثق به من زملائها في العمل أو صديقاتها في الجامعة: أريد أن أشهر إسلامي فماذا أفعل؟!، يرشدها زملاؤها إلى الذهاب لأقرب مركز شرطة، أو سراي نيابة أو إلى لجنة الفتوى بالأزهر الشريف، أو دار الإفتاء أو مشيخة الأزهر.....، تدخل الفتاة للجهة المختصة، وتبلغ الشخص المسئول برغبتها في اعتناق الإسلام كدين...
المسئول.. بمجرد سماع طلبها.. يرفع سماعة الهاتف، ويتصل بـ.......، وفي خلال أقل من ساعة تفاجأ الراغبة في الدخول للإسلام بأهلها ورجلان من الكنيسة يدخلان عليها، ويطلبان إخلاء الغرفة من الموجودين، وينفردوا بها لساعة أو ساعتين (.... ) يمارسون خلاها كل وسائل الضغط الممكنة، يخرجوا بعدها وهم يقولون إنها قد تراجعت عن مطلبها، وأنها تعلن ثباتها على المسيحية، وربما طلبوا من الموظف المختص أن يأخذوها إلى الكنيسة ليقوموا بمراجعتها ومناقشتها في قرارها، بعيدا عن أجواء الشرطة والنيابة!!!(3/82)
يتصل الشخص المسئول بـ.....، ويبلغه بطلب رجال الكنيسة، وفجأة ينزل السماعة فينطلق الرجلان بالسيدة ويضعانها في سيارة مغلقة وينطلقان بها إلى الكنيسة، وفي صبيحة اليوم التالي تعلن الكنيسة أن الفتاة رجعت إلى عقلها ورشدها وعادت إلى دينها، وتراجعت عن طلبها الدخول في الإسلام، وقد تعلن أنها بحاجة إلى برنامج للعلاج النفسي ويأخذونها إلى الدير، وما أدراك ما الدير، أنه أشبه بمستعمرة أو دويلة داخل الدولة، وسرعان ما ينسى الناس قصة هذه الفتاة التي لا يدري أحد أحية هي أم أنها قد أصبحت في عداد الموتى!!!
الفارق الوحيد بين حالة (وفاء) وحالتي (تيريزا وماريان) هو مظاهرات الطلاب، وبيانات المثقفين، وفتاوى العلماء، و تغطيات الإعلام
هذا هو السيناريو (السكريبت) بلغة مؤلفي الدراما، الذي يتكرر في كل مرة تعلن فيه فتاة أو امرأة مسيحية رغبتها في اعتناق الإسلام، وهذا هو بالضبط ما حدث مع الفتاتين القبطيتين تيريزا إبراهيم (23 سنة) وماريان مكرم عياد (23 سنة)، الطالبتان بالسنة النهائية بكلية الطب بجامعة القاهرة، وهو هو نفس السيناريو الذي تكرر مع السيدة وفاء قسطنطين، البالغة من العمر 48 عامًا، والتي كانت تعمل مهندسة زراعية بإحدى الإدارات الحكومية بقرية أبي المطامير بمحافظة البحيرة، وهو نفس السيناريو المعد سلفا للتعامل مع أي حالة مشابهة!!
بين (وفاء) و(تيريزا / ماريان)
الفارق الوحيد بين حالة (وفاء) وحالتي (تيريزا وماريان) هو مظاهرات الطلاب، وبيانات المثقفين، وفتاوى العلماء، و تغطيات الإعلام (الصحافة المعارضة المصرية والقنوات الفضائية العربية)، في حالة (وفاء)، في حين سكت الجميع- اللهم إلا القليل النادر- في حالة تيريزا وماريان..
ورواية الكنيسة للرد جاهزة ومعدة سلفا وهي أن: الفتاة اختطفت وأُكرهت على الإسلام من قبل جماعة من المتطرفين، وهي تحتاج إلى فترة نقاهة طويلة طبية ونفسية، تسترد بعدها عافيتها، وتعود إلى دينها، ولا تنس الكنيسة بالطبع أن تحذر من مخطط (؟؟!!) يمول من الخارج لأسلمة الفتيان والفتيات المسيحيات، ولا مانع أن تتهم إمام أحد المساجد في بلدة الفتاة بأنه يقف خلف الموضوع، وأنه مشغول بدعوة النساء المسيحيات للدخول في الإسلام!!
أما رواية الجهات الأمنية فهي أن الفتاة: وقعت في أحابيل علاقة غرامية مع (زميلها) شاب مسلم، أغراها بالزواج، وأنه عندما علمت أسرة الفتاة بقصة الحب هذه ضغطت على الفتاة لكي تقطع هذه العلاقة فورا، لكن الفتاة رفضت أن تنصاع لضغوط الأسرة لإنهاء هذه العلاقة، فقامت بإشهار إسلامها!!
سيناريو محبوك.. وخطة جاهزة لإفشال أي محاولة من أي نوع لاعتناق شاب أو فتاة مسيحية دين الإسلام، وقبيل ثلاثة أسابيع قامت الجهات الأمنية بمحافظة الفيوم (على بعد120 كيلو متراً من القاهرة)، بإعادة فتاتين قبطيتين هما تيريزا إبراهيم (23 سنة) وماريان مكرم عياد (23 سنة) الطالبتان بالسنة النهائية بكلية الطب جامعة القاهرة إلى أسرتهم للحيلولة دون تفاقم الموقف، وقامت أسرة الفتاتين فور تسلمهما بحلق رأسيهما تماما وإلباسهما رداء الرهبنة، ونقلهما إلى الكاتدرائية القبطية في العباسية، بعدما تظاهر مئات من الأقباط أمام كنيسة مار جرجس بوسط مدينة الفيوم يوم 28 فبراير الماضي، احتجاجا على إعلانهما اعتناق الإسلام.
وأصدرت وزارة الداخلية المصرية بيانا قالت فيه إن الفتاتين توجهتا إلى فندق في الفيوم للإقامة فيه، لحين انتهاء جلسات النصح الديني لهما، التي يتقرر بعدها ما إذا كانتا تشهران إسلامهما نهائيا أو تبقيان على مسيحيتهما، حيث جرى العرف في مصر على أن يتم عرض أي مسيحي يسعى لتغيير ديانته علي لجنة النصح الديني، التابعة للكنسية، لتقديم النصح له بالبقاء على دينه، قبل إشهار إسلامه، في حالة تأكيد رغبته في ذلك. فيما ترددت أنباء عن رفض الكنيسة إسداء النصح للفتاتين في مديرية الأمن أو الفندق، قبل أن تسلمهما قوات الأمن لأسرتيهما، على غرار ما حدث مع زوجتي قس أبو المطامير وقس الشرابية، في كانون ثاني (ديسمبر) الماضي.
ولم يستطع أحد ساعتها أن يجد تفسيرا للصمت المريب للمنظمات الناشطة في مجال حقوق الإنسان داخل مصر وخارجها .
واقعة مشابهة
وقبل هذا الحادث بثلاثة أشهر فقط، أثار إعلان السيدة وفاء قسطنطين، زوجة أحد الكهان بالكنيسة المصرية، إسلامها، ثم ادعاء الكنيسة، بعد تسليمها السيدة وفاء، أنها قد عادت إلى دينها، عدة تداعيات وفتاوى دينية، في مقدمتها أن الإسلام لا يكره أحدا على اعتناقه، ولا على الاستمرار فيه، وعدم جواز ردّ المرأة التي أعلنت إسلامها إلى أهل دينها الأول، مهما يكن السبب، بل ووجوب حمايتها ونصرتها.
وانتقدت "اللجنة المصرية لمناهضة الإكراه الديني"، التي تضم مثقفين معظمهم من الصحفيين والمحامين وأساتذة الجامعات، تسليم أجهزة الأمن فتاتين مسيحيتين، أعلنتا رغبتهما في إشهار إسلامها، إلي الكنيسة، واعتبرته تناقضا مع "حرية الاعتقاد، وحرية الدين"، ودعم "للتطرف الديني، الذي تمارسه قلة من المتطرفين الأقباط مدعومين من المؤسسة الكنسية"، ووصفت تسليم الدولة للفتاتين بعدما لجأتا إلى أجهزة الأمن في محافظة الفيوم، لاعتناق الإسلام رسميا، بأنه "جريمة أخلاقية، وجريمة قانونية، وجريمة دستورية أيضا"، وتأكيد لغياب دور الدولة الرسمية، معتبرة أنها فقدت مبررات وجودها كدولة.(3/83)
وأصدر حوالي 30 مثقفاً مصرياً، ما بين صحفي ومحامي وأستاذ جامعة، معظمهم من الإسلامييين، بيانا انتقدوا فيه رضوخ الحكومة المصرية وقبولها تسليم السيدة التي أسلمت إلى رجال الكنيسة، كما عابوا فيه انسحاب الدولة ومؤسساتها من تحمل مسئولياتها القانونية والدستورية أمام مواطنيها بشكل خطير، وترك الساحة للضغوط المتطرفة التي وصلت إلى حد تسليم مواطنة إلى بعض رجال الدين ليضعوها قيد الاعتقال والتحفظ، وإجراء عزل كامل لها عن العالم الخارجي بدعوى مراجعتها للتثبت من أنها ليست واقعة تحت إكراه ديني.
وجاء في البيان الذي صدر تحت عنوان "بيان حول الأزمة القبطية الأخيرة": أن حرية الاعتقاد ينبغي أن تكون مكفولة للجميع، وينبغي أن تكون مصونة بقوة القانون، وأن تكون محمية، وأن الدولة ومؤسساتها وأجهزتها الأمنية والقضائية هي المخولة وحدها بالتحقيق مع مواطنيها ووضعهم قيد الاحتجاز أو الحبس وفي الأماكن التي حددها القانون، و إلا أصبحنا أمام دولتين، كما أن هيبة الدولة ذاتها تكون ساقطة من حسابات مواطنيها بعد ذلك، وأن خضوع الدولة وأجهزتها للابتزاز تحت ضغط المظاهرات المتطرفة يشكل سابقة خطيرة تعطي إشارات سيئة إلى الأطراف الدينية الأخرى بأن المطالب تنتزع بالضغط والابتزاز، وليس وفق القانون وضمانات مؤسسات الدولة.
ولم يستطع أحد ساعتها أن يجد تفسيرا للصمت المريب للمنظمات الناشطة في مجال حقوق الإنسان داخل مصر وخارجها، كما تساءل الكثيرون عما كان يجب أن يفعله المجلس القومي للمرأة، وناشد المثقفون كافة المنظمات الأهلية ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية التدخل لتحرير السيدة وفاء من الاعتقال الكنسي، ومنحها حرية الحركة والتنقل والإشراف الطبي والاجتماعي والاتصال بالعالم الخارجي، كإنسانة، وكمواطنة مصرية، وكذلك منحها حق اختيار السكن الذي تريد.
كما ناشد المثقفون الأجهزة الأمنية والقضائية تقديم المعلومات الصحيحة والمباشرة إلى أجهزة الإعلام لتوضيح صورة الأحداث المماثلة قبل أن تستفحل؛ وناشدوا الشرفاء والوطنيين من الأقباط أن يعلنوا صوتهم صريحا دفاعا عن حرية المواطنة "وفاء قسطنطين" وحقوقها الإنسانية، وألا يخضعوا لمنطق التطرف والتعصب الديني، مطالبين الدولة بتحقيق مبدأ الشفافية في هذه القضية بإتاحة الفرصة كاملة للصحافة المصرية بالالتقاء بالسيدة وفاء والتعرف على حقيقة قضيتها والضغوط التي مورست عليها ومن أي جهة كانت وحقيقة قناعاتها الدينية.
لا إكراه في الدين
وقد جاء القرآن الكريم صريحا وواضحا في بيان "حرية الاعتقاد"، قال - تعالى -: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)، وقال أيضا: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، وقال - تعالى -: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)، وقال - سبحانه -: (يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا... ).
وحول ما يردده البعض من أن القانون يفرض إجراءات معينة لإشهار إسلام القبطي أو القبطية منها ضرورة أن تتاح له فرصة الخلوة برجل دين مسيحي ليعظه وينصحه، وأن إشهار الإسلام لا يتم إلا بإعلان رجل الدين أن الطرف المعني مستمسك بالإسلام، قال الفقيه الدستوري والمفكر الإسلامي الدكتور محمد سليم العوا: "هذا الكلام غير صحيح، فهذه المسألة لا ينظمها قانون في مصر أصلاً، وإنما جرى بها العرف منذ زمن، نافيا أن يكون في الإجراءات المتبعة في مصر، ولا في غيرها من بلاد الأرض قاطبة، إجراء يتيح، أو يبيح، تسليم شخص أعلن إسلامه إلى أهل دينه السابق، مؤكدا أن هذا التسليم في ميزان الإسلام "خطيئة غير جائزة".
وكانت صحفا مصرية قد نقلت تسريبات عن اللقاءات الأولى التي سمحت بها بالفعل السلطات لوفد الكنيسة بالجلوس مع الزوجة، أكدت فيها أنها أسلمت منذ عامين وعن قناعة ودون إكراه من أحد، وأنها تحفظ 17 جزءا من القرآن، وأنها تصلي بعينيها، وتصوم رمضان سرا. ويشكل الأقباط، حسب الإحصائيات الرسمية في مصر، نحو 5. 3 % من عدد السكان البالغ 76 مليون نسمة، أي نحو 4 ملايين نسمة.
وادعي قسيس بكنيسة أبي المطامير بمحافظة البحيرة أن السيد محمد المرجون زميل السيدة وفاء قسطنطين قام باختطافها وأرغمها على إشهار إسلامها. وقال منظمة أقباط الولايات المتحدة في موقعها على الإنترنت أنه "بعد الضغط الذي صنعه الأقباط المعتصمون المتظاهرون في الكنيسة على الحكومة، سلمت مباحث أمن الدولة الفتاتين للآباء الكهنة، وتم إرسالهما لأحد الأديرة، ولم يتم الإعلان عن اسم الدير، وهما الآن في الدير مع والديهما".
يشار إلى أن امرأتين مسيحيتين في مدينة أبو المطامير أشهرتا إسلامهما خلال الأشهر الستة الماضية، غير أن الكنيسة تتهم الشرطة المصرية بالتواطؤ ضد الأقباط، مدعية أن ما يقوله الضباط في مركز أبو المطامير من أن المسيحيات يشهرن إسلامهن بمحض إرادتهن كلام غير صحيح.
ويقول علماء: الأصل أن الإسلام لا يُكْره أحدا على الدخول فيه، كما أنه لا يكره أحدا على البقاء فيه والاستمرار على اعتناقه وهو كاره، قال - تعالى -: " (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) [البقرة: 256]. وقال أيضا: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (جزء من الآية 29 من سورة الكهف). وقال أيضا: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) (سورة يونس الآية 99).(3/84)
والثابت عند أهل العلم أنه لا يجوز للمسلمين ردّ المرأة التي جاءت إليهم مسلمة، غير أنه يجب على الدولة المسلمة أن ترد إلى زوجها غير المسلم الذي بقي على دينه ما دفعه لها من المهر وما في حكمه من بيت مال المسلمين، أو تلزم بهذا الرد من يتزوجها من أهل الإسلام، لئلا يضار الزوج من أهل الدين الآخر في ماله لسبب لا شأن له به ولا ويد له فيه.
وذلك امتثالا لقوله - تعالى - في سورة الممتحنة: «يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا... » إلخ الآية العاشرة من السورة. والمقصود بالامتحان هنا أن يتأكد أن سبب إسلام المرأة هو رغبتها في الدين.
وعليه فإنه لو كانت الفتاتان قد أكرهتا على العودة للمسيحية وترك الإسلام بعدما دخلتا فيه ولو بقلبيهما فإنهما تكونان مؤمنتين، وأمر عقيدتها بينهما وبين ربهما، وهو أعلم بهما من خلقه أجمعين وأرحم بهما من خلقه أجمعين، ويبقى إثمهما على من أكرههما، وعلى من مكنوا المكرهين منهما بعدما أعلنتا أنهما مسلمتين.
10/2/1426
http://www.almoslim.net المصدر:
==============
الردة في ثوبها الجديد
الخطبة الأولى:
الحمد الله هادي العباد، الرقيب على خلقه، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أحمده - سبحانه - حمد عبد خافه ورجاه، وأشكره، والشكر واجب على العبد لمولاه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند له في جلاله وكماله وعلاه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صفوة الخلق، وأفضل الهداة إلى صراط الله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على طريقه واتبع هداه.
أما بعد:
فيا عباد الله: قرة عين المؤمن وطمأنينة قلبه، تبدو واضحةً في تقواه لربه، فإن تقوى الله هي أساس كل صلاح، وسلوان كل كفاح.
أيها المسلمون: في يوم مليء بالحزن والأسى يعلوه الصمت الرهيب، وتغمر الوجوه فيه دموع شفافة، وتخترق جدران صمته همسة رقيقة أسيفه، في يوم وقف المسلمون فيه بخشوع، والدنيا من حولهم هاجعة صامتة، تواجه الأمة فيه خطباً جليلاً، زعزع المسلمين وأذهلهم، أو كاد يطير بألبابهم، وذلك الموقف المثيب لم يقطعه سوى صهيل فرس جاءت تركض، بعد أن خلعت رسنها وقطعت شوارع المدينة، وثباً وراء جثمان صاحبها، يقودها عبيره وأريجه.
وكم كانت المواقف عظيمة، والآثار المضنية جسيمة، كل ذلك كان حزناً وأسى على فراق خير البرية، وأزكى البشرية جمعاء، إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوى في مرقده، وفاضت روحه بأبي هو وأمي، ومات فوق الأرض التي طهرها من وساوس الوثنية، وأزاح من طريقها كل قوى التقهقر والشرك.
لقد لحق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى، ليحمل أصحابه من بعده مسئولية الدعوة، ولم يكن الأمر حينها جرعة ماء، ولا اقتسام غنيمة. لا وربي. ومع ذلك لم تمض إلا ليلة واحدة، بل لم تمض إلا ساعات قليلة، والدموع في المآقي، والغصة في الحلوق، ولكن المهمة عظيمة، والمسئولية جسيمة، وأمر المسلمين لا ينبغي أن يترك لهجمات الرياح، ونزعات العواطف، لم تمض تلك الليلة إلا وقد بويع فيها لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - خليفةً للمسلمين.
بعد ذلك عظم الخطب، واشتدت الحال، ونجم النفاق بالمدينة، واشرأبت اليهودية والنصرانية وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، وارتد من ارتد من أحياء العرب حول المدينة، وامتنع آخرون من دفع الزكاة ولم يبق للجمعة مقام في بلد سوى مكة والمدينة.
عند ذلك، وقف المسلمون الصادقون وقفةً إيمانيةً ظاهرة، وصفوا صفاً إسلامياً متراصاً، فلم يخافوا تلك الجموع المرتدة، ولم ترهبهم تلك القوى المتألبة. لماذا؟ لأنهم صدقوا الله البيعة وأحسنوا الإسلام، لقد كانت الردة خطراً عظيماً، هدد مكة والمدينة، ومجتمع المسلمين كله، بل قام المنافقون يودون أن تنقض عرى الإسلام من جديد، عروةً عروة.
عند ذلك، أشار بعض المسلمين على الخليفة أن يتركهم وما هم عليه، ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم، ولكن الصديق - رضي الله عنه - صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد فهم الإسلام قولاً وعملاً، وعلم أنه منهج رباني متكامل، وأن الأمر لم يكن بهذه الصورة التي عرضها عليه أصحابه، وأن القضية لم تكن بتلك الموازين، بل إن الأمر أعظم من ذلك، فلم يتمالك الصديق - رضي الله عنه - حينها، إلا أن يرفع عقيرته قائلاً " لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ".
أيها المسلمون: إن أمر الصلاة والزكاة، والحج والصيام والجهاد، وغيرها من شعائر الإسلام وتشريعاته، ليس في حقيقته إلا أنه إخلاص لعبودية لله وحده، أو أنه اتخاذ شركاء معه، فالإنسان إما أن يكون مسلماً أو لا يكون (إن الدين عند الله الإسلام) " سورة آل عمران، الآية : 19 ". أما حينما يأخذ الرجل من الإسلام ما يستهويه، ولا يتناقض مع مصالحه وشهواته ومطامعه، ثم يأخذ من الجاهلية ما يستهويه أيضاً، فذلك الضلال والشرك معاً.
إن انتقاص منهج الله في شعيرة، أو أمر من الأمور التي شرعها الله، يعني الاعتقاد بأنه منهج ناقص قاصر، - تعالى -الله عن ذلك علواً كبيراً، والدين الإسلامي منهج متكامل يقوم أساساً على قاعدة الإيمان بالله وحده، وأن محمداً رسول من عنده، إيماناً واضحاً يكون من مقتضاه الاستسلام لله - سبحانه -، ونزع كل عبودية لغير الله في كل شؤون الحياة العامة والخاصة، لهذا كان موقف الصديق واضحاً، مما جعل المسلمين يطمئنون إلى هذا الموقف، وينتبهون إلى حقيقة غابت عنهم قليلاً في غمرة الأحداث المفجعة.(3/85)
أيها المسلمون: ماذا تعني الردة عن الإسلام في عرف أهل العلم؟ إنها إبدال دين الإسلام وعقيدته، لإحلال غيرها مكانها، أو هي إنكار شيء مما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وثبت بالضرورة من دين الإسلام، أو هي الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض، وكان المرتد في الصدر الأول من الإسلام رجلاً منبوذاً ممقوتاً، لا يخفى على الناس أمره، ولا يكون ارتداده في غالب الأحوال سراً من الأسرار.
وقد ظن كثير من الناس أن ظاهرة الردة قد وئدت إلى غير رجعة، بوأد أبي بكر لها، ولكن الأمر على العكس من ذلك. فإن الردة عن الإسلام قد تطفؤ نارها تارة، وتضرم تارة أخرى، وقد تكون كالحرباء، تتلون وتتغير بألوان تواكب العصر والحضارة. وقد برز في هذا العصر لون متميز من ألوان الردة، ولباس جديد من ألبستها، فقد اكتسح جزءاً كبيراً من أجزاء العالم الإسلامي، وغزت هذه الظاهرة عدداً كبيراً من الأسر والبيوتات، إنها ردة..ولكنها لم تلفت المسلمين، ولم تشغل خاطرهم، لأن صاحبها لا يدخل كنيسة، ولا يتعبد في بيعة، هذه الردة هي ما يسمى بالحرية الشخصية، التي يدعي أرباب الفكر المادي الملحد أنهم ربحوها من وراء التحرر من الدين، والتلبس بلباس العلمانية، وهذه الحرية هي العب من الشهوات بلا حساب، والانطلاق وراء الرغبات الحسية بال حياء، والتحلل من عرى الفضائل والأخلاق والقيم العليا، بل والتحلل من الدين بالكلية، وتنحية شرع الله عن واقع الحياة، وهذه الحرية المزعومة، ليست كسباً يسعى إليه، ولا غنماً يحرص عليه، إنما هي لا غير خسارة جسيمة على البشرية جمعاء، وهزيمة منكرة للمعاني الإسلامية، التي بها صار المسلم مسلماً (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون) " سورة آل عمران، الآية : 83 ".
إن القيود التي يفرضها الإسلام على المسلم، لا يريد بها عذابه، ولا حرمانه، إنما يريد بها أن يرتفع به من الحيوانية الهابطة، إلى الإنسانية الصاعدة، وبذلك ينتصر المسلم على الدعوى التحررية، ويتغلب الإيمان والتقوى، على الشهوة البهيمية السبعية، وكل مجتمع يخرج على هذه القيود، أو يهون من شأنها، فإنه يعرض نفسه للخطر، ويقرب بها من حافة الهاوية (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) " سورة البقرة، الآية : 229 ".
أيها المسلمون: إن هذه الظاهرة تعد من أخبث وأخطر الظواهر التي تواجه المسلمين في عصرهم الحاضر، حيث يراد لهذه الظاهرة أن تمحو شريعة الله من الأرض وتقصيها من واقع حياة المسلمين، وتشتت ولاءهم الموحد إلى ولاءات جاهلية متعددة ودعاة هذه الظاهرة مازال مكرهم مشتهراً، ودعوتهم تسري سريان النار في يابس الحطب، والناس مشغولون بالجدل والنقاش، حول ما يثيرونه، ويتوهمون أنها مشكلات حقيقية لابد لها من حلول. وما علم أولئك الناس أن دعاة تلك الظاهرة قد رأوا الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وخافوا بذلك أن تفوتهم حظوظ من الدنيا، فتقدموا حاقدين ضامرين الغدر، ناسين أن الله سميع بصير، وأنه سيحفظ لهذه الأمة دينها، وسيهلك عدوها (فالله خير حفظا وهو أرحم الراحمين) " سورة يوسف، الآية : 64 ".
إن أهل الكفر الذين يغذون تلك الظاهرة قد يتسامحون بشيء من الإسلام، ولكن بالإسلام الذي لا يكافح الاستعمار، وليس هو الإسلام الذي يقاوم الطغيان، لأن الإسلام حين يحكم سينشئ الشعوب نشأة أخرى، وسيعلم الشعوب أن إعداد القوة فريضة، وأن الكفر والاستعمار وباء، فكلاهما عدو وكلاهما اعتداء. إنهم يجوزون أن يستفتى الإسلام في منع الحمل، ويجوزون أن يستفتى في نواقض الوضوء، ولكنهم لا يجوزون أن يستفتى أبد، في أوضاع المسلمين، دينيةً كانت أو اجتماعيةً أو اقتصادية، ولا يستفتى أبداً في قتل الأنفس البريئة، وتشريد المجتمعات المسلمة في فلسطين، وفي البوسنة والهرسك، وفي كشمير والصومال وغيرها من بلاد المسلمين، سبحانك يا رب، رحماك يا رب، أيها المسلمون : ما هذه العنجهية التي يريدون؟ ما هذا الكبت الذي ينشدون؟.
إن هذه الدعوات المنطلقة عبر الأثير، والتي يتلاطم غبارها ذات اليمين وذات الشمال، والتي تريد أن تسقط أجنة المسلمين، أو أن تئدها في مهدها، إنها تريد للإسلام والمسلمين أن يعيشوا في نطاق ضيق خسيس، لا يعرف المسلمون فيه من الإسلام غير اسمه.
إن هذه الدعوة الماكرة، تريد أن تصل إلى قلوب المسلمين عبر طرق معقدة ملتوية، من أشهرها، الهجوم الشرس على العقيدة الإسلامية، ورميها بأحد ما وضعوا من عبارات مسفة، كقولهم، إن الشريعة الإسلامية شريعة بربرية كشريعة الغاب، تشوه يد السارق، وترتكب جريمة فظيعة برجم الزاني المحصن وقتل الكافر المرتد، فللفرد أن يدين بما شاء، وأن يتبادل الحب والغرام مع من شاء.
ومنها : إضفاء صبغة البهرجة الكاذبة، والدعاية الرائجة لتلك العلمنة الهدامة، ووصفها بأنها علامة التقدم ومسايرة روح العصر، الذي سيطرت عليه المعارف، وهي حركة لا تقيد الإنسان بدين، بل يأخذ ما يريد، ويدع ما لا يريد.
ويا للأسف الشديد، فقد وقع كثير من المسلمين فريسةً لهذا الغزو الماحق الماكر، وتعلق كثير منهم بتلك البهرجة، وذلك الخواء الروحي. وبعد هذا فلكل مسلم أن يتساءل : لماذا انتشرت هذه الظاهرة بين المسلمين؟ ولماذا استطاعت أن تغزوهم في عقر دارهم؟ وكيف استطاعت أن تسيطر على العقول والنفوس؟ وما هو الطريق المنجي من تلك الهلكة؟(3/86)
فالجواب على ذلك كله هو أن العالم الإسلامي قد ضعف ضعفاً شديداً، في العقيدة والعلم والدعوة، وبدا عليه الإعياء والشيخوخة. والإسلام لا يعرف الشيخوخة ولا الهرم، إنه جديد كالشمس، وقديم كالشمس، وشاب كالشمس، ولكن المسلمين هم الذين شاخوا، وهم الذين هرموا، فلا سعة في العلم ولا حماسة في الدعوة، ولا عرضاً جميلاً مؤثراً للإسلام ورسالته إلا النادر القليل. ونظراً لما أصاب كثيراً من المسلمين، من انحراف وغش في أذهانهم، فإن من الضروري أن يقوم المسلمون بتجلية تلك التصورات، وكشف هذه الشبهات، وفضح حقيقة اللادينية المزعومة، ومن أنجح الأساليب في ذلك، أن يدرس المسلمون خططهم وأساليبهم في الكيد والدس، عند ذلك ينكشف الستر عن الذين يستمدون قوتهم من العمل في الظلام، ويجدون أنفسهم وقد غمرتهم الأضواء، وكشفت أوكارهم وسراديبهم، وبذلك يكون فشلهم ساحقاً ماحقاً، بعد افتضاح أمرهم، لأنهم يسبحون ضد تيار قوي غلاب، يرعاه الله بقدرته، ويمده بمدده الذي لا ينفذ، وجنوده التي لا يعلمها إلا هو، ذلك هو تيار الإسلام.
وإذا كان الإيمان بالله والكفر بالطاغوت هو معنى " لا إله إلا الله ". والطاغوت، هو كل ما تجاوز به العبد حده، من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه من دون الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، وانطلاقاً من هذا المفهوم نستطيع أن نرى حكم الإسلام في تلك الظاهرة، التي تعني بداهة الحم بغير ما أنزل الله وتحكيم غير شريعة الله، فهذا معنى قيام الحياة على غير الدين، ومن ثم فهو أمر جاهلي، لا مكان له في الإسلام (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكفرون) " سورة المائدة، الآية : 44 ".
أيها المسلمون : إن الفتنة الكبرى التي ابتلى بها المسلمون في هذا العصر من محاولات الكفر في إبعاد شرع الله عن حكمه في الأرض لم تنجح ولن تنجح، بإذن الله، في القضاء على المسلمين، ولكن إحياء الأمة الإسلامية من سباتها العميق، والرفع بها إلى مكانها الطبيعي في مقدمة الركب، لتقود البشرية مرة أخرى بأمر من الله، لن يتحقق من خلال جهود أفراد قليلة، أو تجمعات صغيرة، إن الأمر أجل من هذا، والخطر أشد وأدهى.
والإسلام يحتاج إلى أولياء، وهم أولياؤه الذين يعملون له وحده ويواجهون به الكفر والإلحاد.
أولياءه الذين يعرفون أن الإسلام يجب أن يحكم، كي يؤتي ثماره كاملة. أولياؤه الذين لا تخدعهم دغدغة صهيونية، ولا تغريهم ابتسامة صليبية.
إن أهل الإسلام ينبغي ألا يطلبوا باسمه صدقةً ولا نفقة، ولكن يطلبون باسمه عدالةً إسلامية، وشريعةً ربانية، ولا يجعلون من الإسلام أداةً لخدمة الأهواء والأدواء، ولكن يريدون به عدلاً وعزةً وكرامة.
وبذلك كله يأخذ المد الإسلامي طريقه سريعاً، أسرع مما يظن الكثيرون، إنهم يرونه بعيداً، والله يراه قريباً.
(وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) " سورة النور، الآية : 55 ". بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا واستغفروا الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب الأرباب، وهادي العباد، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له ولا شبيه ولا أنداد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله رحمة للعباد اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور ما أحدث على غير هدىً من الله، أو سنة سنها محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله. وعليكم عباد الله بما كان عليه الصدر الأول، ففي هديهم الرشاد، وفي نهجهم الفلاح والسداد.
وليس في اتباع طريقتهم تأخر ولا رجعية، ومن حاد عن مسلكهم تقاذفته الشبه والأهواء، وارتطم بالفتن وانزلق في المهاوي.
هذا وصلوا على النبي، صاحب الحوض والشفاعة، قال - تعالى -: (يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) " سورة الأحزاب، الآية : 56 ".
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، وارض اللهم عن البررة الأتقياء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولا تدع بيت مدر ولا وبر إلا أدخلته هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً تعز به الإسلام، وذلاً تزل به الكفر، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
http://www.albder.com المصدر:
=============
حد الردة هو السياج المنيع والحصن الحصين لحماية هذا الدين والحفاظ على المسلمين ( 1 )
تمهيد:(3/87)
الحمد لله الذي جعل الدَِّين قواماً، ومحمد بن عبد الله للمتقين إماماً صلى الله عليه وآله وسلم، والحدود الشرعية حافظاً وسياجاً، والعلماء العاملين ردءاً لدين الله - عز وجل -، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل المبطلين، وشبه وتشكيك الشاكين، ودعاوى المارقين، فجزى الله الإسلام وجزاهم عنه خير الجزاء، وأمدَّهم بعونه وتوفيقه، وحفظهم وكلأهم بعين رعايته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، ولا حول ولا قوة إلا به.
لقد رفع المنافقون ـ نفاق الاعتقاد ـ في الآونة الأخيرة عقيرتهم، وأبانوا عن سوأتهم، وكشفوا عن قبيح معتقداتهم، وناصبوا الأمة الإسلامية بعداوتهم، وحاربوها بالتشكيك والطعن في الثوابت والمسلمات، بل بلغت بهم الجرأة والوقاحة أن أباحوا الردة وأنكروا حدها، وساووا بين دين الحق والأديان الباطلة، فازدادوا كفراً ونفاقاً إلى كفرهم ونفاقهم، لردهم لآي القرآن، وصحيح السنة، ودفعهم لما هو معلوم من الدين ضرورة، وذلك كله لسكوت العلماء، ولإحجام الحكام عن حماية شرع الله، فمن لم يردعه القرآن أخافه السلطان، فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن: "من أمن العقوبة أساء الأدب"، ورحم الله الإمام أبا بكر بن العربي المالكي عندما وصف كفر غلاة الشيعة بأنه "كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف، أما دفء المناظرة فلا يؤثر فيه".
فما الذي يردع هؤلاء؟ وهم يرون من سبقهم من الزنادقة أمثال سلمان رشدي، ونصر أبي زيد، والبغدادي، وغيرهم كثير لا كثر الله من أمثالهم، يسرحون ويمرحون ويُحمون، وينادي بعض المنهزمين من العلماء بعدم إقامة الحد على بعضهم بدعوى أنهم تابوا!!
ترى ما الذي منع بشر المريسي من إظهار بدعة الاعتزال وكان يعتقدها ويخفيها منذ عهد الرشيد؟ سوى خوفه من الرشيد، ولما أمن العقوبة في عهد المأمون أساء الأدب وأظهر ما كان يخفيه.
وبعد..
فهذا بحث عن تعريف الردة، وحدها، وأقسامها، وأدلة ذلك، والأسباب الداعية لها، وهل للمرتد من توبة؟ وعن أحكام المرتد، وعمن قتله ولاة أمر المسلمين من المرتدين قديماً وحديثاً، كتبت ذلك نصحاً للأمة، ومعذرة إلى ربي، ولعلهم يرجعون، ورداً على ما سطر ويسطر في الصحف هذه الأيام من المتطفلين الجرآء الجاهلين، وتهجمهم على الدين، وتشكيكهم في هذا الحد الذي جعله الله حماية للدين، وزجراً للزنادقة المارقين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (فإنه لو لم يقتل ذلك المرتد لكان الداخل في الدين يخرج منه، فقتله حفظ لأهل الدين وللدين، فإن ذلك يمنع من النقص، ويمنعهم من الخروج عنه).
إذ لا يحل تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقد تأخر، مما حدى بهؤلاء الورَّاقين السفهاء أن ينادوا بإسقاط حد الردة، ويعتبروا إقامة حدها جريمة لا تغتفر: "كبُرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً"، ونبشر هؤلاء أن حد الردة قائم ما قامت السموات والأرض، ولو اجتمع من في الأرض جميعاً لما استطاعوا أن يسقطوا حداً من حدود الله، دعك عن مجموعة الوراقين، ونذكرهم بأن دين الله منصور، وعليهم أن لا يغتروا بغلبة إخوانهم أهل الكفر والفجور، فالأيام دول، والحرب سجال، والله غالب على أمره، ونذكرهم كذلك بأن إقامة الحد عليهم في الدنيا أفضل لهم من إقامته عليهم يوم يقوم الأشهاد.
على المسؤولين أن يتقوا الله في دينه، ويعملوا على إيقاف هذه الحملات الكفرية التي يقودها الشيوعيون والمنافقون في الصحف، وفي بعض الجامعات؛ في الصحف الحائطية، وأركان النقاش، وليعلموا أن ذلك من أوجب واجباتهم، فليس هناك شيء أوجب على الحاكم من حماية الدين وردع الزنادقة المارقين بعد أن خرجوا من أجحارهم، ويمّموا نحو "الإمبريالية العالمية"، بعد سقوط روسيا الشيوعية، عجباً لهؤلاء الذين لم يرضوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً، واستعاضوا عن ذلك بالعبودية لغير الله، والعمالة لكل من يحادّ الله ورسوله والمؤمنين: "ومن يهن الله فما له من مكرم"، لا غرو في ذلك فقد أصبحت روسيا نفسها عميلة لأمريكا، فالعقوق سمة من سمات هؤلاء القوم، ومن قبل عقوا لدين آبائهم وأجدادهم.
والله أسأل أن يوفق ولاة الأمر من الحكام والعلماء للقيام بدورهم، وتحمل مسؤولياتهم، وأداء واجباتهم على الوجه الذي يرضيه، وأن ينتقم من الكفار والمنافقين، وأن يخالف بين قلوبهم، ويجعل كيدهم في نحورهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على حامي حمى الدين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
تعريف الردة:
الرِّدَّة هي الرجوع عن الإسلام كلياً أو جزئياً بإنكار ما هو معلوم من الدين ضرورة، بنفي ما أثبته الله ورسوله، أو إثبات ما نفاه الله ورسوله، وتكون بالفعل، والترك، والنطق، والاعتقاد، والشك، جاداً كان المرتد أم هازلاً.
وبلفظ آخر أن يرتكب الإنسان ناقضاً من نواقض الإسلام.
قال الكاساني الحنفي المتوفي 587هـ في بدائع الصنائع: (أما ركن الردة فهو إجراء كلمة الكفر على اللسان بعد وجود الإيمان، إذ الردة عبارة عن الرجوع عن الإيمان).
وقال الصاوي المالكي المتوفى 1241هـ في "الشرح الصغير": (الردة كفر مسلم بصريح من القول، أو قول يقتضي الكفر، أو فعل يتضمن الكفر).
وقال الشربيني الشافعي المتوفى 977هـ في "مغني المحتاج": (الردة هي قطع الإسلام بنية أو فعل، سواء قاله استهزاءً أو عناداً أو اعتقاداً).
وقال البهوتي الحنبلي المتوفى 1050هـ في "كشَّاف القناع": (المرتد شرعاً الذي يكفر بعد إسلامه نطقاً، أو اعتقاداً، أوشكاً، أو فعلاً).
أدلة كفر المرتد:
كثيرة جداً، منها:
قوله - تعالى -: "ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".(3/88)
قوله - تعالى -: "ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم".
وقوله: "إن الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء".
وقوله: "إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً".
وقوله: "ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين".
وقوله: "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم. ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين" ، فلم يستثن إلا المكره من الكفر.
وقال عن كفر المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام ويبطنون الكفر: "ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون".
وقال مميزاً المنافقين على إخوانهم الكافرين لعظيم ضررهم على الإسلام والمسلمين: "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً".
وقوله - تعالى -: "كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق.. أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".
وقال عن كفر تاركي الصلاة: "ما سلككم في سقر. قالوا لم نك من المصلين. ولم نك نطعم المسكين. وكنا نخوض مع الخائضين. وكنا نكذب بيوم الدين".
وقال عن المنافقين: "ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون".
حكم المرتد:
(أ ) في الدنيا
1. يُفرَّق بينه وبين زوجته، فإن تاب قبل انقضاء عدتها رجعت إليه، وإن انقضت عدتها قبل أن يتوب تبيَّن فسخ النكاح منذ ارتداده، سواء كانت ردته قبل الدخول بها أو بعد الدخول.
2. يُمنع من التصرف في ماله، وينفق منه على عياله، وتقضى ديونه.
3. لا يرث، ولا يورث، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرث المسلمُ الكافرَ ولا الكافرُ المسلمَ"، ويكون ما تركه فيئاً لبيت مال المسلمين، ومن أهل العلم من قال لورثته.
قال القرطبي عن ميراث المرتد: (قال علي بن أبي طالب، والحسن، والشعبي، والحَكَم، والليث، وأبو حنيفة، وإسحاق بن رَاهَوَيْه: ميراث المرتد لورثته من المسلمين، وقال مالك، وربيعة، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأبو ثور: ميراثه في بيت المال).
والراجح ما ذهب إليه مالك والشافعي ومن وافقهما أن ميراثه لبيت مال المسلمين، للحديث: "لا يرث المسلمُ الكافرَ.. "، وينفق على عياله من بيت مال المسلمين.
4. يُقتل المرتد من غير استتابة إن قُدِر عليه، إذا كانت ردته مغلظة، لأن الردة تنقسم إلى قسمين:
مغلظة، وهي ما تكون مصحوبة بمحاربة الله، ورسوله، وأوليائه من العلماء العاملين، وعداوتهم، والمبالغة في الطعن في الدين، والتشكيك في الثوابت.
ومجردة، وهي التي لم تصحب بمحاربة ولا عداوة ولا طعن وتشكيك في الدين، وكل الآثار التي وردت في استتابة المرتد متعلقة بالردة المجردة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (إن الردة على قسمين: ردة مجردة، وردة مغلظة شرع القتل على خصوصها، وكلاهما قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبها، والأدلة الدالة على سقوط القتل بالتوبة لا تعمُّ القسمين، بل إنما تدل على القسم الأول ـ الردة المجردة ـ كما يظهر ذلك لمن تأمل الأدلة على قبول توبة المرتد، فيبقى القسم الثاني ـ الردة المغلظة ـ وقد قام الدليل على وجوب قتل صاحبها، ولم يأت نص ولا إجماع على سقوط القتل عنه، والقياس متعذر مع وجود الفرق الجلي، فانقطع الإلحاق، والذي يحقق هذه الطريقة أنه لم يأت في كتاب ولا سنة ولا إجماع أن كل من ارتد بأي قول أو بأي فعل كان فإنه يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه، بل الكتاب والسنة والإجماع قد فرَّق بين أنواع المرتدين).
قال في "نيل المآرب في تهذيب عمدة الطالب": (ولا تقبل في الدنيا توبة من سبَّ الله - تعالى -، أو رسوله، سباً صريحاً، أو تنقصه، ولا توبة من تكررت ردته، بل يقتل بكل حال، لأن هذه الأشياء تدل على فساد عقيدته).
5. يتولى قتله الإمامُ أومن ينوب عنه.
6. لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
7. يبطل عمله، نحو حجة الإسلام، وهذا مذهب مالك ومن وافقه، لقوله - تعالى -: "لئن أشركتَ ليحبطنَّ عملك ولتكونن من الخاسرين"، وذهب الشافعي وأحمد إلى أن: (من ارتد ثم عاد إلى الإسلام لم يحبط عمله ولا حجه الذي فرغ منه، بل إن مات على الردة فحينئذ تحبط أعماله، وقال مالك: تحبط بنفس الردة، ويظهر الخلاف في المسلم إذا حجَّ ثم ارتد ثم أسلم، فقال مالك: يلزمه الحج لأن الأول قد حبط بالردة).
(ب ) في الآخرة:
إن تاب وصدق في توبته قبلت منه إن شاء الله، وإن لم يتب ولو قتل في الدنيا فهو من أهل النار خالداً مخلداً فيها.
كيفية توبة المرتد ردة مجردة:
1. أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.
2. أن يعلن رجوعه عما كان يعتقده، أو يقوله، أو يفعله بالتفصيل على العامة، قال - تعالى -: "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا" الآية، بأن يقول: كنتُ أعتقدُ كذا وكذا، أو كنتُ أقولُ كذا وكذا، أو كنتُ أفعلُ كذا وكذا، وأنا راجع عن كل ذلك؛ ويُكتب ويُختم ويشهد على ذلك، وإلا لا تقبل توبته.
أدلة قتل المرتد:
حد المرتد ثبت بالسنة القولية، والفعلية، والتقريرية، وبما صحَّ عن الخلفاء الراشدين وحكام المسلمين، وإليك الأدلة:
(أ) من السنة القولية، والفعلية، والتقريرية:
1. خرَّج البخاري في صحيحه بسنده إلى أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة يوم الفتح، وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن أخطل متعلق بأستار الكعبة؛ فقال: اقتله".(3/89)
وفي رواية للدارقطني كما قال الحافظ في الفتح: "من رأى منكم ابن أخطل فليقتله"، ومن رواية زيد بن الحباب عن مالك بهذا الإسناد: "وكان ابن أخطل يهجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشعر".
وقال الحافظ ابن حجر: (وأخرج عمر بن شبة في "كتاب مكة" من حديث السائب بن يزيد قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخرج من تحت أستار الكعبة عبد الله بن أخطل فضربت عنقه صبراً بين زمزم ومقام إبراهيم، وقال: "لا يقتلن قرشي بعد هذا صبراً"، ورجاله ثقات، إلا أن في أبي معشر مقالاً، والله أعلم.
وقال: وروى الطبراني من حديث ابن عباس.. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أمراءه أن لا يقتلوا إلا من قاتلهم، غير أنه أهدر دم نفر سمَّاهم، وقد جمعت أسماءهم من مفرقات الأخبار، وهم: عبد العزى بن أخطل، وعبد الله بن أبي السرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحويرث بن نُقَيد بنون وقاف مصغَّر، ومقيس بن صَبَابة بمهملة مضمومة وموحدتين الأولى خفيفة، وهبار بن الأسود، وقينتان كانتا لابن أخطل كانتا تغنيان بهجو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسارة مولاة بني عبد المطلب وهي التي وُجِدَ معها كتاب حاطب، فأما ابن أبي السرح فكان أسلم ثم ارتد فشفع فيه عثمان يوم الفتح إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فحقن دمه وقبل إسلامه.. وأما مقيس بن صَبَابة فكان أسلم ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله، وكان الأنصاري قتل أخاه هشاماً خطأ، فجاء مقيس فأخذ الدية ثم قتل الأنصاري ثم ارتد، فقتله نميلة بن عبد الله يوم الفتح).
وشاهدنا من هؤلاء في إهدار دم وقتل من أسلم ثم ارتد وهم: عبد الله بن أبي السرح، ومقيس بن صبابة، وسارة.
2. ما صحَّ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - يرفعه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه قال: "من بدَّل دينه فاقتلوه". 30
3. وما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يحلُّ دمُ امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث"، وذكر منهم: "التارك لدينه المفارق للجماعة".
(ب) قتل الخلفاء الراشدين والصحابة المهديين للمرتدين:
قتل أبي موسى ومعاذ - رضي الله عنهما - ليهودي أسلم ثم تهوَّد
خرَّج البخاري في صحيحه بسنده إلى أبي موسى عندما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن ثم أتبعه بمعاذ، فلما قدم معاذ على أبي موسى ألقى له وسادة، قال: انزل، فإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهودياً فأسلم ثم تهود؛ قال: اجلس؛ قال: لا أجلس حتى يُقتل قضاء الله ورسوله، ثلاث مرات؛ فأمر به فقتل".
إقناع أبي بكر لعمر وغيره بقتال المرتدين، وإجماع الصحابة على قتلهم بعدُ:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر، كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله؛ قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها؛ قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيتُ أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفتُ أنه الحق".
الذين قاتلهم الصديقُ ثلاث طوائف كما قال ابن حزم - رحمه الله - في الملل والنحل:
طائفة أعلنت الكفر وارتدت، واتبعت المتنبئين مسيلمة، وطليحة، والأسود، وسجاح.
وطائفة بقيت على إسلامها ولكن منعوا الزكاة.
وطائفة تربصت حتى ترى لمن الغلبة.
فقُتل الأسود العنسي، ومسيلمة، وعاد طليحة إلى الإسلام وكذا سجاح، ورجع غالب من كان ارتد إلى الإسلام، ولم يحل الحول إلا والجميع قد راجعوا دين الإسلام ولله الحمد كما قال الحافظ ابن حجر، وذلك بفضل الله، ثم عزيمة وشجاعة أبي بكر وإقامة هذا الحد على المرتدين، الذي لولاه لضاع الدين ولتهدمت أركانه.
قتل عليّ وحرقه لجماعة من الرافضة ألَّهوه وعبدوه:
خرَّج البخاري في صحيحه عن عكرمة قال: أتي علي - رضي الله عنه - بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لو كنتُ أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تعذبوا بعذاب الله"، ولقتلتهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدَّل دينه فاقتلوه".
خرج علي يوماً من المسجد بالكوفة بباب كندة فإذا جماعة من الرافضة المخذولين سجدوا له، فقال لهم: ما هذا؟ قالوا له: أنت خالقنا ورازقنا؛ فقال لهم: سبحان الله إنما أنا بشر مثلكم إن شاء رحمني، وإن شاء عذبني؛ فاستتابهم عليٌّ ثلاثة أيام، وتهددهم إن لم يتوبوا بالإحراق بالنار، فلم يفد، فأمر بحفر الأخاديد وملأها بالحطب وأشعلها ناراً، ثم ألقاهم فيها، وقال مرتجزاً:
لما رأيتُ الأمر أمراً منكراً *** أججت ناري ودعوتُ قنبرا
فهؤلاء الزنادقة لم يقاتلوا ولم يحاربوا علياً، بل عبدوه، ومع ذلك قتلهم ثم حرقهم بالنار بعد قتلهم تعزيراً، مما يدل على أنه لا فرق بين الردة الفكرية أو المصحوبة بمحاربة في العقوبة، بل كانت عقوبة هؤلاء الزنادقة أشد، لاتخاذهم علياً رضي الله عنه إلهاً.
قتل أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - لشيخ نصراني أسلم ثم ارتد عن الإسلام، فقال له علي: لعلك إنما ارتددت لأن تصيب ميراثاً ثم ترجع إلى الإسلام؟ قال: لا؛ قال: فلعلك خطبت امرأة فأبوا أن يزوجوكها، فأردت أن يزوجوكها ثم تعود إلى الإسلام؟ قال: لا؛ قال: فارجع إلى الإسلام؛ قال: لا، حتى ألقى المسيح؛ قال: فأمر به عليّ فضربت عنقه، ودفع ميراثه إلى ولده من المسلمين.(3/90)
وعن أبي عمرو الشيباني أن المِسْوَر العجلي تنصَّر بعد إسلامه فبعث به عتيبة بن أبي وقاص إلى علي فاستتابه، فلم يتب، فقتله، فسأله النصارى جيفته بثلاثين ألفاً، فأبى عليٌّ وأحرقه.
قتل أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - لستة نفر من بكر بن وائل كانوا قد ارتدوا عن الإسلام.
أخذ ابن مسعود - رضي الله عنه - قوماً ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق فكتب فيهم إلى عثمان - رضي الله عنه -، فردّ عليه عثمان: أن اعرض عليهم دين الحق، وشهادة أن لا إله إلا الله، فإن قبلوها فخلِّ عنهم، فإن لم يقبلوها فاقتلهم، فقبلها بعضهم فتركهم، ولم يقبلها بعضهم فقتلهم.
(ج) الإجماع:
لهذا أجمعت الأمة من لدن الصحابة ومن بعدهم على قتل المرتد.
(د) قتل ولاة أمر المسلمين للزنادقة والمرتدين:
قتل عبد الملك بن مروان - رحمه الله - لمعبد الجهني، لأنه أول من تكلم في القدر
قال ابن كثير: (وقد كانت لمعبد عبادة وفيه زهادة.. وقال الحسن البصري: إياكم ومعبداً فإنه ضال مضل.. صلبه عبد الملك بن مروان في سنة ثمانين بدمشق ثم قتله)، جزاه الله خيراً.
قتل عبد الملك بن مروان للحارث الكذاب:
وكانت له علاقة بالشياطين، فأضلته، فقتله عبد الملك بن مروان بدمشق.
قتل الأمير خالد بن عبد الله القسري للجعد بن درهم، لإنكاره لصفتين من صفات الله - عز وجل -
عن حبيب بن أبي حبيب قال: (خطبنا خالد بن عبد الله القسري بواسط يوم الأضحى فقال: أيها الناس ارجعوا فضحوا تقبل الله منا ومنكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله - تبارك و تعالى - لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، - سبحانه وتعالى- عما يقوله الجعد بن درهم علواً كبيراً؛ ثم نزل فذبحه، وكان ذلك في سنة 124ه). 44
قتل أسلم بن أحوز للجهم بن صفوان لإنكاره لصفات الله - عز وجل - متوهماً تنزيهه بذلك:
قال الذهبي - رحمه الله -: (إن أسلم بن أحوز قتل جهمَ بن صفوان لإنكاره أن الله كلم موسى)45، وكان ذلك في سنة 128ه.
قال الحافظ ابن عساكر - رحمه الله -: (وكان الجعد يسأل وهباً عن صفات الله - عز وجل -، فقال له وهب يوماً: ويلك يا جعد، أقصر المسألة عن ذلك، إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يداً ما قلنا ذلك، وأن له عيناً ما قلنا ذلك، وأن له سمعاً ما قلنا ذلك).
هذه السلسلة الشيطانية الخبيثة: الجهم بن صفوان، عن الجعد بن درهم، عن معبد الجهني، ثمرة خبيثة من ثمار علم الكلام والجدل.
وروى الدارمي عثمان بن سعيد في كتابه "الرد على الجهمية" (أتى خالد بن عبد الله القسري برجل قد عارض القرآن، فقال: قال الله في كتابه: "إنا أعطيناك الكوثر. فصلِّ لربك وانحر. إن شانئك هو الأبتر"، وقلت أنا: إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وجاهر، ولا تطع كل سافه وكافر؛ فضرب خالد عنقه، وصلبه، فمرَّ به خلف بن خليفة وهو مصلوب، فضرب بيده على خشبته فقال: إنا أعطيناك العمود، فصل لربك على عود، فأنا ضامن لك ألا تعود).
روى الذهبي بسنده إلى أبي بكر بن عياش قال: "رأيتُ خالداً القسري حين أتى بالمغيرة بن سعيد وأصحابه، وكان يريهم ـ أي المغيرة ـ أنه يحيي الموتى، فقتل خالد واحداً منهم، ثم قال للمغيرة: أحيه؛ فقال: والله ما أحيي الموتى؛ قال: لتحيينه أو لأضربن عنقك؛ ثم أمر بطَنٍّ من قصب فأضرموه، فقال: اعتنقه فأبى؛ فعدا رجل من أتباعه فاعتنقه، قال أبو بكر: فرأيتُ النار تأكله وهو يشير بالسبابة، فقال خالد: هذا والله أحق بالرئاسة منك؛ ثم قتله وقتل أصحابه.
قال الذهبي عن المغيرة هذا: (كان رافضياً، خبيثاً، كذاباً، ساحراً، ادعى النبوة، وفضَّل علياً على الأنبياء، وكان مجسماً، سقت أخباره في "ميزان الاعتدال"48 49)
ثم ذكر الذهبي قتل خالد للجعد بن درهم، ثم قال: (هذه من حسناته، هي وقتله مغيرة الكذاب).
قلتُ: كان خالد القسري شجاعاً كريماً، ولكنه كان رقيق الدين مبيراً كالحجاج بن يوسف، وقد صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر"، لأن فجوره لنفسه، وقتله لهذين المرتدين من حسناته التي نسأل الله أن يكفر بها سيئاته.
قتل هشام بن عبد الملك لغيلان القدري لإنكاره القدر، بعد أن تهدده عمر بن عبد العزيز بالقتل من قبل، ولكنه تظاهر بالتوبة.
تتبع الخليفة المهدي العباسي للمرتدين والزنادقة وقتله لهم:
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وهو يؤرخ لعام ست وسبعين ومائة: (وفيها تتبع المهدي جماعة من الزنادقة في سائر الآفاق فاستحضرهم وقتلهم صبراً بين يديه، وكان المتولي أمر الزنادقة عمر الكلواذي).
وقال الذهبي في ترجمة المهدي: (كان جواداً، ممداحاً، معطاءً، محبباً إلى الرعية، قصاباً في الزنادقة، باحثاً عنهم).
وقال ابن الجوزي في كتابه "المنتَظَم في تاريخ الملوك والأمم" وهو يؤرخ لعام سبع وستين بعد المائة: (وفيها جدَّ المهدي في طلب الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق وقتلهم، فولى أمرهم عمر الكلواذيّ، فأخذ يزيد بن الفيض كاتب المنصور، فأقر فحبس فهرب من الحبس.
ثم روى بسنده قائلاً: اتهم المهدي صالحَ بن عبد القدوس البصري بالزندقة، فأمر بحمله إليه فأحضر.
إلى أن قال: قال ابن ثابت: وقيل إنه بلغه عنه أبيات يعرِّض فيها بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ويقال إنه كان مشهوراً بالزندقة، وله مع أبي الهذيل العلاف مناظرات).
قتل الخليفة موسى الهادي العباسي لبعض الزنادقة والمرتدين:(3/91)
روى ابن الجوزي بسنده إلى المطلب بن عكاشة المزني قال: (قدمنا على أمير المؤمنين الهادي شهوداً على رجل منا شتم قريشاً وتخطى إلى ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فجلس لنا مجلساً أحضر فيه فقهاء أهل زمانه، ومن كان بالحضرة على بابه، وأحضر الرجل وأحضرنا، فشهدنا عليه بما سمعنا منه، فتغير وجه الهادي ثم نكس رأسه ثم رفعه فقال: إني سمعت أبي المهدي يحدث عن أبي المنصور، عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عباس قال: من أراد هوان قريش أهانه الله، وأنت يا عدو الله لم ترض بأن أردت ذلك من قريش حتى تخطيتَ إلى ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اضربوا عنقه؛ فما برحنا حتى قتل).
وقال ابن الجوزي وهو يؤرخ لسنة تسع وستين ومائة: (وفيها اشتدّ طلب موسى للزنادقة، فقتل منهم جماعة، فكان فيمن قتل كاتب يقطين وابنه علي بن يقطين، وكان علي قد حج فنظر إلى الناس في الطواف يهرولون، فقال: ما أشبههم ببقر يدور في البيدر؛ فقال شاعر:
قل لأمين الله في خلقه *** وارث الكعبة و المنبر
ماذا ترى في رجل كافر *** يشبِّه الكعبة بالبيدر؟
ويجعل الناس إذا ما سعوا *** حُمْراً يَدُوس البُرَّ والدَّوسر؟
فقتله موسى ثم صلبه.
إلى أن قال: وقتل من بني هاشم يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان المهدي أتى به وبابن لداود بن علي فحبسهما لما أقرّا بالزندقة، وقال ليعقوب: لولا محمد رسول الله من كنتَ! أما والله لولا أني كنت جعلتُ على الله عهداً إن ولاني أن لا أقتل هاشمياً لما ناظرتك؛ ثم التفت إلى الهادي، فقال: يا موسى، أقسمتُ عليك بحقي إن وليتَ هذا الأمر من بعدي أن لا تناظرهما ساعة واحدة، فمات ابن داود بن علي في الحبس قبل وفاة المهدي، فلما قدم الهادي من جرجان ذكر وصية المهدي، فأرسل إلى يعقوب وألقى عليه فراشاً وأقعِدت عليه الرجال حتى مات، ولها عنه).
قتل أبي منصور الحلاج وصلبه لادعائه الألوهية، والقول بالحلول، وقوله: "أنا الحق"، مع تمسكه في الظاهر بالشريعة:
قال القاضي عياض - رحمه الله -: (وقد أحرق علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من ادعى الألوهية، وقد قتل عبد الملك بن مروان الحارث المتنبئ وصلبه وفعل ذلك غير واحد من الخلفاء والملوك بأشباههم، وأجمع علماء وقتهم على صواب فعلهم.. والمخالف في ذلك في كفرهم كافر.
وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر (توفي 320ه) من المالكية ـ وغيرهم ـ وقاضي قضاتها أبو عمر المالكي على قتل الحلاج وصلبه لدعواه الألوهية، والقول بالحلول، وقوله: "أنا الحق"، مع تمسكه في الظاهر بالشريعة، ولم يقبلوا توبته).
وقال الذهبي عن الحلاج: (فهو صوفي الزي والظاهر، متستر بالنسب إلى العارفين، وفي الباطن فهو من صوفية الفلاسفة أعداء الرسل، كما كان جماعة في أيام النبي منتسبون إلى صحبته وإلى ملته وهم في الباطن من مردة المنافقين، قد لا يعرفهم النبي ولا علم بهم، قال - تعالى -: "ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم"، فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم ببعض المنافقين وهم معه في المدينة سنوات فبالأولى أن يخفى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين الإسلام بعده - عليه السلام - على العلماء من أمته). 58
روى الحافظ ابن كثير عن الخطيب البغدادي بسنده عن أبي عمر بن حيوة قال: (لما أُخرج الحسين بن منصور الحلاج للقتل، مضيت في جملة الناس، ولم أزل أزاحم حتى رأيته فدنوت منه فقال لأصحابه: لا يهولنكم هذا الأمر، فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوماً؛ ثم قتل فما عاد، وذكر الخطيب أنه قال وهو يُضرب لمحمد بن عبد الصمد والي الشرطة: ادع بي إليك فإن عندي نصيحة تعدل فتح القسطنطينية؛ فقال له: قد قيل لي إنك ستقول مثل هذا، وليس إلى رفع الضرب عنك سبيل؛ ثم قطعت يداه ورجلاه، وحز رأسه، وأحرقت جثته، وألقي رمادها في دجلة، ونصب الرأس يومين ببغداد على الجسر، ثم حمل إلى خرسان، وطيف به في تلك النواحي، وجعل أصحابه يَعِدُون أنفسهم برجوعه إليهم بعد ثلاثين يوماً، وزعم بعضهم أنه رأى الحلاج من آخر ذلك اليوم وهو راكب على حمار في طريق النهروان، فقال: لعلك من هؤلاء النفر الذين ظنوا أني أنا هو المضروب المقتول، إني لست به، وإنما ألقي شبهي على رجل ففعل به ما رأيتم (!!)؛ وكانوا بجهلهم يقولون: إنما قتل عدو من أعداء الحلاج؛ فذكر هذا لبعض علماء ذلك الزمان، فقال: إن كان هذا الرائي صادقاً، فقد تبدى له شيطان على صورة الحلاج ليضل الناس به، كما ضلت فرقة النصارى بالمصلوب.
إلى أن قال الخطيب: ونودي ببغداد أن لا تشترى كتب الحلاج ولا تباع، وكان قتله لست بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة ببغداد).
ابن أبي الفراقيد قتل بسبب ادعائه الألوهية سنة 322ه :
قال القاضي عياض: (وكذلك حكموا ـ أي العلماء ـ في ابن أبي الفراقيد وكان على نحو مذهب الحلاج بعد هذا أيام الراضي بالله ـ العباسي المتوفي 329هـ وقاضي قضاة بغداد يومئذ أبو الحسين بن أبي عمر المالكي).
قال محقق الشفا: (هو محمد بن علي بن أبي الفراقيد، شاع أمره في بغداد، وادعى الألوهية، وأنه يحيي الموتى، فطلبه الراضي فهرب سنين، ثم عاد فهجم عليه ابن مقلة وأمسكه فأثبت كفره وكتب عليه القضاة، وأفتوا بقتله، وأحرقت جثته سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة).
ابن أبي عون، وكان على طريقة الحلاج فقتل:
قال محقق الشفا: (وتبعه ـ أي ابن أبي الفراقيد ـ على حاله ابن أبي عون صاحب "كتاب التنبيه" فقتل معه).
قتل الأمير عبد الرحمن بن الحكم - رحمه الله - "لابن أخي عَجَب" لتعرضه بساقط القول وسخيفه للرب جل جلاله(3/92)
قال القاضي عياض - رحمه الله -: (وأما من تكلم من سقط وسخف اللفظ ممن لم يضبط كلامه، وأهمل لسانه، بما يقتضي الاستخفاف بعظمة ربه، وجلالة مولاه.. أو تمثل في بعض الأشياء ببعض ما عظم الله من ملكوته، أو نزع من الكلام لمخلوق بما لا يليق إلا حق خالقه غير قاصد للكفر والاستخفاف ولا عامد للإلحاد، فإن تكرر هذا منه، وعرف به، دلّ على تلاعبه بدينه، واستخفافه بحرمة ربه، وجهله بعظيم عزته وكبريائه، هذا كفر لا مرية فيه، وكذلك إن كان ما أورده يوجب الاستخفاف والتنقص لربه.
وقد أفتى ابن حبيب وأصْبَغ بن خليل من فقهاء قرطبة بقتل المعروف بابن أخي عَجَب، وكان خرج يوماً فأخذه المطر، فقال: "بدأ الخراز يرش جلوده"، وكان بعض الفقهاء بها.. أبو زيد صاحب الثمانية، وعبد الأعلى بن وهب، وأبان بن عيسى، وقد توقفوا عن سفك دمه، وأشاروا إلى أنه عبث بالقول، ويكفي فيه الأدب، وأفتى بمثله القاضي حينئذ موسى بن زياد، فقال ابن حبيب: دمه في غيض.. أيشتم رباً عبدناه ثم لا ننتصر له؟! إنا إذاً لعبيد سوء، ما نحن له بعابدين؛ وبكى، ورُفِع المجلس إلى الأمير بها عبد الرحمن بن الحكم الأموي، وكانت عَجَب عمة هذا المطلوب من حظاياه، وأعلِم باختلاف الفقهاء، فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول ابن حبيب وصاحبه، وأمر بقتله، فقتل وصلب بحضرة الفقيهين، وعزل القاضي بالمداهنة في هذه القضية، ووبخ بقية الفقهاء وسبهم).
جزى الله الأمير عبد الرحمن بن الحكم ومن قبل الإمامين ابن حبيب وأصبغ على غيرتهما على الدين، وحمايتهما لجناب رب العالمين، ولأخذهما بالعزيمة، وعدم التفاتهما للأقوال الضعيفة، والهفوات، والزلات التي ليس فيها نصر للإسلام، ولا للسفهاء اللئام من الأنام.
قتل ابن الهيثي لكفره واستهانته بآيات الله 626ه :
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وهو يؤرخ لسنة 626ه: (وفي يوم الثلاثاء حادي عشرين ربيع أول ضربت عنق ناصر بن الشرف أبي الفضل بن إسماعيل بن الهيثي بسوق الخيل على كفره واستهانته واستهتاره بآيات الله، وصحبته الزنادقة، كالنجم بن خلكان، والشمس محمد الباجريقي، وابن المعمار البغدادي، وكل فيه انحلال وزندقة مشهور بها بين الناس.
قال الشيخ علم الدين البرزالي: وربما زاد هذا المذكور المضروب العنق عليهم بالكفر والتلاعب بدين الإسلام، والاستهانة بالنبوة والقرآن71، قال: وحضر قتله العلماء والأكابر وأعيان الدولة، قال: وكان هذا الرجل في أول امره قد حفظ التنبيه، وكان يقرأ في الختم بصوت حسن، وعنده نباهة وفهم، وكان منزلاً في المدارس والترب، ثم إنه انسلخ من ذلك جميعه، وكان قتله عزاً للإسلام وذلاً للزنادقة وأهل البدع).
قتل الرئيس نميري للزنديق المرتد الصوفي الباطني محمود محمد طه في 1985م
لتركه للصلاة وادعائه الرسالة ثم الألوهية، وفتنته للعامة والدهماء، ونشره الضلال والكفر، وكان أتباعه يعتقدون أنه لن يموت، فقد مات شر مِيتة، وقتل شر قِتلة.
لا فرق بين الرجل والمرأة في إقامة حد الردة:
يدعي البعضُ أن حد الردة لا يقام على المرأة، وتمسكوا ببعض النصوص التي وردت عن بعض السلف، وهي خاصة بالكافرة الأصلية، أما من دخلت في الإسلام ولو نفاقاً، ثم انسلخت منه قتلت، وإليك الأدلة:
1. أمره - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة بقتل أربعة نفر وامرأتين، إحداهما مرتدة عن الإسلام وهي سارة مولاة بني عبد المطلب، ولو وُجِدوا متعلقين بأستار الكعبة.
2. ما صح عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن أم ولد لرجل سبَّت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتلها، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن دمها هدر".
وفي رواية للدارقطني عن ابن عباس: "أن رجلاً أعمى كانت له أم ولد له منها ابنان مثل اللؤلؤتين، فكانت تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقع فيه، فينهاها فلم تنته، ويزجرها فلم تنزجر، فلما كان ذات ليلة ذكرت النبي - صلى الله عليه وسلم - فما صبر سيدها أن قام إلى معول فوضعه في بطنها، ثم اتكأ عليها حتى أنفذه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أشهد أن دمها هدر"، وفي رواية قال لرسول الله: "وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فقتلتها".
3. سبَّت امرأة النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقتلها خالد بن الوليد - رضي الله عنه -.
4. وعن محمد بن المنكدر عن جابر قال: "ارتدت امرأة عن الإسلام فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُعرض عليها الإسلام، فإن قبلت وإلا قتلت؛ فعرضوا عليها الإسلام فأبت إلا أن تقتل فقتلت".
5. وفي رواية عن جابر: "أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُعرض عليها الإسلام فإن رجعت وإلا قتلت".
6. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ارتدت امرأة يوم أحد، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت".
7. قتل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لامرأة يقال لها أم قرفة في الردة.
أما ما يروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "لا يُقتل النساء إذا ارتددن"، فضعيف.
روى البيهقي بسنده إلى عبد الرحمن بن مهدي معلقاً على حديث ابن عباس هذا، قال: (سألتُ سفيان عن حديث عاصم في المرتدة؟ فقال: أما عن ثقة فلا؛ ثم نقل عن الزهري في المرأة أن تكفر بعد إسلامها قال: تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت، وعن إبراهيم النخعي مثل ذلك).
ومن العجيب أن القائلين بعدم قتل المرتدة هم منكرون لجميع الحدود، وداعون لتسوية المرأة بالرجل في الميراث وفي الحقوق السياسية ونحوها، مخالفين بذلك كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة، مما يدل على جهلهم الفاضح وتناقضهم، وأنهم في الحقيقة متبعون لأهوائهم.
http://www.islamadvice.com المصدر:
================(3/93)
حد الردة هو السياج المنيع والحصن الحصين لحماية هذا الدين والحفاظ على المسلمين ( 2 )
أنواع الردة:
نواقض الإسلام لا تحصى كثرة، ولكن سنذكر أخطرها، وهي:
1. الشرك الأكبر، وهو أن يتخذ الإنسان مع الله نداً أو شريكاً يصرف إليه شيئاً من العبادة، كالدعاء، والاستغاثة، والذبح، والنذر، واتخاذ الوسائط.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعاً).
2. نفي ما أثبته الله ورسوله، أو إثبات ما نفاه الله ورسوله.
3. من ادعى النبوة أو صدَّق من يدعيها، كالإخوان الجمهوريين.
4. التحاكم لغير شرع الله أو الرضا به.
5. السخرية والاستهزاء بالله ورسوله وآياته.
6. من لم يكفِّر الكفار، كاليهود والنصارى والمشركين، أوشكَّ في كفرهم، أو صحَّّح مذاهبهم.
7. تعلم السحر والكهانة والاشتغال بذلك.
8. استحلال ما حرَّم الله أو تحليل ما حرَّم الله.
9. اعتقاد أن بعض المشايخ تُرفع عنهم التكاليف الشرعية.
10. تضليل وتكفير جل الصحابة أو الخلفاء الراشدين.
11. اتهام عائشة بما برَّأها الله منه.
12. السجود لصنم.
13. الاستخفاف بالمصحف، أو القرآن، أو بنبي من الأنبياء، أو مَلَك من الملائكة، أو بأي أمر من الدين.
14. سبُّ الدين.
15. الدعوة إلى توحيد الأديان أو التقارب بين دين الحق وغيره من الأديان المنسوخة.
16. اعتقاد أن أحداً من الثقلين يمكنه الاستغناء عن شرع محمد - صلى الله عليه وسلم -.
أقوال أهل العلم في ذلك:
1. قال ابن عبد الحكم في المبسوط: "من تنبَّأ قُتل".
2. وقال أبو حنيفة وأصحابه: "من جحد أن الله خالقه أو ربه، أو قال: ليس لي رب، فهو مرتد"، كالشيوعيين ونحوهم.
3. وقال مالك في كتاب ابن حبيب ومحمد، وقال ابن القاسم، وابن الماجشون، وابن عبد الحكم، وأصبغ، وسُحنون، فيمن شتم الأنبياء أو أحداً منهم أو تنقصه: قتل ولم يستتب، ومن سبهم من أهل الذمة قتل إلا أن يسلم.
4. وفي النوادر عن مالك، فيمن قال: إن جبريل أخطأ بالوحي، وإنما كان النبي علي بن أبي طالب، استتيب فإن تاب وإلا قتل.
5. وقال أبو الحسن القابسي في الذي قال لآخر: "كأنه وجه مالك الغضبان"، لو عرف أنه قصد ذم المَلَك ـ خازن النار - عليه السلام - قتل.
6. وقال ابن القاسم: من قال إن الله - تعالى - لم يكلم موسى تكليماً قتل؛ وقاله عبد الرحمن بن مهدي.
7. وقال محمد بن سُحنون فيمن قال: "المعوذتان ليستا من كتاب الله": يضرب عنقه إلا أن يتوب، وكذلك كل من كذَّب بحرف منه.
8. وقال عبد الله بن مسعود: "من كفر بآية من القرآن فقد كفر به كله.
9. روي عن مالك: من سبّ أبا بكر ـ بغير تضليل ولا تكفير ـ جُلد، ومن سبّ عائشة قتل؛ قيل له: لِمَ؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن.
10. وقال الفوزان: ومن حكّم القوانين الوضعية بدل الشريعة الإسلامية، يرى أنها أصلح من الشريعة الإسلامية، أو اعتنق فكرة الشيوعية، أو القومية العربية بديلاً عن الإسلام، فلا شك في ردته.
وأنواع الردة كثيرة، مثل من ادّعى علم الغيب، ومثل من لم يكفِّر المشركين أو يشك في كفرهم أو يصحح ما هم عليه.
11. وقال محمد بن عبد الوهاب، ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل، والجاد، والخائف، إلا المكره.
12. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من لعن أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كمعاوية، وعمرو بن العاص، أومن هو أفضل من هؤلاء كأبي موسى، وأبي هريرة، أومن هو أفضل من هؤلاء كطلحة، والزبير، أو عثمان، أو علي، أو أبي بكر، أو عمر، أو عائشة، أو نحو هؤلاء من الصحابة فإنه يستحق العقوبة البليغة باتفاق المسلمين، وتنازعوا هل يعاقب بالقتل أو ما دون ذلك؛ وقد ثبت في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تسبوا أصحابي"، وعموم الصحبة يندرج فيها كل من رآه مؤمناً به).
نماذج للفرق المعاصرة المرتدة عن الإسلام:
من أمثلة الفرق المرتدة عن الإسلام على سبيل التمثيل لا الحصر ما يأتي:
1. النصيرية:
قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية: (هم أكفر من كثير من المشركين، وفيهم من جنس دين البراهيمة، والوثنيين، والملحدين).
2. الماسونية:
قال مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي عنها: (يقرر المجمع الفقهي اعتبار الماسونية من أخطر المنظمات الهدامة على الإسلام والمسلمين، وأن من ينتسب إليها على علم بحقيقتها وأهدافها فهو كافر بالإسلام ومجانب لأهله).
3. الشيوعية:
قال عنها مجمع الفقه الإسلامي بالرابطة: (.. من المُسَلَّم به يقيناً أن الشيوعية منافية للإسلام، وأن اعتناقها كفر بالدين الذي ارتضاه الله لعباده، وهي هدم للمثل الإنسانية، والقيم الأخلاقية، وانحلال للمجتمعات البشرية، والشريعة الإسلامية المحمدية التي هي خاتمة الأديان السماوية.. كذا فإن المجلس يوصي الدول والشعوب الإسلامية أن تنتبه إلى وجوب مكافحة هذا الخطر الداهم بالوسائل المختلفة.
والحمد لله فالآن عام 1412هـ انتهى هذا المبدأ الخبيث في عقر داره، وتبرأ منه وحاربه أبناء وأحفاد الذين أسسوه، بعدما جرّ عليهم الفقر والخراب والدمار).
4. البهائية والبابية:
جاء في قرار المجمع الفقهي بمكة المكرمة عن البهائية والبابية: (أن البهائية دين جديد مخترع قام على أساس البابية التي هي أيضاً دين جديد مخترع.
يقرر المجمع الفقهي بالإجماع خروج البهائية والبابية عن شريعة الإسلام، واعتبارها حرباً عليه، وكفر أتباعها كفراً بواحاً سافراً لا تأويل فيه، وإن المجمع ليحذر المسلمين في جميع بقاع الأرض من هذه الفئة المجرمة الكافرة، ويهيب بهم أن يقاوموها، ويأخذوا حذرهم منها، لا سيما أنه قد ثبت مساندة الدول الاستعمارية لها لتمزيق الإسلام والمسلمين، والله الموفق).(3/94)
5. القاديانية ـ الأحمدية:
جاء في قرار المجمع الفقهي بمكة المكرمة عن القاديانية ـ الأحمدية: (قرر المجلس بالإجماع اعتبار العقيدة القاديانية ـ المسماة أيضاً بالأحمدية ـ عقيدة خارجة عن الإسلام خروجاً كاملاً، وأن معتنقيها كفار مرتدون عن الإسلام، وإن تظاهر أهلها بالإسلام، وإنما هو للتضليل والخداع، ويعلن المجلس الفقهي أنه يجب على المسلمين حكومات وعلماء وكتاباً ومفكرين ودعاة وغيرهم مكافحة هذه النحلة الضالة وأهلها في كل مكان من العالم، وبالله التوفيق.
6. الأخوان الجمهوريون:
وهم أتباع الزنديق الصوفي الباطني السوداني المرتد المقتول محمود "مذموم" محمد طه، الذي ادعى الرسالة ثم الألوهية، وزعم أن الصلاة رفعت عنه، والذي حكم العلماء في السودان بكفره وردته، وقتل في عهد الرئيس نميري، جزاه الله خيراً على ذلك.
لقد رحل كثير من أتباعه إلى أمريكا وكندا، واحتضنهم الكفار، وقاموا بترجمة كفرياته في أمريكا وكندا مكافأة له على تحريفه لدين الله وتضليله لفئة من أبناء المسلمين، وانتحل بعض اتباعه الشيوعية ووجدوا فرصة في الإعلام السوداني، وما فتئ الجميع يعمل على تحريف الدين والتدليس والتضليل والخداع على السذج من الناس.
أسباب الوقوع في الردة:
أسباب الوقوع في الردة كثيرة، ولكن أهمها ما يأتي:
1. الجهل بدين الإسلام، فمن جهل شيئاً عاداه، يكاد أن يكون هذا السبب الرئيس لارتداد المرتدين ورجوعهم عن الإسلام، ومن يطلع على مقالاتهم وأقوالهم يتضح له جهل هؤلاء بالإسلام جهلاً فاضحاً، إذ لا يعرفون عن القرآن إلا رسمه، ولا عن الإسلام إلا اسمه، والشبهات التي أثارها أعداء الدين من المستشرقين وتلاميذهم من المنتسبين إلى الإسلام.
2. ردود الأفعال: الدافع لكثير من المرتدين عن الإسلام هو عبارة عن ردة فعل للبيئات والظروف التي عاشوا وتربوا فيها، ولبعض الممارسات الخاطئة والتصرفات المشينة التي لامسوها، والتي لا يقرها الإسلام، نحو الممارسات الشركية والعقائد الخرافية، وكثير من مظاهر الشعوذة والدجل.
3. تأثير الفكر الإرجائي عبر العقيدة الأشعرية والماتريدية التي تدرس في كثير من المعاهد والمدارس والجامعات الإسلامية، الذي تولد كردة فعل للغلو والخروج في بداية الأمر، من غير انتساب إلى هذه المذاهب.
إذ الإيمان عند بعض طوائف المرجئة عبارة عن النطق بالشهادتين، وعند بعضهم عبارة عن المعرفة، ولا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، مما أعطى الفرصة لكثير من المنافقين المتظاهرين بالإسلام أن يعيثوا في الأرض الفساد، حيث جعلوا التلفظ بالشهادتين عبارة عن جواز سفر لترك الواجبات واقتراف المحرمات، إذ لا يكون الشخص مرتداً في شرع هؤلاء إلا إذا كان مكذباً جاحداً، أما الاستهزاء بالله، ودينه، ورسوله، والسجود إلى الصنم، والطواف بالقبور، والاستغاثة بالأموات، والتحاكم إلى الطواغيت، فليس من أسباب الردة، إذ الردة لا تقع بقول ولا عمل.
وثمة شيء آخر كان سبباً في ارتداد البعض عن الإسلام، وهو التوسع في التأويل غير المستساغ الذي تميزت به العقيدتان الأشعرية والماتريدية، حيث وجد المتفلتون عن الإسلام في ذلك بغيتهم، حيث قسموا المسلمين إلى مدرستين، مدرسة الحَرْفيين أو النصوصيين المتحجرين الذين لا يجاوزون النصوص الشرعية، ومدرسة المستنيرين ـ في زعمهم ـ الذين اكتفوا من الإسلام بروحه ومزاجه، ومعلوم في شرع الله أن التأويل منه ما هو محمود وهو الذي يقوم على الدليل، ومنه ما هو مذموم محرم وهو الذي يعتمد على الهوى.
4. التحاكم إلى القوانين الوضعية، وتنحية القوانين والأحكام الشرعية مكَّن كثيراً من المتظاهرين بالإسلام من إعلان ردتهم وزندقتهم والتبجح بها، وأمنهم من إقامة حد الردة عليهم، أو تعزيرهم وتأديبهم جعلهم لا يترددون فيما يريدون قوله أو فعله أو اعتقاده، "فمن أمِنَ العقوبة أساء الأدب".
5. التسيب الفكري، فقد اختلت المفاهيم وتغيرت الموازين، وضعف الوازع الديني.
6. تقليد الكفار والتشبه بهم وبدينهم، فطالما أن الكفار نبذوا الدين وحصروه في الذهاب إلى الكنيسة ساعة يوم الأحد للاستماع للموسيقى، وقد نتج عن ذلك تقدمهم الحضاري والعسكري، فما بالنا نحن متمسكون بديننا مطالبون بتحكيمه في كل مناحي الحياة؟!
7. تقصير العلماء في القيام بدورهم في توعية المسلمين وتبصيرهم بأمر دينهم، ومنافقتهم الناس فيما يعتقدون ويمارسون، من أقوى أسباب تفشي ظاهرة الارتداد عن دين الله.
8. الفتاوى الانهزامية التي تصدر من بعض المنتسبين إلى العلم من العصرانيين وغيرهم.
9. التشبث بالزلات والهفوات التي صدرت أو نسبت لبعض أهل العلم، ومعلوم أن من تتبع زلات العلماء وهفواتهم تزندق أو كاد، وتجمع فيه الشر كله.
10. توهم البعض واستغلال أهل الأهواء للدعوى الباطلة، وهي أن أحاديث الآحاد لا يعمل بها في العقائد والأحكام
تقسيم الأحاديث إلى متواتر وآحادي تقسيم حادث، وهو نتيجة خبيثة وأثر سيئ لعلم الكلام، وما تبع ذلك من أن أحاديث الآحاد ظنية الثبوت ولهذا لا يعمل بها في العقائد والأحكام، وقد رد على هذه الشبهة القذرة الأئمة الكبار أمثال الشافعي في "الرسالة" وابن حزم في "الإحكام لأصول الأحكام"، حتى أصبحت هذه المسالة هي الفارق بين السُّنِّي والبدعي.
فكل ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو حجة بنفسه من غير قيد ولا شرط: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"، ويفيد العلم والعمل في العقائد، والأحكام، والعبادات، والسلوك، والآداب سواء، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.(3/95)
ويكفي في رد هذه الشبهة القذرة أن حديث: "إنما الأعمال بالنيات" الذي يعتبر ثلث الدين حديث آحاد، مشهور، عزيز، إذ لم يروه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن عمر ولا عن راويه عن عمر إلا واحد، فلماذا يقبله أهل الأهواء المتزيين بالإسلام، وينكرون حدَّ الردة، ورجمَ الزاني المحصن، وكلها أحاديث آحاد؟ لولا مرض القلوب.
حكم من أباح الردة وأنكر حدها:
من أباح الردة وأنكر حدها فهو كافر مُهدَر الدم ما لم يتب عن ذلك ويراجع الإسلام؛ لأن ذلك إنكار لما هو معلوم من الدين ضرورة، وطعن وتشكيك في الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، والحكام الغيورين الذين حكموا بردة المرتدين، وأقاموا عليهم حدها.
يتشبث المبيحون للردة الداعون لإنكار حدها ببعض الزلات والهفوات، نحو ما نسب للشيخ شلتوت - رحمه الله - أنه قال: (يتغير وجه النظر في المسألة إذا لوحظ أن كثيراً من العلماء يرى أن الحدود لا تثبت بأحاديث الآحاد، وأن الكفر نفسه ليس مبيحاً للدم، وإنما المبيح للدم هو محاربة المسلمين والعدوان عليهم، ومحاولة فتنتهم عن دينهم، وأن ظواهر القرآن في صمته عن عقوبة المرتد تؤيد هذا)، مما يدل على خطورة الزلات والهفوات وتلقف أهل الأهواء لها.
يردُّ هذا الزعم الباطل قتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لتلك الطائفة المخذولة من الرافضة وحرقه لهم، الذين لم يحاربوا علياً ولم يخرجوا عليه، بل ألّهوه، فالمرتد مفارق لجماعة المسلمين ومحارب لهم ولعقيدتهم.
وإذا لم يكن الكفر بعد الإيمان مبيحاً للدم فما الذي يبيح الدم يا ترى؟! إذا كان الراجع عن الماسونية والشيوعية ونحوهما، وهي فرق كافرة، يُقتل أو يُضيَّق عليه، وقد يكون رجوعه إلى الحق، إلى الإسلام، وكذلك التارك لجماعة من الجماعات الإسلامية يُهجر، ويُضيَّق عليه، ويوصف بالخيانة والخروج والعمالة، وقد يكون محقاً في خروجه وتمرده على التسلط والجبروت والمخالفات الشرعية، فكيف بالراجع عن الإسلام، وهو الدين الخاتم لجميع الأديان؟ فمالِ هؤلاء القوم لا يستحون؟!
السنة حجة بنفسها، فقد حرمت السنة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، ونهت عن الوصية للوارث، ومنعت كذلك أن يرث المسلمُ الكافرَ والكافرُ المسلمَ.
وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها شقان؛ البلاغ والبيان، فهو المبيِّن لمراد الله - عز وجل -، ولهذا يقول بعض العلماء: "القرآن أحوج إلى السنة"، لأن السنة مبينة لكثير مما أجمل في كتاب الله - عز وجل -.
وهب أن مسألة قتل المرتد ليس فيها نص، فهل نترك فعل أبي بكر، وعمر، وعلي، ومعاذ، وأبي موسى - رضي الله عنهم -، وقول أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم من الأئمة - رحمهم الله - لهذه الزلات والهفوات، ولما تهواه نفوس المنافقين وأعداء الملة والدين؟!
وأخيراً أرجو من دعاة إباحة الردة وإنكار حدها والداعين لتوحيد الأديان أن يراجعوا إسلامهم قبل أن تبلغ الروح الحلقوم، ويُحال بينهم وبين ما يشتهون، وإلا فليعلموا أنهم لن يضرُّوا الله شيئاً، ومن إخواني المسلمين أن ينتبهوا لخطورة المنافقين من الشيوعيين، والجمهوريين، والقوميين، والمتزيين بالدين، وغيرهم، (فإن بلية الإسلام بالمنافين شديدة جداً، لأنهم منتسبون إليه، وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وصلاح، وهو غاية الجهل والفساد.
فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه؟ وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه، وكم من عَلَم له قد طمسوه؟ وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه؟ وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، يزعمون أنهم بذلك مصلحون، ألا إنهم المفسدون ولكن لا يشعرون).
لذلك حذر القرآن من المنافقين وبين صفاتهم: (فكان الحديث عن النفاق والمنافقين في القرآن في سبع عشرة سورة مدنية من ثلاثين سورة، واستغرق ذلك قرابة ثلاثمائة وأربعين آية، حتى قال ابن القيم - رحمه الله -: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم").
ومن إخواني الصحفيين الإسلاميين، السودانيين وغير السودانيين، أمثال الأستاذ صادق عبد الله عبد الماجد، والدكتور الطيب زين العابدين، والأستاذ موسى يعقوب، والدكتور حسن مكي، والأستاذ مهدي البوني، والأستاذ علي إسماعيل العتباني، والأستاذ محجوب عروة، والأستاذ محمد أحمد شاموق، والأستاذ عادل الباز، والأستاذ عثمان ميرغني، والأستاذ حسين خوجلي، والأستاذ محمد طه محمد أحمد، وغيرهم ممن لم أذكر، أن يقوموا بواجبهم خير قيام، فهم على ثغرة، والحذر كل الحذر أن يؤتى الإسلام من قبلهم، وعليهم أن يدعوا الحياد الذي تميزت به كتاباتهم، فالمسلم لا يليق به أن يكون محايداً أو مستقلاً، وفي الحقيقة "مُسْتَغَلاً"، بينما نجد مِلل العلمانيين متحدة متضافرة جهودها، على الرغم من أنها لا يجمعها شيء سوى محاربة الإسلام والكيد له، وليعلموا أنهم لن تزول أقدامهم عن الصراط حتى يُسألوا عن تفريطهم في هذا الجانب الذي تعين عليهم، ولا يُمكّن منه غيرُهم.
من العجيب أن يتشاغل هؤلاء الإخوة بالدفاع عن الديمقراطية ـ صنم العصر ـ، والمحاماة عن الشيوعيين والعلمانيين، والتحليلات السياسية، والهنات العادية، ومدح بعض أهل الأهواء والمبتدعة، ويتخلوا عن الدفاع عن الدين، وقد أصيب في عقر داره!!(3/96)
ولا يفوتني في هذا المقام أن أتوجه بالشكر الجزيل وبالدعاء الكثير للأخ الأستاذ إسحاق فضل الله لقيامه بالواجب خير قيام، ولثباته على المبادئ، وتفرده، وعدم مجاملته لمن تعتبر مجاملتهم مداهنة ونفاق، نسأل الله أن يوفقه ويزيده من فضله، وأن يثبت أجره ويبارك فيما يكتب، كما أرجو من إخواننا المسؤولين أن يراقبوا ما يدور في الصحف من كفريات وضلالات.
اللهم إنا نشكو إليك ضعف التقيَّ واستكانته، وجلد الفاجر وجرأته، واللهَ أسألُ أن يؤلف بين قلوب المسلمين، وأن يهديهم سبل الرشاد، وأن يهيئ للأمة الإسلامية أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــ
المراجع:
* البداية والنهاية للحافظ ابن كثير.
* الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
* الرد القويم للأمين الحاج.
* سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي.
* الشفا بتعريف أحوال المصطفى للقاضي عياض.
* فتح الباري للحافظ ابن حجر.
* مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.
* مقالات في عقيدة أهل السنة للدكتور عبد العزيز العبد اللطيف.
* الملخص الفقهي للشيخ الفوزان.
* المنتظم في تاريخ الملوك والأمم للحافظ ابن حجر.
* نيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب، ومعه الاختيارات الجلية في المسائل الخلافية ـ تهذيب الشيخ عبد الله البسَّام.
http://www.islamadvice. comالمصدر:
================
لا .. للمرتدين ذهنيّاً
د. نورة خالد السعد
الأمة الإسلامية في مرحلة من الوهن والانحطاط لا تحسد عليها، وأخفقت هذه الأمة في حمل رسالة الإسلام عقيدة ومنهج حياة، ومجال تقدم في العلم والمعرفة، رغم وجود إرهاصات ممتازة في ماليزيا - مثلاً -؛ ولكن في معظم مجتمعاتنا العربية الوضع هو الاستكانة والاعتماد على مصانع أمريكا والغرب في استيراد ما يسد رمق الشعوب، وإن توقف الأمر على هذا الاستيراد (المادي) فربما تكون المصيبة أهون، ولكن ما لا يطاق هو الإصرار على الاستيراد للفكر والثقافة والنموذج الغربي بكل مثالبه.
وبما أن حضارة الغرب قامت على التقدم المتسارع في مجال العلم والمعرفة وتطبيقاتها في الحياة مما خطف أبصار الراكضين خلف بريقها من مجموعة يطلق عليها (المثقفون)!! هذه الطبقة التي تتوالد في كل مجتمع عربي مسلم تباعدت عن البيئة المسلمة وقيمها، واعتنقت حضارة الغرب ومدنيته، وآمنت بفلسفة هذه الحضارة، وتشبعت ذهنياتهم بما تحمله من توجيهات لا دينية بعد عزل الدين عن منهج الحياة وإبقائه فيما أطلق عليه (المؤسسة الدينية)، وسلوك هذه الطبقة يماشي أسلوب تفكيرهم الذي أصبح نتاجاً غريباً؛ فرغم أنهم ولدوا ونشأوا في بيئات عربية ومسلمة ولكن ما يتحدثون به وينادون به هو ( نشاز) إذا ما قيس بمعيار (التشريع الإسلامي) الذي يوجه كل مناحي الحياة سياسياً وتربوياً وإعلامياً واجتماعياً واقتصادياً، ولا يعزل في (مؤسسة دينية) كما يقولون وينادون.
إن هؤلاء أصيبوا بما يسمى (ارتداد ذهني) مخيف، ووجدوا فرصتهم في معظم المجتمعات العربية من خلال تيار سياسي أو ثقافي، أو اختراق للوزارات المسؤولة عن الإعلام وعن الثقافة والتربية؛ فأحدثوا وحققوا ما يرغبون.. والنتائج هي مزيد من الانسلاخ عن قيم المجتمعات المسلمة، وعدم تحقيق أي مخرجات مجتمعية تسهم في دور تنموي فاعل، وتقرير التنمية السنوي الذي نشر في العام السابق أو العام الحالي مؤشر للإخفاق الاقتصادي والاجتماعي.
هنا .. في مجتمعنا.. لم يكن لهذه الفئة وجود إلا من خلال نشاط أدبي!! ولكن مؤخراً وجدنا أنهم يتوالدون كالأرانب!!
يهاجمون الدين وليس علماء الدين كما يدّعون تحت مظلة أن العالم ليس معصوماً من الخطأ.
يفسرون الآيات القرآنية كما يرغبون!! ويستعدون الدولة على المؤسسات الدعوية، وعلى النشاط اللا منهجي في المدارس!!، وعلى بعض المعلمين الذين يتهمون بأنهم (غلاة)!!، والتهمة لا يتم اقتصارها على عدد محدود إذا افترضنا أنهم كذلك؛ ولكنهم يتهمون الجميع، بل ويطالب أحدهم عبر قناة مشبوهة بأن يتم اجتثاث جذورهم فهم العبء الذي نعاني منه - كما يقول -!!
هذا الهجوم على الدين عبر هذا الشخص الذي جند جهوده لمحاربة المناهج الدينية منذ اللحظات الأولى لهجمات سبتمبر، وعبر قناة فضائية اشترك معه فيها عدد من الأفاضل أنكروا عليه هذا، وخصوصاً أن أحدهم كان رجل تربية، ويعرف المناهج جيداً.. ويومها لم ينطق ولم يكابر.. ولكنه ما فتئ في كل فرصة يعيد المقولة، وأن (المؤسسة الدينية) هي المهيمنة على مؤسسات التعليم وهنا يكمن الخطر - كما يقول -!!، ويطالب بتحييد المؤسسة الدينية!! وكي يجد قبولاً لدى من يسمعه يحاول أن يكون عقلانياً فيقول: " يجب أن نفرق بين الدين وبين المؤسسة الدينية.. الدين من الممكن أن أعطيه عدة تفسيرات الآن، في الإمكان أن أفسر لك وأقول لك، أو أخرج بنظرية ليبرالية من الدين أو نظرية من الدين أو نظرية شمولية، يعتمد على موقفي.. فالدين واسع وسمح.. لكن المشكلة عندما يكون هناك مؤسسة دينية معينة ذات تدثير معين، ذات رأي واحد تفرضه على الجميع على أنه هو الدين.. هنا تكمن المشكلة وخاصة في المملكة ".(3/97)
هذه العبارات ألا تؤكد بُعد هذا الإنسان عن فهم الدين كما ينبغي، وما الفرق بين العقيدة في الإسلام وما تؤمن به أو تعتقده الديانات التي عزلت الدين في (مؤسسة دينية)!! ثم إن هذه الفئة تحارب العلماء والمشايخ بدعوى أنهم (يفسرون الدين وفق مرجعيتهم)؛ بينما هو هنا يدعى أنه يمكن له أن يفسر الدين وفق نظرية ليبرالية أو شمولية!! بل وفي مقالات له يقوم بشرح الآيات والأحاديث وهو لا يفقه في أصول علم الفقه أو التفسير.. أي وفق (مرجعيته)!!
هذا نموذج فقط؛ إذ إن الآخرين لا يملون من الانتقاد، بل والهجوم على محتوى المناهج وفق (انتقائية) غربية، كما قام أحدهم في قناة فضائية باستعراض الدراسة التي قدمت في الحوار الفكري الثاني، وشرحها للعالم العربي والإسلامي والأمريكي!! كي يدركوا ما في هذه المناهج من عداء للآخر!! بل (ويفسر) ما قد لا يفهم لمن يستمع إليه، فهل هذا سبيل الإصلاح ينتهجه هؤلاء؟! وبعضهم كانوا مشاركين في الحوار الوطني! وهل هذا الهجوم على المناهج الدينية سوف يفتح آفاقاً لعالم المعرفة والعلم واللحاق (بالتقدم)؟! وهل استخدام (ورقة النساء) للهجوم على ثوابت الشريعة التي تحرّم الاختلاط كما هو حالياً، وليس الاختلاط الذي يدعونه وأنه يحدث في المسجد الحرام!! هل الإصلاح الإداري والقضاء على الفقر سيتم من خلال تكوين ما يسمى بثورة النساء!! أي خلع الحجاب؟! هل سنبني مجتمعنا بالتخلي عن ثوابتنا الشرعية التي لم تؤسس هذه الدولة إلاّ على أركانها؟!
نعم هناك مناهج في حاجة إلى التطوير.. ومدارس فقيرة من جميع أولويات الوسائل التعليمية، والمناخ التربوي.. لم يطالب أحد بإصلاحها أو تجنيد المجتمع لذلك!!
ونعم هناك عدم فعالية في تطبيق بعض الأحكام القضائية الخاصة بقضايا المطلقات وحضانة الأطفال، والميراث، وسوء استخدام لمفهوم القوامة ... وإلخ من قضايا تمس حياة الفرد في المجتمع، نعم هناك ما نحتاج جميعاً إلى التعاون لإصلاحه؛ ولكن لن يتم هذا وفق منهجية الغرب وتبعية (فئة الارتداد الذهني)!!.
المصدر : http://www.islamtoday.net/articles/show_articles_content.cfm?id=37&catid=39&artid=3858
===============
جواب في الإيمان و نواقضه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي منَّ على من شاء بالإيمان ، و صلى الله و سلم على عبده و رسوله و آله و صحبه و من تبعهم بإحسان و سلم تسليماً .. أما بعد :
فقد سأل بعضُ طلاب العلم عن مسألة كثر فيها الخوض في هذه الأيام ، و صورة السؤال : هل جنس العمل في الإيمان شرط صحة أو شرط كمال ، و هل سوء التربية عذر في كفر من سب الله أو رسوله ؟
و الجواب أن يقال : دل الكتاب و السنة على أن الإيمان اسم يشمل :
1- اعتقاد القلب ، و هو تصديقه ، و إقراره .
2- إقرار اللسان .
3- عمل القلب ، و هو انقياده ، و إرادته ، و ما يتبع ذلك من أعمال القلوب كالتوكل ، و الرجال ، و الخوف ، و المحبة .
4- عمل الجوارج - و اللسان من الجوارح - و العمل يشمل الأفعال و التروك القولية أو الفعلية .قال الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداًً ) النساء : 136 .
و قال تعالى ( فآمنوا بالله و رسوله و النور الذي أنزلنا و الله بما تعملون خبير ) التغابن : 8 .و قال تعالى ( آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه و المؤمنون كل آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسوله ) البقرة : 285 .و قال تعالى ( إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم ، و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً و على ربهم يتوكلون [2] الذين يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون [3] أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم و مغفرة و رزق كريم ) الأنفال : 2-4 .و قال تعالى ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قِبَلَ المشرق و المغرب و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتب و النبيين و آتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب و أقام الصلاة و آتى الزكاة و الموفون بعهدهم إذا عاهدوا و الصابرين في البأساء و الضراء و حين البأس أولئك الذين صدقوا و أولئك هم المتقون ) البقرة : 177 .و قال تعالى ( و من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان و لكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله و لهم عذاب عظيم ) النحل : 106 .و قال تعالى ( و ما كان الله ليضيع إيمانكم ) البقرة : 143 .و الآيات في هذا المعنى كثيرة .و في " الصحيحين " عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لوفد عبد القيس لما آتوا إليه ، قال ( من القوم ؟ أو من الوفد ؟ ) قالوا : ربيعة ، قال ( مرحباً بالقوم - أو بالوفد - غير خزايا و لا ندامى ) فقالوا : يا رسول الله ، إنما لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام ، و بيننا و بينك ه1ا الحي من كفار مضر ، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا ، و ندخل به الجنة ، و سألوه عن الأشربة فأمرهم بأربع ، و نهاهم عن أربع ، أمرهم بالإيمان بالله وحده ، قال ( أتردون ما الإيمان بالله وحده ؟ ) قالوا : الله و رسوله أعلم .قال ( شهادة أن لا إله إلا الله ، و أن محمداً رسول الله ، و إقام الصلاة ، و إيتاء الزكاة ، و صيام رمضان ، و أن تعطوا من المغنم الخمس ، و نهاهم عن أربع : عن الحنتم ، و الدباء ، و النقير ، و المزفت - و ربما قال : المقير - و قال ( احفظوهن و أخبروا بهن من وراءكم ) .(3/98)
و في " الصحيحين " عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ( الإيمان بضع و ستون شعبة و الحياء شعبة من الإيمان ) .
و في " الصحيحين " عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سُئل : أي العمل أفضل ؟ فقال ( إيمان بالله و رسوله ) ، قيل : ثم ماذا ؟ قال ( الجهاد في سبيل الله ) قيل : ثم ماذا ؟ قال ( حج مبرور ) .و في " صحيح مسلم " عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، و ذلك أضعف الإيمان ) .و قد استفاض عن أهئمة أهل السنة - مثل : مالك بن أنس ، و الأوزاعي ، و ابن جريج ، و سفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة ، و وكيع بن الجراح ، وغيرهم الكثير - قولهم ( الإيمان قول و عمل ) .و أرادوا بالقول : قول القلب و اللسان ، و بالعمل : عمل القلب و الجوارح .قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " العقيدة الواسطية " ( ومن أصول أهل السنة و الجماعة أن الدين والإيمان قول و عمل ، قول القلب واللسان ، و عمل القلب ، واللسان ، والجوارح )فظهر أن اسم الإيمان يشمل كل ما أمر الله به و رسوله من : الاعتقادات و الإرادات ، و أعمال القلوب ، وأقوال اللسان ، و أعمال الجوارح أفعالاً و تروكاً ، فيدخل في ذلك فعل الواجبات و المستحبات ، وترك المحرمات ، والمكروهات ، وإحلال الحلال ، و تحريم الحرام .و هذه الواجبات والمحرمات ، بل و المستحبات والمكروهات ، على درجات متفاوتة تفاوتاً كبيراً .
وبهذا يتبين أنه لا يصح إطلاق القول بأن العمل شرط صحة أو شرط كمال بل يحتاج إلى تفصيل ؛ فإن اسم العمل يشمل عمل القلب وعمل الجوارح ، و يشمل الفعل و الترك ، و يشمل الواجبات التي هي أصول الدين الخمسة ، وما دونها ، و يشمل ترك الشرك و الكفر و ما دونهما من الذنوب .
فأما ترك الشرك و أنواع الكفر والبراءة منها فهو شرط صحة لا يتحقق الإيمان إلا به .و أما ترك سائر الذنوب فهو شرط لكمال الإيمان الواجب .
وأما انقياد القلب - وهو إذعانه لمتابعة الرسول صلى الله عليه و سلم و ما لابد منه لذلك من عمل القلب كمحبة الله ورسوله ، و خوف الله و رجائه - و إقرار اللسان - و هو شهادة أن لا إله إلا الله ، و أن محمد رسول الله - فهو كذلك شرط صحة لا يحقق الإيمان بدونهما .وأما أركان الإسلام بعد الشهادتين فلم يتفق أهل السنة على أن شيئاً منها شرط لصحة الإيمان ؛ بمعنى أن تركه كفر ، بل اختلفوا في كفر من ترك شيئاً منها ، و إن كان أظهر و أعظم ما اختلفوا فيه الصلوات الخمس ، لأنها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين ، و لما ورد في خصوصها مما يدل على كفر تارك الصلاة ؛ كحديث جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( بين الرجل و بين الشرك و الكفر ترك الصلاة ) أخرجه مسلم في صحيحه و غيره ، و حديث بريده بن الحصيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه نو سلم ( إن العهد الذي بيننا و بينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) أخرجه أصحاب السنن .
وأما سائر الواجبات بعد أركان الإسلام الخمسة فلا يختلف أهل السنة أن فعلها شرط لكمال إيمان العبد ، و تركها معصية لا تخرجه من الإيمان .
و ينبغي أن يعلم أن المراد بالشرط هنا معناه الأعم ، و هو ما تتوقف الحقيقة على وجوده سواء كان ركناً فيها أو خارجاً عنها ، فما قيل فيه هنا أنه شرط للإيمان هو من الإيمان .و هذا التفصيل كله على مذهب اهل السنة ، والجماعة فلا يكون من قال بعدكم كفر تارك الصلاة كسلاً أو غيرها من الأركان مرجئاً ، كما لا يكون القائل بكفره حرورياً .و إنما يكون الرجل من المرجئة بإخراج أعمال القلوب و الجوارح عن مسمى الإيمان فإن قال بوجوب الواجبات ، و تحريم المحرمات ، و ترتب العقوبات فهو قول مرجئة الفقهاء المعروف و هو الذي أنكره الأئمة ، و بينوا مخالفته لنصوص الكتاب و السنة .
و إن قال : لا يضر مع الإيمان ذنب ، و الإيمان هو المعرفة ، فهو قول غلاة المرجئة الجهمية و هم كفار عند السلف .
و بهذا يظهر الجواب عن مسألة العمل في الإيمان هل هو شرط صحة أو شرط كمال ، و مذهب المرجئة في ذلك و هذا و لا أعلم أحداً من الأئمة المتقدمين تكلم بهذا ، و إنما ورد في كلام بعض المتأخرين .
و بهذا التقسيم و التفصيل يتهيؤ الجواب عن سؤالين :
أحدهما : بم يدخل الكافر الأصلي في الإسلام ، و يثبت له حكمه ؟
والثاني : بم يخرج المسلم عن الإسلام ، بحيث يصير مرتداً ؟
فأما الجواب عن الأول :
فهو أن الكافر يدخل في الإسلام ، ويثبت له حكمه بالإقرار بالشهادتين ( شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ) فمن أقر بذلك بلسانه دون قلبه ثبت له حكم الإسلام ظاهراً ، و إن أقر بذلك ظاهراً و باطناً كان مسلماً على الحقيقة و معه أصل الإيمان ، إذ لا إسلام إلا بإيمان ، و لا إيمان إلا بإسلام .
و هذا الإقرار الذي تثبت به حقيقة الإسلام يشمل ثلاثة أمور : تصديق القلب ، وانقياده ، ونطق اللسان ؛ و بانقياد القلب و نطق اللسان يتحقق الإقرار ظاهراً و باطناً ، و ذلك يتضمن ما يعرف عن أهل العلم بالتزام شرائع الإسلام ؛ و هو الإيمان بالرسول صلى الله عليه و سلم و بما جاءه به و عقدُ القلب على طاعته ، فمن خلا عن هذا الالتزام لم يكن مقراً على الحقيقة .
فأما التصديق : فضده التكذيب و الشك و الإعراض .
وأما الإنقياد : فإنه يتضمن الاستجابة ، والمحبة ، والرضا والقبول ، وضد ذلك الإباء ، و الاستكبار و الكراهة لما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم .
و أما النطق باللسان : فضده التكذيب و الإعراض ، فمن صدق بقلبه و كذب بلسانه فكفره كفر جحود ، و من أقر بلسانه دون قلبه فكفره كفر نفاق .(3/99)
فنتج عن هذا ستة أنواع من الكفر كلها ضد ما يتحقق به أصل الإسلام و هذه الأنواع هي :
1- كفر التكذيب .
2- كفر الشك .
3- كفر الإعراض .
4- كفر الإباء .
5- كفر الجحود .
6- كفر الإعراض .
و من كفر الإباء و الاستكبار : الامتناع عن متابعة الرسول صلى الله عليه و سلم ، و الاستجابة لما يدعو إليه ، و لو مع التصديق بالقلب و اللسان ، و ذلك ككفر أبي طالب ، و كفر من أظهر الاعتراف بنبوة النبي صلى الله عليه و سلم من اليهود و غيرهم .
وأما جواب السؤال الثاني :
وهو ما يخرج به المسلم عن الإسلام بحيث يصير مرتداً ، فجماعه ثلاثة أمور :
الأول : ما يضاد الإقرار بالشهادتين ، و هو أنواع الكفر الستة المتقدمة ، فمتى وقع من المسلم واحد منها نقض إقراره و صار مرتداً .
الثاني : ما يناقض حقيقة الشهادتين ( شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ) :
أ- فحقيقة شهادة أن لا إله إلا الله : الكفر بالطاغوت و الإيمان بالله ، و هذا يشمل التوحيد بأنواعه الثلاثة :
توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الأسماء و الصفات .
و هذا يتضمن الإيمان بأنه تعالى رب كل شيء و مليكه ، و أنه ما شاء كان ، و ما لم يشأ لم يكن ، و انه الإله الحق الذي لا يستحق العبادة سواه ، و أنه الموصوف بكل كمال والمنزه عن كل نقص ، وأنه كما وصف نفسه و كما وصفه رسوله صلى الله عله و سلم من غير تعطيل ولا تمثيل ، على حق قوله تعالى ( ليس كمثله شيء و هو السميع البصير ) الشورى:11 .
و إقراده مع ذلك بالعبادة ، و البراءة من كل ما يعبد من دونه .
و جملة ما يناقض التوحيد امور :
1- جحد وجود الله ، وهذا شر الكفر و الإلحاد و هو مناقض للتوحيد جملة ، و منه القول بوحدة الوجود .
2- اعتقاد أن مع الله خالقاً ، ومدبراً ، و مؤثراً مستقلاً عن الله في التأثير و التدبير ، و هذا هو الشرك في الربوبية .
3- اعتقاد أن لله مثلاً في شيء من صفات كماله ، كعلمه ، وقدرته .
4- تشبيهه تعالى بخلقه في ذاته أو صفاته أو أفعاله ، كقول المشبه : له سمع كسمعي ، وبصر كبصري ، ويدخل في ذلك وصفه بالنقائص كالفقر و البخل و العجز ، و نسبة الصاحبة و الولد إليه .
5- اعتقاد أن أحداً من الخلق يستحق العبادة مع الله ، و هذا هو اعتقاد الشرك في الألهية ، و لو لم يكن معه عبادة لغير الله .
و هذه الأمور الخمسة كلها تدخل في كفر الاعتقاد و شرك الاعتقاد .
6- عبادة أحد مع الله بنوع من أنواع العبادة ، و هذا هو الشرك في العبادة سواء اعتقد أنه ينفع و يضر ، أو زعم أنه واسطة يقربه إلى الله زلفى ، و من ذلك السجود للصنم .
و الفرق بين هذا و الذي قبله أن هذا من باب الشرك العملي المناقض لتوحيد العمل الذي هو إفراد الله بالعبادة ، و ذاك من باب الشرك في الاعتقاد المنافي لاعتقاد تفرد الله بالإلهية و استحقاق العبادة .
و لما بين الاعتقاد و العمل من التلازم صار يعبر عن هذا التوحيد بتوحيد الإلهية ، وتوحيد العبادة ، وعن ضده بالشرك في الإلهية ، أو الشرك في العبادة .
7- جحد أسماء الله و صفاته أو شيء منها .
8- السحر ، و يشمل :
* ما يفرَّق به بين المرء و زوجه كسحر أهل بابل .
* ما يسحل أعين الناس حتى ترى الأشياء على غير حقيقتها كسحر سحرة فرعون * ما يكون بالنفث في العقد كسحر لبيد بن الأعصم و بناته .
و هذه الأنواع تقوم على الشرك بالله بعبادة الجن أو الكواكب .
و أما السحر الرياضي و هو : ما يرجع إلى خفة اليد و سرعة الحركة ، و السحر التمويهي و هو : ما يكون بتمويه بعض المواد بما يظهرها على غير حقيقتها فهذان النوعان من الغش و الخداع و ليسا من السحر الذي هو كفر .
ب - حقيقة شهادة أنَّ محمداً رسول الله : أن الله أرسله إلى جميع الناس بالهدى و دين الحق ، وأنه خاتم النبيين ، وأنه الصادق المصدوق في كل ما أخبر به ، وأن هديه صلى الله عليه و سلم خير الهدي ، و أن الإيمان به ، وطاعته ، ومحبته ، وأتباعه واجب على كفر أحد .و جملة ما يناقض حقيقة شهادة أن محمداً رسول الله أمور :
1- جحد رسالته صلى الله عليه و سلم ، أو تكذيبه ، أو الشك في صدقه .
2- جحد ختمه للنبوة ، أو دعوى النبوة بعده صلى الله عليه و سلم ، أو تصديق مدعيها ، أو الشك في كذبه .
3- جحد عموم رسالته صلى الله عليه و سلم ، و من ذلك اعتقاد أنه رسولٌ للعرب خاصة ، أو دعوى ذلك ، أو أن اليهود و النصارى لا يجب عليهم اتباعه ، أو أن أحداً يسعه الخروج عن شريعته صلى الله عليه و سلم كالفيلسوف أو العارف من الصوفية و نحوهما .
4- تنقص الرسول صلى الله عليه و سلم ، و عيبه في شخصه ، أو في هديه و سيرته .
5- السخرية من الرسول صلى الله عليه و سلم ، والاستهزاء به ، أو بشيء مما جاء به من العقائد ، والشرائع .
6- تكذيبه صلى الله عليه و سلم في شيء مما أخبر به من الغيب مما يتعلق بالله ، أو يتعلق بالملائكة ، والكتب و الرسل و المبدأ و المعاد و الجنة و النار .
ج – ما يناقض حقيقة الشهادتين جميعاً ، و يشمل أموراً :
1- التكذيب بأن القرآن من عند الله ، أو جحد سورة ، أو آية ، أو حرف منه ، أو أنه مخلوق ، أو أنه ليس كلام الله .
2- تفضيل حكم القانون الوضعي على حكم الله ، ورسوله ، أو تسويته به ، أو تجويز الحكم به و لو مع تفضيل حكم الله و رسوله .
3- تحريم ما أحل الله ، ورسوله ، و تحليل ما حرم الله ، ورسوله ، أو الطاعة في ذلك .
تنبيه : ينبغي أن يعلم :
أولاً : أن ما تقدم من أنواع الردة منه ما لا يحتمل العذر كجحد وجود الله ، وتكذيب الرسول صلى الله عليه و سلم ، فهذا يكفر به المعين بكل حال .
و منه ما يحتمل العذر بالجهل ، أو التأويل ..(3/100)
مثل : جحد شيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم من الأخبار و الشرائع ، و هذا لا يكفر به المعين إلا بعد إقامة الحجة عليه .
ثانياً : أن من أظهر شيئاً مما تقدم من أنواع الردة جاداً أو هازلاً أو مداهناً أو معانداً في خصومة – أي غير مكره – كَفَرَ بذلك لقوله تعالى ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان .. الآية ) النحل : 106 .
و من ذلك : إظهار السجود للصنم مجاملة للمشركين ، وطلباً للمنزلة لديهم ، والنيل من دنياهم ، مع دعوى أنه يقصد بذلك السجود لله أو لا يقصد السجود للصنم ، فإنه بذلك مظهرٌ لكفر من غير إكراه ، فيدخل في عموم قوله تعالى ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان .. الآية ) النحل : 106 .
الثالث : ما يلزم منه لزوماً ظاهراً و يدل دلالة ظاهرة على عدم الإقرار بالشهادتين باطناً ن و لو أقر بهما ظاهراً و ذلك يشمل أمور :
1- الإعراض عن دين الإسلام ، لا يتعلمه ، و لا يعمل به ، ولا يبالي بما ترك من الواجبات ، و ما يأتي من المحرمات ، و لا بما يجهل من أحكام .
و ينبغي أن يعلم أن المكلف لا يخرج من كفر الإعراض – المستلزم لعدم إقراره – بفعل أي خصلة من خصال البر ، وشعب الإيمان ، فإن من هذه الخصال ما يشترك الناس في فعله – كافرهم و مؤمنهم – كإماطة الأذى عن الطريق ، وبر الوالدين ، و أداء الأمانة .و إنما يتحقق عدم هذا الإعراض ، و السلامة منه بفعل شيء من الواجبات التي تختص بها شرعية الإسلام التي جاء بها الرسول صلى الله عليه و سلم – كالصلاة و الزكاة و الصيام و الحج – إذا فعل شيئاً من ذلك إيماناً واحتساباً ، قال شيخ الإسلام بن تيمية ( فلا يكون الرجل مؤمناً بالله و رسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه و سلم ) من " مجموع الفتاوى " ( 7 / 621 ) .
ملاحظة : هكذا وردت العبارة في " الفتاوى " ، و لعل المناسب للسياق ( مع عدم فعل شيء ) .
2- أن يضع الوالي قانوناً يتضمن أحكاماً تناقض أحكام قطعية من أحكام الشريعة معلومة من دين الإسلام بالضرورة ، و يفرض الحكم به ، و التحاكم إليه ، ويعاقب من حَكَمَ بحكم الشريعة المخالف له ، و يدعي مع ذلك الإقرار بوجوب الحكم بالشريعة – شريعة الإسلام – التي هي حكم الله و رسوله .
و من ذلك هذه الأحكام الطاغوتية المضادة لحكم الله و رسوله :
أ) الحكم بحرية الاعتقاد فلا يقتل المرتد ، ولا يستتاب .
ب) حرية السلوك ، فلا يجبر أحد على فعل الصلاة ، و لا الصيام ، و لا يعاقب على ترك ذلك .
ج) تبديل حد السرقة – الذي هو قطع اليد – بالتعزير و الغرامة .
د) منع عقوبة الزانيين بتراضيهما إلا لحق الزوج أو نحو ذلك مما يتضمن إباحة الزنا و تعطيل حدِّه من الجلد و الرجم .
هـ) الإذن بصناعة الخمر ، و المتاجرة فيه ، و منع عقوبة شاربه .
3- تولي الكفار من اليهود و النصارى ، و المشركين ، بمناصرتهم على المسلمين ، قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء بعضهم أولياء بعض و من يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) المائدة : 51 .
4- أن يترك المسلم الصلاة دائماً بحيث لا يصلى إلا مجاملة للناص إذا كان بينهم ، و لو بغير طهارة ، فإن ترك الصلاة على هذا الوجه لا يصدر ممن يقر بوجوبها في الباطن ، فكفر بترك الإرار بوجوب الصلاة ؛ لا بمطلق ترك الصلاة الذي اختلف فيه أهل السنة ، و لهذا يجب أن يفرق بين هذا و بين من يصلي لكنه لا يحافظ عليها فيتركها أحياناً و يقص في واجباتها ، كما يدل على ذلك حديث عبادة بن الصامت ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ( خمس صلوات كتبهن الله على العباد ، من أتى بهن و لم يضيع من حقهن شيئاً – استخفافاً بحقهن – كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ، و من لم يأت بهن جاء و ليس عنده له عند الله عهد ، إن شاء عذبه ، و إنشاء أدخله الجنة ) .
قال شيخ الإسلام بن تيمية في " مجموع الفتاوى " ( 22 / 49 ) :
( فأما من كان مصراً على تركها لا يصلي قط ، و يموت على هذا لا إصرار ، والترك ، فهذا لا يكون مسلماً ، لكن أكثر الناس يصلون تارة ، و يتركونها تارة ، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها ، و هؤلاء تحت الوعيد ، و هم الذين جاء فيهم الحديث الذي في السنن حديث عبادة بن الصامت .... – و ذكر الحديث – فالمحافظ عليها الذي يصليها في مواقيتها كما أمر الله تعالى ، و الذي يؤخرها أحياناً عن وقتها ، أو يترك واجباتها ، فهذا تحت مشيئة الله تعالى ، و قد يكون لهذا نوافل يكمل بعها فرائضه كما جاء في الحديث ) .و قال – رحمه الله – في الأمراء الذين أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها كما في " مجموع الفتاوى 22 / 61 " ( و إن قيل – و هو الصحيح – أنهم كانوا يفوتونها فقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم الأمة بالصلاة في الوقت ، و قال : أجعلوا صلاتكم معهم نافلة ، و نهى عن قتالهم .. و مؤخرها عن وقتها فاسق و الأمة لا يقاتلون بمجرد الفسق .. و هؤلاء الأئمة فساق و قد أمر بفعلها خلفهم نافلة ) اهـ بتصرف .(3/101)
5 - و منها تعمد إلقاء المصحف في الحش أو البول عليه ، أو كتابته بالنجاسة ، لا يصدر عمن يقر بأنه كلام الله - عز وجل - قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في " مجموع الفتاوى 7 / 616 " ( و لا يتصور في العادة أن رجلاً يكون مؤمناً بقلبه ، مقر بأن الله أوجب عليه الصلاة ، مقرا بأن الله أوجب عليه الصالة ، ملتزماً لشرعية النبي صلى الله عليه و سلم وما جاء به ، يأمره ولي الأمر بالصلاة ، فيمتنع حتى يقتل ، و يكون مع ذلك مؤمناً في الباطن ، قد لا يكون إلا كافراً ، و لو قال : أنا مقر بوجوبها ، غير أني لا أفعلها كان هذا القول مع هذه الحال كذباً منه ، كما لو أخذ يلقي المصحف في الحش و يقول : أشهد أن ما فيه كلام الله ، أو جعل يقتل نبياً من الأنبياء و يقول : اشهد أنه رسول الله ، و نحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب ، فإذا قال : أنا مؤمن بقلبي ، مع هذه الحال كان كاذباً فيما أظهره من القول )
أما قول السائل : ( و هل سوء التربية عذراً في كفر من سب الله أو رسوله ؟ )
فالجواب :
أن سب الله و رسوله من نواقض الإسلام البينة ، لأنه استهانة بالله و رسوله ، و ذلك من يناقض ما تقتضيه الشهادتين من تعظيم لله و رسوله .
و سوء التربية ليس عذراً للمكلف في ترك واجب ، و لا فعل محرم من سائر المحرمات فضلاً عما هو من أنواع الكفر بالله .
و لو صح ان سيء التربية عذر في شيء من ذلك لكان أولاء اليهود و النصارى و غيرهم معذورين في تهودهم ، و تنصرهم ، و هذا لا يقوله مسلم ، و من قال ذلك فهو كافر يُعرّف و يستتاب ، فإن تاب و إلا وجب قتله مرتداً .
و في الصحيحن عن أبي هريرة أنه كان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، و ينصرانه ، و يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، فهل تحسون فيها من جدعاء ؟ ) ثم يقول أبو هريرة : و أقرؤوا إن شئتم ( فِطْرَتَ الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) الروم : 30 .و قال تعالى ( بل قالوا إنا جدنا آباءنا على أمة و إنا على آثارهم مهتدون ) الزخرف : 22 .هذا و أسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه ، و أن يحبب غلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا ، و يكره إلينا الكفر و الفسوق و العصيان ، و يجعلنا من الراشدين ، إنه تعالى سميع الدعاء ، و صلى الله على نبينا محمد ، و على آله و صحبه و سلم .
أملاه فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك
حفظه الله تعالى
================
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية
حرية العقيدة لا تعني حرية الارتداد
تاريخ 15 ربيع الأول 1422 / 07-06-2001
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....
أرجو من سيادتكم إفادتى فى هذه الفتوى :
من المعروف أن الإسلام أباح حرية العقيدة ، كيف نجمع بين حرية العقيدة فى الإسلام وبين نص الإسلام على قتل المرتد ؟ وإذا قلنا إن الإسلام ينبه على المعتنقين الجدد له أنه يقتل المرتد ، فما هو الحال بالنسبة لمن ولد مسلما ووجد نفسه مسلما ولم يعرف بذلك إلا بعد بلوغه سنا يميز فيها .. ، أفيدونا جزاكم الله خيرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقولهم: الإسلام أباح حرية العقيدة، ليس صحيحاً على إطلاقه، فالإسلام وإن سمح لأهل الكتاب بالبقاء على دينهم، إلا أنه يلزمهم بالدخول تحت سلطانه، ودفع الجزية، والامتناع عن إظهار الكفر والدعوة إليه ونشره، وذلك معلوم مشهور فيما أجمع عليه الصحابة في التعامل مع أهل الذمة، وجمهور الفقهاء على أنه لا يقبل من غير الكتابي والمجوسي إلا الإسلام، فإن أبى قوتل على ذلك.
وليس لأحد في دولة الإسلام أن يدعو الناس إلى الكفر، ولا أن يظهره، لا اليهودية، ولا النصرانية، ولا البوذية، ولا الشيوعية، ولا غير ذلك من المذاهب الهدامة.
وإذا كان هذا مع الكفار الذين لم يدخلوا في الإسلام، ولم يستضيئوا بنوره، فإن الأمر مع من دخله وارتد عنه أشد وأعظم، فالمرتد لا يجوز إقراره بعهد أو جزية، وإنما يجب قتله لأنه عرف فأنكر، وأبصر فعمى، سواء دخله بالغاً مدركاً، أو نشأ فيه صغيراً، فإن من ولد على الإسلام، فقد اجتمع فيه أسباب الهداية ودواعيها: ولادته على الفطرة، ونشأته بين المسلمين، ومعرفته بعظمة الإسلام، فلا يرتد مثل هذا إلا لخبث نفسه ورداءة عقله، فهو نبتة ضالة منحرفة لا خير في بقائها.
ولسنا الذين حكمنا بقتله، وإنما هو حكم ربه جل وعلا الذي خلقه، وهو أعلم به.
ثم إن المرتد لا يقتل بغتة، وإنما تعرض عليه العودة إلى الإسلام، ويذّكر بالله عز وجل، ويمهل أياماً ليفيء إلى رشده، مع إعلامه بالمصير الذي ينتظره في الدنيا والآخرة إن تمادى على ارتداده عن دينه.
فلا يصبر على القتل ويصر على الكفر في هذه الحال رجل فيه ذرة من خير نافع، ومثل هذا لا يؤسف على ذهابه، بل قتله راحة للبلاد والعباد.
وفي قتل المرتد حفظ للدين، وصيانة له من أن يتخذه السفهاء هزواً ولعباً، يؤمنون به وجه النهار ويكفرون آخره، ليدخلوا الشك والشبهة على ضعاف الإيمان.
فالحمد لله على نعمة الإسلام.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الأدلة الواقعية والنقلية على وجوب قتل المرتد
تاريخ 19 ذو الحجة 1422 / 04-03-2002
السؤال
1-السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
2- ما هي نظرة الإسلام إلى الإعدام ؟ وهل يمكن اعتبار قتل المرتد إعداماً ؟ وما هي الأدلة من الكتاب والسنة التي تجيز قتل ومقاتلة المرتدين ؟
جزاكم الله كل خير
الفتوى
الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(3/102)
فالإسلام قد شرع عقوبة القتل علاجاً لبعض الجرائم التي يستحق فاعلها تلك العقوبة تطهيراً له من رجس ما ارتكب، وزجراً لغيره عن ارتكابها في المستقبل ومن ذلك جريمة الردة، وهي أن يرجع المكلف المعتنق لدين الإسلام عن إسلامه، أو يكفر بشيء معلوم منه ضرورة. وهذه العقوبة لا تعارض حرية الاعتقاد التي كفلها الإسلام للناس، لأن البشر جميعاً يبحثون عن نظام حكم يخضعون له يحقق لهم مصالحهم، ويحفظ لهم حقوقهم، ويصون دماءهم وأموالهم وأعراضهم، ولن يجدوا ذلك في غير النظام الإسلامي، لأن الإسلام دين الله الذي نزله رحمة للناس جميعاً (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)[الأنبياء:107] وعليه، فالبشر جميعاً مطلوب منهم الخضوع لسلطان الإسلام، مع كونه لا يلزمهم باعتناقه قسراً انطلاقاً من قوله تعالى (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)[البقرة:256] فمن أراد من أهل الكفر أن يبقى على دينه فهو وذاك، ولا يتعرض له المسلمون بأذى ما دام لم يخل بعقد ذمته مع المسلمين، لكن هذه الحرية التي أعطيت له في البقاء على دينه لا تساوي بينه وبين المسلمين لا في الدنيا ولا في الآخرة، فليس المسلم كالكافر، قال تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون)[الجاثية:21] فمن القسط والعدل أن النظام الإسلامي يعطي كل فرد من رعايا الدولة المسلمة ما يستحقه من حقوق، فالمسلم الذي يدين بهذا النظام ويواليه وينصره، لا ينبغي أن يستوي في الأحكام الدنيوية والأخروية مع غيره.
وهذا معروف في عرف جميع الدول قديماً وحديثاً أنها لا تسوي في أحكامها بين من يحمل جنسيتها وبين من يقيم فيها دون أن يحمل الجنسية. أما من اعتنق الإسلام ثم كفر به فقد ارتكب جريمة عظمى يستحق بموجبها القتل إن لم يرجع عن جريمته. لأنه ترك الدين الذي أوجبه على نفسه بعقده وفارق جماعة المسلمين، وهذا عبث في دين الله وإفساد للمجتمع المسلم، وأصبح المرتد عضواً فاسداً في جسم المجتمع المسلم يجب بتره حتى لا يسري فساده إلى بقية أعضاء المجتمع. ولكن لا يبتر إلا بعد اليأس من علاجه، فالمرتد يستتاب قبل قتله ويطلب منه الرجوع إلى الإسلام قبل إعدامه، فإن أصر على كفره ورفض الالتزام بما عقده على نفسه سابقاً من التزام الإسلام قتل حداً، ويكون بذلك هو الذي جنى على نفسه بإصراره على الردة.
والأنظمة الوضعية التي تستهجن هذه العقوبة معظمها يعد الخروج عن النظام وخرق الدستور في دولها جريمة عظمى قد تصل عقوبتها إلى الإعدام، أو السجن المؤبد، فكيف تكون خيانة الدين والكفر به والتمرد على النظام الإسلامي الذي أقر به الشخص على نفسه ورضي به طائعاً -أقول: كيف يكون أقل جرماً من الخروج على نظم ودساتير وضعها البشر ما أنزل الله بها من سلطان. والأدلة على قتل وقتال المرتد كثيرة:
منها قوله تعالى: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)[البقرة:217] وقد استدل بها الشافعي وغيره. ومنها ما رواه الجماعة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" وما رواه أحمد والنسائي عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا من ثلاثة: إلا من زنا بعد ما أحصن، أو كفر بعد ما أسلم، أو قتل نفساً فقتل بها" وروى مسلم معناه. ومنها إجماع الصحابة على قتال من ارتد عن الإسلام بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ونقل الإجماع غير واحد، قال ابن قدامة: (وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد) والمرأة المرتدة كالرجل عند عامة الفقهاء، وقال أبو حنيفة: تجبر على الإسلام بالحبس والضرب ولا تقتل، والراجح أنها كالرجل في حكم الردة. ثم بعد هذا كله علينا أن نعلم أن حكم الردة من الأحكام التي لا يجوز للأفراد أن يقوموا بتطبيقها، فلا تطبق إلا بعد أن تقوم البينة على صاحبها، ثم يستتاب ثلاثة أيام، ولا يتم ذلك إلا عند قاض شرعي ذي سلطان وقدرة على التنفيذ.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ
تاريخ 20 محرم 1423 / 03-04-2002
السؤال
هل يجوز للمسلم أن يعتنق الديانةالنصرانية ويسلك طريقهم في العبادة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(3/103)
فإن ترك دين الإسلام واعتناق المسيحية ردة يستحق فاعلها القتل بعد أن يستتاب، فإن تاب ورجع إلى دينه الحنيف سقط عنه الحد، ودليل قتل المرتد قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه" رواه البخاري و أحمد وليعلم السائل أن الإسلام نسخ جميع الرسالات السابقة وأبطل العمل بأحكامها، ولذلك قال تعالى: ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85]وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً) [النساء:47] وقال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً) [المائدة: من الآية3] وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن الله تعالى لا يقبل غير هذا الدين من أحد مهما كان، وأن الله دعا أهل الكتاب إلى ذلك، فأهل الكتاب مأمورون بترك دينهم واعتناق دين الإسلام، ومن لم يفعل ذلك منهم فهو من أهل النار، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
حكم قتل المرتد من دون إذن الإمام
تاريخ 02 ربيع الثاني 1423 / 13-06-2002
السؤال
ما حكم قتل المرتد من دون إذن الإمام؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإنه لا يجوز لآحاد الناس قتل المرتد دون إذن السلطان، لأن ذلك يفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمَن فيه الحيف ويسبب الفوضى والفتن بين الناس، فوجب أن يفوض إلى السلطان، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحدود في حياته، وكذا خلفاؤه من بعده، ويقوم نائب الإمام فيه مقامه، وهذا محل اتفاق بين الفقهاء.
كما أن الأئمة اتفقوا أيضاً على أن المرتد لو قتله أحد بدون إذن الإمام، فإنه يُعتد بهذا القتل، ولا ضمان على القاتل إذا ثبت ببينة أن المرتد قتل وهو لا يزال مصراً على ردته.
وإنما لم يجب في هذا قود ولا دية مع حرمة إقدام الأفراد على قتله دون أمر من السلطة، لأنه محل غير معصوم فكان مهدر الدم، وردته أباحت دمه في الجملة، ولا يلزم من تحريم القتل الضمان، بدليل عدم ضمان نساء الحرب وذريتهم مع حرمة قصد قتلهم، وعلى من فعل ذلك التعزير لإساءته وافتياته على الإمام.
وراجع الفتوى رقم: 13987 لمعرفة أحكام المرتد.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
توضيح حول عدم إقامة حد الردة على عبيد الله بن جحش
تاريخ 19 ربيع الثاني 1423 / 30-06-2002
السؤال
سؤالي أحدهم ارتد وتنصر فقال كثير بوجوب قتله هل هذا صحيح وقد قرأت في كتب السيرة عن ارتداد عبيد الله بن جحش وأن النبي لم يأمر بقتله حتى أهلكه الله في الحبشة؟
ولكم الشكر.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالمرتد عن الإسلام يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كما هو في الفتوى رقم: 14927،
قال ابن قدامة في المغني: وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد. انتهى
إلا المرأة، فذهب عامة الفقهاء إلى قتلها، وقال بعضهم باسترقاقها، وقال بعضهم بحسبها.
والراجح أنها كالرجل في أحكام الردة، وأما قصة عبيد الله بن جحش وارتداده في الحبشة، فهذا كان في بدء الإسلام.
وأيضاً فما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليه حكم الردة، لأنه كان هارباً في بلد لا يخضع لسلطان الإسلام.
ولكننا ننبه السائل وغيره إلى أن الحدود كلها لا يقيمها إلا السلطان، فمن ثبت عليه موجب حال من ردة أو سرقة أو غير ذلك، فالسلطان وحده هو الذي يقيم عليه حد الله تعالى، ومن تسرع وأقام الحد على مستحقيه دون أمر السلطان، فإنه ظالم لنفسه، ويستحق العقوبة من السلطان.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=================
الخروج من الدين ردة
تاريخ 26 شعبان 1424 / 23-10-2003
السؤال
لا إكراه في الدين، فلماذا نقتل المرتدين؟؟؟ سمعت أن هناك فرقا بين الخروج من الدين والخروج على الدين، أحدهما ردة توجب القتل، والأخرى لا، فما صحة هذا الخبر؟ ... منشور في موقع islamonline
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا يصح الاحتجاج بالآية الكريمة: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين [البقرة: 256]. على عدم قتل المرتد، لأن الآية تتحدث عن موقف المسلمين من الكافر الأصلي، والمرتد مسلم فارق الجماعة، ومما يبين ذلك: سبب نزول هذه الآية: وهو أنه لما أجلي بنو النضير -وكان فيهم من تهود من أبناء الأنصار- قالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله "لا إكراه في الدين" رواه أبو داود والنسائي .
ومعنى الآية: أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في الإسلام، فإنه بيّن واضح، جلية دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، قاله ابن كثير في تفسيره.
أما قتل المرتد عن دينه المفارق لجماعة المسلمين، فهذا حكم الله ورسوله.
قال صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فاقتلوه. رواه البخاري
وقال: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث:.... والتارك لدينه المفارق للجماعة.
وقتل المرتد مشروط بالاستتابة، فقد دعا أبو موسى الأشعري يهوديا أسلم ثم تهود عشرين ليلة أو قريبا منها، فجاء معاذ فدعاه فأبى، فضرب عنقه. متفق عليه، واللفظ لأبي داود.(3/104)
أما لماذا يقتل؟ فلأن الإسلام دين الله، والداخل فيه بينه وبين المسلمين عقد اكتسب من خلاله حقوقا ولزمته واجبات، وإخلاله بما قبل به في الإسلام يلزمه تحمل تبعات فعله، فالإسلام ليس محلا للعبث، والخارج منه لاعب عابث مشكك.
ولو تتبع السائل قوانين الدول الوضعية المعاصرة لوجدها تعاقب من خرج عليها بالإعدام أحيانا أو السجن المؤبد، فكيف يحتج على الإسلام بقتل المرتد عنه وهو دين الله إلى الثقلين!!
أما الفرق بين عبارة الخروج من الدين وبين عبارة الخروج على الدين: فالعبارة الأولى تقصد بها الردة، والعبارة الثانية، يقصد بها مخالفة الدين أصالة، وعدم الدخول فيه لحظة.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
================
الردة عن الإسلام أغلظ من الكفر الأصلي
تاريخ 18 رمضان 1424 / 13-11-2003
السؤال
كيف أثبت أن المرتد أكثر خبثا من اليهودي أو النصراني؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالردة عن الإسلام أغلظ من الكفر الأصلي، ولذا اتفق الفقهاء رحمهم الله على قتل المرتد وعدم إقراره على كفره، ولو بذل الجزية وأعلن خضوعه لسلطان المسلمين، ولا خلاص له من القتل إلا بالرجوع إلى الإسلام، وخالف أبو حنيفة في المرأة، فقال لا تقتل بل تجبر على الإسلام بالضرب والحبس حتى ترجع إلى الإسلام أو تموت، وهذا القول مرجوح لما ورد في إحدى روايات حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن: أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها.
قال الحافظ في الفتح: وسنده حسن، وهو نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه.
بخلاف الكافر الأصلي، فإنه إذا دفع الجزية وخضع لسلطان المسلمين ترك على دينه، ودخل تحت حماية دولة الإسلام، وسبب التغليظ على المرتد لأنه عرف الإسلام ومحاسنه وعدله ثم تركه وعاد إلى الكفر والظلم.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
معاملة المرتد في ظل غياب الشريعة
تاريخ 12 محرم 1426 / 21-02-2005
السؤال
لقد قرأت جميع الفتاوي حول المرتد وجميعها كان بتطبيق حد الردة (القتل) من قبل السلطان ولكن الآن كما تعلمون لا يوجد سلطان مسلم، فما العمل مع المرتدين والوضع آخذ بالازدياد؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن قتل المرتد بعد استتابته هو العلاج الشرعي الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: من بدل دينه فاقتلوه. رواه البخاري.
وهو أمر لا ينبغي تطبيقه إلا من قبل السلطان، كما سبق في الفتوى رقم: 17707، لأن تطبيق غير السلطان قد يوقع في الفتن التي يحصل منها ضرر أعظم من تحقيق المقصود.
وأما في حال عدم وجود السلطان الذي يطبق الحدود، فإن على المسلمين بعد تأكدهم من تحقق شروط الحكم بالردة وانتقاء الموانع أن يعاملوا المرتد معاملة الكافر فلا يناكحونه ولا يتوارثون معه وتفارقه زوجته إلى غير ذلك من الأحكام، وأهمها أن يحرصوا على هدايته وتوبته إلى الله تعالى لعل الله يرحمه ويهديه.
وراجع الفتوى رقم: 39237، والفتوى رقم: 13987، والفتوى رقم: 17792، والفتوى رقم: 25611.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
شبهة حول الإسلام وجوابها
تاريخ 18 صفر 1426 / 29-03-2005
السؤال
كيف أجيب النصراني الذي يقول إن النصرانية متسامحة أكثر من الإسلام، لأنهم لا يبشرون في البلاد الإسلامية خوفا على المسلمين من القتل إذا غيروا دينهم؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن أهم ما يتعين التركيز عليه أثناء الحوار مع النصارى أن يركز الإنسان المسلم على نفسه ويزيد من ترسيخ الإيمان في قلبه، ويتسلح بالعلم الشرعي الذي يمكنه من دفع الشبه التي تورد عليه.
فإن علم من نفسه عدم العلم بالجواب عما يورد عليه فليبتعد عن الجدل بغير علم لأنه من أسباب الضلال، ومن أهم ما يتعين التركيز عليه أثناء الحوار مع النصارى أن يهاجموا بإبراز تناقضاتهم الواضحة وبطلان عقيدة التثليث وبيان التحريف والتناقض الواقع في كتبهم المحرفة ومناقضة ما فيها للعقول والفطر السليمة، إضافة إلى دعوتهم للإيمان بالحكمة والموعظة الحسنة ومخالفتهم بالأخلاق المفضية لهدايتهم.
واعلم أن من محاسن دين الإسلام التي امتاز بها تشريعه لاستعمال اللين والرفق في الوقت المناسب، واستعمال الشدة والغلظة في الوقت المناسب، وقد شرع قتل المرتد بعد الاستتابة وعرض الإسلام والتوبة عليه لما في ارتداده من التلاعب بالدين ونقض العهد مع المسلمين، وليس من السماح الممدوح مسامحة عبد الله في التخلي عن عبودية الله والخضوع له، فإن الله الذي هو أرحم الراحمين حكم على المرتد بالقتل في الدنيا والخلود في النار في الآخرة، كما في حديث البخاري: من بدل دينه فاقتلوه. وفي الآية: وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {البقرة:217}، وراجع للمزيد من الفائدة في الموضوع أحقية دين الإسلام وسماحته وما ينبغي في الحوار مع النصارى وحكم المرتد الفتاوى ذات الأرقام التالية: 29786، 39237، 20984، 6828، 29326، 22354، 3670، 25251، 30506، 8210، 10326، 20818، 20895.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
شبهة وجوابها حول قتل المرتد والزاني المحصن
تاريخ 17 رمضان 1426 / 20-10-2005
السؤال(3/105)
فضيلة الشيخ أود أن أسألكم حول حكمي الردة ورجم الزاني. حيث إنني وصلت إلى قناعة أن هذين الحكمين ليسا من صحيح الإسلام ولكني أريد التثبت من ذلك, وسأبدأ بعرض حجتي في حكم الردة
1- حد الردة لم يرد في القرآن على الرغم من ذكر المرتدين وتوعدهم بأشد العقوبات في الآخرة, فإن القرآن لم ينص على عقوبة دنيوية
ومن ذلك مانزل في جماعة من العرب حيث قال فيهم تعالى: ?يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُوَاْ إِلاّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لّهُمْ وَإِن يَتَوَلّوْا يُعَذّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ?
ورغم ذلك لم ينص القرآن على عقوبة دنيوية فيهم, لم تذكر كتب السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم طبق فيهم حد الردة
وهناك أيضا قول الله تعالى فيمن تكاسل عن الخروج مع الرسول في غزوة تبوك : ?فَإِن رّجَعَكَ اللّهُ إِلَىَ طَآئِفَةٍ مّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوّلَ مَرّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون?
ورغم ذلك لم يقتلهم الرسول أيضا, بل إن الآية صريحة في عدم قتلهم حينما تتكلم عن "موتهم" بشكل يوحي أنه طبيعي
2- هناك العديد من الحوادث التي كفر فيها بعض المسلمين ورغم ذلك لم يقتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم:
فمنها حين رجع ثلث الجيش إلى المدينة يوم غزوة أحد, وهذا من موبقات الإيمان السبع "التولي يوم الزحف" ورغم ذلك لم يأمر الرسول بقتلهم.
ومنها الذين نزل فيهم قوله تعالى (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) , فهذه الآية صرحت بكفر هؤلاء ولكن الرسول لم يقتلهم أيضا.
وهناك أيضا صلح الحديبية الذي كان من شروطه أن الرسول لا يمنع من أراد الالتحاق بقريش وحلفائها من مغادرة المدينة, وحاشا لله أن يفرط الرسول في حد من حدود الله ويقبل بمغادرة هؤلاء المرتدين بدل تطبيق حد الردة المزعوم عليهم.
3- أما حروب الردة, فإن أبا بكر قد اختلف مع عمر ونفر من الصحابة الذين كانوا يرون مصالحة القبائل المرتدة الى أن تتحسن أحوال المسلمين فرفض ذلك , ولكن كتب التاريخ لم تذكر أنه استشهد بحديث "من بدل دينه فاقتلوه" أو أي حديث آخر ينص على قتل المرتد
6- ولكن:
دعنا نفترض أن حديثي الردة حديثان صحيحان، ودعنا نفترض أن القرآن الكريم لا يعارضهما ولا يؤيدهما فهل يصح الاعتماد على حديثين فى تأسيس تشريع؟
وهل يصح إقامة تشريع سنده الوحيد حديثان من أحاديث الآحاد؟
وهل يصح أن تقتل الناس بتهمة الردة اعتماداً على حديثين فقط؟
وهل تهون حياة الناس إلى هذا الحد؟
أرجو منكم ردا تفصيلياعلى أسئلتي يا شيخنا الكريم لعل الله أن يقنعني بحد الردة إن كان حقا
أما بالنسبة لحد الرجم فإن توقفي عنده يتمحور حول آية في كتاب الله تقول: (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات آخذان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم)
هذه الآية تقول أن من أتت بفاحشة من هؤلاء فعليها نصف ما على المسلمة الحرة المحصنة من العذاب, فلو كان حكم الزانية المحصنة هو الرجم فكيف يطبق في حالة "ما ملكت أيمانكم", هل يرجمن نصف رجم؟
أتمنى أن تجاوب على سؤالي يا فضيلة الشيخ حيث إنه قد حيرني طويلا وأطمع أن أجد الجواب المقنع لديك وجزاك الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يفقهنا وإياك في دينه ويشرح صدورنا لفهم شريعته ، ولتعلم أن كلاً من حكم قتل المرتد وقتل الزاني المحصن ثابت في نصوص الوحي مجمع عليه من قبل أهل العلم . ولكن الحكم بهما لا يثبت إلا من قبل القضاء الشرعي ولا يطبقه إلا ولي الأمر بعد استتابة المرتد ثلاثة أيام بلا جوع ولا عطش ومعاقبة فإن تاب وإلا قتل .
ومن الأدلة على رجم الزاني المحصن وقتل المرتد ما في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة . وفي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يحل دم امرئ مسلم إلا رجل زنى بعد إحصانه ، أو كفر بعد إسلامه ، أو النفس بالنفس . وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعز بن مالك الأسلمي والغامدية .
وأما ما ذكرت من الآيات فهو استدلال في غير محله ، فالآية الأولى : لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ... {التوبة: 66 } في المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون النفاق والكفر وكذلك الحوادث التي أشرت إليها .(3/106)
وأما الآية الثانية : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا ...... {النساء: 25 } الآية. فهي مبينة لحد الأرقاء عموماً وأنه نصف حد الأحرار الذي جاء في سورة النور على العموم في قوله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ {النور: 2 } ولذلك فالرقيق إذا زنى ولو بعد الإحصان لا يرجم لهذه الآية وللأحاديث الواردة في ذلك لأن الله تعالى نص على أن حده نصف حد الأحرار والذي يمكن تجزئته وتنصيفه هو الجلد، وأما الرجم الذي هو القتل فلا يمكن تنصيفه . وبذلك تعلم أنه لا دليل في الآية الكريمة على ما ذكرت ، وأما قولك فهل يصح الاعتماد على حديثين ... ) فإن الحديث إذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب على المسلم العمل به سواء كان ذلك في مجال العقائد أو الأحكام .فقد قال تعالى : وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا {الحشر: 7 } وقال تعالى : فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {النور: 63 } مع أننا لا نسلم بأن رجم الزاني وقتل المرتد قد ورد فيهما حديثان فقط بل وردت فيهما نصوص كثيرة ، وطبق النبي صلى الله عليه وسلم هذه النصوص في زمنه وكذلك خلفاؤه الراشدون رضوان الله عليهم . وللمزيد من الأدلة النقلية والعقلية على وجوب العمل بأحاديث الآحاد نرجو الاطلاع على الفتاوى التالية 14050 ،38186 ،13987 ،35561 . وما أحيل عليه فيها .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
عقوبة المرتد وضوابطها
تاريخ 03 ربيع الثاني 1427 / 02-05-2006
السؤال
هل يجوز قتل المرتد عن الدين في هذا العصر، إذا كان الجواب لا، فلماذا يتم معالجة هذه القضايا بشكل يسيء للإسلام؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة. رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وقال صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فاقتلوه. رواه البخاري وغيره.
ولهذه الأدلة وغيرها أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على عقوبة المرتد وجمهورهم - بما فيهم المذاهب الأربعة وغيرها - أنها القتل لصريح الأحاديث النبوية.
ولكن الحكم على المرتد لا يكون إلا من قبل القضاء الشرعي، والتنفيذ لا يكون إلا من قبل ولي أمر المسلمين، ولا يجوز الحكم على شخص معين بالردة أو تنفيذ الحكم عليه إلا إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع، وفي حال توفر الشروط وانتفاء الموانع يجب على ولي الأمر أن ينفذ الحكم في أي عصر كان أو أي مصر بعد الاستتابة ثلاثة أيام، ومحاولة إقناعه بالرجوع إلى الإسلام بالجدال بالتي هي أحسن وإزالة ما عنده من الشبه, فإن لم يتب قتل، قال العلامة خليل المالكي في المختصر: واستتيب ثلاثة أيام بلا جوع وعطش فإن تاب وإلا قتل.
وذهب بعض أهل العلم إلى تأجيله بدون حد ما رجيت توبته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول: .... وقال الثوري: يؤجل ما رجيت توبته، وكذلك معنى قول النخعي.
هذا حكم المرتد عند جمهور المسلمين، فمن ثبتت ردته عن الإسلام وتمت إدانته بإعلانه بالردة, فقد أصبح عضواً فاسداً يجب بتره من جسم المجتمع حتى لا يسري مرضه في الجسم عموماً، ولأن الردة اعتداء على أولى الكليات أو الضروريات الخمس التي تواترت الأديان السماوية بالحفاظ عليها وهي: الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال.
ولا يوجد مجتمع في الدنيا إلا وعنده أساسيات لا يسمح بالنيل منها، والردة ليست مجرد موقف عقلي، بل هي تغيير للولاء وتبديل للهوية وتحويل للانتماء، فالمرتد ينقل ولاءه وانتماءه إلى أمة أخرى، وإلى وطن آخر، وللمزيد من الفائدة والتفصيل نرجو الاطلاع على الفتوى رقم: 17707، والفتوى رقم: 13987.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
شبهة وجوابها حول قتل المرتد
تاريخ 10 ربيع الثاني 1427 / 09-05-2006
السؤال
كيف نفسر أن المرتد عن الإسلام يقتل، ولكن من يدخل إلى الإسلام من المسيحيين أو الديانات الأخرى لا يقتلونهم ؟
أرجو الإفادة جزاكم الله خيراً
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الحكم بقتل المرتد عن الإسلام هو الحكم الذي حكم عليه به ربه الذي خلقه ورباه.
وأما أصحاب الديانات فإنه ليس لهم سلطة على العبد ولا منة عليه ولا حكم في تصرفاته فلا اعتبار بقولهم فيه، وراجعي في موضوع الردة الفتاوى التالية أرقامها: مع إحالاتها: 33562، 60321، 59146.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
ضوابط التكفير وحكم استتابة المرتد
تاريخ 07 جمادي الثانية 1427 / 04-07-2006
السؤال(3/107)
شيخنا الفاضل: سؤالى حول تفسير الآية والأحكام المستنبطة منها، يقول الله عز وجل : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا، يستدل البعض بالآية الكريمة على ضرورة إقامة الحجة والبيان قبل الحكم على من كان على الشرك الأكبر ويقولون إن من ينتسب إلى الإسلام وجهله مركب ولم ينبهه أحد على الشرك يحكم عليه بالإسلام ويعامل معاملة المسلم حتى تقام عليه الحجة، وأن القرآن لا يعتبر حجة كافية في حقه لكون جهله مركبا، والبعض يقول إن الآية بينت أن الله لا يعذب من لم يبلغه رسوله، ومن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة ولم يبق له عذر فى أن يشرك بالله، والفائدة الثانية هي أنه يجب علينا ألا نعذب المشرك حتى نبين له ونستتيبه قبل الحد وقبل أن نحل دمه وماله وهذا ليس من إقامة الحجة لأن الحجة قد قامت عليه عندما بلغه القرآن باللغة التى يجيدها، أما إن نتوقف فى تكفيره ونعامله على الإسلام وهو يشرك بالله صراحة من دعاء الأولياء والتوكل عليهم ورجائهم فليس هناك دليل على ذلك بل الدليل، إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك، ومن بلغه كلام الله فلا عذر له، ومن فرق بين بلوغ الحجة وفهمها يقول إنه نحكم على المرتد المنتسب للإسلام بالكفر، ولكن لا نقيم عليه الحد إلا بعد الاستتابة.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبقت لنا فتاوى عدة في ضوابط التكفير، راجع منها على سبيل المثال الفتوى رقم:721 والفتوى رقم:53835 وهنالك فتاوى في ضابط ما يعذر فيه بالجهل وما لا يعذر فيه بالجهل راجع منها الفتوى رقم: 19084 والفتوى رقم: 60824 وهي كافية في بيان ما يتعلق بالشق الأول من السؤال، وبقي أن ننبه إلى أن القول بأن القرآن لا يعتبر حجة كافية قول غير صحيح، ولكن من الممكن أن يقال لا بد من بلوغه على وجه تقوم به الحجة من جهة بيان ما يحتاج إلى تفسير، وتوضيح وإزالة الشبهة إن كانت ثمة شبهة ونحو ذلك، وتراجع في هذا الفتوى رقم: 55353 والفتوى رقم:72035 .
وأما الشق الثاني من السؤال والمتعلق باستتابة المرتد فإن هذه المسألة قد اختلف فيها العلماء، فذهب أكثر أهل العلم إلى وجوبها، واستدلوا على ذلك بأثر عمر رضي الله عنه، وقد سبق بيانه بالفتوى رقم: 33562، وذهب آخرون إلى استحبابها، وحجتهم أن الدعوة قد بلغته، وقول الجمهور أقرب إلى الصواب، واستتابة المرتد فيها كثيرمن المصالح غيرمصلحة إقامة الحجة، ومن ذلك رجاء عودته إلى رشده ورجوعه إلى الإسلام، قال ابن قدامة في المغني في معرض استدلاله على وجوب الاستتابة: ولو لم تجب استتابته لما برئ من فعلهم ولأنه أمكن استصلاحه فلم يجز إتلافه قبل استصلاحه كالثوب النجس اهـ .
وننبه إلى أن إقامة الحدود من شأن سلطان المسلمين أو من ينوب عنه، فليس لعامة الأفراد استيفاؤها وتراجع الفتوى رقم: 23376 ، ولمزيد الفائدة عن قتل المرتد والرد على بعض الشبهات حوله تراجع الفتويان : 72201 / 13987 .
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
الحدود الشرعية صادرة عن الله
تاريخ 07 جمادي الأولى 1428 / 24-05-2007
السؤال
بداية جزاكم الله عنا كل خير، أخي الكريم أنا صاحب إحدى المنتديات العربية الملتزمه إن شاء الله وقد وضعت في هذا المنتدى فيديو يظهر عملية رجم فتاة حتى الموت في الشارع أمام أنظار الجميع حدثت في العراق عندما تحولت الفتاة من الطائفة اليزيدية وتزوجت بشاب مسلم واعتنقت الإسلام، فقام أحد النصارى بالتساؤل وكتب هذا التعليق، أريد أن اسأل سؤالا وأتمنى أن يرد عليه أي أحد فيكم... أليس عندكم في دين الإسلام تقومون أيضا بقتل الشخص الذي يغير دينه، لماذا عندكم حرام وعند الغرب حرية شخصية، أخي الكريم أنا بحاجة لإجابة أقوى من إجابتي، إجابة أصحاب علم مثلكم لكي أضع رابط الإجابة منكم إن شاء الله لكل من يدخل ويشاهد هذا الموضوع... والله من وراء القصد؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق أن بينا الأدلة النقلية والأدلة العقلية على وجوب قتل المرتد فراجعها في الفتوى رقم: 13987.
ومما هو جدير بالتنبيه عليه هنا أن هذه التشريعات من حدود ونحوها صادرة عن الرب العليم الحكيم الذي خلق الخلق وهو أعلم بما يصلحهم، فأقواله كلها صدق، وأحكامه كلها عدل، والمسلم قد يدرك الحكمة من وراء هذه التشريعات فيزداد إيماناً مع إيمانه، وقد يجهلها فيرضى ويسلم، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا {الأحزاب:36}، وقال سبحانه وتعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {النور:51}، والمقصود من هذا أن يتبين المسلم ما يجب أن يكون عليه هو وما ينبغي أن يكون محل اهتمامه قبل أن يهتم بالرد على من يثير الشبهات حول أحكام الإسلام من نصارى أو غيرهم.
ثم إننا ننبه على أمر مهم جداً وهو أن الحدود بجميع أشكالها لا يجوز أن يقيمها إلا السلطان أو نائبه، فلا يجوز لعامة الناس أن يتولوا إقامة شيء منها.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
حقوق الإنسان والإرهاب والعنف الدولي وحكم المرتدين
الاثنين :13/01/2003
(الشبكة الإسلامية) - الدوحة(3/108)
ناقشت الدورة الرابعة عشرة لمجمع الفقه الإسلامي في جلستها الصباحية أمس ثمانية أبحاث في موضوع حقوق الإنسان والقانون الدولي تناولت الأبحاث عدة قضايا ذات علاقة بالموضوع منها:
"القانون الدولي الإنساني في الإسلام" للدكتور جعفر عبد السلام (رئيس رابطة الجامعات الإسلامية في مصر والأستاذ بجامعة الازهر) و"الأحداث الإرهابية تداعياتها والموقف الإنساني المطلوب" للشيخ محمد علي التسخيري (الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية -ايران) و"القانون الدولي من منظور إسلامي" للدكتور محمد الدسوقي (أستاذ الفقه والأصول - بجامعة قطر) و"الحق الإنساني والعنف الدولي" للقاضي الشيخ عبد القادر بن محمد العماري (نائب رئيس محكمة الاستئناف الشرعية في قطر) و"الإرهاب والعنف في ميزان الشريعة الإسلامية والقانون الدولي" للدكتور حسن بن محمد سفر (رئيس الدراسات العليا الشرعية في الفقه والاصول بجامعة الملك عبد العزيز بجدة) وبحث د. عبد العزيز الخياط (وزير الاوقاف السابق بالأردن) عن "موقف الشريعة الاسلامية من الحق الانساني والعنف الدولي" وبحث عن "حكم الشرع في المرتدين والملحدين" للشيخ محمد الحاج الناصر من المغرب، وبحث عن "المبادىء والقواعد الإسلامية المنظمة للعلاقات الانسانية في أوقات الحرب" للدكتور عبد السلام داود العبادي (أمين عام الهيئة الاردنية الهاشمية).
أهداف الحرب في الإسلام
أوضح د. جعفر عبد السلام أن الحرب المشروعة في الاسلام يطلق عليها مصطلح "الجهاد" ، ويعني بذل الجهد واستفراغ الوسع بالقتال في سبيل الله بالنفس والمال واللسان ، وشرع في الاسلام لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه واتقاء أذى المشركين ولإفساح الطريق أمام الدعوة الاسلامية لتواصل سيرها وتشق طريقها في أمان ويكون الدين لله.
ولخص أهداف الحرب في الاسلام في ثلاثة هي:
1- حماية الحرية الدينية لجميع الناس مسلمين وغير مسلمين، موضحًا أن قتل الكفار ليس مقصودا لذاته عند المسلمين وان الاسلام يفضل سلوك السلام بصفة اصيلة كلما امكن ذلك ، ويعتبر ان الحرب هي آخر الدواء الذي يعالج ما استعصى من الامراض الوبائية القاتلة والضارة بمصلحة الجماعة البشرية.
2- الدفاع ضد العدوان: إن كافة الشرائع تجيز للافراد والدول رد العدوان الذي يقع عليها وهو ما أكده القرآن الكريم في قوله تعالى: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" وقوله عز وجل: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم". موضحًا أن الفقه الإسلامي يحرم عمليات القتل الجماعي من الأبرياء ردا على الاعتداء الفردي سواء في الحرب العادية أم الحرب الأهلية.
3- الحرب لمنع الظلم: إن الإسلام يحمي حرية العقيدة لكل الناس ويحترم حقوق الأخوة الإنسانية ويأمر المسلم بأن يكون إيجابيا يتعاون مع غيره على البر والتقوى.
واستعرض الباحث آداب الحرب في الإسلام كعدم التمثيل بالجثث وعدم قتل العدو بالتجويع والتعطيش والغدر في الحرب والإفساد في الأرض بالتخريب وقطع الشجر وقتل الحيوان ، مبينا الفئات التي لا يقاتلها المسلمون في حروبهم كرجال الدين والنساء والأطفال والعجزة والتجار والزراع.
كما أشار إلى أن الإسلام يحرم استخدام أنواع من الأسلحة في الحرب مثل التي تنطوي على العدوان والإسراف والأسلحة الحارقة كالقنابل والنابالم.
أشكال الإرهاب
أوضح التسخيري في ورقته أن الإرهاب هو كل عمل يتنافى من حيث الوسيلة والهدف مع القيم الدينية والإنسانية ويتضمن تهديدا للأمن بأي نوع. مؤكدًا أن صفة الإرهاب لا تنطبق على أعمال المقاومة الوطنية التي تمارس ضد المحتلين والمستعمرين والغاصبين ومقاومة الشعوب للفئات المفروضة عليها بالحديد والنار ورفض الدكتاتوريات وأنماط الاستبداد وضرب مؤسساتها ومقاومة التمييز العنصري وضرب معاقله والرد بمثل على أي اعتداء ، ولا ينطبق الإرهاب على كل تحرك ديمقراطي لا يصاحبه إرهاب كما لا ينطبق على الأعمال المخربة الفردية التي لا تحدث تأثيرا اجتماعيا.
وبين أن تعريف الإرهاب ينطبق على ما يلي:
ـ أعمال القرصنة الجوية والبحرية والبرية.
ـ كل العمليات الاستعمارية بما فيها الحروب والحملات العسكرية.
ـ كل الاعمال الدكتاتورية ضد الشعوب وكل أنماط الحماية للدكتاتوريات فضلا عن فرضها على الأمم.
ـ كل الأساليب العسكرية المخالفة للأعراف الإنسانية: كاستعمال الأسلحة الكيماوية والنووية والبيولوجية وضرب المناطق الآهلة ونسف البيوت وترحيل المدنيين وأمثال ذلك.
ـ كل تلويث للبيئة الجغرافية والثقافية والإعلامية وربما كان الإرهاب الفكري من أخطر أنواع الإرهاب.
ـ كل تحرك يؤدي إلى ضعضعة الاقتصاد الدولي أو الوطني والاضرار بحال الفقراء والمحرومين وتعميق الفوارق الاجتماعية والاقتصادية وتكبيل الشعوب بأغلال الديون الباهضة.
ـ كل تحرك تآمري يعمل على سحق إرادة الشعوب في التحرر والاستقلال وفرض الاحلاف الشائنة عليها.
طرق مكافحة الإرهاب
ودعا التسخيري مجمع الفقه الاسلامي إلى وضع تعريف محدد للارهاب ومفهومه بعيدا عن التعريفات التي تضعها الدول الكبرى وتحاول فرضها على المسلمين بالقوة. كما دعا الى حملة شاملة ضد الارهاب على مستوى العالم تقودها الامم المتحدة.
واستعرض جملة من الحلول للقضاء على الارهاب على المستوى العالمي منها:
- تعميم منطق الحوار بين الحضارات والاديان.
- تشجيع الديمقراطية المنسجمة مع القيم.
- المساعدة على تنفيذ برامج التنمية في العالم.
- تقوية المنظمات الدولية وحذف عناصر الهيمنة فيها.
- الارتفاع بالمستوى المعنوي والقيم الاخلاقية وتعميق دور الدين في ذلك واحترام الادوار العائلية في عملية البناء الاجتماعي.
- توجيه الحالة المعلوماتية لخدمة البشرية.(3/109)
- أنسنة الفن واستخدامه لصالح الاهداف العليا وغير ذلك.
- الحيلولة ـ بكل الوسائل ـ دون استغلال الدول الغربية الكبرى للاحداث وتحويلها الى صراع حضارات وحرب بين الاديان وتصفية حسابات مع بعض الانظمة على حساب الشعوب.
- تخفيف معاناة شعب افغانستان ودعمه بالغذاء والكساء والملجأ والدواء وغيرها من وسائل العيش الابتدائية والعمل على تحقيق الانسحاب التام للقوات الاميركية وغيرها.
- استمرار الحوار بين عقلاء البشرية من اتباع الاديان والحضارات والمذاهب وتكثيفه وتعميقه بهدف خلق رأي عام عالمي يمارس دوره في نشر العدالة والسلام والمحبة بين جميع شعوب العالم.
الحل الأمثل للإرهاب :
وعن الحل الأمثل للإرهاب على مستوى الأمة الاسلامية ذكر الشيخ التسخيري، ان الحل يتركز على ما يلي:
- رفع مستوى الوعي لدى جماهير امتنا في مختلف المجالات "فهم الاسلام واهدافه، فهم الواقع القائم، فهم الموقف".
- العمل على تعميم تطبيق الشريعة الاسلامية في كل الشؤون الحياتية.
- تطبيق عملية تربية شاملة لمختلف قطاعات الامة وفق تعاليم الاسلام.
- العمل بكل ما من شأنه توحيد موقف الامة عمليا ولا نريد لهذا العمل ان يكون خياليا كما لا نريده ان يكون استسلاميا ، بل يجب ان يتبع المنهج الوسطي الواقعي على ضوء الاهداف المرسومة.
- العمل على تقوية المؤسسات الشمولية الاسلامية وايجاد ما يلزم ايجاده ومنحها حرية اكبر في التحرك عبر آليات جديدة وفاعلة وواعدة.
- وضع خطة شاملة للاستفادة الافضل من الامكانات السياسية والاقتصادية والاعلامية والجغرافية والمادية والطاقات الجماهيرية والعلمية والثقافية وتعبئتها في عملية المواجهة.
- العمل على حل أو التغافل او تأجيل بعض النزاعات الجانبية او الثانوية خدمة للهدف الاهم واستجابة لقضية التزاحم في الاولويات.
- الشد من ازر الاقليات المسلمة وتبلغ حوالي ثلث مجموع المسلمين في العالم بالتأكيد على وجودها اولا ووحدتها ثانيا وهويتها ثالثا وتقوية مجالات التلاحم بينها وبين الامة الام.
- التركيز على دعم مؤسساتنا الخيرية ومؤسسات الاغاثة والدعوة و عدم تركها في مهب الريح وعدم انزلاقها في مداخل الخلافات الجانبية والمذهبية والسياسية.
- الاحتفاظ بأصالة التعليم واستقلالية المؤسسات التعليمية وعدم الخضوع للضغوط الخارجية لتؤدي دورها المطلوب على وجه اتم.
- الاستفادة الافضل من المؤسسات والمنظمات الدولية الاخرى غير الحكومية لصالح قضايانا العادلة.
- الوقوف بحزم وتخطيط في قضايانا المصيرية واهمها قضية فلسطين.
واقترح الشيخ التسخيري تضافر كل الجهود الاسلامية لافشال خطط شارون لتركيع الشعب الفلسطيني وانهاء الانتفاضة الباسلة بدعم صموده وانتفاضته الباسلة ومقاومته الشجاعة، والقيام بحملة لدعم المنكوبين وترميم الخراب وتكليف كل دولة غنية بسد جانب منه، وضرورة التأكيد على كون القضية الفلسطينية اسلامية وتعبئة كل الطاقات الاسلامية لذلك، وضرورة اتخاذ كل الخطوات والاستفادة من كل الامكانات القانونية والمحافل الدولية لفضح جرائم الصهيونية، وعدم السماح لاميركا للاستفراد بالقضية وامثالها وعدم الاعتماد على الحلول الاميركية، ولزوم التفكير الجدي للعودة لنظام المقاطعة الشاملة للكيان الصهيوني الغاصب ومن يدعمه بل وتنفيذ المقاطعة الشعبية فورا، ولزوم تفعيل الدور السياسي لمنظمة المؤتمر الاسلامي في هذا المجال خصوصا في مجال المطالبة بتنفيذ القرارات الدولية، ولزوم العمل دوليا على وضع تعريف شامل للارهاب والتفريق بينه وبين المقاومة المشروعة، وضرورة اعطاء الغطاء الشرعي للمقاومة الفلسطينية عموما وللعمليات الاستشهادية خصوصا ولزوم الاستفادة الفعالة من امكانات المنظمات غير الحكومية على غرار ما جرى في مؤتمر "ديربان" في جنوب افريقيا.
الإسلام والقانون الدولي
وخلص د. الدسوقي في بحثه إلى عدة نتائج أهمها:
- ان الانسان في تفكيره ما لم يكن محكوما بتشريع إلهي يسدد خطاه‚ فإنه يزل ويضل، ولن يكون لما يصل إليه من آراء، وان كانت صحيحة ، جدوى في مجال التطبيق العملي. وهذا بين في مجال الفكر القانوني الدولي الانساني، لانه فقد المرجعية التي تحقق للانسان كرامته وحريته وتدفع عنه كل ألوان الظلم والامتهان.
- ان النزعة الانسانية في التشريعات الإسلامية هي وحدها السبيل لحياة عزيزة للناس كافة، لان هذه النزعة آخت بين البشر، وساوت بينهم في الحقوق والواجبات، وستظل البشرية تعاني مما تعاني منه ما لم تعتصم بتلك التشريعات، وتستجيب لحكم الله في كل شيء "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون".
وانتهى إلى ان كل فكر مهما يكن صالحا للحياة إذا لم يكن له حماة يؤمنون به ويذودون عنه فإنه يظل كصرخة في واد، والمسلمون اصحاب عقيدة وشريعة صلح عليها أمر الدنيا والآخرة، ولكن يبقى ما لدى المسلمين من أحكام وآداب بعيدا عن التأثير الفعلي في واقع الحياة ما دام أهله لا يلتزمون به التزاما كاملا أولا، وما داموا ثانيا لا يملكون القدرة على التمكين له والدفاع عنه، ولهذا كانت دعوة الإسلام إلى إعداد القوة بمفهومها الشامل، فهذا الاعداد هو السبيل لان يصبح الفكر النظري واقعا مطبقا، فقوة المسلمين عقيدة واعدادا هي مناط ارهاب اعداء الله وتطبيق شرعه وإعلاء كلمته، فالضعف دائما يقود إلى الهزيمة المعنوية والمادية.
العنف الدولي(3/110)
أكد الشيخ العماري في بحثه على أن القتال في الاسلام إنما شرع دفاعا عن الدين وعن أذى المعتدين ، وقال : إن الارهاب بالمعنى المتعارف عليه الآن لا يعرف الا ما كان بين اليهود والنصارى سنة 66-73م في فلسطين وكانت هناك طوائف يقتلون الابرياء من الطرفين . اما الارهاب في الاسلام فلا يعني اكثر من الاستعداد حسب الاستطاعة من القوة لإخافة العدو قال تعالى : "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" (الأنفال 60) فالاسلام هو دين المحبة والسلام ولا يعتدي المسلمون على أحد .
المقاومة والإرهاب
أما د. حسن بن محمد سفر فقد عدد الخصائص التي تفرد بها الاسلام على القانون الدولي على النحو التالي:
الاسلام عقيدة وشريعة ونظام جاء دينا شاملا وتشريعا رحيما فيه من اللمسات الانسانية ما لم يوجد في أي قانون ونظام حيث حافظ على كرامة الانسان وحرمته وحرياته ، ونهى عن إخافته وترويعه وإرهابه واستخدام العنف والشدة معه كما أرشد إلى اللين في القول والمعاملة وخفض الجناح مع العزة والكرامة والشموخ والإباء للضيم والظلم وتميع الشخصية الاسلامية، كل هذا قبل أن تترسخ بعض هذه الجوانب واللمسات في القانون الدولي العام.
وأوضح أن التشريع الاسلامي ينطلق في أحكامه مع غير المسلمين من إنسانية التعامل البشري ، ومن كون الانسان خليفة في الارض للاعمار والتنمية وليس للهدم والتخريب والدمار. وعندما ندد بالارهاب وحرمه أبان في مبادئه وقواعده الاساسية أن من الخطر أن يحارب الارهاب بنوع آخر من الارهاب؛ فمكافحة ظواهره ومحاربة فاعليه ومروعي الامم بوسائله المختلفة يجب ألا يكتنفها الغموض ، وألا تقوم على نزعة ثأرية تؤدي الى انزلاقات خطيرة وأفعال مشينة وأعمال بربرية وحشية.
وقال : إن محاربة الارهاب لن تكون ذا اثر فعال الا بقدر ما تتصدى لعدو يتم التأكد من هويته وثبوت فعلته او قرائن وحجج قوية تدين فعلته عند ذلك يتصدى له الجميع يدا واحدة، شريعة وقانونا. مشيرًا إلى أن الإسلام حرم تدمير المنشآت وخطف الطائرات واقتحام السفارات وقتل الاغتيالات ، وتدمير البنى التحتية والممتلكات ، واستخدام الاسرى دروعا بشرية في الحروب والاقتحامات ، وتدمير الاعيان الثقافية والمعابد وأماكن العبادات والصلوات بحجة مكافحة الارهاب وملاحقة الأصوليين . كل ذلك كان سيئة وخطيئة عند ربك حرمته الشرائع السماوية والقوانين والاعراف الدولية.
يؤكد القانون والشريعة على ان تسوية النزاعات في العالم يجب ان تكون عبر العدالة والسبل السلمية ووفقا للمبادئ الاخلاقية للشريعة الاسلامية والقانون، وفي ذلك المسلك تصفية تدريجية، وقضاء على النزاعات والضغائن الدينية والثقافية والحضارية.
وبين أن الاسلام يرفض جميع مظاهر التعصب والتطرف الديني والحزبي والسياسي والطائفي الذي يجري في اكثر بلدان الاقليات ، ويؤكد في تعاليمه انه دين التعايش والتساكن وحسن الجوار والداعي الى الحوار والتعاون بين جميع الناس من اتباع الديانات السماوية.
وقال : إننا في حاجة ملحة الى اعداد صياغة فلسفية على أسس علمية منهجية توضح أن الأسلام دين عالمي يستوعب الشعوب جميعا والثقافات جميعا بما استودع في نظامه من مبادىء أخلاقية انسانية عليا ، وتعليمات سلمية ترتفع فوق اختلافات الأمم والشعوب والحضارات.
قواعد العلاقات الإنسانية
تناول د. العبادي المبادئ والقواعد التي أقرها الاسلام للعناية بالجوانب الانسانية في مجال العلاقات التي تقوم بين المسلمين وغيرهم في اوقات الحرب (القانون الدولي الانساني) ، معتبرًا أن اهمية الموضوع تأتي خاصة بعد محاولات التشويه التي يتعرض لها الاسلام وصورته في المجتمعات الانسانية بعد حوادث 11 سبتمبر .
واستعرض المبادئ الاساسية والقواعد الكبرى المنظمة للعلاقات الانشائية في اوقات السلم والحرب وكون الشريعة الاسلامية جاءت لتحقيق الخير للناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة، فنظمت العلاقات كافة ، وان التوازن والاعتدال من الصفات الاساسية لدين الاسلام الذي تعامل بتوازن واعتدال مع الكينونة الانسانية بكل مكوناتها جسما وعقلا وروحا ، واكد الاسلام على وحدة الجنس البشري مع تقرير الاختلاف بين الشعوب والقبائل للتعارف والتعاون وان الناس متساوون في الحقوق والواجبات ، واعترف الاسلام بحق الانسان في الحياة والكرامة والحرية دون النظر الى جنس او لون او دين.
واشار الى اصل الديانات الالهية الواحد مع احترام المسلم لجميع الرسل وعدم التفريق بينهم ، وان جهاد المسلمين لتبليغ الدعوة وليس للاستعلاء في الارض والتأكيد على مبدأ المعاملة بالمثل وتقرير مبدأ العدالة في معاملة الآخرين والرحمة في معاملة الناس ووجوب احترام العهود والمواثيق. كما ناقش البحث اسباب الجهاد ودوافعه في الاسلام .
حكم المرتدين والملحدين
وحول حكم الشرع في المرتدين والملحدين اوضح الشيخ محمد الحاج الناصر عضو المجمع من علماء المغرب ان نصوص القرآن والسنة واجتهادات ائمة المسلمين تؤكد انه اذا احتفظ ملحد من القائمين بالعلمانية الدنيوية او بغيرها من المذاهب التي تجرد التشريع الاسلامي من جانبه التنظيمي لشؤون الحياة الدنيا وتحصره في العبادات فلا سبيل لنا الا تطبيق حكم المرتدين عليهم اعمالا لقوله صلى الله عليه وسلم: "امرت ان اقاتل الناس حتى يقولوا الا اله الا الله فاذا قالوها عصموا مني دمائهم واموالهم الا بحقها". وبين ان كل من اعتصم بالشهادة: ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله، عصم دمه على الله.(3/111)
وأوضح أن عصمة الدم لا تمنع ولي امر المسلمين من زجر هؤلاء بما دون القتل من ألوان التعزير كالجلد دون عقوبة الزنا او كالسجن بجميع أنواعه بما فيه الاشغال الشاقة مدى الحياة او التجريد من الحقوق المدنية والإقصاء الاجتماعي. تجريدا واقصاء لا ينسحب على العلاقات الزوجية للمتزوجين؛ لأن العلاقات الزوجية لا تنفصم إلا بثبوت الردة، أما ما دون الردة من ألوان الزندقة والإلحاد، فلا تنفصم معه إلا أن يخاف أن تؤدي إلى فتنة الزوج أو الزوجة بصاحبه الملحد، وعندئذ لولي الأمر أن يفرق بينهما حفظا لمن بقي منهما على الإسلام الصحيح من أن يفتن في دينه.
الشريعة والعنف
وتناول د. عبد العزيز الخياط الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والإسلام ، وحقوق الإنسان بالنسبة للإعلان العالمي، وتحدث عن الحريات الأساسية وهي كرامة الإنسان والحرية الإنسانية الشخصية، ومنع التعذيب والعقوبات الفظة أو المذلة وحرية الفكر والرأي ، والاشتراك في الاجتماعات والجمعيات المسالمة ، وحرمة الملكية الخاصة ، وحرمة المنازل والحياة الخاصة، والشرف والسمعة وحرية الاعتقاد وحق الأمن الاجتماعي وحق اللجوء فرارا من الاضطهاد، مشيرا الى حق الاسرة وبراءة الذمة وحق التقاضي.
ثم تناول البحث احكام القانون الدولي الإنساني والإسلام واستعرض تأمين ممارسة الفرد لحقوقه وحرياته في جميع الأوقات، ومنع الاسترقاق، والإسلام وقانون الحرب وواجبات المحاربين في معاملة الآمنين ومنع الوحشية في معاملة الجرحى والقتلى، وعدم التعرض لمن يقدمون الخدمات الإنسانية ونظرة الإسلام الى العنف والارهاب من حيث مقصد الشريعة وتعريف الإرهاب
=================
حكم أهل الكتاب
تاريخ 16 صفر 1420 / 01-06-1999
السؤال
ما حكم أهل الكتاب في الوقت الحاضر في الإسلام هل هم مؤمنون أم كافرون ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
1- فقد دل القرآن والسنة والإجماع على أن من دان بغير الإسلام فهو كافر، ودينه مردود عليه وهو في الآخرة من الخاسرين قال تعالى (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) [آل عمران:85] وقال تعالى: ( إن الدين عند الله الإسلام )[آل عمران:19]
2- وجاء النص القاطع بأن أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو أشركوا مع الله غيره، أو جحدوا بنبوة نبي من الأنبياء أنهم كفرة ولا يدفع عنهم الكفر إيمانهم أو التزامهم بكتابتهم، فلو آمنوا حقاً بالنبي والكتاب لآمنوا بجميع الأنبياء والرسل. قال الله تعالى: ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً ) [النساء: 150، 151]
وقال تعالى : ( يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ) [آل عمران:70] وقال:(قل يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعلمون ) [آل عمران:98] وهو خطاب لأهل الكتاب المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وهم يؤمنون بعيسى والإنجيل، وبموسى والتوراة. وقال تعالى: ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) [المائدة: 73] وقال تعالى: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) [التوبة:31]
وقال تعالى: ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة) [البينة: 1]
فكونهم أهل كتاب لا يمنع من كونهم كفاراً، كما نطق بذلك كتاب الله.
3- وإباحة طعام أهل الكتاب لا ينافي الحكم بكفرهم، فإن الذي أباح طعامهم هو الذي حكم بكفرهم، ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه جل وعلا.
4- وما جاء في القرآن الكريم من وعد النصارى أو اليهود بالجنة إنما هو للموحدين منهم الذين آمنوا بنبيهم ولم يشركوا بالله أحداً ولم يدركوا بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك قوله تعالى: (إن اللذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [البقرة: 62]
وهذا ما اتفق عليه أهل التفسير والعلم بكتاب الله عز وجل، ويؤيده أن من اعتقد ألوهية عيسى أو بنوته لله أو أعتقد أن الله فقير أو يمسه اللغوب والتعب فليس مؤمناً بالله حقيقة وكذلك من اعتقد أن عيسى عليه السلام هو الذي يحاسب الناس يوم القيامة ويجعل النار لمن لم يؤمن بألوهيته أو بنوته، من اعتقد ذلك لم يكن مؤمناً باليوم الآخر حقيقة، ولهذا وصف القرآن أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، فقال تعالى: ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) [التوبة:29](3/112)
وأما قوله تعالى: ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ) [المائدة: 82] فتمام الآيات يبين أن المراد بهؤلاء من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وتأثر بسماع القرآن ودعوته، ولكثرة المستجيبين من النصارى كان النصارى أقرب مودة للمسلمين وأسرع قبولاً للإسلام وهذا يصدقه التاريخ والواقع قال تعالى: ( ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون* وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين* ومالنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين* فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين* والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم. ) [المائدة:82- 86]
5- إذا تقرر هذا فأهل الكتاب الموجودون في عصرنا صنفان: صنف بلغته دعوة الإسلام وسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن به، فهؤلاء كفار في الدنيا، مخلدون في النار في الآخرة إن ماتوا على كفرهم، والدليل على ذلك الآيات المذكورة آنفاً، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل : " إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن: تتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى من كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر أو فاجر أو غبرات أهل الكتاب، فيدعى اليهود فيقال لهم: من تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيراً ابن الله فقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فما تعبدون؟ فقالوا: عطشنا ربنا فاسقنا فيشار ألا تردون ؟ فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً، فيتسا قطون فى النار.
ثم يدعى النصارى فيقال لهم: من كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فيقال لهم: ما ذا تبغون ؟ فكذلك مثل الأول " رواه البخاري ومسلم.
والصنف الثاني: صنف لم تبلغهم دعوة الإسلام ولم يسمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء على فرض وجودهم في هذا الزمان الذي تقدمت فيه وسائل المعرفة والاتصال، اختلف العلماء في حكمهم في الآخرة، وأرجح الأقوال أنهم يمتحنون في عرصات القيامة، فمنهم الموفق الناجي ومنهم الخاسر الموبق.
أما حكمهم في الدنيا فهم كفار باتفاق أهل الإسلام، تجب دعوتهم وإيصال الهدى إليهم، وتجري عليهم أحكام الكفار من أهل الكتاب.
6- وجميع ما سبق يعد من الأمور المعلومة بالاضطرار من دين الإسلام، فمن أنكر كفر اليهود والنصارى أو شك في ذلك فهو كافر . قال القاضي عياض في كتابه الشفا، في سياق ذكره ما هو كفر بالإجماع: ( ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل أو توقف فيهم أو شك أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك) انتهى
وقال في الإقناع وشرحه من كتب الحنابلة في باب المرتد: ( أو لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى واليهود، أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم. فهو كافر لأنه مكذب لقوله تعالى: ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) [آل عمران 85]
والله أعلم
المفتي: ... مركز الفتوى
================
حكم الاستغاثة بأرواح الأولياء والصالحين
تاريخ 16 صفر 1420 / 01-06-1999
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هل تجوز الاستغاثة بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرواح الصحابة والأولياء الصالحين كقول " يا عباد الله الصالحين أغيثوني " ولكم مني جزيل الشكر
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن دين الإسلام مبني على أصلين:
على أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيء، وعلى أن يعبد بما شرع على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذان هما حقيقة قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد ورسوله.
فالإله هو الذي تألهه القلوب محبة ورجاء وخشية وتعظيماً، وهو الذي يستحق أن يعبد جل وعلا.
وهذا هو التوحيد الذي جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب، فلا يعبد إلا الله ولا يدعى إلا الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يستغاث بغير الله، ولا يركع ولا يسجد إلا له سبحانه وتعالى.
إذا علم هذا فالعبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. فالصلاة عبادة، والدعاء عبادة، والحلف عبادة، والذبح عبادة وكذا الخوف والرجاء والتعظيم كل ذلك من العبادات.
بل إن الدعاء -ومنه الاستغاثة- يعتبر من أشرف العبادات، لاشتماله على الذل، والخضوع. روى أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الدعاء هو العبادة"، وقرأ : ( وقال ربكم ادعوني استجب لكم ) إلى قوله: (داخرين) .
والدعاء هو طلب جلب النفع أودفع الضر، ومنه الاستغاثة، إذ هي طلب الغوث.
وقد دل القرآن والسنة والإجماع على تحريم دعاء غير الله، والتصريح بأن ذلك من الشرك الذي لا يغفره الله.
قال تعالى: ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ) [الأحقاف: 5].
وقال تعالى: ( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذًا من الظالمين.) [ يونس:106 ](3/113)
وقال تعالى: ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) [الأعراف: 37] وأخبر الله تعالى أن المشركين يدعون معه غيره في حال الرخاء، ويخلصون له الدعاء في حال الشدة فقال: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ) [العنكبوت: 25].
وقال تعالى: ( ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون* ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ) [النحل: 53،54].
وقال تعالى: ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما أنجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً ) [الإسراء: 67]
ومن ظن أن المشركين كانوا يجحدون الله أو كانوا يعتقدون النفع والضر في آلهتهم استقلالاً، أو لا يدعون الله ولا يعبدونه فقد قال قولاً معلوم البطلان من دين الإسلام، فإن الله تعالى أخبر عن حالهم ومرادهم فقال: ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) [يونس: 18] وقال تعالى: ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) [الزمر:3].
فعلم أن مرادهم وغايتهم التقرب إلى الله عن طريق الوسطاء والشفعاء مثل ما يفعل بعض جهلة المسلمين اليوم، فتراهم يدعون ويستغيثون وينذرون ويذبحون للأولياء، فإذا نصحهم الناصح وأنكر عليهم المنكر قالوا: إن هؤلاء شفعاؤنا عند الله !!
وقد أشار الإمام الرازي إلى وجود هذا التشابه بين الفريقين فقال في تفسير آية يونس السابقة: ورابعها أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر، على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله. انتهى
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) [يوسف: 106] قال عطاء: هذا في الدعاء، وذلك أن الكفار ينسون ربهم في الرخاء فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء ... وقيل: معناها أنهم يدعون الله أن ينجيهم من الهلكة، فإذا أنجاهم قال قائلهم: لولا فلان ما نجونا، ولولا الكلب لدخل علينا اللص… قلت: وقد يقع في هذا القول والذي قبله كثير من عوام المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. انتهى كلام القرطبي.
وروى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار."
وفي الإقناع وشرحه من كتب الحنابلة في باب المرتد : "أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم إجماعاً". أي كفر، لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . انتهى.
وقد نقل هذا الإجماع غير واحد، منهم صاحب الفروع، والإنصاف، وغاية المنتهى، وشرحه مطالب أولي النهى.
وقد صنف العلماء قديما وحديثاً في بيان الشرك وأنو اعه، وأن منه الاستغاثة بالأموات والطلب منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، فاحذر من الوقوع في شيء من ذلك، وقانا الله وإياك شر البدع والحادثات.
والله أعلم
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
توبة المرتد
تاريخ 09 ربيع الثاني 1422 / 01-07-2001
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي المفتي لقد قمت بالأمس بشتم الذات الإلهية بسبب مشكلة كبيرة وهي أول مرة في حياتي أقوم بالتفوه بهذة الشتيمة وأنا نادمة جدا وأشعر بشيء يخنقني يا والدي مع أنني أقوم بالفرائض ووالله أكتب إليكم وأنا أكبت في نفسي آهات وويلات مما حدث معي أفيدوني بأسرع ما يمكن وأنا طالبة جامعية من فلسطين المحتلة وعمري 21عاما وجزاكم الله خير الجزاء.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فمن سب الله سبحانه وتعالى فقد كفر نص على ذلك أهل العلم قال ابن قدامة رحمه الله في ( المغني :12/298): ( فصل: ومن سب الله تعالى، كفر سواء كان مازحاً أو جاداً. وكذلك من استهزأ بالله تعالى أو بآياته أو برسله أو كتبه، قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) (التوبة:65) . انتهى.
ولا يصدر ذلك إلا عمن استحكمت غفلته وقسا قلبه، فإن تاب وندم على ما صدر منه، فهل تقبل توبته؟ اختلف أهل العلم في ذلك، فذهب جمهور أهل العلم - الحنفية والحنابلة وهو الراجح عند المالكية - أن توبته مقبولة إن صحت وصدقت وعليه فالواجب عليك أن تكثري من فعل الصالحات وتجتهدي في الطاعات عسى الله أن يتوب عليك.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
فعل الكفر قبل التكليف
تاريخ 18 جمادي الأولى 1422 / 08-08-2001
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،
السادة الأفاضل ،(3/114)
بداية أقول وبالله التوفيق إنني أحسب نفسي من الملتزمين وأسأل الله أن يثبتنا وإياكم على دينه والسؤال: إنني دائم التفكر في ما اقترفت من معاص سابقا وأسأل الله أن يقبل توبتي منها، وفي مرة من المرات مر بخاطري ولا أعلم أذلك من حديث النفس أم من الشيطان أنني كنت في صغري، ربما وأنا في الإعدادية كنت قد اختصمت مع ابن عمي وهددته بأنني سوف أسب الذات الإلهية إذا تكرر ذلك ولا أذكر هل سبيت أم لا ، دائما يأتيني هذا الهاجس يحاول أن يضعفني ويقول لي هل أنت مسلم فما العمل أيها الإخوة علما أنني في تلك الفترة من عمري لم أكن أعلم حكم من سب الذات الإلهية وهل التوبة من ذلك تعني الدخول في الإسلام من جديد بنطق الشهادتين والاغتسال أم ماذا ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فما دمت - الآن - ملتزماً ممتثلاً لأوامر الله تعالى، منتهياً عما نهى عنه، فما صدر منك في حال الصبا معفو عنه، ولو قلنا باعتبار ردة الصغير.
لأن المرتد إذا أتى بالشهادتين - غير مصاحب لناقض من نواقض الإسلام - عُدَّ تائباً راجعا إلى دين الإسلام، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله … إلى قوله: فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله عز وجل". متفق عليه.
فالحديث دليل على ثبوت العصمة للدم والمال بمجرد الإتيان بالشهادتين- مع ترك ما يناقضهما- ولا شك أن الالتزام بالمعنى المتعارف عليه اليوم أشمل من مجرد النطق بالشهادتين، لأن معناه المقصود منه الاستقامة، والاستقامة هي التوبة النصوح بعينها، فليطمئن - أخي قلبك - ولا تلتفت إلى الهواجس النفسية، ولا إلى الوساوس الشيطانية، فإن الاشتغال بهما والاسترسال فيهما، قد يدفع بالإنسان إلى ما هو أعظم، فالواجب التوقف عنه.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
لا تجوز زيارة قبور الأولياء عند كل صلاة والتودد لهم مطية الشرك
تاريخ 19 ربيع الثاني 1422 / 11-07-2001
السؤال
ما حكم من يقوم بزيارة قبور الأولياء في كل صلاة والتودد لهم مثل قبر العيدروس في اليمن؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا يشرع للمسلم زيارة القبور في كل صلاة، لا قبور الأولياء ولا غيرهم، بل هذا غلو مذموم، لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة مع قرب " البقيع" من مسجده صلى الله عليه وسلم وفيه قبور سادات الأولياء رضوان الله عليهم.
وأما التودد للقبر وسؤال من فيه قضاء الحاجات وتفريج الكربات فهذا هو المنكر العظيم، والإثم الكبير، والبلية التي يجب الحذر منها. وأساس ذلك أن تعلم أن دين الإسلام مبني على أصلين:
على أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيء، وعلى أن يعبد بما شرع على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذان هما حقيقة قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمداً عبد ورسوله.
فالإله هو الذي تألهه القلوب محبة ورجاء وخشية وتعظيماً، وهو الذي يستحق أن يعبد جل وعلا.
وهذا هو التوحيد الذي جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب، فلا يعبد إلا الله ولا يدعى إلا الله، ولا ينذر إلا لله ولا يستغاث بغير الله، ولا يركع ولا يسجد إلا له سبحانه وتعالى.
إذا علم هذا فالعبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. فالصلاة عبادة، والدعاء عبادة، والحلف عبادة، والذبح عبادة وكذا الخوف والرجاء والتعظيم كل ذلك من العبادات.
بل إن الدعاء -ومنه الاستغاثة- يعتبر من أشرف العبادات، لاشتماله على الذل، والخضوع. روى أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الدعاء هو العبادة"، وقرأ : ( وقال ربكم ادعوني استجب لكم ) إلى قوله: (داخرين) .
والدعاء هو طلب جلب النفع أودفع الضر، ومنه الاستغاثة، إذ هي طلب الغوث.
وقد دل القرآن والسنة والإجماع على تحريم دعاء غير الله والتصريح بأن ذلك من الشرك الذي لا يغفره الله.
قال تعالى: ( ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ) [الأحقاف: 5].
وقال تعالى: ( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذًا من الظالمين.) [ يونس:106 ]
وقال تعالى: ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) [الأعراف: 37] وأخبر الله تعالى أن المشركين يدعون معه غيره في حال الرخاء، ويخلصون له الدعاء في حال الشدة فقال: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ) [العنكبوت: 25].
وقال تعالى: ( ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون* ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ) [النحل: 53،54].
وقال تعالى: ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما أنجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً ) [الإسراء: 67]
ومن ظن أن المشركين كانوا يجحدون الله أو كانوا يعتقدون النفع والضر في آلهتهم استقلالاً، أو لا يدعون الله ولا يعبدونه فقد قال قولاً معلوم البطلان من دين الإسلام، فإن الله تعالى أخبر عن حالهم ومرادهم فقال: ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) [يونس: 18]وقال تعالى: ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) [الزمر:3].(3/115)
فعلم أن مرادهم وغايتهم التقرب إلى الله عن طريق الوسطاء والشفعاء مثل ما يفعل بعض جهلة المسلمين اليوم، فتراهم يدعون ويستغيثون وينذرون ويذبحون للأولياء، فإذا نصحهم الناصح وأنكر عليهم المنكر قالوا: إن هؤلاء شفعاؤنا عند الله !!
وقد أشار الإمام الرازي إلى وجود هذا التشابه بين الفريقين فقال في تفسير آية يونس السابقة: ورابعها أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر، على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله. انتهى
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) [يوسف: 106] قال عطاء: هذا في الدعاء، وذلك أن الكفار ينسون ربهم في الرخاء فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء ... وقيل: معناها إنهم يدعون الله ينجيهم من الهلكة، فإذا أنجاهم قال قائلهم: لولا فلان ما نجونا، ولولا الكلب لدخل علينا اللص… قلت: وقد يقع في هذا القول والذي قبله كثير من عوام المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. انتهى كلام القرطبي.
وروى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار."
وفي الإقناع وشرحه من كتب الحنابلة في باب المرتد : أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم إجماعاً. أي كفر، لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . انتهى.
وقد نقل هذا الإجماع غير واحد، منهم صاحب الفروع، والإنصاف، وغاية المنتهى، وشرحه مطالب أولي النهى.
وقد صنف العلماء قديما وحديثاً في بيان الشرك وأنو اعه، وأن منه الاستغاثة بالأموات والطلب منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، فاحذر من الوقوع في شيء من ذلك، وقانا الله وإياك شر البدع والحادثات.
والله أعلم
المفتي: ... مركز الفتوى
============
أقوال العلماء فيمن حج ثم ارتد ثم تاب
تاريخ 23 جمادي الأولى 1422 / 13-08-2001
السؤال
ما حكم إنسان أدى فريضة الحج وبعد ما عاد بشهور سب الذات الإلهية
وهو يشعر بندم شديد هل ارتد أم لا؟ وهل بطل حجه أم لا. وماذا يعمل حتى يكفر عن ذنبه؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد اختلف الفقهاء في حكم من حج ثم ارتد ثم تاب، فذهب المالكية والحنفية إلى أنه
تجب عليه إعادة الحج، وكذا الحنابلة في رواية عندهم، ولا يجب عليه قضاؤه عند الشافعية وهو الصحيح عند الحنابلة ، قالوا: لأن ذمته قد برئت بفعله قبل الردة ولأن الردة لو أسقطت حجه وأبطلته لأبطلت سائر عباداته المفعولة قبل ردته، ولأن الردة وإن كانت تحبط ثواب العمل، فلا يلزم من سقوط ثواب العمل سقوط العمل، بدليل أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة مسقطة للقضاء، ولا ثواب فيها عند أكثر العلماء. ومنشأ الخلاف في مسألة وجوب قضاء حجة الفرض على المرتد هو الخلاف في المراد من قوله تعالى : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ..) [الزمر:65] فمن حمل الآية على الإطلاق كمالك ومن وافقه رأى أن العمل قد بطل بمجرد الشرك، فكأن المرتد الذي قد حج أتى بما يبطل حجه فيتبقى الحج في ذمته. أما الشافعي ومن وافقه فقد حمل المطلق من الآية المتقدمة على المقيد من قوله تعالى : ( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم ) [البقرة:217]
فحبوط العمل هنا معلق على حصول أمرين: الردة، والموت عليها. والمعلق على أمرين لا يتم إلا بهما، ونظير ذلك قوله تعالى: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ) فمن دفعها لهم بعد بلوغ النكاح وقبل إيناس الرشد كان مفرطا ضامنا ، وكذلك قوله تعالى: ( فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ) [البقرة:222] فقد علق الوطء على الطهر، أي انقطاع الدم وجفاف المحل، وعلى التطهر أي الاغتسال بالماء، فلو طهرت ولم تتطهر لم يجز أن توطأ.
وبهذا يعلم أن الراجح في المسألة هو ما ذهب إليه الشافعي ومن وافقه من أن المرتد إذا عاد إلى الإسلام لا يجب عليه إعادة الحج؛ إن كان قد حج.
وأما مسألة سب الله تعالى فقد تقدم حكمها برقم 8927
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
مسبة الرب ردة
تاريخ 01 جمادي الثانية 1422 / 21-08-2001
السؤال
جاري لا يصلي ويسب الدين والرب وأنا أكرهه مع كل محاولاته للتقرب مني فهل يجوز لي عدم التعامل معه إلا بحقوقه الدنيا (طرح السلام، التشميت،..) مع العلم أنه فقير وأنا ميسور الحال وأخاف أن يكون في ذلك شيء من الكبر أفيدوني جزاكم الله خيرا
الفتوى
الحمد لله وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فمن سب الله ، أو دين الإسلام ، فقد كفر كفرا مخرجا من الملة ، بإجماع أهل العلم ، ولو كان مصلياً قائماً بأحكام الإسلام ، وبهذا يعلم أن الرجل المذكور في السؤال تلحقه أحكام الردة فيفرق بينه وبين زوجته ، ويحرم أكل ذبيحته ، ويجب على السلطان قتله إن لم يتب من ردته ، ولا يصلى عليه ،ولا يدفن في مقابر المسلمين ، ولا يرث ، ولا يورث.
قال ابن قدامة: " ومن سب الله تعالى كفر ، سواء كان مازحاً ، أو جاداً ، وكذلك كل من استهزأ بالله تعالى أو بآياته أو برسله أو كتبه.. " سئل محمد عليش المالكي عن امرأة سبت الملة ، هل ترتد؟ فقال: نعم ؛ارتدت لسبب سبها الملة ، لأن السب أشد من الاستخفاف ، وقد نصوا على أنه ردة ، فليكن السب ردة بالأولى"(3/116)
فلا ينبغي لك الإحسان إلى هذا المرتد ، بل عليك أن ترفع أمره إلى القاضي ، أو السلطان ، ليقيم عليه حكم الله ، نسأل الله السلامة والعافية.ولمزيد من التفصيل يراجع السؤال رقم:
8927
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
ماذا تفعل الخطيبة بهدايا الخاطب المرتد عن الإسلام
تاريخ 10 شعبان 1422 / 28-10-2001
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
أنا فتاة محجبة وتائبة إلى الله. وقد خطبت لشاب أجنبى مسلم ولكنه بعد إسلامه رجع عن دينه فهل أرد إليه ما أرسله لي من مال في فترة الخطبة؟ وهل إذا تصدقت بماله بنية هدايته هل يهديه الله؟ ولقد ابتلاني الله بشىء فدائما يأتي عرسان لخطبتي ونكون موافقين وهم راضون و لكن يحدث من الظروف ما يوقف إتمام الخطبة ولقد حدث هذا الموقف أكثر من مرة. و أنا حائرة؟هل هناك شخص سحر لى أم أن الله غاضب علي (مع العلم أني كنت أعيش حياة لاهية قبل حجابي والتزامي) إنني أخشى الفتنة في الدين ولا أدري ماذا أفعل؟ أرجوك الدعاء لي بالرحمة و المغفرة و أن يرزقني الله بالزوج الصالح
و جزاك الله كل خير على فتواك و مساعدتك.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد سبقت الإجابة على حكم الهدية التي يقدمها الخاطب لخطيبته في حالة ما إذا لم يتم النكاح تحت رقم 6066 وذكرنا هنالك حكمها مفصلاً فليرجع إليه، ولكن بما أن الخاطب في مسألتنا هذه ارتد عن الإسلام -والعياذ بالله تعالى- فلا ترد له هديته في حالة ما إذا لم يكن للخطيبة التمسك بها، وإنما تصرف في مصالح المسلمين العامة، ولا يتصدق بها عنه لأن مال المرتد يجعل في بيت مال المسلمين.
أما ما يقع غالباً من عدم نجاح الخطبة، فالله تعالى وحده هو الذي يعلم السبب فيه والحكمة من ورائه نسأل الله عز وجل أن يبلغنا وإياك الأمل فيه، وأن يرزقك الزوج الصالح، والذرية المباركة وعليك بتقوى الله والرضى بما قضى الله، وأن تذكري قول الله عز وجل: ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) [البقرة:216].
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
من تكرر منه شتم الرب، وحكم بقاء زوجته معه
تاريخ 21 شوال 1422 / 06-01-2002
السؤال
1- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد .. فضيلة الشيخ قد قرأت الفتوى السابقة لمن يسب الرب والعياذ بالله .. وسؤالي متعلق بهذا الموضوع اذ أن زوجي للأسف سب الرب قبل العيد بيومين (في شهر رمضان) وكان صائما ولكنه أتم صيامه وصلاته حتى صلاة التراويح والتهجد .. فهل تقبل منه .. وهل يتوب الله عليه فور عودته للصلاة أم ماذا ؟ وبالنسبة لي (زوجته) فقد أشرتم في الفتوى السابقة بأنه يجب التفريق بين الزوج والزوجة .. فما هو وضعي في هذه الحالة مع العلم بأنها ليست المرة الأولى التي يقولها ، وما ترونه فضيلتكم قد يردعه عن تكرار ذلك القول ؟؟ .. أفيدوني أفادكم الله وبارك فيكم ..
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد أجمع العلماء على أن من سب الله تعالى كفر سواء كان مازحاً، أو كان جاداً، أو مستهزئاً، لقول الله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون*لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ..)[التوبة:65-66]
لكنه إذا تاب إلى الله تعالى فمذهب الجمهور أنه تقبل توبته، واشترط بعض العلماء لقبولها أن لا يتكرر ذلك منه ثلاث مرات، فإن تكرر ثلاثاً لم تقبل لدلالة التكرر على فساد عقيدته، وقلة مبالاته بدينه، ولكن القول بقبولها ولو تكررت أظهر، دلت عليه ظواهر آيات كثيرة، وأحاديث صحيحة.
ثم إن المرتد إذا تاب إلى الله تعالى أو نطق بالشهادتين قبلت توبته قطعاً، بل قال الحنابلة لو صلى المرتد حكم بإسلامه، إلا أن تكون ردته بجحد فريضة أو كتاب أو نحو ذلك.
وعليه، فنقول للسائلة: إذا علمت أن هذا الرجل تاب إلى الله تعالى أو نطق بالشهادتين، أو صلى صلاة المسلمين واستقام مع جماعتهم قبل أن تخرجي من العدة فالعصمة باقية والزوجية مستمرة، لأن الصحيح من أقول أهل العلم أن الفرقة بين الزوجين إذا ارتد أحدهما تتوقف على انقضاء العدة.
وننبه أخيراً إلى أن عليك أن تجلسي مع زوجك وتبيني له خطورة هذا الأمر وتطلعيه على ما فيه من فتاوى، وتوضحي له توضيحاً صريحاً أنك غير مستعدة للبقاء معه إذا تكرر منه.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
عدم تكفير الكفار كفر
تاريخ 03 ذو القعدة 1422 / 17-01-2002
السؤال
ما حكم من لا يكفر الكافر؟ وما حكم من لا يطبق بعض السنن: اللحية والتقصير خوفا على نفسه؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فاليهود والنصارى والبوذيون وغيرهم من أهل الملل التي دانت بغير دين الإسلام كلهم كفار، وكفرهم معلوم بالضرورة من دين الإسلام.
فمن أنكر كفرهم أو شك فيه أو لم يكفرهم فإنه كافر، لأن من نواقض الإسلام عدم تكفير الكفار أو الشك في كفرهم. قال القاضي عياض في كتابه الشفاء عند ذكره لما هو كفر بالإجماع: (ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو توقف منهم أو شك أو صحح مذهبهم، وإن أظهر الإسلام واعتقده، واعتقد إبطال كل مذهب سواه فهو كافر بإظهار ما أظهر من خلاف ذلك) انتهى.
وقال في الإقناع وشرحه -وهما من كتب الحنابلة- في باب المرتد: (أو لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى واليهود، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم فهو كافر، لأنه مكذب لقوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)[آل عمران: 85] انتهى.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============(3/117)
زواج الرجل بالرجل كبرت فاحشة!!!
تاريخ 06 ذو القعدة 1422 / 20-01-2002
السؤال
-ما حكم زواج الرجال بالرجال
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن كان يقصد بزواج الرجال بالرجال إتيان الرجل الرجل، وارتكاب الفاحشة معه مع الإقرار بحرمة ذلك، وإقرار الفاعل بالمعصية، فذلك كبيرة من كبائر الذنوب، وفاحشة من أعظم الفواحش، وقد تقدم الكلام عن حكمها، وكلام أهل الإسلام فيها في أجوبة ماضية منها الجواب رقم:6872
وأما إن كان القصد بأن يتزوج الرجل الرجل هو: أن يجري بينهما عقد زواج ويشهر ذلك، أو أن يفجر الرجل بالرجل على جهة الاستحلال فهذا كفر -والعياذ بالله- لأنه إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة، وقد روى أبو داود وغيره عن البراء بن عازب أنه قال: لقيت عمي ومعه راية، فقلت له: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه، وآخذ ماله" فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ماله فيئاً، معاملاً له معاملة المرتد. هذا، وقد تزوج بامرأة من المحارم، فكيف بزواج الرجال بالرجال.
نسأل الله العافية.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
التكفير يبت فيه العلماء الأثبات وفق ضوابط دقيقة
تاريخ 06 محرم 1423 / 20-03-2002
السؤال
1-إني طالبة سنة 4 عربية وأدرس في مادة الحضارة مسألة "الإفتاء المعاصر والوعي بالحداثة" ولذلك أرجو من فضيلتكم أن تمدوني بإجابة عن السؤال التالي في أقرب فرصة : ما مدى وعي الإفتاء المعاصر بمستجدات الحداثة اليوم؟ أعني الحداثة الإجتماعية والسياسية والعلمية (الإختلاط بين الجنسين، العولمة والاستنساخ).
2- ماهي المقومات التي من خلالها يتم تكفير المفتي للمفكر المسلم في عصرنا الحالي؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالتكفير مرده إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد أن يقول عن قول أو فعل أو اعتقاد أنه كفر إلا إذا دل على ذلك دليل من الكتاب والسنة الصحيحة.
ولخطورة أمر التكفير وما يترتب عليه من أحكام بالغة الخطورة كقتل المرتد، وفسخ نكاحه، وقطع الصلة بينه وبين ورثته، ودفنه في غير مقابر المسلمين، وغير ذلك من أحكام، وجب أن يوكل أمره إلى العلماء الذين يدركون معاني الألفاظ ودلالاتها، ويميزون بين الأعذار والعوارض المعتبرة وغيرهما.
فقد يأتي الإنسان مكفراً من قول أو فعل أو اعتقاد، لكن حكم التكفير لا يقع عليه، لوجود مانع من جهل أو إكراه أو تأويل، وهذه الأعذار تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة، وتختلف باختلاف المسألة وظهور أدلتها أو خفائها.
وقد كتب حول التكفير وضوابطه رسائل علمية قيمة، ننصحك بالرجوع إليها منها:
نواقض الإيمان القولية والعملية للدكتور ( عبد العزيز عبد اللطيف) ونواقض الإيمان الاعتقادية للدكتور ( محمد بن عبد الله الوهيبي).
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
من أحكام التعامل مع المرتد
تاريخ 28 محرم 1423 / 11-04-2002
السؤال
والد زوجتي ارتد عن الإسلام ولا يصلي ولا يصوم رمضان ويشكك في آيات القرآن الكريم مما جعلني في حيرة من أمري هل يجوز لي بره ومجاملته والتودد إليه؟ هل طعامي حل له وطعامه حل لي؟ هل من حق زوجتي أن ترثه في حالة وفاته قبلها؟
أرجو سرعة الإجابة للأهمية.
جزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الأصل أن المرتد ككل كافر يهجر ولا يخالط ما دام مرتداً عن الإسلام، اللهم إلا أن يكون في مخالطته وصلته مصلحة كأن يرجى من ورائها دعوته إلى الإسلام، وانتشاله من مستنقع الارتداد، فعندئذ لا بأس بمجاملته وشيء من مخالطته لذلك الغرض، وهذا من باب التأليف على الإسلام.
ولا حرج عليك أن تطعمه من طعامك ولا في تناولك أنت من طعامه، ما لم يكن لحماً باشر هو ذكاة ذبيحته.
وإذا مات لا ترثه زوجتك ولا غيرها من ورثته المسلمين، كما لا يرث هو أيضاً من مات من ورثته قبله، إذ لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
العلة في أقامة الحد على المرتد
تاريخ 27 ربيع الأول 1423 / 08-06-2002
السؤال
السلام عليكم ، كيف يكون لا إكراه في الدين مع ذلك كان المسلمون يقومون بالغزوات و يقيمون الحد على المرتد ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فمعنى قوله تعالى:لا إكراه في الدين... كما قال ابن كثير رحمه الله: أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً
وقال ابن سعدي رحمه الله: ولا منافاة بين هذا المعنى وبين الآيات الكثيرة الموجبة للجهاد، فإن الله أمر بالقتال ليكون الدين كله لله ولدفع اعتداء المعتدين على الدين.
وأجمع المسلمون على أن الجهاد ماض مع البر والفاجر، وأنه من الفروض المستمرة الجهاد القولي والجهاد الفعلي.
ومن هنا نعلم أن المسلمين ما كانوا يغزون ولا يقاتلون ليكرهوا الناس على الدخول في الدين، وإنما كانوا يقاتلون ليرفعوا راية لا إله إلا الله حتى تكون كلمة لله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.(3/118)
وأما الذين كانوا مسلمين فارتدوا على أعقابهم فهؤلاء لهم أحكام كثيرة فصلها الفقهاء في كتبهم، وما يقام عليهم من الحد ليس لإكراههم على الدخول في الدين، وإنما عقوبة لهم على كفرهم برب العالمين بعد أن اتضحت لهم سبيل الهدى واستظلوا بظل الإسلام واطلعوا على سماحته وصلاحيته لكل الناس وعلموا أنه هو الدين الحق المنزل من عند الله. ويجب التنبه إلى أن حد الردة كغيره من الحدود التي لا يقيمها إلا السلطان، فلا يجوز لأفراد المسلمين إقامتها.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
الخطوات الواجبة على الزوجة تجاه زوجها المرتد
تاريخ 05 ربيع الثاني 1423 / 16-06-2002
السؤال
إذا كفر الزوج فما دور المرأة في هذا الموقف ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإذا ارتكب زوج أمراً مكفراً مخرجاً من ملة الإسلام، سواء كان قولاً أو فعلاً أو اعتقاداً، فالواجب على من علم بذلك من زوجة أو غيرها أن ينكر عليه وأن ينصحه وأن يبين له خطورة الارتداد عن الإسلام وعاقبة المرتد في الدنيا والآخرة، وإذا ارتد الزوج فُرِّقَ بينه وبين امرأته، فتمتنع عنه ولا تمكنه من نفسها حتى يعود إلى الإسلام ويبرأ ويتوب مما اقترف، فإن كان رجوعه قبل انقضاء عدتها، فالنكاح باقٍ على حاله، وإن انقضت عدتها قبل رجوعه فقد بانت منه، فإذا جاء بعد ذلك مسلماً فهي بالخيارين أن تقبله خاطباً وأن ترده، وتبدأ العدة من وقت وقوعه في الردة، عياذا بالله من ذلك.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
من انتسب إلى غير الإسلام فهو كما قال
تاريخ 11 ربيع الثاني 1423 / 22-06-2002
السؤال
ماحكم رجل مسلم وجه إليه سؤال ما دينك فرد قائلا: أنا مسيحي. وهو مسلم فماذا يجب عليه؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن كان القائل لهذا القول مكلفاً مختاراً غير مختل العقل ولا مكرها وكان عالما بمعنى قوله، فهو كافر مرتد.
فالردة كما يعرفُّها أهل العلم هي: قطع الإسلام بنية أو قول أو فعل، سواء قاله استهزاء أو عناداً أو اعتقاداً.
فإذا ثبتت ردة هذا الشخص فتطبق عليه أحكام المرتد المعروفة، من الاستتابة فإن لم يتب قتله وليَّ الأمر، وكذلك التفريق بينه وبين زوجته.....إلخ.
فإن أراد العودة إلى الإسلام فإنه يأتي بالشهادتين ويتبرأ من جميع الأديان سوى دين الإسلام ويغتسل.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
كيفية رجوع زوجة المرتد النادم لزوجها
تاريخ 15 ربيع الثاني 1423 / 26-06-2002
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إخوتي الأعزاء لدي سؤال عن حكم الدين في من يسب الله وهو لايعلم انه شرك بالله وهو عندما سب والعياذ بالله لم يقصد الذات الالهية بل يقصد سبه لزوجته وعندما كان يتابع هو وزوجته احد البرامج الدينية فسمعا ان سب الله شرك به ولم يكونا يعلمان بذلك من قبل خاصة أن هذه المرة الثالثة تقريبا التي يتلفظ بها وعندماسمعا ذلك ندم اشد الندم والزوجة تسأل الآن هل الندم والتوبة الصادقة يكفيان أم أن الزوجة لم تعد في ذمته وهل هناك عقد قران من جديد أو لا خاصة أنه كما ذكرت لم يكن يقصد وأنه كان في حالة غضب وانه نادم أشد الندم فأرجو أن أجد لديكم توضيحا كاملا لأن الزوجة في حيرة من أمرها .وجزاكم الله خيرا .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن سب الله كفر مخرج من الإسلام سواء قُصِدَ به سب الأشخاص أم لم يقصد، وسواء كان الساب مازحاً أو جاداً، كما هو مبين في الفتوى رقم:
8927. ولا يعذر أحد بجهله في هذه المسألة لأن حرمتها معلومة من الدين بالضرورة، كما هو مبين في الفتوى رقم:
17875. فعلى من وقع منه ذلك التوبة إلى الله سبحانه والرجوع إليه والاستغفار من جرمه والإكثار من الطاعات والقربات فالله يقول:وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].
والمرتد تبين منه زوجته، فإن تاب من ردته رجعت إليه زوجته، ولا يلزم العقد بينهما على الراجح من أقوال أهل العلم. وانظر الفتوى رقم:12447.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
حكم الإنفاق على أولاد المرتد من ماله
تاريخ 25 رجب 1423 / 02-10-2002
السؤال
أولادي من أب إيطالي أسلم وارتد عن الإسلام وتم الطلاق وهو يرسل لهم مصاريفهم فهل فلوس الكافر حرام للإنفاق على أولاده المسلمين وأنا أعمل ولكن راتبى لا يكفي مصاريفهم- جزاكم الله كل الخير عنا....
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فمال المرتد فيء لعامة المسلمين، يصرف في مصالحهم، وليس لأولاد المرتد اختصاص به، بل إن كانوا فقراء أخذوا من بيت المال ما يكفيهم، وإن مات المرتد لم يرثوا منه شيئاً. هذا هو الأصل في التعامل مع مال المرتد، لكن في مثل حالتكم، إذا ظل المرتد محتفظاً بماله، فلا حرج عليكم في أخذ ما يرسله إليكم ما دمتم محتاجين له.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
حكم ترويج الكفر وإشاعته
تاريخ 27 رمضان 1423 / 02-12-2002
السؤال
ما حكم من يروج لأفكار كفر؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(3/119)
فمن يروج لأفكار كفرية مثل الطعن في الدين، وعدم صلاحية الشريعة للحكم أو الدعوة لفصل الدين عن الدولة أو الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، وإشاعته بين الناس، فإن كان في الأصل مسلماً فإنه يكفر بهذا العمل؛ ولو كان هازلاً قال الله تعالى عن بعض المنافقين: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ* لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُم [التوبة:65-66].
فإذا ثبت أن ما يدعو إليه هذا الشخص أفكار كفر وجب إبلاغ السلطان به حتى تجرى عليه أحكام المرتد، ويكف شره عن الناس، نسأل الله أن يتوب على الجميع ويهديهم سواء السبيل.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
مذاهب العلماء في حكم زوجة المرتد
تاريخ 29 رمضان 1423 / 04-12-2002
السؤال
رجل يسب الذات الإلهية ثم يتوب ثم يعود فيسب والأمر متواصل هكذا، ما حكم الشرع فيه وماذا على زوجته أن تفعل في هذه الحالة مع العلم أنها نهته في السابق ولكنه لم ينته ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد سبق بيان حكم سب الله تعالى وأنه كفر مخرج من الملة فلتراجع الفتوى رقم: 8927، فيها ذكرنا الأدلة على ذلك، وحكم توبة الساب.
وأهل العلم الذين صححوا توبة من سب الله تعالى منهم من يشترط عدم تكرر ذلك منه ثلاثاً؛ ذكر ذلك الحنابلة.
فإن كان في بلد هذا الرجل قضاء شرعي أي محاكم شرعية فالواجب رفع شأنه إلى الحاكم.
وأما عن حكم بقاء الزوجة؟ فأكثر الفقهاء على أن ردة أحد الزوجين توجب فسخ العقد بغير طلاق.
قال العبادي في شرح مختصر القدوري وهو من الحنفية: وإذا ارتد أحد الزوجين عن الإسلام وقعت البينونة بينهما فرقة بغير طلاق عندهما -يعني أبا حنيفة وأبا يوسف - وقال محمد إن كانت الردة من الزوج فهي طلاق. انتهى
وقال صاحب درر الحكام -وهو حنفي-: ارتداد أحدهما فسخ عاجل للنكاح غير موقوف على الحكم. وفائدة كونه فسخاً أن عدد الطلاق لا ينتقص به. انتهى
وقال النووي رحمه الله وهو من الشافعية في منهاجه: ولو انفسخ -أي النكاح- بردة بعد وطء فالمسمى -أي فالواجب هو المهر المسمى. انتهى
فقد سمى رحمه الله الفرقة الحاصلة بسبب الردة فسخاً.
وقال ابن قدامة الحنبلي في المقنع: وإن ارتد أحد الزوجين قبل الدخول انفسخ النكاح، ولا مهر لها إن كانت هي المرتدة، وإن كان هو المرتد فلها نصف المهر. وإن كانت الردة بعد الدخول فهل تتعجل الفرقة أو تقف على انقضاء العدة؟ على روايتين. انتهى
والشاهد من هذا تسميته للفرقة الحاصلة بسبب الردة فسخاً فهذه المذاهب الثلاثة تعتبر الردة فسخاً لا طلاقاً، وإن اختلفوا بعد ذلك متى تحصل الفرقة؟ هل تحصل بالردة؟ أي فور حصول الردة فلا تحل له إن تاب إلا بعقد جديد.. وهذا مذهب الحنفية، أو يفرق بين ما إذا حصلت الردة بعد الدخول فلا تحصل الفرقة إلا إذا انقضت العدة ولم يتب مع منع الوطء قبل التوبة.
وبين ما إذا حصلت الردة قبل الدخول فتحصل الفرقة حالاً. وهذا التفريق هو مذهب الشافعية وإحدى الروايتين عند الحنابلة.
وخالف هؤلاء جميعاً علماء المالكية رحمهم الله فجعلوا الردة طلقة بائنة توجب الفرقة حال حدوث الردة، قال ابن فرحون في تبصرة الحكام: والردة طلقة بائنة ممن كان من الزوجين وهو مذهب المدونة، وروى ابن الماجشون عن مالك أنها فسخ بغير طلاق. انتهى
وتظهر ثمرة الخلاف بين مذهب الجمهور ومذهب المالكية -أي بين القائلين بالفسخ والقائلين بالطلاق- أنه إن تكررت الردة وتكرر تجديد النكاح جاز ذلك ولو لأكثر من ثلاث مرات على مذهب الجمهور.
وأما على القول بأنه طلاق -وهو مذهب المالكية- فإنها تبين منه بينونة كبرى بعد المرة الثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، والذي يترجح لدينا ما قاله الإمام مالك رحمه الله من أن الردة طلاق بائن لأنها فرقة حصلت بلفظ فأشبهت الطلاق.
وعليه؛ فعلى هذه المرأة أن تمنع نفسها من هذا الرجل؛ لأنه إما إن يكون قد جدد النكاح ثلاث مرات ثم ارتد بعد ذلك فتكون قد بانت منه فلا تحل له إن تاب إلا بعد أن تنكح غيره.
وإما أنه لم يبلغ ذلك العدد فإن حدثت منه الردة فقد بانت منه ولا تحل له إلا بعقد جديد، وحينها نقول لها: هذا لا يصلح زوجاً فإن الشرع ندب إلى اختيار زوج ذي دين، وأي دين مع من يتجرأ على سب الذات الإلهية مراراً!!.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
التلفظ بما فيه إهانة للخالق كفر سواء قصد ذلك أم لا ما لم يكن سبق لسانه به .
تاريخ 27 ذو الحجة 1423 / 01-03-2003
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وجزاكم الله خيراً على هذا الموقع وبعد:
فذات مرة كنت أخاطب واحدة ممن لهن أشياخ وكانت تريد أن تزور أحد أبناء شيخها فى المستشفى مريضا وهو غير محرم لها فقلت لها من الأفضل لك أن تعطي أجرة السيارة لأحد أقربائك وتدعي عنك زيارة هذا وقلت لها أن الله أمر بإعطاء الخير للأقارب قبل الأشياخ واستدللت لها بآية كريمة وقلت لها كالتعليق لم يطر إلى الأشياخ، إلا أن يطر هذه لا يطلقها عندنا فى اللهجة من هو أصغر إلى من هو أكبر منه احتراما له وأنا حين أطلقتها والله لا أقولها بنية استهزاء بربي ولكن أخاطبها هي فجائتني وساوس بأني قد أكون خرجت من الملة وأنا لا أدري وحين تدكرت أتبعتها حسنة وهي كلمة طيبة أعني الحسنة فماذا علي وماذا على المرتد من أجل التوبة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(3/120)
فإن كان هذا الشيخ الذي تريد المرأة أن تزور ولده في المستشفى شيخاً صالحاً واستفادت منه علماً وخلقاً وتريد أن تكافئه على إحسانه وتقوم بزيارة ولده المريض فلا حرج عليها في ذلك إذا التزمت في الزيارة بالضوابط الشرعية المبينة في الفتوى رقم:
24400.
وتكون بذلك قد قابلت الإحسان بالإحسان، ونالت بذلك الأجر والثواب إن شاء الله، ولا يلزم من إحسانها إلى هذا الشيخ عدم إحسانها إلى أقربائها بل ينبغي لها أن تعطي كل ذي حقه حسب استطاعتها، وإن كان هذا الشيخ من مشايخ الطرق الصوفية المبتدعة فلا يجوز لها أن تجعله مصدر تعليمها وقدوتها واحترامها، ولا أن ان تبذل أموالها في الإحسان إليه لأنه سيفسد عليها عقيدتها وسلوكها، وفي هذه الحالة أقاربها هم أولى بالإعانة والإحسان ، وأما قولك في الله تعالى ( يطر) التي تعني الإهانة وعدم التوقير في عرفكم فإن كنت قصدت بقولها الإهانة أولم تقصدها فقد كفرت وارتددت عن الإسلام، ويلزمك تجديده بنطق الشهادتين والتوبة مما قلت، وإن كنت لم تقصد نطقها، ولكن سبق لسانك بنطقها فلا شيء عليك ، ولمزيد من الفائدة تراجع الفتوى رقم:
18097.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
مذاهب العلماء في حكم وراثة المرتد
تاريخ 07 محرم 1424 / 11-03-2003
السؤال
أخي لا يصلي وقد وصى والدي بأن لا يرث وهو من العلماء ولكن عندما توفي الوالد صار يصلي لأنه علم أن الوالد وصى بذلك خوفا من أن لا يرث فقط يصلي إذا كان معه أحد من أصحاب الوالد وهو لا يعترف بوجود الله وقد نطقها عدة مرات، ماذا نفعل حياله إذا كنا لا نستطيع منعه من الميراث خوفا من شره فهو يتوعدنا إذا لم نعطه من الميراث ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإذا كان الأخ المذكور ينكر وجود الله تعالى، ولم يتب من ذلك بتجديد إسلامه، فلا حظ له في الميراث، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يرث مسلم كافراً، ولا كافر مسلماً. متفق عليه.
وقال الرحبي رحمه الله في منظومته في الميراث:
ويمنع الشخص من الميراث ====== واحدة من علل ثلاث
رق وقتل واختلاف دين ===== فافهم فليس الشك كاليقين
ولا يقبل من هذا الأخ دعواه العودة إلى الدين إلا إذا صرح بالنطق بالشهادتين، مع إعلان التوبة من إنكاره لوجود الله، قال ابن قدامة: فلا يحكم بإسلامه حتى يوحد الله تعالى، ويقر بما كان يجحده.
فإذا أسلم بالصورة التي ذكرناها فإنه يرث من تركة أبيه ما لم تقسم على الراجح من قولي العلماء، وهو مذهب الحنابلة، وقول أشهب من المالكية. قال في الإنصاف: إلا أن يسلم قبل قسم ميراثه فيرثه، وكذا لوكان مرتداً، على ما يأتي في كلام المصنف، وهذا المذهب.
وقال: وإرثه قبل قسم الميراث من انفرادات المذهب. ، وقال في التاج والإكليل: ولو مات للمرتد موروث في حال ارتداده فإن مات على ردته لم يرثه، فإن راجع الإسلام ، فقال ابن القاسم: لا يرثه، وقال أشهب: يرثه كما يرجعا إليه ماله.
وإنما قلنا بجواز إرثه ترغيباً له في الإسلام وحثاً له عليه، قال ابن قدامة في المغني: يتجدد حق من أسلم من ورثته في تركته ترغيبا في الإسلام وحثاً عليه، فأما إذا قسمت التركة، وتعين حق كل وارث ثم أسلم فلا شيء له.
والذي نراه هنا -والله أعلم- هو أن يرغب هؤلاء الإخوة أخاهم في الدين، ويتوددوا إليه بلين الكلام، وحسن الفعال فلعل ذلك يكون سبباً في هدايته وعودته، فإن صرح أمامهم بالشهادتين وأقام الصلاة ولم يفعل ناقضاً من نواقض الإسلام، فليس لهم أن يرفضوا ذلك، بل عليهم قبوله، وبناء الأحكام عليه لأننا لم نؤمر بالتنقيب عن البواطن، لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما نحكم بالظواهر، والله يتولى السرائر.
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس.
فإن أبى أخوكم الإسلام، وأصر على إنكار وجود الله وترك إقامة الصلاة فلا ميراث له، لأن ترك الصلاة كفر أكبر في قول جمهور كبير من أهل العلم ، فإن غلبكم على أخذ ميراثه في هذه الحالة فلا شيء عليكم، ولكن عليكم عند اليأس من إسلامه أن تراجعوا الجهات المختصة لتفصل لكم في القضية، فالمحاكم الشرعية هي التي ترفع الخلاف وتغلق باب النزاع.
لكن لا بأس أن ننقل لك أيها الأخ السائل نصوص الحنفية والمالكية والشافعية الدالة على أنهم يمنعون المرتد من الإرث، ولو أسلم بعد وفاة مورثه.
قال الحصكفي في الدر المختار عند كلامه عن موانع الإرث: واختلاف الدين إسلاماً وكفراً، وقال أحمد: إذا أسلم الكافر قبل التركة ورث.
وقال ابن عاصم في تحفة الحكام -مالكي-:
الكفر والرق لإرث منعا ===== وإن هما بعد الممات ارتفعا
وقال في أسنى المطالب -شافعي-: والمرتد لا يرث أحداً، وإن عاد إلى الإسلام بعد موته.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
حكم تناول الأطعمة المقدمة للأصنام
تاريخ 27 محرم 1424 / 31-03-2003
السؤال
أقمت في تايلاند ويوجد هناك ما يقدم للمعبودات غير الله تعالى (والعياذ بالله من ذلك) من الفواكه والثمرات والحلويات والحيوانات الحية سؤالي هو: ما حكم الأكل من هذه الفواكه والثمرات؟ وما حكم ذبح تلك الحيوانات والانتفاع بلحومها؟
أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإنه لا يجوز للمسلم أكل ذبائح عبدة الأوثان والمجوس وما شابههم من الكفار باستثناء ذبائح أهل الكتاب، قال في الجوهرة النيرة: ولا تؤكل ذبيحة المجوس والمرتد والوثني لأن المرتد لا ملة له والوثني مثله. هـ.
وبهذا يعلم السائل عدم جواز الأكل مطلقاً من ذبائح هؤلاء القوم عباد الوثن سواء في ذلك ما ذبحوه لأنفسهم أو ما ذبحوه لصنمهم.(3/121)
أما بالنسبة لما سألت عنه من الفواكه والثمار المقدمة قرباناً للصنم فهذه لا حرج في أكلها ما لم تتنجس؛ لأن الأصل فيها الحل. وكونها قدمت قرباناً للصنم لا يخرجها ذلك عن الأصل.
وننبه السائل إلى أن السفر إلى بلاد الكفر والإقامة فيها من المحرمات ما لم تدع إلى ذلك ضرورة أو حاجة فيها معناها، وانظر الفتوى رقم: 2007.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
أقوال العلماء في غسل الكافر والمرتد إذا أسلم
تاريخ 25 ربيع الثاني 1424 / 26-06-2003
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وجزاكم الله خيراً على هذا الموقع.. وبعد: فهنالكم أقوام من أهل الصوفية وصلوا إلى درجة الكفر، وأحيانا أستطيع أن أدعو أحدهم لكنه في ربوع لا أستطيع أن أقول له فيها أنه يجب عليه الغسل حين يتوب، فهل تعلمون دليلا على عدم وجوب غسل الإسلام وإذا لم يكن موجودا فكيف أعامله شرعا؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن للطرق الصوفية المعاصرة انحرافات، قد تصل في بعض الأحيان إلى الشرك، كما مر في الفتوى رقم:
8500، والفتوى رقم: 322.
لكن مما يجب التنبيه عليه خطورة أمر التكفير والحكم بالردة، لما يترتب عليه من أحكام بالغة الخطورة كقتل المرتد، وفسخ نكاحه، فتنزيل هذه الأحكام على المعين يحتاج إلى ضوابط شرعية وفقه وتثبت، ولا يكون ذلك إلا للعلماء الراسخين لمعرفتهم بتلك الضوابط، وتراجع في التنبيه على ذلك الفتوى رقم: 14489.
وعليه.. فإذا ثبتت ردة شخص أو أشخاص ثم تاب أحدهم، فإنه بمجرد إسلامه ورجوعه عن الردة ترتفع عنه أحكامها، وتجب له حقوق المسلم، له ما للمسلم وعليه ما عليه.
أما حكم غسله، فقد ذهب المالكية والحنابلة إلى وجوب الغسل على الكافر الأصلي، والمرتد إذا أسلم، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن ثمامة بن أثال رضي الله عنه أسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل. متفق عليه.
وعن قيس بن عاصم: أنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر. رواه النسائي وغيره بإسناد صحيح.
وروى ابن هشام في السيرة، والطبري في تاريخه: أن سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، حين أرادا الإسلام، سألا مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة، كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟ قالا: نغتسل، ونشهد شهادة الحق.
وذهب الحنفية والشافعية إلى استحبابه لا وجوبه، لعدم استفاضة النقل بالأمر به مع كثرة الداخلين في الإسلام.
والراجح القول الأول.
وعليه.. فإنه يجب عليك التلطف في إعلامه بوجوب الغسل، إلا إذا خشيت بإعلامه وقوع مفسدة أكبر من تركه للغسل.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
حكم قبول الهدية ممن ثبتت ردته
تاريخ 03 جمادي الأولى 1424 / 03-07-2003
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وجزاكم الله خيراً على هذا الموقع وبعد: فكيف يعامل من ثبتت ردته أو ثبت كفره وهل تقبل هدايا المرتد وكيف يعامل في دولة لا تطبق فيها الشريعة؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فقد سبق بيان شيء من أحكام التعامل مع المرتد في الدول التي لا تطبق الشريعة وفي الدول التي تطبقها في الفتاوى التالية أرقامها: 15238، 17707، 13987، 21766، 25611. والراجح هو توبته إذا تاب وندم على ما صدر منه، كما بيناه في الفتوى رقم: 8927. أما بالنسبة لحكم قبول هداياه فهو كحكم قبول هدايا الكافر الأصلي، وقد بينا حكم ذلك في الفتوى رقم: 28513، ومنها تعلم أن الأحوط عدم قبول هداياه إلا إذا كانت في قبولها مصلحة كتأليفه ودعوته للإسلام، وأنه إذا ظهر أنه يريد بهذه الهدايا فتنة المسلم عن دينه، فلا يجوز للمسلم أن يقبلها. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
صالحون من ذرية إبراهيم.. فلا تعارض إذن
تاريخ 10 جمادي الأولى 1424 / 10-07-2003
السؤال
1ـ كيف نجمع بين (لا إكراه في الدين) و (حد المرتد في الإسلام)؟ 2ـ كيف نجمع بين قوله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) [البقرة124] و (ومن ذريته داوود...) [الأنعام 84ـ87]؟
الفتوى(3/122)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فلا تعارض والحمد لله بين قول الله تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ[البقرة:256]، وبين ما ورد في بعض الأحاديث من الأمر بقتل المرتد. وبيان دفع ما يظهر من تعارض بينهما قد سبق في الفتوى رقم: 13987، والفتوى رقم: 17338. وبخصوص الآية: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ[البقرة:124]، والآيات: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الأنعام:84 - 87] فلا تعارض بينهما أيضًا والحمد لله. وذلك أن آية سورة البقرة قد دلت على أن عهد الله لا يكون في من ليس من الصالحين من أبناء إبراهيم عليه السلام، وقد اختلف في المراد بهذا العهد على أقوال ذكرها القرطبي في تفسيره، فقيل النبوة، وقيل الإمامة، وقيل الإيمان، وقيل دين الله تعالى. وعلى كلِّ تقدير، فإن من ذكر في آيات سورة الأنعام من الأنبياء لا شك في كونهم من الصالحين من ذرية إبراهيم عليه السلام، فاستحقوا هذا العهد لتوافر الشرط، وهو عدم الظلم، فانتفى التعارض. وهذا على القول بأن الضمير في قوله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ راجع إلى إبراهيم عليه السلام، وإلا فقد ذهب آخرون إلى أنه راجع إلى نوح عليه السلام. قالوا: لأنه قد ذكر من هذه الذرية يونس ولوطا، وهما لم يكونا من ذرية إبراهيم عليهم جميعًا السلام. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
================
كل مرتد هو معادٍ للإسلام
تاريخ 14 جمادي الأولى 1424 / 14-07-2003
السؤال
ما حكم المرتد الذي لا يدعو إلى محاربة الإسلام (لا يحاد الإسلام)؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فالحكم بردة شخص ليس بالأمر الهين، فلا بد أولاً من أن يكون الشخص قد فعل ما يوجب ردته، ولا بد ثانيًّا من إقامة الحجة عليه وتوفر شروط التكفير وانتفاء موانعه، فإذا حكمنا بردة شخص فإن حده القتل؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ~من بدل دنيه فاقتلوه~~ ولكن تعرض عليه التوبة قبل القتل، فإذا لم يتب قتل، سواء كان يدعو لمحاربة الإسلام أم لا، إلا أن الذي يدعو لمحاربة الإسلام أشد إثمًا وأولى بالقتل، أما قولك "ولا معادٍ الإسلام" فغير صحيح؛ لأن كل مرتد هو معادٍ للإسلام ولا بد. وننبه إلى أنه ليس من اختصاص عامة الناس الحكم بالردة على أحد، وكذلك إقامة الحد، وإنما ذلك من اختصاص أهل العلم والقضاء، ولا ينفذ الحدود -قتلا كانت أو غيره- إلا القاضي الشرعي وبموافقة ولي الأمر. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
تنصر ومات.. كيف يتصرف أولاده المسلمون
تاريخ 30 جمادي الأولى 1424 / 30-07-2003
السؤال
كيف يكون تعامل الابن المسلم مع وفاة أبيه الذي اعتنق النصرانية؟ بارك الله فيكم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن المسلم إذا اعتنق أبوه النصرانية أو أي دين آخر غير الإسلام، ومات على ذلك- والعياذ بالله - فإنه لا يغسله، ولا يفعل به ما يفعل بموتى المسلمين من الكفن والدفن، إلا أن يخاف عليه أن يضيع فيواريه.
روى النسائي وأبو داود وأحمد من حديث علي رضي الله عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن عمك الشيخ الضال مات، فمن يواريه؟ قال:اذهب فوار أباك، ولا تحدث حدثًا حتى تأتيني، فواريته، ثم جئت فأمرني فاغتسلت ودعا لي. وقال خليل : ولا يغسل مسلم أباً كافرًا ولا يدخله قبره إلا أن يضيع فليواره.
ثم إنه لا يرثه وماله يكون فيئًا. روى الشيخان والترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارمي ومالك وأحمد عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم.
وقال ابن قدامة في المغني: ...وجملته أن المرتد إذا قتل أو مات على ردته، فإنه يبدأ بقضاء دينه وأرش جنايته ونفقة زوجته وقريبه... وما بقي من ماله فهو فيء يجعل في بيت المال. (9/19).
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
حرمة زواج الكافر من المسلمة محل إجماع
تاريخ 05 رجب 1424 / 02-09-2003
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم أخت مسلمة كانت قد تزوجت من شخص غير مسلم وهي الآن حامل منه. تسأل: هل تفارقه؟ وكيف تفعل في هذا الوضع؟ وما يجب عليها عمله؟ علما أنها قد اجتهدت في المدة الأخيرة لتجعله يسلم لكنه لا يزال بعيدا فيما يبدو من حاله وأفكاره. أرجو إرسال الرد على البريد الإلكتروني:abuyassin_it@hotmail.com وجزاكم الله خيرا!
الفتوى(3/123)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فقد انعقد إجماع المسلمين على حرمة زواج الكافر من المسلمة، كما سبق بيانه في الفتوى: 20203 والفتوى رقم: 8832. وعلى هذا، فإن زواج هذه المرأة من غير المسلم معصية عظيمة، وتجب عليها المبادرة إلى مفارقته في الحال والتوبة إلى الله تعالى كما سبق، لكن إذا أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، فلا مانع من أن يتزوجها من جديد. أما بخصوص الجنين الذي جاء نتيجة لهذا النكاح الباطل، فإنه من الناحية الشرعية يلحق بصاحبه. قال في المبسوط وهو حنفي: ^وإذا تزوج المرتد مسلمة أو تزوجت المرتدة مسلما فولدت منه يثبت نسبه منهما، لأن النكاح الفاسد إذا اتصل به الدخول فهو بمنزلة الصحيح في إثبات النسب.^^ والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
================
حكم الملحد في الإسلام
تاريخ 19 شعبان 1424 / 16-10-2003
السؤال
سألت عن حكم الملحد في الإسلام ويبدو أنكم لم تفهموا السؤال فأحلتموني إلى أسئلة عن حكم المرتد .. أنا أتكلم عن الملحد الذي لا يؤمن بوجود رب ولم يكن في يوم من الأيام مسلما هل يجوز قتله؟ وهل على الدول الإسلامية قتل الملحدين بها؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فإذا كان هذا الملحد كافرا أصليا، أي من أبوين كافرين، فإن أمره مفوض إلى ولي الأمر، فإذا بذل له الذمة آخذا بقول من قال من الفقهاء إن الذمة تبذل لكل طوائف الكفار، كما هو مذهب مالك والأوزاعي، فإنه لا يجوز لأحد التعرض له، لا لدمه ولا لعرضه أو ماله. وأما إن كان لأبوين أحدهما مسلم، واعتنق مذهب الإلحاد حال بلوغه، فإنه مرتد، وتجري عليه أحكام الردة، وبعضها مبين في الفتوى رقم: 13987، و 17707. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الفكر الاعتزالي يهدف إلى تفريق الأمة وتمزيقها
تاريخ 11 رمضان 1424 / 06-11-2003
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته توجد في محيطنا جماعة يسمون أنفسهم (المعتزلة)، وقد تطور الأمر بهم إلى أنهم يصفون أهل السنة والجماعة ومن يخالفهم في الرأي بأنهم منافقون وأنهم بين منزلتين، وفي الحقيقة إنني ضقت ذرعا بهم وأحيانا أتصور بأنني سوف أضربهم أو أي تصرف آخر، فماذا تنصحوننا وكيف الرد عليهم؟ وجزاكم الله كل خير.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالمعتزلة: فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي، تأثرت بكتب الفلاسفة وآرائهم فقدمت المعقول على المنقول في فهم العقيدة، وابتلوا الناس بعقائدهم بقوة السلطان فضلوا وأضلوا ومن أسمائها: القدرية، والعدلية، والمقتصدة، والوعيدية....
قام مذهبهم على خمسة أصول: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد فند علماء الإسلام آراءهم في عصرهم، فمنهم أبو الحسن الأشعري الذي كان منهم ثم خرج، ورد عليهم متبعاً أسلوبهم في الجدال والحوار، ثم الإمام أحمد الذي اكتوى بنار فتنتهم المتعلقة بخلق القرآن، ثم جاء شيخ الإسلام ابن تيمية فرد عليهم متتبعاً آراءهم في كتبه بعامة، وفي كتابه المحكم "درء تعارض العقل والنقل" بخاصة.
ويحاول بعض الكتاب والمفكرين المعاصرين إحياء هذا الفكر من جديد طمعاً في تفريق الأمة، وتشكيكها في أصولها، وتمكين أعدائها منها.
وهؤلاء أطلقوا عليها أسماء جديدة، مثل العقلانية أو التنوير أو التجديد أو التيار الديني المستنير أو المعاصرة.. وأخطر ما في هذا الفكر الاعتزالي، محاولة تغيير الأحكام الشرعية التي ورد فيها النص اليقيني من الكتاب والسنة، مثل عقوبة المرتد، وفرضية الجهاد، والحدود، والطلاق، والميراث، والحجاب....
ومن أشهر الكتب التي كشفت هؤلاء وردت عليهم أقوالهم وأفكارهم:
محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة، تأليف سليمان خراشي.
العصريون معتزلة اليوم، تأليف يوسف كمال.
العصرانيون، تأليف محمد الناصر.
المدرسة العقلية الحديثة وصلتها بالقديمة، تأليف د. ناصر العقل، مجلة كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامي، العدد3، سنة 1400هـ
وننصح السائل بقراءة هذه الكتب للوقوف على أفكار هؤلاء ومعتقداتهم للتمكن من مناقشتهم والرد عليهم إن كان أهلاً لذلك، وإن لم يتمكن من ذلك فيسعه تمثل ما ورد عن ابن عمر رض الله عنه عندما نقل إليه عن القدرية قولهم: أن لا قدر وأن الأمر أنف. ، قال رضي الله عنه: أخبرهم أني بريء منهم، وأنهم مني براء. ، فأمثال هؤلاء ليس لهم دواء إلا الهجر حتى يتوبوا.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
عقوبة المرتد لا تتغير بتغير الزمان
تاريخ 22 شوال 1424 / 17-12-2003
السؤال
ما هو الحكم الشرعي النهائي في عقوبة المرتد في العصر الحديث؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فالأحكام التي تتغير بتغير الزمان أو المكان هي الأحكام الاجتهادية المبنية على المصلحة أو القياس أو العرف ونحو ذلك. أما الأحكام التي وردت بها نصوص القرآن والسنة، فهي أحكام لا تتغير بتغير الزمان أو المكان، لأن الله شرعها لكل زمان ومكان، ومن تلك الأحكام التي لا تتغير الأحكام الخاصة بعقاب المرتد أو بعقاب الزاني أو بعقاب شارب الخمر، ولهذا فمن الخطأ البين أن يقال في تلك الأحكام الأحكام أحكام ابتدائية أو أحكام نهائية، أو أحكام خاصة بالعصر الحديث وأحكام خاصة بغيره. وقد سبق تفصيل الأحكام الخاصة بعقوبة المرتد في الفتاوى التالية أرقامها: 33562/ 17338/ 17707 والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============(3/124)
حكم قبول المال من غير المسلم
تاريخ 28 شوال 1424 / 23-12-2003
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته عندي سؤال شديد الحساسية: هل يجوز أخذ المال من الابن أو الأخ غير المسلم (المرتد) حتى ولو من باب صلة الرحم؟ مع العلم بأنه في بلد أجنبي ولا تستطاع إقامة الحد عليه، وهو أمر مناط بولي الأمر الشرعي!!؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فلا مانع من قبول المال من الأخ أو الابن غير المسلم سواء كان مرتداً أو كافراً أصلاً، ما لم يؤثر ذلك سلباً على دين الآخذ، وقد مضى بيان هذا في الفتوى رقم: 7680، والفتوى رقم: 37312. علماً بأن المرتد لا يرث المسلم ولا يرثه المسلم، إلا إذا عاد إلى الإسلام قبل تقسيم التركة على الراجح من قولي العلماء، كما بيناه في الفتوى رقم: 29852. ونوصي الأخ السائل وإخوانه، بأن يجتهدوا في إنقاذ أخيهم من الكفر، وذلك بدعوته وحسن معاملته والإحسان إليه بالهدية ونحوها، والدعاء له بالهداية والعودة لحظيرة الإسلام. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
حكم قطع صلة الجد المرتد
تاريخ 04 محرم 1425 / 25-02-2004
السؤال
هل يجوز أن أمنع زوجتي من زيارة جدها لأمها، علماً بأنه تكلم بكلام كفر بحق الله عز وجل (والعياذ بالله)، كما أنه تلفظ بما لا يليق عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذا لم يتب هذا الشخص مما قال، فإنه يشرع لك منع زوجتك من زيارته حتى يرتدع ويرجع إلى الله، وهذا الأمر مشروع لكل من علم حاله، أعني هجره حتى يرتدع ويعود إلى الله، ولكن قبل هجره يجب أن يستتاب ويذكر بالله واليوم الآخر، فإن تاب فذاك، وإن أصر هجر.
ونشير إلى أن للزوج منع زوجته من ذلك، ولو لم يكن الجد على الحال المذكور في السؤال، لكن لا يمنع هو من زيارتها، كما هو مبين في الفتوى رقم: 29930، والفتوى رقم: 20950.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
ما ذبحه المرتد لا يحل أكله
تاريخ 08 محرم 1425 / 29-02-2004
السؤال
يا شيخ .. أقرأ أن المرتد لا تأكل ذبيحته ما معنى هذا .. هل يعني أنه لما يذبح خروفاً لا نأكله وهل هذا يدخل لما يشتري من السوق لحماً وخضاراً وهل هذا أيضا يدخل لما يطبخ لنا ويقدم لنا الأكل ..
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمقصود أن ما ذبحه المرتد لا يحل أكله، أما طعامه من غير ذبيحته فيحلُّ تناوله، وانظر تفصيل ذلك في الفتوى رقم: 15238.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
ذبيحة المرتد لا تؤكل
تاريخ 08 محرم 1425 / 29-02-2004
السؤال
يا شيخ .. أقرأ أن المرتد لا تأكل ذبيحته ما معنى هذا .. هل يعني أنه لما يذبح خروفاً لا نأكله وهل هذا يدخل فيه ما يشتري من السوق لحما وخضاراً أيضا لما يطبخ لنا ويقدم لنا الأكل ..
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمقصود أن ما ذبحه المرتد لا يحل أكله، أما طعامه من غير ذبيحته فيحلُّ تناوله، وانظر تفصيل ذلك في الفتوى رقم: 15238.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
يجب على المسلم أن يقاوم الردة بكل صورها
تاريخ 15 ربيع الأول 1425 / 05-05-2004
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
السادة الأفاضل أرجو الإفاضة عن حكم الارتداد عن الدين الإسلامي في أيامنا هذه، وهل يحل دم المرتد عن الإسلام، حتى وإن لم يقم بنشر أي أفكار ضد الدين، وهل حقيقي أنه يحدث أو حدث فعلاً في مصر أن ارتد أو تحول بعض المسلمين إلى الديانة المسيحية، وما موقف الشرع منهم وماذا أتخذ حيالهم؟ وجزاكم الله عنا كل الخير.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن أشد ما يواجه المسلمين من الأخطار ما يهدد عقيدتهم ووجودهم المعنوي فالرجوع عن الإسلام والردة إلى الكفر بعد الإيمان هي أعظم ما يكيد به الأعداء لهذا الدين، فهم يحاولون من قديم أن يفتنوا المسلمين ويردوهم عن دينهم بمختلف الوسائل تارة بالقوة، وتارة بالحيلة، والكيد والمكر، كما قال الله تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217]، وفي هذا العصر تعرض المسلمون لغزوات عنيفة تهدف إلى اقتلاع الإسلام من نفوس المسلمين وردهم عنه ولو بقوا تائهين بدون دين، وقد تمثل ذلك في الغزو الفكري والثقافي والغزو التنصيري الذي جاء مع الاستعمار الغربي، والذي لازال يمارس نشاطه في العالم الإسلامي وفي الجاليات والأقليات المسلمة.
كما تمثل في الغزو الشيوعي الذي اجتاح كثيرا من بلاد المسلمين آسيا وأوروبا وبعض دول إفريقيا، وعمل بكل وسيلة لإخراج الإسلام من نفوس المسلمين وتنشئة أجيال لا تعرف شيئاً عن الإسلام، كما تمثل في الفكر العلماني اللاديني الذي يعادي الإسلام الحق (إسلام الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح) ويطارده، ويشجع إسلام البدع والخرفات والمحدثات....(3/125)
وواجب المسلم أن يحافظ على دينه ويقاوم الردة بكل صورها ولا يدع لها المجال حتى لا تتمدد في المجتمع المسلم، ويكون ذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وفيما يخص إقامة الحد على المرتد والحكم عليه بذلك فإن ذلك من خصائص ولي الأمر وليس للأفراد، فإذا حكم الحاكم بردة شخص بعد إقامة الحجة وتوفر الشروط وانتفاء الموانع، أقام عليه حد الردة بعد الاستتابة ثلاثة أيام بلا جوع وعطش....
يستوي في ذلك من دعا إلى ردته ومن لم يدع إليها، ولكن من يدعو إلى ردته وينشر أفكاره لا شك أنه أغلظ كفرا وأشد ردة لأنه محارب لله ولرسوله وللمؤمنين، وبإمكانك أن تطلع على المزيد عن أحكام الردة في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 8520، 17707، 14927.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الكليات الخمس بيانها وترتيبها
تاريخ 16 ربيع الثاني 1425 / 05-06-2004
السؤال
يقال إن هناك كليات خمس ( أو مسمى آخر ) في الفقه فما هو هذه الكليات وما هي ترتيبها وما هي المصادر من الكتاب والسنة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
أما بعد: فلعل السائل الكريم يقصد بسؤاله الضروريات الخمس والتي يسميها بعض أهل العلم بالكليات
وهذه الضروريات هي: الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال،
وجعلها بعضهم ستة فزاد على الخمسة المذكورة، العرض، وأدلتها واضحة من القرآن والسنة ولا يتسع المقام لتتبعها
وهذه الكليات هي التي اتفقت الأديان السماوية وأصحاب العقول السليمة على احترامها وصيانتها
وقد أجمع أنبياء الله تعالى ورسله من عهد آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم على وجوب حفظها
ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية بمجموعة من التشريعات تصون هذه الضروريات وتحميها وهي :
1ـ شرعت لحفظ الدين إقامة سلطان المسلمين حد الردة على المرتد بالشروط المبينة في محلها.
2ـ ولحفظ النفس شرعت القصاص على القاتل عمدا عدوانا.
3ـ ولحفظ العقل شرعت حد الشرب على من تناول مسكرا.
4ـ ولحفظ النسب شرعت حد الزنا على من ارتكب تلك الفاحشة.
5ـ ولحفظ المال شرعت حد السرقة على من أخذ قدرا معينا من المال خفية من حرز.
6ـ ولحفظ العرض شرعت حد القذف على من انتهك عرض محترم مصون العرض بالقذف.
هذا بالإضافة إلى الآداب والتشريعات والتعاليم الأخرى التي تصب كلها في صيانة هذه الضروريات وحفظها.
وأما ترتيبها فهو كما جاء في المرافي في أصول الفقه للعلامة الشنقيطي حيث قال:
دين فنفس، ثم عقل ، نسب مال إلى ضرورة تنتسب
ورتبن، ولتعطفى مساويا وعرضا على المال تكن موافيا
فحفظها حتم على الإنسان في كل شرعة من الأديان..
فكل واحد منها دون ماقبله في الرتبة فيقدم عليه عند التعارض إلا المال والعرض، فإنهما في مرتبة واحدة، ولهذا قال: (ورتبن) ( ولتعطفن مساويا عرضا على المال)).
وأما إن كان قصد السائل الكريم القواعد الفقهية الخمسة التي يرجع إليها جل فروع الفقه باتفاق جمهور أهل العلم
فهي: 1ـ اليقين لا يرفع بالشك
2ـ وجوب إزلة الضرر، أو الضرر يزال
3ـ المشقة تجلب التسير
4ـ العادة محكمة، أو اعتبار العرف
5ـ الأمور تتبع المقاصد.
ولتفاصيل هذه القواعد وأدلتها وأقوال العلماء حولها نرجو الاطلاع على الفتوى رقم: 27000.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
المرتد الذي يطبق عليه حد الردة
تاريخ 19 جمادي الأولى 1425 / 07-07-2004
السؤال
نحن كمسلمين نسعى لنشر الإسلام في كل بقاع الأرض و هذا واجب شرعي علينا كأمة إسلامية وأحسب أنه أحد الأسباب التي شرع من أجلها الجهاد إذا منعنا من تبليغ دعوة الله للعالمين و لكن سألني أحدهم سؤالا وأرجو من فضيلتكم الرد عليه و هو هل يمكن أن نسمح نحن أيضا لغير المسلمين من أهل الكتاب أو من غيرهم بالدعوة إلى دينهم في بلادنا إذا كانت دعوتهم بغير إكراه أو إغراء كما يسمحوا لنا بالدعوة إلى الإسلام في الغرب أم لا ؟
والسؤال الثاني : نحن نعرف أن حد الردة في الإسلام هو القتل و لكن هل يطبق هذا الحد أيضا على المسلم الذي ولد مسلما و لم يكن له الخيار في دخول الإسلام حيث إنني سمعت الدكتور محمد عمارة قد ذكر أن حد الردة لا يقام على المسلم المرتد الذي ولدمسلما و إنما يقام عليه إذا عاد إلى رشده بعد ذلك و دخل في الإسلام ثم ارتد مرة أخرى .
فهل هذا صحيح أم لا و جزاكم الله خيرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فعلى المسلم أن ينتبه إلى أن المقارنة بين الأديان وجعلها في مستوى واحد وكأنها كلها صواب وتدعو إلى شيء واحد هو في غاية الخطإ، فالدين الصحيح الذي ينجي في الآخرة ومقبول عند الله هو الإسلام.
قال تعالى: [وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ] (آل عمران: 85). وقال: [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ] (آل عمران: 19). وقال: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا] (المائدة: 3).
فنحن ندعو إلى الإسلام، لأن المتمسك بغيره ضال، ولأن الهداية لا توجد إلا فيه، فكيف نسمح في بلاد الإسلام لمن يدعو لإخراج الناس من النور إلى الظلمات، ومن الهدى إلى الضلال، إن ذلك لا يجوز ولو كان الفاعل لا يكره الناس ولا يغريهم.
2 والردة إنما هي كفر المسلم الذي نطق بالشهادتين مختارا بعد البلوغ.
قال الدردير: الردة كفر المسلم المتقرر إسلامه بالنطق بالشهادتين مختارا.(3/126)
وأما من ثبت له الإسلام لكونه مولودا من أب مسلم فقد اختلف فيما إذا كان يقتل إذا بلغ ولم يرض بالإسلام أم لا، فعند الأحناف والشافعية لا يقتل، قال الكرابيسي في الفروق وهو حنفي: من ثبت له حكم الإسلام بالدار أو بأحد أبويه ثم ارتد لم يقتل وحبس حتى يعود إلى الإسلام، ومن كان بالغا فأسلم بنفسه ثم ارتد قتل.
وقال الشافعي في الأم: فمن أقر بالإيمان قبل البلوغ وإن كان عاقلا ثم ارتد قبل البلوغ أو بعده ثم لم يتب بعد البلوغ فلا يقتل، لأن إيمانه لم يكن وهو بالغ، ويؤمر بالإيمان ويجهد عليه بلا قتل.
وأما المالكية فيفرقون بين الصغير والمجنون حين إسلام أبيه وبين المراهق، فيحكمون بإسلام الأولين، وبالتالي بقتلهما إذا أبيا الإسلام بعد البلوغ والإفاقة.
قال خليل: وحكم بإسلام من لم يميز لصغر أو جنون بإسلام أبيه فقط كأن ميز. قال الدردير: فيحكم بإسلامه تبعا لإسلام أبيه.. وفائدة الحكم بإسلام من ذكر أنه إن بلغ وامتنع من الإسلام جبر عليه بالقتل كالمرتد بعد البلوغ، وهذا بخلاف الذي هو في سن المراهق حين إسلام أبيه. قال خليل:إلا المراهق والمتروك لها فلا يجبر بقتل إن امتنع.
وللحنابلة قولان في المسألة، قال في المغني: وجملته أن الصبي إذا أسلم وحكمنا بصحة إسلامه لمعرفتنا بعقله بأدلته فرجع وقال: لم أدر ما قلت لم يقبل قوله، ولم يبطل إسلامه الأول، وروي عن أحمد أنه يقبل منه ولا يجبر على الإسلام.
والأصوب عندنا في المسألة أن الذي يحكم بإسلامه هو من نطق بالشهادة وأظهر الإسلام بعد بلوغه سن الخطاب لأنه قبل ذلك لم يكن ملزما بما يصدر عنه، وما استصوبنا رجحانه في المسألة ليس بعيدا مما نسبته لمن ذكر في السؤال.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
قول الجمهور في باب قضاء الصلاة أبرأ للذمة
تاريخ 02 جمادي الثانية 1425 / 20-07-2004
السؤال
هناك التباس عند التائب بأي حكم يأخذ لقضاء الصلوات للسنين الماضية خاصة أن الحكمين متناقضين حسب الفتوى فإن الراجح من أقوال أهل العلم أن من يترك الصلاة بالكلية هو كافر مرتد عن الإسلام، وعليه فإن تاب ورجع عليه أن يجدد إيمانه، ولا يلزمه قضاء ما فات من الصلوات.
وذهب الجمهور إلى أنه غير كافر رغم إثمه الشديد، وإنما عليه التوبة الصادقة مع إعادة ما فرط فيه من صلوات على الفور حسب استطاعته في أي ساعة من ليل أو نهار، فإن كانت الفوائت كثيرة قضى في اليوم الواحد صلاة يومين على الأقل إلا إذا كان ذلك يؤخره عن كد لعياله، فيجوز الاقتصار على صلاة يوم، قال الدسوقي: فالواجب حالة وسطى، فيكفي أن يقضي في اليوم الواحد صلاة يومين فأكثر، ولا يكفي قضاء يوم في يوم إلا إذا خشى ضياع عياله إن قضى أكثر من يوم. انتهى.
وايضا هناك فتوى للشيخ ابن باز وهي س: عمري الآن 29 سنة وقد بدأت أصلي منذ سن الرابعة والعشرين وما زلت ولله الحمد وأشكره على أن هداني، ولقد بادرت بقضاء ما علي من صلوات منذ أن كان عمري خمسة عشر عاما حسب طاقتي ، ولكن اختلف رأي الناس فمنهم من يقول : لا يلزمك القضاء والتوبة كافية ، ومنهم من يقول : يلزمك القضاء . . أرجو بيان الصواب؟
ج : الصواب أنه لا يلزمك القضاء والتوبة النصوح كافية في ذلك وهي المشتملة على الندم على ما وقع منك والاستقامة على الصلاة والعزم الصادق ألا تعود إلى تركها لقول الله عز وجل : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ الآية ، وقوله سبحانه : وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا وقول النبي صلى الله عليه وسلم: الإسلام يهدم ما كان قبله والتوبة تهدم ما كان قبلها. وقوله عليه الصلاة والسلام: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، فماذا يفعل التائب وهو احتار بأمره وخصوصا عندما يقال له اقض ما فاتك من سنين طوال أليس بالأمر العسير؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن أهل العلم لم يختلفوا في كفر تارك الصلاة جحوداً لوجوبها، وبالتالي فهم متفقون على سقوط القضاء إذا تاب المرتد من كفره.
وأما تركها كسلاً، فالمرجح من الأقوال فيه هو التفصيل بين من يصلي تارة ويترك أخرى، وبين من يترك بالكلية فيحكم بكفر الثاني دون الأول، ومن أهل العلم من قال بكفر من ترك عمداً كسلاً مطلقاً قلَّ المتروك أو كثر، ومنهم من قال لا يكفر من ترك تكاسلاً ولو ترك سنين كثيرة، وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم، والراجح هو ما قدمناه من التفصيل، ومع ذلك فإننا نقول بأن الأخذ بمذهب الجمهور في باب القضاء أحوط وأبرأ للذمة.
وعليه، فإذا كان التائب المسؤول عنه هنا ممن كان جاحداً وجوب الصلاة، فهذا لا خلاف في أن القضاء ليس واجباً عليه، وإن كان تاركاً لها كسلاً فقط، فقد علمت الراجح فيه، فإن أحب أن يحتاط لدينه ويقضي الصلوات التي كان تركها فذلك أفضل له، لأنه يخرج به من الخلاف.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
لا يرث المرتد والده المسلم
تاريخ 24 جمادي الثانية 1425 / 11-08-2004
السؤال
والدي قد توفي رحمه الله وله ولد وابنتان وابن وبنت من ولده الثاني قد توفي في حياته وأيضأ له ولد وأربع بنات من زوجته الثانية الأجنبية المسيحية ووالدي قد طلق هذه المسيحية سنه 1978م قبل أن يتوفى والدي أوصى بأنه يحق لي ويحق لابن أخي المتوفى وأخواتي ويحق لأخي وأخواتي من والدي أن يرثوا جميعاً وأيضا والدتي على قيد الحياة الرجاء أعطوني الإجابة بما يرضي الله في تقسيم الميراث.(3/127)
ملاحظة: أخي وأخواتي من والدي لايعترفون بالإسلام أبدا ولكن يمارسون المسيحية.
ملاحظة ثانية: إذا لم يرثوا فما حكم الوصية؟
ولكم جزيل الشكر.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإخوتك هؤلاء الذين تنصروا محكوم عليهم بالردة، لأنهم مسلمون في الأصل تبعاً لإسلام أبيهم.
قال في التاج والإكليل: الولد تابع لأبيه في الدين والنسب ولأمه في الحرية والرق.
وليس للمرتد أن يرث والده المسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكفار المسلم. متفق عليه.
وابن الابن لا يرث مع وجود ابن.
ثم وصية الميت إنما تنفذ من ثلث المتروك إلا أن يجيز الورثة البالغون الرشداء ما زاد على الثلث، وكنا قد بينا ذلك في فتاوى سابقة فراجع فيه الفتوى رقم: 16812.
وبناءً على ما تقدم، فإذا كان جميع الورثة بالغين رشداء وأجازوا الوصية، فإن جميع من أوصى بإرثهم يرثون كما أوصى الأب، وإن لم يكن الورثة أهلاً للإجازة أو لم يجيزوا، فإنما تنفذ الوصية من الثلث: يقسم بين الابن والبنات الذين يدينون المسيحية ومعهم ابن وبنت الابن، ويكون للذكر سهمان وللأنثى سهم، لأن الظاهر أن الوالد قصد تضعيف نصيب الذكر على نصيب الأنثى لأمره بتقسيم المال على طريقة التركة.
أما عن تقسيم التركة فإن كان الميت ترك زوجة وارثة كما هو الظاهر من السؤال فإنها تأخذ الثمن والباقي يقسم بين أبنائه وبناته المسلمين للذكر مثل حظ الأنثيين ، وهذا إذا لم يكن أحد من أبويه حيا فإن كان أحد منهما حيا أخذ السدس .
ونوصيك بدعوة إخوتك إلى الإسلام وأخبرهم أنهم هالكون في الآخرة إن لم يسلموا، قال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة آل عمران: 85].
ثم إننا ننبه السائل إلى أن أمر التركات أمر خطير جدا وشائك للغاية، وبالتالي، فلا يمكن الاكتفاء فيه ولا الاعتماد على مجرد فتوى أعدها صاحبها طبقا لسؤال ورد عليه، بل لا بد من أن ترفع للمحاكم الشرعية كي تنظر فيها وتحقق، فقد يكون هناك وارث لا يطلع عليه إلا بعد البحث، وقد تكون هناك وصايا أو ديون أو حقوق أخرى لا علم للورثة بها، ومن المعروف أنها مقدمة على حق الورثة في المال، فلا ينبغي إذاً قسم التركة دون مراجعة للمحاكم الشرعية إذا كانت موجودة، تحقيقا لمصالح الأحياء والأموات.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
حكم الوصية للابن المرتد
تاريخ 02 رجب 1425 / 18-08-2004
السؤال
رجل مسلم تزوج من نصرانية فكان الأولاد منهم المسلم والنصراني فأراد الأب أن يوصي بكل ما يملك لولده المسلم فهل يجوز ؟ والعكس إذا أراد الرجل أن يوصي بثلث المال لابنه النصراني لأنه عرف أنه لا يرثه فهل يجوز ؟
مع التفصيل ..
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يجوز لهذا الرجل أن يوصي بماله كله أو بشيء منه لولده المسلم، لأنه أحد الورثة، ولا تجوز شرعاً الوصية لوارث إلا إذا أجازها بقية الورثة، وتراجع الفتوى رقم: 1996.
وأما غير المسلم من أولاده فيحكم عليه بالردة، وذلك لأن الأصل أن يحكم عليه بالإسلام تبعاً لوالده، وبما أنه قد اختار الكفر، فيكون بذلك مرتداً عن الإسلام، وقد اختلف الفقهاء في حكم الوصية للمرتد، وللحنابلة في ذلك روايتان: الأولى صحة الوصية له وقد اختارها أبو الخطاب من الحنابلة، وصرح صاحب الإنصاف أنها الصحيح من المذهب، والرواية الأخرى عدم صحة الوصية له، والأصح عند الشافعية صحة الوصية لمرتد إذا لم يمت على ردته حال الوصية له.
ولعل الأقرب إلى الصواب صحة الوصية للمرتد قياساً على الهبة له، وعلى هذا فلا حرج إن شاء الله على هذا الرجل في الوصية لابنه النصراني، إلا أن الأولى أن ينقص الوصية عن الثلث إلى الربع ونحوه، روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الثلث كثير. وإذا كان هذا شاملاً الوصية للمسلم، فالكافر أولى، وهذا فيما إذا لم تكن هنالك مصلحة مرجوة كتأليف قلوبهم على الإسلام، فالأولى حينئذ الوصية لهم بالثلث ونحوه. وننبه إلى أمرين: الأول: أن زواج المسلم من الكتابية وإن كان جائزاً في أصله إلا أن زواج المسلم من المسلمة أولى لأمور ذكرناها بالفتوى رقم: 5315. الثاني: أنه إذا قدر زواج المسلم من الكتابية فالواجب عليه الحرص على تنشئة الأبناء على الإسلام، وأن لا يتركهم ويفرط في أمرهم فتؤثر أمهم عليهم، وتراجع الفتوى رقم: 38002 .
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الكافر ليس من أهل الزكاة
تاريخ 18 شعبان 1425 / 03-10-2004
السؤال
لي بنت أخ متوفى عمرها 17 عاما وأمها فلبينية بعد وفاة أخي ارتدت إلى دينها المسيحي وهي الآن تعيش في بلدها الفلبين، وأقنعت ابنتها بأن تعتنق المسيحية وللأسف بنت أخي أصبحت مسيحية وهي بعيدة عنا حتى نستطيع أن نقنعها بخطئها، المهم أن البنت تريد مني أن أرسل لها مالا لكي يعينها على الحياة، فهل يجوز أن أخرج لها من زكاتي تحت بند المؤلفة قلوبهم!!!؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(3/128)
فإن المرتد عن الإسلام حكمه حكم الكافر والكافر ليس من أهل الزكاة، أما المؤلفة قلوبهم المذكورون في آية التوبة فقد اختلف العلماء هل حكمهم باق أم انقطع سهمهم في الزكاة، وعلى كل حال فإن المراد بعض القادة المطاعون في قبائلهم وعشائرهم تدفع لهم الزكاة ليدخلوا في الإسلام أو يثبتوا عليه هم وأتباعهم، وأما الأفراد فلا تدفع لهم الزكاة إن كانوا من غير المسلمين، لكن هناك شيء آخر يمكن أن تعمله مع ابنة أخيك وهو الصلة والإحسان، فلعلك إذا أحسنت إليها ووصلتها مالت إليك وبالتالي يمكن أن تعمل على استقدامها لزيارتك ومن ثم تحاول إقناعها بحكمة بالدخول في الإسلام، وقد ترجع إلى الإسلام بمجرد خروجها من البيئة التي تربت فيها ودخولها في بيئة المسلمين من أقاربها وخصوصاً إذا كانوا قدوة حسنة في الدين والأخلاق، وبإمكانك الاطلاع على الفتوى رقم: 525.
وراجع للمزيد من الفائدة عن المؤلفة قلوبهم الفتوى رقم: 5331.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
هل يحال بين ساب الله وبين زوجه
تاريخ 11 رمضان 1425 / 25-10-2004
السؤال
ما هو حكم سب الرب من قبل الزوجة لزوجها بعد أن استغفرت !
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن من صدر منه سب لله أو للدين خرج من ملة الإسلام بالكلية، ويحال بينه وبين زوجته في الحال، سواء كان المتلفظ بذلك الزوج أو الزوجة، لكن إن تاب المرتد منهما جاز الارتجاع مادامت المرأة في العدة، وانظر في هذا الفتوى رقم: 12447 والفتوى رقم: 48106.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
هل تقبل توبة من تكررت منه الردة
تاريخ 12 رمضان 1425 / 26-10-2004
السؤال
أود أن أسأل كم مرة للفرد يمكن أن يقع في الشرك الأكبر ويتوب فيها، وأدعو الله أن يختم لنا بالإيمان جميعاً؟ ولكم جزيل الشكر.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن التوبة الصادقة يمحو الله بها جميع الخطايا حتى الشرك بالله، أما من تكررت ردته فاختلف العلماء في قبول توبته في الظاهر، فذهب الشافعية وهو المشهور في مذهب الحنفية والمالكية إلى أنه تقبل توبة المرتد ولو تكررت ردته لإطلاق قوله تعالى: قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ {الأنفال:38}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. متفق عليه.
لكنهم صرحوا بأن المرتد الذي تكررت منه الردة إذا تاب ثانيا عزر بالضرب وبالحبس ولا يقتل، قال ابن عابدين: إذا ارتد ثانياً ثم تاب، ضربه الإمام وخلى سبيله، وإن ارتد ثالثا ثم تاب ضربه ضربا وجيعا ثم حبسه حتى تظهر عليه آثار التوبة ويرى أنه مخلص ثم خلى سبيله، فإن عاد فعل به هكذا أبدا حتى يرجع إلى الإسلام، وقد جاء مثل هذا عن المالكية والشافعية.
وصرح الحنابلة وهو رواية عند الحنفية ونسب إلى مالك بأنه لا تقبل توبة من تكررت ردته يعني في الظاهر، أما بينه وبين الله فأمره إليه سبحانه، لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً {النساء:137}، والازدياد يقتضي كفرا جديداً، ولأن تكرار الردة منه يدل على فساد عقيدته وقلة مبالاته بالدين فيقتل. اهـ من الموسوعة الفقهية، ولم يذكر العلماء عدداً محدداً للردة التي تقبل التوبة منها، ولكن ذكروا أنه إن عاد تاب ويعزره الإمام أبداً كما سبق في كلام ابن عابدين.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الاستغفار بمجرده لا يكفي لتحقيق التوبة
تاريخ 14 رمضان 1425 / 28-10-2004
السؤال
أود أن أسأل إن وقع الفرد في الشرك الأصغر هل عليه أن يقوم بالاستغفار فقط أم يجب عليه الغسل؟ ولكم جزيل الشكر.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الشرك الأصغر مثل الحلف بغير الله أو التطير تجب فيه التوبة، قال الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {النور:31}، وقال الله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى {طه:82}.
وحقيقة التوبة الإقلاع عن الذنب والندم على فعله والعزم على عدم العود، فهي أخص من الاستغفار المجرد، قال الحافظ في الفتح: قال ابن بطال: أما الاستغفار فقط فليس أكثر من طلب المغفرة وقد يطلبها المصر والتائب... وحد التوبة الرجوع عن الذنب والعزم ألا يعود إليه والإقلاع عنه، والاستغفار بمجرده لا يفهم منه ذلك. انتهى.
أما الاغتسال فلا يجب عليه لأن الشرك الأصغر ليس مخرجاً من الملة، ومن أوجب الغسل للإسلام من الفقهاء كأحمد ومالك وابن المنذر وأبي ثور وابن حزم أوجبوه على المرتد إذا أسلم كما في المغني لابن قدامة.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
هل يدفع مؤخر الصداق للزوجة المرتدة
تاريخ 17 رمضان 1425 / 31-10-2004
السؤال(3/129)
أنا كنت متزوجاً من فتاة من اليابان وكانت بوزية الديانة وأسلمت ثم حدث بيننا الطلاق وتزوجت من رجل أمريكي غير مسلم، وعادت إلى سابق عهدها في شرب الخمر وغيره من المحرمات في الدين الإسلامي أي حدث لها ارتداد، سؤالي هو الآن: هل يجوز عدم دفع المؤخر الذي تم كتابته في العقد عند الزواج لأنها أرتدت عن الدين الإسلامي أم يجب دفع المبلغ المكتوب في العقد، أرجو الإفادة لأني أخاف أن يكون هذا دين علي يجب دفعه؟ وشكراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ذكر أهل العلم أن المسلم إذا ارتد يودع ماله عند ثقة مسلم، فإن تاب رد إليه ماله، وإن مات على كفره فماله فيئ يوزع على مصالح المسلمين، قال
ابن قدامة في المغني: ويؤخذ مال المرتد فيجعل عند ثقة من المسلمين.
وقال صاحب التاج والإكليل نقلا عن ابن القاسم: يوقف السلطان مال المرتد قيل أن يقتل -ابن عرفة- والمعروف إن تاب رجع إليه ماله. انتهى، وقال في موضع آخر: أما إن مات أو قتل على ردته فماله فيء. انتهى.
وعلى هذا فإذا كان بإمكانك المماطلة عن دفع هذا المهر إلى هذه المرأة من غير أن يلحقك بذلك ضرر فذلك لك على أن تحتفظ به ما دامت حية، فإن أسلمت دفعته إليها، وإن ماتت على الكفر دفعته في مصالح المسلمين.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
المرتد ليس له ولاية على ابنته
تاريخ 04 شوال 1425 / 17-11-2004
السؤال
منذ قرابة عام تعرفت على فتاة من بيئة غير بيئتي ومذهب ديني غير ديني والفتاة في غاية الأخلاق والأدب والطيبة والصدق والعفة والقناعة، ولكن بيئتها تفرض عليها أن لا تتقرب من دينها ولا تعلم عنه شيئا وقد استطعت في العام الذي مضى وبرغبة منها أن أقنعها ببعض الأمور التي تخص ديننا الحنيف وذلك بحوارات عقلانية صحيحة وأهمها كيفية الوضوء الصحيح كما ورد عن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وكيفية الصلاة ومرتبة الصحابة الكرام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما عند النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وقد كان هذا بدافع منها بالبحث عن الدين الصحيح القائم على الأدلة المثبتة وليس القائم على القصص والروايات الخيالية وآراء بعض الأشخاص أعداء الإسلام، القصة تكمن أن الفتاة كانت مستبعدة فكرة الزواج من بالها تماما بل وتخاف منها وذلك لأنها لا ترغب بالزواج ممن هو يشبه والدها الذي يعتبر زوجته مجرد خادمة له ولأولاده وعليها أيضا أن تعمل وتخالط الرجال لكي تجلب له المال وتساعده بمعيشته، وهو أيضا لا يتعرف بشيء اسمه إسلام فهو بكل حياته لم يصم أو يصلي وقد ضربها مرة وأسمعها كلاما بذيئا عندما رأها تصلي وخيرها إما أن تترك بيته أو أن تصلي وليس بمقدورها أن تترك البيت ولهذا لجأت لأن تغافله وتصلي فرضها
وعندما رأى والدتها تقرأ القرآن الكريم ابتزها بكلمات الكفر والسباب ودعس على الكتاب المقدس والعياذ بالله
أما بالنسبة لي فأنا من أسرة مسلمة وملتزمة بالحجاب الإسلامي وقد رأيت من هذه الفتاة، الفتاة التي أرغب لأنني أقصر بالصلاة غالبا وهي دائما كانت تحثني على الصلاة وقراءة القرآن الكريم وعدم السماع للأغاني وترك التدخين والتوجه دائما لله عز وجل بالدعاء والسؤال، وأنا والحمد لله كنت أتجاوب لطلباتها لأنها تطالبني بالحق وما فيه الخير لي لهذا أحببتها وأحبتني ورغبنا الزواج من بعضنا، وهنا تكمن المشكلة أن والدها لن يوافق أبدا، فكيف أتزوجها بغير ولي ثم إن مثل هذا الرجل هل يمكن اعتباره وليا عليها باعتباره كافر ولا ولاية لكافر على مؤمن إذاً من الولي في هذا الحال هل يجوز لي أن أعقد قراني عليها عند أحد العلماء حيث يعتبر هو وليها، أما المشكلة الثانية هي أن أهلي وبالأخص والدي يمكن أن لا يرضى بهذه الفتاة ويمكن أن يطردني من بيته لا يتعرف بي ابنا له، ماذا أفعل أنا لا أريد إغضاب والدي وأخسر دنياي وآخرتي وإذا تركت الفتاة لا أري ماذا سوف يحل بي وبها، أرجو المساعدة وأرجو رأي من الدكتور عائض أيضا لأني أريد رأيا علميا صحيحا من كتاب الله وسنته وليس رأي شخص وحسب؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن كان والد هذه الفتاة كما ذكرت فإنه قد ارتكب ما يوجب ردته وخروجه عن الإسلام، وليس له ولاية على ابنته، وتنتقل الولاية منه إلى من يليه من الأولياء وترتيبهم على النحو التالي:
أب، ثم جد أبو أب، ثم أبوه، ثم أخ لأبوين أو لأب، ثم ابنه وإن سفل، ثم عم لأبوين أو لأب، ثم ابنه، ثم سائر العصبة من القرابة كالإرث ويقدم أخ لأبوين على أخ لأب في الأظهر، وكذا ابن الأخ والعم وابنه ومقابله هم سواء، ولا يزوج الولي الأبعد مع وجود الولي الأقرب الصالح للولاية فإن فعل فالنكاح باطل، فإن عدم هؤلاء جميعاً أو كانوا غير صالحين للولاية لفسقهم مثلا فإن الولاية تنتقل إلى الحاكم المسلم، فإن لم يوجد الحاكم المسلم، فإن لهذه المرأة أن تولي أمرها رجلا من المسلمين يتولى تزويجها، ولكن لا بد أن يكون ذلك بحضور الشهود.
وأما عدم موافقة أبيك على زواجك من هذه المرأة فلعله لأمور مسوغات صحيحة فتأمل عواقب الأمور واجتهد في طاعته قدر استطاعتك، وانظر الفتوى رقم: 17763.
ونحذرك أخي الكريم من أمور وردت في سؤالك:
أولها: التهاون في أمر الصلاة، فإن الصلاة من أعظم أمور الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر. رواه أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه.
الثاني: أنه يجب عليك أن تقطع كل علاقة لك بهذه المرأة الأجنبية عنك، فلا يجوز لك الخلوة بها تحت أي مسوغ، ولا التحدث معها إلا فيما تمس الحاجة إليه ووفق أدب الإسلام.(3/130)
الثالث: أن الإنسان لا يدري أين الخير الذي يدخره الله له، فقد يظن العبد أن الخير في الأمر الفلاني فيصرفه الله عنه ليسوق له من الخير ما لم يكن في الحسبان وهذا من لطف الله به.
وأخيراً: ننبهك أخي الكريم إلى أن موقعنا هو موقع الشبكة الإسلامية بدولة قطر وتشرف عليه وزارة الأوقاف القطرية، ولا علاقة للشيخ عائض القرني حفظه الله به.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الإسلام والردة
تاريخ 07 ذو القعدة 1425 / 19-12-2004
السؤال
ما رد فضيلتكم على من يقول من المسلمين إن الشخص المولود لأبوين مسلمين لم يكن مخيرا في اختيار دين الإسلام فكيف يكون حرا في
الاختيار وهو يعلم أنه إذا اختار غير الإسلام فسوف يحكم عليه بالردة ويقتل. فكيف نرد عليه وما موقفنا منه؟ وجزاكم الله خيرا .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالولد يحكم بإسلامه إذا كان أحد أبويه مسلما عند جمهور العلماء. وقال المالكية إنه لا يحكم بإسلامه إلا إذا كان أبوه مسلما.
ففي المغني لابن قدامة: ومن أسلم من الأبوين كان أولاده الأصاغر تبعا له، وبهذا قال الشافعي.. وقال مالك: إن أسلم الأب تبعه أولاده، وإن أسلمت الأم لم يتبعوها...
وإذا حكم بإسلام من ولد من أبوين مسلمين أو أحدهما، فإنه إذا امتنع عن الإسلام بعد ذلك يحكم عليه بالردة ويقتل، لما روى البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من بدل دينه فاقتلوه. وقال الماوردي في الأحكام السلطانية: فأما القسم الأول في قتال أهل الردة: فهو أن يرتد قوم حكم بإسلامهم، سواء ولدوا على فطرة الإسلام أو أسلموا عن كفر، فكلا الفريقين في حكم الردة سواء... وعند أصحاب الرأي أنه يجبر على الإسلام من غير قتل. ففي المغني: وقال أصحاب الرأي: إذا أسلم أبواه أو أحدهما وأدرك فأبى الإسلام أجبر عليه ولم يقتل.
وأما الحرية التي وردت في السؤال، فإن كان الشخص المسؤول عنه يعني قول الله تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين {البقرة: 256}. فإن هذه الآية الكريمة لا تتعارض مع ما ذكرناه، وقد تكلم فيها أهل العلم على النحو التالي: قال ابن العربي في أحكام القرآن: قيل إنها منسوخة بآية القتال، وهو قول ابن زيد. الثاني: أنها مخصوصة في أهل الكتاب الذين يقرون على الجزية... الثالث: أنها نزلت في الأنصار، كانت المرأة منهم إذا لم يعش لها ولد تجعل على نفسها إن عاش أن تهوده ترجو به طول عمره، فلما أجلى الله تعالى بني النضير قالوا: كيف نصنع بأبنائنا! فأنزل الله تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين. (1/310).
هذا هو الرد الذي ينبغي أن نقول لمن يقول مثل ما ذكرت.
وأما موقفنا منه، فإن كان يقول ما يقوله طعنا في الإسلام وتنقيصا منه، فإنه يكون بذلك مرتدا والعياذ بالله، وحكم المرتد هو القتل بعد الاستتابة، والذي يقوم بهذا الحد هو السلطان أو نائبه ولا يقوم به عوام الناس.
وإن كان لا يقوله طعنا وإنما يرى أن القتل غير واجب بالنسبة لمن ينطق بالشهادة وقد حكم بإسلامه تبعا لإسلام أبويه. فهذا يعذر فيما قاله، لأنه قد قال بمثله أصحاب الرأي كما تقدم، ويبين له أنه خلاف ما عليه جمهور أهل العلم وأن المعتمد في المسألة ما عليه الجمهور.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
المرتد التائب كيف يرجع إلى زوجته
تاريخ 15 ذو القعدة 1425 / 27-12-2004
السؤال
سؤالي إليكم هو: رجل مسلم تزوج ثم ارتد عن الإسلام وبعد أربعة أشهر تاب ودخل في الإسلام من جديد فهل يلزم هذا الرجل عقد النكاح من جديد أم يبقى على العقد الأول؟
وجزاكم الله خير الجزاء.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فجمهور أهل العلم على أن الردة إذا وقعت من أحد الزوجين فسخ النكاح بلا طلاق. وذهب المالكية إلى أنه يكون بطلاق بائن كما مضى القول فيه مفصلا في الفتوى رقم: 25611.
وعلى قول الجمهور، فلابد من تجديد العقد إذا رجع المرتد منهما إلى الإسلام بعد انقضاء العدة، وأما المالكية فلابد من عقد جديد، ولو رجع المرتد إلى الإسلام خلال العدة.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الأحوال التي يوصف بها الشخص بالردة
تاريخ 22 ذو القعدة 1425 / 03-01-2005
السؤال
كنت أود أن أسأل عن ما هي الردة؟ ومتى يكون الشخص مرتدا أو نقول عليه مرتد؟ وهل من سخر من شيء في الدين ثم أفيق واستغفر الله فما موقفه؟ وأود أن تنصحوه بشيء و شكرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالردة هي أن يأتي الشخص الذي تقرر إسلامه بقول أو فعل أو اعتقاد دل الشرع على أنه كفر. قال خليل بن إسحاق: الردة كفر المسلم بصريح أو لفظ يقتضيه أو فعل يتضمنه، كإلقاء مصحف بقذر، وشد زنار، وسحر، وقول بقدم العالم أو بقائه، أو شك في ذلك.انتهى. ومن سخر من شيء معظم في الدين كالاستهزاء بالرسل والكتب المنزلة والملائكة ونحو ذلك فهو مرتد والعياذ بالله. قال الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ {التوبة: 65-66}.
والشخص يقال عنه إنه مرتد إذا نطق بالردة أو فعل فعلا يتضمنها.
وإذا استغفر المرتد وتاب توبة صادقة غفر الله ذنبه. قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ {الأنفال: 38}. ولك أن تراجع في توبة المرتد فتوانا رقم: 8927.(3/131)
وننصح هذا الذي ذكرت عنه ما ذكرت بالابتعاد عن السخرية من الدين، فإن العمر قصير ولا يدري المرء متى تأتيه منيته، فليبادر إلى التوبة مما كان صدر منه، وليكثر من الاستغفار والأعمال الصالحة عسى الله أن يكفر عنه بذلك خطأه.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
حكم ترك صلاة واحدة تكاسلا
تاريخ 30 ذو القعدة 1425 / 11-01-2005
السؤال
لقد قال بعض العلماء مثل الشيخ ابن باز أن من أخر صلاة عمدا حتى أدركته الصلاة التي تليها فإنه يعد في حكم تارك الصلاة وهو كافر، ولا يجب عليه قضاء تلك الصلاة، هل يعني أن هذا الكافر يجب عليه الغسل والنطق بالشهادتين من جديد، أم ماذا؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فتارك الصلاة كسلاً لا جحوداً مختلف فيه بين أهل العلم هل يكفر بتركه للصلاة أم لا، وانظر أقوال أهل العلم في ذلك في الفتوى رقم: 10759، والفتوى رقم: 12700.
ومن قال بكفره أجرى عليه أحكام المرتدين، ومن ذلك أن من ارتد عن الإسلام ثم رجع إليه يجب عليه النطق بالشهادتين وإذا كان كفره بإنكار معلوم من الدين بالضرورة لزمه مع النطق بالشهادتين الإقرار بما أنكره، قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله: لا بد في إسلام المرتد وغيره من الكفار من الشهادتين، ولو ضمنا على ما يأتي مطلقاً عن التقييد بكونه غير مقر بإحداهما إذ المقر بإحداهما لم يقر بها ليأتي بالأخرى فإن كان كفره بإنكار شيء آخر مما لا ينافي الإقرار بهما أو بإحداهما ببادئ الرأي كمن خصص رسالة محمد بالعرب أو جحد فرضا أو تحريما فيلزمه مع الشهادتين الإقرار بما أنكر بأن يقر الأول بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق أو يبرأ من كل دين يخالف الإسلام ويرجع الثاني عما اعتقده.
وأما الغسل عند الإسلام أو عند الرجوع إليه فمحل خلاف بين أهل العلم، فذهب المالكية في قول عندهم والحنابلة إلى وجوب الغسل على الكافر الأصلي، والمرتد إذا أسلم، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن ثمامة بن أثال رضي الله عنه أسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل. متفق عليه.
وعن قيس بن عاصم: أنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر. رواه النسائي وغيره بإسناد صحيح، وروى ابن هشام في السيرة، والطبري في تاريخه: أن سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، حين أرادا الإسلام، سألا مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة، كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟ قالا: نغتسل، ونشهد شهادة الحق.و وهذا القول أحوط.
وذهب الحنفية والشافعية إلى استحبابه لا وجوبه، لعدم استفاضة النقل بالأمر به مع كثرة الداخلين في الإسلام.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الضحك عند الاستهزاء بالدين
تاريخ 03 ربيع الأول 1426 / 12-04-2005
السؤال
بالله عليكم أجيبوني بأسرع وقت بالله عليكم . هل من ارتد عن الدين وأراد الرجوع إلى الإسلام عليه الغسل لكي يعود إلى الإسلام ؟ وهل إذا أحد سخر من الدين أو من أنبياء الله وأضحكني بسخريته فحاولت كبت الضحكة ولم أستطع فهل أنا مرتد ؟ بالله عليكم أجيبوني بالله عليكم بالله عليكم أجيبوني بسرعة
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الاغتسال ليس شرطا في صحة توبة المرتد كما سبق في الفتوى رقم: 58097.
أما الاستهزاء بالدين أو الأنبياء فهو كفر مخرج من الملة، كما سبق بيانه في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 1845، 26193، 48790 فليرجع إليها، ولا يتجرأ على هذا الفعل إلا من كان قاسي القلب قد استحكمت غفلته لا يخاف الله ولا يراعي حدوده.
وعلى المسلم أن ينكر هذا المنكر العظيم ما استطاع، ولا يجوز له الجلوس مع من يتجرأ على هذا الفعل لقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ {النساء: 140} قال ابن كثير رحمه الله: أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم فيه، فلهذا قال تعالى: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ في المأثم. اهـ.
فيخشى أن يكون الضحك على مثل هذا الكفر وعدم نهي المستهزئ رضا وإقرارا وهو ينافي إنكار القلب الذي لا إيمان بعده كما في الحديث الذي رواه مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل، وراجع الفتوى 1048 ، والفتوى رقم 9358 .
أما إذا كان الضحك هجم عليك رغما عنك أو ضحكت على هيئة وشكل المستهزئ أو كان القول ليس استهزاءا صريحا ولا تنقصا بالدين وبالأنبياء ففي هذه الحالة ليس كفرا ولكن يلحقك الإثم لعدم إنكارك عليه، فعدم الإنكار عليه فضلا عن الضحك أمارة على ضعف الإيمان، إذ لو كان الإيمان قويا لعظم عندك الإنكار والغضب لله عز وجل بما يكون له أكبر الأثر في منع الضحك، وراجع الفتوى رقم: 37125، 42714.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
نفقة زوجة وابنة المرتد
تاريخ 04 جمادي الثانية 1426 / 11-07-2005
السؤال(3/132)
مسلمة تزوجت من إيطالي بعدما اعتنق الإسلام وولدت معه بنتا كتب لها الثلث من ورشته التجارية ثم تحول وتغير بحيث ارتد عن الإسلام وعاد إلى الكفر فاستعملت معه كل المحاولات لعله يهتدي فلما رفض خيرته بين الإسلام وبين الطلاق فطلقها هل تطالبه بنفقة البنت التي أخذتها معها؟
هل تطالبه بقسمة الورشة التي أهداها لها وهو على الإسلام؟ وهل عليه نفقة الطلاق؟
جازاكم الله خيراً.
حاشية: السؤال مستعجل لو تكرمتم بالرد عليه في حدود الإمكان.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن من حق هذه المرأة حضانة ابنتها، ومن حقها كذلك المطالبة لأبيها بالنفقة عليها ومستلزماتها، وعلى الأب أن ينفق على ابنته حتى تبلغ وتتزوج ويدخل بها زوجها.
قال العلامة خليل المالكي في المختصر عاطفاً على ما يجب من النفقة: والأنثى حتى يدخل بها زوجها.
وأما نفقتها هي في العدة، فلا تجب عليه على الراجح وهو القول المشهور عند المالكية أن الردة ينفسخ بها النكاح بطلاق بائن.
قال في المختصر مع شرح الحطاب: لا ردة فبائنة. لأن ردة أحد الزوجين طلقة بائنة.
وأما ما وهبه لها من الورشة وغيرها، فإن كانت قبلته وحازته منه، فقد أصبح ملكاً لها ومن حقها أن تطالب به، لأن الهبة تملك بالقول.
قال خليل في المختصر مع شرحه: وأجبر الواهب على الحوز أي على تمكين الموهوب له حيث طلبه لأن الهبة تملك بالقبول على المشهور، فله طلبها منه حيث امتنع ولو عند حاكم لجبره على تمكين الموهوب له منها.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
هل يغتسل المرتد إذا رجع إلى حظيرة الإسلام
تاريخ 05 ذو الحجة 1425 / 16-01-2005
السؤال
هل يشترط في من أراد التوبة من فعل ناقض من نواقض الإيمان أن يغتسل، وإذا تاب ونطق بالشهادتين ولم يغتسل لتهاون أو إهمال ثم مات هل يعتبر كافراً؟ بارك الله فيكم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الاغتسال ليس شرطاً في صحة توبة المرتد اتفاقا عند أهل العلم، وبناء عليه، فإن من أسلم وتاب بعد الردة ثم مات قبل الاغتسال لا يعتبر كافراً، وإنما اختلف أهل العلم في وجوب اغتسال الكافر إذا أسلم، وقد أوجبه المالكية والحنابلة، وقيد المالكية بما إذا كان قد حصل منه موجب للاغتسال كالجنابة والحيض والنفاس، كما في مختصر خليل وشروحه، والمغني لابن قدامة.
ولا نعلم أن أحداً من أهل العلم جعل الاغتسال شرطاً لدخول الإسلام ممن كان كافرا أصلاً، أو ممن كان مسلما ثم ارتد ثم عاد للإسلام، وراجع الفتوى رقم: 33821، والفتوى رقم: 55063، والفتوى رقم: 32771.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الزواج بمن تنكر صفات الله تعالى
تاريخ 07 محرم 1426 / 16-02-2005
السؤال
هل يجوز الزواج من ملحدة تؤمن بإله واحد دون جميع صفاته تعالى؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلم يبين السائل ديانة هذه المرأة التي تعتقد هذا الاعتقاد الفاسد، وعلى كل، فلا يخلو أمرها من احتمالات ثلاث:
1-أن تكون مسلمة.
2-أن تكون غير مسلمة ولا كتابية.
3-أن تكون كتابية "يهودية أو نصرانية".
وفي الاحتمالين الأولين لا يجوز الزواج قطعا بهذه المرأة، وذلك لأنها إن كانت مسلمة فهي مرتدة باتفاق أهل السنة والجماعة لإنكارها صفات الخالق سبحانه التي دلت نصوص القرآن والسنة على إثباتها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: فأول ما ابتدع الجهمية القول بخلق القرآن ونفي الصفات، فأنكرها من كان في ذلك الوقت من التابعين ثم تابعي التابعين ومن بعدهم من الأئمة وكفروا قائلها.
وأما الاحتمال الثاني، فلأنها مشركة، وقد قال الله تعالى في حق المشركات: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ {البقرة: 221}.
أما الاحتمال الثالث: وهو كونها كتابية فهذا يفصل فيه، فإن كانت تابعة في ذلك دينها المحرف فهذه لا مانع من الزواج بها، لأن الله تعالى ذكر عنهم من التحريف مثل ذلك كنسبتهم الولد إليه، وادعائهم أن الله ثالث ثلاثة ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وأما إن لم تكن مقلدة في ذلك دينها الباطل فلا يجوز الزواج بها، لأنها تعتبر في حكم المرتد عنه، وبالتالي، فهي من المشركات التي أسلفنا حكم الزواج بهن.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
من أعمال الكفر: مظاهرة المشركين على المسلمين
تاريخ 03 رجب 1426 / 08-08-2005
السؤال
أنا في مدرسة ثانوية أتانا رجل نصراني وتجرأ ودعا إلى النصرانية وبعد البحث وجدنا أنه أتى من مدرس مسلم بالمدرسة وعندما قلنا للمدرس لماذا أنت تفتن الطلاب به وتأتي به قال(لأنه يأتي إلى المدرسة بالهدايا وينفع المدرسة )وعندما جاء النصراني إلى المدرسة فإذا عنده منهج في الدعوة فهو في أول جلسه لم يتحدث عن ملته حتى يكسب قلوب الطلبة ثم ينشر دعوته والحمد لله أن العام الدراسي انتهى ولكن ماذا نفعل معه إذا جاء في العام القادم عبر المدرس الذي ينتسب إلى الإسلام أفيدونا رحمكم الله إنها فتنه أنقذونا منها
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن من يتعاون مع المنصرين ويسهل لهم التواصل مع شباب المسلمين لإلقاء الشبه عليهم لفتنتهم عن دينهم رجل خائن للأمانة التي أنيطت بعنقه، مظاهر للمشركين على المسلمين، وعمله هذا عمل كفري مخرج عن ملة الإسلام، دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.(3/133)
هذا بالنسبة لذلك المدرس الذي يمهد لدخول هذا النصراني إلى قلوب أولاد المسلمين ونشر دعوته وإثارة شبهاته فيجب عليه أن يكف عن هذا العمل وأن يسد بابه، وليعلم أنه عمل كفري كما قدمنا، ولا يسوغه ما يقدمه ذلك النصراني لخدمة دعوته، وصدق الله تعالى حيث يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ {الأنفال: 36}
أما أنتم فيجب عليكم منع هذا النصراني من الدخول إلى المدرسة وطرده منها، فإن كنتم لا تستطيعون ذلك فبلغوا السلطات وأولياء أمور الطلبة حتى يردعوا هذا النصراني عن عمله ذلك، وعلى المستطيع منكم أن يقوم بتوعية الطلاب بخطر التنصير وتحفيزهم للتمسك بدينهم والاعتزاز به وعدم التفريط فيه وتوعيتهم بمخططات الكفار وحقدهم على المسلمين، وأن الحرب مع الكفار هي حرب عقدية في الحقيقة وإن أخذت شكل الاحتلال العسكري.
كما يجب على الطلاب أن يعلموا أن النصارى واليهود كفار ومأواهم النار خالدين فيها أبدا، وأنهم لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها، وانظر الفتاوى ذات الأرقام التالية: 2924، 5750، 7299.
وكذلك يجب تحذير الطلاب من خطر الردة وأن المرتد خالد في النار ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، وأن متاع الدنيا لا يقارب بعذاب الآخرة، وانظر الفتوى رقم: 14927.
ومن وسائل توعية الطلاب: توزيع المطويات الإسلامية التي تحذر من التنصير وتثير الحمية لهذا الدين ومنها:
- من رسائل المنصرين.
- صانعوا الخيام.
- التنصير يجتاح الجزيرة.
- 59 وسيلة لمواجهة التنصير.
- مصدر عزة المسلم.
- من لجراحات المسلمين.
وكل هذه الأشرطة للشيخ سلمان بن فهد العودة، وتجدها وغيرها على موقع طريق الإسلام على الإنترنت www.islamway.com
وللفائدة انظر الفتوى رقم: 58129، 54174.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
الصلاة على المرتد
تاريخ 24 رجب 1426 / 29-08-2005
السؤال
هل تجوز الصلاة على المرتد أي من يعلن ارتداده عن دين الإسلام؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا تجوز الصلاة على الكافر الأصلي ولا المرتد بإجماع أهل العلم، لقوله تعالى:
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ {التوبة: 84}
ولمزيد الفائدة تراجع الفتوى رقم: 61369.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
كيفية غسل المرتد إذا اسلم
تاريخ 14 رمضان 1426 / 17-10-2005
السؤال
إذا ارتد الإنسان عن الإسلام فكيف يغتسل لقول الشهادة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الكافر إذا أسلم يجب عليه أن يغتسل غسل الإسلام سواء كان كافراً أصلياً أو مرتداً، وهذا هو أحد القولين في مذهبي مالك وأحمد، ودليله ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن قيس بن عاصم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أريد الإسلام فأمرني أن أغتسل بماء وسدر. قال ابن قدامة في المغني: وأمره يقتضي الوجوب.
وأما كيفية الغسل فهي مثل الغسل من الجنابة، والطريقة الكاملة لذلك هي أن ينوي المغتسل ثم يسمي ثم يغسل يديه ثلاثا، ثم يغسل ما أصابه الأذى، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات، يروي بها أصول شعره، ثم يفيض الماء على بقية جسده، يبدأ بشقه الأيمن ثم الأيسر، ويدلك بدنه، مع الاعتناء بإيصال الماء إلى جميع بدنه وشعره، ولك أن تراجع في ذلك فتوانا رقم: 3791.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===========
أهل الكتاب الذين سمعوا برسولنا ولم يؤمنوا
تاريخ 14 رمضان 1426 / 17-10-2005
السؤال
نجد من يدعي أن أهل الكتاب في هذا العصر ليسوا ممن تكلم عنهم القرآن ووصفهم بالكفر، ومنهم من يقول إن من أهل الكتاب من هو ناج يوم القيامة وإن لم يتبع الرسالة المحمدية وبقي على دينه النصراني أو اليهودي، وترد النقاط التالية في هذا الإشكال:
1- هل لمن أشرك بالله عذر يوم القيامة ينجو به من النار؟
2- هل قامت الحجة على أهل الكتاب في عصرنا هذا؟
يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (المائدة 72)، إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ (النساء 48)، هذه الآيات دليل على أن من أشركوا بالله من أهل الكتاب أو غيرهم لا محيد لهم عن الخلود في النار، وأنه لا عذر لهم يوم القيامة، فمن أشرك بالله قديماً وحديثاً ومات على شركه فهو خالد في النار، قامت عليه حجة أم لم تقم، أليس من المعلوم أن:
1- من مات على الشرك قبل بعثة الرسول (صلى الله عليه وسلم) فهو من أهل النار (مثل والدي الرسول صلى الله عليه و سلم).
2- من مات على الشرك بعد بعثة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وقبل انتصار الإسلام ووصول الرسالة إلى مشارق الأرض ومغاربها فهو من أهل النار.
أما النقطة الثانية وهي قيام الحجة على الكفار وهل عدم قيام الحجة عذر لمن أشرك بالله:
1- يحتج الكثير بقول الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (الإسراء: 15)، ولكن الله تعالى قال أيضاً: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ (فاطر:24)، أليس في الآية الثانية دلالة على أن الله بعث رسولاً لكل أمة وأن الآية الأولى هي آية إخبارية فقط، ولكن بالفعل قد بعث الله رسولا لكل قوم؟(3/134)
2- هل يدخل أهل الكتاب في يومنا هذا في عموم قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (المائدة:19)، وفي عموم الحديث الصحيح: لا يسمع بي يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار أخرجه مسلم.
3- إن البعض يقول إن الحجة لم تقم على أهل الكتاب في هذا العصر وإن الرسالة وإن وصلت إليهم فإنها تصل في غير صورتها الصحيحة النقية، ويقولون إن أغلب الناس لا يعرفون الإسلام، ولم يسمعوا به قط، وقد يسمع به بعضهم سماعاً مشوهاً من أعدائه لا يحمل على قبوله، وهنا نتساءل ألم تكن الرسالة دائماً مشوهة من قبل أعداء الله، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَألْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (فصلت:26) -نحن نسأل ما حكم من أطاع قريشا ولم يستمع لدعوة الرسول ثم مات على شركه- فهل هو ناج لأن الدعوة شوهت عليه، ألم تكن قريش تنهى الناس عن سماع القرآن لأنه سحر، وهل وصلت الرسالة إلى أغلب الفرس والروم الذين قاتلوا المسلمين من غير تشويه، ألم يشوه رؤساء الكفر دعوة الإسلام على قومهم ومنعوها عنهم، فما حكم من قتلهم المسلمون على شركهم في الفتوحات، وأكثرهم في ظني خرجوا إما إجباراً أو دفاعا عن عقيدتهم ومالهم وأرضهم ظناً منهم أن ما هم عليه من الشرك هو الحق لعدم وصول رسالة الإسلام إليه بدون تشويه، فهل لهؤلاء عذر عند الله على ما هم عليه من الشرك؟ أليست هذه حجة على أهل الغرب والشرق الذين يسمعون أخبار المسلمين والعالم الإسلامي ليل نهار، ثم يبقون على الشرك بالله واعتقاد التثليث وغيره من العقائد الفاسدة التي هي شرك بالله، فكيف يقول قائل إنه لا يمكن الحكم بأن الرسالة قد وصلت إلى كل أحد، بل غالب الناس لا يعرفون الإسلام، ولم يسمعوا به قط، وقد يسمع به بعضهم سماعاً مشوهاً من أعدائه لا يحمل على قبوله، ولا تقوم به عليه الحجة، والله أعلم؟
4- الله سبحانه وتعالى يقول: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فمن أشرك بالله في الدنيا فحكمه الكفر في الدنيا والآخرة، أما من لم تصله رسالة في الدنيا ولم يعبد مع الله أحدا أو توقف عن عبادة الله لعدم بلوغه الشرائع، فهذا في ظني من تكلم عنه العلماء في أحكام أهل الفترة على اختلاف العلماء في حقيقة وجودهم، هذا بالنسبة لمن توقف عن عبادة الله، ولكن لم يشرك بالله، ولكن جل من هم في عصرنا هذا لم يتوقفوا عن عبادة الأوثان لحظة واحدة، فكيف نقول إنهم في حكم أهل الفترة وأنهم لم تبلغهم رسالة تقوم بها الحجة، نرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا بالدليل الشرعي الحق في هذه المسألة، نسأل الله أن يسدد خطاكم وأن يجعلكم ذخراً لهذه الأمة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد دل القرآن والسنة والإجماع على أن من دان بغير الإسلام فهو كافر، ودينه مردود عليه وهو في الآخرة من الخاسرين، قال الله تعالى:
وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {آل عمران:85}، وقال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ {آل عمران:19}.
وجاء النص القاطع بأن أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو أشركوا مع الله غيره، أو جحدوا بنبوة نبي من الأنبياء أنهم كفرة، ولا يدفع عنهم الكفر إيمانهم أو التزامهم بكتابتهم، فلو آمنوا حقا بالنبي والكتاب لآمنوا بجميع الأنبياء والرسل، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً* أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا {النساء:150-151}.
وإذا تقرر هذا فأهل الكتاب الموجودون في عصرنا يمكن أن نفترض أنهم صنفان (صنف بلغته دعوة الإسلام وسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن به، فهؤلاء كفار في الدنيا، مخلدون في النار في الآخرة إن ماتوا على كفرهم، والدليل على ذلك الآيات المذكورة آنفاً، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار. رواه مسلم.ولا نظن أن أحدا منهم يشذ عن هذا الصنف .
والصنف الثاني إن وجد وهو أمر مستبعد: صنف لم تبلغهم دعوة الإسلام ولم يسمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء -على فرض وجودهم في هذا الزمان الذي تقدمت فيه وسائل المعرفة والاتصال- قد اختلف العلماء في حكمهم في الآخرة، وأرجح الأقوال أنهم يمتحنون في عرصات القيامة، كسائر أهل الفترة، فمنهم الموفق الناجي ومنهم الخاسر الموبق.
أما حكمهم في الدنيا فهم كفار باتفاق أهل الإسلام، تجب دعوتهم وإيصال الهدى إليهم، وتجري عليهم أحكام الكفار من أهل الكتاب.
وجميع ما سبق يعد من الأمور المعلومة بالاضطرار من دين الإسلام، فمن أنكر كفر اليهود والنصارى أو شك في ذلك فهو كافر، قال القاضي عياض في كتابه الشفا، في سياق ذكره ما هو كفر بالإجماع: ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل أو توقف فيهم أو شك أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك. انتهى.(3/135)
وقال في الإقناع وشرحه من كتب الحنابلة في باب المرتد: أو لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى واليهود، أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم، فهو كافر لأنه مكذب لقول الله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
وهذا الجواب كاف في الرد على من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
================
موقف المسلم من المسلم الذي وقع في الكفر
تاريخ 17 رمضان 1426 / 20-10-2005
السؤال
ماذا أفعل إذا كفر أحد أمامي، كيف يجب أن تكون ردة فعلي؟ بارك الله فيكم وفي موقعكم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الوقوع في الكفر هو أنكر المنكرات ويتعين على من رآه أن ينكره بحسب طاقته، بما لا يؤدي إلى أعظم منه عملاً بحديث مسلم: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.
فمن أمكنه إنكاره بالحجة والبيان حتى يرجع من وقع في الكفر إلى دين الإسلام تعين عليه ذلك، ومن كانت له سلطة تمكنه من تطبيق حكم الشرع عليه كالسلطان العام للمسلمين أو نائبه، يحمله على التوبة، فإن تاب فبها ونعمت وإن أصر على الارتداد قتله إن توفرت فيه شروط التكفير عملاً بما في حديث البخاري: من بدل دينه فاقتلوه.
وأما غير السلطان فليس عليه إلا الإنكار باللسان لأن تطبيق غير السلطان للحدود قد يؤدي لفتن أعظم، هذا ويتعين على من تيقن حصول الكفر من شخص ما أن يعامله معاملة المرتد، فعلى زوجته أن لا تمكنه من نفسها، وأن تسعى في التخلص من البقاء في عصمته، وعلى من خطب عنده ألا يزوج موليته لحرمة تزويج المسلمة بالكافر، وعلى من وجده إمام صلاة أن لا يصلي خلفه، وراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 36372، 43762، 44641.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
حكم زوجة المرتد
تاريخ 28 ذو القعدة 1426 / 29-12-2005
السؤال
أنا الآن متزوجة منذ 15 سنة, كان زوجي قبل زواجنا يشرب الخمر ولا يصلي لكنه وعدني بالاستقامة بعد الزواج وقمت بصلاة الاستخارة فرأيت في منامي أنه يضع خاتم الزواج في يدي فتزوجت منه، لي منه 3 أطفال 15, 10، 9سنوات، طيلة زواجنا كنت أدعوه للصلاة وللكف عن شرب الخمر, كان يعدني بذلك ولا يفي بحجة أن عمله كمحامي يضطره لشرب الخمر وضيق وقته لا يسمح له بالصلاة, لكن ومنذ هجمات 11 سبتمبر تغير كثيراً أصبح ينادي علنا بفصل الدين عن الدنيا ويشتم المسلمين بكل الصفات التي تحز في قلب كل مسلم وكلما دعوته للصلاة أجاب تارة بأنها مجرد طقوس وأن الإيمان في القلب, وتارة أنه لا يمكنه أن يصلي مع المنافقين في المساجد وتارة أخرى وهذا هو الأخطر يقول أنه يشك في وجوب الصلاة فإذا استدللت بالقرآن ودعوته لقراءته, أجاب: وما يدريني أن القرآن لم يحرف وإذا أتيته بحديث نبوي شريف شكك فى صحة نقله عنه -صلى الله عليه وسلم- بل إنه يقول أن زواج الرسول من عائشة يعد جريمة اغتصاب لطفلة, دعوته على أثر حوار بيننا -في حضرة ابني الأصغر- أن يحثه على الصلاة فقال له يا بني لك الاختيار إن شئت صل وإن لم تشأ فلا تصلي, ابنتي الكبري تصلي والحمد لله وطفلاي الآخران يصليان عن طيب خاطر أيضا، ولكن بعد أن أذكرهما عند كل صلاة, سؤالي الأول هو كالتالي: كيف أواجه هذا الوضع فأنا عجزت عن إصلاح زوجي وأخشى على أبنائي من أفكار والدهم، سؤالي الثاني هو: أفكاري أصبحت مشتتة إلى درجة الوسوسة, أصبحت أكره زوجي وحالتي النفسية سيئة للغاية، فهل هذا عقوبة لي من الله على فواحش اقترفتها قبل الزواج -أفضل أن أسترها لعل الله يسترني-وندمت عليها وتبت توبة نصوحا؟
وسؤالي الآخر هو: زوجي رجل كريم جداً ويحب أبناءه بجنون ويكره الطلاق ويقول إنه يحبني أيضا هل يجب شرعا أن أنفصل عنه؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن من ينكر فرضية الصلاة، ويشك في وجوبها، ويزعم أن القرآن ربما يكون محرفاً، ويطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدعو إلى فصل الدين عن الحياة، قد ارتد بذلك وخرج من ملة الإسلام.
وعليه؛ فإذا كان حال هذا الرجل على ما وصفت فلا يجوز لك البقاء معه، فإن نكاح المرتد ينفسخ، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 25611.
وعليك اعتزاله فإن تاب وما زلت في العدة، فالعصمة باقية والزوجية مستمرة، لأن الصحيح من أقوال أهل العلم أن الفرقة بين الزوجين إذا ارتد أحدهما تتوقف على انقضاء العدة.
وأما قولك: هل هذا عقوبة من الله على فواحش ارتكبتها قبل الزواج؟ فنقول: إن العبد إذا تاب إلى الله من ذنوبه توبة صادقة، فإن الله يقبل توبته ويغفر ذنبه، ولا يعاقبه على تلك الذنوب التي تاب منها، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وما يصيب المؤمن من المصائب وأنواع الشرور قد يكون ابتلاء من الله، ليرفع درجته، ويمحص إيمانه، ويأجره أجر الصابرين، فارضي بما قسم الله لك، واصبري فإن الخير فيما اختار سبحانه، واعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وفقك الله لما يحب ويرضى وأخذ بناصيتك إلى البر والتقوى، ونجاك من القوم الظالمين.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
هل يرث الأولاد الذين لم يعلنوا إسلامهم أباهم المسلم
تاريخ 01 صفر 1427 / 02-03-2006
السؤال(3/136)
أنا شاب متزوج وأب لطفلين أسكن منزلا لعمي المتوفى وكان يعيش في فرنسا ولا يأتي إلا لقضاء إجازة الصيف وكان مطلقا لزوجته الفرنسية الأصل والجنسية وله 3 أولاد لم يعلنوا إسلامهم علما أن والدي كان مسؤولا عن المنزل في فترة تواجد عمي في فرنسا دون تفويض مكتوب ولما توفي عمي طلب مني أبي أن أسكن المنزل من غير استشارة أبناء عمي الذين ليست لهم أي علاقات ولا اتصالات
مع كافة أفراد العائلة منذ زمن بعيد ولم يدخلوا البلد إلا عند وفاة والدهم وذلك منذ خمس سنوات,
فهل بقائي في هذا المنزل من غير اتفاق مسبقا مع أبناء عمي وبدون إيجار شهري باعتبارهم الورثة الشرعيين لأبيهم.
وفي هذه الحالة هل يعتبر الأبناء هم الورثة وإن كانوا من غير المسلمين أم أن أعمامي وعماتي هم الورثة الشرعيون وبالتالي يجوز لهم التصرف في العقار
وهل أنا مطالب باستخلاص معلوم كراء السنوات التي قضيتها في المنزل للورثة.
الرجاء أفيدونا وجزاكم الله خير الجزاء.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقبل الجواب عما سألت عنه، نريد أولا أن ننبهك إلى أن الأولاد إذا كانوا صغارا، وكان أبوهم مسلما، فإنه يحكم بإسلامهم تبعا لإسلام أبيهم. وفائدة الحكم بإسلامهم أنهم يرثون أباهم المسلم، ويجبرون على الإسلام إذا كبروا, وراجع في هذا فتوانا رقم: 50846.
وعليه، فأولاد عمك إذا كانوا صغارا، أو فيهم من لا يزال صغيرا، فإنه يحكم بإسلامهم ولو لم يعلنوا الإسلام، تبعا لإسلام أبيهم، وبالتالي يكونون هم الورثة الشرعيين لأبيهم.
وإن كانوا جميعا كبارا، وعلم أنهم حين وفاة أبيهم كانوا على غير دين الإسلام، فإنه يحكم بردتهم، وبالتالي لا يرثون من أبيهم. ولك أن تراجع في معرفة علامات البلوغ فتوانا رقم:10024، وفي معرفة أحكام المرتد فتوانا رقم: 13987.
وعلى أي من التقديرين، فإن سكناك للمنزل المذكور دون إذن مالكه الشرعي، يعتبر أمرا غير سائغ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه. أخرجه الدارقطني وأحمد والبيهقي وغيرهم، وصححه الألباني.
فعليك أن تؤدي إيجار المدة التي استغللته خلالها، إلا أن يستحلك منها مالكه الشرعي.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" أخرجه الترمذي.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
قتل الساب هل يتعارض مع الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة
تاريخ 01 صفر 1427 / 02-03-2006
السؤال
ما هو الحكم الإسلامي على راسم الكارتون المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، في السيرة ورد أن الرسول طالب بقتل رجل كان يؤجر الجواري لغناء أغاني مسيئة للرسول مثلاً، ولكن في القرآن يقول المولى عز وجل: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، ويقول تعالى : ..فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم.... وأيضاً نقرأ في القرآن أن الله تعالى يبين لنا أن الحكم على الذي يتسبب في الفتنة أو القصاص هو بتر اليد والرجل من خلاف، فما هو الحكم الأمثل لراسم الكارتون اللعين؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد قدمنا الكلام على ما يتعلق بمن تنقص النبي صلى الله عليه وسلم في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 1845، 44469، 31456 وبينا حكم الحرابة في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 49395، 13010، 17567.
وأما قصة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله فلا نعلم فيها إلا ما روي عن ابن خطل وسببه أنه حاد الرسول صلى الله عليه وسلم وارتد عن الإسلام وقتل مسلما كان يخدمه وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت له قينتان تغنيان بهجاء المسلمين، فقد اجتمع فيه من أنواع الشر الارتداد وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بالهجاء، قال النووي في شرح مسلم: إنما قتله لأنه كان قد ارتد عن الإسلام وقتل مسلماً كان يخدمه وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويسبه وكانت له قينتان تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وذكر ابن حجر في الفتح أنه: روى ابن إسحاق في المغازي حدثني عبد الله بن أبي بكر وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة قال: لا يقتل أحد إلا من قاتل إلا نفراً سماهم فقال اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة منهم عبد الله بن خطل وعبد الله بن سعد. قال ابن حجر: وإنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان مسلماً فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه مولى يخدمه وكان مسلماً فنزل منزلاً فأمر المولى أن يذبح تيساً ويصنع له طعاماً فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئاً فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركاً وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/137)
ولا يعارض هذا ما في آية النحل من الدعوة بالحكمة والجدال بالتي هي أحسن ولا ما في آية فصلت من الحث على الصفح والعفو وهما آيتان منفصلتان، فقد قال الله تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {النحل:125}، وقال تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {فصلت:34}، فلا تعارض بين الآيتين وبين قتل ابن خطل إذ أن لكل مقام حكما يناسبه، فالمدعو بداية يترفق معه ويدعى بالحكمة ويجادل بالتي هي أحسن، والمخطئ يسامح ويعفى عنه وتقابل إساءته بالحسنى، فهذا هو الأفضل ويجوز مقابلة المسيء بالإساءة، فقد قال الله تعالى: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ* إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ* وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ {الشورى:40-41-42-43}.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثير الصبر والحلم، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً كما في قصة إسلام الحبر اليهودي زيد بن سعنة، ففي صحيح ابن حبان والمستدرك قال عبد الله بن سلام: إن الله تبارك وتعالى لما أراد هدي زيد بن سعنة قال زيد بن سعنة: إنه لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه يسبق حلمه جهله ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجرات ومعه علي بن أبي طالب فأتاه رجل على راحلته كالبدوي، فقال: يا رسول الله قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإسلام وكنت أخبرتهم أنهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغداً وقد أصابهم شدة وقحط من الغيث وأنا أخشى يا رسول الله أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا فيه طمعاً فإن رأيت أن ترسل إليهم من يغيثهم به فعلت، قال: فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل إلى جانبه أراه عمر فقال: ما بقي منه شيء يا رسول الله، قال زيد بن سعنة: فدنوت إليه فقلت له يا محمد: هل لك أن تبيعني تمراً معلوماً من حائط بني فلان إلى أجل كذا وكذا، فقال: لا يا يهودي، ولكن أبيعك تمراً معلوماً إلى أجل كذا وكذا ولا أسمي حائط بني فلان، قلت: نعم فبايعني صلى الله عليه وسلم فأطلقت همياني فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا، قال: فأعطاها الرجل وقال اعجل عليهم وأغثهم بها، قال: زيد بن سعنة فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ونفر من أصحابه فلما صلى على الجنازة دنا من جدار فجلس إليه فأخذت بمجامع قميصه ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت ألا تقضيني يا محمد حقي فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب بمطل ولقد كان لي بمخالطتكم علم قال ونظرت إلى عمر بن الخطاب وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير ثم رماني ببصره وقال أي عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع وتفعل به ما أرى فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي هذا عنقك ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة، ثم قال: إنا كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التباعة اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعا من غيره مكان ما رعته، قال زيد: فذهب بي عمر فقضاني حقي وزادني عشرين صاعا من تمر فقلت: ما هذه الزيادة، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما رعتك فقلت أتعرفني يا عمر، قال: لا، فمن أنت، قلت: أنا زيد بن سعنة، قال: الحبر، قلت: نعم الحبر، قال: فما دعاك أن تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلت، وتفعل به ما فعلت، فقلت: يا عمر كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أختبرهما منه يسبق حلمه جهله ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما فقد اختبرتهما فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وأشهدك أن شطر مالي فإني أكثرها مالا صدقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال عمر أو علي: بعضهم فإنك لا تسعهم كلهم، قلت: أو على بعضهم، فرجع عمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، فآمن به وصدقه وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاهد كثيرة ثم توفي في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر رحم الله زيداً. قال الهيثمي في المجمع وابن حجر في الإصابة: رجاله ثقات.
وأما المرتد والساب فله حكم آخر هو ما بيناه في الفتاوى السابقة فهو كافر يحكم بقتله، ولكن إنكار منكره بالقتل لا يقام به إلا عند الأمن من ترتب منكر آخر أكبر منه، وذلك أن العلماء قد نصوا على أن من أراد أن يغير منكراً وعلم أن هذا التغيير سيترتب عليه ارتكاب منكر آخر أكبر منه، فإن عليه أن يقتصر على ما هو ممكن من التغيير بالقلب أو اللسان، فراجعي الفتوى رقم: 54406.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============(3/138)
تعريف المرتد وما يلحق به من أحكام
تاريخ 04 صفر 1427 / 05-03-2006
السؤال
سؤالي هو: من هو المرتد؟ وماذا يلزمه ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمرتد في اصطلاح الفقهاء هو الذي يكفر بعد إسلامه ، وسمي مرتدا لأن الردة لغة هي الرجوع عن الشيء ، فمن كفر بعد إسلامه فقد رجع عن الإسلام فهو مرتد .
ويلزم المرتد- وكل كافر- التوبة إلى الله تعالى والدخول في الإسلام من جديد، فإن تاب تاب الله عليه، قال تعالى : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ {الأنفال: 38 } فإن لم يتب فإنه يقتل لقول النبي صلى الله عليه وسلم : من بدل دينه فاقتلوه . رواه البخاري وأحمد ، وانظر الفتوى رقم : 13987 ، والفتوى رقم : 41348 ، والفتاوى المرتبطة بها .
وقد بسطت كتب الفقه الإسلامي الكلام حول المرتد وأحكام الردة والمسائل المتعلقة بها مثل مسألة استتابة المرتد وهل هي واجبة أو مستحبة ؟ وهل إمهاله ثلاثة أيام واجب أم مستحب ؟ وبم تثبت الردة وبم تقع ؟ وكيف تكون توبة المرتد ؟ وغير ذلك من المسائل ، نسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
المرتد إذا تاب وأخلص يمكن أن يكون من أهل الفردوس
تاريخ 02 ربيع الثاني 1427 / 01-05-2006
السؤال
من كفر بعد إيمانه ثم تاب إلى الله وآمن وعمل بعمل السابقين و طرق جميع أبواب الخير واتقى الله حق تقاته وجاهد في الله حق جهاده هل يمكن أن يلحق بالسابقين ويكون من أصحاب الفردوس الأعلى ,أو أنه إن غفر له فإنه يكون في المراتب الدنيا من الجنة خصوصا أن هناك بعض الآيات التي تصرح بعدم استواء من أنفق من قبل الفتح وقاتل مع من أنفق من بعد الفتح وقاتل، وحديث أن عبد الله بن رواحة كان أقل منزلة من صاحبيه لأنه تأخر في حمل الراية.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المرتد إذا تاب وعمل الصالحات تقبل توبته؛ لقول الله تعالى : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ {الأنفال : 38 } ويمكن أن يكون من أهل الفردوس الأعلى، لأن الفردوس يجازي الله تعالى بها أهل الإيمان والأعمال الصالحة بغض النظر عن كونهم سابقين أو لاحقين، ويدل لذلك قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا {الكهف :107-108 } وقوله في جزاء المؤمنين المذكورة صفاتهم في سورة المؤمنون : أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ { المؤمنون : 10-11 } ولا يعني هذا أن يلحق بالسابقين من الصحابة الذين أنفقوا لأن الفردوس نفسه مراتب ، وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 57046/ 61088/ 68191 .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
نكاح المرتدة
تاريخ 08 ربيع الثاني 1427 / 07-05-2006
السؤال
ما حكم المسلمة التي تتزوج من نصراني؟ وما الحكم إذا تنصرت؟
ما حكم الأب الذي يقبل هذا الزواج ويباركه ويفتخر به من خلال إعلانه أمام الملأ.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق حكم زواج المسلمة من غير المسلم في الفتوى رقم: 62835.
ومن ارتبطت بكافر فهي زانية، وإن سمت زناها نكاحا، لقول الله تعالى: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ {الممتحنة: 10}
وإذا تنصرت فقد ارتكبت ما هو أعظم من الزنا، وهو الردة والعياذ بالله، وسبق حكم المرتد في الفتوى رقم: 73924.
ولا يصح نكاحها في حال الردة لا من مسلم ولا من كافر، قال في أسنى المطالب: (و لا يحل) لأحد (نكاح المرتدة) لا من المسلمين ; لأنها كافرة لا تقر كالوثنية، ولا من الكفار لبقاء علقة الإسلام، فيها ولا من المرتدين ; لأن القصد من النكاح الدوام وهي ليست مبقاة انتهى
قال الزيلعي الحنفي في نصب الراية: (ولا يجوز أن يتزوج المرتد مسلمة ولا كافرة ولا مرتدة) ; لأنه مستحق للقتل والإمهال ضرورة التأمل، والنكاح يشغله عنه فلا يشرع في حقه (وكذا المرتدة لا يتزوجها مسلم ولا كافر) ; لأنها محبوسة للتأمل وخدمة الزوج تشغلها عنه، ولأنه لا ينتظم بينهما المصالح، والنكاح ما شرع لعينه بل لمصالحه. انتهى.
وأما الأب الذي يقبل هذا الزواج ويباركه ويفتخر به، فإنه قد ارتكب إثما كبيرا، من عدة وجوه:
أولها: أنه قد غش رعيته، وخان أمانته، فإن ابنته أمانة في عنقه، وهي من رعيته التي استرعاه الله إياها، والرجل راع في أهل بيته ومسؤول عن رعيته.
ثانيها: أنه قد عرض ابنته لعذاب الله وسخطه، والله قد أمره أن يقيها هذا العذاب، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً... الآية {التحريم: 6}
كما أن افتخاره بهذا الزواج دليل على ضعف إيمانه أو انعدامه، فالمسلم لا يكون فخورا أو معتزا بأن يكون نصراني زوجا لابنته.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
دفاع عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
تاريخ 10 ربيع الثاني 1427 / 09-05-2006
السؤال
لدي بعض الاستفسارات حول ما ينسب إلى أمير المؤمنين أبي حفص عمر رضي الله تعالى عنه ، أرجو الإجابة عليها للضرورة القصوى :
أولاً - ما حقيقة إلغائه رضي الله عنه لسهم من أسهم الزكاة ( المؤلفة قلوبهم ) علماً أن هذا السهم جاء بآية في كتاب الله العزيز أي هو تشريع من الله ؟(3/139)
ثانياً - ما حقيقة أنه رضي الله عنه عطل حد السرقة عندما جاءت فترة جدب وجوع علماً أنه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المسلمون يعيشون في شظف ومع ذلك حذر الله ورسوله بالآيات والأحاديث الصحيحة من التعدي على حدوده وأمر بإقامتها ؟
ثالثاً - ما حقيقة تعطيله رضي الله عنه لحد الردة ؟
رابعاً - هل ما ورد في كتاب ابن كثير وما نقله ابن القيم رحمهما الله عن العهدة العمرية هو أصح النصوص ؟
أخيراً هل يكون عمل عمر بذلك مردودا عليه وهو مجتهد ولكنه لا يلزم أحدا ولا يحتج به عند أحد من بعده باعتباره مخالفاً لنصوص صريحة ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن عمر رضي الله تعالى عنه كان على درجة كبيرة من العلم والفهم والفضل والاستقامة على الطاعة، وراجع كتب الحديث والسير فهي طافحة بذكر مآثر عمر وعلمه وحرصه على اتباع الحق، فقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر قالوا : فما أولته يا رسول الله ؟ قال : العلم ، وقد أخرج الطبراني في المعجم الكبير بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إني لأحسب عمر قد رفع معه يوم مات تسعة أعشار العلم ، وإني لأحسب علم عمر لو وضع في كفة الميزان وعلم من بعده لرجح عليه علم عمر ، وقد جاء الوحي بموافقته في كثير من اجتهاداته كما سبق ذكره في الفتوى رقم : 62984 .
واعلم أنه لا اعتبار عند السلف لقول أي مجتهد عند مخالفته لنص صريح صحيح من نصوص الوحي، فقد قال ابن القيم في الصواعق المرسلة : وقد كان السلف يشتد عليهم معارضة النصوص بأراء الرجال ولا يقرون المعارض على ذلك وكان عبد الله بن عباس يحتج في مسألة متعة الحج بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره لأصحابه بها فيقولون له : إن أبا بكر وعمر أفردا الحج ولم يتمتعا فلما أكثروا عليه ، قال : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم قال رسول الله ، وتقولون قال أبو بكر وعمر ، ولقد سئل عبد الله بن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقيل له : إن أباك نهى عنها فقال : إن أبي لم يرد ما تقولون فلما أكثروا عليه قال : أفرسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبعوا أم عمر .
وأما المسائل المذكورة فقد تكلم فيها العلماء فلم يذكروا أن أحدا من الصحابة خطأ فيها عمر ولا اتهمه بمخالفة الوحي، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن عمر رضي الله عنه إنما لم ير إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة لعدم الحاجة لتأليفهم نظرا لانتشار الإسلام وقوته ، قال في مجموع الفتاوى : وما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم شرعا معلقا بسبب إنما يكون مشروعا عند وجود السبب كإعطاء المؤلفة قلوبهم فإنه ثابت بالكتاب والسنة ، وبعض الناس ظن أن هذا نسخ لما روي عن عمر أنه ذكر أن الله أغنى عن التأليف ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، وهذا الظن غلط ، ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم فترك ذلك لعدم الحاجة إليه لا لنسخه كما لو فرض أنه عٌدم في بعض الأوقات ابن السبيل ، والغارم ونحو ذلك . أهـ .
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء من قديم، وقد رأى بعضهم سقوط المؤلفة قلوبهم من المصارف ورأى بعضهم خلاف ذلك ورأى بعضهم عدم إعطائهم زمن قوة الإسلام لعدم الحاجة لتأليفهم، فإن احتيج لذلك أعطوا من الزكاة وقد بين أقوالهم فيها ابن قدامة في المغني ، والقرطبي في التفسير، فقال ابن قدامة في شأن المؤلفة : وأحكامهم كلها باقية وبهذا قال الحسن والزهري وأبو جعفر محمد بن علي وقال الشعبي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي : انقطع سهم المؤلفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعز الله تعالى الإسلام وأغناه عن أن يتألف عليه رجال ، فلا يعطى مشرك تألفا بحال ، قالوا : وقد روي هذا عن عمر ، ولنا كتاب الله وسنة رسوله ، فإن الله تعالى سمى المؤلفة في الأصناف الذين سمى الصدقة لهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء ، وكان يعطي المؤلفة كثيرا ، في أخبار مشهورة , لم يزل كذلك حتى مات . ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ والنسخ لا يثبت بالاحتمال ثم إن النسخ إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأن النسخ إنما يكون بنص ولا يكون النص بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقراض زمن الوحي ثم إن القرآن لا ينسخ إلا بقرآن وليس في القرآن نسخ كذلك ولا في السنة ، فكيف يترك الكتاب والسنة بمجرد الآراء والتحكم ، أو بقول صحابي أو غيره على أنهم لا يرون قول الصحابي حجة يترك لها قياس فكيف يتركون به الكتاب والسنة قال الزهري لا أعلم شيئا نسخ حكم المؤلفة على أن ما ذكروه من المعنى لا خلاف بينه وبين الكتاب والسنة ، فإن الغنى عنهم لا يوجب رفع حكمهم وإنما يمنع عطيتهم حال الغنى عنهم فمتى دعت الحاجة إلى إعطائهم أعطوا فكذلك جميع الأصناف إذا عدم منهم صنف في بعض الزمان سقط حكمه في ذلك الزمن خاصة فإذا وجد عاد حكمه ، كذا هنا .(3/140)
وقال القرطبي في التفسير : واخلتف العلماء في بقائهم ( يعني المؤلفة قلوبهم ) فقال عمر والحسن والشعبي وغيرهم : انقطع هذا الصنف بعز الإسلام وظهوره ، وهذا مشهور عن مذهب مالك وأصحاب الرأي ، قال بعض علماء الحنفية : لما أعز الله الإسلام وأهله وقطع دابر الكافرين اجتمعت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في خلافة أبي بكر رضي الله عنه على سقوط سهمهم وقال جماعة من العلماء : هم باقون لأن الإمام ربما احتاج أن يستألف على الإسلام وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين قال يونس سألت الزهري عنهم فقال : لا أعلم نسخا في ذلك ، قال أبو جعفر النحاس : فعلى هذا الحكم فيهم ثابت فإن كان أحد يحتاج إلى تألفه ويخاف أن تلحق المسلمين منه آفة أو يرجى أن يحسن إسلامه بعد دفع إليه ، قال القاضي عبد الوهاب : إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقة ، وقال القاضي ابن العربي : الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا ، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم ، فإن في الصحيح : بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ .
وفي الموسوعة الفقهية : اختلف الفقهاء في صنف المؤلفة قلوبهم : فالمعتمد عند كل من المالكية والشافعية والحنابلة أن سهم المؤلفة قلوبهم باق لم يسقط ، وفي قول عند كل من المالكية والشافعية ورواية عند الحنابلة : أن سهمهم انقطع لعز الإسلام فلا يعطون الآن ، لكن إن احتيج لاستئلافهم في بعض الأوقات أعطوا ، قال ابن قدامة : لعل معنى قول أحمد : انقطع سهمهم أي لا يحتاج إليهم في الغالب أو أراد أن الأئمة لا يعطونهم اليوم شيئا فأما إن احتيج إلى إعطائهم جاز الدفع إليهم فلا يجوز الدفع إليهم إلا مع الحاجة ، وقال الحنفية : انعقد الإجماع على سقوط سهمهم من الزكاة لما ورد أن الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن جاءا يطلبان من أبي بكر أرضا فكتب لهما بذلك فمرا على عمر فرأى الكتاب فمزقه وقال : هذا شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيكموه ليتألفكم والآن قد أعز الله الإسلام واغنى عنكم فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف فرجعا إلى أبي بكر فقالا ما ندري الخليفة أنت أم عمر ؟ فقال هو إن شاء ، ووافقه ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك .
قال ابن قدامة : المؤلفة قلوبهم ضربان : كفار ومسلمون ، وهم جميعا السادة المطاعون في قومهم وعشائرهم ، ثم ذكر المسلمين منهم فجعلهم أربعة أضرب : 1 ـ سادة مطاعون في قومهم أسلموا ونيتهم ضعيفة فيعطون تثبيتا لهم ، 2 ـ قوم لهم شرف ورياسة أسلموا ويعطون لترغيب نظرائهم من الكفار ليسلموا ، 3 ـ صنف يراد بتأليفهم أن يجاهدوا من يليهم من الكفار ويحموا من يليهم من المسلمين ، 4 ـ صنف يراد بإعطائهم من الزكاة أن يجبوا الزكاة ممن لا يعطيها ، ثم ذكر ابن قدامة الكفار فجعلهم ضربين : 1 ـ من يرجى إسلامه فيعطى لتميل نفسه إلى الإسلام ، 2 ـ من يخشى شره ويرجى بعطيته كف شره وكف غيره معه . أهـ .
وأما حكم المرتد فإن عمر كان يرى أنه يستتاب ثلاثة أيام فإن لم يتب قتل، فقد أخرج الإمام مالك في الموطأ : أن رجلا قدم على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس ؟ فأخبره أن رجلا كفر بعد إسلامه قال ما فعلتم به ؟ قال : قربناه فضربنا عنقه ، قال عمر : أفلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله تعالى ثم قال عمر : اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني ، كما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ، وقد نقل البيهقي في السنن عمل عثمان وعلي في خلافتهما باستتابة المرتد ثلاثا وقتله بعد ذلك إن لم يتب .
ومن الأدلة على قتل من رجع عن الإسلام سواء كان رجلا أو امرأة ولم يتب قوله صلى الله عليه وسلم : ومن بدل دينه فاقتلوه . رواه البخاري .
ومن الأدلة على عدم قتل من تاب من المرتدين عمل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته فلم يقتل صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر من رجعوا للإسلام بعد ردتهم بل قبلوا منهم توبتهم . وللمزيد من التفصيل في الموضوع يمكن الرجوع إلى الفتوى رقم :13987 ، وراجع في مسألة السرقة والعهدة العمرية الفتاوى التالية أرقامها : 7497 ، 45881 ، 25069 .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
خطورة السماح بالتنصير في البلاد الإسلامية
تاريخ 23 ربيع الثاني 1427 / 22-05-2006
السؤال
ما حكم الشرع في السماح الرسمي لجماعات التبشير بالمسيحية بالعمل في بعض الدول الإسلامية؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه لا يشرع السماح بهذا الأمر لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان، وقد نهى الله عن ذلك، فقال: وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {المائدة:2}، وقد منع الشرع الرجوع عن الإسلام, ورتب عليه حبوط الأعمال وقتل المرتد وخلوده في النار، فقال الله تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {البقرة:217}، وفي حديث البخاري: من بدل دينه فاقتلوه.(3/141)
ومن المعلوم أن الشرع إذا حرم شيئاً حرم كل ما يوصل إليه، كما أن من المعلوم أن الرضا بكفر الكفار كفر، فدل على خطورة السماح بالتكفير والسماح لمن يشتغلون به في البلاد الإسلامية، وقد شرط عمر على أهل الذمة أن لا يحدثوا كنيسة ولا ديراً حولها ولا صومعة راهب، ولا يجددوا ما خرب من كنائسهم, وألا يظهروا عليها صليباً ولا يظهروا شركاً، وإذا منعوا من هذا فمن باب أحرى أن يمنعوا من الدعوة للشرك، وراجع في ذلك الفتاوى ذات الأرقام التالية: 7497، 17391، 34046.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
من أحكام المرتد
تاريخ 17 جمادي الأولى 1427 / 14-06-2006
السؤال
أخى الكريم رأيت رجلا يتشاجر مع زوجته والسبب أنها كانت ترفض الجماع معه على حد زعمه فطعنها في شرفها وأنكر نسب أولاده وذلك تهديدا لها على حد زعمه أيضا عندما تواجها أمام أقاربهم وقالت زوجته إن الأولاد أرادوا تهدئتة وأقسموا عليه بالله أن يهدأ فسب الدين ورب الدين ومزق المصحف وألقاه في الحمام وقال أنا يهودي فقال ذلك من باب التهديد والحقد والغل أما هي فكانت تعمل لإطعام أولادها لأنه كان يتكاسل عن العمل عندما ترفضه وهي كانت ترفضه حقا أما البنات فانضممن لأمهن وكرهن أباهن بسبب عدم عمله أما أهلهم فأرادوا صلحهم .
السؤال ما الحكم في هذه الواقعة؟ وهل يجوز الصلح بينهم والرجوع إلى بيت الزوجية ويعيشان مع بعض كزوجين طبيعيين؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد اتفق أهل العلم على
أن من سب الله تعالى أو سب الدين ، أو أهان المصحف ، فإنه مرتد كافر كفرا مخرجا من الملة، وأنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتدا، وأنه يفرق بينه وبين زوجته. وإنما اختلفوا في الفرقة هل تحصل بالردة ؟ أي فورا ، أم لا تحصل إلا إذا انقضت العدة ولم يتب . وسبق بيانه في الفتوى رقم: 25611.
كما أن من رمى زوجته بالزنا أو تبرأ من ولده إذا لم يأت بما يدفع عنه حد القذف فهو مستحق لعقوبة القذف المبينة في الفتوى رقم: 56172.
هذا من حيث الحكم الشرعي ، أما من حيث تنزيله على الواقعة المسؤل عنها ، فهذا من اختصاص القاضي الشرعي ، فلتراجع المحكمة الشرعية في ذلك
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
ساب الدين هل يفسخ نكاحه وحكم طلاقه قبل توبته
تاريخ 22 جمادي الأولى 1427 / 19-06-2006
السؤال
يقوم بعض الرجال في حالات الغضب الشديد بلفظ عبارات كفر كأن يسب الدين أو دين الحياة
أو الله (استغفر الله) ، السؤال هو : هل يفسخ عقد الزواج من زوجته ويلزمه تجديد العقد بشاهدين ومهر جديد أقله 5 آلاف ليرة سورية وذلك حسب فتوى أحد شيوخ الدين الإسلامي ، وحسب هذه الفتوى فإنه يتوجب إعادة تجديد العقد في كل مرة يتلفظ فيها الرجل أو المرأة بعبارات الكفر.
وهل إذا رمى الزوج يمين الطلاق على الزوجة في حالة غضب وكان قد تلفظ سابقاً بالكفر قبل رمي اليمين بفترة تتجاوز الشهر وهو لا يعلم بأن الكفر يلزمه تجديد العقد فهل يمين الطلاق يكون غير صحيح لأن العقد أصلاً مفسوخ أم يعتبر طلاقاً ويتم عليه الإجراء اللازم؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد اتفق أهل العلم على أن سب الله تعالى أو سب الدين ردة، ومن أحكام الردة: التفريق بين المرتد وزوجته، واختلف العلماء في نوع الفرقة هل هي فسخ أم طلاق بائن، وسبق بيانه في الفتوى رقم: 25611.
وعند من يقول أنها فسخ وهم الجمهور، هل يحصل الفسخ بالردة ؟ أي فور حصول الردة أم لا يحصل إلا إذا انقضت العدة ولم يتب. قولان سبقا في الفتوى المحال عليها سابقا.
و على كل حال فبعد حصول البينونة إما بالردة نفسها على قول، أو بانقضاء العدة دون توبة على القول الآخر، فيلزم الزوج إذا أراد إرجاع الزوجة، عقد جديد ومهر جديد، ويلزمه ذلك كل ما وقعت البينونة المذكورة، وليس لتحديده بالمبلغ المذكور دليل نعلمه، وعلى القول بأن الفسخ بسبب الردة طلاق تحرم الزوجة بعد ثلاث منه ولا تجوز له أن يتزوجها مرة أخرى حتى تنكح زوجا غيره.
وإذا طلق الزوج الزوجة بعد انقضاء العدة وقبل التوبة، فلا يقع عليها الطلاق، ولا يلزمه شيء في ذلك، لأنها بائنة منه، والبائنة لا يلحقها الطلاق. أما طلاقها وهي لا تزال في العدة، ففيه الخلاف السابق، فعلى القول بأنها تبين من حين الردة، فلا يلحقها الطلاق، وعلى القول الآخر يقع عليها الطلاق.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
غسل المرتد وهل يجزئه عن غسل الجنابة
تاريخ 13 رجب 1427 / 08-08-2006
السؤال
أنا شاب محافظ على الصلاة، ولكن سببت الدين، وأعلم أن من سب الدين فقد كفر، فاغتسلت بماء البحر (غمست كامل جسدي في الماء مع المضمضة والاستنشاق) بنية الدخول في الإسلام من جديد ورفع الحدث الأصغر والحدث الأكبر واستباحة الصلاة، ولكن في اليوم التالي تذكرت بأنني عندما اغتسلت لست على جنابة، فهل غسلي هذا صحيح حيث نويت رفع الجنابة أيضا (حيث إنني لست على جنابة)، سؤال آخر بارك الله فيكم وهو: عند دخول الكافر في الإسلام وهو على جنابة، هل يصح غسل واحد بنية الدخول في الإسلام ورفع الجنابة، وإذا احتاج الأمر إلى غسلين بأي غسل تكون البداية الغسل بنية الدخول في الإسلام أولاً ثم الغسل الثاني بنية رفع الجنابة أم العكس؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(3/142)
فقد أجمع أهل العلم على أن سب الدين كفر بالله عز وجل، فإذا وقع من مسلم فقد ارتد عن الإسلام عياذاً بالله من ذلك، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ* لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ {التوبة:65-66}، وقد نزلت في أناس لم يعلنوا بسب الدين صراحة، لكنهم طعنوا في حملته ونقلته فقالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء.
فكيف بمن تجرأ وسب الدين رأساً وعلى من وقع في ذلك أن يغتسل ويشهد الشهادتين ويتوب إلى الله تعالى، وأن يكثر من الاستغفار والعمل الصالح، وأن يعلم أن باب التوبة مفتوح أمام العبد من جميع الذنوب كبيرها وصغيرها، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا* إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا {الفرقان:68-69-70}.
واختلف أهل العلم في وجوب اغتسال الكافر والمرتد إذا أسلم، فقد أوجبه بعضهم وقيد بعضهم الوجوب بما إذا كان قد حصل منه موجب للاغتسال كالجنابة والحيض والنفاس، فقد ذهب المالكية في قول عندهم والحنابلة إلى وجوب الغسل على الكافر الأصلي، والمرتد إذا أسلم، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن ثمامة بن أثال رضي الله عنه أسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل. متفق عليه.
وعن قيس بن عاصم: أنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر. رواه النسائي وغيره بإسناد صحيح. وروى ابن هشام في السيرة، والطبري في تاريخه: أن سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، حين أرادا الإسلام، سألا مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة، كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟ قالا: نغتسل، ونشهد شهادة الحق. وذهب الحنفية والشافعية إلى استحبابه لا وجوبه، لعدم استفاضة النقل بالأمر به مع كثرة الداخلين في الإسلام، والراجح القول الأول.
وإذا اغتسل المرتد كفاه غسله عن الجنابة لما في القاعدة الفقهية أن ما تعدد سببه واتحد موجبه كفى فيه الإتيان بموجب واحد.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
هل يقبل الله توبة المرتد
تاريخ 21 رجب 1427 / 16-08-2006
السؤال
أريد أن أسألكم يا شيخ عن ما يلي وأرجو أن يتسع صدرك لي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله وعد بالجنة الذين لم يظلموا أنفسهم بشق ظلم وقصد بذلك الذين لم يشركوا . فهل يا شيخ هذا يعني أن الله لم يتعهد بأن يدخل الجنة المسلمين الذين وقعوا في الشرك الأكبر وتابوا منه أو ارتدوا عن الاسلام وتابوا ؟
وجزاكم الله خيرا .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(3/143)
فإن دخول المرتد النار وخلوده فيها مقيد بموته على الردة لقوله سبحانه وتعالى : وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {البقرة: 217 }, وأما من تاب من الردة فإن الله يغفر له ويدخله الجنة كما يدخل المؤمنين كلهم ويدل لغفران ما حصل له من الارتداد قوله تعالى : كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {آل عمران: 86 ـ 89 }, وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية أنها نزلت فيمن ارتد ثم رجع للإيمان فقبل الله توبته وغفر له. قال ابن كثير في التفسير : قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع البصري، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس قال : كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا لي رسول الله هل لي من توبة ؟ فنزل قوله تعالى : كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {آل عمران: 86 ـ 89 } فأرسل إليه قومه فأسلم. وهكذا رواه النسائي والحاكم وابن حبان من طريق داود بن أبي هند به ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال عبد الرزاق : أنبأنا جعفر بن سليمان حدثنا حدثنا حميد الأعرج عن مجاهد قال : جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه : كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . قال : فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث : إنك والله ما علمت لصدوق, وإن رسول الله لأصدق منك, وإن الله لأصدق الثلاثة ، قال : فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه ، فقوله تعالى : كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ : أي قامت عليهم الحجج والبراهين على صدق ما جاءهم به الرسول ووضح لهم الأمر ثم ارتدوا إلى ظلمة الشرك فكيف يستحق هؤلاء الهداية بعدما تلبسوا به من العماية ، ولهذا قال تعالى : وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، ثم قال تعالى : أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ : أي يلعنهم الله ويلعنهم خلقه ، خَالِدِينَ فِيهَا : أي في اللعنة ، لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ : أي لا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف عنهم ساعة واحدة ثم قال تعالى : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ : وهذا من لطفه وبره ورأفته ورحمته وعائدته على خلقه أن من تاب إليه تاب عليه. اهـ .
وراجع الفتوى رقم : 37185 ، هذا وننبه إلى أنا لم نطلع بعد البحث على حديث بهذا اللفظ المذكور في السؤال ، وراجع حديثا في الموضوع في الفتوى رقم : 68100 .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الزواج من الكتابية وممن تنتمي إلى فرقة منحرفة
تاريخ 03 شعبان 1427 / 28-08-2006
السؤال
قرأت في موقعكم عن الزواج من النساء اللاتي ينتمين إلى فرق إسلامية منحرفة ، وما فهمته أنه يجب أن تكون المرأة حقا مسلمة لصحة الزواج. أليس الزواج بالنساء المنتميات إلى هذه الفرق مثلا أولى من النصرانية لأنها أقرب للإسلام من النصرانية أو اليهودية ؟ وهل يبقى الزواج صحيحا إذا لم تخبر أهلها أنك تتبع المذهب السني؟
هذا، وجزاكم الله خيرا .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أما بعد(3/144)
فقد سبق التفريق بين نوعين من البدع كما في الفتوى رقم : 1449 ، وأن هناك بدعا مكفرة من اعتقد شيئا منها اعتبر كافرا مرتدا، ولا يجوز الزواج به مع استصحاب أصل مقرر عند العلماء في مسألة التكفير، وهو أن تكفير الشخص المعين لا بد فيه من تحقق شروط وانتفاء موانع. وأما النوع الثاني : فبدع غير مكفرة يجوز الزواج بصاحبها لأنه من جملة المسلمين ، وأما لماذا لا يصح الزواج من المرتد ويجوز الزواج بالكتابية الكافرة أصلا فالجواب هو : أن المرتد أشد من الكتابي لأنه لا ملة له ولا يقر على دين انتقل إليه حتى ولو كان دين أهل الكتاب ، ويفرق بينه وبين الكتابي في أحكام كثيرة منها هذا الحكم, ومنها: أنه لا تحل ذبيحته، ويقتل بعد استتابته .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
المعاصي هل تخرج الزوجة من العصمة
تاريخ 13 شعبان 1427 / 07-09-2006
السؤال
المسألة باختصار شديد أنني كلما فعلت ذنباً أظل أعظمه وألوم نفسي، ولكنه اللوم غير النافع، وهو اللوم الذي يقول لي أنت فعلت كذا وهذا يعتبر عياذاً بالله كفراً، وبالتالي يترتب على ذلك أحكام مع زوجتك فأظل أنطق الشهادتين وأغتسل أيضاً، وما حدث لي وأود السؤال عنه هو أنه حدث مني ذنب فحدث لي ما حدث مما شرحت لكم حتى أنني عندما رجعت إلى بيتي سمعت أحد المشايخ في المذياع يشرح تفسيرا لآيات تتحدث عياذاً بالله عن الكفار والعصاة الذين لا يفقهون، وجاء في نفسي أنني كذلك نظراً لكثرة ذنوبي فاستعذت بالله من أن أكون كذلك وأحسست بأن قدمي تتثاقل أي تضغط على الأرض وأخشى أن أكون قد وقعت في كفر عياذاً بالله، وأنا الآن أفكر وقلق جداً، وما حال زوجتي وتكرار هذه الأشياء معي كثيراً جداً، وإن قلنا أنها وسوسة (فإني أشعر أنها ليست وسوسة في هذه المرة)، فأرجو إفادتي بالرد علي سريعاً، وهل هناك حكم يتعلق (بزوجتي معي)، فأرجو أن لا تهملوا سؤالي؟
ملاحظة: أنا كنت قد أرسلت للاستشارات الطبية وقد أخبروني من قبل أنني مريض بالوسواس القهري (يأتي في ذهني أنني أعيش مع زوجتي عياذاً بالله في الحرام)، سامحوني على الإطالة لا أجد من لديه الصبر على سماعي وإفادتي لانشغال العلماء. وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنك لم تذكر لنا الأمور التي قلت إنك وقعت فيها حتى نتبين ما إذا كانت مما نهى الشرع عنه أم لا، وعلى أية حال، فاعلم أن جميع الناس يصيبون ويخطئون، ويحسنون ويسيئون، ويذنبون ويتوبون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون. رواه أحمد والترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم. رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
لكن يجب أن لا يتخذ بعض الناس ذلك مبرراً للمعصية ومخالفة أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل المطلوب من المذنب أن يتوب، ومن المسيء أن يحسن، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ {التحريم:8}، وقال تعالى: وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ {هود:90}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن. رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
كما حذرنا الله سبحانه من القنوط واليأس من رحمته، فقال: وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {يوسف:87}، وقال محبباً إلينا التوبة ومرغباً فيها ومحذراً من اليأس والقنوط: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53}، فاترك عنك الوساوس فإنها من كيد الشيطان، وتأمل ما ورد في هذه الآيات والأحاديث من سعة رحمة الله وتوبته على عباده، واعلم أنه ليست كل الذنوب تخرج صاحبها من الإسلام، إلا إذا ارتكب ذنباً مكفراً وليست كل الذنوب مكفرة وإن كانت كبائر، وارتكاب الذنوب لا يخرج زوجة المذنب من عصمته ولا تحرمها عليه ما لم تكن ردة عن الإسلام، وقد سبقت أحكام زوجة المرتد عن الإسلام في الفتوى رقم: 25611، وللمزيد من الفائدة تراجع الفتوى رقم: 12300، والفتوى رقم: 187.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الإسلام هو الدين المقبول عند الله
تاريخ 18 رمضان 1427 / 11-10-2006
السؤال
يقولون إن الإسلام لا يعترف بالأديان الأخرى - ما رأيكم في هذا ؟ وإذا كان الإسلام ليس به إكراه في الدين فكيف يقتل المرتد ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنا لا نعلم من الذين تعنيهم بـ (يقولون) وهل يحق لأحد القول في هذا بعد قول الله تعالى : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {آل عمران: 85 } وبعد قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ {آل عمران: 19 }، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار . رواه مسلم .(3/145)
وراجع للمزيد في الموضوع، وفي موضوع المرتد والتوفيق بين قتله وعدم الإكراه في الدين الفتاوى التالية أرقامها : 72232 ، 65031 ، 59239 ،49073 ، 33562 ، 13987 ، 39237 ، 14927 ، 57035 ، 60321 .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
حكم الاستهزاء بأحكام الدين
تاريخ 21 شوال 1427 / 13-11-2006
السؤال
ماذا يفعل من تكلم مازحا بكلام وبعد الانتهاء منه انبته لنفسه بأن هذا الكلام فيه استهزاء بحكم من أحكام الإسلام؟ مع العلم أني عندما انتهيت من الكلام لم أعرف أكان في نيتي الاستهزاء أم لا؟ هل أنطق بالشهادتين وأغتسل حيث إن الاستهزاء بالإسلام كفر أم ماذا أفعل؟ أرجو عدم إحالتي لأسئلة سابقة فقد سألت قبل ذلك سؤالا خاصا بهل الدخول في الاسلام لمن فعل مكفرا يوجب الغسل أم لا وتم إحالتي لأسئلة سابقة ووجدت أن أحد الأسئلة كانت إجابته توجب الغسل للمرتد، والسؤال الآخر كانت الإجابة بعدم وجوب الغسل للمرتد ؟
أفيدوني جزاكم الله خيرا .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن السائلة لم تذكر لنا كلامها حتى نعلم هل هو مما يكفر به أم لا؟ والاستهزاء بأحكام الدين يكفر به من وقع منه عامدا؛ لقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ {التوبة: 65 ـ 66 } قال ابن قدامة في المغني: ومن سب الله تعالى كفر سواء كان مازحا أو جادا، وكذلك من استهزأ بالله تعالى أو بآياته أو برسله أو كتبه ... اهـ .
هذا.. وننبه إلى أن من دخل في الإسلام بيقين لا يخرج منه إلا بيقين، فعلى العبد أن يخاف من الوقوع في الشرك وأن يبتعد عنه أشد البعد، ولكن لا ينبغي أن يكون موسوسا كلما حصل منه شيء اتهم نفسه بالكفر، وأما غسل المرتد ففيه خلاف بين العلماء قديما، والفتاوى نقلت خلافهم، وراجعي للمزيد فيما ذكرنا الفتاوى التالية أرقامها : 42714 ، 26193 ، 721 .
ولله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
===========
ترك الزوج المرتد ووقت انتهاء العدة
تاريخ 23 محرم 1428 / 11-02-2007
السؤال
امرأة تزوجت من رجل مسلم حسب الظاهر وأهله مسلمون، وسافرت معه إلى الولايات المتحدة، وتفاجئت أن هذا الرجل يذهب إلى الكنيسة ليصلي مع النصارى ولما سألته تبرأ من الإسلام وقال إنه لا يريد أن يكون أولاده مسلمين، فقامت هذه المرأة بتركه والرجوع إلى بلدها، علما بأنها كانت حاملا منه في الأشهر الأولى فأجهضت!! السؤال: هل عدتها تكون انتهت بالإجهاض قياسا على وضع الحمل، علما بأنها أُخبرت بأنها أخطأت بإجهاض الحمل وأنها آثمة بذلك، أفيدونا؟ جزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أصابت هذه المرأة في تركها لهذا الرجل الذي ظهر ارتداده عن الإسلام أو أنه غير مسلم أصلاً والعياذ بالله تعالى، وقد ذكرنا في الفتوى رقم: 23647 تفصيل أقوال أهل العلم في مسألة ما يترتب على ردة الزوج.
أما ما تنتهي به عدتها من هذا الرجل فقد بيناه أيضاً في الفتوى رقم: 75440.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
حكم الإسلام فيمن يسرقون المصلين في المساجد
تاريخ 01 ربيع الأول 1428 / 20-03-2007
السؤال
سؤالي هو عن أولئك المسلمين الذين يسرقون الناس في المساجد يوم الجمعة فرغم سعادتي بهجرتي إلى بلد مسلم وبأني قد أصبحت قادرا على الصلاة في أي مسجد أريد إلا أنني قد رأيت أناسا أغلبهم من الشباب المسلمين يسرقون الناس في المسجد يوم الجمعة أثناء الخطبة ، كما أنهم يسرقون الناس في صلاة الفجر ، بل يجبروننا على تسليم أي نقود في حوزتنا ، إن ردود أفعالي وتصوراتي حاضرة إذا كان من يفعل تلك التصرفات ضد المسلمين مشركا أو كافرا ، فهل ما زال هؤلاء الفتية يعتبرون مسلمين رغم أفعالهم الشنيعة ضد أبناء دينهم ؟ علما بأن بعض كبار السن أصبحوا يخشون من الذهاب إلى المساجد في صلاة الفجر بسبب هؤلاء الفتية ، أرجو نصيحتكم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن ما ذكره الأخ السائل شيء يُحزنُ القلب لاشتماله على عدة محاذير منها : السرقة ، وما يترتب عليها من ترك الناس الصلاة في المساجد خوفاً على أنفسهم وأموالهم ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وقد سبق أن بينا حرمة السرقة وعقوبة السارق في الإسلام في الفتوى رقم: 89476 ، والفتوى رقم : 86096 .
ويجب على ولاة الأمور أن يتقوا الله تعالى ويأخذوا على أيدي أولئك اللصوص ويزجروهم عن الإجرام الذي يمارسونه في حق الناس.
وأما هل يعتبر أولئك السراق مسلمين فجوابه أن من استحل السرقة فهو كافر لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة وهو حرمة السرقة .
وأما من سرق وهو عالم بحرمة السرقة فهو وإن كان ظالماً فاسقاً مرتكباً لكبيرة من كبائر الذنوب إلا أنه لا يكفر بذلك لأن السرقة لا تصل بصاحبها إلى حد الكفر ولذا كانت عقوبة السارق قطع اليد بينما كانت عقوبة المرتد هي القتل ولكن كل من الحكمين لا ينفذه إلا الإمام العام أو من ينوب مكانه بتفويض منه هو ، وإنما لم يترك ذلك لأفراد الناس لما ينجر عنه من فوضى ولأنه لا بد عند تطبيق الحدود من توفر شروط وانتفاء موانع، ولا يتأتى الاطلاع على ذلك إلا للقضاة المختصين.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
بينونة الزوجة من الزوج الساب للدين والرب
تاريخ 22 ربيع الأول 1428 / 10-04-2007
السؤال(3/146)
كان زوجي كلما يغضب يسب الدين والرب, وقد بلغنا أن الزوج الذي يكفر يعتبر مرتدا وبذلك تطلق زوجته منه، وعندما علم بذلك تراجع عن هذا العمل فقليلا جداً ما يفعل ذلك ويقول إنه لم يتعمد السب، فهل فعلا تطلق زوجته منه، علما بأن زوجي يصلي ومثابر على القيام بكل صلاة ويصوم رمضان ويبر والديه؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد اتفق أهل العلم على أن سب الله تعالى أو سب الدين ردة، ومن أحكام الردة: التفريق بين المرتد وزوجته، واختلف العلماء في نوع الفرقة هل هي فسخ أم طلاق بائن، وسبق بيان كل ذلك في الفتوى رقم: 25611 وفي فتاوى أخرى.
وعند من يقول إنها فسخ وهم الجمهور، هل يحصل الفسخ بالردة؟ أي فور حصول الردة أم لا يحصل إلا إذا انقضت العدة ولم يتب؟ قولان سبقا في الفتوى المحال عليها سابقاً، كما سبق في نفس الفتوى أيضاً أن الراجح من القولين هو مذهب المالكية القائلين بأن الفرقة التي تحصل بموجب الردة تكون طلاقاً بائناً.
وبناء على جميع ذلك نقول لك أولاً: إن الردة أمرها عظيم وضررها كبير على المرء، فقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أنها محبطة للعمل بمجرد حصولها، لما تضافر من الأدلة على ذلك، فقد قال الله تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {المائدة:5}، وقال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {الزمر:65}، وإذا ثبت هذا فليس من شك في أنه أشد من بينونة الزوجة، ثم إنك قد علمت مما ذكرناه وأحلنا عليه أن الراجح في الموضوع الذي سألت عنه هو بينونتك من زوجك بمجرد حصول أول ردة منه، والواجب على المسلم هو العمل بالراجح ولو كان القائلون بغيره أكثر عدداً من القائلين به.
وبناء على أنك لم تذكري أنك وزوجك قد جددتما عقداً بعد ما كان يحصل منه من ردة، فالذي نراه -إذاً- هو أن المعتد به من الطلاق بينكما هو طلقة واحدة، وكل ما جاء بعدها كان في حال بينونتك فليس واقعاً -إذاً- ويلتمس لكما العذر فيما كان يحصل من المعاشرة الزوجية بينكما بجهل هذه الأحكام، وبأقوال أهل العلم الآخرين، ولكن عليكما الآن أن تجددا عقدا مستوفياً الشروط وأن يكف زوجك عن سب الدين والرب.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
================
أحكام من سب الله ورسوله وهو غضبان
تاريخ 18 جمادي الثانية 1428 / 04-07-2007
السؤال
ما حكم من سب الله ورسوله في لحظة غضب، وهل يعتبر الغضب مذهباً للعقل أو منقصاً منه، وهل هذا الشخص يخرج من الملة وتحرم عليه زوجته؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن سب الله ورسوله خرج من الملة ولو كان في لحظة غضب ما لم يفقده الغضب عقله، وإذا حكم بردته فإنه يحال بينه وبين زوجته فوراً وينفسخ النكاح بمجرد ثبوتها على الراجح من أقوال أهل العلم.. وإليك تفصيل ذلك:
فسب الله تعالى وسب رسوله صلى الله عليه وسلم كفر أكبر مخرج من الملة، والساب يكفر بذلك ولا يعذر بجهل ولا بغضب؛ إلا أن يصل الغضب إلى مرحلة فقدان العقل فيتكلم بما لا يعقل كالمجنون، وإذا لم يصل إلى هذه الحالة فإن الساب يكفر والعياذ بالله، وانظر تفصيل هذا الكلام في الفتوى رقم: 33915، والفتوى رقم: 48551، والفتوى رقم: 16362.
وأما زوجته فقد أجمع العلماء على أن المرتد يحال بينه وبين زوجته المسلمة، جاء في الموسوعة الفقهية: اتفق الفقهاء على أنه إذا ارتد أحد الزوجين حيل بينهما، فلا يقربها بخلوة ولا جماع ولا نحوهما. انتهى.
ثم اختلفوا بعد ذلك في انفساخ العقد فوراً أو بانقضاء العدة، وقد بينا أقوالهم في فتاوى سابقة، فراجعها في الفتوى رقم: 94633.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
حكم اغتسال المرتد إذا تاب
تاريخ 23 ربيع الأول 1428 / 11-04-2007
السؤال
شخص سب الدين وسأل شيخا في الأزهر قال له الشيخ تشهد وتب أما الغسل فسنة قال الشخص لو فعلت هذا الذنب مرة اخرى سأغتسل.
هل أصبح الغسل فرضا عليه فى حالة لو فعل الذنب مرة أخرى؟
علما بأن الشيطان يأتيه فى الغسل مما يضطره إلى إعادة الغسل أكثر من مرة.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن اغتسال المرتد سنة عند الأحناف والشافعية، وأوجبه الحنابلة والمالكية في قول عندهم. وأما قول الرجل سأغتسل فلا يوجب عليه شيئا. وعلى هذا الرجل أن يكثر الاستعاذة من الشيطان دائما، ويعمر وقته بما يشغل طاقته وذهنه عن نزغات الشيطان من تعلم علم نافع أو تكسب أو مجالسة للأصدقاء الملتزمين.
وراجع في خطورة سب الدين، وفي غسل المرتد الفتاوى التالية أرقامها: 33821، 68313، 76313، 76190، 75332،71499، 65659، 21254.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
حكم ولد المرتد
تاريخ 11 رجب 1428 / 26-07-2007
السؤال
إذا ارتد مسلم عن الإسلام وولد له ولد فهل ولده يعتبر مرتدا؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذا كان الرجل مسلماً وولد له ولد من زوجته المسلمة ثم ارتد بعد ذلك فهذا الولد يحكم بإسلامه ويتبع أمه على الراجح، وإن كانت أمة كافرة فيحكم بكفره في الأحكام الدنيوية، أما في الآخرة فالمسألة محل خلاف طويل بين أهل العلم، وإليك التفصيل...(3/147)
قال ابن قدامة في المغني: ولا يصلى على أطفال المشركين، لأن لهم حكم آبائهم، إلا من حكمنا بإسلامه، مثل أن يسلم أحد أبويه، أو يموت، أو يسبى منفرداً من أبويه، أو من أحدهما، فإنه يصلى عليه، قال أبو ثور من سبي مع أحد أبويه، لا يصلى عليه، حتى يختار الإسلام، ولنا أنه محكوم له بالإسلام، أشبه ما لو سبي منفرداً منهما. انتهى.
وفي نيل الأوطار للشوكاني: والحاصل أن مسألة أطفال الكفار باعتبار أمر الآخرة من المعارك الشديدة لاختلاف الأحاديث فيها ولها ذيول مطولة لا يتسع لها المقام، وفي الوقف عن الجزم بأحد الأمرين سلامة من الوقوع في مضيق لم تدع إليه حاجة ولا ألجأت إليه ضرورة، وأما باعتبار أحكام الدنيا، فقد ثبت في صحيح البخاري في باب أهل الدار من كتاب الجهاد: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين هل يقتلون مع آبائهم؟ فقال: هم منهم. قال في الفتح: أي في الحكم في تلك الحالة، وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز.
وفي فتاوى الرملي الشافعي: فالصحيح أن أطفال المشركين محكوم بإسلامهم في الأحكام الأخروية وبكفرهم في الأحكام الدنيوية. انتهى.
وفي مطالب أولي النهى ممزوجاً بغاية المنتهى الحنبلي: أطفال المشركين ) في النار نصا (ومن بلغ منهم مجنوناً معهم في النار) تبعاً لهم، ويحكم بإسلامه تبعاً لأبويه أو أحدهما وبموتهما أو أحدهما بدارنا، بخلاف من بلغ عاقلاً ثم جن، ويقسم للطفل أو المميز الميراث من أبيه الكافر أو أمه، لأنه كافر وقت الموت. انتهى.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
طلاق المرتد
تاريخ 23 ربيع الأول 1428 / 11-04-2007
السؤال
ما حكم من ارتكب جميع المعاصي قبل عشرين عاماً، وكان ملحداً (لا يؤمن بالله وحلف بالطلاق كثيراً)، وهو في ثورة الغضب ويراجع زوجته مباشرة ويقول لم أقصد، وبعد سنين عاد إلى الله وتذكر جميع معاصيه بما فيها حلف يمين الطلاق، فهل يعتبر الطلاق واقعا، وماذا يفعل بزوجته وأولاده؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن وصف بأنه ملحد لا يؤمن بالله -أجارنا الله من حاله- إن كان تم عقد زواجه وهو ملحد فالعقد باطل، لعدم صحة نكاح الكافر من المسلمة، وإن كان تم في حال الإسلام ثم ارتد، فيعتبر ما وقع منه من ألفاظ في فترة ما قبل الردة من عدد الطلقات، وأما بعد الردة فيفرق بين ما إذا تاب في العدة ورجع إلى الإسلام، وبين ما إذا لم يتب حتى انتهت العدة.
فإن تاب ورجع إلى الإسلام قبل انتهاء العدة، فإنه يعتبر طلاقه في فترة العدة، وإن لم يرجع إلى الإسلام حتى انتهت العدة، اعتبر عقد النكاح مفسوخاً، ولم يقع عليه الطلاق في العدة، قال الشافعي -رحمه الله- في الأم: ولو ارتد الزوج فطلقها في حال ردته... وقف.. فإن رجع إلى الإسلام وهي في العدة وقع ذلك كله عليها... وإن لم يرجع حتى تمضي عدتها أو تموت لم يقع شيء من ذلك عليها. انتهى.
وقال في كشاف القناع من الحنابلة: (وطلاق مرتد بعد الدخول) موقوف فإن (أسلم في العدة تبينا وقوعه وإن عجل الفرقة) بأن لم يسلم حتى انقضت العدة أو ارتد قبل الدخول (فـ) طلاقه (باطل) لانفساخ النكاح قبله باختلاف الدين. انتهى.
وما تحصل من أبناء بعد ارتداد الزوج وقبل توبته، فإنهم يلحقون به نظراً لوجود الشبهة.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=================
شروط توبة المرتد
تاريخ 28 ربيع الأول 1428 / 16-04-2007
السؤال
أنا شاب أحب ديني ولكن في الآونة الأخيرة أصبحت عندما أقول أي كلمة أذكر بعدها كلمة الله أو الدين أو ما شابه أقول في نفسي ربما أكون قد قلت كلمة كفر وأحاول التوبة والرجوع إلى الإسلام، ولكني لا أستطيع الندم عل ما فعلته مع أنني أحاول، فسؤالي هو: هل التوبة شرط من شروط الدخول في الإسلام للمرتد، وماذا أفعل إن لم أستطع أن أتوب؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن كان السائل يعني أنه يتلفظ بكلمة كفر، كسب الله تعالى أو سب دينه ونحو ذلك.. فإن من تلفظ بكلمة كفر عالماً مختاراً فإنه يكفر بذلك والعياذ بالله، وانظر في ذلك الفتوى رقم: 72201 في بيان المرتد.
وأما هل التوبة شرط من شروط الدخول في الإسلام للمرتد... إلخ، فجوابه أنه قد نص أهل العلم على أن توبة المرتد تكون بإسلامه، فإذا نطق بالشهادتين فقد دخل في الإسلام؛ إلا أن تكون ردته بسبب جحد فرض ونحوه فإن توبته حينئذ تكون بالنطق بالشهادتين مع إقراره بالمجحود به، قال في زاد المستقنع: وتوبة المرتد وكل كافر إسلامه، بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن كفر بجحد فرض ونحوه فتوبته مع الشهادتين إقراره بالمجحود به، أو قول: أنا بريء من كل دين يخالف دين الإسلام. انتهى.
ولا يمكن أن تكون هذه التوبة صحيحة إذا كان المرتد مصراً على عمله الذي كفر به أو كان عازماً على العودة إليه أو لم يندم على فعله؛ لأن عدم ندمه دليل على رضاه به، فلا بد إذاً من توبة المرتد كي تكون صحيحة مقبولة عند الله تعالى من توافر شروط التوبة فيها من الإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم العودة إليه، والندم عليه.(3/148)
وعلى من وقع في الكفر أن يتوب إلى الله تعالى، ولا يقول: لا أستطيع أن أتوب، فإن التوبة أمر الله تعالى بها ومكن عباده منها وهي يسيرة لمن أرادها، ولا ينبغي للإنسان أن يغلق في وجه نفسه باب التوبة ويفتح عليها باب القنوط، فإن القنوط من رحمة الله تعالى دليل على الجهل بالله وبواسع رحمته، وباب التوبة مفتوح، والله يحب التوابين ويقبل عثرتهم، كما أن توهم عدم المقدرة على التوبة وسوسة من وساوس الشيطان ليحول بها بين العبد وبين التوبة.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
هل يعود إلى الإسلام المرتد إذا صلى ونطق بالشهادتين في التشهد
تاريخ 21 رجب 1428 / 05-08-2007
السؤال
سؤالي هو: المسلم الذي يخرج من الإسلام بسبب ارتكابه مكفرا (كسب الذات الإلهية)، فهل يعتبر أنه عاد إلى الإسلام بنطقه للشهادتين في الصلاة (في التشهد) دون أن يقصد أنه يريد بها أن يعود للإسلام، أم أن عليه أن ينطق الشهادتين بنية العودة للإسلام من جديد؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فسب الذات الإلهية معصية شنيعة مخرجة لمرتكبها من الإسلام، كما تقدم في الفتوى رقم: 8927.
وإذا قام المرتد بأداء الصلاة حكم بإسلامه ولو لم يكن نطقه بالشهادتين أثناء التشهد بقصد العودة للإسلام، ففي أسنى المطالب ممزوجاً بروض الطالب الشافعي: ولو صلى حربي) المراد كافر أصلي، ولو ( في دارهم لم يحكم بإسلامه) بخلاف المرتد، لأن علقة الإسلام باقية فيه والعود أهون من الابتداء فسومح فيه (إلا إن سمع تشهده) في الصلاة فيحكم بإسلامه، واعترض بأن إسلامه حينئذ باللفظ، والكلام في خصوص الصلاة الدالة بالقرينة ويجاب بأن فائدة ذلك دفع إيهام أنه لا اثر للشهادة فيها لاحتمال الحكاية. انتهى.
وفي الإنصاف للمرداوي الحنبلي: قوله (وإذا صلى الكافر حكم بإسلامه) هذا المذهب مطلقاً، نص عليه. وعليه الأصحاب. وجزم به كثير منهم، وهو من مفردات المذهب. وذكر أبو محمد التميمي في شرح الإرشاد: إن صلى جماعة حكم بإسلامه، لا إن صلى منفرداً، وقاله في الفائق: وهل الحكم للصلاة. أو لتضمنها الشهادة؟ فيه وجهان. ذكرهما ابن الزاغوني. انتهى.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
================
بيان الردة وأحكامها
يجبُ على كُلِّ مسلمٍ حِفْظُ إسلامِه وصونُه عَمَّا يُفْسِدُهُ ويُبْطِلُهُ ويَقْطَعُهُ وهُوَ الرِّدَّةُ والعياذُ باللهِ تَعَالَى
الشرح: أن كلَّ مسلمٍ مأمورٌ بأن يحفَظَ إسلامَهُ مِنَ الردة. والردة هى الكفر بعد الإسلام، وهى تَقطَعُ الإسلامَ وتبطِلُهُ، أى بمجرد حصول الردةِ لا يبقى الشخصُ مسلِمَاً بل يصيرُ فوراً كافراً ولو كان أبواه مسلمَيْنِ.
قالَ النَّوَوِىُّ وغيرُهُ: الّرِدَّةُ أفحَشُ أنواعِ الكفر
الشرح: أنَّ أفحشَ أنواعِ الكفر هو أن يكفُرَ الإنسانُ بعد أن كان مسلماً، لذلك المرتدُ أخَسُّ حالاً من الكافرِ الأصلىّ. فلو كان مَثَلاً بين المسلمين وبين كفارٍ أصليين حربٌ ثم وَقَعَ صُلْحٌ بين الفريقين بشروطِهِ الشرعية، حَرُمَ عند ذلك على هؤلاء المسلمينَ دِمَاءُ هؤلاء الكفار. أما المرتدُّ إذا لَم يَرجع إلى الإسلام فدمُه مَهْدُور، يعنى يجبُ على الخليفة أن يَقتُلَهُ إذا لم يرجع إلى الإسلام. فحالُ المرتد أخسُّ من حال الكافر الأصلى. نسألُ الله أن يحفَظَنَا من الردة.
وقد كَثُرَ فى هذا الزمانِ التساهلُ فى الكلام حتى إنه يخرج من بعضهم ألفاظٌ تُخرِجُهم عن الإسلام ولا يرَون ذلك ذنباً فضلاً عن كونه كفراً
الشرح: أن هذا أمر مشاهَد، فكثير من الناس يتكلمونَ بالكفر بسهولة كأنَّهم يشربون الماء. فى الأزمان الماضية كان لو تَلَفَّظَ إنسانٌ باللفظِ الكُفْرِىّ علانيةً يحصُلُ من ذلك أمر عظيم. وأما فى أيامِنَا فَيُشْتَمُ اللهُ عزَّ وجلّ علانيةً فى مواضعَ كثيرةٍ جداً ومن أناس كثيرين يَدَّعُونَ الإِسْلام، وقليلٌ مَنْ يَنْصَحُ هؤلاءِ وينهاهُم عمّا يقولون. هذا وكثيرٌ منهم لا يعتقدون أن ما قالُوه كفرٌ يخرجُهُم من الإسلام، وهو حقيقةً مُخْرِجٌ لهم من الدين.
وذلك مصداقُ قولِهِ صلى الله عليه وسلم : "إنَّ العبدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بأساً يهوِى بها فِى النار سبعين خريفاً" أى مسافةَ سبعين عاماً فى النزول وذلك منتهَى جهنم وهو خاصٌ بالكفار. والحديثُ رواه الترمذىُّ وحَسَّنَهُ، وفى معناهُ حديثٌ رواه البخارىُّ ومسلم. وهذا الحديثُ دليلٌ على أنه لا يُشترَط فى الوقوع فى الكفر معرفةُ الحكم ولا انشراحُ الصدر ولا اعتقادُ معنى اللفظِ كما يقول كتابُ (فقه السنة)(3/149)
الشرح: أن العبد قد يقعُ فِى الكفر بكلمةٍ واحدةٍ يَنْطِقُ بِهَا، والدليلُ على ذلك حديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنَّ العبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكلمةِ لا يَرَى بها بَأْساً يَهْوِى بِهَا فِى النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا". وهذا الحديثُ رواه الإمامُ الترمذىُّ فى جامِعِهِ وقَوَّاه، وبمعناه روايةٌ أخرى رواها البخارى ومسلم: "إن العبدَ لَيتكلمُ بالكلمة ما يَتَبَيَّنُ فِيها -أى لا يرى بها بأساً- يَهوِى بها فى النار أَبْعَدَ مما بَينَ المشرقِ والمغرب". وكِلاَ الحديثين يدُلُّ على أن الشخصَ يَقَعُ فى الكفر بمجرد النطق باللفظ الكفرىّ، ولو كان لا يعتقدُ معنى ذلك الكلام فى قلبه ، بل مُجَرَّدُ أَن يَقُولَهَا بإرادَتِهِ يكون كفراً ولو كان لا يعتقدُ المعنى، كَمَن يَسُبُّ الله تعالى فإنه لا يُشترط لوقوعه فى الكفر اعتقادُ هذا المعنى الكفرىّ، ولا يُشترط أن ينشَرِحَ صدرُهُ للكفر. رجلٌ يقال له سيد سابق ذَكَرَ فى كتاب له اسمه (فقه السُّنَّة) أَنَّ الإنسان إذا نَطَقَ بالكلمةِ الكفرية لا يكفر إلا إذا كان يعتقدُ معنى اللفظ وانشرحَ صدرُهُ لهذا الكفر. كلام هذا الرجل ضِدُّ حديثِ رسولِ الله الذى ذكرناه وضِدُّ القرءان أيضاً، لأنَّ الله بَيَّنَ لنا فى القرءان أن الذى يُشتَرَطُ فى حقه انشراحُ الصدر حتى يُحكَمَ عليه بالكفر هو فقط المُكْرَهُ بالقَتْلِ ونحوِه على النطق بكلمة الكفر. فَكَّذَّب هذا الرجلُ كتابَ الله وجعل غَيْرَ المُكْرَه مِثْلَ المُكْرَه سواءً. وأمرُه عجيب لأن الإنسانَ الذى يقتُلُ شخصاً بغير حق لا يسألُهُ القاضى هل كنتَ منشرحَ الصدر لما قتلتَه أم لا ليحكُم عليه بالحكم المناسب. وكذلك الذى يسرق لا يسألُه القاضى حتى يُصدِرَ عليه الحكمَ هل كنتَ منشرحَ الصدر لما سرقتَ أم لا؛ فإذا كان الأمرُ كذلك فى القتل والسرقة اللذَينِ هما أخفُ بكثير من ذنب الكفر، فكيف بالنسبة للكفر؟!!.
وكذلك لا يُشترَطُ فى الوقوعِ فى الكفرِ عَدَمُ الغَضَبِ كما أشارَ إلى ذلك النووى، قال: "لو غَضِبَ رجلٌ على ولدِه أو غلامِه فضربَه ضرباً شديداً فقال له رجلٌ: أَلَستَ مسلماً فقال:لا، متعمداً كفر". وقالَه غيرُه من حنفيةٍ وغيرِهم
الشرح: أنه لا يشترط ليُحكَم على شخصٍ بالكفر أن يكون نطق بالكفر فى حال الرِضَى أى فى غيرِ حال الغضب. يَعنِى أنَّ مَنْ نَطَقَ بكلمةِ الكفر فى حال الرضى أو فى حال الغضب فهو كافر إلا إذا كان غَضَباً شديداً جداً بحيثُ غاب عقلُه بسَبَبِهِ فما عاد يَعِى ماذا يقول، فَقَدَ التمييز، فعند ذلك لا يكتب عليه اللفظ الكفرىّ. أما فى غير ذلك من أحوال الغضب فإنه يُكتب عليه مهما بلغ به الغضب طالما هو يَتَكلَّمُ بإرادته. بعضُ الناس يقولون: "إذا كان الشخصُ غاضباً فتكلم بكلمةِ الكفر لا تُكتب عليه"، فقولهم هذا ضلال لأن اللهَ ما استثنى هذه الحال فى القرءان والنبِىَّ صلى الله عليه وسلم ما استثناها فى الحديث. فهؤلاء الذين يستثنون حالَ الغضب يستدركون على الله وعلى الرسول فيَكْفُرُونَ بذلك. وقد أشار الإمامُ النووىُّ وغيرُه إلى هذه المسئلة، فقال: لو أن إنساناً غضِبَ على ولدِهِ أو غلامِهِ أى عبدِه فبسبب الغضب ضربه ضرباً شديداً فمرَّ به رجل فرءاه يضرِبُهُ هذا الضربَ الشديد فقال له: ألست بمسلم؟! كيف تضربُه هذا الضرب؟! فأجابه بقوله: لا-يعنى لست مسلماً-متعمداً أى بإرادته، قال النووى: يكفر ولو كان غاضباً.
والردةُ ثلاثةُ أقسامٍ كما قسَّمها النووىُّ وغيرُه من شافعيةٍ وحنفيةٍ وغيرِهِم: اعتقاداتٌ وأفعالٌ وأقوالٌ، وكلٌّ يتشعّبُ شُعَبًا كثيرةً
الشرح: أن الردةَ تنقسم إلى ثلاثة أقسام، اعتقاداتٌ بالقلب؛ وأفعالٌ بالجوارح؛ وأقوالٌ باللسان. علماءُ المذاهب الأربعة قَسَّموا الردةَ إلى هذا التقسيم، مثلُ النووىّ فى كتابه المنهاج، وابنِ الوَرْدِىّ فِى الحَاوِى، وغيرِهِمَا من علماء المذاهبِ الأربعة. وكلُّ قسمٍ من هذه الأقسام الثلاثة يُخرِجُ صاحبَهُ من الإسلام من غير اشتراطِ أن يجتمعَ معَهُ قسمٌ ءاخر.
فَمِنَ الأولِ: الشَّكُّ فِى الله
الشرح: أنَّ مَنْ شك فى الله أى ما عاد عندَه اليقينُ الجازم فى وجودِ الله عز وجل ولو لمدة قصيرة فإنه يكفر بذلك.
أو فى رسولهِ أو القرءانِ أو اليومِ الآخرِ أو الجنةِ أو النارِ أو الثوابِ أو العقابِ
الشرح: أن من شك أيضاً فى حقِيَّة نبوة سيدنا محمد فهو كافر. أو شك فى حقِيّة القرءان، أو فى اليوم الآخر أى شَكَّ هل يكون أم لا يكون، أو شك فى الجنة أو النار أى شَكَّ هل يُثابُ الطائعون بالجنة أم لا وهل يعاقب الكفار فى النار أم لا، فإنه يكفر أيضاً.
والذى يُخرِجُ الشخصَ من الإسلام هو الشَّكُّ، وليس مجردَ الخاطر الذى يَخطُرُ له وقلبُهُ جازمٌ بالحق. فإنَّ هذا لا يُؤَثِّرُ على إيمانه. يعنى إذا خطرَ لإنسان خاطر يُنافِى العقيدةَ الصحيحة لكن هذا ما أورَثَه شَكًّا، بل كَرِهَ هذا الخاطرَ وطردَه، فإنه فى هذه الحال لا يكفر، بل له ثوابٌ فى كراهِيَتِه لهذا الخاطر.
أو نحوِ ذلك مما هوَ مُجْمَعٌ عليه
الشرح: أنه إذا كان هناك أمر أجمَعَ المسلمون عليه أى أنّ العالم والجاهل من بينهم يعرفُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء به ثم شكَّ الشخص هل يكون أم لا يكون مع معرفته بأن الرسول أخبر أنه يكون فإنه يكفر بذلك. مِثلُ وَزْنِ الأعمال فى الآخرة، فإن الجاهلَ والعالم من المسلمين يعرفُ أن رسول الله أخبر أن هذا يكون، فمن شك فى ذلك فهو كافر، إلا أنْ يكونَ مثلَ حديث عَهْدٍ بإسلام ما عرفَ أنَّ الرسول صلّى اللهُ عليهِ وَ سَلَّم أخبرَ عنهُ من قَبلُ، فإنه لا يكفر عندئذٍ.
أو اعتقادُ قِدَمِ العالَمِ وأزلِيَّتِهِ بجنسه وتركيبه أو بجنسه فقط(3/150)
الشرح: أن من اعتقد أن شيئاً غيرَ الله كان موجوداً مَعَ الله فى الأزلِ فهو كافر. ذَكَرَ ذلك المُتَوَلِّى مِن كبارِ مشايخِ الشافعية، والقاضِى عِياض من مشاهيرِ المالِكِيَّة، وابنُ دَقِيقِ العِيد، وقد قِيلَ ببلُوغِهِ درجةَ الاجتهاد، وغيرُهُم كثير.
أو نفىُ صفةٍ من صفاتِ الله الواجبةِ له إجماعاً كَكَونِه عَالِمَاً
الشرح: أن هناك صفاتٍ من صفات الله عز وجل يعرفُ الجاهلُ والعالِمُ من المسلمين أن الله موصوفٌ بها، فمن أنكر واحدةً منها أو شك فى ذلك فهو كافر. مثلُ الذِى يشكُّ فى قدرَةِ الله على كلِّ شىء، أو يشُكُّ فى عِلْمِ الله بكلِّ شىء، أو يشك فى كونِ الله مُتَكَلِّمًا سميعاً بصيراً، فإنّ كلَّ ذلك كفر. وليس المراد بذلك أنّ الذى لم يخطُر ببالِهِ قَطُّ أن الله سميع يكفر، إنما المراد أنّ الذى شكَّ هلِ الله موصوف بهذه الصفة أم لا فإنّ هذا الذى يَكْفُر.
أو نسبةُ ما يجب تنزيهُهُ عنه إجماعاً كالجسم
الشرح: أن هناك صفاتٍ يعرف الجاهلُ والعالِمُ من المسلمين أن اللهَ مُنَزَّهٌ عنها لأن فيها نِسْبَة َ النَّقْصِ إلى الله، فإذا نسب إنسان صفةً من هذه الصفات إلى ربِّنَا عز وجل فهو كافر. كالذى يصفُ اللهَ بأنه جسم، أو بأنه ضوء، أو ينسب إلى الله تعالى اللون، لأنه يكون شبَّه اللهَ بالمخلوقين. وكذا لو قال إنّ الله جسمٌ لكن لا كالأجسام فهو كافر. وقد نقل صاحبُ الخِصَال من الحَنَابلة عن الإمام أحمد أنه كَفَّر الذى يقول: "إن الله جسمٌ لا كالأجسام"، وذلك لأنه نَسبَ إلى الله ما لا يليقُ به أى الجسمية.
أو تحليلُ محرمٍ بالإجماعِ معلومٍ مِنَ الدّين بالضرورةِ مما لا يَخْفَى عليه كالّزِنَى واللواطِ والقتلِ والسرقَةِ والغَصْب
الشرح: أن هناك أموراً يعرفُ الجاهلُ والعالم من المسلمين أنَّهَا مُحَرَّمَة مثل القتل المُحَرَّم والسرقة والغَصْب وما شابَه ذلك. فإذا زَعَمَ إنسان أن شيئاً من هذه الأمور حلالٌ فهو كافر، كالذى يَزْعُمُ أَنَّ شرب الخَمْرِ جائز، أو أَنَّ أكلَ لحمِ الخنزير جائز، أو أن الزنا جائز، فإنه يكفُرُ، إلا إذا كان مثلَ حديثِ عهدٍ بالإسلام ولم يكن عَرَف أن هذه الأشياءَ محرمةٌ فى دين الإسلام، فإنه لا يُكَفَّر عند ذلك بل يُعَلَّم.
أو تحريمُ حلالٍ ظاهرٍ كذلك كالبيعِ والنِّكَاح
الشرح: أن هناك أشياءَ يعرف الجاهلُ والعالِمُ من المسلمين أنها حلالٌ فى الشرع، فإذا زَعَمَ إنسان أنَّها حرامٌ فهو كافر، مثلُ الزِواج، فإنه إذا حَرَّمَهُ إنسان فهو كافر. ومثلُ الذبيحة بالطريقة الشرعية، إذا زعم إنسان أَنَّها حرام فهو كافر.
أو نفىُ وُجُوبِ مُجْمَعٍ عليه كذلك كالصلواتِ الخمسِ أو سجدةٍ منها والزكاةِ والصومِ والحجِ والوضوءِ
الشرح: أن هناك أموراً الجاهلُ والعالِمُ من المسلمين يعرف أنها واجبة فرض، مثل الصلوات الخمس. فإذا قال إنسان: أنا سقط عنى التكليف بالصلوات الخمس، أو قال: الذى يَصِل إلى حدِّ صفاءِ القلب لا يعود فرضاً عليه أن يصلى، فهذا كافر. كذلك الذى يُنكِر أن الزكاة واجبة، أو يُنكر وجوبَ صومِ رمضان، فإنه يكفر.
أو إيجابُ ما لم يَجِب إجماعاً كذلك
الشرح: أن هناك أموراً الجاهلُ والعالِمُ من المسلمين يعرف أنها ليست فرضاً، مثل ركعتين تُصَلَّيان تَطَوُّعاً قبل صلاة الصبح. النبىّ حث على صلاة ركعتين قبل صلاةِ فرضِ الصبح. فإذا قال إنسان إنّ الإتيان بهاتين الركعتين فرض كالصبح فهو كافر.
أو نفْىُ مَشروعيَّةِ مُجْمَعٍ عليه كذلك
الشرح: أن هناك أموراً الجاهل والعالم من المسلمين يعرف أنها مشروعة أى أنّ فى فعلها ثواباً فى الشرع، مثل صلاة الوتر. فإذا أنكر إنسان مشروعيةَ أمرٍ من هذه الأمور فإنه يكفر. مثل الذى يقول: صلاة الوتر ليس فيها ثواب، فإنه كافر. وهكذا كلُّ حكمٍ معلومٍ من الدين بالضرورة أنه من أحكام الشريعة من أنكرَه كَفَر، يعنى كلُّ حكمٍ الجاهل والعالم من المسلمين يعرف أنه من أحكام الشريعة. وكذا يكفر من يزعم أن هذا الحكم ليس شيئاً حسناً أو ليس عدلاً مع معرفته بأنه من الشرع، كالذى يُرْوَى عن أَبِى العلاء المعَرِّىّ فى الذبيحَةِ والزِواج من ذَمِّه لهذين الأمرين، فإن هذا كفر. ومثلُ ما يقولُه بعضُ الذين يدعون الاهتمام بأمور النساء فى هذا الزمن من ذمِّ جواز تعدد الزوجات للرجل أو ذم الحجاب وما شابه، فهذا كلُّهُ كفر. ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مقبول على العينِ والرأس، وكل ما خالفه فهو مردود على قائله كائناً من كان.
أو عَزَمَ على الكفرِ فى المستقبلِ أو على فِعْلِ شىء مما ذُكِر أو تَرَدَّدَ فيه
الشرح: أن من عَقَدَ قلبَه أى عَزَم عزماً جازماً على أن يكفر فى المستقبل كَفَرَ فى الحال. وكذلك الذى يتردد هل يكفُرُ أم لا يصير كافراً فى الحال. ومثلُهُمَا الذى يُعَلِّقُ كفرَه على حصولِ شىءٍ فى المستقبل، لأن المؤمن حقيقة يكون قلبُه ثابتاً على الإيمان، لا يريدُ أن يتركَهُ أبداً.
لا خُطُورُهُ فى البالِ بدونِ إرادة
الشرح: أن هذا سبق بيانه بحمد الله.
أو أَنكَرَ صُحبَةَ سَيّدِنَا أَبِى بكرٍ رضى الله عنه
الشرح: أن من اعتقد بقلبِهِ أن أبا بكرٍ ليس صاحبَ رسولِ الله فهو كافر. ويَخُصُّ الفقهاءُ أبا بكر بالذكر فى هذه المسئلة ولا يذكرون عمر مثلاً أو عثمان أو علياً لأن الله تعالى نص على صُحبة أبِى بكرٍ فى القرءان قال الله تعالى: {إذ أَخرجه الذين كفروا ثانِىَ اثنينِ إذْ هما فى الغارِ إذْ يقولُ لصاحِبِهِ لا تَحْزَن} فَسَمَّى اللهُ أبا بكر صاحبَ رسول الله فى القرءان، فمن أنكر ذلك فقد كذَّب القرءان وكفر بذلك.
أو رسالةَ واحدٍ منَ الرسُلِ المُجْمَعِ على رسالتِهِ(3/151)
الشرح: أن هناك أنبياءَ يعلم الجاهل والعالم من المسلمين أنهم أنبياء، مثلَ ءادم ونوح وموسى وعيسى ومحمد صلوات ربى وسلامُه عليهم، فإذا أنكر إنسان نُبوة واحد منهم فهو كافر. أما إذا لم يعرف مثلاً أن شِيْثًا كان نبياً، فلما ذُكِرَ أمامَهُ اسمُ شِيثٍ ظن أنه ليس نبياً، فإنه لا يكفر بهذا. وكذلك لا يكفر من أنكر كَونَ الخَضِر نبياً، لأن العلماء اختلفوا هل كان الخضر نبياً أم رجلاً صالحاً غيرَ نبىّ، وإن كان جُمهُورُهم على القول بأنه نبىّ، وهو القول الصحيح الذى تَدُلُّ عليه النصوص الشرعية.
أو جَحَدَ حرفاً مُجْمَعًا عليه مِنَ القرءان، أو زاد حرفًا فيه مجمعًا على نفيه معتقدًا أنه منه عنادًا
الشرح: أن الشخصَ إذا زاد شيئاً على كتابِ الله عز وجل وهو يعلم أنّ هذا ليس من القرءان لكن لأجلِ العناد قال هذا من القرءان فإنه يكفر.كذلك الذى ينفى حرفاً واحداً أن يكون منَ القرءان وهو يعلمُ أنه من القرءان لكن لأجل العناد قال هو ليس من القرءان فإنه يكفر بذلك. أما الذى زاد شيئاً أو أنقَصَهُ بسبب سوء حفظه لا عناداً فإنه لا يكفر بمجرد ذلك.
أو كَذَّب رسولاً أو نَقَّصَهُ أو صَغَّر اسمَهُ بقصدِ تحقيرِهِ
الشرح: أن كلَّ تنقيص وتكذيب وَذَمٍّ لنبىٍّ من أنبياء الله كيفما كان فهو كُفْرٌ. كما لو اعتقد إنسان فى نبى من أنبياء الله أنه جاهل، أو جبان، أو غيرُ أمين، أو ما شابه ذلك فإن معتقده يكفر.
أو جوَّزَ نُبُوَّةَ أحَدٍ بعد نبينا محمد
الشرح: أن من جملة الكفر الاعتقادى أن يعتقدَ إنسان أنه جائز شرعاً أن يأتِىَ نبىّ بعد محمد صلى الله عليه وسلم . فإنّ هذا كفر سواءٌ قال إنَّه يجوز أن يُبعَثَ بعد محمد نبىٌّ رسول أو نبىٌّ غيرُ رسول، مثل القاديانية فإنّ قسماً منهم يزعُمُون أن نبوةَ غُلام أحمد نُبوةٌ ظِلّيَّة، يعنون أنه ليس نبياً مستقلاً إنما هو نبىٌّ تابعٌ لمحمدٍ عليه الصلاة والسلام، وهذا كفر لأنهم أثبتوا له وصفَ النبوة، فكذبوا بذلك القرءانَ والرسولَ وَالأمَّةَ قاطبةً.
والقسمُ الثانِى الأفعالُ: كسجودٍ لصنمٍ أو شمسٍ أو مخلوقٍ ءاخرَ على وجهِ العبادةِ له
الشرح: أنَّ القسمَ الثانِىَ من أقسامِ الردة هو الردةُ الفعليةُ المتعلقةُ بالجوارحِ، مثلُ السجودِ لصنمٍ. فمن سجدَ لصنم من غير إكراه كَفَّرْنَاهُ من غير نظرٍ إلى نيتِهِ، وكذلك من سجدَ للشمسِ، أو القمر، أو الشيطان، أو النار، أو نحوِ ذلك من الأشياء التى لا يَسْجُدُ لها إلا الكفار. وأما من سجد لإنسانٍ فَفِى الأمرِ تَفصِيل. إنْ سجدَ له بنيةِ العبادة فهو كُفر، وإنْ سَجَدَ له تحيةً أو نحوَ ذلك فلا يَكْفُر. وقد كان هذا الأمرُ أى السجودُ لمسلمٍ تحيةً واحتراماً جائزاً فى الشرائع السابقة، كما سَجَدَ الملائكةُ لآدم، ثم حُرِّمَ هذا الأمر فى الشريعةِ المحمديةِ، فلا يجوزُ أن يسجدَ شخصٌ لشخصٍ ءاخر ولو كان على وجه التحية والاحترام. ومِنَ الكفر الفعلىّ أيضاً إلقاءُ المصحف فى القاذورات ولو قال الشخصُ الذى فعل هذا الأمر: أنا ما كنت أقصِدُ الإهانة، لأن مجرد فعله إهانة. أمّا إن كان لا يعرف أنَّ الكتاب الذى يرميه هو كتابٌ مُعَظَّم كأن كان لا يعرف أنه المصحف ثم رماه فى القاذورة فلا يكفر. والقاعدةُ فى هذا الأمر أن كلَّ فعلٍ أجمع المسلمون أنه لا يصدُرُ إلا من كافر فمَن فَعَلَهُ فهو كافر، مثل ما لو تَزَيَّى إنسان بالزِىّ الخاص بغير المسلمين ودخل معَهم معابدَهُم مختلطاً بهم وهو على هذه الحال أى وهو مُتَزَىٍّ بالزِىّ الخاص بهم فإنه يكفر لأن هذا أمر لا يصدر إلا من كافر فمن فعَلَهُ صار كافراً.
والقسمُ الثالثُ الأقوالُ وهى كثيرةٌ جداً لا تنحصر
الشرح : أنَّ أكثر الكفريات إنما هى كفرياتٌ باللّسان، وهذا مصداقُ حديثِ رسولِ اللهِ: "أكثرُ خطايَا ابنِ ءَادم مِنْ لسانِهِ"، رواه الطبرانىُّ.
مِنْهَا أَنْ يقولَ لمسلمٍ يا كافرُ أو يا يهودىُّ أو يا نصرانىُّ أو يا عديمَ الدينِ مريداً بذلك أَنَّ الذِى عليه المخاطَبُ مِنَ الدينِ كفرٌ أو يهوديةٌ أو نصرانيةٌ أو ليس بدين لاَ عَلَى قصدِ التشبيهِ
الشرح : أَنَّ الإنسان إذا قال لشخصٍ هو يعرِفُهُ مسلماً "يا كافر" أو "يا نصرانىّ" أو "يا يهودىّ" أو "يا عديمَ الدين" وكان قصدُه بكلمة يا كافر أن دينَك دين كُفر أو أنت دينُك نصرانية أو دينُكَ يَهودية أو أنت حقيقةً لست على دِين، ما كان يقصِدُ تشبيهَهُ باليهود أو النصارى أو من لا دين له إنما كان يقصِد أنه حقيقة على دين غير الإسلام وهو يعرفُ أنه مسلم وأنَّ دينَه الإسلام، فى هذه الحال يكون سمَّى الإسلام كفراً فيصيرُ كافراً. وقد بَيَّنَ ذلك سيدُنا محمَّدٌ فقال: " إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما. إن كان كما قال وإلاَّ رجعت عليه". رواه البخارىُّ وابنُ حِبّانَ وغيرُهما. أما إذا كان قصدُه تشبيهَهُ بالكفار وما كان يقصد بهذه الكلمة أنه كافر حقيقةً فلا يَكْفُر، كأن قال له يا كافر ويقصِد أنه لخساسة أعماله كأنه كافر ليس مسلماً، فهُنا لا يكفر لكن عليه إثم كبير.
وكالسُّخريةِ باسمٍ من أسمائِهِ تعالى أو وعدِهِ أو وَعِيدِهِ ممن لا يخفى عليه نسبة ذلك إليه سبحانه(3/152)
الشرح: أن من استهزأ بالله أو بوعد الله أو بوعيد الله فهو كافر، كما لو استهزأ إنسانٌ باسمٍ من أسماء الله مع علمه أن هذا اسم الله عز وجل فإنه يَكْفُر. ومثل ذلك ما لو استهزأ بالجنة. بعضُ الناسِ من خُبْثِهِم يستهزِءُونَ بالجنة يقول بعضهم للآخر "اذهب أنت إلى الجنة، الجنة ماذا فيها؟ أما أنا أريد أن أذهب إلى النار لألقى المغنين وأمثالهم هناك"، يعنى أن الجنة ليست ذات قيمة، وهذا كفر. أما لو كان الشخص لا يَعْرِف أَنَّ الله توعد بوعيدٍ ما أو وَعَدَ بوعدٍ ما فاستهزأ به لا يَكْفُر، كما لو أنَّ شخصاً ما عَرَف أن هناك عقاربَ فى جهنم يَتَعَذَّبُ بها الكفار فسَمِعَ إنساناً يتحدثُ عن هذا الأمر فَظَنَّ أنَّ هذا الأمرَ غيرُ صحيح فاستَخَفَّ بكلامه فإنه لا يَكْفُر لأنَّه ما قصد الاستخفافَ بِوَعِيدِ الله عز وجل.
وكأنْ يقولَ لو أَمَرَنِى اللهُ بكذا لم أفعَلْهُ أو لو صارتِ القبلةُ فى جهةِ كذا ما صليتُ إليها أو لو أعطانِى اللهُ الجنةَ ما دخلتُهَا مستخفاً أو مظهراً للعناد فى الكل
الشرح: أَنَّ الاستخفافَ قَد يكونُ مع اعتقادِ عَدَمِ الحَقِيّة، أما العناد فقد يكونُ مع اعتقادِ الحقيَّة ولكن مع إظهارِ خِلافِ ذلك، فمن قال ألفاظاً مشابهة للألفاظ التى مَثَّلَ بها المؤلف سواءٌ قالَها عناداً أو استخفافاً فهو كافر.
وكأَنْ يقولَ لو ءَاخَذَنِى اللهُ بتركِ الصلاةِ مَعَ مَا أنا فيه مِنَ المَرَضِ ظَلَمَنِى
الشرح: أنه إذا كان إنسان مريضاً مثلاً فَتَرَكَ الصلاةَ فى مَرَضِهِ، فقال له إنسان "لِمَ لا تُصَلّى؟ صَلِّ، الصلاة ما زالت واجبةً عليك." فأجابَه: "لو ءاخذنى الله بتركِى للصلاة مع الحال التى أنا فيها من المرض ظلمنى" يكون كافراً بذلك لأنه أجازَ الظُلْمَ على الله تعالى.
أو قَالَ لِفِعْلٍ حَدَثَ هذا بغيرِ تقديرِ الله
الشرح: أنه إذا قال إنسان عن شىءٍ واحد أنَّه حصل بغير تقدير الله فهو كافر، وهذا شامل للخير وللشر، لأنَّ الخيرَ والشر حُصُولُهُمَا بتقديرِ الله، ولا يُلاَمُ اللهُ تعالى على تقديرِه للشر، وإنما يلامُ العبدُ الذِى يفعَلُ الشرَّ.
أو [إذا قال إنسان] لو شَهِدَ عندِىَ الأنبياءُ أو الملائكةُ أو جميعُ المسملينَ بكذا ما قَبِلْتُهُم
الشرح: أنَّ قائِلَ هذه الكلمة كافر، لأن الذى لا يَقْبَلُ شهادةَ الأنبياء فهو مُخَوِّنٌ لَهُم، وكذا بالنسبة للملائكة، وكذا بالنسبةِ لجميعِ المسلمين. ومن خَوَّنَ الأنبياءَ فهوَ كافر لأنَّه مُكَذِّبٌ للقرءان، وغيرُ مؤمنٍ بالأنبياء. وكذا الذى يُخَوّنُ الملائكةَ أو يُخَوِّنُ كلَّ المسلمين فإنّ من خوَّنَهم كلَّهم يريدُ أن يَنْقُضَ الدّينَ من أساسِهِ، لأنَّ أحكام الدّين إنما وصلتْنَا عن طريق المسلمين. فلو كان خبرُ جميعِهم غيرَ مَقْبُول لَمَا كان ثقةٌ بما نُقِلَ إلينا من الشرع، ولذلك قائل هذه العبارة كافر.
أو قال: لا أفعلُ كذا وإِنْ كان سنةً بقصدِ الاستهزاء
الشرح: أنه إذا قال إنسان لآخر: "لِمَ لا تستعمل السواك؟ السواك سُنَّة" فأجابَه "لا أُريد"، ويقصد أن هذا الأمر شىءٌ مُسْتَقْذَر فإنه يَكْفُر لأنه بذلك يستهزئ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . أما إِنْ كان لا يريد الاستخفاف بسنَّةِ الرسول لكنه قال لا أريد ويعنى بذلك أنه الآن لا يستَعْمِلُهُ فإنه لا يَكْفُر.
أو [قال شخص] لو كانَ فلانٌ نبياً ما ءَامَنْتُ به
الشرح: أنَّ قائل هذه العبارة يَكْفُر، لأن كلمَتَهُ تتضمن الاستخفافَ بمنصِبِ النُّبوّة. هذا كأنه يقول: "منصبُ النبوة ليس له شأن عندِى"، فهو كافر.
أو أعطاهُ عالِمٌ فَتْوًى فَقَال: أَيْشٍ هذا الشرع مريداً الاستخفافَ بحكمِ الشرع
الشرح: أنه إذا إنسان أَصْدَرَ فى حَقِهِ حاكمٌ شرعِىّ حكماً شرعياً، أو طَلَبَ مِن مُفْتٍ جواباً على مسألة فأفتَاهُ فيها، فلم يعجبه الحكم أو الفتوى فقال له: أَيْشٍ هذا الشرعُ؟ يعنى بذلك أن حكم الشريعة المحمدية شىءٌ قبيح غيرُ صحيح، فإنه يَكْفُر. أما لو أراد أيْشٍ هذا الذى أنت تزعُمُهُ شرعاً وهو ليس بشرعِ النَّبِىّ فلا يَكْفُر.
أو قال: لَعْنَةُ اللهِ عَلَى كُلِّ عالِمٍ مريداً الاستغراقَ الشامِلَ
الشرح: أنه إذا لَعَنَ إنسان كُلَّ العلماء أى استغرَقَهَم أى شَمِلَهُم جميعاً باللعن فهو كافر، لأن هذا يَتَضَمَّنُ الاستخفافَ بمنصِبِ العلم، أما لو لَعَنَ علماءَ مُعَيَّنِينَ كعلماءِ بلدةٍ معينةٍ لأَنهم غيرُ عاملين بعلمهم فإنه لا يَكْفُرُ عندَ ذلك وإن كان كلامُه لا يَخْلُو مِنَ المعصية.
أو قال: أَنَا بَرِىءٌ مِنَ اللهِ أو مِنَ الملائكَةِ أو مِنَ النَّبِىّ أو مِنَ الشريعةِ أو مِنَ الإِسْلاَمِ
الشرح: أن هذه الألفاظَ من الكفر الصريح فمن قال شيئاً منها فهو كافر.
أو قال: لا أعْرِفُ الحُكْمَ مُسْتَهْزِئَاً بحُكْمِ الله
الشرح: أنه إذا قال إنسان لآخر: "ما هو حكمُ هذه المسئلة فى الشرع؟" فأجابه "لا أدرى"، يريد بذلك أن هذا شىء لا أهميةَ له عندى أى أنا لا أرى منزلةً لأمور الشرع، فإنه يكفر. أما إذا قالَ كلمةَ "لا أدرِى" فى موضِعِهَا فكلامُهُ ممدوح. رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ مَرةً ما هى خير البقاع وما هى شر البقاع؟ فقال: "لا أدرى أسأَلُ جبريل" ثم سألَ جبريلَ فقال: "لا أدرِى أسألُ ربَّ العِزَّة"، ثم أوحى الله للنبىِّ صلى الله عليه وسلم أنّ خيرَ البقاع المساجد وأنَّ شرَّ البقاع الأسواق. رواه ابن حبّان.(3/153)
أو قال وقد ملأ وعاءً: {وكأساً دهاقاً}(1) أو أفرغَ شراباً فقال: {فكانت سراباً}(2) أو عند وزن أو كيل: {وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}(3) أو عند رؤيةِ جمعٍ: {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً}(4) بقصدِ الاستخفافِ فى الكُلِّ بمعنى هذه الآيات. وكذا كلُّ موضع استُعمِل فيه القرءانُ بذلك القصد، فإن كان بغير ذلك القصد فلا يكفر. لكن قال الشيخ أحمدُ بن حجرٍ: لا تبعدُ حرمتُه
الشرح: أنَّ من أورَدَ ءايةً من ءايات القرءان فى أَىّ موضع لأجل الاستخفاف بها فهو كُفر. كأن كان يملأُ كأساً بالخمرِ فقال: {وكأساً دهاقاً} يريدُ بذلك أن هذا الخمر الذى يضَعُهُ فى هذه الكأس خيرٌ من شرابِ أَهْلِ الجنة، يعنِى أنَّ هذا هو الشرابُ المُسْتَلَذُّ ليس ذاكَ الموعودَ به أهلُ الجنة، فإنه يَكْفُر لأنه استَخَفَّ بمعنَى ءايةٍ من ءاياتِ كتابِ الله. أما لو أوردَ ءايةً من الآيات فى غيرِ موضِعِهَا لكن بغيرِ استخفاف فلا يَكفر. كأن رأى أُنَاسَاً مُجْتَمِعِينَ أو دَعَا أناساً للاجتماع فاجتمعَ قومٌ كثيرون فأورد قولَ الله: {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً} وهو لا يريد بذلك الاستخفاف بالآية فلا يكفر. لكنْ قال أَحْمَدُ بنُ حَجَرٍ الهَيْتَمِىّ الفقيهُ الشافعىُّ المعروفُ: إنّ هذا الأمر وإن لم يكن كفراً لكن ليس بعيداً أن يقال عنه حرام، لأنه إيرادٌ للآية فِى غيرِ موضِعِهَا وهذا فيه إسائةُ أَدَبٍ مع القرءان.
وكذا يَكْفُرُ مَنْ شَتَمَ نَبِيًّا أو مَلَكًا
الشرح: أَنَّ من شَتَمَ نبياً من الأنبياء أو مَلَكَاً من الملائكة فهو كافر بلا تفصيل.
أو قال: أَكونُ قَوَّاداً إِنْ صَلَّيتُ أو ما أصبتُ خيراً منذُ صليتُ أو الصلاةُ لا تصلح لِى بقصدِ الاستهزاء
الشرح: أن الذى يقول هذه الألفاظَ بقصدِ الاستهزاء بالصلاة فهو كافر بلا شك. كالذِى يقولُ عن نفسه إنه إذا صلَّى يكون قواداً -والقواد هو الذى يجلب الزبائن للزوانى- فإنَّ هذا القائل يكفر لأنه مستخفٌ بالصلاة. لكن لو قالت امرأَةٌ حائِضٌ: "الصلاة لا تصلُحُ لى" وتريد بذلك أنه طالما أنا فى الحيض لا يجوز لِى أن أصلّىَ فلا تَكْفُر.
أو قالَ لمسلمٍ: أنا عَدُوُّك وعدوُّ نَبِيِّكَ أو لشريفٍ: أنا عدوُّكَ وعدوُّ جدِكَ مُريداً النبىَّ. أو يقولَ شيئاً من نحو هذه الألفاظِ البَشِعَةِ الشَّنِيعَة
الشرح: أن من شَتَمَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أو تَنَقَّصَهُ بأىِّ وجهٍ من أَوْجُهِ الشتم أو التنقيص فهو كافر بالإجماع. قال القاضِى أَبُو يُوسُف رحمه الله: مَنْ شَكَّ فِى كُفْرِهِ وعَذَابِه فهو أيضاً كافر إهـ. يعنى من شك فى كُفْرِ الذى يَسُبُّ النبىّ وأنه يستحقُ العذابَ فى الآخرة فهو أيضاً كافر. ومثلُهُ قال سَحْنُون المالِكِىّ. فإذا كان هذا فِى سَبِّ النبىّ صلى الله عليه وسلم فكيف بالذى يَسُبُّ الله تعالى ؟!!.
وقد عَدَّ كثيرٌ من الفقهاء كالفقيه الحنفىّ بدر الرشيد والقاضى عياضٍ المالكىِّ رحمهما اللهُ أشياءَ كثيرةً. فينبغى الاطِّلاعُ عليها، فإنَّ مَنْ لم يَعْرِفِ الشرَّ يقَعُ فيه
الشرح: أَنَّ القاضِىَ عِياضاً عاش فِى القرن الخامس الهجرىّ، وهو من أشهرِ فقهاء المالكية، وقد ذَكَرَ فِى كِتَابِهِ الشِفَا ألفاظاً عَديدةً تُخْرِجُ من الإسلام للتحذيرِ منها. وكذا فَعَلَ غيرُهُ من فقهاء المذاهب الأربعة. ومنهم فَقِيهٌ حَنَفِىّ كان فى القرن الثامن الهجرىّ يقالُ له بدْرُ الرَّشِيد أَلَّفَ رسالةً أى كتاباً صغيراً خاصاً بتَعْدَادِ الألفاظ الكفرية. وإنما فعلوا ذلك حتى يَحْذَرَ المسلمُ مثلَ هذِه الألفاظ ويتجَنَّبَهَا.
والقاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ أو فعلٍ أو قولٍ يدلُّ على استخفافٍ بالله أو كتبِه أو رسلِهِ أو ملائكتِهِ أو شعائرِه أو معالمِ دينِه أو أحكامِهِ أو وَعده أو وعيدِه كفرٌ. فليحذرِ الإنسانُ من ذلك جَهْدَهُ على أىّ حال
الشرح: أن كلَّ اعتقادٍ بالقلب أو فعلٍ بالجوارح أو قولٍ باللسان فيه استخفافٌ بالله فهو كفر. وكذا ما فيه استخفافٌ بكُتُبِ الله المُنَزَّلَة، أو بأنبيائِهِ، أو بالملائكة، أو بشعائر الدين ومعالِمِه أى الأشياء التى هى عَلَمٌ على أمور الدين أى التى هى مشهورة من أمور الدين، كالأذَان فإنه يقال له عَلَمٌ أو شَعِيرَة، ومثل الحج والمساجد وعيد الفطر وعيد الأضحى والصلاة، كلُّ هذه من معالم الدين وشعائِرِه فالاستخفاف بها كُفرٌ. وكذلك الاستخفافُ بأحكام الشريعة أو بوعد الله أو بوعيده، كلُّ ذلك كُفر سواءٌ عَقَدَ الإنسانُ على ذلك قلبَهُ أو فَعَلَهُ بجوارحِهِ أو نَطَقَ به بلِسَانِهِ. فليَحْذَرِ الإنسانُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ لأن من مات على الكفر فقد خَسِرَ الدنيا والآخرة، أعاذنا الله من ذلك.
يجبُ على مَنْ وَقَعَت منه رِدَّةٌ العودُ فوراً إلى الإسلامِ بالنطق بالشهادَتَين، والإقلاعِ عمَّا وقعت به الردة(3/154)
الشرح: أنَّ من ارتد لا بد له حتى يرجِعَ إلى الإسلام من أن يُقْلِع عن سبب الردة وأن يَنْطِقَ بالشهادتين للتَّبَرؤِ مِنَ الكفر. أى أنَّ الإنسان إذا وقع فى الردة بقولِ كُفْرٍ أو فِعْلِ كُفْرٍ أو باعتقادٍ كفرىٍّ مثلاً لا بد له حتى يرجع إلى الإسلام من أن يترُكَ هذا الكفر الذى وقع فيه وينطِقَ بالشهادتين. وهذا معناه أنَّه لا بُدَّ أن يَعرِف أن الأمرَ الذى وَقَعَ فيه هو كُفْرٌ. فلو حصلَ مِنَ الشخصِ كُفْرٌ ثُمَّ تَشَهَّدَ بعدَ ذلك أَلْفَ مَرَّة مِنْ غَيرِ أَنْ يَعْرِف أَنَّ هذا الأمر هو أمرٌ كفرىٌّ لا تنفَعُهُ كُل هذه المرات التى تشهَّد فيها. وهذا أيضاً معناه أنَّ الشخصَ لا بد أن ينطِقَ بالشهادتين حتى يرجع إلى الإسلام، فلا يكفى أَنْ يترُكَ العقيدةَ الكفرية التى كان عليها حتى يصيرَ مسلماً من جديد. بل لا بد مع ذلك من أنْ ينطِقَ بالشهادتين للتبرؤ من الكفر.
ويجبُ عليهِ النَّدَمُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ والعَزْمُ عَلَى أَنْ لاَ يَعُودَ لِمِثْلِهِ
الشرح: أن المرتد يجبُ عليه عَدَا الرجوع إلى الإسلام أن يَنْدَمَ أيضاً على الردة التى صدرت منه، فإذا لَم يَنْدَم صحَّ رجوعُهُ إلى الإسلام مع حصول المعصية بترك الندم. هذا بِشَرْطِ أَنْ لا يكونَ عندَه عزمٌ على أن يكفرَ فى المستقبلِ، لأنَّه إذا كان عند تشهده عازماً على الكفرِ فى المستقبل فإن هذا التشهدَ لا ينفعُه فى الرجوع إلى الإسلام.
فإنْ لِم يَرجِعْ عن كفرِه بالشهادةِ وجبتِ استِتَابَتُهُ. ولا يُقْبَلُ مِنْهُ إلا الإسلامُ أو القتلُ بِهِ -يعنى بالكفر- يُنَفِّذُهُ عليهِ الخليفةُ بعدَ أَنْ يَعْرِضَ عليهِ الرجوعَ إلى الإسلامِ. ويعتَمِدُ الخليفةُ فى ذلك على شهادةِ شاهِدَين عَدْلَين أو على اعترافِه وذلك لحديثِ البخارىّ: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوه"
الشرح: أَنَّ الخليفةَ إذا ثَبَتَ عندَه أنَّ شخصاً ارتدَّ، إمّا باعترافِه أو بشهادَةِ شاهدين عَدْلَينِ عليه، ثم لم يرجع إلى الإسلام حَبَسَه ثلاثة أيام، يُنْفِقُ عليه فيها من ماله -أى من مال المرتد-، فى كلِّ يوم منها يعرِضُ عليه الرجوعَ إلى الإسلام، فإن مضتِ الأيامُ الثلاثةُ ولم يرجع إلى الإسلام بالشهادتين وَجَبَ على الخليفةِ قتلُهُ. ولا يُقْبَلُ مِنهُ إلا الإسلامُ فإن لم يفعل يُقْتَل، وذلك لحديثِ رسولِ اللهِ: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فاقْتُلُوه". رواه البخارىّ.
قال المؤلف رحمه الله: ويَبْطُلُ بِهَا صَومُهُ
الشرح: أنَّ مَنْ كان صائِماً صومَ فرض ثُمَّ ارتَدَّ فَسَدَ صومُهُ. ويجبُ عليه الرجوعُ فوراً إلى الإسلام، ثم الإمساكُ عن المفطِّرات سائِرَ النهار، وأن يقضِىَ هذا اليومَ على الفور إِنْ قَدَر.
وتَيَمُّمُهُ
الشرح: أنه إذا كان الشخصُ متيمِّمَاً ثمَّ ارتدَّ فَسَدَ تَيَمُّمُهُ فوراً، فإنْ رَجَعَ إلى الإسلامِ لا بُدَّ لَهُ مِنْ طَهَارَةٍ جديدة. وهذا بخلافِ الوضوءِ، فإنه إذا كان الشخص متوَضِئاً ثم ارتدَّ ثم رَجَعَ إلى الإسلام قبلَ أنْ يحصُلَ معَهَ ما يَنْقُضُ الوضوءَ فَوضُوءُهُ بحاله، وذلك أنَّ التيَمُّمَ طهارةٌ ضعيفةٌ بخلاف الوضوء.
ونكاحُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ
الشرح: أنه إذا ارتد أحدُ الزوجين قبلَ الدخول بَطَلَ العقدُ حالاً، فلو رَجَعَ المرتد منهما فوراً إلى الإسلامِ وأَرَادَا الرجوعَ إلى بعضِهِمَا فلا بد مِنْ عَقْدٍ جَدِيد.
وكذا بَعْدَهُ إِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى الإِسلامِ فِى العِدَّة
الشرح: أنه إذا ارتدَّ أحدُ الزوجين بعد الدخول ثم مضَت العِدة ولم يَرْجِع الذى ارتدَّ إلى الإسلام بَطَلَ العقدُ بينَهُمَا، وأما قبل الدخولِ فلا عِدَّةَ عليها. أما إن رَجَعَ الذى ارتد منهما إلى الإسلام فى خلالِ العِدة فيرجعان إلى بعضِهِمَا من غير حاجة إلى عقد جديد.
ولا يَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ عَلَى مُسْلِمَةٍ وغيرِهَا
الشرح: أن مَنْ كان والداه مُسلِمَيْنِ ثم هو ارتدَّ لا يجوز أن يتزوجَ من مسلمةٍ ولا من غيرِها، وذلك لأنَّ اللهَ حَرَّمَ على المسلِمَةِ الزِّواجَ من كافر، والمرتدُّ كافرٌ.
وَتَحْرُمُ ذَبِيحَتُهُ
الشرح: أن ذبيحة المرتد تكون مَيْتَةً، ولو كان ارتدَّ عن الإسلام إلى النصرانية أو إلى اليهودية، لأنَّه لا يُعَدُّ بذلك من النصارى واليهود الأصلِيين الذين يَحِلُّ لَنَا أَكْلُ ذبائِحِهِم.
ولا يَرِثُ ولاَ يُوْرَثُ
الشرح: أن المرتدَ إذا مات لا يَرِثُهُ أقارِبُهُ المسلمون، ولا غيرُ المسلمين. ولا يجوزُ أنْ يَرِثَ هو من غيرِه لا من مسلم ولا من كافر.
ولا يُصَلَّى عليهِ ولا يُغَسَّلُ ولا يُكَفَّنُ ولا يُدْفَنُ فى مقابر المسلمين
الشرح: أن المرتدَ إذا مات لا يجوز أن يُصَلَّى عليهِ، وذلك لأنَّه كافر ولا يجوز أن يُصَلَّى على كافرٍ. ولا يَجِبُ تَغْسِيلُهُ، ولا تكفينُه، ولا يجوزُ أن يدفنَ فى مقابر المسلمين، لأن هذه المقابر وُقِفَت لدفنِ مَوتَى المسلمينَ وهو ليس منهم.
مسئلة: لو ماتت زوجة المسلم الكافرة وهى حامل فمات الجنين فى بطنها لم يجز دفنها فى مقابر المسلمين لكفرها ولا دفنها فى مقابر الكفار لأجل الجنين الذى فى بطنها إنما تدفن فى مكان لا هو من مقابر المسلمين ولا من مقابر الكفار ويُوَجّهُ ظهرها إلى القبلة حتى يكون صدر الجنين متوجهاً إليها.
ومالُهُ فَىءٌ
الشرح: أن المرتدَ إذا مات يكونُ مالُه فيئاً يُصرَفُ فى مصالح المسلمين، ولا يرثه أقارِبُهُ إنما يُسْتَعْمَلُ فِى بناءِ مسجد أو مدرسةٍ شرعية أو يُوَزَّعُ على الفقراء أو نحوِ ذلك.
(1) سورة النبأ، ءاية 34.
(2) سورة النبأ، ءاية 20.
(3) سورة المطففين، ءاية 30.
(4) سورة الكهف، ءاية 47.
===============(3/155)
الباب السادس- رد بعض الشبهات حول حد الردة
126- الحدود فى الإسلام
الرد على الشبهة:
إن الدارس للإسلام وأحكامه يدرك حقائق أساسية لتشريع الحدود فى الإسلام نحاول أن نشير إلى بعضها بإيجاز:
أولاً: الحدود فى الإسلام إنما هى زواجر تمنع الإنسان المذنب أن يعود إلى هذه الجريمة مرة أخرى.
وهى كذلك تزجر غيره عن التفكير فى مثل هذه الفعلة وتمنع من يفكر من أن يقارف الذنب ، وهى أيضًا نكال " مانع " من الجريمة على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة.
ثانيًا: إن من المقرر لدى علماء الإسلام قاعدة " درء الحدود بالشبهات " أى جعل الظن والشك فى صالح المتهم.
ثالثًا: ليس المراد بالحدود التشفى والتشهى وإيقاع الناس فى الحرج وتعذيبهم بقطع أعضائهم أو قتلهم أو رجمهم.
إنما المراد هو أن تسود الفضيلة ، ومن هنا نجد الشرع الشريف ييسر فى هذه الحدود.
فإذا اشتدت الظروف فى حالات الجوع والخوف والحاجة تعطل الحدود ، كما فعل سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ فى عام الرمادة.
ومن التيسير أيضًا أن الإسلام يأمر بالستر قبل الوصول إلى الحاكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجلٍ يشهد على الزنا [ لو سترته بثوبك كان خيرًا لك ] (1).
رابعًا: الشريعة الإسلامية شريعة عامة لكل زمان ومكان ، والناس مختلفون فى ضبط نفوسهم ، فلابد من وجود عقاب رادع يضبط أصحاب النفوس الضعيفة من الوقوع فى الجرائم والحدود والردة عن الإسلام حتى يسلم المجتمع من الفساد ظاهرًا وباطنًا.
خامسًا: الحدود إنما هى جزء من النظام الإسلامى العام ، فلابد من فهم النظام ككل حتى تفهم الحدود ولا يمكن تطبيق الحدود إلا مع تطبيق النظام الإسلامى ككل وإلا لا ينسجم الأمر ولا تستقيم حكمة الله من تشريعه.
سادسًا: الحدود دعوة صريحة للتخلق بالأخلاق الحسنة التى هى من مقاصد الدين وهى أيضًا طريق إلى التوبة إلى الله ، فالمذنب إذا عوقب بعقاب الشارع الذى هو منسجم مع تكوينه وواقع وفق علم الله تعالى به وبنفسيته فإن هذا يخاطب قلبه ومشاعره بوجوب الرجوع إلى ربه.
ويكفى ارتداع المسلم عن الجريمة ودخوله فى رحمة ربه معرفته بأن ربه هو الذى شرع له هذا الحكم ، فإن هذا وحده من شأنه أن يجعله يتوب وينجذب إلى ربه ويصير مؤمنًا بالله جل جلاله خاصة إذا علم أن هذا الحد يكفر عنه هذا الذنب.
سابعًا: الإسلام دين ، والحدود والتعاذير إنما هى فى كل دين بل وفى كل نظام قانونى ومن أراد على ذلك مثال فالتوراة مثلاً تأمر بحرق الزانية والزانى إذا كانت ابنة كاهن.
ذلك قولهم " وإذا تدنست ابنة كاهن بالزنا فقد دنست أباها ، بالنار تحرق [اللاويين 21: 9].
ومن النظم القانونية من يأمر بقتل الخارج على النظام إلى غير ذلك.
ثامنًا: الحدود عقوبات واعية تتناسب مع النفس البشرية والعقوبات البديلة خالية من هذه القيم.
129- حد الردة
الرد على الشبهة:
إن الإسلام يقرر حرية اختيار الدين ، فالإسلام لا يكره أحداً على أن يعتنق أى دين يقول الله تعالى (لا إكراه فى الدين ) (1).
غاية ما هنالك أن الإسلام لا يقبل الشرك بالله ولا يقبل عبادة غير الله وهذا من صلب حقيقة الإسلام باعتبار كونه دين من عند الله جل وعلا ، ومع ذلك يقبل النصارى واليهود ولا يقاتلهم على ما هم عليه ولكن يدعوهم إلى الإسلام. كما أن الإسلام لا يبيح الخروج لمن دخل فى دين الله لا يكلف أحداً أن يجهر بنصرة الإسلام ، ولكنه لا يقبل من أحدٍ أن يخذل الإسلام ، والذى يرتد عن الإسلام ويجهر بذلك فإنه يكون عدوًّا للإسلام والمسلمين ويعلن حرباً على الإسلام والمسلمين ولا عجب أن يفرض الإسلام قتل المرتد ، فإن كل نظام فى العالم حتى الذى لا ينتمى لأى دين تنص قوانينه أن الخارج عن النظام العام له عقوبة القتل لا غير فيما يسمونه بالخيانة العظمى.
وهذا الذى يرتد عن الإسلام فى معالنة وجهر بارتداده ، إنما يعلن بهذا حرباً على الإسلام ويرفع راية الضلال ويدعو إليها المنفلتين من غير أهل الإسلام وهو بهذا محارب للمسلمين يؤخذ بما يؤخذ به المحاربون لدين الله.
والمجتمع المسلم يقوم أول ما يقوم على العقيدة والإيمان. فالعقيدة أساس هويته ومحور حياته وروح وجوده ، ولهذا لا يسمح لأحد أن ينال من هذا الأساس أو يمس هذه الهوية. ومن هنا كانت الردة المعلنة كبرى الجرائم فى نظر الإسلام لأنها خطر على شخصية المجتمع وكيانه المعنوى ، وخطرعلى الضرورة الأولى من الضرورات الخمس " الدين والنفس والنسل والعقل والمال ".
والإسلام لا يقبل أن يكون الدين ألعوبة يُدخل فيه اليوم ويُخرج منه غداً على طريقة بعض اليهود الذين قالوا: (آمنوا بالذى أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ) (2).
والردة عن الإسلام ليست مجرد موقف عقلى ، بل هى أيضاً تغير للولاء وتبديل للهوية وتحويل للانتماء. فالمرتد ينقل ولاءه وانتماءه من أمة إلى أمة أخرى فهو يخلع نفسه من أمة الإسلام التى كان عضواً فى جسدها وينقم بعقله وقلبه وإرادته إلى خصومها ويعبر عن ذلك الحديث النبوى بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: [ التارك لدينه المفارق للجماعة ] (3) ، وكلمة المفارق للجماعة وصف كاشف لا منشئ ، فكل مرتد عن دينه مفارق للجماعة.
ومهما يكن جرم المرتد فإن المسلمين لا يتبعون عورات أحدٍ ولا يتسورون على أحدٍ بيته ولا يحاسبون إلا من جاهر بلسانه أو قلمه أو فعله مما يكون كفراً بواحاً صريحاً لا مجال فيه لتأويل أو احتمال فأى شك فى ذلك يفسر لمصلحة المتهم بالردة.(3/156)
إن التهاون فى عقوبة المرتد المعالن لردته يعرض المجتمع كله للخطر ويفتح عليه باب فتنة لا يعلم عواقبها إلا الله سبحانه. فلا يلبث المرتد أن يغرر بغيره ، وخصوصاً من الضعفاء والبسطاء من الناس ، وتتكون جماعة مناوئة للأمة تستبيح لنفسها الاستعانة بأعداء الأمة عليها وبذلك تقع فى صراع وتمزق فكرى واجتماعى وسياسى ، وقد يتطور إلى صراع دموى بل حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس.
وجمهور الفقهاء قالوا بوجوب استتابة المرتد قبل تنفيذ العقوبة فيه بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية هو إجماع الصحابة ـ رضى الله عنه ـ وبعض الفقهاء حددها بثلاثة أيام وبعضهم بأقل وبعضهم بأكثر ومنهم من قال يُستتاب أبداً ، واستثنوا من ذلك الزنديق ؛ لأنه يظهر خلاف ما يبطن فلا توبة له وكذلك سابّ الرسول صلى الله عليه وسلم لحرمة رسول الله وكرامته فلا تقبل منه توبة وألَّف ابن تيمية كتاباً فى ذلك أسماه " الصارم المسلول على شاتم الرسول ".
والمقصود بهذه الاستتابة إعطاؤه فرصة ليراجع نفسه عسى أن تزول عنه الشبهة وتقوم عليه الحُجة ويكلف العلماء بالرد على ما فى نفسه من شبهة حتى تقوم عليه الحُجة إن كان يطلب الحقيقة بإخلاص وإن كان له هوى أو يعمل لحساب آخرين ، يوليه الله ما تولى.
=============
شبهات النصارى حول الإسلام
جمع وترتيب
وليد كمال شكر
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمدلله رب العالمين
الحمد لله الذى جعل لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأرسل فينا رسولا كريما فحبانا بذلك فضلا عظيما وبعد
فإن المتأمل فى هذه الهجمة الشرسة على عقيدة المسلمين وشريعتهم يلمح أثر الحقد الدفين فى طيات هذه الهجمة الضارية فالأعداء يعلمون أن الإسلام كدين يحمل أسباب البقاء فى ذاته ويملك من وسائل التأثير والتغيير مالا يوجد فى غيره من الأديان لذا رأينا الإسلام ينتشر رغم تقصير المسلمين فى نصرته وتبليغه ورأينا الإسلام يفرض نفسه على الأحداث ويظهر بقوة من جديد على الساحة رغم أن أعداءه لا يألون جهدا فى محاربته وتحجيمه لذلك كله لجأ الأعداء إلى وسيلة خبيثة تصرف المسلمين عن دينهم أو تزرع الشك فى نفوسهم وهى وسيلة الشبهات التى تثار حول الإسلام وهم بذلك يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ومن هؤلاء الذين مارسوا هذا النوع من الوسائل النصارى لذا رأيناأن نجمع هذه الشبهات فى كتاب واحد ثم نذكر رد العلماء عليها راجين من المولى سبحانه أن يجعل ذلك فى ميزان حسناتنا وأن يكون هذا العمل عذرا لنا عند ربنا إذا سألنا ماذا قدمتم لدينكم تجاه هذه الهجمة الحاقدة وما كان لى من دور فى ذلك سوى الجمع والترتيب مستفيدا من شتى المواقع الإسلامية على شبكة المعلومات والله أسأل أن يجعل هذا العمل صالحا ولوجهه خالصا .
منهج النصارى في الشبهات عن الإسلام
1- الكذب و التلاعب في النصوص :
مارس النصارى الكذب في نقدهم لهذا الدين،ومن ذلك ما قاله صاحب كتاب "الحق" حين زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات انتظر المسلمون قيامه كما قام المسيح، فلما لم يقم ارتد المسلمون عن الإسلام" .
و من المعلوم أن القرآن صرح بمثلية رسول الله لسائر البشر في خاصية الموت، و قد صرح القرآن بموته، و لم يرد شيء فيه أو عن رسولنا يفيد قيامته صلى الله عليه وسلم من الموت ، و قد روي عن عمر أنه قال مثل هذا القول لحظة ذهوله عند فاجعته برسول الله صلى الله عليه وسلم و سرعان ما أفاق منه.
و أما حركة الردة فقد بدأت إبان حياته صلى الله عليه وسلم بظهور الأسود العنسي ، و فشت بعد وفاته، و لم يكن من دواعيها مثل هذا القول الذي ذكره النصراني.
و من الكذب أيضاً قول القس شروش و هو عربي فلسطيني في مناظرته لديدات أمام جمهور من الأعاجم الذين لا يعرفون العربية، فيقول مكذباً القرآن في عربيته: " لكن محمداً استعمل كثيراً من الكلمات و الجمل الأجنبية في القرآن ، و هذا يترك كثيراً من التساؤل عند الناس إن كانت لغة الله غير كافية بحيث تحتاج إلى عدة لغات أخرى… في كتاب ادعي أن الله أوحاه بالعربية" ، و بالطبع لا يوجد في القرآن جملة غير عربية ، فقد نزل بلسان عربي مبين .
و من الكذب أيضاً قوله: " المسلمون غير العرب يشعرون بأنهم مجبرون أن يحفظوا على الأقل أربعين سورة من القرآن بالعربية مع أنهم لا يتكلمونها و لا يتخاطبونها " و أي من العلماء لم يوجب مثل هذا .
2- تحريف النصوص :
يلجأ النصارى أيضاً إلى تحريف ألفاظ النصوص الإسلامية ، و من ذلك قول القس شروش لمستمعيه الإنجليز:" أنتم معشر المسلمين تعتقدون أن المسيح ما زال على قيد الحياة " .يقول ديدات : نعم. فأكمل القس شروش " لكننا إذا قارنا هذا بما جاء في القرآن فإننا سنجد تناقضاً ، فإن القرآن يقول { و السلام علي يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حياً } قرأها في العربية صحيحة ، ثم ترجمها : "و سلام علي يوم ولدت و يوم مت و يوم أبعث حياً " فحول الأفعال المضارعة و التي يراد منها المستقبل إلى أفعال ماضية مستغلاً جهل مستمعيه بلغة العرب، و ظن أن حيلته و كذبه ينطلي على العلامة الأعجمي ديدات .
و من التحريف أيضاً أن النصارى حين استشهادهم بالنصوص الإسلامية كانوا يختارون ما يعجبهم من النص و يدعون ما لا يوافق هواهم ، و من ذلك قول وهيب خليل في كتابه " استحالة تحريف الكتاب المقدس "في سياق حديثه عن أدلة ألوهية المسيح في القرآن و السنة فيقول: "روى البخاري في الجزء الثالث ص107 قائلاً:" لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً " وفي هذا دليل قاطع على ألوهية السيد المسيح،لأن الدينونة لله وحده " .(3/157)
و قد غض النصراني طرفه عن بقية الحديث و فيه : " فيكسر الصليب و يقتل الخنزير و يضع الجزية و يفيض المال حتى لا يقبله أحد" فالأمور المذكورة في تتمة الحديث تدل على بطلان النصرانية ، و أن المسيح سيحطم رمزها (الصليب) ، و أنه سيحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما أن الحديث يتحدث عن أحداث قبل القيامة ، فالساعة لا تقوم حتى تحصل هذه الأمور ، و الدينونة الكبرى إنما تكون بعد قيام الساعة.
و نصوص القرآن صريحة في أن الله هو الذي سيدين الخلائق كما قال تعالى { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق إلا له الحكم و هو أسرع الحاسبين }
الفصل الثانى : شبهات عامة
الشبهة الأولى :-
يذكر النصارى حد الردة في الإسلام على أنه دليل وحشية المسلمين وأنه الإسلام دين لايعترف بالأخر وليس فيه مجال للحرية الإنسانية
الجواب :
أولاً : إن كان هذا الأمر طعناً فإنه يقع على كتاب النصارى المقدس بأشنع وجه وإليك الأدلة :
1- جاء في سفر الخروج [ 2 2 : 20 ] قول الرب :
(( مَنْ يُقَرِّبْ ذَبَائِحَ لِآلِهَةٍ غَيْرِ الرَّبِّ وَحْدَهُ يهلك ))
2- جاء في سفر التثنية [ 13 : 6 ] قول الرب :
(( وَإِذَا أَضَلَّكَ سِرّاً أَخُوكَ ابْنُ أُمِّكَ، أَوِ ابْنُكَ أَوِ ابْنَتُكَ، أَوْ زَوْجَتُكَ الْمَحْبُوبَةُ، أَوْ صَدِيقُكَ الْحَمِيمُ قَائِلاً: لِنَذْهَبْ وَنَعْبُدْ آلِهَةً أُخْرَى غَرِيبَةً عَنْكَ وَعَنْ آبَائِكَ 7مِنْ آلِهَةِ الشُّعُوبِ الأُخْرَى الْمُحِيطَةِ بِكَ أَوِ الْبَعِيدَةِ عَنْكَ مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ إِلَى أَقْصَاهَا، 8فَلاَ تَسْتَجِبْ لَهُ وَلاَ تُصْغِ إِلَيْهِ، وَلاَ يُشْفِقْ قَلْبُكَ عَلَيْهِ، وَلاَ تَتَرََّأفْ بِهِ، وَلاَ تَتَسَتَّرْ عَلَيْهِ. بَلْ حَتْماً تَقْتُلُهُ. كُنْ أَنْتَ أَوَّلَ قَاتِلِيهِ، ثُمَّ يَعْقُبُكَ بَقِيَّةُ الشَّعْبِ. ارْجُمْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ . . . )) ترجمة كتاب الحياة
3 _ ورد في سفر الخروج [ 32 : 28 ] ان الرب أمر نبيه موسى عليه السلام بقتل عبدة العجل من بني لاوي فقتل منهم 23 ألف رجل : (( فَأَطَاعَ اللاَّوِيُّونَ أَمْرَ مُوسَى. فَقُتِلَ مِنَ الشَّعْبِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نَحْوَ ثَلاَثَةِ آلافِ رَجُلٍ. 29عِنْدَئِذٍ قَالَ مُوسَى لِلاَّوِيِّينَ: «لَقَدْ كَرَّسْتُمُ الْيَوْمَ أَنْفُسَكُمْ لِخِدْمَةِ الرَّبِّ، وَقَدْ كَلَّفَ ذَلِكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ قَتْلَ ابْنِهِ أَوْ أَخِيهِ، وَلِكِنْ لِيُنْعِمْ عَلَيْكُمُ الرَّبُّ فِي هَذَا اليَوْمِ بِبَرَكَةٍ ))
وهذه التشددات لا توجد في القرآن الكريم ، فالعجب من النصارى المتعصبين ، أن الكتاب المقدس لا يلحقه عيب بهذه التشدادت ، وأن الاسلام يكون معيباً !!!
فى العهد القديم جرائم عقوبتها القتل، مثل : الأكل من شحوم البهائم التى تقدم كقرابين [لاويين 7/25]
وأكل الدم [لاويين 7/27]
والذبح بعيدًا عن باب خيمة الاجتماع [لاويين 17/3]
واللواط [لاويين 20/13]
وإتيان البهائم [لاويين 20/15]
وإتيان المرأة فى حيضها [لاويين 20/18]
والعمل فى يوم الكفارة [لاويين 23/30]
والامتناع عن صوم يوم الكفارة [لاويين 23/29]
وسب الوالدين [لاويين 20/9]
وعمل السحر أو العرافة [لاويين 20/27]
فهذه جرائم عقوبتها القتل، ومعلوم أن الكفر بالله أشد الجرائم فى جميع الأديان، فهل شرع الرب فى العهد القديم القتل عقوبة على هذه الجرائم، ولم يشرع القتل على أشد الجرائم وهو الكفر؟ .. وإذا كان مستحسنًا من الرب أن يشرع عقوبة القتل على هذه الجرائم وغيرها، فلماذا تستقبح نفس العقوبة على جريمة الردة وهى أشد خطرًا من هذه الجرائم ؟ .
ثانياً : هناك أمور يجب ذكرها فى هذا النطاق
إن الإسلام يقرر حرية اختيار الدين ، فالإسلام لا يكره أحداً على أن يعتنق أى دين يقول الله تعالى (( لا إكراه فى الدين )) غاية ما هنالك أن الإسلام لا يقبل الشرك بالله ولا يقبل عبادة غير الله وهذا من صلب حقيقة الإسلام باعتبار كونه دين من عند الله جل وعلا ، ومع ذلك يقبل النصارى واليهود ولا يقاتلهم على ما هم عليه ولكن يدعوهم إلى الإسلام. كما أن الإسلام لا يبيح الخروج لمن دخل فى دين الله لا يكلف أحداً أن يجهر بنصرة الإسلام ، ولكنه لا يقبل من أحدٍ أن يخذل الإسلام ، والذى يرتد عن الإسلام ويجهر بذلك فإنه يكون عدوًّا للإسلام والمسلمين ويعلن حرباً على الإسلام والمسلمين
لا عجب أن يفرض الإسلام قتل المرتد ، فإن كل نظام فى العالم حتى الذى لا ينتمى لأى دين تنص قوانينه أن الخارج عن النظام العام له عقوبة القتل لا غير فيما يسمونه بالخيانة العظمى.
وهذا الذى يرتد عن الإسلام فى معالنة وجهر بارتداده ، إنما يعلن بهذا حرباً على الإسلام ويرفع راية الضلال ويدعو إليها المنفلتين من غير أهل الإسلام وهو بهذا محارب للمسلمين يؤخذ بما يؤخذ به المحاربون لدين الله.
3- الإسلام لا يقبل أن يكون الدين ألعوبة يُدخل فيه اليوم ويُخرج منه غداً على طريقة بعض اليهود الذين قالوا: (( آمنوا بالذى أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون )) [ آل عمران : 72 ]
والردة عن الإسلام ليست مجرد موقف عقلى ، بل هى أيضاً تغير للولاء وتبديل للهوية وتحويل للانتماء. فالمرتد ينقل ولاءه وانتماءه من أمة إلى أمة أخرى فهو يخلع نفسه من أمة الإسلام التى كان عضواً فى جسدها وينتقل بعقله وقلبه وإرادته إلى خصومها ويعبر عن ذلك الحديث النبوى بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: [ التارك لدينه المفارق للجماعة ] [ رواه مسلم ] ، وكلمة المفارق للجماعة وصف كاشف لا منشئ ، فكل مرتد عن دينه مفارق للجماعة.(3/158)
4- مهما يكن جرم المرتد فإن المسلمين لا يتبعون عورات أحدٍ ولا يتسورون على أحدٍ بيته ولا يحاسبون إلا من جاهر بلسانه أو قلمه أو فعله مما يكون كفراً بواحاً صريحاً لا مجال فيه لتأويل أو احتمال
5- إن التهاون فى عقوبة المرتد المعالن لردته يعرض المجتمع كله للخطر ويفتح عليه باب فتنة لا يعلم عواقبها إلا الله سبحانه. فلا يلبث المرتد أن يغرر بغيره ، وبذلك تقع الأمة فى صراع وتمزق فكرى واجتماعى وسياسى ، وقد يتطور إلى صراع دموى بل حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس.
6- جمهور الفقهاء قالوا بوجوب استتابة المرتد قبل تنفيذ العقوبة فيه بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية هو إجماع الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ وبعض الفقهاء حددها بثلاثة أيام وبعضهم بأقل وبعضهم بأكثر ومنهم من قال يُستتاب أبداً ، واستثنوا من ذلك الزنديق ؛ لأنه يظهر خلاف ما يبطن فلا توبة له وكذلك سابّ الرسول صلى الله عليه وسلم لحرمة رسول الله وكرامته فلا تقبل منه توبة وألَّف ابن تيمية كتاباً فى ذلك أسماه " الصارم المسلول على شاتم الرسول ".
والمقصود بهذه الاستتابة إعطاؤه فرصة ليراجع نفسه عسى أن تزول عنه الشبهة وتقوم عليه الحُجة ويكلف العلماء بالرد على ما فى نفسه من شبهة حتى تقوم عليه الحُجة إن كان يطلب الحقيقة بإخلاص وإن كان له هوى أو يعمل لحساب آخرين ، يوليه الله ما تولى.
(( نقلا عن موقع الحقيقة ))
==================
وفي كتاب شبهات حول الإسلام للداعية الإسلامي الكبير محمد قطب حفظه الله :
الإسلام … وَالعقوبات
هل يمكن أن تطبق اليوم تلك العقوبات الهمجية التي كانت تطبق في الصحراء ؟ هل يجوز أن تقطع يد في ربع دينار ؟ اليوم في القرن العشرين الذي يعتبر المجرم فيه ضحية من ضحايا المجتمع ، ينبغي علاجه ولا يجوز أن تمتد إليه يد بالعقاب ؟
إن القرن العشرين يجيز لك مثلاً أن تقتل أربعين ألفاً في الشمال الإفريقي في مجزرة واحدة لأنهم أبرياء ، ولكن كيف يجيز لك أن تعاقب فرداً واحداً لأنه مجرم أثيم ؟
ويل للناس من الألفاظ .. كم تخدعهم عن الحقيقة ؟ !
فلنترك حضارة القرن العشرين تتخبط في آثامها ، ولنبسط فكرة الجريمة والعقاب في الإسلام .
الجريمة في الغالب اعتداء موجه من الفرد إلى الجماعة ( ) . ولذلك كانت فكرة الجريمة والعقاب وثيقة الصلة بنظرة الأمم لطبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع .
فالأمم الفردية - كدول الغرب الرأسمالية - تبالغ في تقديس الفرد وتجعله محور الحياة الاجتماعية كلها ، كما تبالغ في التحريج على حق المجتمع في فرض القيود على حرية الفرد . وتمتد هذه النظرة إلى الجريمة والعقاب ، فتعطف هذه الدول على المجرم عطفاً بالغاً ، وتدلله باعتباره ضحية أوضاع فاسدة أو عقد نفسية أو اضطرابات عصبية لم يكن يملك التغلب عليها ، ومن ثم تحاول تخفيف العقوبة عنه بقدر الإمكان ، وتظل تخففها في الجرائم الخلقية خاصة حتى تكاد تخرج بها من دائرة العقاب .
وهنا يتدخل علم النفس التحليلي ليبرر الجريمة .
وقد كان فرويد بطل هذا الانقلاب التاريخي في النظر إلى المجرم على انه ضحية العقد الجنسية التي تنتج من كبت المجتمع والأخلاق والدين والتقاليد للطاقة الجنسية التي يجب أن تجد منصرفها الطليق ! ثم تبعته مدارس التحليل النفسي سواء اعترفت مثله بأن الطاقة الجنسية هي مركز الحياة أم لم تعترف . والمجرم في نظرها جميعاً مخلوق سلبي لا يملك أمره من تأثير البيئة العامة والظروف الخاصة التي نشأ فيها وهو طفل صغير . فهم يؤمنون بما نسميه " الجبرية النفسية " أي أن الإنسان لا إرادة له ولا تصرف في الطاقة النفسية التي تتصرف بطرقة جبرية .
والأمم الجماعية على العكس من ذلك تؤمن بأن المجتمع هو الكائن المقدس الذي لا ينبغي لفرد أن يخرج عليه ، ومن هنا تشتد في عقوبة الفرد الخارج على الدولة إلى حد القتل والتعذيب .
والشيوعية خاصة تؤمن بأن الجرائم كلها تنشا من أسباب اقتصادية ، لا من أسباب نفسية أصيلة كما يؤمن فرويد وغيره من العلماء التحليليين . ففي المجتمع الذي تختل اقتصادياته لا يمكن أن تنِشأ الفضائل ، ولا يجوز أيضاً معاقبة المجرم ، أما في روسيا حيث يسير الاقتصاد بالعدالة المطلقة فلست أدري لم تنشأ الجرائم ، ولماذا تقام هناك المحاكم والسجون !
لا ريب على أي حال في أن كلتا النظرتين تشتمل على شيء من الحق وشيء من المبالغة . فالظروف المحيطة بالفرد ذات أثر بعيد في تكوينه ، والعقد اللاشعورية تدفع أحياناً إلى الجريمة . ولكن الإنسان مع ذلك ليس كائناً سلبياً بحتاً بإزاء الظروف . إن عيب المحللين النفسين أنهم - بطبيعة عملهم - ينظرون إلى الطاقة المحركة في الإنسان - إلى " الدينامو " - ولا ينظرون إلى الطاقة الضابطة - إلى الفرامل - مع انها جزء أصيل من كيان النفس البشرية غير مفروض عليها من الخارج . إن الطاقة التي تجعل الطفل يضبط إفرازاته فلا يتبول في فراشه بعد سن معينة - حتى ولو لم يدربه أحد - لهي ذاتها - أو شبيهة بها - الطاقة التي تضبط انفعالاته وتصرفاته فلا ينساق دائماً وراء الشهوة الجامحة أو وراء النزوة الطارئة .
ومن جانب آخر فإن الظروف الاقتصادية ذات أثر في تكوين مشاعر الأفراد وأعمالهم. والجوع يدفع إلى الجريمة كما يدفع إلى السقوط الخلقي ، بما يفكك من كيان النفس وما ينمي فيها من الأحقاد . ولكن القول بأن العامل الاقتصادي هو الوحيد الذي يؤثر في سلوك البشر قول مبالغ فيه تكذبه وقائع الحياة ، ويكذبه قيام الجرائم في الاتحاد السوفييتي ذاته الذي يقول دعاته إنه قضى على الفقر والجوع .
بقي أن نسأل : ما مدى مسئولية المجرم إذن عن جريمته ، لكي نوقع - أو لا نوقع - عليه العقوبات ؟
ومن هذا الجانب يأخذ الإسلام مسألة الجريمة والعقاب .(3/159)
إنه لا يقرر العقوبات جزافاً ، ولا ينفذها كذلك بلا حساب . وله في ذلك نظرة ينفرد بها بين كل نظم الأرض ، نظرة تلتقي حيناً برأي الدول الفردية ، وحيناً برأي الدولة الجماعية ، ولكنها تمسك بميزان العدالة من منتصفه ، وتحيط بالظروف والملابسات كلها في وقت واحد ، وتنظر إلى الجريمة في آن واحد بعين الفرد الذي ارتكبها ، وعين المجتمع الذي وقعت عليه ، ثم تقرر الجزاء العادل الذي لا يميل مع النظريات المنحرفة ولا شهوات الأمم والأفراد .
يقرر الإسلام عقوبات رادعة قد تبدو قاسية فظة لمن يأخذها أخذاً سطحياً بلا تمعن ولا تفكير ، ولكنه لا يطبقها أبداً حتى يضمن أولاً أن الفرد الذي ارتكب الجريمة قد ارتكبها دون مبرر ولا شبهة اضطرار .
فهو يقرر قطع يد السارق ، ولكنه لا يقطعها أبداً وهناك شبهة بأن السرقة نشأت من الجوع .
وهو يقرر رجم الزاني والزانية ، ولكنه لا يرجمهما إلا أن يكونا محصنين ، وإلا أن يشهد عليهما أربعة شهود بالرؤية القاطعة . أي حين يتبجحان بالدعارة حتى ليراهما كل هؤلاء الشهود ، وهما متزوجان .
وهكذا وهكذا في جميع العقوبات التي قررها الإسلام .
ونحن نأخذ هذا من مبدأ صريح قرره عمر بن الخطاب ، وهو من أبرز الفقهاء في الإسلام ، وهو فوق ذلك رجل شديد التزمت في تنفيذ الشريعة ، فلا يمكن اتهامه بالبحبحة في التطبيق .
وعمر لم ينفذ حد السرقة في عام الرمادة ، عام الجوع ، حيث كانت الشبهة قائمة في اضطرار الناس للسرقة بسبب الجوع .
والحادثة التالية أبلغ في الدلالة وأصرح في تقرير المبدأ الذي نشير إليه :
" روى أن غلماناً لابن حاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة ، فأتى بهم عمر ، فأقروا ، فأمر كثير بن الصلت بقطع أيديهم . فلما ولى رده ثم قال : أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه لحل له ، لقطعت أيديهم . ثم وجه القول لابن حاطب بن أبي بلتعة فقال : وأيم الله إذ لم أفعل ذلك لأغرمنك غرامة توجعك ! ثم قال يا مزني ، بكم أريدت منك ناقتك ؟ قال : بأربعمائة قال عمر لابن حاطب : اذهب فأعطه ثمانمائة "
فهنا مبدأ صريح لا يحتمل التأويل ، هو أن قيام ظروف تدفع إلى الجريمة يمنع تطبيق الحدود ، عملاً بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " ادرأوا الحدود بالشبهات " ( ) .
فإذا استعرضنا سياسة الإسلام في جميع العقوبات التي قررها ، وجدنا أنه يلجأ أولاً إلى وقاية المجتمع من الأسباب التي تؤدي إلى الجريمة ، وبعد ذلك لا قبله يقرر عقوبته الرادعة وهو مطمئن إلى عدالة هذه العقوبة ، بالنسبة لشخص لا يدفعه إلى جريمته مبرر معقول . فإذا عجز المجتمع لسبب من الأسباب عن منع مبررات الجريمة ، أو قامت الشبهة عليها في صورة من الصور ، فهنا يسقط الحد بسبب هذه الظروف المخففة ، ويلجأ ولى الأمر إلى إطلاق سراح المجرم أو توقيع عقوبات التعزير - كالضرب والحبس - بحسب درجة الاضطرار أو درجة المسئولية عن الجريمة .
فهو مثلاً يسعى إلى توزيع الثروة توزيعاً عادلاً ، وقد وصل في عهد عمر بن عبد العزيز إلى إلغاء الفقر من المجتمع . ويعتبر الدولة مسئولة عن كفالة كل فرد فيها بصرف النظر عن دينه وجنسه ولغته ولونه ومكانه في الحياة الاجتماعية . والدولة تكفل أفرادها بإيجاد العمل الكريم لهم . أو من بيت المال إذا لم يوجد عمل ، أو عجز عنه فرد من الأفراد . وبذلك يمنع الإسلام الدوافع المعقولة للسرقة . ومع ذلك يحقق في كل جريمة تقع ، ليتأكد قبل توقيع العقوبة أن مرتكبها لم يرتكبها بدافع الاضطرار .
وهو يعترف بقوة الدافع الجنسي وعنف إلحاحه على البشر . ولكنه يعمل على إشباع هذا الدافع بالطريق المشروع : طريق الزواج ، فيدعو إلى الزواج المبكر ، ويعين على إتمامه من بيت المال إذا حالت الظروف الخاصة دون إتمامه . ويحرص كذلك على تنظيف المجتمع من كل وسائل الإغراء التي تثير الشهوة ، وعلى وضع الأهداف العليا التي تستنفد الطاقة الحيوية الفائضة وتوجهها في سبيل الخير ، وعلى شغل أوقات الفراغ في التقرب إلى الله ، وبذلك كله يمنع الدوافع التي تبرر الجريمة . ومع ذلك فهو لا يبادر بتوقيع العقوبة حتى يكون مرتكبها قد تبجح بها استهتاراً بتقاليد المجتمع وإمعاناً في الهبوط الحيواني حتى ليراه أربعة شهود .
وأول ما يتبادر إلى الذهن هو أن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والخلقية الموجودة اليوم ، كلها تباعد بين الشباب وبين الزواج ، وتقرب بينهم وبين الجريمة . وذلك صحيح . والإسلام ينبغي أن يؤخذ كله وإلا فهو غير مسؤول عن انحرافات الجاهلية . وحين يحكم الإسلام فلن تكون هذه المثيرات الجنونية التي تدفع الشباب دفعاً إلى الهبوط . لن تكون السينما العارية والصحافة الخليعة والأغاني المبتذلة والفتنة الهائجة في الطريق . ولن يكون الفقر الذي يمنع الناس من الزواج . وعندئذ فقط يطالب الناس بالفضيلة وهم قادرون عليها وتوقع عليهم العقوبة وهم غير معذورين .
وهكذا شان الإسلام في بقية العقوبات . يعمل على وقاية المجتمع أولاً من دوافع الجريمة ، ثم يدرأ الحدود بالشبهات زيادة في الاحتياط . فأي نظام في الدنيا كلها يبلغ هذه العدالة ؟
وإن " الإفرنج " الذين يخشى المسلمون تشنيعهم على الإسلام بسبب تطبيق هذه العقوبات ليستفظعونها ويرون فيها إهداراً لكيان الفرد واستهتاراً بشأنه ، لأنهم لم يدرسوا نظرة الإسلام للجريمة والعقاب على حقيقتها . ولأنهم يتصورون خطأ أنها كعقوباتهم " المدنية " ستطبق كل يوم ، فيتصورون في المجتمع الإسلامي مجزرة هائلة : هذا يجلد وهذا يقطع وهذا يرجم . ولكن الواقع أن هذه العقوبات الرادعة لا تكاد تنفذ .(3/160)
ويكفي أن نعلم أن حد السرقة لم ينفذ إلا ست مرات في أربعمائة سنة لنعرف أنها عقوبات قصد بها التخويف الذي يمنع وقوعها ابتداء . كما أن معرفتنا بطريقة الإسلام في وقاية المجتمع من أسباب الجريمة قبل توقيع العقوبة تجعلنا في اطمئنان تام إلى العدالة في الحالات النادرة التي توقع فيها هذه الحدود .
ولن يجد هؤلاء " الإفرنج " أو غيرهم ما يخشونه من تطبيق الحكم الإسلامي إلا أن يكون كلهم مجرمين بالطبع ، مصرين على الإجرام رغم انتفاء المبررات التي تدفعهم إلى الجريمة !
وربما خيل لبعض الناس أنها إذن عقوبات صورية لا قيمة لها في الواقع . وهذا غير صحيح . فهي موجودة لتخويف بعض الأفراد الذين لا يلجئهم إلى الجريمة دافع معقول ، ولكنهم مع ذلك يحسون ميلاً إليها وإقبالاً على ارتكابها ، فمهما تكن أسباب هذا الدافع فسوف يراجع هؤلاء الأفراد أنفسهم مرات عديدة قبل ارتكاب الجريمة خوفاً من العقاب . وإن من حق المجتمع ما دام يعمل في سبيل الخير ، ويرعى الجميع بعنايته ، أن يطمئن على أرواحه وأعراضه وأمواله أن تمتد إليها يد العدوان . ثم إن الإسلام لا يمتنع عن علاج هؤلاء النزاعين إلى الجريمة بغير مبرر واضح ، ولا يتركهم - إذا اكتشفهم - فريسة لما ينطوون عليه من انحراف
تلك عقوبات الإسلام التي يخشاها الشباب " المثقف " والتي ينفر منها بعض فقهاء القانون لئلا يصمهم الإفرنج بالهمجية والانحطاط ! ألا من يعلّم هؤلاء وهؤلاء حكمة هذا التشريع الإسلامي الرفيع !
========================
الرِّدة بين الصراع الحضاري وُسنَّة التدافع
المرتد الأفغاني.. ساندته الدول النصرانية الكبرى في العالم بما أمريكا وإيطاليا وألمانيا
أثار حادث الردة للمواطن الأفغاني الطبيب " عبد الرحمن " ضجة في الأوساط الإسلامية - بعد أن تبين أنه قد تنصر أثناء عمله لصالح جماعة إغاثة للاجئين الأفغان في باكستان قبل 15 عاما- أحدثت الردة والتعامل الغربي معها ضجة في الوسط الإسلامي، ليعود الحديث حول علاقتنا بالغرب ومحاولة فهم وجهة نظر الغرب إلى قضايانا .
أولاً : حادث الردة يبين مدى خطورة جمعيات الإغاثة الغربية التي تعمل في المناطق الإسلامية، ويُظهر بوضوح أن التنصير هو الهدف الحقيقي لهذه الجمعيات وليس الإغاثة، كما ٌيظهر الخطر الكبير الذي يتعرض له المسلمون اللاجئون الذين تعمل بينهم هذه الجمعيات بعد أن تم التضييق على عمل جمعيات الإغاثة الإسلامية من قبل الأنظمة الحاكمة بدعوى محاصرة الإرهاب.
ثانياً : فضحت حادثة الردة للمواطن الأفغاني السلوك الغربي عموما تجاه القيم التى يدعو إليها من المساواة والحرية واحترام القانون، فقد مارس عدد من الدول الغربية ضغطا على أفغانستان وعلى رأسها الولايات المتحدة بعد أن تعهد الرئيس بوش باستخدام نفوذ بلاده على أفغانستان لضمان "حق عبد الرحمن في اختيار دينه"، كما وأعربت عدة دول تنشر قوات في أفغانستان، من بينها كندا وإيطاليا وألمانيا وأستراليا، عن قلقها بشأن هذه القضية، وكانت وكالة الأنباء الإيطالية قد ذكرت السبت 25-3-2006 أن "بابا الفاتيكان وجه رسالة إلى الرئيس الأفغاني عبر وزير خارجيته الكاردينال أنجيلو سودانو تدعو إلى احترام حقوق الإنسان ". إن هذا الضغط على الحكومة الأفغانية كان السبب المباشر وراء الإفراج عن المرتد "عبد الرحمن " رغم أن الدستور الأفغاني الجديد الذي رعته الولاايات المتحدة ونال رضاها ينص على عقوبة الإعدام جزاء جريمة الارتداد عن الدين الإسلامي.
ثالثاً : فتحت كل الدول الغربية أذرعها ليعيش على ثراها وتحت رعايتها المرتد الأفغاني حيث صرح رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو بيرلسكوني ان "المرتد الأفغاني" الذي اعتنق المسيحية وصل الى روما الأربعاء 29-3-2006 بعد ان منحته الحكومة الايطالية اللجوء السياسي
رابعاً : يبدو هذا الترحيب الذي لقيه المرتد منطقيا ومتوافقاً مع القيم الغربية " فقط " في حالة الارتداد عن الإسلام كشرط للجوء والعيش هناك، أما إذا لجأ إليهم مهاجر فقير متمسك بدينه، حينئذٍ تبدو القيم الحقيقية للغرب وسأضرب هنا مثلا بالمهاجرين دليلا على ما أقول : فحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة، فإن أسبانيا تحتاج إلى 12 مليون مهاجر بحلول سنة 2050، وبمتوسط 240 ألف مهاجر سنويا لكي تحافظ على معدلات نموها الاقتصادي الحالي، رغم ذلك فقد جاء في تقارير لجمعيات ومنظمات حقوقية: إن أكثر من 10 آلاف شخص لقوا حتفهم غرقا في مضيق جبل طارق أثناء محاولاتهم الهجرة إلى أوربا عبر القوارب خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية فقط، كما أن وزير الداخلية الفرنسي نيكولا ساركوزي قد صرح الجمعة 9-9-2005 أنه تم طرد نحو 13 ألف أجنبي في وضع غير شرعي من فرنسا خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2005، داعيا إلى تسريع عمليات الطرد.(3/161)
خامساً : حتى نفهم العلاقة مع الغرب لابد أن ننظر في موضوع الصراع بين الحضارات الذي هو موضوع غربي بامتياز حيث يعود إلى العصر اليوناني والروماني اللذين سادت فيهما مفاهيم الصراع بدلالاتها المتعددة ومعانيها المتنوعة، انطلاقاً مما كان يعرف في الفكر اليوناني القديم من عقيدة " صراع الآلهة " و" صراع القوة والضعف " و" صراع الخير والشر "، و" صراع الإنسان مع الطبيعة " و" صراع الإنسان مع الآلهة "، كما لا يخلو " العهد القديم " من روح الصراع هذه، فالصراع إذن أسٌّ من الأسس الثابتة التي قامت عليها الحضارة الغربية، وإذا تأملنا اليوم الوضع الدولي العام، وجدنا أن نظام العولمة الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وتسعى إلى فرضه على العالم عبر مجموعة من التدابير والأنظمة يُراد تطويعُها وصبّها في قالب دولي للدفع بنظام العولمة إلى اكتساح المواقع وفرض الوجود على العالم كلّه، وجدنا هذا النظام تعبيراً عن فكرة الصراع وانعكاساً لروحها، كما أن الحرب على الإرهاب وفق المنظور الأمريكي، تحولت هي الأخرى إلى حرب من أجل الهيمنة والتسلّط، وفرض المفهوم الأمريكي لصراع الحضارات بالقوة.
سادسا : رغم أن الغرب هو الذي أنشأ ورعى ويصدر مفهوم الصراع الحضاري إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه: هل هذا المفهوم حتمي الحدوث؟ كما بشر بذلك صامويل هنتنغتون في كتابه الشهير "صدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي"، الذي صدر في عام 1996م وفرانسيس فوكوياما الذي أصدر كتابه الشهير أيضاً "نهاية التاريخ"؟
الإجابة هنا هي النفي المطلق، ومن هنا يأتي دورنا كمسلمين في تعميق مفهوم "التدافع الحضاري" كسنة ربانية بديلا عن مفهوم الصراع الغربي، وليس يعني ذلك أن الحياة ستسير وفق خط بياني صاعد ومطّرد تتحقق فيه المصالح والمنافع للناس كافة في جميع الأحوال وتترقى ذواتهم، وأن الخير والشر لا يتصادمان، وإنما القصد من ذلك أن التدافع يُبطل الصراع، وأن الخير يغلب على الشر، وأن الحضارات تَتَواصَلُ وتَتَلاقَحُ وتَتَدافَعُ، وأن قيم الخير والعدل والفضيلة ومكارم الأخلاق والسلام في النفس وفي الأرض هي مقوّمات الحضارة التي تخدم الإنسان، وأن الحق والعدل هما قاعدتا الحضارة التي يسعد الإنسان في كنفها ويُبدع ويعمّر الأرض ويصلح ولا يفسد، فإن الصراع حالةٌ عارضةٌ، وهو شذوذٌ عن القاعدة، وليس طبيعةً من طبائع الحضارات، لأنه يَتَنافَى والفطرة الإنسانية، وهو نقيضُ " التدافع الحضاري " الذي قامت الحضارة الإسلامية على أساسه، وهو إلى ذلك كلِّه، البديلُ الموضوعيُّ للفوضى التي تسود الأوساط الفكرية والسياسية في العالم اليوم، من جرّاء شيوع مفاهيم مغلوطة ورؤى مشوّشة وتحليلات مغرضة تدفع بحركة الفكر العالمي وبالسياسة الدولية على وجه العموم، نحو مناطق مجهولةٍ محفوفةٍ بالمخاطر التي تتهدَّد الإنسانية في حاضرها وفي مستقبلها.
سابعاً : وإن كان هذا الأفغاني قد أعلن ردته فإن المشكلة تكمن فيمن هم على شاكلته ولكنهم لايعلنون ردتهم ليظلوا شوكة في خاصرة المجتمعات المسلمة، كذلك لن يستطيع الغرب أن يجرنا إلى مفهومه لصراع الحضارات ولكننا سنظل أوفياء لقيمنا وسندعوهم " للتدافع الحضاري " و" التفاعل الحضاري ".
وأخيرا : فإنني أهدي الغرب هذه الوثيقة التاريخية مثالا على تطبيقنا لمبادئنا التي عشنا لها وسنموت من أجلها، " من جورج الثاني ملك انجلترا والسويد والنرويج إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس صاحب العظمة هشام الثالث الجليل المقام .. بعد التعظيم والتوقير نفيدكم أننا سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة .. فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم، لنشر ربوع العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة، وقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة " دوبانت " على رأس بعثة من بنات الأشراف الانجليز لتتشرف بلثم أهداب العرش والتماس العطف، لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وقد زودت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل ... أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخالص .." من خادمكم المطيع / جورج الثاني".
المصريون: صبري السيد (بتصرف يسير)
===============
الرد على شبهة حرية الرأي: حد الردة
باسل بن عبد الرحمن الجاسر
حلب
جامع الرئيس
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- كمال الدين الإسلامي. 2- تفنيد دعوى أن الإسلام دين الإرهاب. 3- الإسلام بين الغلاة والمتحللين. 4- الفرق بين العقيدة والتطبيق. 5- قضية حرية الرأي. 6- الحرية الدينية في الإسلام. 7- الجهاد والحرية الدينية. 8- شبهة قتل المرتد. 9- أصناف المرتدين. 10- استتابة المرتد. 11- من آداب الدعوة وأحكامها. 12- متى يقتل المرتد؟ 13- قصة المنافق عبد الله بن أبي بن سلول. 14- المسلم بحكم البيئة إذا ارتد عن دينه.
-------------------------
الخطبة الأولى
أمّا بعد: أيّها الإخوة المؤمنون، دينٌ كاملٌ لا نقص فيه، محكمٌ لا ثغرة فيه، مضيءٌ لا ظلمة فيه، والكامل هو الّذي يراد بالتّنقّص دون النّاقص.
وإذا أتتك مذمّتي من ناقصٍ…فهي الشّهادة لي بأنّي كامل
وكما قال الصّينيّون: "إنّ النّاس لا يرمون بالأحجار إلاّ الشّجرة المثمرة"، لهذا فقد كان هذا الدّين غرضًا لسهام كثيرٍ من الحاقدين، وكان هذا الدّين مظنّةً لظنون كثيرٍ من الجاهلين، وأمّا أولئك الّذين ما كانوا حاقدين ولا كانوا جاهلين فإنّ كثيرًا منهم وقفوا عاجزين عن ردّ شبهات المشبّهين وعن ردّ ظنون الظّانّين، فضاع الإسلام بين حاقدٍ وبين جاهلٍ وبين عاجز.(3/162)
ولكنّه لا يحتاج إلى من يدافع عنه؛ لأنّه حقّ بذاته لا بمدافعيه، ولأنّه كمالٌ بذاته لا بمناصريه، ولكنّ شرفًا للمرء أن يكون مدافعًا عن الدّين الكامل وإن كان هذا الدّين مستغنيًا عنه؛ لأنّ الله جلّ وعلا تكفّل بحفظه ببشرٍ أو بغير بشر، فهو محفوظ.
شبهات كثيرة رددنا كثيرًا منها وبقي الكثير، وتكلّمنا عمّا يُزْعَم من أنّ الإسلام دين عنفٍ وقسوة ودين إرهابٍ وتطرّفٍ وبطش، فهو دينٌ يطالب بإيجاد مجتمعٍ إرهابيٍّ تسود فيه الأحكام الجائرة، فتارةً يذبَّح أشخاصٌ، وأخرى تقطّع أيديهم، يجلدون ويرجمون بالحجارة حتّى الموت، عقوباتٌ عفا عليها الزّمان كما يقولون، عقوباتٌ صارت تتنافى مع حقوق الإنسان في القرن الحادي والعشرين، عقوباتٌ صارت بعيدةً عن الحسّ الحضاريّ لإنسان العصر الحديث ولإنسان النّظام العالميّ الجديد؛ لذلك علينا أن نقوم بأحد أمرين: إمّا أن نُنظّف الإسلام من هذه الأحكام الجائرة حتّى يصير دينا حضاريًّا، وإذا عَجَزنا عن هذا التّنظيف فلندع الإسلام جملةً وتفصيلا؛ لأنّ دينًا فيه مثل هذه الأحكام ليس أهلاً لأن يُطبّق في زمان النّظام العالميّ الجديد.
سمع مسلمون هذا الكلام فأعجبهم وغرّهم، فأخذوا بالرّأي الأوّل ظانّين أنّهم به يكونون مسلمين، قالوا: إذًا نبقى مسلمين ولكنْ مع إجراء بعض عمليّات التّطهير والتّنظيف لهذا الدّين؛ نريد إسلامًا حضاريًّا خاليًا من الشّوائب، نريد إسلامًا لا عنف فيه، نريد إسلامًا لا إرهاب فيه، نريد إسلامًا لا تقطع فيه الأيدي ولا يرجم فيه الرّجال والنّساء ولا يجلد فيه الأُناس البرآء الّذين أذنبوا ذنبًا لا يتناسب مع هذه العقوبة العظيمة.
صدّق أولئك هذا القول، فإذا بهم يحاربون الإسلام من حيث أرادوا أن ينصروه، ويوسّخونه من حيث أرادوا أن ينظّفوه، الإسلام برّاقٌ بذاته لا يحتاج إلى من يلمّعه، فإذا زعم امرؤٌ عندما يُحرف شيئًا من تعاليم الإسلام وأحكامه أنّه يلمّع الإسلام فإنّه يزعم إذًا أنّه يزيد فيه، والإسلام كامل، وليست الزّيادة على الكامل إلاّ نقصانا، الكامل لا يُزاد فيه، فمن زعم أنّه زاد الكامل فوق كماله فهو إذًا ينقصه، ومن زعم أنّه يلمّع الإسلام فوق لمعانه فهو إذًا يوسّخه.
خذوا الإسلام كما هو، خذوه جملةً واحدة، أو فدعوه جملةً واحدة، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85]، كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، جعلوا القرآن عضين أعضاء وأشلاء مفرقةً مبعثرةً، يأخذون ما بدا لهم ويدعون ما لم يبدُ لهم، يأخذون ما توافق مع هواهم ويدعون ما تخالف معه، يأخذون ما وافق عقولهم الفاسدة ويدعون ما خالفها، كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:90-93].
خذوا الدّين جملةً أو فدعوه جملة من حيث الاعتقاد، أمّا من حيث التّطبيق فإذا أخذت بعضه وتركت بعضه فإنّك تُؤجر على ما أخذت وتأثم على ما تركت، قد يُجَزَّأ الإسلام تطبيقًا، فإذا رأيت امرأً يصلّي الصّلوات الخمس ولا يصوم في رمضان فلا تقل له: صلاتك مردودةٌ عليك ولا قيمة لها عند الله، بل إنّ لصلاته أجرًا، ولترك الصّيام وزرًا، وإذا رأيت امرأةً سافرةً متبرّجة تصلّي وتصوم وتكثر من النّوافل في الصّلاة وفي الصّيام وتتصدّق وتكثر من الصّدقات فلا تقل لها: إنّ أعمالك كلّها هباءٌ منثور ولا قيمة لها ومردودةٌ في وجهك لأنّكِ تركت الحجاب، عليك أن تأخذي الدّين كلّه أو تدعيه كلّه، لا، بل إنّها تؤجر على ما فعلت وتأثم على ما تركت ما دامت بالكلّ معتقدة.(3/163)
فالتّطبيق إذًا جُزء يجزّأ أجزاؤه، وأمّا الاعتقاد إذَا جُزّئ فإنّه عند الله لا يجزّأ، فإمّا أن يقبل كلّه أو أن يُردّ كلّه، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]، الخطابُ خطابُ عقيدةٍ إذًا لا خطابُ تطبيق، وكم من أُناسٍ عجزوا أو نكصوا عن أن يطبّقوا الإسلام كلّه فتركوا بعض تعاليمه، فهل نقول: إنّ كلّ ما طبّقوا مردودٌ عليهم لبعض ما تركوا؟! لا، بل إنّهم يُؤجرون ويأثمون، ميزان حسناتٍ وميزان سيّئات دقيقان لطيفان يحاسبان بمثقال الذّرّة، فالحسنة محسوبة والسّيّئة محسوبة، أمّا إن تعلّق الأمر بالاعتقاد فإنّ التّجزئة هنا غير مقبولةٍ بحالٍ من الأحوال، أن يقول قائل: "يعجبني في الإسلام تعاون أفراده، ويعجبني في الإسلام الحسّ الرّوحيّ اللّطيف فيه، ويعجبني في الإسلام تهذيب الأخلاق فيه، ويعجبني في الإسلام الصّلة بين العبد وربّه، كلّ هذا أقبله، فأنا مسلمٌ من هذا المنطلق، ولكنْ أن تقول لي: عبوديةٌ في القرن العشرين والحادي والعشرين! وأن تقول لي: قطعٌ للأيدي في عصر حقوق الإنسان! وأن تقول لي: رجمٌ بالحجارة في عهد المنظّمات الدّوليّة ووسائل الإعلام تبثّ كلّ صغيرةٍ وكبيرة! فإسلامٌ من هذا النّوع لا يعجبني، إذًا أنا مسلم"، نقول له: إذًا أنت غير مسلم، لأنّ المسلم مستسلم، وليس الإسلام إلاّ إسلام الكلّ لله تعالى، فلا تكون مسلمًا ما لم تسلّم عقلك وهواك وجوارحك بعد ذلك كلّه للدّين، فإن كنت غير مستعدٍّ لأن تستسلم جملةً وتفصيلا فإذًا أنت لست مسلما، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، ((لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعًا لما جئت به)) أخرجه الحسن بن سفيان وغيره عن أبي هريرة، قال ابن حجر: "ورجاله ثقات" وصححه النّووي في الأربعين، حتّى يكون عقله، حتّى يكون منطقه، وحتّى تكون طريقة تفكيره، كلّ ذلك تبعًا لما جاء به .
بهذا نخاطب المؤمنين الّذين زعموا أنّهم يكونون مسلمين وإن ردّوا بعض عقائد الإسلام، فبماذا نخاطب غير المسلمين؟
خاطبناهم طويلاً في شبهاتٍ كثيرةٍ عديدةٍ، كلّمناهم عن الفسق، كلّمناهم عن التّسرّي واتّخاذ الجواري، كلّمناهم عن الحدود، عن القطع وعن الجلد وعن الرّجم، ولربّما نعود إلى ذلك مرّةً أخرى لنستوفيه، ولكنّنا لمّا نكلّمهم عن شبهة عظمى من شبهاتهم الّتي كثيرًا ما تشدّقوا بها ولاكتها ألسنتهم، وعندما تكلّموا بها زعموا أنّهم أصابوا من الإسلام مقتلا، وزعموا أنّ المسلمين أجمعين سيقفون عاجزين لأنّ الإسلام ثبت أنّه دينٌ غير حضاريّ، إنّها حرّيّة الرّأي، إنّها حرّيّة اعتناق المذهب والمبدأ والدّين، إنّها الحرّيّة الّتي أعطاها الإسلام أتباعه ورعايا دولته من غير أتباعه على حدٍّ سواء، بينما زعم غير المسلمين أنّها حرّيّةٌ مفقودةٌ في ظلّ دولة الإسلام، تلك الدّولة الّتي يزعمون أنّها دولةٌ ثيوقراطيّة؛ دولةٌ يسود فيها الحكم الدّينيّ الإرهابيّ الجائر، وليست الثّيوقراطيّة من الإسلام في شيء، إنّما الإسلام أُنموذجٌ لا يمكن أن يُعبّر عنه مصطلحٌ من المصطلحات الغربيّة؛ لأنّه أُنموذجٌ لا يعرفونه، فلا يشبهه حكمٌ دينيٌّ نصرانيّ، ولا حكم دينيٌّ يهوديّ، ولا حكمٌ دينيٌ بوذيّ، ولا يشبهه بالمقابل حكمٌ مدنيّ، فهو حكمٌ جمع بين الدّينيّ الثّيوقراطيّ وبين المدنيّ المتحلّل، هو حكمٌ دينيٌّ مدنيٌّ في آنٍ معًا، هو حكمٌ منضبطٌ حرٌّ في آنٍ معًا، ولكنّه ذلك التّحرّر الوسط ما بين التّحلّل والتّحجّر، وديننا دين أوساط، وما من وسطٍ إلاّ هو فضيلة وسطٌ بين رذيلتين، الفضيلة هي وسطٌ بين رذيلتين، يعرف ذلك علماء الأخلاق، فلماذا حاكموا الإسلام بمعيارٍ آخر؟ فأرادوا أن يكون الإسلام بعيدًا عن الوسط طوباويًّا خياليًّا على طرف نقيضٍ من الرّذيلة، أفلا يعلمون أنّ كلّ طرفي نقيضٍ متقابلين متشابهان؟! فما قابل الرّذيلة فهو رذيلة، ما قابل التّزمّت المذموم تحلّلٌ مذموم، ما قابل التّعصّب المذموم تسيّبٌ مذموم، والحقّ هو الوسط بين الأضداد، التّحرّر وسط بين التّحلّل والتّحجّر، الإسلام ما دعا إلى تحجّرٍ وتزمّتٍ وانغلاق، ولكنّه بالمقابل ما أفسح المجال لأيٍّ كان حتّى يتحلّل من الضّوابط والقيود ويفعل ما يشاء متى يشاء بالشّكل الّذي يشاء، لكنّه ضبط.
الحرّيّة الدّينيّة ـ إخوتي ـ أسٌّ من أسس الإسلام، لمّا كان الأنصار أوسًا وخزرجًا في الجاهليّة قبل أن تصهرهم بوتقة الإسلام كان بعضهم لا يعيش له ولد وكان ينذر إن عاش له ولدٌ أن يهوّده؛ بحكم معاشرة اليهود للعرب ـ الأوس والخزرج ـ في تلك المدينة، فلمّا جاء الإسلام ونُوِّرت المدينة المنوَّرة كان كثيرٌ من أبناء الأنصار عبدة الأوثان يهودًا، فأسلم الآباء وبقي الأبناء على دينهم، رغب الآباء في إسلام أبنائهم، ورغب الأبناء عن إسلام آبائهم، وما بين الرّغبة في الإسلام والرّغبة عن الإسلام صار الحبل يُشدّ بين الآباء والأبناء، حتّى همّ الآباء بإجبار أبنائهم على اعتناق الإسلام، عندها أنزل الله تعالى قوله: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:256].(3/164)
عندما تكلّمنا عن الجهاد علمنا أنّ الجهاد لم يكن من أجل الإكراه، ولكنّ الجهاد كان من أجل التّحرير، كان الجهاد تحريرًا لآراء الشّعوب وعقائدهم من سلطان الملوك الجائرين، حتّى يستطيع الشّعب اتّخاذ كلمته بعيدًا عن سلطة المتسلّطين، فلمّا حارب المسلمون الملوك والجيوش ولم يحاربوا الشّعوب أفسحوا المجال للشّعوب لاتّخاذ القرار ولإعلان الكلمة، فمنهم من دخل الإسلام ومنهم من لم يدخل، ولم يُكره على ذلك أحد، وحسبك بذلك ذلك الحدث الجليل الّذي سردناه في عهد عمر بن عبد العزيز ما حدث في مصر، عندما انزعج والي مصر من دخول النّصارى في مصر في الإسلام؛ لأنّ دخولهم في الإسلام كان يُقلّلُ ريع الدّولة من الجزية، فأرسل إلى عمر بن عبد العزيز يشكو له ذلك، يشكو له أنّ أهل مصر يدخلون في الإسلام بكثرة، وإنّ هذا سينقص من أموال الجزية، فأرسل عمر بن عبد العزيز إلى والي مصر مَن عاقبه ضربًا بالسّياط، وقال له: (لوددت أنّ أهل مصر كلّهم دخلوا في الإسلام، إنّ الله بعث محمّدًا هاديًا، ولم يبعثه جابيًا).
أفترى في موقف الوالي ثمّ في موقف أمير المؤمنين أيّة إشارة أو تشمّ أيّ رائحة بأنّهم أكرهوا النّاس على الدّخول في الإسلام؟! والأمثلة بعد هذا كثير، فلم يكن الجهاد إذًا مظهرًا من مظاهر الإكراه، ولكنّه كان مظهرًا بالغًا من مظاهر التّحرير، ومن مظاهر الإطلاق والإعتاق، فلمّا انعتق النّاس اتخذوا قراراتهم بأنفسهم، لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.
ها هو تعالى يقول في موطنٍ آخر: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]. إنّها حرّيّةٌ مطلقةٌ في الرّأي والاختيار، ولكنّها حرّيّةٌ تترتّب عليها نتائج عظيمة، وبقدر ما يُعطى المرء من الحرّيّة يُحمّل من المسؤوليّة، فلمّا أُعطي حرّيّةً عظمى تتعلّق باتّخاذ القرار في أهمّ مسألةٍ في الكون وأهمّ مسألةٍ على مرّ التّاريخ، ألا وهي حرّيّة اتّخاذ الإله وحرّيّة انتساب الدّين، عندها حمّله أعظم مسؤوليّةٍ على الإطلاق، حمّله نتيجةً عظيمة هي الخلود في نعيمٍ أو في جحيم، وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ، ولكنْ ما بعد ذلك؟ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29-31].
هم اختاروا فتحمّلوا نتيجة اختيارهم، ولو أنّه أجبرهم على اتّباع مبدأ أو امتثال أمرٍ أو اعتناق دين لما تحمّلوا هذه المسؤوليّة العظيمة؛ لأنّه سبحانه كما قال: لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44]، وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًَا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153]. إنّه تخيير، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]، إنّه تخيير، وما أكثر النّصوص الّتي تُقرّ التّخيير إقرارًا نظريًّا في الكتاب أو في السّنّة، فطريق الخير وطريق الشّرّ بيّنان.
يقال لنا: لقد تأكّدنا أنّ دينكم أقرّ حرّيّة الاختيار وحرّيّة العقيدة وحرّيّة الدّين إقرارًا نظريًّا، ولكنْ إذا نحن بحثنا في التّطبيق العمليّ عن ذلك فهل نجده أم إنّنا نجد إرهابًا وقسرًا؟ يُقال لنا: ما تقولون في حدّ الرّدّة؟! حيث إنّ مسلمًا يرتئي دينًا آخر غير الإسلام دينَ حقّ فيتّبعه فيقتل لذلك: ((من بدّل دينه فاقتلوه)) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن ابن عباس رضي الله عنه، فكيف نوفّق بين تلك الحرّيّة المزعومة وبين هذا التّسيير وهذا الإجبار العمليّ البيّن: ((من بدّل دينه فاقتلوه))؟! فمن ارتدّ عن الإسلام قتل!
الجواب عن ذلك ـ إخوتي ـ أنّ الّذي لم يكن مسلمًا ليس ملزمًا في الدّنيا بأن يكون مسلمًا، وإن كنّا من النّاحية النّظريّة نحذّره من أنّه إن اختار غير الإسلام فسيتحمّل نتيجةً وخيمةً يوم القيامة؛ لأنّه يختار دينَ غير الله ويختار غيرَ دين الله؛ لذلك نحذّره، ولكنّنا لا نجبره، فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، فإن شاء أسلم فله الفضل وله حقوق المسلمين وعليه واجباتهم، وإن شاء لم يسلم فسوف يعامل معاملةً فاضلةً في الدّولة المسلمة كما قال خالد بن الوليد، وكما قال أبو عبيدة، وكما قال الفاتحون العظام: لنا ما لهم وعلينا ما عليهم، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، حتّى ولو لم يسلموا فإنّ لهم حقوقًا كما أنّ عليهم واجبات، يدفعون الجزية، وقد فصّلنا طويلاً في الجزية وبيّنّا أنّ فرض الجزية على غير المسلمين إنّما هو فضلٌ لهم وليس فضلاً للدّولة، فالدّولة الإسلاميّة تفضّلت عليهم إذ طالبتهم بالجزية لا أكثر.(3/165)
فها هو السّلطان سليم الأوّل ويقال السّلطان سليمان القانونيّ يخشى من تجمّع الأروام والبلغار والصّرب والأرمن، فَيَهِمُّ بإخراجهم من الدّولة العثمانيّة، فيقول له شيخ الإسلام في كلّ مرّة ويحذّره: "ليس لك عليهم إلاّ الجزية"، ليس لك أن تمارس ضدّهم إرهابًا دينيًّا أو تطهيرًا عرقيًّا، الله أوجب عليهم الجزية، فليس لك أن توجب عليهم سواها، فإذا لم يكن مسلمًا فإنّه ليس ملزمًا بأن يصير مسلمًا، فإن صار مسلمًا فبها ونعمت، وإلاّ فإنّ الدّولة الإسلاميّة تحفظ له حقوقه، تحفظ للنّصارى كنائسهم ولليهود بيعهم، وإنّ الدّولة الإسلاميّة تحميهم من أعدائهم، ولا تكلّفهم الخدمة الإلزاميّة في الجيش، فإذا خدم أحدهم في الجيش سقطت عنه الجزية لأنّه فعل ما يعوّضها، فما أشبه الجزية إذًا ببدَل الخدمة الإلزاميّة يدفعها من أراد أن لا يخدم في الجيش، وأمّا المسلم فليس له ذلك، ليس له أن لا يخدم في الجيش، بل هو ملزمٌ بالجهاد، صار التّفاوت هنا نظريًّا من النّظرة الدّنيويّة لصالح النّصرانيّ، وأمّا من النّظرة الأخرويّة فإنّ الجهاد فضلٌ وشرف وليس قسرًا وكلفة، لذلك صار لمصلحة المسلم، الدّولة الإسلاميّة مطالبةٌ بأن تحمي النّصارى من بعضهم، كما حدث في إنطاكيّة في بعض عصور الدّولة العثمانيّة، عندما خصّصت الدّولة جنودًا وأحراسًا يحمون طوائف النّصارى من بعضهم لعظيم الفتنة الّتي كانت بينهم، حتّى في فلسطين، حتّى في مهد النّصرانيّة في بيت لحم، كان النّصارى يذبّحون بعضهم ويقتتلون؛ من الّذي يحوز مفاتيح كنيسة المهد ـ مهد المسيح عليه السّلام ـ؛ لهذا فقد آلت المفاتيح إلى المسلمين إلى ذرّيّة أبي أيّوبٍ الأنصاريّ رضي الله عنه.
الدّولة الإسلاميّة مطالبةٌ بتأمين الحياة الكريمة لهؤلاء من غير المسلمين: (فوالله، ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثمّ نخذله عند الهرم)، قالها عمر بن الخطّاب في رجلٍ يهوديّ.
إذًا ليس غير المسلم مطالبًا بالدّخول في الإسلام إلاّ مطالبةً دينيّةً معنويّةً، وأمّا من النّاحية المدنيّة فلا، فإن لم يسلم فإنّه لن يقتل، ولكنْ إذا أسلم ـ إخوتي ـ فإنّه قد صار عضوًا في هذا الاجتماع، وصار عضوًا في هذه المنظّمة الّتي تدعي الإسلام، فلا بدّ إذًا أن يتحمّل نتائج انتسابه لهذه المنظّمة، ولا بدّ من أن يكون راضيًا بكلّ ما فيها من مبادئ وقوانين، لم نأت بهذه القاعدة من عندنا فقط، بل إنّ كثيرين من غير المسلمين اعترفوا بها، فذلك على سبيل المثال جون جاك روسو في كتابه (العقد الاجتماعيّ) يقرّ أنّ امرأً فردًا من النّاس إن دخل في اجتماعٍ معيّن، وإن صار عضوًا في مجتمعٍ معيّن فقد عقد بينه وبين هذا المجتمع عقدًا بطريقةٍ تلقائيّةٍ، وإن لم يوقّع ويوقّعوا، وإن لم ينصّ وينصّوا، فإنّ العقد قد أبرم لأنّه صار عضوًا في هذا المجتمع، إن أنت دخلت بلدًا من البلدان فهل لك أن تخالفَ قانونه بدعوى أنّك لا تعترف بهذا القانون؟! إن أنت دخلت بلدًا يحرّم التّدخين في وسائل النّقل فدخّنت في وسائل النّقل وطولبت بالغرامة أو حبست ربّما، فهل لك أن تقول: أنا لست مقتنعًا بهذا القانون؟! إذا كنت غير مقتنعٍٍ بقانون البلد فلمَ دخلت البلد من الأساس؟! ما دمت قد دخلت البلد فأنت ملزمٌ بكل قوانينه، إن كنت معتادًا على التّسيّب في بلدك ثمّ سافرت إلى بلدٍ آخر لا تسيّب فيه واستمرَّت مسيرة التّسيّب عندك فهل تعذر لأنّك من بلدٍ آخر؟! لا، بل إنّ قوانين البلد الجديد صارت نافذةً عليك ملزمةً لك بكل تفاصيلها وحذافيرها، إذا كان هذا يتعلّق بالدّخول في بلد فمن باب أولى إن كان دخولاً في نظام وإن كان اعتناقًا لمبادئ هذا النّظام، إن أنت انتسبت إلى حزبٍ سياسيّ أو نادٍ اجتماعيّ أو منظّمةٍ ثقافيّةٍ مثلاً وبايعت أربابها على نظامها الدّاخليّ بتفاصيله، فهل لك فيما بعد أن تخالفه بدعوى أنّك غير مقتنعٍ به أو ببعض بنوده؟! لا.
فإذا دخلت ـ يا أيّها الإنسان ـ في دينٍ اسمه الإسلام فأنت إذًا ملزمٌ بتفاصيل هذا الإسلام، وعالمٌ مسبقًا بما يترتّب على كلّ فعلٍ تفعله، أنت لم تكن ملزمًا بالدّخول في هذا الدّين، أمَا وقد دخلت فيه فإنّك ملزمٌ بكلّ تفاصيله لأنّه دينٌ لا يجزَّأ، نظامٌ محكمٌ لا يفتّت، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]. فعليك أن تقبل به كما هو.
يقول قائل: فإن دخلت فيه ثمّ تبيّنَت ليَ بعض التّفاصيل الّتي لم تعجبني فيما بعد فما أفعل؟ نقول: إن ارتدَدت عن هذا الدّين فإنّك إذًا لم ترتدّ عنه لأنّ بعض التّفاصيل لم تعجبك، ولكنّك ارتددت لأنّك إنسانٌ هوائيّ، تتّبع هواك، تريد التّقلّب والتّذبذب.(3/166)
هذه الرّدّة الّتي وضع لها هذه العقوبة الصّارمة نتائجها وخيمةٌ على المجتمع المسلم، تصوّر أنّ امرأً من النّاس يدخل الإسلام اليوم ثمّ يخرج منه غدًا، ثمّ يدخل فيه ثمّ يخرج منه، وقلّده أمثاله من المغرضين أصحاب الأهواء، ماذا سوف يحُلّ بالمسلمين من ضعاف الإيمان؟ سيقولون: لماذا يدع الإسلامَ بعد أن يدخل فيه؟! هذا لا بدّ أنّه يدلّ على أنّ في الإسلام أخطاءً اكتشفها هذا الرّجل، فسوف يهمّون بفعل مثل ما فعل، وفي هذا قال تعالى: آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]. هكذا قال اليهود لبعضهم، حرّضوا بعضهم على الإسلام ثمّ الرّدّة عَلَّ المسلمين يرتدّون مثل ما يرتدّ اليهود، آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أسلموا صباحًا واكفروا مساءً ثمّ أسلموا صباحًا ثمّ اكفروا مساءً لعلّهم يرجعون، أي: لعلّ المسلمين يرجعون عن دينهم ويرتدّون عنه، في المجتمع أمثال هؤلاء، فلا بدّ من أن توضع لهم عقوباتٌ صارمة لئلا تسوّل لهم نفوسهم أن يتّخذوا الإسلام لعبة وأن يتّخذوه طريقًا سهلا، الدّخول في الطّريق ليس مثله الرّجوع منه، فالرّجوع صعب، ما دمت قد دخلت فليس لك أن ترجع بالسّهولة ذاتها، ادرس الإسلام حتّى إذا اقتنعت به فاتّبعه، فإذا اتّبعته فلْتكن مخلصًا له.
ما أكثر ما نرى اليوم من مسلمين ضَعف إيمانهم لا لأنّ الإسلام فيه خطأٌ أو أنّ الإسلام فيه عيبٌ، ولكنْ بما يرون من تقصير من حَولهم، فكيف إذا رأوا ردّةً ممّن حولهم؟! كيف إذا رأوا نكوصًا عن الدّين جملةً وتفصيلا؟!
ثمّ ها هنا مسألةٌ هامّة، وهي أنّ المرتدّ غالبًا سيكون أحَد نوعين:
أمّا النّوع الأوّل فهو هذا الّذي ذكرنا، صاحب الغرض والهوى الّذي يريد أن يؤذيَ الإسلام، ويريد أن يخرّب الإسلام من الدّاخل، ومعلومٌ أنّ التّخريب من الدّاخل أبلغ ضررًا من التّخريب من الخارج؛ لذلك صارت اليوم وسيلة التّفجير وتهديم المباني هي التّفجير الدّاخليّ لأنّه يقوض البناء من أسسه، فإذا كان في المجتمع أمثال هؤلاء فلا بدّ من أن نقطع دابرهم بعقوبة القتل: ((من بدّل دينه فاقتلوه)).
وأمّا النّوع الثّاني فإنّهم أناسٌ لا يفكّرون بمثل هذا ولا يريدون أن يؤذوا الإسلام أو أن يردّوا المسلمين عن دينهم، ولكنّهم حقًّا اشتبهت عليهم بعض الأفكار، وضلّوا في فهم بعض أحكام الإسلام، فارتدّوا عن الدّين لهذا، فما حكم هؤلاء؟ وهل يقتلون كما يقتل أولئك؟ نعم يقتلون، ولكنْ لا يقتلون ابتداء، بل لا بدّ قبل أن نقتلهم من أن نردّ الشّبهات في عقولهم، ولا بدّ من أن نزيل ذلك الغبار الّذي تراكم على عقيدتهم.
يستتاب المرتدّ ثلاثة أيّامٍ قبل أن يقتل، فإن تاب فبها ونعمت، نسينا ما قال وتجاهلناه وعاد عضوًا نافعًا صالحًا في المجتمع، وأمّا إن بقي على ردّته فإنّ لنا معه شأنًا آخر عندها.
ثلاثة أيّامٍ نستتيبه فيهنّ، ولا بد من أن نقف عند هذه الاستتابة، فهل الاستتابة هي ما يفهمها عوامّ النّاس من أن نذهب فنقول له: "تب إلى الله، وإن لم تتب فسوف نقتلك"؟ هذا الكلام يعرفه ولا جدوى من تكراره على مسمعه، بل إنّه إن لم تردّ الشّبه حقيقةً فإنّه سيكون متقبّلاً للقتل، ألا ترى أن كثيرين يقتلون شهداء مبادئ فاسدة وهم مسرورون بذلك؟! ألا ترى إلى أصحاب المبادئ القوميّة والشّوفينيّة وأصحاب المبادئ الاشتراكية والشّيوعيّة وأصحاب المبادئ الفاسدة كيف يقتلون مسرورين لأنّهم يرون أنفسهم ينصرون القضيّة؟! فإن نحن استتبناه استتابةً ظاهرة فإنّنا لن نحلّ الإشكال، وسوف نقتله وهو بذلك مسرور، ولا نحلّ بذلك إشكالاً، سوف يظنّ أنّه قتل شهيدَ الحرّيّة وشهيد المبدأ وشهيد النّور وشهيد العقل والمنطق، ونحن في نظرِه العتاةُ المتمرّدون والطّغاة المتجبّرون الّذين حاربنا الحقّ والخير والهدى والفضيلة والعقل والمنطق، فهو المظلوم ونحن الظّلمة في نظره.
ليست الاستتابة كما تتصوّرون إخوتي؛ إنّما الاستتابة حلٌّ للعقد وفكٌّ للشّبه حتّى يستطيع الرّجل أن يفكّر بالمنطق الدّينيّ مرّةً أخرى. إذًا لا بدّ أن يكون المستتيبون علماء عقلاء حكماء، فإن كان ذلك المرتدّ فيلسوفًا فلا بدّ من أن يكون المستتيبون فلاسفة، وإن كان ذلك المرتدّ عالمًا تجريبيًّا فلا بدّ من أن يكون أولئك المستتيبون علماء تجريبيّين، وإن كان ذلك المرتدّ إنسانًا يفهم بمنطق التّاريخ فلا بدّ من أن يكون المستتيبون مناطقةً في التّاريخ، فضلاً عن علم المستتيبين بأحكام الشّرع وبمنطق الدّعوة والإصلاح حتّى يستطيعوا أن يعاملوه كما يناسبه.
الدّاعي ـ إخوتي ـ لا بدّ من أن يكون محقّقًا لشروطٍ هامّة، لا بدّ من أن يكون الدّاعي إلى الله عمومًا في كلّ مواطن الدّعوة عالمًا في المنطق وعالم نفسٍ وعالم حكمةٍ وفلسفة، ثمّ لا بدّ من أن يكون صاحب روحٍ مرنةٍ لطيفةٍ صافيةٍ يستطيع بها أن يدخل القلوب ويتعامل مع النّفوس، ويستطيع بها أن يتعرّف ثغرات البشر فيدخل عليهم من خلالها، لا بدّ من أن يكون الدّاعي ملمًّا محيطا كالبحر المحيط، لا بدّ من أن يكون الدّاعي في مقابل المتلقّي كالإناء الكبير في مقابل الإناء الصّغير حتّى يستطيع احتواءه واستيعابه، أمّا إن كان الدّاعي صغيرًا والمتلقي كبيرًا فإنّ الدّاعي عاجزٌ عن احتواء المتلقّي، هذا في عموم مواطن الدّعوة فكيف إذًا في دعوة المرتدّ؟! وهنا الدّعوة أخطر.(3/167)
في عموم الدّعوة إذا دعوت نصرانيًّا إلى الإسلام فلم يسلم اليوم فقد يسلم غدًا، فإن لم يسلم غدًا فقد يسلم بعد غدٍ، فإن لم يسلم هذا العام فقد يسلم العالم القادم، على أن أكون صاحب نفسٍ طويل وموجةٍ طويلة في دعوته، وأمّا هذا المرتدّ فإن لم يعد إلى دينه ضمن ثلاثة أيّام فإنّه سيقتل، وحكمة الدّاعي إذًا خطيرةٌ دقيقةٌ في هذا الموطن، أن يذهب أناسٌ جهلة يُسَمَّون مشايخ فقط وليست عندهم الذّخيرة العلميّة الكافية ويقولون له: "يا كافر، يا مرتدّ، عد إلى الدّين وإلاّ سنقتلك" فإنّ هذا سيخرّب أكثر ممّا يبني.
إخوتي، في أصل الدّين والإيمان لا يمكن أن يكفر بالدّين امرؤٌ لشبهةٍ تتردّد عنده في الأصل كما قال أبو سفيان في جوابه على أسئلة هرقل، قال له: هل يدخل أحدٌ دينه ثمّ يخرج منه سُخطةً له؟ قال: لا، فقال هرقل: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يخرج منها.
هذه الرّدّة حادثة، عندما صارت الشّبهات تُشاع وصارت الأمراض تفشو في عقائد النّاس صار بعضهم يرتدّ لشبهة، وإلاّ فلم يكن ذلك في الأصل واردًا؛ لأنّ النّاس كانوا يؤمنون إيمانًا خالصًا، وكانت عقائدهم صافية، إذًا ما دامت الأمراض عارضة فلا بدّ إذًا من أن نعالجها علاجًا حكيمًا، لا بدّ من أن يمضي إلى هذا المرتدّ أناسٌ عقلاء علماء حكماء حلماء توافرت فيهم كمالات الدّعاة كلّها، توافرت فيهم مناقب الحلماء أجمعها؛ حتّى يستطيعوا أولاً أن يفهموا نفسيّة هذا المرتدّ، وثانيًا أن يفهموا الشّبهات الّتي أودت به إلى الرّدّة، وثالثًا أن يفهموا الطّريقة الّتي بها يستطيعون إصلاح المرض، يفهمون النّفسيّة، ثمّ يفهمون أعراض مرضها، ثمّ يفهمون أدوية هذه الأعراض، فإنْ ذهب أناسٌ كهؤلاء إلى هذا المرتدّ وناقشوه وخاطبوه وأقاموا الحجّة عليه فبقي مرتدًّا فقد انتقل إذًا من خانة النّوع الثّاني إلى خانة النّوع الأوّل، إذًا هو لم يرتدّ لشبهة إنّما هو ارتدّ لغرض، عندها صار أهلاً لأنْ يقتل لأنّه أراد تخريب الإسلام وأراد إفساد عقائد المؤمنين؛ لأنّنا أقمنا عليه الحجج، ورددنا له الشّبهات باللغة الّتي يفهمها والمنطق الّذي يفهمه ومع ذلك بقي على ردّته، عندها نقول له: لا بدّ من أن نطهّر المجتمع منك؛ لأنّك مثل أولئك الّذين قالوا: آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]، مرضٌ في نفسك لا تفصح به، لا بدّ من أن تعاقب عليه بالقتل؛ لأنّك عقدت عقدًا اجتماعيًّا مع هذا الإسلام ورضيت من خلاله بكلّ تفاصيله وأحكامه. وأمّا إنْ حاول هؤلاء المستتيبون ردّ الشّبهات فعجَزوا وبقي هو المقدّم وبقي رأيه سائدًا ورأيهم مسودًا وكان هو أقوى حجّةً منهم عندها لا ينبغي أن يقتل هذا الرّجل، لا ينبغي أن يقامَ عليه حدّ الرّدّة لأنّنا ما أقمنا عليه الحجّة بعد، حتّى ولو استمرّت الاستتابة شهورًا لا أيّامًا ثلاثة؛ لأنّنا إنْ قتلناه حينها فإن ذنبه في رقبة وليّ الأمر الّذي قتله دون أن يقيم عليه الحجّة، والّذي أرسل إليه علماء هم جهلاء، وحكماء هم ليسوا حكماء، جعلهم حكّامًا دون أن يكونوا حكماء، ولا بدّ للحاكم من أن يكون حكيمًا، وكلّ حكمٍ لا يُشْفَع بحكمةٍ يكون تسلطًا، فإن عجزنا عن إقامة الحجّة عليه فلا بدّ من أنْ نتخيّر عالمًا يستطيع إقامة الحجّة عليه، وإلاّ فإن قتلناه قبل ذلك فإنّه سيكون قتيل ظلمٍ وقتيل جورٍ وسيكون شهيدًا لرأيه.
هذه هي الرّدّة إخوتي، لا نقتل امرأ إلاّ بعد أن نتأكّد أنّه ارتدّ عن دينه لغرضٍ وهوى، لا لرأيٍ ومبدأ، فأمّا إن كان لرأيٍ ومبدأ فإنّنا نقيم الحجّة عليه، فإن كان لرأيٍ ومبدأ فلا بدّ من أن نستطيع إقناعه بالعكس، فإن لم نستطع فلا ينبغي أن نقتله، وإن استطعنا ولم يعد إلى دينه فلا بدّ من أن نقتله لأنّه إذًا من النّوع الأوّل كما قلت.(3/168)
من هذا المنطلق قتلُ المرتد حمايةٌ للإسلام إذًا من العابثين، وحمايةٌ له من أولئك المغرضين أمثال عبد الله بن سبأٍ مثلاً اليهوديّ الملعون الّذي تظاهر بالإسلام تظاهرًا، وغيره من الّذين دخلوا في الإسلام لا لاعتقادٍ واعتناق، ولكنّهم دخلوا فيه لينخروا فيه من أساساته، وليعيثوا فيه فسادًا من داخله، لا بدّ من أن يطهّر الإسلام من أمثال هؤلاء، ومع هذا ـ إخوتي ـ لا يقتل المرتدّ إلاّ بعد أن يُصرِّح بالرّدّة، فها هم أولاء المنافقون الّذين عاصروا النّبيّ ، لطالما ارتدّوا عن الإسلام، فلمّا قُرِّرُوا بردّتهم نكصوا وأنكروا، فلم يقتلوا بردّة لأنّ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام أخذ بالظّاهر، ها هو ذا رأس النّفاق عبد الله بن أبيّ بن سلول يسبّ النّبي ويذمّه، كانوا راجعين من غزوة بني المصطلق عندما اختصم رجلٌ خزرجيٌّ مع أجيرٍ لعمر بن الخطّاب، والخزرجيّ من أهل المدينة ومن قبيلة عبد الله بن أبيّ لعنه الله، وأجير عمر من أهل مكّة من المهاجرين، فلمّا وصل الخبر لعبد الله بن أبيٍّ قال: أوَيناهم في ديارنا ثمّ يقاتلوننا، ما مثلهم ومثلنا إلاّ كقول من قال: سمّن كلبك يأكلك ـ يقول ذلك عن المهاجرين ـ، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأزل) لعنة الله عليه، يقصد بالأعزّ نفسه، ويقصد بالأذلّ رسول الله ، وصل الخبر إلى المصطفى عليه الصّلاة والسّلام فأرسل إلى عبد الله بن أبيّ: ((أأنت قلتها يا ابن أبيّ؟)) قال: لا، قال: ((فانصرف)). لقد أقرّ الوحي ذلك الخبر، وثبت بالدّليل القاطع الّذي لا شبهة عليه فقال تعالى: يَقُولُونَ لَئِن رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، ومع هذا لم يقتل رسول الله ابن أبيٍّ لأنّه لم يعترف ولم يصرّح بما قال. جاء عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله، مرني أضرب عنقه، قال: ((لا يا عمر، لا أقتله حتى لا يقول النّاس: إنّ محمّدًا يقتل أصحابه)). صلّى الله عليك يا سيّدي يا رسول الله، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين [الأنبياء:107]، ((لا أقتله حتّى لا يقول النّاس: إنّ محمّدًا يقتل أصحابه)). منافقٌ يسبّه ومع ذلك لا يقتله كما يُقتَل المرتدّون، يأتي عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول رضوان الله عليه ولعنة الله على أبيه، يقول: يا رسول الله، إنّه ليس أحدٌ أبرّ بأبيه منّي بأبي، وإنّي سمعت ما قال أبي، وإنّي أخشى أن تأمر واحدًا من المسلمين بقتله فلا أتحمّل ولا أطيق أن أرى قاتل أبي أمامي فأقتله ـ لبرّي بأبي أقتل قاتل أبي ـ فأكون قد قتلت مسلمًا بكافر ـ وهو يعترف أنّ أباه كافر، ولكنّه يخشى من حميّة البنوّة ـ، فيا رسول الله إن أردت أن تقتل أبي فمرني أقتله بنفسي، حتّى لا أتعرض لتقل رجلٍ قتل أبي بل أقتله أنا، فيقول عليه الصّلاة والسّلام: ((لا، ولكنْ نحسن إليه ما دام بيننا)). صلّى الله عليك يا سيّدي يا رسول الله، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين. يمضي عبد الله بن عبد الله رضوان الله عليه إلى أبيه لعنة الله عليه، فيقول له بعد أن أمسك به وهمّ بقتله همّ بضربه، قال له: والله، لا أدعك حتّى تقول: إنّك أنت الذّليل ورسول الله هو العزيز، حتّى إذا اعترف أبوه بذلك تركه، اعترف بأنّه هو الأذلّ ورسول الله هو الأعزّ. تمضي أيّامٌ ـ إخوتي ـ ويموت عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس النّفاق، يأتي ابنه إلى رسول الله ويطلب منه رداءه ليكفّن به أباه، فيعطيه رداءه، ويقول له: ((إن فرغتم منه فأعلموني))، إذا فرغتم منه فأعلموني، يقول عمر: يا رسول الله، تكفّنه ببردتك وقد نافق! فيقول: ((وما ينفعه بردي إن لم ينفعه عمله؟!))، يعلمون رسول الله بأنّهم فرغوا من تجهيزه، من تغسيله وتكفينه، فيأتي النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام ليصلّي عليه وهو الذّي ذمّه، وهو الذّي سبّه، وهو الّذي اتّهم زوجته بالفاحشة، وهو الّذي قال عنه ما قال، وهو الّذي أيّد اليهود عليه، وحاربه وحارب أصحابه، وهو الّذي قال: آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فيقف عمر بن الخطّاب بينه وبينه يقول: يا رسول الله، أتصلّي عليه وقد نافق؟! يقول: ((دعني يا عمر))، يقول: يا رسول الله، أتصلّي عليه وقد نافق؟! يقول: ((دعني يا عمر، فإنّ الله قال لي: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ [التّوبة:80]، فوالله لو علمت أنّني لو استغفرت لهم واحدةً وسبعين مرّةً لغفر الله له لاستغفرت له)). وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين، لو علم أنّه لو استغفر واحدةً وسبعين مرّةً لغفر الله لابن أُبَيّ لاستغفر له واحدةً وسبعين مرّة، ويصلّي عليه، عندها أنزل الله تعالى تأييدًا لعمر بن الخطّاب: وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَدًا وَلاَ
تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ [التّوبة:84]. ارتدّ فلم تُقَم عليه عقوبة الرّدّة لأنّه لم يصرّح بِرِدَّتِه، بل كان يُظهر حبّه للنّبيّ، فعامله النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام بالظّاهر مع يقينه من الباطن.
إذًا عقوبة الرّدّة لها شروطٌ وشروط، فإذا توافرت شروطها كلّها عندها لا بدّ من أن تقام حفظًا للإسلام من العبث كما قلت، وحفظًا من أغراض المغرضين، وحفظًا من إيذاء المؤذين.(3/169)
يقال لنا بعد كلّ هذا الكلام: علمنا أنّ الّذي دخل في الإسلام بمحض اختياره ليس له أن يدع الإسلام باختياره لأنّه تعاقد مع الإسلام وقبل بكل أحكامه، وعلمنا الأحكام المترتّبة على ذلك، ولكنْ ما تقولون في امرئٍ ولد في بيئةٍ مسلمة ونشأ مسلمًا لا باختياره، ولكنّ البيئة اضطرّته إلى ذلك، والمجتمع صيّره مسلمًا دون أن يكون له بذلك خيارٌ أو قرار، هذا إذا اكتشف يومًا من الأيّام أنّ الإسلام فيه شيءٌ من شبهات وأراد أن يدعه، فما تفعلون به؟
نقول: إنّ فضلاً من الله عليه أنّه ولد في البيئة المسلمة لئلاّ يصير عرضةً لتقاذف الأهواء والأمواج الإلحاديّة والكفريّة، لذلك صار مسلمًا بالطّبيعة، بالفطرة، وهذا غالبًا يكون إيمانه أثبت من إيمان غيره، لذلك فإن تعرّض لشبهةٍ يومًا من الأيّام فغالبًا لن تكون شبهةً عنيفةً كشبهة غيره، فيسهل ردّها عنده، قد يكون مرتدًّا كذلك للسّبب الأوّل: لغرضٍ أو هوى، فكم رأينا من شبابٍ يرتدّون عن الإسلام عقيدةً وفكرًا إلى دينٍ آخر؛ لأنّ الدّين الآخر ليس فيه حرامٌ وليس فيه ضوابط وليس فيه واجبات، فهو يريد أن يكون كما يشاء، وأن يفعل ما يحلو له، والإسلام لا يبيح له ذلك، امرؤٌ كهذا لا بدّ من أن توضع أمامه هذه العقوبة الصّارمة حتّى لا تسوّل له نفسه، وأمّا إن ترك الإسلام لشبهة فإنّنا نردّ شبهته كما رددنا شبهة ذلك الرّجل.
ولا بدّ ها هنا من أن نكون حلماء وحكماء وعقلاء وعلماء في التّعامل مع هذه الشّبهات، وبخاصّة مع شريحة الشّباب، وهذا ما أخاطب به الدّعاة كلّهم فأقول لهم: عاملوا الشّباب معاملة الطّبيب للمريض لا معاملة الحاكم للمجرم؛ لأنّهم يحتاجون إلى فهمٍ وعطف، يحتاجون إلى ذلك الصّدر الحاني الّذي يضمّهم، وإلى ذلك العقل الواعي الّذي يفهمهم، فلا تحملوا سيفًا، ولا تُشهروا سوطًا، بل احملوا قلبًا حانيًا وصدرًا دافئًا، واحملوا عقلاً واعيًا وفكرًا فاهمًا، حتّى تستطيعوا أن تردّوا شبهات الشّباب إن كانت عندهم شبهات؛ لأنّ إيمان هؤلاء أعظم من إيمان الّذين نشؤوا كفرة، فالله أنعم عليه إذ نشأ مؤمنًا فردّ الشّبهات عنده أسهل.
لذلك ـ إخوتي ـ انشروا ما قلت وأعلموهم أنّ ديننا هو دين الحرّيّة، وهو دين المنطق، وهو دين الرّأي، الرّأي الّذي ينضبط لا الرّأي الّذي ينعتق من الضّوابط. هو دين الحرّيّة، تلك الحرّيّة، ذلك التّحرّر الّذي هو وسطٌ بين التّحلل والتّحجّر، فليس دينًا إرهابيًّا ثيوقراطيًّا، وليس دينًا متحلّلاً متسيّبًا، بل إنّه دينٌ وسطٌ بين هذا وذاك، وإنّما الكمال يكون في الوسط، و((خير الأمور أوسطها)) أخرجه البيهقي عن مطرف رضي الله عنه وأخرجه ابن أبي شيبة عن أبي قلابة.
تلك شبهةٌ عظيمة نسأل الله أن لا يبقى فيها كلامٌ لمتكلّم أو شبهةٌ لمشبّه، ولكنّ ثمّة شبهاتٍ كثيرةً أُخر، نسأل الله أن ييسّر لنا ردّها والكلام فيها في لقاءاتٍ قادمةٍ بإذن الله تعالى، وليس ذلك من باب الدّفاع عن الإسلام لأنّ الإسلام حقٌّ بذاته لا يحتاج إلى من يدافع عنه، إنّما ذلك تشريفٌ لنا بأنْ نصير مظهرين للإسلام على حقيقته، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، أقول هذا القول وأستغفر الله.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له إقرارًا بوحدانيّته وإرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الشّفيع المشفّع في المحشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ ووعت أذنٌ لخبر.
أوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله، وأحثّكم وإيّاي على طاعته، وأحذّركم وبال عصيانه ومخالفةِ أمره، واعلموا أنّه لا يضرّ ولا ينفع ولا يصل ولا يقطع ولا يعطي ولا يمنع ولا يخفض ولا يرفع ولا يفرّق ولا يجمع إلاّ الله.
واعلموا أنّ الله أمركم بأمرٍ بدأه بنفسه، وثنّى بملائكة قدسه وعرشه، فقال تعالى: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ على محمّدٍ وعلى آل سيّدنا محمّد كما صلّيت على سيّدنا إبراهيم وعلى آل سيّدنا إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد، اللّهمّ بارك على سيّدنا محمّد وعلى آل سيّدنا محمّد كما باركت على سيّدنا إبراهيم وعلى آل سيّدنا إبراهيم في العالمين إنّك حميدٌ مجيد.
اللّهمّ أيّد الإسلام وأعزّ المسلمين، وأعل وانصر يا مولانا الحقّ والدّين...
=============== =
شبهة حول قتل المرتد
المجيب …د. هاني بن عبدالله الجبير
قاضي بمحكمة مكة المكرمة
التصنيف …الفهرسة/ العقائد والمذاهب الفكرية/مسائل متفرقة
التاريخ …14/2/1423
السؤال
زميل دراستي نصراني يسأل: لماذا يقتل من يرتد عن الإسلام؟ ويقول: أنا حر في تغيير ديني.
الجواب
ينبغي للمسلم ألاّ يشرّب قلبه الشبهات، بل يكون قوياً في الحق الذي يحمله، ولا يكن همه الدفاع والتبرير، فالنصارى يعتقدون جملة عقائد لا يتقبلها منطق ولا عقل فمناقشتهم فيها وبيانها أولى من ذلك.
وعلى كلٍ فإن كل حكم شرعه الله فهو لحكمة عظيمة، فالله -تعالى- حكيم عليم، وقد يعرف الإنسان هذه الحِكم وقد لا يعرفها.
والحقيقة أن حد الردة هو من تمام الحرية لمن تأمل في ذلك، فإن الإسلام لا يكره أحداً على الدخول فيه، بل ويفهم الناس بخطر الردة وعقوبتها، فلا يقدم أحد على اعتناق الإسلام إلا بعد تمام الاقتناع وتمام التروّي والتأني، فهو إرشاد له أن يفكر في الأمر تمام التفكير.(3/170)
وأما تشديد العقوبة فلعظم الجريمة حتى لا تكون الردة وسيلة لأعداء الإسلام أن يدخل منهم جماعة كثيرة في الدين ثم يرتدوا جملة واحدة ليوقعوا الشك في قلوب المؤمنين، كما قال -تعالى-: "وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون" [آل عمران:72].
وهذه العقوبة موجودة حتى عند النصارى، فقد كانت الكنيسة تطبقها وقت سيطرتها.
وأخيراًَ هل يعقل أن يكون الدين الذي يعتقده الإنسان متنزهاً يدخله، فإذا لم يرق له تركه وبحث عن غيره؟ وهل يكون ديناً هكذا؟، وفق الله الجميع لهداه.
==============
هل يقر الإسلام الحرية الدينية؟
المجيب …د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
أستاذ العقيدة بجامعة القصيم
التصنيف …
التاريخ …02/01/1427هـ
السؤال
ما المراد بالحرية الدينية؟ وهل الإسلام يقرها؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد ولد مصطلح (الحرية الدينية) بمفهومه المعاصر، بميلاد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر في (10 ديسمبر 1948م)، كرد فعل للممارسات المتعسفة التي كانت تتزعمها الكنيسة ضد مخالفيها عبر القرون؛ من حجب، وحرْم، وتحريق، وحبس، وطرد، حتى بحق النصارى أنفسهم الذين ينتمون إلى كنائس أخرى، فضلاً عن اليهود المضطهدين في المجتمعات الأوروبية، والمسلمين الذين تم قسرهم على اعتناق النصرانية في الأندلس، أو قتلهم، أو طردهم.
جاء في المادة (18) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ما نصه: (لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه، أو معتقده، وحريته في إظهار دينه، أو معتقده، بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده، أو مع جماعة، وأمام الملأ، أو على حدة).
وبالتالي فليس هذا المبدأ مبدأ كنسياً حتى تتكئ عليه بعض الجمعيات التنصيرية لمحاولة النيل من العدالة الإسلامية، بل يجب التذكير دوماً أنه تعبير عكسي عن ممارسات الكنيسة ضد الحريات العامة.
ولم تعتنق الكنيسة الكاثوليكية هذا المبدأ، رسمياً، إلا في المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي انتهت أعماله عام (1965م)، أي بعد قرابة سبعة عشر عاماً من صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان! تحت الضغوط الليبرالية التي اجتاحت أوروبا في منتصف القرن المنصرم، وكادت أن تقضي على الكنيسة برمتها.
ويقف الإسلام موقفاً وسطياً بين تطرف الكنيسة التاريخي حيال الحرية، وانفلات بعض فقرات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فالإسلام، وكذلك جميع الرسالات السابقة، جاءت لتحقيق هدف أصيل؛ وهو توحيد الله بالعبادة، التي من أجلها خلق الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، إذ لا يستقيم -عقلاً ولا فطرةً- أن يخلق الله الخلق وينعم عليهم، ثم يعبدوا غيره!! ومن ثم فإن أكبر جريمة ترتكب، وأبشع ظلم يقترف، هو الشرك بالله: "إن الشرك لظلم عظيم" [لقمان: من الآية:13].
إن الأنظمة المدنية للدولة الحديثة تمنع جميع صور التعدي الحسي والمعنوي على الآخرين، وإن القانون المطبق يعاقب على جرائم؛ كالتزوير، والكذب، والسرقة، والجاسوسية، والقتل...إلخ، فكيف يسوغ أن يهمل أعظم الحقوق، وهو حق الله، دون عقاب رادع؟!
إن الإيمان بالله، وتوحيده بالعبادة، في نظر الإسلام، قضية فطرية لا يحيد عنها إلا متنكر لفطرته، خارج عن إنسانيته، خائن لجماعته البشرية، مرتكب لجريمة تستحق إيقاع العقوبة القصوى، ما لم يرجع إلى صوابه. ومن ثم كان من مهمة أتباع الأنبياء دعوة الناس جميعاً إلى الإيمان بالله وتوحيده، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وهذا يتحقق بإحدى صورتين:
إحداهما: أن يقبل المدعو الحق، وينخرط في الجماعة المؤمنة، فله ما لها، وعليه ما عليها.
الثانية: أن يعلن الإذعان للجماعة المؤمنة، المتمثلة بصورة دولة ذات سيادة وسلطان، مع احتفاظه بمعتقداته، وشعائره السابقة، وفق ما تقره تلك الدولة من تنظيمات، وما تمنحه له من حقوق، وما تفرض عليه من واجبات، تماماً كما تفعل كثير من الدول المتقدمة الآن، حين تسن أنظمة وقوانين تتعلق بالمهاجرين واللاجئين، المقيمين على أراضيها، تجعلهم في مرتبة أدنى من مواطنيها الأصليين.
والفرق بين الصورتين أن الدولة العلمانية الحديثة تمارس هذا التمييز على أسس أرضية، والدولة الإسلامية تفعل ذلك بناءً على أسس موضوعية، دون تمييز على أساس الأرض، أو اللون، أو العرق.
وعلى ضوء ما مضى يتبين المراد بقول الله تعالى: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" [البقرة: من الآية:256] أي لا تكرهوا أحداً على اعتناق الإسلام، فإن علامات صحته ورشده واضحة جلية، لمن كان صادقاً مخلصاً في البحث عن الحقيقة، وأما من دخله مكرهاً فإنه لا يستفيد من اعتناقه، ولا يتخلص به من الغي. وحينئذ، فعليه أن يذعن لنظام الإسلام، إن كان له دولة وسلطان. وليس المقصود ما قد يفهمه بعض الناس من أن الآية تقرر الحرية المطلقة في الدين والتنقل بين الأديان، دون أن يترتب على ذلك أدنى تبعة، فإن هذا لم يقل به أحد من علماء الإسلام.
وأما قوله تعالى: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" [الكهف: من الآية29] فليست للتخيير المجرد، كما قد يفهمه بعض الناس! وإنما جاءت في سياق التهديد والوعيد لمن شاء أن يكفر، ولهذا ختمها بقوله: "إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً" [الكهف: من الآية29].(3/171)
وبناء على ما تقدم، فإن قتل المرتد عقوبة على جريمة كبيرة، أشد في نظر الإسلام من جريمة (الخيانة العظمى) التي تعاقب عليها الدول بالقتل، جراء إفشاء أسرار الدولة، أو التعاون مع عدو خارجي، أو السعي لقلب نظام الحكم، أو ما دون ذلك مما تسنه بعض النظم الوضعية. فالردة كفر مضاعف، والكافر المرتد أعظم جرماً من الكافر الأصلي، لأنه خان خيانة عظمى، ووقع في ظلم عظيم. والله أعلم.
===============
الحدود والحريات الفردية
المجيب …د. قيس بن محمد آل مبارك
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك فيصل
التصنيف …الفهرسة/ الحدود/أحكامه
التاريخ …26/07/1427هـ
السؤال
فيما يتعلق بعقوبة الزنا والردة أليست هي خرق للحياة الخاصة ولحرية التعبير؟
أليس من الأفضل أن يترك حسابهم لله؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن الحرية هي اللبنة الأولى لإصلاح المجتمع، فقد جعل الله من هذه الحرية حقا مشتركاً للبشر جميعاً، كحقِّهم في الطعام والشراب واللباس، لا فرق في ذلك بين مسلم وغيره.
فالحرِّيَّة نعمةٌ وحليةٌ كساها الله الإنسانَ، وزينةٌ جَمَّلُه بها، فما أبأس مَن أعرض عن نعم الله ومِنَنِه، وكفر بنعمة الحريَّة التي أكنَّها الله فيه.
ولم يجعل الله هذه النِّعمة خاصَّة مقصورة على صغائر الأمور، بل جعلها عامَّة لجميع اختيارات الإنسان، شاملة لحرِّيَّته في القول وفي الاعتقاد.
فأعلنت حقوق الإنسان في ذلك آيات كثيرة في كتاب الله تعالى: "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" [الكهف:29]. "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" [البقرة:256]. وهي صريحة في الدلالة على النهي عن إكراه أحد على الدخول في دين الإسلام، فدخوله يجب أن يكون على بيِّنة وبصيرة، وبإرادة واختيار، لا أن يكون عن محاكاةٍ أو تقليد، ولا أن يكون بحالٍ تشوبه شائبة إكراه وقسر.
ولم يقل الفقهاء بوجوب قتل الزنديق وعدم قبول توبته إلا مِن أجل هذا المعنى، فلمْ يكن دخوله في الإسلام من باب الإكراه، بل من باب الاختيار الطَّوعي، والدخول في دين الله شأنه عظيم وله من الحرمة ما يجعلنا لا نسمح لأحدٍ أن يُولِّيه الأَدْبَارَ؛ لأن خروجه عنه يكون نقضا للعهد الذي ألزم نفسه به حين دخل في الإسلام.
روى الإمام مَالِك (1219) عن زيد بن أسلم أنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ». قال الإمام مالك رحمه الله (فَمَنْ خَرَجَ مِنَ الإسلامِ إلَى غَيْرهِ، وَأَظْهَرَ ذالِكَ، فَذالِكَ الَّذِي عُنِيَ بِه، والله أعْلَم). وأصل الحديث في الصحيحين وغيرهما مسنداً.
ويبيِّن ذلك أن من أسلم وادَّعى أنه مُكرَهٌ أو أنه اضطرَّه للإسلام خوف دفع الجزية أو ضيق أو ظلم أو ما شابه ذلك، فإنه إذا ارتدَّ لا يُقتل، قال الإمام مالكٌ رحمه الله: له في ذلك عُذر.
أي يُعذَر، بأن يسقط عنه القتل، لأن فِعْلَ المُكْرَه لا حُكْمَ له، فإنه إذا ثبت أنه دخل في الإسلام مكرهاً لم يثبت له حكمه.
بل قد عدَّ الإسلامُ تخلِّي الإنسان عن نعمة الحرِّية والاختيار وما يجرُّ إليه هذا التَّخلِّي من الذهول عن إدراك الحقائق والخطأ في سلوك السبيل إليها، من أعظم الرَّزايا والمصائب "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" [الأعراف:179].
وعاب على العرب انصرافهم عن الاختيار الناشئ عن نظر وتدبُّر، وتعويلهم على اختيار غيرهم، انتصاراً لعاطفة القرابة، وركوناً إلى التقليد في مواطن الاعتقاد فقال "قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ" [الزخرف:22]. وهو سلوك مخالف للفطرة ومخالف للعقل.
بينما عَكَسَ ذلك المعنى أعداءُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منذ فجر التاريخ، حيث عمدوا إلى إكراه أتباعهم ومريديهم على اعتقادات يفرضونها عليهم فرضاً، ويُلزمونهم الأخذ بها، وإن لم تستسغها الفِطَر ولم تقبلها العقول، وربما عَمَدوا إلى ابتكار الحِيَل لِكَبْت الحرَّيات وتضييق الخناق عليها، وفرض المعتقدات الفاسدة ورسوم الوثنية "قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" [غافر:29].
واقرأ أيها الأخ الكريم ما قاله الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله: (وحكمة تشريع قتل المرتد -مع أن الكافر بالأصالة لا يقتل- أن الارتداد خروج فرد أو جماعة من الجامعة الإسلامية فهو بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه ينادي على أنه لما خالط هذا الدينَ وجدَه غير صالح ووجد ما كان عليه قبلَ ذلك أصلحَ فهذا تعريض بالدين واستخفاف به، وفيه أيضاً تمهيد طريق لمن يريد أن ينسل من هذا الدين وذلك يفضي إلى انحلال الجامعة، فلو لم يُجعل لذلك زاجر ما انزجر الناس، ولا نجد شيئاً زاجراً مثل توقع الموت؛ فلذلك جُعل الموت هو العقوبة للمرتد حتى لا يدخل أحد في الدين إلاّ على بصيرة، وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه، وليس هذا من الإكراه في الدين المنفي بقوله تعالى: "لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ" لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديانهم والدخول في الإسلام، وأما هذا فهو من الإكراه على البقاء في الإسلام).(3/172)
أما ما يتعلق بالزنى فأحيلك إلى هذا الحديث الشريف الذي رواه أَحمد (21185) عن أَبي أُمامةَ: أَنَّ فتىً مِنْ قريشٍ أَتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فقالَ: يا رسولَ الله، إِئْذَنْ لي في الزِّنا، فأقْبلَ القومُ عليهِ وزَجَروهُ، وقالُوا: مَهْ مَهْ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُدْنُهْ»، فَدَنا مِنهُ قريباً، فقال عليه الصلاة والسلام: «أَتُحِبُّهُ ُلامِّكَ؟» قال الفتى: لا والله، جعلَني الله فِدَاكَ، قال: «ولا الناسُ يحبُّونَهُ ٌّلأمَّهاتِهِمْ»، قال: «أَفتحِبُّه لابنتكَ؟» قالَ: لا والله يا رسولَ الله، جعلَني الله فداكَ، قال: «ولا الناسُ يحبُّونَهُ لِبَناتِهِمْ»، قالَ: «أَفتحِبُّه ُلأخْتِكَ؟» قال: لا والله يا رسولَ الله، جعلَني الله فداكَ، قال: «ولا الناسُ يحبُّونَه لأخَواتِهم»، قال: «أَتحبُّهُ لعمَّتِكَ؟» قال: لا والله يا رسولَ الله، جعلني الله فداكَ، قال: «ولا الناسُ يحبونَهُ لعَمَّاتِهم»، قال: «أَتحبهُ لخالتِكَ؟» قالَ: لا والله يا رسولَ الله، جعلني الله فداك، قالَ: «ولا الناسُ يحبونَهُ لخَالاتِهِمْ»، قال: فوضَعَ يدَهُ عليه وقالَ: «اللهمَّ اغفِرْ ذَنْبهُ، وطهِّرْ قَلبَهُ، وحَصِّنْ فرجَهُ»، قال: فلَمْ يكُنْ بَعْدَ ذلكَ الفَتى يلتفِتُ إِلى شيءٍ.
ولك أن تتأمَّل حال الغرب اليوم، الذي اختزل الكيان النسوي في أن يكون أُلعوبة للرجل يتسلَّى بها، فانتفى عنها وصف الإنسان المكرَّم، حيث أصبحت المرأة وسيلة دعاية للتسويق بحيث تكون سلعة تجارية للربح وبضاعةً للمتاجرة بِحُسنها وجمالها، وصيداً سهلا للذئاب البشريَّة من الشباب، ودُمية رخيصة تنشر عليها عروض الأزياء والرشاقة، ويُتسلَّى عليها بمسابقات ملكات الجمال.
=============
الجمع بين إيجاب حد الردة وآية "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"
المجيب …سليمان بن عبد الله القصير
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف …الفهرسة/ أصول الفقه /التعارض والترجيح
التاريخ …1/6/1425هـ
السؤال
السلام عليكم.
وفقاً لحديث متفق على صحته: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" وذكر منها المرتد"، ألا يكون ذلك مناقضاً لقوله تعالى: "لا إكراه في الدين"؟ أرجو بيان وجه التعارض. وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيظهر من السؤال أن السائل على معرفة، ويحتاج إلى بيان وتوضيح في الإجابة؛ ولذا سأبسط الجواب وأوضحه له إن شاء الله؛ فأقول:
ليس بين الآية والحديث تعارض - بحمد الله -؛فإن الحديث، وكذا الأحاديث الأخرى التي جاءت في قتل المرتد كحديث: "من بدَّل دينه فاقتلوه" رواه البخاري(3017) من حديث علي -رضي الله عنه- كلها في من كان مسلماً، وذاق حلاوة الإيمان، ثم ارتدَّ عنه- والعياذ بالله- إلى الكفر مختاراً له ومفضلاً له على الإيمان، وردته هنا وكفره تستلزم تنقصه لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولدينه القويم، فلذا استحق القتل عقوبة له؛ فإن فعله هذا جريمة لا يعدلها جريمة . وقد نقل الإجماع على وجوب قتله ابن قدامة في (المغني9 /16).
كما أن المفسدة التي تترتب على ردة المسلم عن دينه أعظم بكثير من مفسدة بقاء الكافر الأصلي على كفره .
أما الآية وهي قوله تعالى: "لا إكراه في الدين"[البقرة:256]، فهي في الكافر الأصلي الذي لم يدخل الإسلام أصلاً، وقد جاء في تفسير هذه الآية قولان للمفسرين:
أحدهما: أنها منسوخة بآيات القتال، - فلا تكون معارضة للحديث - وعلى القول بنسخها فإنه يكره جميع الكفار على الإسلام؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أكره العرب على دين الإسلام، ومن أبى منهم الدخول فيه أو بذل الجزية قاتله - وهذا هو الإكراه -، ومن أدلة هذا أيضاً: قول الله -تعالى-: "ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون"[الفتح: 16]، وقوله تعالى: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم"[التوبة: 73]، وقوله تعالى :"يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار"[التوبة: 123].
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري(3010) عن أبي هريرة-رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عجب الله من قومٍ يدخلون الجنة في السلاسل". يعني الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثاق والقيود ثم بعد ذلك يسلمون فيدخلون الجنة وهذا القول ذهب إليه بعض المفسرين.
والقول الثاني: أنها محكمة غير منسوخة، وأنها نزلت في أهل الكتاب خاصة (اليهود والنصارى والمجوس، وهم من تؤخذ منهم الجزية)، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا بذلوا الجزية، وأما المشركون والكفار فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو يقاتلون؛ لأنهم الذين نزل فيهم قوله تعالى: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين"[التوبة: 73]، وهذا قول أكثر المفسرين منهم: سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وقتادة والحسن والضحاك، وهو قول عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-، فقد روى زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر -رضي الله عنه- يقول لعجوز نصرانية: أسلمي أيتها العجوز تسلمي؛ إن الله بعث محمداً بالحق، قالت أنا عجوز كبيرة، والموت إلي قريب، فقال عمر-رضي الله عنه-: اللهم اشهد وتلا :" لا إكراه في الدين"[البقرة: 256].
وجاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما-: أن هذه الآية نزلت فيمن دخل اليهودية من أبناء الأنصار أنهم لا يكرهون على الإسلام . رواه أبو داود في سننه ح (2682) وهذا القول رجحه شيخ المفسرين ابن جرير الطبري .(3/173)
وقال ابن حزم الظاهري - رحمه الله -: (وأما قول الله -تعالى-: "لا إكراه في الدين"[البقرة: 256]، فلم يختلف أحد من الأمة كلها في أن هذه الآية ليست على ظاهرها؛ لأن الأمة مجمعة على إكراه المرتد عن دينه - يعني بالرجوع إلى الإسلام - ... الخ).
وليس قول العلماء هنا بإكراه الكفار يشمل إكراه كل كافر على الدخول في الإسلام، بل المراد الكفار المحاربين الذين وقع بينهم وبين المسلمين قتال، أما من لم يقع بين المسلمين وبينهم قتال فلا يكرهون، وقد نص العلماء على الذمي والمعاهد والمستأمن - وهم كفار - أنهم لا يجوز إكراههم ، قال ابن قدامة في (المغني 9 /30): (الدليل على تحريم الإكراه قوله تعالى: "لا إكراه في الدين"[البقرة: 256]، وأجمع أهل العلم على أن الذمي إذا أقام على ما عوهد عليه والمستأمن لا يجوز نقض عهده، ولا إكراهه على ما لم يلتزمه). والله أعلم، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وينظر للزيادة في هذا المراجع التالية :
1- تفسير ابن جرير 3/ 14 .
2- تفسير ابن كثير 1/ 311 .
3- تفسير القرطبي 3/ 279 .
4- المحلى لابن حزم 9/ 225 .
=============
عقوبة المرتد...وحرية المعتقد
المجيب …د. رياض بن محمد المسيميري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف …الفهرسة/ العقائد والمذاهب الفكرية/مسائل متفرقة
التاريخ …26/1/1424هـ
السؤال
كيف نرد على الشبهة القائلة بأن: "عقوبة المرتد في الإسلام تتنافى مع حرية العقيدة"؟
الجواب
الحمد لله وحده، وبعد:
أولاً: أنصح السائل الكريم أن يبتعد عن مجالسة أهل الزيغ والأهواء ممن يثيرون الشبهات في مجالسهم، ويُلبسون على الناس عقائدهم.
كما أنصحه بعدم إضاعة وقته بقراءة كتب ذوي التوجهات الفكرية المشبوهة، والمذاهب المنحرفة الهدامة، سيما تلك المتدثرة بجلابيب ذات صبغة إسلامية في الظاهر فقط، وإفلاس حقيقي في الأصالة، والاتباع لما كان عليه سلف الأمة عقيدة ومنهجاً.
ثانياً: ليعلم السائل أن أحكام الشريعة مفروضة من لدن حكيم عليم، وبلغها رسولنا الأمين -صلى الله عليه وسلم- للأمة كما أرادها الله تعالى.
فليس في أحكام الله وشريعته تناقض أو تصادم قال الله تعالى:"ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً".
ثالثاً: أن الأصل في المسلم الرضا بأحكام الله وشرائعه والتسليم بها، سواء عقل الحكمة أم لم يعقل، فهم المقصود أم لم يفهم، إذ العقل البشري قد يقصر عن إدراك بعض أسرار الشريعة وأحكامها، فلا يسعه إلا أن يقول كما قال أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-:"سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير".
وأنا أضرب لك مثالاً: تُرى لم كانت ركعات الظهر والعصر والعشاء أربعا،ً بينما المغرب ثلاثاً والفجر اثنتين؟ ولم كانت الظهر والعصر سرية القراءة وكانت البواقي جهرية؟
الجواب: إنها إرادة الله وحكمته وكفى!
رابعاً: بالنسبة لما أثرته من تساؤل حول عقوبة المرتد -وهي القتل- وأنها تتنافى مع حرية العقيدة؟
فالجواب من وجوه:
(1) أولاً: إن المرتد بعد أن أقر بالإسلام والتزم به وتسمى به، فقد رضي بكل ما تضّمنه الإسلام من أحكام ومنها حكم المرتد.
(2) ثانياً: إن المرتد لا يقتل إلا بعد استتابته ثلاثاً- أي: ثلاثة أيام- مع خلاف في بعض المسائل كمن سب الله تعالى أو رسوله -عليه الصلاة والسلام-. فإصراره على الردة، والسيف مروض على رقبته، يدل على عدم استحقاقه البقاء، إذ لو بقي لكان عامل فتنة مهدم لضعيفي الإيمان من أبناء الأمة، بما قد يلقيه عليهم وبينهم من الشبه والأغلوطات، فقتل المرتد حماية لغيره من اقتفاء أثره والتشبه بمسكله. وتأمل كيف سمى الله تعالى قتل القاتل حياة حين قال:"ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون".
(3) ثالثاً: لو تُرك المرتد بلا قتل؛ لاتخذ الناس دين الله هزواً ولعبا؛ً فيسلم أحدهم اليوم ويكفر غداً ويسلم غداً ويكفر بعد غد بلا مبالاة، بدعوى حرية المعتقد، وفي ذلك مفاسد لا تخفى والله المستعان.
وفقك الله وأعانك، والسلام عليكم.
============
الردة: الأسباب والعقوبات وتهافت الشبهات
هاني بن عبد الله الجبير
إن الله - تعالى - أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليدل الناس على الإسلام الذي هو أكمل الشرائع، وأمره (أن يقاتل الناس حتى يدخلوا في الإسلام ويلتزموا طاعة الله ورسوله. ولم يؤمر أن ينقب عن قلوبهم ولا أن يشق عن بطونهم، بل تُجرى عليهم أحكام الله في الدنيا إذا دخلوا في دينه، وتجرى أحكامه في الآخرة على قلوبهم ونياتهم، فأحكام الدنيا على الإسلام، وأحكام الآخرة على الإيمان.
ولهذا قَبِلَ إسلام الأعراب، ونفى عنهم أن يكونوا مؤمنين، وقَبِلَ إسلام المنافقين ظاهراً، وأخبر أنّه لا ينفعهم يوم القيامة شيئاً، وأنّهم في الدرك الأسفل من النار.
فأحكام الله - تعالى - جارية على ما يظهر للعباد ما لم يقم دليل على أن ما أظهروه خلاف ما أبطنوه)(1).
فانقسم الناس تجاه دعوته إلى: المؤمنين الصادقين، والكفار الظاهرين، والمنافقين المستترين. فعامل كلاً بما أظهر. ثم إن أهل الإيمان انقسموا بحسب تفاوت درجاتهم في الإيمان والعمل الصالح إلى درجات كما قال-تعالى-: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32].
حكم من كفر بعد الإيمان:(3/174)
وحكم على من أظهر كفره من المنافقين، أو كفر من المسلمين بالقتل كفّاً لشرهم وردعاً لغيرهم؛ فإنّ محاربتهم للإسلام بألسنتهم أعظم من محاربة قاطع الطريق بيده وسنانه؛ فإن فتنة هذا في الأموال والأبدان، وفتنة هذا في القلوب والإيمان، وهذا بخلاف الكافر الأصلي؛ فإن أمره كان معلوماً، وكان مظهراً لكفره غير كاتم له، والمسلمون قد أخذوا حذرهم منه، وجاهروه بالعداوة والمحاربة، ولو تُرك ذلك الزنديق لكان تسليطاً له على المجاهرة بالزندقة والطعن في الدين ومسبّة الله ورسوله. وأيضاً فإن من سب الله ورسوله، وكفر بهما فقد حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً؛ فجزاؤه القتل حَدّاً. ولا ريب أن محاربة الزنديق لله ورسوله وإفساده في الأرض أعظم محاربة وإفساداً؛ فكيف تأتي الشريعة بقتل من صال على عشرة دراهم ولا تأتي بقتل من صال على كتاب الله وسنة نبيّه بين أظهر المسلمين وهي من أعظم المفاسد؟ (2).
وبين يديك ـ أخي القارئ الكريم ـ ورقات قليلة في جريمة الردّة تعرض جانباً من نظرة الإسلام إليها وإلى عقوبتها سائلاً الله - تعالى - أن ينفع بها.
تعريف الردّة:
الردّة في اللغة: الرجوع عن الشيء والتحول عنه، سواء تحوّل عنه إلى ما كان عليه قَبْلُ، أو لأمرٍ جديد.
ويقال: ارتدّ عنه ارتداداً، أي: تحوّل.
ويقال: ارتد فلانٌ عن دينه إذا كفر بعد إسلامه(3).
وتدل في الاصطلاح الشرعي: على كفر المسلم بقول أو فعل أو اعتقاد(4).
وقوع الردَّة وحصولها:
الردّة عن الإسلام والتحوّل عنه ـ أعاذنا الله منها وثبتنا على دينه ـ أمر ممكن الحصول؛ فقد ذكرها الله - تعالى - في كتابه محذراً منها، ومبيناً عاقبتها. قال - تعالى -: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217].
وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].
وقال - تعالى -: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].
إضافة إلى آيات كثيرة تبين هذا المعنى.
كما أخبر - تعالى - عن وقوع الكفر من طائفة من الناس بعد إيمانهم.
قال - تعالى -: {إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد: 25].
وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ}. [التوبة: 65 - 66]
وقال: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلامِهِمْ} [التوبة: 74].
وقال: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} [النساء: 137].
كما وقعت الردة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواقف نذكر منها: قصّة عبيد الله بن جحش؛ فإنّه كان قد أسلم وهاجر مع زوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى الحبشة فراراً بدينه.
قالت أم حبيبة: رأيت في النوم عبيد الله زوجي بأسوأ صورةٍ وأشوهها، ففزعت وقلت: تغيّرت والله حالُهُ! فإذا هو يقول حين أصبح: إنّي نظرت في الدين، فلم أرَ ديناً خيراً من النصرانية، وكُنت قد دنت بها، ثم دخلت في دين محمد، وقد رجعتُ، فأخبرتُهُ بالرؤيا، فلم يحفِل بها، وأكبَّ على الخمر..حتى مات(5).
ومنها ما حصل عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: «مما استفاض به النقل عند أهل العلم بالحديث والتفسير والسِّيَر أنّه كان رجال قد آمنوا ثم نافقوا، وكان يجري ذلك لأسباب: منها أمر القبلة لما حُوّلت ارتدّ عن الإيمان لأجل ذلك طائفة، وكانت محنة امتحن الله بها الناس. قال - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143](6).
ومنها ما حصل في غزوة تبوك إذ قال رجل في هذه الغزوة: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً، وأكذبنا ألسنةً وأجبننا عند اللقاء، فرُفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب. فقرأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله - تعالى -: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ} وما يلتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(7).
وقريب من هذا ما حصل لهشام بن العاص - رضي الله عنه - فإنّه أسلم وتواعد على الهجرة مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ثم إنّه حُبِسَ عنه وفُتِن فافتتن.
قال ابن إسحاق: وحدثني نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر في حديثه قال: فكنا نقول: ما الله بقابلٍ ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قومٌ عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاءٍ أصابهم!(3/175)
قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم. فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أنزل الله فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
فقدم المدينة بعد ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(8).
والردة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ترتبط بعداوة الإسلام وحربه، ولكنها كانت مع ذلك ردّة موجبة للخروج عن الإسلام، وموجبة لتجريم فاعلها ولو لزم داره.
بل إن المنافقين في الصدر الأول كان منهم من آمن ثم نافق بعد إيمانه، وهذه ردّة أيضاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: «وكذلك لما انهزم المسلمون يوم أحد وشُجّ وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكُسرت رُباعيته، ارتد طائفةٌ نافقوا.. قال - تعالى -: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: 166 - 167]. فإن ابن أُبيّ لما انخزل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحُد انخزل معه ثلث الناس، قيل: كانوا ثلاثمائة، وهؤلاء لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين في الباطن؛ إذ لم يكن لهم داع إلى النفاق.
وفي الجملة: ففي الأخبار عمّن نافق بعد إيمانه ما يطول ذكره»(9).
عظم جريمة الردّة:
إنّ أهم مقصد جاء الإسلام بتحقيقه في الناس هو تحقيق توحيد الله والإيمان به ونفي الشرك والكفر والتحذير منهما، وقد جاء أيضاً بحفظه في نفوس من اعتنقه؛ وذلك أن العالَم لا يستقيم بدونها، فضياعها مهلك للبشر، وإذا تأمل الإنسان حال البشريّة عند بعثة المصطفى - عليه الصلاة والسلام - فسيجد أنّه بُعِثَ على فترةٍ من الرسل في زمن تخبطت فيه البشريّة كما وُصفوا في الحديث القدسي: «إنّي خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنّهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم(10) عن دينهم، وحرَّمتْ عليهم ما أحللت لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإنّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلاّ بقايا من أهل الكتاب.. »(11).
وهؤلاء البقايا مات أكثرهم قبل مبعثه(12)، فصار الناس في جاهليّة جهلاء من مقالات مبدّلة أو منسوخة أو فاسدة قد اشتبهت عليهم الأمور مع كثرة الاختلاف والاضطراب.
«فهدى الله الناس ببركة نبوّة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من البينات والهدى، هدايةً جلّت عن وصف الواصفين وفاقت معرفة العارفين، حتى حصل لأمته المؤمنين عموماً ولأولي العلم منهم خصوصاً، من العلم النافع والعمل الصالح، والأخلاق العظيمة، والسنن المستقيمة، ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علماً وعملاً إلى الحكمة التي بُعث بها لتفاوتا تفاوتاً يمنع معرفة قدر النسبة بينهما؛ فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى»(13).
ولذا صار الشرك بالله - تعالى - أعظم الذنوب. عن عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - ـ قال: قلت: يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله نِدّاً وهو خلقك» قلت: ثم أيّ؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قلت: ثم أيّ؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك»(14).
وعند تأمُّل حال أمة ليس فيها سلطان للدين ولا رقيب منه، وكيف يتسلط بعضهم على بعض عند ذلك؛ لأن أهواء الناس تتفاوت وتختلف، وكل شخص سيفعل ما يراه مصلحةً له بحسب هواه، وإن منعه وازع من السلطان في العلن، فلن يتحفظ في السرّ، وعند ضعف الوازع السلطاني عن الاعتداء على الأموال والأنفس والأعراض، فترى النفوس تُغتال، والأموال تُختلَس والأعراض تُنتهَك، والشاهد الجلي لهذا حال الدول غير المسلمة إذا ضعفت فيها السلطة، فتحصل الاغتيالات وانتهاب الأموال وانتهاك الأعراض(15).
ولذا كانت البيعة التي يأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرجال والنساء تتضمن أن لا يشركوا ولا يزنوا ولا يقتلوا كما جاء في سورة الممتحنة وكتب الحديث(16).
بل (ويكثر في السياق القرآني مجيء النهي عن هذه المنكرات الثلاثة متتابعةً: الشرك، والزنا، وقتل النفس؛ ذلك أنها كلها جرائم قتل في الحقيقة! الجريمة الأولى قتل للفطرة، والثانية جريمة قتل للجماعة، والثالثة جريمة قتل للنفس الموءودة. إن الفطرة التي لا تعيش على التوحيد فطرة ميتة.. ومن ثَمّ يجعل الإسلام عقوبة هذه الجرائم هي أقسى العقوبات؛ لأنّه يريد حماية مجتمعه من عوامل الدمار.. )(17).
والتساهل في هذه العقوبة يؤدي إلى زعزعة النظام الاجتماعي القائم على الدين، فكان لا بد من تشديد العقوبة لاستئصال المجرم من المجتمع منعاً للجريمة وزجراً عنها. وشدة العقوبة تولّد في نفس الإنسان من العوامل الصارفة عن الجريمة ما يكبت العوامل الدافعة إليها، ويمنع من ارتكاب الجريمة في أغلب الأحوال(18).
ومن المعلوم أن العقوبات تتناسب مع الجرائم؛ فكلما ازدادت بشاعة الجريمة استلزمت عقاباً موازياً لها في الشدة(19). ومن المبادئ المتفق عليها لدى التشريعات الجنائية مبدأ مقارنة جسامة الجريمة بجسامة العقوبة، وكلما زادت العقوبة في جسامتها دل ذلك على ارتفاع جسامة الوصف القانوني للجريمة.
ويطلق على هذا المبدأ: مبدأ التناسب بين الجريمة والعقوبة.
أسباب الردّة:
عند تأمَّل التاريخ والواقع نجد جملة أسباب ودوافع أدت إلى حصول حوادث الردّة، وهي وإن كانت على مرّ التأريخ حوادث جزئية وقليلة إلا أننا يمكن من خلال تأملها استلهام جملة من الأسباب الدافعة أو المساعدة على حصول الردة.
ومن هذه الأسباب:
1 ـ كيد الكفار بالمسلمين:(3/176)
فمن مكر الكفار وكيدهم القديم أن يدخل طائفة منهم في الإسلام ـ ظاهراً ـ حتى إذا سكن إليهم المسلمون، عادوا فارتدوا معلنين السَّخَط على الدين وعدم الرضى به، ليفتنوا المسلمين عن دينهم ويصدوهم عن سبيله.
وقد ذكر الله - تعالى - هذه المكيدة منهم في كتابه. قال - تعالى -: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72].
قال قتادة: قال بعضهم لبعض: أعطوهم الرضا بدينهم أوّل النهار واكفروا آخره؛ فإنّه أجدر أن يصدقوكم، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما تكرهون، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم(20).
قال السُّدي: كان أحبار قرى عربيّة اثني عشر حِبْراً، فقالوا لبعضهم: ادخلوا في دين محمد أوّلَ النهار وقولوا: نشهد أن محمداً حق صادقٍ، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا: إنَّا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم، فحدثونا أن محمداً كاذب، وأنكم لستم على شيء، وقد رجعنا إلى ديننا؛ فهو أعجب إلينا من دينكم، لعلهم يشكّون، يقولون هؤلاء كانوا معنا أوّل النهار؛ فما بالهم؟
فأخبر الله - عز وجل - رسوله - صلى الله عليه وسلم - بذلك(21).
2 ـ ضعف الإيمان فلا يثبت عند المحن:
من خالط الإيمان قلبه فإنّه لا يتزحزح عنه لأي طارئ، وقد سأل هرقل أبا سفيان ابن حرب قبل أن يسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسئلة يستكشف بها حقيقة حاله، فكان مما سأله: هل يرتدّ أحد منهم ـ أي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فقال أبو سفيان: لا. فقال هرقل: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب(22).
وفي رواية زاد: لا يسخطه أحد، وفي رواية: وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه(23).
ولما ذكر شيخ الإسلام ابن تيميّة من انخذل من المسلمين يوم أحد مع عبد الله بن أُبي قال: «أولئك كانوا مسلمين، وكان معهم إيمان.. فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق ماتوا على هذا الإسلام الذي يثابون عليه، ولم يكونوا من المؤمنين حقّاً الذين امتُحنوا فثبتوا على الإيمان، ولا من المنافقين حقّاً الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة، وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم، إذا ابتُلوا بالمحن التي يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيراً، وينافق أكثرهم أو كثير منهم. ومنهم من يظهر الردّة إذا كان العدوّ غالباً؛ وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة.
وإذا كانت العافية، أو كان المسلمون ظاهرين على عددهم كانوا مسلمين.. )(24).
ولهذا كانت فائدة المحنة والابتلاء أن يظهر الصادق من الكاذب.
قال - تعالى -: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2 - 3].
وقال - تعالى -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
3 ـ الافتتان بما لدى الكفار:
وهذا الافتتان يتخذ صوراً عديدة يجمعها ويربط بينها ضعف الشخصية الإيمانية والاقتناع التام بصدق المبدأ.
ومن ذلك الفتنة بما قد يُمَكّن للشخص من شهوات، فلما حاصر النصارى عكا سنة ست وثمانين وخمسمائة استمرت أمداد الفرنج تقدم عليهم من البحر كل وقت حتى إنَّ النساء ليخرجن بنيّة راحة الغرباء في الغربة، فقدم إليهم مركب فيه ثلاثمائة امرأة حسناء بهذه النيّة، حتى إنّ كثيراً من فسقة المسلمين تحيّزوا إليهم لأجل هذه النسوة(25).
وذكر ابن كثير(26) أيضاً قصة مجاهد يدعى: عبده بن عبد الرحيم وأنّه في بعض الغزوات نظر إلى امرأة من نساء الروم فهويها وتنصّر من أجلها، فاغتمّ المسلمون بسبب ذلك؛ فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو معها، فقالوا: يا فلان! ما فعل قرآنك؟ فقال: اعلموا أنّي نسيت القرآن كله إلا قوله: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 2 - 3].
ومنها: الافتتان بما لديهم من إتقان لأعمال الحياة الدنيا، ومهارتهم فيها، مع عجز المسلمين عن ذلك، (فظنوا أن من قدر على تلك الأعمال أنّه على الحق، وأنّ من عجز عنها متخلّف وليس على الحق، وهذا جهل فاحش... فقد أوضح ـ - جل وعلا - ـ في قوله - تعالى -: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] أن أكثر الناس لا يعلمون، ويدخل فيهم أصحاب هذه العلوم الدنيويّة دخولاً أولياً؛ لأنهم لا يعلمون شيئاً عمن خلقهم.. ورزقهم، ولم يعلموا شيئاً عن مصيرهم الأخير، ومن غفل عن جميع هذا فليس معدوداً من جنس من يعلم.. بل علمهم في غاية الحقارة بالنسبة لما فاتهم)(27) لأنه لا يجاوز ظاهر الحياة الدنيا.
4 ـ سعي اليهود والنصارى:
وهذا السبب أوضح من أن أستشهد عليه أو أقرره؛ فقد بيّنه الله - تعالى - أتم بيان بقوله: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
وقال عن الكفار: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100].
وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّاراً} [البقرة: 109].(3/177)
ويظهر هذا بجلاء في المساعي التنصيريّة التي لا تزال تمارس نشاطاتها في العالم الإسلامي بصورة مباشرة حيناً، وبدعم التوجيهات غير الدينيّة من داخل بلاد الإسلام أحياناً أخرى، وهي مساعٍ عظيمة جداً ينفق عليها بسخاء كبير(282)، واستعملوا لتحقيقها عدة طرق: من التطبيب، والتعليم، ونشر الفتن والحروب، والأعمال الاجتماعية وغيرها.
ويتأكد هذا الأمر عندما نعلم مدى تأثير الدين في الحياة الأمريكية حتى يمتزج بجميع نواحي الحياة، وحتى يصبح من أقوى العوامل في نجاح المرشح في الانتخابات وفي فشله أيضاً(29).
عقوبة المرتد:
الإنسان باعتناقه للإسلام يعصم دمه وماله في الدنيا، وأما قبل إسلامه فإنّ الأصل أنه مباح الدم إلا إذا طرأ له عهد أو ذمة أو أمان أو مانع يمنع من قتله.
فكل شخص لم يعتنق الإسلام فالأصل أنّه مباح الدم إلا لعارض.
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى»(30).
وعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؛ فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وصلّوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا؛ فقد حُرِّمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها»(31).
فقوله: «عصموا مني دماءهم» وقوله: «حرمت علينا دماؤهم» يدل «على أنه كان مأموراً بقتل من أبى الإسلام.. فإذا نطق بالشهادتين عُصم دمه وصار مسلماً؛ فإذا دخل في الإسلام فإن أقام الصلاة وآتى الزكاة وقام بشرائع الإسلام فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم»(32).
ويدل على ذلك قوله - تعالى -: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]. وقوله: {فَإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5].
فالإسلام هو العاصم عن إباحة دم الإنسان في الأصل، وأما غيره من الأسباب التي تمنع من قتل غير المسلم فهي أسباب طارئة تنتهي بانتهاء غايتها.
والمسلم نفسه متى ترك الإسلام عاد للحال التي كان عليها من حِل الدم والمال، بل هو أشد؛ لأن ضرره أعظم، ولأنه قد قامت عليه من الحجّة ما هو أبلغ من غيره.
وشيخ الإسلام ابن تيمية ذكر بعض أسباب القتل وكان منها: الكفر، وبيّن أن من الفقهاء من جعل نفس الكفر مبيحاً للدم، ومنهم من جعله وجود الضرر منه أو عدم النفع فيه، قال بعد ذلك: (أما المرتد فالمبيح عنده هو الكفر بعد الإيمان، وهو نوع خاصٌّ من الكفر؛ فإنّه لو لم يُقتَل لكان الداخل في الدين يخرج منه؛ فقتله حفظ لأهل الدين والدين؛ فإنّ ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه، بخلاف من لم يدخل فيه؛ فإنّه إن كان كتابياً فقد وجد إحدى غايتي القتل في حقّه وإن كان وثنياً.. ولم يمكن استرقاقه ولا أخذ الجزية منه بقي كافراً لا منفعة في حياته لنفسه؛ لأنه يزداد إثماً، ولا للمؤمنين؛ فيكون قتله خيراً من إبقائه)(33).
إذا تقررت هذه القاعدة من أن أكبر عاصم لمال الإنسان ودمه هو الإسلام؛ فإننا نعلم أن خروج الإنسان عن الإسلام بعده رافع لهذه العصمة، ولذا جاء الشرع في نصوص كثيرة جداً تبيّن حد المرتد وأنّه القتل.
فمنها قوله - تعالى -: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإن يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [التوبة: 74] فبين - تعالى - أن من كفر بعد إسلامه إن تاب كان خيراً له، وإلا يعذّب عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة، وعذابه في الدنيا هو الحد.
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: (.. ولكونهم أظهروا الكفر والردة، لهذا دعاهم إلى التوبة فقال: {فَإن يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإن يَتَوَلَّوْا} عن التوبة {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} وهذا لمن أظهر الكفر فيجاهده الرسول بإقامة الحد والعقوبة)(34).
وقال ابن الجوزي: (قوله - تعالى -: {وَإن يَتَوَلَّوْا} أي يُعرِضوا عن الإيمان {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} بالقتل وفي الآخرة بالنار)(35).
وقد أمر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في نصوص نبويّة كثيرة..
فمنها: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من بَدّل دينه فاقتلوه»(36).
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً إذ دخل رجلان وافدين من عند مسيلمة، فقال لهما رسول الله: «أتشهدان أني رسول الله؟ » فقالا له: أتشهد أنت أن مسيلمة رسول الله؟ فقال: «آمنت بالله ورسله؛ لو كنت قاتلاً وافداً لقتلتكما»(37).
وجاء من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي: «أما والله لولا أنّ الرسل لا تُقْتَل لضربت أعناقكما»(38).
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «ارتدت امرأة عن الإسلام فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعرض عليها الإسلام وإلاّ قُتلت، فعرضوا عليها الإسلام فأبت إلا أن تقتل، فقُتلت»(39).
وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل ابن خَطَل وقد كان مسلماً ثم ارتد مشركاً(40).(3/178)
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»(41).
وروت عائشة - رضي الله عنها - مثله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (42).
وعن عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً بغير نفس»(43).
وفي رواية: «أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل»(44).
وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: لقيت خالي أبا بردة ومعه الراية، فقلت: إلى أين؟ فقال: أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجلٍ تزوّج امرأة أبيه أن أقتله، أو أضرب عنقه(45) وزاد في رواية: وآخذ ماله، أو: أصفي ماله، أو: أخمّس ماله.
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: (إنّ تخميس ماله دَلَّ على أنّه كان كافراً لا فاسقاً، وكفره بأنّه لم يحرم ما حرّم الله ورسوله)(46) لأنه كذَّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به عن ربّه، وجحود لآية من القرآن.
وفي السنَّة من النصوص الواردة في قتل الساحر ما ينضم إلى ما تقدَّم أيضاً.
وثبت القتل للمرتد من فعل صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورضي الله عنهم.
فقد أُتي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بزنادقة فأحرقهم بالنار(47).
وورد ذلك عن ابن عمر وعثمان وأبي بكر رضي الله عنهم(48).
ولما قدم معاذ بن جبل على أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما - إذا رجل عنده موثَق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهودياً فأسلم، ثم تهوّد، قال: اجلس. قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، فأمر به فقتل(49).
والحكم بقتل المرتد محل إجماع من المسلمين(50)، فلم يقع في أصله خلاف، وإن حصل اختلاف في فروعه كالاستتابة ومدتها وأنواع المكفرات.
ولكن هذا القتل لا يكون إلا بأمر حاكم؛ لأن مرجع تنفيذ الأحكام إليه، عند جمهور أهل العلم، كما لا يقتل حتى يستتاب ويصرّ على ردّته، ولا بد من تحقق الردّة بثبوت موجبها وتحقق شروطها وانتفاء موانعها من الخطأ والإكراه ونحو ذلك(51).
ومعنى ما سبق أن إثبات الحد الشرعي شيء، وتطبيقه في الواقع شيء آخر؛ فإن تنزيل الأحكام على الوقائع مختص بأهله.
شبهات حول حد الردّة:
يظهر مما سبق أن الحكم بقتل المرتد حداً حدٌّ شرعيٌّ ثابت بالنص النبوي قولاً وفعلاً، وبإجماع المسلمين، ودَلّ عليه كتاب الله - تعالى - تفقهاً ـ وعمل الصدر الأول من الأمّة.
وهو متّسق مع قاعدةٍ كلية وهي إباحة دم الكافر إلا بطروء ما يعصمه.
وكل ما سبق مثبتٌ ـ بلا شك ـ أن القتل للمرتد واجب من واجبات الدين.
إلا أن هذا العصر لما شهد إعراض بعض الأمم عن تطبيق هذا الحد، أخذ بعضهم يبحث عن وسائل يجعل هذا الحد محل تردد، وأورد لذلك شبهات، وتوصّل بعد ذلك إلى تحريم الردّة، ولكن جعل عقوبتها تعزيريّة عائدة لرأي الإمام إما بالقتل أو بالسجن أو بغيرهما(52).
وآخر بحثَ مثله عن شبهات وتوصل بعد عرضها والكلام حولها إلى أنّه لا عقوبة على الردة! (53).
ومجمل الشبهات التي أوردها هؤلاء هي:
أن عقوبة الردة وردت في أحاديث آحاد، والحدود لا تثبت بحديث آحاد.
وقد تبيّن مما سبق أن حد الردة محل إجماع، والإجماع يرفع الحكم إلى القطعيات، كما أن الحديث ورد بعدة طرق، وأخرجه صاحب الصحيح مما يجعله محفوفاً بالقرائن التي ترفعه إلى إفادة العلم كما قرره الحافظ ابن حجر في نزهة النظر(54). وقد نقل أيضاً في نفس الموضع الإجماع على وجوب العمل بما في الصحيح، ثم إن أحاديث الآحاد لم يتوقف علماء الصدر الأول من الإسلام عن الأخذ بها سواء في العلميات أو العمليات.
ولذا قال ابن حبان - رحمه الله - : (فأما الأخبار فإنّها كلها أخبار آحاد؛ لأنّه ليس يوجد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبرٌ من رواية عدلين روى أحدهما عن عدلين، وكل واحد منهما عن عدلين، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلما استحال هذا، وبطل، ثبت أنَّ الأخبار كلها أخبار آحاد، وأن من تنكّب عن قبول خبر الآحاد فقد الإضافة)(55).
كما أنّ حد الزاني المحصن وشارب الخمر وتفصيلات حدود السرقة وزنا البكر كلها إنّما ثبتت بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآحاديّة.
ومع كل ذلك فإنَّ لدينا على هذا الحد دليلاً من القرآن تقدم، وإجماع مَرّ معنا.
ونظير هذه الشبهة: أن هذا الحكم لم يذكر في القرآن.
وهو مع الإشارة إليه في القرآن، ومع اعتقادنا أنَّ السنة مصدر للتشريع فإني ذاكر حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : إذ لعن الواشمات والمتنمّصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. فقالت امرأة قرأتِ القرآن يقال لها أم يعقوب: ما هذا؟ فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله. قالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدتُهُ. قال: والله لو قرأتيه لقد وجدتيه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7](56).
ولا شك عند كل مسلم سليم الاعتقاد أنَّ الحديث حجة بنفسه؛ فهو - عليه الصلاة والسلام - {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4].
ومن الشبهات أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقب أحداً من المرتدين بقتله.
وقد تبين مما سبق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل من ارتد وعاقب بذلك(57).
بل عاقب به من لم يحارب المسلمين ولم يقاتلهم.
الردّة وحريَّة الاعتقاد:(3/179)
لا شك أنّ كل مسلم يعلم أنّ الإسلام هو الدين الحقّ، وأنّ ما عداه باطل {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
لذا فإن على كل عاقل أن يسلم لله رب العالمين؛ فإن لم يسلم فقد تنكّب الصراط المستقيم، وخالف مقتضى العقل وداعي الفطرة.
ولا يعني هذا منع الإنسان من التفكير، بل هو بتفكيره السليم منقادٌ للإيمان بالله - تعالى -.
وعلى هذا؛ فليس للإنسان حريّة في الاعتقاد، بل مطلوب منه الإيمان، ولكن لا يُكرَه عليه، فإن أُكره فإنّ إيمانه لا ينفعه؛ لأنّه لم يكن عن قناعةٍ واطمئنان قلب.
قال - تعالى -: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 84 - 85].
أي: أنهم لمَّا عاينوا وقوع العذاب بهم وحَّدوا الله وكفروا بالطاغوت، ولكن حيث لا تقال العثرات ولا تنفع المعذرة.
إنَّ الله - تعالى - بعث الرسل وأنزل الكتب لبيان الحق ودلالة الخلق، وإقامة البراهين والآيات والمعجزات التي تدل كل صاحب تفكير سليم إلى الإيمان: {قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46].
وهذا فيه حريّة ظاهرة؛ إذ لا إكراه على اعتناق الإسلام مع أنّه المخلِّص للبشريّة من ضلالاتها، وسائر مشكلاتها، {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].
وشاهد هذا حال أهل الذمة الذين أقرهم المسلمون على دينهم دون أن يعرض أحد لهم، وإباحة الشرع للمسلم أن يتزوج كتابيّة ولو بقيت على دينها دون أن يجبرها على التخلي عنه.
أما من دخل في الإسلام فإنّه قد التزم أحكام الإسلام وعقيدته التي منها أن من ارتدّ عنه قتل؛ فهو بدخوله في الإسلام التزم بأحكامه التي منها عقوبته عند الإخلال به.
وإذا كان الإنسان مخيراً في دخول أي بلد، فإذا ما دخلها لزمه الانقياد لأنظمتها وإلا استحق العقوبة على إخلاله، وليس له أن يحتج بأنّه كان مخيراً قبل دخوله لها؛ بينما المرتدّ بردته ارتكب عدة جرائم: جريمة في حق نفسه إذ أضلها، وجريمة باستخفافه بعقيدة أمته ونظامها الذي يرتكز على الإسلام، وجريمة بتشكيكه لضعاف العقيدة في عقيدتهم، وهذا كله مؤدٍّ إلى اضطراب المجتمع واهتزازه؛ كما أنّه أعلن وجاهر بجريمته ولم يسرّ بها؛ لأنه لو أسرّ ردته صار منافقاً، ولمَّا أعلنها صار مرتداً مجاهراً(58).
وكل هذه الجرائم جرائم متناهية في البشاعة، فاستحق العقوبة الشرعيّة على جرائمه تلك. إن القوانين الوضعيّة تقتل الخائن لها والمحطّم لنظمها دون أن تتذرع بأنّه يمارس حريته الشخصيّة؛ فكيف بمن يجرم في حق نفسه ومجتمعه وعقيدة أمته؟!
وبعد: فقد كان من المناسب بيان أصول المكفرات وشروط الحكم بالكفر على من وقع فيه؛ فلعل أحداً من المختصين أن ينبري لبيانها أو بيان شيء من المهم منها، والله الموفق والهادي لا إله إلا هو.
----------------------------------------
(*) قاضٍ شرعي في المحكمة الشرعية بمكة المكرمة.
(1) تضمين من إعلام الموقعين لابن القيّم (3/126).
(2) منقول بتصرف واختصار من: إعلام الموقعين (3/130).
(3) معجم مقاييس اللغة (2/386)، لسان العرب (3/172).
(4) الروض المربع مع الحاشية (7/399).
(5) سير أعلام النبلاء (2/221)، طبقات ابن سعد (8/97).
(6) مجموع الفتاوى (7/278).
(7) تفسير ابن كثير (7/227)، السيرة النبوية لابن هشام (2/524)، تفسير الطبري (14/333).
(8) السيرة النبوية لابن هشام باختصار (1/476).
(9) مجموع الفتاوى (7/279).
(10) اجتالتهم: أي: استخفوهم فذهبوا بهم، وأزالوهم عما كانوا عليه. شرح النووي ص 1666.
(11) صحيح مسلم (2865).
(12) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص 53.
(13) المرجع السابق ص 54.
(14) صحيح البخاري (4477)، صحيح مسلم (141).
(15) انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة لمحمد سعد اليوبي ص 183، 210.
(16) صحيح البخاري (3892)، صحيح مسلم (1709).
(17) في ظلال القرآن (3/1231).
(18) انظر: التشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة (1/662).
(19) عقوبة الإعدام عقوبة مقررة في الشرائع السابقة وفي القوانين الوضعيّة المعاصرة، وقد أيّدها عدد من المفكرين، منهم: روسو وفولتير ومونتسيكو وغيرهم، بل بعض الدول الغربية التي ألغت عقوبة الإعدام عادت فأقرتها، مثل: إيطاليا، وروسيا بحجّة أن من ارتكب جرماً خطيراً أو شديد الضرر فعليه أن يدفع حياته ثمناً لإثمه الكبير، وكونها عقوبة ضروريّة لتخليص المجتمع من الأشخاص الخطرين، وأنها تصرف عن الإقدام على الجريمة.
انظر: علم الإجرام والعقاب للدكتور عبّود السّراج ص 407 ـ 417، أساسيات علم الإجرام والعقاب للدكتور فتّوح الشاذلي ص 106 ـ 119، النظرية العامة لقانون العقوبات للدكتور سليمان عبد المنعم ص 729.
(20) تفسير الطبري (5/496).
(21) المرجع السابق.
(22) صحيح البخاري (7).
(23) انظر: فتح الباري لابن حجر (1/49).
(24) مجموع الفتاوى (7/281). (الإيمان الكبير).
(25) البداية والنهاية (16/612).
(26) البداية والنهاية (14/640).
(27) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (6/478).(3/180)
(28) فالرسائل التي كتبها (المنصرون) من سوريا والشرق الأدنى بين عامي 1830م و 1842م بلغت ثمانية وثلاثين مجلداً، ولما اجتمع مؤتمر التنصير العالمي عام 1910م أصدر تقريراً عن النواحي التي يجب أن يهتم لها المبشرون تم طبعه في عشرة مجلدات، أما مؤتمر التبشير في القدس عام 1928م الذي اجتمع لمدة أسبوعين فقط فقد وضع تقريراً في ثمانية مجلدات، ومؤتمر كولو عام 1978م قُدّمت فيه أربعون دراسة، ورُصد للتنصير فيه ألف مليون دولار.
أما المجلات التي صدرت في بلدان مختلفة وبلغات مختلفة لغرض التنصير فأكثر من أن تُحصى، وكذلك الإذاعات والقنوات.
وأُحيل القارئ الكريم إلى كتاب: الغارة على العالم الإسلامي الذي تولى نشره محب الدين الخطيب، وكتاب: التبشير في البلاد العربيّة لمصطفى خالدي وعمر فرّوخ، وكتاب: الغارة الجديدة على الإسلام لمحمد عمارة وهو يتضمّن الترجمة الكاملة لتقرير مؤتمر كولورادو، وكتاب: أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها للشيخ الميداني.
(29) البعد الديني في السياسة الأمريكيّة للدكتور يوسف الحسن ص 67، 83.
(30) صحيح البخاري (25)، صحيح مسلم (22).
(31) صحيح البخاري (391).
(32) انظر: جامع العلوم والحكم (1/230).
(33) مجموع الفتاوى (20/102).
(34) مجموع الفتاوى (7/273).
(35) زاد المسير ص 596؛ ومثله في الكشاف للزمخشري ص 442، والشوكاني في فتح القدير (2/545).
(36) صحيح البخاري (3017).
(37) الدارمي (2545)، وصححه ابن حبان (4879).
(38) سنن أبي داود (2762)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5328).
(39) سنن البيهقي (17337)، والدارقطني (34/118)، وانظر تلخيص الحبير (4/49).
(40) صحيح البخاري (1846)، صحيح مسلم (1357).
(41) صحيح البخادي (6878)، صحيح مسلم (1676).
(42) صحيح مسلم (1676).
(43) سنن الترمذي (2158) وحسّنه، والنسائي (7/91)، وابن ماجه (2533).
(44) سنن النسائي (7/103).
(45) مسند أحمد (4/295)، سنن أبي داود (4457)، الترمذي (1362)، ابن ماجه (2607)، وصححه ابن حبان (4112)، والحاكم (2/191) ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في إرواء الغليل (8/18) وفيه روايات الحديث.
(46) مجموع الفتاوى (20/92). ولا بد أن تعلم أن هذا ليس مجرد فاعل معصية، بل فعل ذلك مستحلاً للحرام فصار كافراً.
(47) صحيح البخاري (3017).
(48) سنن البيهقي (12/400 فما بعدها).
(49) صحيح البخاري (6923).
(50) الإجماع لابن المنذر ص 123.
(51) انظر: حاشية الروض المربع (7/399 فما بعدها)، مغني المحتاج (4/142)، حاشية ابن عابدين (4/668)، الموسوعة الفقهيّة الكويتية (22/194)، التشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة (2/706).
(52) انظر: موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر (3/439)، موقع إسلام أون لاين: الإسلام وقضايا العصر، مقال بعنوان: عقوبة الردة تعزير لا حدّ، لمحمد سليم العَوّا.
(53) موقع إسلام أون لاين، ملف: قضيّة الردة هل تجاوزتها المتغيرات، مقال لجمال البنا بعنوان: العقوبة للردة. كتاب حرية الفكر في الإسلام لعبد المتعال الصعيدي.
(54) نزهة النظر، ص 288.
(55) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/156)، وانظر: كتاب الفقيه والمتفقه (1/286).
(56) صحيح البخاري (5939).
(57) وقد حاول هؤلاء جمع نصوص فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل بعض من كفر بعد إسلامه، ومما ذكروه قصة الأعرابي الذي بايع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما استوخم المدينة قال: يا محمد! أقلني بيعتي، فأبى فخرج الأعرابي، وهذا بيّنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (4/116)، (13/212) أنه استقال من الهجرة الواجبة وليس من الإسلام، وإلا لكان قتله على الردة، ولو كان مرتداً لما احتاج أن يستأذن النبي.
وذكروا قصّة الرجل النصراني الذي كان يكتب الوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عاد نصرانياً، فلما مات ودفن لفظته الأرض، وهذا خرج ـ كما في صحيح مسلم ـ فاراً حتى لحق بأهل الكتاب. فتح الباري (6/723).
(58) انظر: مجموعة بحوث فقهيّة لعبد الكريم زيدان ص 416، تلبيس مردود في قضايا حية لصالح بن حميد ص 33؛ حقوق الإنسان في الإسلام لسليمان الحقيل ص 155.
http://www.albayan-magazine.com:المصدر
================
الرد على شبهات حول الجهاد العراقي
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه :
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : " كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها ، فلابد أن يقول على الله غير الحق ، في فتواه وحكمه وخبره وإلزامه ، لأن أحكام الرب سبحانه كثيرا ما تأتي على خلاف أغراض الناس ، لاسيما أهل الرياسة ، و الذين يتبعون الشهوات ، فإنهم لاتتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيرا " الفوائد
اللهم إنا نعوذ بك أن نضلّ أو نُضلّ ، أو نزلّ أو نُزل ، أو نجهل أو يُجهل علينا ، اللهم إنّا نسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، والغنيمة من كل بر ، والعافية من كل إثم ، وحسن الخاتمة ، حسبنا الله ونعم الوكيل .
وبعد :
فإنّ من أشنع الأقوال الضالّة ، والبدع التي هي على أبواب جهنم دالّة ، القول بأن إمامة الكافر أو من يولّيه الكفار ، على المسلمين صحيحة ، وأنّ جهاد الكافر المحتل لبلاد الإسلام باطل ، فقائل هذا القول جمع بين أعظم سببين لإفساد الدين ، وإضلال المسلمين .(3/181)
فهو بتصحيحه ولاية الكافر ، أو من يتولى بأمرهم ويحكم به ـ مع أنه حينئذ يكون مثلهم ـ قد دعا إلى إفساد الأحكام الشرعيّة جملة وتفصيلا ، وبتحريمه الجهاد لإخراج الكفرة المحتلين دعا إلى إخضاع أمة الإسلام إلى عدوّها ، ممعنا فيها إفسادا و تضليلا ، والساكت عن إنكار ضلاله شيطان أخرس ، فإن كان مع ذلك يرتقي منصبا دينيا فهو أعظم ملبّس ، ممّن بدل دين الله تبديلا ، نسأل الله تعالى العافية من سبل الردى ، ومضلات الفتن ، واتباع الهوى .
هذا والعجب أن هؤلاء المفتين لم يستحوا من الله ولا من المسلمين ، وهم يقومون ، بادية سوءاتهم أمام العالمين ، بأداء الدور المطلوب منهم أمريكيا ، في ضمن متطلبات المشروع الصليبي للمحافظين الجدد ، لفرض عقيدة وشريعة غربيّة ، تجمعان بين الروح الصليبية ، والأهداف الصهيونية ، والثقافة اللادينية العلمانية .
نسال الله أن يبطل سعيهم الخبيث في بلاد المسلمين ويرد كيدهم في نحورهم ، وكيد هؤلاء الملبّسين على المسلمين دينهم ، الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ، ممن يصدق عليهم قوله تعالى : " مثل الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا " .
وهذا بحول الله رد على ضلالاتهم الشنيعة ، وذلك :
أولا : ببيان من هو وليّ الأمر الشرعي .
ثانيا : بالرد على شبهة الاستدلال بولاية نبي الله يوسف عليه السلام .
ثالثا: بالرد على شبهة اشتراط الإمام للجهاد أو إذنه إن عطّله أو كان جهاد دفع .
رابعا : بالرد على شبهة اشتراط الراية في الجهاد.
ثم خاتمة جامعة نافعة في التحذير من الركون إلى الكفار وتهوين أمر الدخول في ولاءهم .
فنقول وبالله التوفيق :
أولا :
وليّ أمر المسلمين الذي تجب طاعته هو الذي يتولّى أمر دين المسلمين، لأنّ هذا هو أمر المسلمين ، فليس لهم أمر غير دينهم ، فبه صاروا أمة ، وبه تحققت شخصيتهم الحضاريّة ، وبه وُجد كيانهم السياسي ، أمّا من يتولّى أمرا آخر ، كالذي يحكم بالنظام الدستوري العلماني أيّا كان : ديمقراطيا ليبراليا غربيا زائفا ، أو قوميا إشتراكيا شموليا ، أو عشائريا جاهليا يخلط بين الشريعة والجاهلية ، أو غير ذلك ـ سوى النظام الإسلامي المتحاكم إلى شريعة الله تعالى ـ فهو وليّ أمر ما تولاّه ، ليس هو وليّ أمر المسلمين ، وهو ممن يصدق عليه قوله تعالى " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " .
فكيف يُولّى أمر أمّة الإسلام ، وقد تولّى أمر غيرها ؟!!
ولهذا وردت النصوص الآمرة بطاعة ولاة الأمر، مقيّدة بقيد إقامة الدين ، كما في حديث " إنْ أُمّر عليكم عبد مجدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا " رواه مسلم ،والحديث الثاني " إنّ هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبّه الله في النار على وجهه، ما أقاموا الدين " رواه البخاري.
فذكر أن الحكم بكتاب الله ، أي تحكيم الشريعة ، وإقامة الدين كذلك ، شرط في صحة ولايتهم التي توجب طاعتهم .
ولهذا فقد أجمع العلماء على شرط الإسلام في الإمام ، عملا بقوله تعالى " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، وبالنصوص الكثيرة في القرآن والسنة التي تحرم ولاية المسلم للكافر ، وأي ولاية أعظم من نصبه حاكما على المسلمين ؟!!
وفي الحديث المتفق عليه من حديث عبادة بن الصامت : " وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان " . فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج بالقوّة ، على الحاكم إن أظهر الكفر .
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله : " أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن الكافر لا ولاية له على مسلم بحال " أحكام أهل الذمة 2/ 414
وقال القاضي عياض رحمه الله : " أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر ، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر وتغيير للشرع ، أو بدعة ، خرج عن حم الولاية ، وسقطت عدالته ، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك ، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة ، وجب عليهم القيام بخلع الكافر " شرح النووي على صحيح مسلم 12/229 ، والظاهر أن قصده بدعة مكفرة من جنس تبديل الشرع .
ومن النصوص التي دلت على ما تقدم ، وحديث ابن مسعود " سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة ، ويعلمون بالبدعة ، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها ، فقلت : يا رسول الله إن ادر كتهم كيف أفعل ؟ قال : تسألني يا ابن أم بعد ماذا تفعل ؟! لا طاعة لمن عصى الله " رواه أحمد ، وابن ماجه ، والبيهقي ، الطبراني في الكبير وإسناده على شرط مسلم
إذا تبيّن هذا ، فإنه من المعلوم ، أن حكومة الاحتلال في العراق ، حكومة عميلة ، نصبها محتل صليبيّ ، وألزمها بأن تُهيئ نظاما ليُحكم العراق بالنظام العلماني ، الذي يدعو إلى أن يعبد كلّ عابد ألهه ، وإلى أن يتخذ كلّ هواه إلها ، وهي حكومة تؤمن بفصل الدين عن الحياة ، وحقّ الناس أن يشرعوا ماشاؤوا ـ إلا ما يغضب سادتهم الأمريكيون ـ فمهمة هذه الحكومة الأهمّ ، هي أن تحول بين شريعة الله تعالى وأن تحكم العراق ، وبين أهل الجهاد وان يقيموا في الأرض دين الإسلام ، فمن يصحح ولاية مثل هذه الحكومة داعيا إلى طاعتها ، منسلخ عن الدين ، مرتكس في النفاق معدود في المنافقين .
ثانيا :
استدلال المستدل بقصة نبي الله يوسف عليه السلام ، على صحة ولاية من يوليه المحتل لأرض المسلمين ،استدلال منكوس ، فيوسف عليه السلام نبيّ مسلم ، لايحكم بغير شريعة الله ، وهو القائل لصاحبي السجن " إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون " ، قد مكّنه الله تعالى على قوم كفار ، في بلد أهله كفار ، فحقق بولايته علو الإسلام بأحكامه على بلاد كافرة .(3/182)
وأما حكومة الإحتلال الحاكمة بأحكام الكفار ، الموالية لهم ، فهي حكومة كافرة تتولى على قوم مسلمين ، وتحقق علوّ أحكام الطاغوت في بلاد الإسلام ، فالعجب والله من هذا الاستدلال المنكوس .
ثم إن الله تعالى ، قد قال عن يوسف عليه السلام : ( وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ) .
فالآية تبيّن أن الله تعالى مكّن له في الأرض ، فله اليد العليا فيما تحت يده ، بتمكين الله تعالى ، لا بغيره ، ليحكم بالشرع والعدل والإحسان ، وأن هذا التمكين رحمة من الله ، وأنه كان في ذلك من المحسنين.
فأين هذا من حكومة احتلال ، يستخدمها الصليبيون والصهاينة ، لتحارب المجاهدين الذين يجاهدون لطرد المحتل من بلادهم ، فهي حكومة جاءت لتقيم أحكام الطاغوت ، وهي في عملها تسعى في بلاد الإسلام سعي الكافرين الظالمين ، ومعلوم أنّ هذه الحكومات التي ينصبها المحتل في العادة ، دُمية لم يُمكّن لها المحتل، وإنما يستعملها ليمتطى ظهرها ، ليحقق بها أهداف الكفار في بلاد الإسلام.
فلا ريب أن هذا المستدل بقصة يوسف ، من أجهل الناس ، وأغلظهم فهما ، وأشنعهم ضررا ، في المسلمين ، نسأل الله تعالى العافية من مقام الخزي ، اللهم نعوذ بوجهك آمين.
ثالثا :
لاريب أن الفريضة الواجبة المقدّمة ، عند احتلال الكفار لبلاد المسلمين ، هي الجهاد لطرد المحتل ، وزعم غير ذلك ضلال مبين ، أما الرضا باستعلاء الكفار على بلاد المسلمين ، فهو ردة عن الدين ، ليس في ذلك خلاف بين علماء الملّة ، ولا ينفع عذر المعتذر بأن البلاد بحاجة إلى بقاء الكفّار لحفظ الأمن ، فقائل هذا كاذب مفتر على دين الله تعالى ، يضل الخلق بغير علم .
ذلك أن الله تعالى أخبر في محكم التنزيل : " والكافرون هم الظالمون " ، وقال " لايرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمّة " ، وقال " وأولئك هم المعتدون " وقال " إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء " وقال " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس " ، فكيف يُكذّب القرآن المبيّن أن الكفّار إن تسلّطوا على المسلمين ، كانوا سببا للظلم ، والعدوان ، وفساد الدين والدنيا ، ويُصدّق الكافر ، الكاذب ، الظالم ، المعتدي ، الذي قد بان ظلمه وعدوانه على المسلمين والإسلام ، للخاص والعام ؟!!
ومعلوم أنه لا يوجد فساد أعظم من استعلاء الكفار في بلاد المسلمين ، ولا مصلحة أعظم بركة على المسلمين من جهاد الكفار لمنعهم من إظهار هيمنتم على البلاد الإسلامية ، فكل يوم يستقر لهم المقام في العراق ـ كمافي غيره ـ يخسر الإسلام وأهله ما لا يخطر على البال ، ولا يدور في الخيال من الخسران المبين ، في دينهم ، وقوتهم وثروتهم ، ومستقبلهم السياسي .
ذلك أن الكفّار سيعملون بلا ريب على ترتيب أوضاع البلاد عسكريا ، وسياسيا ، واقتصاديا ، واجتماعيا ، وثقافيا في أسرع وقت وفق ما خططوا له سلفا ، لتكون تلك الأوضاع في صالح الكفر وأهله ، كما فعلوا في الاحتلال في القرن الماضي .
وسينصبون أولياءهم من المرتدين من خونة العرب على حكم العراق ، لتتم لهم مقاصدهم الخبيثة.
وفي التقاعس عن منعهم من ذلك بكل وسيلة ممكنة ، تمكين لهم ، وتغرير بالإسلام وأهله ، وذلك أعظم الخيانة لدين الله تعالى .
ذلك أن الله تعالى حرّم على المؤمنين تحريما قطعيا أن يرضوا بظهور الكفار عليهم ، وباحتلال الكفار بلادهم ، وأرض العراق مثل أرض فلسطين تماما ، و كذا كل بلاد الإسلام ، لا يسقط وجوب الجهاد لإخراج المحتل منها ، إلى يوم القيامة .
قال تعالى : ( وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ) والفتنة هي الشرك ، فظهوره وعلوه على أرض الإسلام أعظم الفتنة ، وإنما غاية الجهاد منع الكفر من الاستعلاء بالقوة قال تعالى ( وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير ، وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ) .
وقال ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين ) .
وقد قال تعالى ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) أي هذا حكمه ، فلا ترضوا أن يكون للكافرين عليكم سبيل .
وقال ( كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) .
وقال ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) .
وقال ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ، ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل ، وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم ، فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها .. الآيات ) .
أما كلام علماء الإسلام في وجوب الجهاد لطرد المحتل الكافر فكثير مبارك ، من ذلك :
قال ابن حزم في المحلى " إلا إن نزل العدو بقوم من المسلمين ففرض على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثا لهم " 7/292
وقال الإمام النووي ( قال أصحابنا : الجهاد اليوم فرض كفاية إلا أن ينزل الكفار ببلد المسلمين فيتعين عليهم الجهاد ، فإن لم يكن في أهل ذلك البلد كفاية وجب على من يليهم تتميم الكفاية ) شرحه على مسلم 8/63(3/183)
وقال الإمام القرطبي : ( قد تكون حالة يجب فيها نفير الكل ، وذلك إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار ، أو بحلوله بالعقر ، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا خفافا وثقالا ، شبابا وشيوخا ، كل على قدر طاقته ، من كان له أب بغير إذنه ، ومن لا أب له ، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل ، أو مكثر ، فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم ، وجاوزهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة ، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ، ومدافعتهم ، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم ، وعلم أنه يدركهم ، ويمكنهم غياثهم لزمه أيضا الخروج إليهم .. ولو قارب العدو دار الإسلام ، ولم يدخلوها لزمهم أيضا الخروج إليه ، حتى يظهر دين الله ، وتحمى البيضة ، وتحفظ الحوزة ، ويخزي العدو ، ولا بخلاف في هذا ) الجامع لاحكام القرآن 8/151ـ 152 .
وقال الإمام الخرقي من الحنابلة ( وواجب على الناس إذا جاء العدو أن ينفروا ، المقل منهم والمكثر ) .
قال الإمام ابن قدامة في الشرح : ( قوله المقل و المكثر ، يعني به والله اعلم الغني و الفقير .. ومعناه أن النفير يعم جميع الناس ممن كان من أهل القتال حين الحاجة إلى نفيرهم لمجيء العدو إليهم ، ولا يجوز لأحد التخلف إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ المكان والأهل والمال ، ومن يمنعه الأمير من الخروج ، أو من لا قدرة له على الخروج للقتال ، وذلك لقوله تعالى ( انفروا خفافا وثقالا ) وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا استنفرتم فانفروا ) ، وقد ذم الله تعالى الذين أرادوا الرجوع إلى منازلهم يوم الأحزاب ، فقال تعالى ( ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ) المغني 10/389 .
وقال الإمام الجصاص ( معلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو ، ولم تكن فيهم مقاومة فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين ، وهذا لا خلاف فيه بين الأمة ) أحكام القرآن للجصاص 4/309
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : ( إذا دخل العدو بلاد الإسلام ، فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب ، إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة ) الاختيارات العلمية .
وهذا كله في غاية الوضوح ولا يحتاج إلى البيان ، ونقوله مع أن العراق أرض العلم والعلماء ، ولا يحتاج أهلها إلى سؤال غيرهم ، ونحن على يقين أن الأجنبي المحتل لن يهنأ بالبقاء فيها ، وستبوء خططه بالفشل بإذن الله تعالى .
** هذا وأما القول :
بأن الجهاد لا يكون إلاّ مع الإمام ، فهو قول الرافضة ، أما أهل السنة فلا يعرفون هذا الشرط ، إنما يشترطون إذن الإمام إن كان إماما شرعيا قائما بالجهاد الشرعي ، كما يشترط إذنه في كل الأمور العامة لئلا يفتئت عليه .
قال ابن حزم: "يغزى أهل الكفر مع كل فاسق من الأمراء وغير فاسق ومع المتغلب والمحارب كما يغزى مع الإمام ويغزوهم المرءُ وحده إن قدر أيضاً" (المحلى 10/99)
وقال أيضا " قال تعالى ( فقاتل في سبيل الله لاتكلف إلا نفسك ) وهذا خطاب متوجه إلى كل مسلم ، فكل أحد مأمور بالجهاد ، وإن لم يكن معه أحد " المحلى 7/351
وقال شارح الطحاوية عند قول الطحاوي: "والحج والجهاد ماضيان... الخ"
"يشير الشيخ -رحمه الله- إلى الرد على الرافضة حيث قالوا لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج الرضا من آل محمد" (ص/437)
وقال الماوردي: "فرض الجهاد على الكفاية يتولاه الإمام ما لم يتعين" (الإقناع ص/175) ، يعني إن تعين لم يشترط له إذن الإمام ، ومعلوم أن أكثر جهاد المسلمين اليوم هو جهاد الدفع الذي هو فرض عين على أهل البلد ومن يمكنه نصرهم، فلا يشترط له إذن حاكم .
وقال القرافي في الذخيرة " شروط الجهاد : هي ستة : الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكورة والإستطاعة " ، ثم قال : " فإن صدم العدو الإسلام وجب على العبد والمرأة لتعين المدافعة عن النفس والبضع "
وقال ابن قدامة " إذا جاء العدو صار الجهاد عليهم فرض عين فوجب على الجميع فلم يجز التخلف عنه " 10/390
وقال ابن قدامة في المغني : " ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط " فذكر الشروط الستة الماضية ، غير أنه جعل الاستطاعة شرطين ، ولم يذكر شرط الإمام .
وقال ابن مفلح في الفروع ( قيل للقاضي يجوز قتال البغاة إذا لم يكن إمام ؟ فقال : نعم ، لأن الإمام إنما أبيح له قتالهم لمنع البغي والظلم ، وهذا موجود بدون إمام ) .؟ 6/154
وإذا كان هذا مع البغاة ، فكيف مع الكفار ؟
بل حتى لو كان ثمة إمام قائم بالشرع ، فخاف المسلمون من عدوهم ، فلهم أن يقاتلوا دون إذنه :
قال الإمام أحمد كما في مسائل عبدالله 286 : " إن كانوا يخافون على أنفسهم وذراريهم فلا باس أن يقاتلوا من قبل أن يأذن الأمير " .
فهذا إذا خافوا من العدو، فكيف إذا دهمهم ؟!
وقال ابن قدامة " فإن عدم الإمام لم يؤخر الجهاد ، لأن مصلحته تفوت بتأخيره ، وإن حصلت غنيمة قسمها ، أهلها على موجب الشرع " 10/374
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وأما قتال الدفع وهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعا فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لاشيء أوجب بعد الإيمان من دفعه ، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان ، وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم ، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده " مجموع الفتاوى 4/508
وقال الحضرمي الشافعي في القلائد 2/353 " فإن دخلوا ديارنا ولو خلاء ، أو خرابا ، وجب على كل مكلف ـ أي الجهاد ـ ولو امرأة ، أو عبدا ، بلا إذن "(3/184)
قال صديق خان: "الأدلة على وجوب الجهاد من الكتاب والسنة وردت غير مقيدة بكون السلطان أو أمير الجيش عادلاً بل هذه فريضة من فرائض الدين أوجبها الله على عباده المسلمين من غير تقيد بزمان أو مكان أو شخص أو عدل أو جور" (الروضة/333)
وقال العلامة عبدالرحمن بن حسن رحمه الله في الدرر السنية " بأي كتاب أم بأي حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام متبع ؟! هذا من الفرية في الدين ، والعدول عن سبيل المؤمنين ، والأدلة على بطلان هذا القول أشهر من أن تذكر ، من ذلك عموم الأمر بالجهاد ، والترغيب فيه والوعيد على تركه ... وكل من قام بالجهاد في سبيل الله ، فقد أطاع الله وأدى ما فرضه الله ، ولا يكون الإمام إماما إلا بالجهاد ، لا أنه لا يكون جهاد إلا بإمام ، والحق عكس ما ذكرت يا رجل "
وقال أيضا بعد أن استدل بقصة أبي بصير رضي الله عنه في حربه قريشا مستقلا " فهل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخطأتم في قتال قريش لأنكم لستم مع إمام ؟؟! سبحان الله ! ما أعظم مضرة الجهل على أهله عياذا بالله من معارضة الحق بالجهل والباطل "
وقال " فإذا كانت هناك طائفة مجتمعة لها منعة ، وجب عليها أن تجاهد في سبيل الله بما تقدر عليه لا يسقط عنها فرضه بحال ، ولا عن جميع الطوائف وليس في الكتاب والسنة ما يدل على أن الجهاد يسقط في حال دون حال ، أو يجب على أحد دون أحد إلا ما استثنى في سورة براءة ، وتأمل قوله " ولينصرن الله من ينصره " ، وقوله " ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا .. الآية " ،وكل يفيد العموم بلا تخصيص .. ) الدرر السنية 7/97
وقال أيضاً: "وكل من قام بالجهاد في سبيل الله فقد أطاع الله وأدى ما فرضه الله ولا يكون الإمام إلا بالجهاد لا أنه لا يكون جهاد إلا بالإمام" (الدرر السنية 7/97)
هذا ويحسن أن نختم هذه الأقوال بما ذكره العلامة المهدي الوزاني رحمه الله في النوازل الكبرى الجزء الثالث ص 11 ، وهو كتاب يحوي فتاوى علماء المغرب العربي المالكية في النوازل ، وهذه الفتوى للإمام أبو عبدالله سيدي العربي الفاسي رحمه الله ، وما أحسن قوله فيها :
(( وما تهذي به بعض الألسنة في هذه الأزمنة من أنه لا يجوز الجهاد لفقد الإمام وإذنه ، فكلمة أوحاها شيطان الجن إلى شيطان الإنس ، فقرها في إذنه ثم ألقاها على لسانه في زخارف هذيانه ، إغواء للعباد وتثبيطا عن الجهاد )).
ومع أنه ليس للسادة المالكية اختصاص بهذا ، بل هو أمر متفق عليه بين المذاهب ، غير أنه قد أعجبتني هذه الفتوى لما فيها من التفصيل الحسن ، والاستنباط السديد :
وإليكم الفتوى كلها : " أما المسألة الثالثة فلا يتوقف وجوب الجهاد على وجود الإمام ، وعلى إذنه في الجملة ، ومن المعلوم الواضح أن الجهاد مقصد بالنسبة إلى الإمامة التي هي وسيلة له ، لكونه في الغالب العادة لا يحصل على الكمال إلا بها ، فإذا أمكن حصوله دونها لم يبق معنى لتوقفه عليها ، فكيف تترك المقاصد الممكنة لفقد الوسائل المعتادة ، فلو كان الإمام موجودا ، طلب استئذانه ، محافظة على انتظام الأمر واجتماع الكلمة ولزوم الجماعة ، وقد يعرض ما يرجح عدم استئذانه كخوف فوات فرصة لبعد الإمام ، أو كونه غير عدل يخشى أن يغلبه هواه في تفويتها ، فلو كان غير عدل ومنع من الجهاد لغير نظر لم يمتنع الجهاد إن أمن الضرر من جهته ..
فلا يضيع الجهاد إن ضيعه الولاة ، والنصوص المذهبية شاهدة لذلك كله .
قال إمامنا مالك رضي الله عنه : لله تعالى فروض في أرضه لا يسقطها ، وليها إمام أو لم يلها .
وقال ابن القاسم في سماع أبي زيد في قوم سكنوا قرب العدو فيخرجون إليه بغير إذن الإمام ، فيغيرون عليه : وإن كانوا يطمعون في الفرصة وخشوا إن طلبوا ذلك من إمامهم منعهم ، أو يبعد إذنه لهم حتى يفوتهم ما رجوا ، ذلك واسع لهم .
وقال ابن وهب في سماع عبد الملك بن الحسن : وسئل عن قوم يدافعون العدو ، هل لأحد أن يبارز بغير إذن الإمام ؟ فقال : إن كان الإمام عدلا لم يجز أن يبارز إلا بإذنه ، وإن كان غير عدل فليبارز وليقاتل بغير إذنه .
قال ابن رشد : هذا كما قال ، إن الإمام إذا كان غير عدل لم يلزم استيذانه في مبارزة ولا قتال ، إذ قد ينهى عنه على غير وجه نظر .
وإلى هذا التفصيل ونحوه يرجع ما يوجد في هذه المسألة من نصوص المذهب .
وإن كان الجهاد يجوز ـ دون إذن الإمام ـ لما ذكر مع وجوده فكيف لا يجوز مع عدمه البتة.
ومن الواضح أنه إن توقف على وجوده فإنما يتوقف عليه لأجل إذنه ، وعليه فإن كان لا يتوقف على إذنه كان غير متوقف على وجوده .
نعم إقامة الإمام بشروطه ، وجمع الكلمة عليه فرض واجب على الخلق ، كما أن الجهاد فرض أيضا ، والقيام بهما معا مطلوب على الوجوب ، ولكن تضييع فرض واحد منهما أخف من تضييعهما معا ، وأما التوقف على الإمام للإمداد والرجال والمال والعدد فتوقف عادي لاشرعي .
إذ لا يجب شرعا أن لا يجاهد إلا بمال بيت المال ، بل من قدر أن يجاهد بمال نفسه فهو أفضل له ، وأعظم لأجره ، وإن اتفق أن تجمع جماعة من المسلمين مالا لذلك حصل المقصود أيضا .
ومن المعلوم في الفقه أن جماعة المسلمين تتنزل منزلة السلطان إذا عدم ، وعليه من الفروع مالا يكاد يحصى ، كمسألة من غاب زوجها وهي في بلد لا سلطان فيه ، فإنها ترفع أمرها إلى عدل من صالحي جيرانها ، فيكشف عن أمرها ويجتهد لها ، ثم تعتد وتتزوج ، لأن الجماعة في بلد لاسلطان فيه تقوم مقام السلطان ، قاله القابسي ، وأبو عمران الفاسي ، وغيرهما من شيوخ المذهب .
مع أن هذا من وظائف الإمام ، أو نائبه الذي هو القاضي ، التي لايباشرها غيره مع وجوده ، ومع ذلك لم يتوقف الأمر فيها على وجوده ، فكيف بالجهاد الذي يصح أن يباشره غيره مع وجوده دون إذنه كما تقدم .(3/185)
وما تهذي به بعض الألسنة في هذه الأزمنة من أنه لا يجوز الجهاد لفقد الإمام وإذنه ، فكلمة أوحاها شيطان الجن إلى شيطان الإنس ، فقرها في إذنه ثم ألقاها على لسانه في زخارف هذيانه ، إغواء للعباد وتثبيطا عن الجهاد .
وحسبك فيمن يقول ذلك أنه من أعوان الشيطان وإخوانه المعدين في الغي والطغيان ، والذي تشهد له الأدلة أن الجهاد الآن أعظم أجرا من الجهاد مع الإمام ، لأن القيام به الآن عسير ، لا تكاد توجد له أعوان ، ولا يتهيأ له تيسير ، فالقائم به الآن يضاعف أجره ، وينشر في الملأ الاعلى ذكره ، فيكون للواحد أجر سبعين ، ويماثل فاعل الخير الدال عليه والمعين .
وأما المسألة الرابعة ، فلا يجوز أن يباع للكفار الحربيين القوت ولا السلاح ، ولاما يصنع منه السلاح ، ولاما يعظمون به كفرهم ، ونصوص المذهب متظاهرة على ذلك .
قال في المدونة : قال مالك : لا يباع من الحربي سلاح لا سروج ولا نحاس ،قال ابن حبيب : وسواء كانوا في هدنة أو غيرها ، ولا يجوز بيع الطعام منهم في غير الهدنة ، قال الحسن : ومن حمل إليهم الطعام فهو فاسق ، ومن باع منهم السلاح فليس بمؤمن ، ولا يعتذر بالحاجة إلى ذلك ".
انتهت الفتوى .
** وإذا كان الجهاد لا يرجع فيه إلى الإمام إن كان غير عدل ، لانه سيجعله تبعا لهواه ، فيعرض الدين للهلاك ، فكيف إذا كان الحاكم أخا ووليا للكافرين ، محاربا للدين ، فهو يأتمر بأمر الكفار أنفسهم ، ويقرّ معهم أنه لاجهاد إلا بإذنهم ، فليت شعري ، كيف يجعل أمر الجهاد إليه ، وهل يقول بذلك عاقل ؟!
أما إن عُدم الإمام، أو ترك الجهاد، كأن يكون قد عاهد الكفار على ترك الجهاد أبدا ، وهو عهد باطل باتفاق العلماء، أو كان الحاكم لادينياعلمانيا ، لا يؤمن بالتحاكم إلى الشريعة ، أو خشي المسلمون فوات مصلحة إن انتظروا إذن الإمام الشرعي ، أو وقوع مفسدة، أو تعين على طائفة منهم قتال عدو حضر ، فلا يشترط إذن الحاكم ، بل يقيم المجاهدون أميراً منهم ويجاهدون معه .
ومن الأدلة على عدم اشتراط الإمام حديث : (غشيتكم الفتن كقطع الليل المظلم ، أنجى الناس فيها رجل صاحب شاهقة ، يأكل من رسل غنمه ، أو رجل آخذ بعنان فرسه من وراء الدروب ، يأكل من سيفه ) روه الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
كما يدل عليه حديث البخاري بسنده عن جنادة بن أبي أمية قال : " دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض قلنا أصلحك الله حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم قال دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان " .
وهو يدل على وجوب الخروج على الحاكم إن اقترف كفرا بواحا ، ومعلوم أنه في هذا الجهاد يكون الحاكم هو الذي يجب جهاده لخلعه بالقتال ، فكيف يشترط ـ ليت شعري ـ الإمام للجهاد ؟!! ومعلوم أن هذا الجهاد من أفضل الجهاد ، فإذا كانت كلمة الحق عند سلطان جائر أفضل الجهاد ، فكيف بإراحة المسلمين من حكم طاغوت كافر ؟!
هذا وقد علم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وأن الحاكم لا يطاع إن أمر بالمعصية ، فكيف إذا أمر بما هو من أشد المعاصي ضررا على المسلمين ، وإفسادا لدينهم ، وهو ترك الجهاد ، فلا يقول بوجوب طاعته في ذلك إلا جاهل مطموس على بصيرته عافانا الله .
رابعا : الرد على من زعم اشتراط الراية للجهاد :
وليت شعري بأيّ كتاب أم بأيّة سنة جيء بهذا الشرط ، وفي أيّ مذهب ذكر ، وما معناه ، وما ضابطه ، ألا لو كان هذا المتخبط القائل باشتراط الراية ، يفقه في الدين لم يطلق لفظا غير منضبط فيجعله شرطا في عبادة هي ذروة سنام الإسلام ، فمن أين أتوا بهذا الشرط ( الراية ) ، فعلى هذه الراية العفا ، وصفع القفا ، وعلى كل شريعة شرعت بها .
غير أنه من المعلوم ، أنه يجب أن يكون للجهاد هدف شرعي ، ولعمري أي هدف شرعي أوضح من قتال المحتل الصليبي الذي حل بعقر دارنا ، وأي هدف شرعي أوضح من قتال من أعلن أنه يريد تغيير بلاد المسلمين ، كلها ، ليحقق أطماعه وأطماع الصهاينة في بلاد الإسلام ، أي هدف أوضح وأكثر شرعية من قتال الذين يقاتلوننا في كل العالم ، ويحاربون الإسلام في أنحاء المعمورة .
فلم يعد يخفى على مسلم ، أن جميع الحركات الجهادية من فلسطين ، إلى جنوب شرق آسيا ، من كشمير إلى الفلبين تحاربها أمريكا ، وجميع المجاهدين في أفغانستان وما حولها وفي الشيشان ، بل لا ترفع راية جهاد في أي بقعة من الأرض لإعلاء كلمة الله واسترداد حقوق المسلمين ، إلا والأمريكيون الصليبيون يتصدون لها ، ويستعملون من وافقهم من المنافقين من مطاياهم الذين يفتون بتحريم جهادهم .
وليت شعري ألا يعلم هؤلاء المفتون الضالّون المضلّون ، أن الأبطال الذين يقاتلون الأمريكيين في العراق إنما يحمونهم، ويحمون دينهم ، وأعراضهم ، من بقاء هيمنتهم على العالم وعلى شعوبنا الإسلامية .
هذا ولا أحسب هؤلاء الذين يفتون بإبطال الجهاد ، ووجوب الدخول في طاعة الحكومات التي ينصبها المحتل في بلاد الإسلام ، إلاّ يعلمون في قرارة أنفسهم بطلان ما يقولون
ذلك أن الرايات المتواجهة في العراق اليوم ، إنما هي رايتان ، راية الاحتلال ومن يؤيّده ، وراية رفض الاحتلال ومن يقف معها .
الراية الأولى هي راية الصليبيين والرافضة ومن معهم من مرتزقتهم وزنادقة العلمانيين العرب الذين اتخذوا أمريكا ربا وإلها .
والراية الثانية هي راية المقاومة وهو اسم عام يشمل كل رافض لبقاء القوات الصليبية المحتلة في العراق ، وهي في أوساط أهل السنة عامة، ويتقدم هذه الراية المجاهدون .(3/186)
والهدف واضح وضوح الشمس في رابعة النهار ، وهو إخراج المحتل الصليبي من بلاد الإسلام ، وحماية المسلمين من بقاءه وتمكنه فيها ، لأنّ كل يوم جديد يبقى المحتل في العراق ، فإنه يتمكّن من إنجاح مخططه الواسع الأشد خطرا على أمتنا الإسلامية من كلّ ما مضى منذ عقود ، وهو مشروع القرن الأمريكي ، الذي صيغ ليعيد تشكيل المنطقة كلّها وفق متطلبات الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي الجديد .
ومن المعلوم أنه حتى في الجهاد الأفغاني الماضي ، ضدّ الغزو السوفيتي في أفغانستان ـ مع أن الاحتلال السوفيتي لم يدخل في حرب أطاح فيها بنظام الحكم وأصبح قوة احتلال ، بل بناء على طلب " نجيب الله " وفق معاهدة من حكومته ، التي يسمّي هؤلاء المفتون مثلها في العراق " حكومة ولي الأمر " !! ـ قد كانت الجبهات الجهادية كلها تقاتل ضد نظام " نجيب الله " الموالي للسوفيت ، وضد الجيش السوفيتي في أفغانستان ، على حد سواء .
كما يحدث في العراق تماما ، وكانت الجبهات في الجهاد الأفغاني ، متعددة الاتجاهات ، مختلفة العقائد ، ففيهم حتى القبوريين ، وغلاة أهل الشرك والتصوف الفلسفي ، غير أن الفتاوى كلها ، كانت تدعوا إلى توحيد المواجهة مع العدو ، وأن اختلاف الجبهات لا ينبغي أن يشتت الهدف المشترك ، وهو طرد الروس من أفغانستان .
ولم يكن أحد في ذلك اليوم ، يتحدث عن تحريم قتال جنود ولي الأمر " نجيب الله " الذي كان يظهر ـ كما أذكر ذلك ـ في صور تنشرها بعض صحفنا الاشتراكية آنذاك ـ في الكويت ـ وهو يصلي ويدعو رافعا يديه ، وتصور تلك الصحف الخارجين عليه بأنهم خوارج بغاة ، يرضون سادتهم الأمريكيين بالقتال ضد من استنجد بالروس حلفاءه ليقمع المتمردين الإرهابيين الخوارج !! .
وكان الحكم الشرعي في الجهاد الأفغاني لا يختلف فيه اثنان ، فالاحتلال الكافر ، احتلال يجب جهاده ، ولا يغير هذا الحكم ، كونه نصب حكومة موالية له ، ولا تعدد جبهات القتال ضده ، واختلاف الرايات .
وكذلك كان الأمر في احتلال القرن الماضي لبلادنا الإسلامية ، كان الاحتلال ينصب الحكومات ، ويتخذ من أهل البلاد الجند والشرط من المسلمين ـ أو كانوا مسلمين قبل أن يوالوا المحتل ـ ولم يكن في علماء المسلمين من ينكر جهاد المحتل ومن والاه .
بل كان كل من يقوم بالجهاد ومقاومة المحتل محمود في الأمة ، وجهاده مشكور ، ومن يحرض على قتال المحتلين من العلماء يعظم في نفوسهم مكرّما ، وينصبونه بينهم مقدّما ، رغم كون الرايات المحاربة لاحتلال القرن الماضي ، أشد اختلافا ، وأعظم تباينا، فقد كان فيها الرايات الإسلامية ، والعلمانية ، وغيرها .
كما أن الجهاد اليوم في فلسطين ، تختلف فيه الرايات أيضا ، غير أن القتال كله يتوجه إلى هدف واضح ، هو دحر الصهاينة عن بلاد المسلمين ، وإفشال مخططهم الخبيث واجتثاث سرطانهم المزروع في بلاد الإسلام ، وذلك لإنقاذ الأمّة الإسلامية ، مع احتمال أن يستفيد من بعض ثمرات الجهاد ، بعض الرايات العلمانية .
ولم يقل عاقل قط ، فضلا عن عالم بالشرع ، أن الجهاد في فلسطين حجر محجور ، وعمل محظور ، ويحرم على المسلمين أن يقاتلوا اليهود المحتلين ، حتى يأتي اليوم الذي يتوحد الفلسطينيون تحت راية إسلاميّة سنيّة واحدة ، ولو قال هذا مغفل لقدم أكبر خدمة للاحتلال .
والحاصل أن اتفاق المسلمين مع غيرهم على قتال عدوّ يراه الطرفان خطرا عليهما ، وفي دحره وإفشال مخططاته ، دفع خطر عام على أمة الإسلام ، لا ينكره إلاّ جاهل ، وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المسلمين يقاتلون والروم عدوا من وراءهم في آخر الزمان ، فليس في هذا ما يخالف الشرع مادامت المصلحة في عاقبة القتال أرجح .
ومعلوم أن الأمريكيين أشدّ ما يخافون مما يفشل مشروعهم في العراق ، هو دخول المقاتلين عليهم من خارجها ، فهم يريدون أن يستفردوا بالعراق ، ويحولوه إلى سجن كبير ، يفعلون فيها ما يشاؤون وهم في أمن من أي معكّر خارجي .
حتى إذا انتهوا من الاستقرار التام فيه ، وباضوا وفرخوا في ربوعه ، انتقلوا إلى مايليه من بلاد الإسلام ، ولهذا فهم يفرضون اليوم حتى على بعض العلماء ـ بواسطة حكومات المنطقةـ أن يخدموا العلم الأمريكي ، ويسيروا في ركابه ، حتى تحط رحال الصليب في كلّ العواصم ، فتُنزل بأمّة الإسلام كلّ قاصم .
ويبدو واضحا لكل ذي بصيرة أن الضغط الأمريكي على حكوماتنا هو الذي بات يوجّه بعض الفتاوى الشرعية المنكوسة التي أشبه بهذيان المنافقين والزنادقة ، أو أقوال الفئات الضالة المارقة .
وهذا وإن كان لا يحدث دائما بأسلوب مباشر ، غير أنه يمر عبر مراحل تنتهي بتوجيه الفتوى لصالح السياسة الأمريكية المفروضة على دولنا شاءت أم أبت .
وكأنّك ترى لو كان الروس هم الذين احتلوا العراق أو أي دولة أخرى تنافس أمريكا ، كأنك ترى المتحمّسين اليوم للفتاوى المخذلة لإخوانهم المجاهدين في العراق ، متجاوزين كل المعوقات ، متعامين عن كل شبهة ، يفتون بلا خوف من سلطان ، ولا جزع من جلاد أو سجان ، بوجوب الجهاد كما كانوا يفتون أيام الجهاد الأفغاني ، في سبيل إرضاء السياسة الأمريكية ، ولأصبح الجهاد في العراق أعظم من كل جهاد ، والمحرضون عليه جهابذة العلماء ، ليسوا خوارج ولا بغاة .
فسبحانك اللهم ، سبحانك مقلب القلوب والأبصار ، ثبت قلوبنا على دينك ، وثبت عقولنا ، ونجنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفرنا لنا وارحمنا وأنت غير الغافرين "(3/187)
هذا وينبغي أن يعلم أن ما ينتشر هذه الأيام من إضافة شروط للجهاد ، ما أنزل الله بها من سلطان ، ولا دل عليها سنة ولا قرآن ، سببه هذا الانهزام الذي يملأ أرجاء صدور المنهزمين في حالة الغثائية التي تعيشها الأمة المستوليّه عليها أمم الكفر ، وأولياؤهم .
وإن تعجبْ فعجبٌ أن هؤلاء المنهزمين عكسوا الأمر الذي دلت عليه شريعة العزة ، لتحصيل أسباب العزة ، بينما أقامه أعداء الإسلام !
فالشريعة الإسلامية وضعت شروطا لمن يتولّى أمر المسلمين , وقيّدت سلطانه ، وجعلته نائبا عن الأمة يقوم بأمرين أساسين :
أحدهما : إقامة الشرع في ديار الإسلام ، إذ هو لم يُنصب إماما إلا لهذا الغرض العظيم ، كما قال تعالى " الذين إن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر " ، فذكر قيامهم بالدين في أنفسهم بالصلاة التي هي رأس العبادات البدنيّة ، والزكاة التي هي رأس العبادات الماليّة ، وإقامتهم للدين في بلادهم وأرضهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والثاني : حماية أرض المسلمين من دخول جيوش الكفار إليها ، بإقامة الثغور وهي كلمة عامة تشمل امتلاك سلاح الردع الذي يخيف الكفار من الطمع في بلاد الإسلام ، كما دل على ذلك قوله تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) ، وإقامة جهاد الطلب الذي يسمّيه الكفّار اليوم الحرب الوقائيّة ، وتعني منع أي قوة تطلب الاستعلاء في الأرض غيرهم ، لتبقى لهم الهيمنة على جميع الأمم !!
هكذا قيّدت الشريعة منصب " ولي الأمر " ، ولم تجعله بلا شروط كما هو لسان حال المفترين على الإسلام ، هذه الأيّام ، فلمْ تجعله بحيث يكون كلّ من تسلّط على رقاب المسلمين ، فله الحق المطلق أن يفعل ما شاء ، وكلّ اعتراض عليه فتنة هي اشد من فتنة علو الكفار على بلاد الإسلام ، فهذا من أبطل الباطل !!
بينما ـ من جهة أخرى ـ قد خففت الشريعة المطهّرة شروط الجهاد ، تشوّفاً لمصالحه الكثيرة التي يثمرها ، ولهذا أباحته مع كل بر وفاجر ، وأباحت ما يذكر في مسالة التترس ونحوها مما يوسع في الفقهاء الباب مراعاة لتحقيق مصالح الجهاد العظيمة النفع على الأمة ، وأباحت فيه الكذب ، والخيلاء ، ولبس الحرير ، ومنعت إقامة الحدود في الجهاد ، بينما كان منعها في غيره من أعظم الجرائم التي يرتكبها الإمام ، بل هي سبب الهلاك ، بل إقامتها على الضعيف دون الشريف هو سبب الهلاك كما في الحديث " إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد " .
كما جعلت الشريعة ، جهاد الدفع بلا شروط أصلا ، حتى إن المرأة لها أن تنفر فيه ، وجعلت جهاد الطلب قائما لا يسقطه عدم قيام الإمام به كما سيأتي بيانه .
كل ذلك تحقيقا للقاعدة القرآنية العظيمة : ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم للتهلكة ) ومعلوم أن معناها ، أنفقوا أرواحكم وأموالهم في الجهاد ، وإلا فسوف تكون الهلكة عليكم ، كما دل على هذا المعنى الحق ، نصوص كثيرة ، والواقع ، وسنن الله الكونية التي أقام عليها الحياة الدنيا .
أما هؤلاء المنهزمون ، فقد عكسوا الأمر ، فقد أزالوا كل الشروط التي وضعتها الشريعة لمن يتولى أمر المسلمين ، وقيّدوا الجهاد بشروط ما أنزل الله بها من سلطان .
وبعد هذا ، فلا يخفى أن ذلك إنما وقع منهم ، تحت ضغط داء الإنهزاميّة ، وتحت وطأة الشعور بهذا الرقّ العصري ، رقّ الأنظمة المستبدة التي غدت تفرض على العالم والمفكّر ، حتى ما ينطق به لسانه ، وفق ما يطلبه أعداء الإسلام ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
بينما تجد الكفار الذين حلّوا ديار الإسلام غازين ، واستباحوها مفسدين ، وأعلنوا فيه الكفر المستبين ، تجدهم قد أقاموا هذين الأمرين بما يحقق لهم الظهور والاستعلاء .
فقد وضعوا لمن يتولّى عليهم شروطا ، تضمن تحققيه لمصالح شعوبهم ، وقوة دولهم ، فإن حاد عنها ، استبدلوا غيره به .
أما حروبهم وأسباب قوتهم العسكريّة ، فقد خففوا من شروطها ، ليضمنوا تحقيقها لإستعلاءهم ، فإن عارضت حروبهم الأمم المتحدة المزعومة ، نبذوها وراء ظهورهم ، ومضوا في الحرب ، وإن اقتضت حربهم إبادة الأبرياء ، لم يلتفتوا إلى إهراق دماءهم ولو أهرقوها أنهارا تجري ، كما فعلوا في العراق ، وإن اقتضت أن يكذبوا كذبوا وزوّرا الحقائق ، وإن اقتضت أن يمتلكوا السلاح النووي المدمّر ، أو يملئوا الأرض من الإشعاعات المضرة ، فلا يبالون بما تأتي به من دمار للبشرية.
ذلك أنهم يعلمون أن التفوق على الأمم ، والعزة في الأرض ، لا تأتي إلا بإقامة السلطان الذي تتوفر فيه شروط إقامة التفوق والعزّة ، وبالقوة الضاربة التي تضمن ذلك .
فنسأل الله تعالى أن يرزقنا البصيرة في الدين ، وأن يعيد لهذه الأمّة العظيمة ، الوعي الصحيح بشريعتها التي تحملّها مسؤوليّة عالمية ، والعزيمة على القيام بواجبها العالمي .
خاتمة في التحذير من تولي الكافرين والرضا بعلوهم على بلاد المسلمين طمعا في حفظ الدنيا ولو فسد الدين :
هذا ومن الواضح أن سبب هذه الفتاوى المضلّة التي انتشرت على بعض الفضائيات ، هو تهوين أمر الركون إلى الكفار ، والاستخفاف بحكمهم واستيلاءهم على بلاد الإسلام ، وإيثار نهج السلامة ، والبقاء في حياة الرفاه ، والاستمتاع بمتاع الحياة الدنيا ، ولو على حساب فساد الدين ، وإفساد المسلمين ، مع أن ذلك من شأنه أن يذهب الدين والدنيا ، ولكنهم لايعقلون.(3/188)
ولما كان هذه الفتنة تتكرر ، كلما حلّت جيوش الكفر بلاد الإسلام ، فمن المناسب ، أن ننقل فتوى العلامة سيدي محمد بن مصطفى الطرابلسي ، في التحذير من الركون إلى دول الكفر ، وبيان عاقبة ذلك على دين المسلم ، لما حدث ذلك إبّان الاحتلال الصليبي في القرن الماضي .
قال العلامة المهدي الوزاني في النوازل الكبرى 3/72ـ78 : " ذلك أنه سئل العلامة سيدي محمد بن مصطفى الطرابلسي ، لما شاع وكثر في هذه الأزمنة من احتماء المسلمين بالكفار بعد نقضهم البيعة الإسلامية ، بحيث يكون حكمهم كحكم رعاياهم الأصليين ، إذا وقعت لهم حادثة التجأوا إليهم ، واشتكوا إليهم ، وإذا طلبوا أمراء الإسلام يمتنعون ، ويقولون : نحن تحت حماية الدولة الفلانية ، وإذا جلب إلى محكمة أهل الإسلام ، يحضر معه رجل من طرف الحكومة الأجنبية ، هل يجوز هذا في الشرع الشريف ؟
فأجاب : لا يجوز هذا الصنيع القبيح السيء في الشريعة المنورة ، بل هو حرام ، بل قيل : إنه كفر ، وشهد له ظاهر قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بضعهم أولياء بعض ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم " ، وكذا ما بعد هذه الآية من قوله تعالى " فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة " ، فهي صريحة في أنه لا يفعل ذلك إلا من كان في قلبه مرض ونفاق والعياذ بالله . وكذلك ظاهر قوله " ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء " ، أي فليس من ولاية الله في شيء ، فظاهره أنه انسلخ من ولاية الله رأسا ،
وقد قال تعالى في حق المؤمنين : " الله ولي الذين آمنوا " . فمن انسلخ من ولايته تعالى فلا يكون الله وليه ، فلا يكون مؤمنا .
وكذلك قوله تعالى " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما " ، ثم بين المنافقين بقوله تعالى " الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " ، ثم قال " أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ".
والآيات والأحاديث في هذا الشأن كثيرة ، وهؤلاء المحتمون أشد ضررا على المسلمين من الكفار الأصليين .
ثم قال : فهذا وقد ألّف في هذه الحادثة ، سيدي علي الميلي رسالة شدد فيها النكير على من يفعل هذا الفعل ، قال : فلا يجوز القدوم عليه ولو خاف على ماله أو بدنه ، لأن المحافظة على الدين مقدمة عليهما .
ومن القواعد الأصولية :" إذا التقى ضرران ارتكب أخفهما" .
ومنها قولهم : مصيبة في الأموال ولا مصيبة في الأبدان ، ومصيبة في الأبدان ولا مصيبة في الأديان " فالمؤمن رأس ماله ، وأعز شيء عنده دينه ، فهو مقدم على كل شيء " انتهى النقل عن النوازل الكبرى .
ومن يتأمل كلام هؤلاء المتخبّطين بغير علم ، يرى أنهم يعكسون تماما دلالة قوله تعالى " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ "
فالله تعالى جعل الكفر والصد عن سبيل الله ، هو الفتنة ، وهي أشد من القتل ، وهؤلاء يجعلون حتى الأذى ، ونقص الرزق ، وذهاب الأمن ، وليس القتل ، أشد عليهم من الفتنة في الدين . وهم مع ذلك لم يتدبروا حقا قوله تعالى " ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا " ، أي أن الكفار إنما يجعلون قوتهم العسكرية ، وسيلة يتوسلون بها إلى ارتداد المسلمين عن دينهم ، لأن الشيطان هو الذي يقودهم ويأزهم على المؤمنين .
والعجب أنّهم كأنّهم يظنّون ظنّ السوء بربهم ، أنّهم إنْ هم أطاعوه لم يرزقهم على طاعته ، وإن عصوه فصاروا تحت حماية الكفار رزقهم على معصيته ! فتأمّل كيف لبّس عليهم الشيطان ، فظنّوا أنّ في تحالفهم مع أشد الناس كفراً وعداوة للمؤمنين ، أمناً واستقراراً ورفاهاً .
كما حكى الله تعالى عن الذين في قلوبهم مرض قولهم : " فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين "
وصار مثلهم كما وصف الله تعالى : " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ " . فهؤلاء الذين يعبدون الله على حرف ، إنما يريدون نصر الدين بشرط أن لا يصيب دنياهم شيء ، فإن خافوا على دنياهم ، لجئوا إلى الكافر فارتموا في أحضانه ، وإن علموا أن في ذلك فسادا عظيما في دينهم ، قد فتنهم حب الدنيا ، فأوردهم هذه المهلكة .
وهم يتذرّعون بأن هؤلاء الكفار الصليبيين يتركون المسلمين يصلون ، ويصومون ، ويحجّون ، ويزكّون ، فليس في موالاتهم ضرر على الدين ، وينسون ، أو يتناسون أن في استعلاء الكفار بثقافتهم ، وأخلاقهم ، وسياساتهم ، واقتصادهم ، فسادُ عامُ عريض دائم يجتث الأجيال ، ويوقعهم تحت تأثير استلاب الكفار للشخصية الإسلامية في أبناء المسلمين ، وتحطيم الهوية الإسلامية ، وتغيير جذري في معالم الإيمان ، واستبدال الثقافة والقيم الغربية التائهة المنحلة بعقيدة الإسلام وأخلاقه ، وأن هذا واقع لا محالة وضرره شامل مستمر وبالغ الخطورة على عموم الأمة .(3/189)
لكنهم مع ذلك يستروحون إلى طلب الراحة ، والرفاه ، والتوسع في الأموال والتجارات ، تحت ظلّ الكافر ، على حساب عقيدتهم ودينهم .
ويتذرعون أحيانا بالخوف والخطر على الوطن ، وقد حوّلوه إلى صنم ، يحلُّون من أجله الحرام ، ويحرِّمون الحلال ، ويعقدون الولاء والبراء عليه ، ويقدّمون توفير دنياهم فيه ، على صلاح دينهم .
وفي هذه الفتنة أنزل الله تعالى : " ألم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ " . وإنما هم في هذه الفتنة : " قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأبناؤكم وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ " .
وهؤلاء بدل أن يجعلوا هذه الفتنة أشد من القتل ، فيفروا منها ولو إلى الموت ، ليرزقهم الله تعالى حياة الشهداء ، بدل أن يفعلوا ذلك ، ليسلكوا سبيل المؤمنين من قبلهم ، فرّوا من مجرد الأذى ـ وليس من الموت ـ إلى الفتنة ، فاركسوا فيها ، واستعملهم الله تعالى في أشدّ مساخطه وهو تسخير أشد أعداءه الذين يبغضهم ، وهم اليهود والنصارى ، تسخيرهم لهؤلاء المفتونين ، يؤيدون خطط الأمريكيين الصليبين في بلاد الإسلام ، ويفتون الناس بأن هؤلاء الصليبين إنما هو مصلحون ، فيضلون ، ويُضلون الخلق ، فنعوذ بالله تعالى أن يستعملنا في مساخطه .
أما قولهم : إنهم متبعون للمصالح الشرعية الراجحة ، أو أنهم يدرءون المفاسد والمضار ، فهو من تلبيس الشيطان ، فمفسدة تأييد استعلاء الكفار على بلاد المسلمين ، من أعظم المفاسد على الدين ، غير أن هؤلاء جعلوا أهواءهم هي المعيار الذي يرجحون به بين المفاسد والمصالح .
كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله : " المصالح المجتلبة شرعا ، والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى ، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية ، أو درء مفاسدها العادية ، والدليل على ذلك أمور :
أحدها : ما سيأتي ذكره ـ إن شاء الله ـ أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين من دواعي أهوائهم ، حتى يكونوا عبادا لله ، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس ، طلب منافعها العاجلة كيف كانت ، وقد قال ربنا سبحانه " ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن " .
الثاني : ما تقدم معناه من أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار عادة ، كما أن المضار محفوفة ببعض المنافع ، كما نقول إن النفوس محترمة محفوظة الإحياء ، بحيث إذا دار الأمر بين أحياءها وإتلاف المال عليها ، أو إتلافها وإحياء المال ، كان إحياؤها أولى ، فإن عارض إحياؤها إماتة الدين ، كان إحياء الدين أولى ، وإن أدى إلى إماتتها ، كما جاء في جهاد الكفار ، وقتل المرتد ، وغير ذلك ، وكما إذا عارض إحياء نفس واحدة إماتة نفوس كثيرة في المحارب مثلا ، كان إحياء النفوس الكثيرة أولى " الموافقات 2/39
والعجب أن هؤلاء المفتونين ، عكسوا ما أراده الله منهم ، فقد أمرهم بالتزام شريعته ، وتكفّل لهم برزقهم وقدّر آجالهم ، فكان همّهم أرزاقهم ، وآجالهم ، التي تكفل الله بها ، فلا تزيد ولا تنقص ، وأهملوا دينهم الذي أمرهم الله تعالى بحفظه ، وظنوا أن رضاهم بعلوّ الكافر عليهم ، وتحالفهم معه ، سيكون سببا في انبساط الدنيا لهم ، وحلول الأمن عليهم .
ونسوا أن الله تعالى يملي للكافر الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، وأن الله تعالى مهلك هذه الدولة الكافرة الطاغية أمريكا ، كما أهلك الذين من قبلهم ، ولهذا حذّر من اتخاذ الكافرين أولياء ،
كما قال تعالى بعدما ذكر إهلاك الأمم في سورة العنكبوت : " فَكُلاَّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " وقد فتنتهم هذه الدولة الكافرة الطاغية أمريكا ، وهالهم تقلبها في الأرض ،
ونسوا قوله تعالى " لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ " .
ونسوا سنة الله تعالى في الطغاة ، وأنها سنة لا تتبدل ولا تتغير : كما قال تعالى : " أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يستهزؤون * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ "(3/190)
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمدوعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ، حسبنا الله ونعم الوكيل ، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا ، وإليك المصير
=============
وفي كتاب : حول تطبيق الشريعة تأليف العلامة محمد قطب حفظه الله :
المبْحَثُ الأول - هَل تَنفَصِلُ العقيدَةُ عَنِ الشّريْعَة فِي دِيْنِ اللهِ
يحسب كثير من الناس - بتأثير الفكر الإرجائي من جهة ، وتأثير الغزو الفكري من جهة أخرى - أن النطق بلا إله إلا الله محمد رسول الله ، يعطي الإنسان صفة الإسلام مدى الحياة ، ثم يدخله الجنة في الآخرة ، مهما تكن أعماله وأفكاره ومشاعره ! ومن ثم فلا علاقة لهذا الأمر بتحكيم شريعة الله !
ويرى فريق آخر من الناس - يعتبرون أنفسهم أكثر تفقها في دين الله - أن النطق بالشهادتين يعطي الإنسان صفة الإسلام في الحياة الدنيا ، لاصقة به طول حياته ، أيا تكن أعماله وأفكاره ومشاعره ، وحسابه على الله في الآخرة ، يدخله الجنة أو يدخله النار بحسب ما يعلم من سريرته سبحانه ، أما نحن فلنا الظاهر ، والظاهر هو قوله لا إله إلا الله . . . ولا علاقة لهذا الأمر بالتحاكم إلى شريعة الله !
ويكفي للرد على هذا الوهم وذاك أن أبا بكر رضي الله عنه قاتل قوما ينطقون بالشهادتين ، ويؤدون الصلاة كذلك ، ولكنهم يمتنعون فقط عن أداء الزكاة . ولو كانت صفة الإسلام تظل لاصقة بالإنسان بعد نطقه بالشهادتين مهما تكن أفعاله ما جاز لأبي بكر رضي الله عنه أن يقاتل أولئك القوم ، ولا أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على وجوب قتالهم ، بعد أن استوثقوا أن هذا هو حكم الله في الأمر (1) .
إن لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، هي مدخل الناس إلى الإسلام ، ولا مدخل لهم سواها ، إليه وبمجرد نطقها يعتبرون مسلمين . .
ولكن القضية التي يغفلها - أو يغفل عنها - هؤلاء القوم وأولئك ، أن صفة الإسلام لا تلصق من ذات نفسها بالإنسان بعد نطقه بالشهادتين - مهما تكن أفعاله وأفكاره ومشاعره - إنما تحتاج إلى جهد دائب يقوم به الإنسان في كل لحظة من لحظات عمره لتثبيتها في مكانها ، ومنعها من أن تسقط عنه ، متمثلا هذا الجهد في القيام بأعمال معينة من أعمال القلب والجوارح لأنها من مقتضيات الإيمان ، والامتناع عن أعمال معينة من أعمال القلب والجوارح ، لأنها من نواقض لا إله إلا الله ، التي تنقض أصل الإيمان .
وفي هذا الجهد الدائب كانت حياة الصحابة رضوان الله عليهم ، حرصا منهم على بقاء صفة الإسلام لاصقة بهم ، وخوفا منهم أن تسقط هذه الصفة عنهم . وقد وصلوا في ذلك إلى قمم رائعة استحقوا من أجلها أن يوصفوا بأنهم خير القرون قاطبة (2) . ولكن العبرة هنا أنهم لم يعتقدوا قط أن مجرد النطق بالشهادتين يجعل صفة الإسلام تظل لاصقة بهم بغير هذا الجهد الدائب الذي يبذلونه لتثبيتها ، متمثلا ذلك الجهد في القيام بأعمال ، والامتناع عن أعمال . .
فإذا قال قائل إن هذا الأمر متعلق بالآخرة لا بالدنيا ، وإن للآخرة حسابها الخاص ، يحكم فيه الله بما شاء ، فيدخل الجنة - إن شاء - قوما لم يعملوا خيرا قط ، ويخرج من النار - إن شاء - قوما لم يعملوا خيرا قط ، إنما نحن بصدد الحديث عن الحياة الدنيا ، وحكم الإنسان فيها بعد أن ينطق بالشهادتين . . فنقول لهم إنه حتى في الحياة الدنيا فإن صفة الإسلام لا تظل لاصقة بالإنسان مدى الحياة بعد نطقه بالشهادتين إلا إذا قام بأعمال ، وامتنع عن القيام بأعمال ، بصرف النظر عما في داخل قلبه ، مما لا يعلم حقيقته إلا الله .
ولسنا هنا - في هذه العجالة - بصدد تفصيل الأعمال التي يجب أن يقوم بها الإنسان أو يمتنع عنها حتى تظل له صفة الإسلام في المجتمع المسلم ، فقد تكلمنا عنها في أكثر من كتاب (3) . إنما نحن معنيون هنا بنقطة واحدة معينة ، هي صلة لا إله إلا الله بالتحاكم إلى شريعة الله ، ومدى وثاقة هذه الصلة ، وهل يمكن أن تنفصل العقيدة عن الشريعة في دين الله (4) . . .
وقبل أن نتحدث عن هذه القضية نود أن نشير إلى معنى معين يغفله الذين يزعمون أن النطق بالشهادتين - وحده - هو الذي يعطي صفة الإسلام في الدنيا ، وأن التصديق والإقرار - وحدهما - يدخلان الناس الجنة في الآخرة ، ويحتجون " بالجهنميين " الذين يخرجهم الله من النار بعد أن يقضوا فيها ما شاء الله لهم أن يقضوا ، ثم يدخلهم الجنة بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم لم يعملوا خيرا قط . .
ونقول - كما قلنا في كتاب سابق (5) - إنه لا حرج على فضل الله ( يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ) (6) ولكن هذا أيضا له شروط ! وليس مطلقا كما يظن بعض الناس ! والله سبحانه وتعالى هو الذي بين الشروط .
__________
(1) كان عمر - رضي الله عنه - يعارض قتالهم في مبدأ الأمر على أساس أنهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ويحتج بقوله عليه الصلاة والسلام : " فإن قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " ( متفق عليه ) فلما بين له أبو بكر - رضي الله عنه - أنهم نكلوا عن " حقها " قال قولته المعروفة : " والله ما إن رأيت أبا بكر شرح الله صدره للقتال حتى علمت أنه الحق " .
(2) "خير القرون قرني" أخرجه الشيخان .
(3) انظر إن شئت فصل " مفهوم لا إله إلا الله " من كتاب " مفاهيم ينبغي أن تصحح " وفصل " الصحوة الإسلامية " من كتاب " واقعنا المعاصر " .
(4) تكلمنا عن هذه القضية كذلك في الكتابين السابقين ، ولكن الحديث عنها في هذا البحث له ضرورته .
(5) " مفاهيم ينبغي أن تصحح " فصل " مفهوم لا إله إلا الله " .
(6) سورة الإنسان [ 31 ] .(3/191)
ولنمثل للقضية بلجان الرأفة في الاختبارات - ولله المثل الأعلى - فلجنة الرأفة تنظر في أوراق الذين دخلوا الاختبار ثم رسبوا فيه . فإذا نجح منهم من نجح على يد لجنة الرأفة فذلك لا ينفي عنهم أولا أنهم كانوا راسبين بحسب المقاييس المعتمدة للنجاح . ثم إنهم ثانيا لا بد أن يكونوا قد حضروا الاختبار ثم رسبوا ، لأن عمل اللجنة لا يتناول الذين طردوا من الاختبار بسبب الغش - مثلاً - أو بأي سبب آخر . كذلك رحمة الله - ( وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (1) - تشمل الذين قصروا في أداء الأعمال وهم مؤمنون ، ولكنها لا تشمل الذين طردوا من رحمة الله بسبب الشرك ، لقوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) (2) .
والآن فلننظر في الشرك الذي يخرج الإنسان من دائرة المغفرة ويحجب عنه الجنة .
يبين الله لنا في كتابه المنزل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن هذا الشرك ثلاثة أنواع رئيسية ، كل واحد منها شرك ، وكل منها ناقض للا إله إلا الله :
الأول : يتعلق بالاعتقاد . وهو اعتقاد وجود آلهة تشارك الله سبحانه وتعالى في النفع والضر ، أو الإحياء والإماتة أو تدبير الأمر . . أو وجود شفعاء يملكون الشفاعة عند الله فيغيرون حكمه في السموات أو في الأرض .
الثاني : يتعلق بالعبادة . وهو توجيه أي مظهر من مظاهر العبادة لغير الله - معه أو من دونه - كالدعاء أو الإستغاثة أو النذر أو الذبح . . الخ .
الثالث : يتعلق بالتحليل والتحريم ( أي التشريع ) بغير ما أنزل الله .
ولما كنا في هذه العجالة معنيين بالنوع الثالث من الشرك - وهو شرك التشريع بغير ما أنزل الله - فسنقصر الحديث عليه ، متخذين الأدلة عليه من كتاب الله ، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن أقوال العلماء .
بين الله في كتابه المنزل أن الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم قد أرسلوا للناس لا ليدعوهم فقط إلى الاعتقاد بأن الله واحد لا شريك له ، ولكن ليبين لهم كذلك أن العبادة والنسك يجب أن توجه لله وحده بلا شريك ، ثم ليبلغهم تعليمات من ربهم ينظمون بمقتضاها حياتهم وتعاملاتهم بعضهم مع بعض " ليقوم الناس بالقسط " :
( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) (3) .
وبين سبحانه أن هذه الثلاثة : الاعتقاد والشعائر والشرائع هي مقتضى قول كل رسول لقومه : ( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) (4) وأن نقض أي واحد من هذه الثلاثة - أو إشراك غير الله فيها - ناقض للإيمان .
وقال عن شرك التشريع الذي نحن بصدده في هذا المبحث :
( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ) (5) .
( وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ) (6) .
كما قال عن اليهود والنصارى أنه تعالى ألزمهم بالحكم بشريعته ، وأن مخالفتهم لأمره تخرجهم من الإيمان :
( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (7) .
( وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ، وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (8) .
وقال تعالى في بيان أن التشريع بغير ما أنزل الله شرك مخرج من الإيمان مخاطبا المشركين أو منددا بهم :
( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ) (9) .
( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) (10) .
وقال عن اليهود والنصارى كذلك في هذا الشأن :
( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (11) .
فلما أنكر ذلك عدي بن حاتم في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : يا رسول الله ما عبدوهم ! بين له عليه الصلاة والسلام أن اتخاذهم أربابا هو نتيجة اتباعهم فيما شرعوا بغير ما أنزل الله . قال عليه الصلاة والسلام : " ألم يحلوا لهم الحرام ويحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم ؟ فذلك عبادتهم إياهم " (12) .
__________
(1) سورة الروم [ 27 ] .
(2) سورة النساء [ 116 ] .
(3) سورة الحديد [ 25 ] .
(4) سورة هود [ 50 ] .
(5) سورة لقمان [ 21 ] .
(6) سورة النحل [ 35 ] .
(7) سورة المائدة [ 44 ] .
(8) سورة المائدة [ 46 - 47 ] .
(9) سورة الأعراف [ 3 ] .
(10) سورة الشورى [ 21 ] .
(11) سورة التوبة [ 31 ] .
(12) رواه الترمذي .(3/192)
ولما مكّن الله لدينه في الأرض نجم في المجتمع فريق ثالث غير المؤمنين والكافرين الصرحاء ، وهم المنافقون - وهم في الدرك الأسفل من النار - أولئك الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر . وقد تركز كفرهم ونفاقهم في قضية التشريع . فبين الله أن إعراضهم عن شريعة الله وبحثهم عن شريعة أخرى ، ينفي عنهم الإيمان جملة ، وأنهم لا يؤمنون حتى ينبذوا تلك الشرائع التي يتوجهون إليها ، ويعودوا إلى شريعة الله وحدها دون غيرها من الشرائع : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ) (1) إلى قوله تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (2) .
( وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ) (3) .
* * *
فإذا كانت هذه الآيات - وأمثالها في القرآن كثير - قد بينت صلة الشريعة بالعقيدة ، وأنهما لا ينفصلان، وأن التشريع بغير ما أنزل الله شرك مخرج من الملة ، فقد بينت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصلة الوثيقة حين بيّن عليه الصلاة والسلام ما يكون من أمر الناس حين تخالف شريعة الله ، ومن باب أولى حين تنحى شريعة الله ويُحكَمون بشرع غير شرع الله :
" ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب ، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره . ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف ، يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون . فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن . ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن . ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن . وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " (4) .
" إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون . فمن كره فقد برئ ، ومن أنكر فقد سلم . ولكن من رضى وتابع " (5) .
وخلاصة الحديثين أن الرضى بشرع غير شرع الله مخرج من الملة كالتشريع سواء .
* * *
أما أقوال العلماء فنختار منها قول ابن كثير رحمه الله في تفسيره للآية الكريمة:
( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (6) .
" ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير ، الناهي عن كل شر ، وعدل إلى ما سواه من الآراء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بأهوائهم وآرائهم ، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق ، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام اقتبسها من شرائع شتى : من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها ، وفيها كثير من الأحكام أخذها بمجرد نظره وهواه ، فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله ، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير " (7) .
ويقول " ابن تيمية " رحمه الله :
" وبما ذكرته في مسمى الشريعة والحكم الشرعي يتبين أنه ليس للإنسان أن يخرج عن الشريعة في شئ من أموره ، بل كل ما يصلح له فهو في الشرع من أصوله وفروعه وأحواله وأعماله وسياسته ومعاملته وغير ذلك ، والحمد لله رب العالمين . . . وحقيقة الشريعة : اتباع الرسل والدخول تحت طاعتهم ، كما أن الخروج عنها خروج عن طاعة الرسل . وطاعة الرسل هي دين الله الذي أمر بالقتال عليه ، وقال : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) . . . فعلى كل من الرعاة والرعية والرؤوس والمرؤوسين أن يطيع كل منهم الله ورسوله في حاله ، ويلتزم شريعة الله التي شرعها له " (8) .
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله :
__________
(1) سورة النساء [ 60 ] .
(2) سورة النساء [ 65 ] .
(3) سورة النور [ 47 - 48 ] .
(4) أخرجه مسلم .
(5) أخرجه مسلم .
(6) سورة المائدة [ 50 ] .
(7) تفسير ابن كثير ، ج 2 ، ص 67 .
(8) مجموع فتاوى ، شيخ الإسلام ابن تيمية ، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم ، ج19/ ص 309 .(3/193)
" ولهم شبهة أخرى ، يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال لا إله إلا الله ، وقال : " أقتلته بعد ما قال : لا إله إلا الله ؟ وكذلك قوله : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " وأحاديث أخرى في الكف عمن قالها . ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل . فيقال لهؤلاء . . الجهال : معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون لا إله إلا الله . وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويصلون ويَدَّعون الإسلام وكذلك الذين حرقهم على بن أبي طالب . وهؤلاء الجهلة مقرّون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلا الله ، وأن من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها ، فكيف لا تنفعه إذا جحد شيئا من الفروع وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل ورأسه ؟ . . فلم تنفعهم لا إله إلا الله ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لمّا ظهر منهم مخالفة الشريعة " (1) .
وعلى الرغم من وضوح القضية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال العلماء ، فإن الأمر يختلط على بعض الناس حين يجدون في كتب الفقه أن من لم يحكم بما أنزل الله لا يكفر إلا إذا كان جاحدا ، ويجدون ابن عباس رضي الله عنه يقول : أنه ليس الكفر الذي تذهبون إليه . إنه ليس كفراً ينقل عن الملة . كفر دون كفر . . .
يختلط الأمر عليهم فيحسبون قضية التشريع بغير ما أنزل الله ، أو الرضى بشرع غير شرع الله داخلة في هذا الحكم : كفر دون كفر . كفر لا يخرج من الملة .
والذي يقوله الفقهاء عن الحكم بغير ما أنزل الله صحيح ولا شك . فليس كل من لم يحكم بما أنزل الله يعتبر كافراً . فقد يكون متأولا . وقد يكون جاهلا بحكم في قضية بعينها . وقد يكون مدفوعا بشهوة معينة كالقاضي المرتشي الذي يخالف حكم الله في القضية المعروضة عليه بتأثير الرشوة وهو عالم بما يفعل ، فيكون عاصيا فاسقا ولا يكفر .
فكيف اعتبر مؤمنا وهو لم يحكم بما أنزل الله . . ؟
السبب أنه - مع مخالفته لحكم الله - لم يجعل مخالفته شرعا يحكّمه بدلا من شرع الله ، ولم يقل إن حكمه هذا بديل يضاهى حكم الله أو يفضّل على حكم الله . إنما موقفه كالسارق والزاني يخالف في العمل ، ولكنه لا يغيّر في الشرع المنزل ، ولا يضع بديلا من عند نفسه لشرع الله .
أما حين يشرع بغير ما أنزل الله فالأمر مختلف تمام الاختلاف . . فهو عندئذ يضع من عند نفسه تشريعا يحل فيه ويحرم بغير ما أنزل الله ، ثم يضاهي به شرع الله ، أو يفضّله على شرع الله . وذلك - بإجماع الفقهاء - شرك أكبر مخرج من الملة ، لأنه يتعارض مع الإقرار بما جاء من عند الله ، وهو المقتضى المباشر - بل المعنى المباشر - للا إله إلا الله . .
* * *
كيف نزعم لأنفسنا أننا آمنا بأنه لا إله إلا الله - أي لا معبود إلا الله ، ولا حاكم إلا الله - إذا كنا نقول - بلسان الحال أو بلسان المقال - إنك يا رب قد قلت إن الربا حرام ، أما نحن فنقول إنه مدار الحياة الاقتصادية المعاصرة ، لا يقوم الاقتصاد إلا به (2) ، ولذلك فنحن نقره ونتداوله ، ونجعله هو الأصل في تداول المال ! وإنك يا رب قد قلت إن الزنا حرام ، وحددت له عقوبة معينة في كتابك المنزل ، وفي سنة رسولك صلى الله عليه وسلم . أما نحن فنرى أنه ليس هناك جريمة تستحق العقاب أصلا إذا تم الأمر برضى الطرفين ولم تكن المرأة قاصرا .
وإذا وقعت - من وجهة نظرنا - جريمة فعقوبتها عندنا أمر آخر غير ما قررت ! وإنك قد قلت يا رب إن عقوبة السرقة قطع اليد . أما نحن فنرى أن هذه عقوبة وحشية بربرية ، إنما عقوبة السرقة عندنا هي السجن ، وهي عقوبة مهذبة تليق بإنسان القرن العشرين ! وإنك يا رب قد حرمت الخلوة بالأجنبية ، وحرمت الاختلاط بغير محرم ، وحرمت على المرأة السفور وإبداء زينتها لغير محارمها . أما نحن فنرى هذه كلها أمورا لا بأس بها ولا حرج فيها ولا ضرر منها ، بل نراها من ضرورات الحياة المعاصرة ، و " حقوقا " نالتها المرأة " المتحررة " لا سبيل إلى الرجوع عنها ، لكي لا نصبح رجعيين متأخرين . .
كيف نزعم لأنفسنا أننا آمنا بأنه لا إله إلا الله - أي لا معبود ولا حاكم إلا الله - إذا قلنا ذلك ، ومئات من أمثاله ، بلسان الحال أو بلسان المقال ؟
وماذا بقى من لا إله إلا الله إذ فعلنا ذلك ؟
ماذا بقى سوى كلمة ذاهبة في الهواء ، لا رصيد لها من الواقع ، ولا قيمة لها في واقع الحياة ؟
إن الإقرار بألوهية الله ، فضلا عن تفرده سبحانه وتعالى بالألوهية - وهو معنى لا إله إلا الله - أمر أضخم بكثير من مجرد أن نوقن في داخل أنفسنا ونقر بألسنتنا أن الله هو الخالق . وأن الله هو الرازق . وأن الله هو المدبر وأن الله هو المسيطر . وأن الله بيده ملكوت كل شئ . . وهو ما يريد المرجئة أن يحصروا فيه معنى لا إله إلا الله . . فقد كان العرب في جاهليتهم يقرون بهذا كله ، ومع ذلك لم يعتبرهم الله مؤمنين !
( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (3) .
__________
(1) كتاب " الجامع الفريد " الطبعة الثانية ، مقتطفات من ص 232 و ص233.
(2) الذين يقولون هذا هم المرابون اليهود ، ومن عميت قلوبهم من " الأمميين " ، أما المستبصرون من الأمميين أنفسهم فيقولون إن النتيجة الحتمية للربا هي تكدس الثروة في يد فئة قليلة من الناس تزداد قلة بمرور الزمن ، وازدياد الفقر في فئة كبيرة من الناس يتزايد عددها على الدوام : انظر إن شئت تقرير المستشار الألماني " شاخت " عن الربا .
(3) سورة لقمان [ 25 ] .(3/194)
( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) (1) .
( قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ) (2) .
فما الذي منعهم - وهم يقرون بهذا كله - أن يكونوا مؤمنين ؟ وأي شئ جعلهم في حكم الله مشركين ؟
أمران رئيسيان : عبادة غير الله ، والتحليل والتحريم ( أي التشريع ) بغير ما أنزل الله :
( وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ) (3) .
( وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ (4) إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) (5) .
* * *
ويعلم الله أننا ما قصدنا بهذا البيان إصدار حكم على أحد من أعيان الناس . فتلك قضية بينا من قبل في كتابين سابقين (6) أننا لا نتعرض لها في هذه المرحلة من حياة الأمة . إنما نحن في معرض البيان الواجب ، الذي هو أمانة في عنق كل من علم شيئا من حقيقة هذا الدين . . فواجبه أن يبين للناس ما جهلوه من شأن هذه الحقيقة لعلهم يغيّرون ما بأنفسهم فيغير الله لهم :
( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (7) .
ولقد نسيت الأمة في حقبتها الأخيرة كثيرا من حقائق الإسلام التي كانت في حسها بديهيات لا تقبل النقاش .
وكان من بين ما نسيته هذه القضية الخطيرة ، وهي وجوب الحكم بما أنزل الله عقيدةً لا يكون المسلم مسلما إذا تخلى عنها ، وأن التشريع بغير ما أنزل الله ، والرضى بشرع غير شرع الله شرك مخرج من الملة .
ولئن كان الفكر الإرجائي قد مهد السبيل في الماضي لزحزحة الأمة عن كثير من الأعمال الواجبة - أو في القليل برر لها تقاعسها عن تلك الأعمال - على أساس أن العمل ليس داخلا في مسمى الإيمان ، وأن الإيمان يتحقق كاملا بالتصديق والإقرار فحسب . . فإن الغزو الصليبي - سواء العسكري أو الفكري - قد دفع الأمة دفعة خطيرة وراء آخر الحواجز التي كانت قد وقفت عندها على الرغم من كل تقاعسها وكل انحرافها . . فأخرجها من شريعة الله ، وهو يزين لها عملها ، ويمد لها في الغيّ ، ويوهمها أنها ما زالت في دائرة الإيمان . . .
ولقد قاوم المسلمون الغزو العسكري والغزو الفكري بما كان قد بقي فيهم من طاقة . . ولكن الخواء الذي كانت تعانيه الأمة من جراء انحرافاتها وأمراضها جعل هذه المقاومة أضعف من أن تقف للغزو الكاسح ، فاستتب الأمر للغزاة ، وتم لهم ما أرادوه من صرف الأمة عن الإسلام . . .
ولقد كان لهم من وراء تنحية شريعة الله عن الحكم مآرب عدة . . وكانوا يعلمون أنه بعد أن تنقض العروة الأولى - عروة الحكم - ستنقض بقية العرى واحدة إثر أخرى كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لتنقضن عرى هذا الدين عروة عروة ، كلما نقضت عروة استمسك الناس بالتي بعدها ، فأولهن نقضا الحكم ، وآخرهن نقضا الصلاة " (8) .
كانوا يريدون أن تعمل حركة التنصير في العالم الإسلامي وهي آمنة مطمئنة ، لتفتن من تستطيع فتنته عن دينه . ولن تجد هذه الحركة مجالا لو بقيت الشريعة قائمة ، ونُفِّذ حد الردة على المتنصر الذي يرتد عن الإسلام .
وكانوا يريدون أن تشيع الفاحشة في المجتمع الإسلامي لتنحل أخلاقه ويسلس قياده للمستعمر ، ولم يكونوا ليستطيعوا - والشريعة قائمة - أن يفتحوا بيوتا رسمية للبغاء ، تحميها الدولة " المسلمة ! " بتشريعاتها وتنظيماتها وشرطتها ! ولا أن يفتحوا الحانات لتسقى الناس الخمر علانية باسم " المشروبات الروحية " (9) !! ولا أن يفتحوا المراقص للساقطات اللواتي أطلق عليهن فيما بعد لقب " الفنانات ! " لتلهية الناس عن صلاتهم وصيامهم ، ودنياهم وآخرتهم ، باسم الفن والحضارة والتقدم !
وبقى المؤمنون ينكرون ذلك كله بقلوبهم ، وقد عجزوا عن إنكاره بأيديهم ويئسوا من إنكاره بألسنتهم ، ولكن حتى هذا القدر الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه " أضعف الإيمان " " وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " لم يكن مأمونا عند القائمين بالغزو الصليبي ، فقد يشتد يوما حتى يصبح " جهادا " حقيقيا كاسحا هو أشد ما يرهبونه من هذا الدين . ومن ثم سعى الغزو الفكري إلى تثبيت تلك الأوضاع على أنها هي الأصل الذي ينبغي أنْ يتبع ، وأن العدول عنه - بالعودة إلى تحكيم شريعة الله - هو الرجعية التي ينبغي أن يبرأ منها المتحضرون .
__________
(1) سورة الزخرف [ 87 ] .
(2) سورة المؤمنون [ 84 - 89 ] .
(3) سورة النحل [ 35 ] .
(4) إله خالق رازق مدبر تقرون بوجوده ولا تتبعون شريعته ، وإله مزعوم يشرع لكم فتطيعونه في التشريع.
(5) سورة النحل [ 51 ] .
(6) انظر " واقعنا المعاصر " و " مفاهيم ينبغي أن تصحح " .
(7) سورة الرعد [ 11 ] .
(8) رواه أحمد .
(9) يطلق الأوربيون على الخمر اسم " المشروبات الكحولية Spiritual " ولكن المترجمين الخبثاء ترجموا كلمة Spiritual بالروحية ، مستغلين أن الكلمة الأوربية يمكن أن تؤدي كلا المعنيين : الروحية والكحولية . والتضليل واضح في الترجمة العربية .(3/195)
واستعين على ذلك بكل وسائل الإعلام المتاحة من كتاب وصحيفة وقصة ومسرح وسينما وإذاعة ( وتليفزيون فيما بعد ) كما استعين بمناهج التعليم التي تصور الإسلام وشريعته جمودا وتأخرا ورجعية ، وتصور الأوضاع القائمة في أوربا - بجميع جوانبها ومجالاتها - على أنها هي الحضارة والرفعة والتقدم ، وتخرج أجيالا وراء أجيال تعرف شيئا عن أوربا (1) ، ولا تعرف عن الإسلام إلا ما يلقى في روعها من الشبهات !
واستعين فوق ذلك بالفكر الإرجائي الذي يقول إن الإيمان هو التصديق والإقرار ، وليس العمل داخلا في مسمى الإيمان . كما استعين " بعلماء " من علماء الدين ليؤكدوا هذه المعاني الإرجائية في نفوس الناس ، بعضهم " طيبون " ، تستغل طيبتهم دون وعى منهم ، وبعضهم " محترفون " يضللون الناس على علم .
* * *
يا حسرة على العباد !
إن تصور أمة محمد صلى الله عليه وسلم تتحاكم إلى غير شريعة الله لهو أمر مذهل ، وأمر بشع . . لا يخفف من بشاعته عموم البلوى ، ولا ثقلة الأمر الواقع !
كيف تخلت هذه الأمة عن رسالتها ، وعن تميزها الذي ميزها الله به ؟
هل أخرج الله هذه الأمة لتكون في ذيل القافلة تلهث وراء الركب ؟!
وهل أخرجها لتنبهم شخصيتها وتتميع ، وتصبح صورة مقلدة بل مشوهة من الجاهلية ؟!
ألم يخرجها لتكون قائدة ورائدة وشاهدة على كل البشرية ؟!
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) (2) .
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (3) .
وهل تستطيع أن تحقق شيئا من ذلك حين تتخلى عن شريعة الله وتنتهج شرائع الجاهلية ؟
قد يخطر في بال قوم أن الذي ينقصنا من أجل تحقيق وجودنا هو الطائرات والصواريخ ، والالآت والمصانع ، والعلم والتكنولوجيا . .
وكل ذلك ينقصنا حقا . .
ودع عنك الآن أنه ما صار ينقصنا إلا حين تخلفنا عن حقيقة لا إله إلا الله . وأننا حين كنا ملتزمين حقا بمقتضيات لا إله إلا الله كنا ممكنين في الأرض ، سابقين في كل مجالات الحياة ، لأن الله جعل كل أسباب الخير الحقيقي في مقتضيات لا إله إلا الله ، ويسرها لمن يلتزم حقا بلا إله إلا الله .
دع عنك الآن هذا ، ولنفترض - مع الخيال الجامح - أننا امتلكنا هذه الأدوات كلها كما تمتلكها " الدول العظمى ! " سواء بسواء ، ثم لم نطبق شريعة الله . . فهل نزيد في ميزان الله على أن نكون أمة جاهلية يمكن الله لها فترة من الوقت ثم يكون مصيرها الدمار في الأرض والعذاب الأليم يوم الحساب !!
( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (4) .
( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (5) .
إنما أخرج الله هذا الأمة لأمر أعظم من هذا بكثير . .
أخرجها لتكون هي النوذج الذي تحتذيه البشرية ، لتهتدي إلى ربها ، وتطبق منهجه في الأرض ، فتنال خير الدنيا وخير الآخرة ، وتنال رضوان الله . .
وذات يوم حققت الأمة ذلك النموذج الفذ في عالم الواقع . .
ولن تعود إلى التمكين والقوة حتى تعود إلى السبب الذي مكنها من قبل :
( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) (6) .
ولن يعبدوه حق عبادته ، عبادة خالية من الشرك ، حتى يلتزموا بتطبيق شريعة الله :
( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (7) .
=======================
المبْحَثُ الثاني - هَلْ لِوَليِّ الأَمْرِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي أَحْكَامِ الشَّريْعَةِ بِحَسَبِ الأحوَال ؟
يقول الذين يتلمسون المعاذير والحجج ليتهربوا من الالتزام بتطبيق شريعة الله ، إن لولي الأمر أن يتصرف في أحكام الشريعة حسب الأحوال . . فقد أوقف عمر حد السرقة عام الرمادة ، وأبطل سهم المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة . . فإذا جاز هذا لعمر رضي الله عنه فلماذا لا يجوز للحكام اليوم ، وقد تبدلت الأمور تبدلا حادا ، يستدعي إعادة النظر فيما يمكن وما لا يمكن ، وما يجوز وما لا يجوز ؟!
واتهام عمر رضي الله عنه بالتصرف من عند نفسه في أحكام الشريعة حسب أحوال عصره أمر خطير لا يجوز أن يترك بغير تفنيد وتحقيق .
__________
(1) لم يكن لديهم معرفة حقيقية عن أوربا ، فقد كان في الحضارة الغربية إيجابيات - رغم انحرافاتها الجوهرية - ولم يكن مقصوداً تعليم المسلمين إيجابيات أوربا ، ولا كيف يتخذونها من أجل نهضتهم ، إنما كان المقصود تعريفهم - جيداً - بالانحلال الخلقي والإلحاد ، ليأكل في جسد الأمة الإسلامية .
(2) سورة آل عمران[ 110 ] .
(3) سورة البقرة [ 143 ] .
(4) سورة الأنعام [ 44 - 45 ] .
(5) سورة هود [ 15 - 16 ] .
(6) سورة النور [ 55 ] .
(7) سورة النساء [ 65 ] .(3/196)
فعمر رضي الله عنه لم يكن حاكما عسكريا يتصرف في الأمور بما تمليه عليه أهواؤه ، ولم يكن جباراً في الأرض كالفراعين ، يقول : ( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) (1) .
والصحابة رضوان الله عليهم من جانب آخر لم يكونوا ليسكتوا على تغيير شرع الله أو إبطاله مهما يكن الشخص الذي قام بهذا التصرف ، عمر أو غير عمر . . ولنذكر جيداً أن عمر رضي الله عنه - برغم كل المهابة التي أضافها الله عليه ، وجعل من مظاهرها الجسم الطويل القوي والصوت الجهوري - قام يوما على المنبر فخطب الناس فقال : أيها الناس اسمعوا وأطيعوا ! فقال له سلمان الفارسي رضي الله عنه : لا سمع لك اليوم علينا ولا طاعة ! فقال عمر رضي الله عنه : ولمه ؟ قال : حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد الذي ائتزرت به ، وأنت رجل طوال لا يكفيك برد واحد كما نال بقية المسلمين ! فلما بين له عمر رضي الله عنه أن البرد الذي ائتزر به هو برد ابنه عبد الله ، قال سلمان : الآن مُر ! نسمع ونطع ! .
ومن ثم فلا عمر رضي الله عنه يتصور منه مخالفة شرع الله ، ولا الصحابة رضوان الله عليهم يتصور منهم االسكوت على المخالفة ولو كانت من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب .
والحق أن الذين يتلمسون المعاذير لا يسمون عمل عمر مخالفة ، إنما يسمونه " تصرفا " ليبنوا عليه قاعدة تهفو إليها أفئدتهم لتحلهم من الالتزام بشرع الله ، هي أن لولي الأمر أن يتصرف في أحكام الشريعة بما يراه ، بحسب الأحوال ! وبشئ من " البحبحة " يحلّون أولياء الأمور اليوم من الشريعة بأكملها ، بحجة مناسبة الأحوال !
* * *
فلننظر في عمل عمر رضي الله عنه : هل هو " إبطال " للشريعة أو " تصرف " فيها ؟ أم هو عين الالتزام بأحكام الشريعة مع الاجتهاد في تحديد الصورة الصحيحة لتطبيقها ؟
أوقف عمر حد السرقة عام الرمادة ، فما دلالة هذا التصرف ؟
فلنرجع إلى مقاصد الشريعة .
إن الإسلام لا يبدأ بتقرير العقوبة ولا بتطبيقها . إنما يسعى أولا لسد منافذ الجريمة حتى لا تقع ابتداء . فإذا وقعت نظر في كل حالة ليضمن أن فاعلها غير معذور ، فيقيم عليه الحد وقتئذ وقد ضمن ألا عذر له في ارتكاب الجريمة . فإذا قامت الشبهة فإنها تدرأ الحد . .
هذه هي الشريعة . وهذا هو الذي فعله عمر على وجه التحديد !
رأى أن شبهة الجوع الملجئ إلى السرقة قائمة ، فدرأ الحد بالشبهة ، ولم يقم الحد حتى يطمئن أن مرتكب السرقة غير معذور في ارتكابها . . فهل غيّر عمر شرع الله أو أبطل تنفيذه ؟ أم إنه كان منفذا دقيقا ملتزما في تطبيقه كل الالتزام ؟
أما الاجتهاد الآخر الذي قام به عمر رضي الله عنه فهو إبطال سهم المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة .
تقول الآية الكريمة : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (2) .
وقال عمر رضي الله عنه : لقد أعزّ الله الإسلام ، فلم تعد هناك حاجة لتأليف القلوب . فهل أبطل عمر رضي الله عنه شرع الله ؟ أم إنه نظر في دواعي التطبيق ، فوجد - باجتهاده - أن الداعي لتأليف القلوب لم يعد قائما بعد أن أعز الله الإسلام ، فلم يعد لهذا السهم باب للإنفاق فيه في تلك الحالة ، وهي عزة الإسلام ، ودخول الناس فيه طواعية أو خضوعا للغالب المنتصر ، وفي كلتا الحالتين لا يحتاج الأمر إلى تأليف القلوب ، فالذي دخل طواعية مؤمن صادق قد استقر الإيمان في قلبه ، والذي دخل خضوعا للغالب المنتصر قد وجد السبب الذي يدعوه للإسلام فدخل فيه استجابة لذلك السبب ، وهو كافٍ عنده للدخول فيه !
لو قال عمر : إن هناك من نحتاج إلى تأليف قلبه للإسلام ، لأن الإسلام لم يتمكن في الأرض بعد ، ولكني أرى مع ذلك ألا أنفق هذا السهم من الزكاة لتأليف القلوب . . لو قال ذلك - وحاشا لعمر المؤمن التقي أن يقوله - لوقعت عندئذ المخالفة التي لا تقبل من عمر ولا غير عمر ، لأنها تكون عندئذ تغييرا وتبديلا في شرع الله .
أما قيام حالة لا يكون النص منطبقا فيها ، فلا يطبق النص لعدم انطباقه على الحالة القائمة ، فتصرف أبعد ما يكون عن التغيير أو التبديل في شرع الله .
ونأخذ مثالاً من حالة أخرى للتوضيح .
يقول يحيى بن سعيد : بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية فاقتضيتها ، فطلبت فقراء أعطيها لهم فلم أجد ، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس . فاشتريت بها رقيقا فأعتقتهم .
فهل نقول إن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أبطل الشريعة أو عدل فيها لأنه لم ينفق سهم الفقراء من أموال الزكاة ؟ أم نقول إنه وجدت حالة لم ينطبق فيها النص فلم يطبق ؟
وكذلك تصرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، سواء في عدم تطبيق حد السرقة عام الرمادة ، أو وقف إنفاق السهم الخاص بالمؤلفة قلوبهم من أموال الزكاة .
فأين من هذا دعوة الداعين إلى إعطاء " أولياء الأمور " حق إبطال الشريعة بكاملها والاستعاضة عنها بالشرائع الجاهلية . . بحجة عدم مناسبة الأحوال ؟!
* * *
إن " ولي الأمر " في الإسلام يكون شرط توليته ، الذي يعطيه شرعية تولي الأمر ، والذي بدونه لا تكون له شرعية ، هذه الشرط هو تطبيق شريعة الله ، فكيف يكون من حقه إبطال شرط توليته ومصدر شرعيته ؟!
وولي الأمر له على رعيته حق السمع والطاعة ، ولكن في حدود طاعته هو لله ورسوله ، فإن عصى الله ورسوله - بتعطيل شئ من شرع الله - فلا طاعة له على الناس .
__________
(1) سورة غافر [ 29 ] .
(2) سورة التوبة [ 60 ] .(3/197)
يقول تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (1) .
وظاهر من البناء اللغوي للآية أن الطاعة لله مطلقة ، كذلك الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن ليست كذلك الطاعة لأولي الأمر . . ولو قال تعالى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم لوجبت طاعتهم مطلقا كطاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم . ولكن الله جل شأنه لم يقل ذلك ، وإنما عطف طاعة أولي الأمر على طاعة الله والرسول بدون تكرار الأمر " أطيعوا " ، لتظل طاعتهم مقرونة دائما بحدود ما أنزل الله . ويؤكد ذلك عَجُزُ الآية الذي يبين المرجع في حالة التنازع وهو الله والرسول فحسب .
وهكذا فهم الخليفة الأول رضي الله عنه حين قال للأمة : أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم .
فإذا كانت هذه هي حدود الأمر في الإسلام ، فكيف يتصور أحد أن يكون لولي الأمر حق مخالفة الله ورسوله والله يقول :
( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (2) .
ثم كيف يتصور أحد حين يخرج ولي الأمر عن طاعة الله ورسوله بإبطال شريعة الله ، يكون له حق السمع والطاعة على رعيته ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرر أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ؟
" لا طاعة في معصية " (3) .
" إنما الطاعة في المعروف " (4) .
* * *
كلا ! ليس لولي الأمر أن يتصرف في الشريعة بالإبطال أو التعديل أو الاستبدال ، لأن هذا الحق ليس لأحد على الإطلاق ، لا الحاكم ولا المحكوم .
ولا يوجد سبب واحد في الأرض يبرر لولي الأمر أن يفعل ذلك . لا الله أذن له ، ولا السوابق التي يتصيدونها من تصرفات عمر رضي الله عنه تؤيدهم فيما يذهبون إليه .
ومحك الإيمان ، الذي بينه الله في كتابه المنزل هو التحاكم إلى شرع الله أو الإعراض عنه :
( وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (5) .
فهؤلاء يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله ( وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ ) ثم يزيدون على ذلك فيزعمون أنهم مطيعون لله ورسوله والله يقول عنهم ( وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) فينفي عنهم ما زعموه من دعوى الإيمان ، ويبين أن السبب في نفي الإيمان عنهم أنهم إذا دعوا إلى شريعة الله أعرضوا عنها ، إلا حين يكون لهم مصلحة ذاتية في تطبيقها ! ويبين تعالى موقف المؤمنين الحقيقيين إذا دعوا إلى شريعة الله فإنهم على الفور يقولون سمعنا وأطعنا ، بصرف النظر عما يصيب ذواتهم من تطبيقها ، إنما هي الطاعة المطلقة لله ورسوله ، هي صفة المؤمنين ، وهي سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة .
* * *
والذين يتصيدون الحجج والمعاذير يقولون : كيف نقيم حد السرقة والناس جياع ؟ أليس علينا أن نسد جوعتهم أولا ؟ فلنصلح أحوالنا الاقتصادية أولا ثم نشرع بعد ذلك في تطبيق الشريعة !
وهي مجرد مراوغة لا تنطلي على أحد .
فلنطبق الشريعة الآن في هذه اللحظة ، ولا خوف من وقوع الظلم على أحد في ظل شريعة الله !
إننا حين نطبق الشريعة الآن في هذه اللحظة فلن نطبق حد السرقة على الجائع الذي يسرق ليأكل ، لأن شبهة الجوع الملجئ إلى السرقة تدرأ عنه الحد . . فلا نحتاج إذن إلى تعطيل تطبيق أحكام الشريعة حتى نصلح الأحوال الاقتصادية ، لأنه لا تطبيق الشريعة سيعطل إصلاح الأحوال الاقتصادية ( بل العكس هو الصحيح ) ولا سيقع الظلم على أحد من تطبيق الشريعة لأن الله لا يظلم أحدا كما أخبر سبحانه عن نفسه في كتابه المنزل ، وكما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي : " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعتله بينكم محرما فلا تظالموا " (6) .
ويقول آخرون : كيف نقطع يد السارق الذي سرق ليأكل ، ونترك سارق الملايين ؟! لا يجوز تطبيق الشريعة في هذه الأحوال الراهنة !!
كأنما تطبيق الشريعة سيؤدي إلى هذا أو ذاك !!
فأما السارق الذي سرق ليأكل فلن يقام عليه الحد كما بينا ، لأن شريعة الله تقضي بعدم إقامة الحد عليه . وأما سارق الملايين فأي نص في شريعة الله يحميه ؟!
وأما إذا تقاعست الأمة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وخافت سطوة ذوي السطوة ، فأصبح الحال كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم حال الهالكين : إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، فهي من جهة تحمل وزر نفسها في الدنيا وفي الآخرة ، ومن جهة أخرى فلن يوجد نظام يحميها من سطوة ذوي السطوة ، فتلجأ إليه بعيدا عن شريعة الله !
__________
(1) سورة النساء [ 59 ] .
(2) سورة الأحزاب [ 36 ] .
(3) أخرجه الشيخان .
(4) أخرجه الشيخان .
(5) سورة النور [ 47 - 51 ] .
(6) أخرجه مسلم .(3/198)
إن الذين يتلمسون الحجج والمعاذير ليتهربوا من تطبيق شريعة الله يقولون : الديمقراطية ! الديمقراطية ! أو يقولون : الاشتراكية ! الاشتراكية ! فكم من ألوف الملايين سرقت من دماء الشعوب " الإسلامية ! " تحت ظل الديمقراطية المزيفة وتحت ظل الاشتراكية ؟!
وكيف اكتنزت طبقات لا أصول لها ، وجاعت الملايين ؟ وكيف صارت أقوات الشعب وضروراته تباع في السوق السوداء ، وصارت القروض تأتي من كل مكان فلا تنفق في مواضعها ، ولا يستفيد منها الصالح العام إلا القليل بينما تتحمل الملايين من أقواتها الضرورية فوائد القروض ؟!
كلا ! إننا إذ نادينا بتعطيل الشريعة الإسلامية من أجل حماية الملايين ، فتلك حجة داحضة ، ولن يحمي حقوق الملايين شئ حماية الشريعة الإسلامية لها ، بشرط أن تقوم الأمة بتبعاتها ، فتراقب حكامها ، وتأطرهم على الحق أطرا كما وجهها رسولها الكريم صلى الله عليه وسلم . . لأن ذلك من مقتضيات لا إله إلا الله :
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) (1) .
" كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ، ولتقصرنهم على الحق قصرا ، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض " (2) .
* * *
إذا علمنا يقينا أنه ليس " لولي الأمر " أن يتصرف بإلغاء الشريعة ، أو تعطيلها ، أو تأجيلها ، وليس للأمة أن تطيعه إن فعل ذلك أو تقره عليه . . فبقى أن نعرف حدود ولي الأمر في التصرف .
إنما يجوز له - بل يجب عليه - أن يتصرف في المصالح المرسلة ، التي لم يرد فيها نص ، بما يحقق مصلحة الأمة ، بحيث لا يخالف مقاصد الشريعة ، ولا يحل حراما ولا يحرم حلالا . كما يجوز له أن يتصرف في الأمور المتغيرة ، التي تتغير بتغير الأحوال (3) ، والتي نزلت فيها الأصول العامة التي تضبط حركة الأمة خلال حركتها التاريخية ، وترك للاجتهاد استنباط الأحكام المناسبة لكل عصر ، بنفس الشروط السابقة وهي عدم الخروج على مقاصد الشريعة ، وعدم تحليل الحرام ولا تحريم الحلال . أما الأمور الثابتة ، ومن بينها الحدود ، وعلاقات الجنسين ، وعلاقات الأسرة . . الخ ، فليس لأحد أن ينقلها من الخط الثابت إلى الخط المتغير بأي عذر من المعاذير !
====================
المبحَث الثالِث -شُبْهَةُ التطوّرْ وَعَدَمُ مُلاَءَمة الشَّريعة للأَحوالِ المُستَجدّة في حَياةِ النَّاسِ
هل تصلح الشريعة التي نزلت قبل أربعة عشر قرناً أن تحكم الواقع المعاصر ، وقد جدّ في حياة الناس بعد الثورة الصناعية وتقدم العلم وتشابك العلاقات البشرية وتعقدها ما لم يكن قائما وقت نزول هذه الشريعة ؟
وإذا كان تطبيق الشريعة قد ظل ممكناً طيلة القرون العشرة التي تلت نزولها بسبب بطء التغيرات التي جدت في حياة الناس ، وانحصارها في أمور ليست بعيدة الشبه بالأحوال التي نزلت فيها الشريعة ، فهل تظل على الدرجة ذاتها من إمكان التطبيق بعد أن كادت تندثر الأحوال الأولى ، وجدت بعدها أحوال تكاد تكون مبثوثة الصلة بما كان من قبل ؟!
كذلك يفكر بعض الناس . . ولعل هذه هي أهم القضايا التي تثور في ذهن " المثقف " الغربي تجاه تطبيق الشريعة ، وخاصة إذا كان من المغرقين في الأخذ بالتفسير المادي للتاريخ ، الذي يتبناه التفكير الماركسي ، وإن الغرب " الليبرالي " يشارك فيه بقدر ليس بالقليل (4) .
ونريد هنا أن نناقش الأمر من طرفيه معاً : قضية " التطور " الذي يغير الحياة على الدوام ، وقضية ثبات الشريعة كما نزلت قبل أربعة عشر قرناً من الزمان .
هذا التطور ، ما حقيقته ؟ هل هو شامل لكل كيان الإنسان وكل أمور حياته ؟ أم إن في النفس الإنسانية وفي واقع الحياة البشرية أموراً ثابتة وأخرى متغيرة ؟ وما الثابت وما المتغير على وجه التحديد ؟ وهل العبرة في النهاية بالأمور الثابتة أم بالأمور المتغيرة ؟ أم بهما معاً ؟ وعلى أي نحو يتم التوفيق بين الثابت والمتغير ؟
وهذه الشريعة ، كيف تتعامل مع الثابت والمتغير في حياة الناس ؟ وهل هي حقاً " جامدة " بحيث لا تتسع لما يجدّ في حياة الناس ، أم إن فيها من المرونة ما يجعلها تستوعب الجديد ؟ وما الضوابط التي تحكم عملية التوفيق بين الثابت والمتغير في أمور الحياة ؟
* * *
__________
(1) سورة آل عمران [ 110 ] .
(2) رواه أبو داود .
(3) راجع المبحث الثالث .
(4) في الحقيقة لا يوجد فارق جذري بين التفكير " الليبرالي " الذي يتبناه الغرب الرأ سمالي ، والتفكير الجدلي المادي الذي يتبناه العالم الشيوعي تجاه قضية التطور بالذات ، إنما هو فارق في الدرجة لا في النوع.(3/199)
يوجد في الغرب منذ بدايات هذا القرن (1) ما يمكن أن نطلق عليه " لوثة التطور " . فقد أحدثت نظرية التطور التي نادى بها دارون (2) هزة عنيفة في الحياة الأوربية في جميع مجالاتها ، ولم يقتصر الأثر على مجال علم الحياة بالذات ، الذي كان دارون يحصر بحثه في نطاقه . ذلك أن النظرية (3) - وإن حصرت مجال بحثها في نطاق علم الحياة - قد تعدت هذا النطاق بإيحاءاتها الخطيرة التي شملت مجالاً واسعاً من الفكر والاعتقاد ، كما أن هناك من استغل هذه الإيحاءات استغلالاً مقصوداً لتدمير بعض المفاهيم السائدة ، وإحلال مفاهيم أخرى بدلاً منها ، تخدم أغراض فريق معين من الناس ، وبذلك امتدت إيحاءات النظرية وتأثيراتها إلى مجال العقيدة ، وكذلك مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق والفن والفكر . . وكلها من مجالات التشريع .
كان مما قررته تلك النظرية - أو بالأحرى ذلك الفرض العلمي - أن " الخلق " يتم بطريقة ذاتية ، ولا دخل فيه للإرادة الإلهية (4) . وأن الطبيعة هي الخالق (5) ، وأن الطبيعة لا قصد لها من الخلق ولا غاية (6) . وأن التطور يرجع إلى ضغط الظروف المادية المحيطة بالكائن الحيّ ولا دخل للكائن الحيّ فيه ولا إرادة له تجاهه (7) .
وتلك كلها - كما ترى - أمور أوسع من دائرة علم الحياة ، وإن كان دارون نفسه لم يستخدمها إلا في نطاق ذلك العلم . فإن افتراض الخلق الذاتي (8) ، وافتراض أن الطبيعة لها القدرة على الخلق ، وأنها تخبط خبط عشواء بلا حكمة ولا تدبير ولا قصد ، هذه كلها أمور تمس العقيدة ، وتعارضها معارضة أساسية ، وفضلاً عن ذلك فإنها لا بد أن تؤثر في وجدان الإنسان الذي يؤمن بها ، فتغير مفاهيمه وقيم حياته ، كما تغير أحواله السلوكية . فثمت فرق واضح بين إنسان يؤمن بأن الله هو الذي خلقه ، وخلقه لهدف معين ، ورسم له منهجاً معيناً يعينه على تحقيق ذلك الهدف ، وسيسأله في النهاية عن مدى تحقيقه لما أمره به ، وإنسان يؤمن بأن الطبيعة هي التي خلقته ، وخلقته صدفة بلا قصد ، ولم ترسم له منهج حياة معين ، ولا هي ستسأله عن تحقيق شيء بعينه !!
( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (9) .
( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) (10) .
( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (11) .
كما أن افتراض أن التطور - على فرض ثبوته ثبوتاً قاطعاً (12) - يتم فقط بضغط الظروف المادية المحيطة بالكائن الحيّ ، وليس لله دخل فيه ، كما أن الكائن الحيّ - بما في ذلك الإنسان - ليس له دخل فيه ، ولا إرادة له تجاهه ، يحدث تصوراً معيناً عند من يؤمن به ، يجعل الإله في حسه هو " المادة " ، ويجعل الإنسان عبدا لها ، محكوماً بقوانينها ، لا يملك الفكاك من أسرها ، ويجعل القيم المعنوية لا وزن لها في حياته ، لأنها - إن آمن بها - لا تزيد في حسه على أن تكون انعكاساً للأوضاع المادية ، ونتاجاً لها ، مباشراً أو غير مباشر .
وذلك - في الحقيقة - هو عين الأثر الذي تركته الداروينية في الفكر الغربي ، على وعي من الناس أو غير وعي !
__________
(1) القرن العشرين الميلادي .
(2) هو العالم البريطاني تشارلس دارون الذي كان متخصصاً في علم الحياة ، ونادى بنظرية التطور Evolution التي قال فيها إن الكائنات الحية ظلت تتطور من الكائن الوحيد الخلية - أول الكائنات الحية على ظهر الأرض - إلى الإنسان مروراً بحلقات متعددة منها اللافقاريات فالأسماك ، فالبرمائيات ، فالطيور ، فالثدييات الدنيا ، فالثدييات العليا ، فالقردة ، فالقردة العليا فالإنسان ( على افتراض وجود حلقة مفقودة هي الإنسان القرد ) .
(3) هي في الحقيقة فرض علمي لم يرتق إلى مرتبة النظرية كما سيجيء .
(4) يقول دارون : " إن تفسير النشوء والارتقاء ( التطور ) بتدخل الإرادة الإلهية يكون بمثابة إدخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت :
This would be to introduce a supernatural element in a completely mechanical position .
(5) يقول دارون : " إن الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق
" Nature creates everything and there is no limit to its creativity " .
(6) يقول : " إن الطبيعة تخبط خبط عشواء Nature works haphazardly " .
(7) انظر في ذلك كله كتابه " التطور Evolution " وكتابه " أصل الأنواع Origin of Species " في أماكن متعددة منهما .
(8) يلاحظ أن دارون أطلق الفرض - غير العلمي - ولم يُقِمْ أي دليل عليه ، وكذلك القول بالطبيعة الخالقة ، والطبيعة التي تخبط خبط عشواء .. وهذه الفروض كلها جزء أساسي من " النظرية " ! ومع ذلك فقد انتشرت في المجال العلمي كأنها حقائق ثابتة ! ويلاحظ من الجانب الآخر أن هناك نظريات علمية جديدة ترفض الفرض الدارويني من أساسه .
(9) سورة ص [ 27 - 28 ] .
(10) سورة المؤمنون [ 115 ] .
(11) سورة الزمر [ 9 ] .
(12) ليس كل العلماء يسلمون بالتطور ، وليس كل الذين يسلمون به يوافقون على أنه تم على ذات النسق الذي افترضه دارون .(3/200)
على أن الأمر في الواقع لم يتم من جراء التأثير للفكر الدارويني ، وهو في ذاته كاف عند من يؤمن به لأن يحدث في نفسه تغييراً شاملاً ، وإنما كان اليهود - المتربصون أبداً للإفساد (1) - كأنهم في انتظار هذه القذيفة المدمرة ، فسعوا بها في كل مجال ، ينشئون على أساسها نظريات " علمية " في الاقتصاد وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها من المجالات ، كلها مُعادٍ للفكر الديني والقيم الدينية (2) ، كما ينشئون - بفضل سيطرتهم على الثورة الصناعية (3) - مجتمعاً بلا دين ولا أخلاق ولا تقاليد ، تنفيذاً لمخططهم في استعباد البشر - بعد إفسادهم - ليكونوا خدماً لشعب الله المختار (4) .
ولقد تمت لليهود السيطرة - بقدر من الله - استثناءً من حالتهم الدائمة التي توعدهم الله بها :
( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ) (5) .
وهذا الاستثناء ذاته وارد في كتاب الله لحكمه يريدها الله : ( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ) (6) .
ولعله عقاب للبشرية على كفرها ، وتبجحها بالكفر :
( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) (7) .
وعقاب للأمة المسلمة بالذات من أجل تفريطها في رسالتها لنفسها ورسالتها للبشرية :
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (8) .
وليس هنا على أي حال مجال الحديث عن دور اليهود في نشر الداروينية وجعلها منبعاً لإفساد العقائد والأفكار والسلوك ، إنما نريد فقط أن نركز الحديث عن فكرة التطور وتأثيرها في إثارة شبهة عدم إمكان تطبيق الشريعة الإسلامية عند المنخدعين بالغزو الفكري من المسلمين (9) .
كان من بين الأسباب التي أدت إلى الهزة العنيفة التي أحدثتها فكرة التطور في الحياة الأوربية أن الفكر الكنسي السائد في أوربا في العصور الوسطى (10) كان يتصور الثبات المطلق في كل شيء ، وينادي بالثبات الدائم في كل شيء ، فجاءت فكرة التطور مصادمة تماماً لذلك الفكر ، بحيث بدا ألاّ سبيل للقاء بينهما ، وأنه لا مناص من أن يترك أحدهما مكانه للآخر بكامله ، فإما الثبات الكامل في كل شيء ، وإما التطور الكامل في كل شيء ، ولا طريق ثالث ! ولما كان النفوذ الكنسي - الذي يتبنى فكرة الثبات - كان قد أخذ ينهار رويداً رويداً منذ القرن السادس عشر الميلادي ، منذ قامت " النهضة " على أسس معادية للدين أو معارضة له ، وكان النفوذ العلمي والعلماني - الذي تبنى فكرة التطور - قد أخذ يتزايد في الحياة الأوربية باستمرار ، فقد كان الظاهر من مجرى الحوادث أن فكرة الثبات المطلق في كل شيء هي التي عليها أن تغادر الساحة - مهزومة - لتخلي مكانها لفكرة التطور المطلق في كل شيء ، سواء كان مما يقبل التطور فعلاً أو كان غير قابل للتغيير !
ولا شك أن الفكر الكنسي لم يكن خاطئاً كله ، وإن لم يكن على صواب في كثير من الأمور .
__________
(1) يصفهم الله تعالى بقوله : ( وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) [ سورة المائدة: 64 ] فيجعل السعي للإفساد صفة دائمة فيهم ، وديدنا لهم .
(2) كنظرية ماركس في الاقتصاد ، ونظرية فرويد في علم النفس ، ونظرية دور كايم في علم الاجتماع ، ومذهب " العبثية " عند سارتر وغير أولئك من اليهود كثير .
(3) سيطر اليهود على الثورة الصناعية منذ نشأتها عن طريق الإقراض بالربا، مما مكنهم من جمع الثروات الطائلة ، وجمع الذهب والتحكم به في عملات الدول ، كما مكنهم من السيطرة على وسائل الإعلام العالمية ، فاستطاعوا عن طريق ذلك كله التحكم في سياسة المعسكرين معاً : الشرقي والغربي ، والتحكم في الاقتصاد العالمي ، والتحكم في أفكار الناس وسلوكهم وأخلاقهم ، وبث المذاهب الفكرية الهدامة ، وبث ألوان من " الجنون " مختلفة ، كجنون الجنس ، وجنون الكرة ، وجنون " المودة " ، وجنون الزينة ، وجنون السينما والإذاعة والتلفزيون والفيديو . . الخ .
(4) يقول التلمود - وله عند اليهود قداسة تفوق قداسة التوراة - : إن الأممين هم الحمير الذي خلقهم الله ليركبهم شعب الله المختار . وقد تعلم اليهود أن السبيل الوحيد لاستحمار الإنسان هو إفساد عقيدته وأخلاقه فيصبح البشر ( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) كما وصفهم الله في كتابه العزيز [ سورة المدثر : 50 - 51 ] ومن ثم يسهل على الشيطان وأوليائه أن يوجهوهم حيث شاءوا .
(5) سورة الأعراف [ 167 ] .
(6) سورة آل عمران [ 112 ] .
(7) سورة الأنعام [ 65 ] .
(8) سورة البقرة [ 143 ] .
(9) انظر - إن شئت - في بيان دور اليهود في إفساد أوربا ، ومسؤولية الأمة المسلمة في ذلك الشان ، ومحدودية المدى الذي تستمر فيه الفترة الاستثنائية لسيطرة اليهود : " مذاهب فكرية معاصرة " ، فصل " دور اليهود في إفساد أوربا " .
(10) تسمي أوربا عصورها الوسطى " العصور الوسطى المظلمة " وهي على حق كامل في هذا الوصف ، ولكنها كانت مظلمة في أوربا وحدها ، بينما كانت الفترة ذاتها من أزهى عصور العلم والعرفان واليقين في العالم الإسلامي . وتنسب أوربا ظلام عصورها الوسطى إلى " الدين " وهي صادقة في هذا بالنسبة لدينها المحرف لا بالنسبة للدين في ذاته كما يرى المخدوعون بالغزو الفكري ، فقد كان " الدين " هو مصدر النور بالنسبة للمسلمين في ذات الفترة .(3/201)
فاعتقاد الثبات في قضية الألوهية اعتقاد حق - بصرف النظر عن انحراف الكنيسة في قضية التثليث ، وقضية تأليه عيسى ، وادعاء بنوته لله - فالله سبحانه وتعالى دائم ، حيّ قيوم ، أزلي أبدي لا تتغير ذاته ولا تتغير أسماؤه ولا صفاته . واعتقاد الثبات في قضية الخلق اعتقاد حق ، بمعنى أن الله هو الخالق ، وأن كل شيء من خلقه ، وأنه هو المهيمن على الخلق ، المدبر لملكوت كل شيء . كذلك الاعتقاد بثبات وضع الإنسان في الأرض ، بمعنى أن الله هو الذي خلقه ، وأهبطه إلى الأرض ليقضي فيها أجلاً مسمى ومهمة معينة ، ثم يموت ليبعث ويحاسب على ما قام به من عمل في الحياة الدنيا ثم يخلد في الملكوت ( أي الجنة ) أو يخلد في العذاب .
أما اعتقاد الثبات في الأجرام السماوية ، وفي الموجودات على الأرض ، وفي النظم والأشكال والأنماط ، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية . . فلم يكن تصور الكنيسة فيه صابئاً ولا واعياً ، وكان أكثره يصدر عن جهل مطبق بالسنن الربانية ذاتها ، فضلاً عن العلوم الكونية التي كان نصيب أوربا منها في العصور الوسطى أضأل نصيب .
وأياً كان الأمر فقد ظل هذا الفكر سائداً - بخطئه وصوابه - طيلة العصور الوسطى حتى بدأت النهضة الأوربية بتأثير احتكاك أوربا بالمسلمين ، سواء الاحتكاك السلمي بانتقال علوم المسلمين وثقافتهم وحضارتهم من الأندلس إلى أوربا عن طريق ابتعاث أبناءها إلى هناك لطلب العلم ، ثم قيامهم بترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية والإغريقية ، أو الاحتكاك الحربي في الحروب الصليبية التي قادتها أوربا ضد المسلمين في الشرق .
وقد حدث - نتيجة ظروف كثيرة متشابكة لا مجال لتفصيلها هنا (1) - أن أخذت أوربا علوم المسلمين وحضارتهم دون أن تأخذ الإسلام ، الذي انبثقت منه في حياة المسلمين تلك العلوم وتلك الحضارة ؛ فنشأت عندها حضارة معادية للدين ، أو في القليل مبتعدة عنه ، ترفض أن ترجع في شئ من أمور الحياة إلى الوحي الرباني ، وتفضل أن ترجع إلى فكر " الإنسان " وإلى المعرفة البشرية (2) .
وحين قام دارون ينادي بنظرية التطور لم يكن الفكر الأوربي قد تهيأ بعد لقبولها بكل تفصيلاتها وكل إيحاءاتها ، خاصة وهي تنزع عن " الإنسان " كرامته الإنسانية ، وترده إلى أصل حيواني بحت ، وتنزع عنه تفرده الذي يعتز به ، وترده مجرد واحد من الكائنات التي وجدت على الأرض صدفة ؛ وهو متطور نعم ! ولكنه مع ذلك حيوان ! أو كما سماه أحد الداروينيين " القرد الأملس " " The Hairless Ape " أي الذي لا يكسو جسده الشعر !
ولكن أوربا مع ذلك تقبلت الداروينية على تردد في مبدأ الأمر، ثم خف التردد تدريجياً، حتى انقلب في نهاية الأمر إلى حماسة جياشة لا تبقي مجالاً لثبات أي شيء على الإطلاق . . لا الدين ولا الأخلاق ولا التقاليد ولا القيم ولا الأفكار ؛ كما كانت قد أقتنعت من قبل أنه لا ثبات لشيء في الكون المادي . . لا الأجرام السماوية ولا الأفلاك ، ولا الكائنات الأرضية من نبات أو حيوان . . أو إنسان !!
وكان وراء ذلك التحول الذي تم خلال عقود قليلة من الزمن عدة أمور . . .
فالثورة الفرنسية كانت قد هزت أوضاعاً ثبتت من قبل في أوربا وغيرها من بلاد العالم عدة ألوف من السنين .
والثورة الصناعية كانت قد هزت أوضاعاً أخرى ، ثبتت هي الأخرى من قبل عدة ألوف من السنين ، منذ تعلم الناس الزراعة وعاشوا عليها ، فإذا الزراعة تصبح شيئاً هامشياً في حياة الناس ، ويتجه الاهتمام إلى الإنتاج الصناعي المتزايد ، وإذا المرأة التي ظلت دهوراً طويلة من حياة البشرية قابعة في بيتها ، عاكفة على شئون زوجها وأبنائها ، تخرج إلى العمل في المصانع ، وتنتج من جراء ذلك " قضية " تشغل البشرية قرناً كاملاً من الزمان (3) .
ووراء ذلك كله كان اليهود المتربصون للإفساد ، ينتهزون الفرصة السانحة ، فيعيثون فساداً في الأرض ، مستغلين الداروينية وإيحاءاتها في تدمير كل القيم الثابتة في حياة الإنسان ! ومستغلين النفور من الكنيسة وطغيانها لتدمير كل ما يتعلق بالدين ! (4)
* * *
__________
(1) انظر : " مذاهب فكرية معاصرة " فصل " العلمانية " وكذلك : " العلمانية " لسفر عبد الرحمن الحوالي .
(2) هذا هو منشأ " العلوم الإنسانية " في أوربا ، أي العلوم التي يرجع فيها إلى العلم البشري لا إلى الوحي الرباني ! وهكذا ولدت تلك العلوم معادية للدين من أول لحظة ! .
(3) راجع إن شئت في نشاة " قضية المرأة " في أوربا ، وما أحدثته من آثار في المجتمع الأوربي " دور اليهود في إفساد أوربا " من كتاب " مذاهب فكرية معاصرة " .
(4) راجع كذلك " مذاهب فكرية معاصرة " التمهيد الأول : " دور الكنيسة " والتمهيد الثاني : " دور اليهود في إفساد اوربا " .(3/202)
ونحن هنا لا ندخل هنا في مناقشة علمية مع الداروينية ، فذلك متروك لأهل الاختصاص (1) ، وإن كنا نحيل القارئ إلى عالم دارويني من علماء ما يسمى " الداروينية الحديثة Neo Darwinism " هو " جوليان هكسلي " الذي قال في كتابه " الإنسان في العالم الحديثً Man in the Modern World " إن الإنسان متفرد في كيانه كله ، حتى الكيان " البيولوجي " ذاته ، فضلاً عن تفرده في كيانه العقلي وكيانه النفسي الذي لا مثيل له في سائر الكائنات (2) .
ولكننا - مع عدم دخولنا في نقاش علمي مع نظرية دارون - نقول إن العلم اليوم قد تقدم كثيراً عنه في أيام دارون ، واكتشف العلماء - خاصة بعد تفجير الذرة ، ثم تفجير نواتها - أن هناك سننا ثابتة في هذا الكون رغم التغير الدائم في صوره وأشكاله ، وهذا ما لم يكن واضحاً تمام الوضوح عند دارون ، فصحيح أنه اكتشف سنة التطور ، ولكنه لم يكتشف السنن الثابتة التي يتم في نطاقها التطور ، بل قال - عن جهالة - إن " الطبيعة " تخبط خبط عشواء !
لقد اكتشف العلماء أن هناك نسقاً ثابتاً في بناء الكون كله ، هو المتمثل في تركيب الذرة من نواة موجبة وكهارب سالبة تدور حولها بسرعة معينة . وأن الفرق بين عنصر وعنصر ليس فرقاً في هذا النسق الثابت ، إنما هو في عدد الوحدات التي تتكون منها ذرة كل عنصر ؛ وأن هناك تحولات كثيرة تمت في الكون خلال ملايين السنين ، ولكنها لم تغير هذا النسق الثابت ، ولم تغير كذلك الطريقة التي يتم بها التحول من حالة إلى حالة ومن صورة من صور المادة إلى صورة مغايرة . . وان وراء ذلك كله قوة مدبرة تحكم النسق الثابت وتحكم طريقة التغيير (3) !
كما اكتشف علماء الحياة من أسرار الخلية الحية ما أقنعهم كذلك بثبات السنن التي تحكم عمليات التحول في بناء الخلية ، وأن التحول لا يتم خبط عشواء ! (4)
تلك إذن هي الصورة الصحيحة التي اهتدى إليها العلم ، سنن ثابتة وصور متغيرة ، أو قل : صور متغيرة تدور حول محاور ثابتة .
ولو اهتدى دارون إلى تلك الحقيقة لحسم القضية ، ولما ترك لليهود الفرصة يعيثون بالداروينية فساداً في الأرض (5) !
ولكن الذي حدث بالفعل أن الفكر الدارويني ظل ينمو ويتسع نطاقه حتى غشّى مجالات البحث كلها ، بما فيها دراسة التاريخ ، وعلم الاجتماع ، وقيل في التفسير الجدلي للتاريخ (6) ، كما قيل في علم الاجتماع : إنه لا ثبات لشيء على الإطلاق في حياة الإنسان ، وقال دور كايم (7) : " كان المظنون أن الدين والزواج والأسرة هي أشياء من الفطرة (8) ، ولكن دراسة التاريخ تطلعنا على أن هذا الأمر ليس حقيقة ! " (9) وقيل من بين ما قيل : إن البشرية قد مرت في ثلاثة أطوار : طور السحر ثم طور الدين ، ثم طور العلم ! وإنه كما أخلى السحر مكانه للدين ، فقد أخلى الدين مكانه للعلم !
* * *
ونترك أوربا ، وما حدث فيها من اختلالات فكرية ، ابتداء من الدين الكنسي المحرف إلى التمرد على الدين واتخاذ " العلمانية " منهجا للتفكير ومنهجا للحياة ، وتفشي لوثة التطور ولوثة الإلحاد ، والنظر إلى كل " ثابت " على أنه رجعية وتأخر ، وإلى كل " متطور " على أنه تقدم ورفعة ورقى . .
نترك هذا كله وننتقل إلى العالم الإسلامي .
إن الفكر الإسلامي ، المهتدي بكتاب الله ، المستنير بنور النبوة ، لم يتعرض لتلك الاختلالات التي تعرض لها الفكر الأوربي . وفي قضيتنا بالذات ، التي نتناولها هنا بالبحث ، لم يعتقد المفكرون المسلمون أن كل شيء على الإطلاق ثابت ، ولا أن كل شيء على الإطلاق متغير . إنما اعتقدوا دائما أن هناك ثوابت وهناك متغيرات ، وخاصة في حياة الإنسان .
وما قضية الاجتهاد في الشريعة إلا تجسيد واقعي لهذا الاعتقاد .
فأمور الحياة على الدوام تتغير ، ويجتهد العلماء فيما لم يرد فيه نص ، ولكن اجتهادهم مقيد دائما بضوابط ثابتة ، وهي ما يطلقون عليه " مقاصد الشريعة " .
وقبل أن نتعرض لقضية الشريعة ، وقضية الاجتهاد ، نسأل : ما الثابت وما المتغير في الكيان الإنساني وفي الحياة البشرية ؟
__________
(1) سبق أن اشرنا إلى أن الفروض الدارونية ليست مسلمة عند العلماء ، وأن هناك علماء يرفضونها تماما ، وآخرون يرونها على صورة اخرى غير ما تصورها دارون ، انظر على سبيل المثال : " موريس بوكاي ، أصل الإنسان " ترجمة مكتب التربية الخليجي .
(2) راجع : جوليان هكسلي ، الإنسان في العالم الحديث ، ترجمة حسن خطاب ومراجعة الكتور عبد الحليم منتصر ، فصل " تفرد الإنسان " إصدار مشروع الألف كتاب ، وزارة التعليم العالي ، القاهرة ، 1956 .
(3) انظر العالم الأمريكي هوكنج Hoking في كتاب A Brief History of Time ، طبع الولايات المتحدة ، الناشر بانتام Bantam أبريل 1988 .
(4) انظر موريس بوكاي ، أصل الإنسان ( سبقت الإشارة إليه ) .
(5) جاء في البروتوكول الرابع من " بروتوكولات حكماء صهيون " : نحن رتبنا نجاح دارون ونيتشة ، وإن أثر فكرهما في عقائد الأمميين واضح لنا بكل تأكيد " .
(6) المعروف باسم " التفسير المادي للتاريخ " .
(7) إميل دور كليم : عالم اجتماع يهودي -1858 / 1917 م - ومن اكبر المؤثرين في الدراسات المعاصرة في علم الاجتماع ، وينقل عنه - مع الأسف - " علماء " الاجتماع عندنا بلا تحفظ .
(8) أي أ شياء لها صفة الثبات .
(9) انظر دور كايم ، مقدمة في علم الاجتماع ، ترجمة الدكتور محمود قاسم ، إصدار إدارة الترجمة بوزارة التعليم العالي ، القاهرة ط 2 ، ص 173 . وجاء في هذا الكتاب أيضاً ( ص 59 : 60 ) إن النظر إلى القيم الأخلاقية على أنها قيم ثابتة هو نظرة غير علمية على الإطلاق .(3/203)
هل صحيح أن الإنسان ليس له كيان ثابت ولا فطرة ، إنما هو مجرد انعكاس للحياة المادية المحيطة به ، وأنه من ثم قد تغير تغيرا جذريا منذ عاش على الأرض إلى اليوم ، وأن كل طور مادي مرّ به قد شكل جوهره على صورة مختلفة تماما عما كان عليه في الطور السابق ، وأن إنسان " العصر الصناعي " هو في النهاية كائن مختلف تمام الاختلاف عن الإنسان الزراعي ، فضلا عن الإنسان الرعوي ، فضلا عن سكان الكهوف ؟
يقول " رنيه دوبو " في كتاب " إنسانية الإنسان " :
عاش رجل كرو ماغنون Cro-Magnon في أكثر أنحاء أوربا قبل حوالي ثلاثين ألف سنة ، قبل قيام الزراعة وحياة القرية بفترة طويلة . ومع أنه كان صيادا بصورة رئيسية كان - على ما يظهر - مشابها لنا جسما وعقلا ، فأدواته وأسلحته تناسب حجم أيدينا الآن ، وفنه في كهوفه يثير مشاعرنا ، والعناية التي كان يوليها لدفن موتاه تكشف أنه شاركنا بشكل ما بالاهتمام بنهاية الإنسان وآخرته ، وكل أثر مدون من آثار إنسان ما قبل التاريخ يوفر شواهد أخرى للفكرة القائلة أن الخواص الأساسية للجنس البشري لم تتغير منذ العصر الحجري " (1) .
ولننظر نحن ماذا تغير في حياة الإنسان . .
كان الإنسان يعيش في الكهوف ، فبنى الأكواخ ، ثم بنى المنازل والقصور . . وقد يبني غدا مساكن في الكواكب الأخرى أو في مركبات الفضاء !
وكان الإنسان يكتسي بأوراق الشجر والريش ، فصنع الملابس من النسيج اليدوي ، ثم صنعها من النسيج الآلي ، وتفنن في صنعها فجعل منها " مودات " ، وجعل لها تقاليد . .
وكان يأكل الطعام نيئا قبل أن يكتشف النار ، فصار يطهوه ، ثم تفنن في صنعه ، واتخذ له أدوات ، وجعل له تقاليد . .
وكانت الحياة تعتمد على الصيد ، ثم استأنس الإنسان حيوان الرعي فصارت الحياة رعوية ، ثم صارت زراعية بعد اكتشاف الزراعة ، ثم صناعية بعد اختراع الآلة ، وقد تكون غدا على نحو جديد غير كل ما تقدم .
وكان الإنسان يسير على قدميه إذا أراد الانتقال من مكان إلى مكان ، أو يضم بعض الأخشاب بعضها إلى بعض فيعبر عليها الماء ، ثم استخدم دواب الحمل والسفن الشراعية ، ثم اخترع السيارة والباخرة ، ثم ركب الطائرة والصاروخ .
وكان الإنسان فردا في أسرة ، فصار فردا في قبيلة ، فصار فردا في مجتمع يتألف من عدة قبائل ، فصار فردا في أمة ، فصار فردا في مجتمع دولي متباعد الأطراف منعزل بعضه عن بعض ، فصار فردا في مجتمع يوصف بأنه " مجتمع إنساني ! " (2) تقاربت أطرافه بفعل تقدم وسائل الاتصال فأصبح شبيها بالقرية الواحدة !
نعم . . تغيرت كل " صور " حياته . . فما الذي تغير في كيانه من الداخل ؟
هل تغير حبه للبقاء ؟ وحبه للامتداد عن طريق النسل ؟ وحبه للبناء والتعمير والإنشاء والتغيير ؟ وحبه لتصنيع الخامات وتحسين الأدوات وتجميل الحياة ؟ وحبه للبروز وإثبات الذات ؟ وحبه للتملك (3) ؟ وحبه لذاته وحبه في الوقت نفسه للاجتماع مع الآخرين ؟
هل تغيرت أطماعه ؟ هل تغيرت أمانيه ؟
باختصار : هل تغيرت " نوازعه الفطرية " ؟
وهل تغير قبل ذلك كله ، ومع ذلك كله ، أن الإنسان - في جميع أحواله وأطواره وعصوره - أحد اثنين بينهما فارق " جوهري " في التصور وفي السلوك : إما كافر وإما مؤمن . إما متبع لمنهج الله وإما متبع لمنهج الشيطان .
( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ) (4) .
( إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) (5) .
هل تغير شئ حقيقي في أعماق الإنسان من الداخل حين تغيرت صور حياته على مدار التاريخ ؟
إن الفارق الجوهري في الحقيقة ليس بين الإنسان الرعوي ، والإنسان الزراعي ، والإنسان الصناعي ، والإنسان الذري ! إنما هو بين الرعوي المؤمن والرعوى الكافر ، والزرعي المؤمن والزرعي الكافر ، والصناعي المؤمن والصناعي الكافر ، والذري المؤمن والذري الكافر ! أما الفوارق الجزئية - أو الظاهرية - بين الرعوي والزراعي والصناعي ، فهي كما قلنا فوارق في الصورة وليست في داخل الكيان .
* * *
هل معنى ذلك ألا نأبه إطلاقا لتغير الصورة ما دام الجوهر لم يتغير ؟
لا أحد يقول ذلك ! فإن القول بذلك معناه إلغاء " التاريخ " . معناه إلغاء كل الجهد الذي بذله الإنسان في عمارة الأرض . معناه إلغاء دور " الخلافة " التي خلق من أجلها الإنسان ، والتي تشمل - فيما تشمل - عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني :
( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (6) .
( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) (7) .
__________
(1) " رينيه دوبو ، إنسانية الإنسان ، ترجمة د. نبيل صبحي الطويل ، مؤسسة الرسالة بيروت ط 1، 1979 ص71 .
(2) هذا المجتمع الذي يسمى " المجتمع الإنساني ! " هو الذي حدثت فيه أبشع أشكال القتل الجماعي ، وأبشع ألوان العدوان ، والذي يعيش بعضه في الترف المهلك وبعضه الآخر في الفقر المهلك . بعضه يلقي الأقوات في البحار والأنهار أو يحرقها لكي لا تنخفض أ سعارها في السوق العالمية ، وبعضه لا يجد لقمة الخبز التي تحفظه من الهلاك !
(3) كانت للشيوعية دعوى عريضة في أن حب التملك ليس نزعة فطرية ، إنما هو نزعة شريرة اكتسبها الإنسان في أثناء تطوره المادي بعد اكتشاف الزراعة واستمرت معه في عهود الرق والإقطاع والرأسمالية ، حتى جاءت الشيوعية فردته عنها وشفته من آثارها ! وقد تهاوت الشيوعية أخيراً وتهاوت معها دعاواها !
(4) سورة التغابن [ 2 ] .
(5) سورة المعارج [ 19 - 22 ] .
(6) سورة البقرة [ 30 ] .
(7) سورة هود [ 61 ] .(3/204)
( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ) (1) .
( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) (2) .
ومن خلال حركة الإنسان في الأرض ، واحتكاكه بالكون المادي ، ومحاولة تسخير طاقاته . . تتغير الحياة جيلا بعد جيل ، وعصرا بعد عصر . فإن ألغينا من اعتبارنا هذا التغير في الصورة ، فإننا نلغي معه هدفا رئيسيا من أهداف الوجود البشري ، وتختل بين أيدينا المعايير . وكيف نصنع إذن في هذه القضية ، التي لا نستطيع فيها إهمال الثوابت ولا إهمال المتغيرات ؟
لقد كان خطأ الفكر الكنسي هو التركيز على الثابت وحده ، وإهمال المتغيرات وعدم إعطائها أي اعتبار .
وكان خطأ الفكر " التطوري " المنبثق عن الداروينية بصفة خاصة ، هو التركيز على المتغير وحده ، وإهمال القيم الثابتة وعدم إعطائها أي اعتبار . والصواب ألا نهمل هذه ولا تلك ، لأن كلا منهما له آثاره الواضحة في حياة الإنسان .
ولكن السؤال الذي يحدد القضية - وهو مفتاحها كذلك - هو : من الذي يحكم الآخر ؟ المتغير يحكم الثابت ؟ أم الثابت يحكم المتغير ؟! الجوهر يحكم الصورة ، أم الصورة تحكم الجوهر ؟
إن قلنا إن المتغير يحكم الثابت - كم يقول أصحاب الفكر التطوري - فقد ضاع منا المحور الذي تدور حوله الصورة . . ومن ثم تفقد الصورة معيارها الذي يضبط حركتها ، ثم تفقد معناها في نهاية المطاف !
أما إذا قلنا إن الثابت يحكم المتغير فلن يضيع منا شيء ، لا الثابت ولا المتغير ! إنما فقط تنضبط حركة التغير ، فلا تخرج عن مسارها الصحيح .
وهذا هو الحق الذي خلقت به السموات والأرض . . وخلق به الإنسان :
( وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (3) .
وهذا هو الذي نزلت به الشريعة الإسلامية لتحكم الحياة البشرية إلى آخر الزمان !
* * *
ليس المجال هنا أن نتكلم عن مزايا الشريعة الإسلامية في عمومها ، وعن شمولها للحياة من جميع أطرافها في توازن وتكامل واتساق . فلهذا مجال آخر . إنما نحن معنيون هنا بنقطة واحدة معينة هي قضية " التطور " في صور الحياة " وثبات " الشريعة . وقضية : كيف يتأتى للشريعة التي نزلت قبل أربعة عشر قرنا أن تواكب ما جدّ في حياة الناس من تغيرات .
ولا يفوتنا قبل أن نناقش القضية أن نعرض لأحد الجوانب العقدية في القضية كثيرا ما يغفله الناس في البحث وهو يستحق التنويه .
إن الذين يتساءلون هذا التساؤل هم في الحقيقة - بوعي منهم أو بغير وعي - ينكرون صفة من صفات الله على الأقل - إن لم يكونوا منكرين لأكثر من صفة في واقع الأمر - تلك هي صفة العلم . فكأنهم يتصورون أن الله لم يكن يعلم حين أنزل هذه الشريعة أن اموراً ستجدّ في حياة الناس تختلف عن الأوضاع التي كانوا عليها يوم نزلت هذه الشريعة ! كما أنهم ينفون في الواقع صفة الحكمة ، إذ يتصورون أن الله أنزل شريعة لا يمكن تطبيقها إلا في حيّز معين من الزمن ثم ألزم الناس بها إلى يوم القيامة !! والله عليم حكيم كما وصف نفسه سبحانه وتعالى ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
والآن نعود إلى التعرف على الأداة التي جعل الله بها هذه الشريعة صالحة للتطبيق إلى يوم القيامة ، وجعلها تتسع لتستوعب كل ما يجدّ في حياة الناس على هذه الأرض .
نقول بادئ ذي بدء إن هناك أمورا ثابتة في حياة الناس يجب أن تظل ثابتة . وقد ثبتتها هذه الشريعة ومنعت إحداث أي تغيير فيها ، لأن أي تغيير فيها تنتج عنه اختلالات في حياة البشرية ، وقد سبق في علم الله العليم الحكيم أن الثبات هو الأمر الواجب في تلك الأمور ، فأنزل أمره المحكم بعدم التغيير .
والسبب في ثبات هذه الأمور ، وفي وجوب تثبيت الأحكام الخاصة بها ، أنها متعلقة بحقائق ثابتة لا تقبل التغيير ، وإن غُيِّرَتْ تفسد الأمور .
أول هذه الأمور هو وجوب عبادة الله وحده بلا شريك .
وبينما وضع التطوريون هذه القضية على الخط المتغير ، وزعموا - كما سبق أن أشرنا - أن البشرية مرت في ثلاثة أطوار : السحر والدين والعلم ، وأنه كما أن السحر أخلى مكانه للدين ، فكذلك الدين قد أخلى - ويجب أن يخلي - مكانه للعلم !
بينما يقول التطوريون ذلك فإن الله يقول على سبيل الإلزام الدائم :
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (4) ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) (5) .
( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) (6) .
( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) (7) .
وغني عن البيان أن هذه قضية ثابتة لأنها قضية الألوهية وحقها على العباد .
والله سبحانه وتعالى دائم لا يتغير ، وكون العباد هم من خلقه حقيقة دائمة لا تتغير ، فأصبح من مقتضى ذلك أمر ثابت هو وجوب عبادة العباد لربهم وخالقهم
( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) (8) .
( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) (9) .
__________
(1) سورة الملك [ 15 ] .
(2) سورة الجاثية [ 13 ] .
(3) سورة الجاثية [ 22 ] .
(4) سورة البقرة [ 21 ] .
(5) سورة النساء [ 36 ] .
(6) سورة النساء [ 116 ] .
(7) سورة الزمر [ 7 ] .
(8) سورة الأعراف [ 54 ] .
(9) سورة الإسراء [ 23 ] .(3/205)
وإنما احتاج التطوريون لكي يزحزحوا هذه الحقيقة عن ثباتها ويضعوها على الخط المتغير ، أن يكذبوا كذبة " علمية " ضخمة ، ولم يجيئوا عليها بدليل واحد ، هي كذبة " الخلق الذاتي " دون إله ! وكذبة أخرى لا تقلّ عنها إيغالا في الخرافة هي كذبة الطبيعة الخالقة ، التي " تخلق كل شئ ولا حدّ لقدرتها على الخلق " (1) !
والقضية الثانية الثابتة - المنبثقة من القضية الأولى والمترتبة عليها - هي لزوم الحكم بما أنزل الله :
( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (2) ) (3) .
وقد كانت حجة التطوريين - أو إحدى حججهم - في نبذ الشريعة الربانية واستبدال حكم البشر بها ، أن الإنسان قد شبَّ عن الطوق ولم يعد في حاجة إلى وصاية الله !
ولا يستطيع الإنسان أن يمنع نفسه من العجب من ذلك الإنسان الذي شب عن الطوق ولم يعد في حاجة إلى وصاية الله ، وهو يتخبط كل يوم من ضلالة إلى ضلالة ، ويعيش بعضه في ضلالة الفردية الجانحة التي تفكك المجموع وبعضه في ضلالة الجماعية الجانحة التي تسحق كيان الفرد !
بعضه في الملكية الفردية " الحرة ! " التي لا تضبطها قيود ، فتؤدي ببضعة ألوف من الأفراد أن يستعبدوا الملايين ، وبعضه في الملكية الفردية الملغاة ، التي تحول جموع الناس عبيداً للدولة ، فيتحكم بضعة ألوف من الأفراد في حياة الملايين !
ألا إنها لسخرية عظمى . . شبوب الإنسان عن الطوق واستغناؤه عن وصاية الله !
( كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ) (4) .
* * *
وإذا كانت الشريعة ملزمة من حيث المبدأ (5) ، فإن في داخل هذه الشريعة أحكاما ثابتة لا تقبل التغيير ، وأحكاما عامة ثابتة في ذاتها ، ولكنها تقبل أن تدخل تحتها متغيرات .
ومن بين الثوابت التي لا تقبل التغيير ولايدخل تحتها متغيرات ، أحكام العبادات كلها ، والحدود ، وعلاقات الجنسين ( بما في ذلك علاقات الأسرة : الزواج والطلاق والمواريث . . . الخ ) .
فأما أحكام العبادات فثباتها ناشئ من أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقرر للإنسان كيف يعبد ربه ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم الناس كل ما يجب عليهم وما يجوز لهم أن يتعبدوا الله به ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد " (6) . فتحددت العبادات بما حدد الله وما بيّن رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولم يعد لأحد أن يزيد فيها من عنده أو ينقص منها على هواه .
وأما الحدود فسنتكلم في المبحث التالي عن علاقتها " بالحضارة " وعلاقة الحضارة بها ، إذ أنها من منابع الشبهات عند " المثقفين " على الطريقة الغربية .
ولكنا نذكر هنا أن أوربا " المتطورة " قد وضعت قضية الجريمة والعقاب على الخط المتغير لأكثر من سبب في آن واحد .
فمن بين الأسباب أن أوربا النصرانية لم تطبق هذه الحدود أبدا بوصفها شريعة منزلة ، رغم ورود أمثالها في التوراة ، والتزامهم - نظريا - بشريعة التوراة إلا ما أحل المسيح لهم مما كان محرما عليهم :
( وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) (7) .
( وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (8) .
ولكن وضع النصارى المستضعف في ظل اضطهاد الإمبراطورية الرومانية لهم في القرون الثلاثة الأولى لم يمكنهم من تطبيق الشريعة الربانية فصارت " أخلاقا " تلتزم تعبداً لله من جهة المتقين ، ولكنها ليست أحاكما تنفذها الدولة . فلما قويت النصرانية بعد اعتناق قسطنطين لها ( أو تظاهره باعتناقها لأسباب سياسية ) وفرضها دينا رسميا على الإمبراطورية الرومانية عام 325 م لم يَسْعَ البابوات في أوج سلطتهم إلى فرض الشريعة الربانية على الملوك والأباطرة ، بل سعوا إلى إخضاع هؤلاء لنفوذهم الشخصي ، وبقى القانون الروماني هو المطبق على أساس مبدإ غريب على الدين - كل دين - هو مبدأ : " أدَّ ما لقيصر لقيصر وما لله لله " ! فأصبحت الألوهية شقين : شق لله في شعائر العبادة وتقوى القلوب ، وشق لقيصر في حكم الواقع الذي يعيشه الناس !
( وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) (9) .
__________
(1) راجع كلمة دارون من قبل .
(2) سورة المائدة [ 44 ] .
(3) تحدثنا في المبحث الأول عن قضية ارتباط الشريعة بالعقيدة .
(4) سورة العلق [ 6 - 7 ] .
(5) تحدثنا في المبحث الثاني عن قضية الإلزام بشيء من التفصيل .
(6) أخرجه الشيخان .
(7) سورة آل عمران [ 50 ] .
(8) سورة المائدة [ 46 - 47 ] .
(9) سورة النحل [ 51 ] .(3/206)
ولذلك ظلت أوربا - حتى أيام تدينها - تنظر إلى الشريعة على أنها أخلاقيات ، ولا تنظر إليها على انها أحكام واجبة التنفيذ . فلما بدأت نهضتها المعادية للدين أو المفارقة له ، خف وزن الشريعة في حسها بصورة متزايدة . . حتى إذا جاءت لوثة التطور زال من حسهم نهائيا كل توقير للشريعة ، وتجرءوا على نقدها والتنديد بها على أنها من التراث " الرجعي " الذي ينبغي للتطور أن يزيله ويستبدل به شيئا " حديثا " ، يعتبر من أجل حداثته قبل كل شئ آخر ، سواءً كان مستحقا للاعتبار في ذاته أم غير مستحق ! وكان الشئ " الحديث " الذي ابتليت به أوربا هو " علم التحليل النفسي " (1) أو - في الحقيقة " علم تبرير الجريمة " ، والنظر إلى المجرم على أنه مجنى عليه ، لا يستحق أن يوقع عليه العقاب .
ولا نناقش هنا مفهوم الغرب عن الجريمة والعقاب (2) ، فنحن معنيون في هذا المبحث - كما أسلفنا - بنقطة واحدة معينة هي قضية التطور . فنقول فقط إن أوربا حين وضعت قضية الجريمة والعقاب على الخط المتغير ، وأفتت لنفسها بوجوب تغيير أحكام الشريعة الربانية في هذا الشأن ، واتخاذ قوانين بشرية بدلا منها (3) ، قد ابتليت - كما يعرف الناس جميعا - بطوفان من الجريمة آخذ في التزايد باستمرار ، وعلى الرغم من كل الاحتياطات التي تقوم بها دول الغرب ، وعلى الرغم من كل الدراسات : التربوية والنفسية والاجتماعية والقانونية والإعلامية . . الخ ، التي تقوم بها تلك الدول في فترات متقاربة لا تنقطع !
وما يشهد به الواقع فهو غني عن البيان !
ومن أبلغ ما يشهد به الواقع - مما تذكره تقريراتهم هم أنفسهم - ما حدث منذ سنوات ، وأشارت إليه صحف العالم كله في حينه ، من أن محطة القوى الكهربائية في نيويورك تعطلت ذات مرة لمدة خمس وعشرين ساعة متوالية ، أي نهارا وليلة كاملين ( بزيادة ساعة كذلك ! ) فارتكب في نيويورك في تلك الليلة الواحدة ما يوازي جرائم سنة كاملة بسبب الظلام !!
* * *
وأما علاقات الجنسين فقد ثبتت الشريعة أحكامها لأنها قائمة على " ثوابث " لا تتغير : الرجل من جهة ، والمرأة من جهة ، وعلاقة التجاذب بين الجنسين من جهة ثالثة . مالذي يمكن أن يتغير في هذه الثوابت ؟!
إنه ما دام الرجل رجلا والمرأة امرأة ، ومادامت العلاقة بينهما هي علاقة التجاذب ، فلا بد أن يحدث اللقاء . وليس لهذا اللقاء إلا إحدى صورتين : صورة منضبطة ، تجعل لهذا اللقاء هدفا أو أهدافا محددة ، وضوابط معينة ، وتبعات " إنسانية " مترتبة عليها ، وإما صورة غير منضبطة بهدف ولا تبعات .
وقد كانت علاقات الجنسين في الغرب منضبطة بضوابط الدين الثابتة حين كانت أوربا متمسكة بآداب دينها (4) ، فلما خرجت على دينها وتمردت عليه ، رأت أن تنقل هذه العلاقات من الخط الثابت إلى الخط المتغير . . فماذا كانت النتيجة .
النتيجة هي ما نراه اليوم في الغرب - وفي العالم الذي سيطر عليه الغرب - من الفوضى الجنسية والتحلل الخلقي، وجرائم الجنس المتفشية رغم ذلك التحلل ، أو - بالأحرى - بسبب ذلك التحلل .
وما يشهد به الواقع لا يحتاج إلى بيان !
إن الإنسان - منذ خلقه الله - " إنسان " ! وليس حيوانا متطورا كما زعمت الداروينية القديمة بغير دليل علمي (5) ، وللإنسان أهداف في حياته غير أهداف الحيوان ، وسلوك كذلك غير سلوك الحيوان .
( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (6) .
وعلاقات الجنس - ككل شيء في حياة الإنسان - ذات غاية " إنسانية " ، وضوابط كذلك " إنسانية " .
( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) (7) .
أما نزوة الجسد فهي من خصائص الحيوان . وأما السكن والسكينة والمودة والرحمة فهي من خصائص الإنسان .
وقد لزم - في علم الله العليم الحكيم - لكي تتحول نزوة الجسد الحيوانية إلى سكن وسكينة ومودة ورحمة أن تكون لها ضوابط إنسانية ، وأن تترتب عليها تبعات ، فحدد لذلك الحدود ، وقال سبحانه : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا ) (8) وفي داخل تلك الحدود ، التي حددها الله بعلمه وحكمته ، تتحقق سكينة الجسد وسكينة النفس ، ويوجد المحضن الآمن الذي يتربى فيه النشء الجديد ليعمر وجه الأرض ، وتتحقق سكينة المجتمع بتضييق مدى الجريمة ، وتأمين الناس على أعراضهم وأرواحهم ، كما تتحقق النظافة اللائقة بالإنسان .
وثبتت الشريعة المنزلة هذه الحدود ، لأنها هي السبيل الوحيد لتحقيق هذه الأهداف ، ولأنها كلما خولفت - خلال التاريخ - حدثت الفوضى التي نرى نموذجا منها اليوم ، وحدثت الاختلالات .
__________
(1) مؤسسة هوفرويد ، وهو يهودي . ومن أخطر ما يؤدي إليه التحليل النفسي على طريقة فرويد إسقاط مسئولية الإنسان عن أعماله على أساس أنها ردود فعل قهرية لحالات مرضية وعقد نفسية ، وهو مبدأ مدمر للأخلاق كما هو ظاهر .
(2) سنتعرض لهذه القضية بشيء من التفصيل في المبحث القادم .
(3) لم تطبق الشريعة تطبيقاً واقعياً في أوربا كما أسلفنا ، ولكن كان لها مع ذلك توقير " أدبي " في حس الناس .
(4) كانت أوربا في الواقع متزمتة في شأن هذه العلاقات بتأثير الرهبانية التي ابتدعها النصارى دون تكليف من الله : ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ) [ الحديد: من الآية27 ] .
(5) سبقت الإشارة إلى أن الداروينية الحديثة رغم اعتقادها بمبدأ التطور تقرر تفرد الإنسان .
(6) سورة ص [ 71 - 72 ] .
(7) سورة الروم [ 21 ] .
(8) سورة البقرة [ 187 ] .(3/207)
وكما ثبتت الشريعة طريقة اللقاء بين الجنسين ، فحددته في الزواج ، دون المسافحة ولا اتخاذ الأخدان (1) :
( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (2) .
أقول : كما ثبتت الشريعة طريقة اللقاء بين الجنسين ، حددت كذلك كل ما يترتب على هذه العلاقة ، وما يقع في داخلها بأحكام ثابتة غير قابلة للتغيير ، لأنها ترتكز على ثوابت غير قابلة للتغيير .
ومما تجادل فيه الجاهلية المعاصرة - بتأثير " قضية المرأة " وطلبها المساواة الكاملة مع الرجل في كل شيء - قضية القوامة وقضية الميراث ، وتنادي الجاهلية المعاصرة بوضع كلتا القضيتين على الخط المتغير بحجة التطور الذي شمل كل شيء في الحياة !
فأما في قضية القوامة ، فإن المرأة المسترجلة التي سعت الجاهلية الحديثة إلى تنشئتها لأمر يراد ، قد تعلمت وعملت ، وشغلت الوظائف العامة ، ولم تستطع مع ذلك أن تغير طبيعتها العاطفية التي خلقها الله بها لتوفي مطالب الطفولة، والله أعلم وأحكم من أن يخلق جنسين متماثلين ، ثم يفرق بينهما في الوظيفة وفي التكوين الجسدي والحيوي ! إنما اقتضت حكمته سبحانه حين حدد لكل من الجنسين وظيفة ، ان يخص كلا منهما بخصائص حيوية ونفسية تلائم وظيفته ، ولا عبرة بوجود امرأة بين ملايين النساء تسمى " المرأة الحديدية " أو الفضية أو النحاسية ! فالأحكام تلحق بالعموم لا بالحالات الشاذة التي لا يقاس عليها (3) ! وقضية القوامة فرع عن قضية التكوين الجسدي والحيوي والنفسي ، لا تتغير حتى تفسد الفطرة ، وحين تفسد الفطرة يعم الفساد في الأرض .
وأما قضية الميراث فهي ناشئة كذلك عن توزيع الوظائف وتوزيع التكاليف .
الرجل هو المكلف بالإنفاق - إلزاما لا تطوعا - والمرأة لا تكلف بالإنفاق ، فإذا تطوعت بذلك من عند نفسها فليس ذلك تكليفا ترتب عليه تبعات .
والفريق الذي كلفه الله بالإنفاق أعطاه نصيبين، أما الفريق الذي لم يكلف بالإنفاق فقد منحه الله نصيباً واحداً لذات نفسه ، ثم قال تعالى :
( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) (4) .
ومن فضل الله على العباد أنه يدخل الناس الجنة لا على قدر أموالهم ، ولا قدر وظائفهم في الحياة الدنيا ، وإنما على قدر ما يتعبدونه بالطاعات والإخبات .
* * *
تلك أمور ثبتت الشريعة أحكامها ولم تجعلها قابلة للتغيير ، ولا يدخل تحتها كذلك متغيرات ، لأن التغيير فيها يحدث من المفاسد ما نرى بعض آثاره في واقع العالم المعاصر ، مما هو مشهود ومشهور .
ولكن هناك أمورا أخرى - كثيرة - يعلم الله أنها تتغير ، ولا يريد الله لها أن تجمد على حالة معينة ، هي حالتها وقت نزول هذه الشريعة المباركة .
ولم يكن غائبا عن علم الله وحكمته - كما يتصور المجادلون بوعي منهم أو بغير وعي - أن حركة الإنسان في الأرض ، واحتكاكه الدائم بالكون المادي ، وسعيه إلى تسخير طاقاته ، وسعيه إلى تصنيع خاماته ، وتحسين أدواته ، وتجميل وسائل حياته ، سيقوده إلى إحداث تغييرات مستمرة في صور حياته : السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
والله هو الذي خلق الإنسان ، وأودع فيه ما أودع من طاقات ونزعات ، وهيأه بذلك لعمارة الأرض والقيام بدور الخلافة فيها:
( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) (5) .
ويريد الله للإنسان أن تكون حياته مثمرة نامية مباركة:
( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) (6) .
( وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) (7) .
وحيث سبق ذلك في علم الله ، وفي حكمته ، وسبق في علمه كذلك وحكمته أنه سينزل رسالته الخاتمة على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ولن يرسل رسولا بعده ، وسيكلف البشر بإقامة تلك الشريعة - بعد كمالها (8) - إلى آخر الزمان ، فقد اقتضت حكمته سبحانه أن ينزل في تلك الأمور المتغيرة أصولا ثابتة تتسع للصور المتغيرة وتضبط حركتها في الوقت ذاته .
__________
(1) المسافحة هي البغاء واتخاذ الأخدان لون خاص من البغاء هو ما تتخذه الجاهلية المعاصرة باسم " الصداقة " Boy Friend و Girl Friend.
(2) سورة المائدة [ 5 ] .
(3) راجع " أليكسيس كاريل ، الإنسان ذلك المجهول ، ترجمة شفيق أسعد ، بيروت ، ط3 ، خاصة ص 108 حيث يقول : " إن كل خلية في جسم المرأة تحمل طابع جنسها " .
(4) سورة النساء [ ص32 ] .
(5) سورة هود [ 61 ] .
(6) سورة الملك [ 16 ] .
(7) سورة فصلت [ 10 ] .
(8) قال تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) [ سورة المائدة:3](3/208)
تتغير الصور السياسية ، بتغير حجم الدولة وطريقة إدارتها ، وتغير وضع الفرد من كونه فردا في قبيلة إلى كونه فردا في أمة ، وتغير مدى استقلاله بفرديته وممارسة حياتها من خلالها ، واعتبارات أخرى جمة متشابكة ، فتتغير بذلك صورة الحكم وتنظيماته ولكن لا تتغير الأصول الثابتة التي تحكم " السياسة الشرعية " : تحكيم شريعة الله ، والبيعة ، والشورى ، والسمع والطاعة من الرعية لولي الأمر في حدود طاعة ولي الأمر لله ورسوله ، والنصح من الرعية لولي الأمر عملا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما تحدده الآيات القرآنية والأحاديث النبوية :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (1) .
" الدين النصيحة. قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " (2) .
" إنه كان لكل نبي كان قبلي حواريون يهتدون بهديه ويأتمرون بأمره ، ثم إنه تخلف من بعد ذلك خلوف ، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون . فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن . ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن . ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن . وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " (3) .
" إنه يكون عليكم أمراء فتعرفون منهم وتنكرون . فمن أنكر فقد سلم ومن كره فقد برئ ولكن من رضى وتابع " (4) إلخ . . إلخ . . (5) .
أما شكل الحكم . . وأما طريقة الشورى . . وأما توزيع المسئوليات بين الحاكم ونوابه ومعاونيه . . . وأما طريقة تولية الحاكم وطريقة تنحيته إذا استوجب الأمر تنحيته ، فكلها أمور قابلة للتغيير ، بما يتفق مع أحوال كل أمة وكل عصر .
* * *
وتتغير الصورة الاقتصادية بتغير أدوات الإنتاج وتقدم العلوم والتكنولوجيا ، ومدى تسخير الإنسان لطاقات الكون المادى بما يفتح الله له من أبواب المعرفة . . واعتبارات أخرى كثيرة متشابكة . ولكن لا تتغير الأصول الثابتة التي تحكم سياسة المال : أن المال مال الله ، والبشر مستخلفون فيه ، ومأمورون أن ينفذوا فيه شرع الله . وأنه لا بد من نظافة المال في المأخذ فلا غصب ولا سرقة ولا غش ولا ربا ولا احتكار ولا أكل لمال الأجير . . ولا بد من نظافته في الإنفاق فلا ينفق في سرف ولا ترف ولا مخيلة ولا في محرم . . ولا بد من أداء زكاته ، ثم الإنفاق منه في سبيل الله لا تكلف نفس إلا وسعها .
أما شكل العمليات الاقتصادية ومواضع المشاركين فيها فهي عرضة للتغير الدائم بحسب الأحوال .
* * *
وتتغير الصورة الاجتماعية ، فيكون المجتمع قبليا ، وحدته هي القبيلة ، ورئيس القبيلة هو نائبها وممثلها وولي أمرها الذي تأتمر بأمره ، ويمارس الفرد وجوده من خلال القبيلة ، أو يكون المجتمع أمة ذابت فيها الكيانات القبلية فأصبح الفرد يمارس وجوده فردا ويمثل نفسه بنفسه . . ويقوم البيت بالتربية والتوجيه مستقلا أو تشاركه مؤسسات اخرى كالمدرسة ووسائل الإعلام ، أو تقوم المؤسسات بالدور الأكبر وتظل للبيت روابطه العاطفية . . ويكون البيت أسرة كبيرة يعيش فيها الوالدان والأبناء ، والجدود والأحفاد ، أو أسرة صغيرة تقتصر على الوالدين والأبناء . . الخ . . الخ ولكن تبقى الأصول الثابتة للعلاقات الاجتماعية :
( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) (6) .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ) (7) .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (8) .
( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) (9) .
( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) (10) .
* * *
وحين تتغير الصورة : السياسية أو الإقتصادية أو الاجتماعية ، تحتاج إلى أحكام جديدة مستمدة من الشريعة . والوسيلة الشرعية لذلك هي الاجتهاد فيما ليس فيه نص . وهي المزية الكبرى لهذه الشريعة ، التي تجعلها صالحة لاستيعاب ما يجدّ في حياة الناس ، وربطه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة لا يند عنها شيء .
والاجتهاد مأذون به بل مأمور به :
( فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ) (11) .
__________
(1) سورة النساء [ 59 ] .
(2) أخرجه مسلم .
(3) أخرجه مسلم .
(4) أخرجه مسلم .
(5) تراجع كتب السياسة الشرعية ككتاب الماوردي وغيره .
(6) سورة الحجرات [ 10 ] .
(7) سورة الحجرات [ 11 ] .
(8) سورة الحجرات [ 12 ] .
(9) سورة النساء [ 36 ] .
(10) سورة المائدة [ 2 ] .
(11) سورة الحشر [ 2 ] .(3/209)
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا - رضي الله عنه - وهو يوليه على اليمن : كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال : أقضي بكتاب الله . قال : فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . قال : فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : اجتهد رأيي . فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره موافقا ومؤيداً لما يقول (1) .
وللاجتهاد شروطه المعروفة من علم بالفقه وعلم بالأصول وعلم بالآلة ( اللغة ) وبصر بأحوال الناس وقدرة على الاستنباط واستقامة في الخلق وامانة في الدين . ولكنه أولا وأخيرا أداة ربانية زود الله بها هذه الأمة لتظل تحت مظلة الشريعة لا تخرج عنها ولا تستبدل بها حكم الجاهلية ، ولتتحرك الحركة المنضبطة ، فلا تجمد في مكانها حيث تقتضي حركة الحياة أن تتقدم ، ولا تنفلت في حركتها فتخرج عن مقاصد الشريعة ، فيحدث الفساد في الارض .
وحصيلة الاجتهاد الدائمة : صور متغيرة تدور حول محاور ثابتة . سنة الله في الخلق كله وفي حياة الإنسان . فتلتقي الشريعة المنزلة في نسق واحد مع الكون والحياة والإنسان .
( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) (2) .
=======================
المبحَث الرّابع -شُبْهَة تَعارُض أحكَام الشريْعة مَعَ مقتضَيَاتِ الحضَارة الحَديثة
وَوُجُوبُ الأَخْذِ بِمَعَايِيرْ الحَضَارة دُوْنَ الشَّرِيعَة
ألمحنا في المبحث الثالث إلى بعض جوانب هذه القضية : قضية تعارض أحكام الشريعة مع مقتضيات الحضارة الحديثة . فهي في صميمها فرع عن قضية التطور التي تفترض أن كل جديد هو بالضرورة خير من كل قديم ، لمجرد أن هذا جديد وذاك قديم ، لا لمزية موضوعية في هذا ليست موجودة في ذاك ! وإذ كانت الحضارة القائمة اليوم " حديثة " فهي بهذا الاعتبار خير من كل قديم سبق . . ولو كان منزلاً من عند الله !
وقد نشأ هذا الوهم في أوربا من مجموعة من العوامل بعضها حق وكثير منها باطل . ولكنه وَهْمٌ ركب الناس وهم فارّون من شبح الكنيسة المزعج ( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (3) ! ولو لم يكونوا في حالة فرار ، ولو لم يكن قسورة وراءهم ، فلربما كانوا يتعقلون في هذا الأمر - وفي أمور كثيرة غيره - فلا يتصرفون بلا وعي كما يتصرفون الآن ، ثم يبثون أوهامهم - بسيطرتهم العسكرية والاقتصادية والسياسية والعلمية - على بقية الأرض .
حقيقة إن العصر الذي ساد فيه الدين الكنسي المحرف كان عهد ظلام في أوربا ، كما يصفون هم بحق عصورهم الوسطى المظلمة . وإن العصر الذي تلا ذلك ، وانحسر فيه سلطان الكنيسة وسلطان ذلك الدين كان عهد نور وتفتح ، وعهد تقدم في كل ميادين الحياة ، وعهد قوة وسيطرة بالنسبة لأوربا خاصة .
وقد فهمت أوربا من ذلك أن " الدين " هو سبب التأخر ، وأن الحضارة التي لا تقوم على الدين هي سرُّ الفلاح في الدنيا ، وهي التي تحوز للإنسان كل أسباب القوة والتقدم والرقي .
وقد نحاول أن نلتمس الأعذار لأوربا في طغيان الكنيسة الجائر الذي مارسته على الناس في كل مجالات الحياة ، فكان منه طغيان روحي وطغيان مالي وطغيان سياسي وطغيان عقلي وطغيان علمي . . وكان يحصى على الناس حتى خطرات نفوسهم التي لا يبوحون بها ، ويعذبهم على يد محاكم التفتيش عند أول شبهة تقوم حول ولائهم للكنيسة ومعتقداتها . . وقد نحاول أن نلتمس لها الأعذار مرة أخرى في أن النموذج الإسلامي - الذي كان قمينا أن يصلح الحياة في أوربا لو اعتنقت الإسلام - قد شوهت الكنيسة صورته في نفوس الأوربيين ببشاعة حين خشيت من تأثير التوغل الإسلامي في شرق أوربا ، كما خشيت من تأثير " الغزو الفكري " الإسلامي ، العائد من المبتعثين الأوربيين إلى بلاد الإسلام ومعاهد العلم الإسلامية . يقول المؤرخ الإنجليزي ويلز في كتابه " معالم تاريخ الإنسانية " : " ولو تهيأ لرجل ذي بصيرة نفاذة أن ينظر إلى العالم في مفتتح القرن السادس عشر ، فلعله كان يستنتج أنه لن تمضي إلا بضع أجيال قليلة لا يلبث بعدها العالم أجمع أن يصبح مغوليا - وربما أصبح إسلاميا " ! (4).
ولكن أوربا على أي حال قد أخطأت في تصورها من جانبين في آن واحد . الجانب الأول هو تصورها للدين الكنسي المحرف على أنه هو " الدين " . وأن الخيار الوحيد أمامها هو إما البقاء في ذلك الدين مع الظلم والظلام والتأخر ، وإما الحياة بلا دين ( وذلك بعد أن عجزت حركات " الإصلاح الديني " عن إحداث تغيير جوهري في جوهر المشكلة ) . والجانب الآخر هو تصورها - بعد ما خرجت من الدين - أن التمكين في الأرض هو الغاية القصوى التي خلق الإنسان من أجلها ، وأنه إذا حققها بأي وسيلة فقد فاز ! وذلك تصور جاهلي من جميع أبعاده . فلا التمكين في الأرض - بأية وسيلة - هو غاية الوجود البشري ، ولا تحقيقه - وحده - علامة على " التفوق " بالمعيار الإنساني اللائق بالإنسان !
إن الله يعطي التمكين في الدنيا للكافر وللمؤمن معاً إذا توفرت من جانبه أسباب التمكين :
( كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) (5) .
( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ) (6) .
__________
(1) رواه أبو داود .
(2) سورة ص [ 29 ] .
(3) سورة المدثر [ 50 - 51 ] .
(4) ويلز ، معالم تاريخ الإنسانية ، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد ، القاهرة ، ط3 1967 م ، ج3 ص966 .
(5) سورة الإسراء [ 20 ] .
(6) سورة هود [ 15 ] .(3/210)
بل إن الله - إذا شاء سبحانه - قد يعطي التمكين في الدنيا للكافر كلما أوغل في الكفر ، استدراجا له ليزداد كفرا وليحمل أوزاره كاملة يوم القيامة !
( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ .. ) (1) .
( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (2) .
فليست العبرة بالتمكين في ذاته ، ولا في انفتاح أبواب كل شيء للإنسان في الحياة الدنيا وحدها . إنما خلق الإنسان ليقوم بدور الخلافة الراشدة في الأرض ، وليعمر الأرض بمقتضى المنهج الرباني . وهذا هو تمكين الرضا الذي يترتب عليه الفلاح في الدنيا ، وحسن المآل في الآخرة . كما تحفه البركة والطمأنينة ، ولا يتحقق إلا بالإيمان وتقوى الله :
( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) (3) .
( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (4) .
( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (5) .
أما التمكين في الأرض - وحده - وعلى غير المنهج الرباني ، فعلاوة على أنه موقوت بفترة معينة وسنّة معينة ، فهو مبتوت عن الآخرة :
( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (6) .
( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (7) .
وفضلا عن ذلك فلا بركة في حياتهم ولا طمأنينة . . فهم " يتمتعون " . . ولكن . .
( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) (8) .
كل هذه المعاني كانت غائبة عن الناس في أوربا وهم ينطلقون ( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) (9) . فكلها معان لا يدركها الإنسان الجاهلي ، الذي قال أقرانه من قبل :
( نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) (10) .
( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) (11) .
* * *
ثم وقعت أوربا في وَهْمٍ جاهلي آخر . .
ذلك أنها حين خرجت من أسر الكنيسة الجائر أخذت تتعلم . . وكان العلم في ذاته صراعا هائلا مع الكنيسة التي حرّقت العلماء وعذبتهم لأنهم قالوا بكروية الأرض ، وخالفوا بعلمهم " معلومات " الكنيسة ، أو بالأحرى خرافاتها التي كانت تحرص عليها جهالة منها ، وتبثها باسم الدين (12) . ونشأ من هذا الصراع افتراق طريق العلم عن طريق الدين بغير موجب " موضوعي " ، ووقوف العلم والدين في حس الأوربيين موقف التضاد والتقابل ، فمن أراد العلم أهمل الدين ( أو عاداه ) ومن أراد الدين أهمل العلم ، وانفصلت بذلك في نفس الغربي نزعتان توأمتان : نزعة العبادة لله ، وهي فطرة :
( فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (13) ونزعة المعرفة وهي كذلك فطرة أودعها الله في الإنسان ليقوم بدور الخلافة في الأرض : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) (14) ( عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (15) . وأفسد هذا الصراع طمأنينة النفس إلى خالقها وهي تتدبر آيات الله في الكون ، وتتعرف على خواص الكائنات لتحقق التسخير الرباني لما في السموات والأرض ليكون في متناول الإنسان : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) (16) .
__________
(1) سورة الأنعام [ 44 ] .
(2) سورة النحل [ 25 ] .
(3) سورة الأعراف [ 96 ] .
(4) سورة الرعد [ 28 ] .
(5) سورة المؤمنون [ 1 - 11 ] .
(6) سورة الأنعام [ 44 - 45 ] .
(7) سورة هود [ 15 - 16 ] .
(8) سورة محمد [ 12 ] .
(9) سورة المدثر [ 50 - 51 ] .
(10) سورة سبأ [ 35 ] .
(11) سورة العنكبوت [ 43 ] .
(12) كان من أهم أسباب وقوف الكنيسة في وجه العلم أنه كان علماً إسلامياً في مصدره ، وكان يهدد بتحول أوربا إلى الإسلام كما أشرنا من قبل ، وهذا السبب تخفيه المراجع الأوربية وهي تتحدث عن الصراع بين الكنيسة والعلم ، لأنها لا تحب أن تعترف بفضل الإسلام والمسلمين .
(13) سورة الروم [ 30 ] .
(14) سورة البقرة [ 31 ] .
(15) سورة العلق [ 4- 5 ] .
(16) سورة الجاثية [ 13 ] .(3/211)
تقدم العلم في أوربا بما تعلمته في مدارس المسلمين اولا ، وكان أبرز ما تعلمته هو المنهج التجريبي في البحث العلمي . ثم تقدم ثانيا بما بذل الأوربيون من جهد جبار في ميدان التجربة والبحث ، مع الجلد والمثابرة وعبقرية التنظيم . . ولكنه في كل خطواته كان معاديا للدين بسبب حماقة الكنيسة الكبرى في معاداة العلم والعلماء .
وألقى العلم ثماره الجنية على الساحة الأوربية فتقدمت العمارة المادية للأرض تقدما هائلا ، وارتقت أحوال الناس المادية وانتعشت ، واكتسبت أوربا قوة مادية فتحت بها الأرض وسيطرت عليها ، فعاد عليها ذلك بمزيد من الثروة ومزيد من الرفاهية والتقدم المادي .
وكان هذا الوضع " الحديث " أفضل ولا شك من أوضاع أوربا في عهود " الظلام " .
ولما كان هذا كله قد تم بعد إقصاء أوربا لدينها والانفلات منه ، فقد وَقَرَ في وهمها مرة أخرى أن " الدين " هو المعوق عن الحضارة ، وأن الحضارة يجب أن تكون معادية للدين لكي يقطف الناس ثمارها ويستمتعوا بها ، وأن المعيار الذي يعيّر به الرقي البشري هو " الحضارة " وليس " الدين " .
وهنا وَهْمٌ مزدوج وقعت فيه أوربا وهي تفرّ من غول الكنيسة بلا وعي ولا انضباط .
أحد طرفي الوهم تصورها أن " الدين " من حيث هو ، كان هو المعوق عن الحضارة . بينما كان المعوق عن الحضارة في الحقيقة هو دين الكنيسة المحرف ، ثم سلوك الكنيسة بذلك الدين المحرف الذي ابتدعته من عندها ولم يتنزل من عند الله بهذه الصورة المحرفة .
والطرف الآخر من الوهم هو تصور أوربا أن الحياة بلا دين أفضل في جميع الأحوال وفي جميع المجالات من الحياة بالدين . .
وسنسلم بأن حياة أوربا في ظل دينها كانت سيئة ، وكان لا بد لها من التمرد على ذلك الدين لكي تحسن أحوالها السيئة وتخرج من الظلام الدامس الذي كان يكتنف قرونها الوسطى المظلمة .
ولكنا لن نسلم بأن الحياة بلا دين أفضل لأوربا - وللبشرية كافة - من الحياة بالدين الصحيح الذي ينبغي للبشرية كلها أن تدين به .
فقد تقدم العلم ، نعم ، وتقدمت الحياة المادية في جميع مجالاتها ، نعم ، ولكن انظر نظرة فاحصة إلى " الخلاصة " من هذا كله . .
وانظر إلى " الإنسان " هل ارتقى في مجموعه أم انتكس انتكاسة ربما لم ينتكسها في تاريخه الطويل كله . . .
لقد سيطر الإنسان على " البيئة " كما يقول جوليان هكسلي في كتابه " الإنسان في العالم الحديث " الذي سبقت الإشارة إليه في المبحث الثالث ، وأخذ - في ظنه - يسيطر على الفضاء (1) ، ولكنه لم يستطع أن يسيطر على شهواته ، بل فتح لها المجال بكل عنفوانها ، سواء في ذلك شهوة الجنس ، أو شهوة " الاستمتاع " عن أي طريق حلال أو حرام ، أو شهوة السيطرة والتسلط والطغيان .
إن الاستعمار بكل جرائمه وبشاعاته هو ثمرة طبيعية لقيام حضارة جاهلية بلا دين . إنه ليس انحرافا عارضا كان يمكن لهذه الحضارة أن تتجنبه لتحسين سمعتها كما يتوهم بعض المفتونين بهذه الحضارة . إنه نتاج أصيل لها . فحيثما ملك الإنسان القوة ولم يكن يؤمن بالله ورسله ورسالاته فهذا ديدنه خلال التاريخ كله . . يطغى . لأن السلطة تُطْغِي إن لم تردعها وتضبطها مخافة الله وتقواه . ولقد بررت أوربا استعباد الأمم الضعيفة وامتصاص دمائها على نفس النحو الذي كانت الإمبراطورية الرومانية تبرر لنفسها ذلك الامر . . تشابهت قلوبهم ! والسبب دائما واحد . . قوة لا يصحبها دين . وضع إن شئت مقارنة سريعة بين حركة التوسع الإسلامي في الأرض ، وحركة التوسع الروماني في القديم والتوسع الغربي في الحديث ليتبين لك الفرق . التوسع الإسلامي كان يحرر المستعبدين في الأرض كما قال ربعي بن عامر في عبارته البليغة البارعة التي رد فيها على رستم قائد الفرس حين سأله : ما الذي جاء بكم إلى بلادنا ؟ قال : إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة . بينما التوسع الروماني في القديم والتوسع الغربي في الحديث يستعبد الأحرار :
( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ) (2) .
وإن الفساد الخلقي ، وما تبعه من انتشار الخمر والمخدرات والشذوذ والجريمة ، هو ثمرة طبيعية لقيام حضارة جاهلية بلا دين ، إنه ليس انحرافا عارضا كان يمكن لهذه الحضارة أن تتجنبه لوقاية نفسها من الدمار ، كما يتوهم المعجبين بها ، الخائفين عليها ! إنما هو نتاج أصيل لها . فحيثما وجدت فرص متاحة للمتاع دون ضابط من دين ينظم ذلك المتاع ، كانت النتيجة واحدة . . الإغراق في الشهوات ، ثم الانحراف .
وإن ألوان الجنون التي طغت اليوم على المجتمع الغربي : جنون الجنس ، وجنون الأزياء ، وجنون الزينة ، وجنون العري ، وجنون السينما ، وجنون التليفزيون ، وجنون الفيديو ، وجنون الكرة ، وغيرها من ألوان الجنون المخزية ، كلها ثمرة لقيام حضارة بلا دين . . إن كانت قد جاءت متأخرة عن بداية قيام هذه الحضارة ، فتلك سنّة طبيعية من سنن الله : التدرج في كل شيء . لا شيء يأتي فجأة في أحوال الناس في الأرض ( إلا العقاب الصاعق من عند الله حين يقدره سبحانه ) إنما يتم كل شيء بالتدريج ، ولكن على ذات الخط الذي يريده الناس لأنفسهم من البداية . فإن أرادوا الاستقامة على طريق الله يسّر الله لهم الطريق ، وإن أرادوا الانحراف زادهم مما يريدون !
__________
(1) مما ينفي هذا الوهم فزع الناس من اتساع فتحة الأوزون في الغلاف الجوي وما قد يترتب على ذلك من نتائج مدمرة لحياة الإنسان على الأرض .
(2) سورة النساء [ 76 ] .(3/212)
ولا أحد يقول إن هذه الحضارة سوداء كلها بلا بياض ! وما كانت هناك قط جاهلية من جاهليات التاريخ سوداء كلها بلا بياض !
نعم ! فيها نقط بيضاء كثيرة متناثرة هنا وهناك ، فيها التقدم العلمي ، فيها التقدم التكنولوجي الذي أزاح عن كاهل الإنسان أعباء كثيرة وحمّلها للآلة . فيها الجلد على العمل والصبر والمثابرة . فيها عبقرية التنظيم . فيها الروح العلمية والعملية في تناول المشكلات . فيها " أخلاقيات " نفعية ، نعم ، ولكنها تجعل التعامل اليومي بين الناس بعضهم وبعض مريحا سهلا خاليا من التعقيد . .
كلها نقط بيضاء في هذه الجاهلية ، ولكنها لا ترفع عنها صفة الجاهلية لأنها لا تعرف الله حق معرفته ، ولا تعبده حق عبادته (1) . ثم إنها لن تنقذها من الدمار - في موعده المقدر عند الله - لأنه سنّة حتمية من سنن الله ، تصيب الذين يصرون على تنكب طريقه . . إلا أن يغيّروا ما بأنفسهم فيغير الله لهم :
( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ) (2) .
( وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ) (3) .
( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (4) .
ومن جهة أخرى فلم يكن من الحتم على هذه الحضارة أن تنبذ الذين لكي تتوصل إلى القوة والتقدم العلمي والتكنولوجي ، فقد كان هذا كله ممكنا - كما أمكن للمسلمين من قبل - لو أن أوربا اعتنقت الإسلام .
* * *
ونخلص من ذلك كله إلى نتائج واضحة :
أولا : أن ظروفا معينة في أوربا هي التي جعلتها تنبذ الدين ، وتقيم عداء بين الدين والحضارة وبين الدين والعلم ، وبين الدين والسياسة ، وبين الدين والاقتصاد . . . الخ .
ثانيا : أن أوربا توهمت أن دينها هو " الدين " . . ومن ثم توهمت أن " الدين " هو الذي ينبغي أن يُنْبَذَ ، وأن الحضارة ينبغي أن تقام بلا دين .
ثالثا : أن أوربا حين انفلتت من دينها الفاسد ، وانفلتت في الوقت ذاته من الضوابط التي تحفظ للإنسان إنسانيته ، واتبعت أهواءها . ثم أقامت على هذا الهوى " حضارة " أعجبتها لأنها تساير أهواءها ثم جعلتها هي الأصل الذي يقاس عليه كل شيء ، ثم قاست الدين على هذا الأصل المعتمد عندها فوجدته مخالفا للأصل المعتمد ، فنبذته ، وجعلت نبذه مقياساً للتقدم والحضارة والرقي ! (5) .
رابعا : أن هذا كله خلل في التصور وخلل في السلوك أنشأته ظروف معينة في أوربا ، وليس قانوناً من قوانين الوجود البشري يسري على كل البشر بالضرورة !
* * *
ثم ننتقل بالحديث إلى الإسلام .
إن مفهوم " الحضارة " في الإسلام يختلف اختلافا بيّنا عن المفهوم الغربي ، وإن التقى معه إلتقاء عارضاً في ضرورة السعي إلى عمارة الأرض .
الحضارة في المفهوم الإسلامي هي النشاط الذي يقوم به الإنسان في شتى مجالات حياته ليحقق غاية وجوده .
ومن ثم ينبغي أن نعلم بادئ ذي بدء غاية الوجود البشري لنحدد بعد ذلك كنه " الحضارة " التي تناسب تلك الغاية وتحققها .
يقول شاعر جاهلي معاصر (6) :
جئت لا أعلم من أين ، ولكني أتيت !
ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت !
وهكذا انتهت حياته إلى " العبثية " لأنه جهل غاية وجوده . وهو يمثل في الحقيقة أزمة الجاهلية المعاصرة ، التي تقود تلك الجاهلية إلى الجنون كلما أوغلت في الطريق .
والإسلام يحدد تحديداً واضحاً غاية الوجود البشري ، فيضع أمام الإنسان كل شيء في مكانه الصحيح : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (7) .
( إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) (8) .
( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) (9) .
( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (10) .
( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) (11) .
( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) (12) .
( وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (13) .
ونفهم من مجموع هذه الآيات وأمثالها أن الإنسان خلق ليعبد الله وأنه خلق ليكون خليفة في الأرض ، وأنه خلق للابتلاء ، وأنه خلق لقدر من المتاع يناله في الحياة الدنيا ، وأنه خلق ليعمر الأرض بالسعي في مناكبها والأكل من رزق الله ، وبالسعي إلى تسخير طاقات السموات والأرض . .
__________
(1) هذا هو المعنى القرآني للجاهلية كما وردت في مواضع متعددة في القرآن الكريم : الجهل بحقيقة الألوهية ، وعدم اتباع ما أنزل الله .
(2) سورة الرعد [ 11 ] .
(3) سورة الحج [ 48 ] .
(4) سورة الأنعام [ 44 - 45 ] .
(5) يكرر " ألكسيس كاريل " في كتابه " الإنسان ذلك المجهول " ( سبقت الإشارة إليه ) أن الإنسان المعاصر قد صنع لنفسه حضارة خاطئة بدافع شهوته ، ولكنها لا تناسب تكوينه ، ولذلك فهي في طريقها للانهيار .
(6) هو الشاعر إيليا أبو ماضي .
(7) سورة الذاريات [ 56 ] .
(8) سورة الإنسان [ 2 ] .
(9) سورة هود [ 61 ] .
(10) سورة البقرة [ 30 ] .
(11) سورة الملك [ 15 ] .
(12) سورة الجاثية [ 13 ] .
(13) سورة البقرة [ 36 ] .(3/213)
ولا تعارض بين هذه الأهداف جميعا ، فكلها في النهاية تلتقي في مفهوم العبادة في الإسلام .
لقد خلق الله الإنسان ليكون هو المهيمن المسيطر المنشئ الباني المعمر في الأرض ، وعلم الله أن هذه المهمة تستلزم أن تكون في كيان الإنسان مجموعة من الدوافع القوية تدفعه للقيام بهذا النشاط ، حتى لا تقعد به العقبات عن القيام بمهمته : لا البحار ولا الأنهار ولا الجبال ولا البرد ولا الحر ولا الأمراض . . ولكن الله يعلم كذلك أن هذه الدوافع ( أو سَمِّها الشهوات ) مع لزومها له ، لا تصلح أن يستجيب لها الإنسان إلى آخر المدى لأنها عندئذ تدمره بدلا من أن تعينه على أداء مهمته ، فرسم للاستمتاع بها حدوداً معينة وقال : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا ) و ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا ) (1) . وجعل موضع الابتلاء هو هذا : هل يستجيب الإنسان للأمر الرباني ، فيلتزم في تناوله للمتاع بالحدود التي حددها الله ؟ أم يتجاوز الحدود رغبة منه في مزيد من المتاع ؟ وجعل ذلك كله هو " العبادة " التي خلقه من أجلها على سبيل الحصر ، المعبر عنه في الآية الكريمة بالنفي والاستثناء : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) وهما أقوى أدوات الحصر في اللغة العربية . ثم قدر سبحانه أنه من استجاب لهذه العبادة - بمعناها الواسع الشامل - فإن له الجنة خالدا فيها ، ومن اعرض وعصى واتبع هواه فإن له جهنم خالدا فيها .
تلك هي قصة الإنسان من مبدئه إلى منتهاه . . وهي التي تحدد له كل شيء في حياته منذ يبلغ سن التكليف إلى أن يلقى الله .
وهي التي تحدد له كذلك مفهوم " الحضارة " التي ينبغي أن يسعى إلى إقامتها .
إنها ليست مقصورة على العمارة المادية للأرض - وإن كانت تشملها - إنما هي على وجه التحديد : عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني . وعندئذ فقط تصبح محققة لغاية الوجود البشري ، لأنها عندئذ تدخل في مفهوم العبادة الواسع الذي تشمله الآية الكريمة :
( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ ... ) (2) .
والمنهج الرباني هو هذا الدين !
( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ ) (3) .
( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (4) .
ومن ثم فالدين هو الحضارة . . والحضارة هي الإسلام !
وهذا هو الذي فهمه المسلمون وهم يقيمون أروع حضارة في تاريخ البشرية . . الحضارة التي حررت " الإنسان " من العبودية لغير الله . من الجهل والخرافة . من الأنانية والتسلط . من العبودية للهوى والشهوات . من الظلم في جميع أشكاله : السياسية والإِقتصادية والاجتماعية . . ظلم النفس وظلم الآخرين . والتي حررت المرأة وحررت العبيد ، ورفعت الناس إلى المستوى اللائق بالإنسان .
وهي فوق ذلك التي حوت العلم النافع ، وظلت تعلمه للبشرية عدة قرون ، سواء في مجال العلوم الشرعية أو العلوم الدنيوية التي برعت فيها الأمة الإِسلامية يوم كانت تتمسك بدين الله .
* * *
المعيار إذن هو الدين ! هو الإسلام ! لأنه هو الذي يحدد غاية الوجود البشري ، ويحدد من ثم شكل النشاط الذي يحقق تلك الغاية على أحسن وجه . . وتلك هي الحضارة الحقة اللائقة بالإنسان . .
ما بال بعض " المسلمين " إذن يزوون وجوههم وقلوبهم وأفكارهم عن الحضارة الحقة والمعيار الحق ، ليتخذوا المعيار المختل الذي ابتليت به أوربا لظروفها الخاصة هناك ؟!
لكي نحسن الظن بهم نقول إن واقع المسلمين اليوم ، السيئ غاية السوء ، هو الذي لوى أعناق هؤلاء عن المفهوم الصحيح للحضارة ، فاتخذوا بدلا منه معيار أوربا ، الذي يصور الدين معوقاً عن الحضارة ، وينادي بنبذ الدين لكي تتقدم الحياة .
ولكنا مهما أحسنّا الظن بهم لا نستطيع أن نعتذر عنهم !
وكيف نعتذر عن قوم يسمعون كلام الله فيزورون عنه ، ويقولون : سنتخذ المعيار الغربي بدلا من كلام الله ؟! .
واقع المسلمين اليوم سيئ لا بسبب تمسكهم بالدين ، بل بسبب بعدهم عن الدين . ولهذا فهم غير متحضرين . ويوم كانوا يعرفون دينهم المعرفة الحقة ، ويتمسكون به على بصيرة كانوا هم الأمة المتحضرة في الأرض . وسبيلهم إلى الحضارة اليوم أن يعودوا إلى دينهم ، فيجدوا فيه كل مقومات الحضارة ، وأولها معرفة الله وعبادته ، واتباع ما أنزل الله .
إن التخلف العلمي والمادي والحربي والسياسي والاقتصادي والأخلاقي ، الذي يشكل في مجموعه " التخلف الحضاري " ليس هو الداء الاصيل في هذه الأمة ، كما يتصور الذين يفهمون أن نقل حضارة الغرب إلى الشرق هو الذي سيخلص الأمة من تخلفها ، وينشئها نشاة جديدة !
إن هذا التخلف بكل فروعه وأشكاله إنما هو نتيجة لتخلف العقيدة في نفوس المسلمين . لأن هذه العقيدة هي التي منحت المسلمين التقدم العلمي والمادي والحربي والسياسي والاقتصادي والأخلاقي . . يوم كانوا مؤمنين حقا بهذا الدين .
فالذين يتخذون واقع المسلمين السيئ ذريعة لتنحية الشريعة الإسلامية ، هم فوق هزيمتهم الروحية والفكرية أمام الغرب ، جاهلون بحقائق التاريخ ، بالإضافة إلى جهلهم بالسنن الربانية التي تحكم حياة البشر على الأرض .
* * *
__________
(1) يلاحظ أنه حين تكون الشهوة عنيفة يرد قوله تعالى : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا ) [ سورة البقرة : 187] لأن القرب لا يؤمن معه الزلل أما الدوافع التي يؤمن الزلل فيها فيجيء في شأنها ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا ) [ سورة البقرة : 229 ] .
(2) سورة الأنعام [ 162 - 163 ] .
(3) سورة آل عمران [ 19 ] .
(4) سورة آل عمران [ 85 ] .(3/214)
يقال فيما يقال إن الحدود في الشريعة الإسلامية مظهر " غير حضاري " ! إن كان يناسب البيئة البدوية التي نزل فيها القرآن ، فهو لا يناسب البيئة المتحضرة التي يعيش فيها سكان العالم الحديث ! ما أفظع أن تقطع يد السارق ! ما أفظع أن يرجم الزاني ! إنما السجن هو العقوبة المهذبة اللائقة بالحضارة ! أو إن شئتم . . فلا عقاب !
ويقال كذلك فيما يقال : إن الشريعة الإسلامية تظلم المرأة وتأبى عليها ما منحته إياها الحضارة الحديثة من الحريات والحقوق !
وما بنا أن نعيد كلاما قلناه من قبل ونحن نستعرض قضية التطور .
إنما نقول إن هذه الشريعة هي التشريع الوحيد في الأرض ، الذي أخذ موضوع الجريمة والعقاب من كل زواياه في آن واحد .
إن الإسلام لا يبدأ بتقرير العقوبة ولا بتوقيع العقوبة .
إنما يبدأ بوقاية المجتمع من الجريمة ، بالإحاطة بمنابعها قبل أن تنبع .
وأول إحاطة هي بالقلب البشري ذاته ، منبع الخير في الإنسان إذا صلح ، ومنبع الشر فيه إن فسد : " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب " (1) .
ويوجه الإسلام لهذا القلب جهده الأول والأكبر ، لينقيه ويصفيه ويربطه بالله جل شأنه من خيطي الخوف والرجاء :
( وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ) (2) .
والاسماء والصفات التي وردت في كتاب الله ، وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، نزلت لتربية هذا القلب وربطه بالله ، فهي تحيط بالقلب البشري في جميع أحواله وجميع تصرفاته . إن تَطَلَّعَ إلى شيء فكل شيء بيد الله . وإن خاف من شيء فكل شيء بيد الله . هو الرزاق . هو المهيمن . هو المدبر . هو الذي بيده مقاليد كل شيء . وهو الغفور الرحيم . وهو الجبار المتكبر . وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده . منه المنشأ وإليه المصير .
وحين يتربى القلب على هذه الصورة فهو لا يتجه أصلا إلى الجريمة ، لأنه يخاف مقام ربه فينهى النفس عن الهوى . ولأنه يشعر بالقناعة بما بين يديه من فضل الله ، فإذا رغب في الزيادة فعند الله المزيد .
ولا نقول إن التربية الإِسلامية تحول الناس إلى ملائكة ، وتنزع نوازع الشر من نفوسهم فلا يعود في قلوبهم غل ولا حقد ولا غضب ولا سخيمة . . فذلك لا يتحقق إلا في الجنة :
( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (3) .
إنما نقول على يقين : إن المجتمع الإسلامي - حيثما وجد مجتمع إسلامي حق - هو أقل مجتمعات الأرض جريمة . وإن العامل الأول في ذلك هو هذه التربية التي تربط القلب بالله ، يحبه ويخشاه .
والإسلام مع ذلك نظام واقعي ، لا يفترض في الناس المناعة والجو موبوء بالجراثيم . إنما يكافح الجرثومة في ذات الوقت الذي يربي فيه مناعة القلوب .
فأما السرقة فجرثومتها الجوع والفقر . ويسعى النظام الإِسلامي إلى مكافحة الجوع والفقر بتشريعاته وتنظيماته وتوجيهاته جميعا حتى لا يوجد في الأرض جائع يضطر إلى السرقة بسبب الجوع .
وأما الزنا فجرثومته الفتنة والإثارة والتبرج والخلاعة ، والفراغ من القيم الجادة التي تستوعب مشاعر الناس وطاقاتهم ، والترف والترهل . . والإسلام يمنع ذلك كله ويحاربه ، وفي ذات الوقت يدعو إلى التعجيل بالإحصان - بالزواج - ويدعو إلى تيسيره ، لكي تأخذ الأمور منطلقها الطبيعي ولا يحتاج أحد إلى الجريمة .
وكذلك في بقية الحدود . . يسعى النظام الإسلامي إلى الإحاطة بمنبع الجريمة قبل أن يلوث الجو بالجراثيم .
ومع ذلك ينظر الإسلام في كل حالة مفردة : هل ارتكب الجريمة مرتكبها وهو معذور ؟! فإن قامت الشبهة فإن الإسلام يدرأ الحد بالشبهة . ولا يوقع الحد إلا عند التيقن من أن مرتكب الجريمة غير معذور . وهذا هو تصرف عمر رضي الله عنه حين أوقف حد السرقة في عام الرمادة ، عام الجوع . وحين جيء له بغلمان سرقوا ناقة فلم يقم عليهم الحد ، بل ألزم سيدهم أن يعوض صاحب الناقة بضعف ثمنها عقوبة له على تجويع غلمانه . وقال له : والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم فتجيعونهم ، حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه لحل له ، لقطعت أيديهم . فإذ لم أفعل فلأغرمنك غرامة توجعك ! ثم التفت إلى صاحب الناقة فقال : بكم أريدت منك ناقتك ؟ قال : بأربعمائة ، فقال لابن حاطب ، صاحب الغلمان ، اذهب فأعطه ثمانمائة ! (4) .
والحد في ذاته أداة للوقاية من الجريمة . فإن شدته الملحوظة قد قصد بها تخويف من تحدثه نفسه بارتكاب الجريمة - وهو غير معذور - فيفكر مرات ومرات قبل أن يقدم على التنفيذ .
ثم إن الإِسلام حين يوقع الحد على مرتكب الجريمة - غير المعذور - لا ينبذه من أجل جريمته . إنما الحد كفارة للتطهير :
" . . فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة " (5) .
لذلك يرد له الإسلام صفحته بيضاء نقية ، فلا يلمز ولا يغمز ولا يغتاب ، ولا توصد في وجهه الأبواب حتى لا يعود إلى الجريمة من جديد . .
أي تشريع في الأرض كلها - قديمها وحديثها - أحاط بموضوع الجريمة والعقاب هذه الإحاطة ، فشمله من كل جوانبه ، ووضع له التشريع الأمثل كما فعلت شريعة الله ؟ ومع ذلك يعدلون ؟!
( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (6) .
__________
(1) متفق عليه .
(2) سورة الإسراء [ 57 ] .
(3) سورة الأعراف [ 43 ] .
(4) من رواية الطبراني .
(5) أخرجه البخاري .
(6) سورة المائدة [ 50 ] .(3/215)
أيهما خير ؟ مجتمع نظيف لا تحدث فيه الجريمة إلا شذوذا يستنكر ، أم مجتمع يعج بالجريمة ، تعمل كل الأجهزة على منعها أو حصرها فتتزايد كل يوم ؟!
وأيهما هو المجتمع المتحضر ؟ المجتمع الذي ينادي فيه رئيس الدولة شعبه فيقول : لا يخرج أحدكم وحده بعد الغروب ، ولا يحملن في جيبه أكثر من ثلاثين دولاراً لكي لا يتعرض للمجرمين وقطاع الطريق (1) ، أم ذلك المجتمع الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه " (2) .
* * *
وحديث المرأة والحضارة حديث يطول (3) . ولكنا نختصره في كلمات .
لقد كانت المرأة مهينة حقًّا في المجتمع الغربي ، لا تعامل على أنها إنسانة ، وتحرم من كثير من الحقوق . ويتجادل بعض الفلاسفة في شأنها : هل لها روح أم ليس لها روح ؟ وإن كان لها روح فهل هي روح إنسانية أم حيوانية ؟ وإن كانت روحاً إنسانية فهل هي من نفس مستوى روح الرجل أم أقل !
وكانت للرهبانية التي ابتدعتها الكنيسة أثرها في نظرة المجتمع إلى المرأة على أنها أحبولة الشيطان ، التي ينبغي أن يحجر عليها كل الحجر ، لتضييق منافذ الشيطان ، ويُزْرَى بها كل زراية لكي ينخنس الشيطان في داخلها ، ولا يخرج إلى قلوب الرجال في الطريق .
وثارت المرأة - أو أثيرت لأمر يراد - وتحررت - أو تحللت - من جميع القيود . . فخرجت الفتنة هائجة في الطريق ، كما هو مشهود في الغرب . مما لا يحتاج إلى بيان .
ولكن عبرة الحديث أن المرأة في الغرب قد بدأت تتنبه أخيرا إلى أن الرجل قد أطلقها ليعبث بها وبكرامتها وإنسانيتها ، ويستغلها تجارة رابحة عن طريق إثارة الغرائز وتهييج الشهوات . كما أطلقها ليتخفف من شطر من تبعاته وتكاليفه ، ويحمّلها للمرأة " المتحررة " ! فبدأت بعض " العاقلات " يدعون المرأة إلى الرجوع إلى مملكتها التي هجرتها - إلى بيتها - وإلى مهمتها الكبرى التي أهملتها وهي شاردة تبحث عن وسائل البهجة والمتاع ، وهي رعاية النشء الذي تشرد وضاع حين فقد البيت المستقر ، الأم المتفرغة . . كما تبين ذلك من خلال لقاءات قام بها التليفزيون الفرنسي على مدى عام كامل مع فريق من النساء العاملات ، اللواتي يحتل معظمهن مراكز مرموقة في المجتمع ، فرد أكثرهن بأن أمنيتهن الكبرى أن يعدن إلى البيت ويتركن ما حُمِّلْنَه من أعباء ! كما قامت مظاهرة نسائية في أمريكا احتجاجا على عرض ملابس المرأة الداخلية في واجهات المحلات على أجساد " المانيكان " لأن فيه إهانة للمرأة وتدنيساً لكرامتها .
والإسلام هو الذي أعطى المرأة كرامتها الإنسانية ، وحررها من ظلم الجاهلية وصانها في الوقت ذاته من التبذل الذي سيقت إليه المرأة الغربية ثمنا للحصول على حريتها . وما تزال المرأة في بعض بلاد الغرب " المتحضر " لا تستطيع أن تتعامل تعاملاً مباشراً في شئون من شئون الحياة أعطاها الإسلام حق التعامل المباشر فيها ، ولا تزال تفقد اسمها حين تتزوج ويصبح اسمها " مدام فلان " ! التي يقال إن أصلها التاريخي هو الملكية التامة وحرية التصرف (4) ! .
أما الإسلام فيقرر مساواة الرجل والمرأة في الإنسانية ، وفي الجزاء في الآخرة :
( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ) (5) .
ولا ينظر الإسلام إلى المرأة المؤمنة على أنها شيطان ، وإنما هي شريكة في بناء المجتمع على أسسه القويمة :
( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (6) .
والذي يريده " الحضاريون التطوريون " في الحقيقة ليس هو تحرير المرأة ، ولا الحفاظ على كرامتها ، إنما هو إشاعة الفاحشة في المجتمع ، لينتهبوا من اللذات ما يشاءون بلا حاجز ولا رقيب . وأولئك هم الشياطين ! :
( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (7) .
أما ما يشيع في المجتمع المسلم اليوم من مظاهر جاهلية تجاه المرأة فعلاجه العودة إلى المنهج الرباني الصحيح ، وليس علاجه الانفلات مع الحضاريين التطوريين ، الذين يسعون في الأرض فسادا والله لا يحب الفساد .
=====================
المبحَث الخامِس
شُبهَة عَدَم إِمْكَانِ تَطبيْقِ الشَّريعَةِ بِسَبَبِ وجُودِ الأَقليَّات غَير
المُسْلِمَةِ
__________
(1) من نداء وجهه الرئيس ريجان ، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ، إلى شعبه وقت توليته ، ونشرته الصحف في حينه .
(2) أخرجه البخاري .
(3) انظر إن شئت " مذاهب فكرية معاصرة " فصل " دور اليهود " .
(4) تقول بعض المعاجم اللغوية الأوربية إن الأصل في كلمة " مدام " Madame هو My Domain أي ممتلكات الإنسان التي يملك السلطة الكاملة عليها ! ولا نملك نحن إثبات هذا المعنى ولا نفيه ، وإن كان واقع الحياة الأوربية في العصور الوسطى يظاهره !
(5) سورة آل عمران [ 195 ] .
(6) سورة التوبة [ 71 ] .
(7) سورة النور [ 19 ] .(3/216)
معنى هذه الشبهة بعبارة صريحة أن الأقلية تملك منع الأغلبية من ممارسة دينها !
فمتى كانت هذه في التاريخ كله . . وعلى أي أساس تقوم ؟!
متى كان من حق أي أقلية في التاريخ البشري كله أن تتحكم في الأغلبية ، وتقول لها لا تمارسي دينك الذي تؤمنين به لأن في ذلك عدوانا على كياننا ، أو عدوانا على حقوقنا ؟!
ولنأخذ حال الأقليات المسلمة في بلاد الأرض في واقعنا المعاصر .
إن أقلية واحدة من الأقليات المسلمة في الأرض لم تقم - بداهة - بمطالبة الأكثرية الحاكمة بالكف عن ممارسة دينها ، مجاملة لوجودها بين ظهرانيها . .
ولكنا نريد أن نفترض هذا المستحيل ! فكيف يكون رد الفعل لدى الأكثريات الحاكمة في العالم ، لو تقدمت أقلية مسلمة بمثل هذا الطلب العجيب ؟!
إني أتصور رد الفعل الفوري في آسيا وأفريقيا مذابح للمسلمين تسيل فيها الدماء كالأنهار . وأتصور رد الفعل في العالم " الحرّ ! " مظاهرات صاخبة تطالب بإخراج المسلمين من البلاد !
وليس هذا التصور خيالا بلا حقيقة .
ففي الهند تقوم المذابح بالفعل للمسلمين الهنود ، لا لأنهم - معاذ الله - تقدموا بطلب جنوني مثل هذا الطلب ، إنما فقط لأنهم مسلمون ! فمجرد أنهم مسلمون يثير عليهم حفيظة الوثنيين الهنود عباد البقر ، فيهجمون عليهم ، فيقتلون من يقتلون منهم ، ويحرقون عليهم دورهم ، ثم ينصرفون آمنين لا ينالهم عقاب !
وفي الفلبين جاء النصارى فأخرجوا المسلمين من أرضهم الغنية ، واضطروهم إلى أرض جدبة مجهدة ، ثم لم يكفوا حتى هذه اللحظة عن مضايقتهم ليخرجوهم مما بقي في أيديهم من الأرض ، وتُوَجَّه القوات النظامية لقتالهم بوصفهم " متمردين " . . متمردين بدينهم ! أي بكونهم مسلمين (1) !
وفي العالم الشيوعي - في روسيا والصين - جرت المذابح الجماعية في أبشع صورها ، وقتل الملايين من الناس جهرة لمجرد أنهم مسلمون ، وسميت تلك المذابح الجماعية " حركات تطهير " !
أما إفريقيا فلا يقل حالها سوءا عن ذلك .
ولنأخذ نموذجا من الحبشة .
يظن كثير من الناس أن المسلمين أقلية في الحبشة . وهذا الظن ذاته له دلالة ! فلولا الخسف الذي يحيط بالمسلمين هناك ، والذل الذي يرهقهم ، ما توهم أحد أنهم أقلية ، في حين أنهم يبلغون خمسة وستين في المائة من مجموع السكان ( وذلك قبل ضم أريتريا إلى الحبشة وأغلبيتها الساحقة من المسلمين ) ! ثم سعت الحبشة التي يحكمها النصارى رغم أغلبيتها المسلمة ، سعت إلى ضم أريتريا المسلمة لإذلال المسلمين ، وإجلائهم عن دينهم وعقيدتهم ، فقتلت منهم مئات الألوف ، وما زالت تقتل ، وشردت الملايين . . لمجرد كونهم مسلمين !
وأما في الحبشة ذاتها " فالأغلبية " المسلمة محرومة من حقوقها السياسية حرماناً كاملاً ، فمن حقها أن تكون هي الحاكمة بحكم أنها هي الأغلبية ، فلا تمكّن من ذلك ، ثم لا يكون منها وزير في الحكم ، ولا رجل في منصب حيوي . ولا يدرس لأبنائهم الإسلام في مدارس الدولة التي يشرف عليها النصارى ، ولا يتاح لهم أن يفتحوا مدارس لتعليم أبنائهم القرآن والدين ، إلا " الكتاتيب " التي تظل الدولة ترهقها بالضرائب حتى تغلقها ، ويحرّم على الأحباش المسلمين تلقي المعونات المالية من الخارج للقيام بفتح المدارس الإسلامية لتعليم المسلمين وتثقيفهم ثقافة إسلامية .
كل ذلك وهم أغلبية . . فكيف لو كانوا أقلية . . وكيف لو نادوا - وهم أغلبية - بمنع الأقلية النصراينة الحاكمة من ممارسة دينها ؟ كيف تكون المذابح هناك ؟!
وكانت زنجبار دولة مسلمة في أفريقيا ، فضاق النصارى بوجودهم ، لمجرد كونهم مسلمين ، فهجموا عليهم ذات يوم من الأيام السود ، فذبحوا ثلث السكان ذبحاً ، وضموا من بقى حياً - مع الهوان والذل - في دولة حكمها في يد النصارى ، سميت " تنزانيا " بعد أن كان اسمها " تنجانيقا " إثباتا لذكرى اغتيال زنجبار ، بإبقاء حرفين من اسمها في اسم الدولة الجديدة !! (2) .
كما أن أفريقيا مملوءة بالدول ذوات الأغلبية المسلمة ، التي يحكمها النصارى - وهم الأقلية - ظلما وعدوانا على مسمع من " العالم الحر ! " بل بتحريض وسند من ذلك العالم " الحر ! " .
أما العالم الحر ذاته فاسمع عنه الأعاجيب !
__________
(1) كانت الفلبين منذ قرون طويلة أرضاً إسلامية ، ثم طمعت الصليبية في ضمها إليها ، وعرض " ماجلان " على البابا أن يقود حملة تتولى ضم الفلبين إلى ملك النصارى فعارض البابا في ذلك ثلاث مرات لعدم ثقته بإمكان ذلك لقوة شكيمة المسلمين وتمكنهم في الفلبين ، فلما ألح ماجلان ، وزعم قدرته على تنفيذ مقترحه وافقه البابا في المرة الرابعة ، فصحب حملته الصليبية التي ندرس نحن لأبنائنا - بتأثير الغزو الفكري - أنها كانت رحلة علمية استكشافية ، ونزل ماجلان على إحدى الجزر الفليبينية المسلمة وتجرأ فرفع على أرضها شارة الصليب ، فقتله المسلمون ، وندرس نحن لأبنائنا - بتأثير الغزو الفكري كذلك - أن " المتبربرين " في الفلبين قتلوه لأنهم لم يقدروا رحلته العلمية الاستكشافية !!
(2) التاء والنون في اسم الدولة الجديدة " تنزانيا " يرمزان إلى تنجانيقا ، والزاي والنون يرمزان إلى زنجبار ، وبقية الأحرف وهي الياء والألف الأخيرتان هما من دواعي " توليف " الاسم الجديد ، ولكنهما مشتقان من أصل " تنجانيقا " ولا صلة لهما بزنجبار .(3/217)
تقوم في فرنسا اليوم دعوة متزايدة يتزعمها " لوبان " أحد المرشحين لتولي الحكم في فرنسا ، تنادي بطرد المسلمين من فرنسا ، وارتكبت تلك الحركة أعمالا وحشية ، فألقت بخمسة من المسلمين من قطار " المترو " أحياء ، أثناء سير القطار ، فقتلوا على التو . وتهاجم مظاهراتهم المسلمين - والنساء المحجبات خاصة - في طرقات باريس ، مدينة النور ، وإحدى كبريات عواصم " العالم الحر " ! هذا والمسلمون في فرنسا هم الأغلبية الثانية بعد النصارى ، ويبلغ عددهم خمسة ملايين .
وفي بريطانيا تقوم الدولة بحماية الأفّاق الذي كتب كتاب " آيات شيطانية " يسب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وأهل بيته سبا مقذعا ليس فيه شيء من تهذيب " الفن " ولا أدب " العلم " ولا لياقة " الذوق " . . وحين يحتج المسلمون على نشر الكتاب تقول لهم الدولة بعبارة صريحة : تلك قوانيننا " الديمقراطية " فمن لم تعجبه أحوالنا فليخرج من بلادنا . . هذا والمسلمون هم الأغلبية بعد النصارى ولا يقل عددهم عن ثلاثة ملايين ، وفيهم عدد غير قليل من البريطانيين الذين دخلوا - طواعية - في دين الإسلام .
كيف إذن لو قامت أقلية إسلامية تنادي بذلك المنكر ، وهو منع الأكثرية الحاكمة من ممارسة دينها لوجود الأقلية المسلمة بين ظهرانيها ؟!
* * *
إنها دعوى منكرة لا سابقة لها في التاريخ !
وقد ظلت الأقليات غير المسلمة تعيش في كنف الدولة المسلمة المطبقة لشريعة الله ثلاثة عشر قرناً كاملة ، لا تشكو ، ولا تفكر في الشكوى ، ولا تجد مبررا للشكوى . . حتى وصل المسلمون إلى حضيض ذلتهم ، فبرزت تلك الدعوى إلى الوجود !
والأقليات غير المسلمة لا تضع الدعوى في صورتها الصريحة بطبيعة الحال - وهي منع الأكثرية المسلمة من ممارسة دينها - لأنها لن تجرؤ على ذلك في البلاد " الإسلامية " مهما وصل استضعاف المسلمين !
إنما ظاهر دعواهم هو تعطيل تطبيق الشريعة فقط ، مع بقاء المسلمين مسلمين ! يمارسون " دينهم " كما يشاءون !
ولعل الدعوى التي ناقشناها في المبحث الأول قد برزت حقيقتها الآن ، وبرزت خلفيتها !
إنه لمثل هذا قيل للمسلمين : أنتم مسلمون ولو لم تطبقوا شريعة الله ! فما دمتم تصلون وتصومون . . أو ما دمتم تقولون لا إله إلا الله فأنتم مسلمون !!
إنه لا إسلام بغير شريعة الله !
وقد ناقشنا هذه القضية في المبحث الأول بما أعتقد أنه يبين وجه الحق في القضية ، ويكفي قوله تعالى :
( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (1) .
وقوله تعالى :
( وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ .. ) (2) .
لا إسلام بغير شريعة الله !
وإن الدين الذي هو عقيدة فقط ، أو عقيدة وشعائر تعبدية ، دون شريعة تحكم تصرفات الناس في الأرض ، لهو دين جاهلي مزيف لم يتنزل من عند الله . .
وما من رسالة سماوية كانت عقيدة فقط ، أو عقيدة وشعائر تعبدية ، دون شريعة تحكم تصرفات الناس في الأرض .
( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) (3) .
فالرسالة التي حملها إلى مدين أخوهم شعيب هي عبادةُ الله وحده بما يتضمنه ذلك من عقيدة وشعائر تعبدية ، وأمرٌ لهم ألا يتصرفوا في أموالهم حسب أهوائهم ، بل يتقيدوا بشريعة الله المنزلة إليهم . وهذا الذي فهمه قوم شعيب واستنكروه منه لكفرهم وجاهليتهم فدمر الله عليهم .
( قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) (4) .
أي : أمن مقتضيات دينك الذي تدعونا إليه أن نترك عبادة آلهتنا التي ورثنا عبادتها عن آبائنا ، وأن تقيد تصرفنا في أموالنا فلا نستطيع أن نتصرف فيها إلا بمقتضى التعاليم التي تحملها ؟! ثم يقولون له في سخرية ظاهرة : من أين لك أيها الحليم الرشيد أن تقيدنا بهذه القيود ؟!
وحين قالوا ذلك : أي رفضوا العقيدة والشريعة كانوا كفاراً ومشركين :
( وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ) (5) .
ونجد في سورة الشعراء سجلاً لمجوعة متتابعة من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم ، كل نبي يأمر قومه أن يعبدوا الله ويطيعوا رسوله ، ثم يذكر لهم رسولهم ما هم واقعون فيه من انحراف في تصرفاتهم الدنيوية ، ويطلب منهم تصحيحها بما يناسب مقتضى إيمانهم بالله ، أي بمقتضى الشريعة المنزلة إليهم من عند ربهم :
__________
(1) سورة النساء [ 65 ] .
(2) سورة النور [ 47 - 48 ] .
(3) سورة هود [ 84 - 85 ] .
(4) سورة هود [ 87 ] .
(5) سورة النحل [ 35 ] .(3/218)
( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ َتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ َإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ َاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ .. ) (1) .
( كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ) (2) .
( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ) (3) .
( كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ .. ) (4) .
فإذا جئنا إلى الرسالات الثلاث الأخيرة نجد عنها حديثا مفصلا في كتاب الله :
( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (5) .
كلا ! لا يوجد دين هو عقيدة فقط ، أو عقيدة وشعائر تعبدية بلا شريعة !
__________
(1) سورة الشعراء [ 123 - 131 ] .
(2) سورة الشعراء [ 141 - 152 ] .
(3) سورة الشعراء [ 160 - 166 ] .
(4) سورة الشعراء [ 176 - 183 ] .
(5) سورة المائدة [ 44 - 50 ] .(3/219)
وإنما جاء المفهوم الغربي " العلماني " للدين ، على أنه علاقة خاصة بين العبد والرب ، محلها القلب ، ولا علاقة لها بواقع الحياة . . جاء من مفهوم كنسي محرف ، شعاره : " أدّ ما لقيصر لقيصر وما لله لله " . ومن واقع عانته النصرانية خلال قرونها الثلاثة الأولى ، حين كانت مضطهدة مطادرة من قبل الإمبراطورية الرومانية الوثنية ، فلم تتكمن من تطبيق شريعتها ، واكتفت بالعقيدة والشعائر التعبدية - اضطراراً - واعتبرت ذلك هو " الدين " . وإن كانت لم تتجه إلى استكمال الدين حين صار للبابوية سلطان قاهر على الأباطرة والملوك ، فظل دينها محرفا لا يمثل الدين السماوي المنزل . فلما جاءت العلمانية في العصر الحديث وجدت الطريق ممهداً ، ولم تجد كبير عناء في فصل " الدين " عن " الدولة " ، وتثبيت " الدين " على صورته الهزيلة التي آل إليها في الغرب ، والذي قال الله فيمن يمارسه على هذا النحو : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) وهي صفات ثلاث تلحق بكل من ينحي شريعة الله عن الحكم ، ويحكم بشرائع الجاهلية .
أما الذين ينفذون بعض الشريعة ويعرضون عن سائرها فقد قال الله فيهم :
( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (1) .
وهذا هو الوضع الذي تريد الأقليات غير المسلمة أن تضع فيه المسلمين في كل الأرض ، أو الوضع الذي ينادي به بعض أفراد الأمة الإسلامية ليضعوا المسلمين فيه ، بحجة وجود الأقليات غير المسلمة في العالم الإسلامي !
أي هوان وصل إليه " المسلمون " حين تهاونوا في دين الله ؟! حين قبلوا شعار العلمانية : الدين لله والوطن للجميع ! بينما الله يقول : ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ .. ) (2) ويقول : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) (3) . والدين كله يعني العقيدة والشعيرة والشريعة كلها سواء !
* * *
ولقد عاشت الأقليات غير المسلمة كما أسلفنا في ظل الدولة الإسلامية المطبقة لشريعة الله ثلاثة عشر قرناً متوالية ، لا تشكو ، ولا تفكر أن تشكو ، ولا تجد مبرراً للشكوى ، لأنها تجد من التسامح الديني ما لا تجده أقلية أخرى في الأرض كلها في جميع التاريخ . واقرأ إن شئت كتابا كاملا في وصف هذا التسامح لمستشرق نصراني هو ت. و. آرنولد T. W. Arnold بعنوان " الدعوة إلى الإسلام The Preaching of Islam " كان مما جاء فيه ( ص51 ) :
" ومن هذه الأمثلة التي قدمناها آنفاً عن ذلك التسامح الذي بسطه المسلمون الظافرون على العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة ، واستمر في الأجيال المتعاقبة ، نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام ، إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة . وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح " (4) .
إن الله قد أعد هذه الأمة إعداداً خاصا لتحكم رقعة واسعة من الأرض بمن فيها من الأقليات غير المسلمة ، التي علم الله أنها ستكون ضمن رعايا الدولة الإسلامية الحاكمة في الأرض .
فكل أمة سابقة أرسل بعدها رسول ، آمنت بالرسول الذي أرسل إليها وكفرت بمن بعده ، وصار في قلبها غلُّ نحو الذين آمنوا بالرسول الجديد ولو كانوا من قومها الأقربين ، واضطهدتهم اضطهادا شديدا بسبب الخلاف في العقيدة
أما هذه الأمة فقد قدر الله لها أن يكون رسولها هو الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم ، الذي لا نبي بعده ولا رسول ، فلم يجعل في قلبها غِلاًّ لأحد . لا لمن قبلها ، لأن رسولها هو سيد البشر جميعاً وسيد المرسلين ، ولا لأحد يأتي بعدها ، لأنه لن تأتي بعدها أمة جديدة . ثم جعل الإيمان بالرسل السابقين جزءا من عقيدتها ، فلم تضطهد أتباعهم ، ولم تظلمهم بسبب الخلاف في العقيدة :
( الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (5) .
ووصى الله الأمة المسلمة بالعدل مع أهل الكتاب ، والقسط لهم ، وأقام الروابط الطيبة يبنها وبينهم :
( فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ .. ) (6) .
__________
(1) سورة البقرة [ 85 ] .
(2) سورة الأنعام [ 162 - 163 ] .
(3) سورة الأنفال [ 39 ] .
(4) ترجمة الدكتور حسن إبراهيم حسن وزميله ، طبع بالقاهرة .
(5) سورة البقرة [ 1 - 5 ] .
(6) سورة الشورى [ 15 ] .(3/220)
( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ) (1) .
وجعل الأمة المسلمة مسئولة عن حماية كنائسهم ومعابدهم ، وإتاحة الفرصة لهم لأداء عبادتهم فيها ، وتركت لهم أمورهم الشخصية تحكمها شريعتهم . لذلك عاشوا في ظل الدولة الإسلامية أهنأ عيش تحلم به أقلية في الأرض . وقديماً قال أهل الشام لأبي عبيدة بن الجراح : " أنتم - ولستم على ديننا - أرأف بنا من أهل ديننا (2) . وحين كانت أوربا تضطهد اليهود في العصور الوسطى وتطاردهم على أساس اعتقادهم أنهم صلبوا المسيح عليه السلام ، لم يجدوا صدراً رحباً يؤويهم إلا الدولة الإسلامية في الأندلس ، فلما أخرج المسلمون من الأندلس بعد المذابح البشعة التي ارتكبتها محاكم التفتيش في حقهم هاجر اليهود معهم إلى المغرب ، لينعموا بالعيش الهانئ في ظل الدولة الإسلامية هناك .
وعاشت الأقليات المختلفة في ظل الدولة العثمانية أربعة قرون تنعم بالطمأنينة والحماية ، وتمارس نشاطها كله بلا تحريج عليها ، حتى جاءت روسيا وفرنسا وبريطانيا تثير الأقليات ضد الدولة لتفجرها من داخلها .
قارن هذه الحياة الهادئة المطمئنة للأقليات في ظل الدولة الإسلامية بأحوال الأغلبية المسلمة المقهورة في الحبشة فضلاً عن الأقلية المسلمة في الهند ، والأقلية المسلمة في الفلبين ، وغيرها من الأقليات المسلمة في أرجاء الأرض .
أفبعد ذلك يقول قائل إن من حق الأقليات غير المسلمة أن تمنع الأكثرية المسلمة من ممارسة دينها كما أمرها الله ؟!
وأي مصيبة أصابت " المسلمين " فجعلت أفراداً منهم ، يحملون أسماء مسلمة ، ينادون بعدم تطبيق الشريعة الإسلامية من أجل وجود أقلية غير مسلمة بين ظهرانيهم ، فكأنهم يقولون : اكفروا بدينكم أيها المسملون ، لكي تمارس الأقليات غير المسلمة دينها على التمام !!
==================
المبْحَث السَّادسْ
شُبْهة عَدَم إمْكَانِ تَطبيْق الشَّريعَةِ ِبسَبَبِ الدّولِ العظمَى وَضَغْطِها عَلى العَالم الإِسْلامِيِّ
تبدو هذه الشبهة من بين الشبهات جميعاً أكثرها " واقعية " . . فالدول التي نحيت فيها الشريعة الإسلامية نتيجة التدخل العسكري لأعداء الإسلام ، ما تزال عاجزة عن السيطرة الحقيقية على شئونها وإن كانت قد استقلت ظاهرياً ، بمعنى خروج الجيوش الغازية من أراضيها . فما تزال واقعة تحت السيطرة السياسية أو الاقتصادية لهذه الدولة أو تلك من القوى العالمية التي تسمى " الدول العظمى " ، وما تزال في حالة من الضعف السياسي والاقتصادي والحربي والعلمي والمادي ، تجعل خضوعها لسيطرة تلك القوى أمراً واقعاً ، شئناه أم أبيناه .
ولهذه القضية - في دراستنا هذه - وجهان :
الوجه الأول هو الإجابة على هذا السؤال : لماذا صار العالم الإسلامي إلى هذا الوضع المهين إزاء القوى العالمية المتسلطة ؟
والوجه الثاني هو الإجابة على هذا السؤال : هل حقاً لا نملك أن نصنع شيئاً إزاء ذلك التسلط العالمي على الأمة الإسلامية ؟
فإذا تبينّا هذين الوجهين ، فسيتبين لنا مدى الواقعية الحقيقية لهذه الشبهة من بين الشبهات .
* * *
فأما السؤال الأول فما بنا هنا أن نتكلم عنه بإسهاب (3) . وإنما نختصر الإجابة عنه أشد الاختصار ، فنقول إن السبب في هذا الوضع المهين هو تهاوننا التدريجي المتزايد في التمسك بحقيقة هذا الدين ، وانحسار مفاهيمه كلها عن حقيقتها التي نزلت بها من عند الله ، واتخاذها صورة غريبة على هذا الدين ، بدءاً من مفهوم لا إله إلا الله ، إلى مفهوم العبادة ، إلى مفهوم القضاء والقدر ، إلى مفهوم الدنيا والآخرة ، إلى مفهوم الحضارة وعمارة الأرض ، إلى مفهوم الجهاد ، إلى مفهوم التربية ، إلى مفهوم الأخلاق ، إلى مفهوم العلم . . إلى مفهوم كل شئ في هذا الدين ! (4)
لا إله إلا الله تحولت إلى كلمة تنطق باللسان ، وقد كانت منهج حياة كامل !
العبادة انحصرت في الشعائر التعبدية وقد كانت شاملة لكل عمل وكل فكر وكل شعور في حياة المؤمن !
عقيدة القضاء والقدر كانت قوة دافعة رافعة ، فصارت قوة مثبطة مخذلة !
الدنيا والآخرة كانتا في حس المسلم حسية واحدة وطريقاً واحداً أوله في الدنيا وآخره في الآخرة ، فأصبحت معسكرين متضادين : إما أن تعمل للدنيا وإما أن تعمل للآخرة . . ولا يجتمعان !
الحضارة كانت مفهوماً شاملاً يشمل العقيدة والقيم والأخلاق والنظم والتنظيمات والأفكار والنشاط المعمر للأرض ، فصارت مفوهاً سطحياً مادياً خلواً من القيم الحقيقية التي تتميز بها حياة الإنسان المسلم !
الجهاد كان حركة بانية لإزالة الجاهلية من الأرض ، وإحلال المنهج الرباني محلها ، والتمكين لدين الله في الأرض ، فانحصر في الجهاد " الدفاعي " ثم انحسر على يد الصوفية إلى جهاد النفس وترك الفساد يعج في الأرض !
التربية كانت تربية شاملة هدفها تكوين المسلم المؤمن العالم بدينه ، المتخلق بأخلاقياته ، المجاهد في سبيله ، فصارت تربية تقليدية تخرّج شخصيات سلبية وإمعات لا دور لها في شيء إيجابي ، ولا قدرة لهم على البناء ، ولا على مواجهة مستجدات الحياة .
__________
(1) سورة المائدة [ 5 ] .
(2) انظر " الدعوة إلى الإسلام " ( سبقت الإشارة إليه ) ص 54 .
(3) انظر إن شئت : " واقعنا المعاصر " فصل " آثار الانحراف " .
(4) انظر إن شئت : " مفاهيم ينبغي أن تصحح " .(3/221)
الأخلاق كانت معنى شاملاً يشمل أخلاق السياسة وأخلاق الاقتصاد وأخلاق الاجتماع وأخلاق الفكر وأخلاق الأدب وأخلاق الأسرة وأخلاق الجنس . . . فانحصرت في بعض ألوان السلوك دون بعض ، وتحولت إلى تقاليد خاوية من الروح !
العلم كان شاملاً للعلوم الدينية والعلوم الدنيوية من طب وفلك ورياضيات وفيزياء وكيمياء . . الخ ، فانحصر في العلوم الدينية ، وانحصر في حدود مذهبية ضيقة ، وعصبية مذهبية سقيمة ، وتقليد فكري لا يبدع !
ولما حدث ذلك كله ، نتج عنه التخلف العلمي والمادي ، والحضاري ، والسياسي ، والحربي ، والاقتصادي ، والأخلاقي ، الذي اجتذب الأعداء من كل صوب ليحاولوا القضاء على الإسلام !
" يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا : أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال : إنكم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم ، وليقذفن في قلوبكم الوَهْن . قالوا : وما الوهْن يا رسول الله ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت " (1) .
فكون المسلمين اليوم مستضعفين . . حقيقةٌ ، ولكنها حقيقة يقع وزرها على المسلمين أنفسهم ، ولا تصلح عذراً لمجموع الأمة يوم القيامة ، اليوم الذي قال الله بشأنه : ( بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ) (2) .
وقد يقول المسلمون - وهم صادقون - إن كيد الأعداء شديد .
ولكن ينبغي أن نذكر أن هذا الكيد ليس ابن اليوم ، وليس ابن الأمس القريب . . إن عمره على وجه التحديد أربعة عشر قرناً ونيفاً ، أي منذ نزل هذا الدين . . ولنعد إلى كتاب الله نجد وصفاً دقيقاً لهذا الكيد من كل الأطراف الحاقدة على لا إله إلا الله ، والأمة التي اقامت لا إله إلا الله واقعاً معاشاً في الأرض ، أولئك هم اليهود والنصارى والمشركون والمنافقون . ما تغير موقفهم منذ أربعة عشر قرناً ، وما تغيرت الأسباب التي دعتهم إلى موقفهم :
( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) (3) .
( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ) (4) .
( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ) (5) .
كلا ! ليس الكيد ابن اليوم ، ولا ابن الأمس القريب . . فهو قديم قديم ، وإن كانت بعض الوسائل قد تغيرت ، فإن كل جيل من البشر يستخدم في صراعاته الأدوات المتاحة له في جيله . . وإنما الذي تغير حقا هو موقف الأمة الإسلامية من هذا الكيد ، وليس الكيد في ذاته ولا وسائل الكيد .
إن الله ينبه الأمة في كتابه المنزل إلى أعدائها ، وإلى مواقفهم ، ووسائلهم ، وتدبيراتهم الظاهرة والخفية ، ثم يقول لهم : ( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ) (6) .
هذه إذن هي القضية . .
إنهم لن يكفوا عن الكيد أبداً ما دامت الأمة المسلمة قائمة ، وما دامت هناك فرصة للنيل منها . . ولكن هناك أداة ربانية ترد كيدهم في نحورهم ، فلا يضر الأمة بشيء : ( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) (7) .
فما تلك الأداة الربانية التي ترد الكيد فيتراجع خاسئاً وهو حسير ؟ أهي تعويذة تتلى أو تميمة تعلق على الصدر ؟ كلا ! إنها عمل إيجابي ضخم تلخصه هاتان الكلمتان : تصبروا . . وتتقوا .
وحين انحرف فهم المسلمين لكل مفاهيم الإسلام ، انحرف في حسهم كذلك مفهوم الصبر والتقوى ، فتحولا إلى سلبية ليس فيها غناء .
ولنعد إلى سياق الآيات لنفهم المقصود بهاتين الكلمتين العظيمتين .
إن الأعداء يريدون أن يُجْلُوا المسلمين عن دينهم ، ويردوهم من بعد إيمانهم كفاراً . . فما الصبر المطلوب إذاً ؟
إنه الصبر على تكاليف هذا الدين . والصبر في مواجهة الأعداء . وثبات المسلمين على دينهم مهما فعل الأعداء لإجلائهم عنه . .
وما التقوى ؟ إنها تقوى الله . أي اتقاء غضب الله وسخطه . فبأي شيء يتقى غضب الله وسخطه ؟ هل من سبيل إلى ذلك إلا طاعته فيما أمر به والانتهاء عما نهى عنه ؟!
هذا هو الصبر وهذه هي التقوى اللذان يصدان الكيد فلا يضر . وهما كما نرى قوتان إيجابيتان هائلتان ، متينتان كالحصن ، لا يجد الأعداء عندهما ثغرة للنفاذ إلى الأمة وإلحاق الضرر بها . والضرر المقصود هنا ليس هو الأذى الذي يصيب الأفراد ، إنما هو الضرر الذي يلحق بالدين ، الذي هو عماد هذه الأمة وكيانها الحقيقي . أما الأذى فهو يقع ، ولكنه لا يؤثر في كيان الأمة ، ولا يحولها عن طريقها : ( لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ) (8) .
وكذلك كان حال الأمة مع أعدائها يوم كانت قائمة بالشرط . . كانت ممكّنة في الأرض . وكانت هي الغالبة وهي المستعلية . وكان كيد الأعداء مردوداً إلى نحورهم كما ارتد أيام الحروب الصليبية الأولى (9) ، وأيام حروب التتار ، وغيرهم وغيرهم من الأعداء .
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود .
(2) سورة القيامة [ 14 - 15 ] .
(3) سورة البقرة [ 120 ] .
(4) سورة البقرة [ 217 ] .
(5) سورة البقرة [ 107 ] .
(6) سورة آل عمران [ 120 ] .
(7) سورة آل عمران [ 120 ] .
(8) سورة آل عمران [ 111 ] .
(9) تميزاً لها عن الحروب الصليبية الثانية ، التي تدور منذ قرنين أو ثلاثة وما تزال دائرة .(3/222)
فإن قلنا اليوم إن الكيد شديد ، فهذه حقيقة ، ولكنها حقيقة لا تعفي الأمة من مسئوليتها أمام الله ، يوم يكون الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره .
* * *
تحدثنا عن الوجه الأول من القضية . ومعرفته ضرورية لنا ، لنتعرف على طريق الخلاص . فإن الطبيب إذا لم يتعرف على حقيقة الداء ، والأسباب التي أدت إليه ، فلن يصف الدواء الحقيقي الذي يؤدي - بإذن الله - إلى الشفاء .
أما الوجه الثاني فهو الرد على هذا السؤال : أحقاً لا نستطيع شيئاً إزاء كيد الأعداء ؟!
إن أحداً من الجادين لا يقول ذلك . وإن اختلفت درجات الجد وزوايا الرؤية ومناهج العاملين .
إننا في الحقيقة نملك الكثير . . إذا عزمنا العزمة الصادقة ، واتجهنا الاتجاه الصحيح . أي إذا عزمنا عزمة صادقة أن نعود إلى حقيقة ديننا ونتحمل التكاليف .
إنه لا بد من جهاد . .
وكل طريق غيره لا يؤدي إلى شيء . .
والذين يتهيبون الطريق يقدمون بدائل يحسبونها تؤدي إلى الخلاص وتعفيهم في ذات الوقت من الجهاد .
وعند التحليل الواقعي تنكشف هذه البدائل عن أوهام . .
يقولون : نبني اقتصادياتنا على أسس متينة ، فكل شيء في عالم اليوم مبني على الاقتصاد .
ونقول : مرحباً ببناء اقتصادياتنا على أسس متينة ، فذلك أمر لا غنى عنه في أي حال من الأحوال .
ولكن الوهم يقع عند الظن بأن هذا الطريق سيوصلنا - وحده - ويعفينا من الجهاد .
إن الذين يتحكمون فينا ليمنعونا من تطبيق شريعتنا ، هم أنفسهم الذين يتحكمون فينا ليبقى اقتصادنا عالة عليهم ، ولا يستقل عنهم ، ولا يستغنى عن تدخلهم ، ولا يصل إلى حد الاكتفاء .
وليست هذه دعوة إلى اليأس من الإصلاح . . كلا ! ولكنها فقط تبصرة بأن الأمر لا يستغني عن الجهاد .
إن الأرض التي انتشر فيها الإسلام - بقدر من الله - هي بفضل الله أغنى بقعة في الأرض ، بثرواتها البشرية والمعدنية والمائية ، وكل أنواع الطاقات ، ولكن أهلها اليوم هم أفقر سكان الأرض ، وأشدهم جوعاً ومرضاً وتخلفاً . . ولو كانت هذه الثروات والطاقات ملكاً حقيقياً لأهلها لكانوا أغنى سكان الأرض . . فمن الذي يمنعهم من امتلاكها والتصرف الحر فيها ؟ هم ذات الأعداء الذين يمنعونهم من تطبيق شريعتهم !
إن في السودان وحده مساحة من الأرض يقول الخبراء إنها لو زرعت قمحاً لكفت افريقيا كلها ، ودفعت عنها غائلة الجوع بفضل من الله . وقصتها أنها من أخصب بقاع الأرض ولكنها مستنقعات لا تصلح في صورتها الراهنة لشيء ، والسبب في ذلك أنه يحدث في النيل في وقت واحد فيضانان ، أحدهما تسببه الأمطار المحلية في السودان ، التي تملأ النهر بالماء ، ثم يأتي الفيضان الآخر من الحبشة محملاً بالغرين الذي يخصّب الأرض ، فيجد النهر ممتلئاً فيفيض على الجنبين ويجعل الأرض مستنقعات . والمشروع المطلوب هو حفر قناة وإنشاء خزان تختزن فيه المياه القادمة من الحبشة حتى يتصرف الماء المجتمع من الأمطار المحلية ، فيستفاد من هذه المياه وتلك ، ويستفاد من الأرض بعد تجفيفها وإعدادها للزراعة ، فيزرع فيها من القمح ما يكفي افريقيا كلها .
فما الذي يمنع من تنفيذ ذلك المشروع الحيوي ( وهو مدروس من الوجهة الفنية منذ ما يزيد كثيراً على نصف قرن ) ؟ تمنع من تنفيذه عوامل كثيرة ، ليس أقلها تحكم القوى العالمية في اقتصادياتنا بحيث لا نجد في أي وقت فائضاً من المال نوجهه لمثل هذا المشروع النافع ، ولا فسحة من الوقت ننتظر فيها ثماره ( ولا بد أن يستغرق بضع سنوات من الإنفاق قبل أن يعطي الثمار ) لأننا نلهث دائماً وراء تلك القوى نستمطر رحمتها لكي تسعفنا بلقمة الخبز ، وتجدول لنا الديون التي نقترضها منهم للوفاء بلقمة الخبز للجماهير الجائعة ، ثم تذهب مذاهب لا يعلمها إلا الله ، وتثقل الجماهير بدفع فوائد القروض !!
وفي آسيا مساحات شاسعة من الأرض القابلة للزراعة ، وكميات هائلة من الماء الذي يذهب هدراً في المحيطات ، أو يغرق الأرض في فيضانات هادرة تهلك الحرث والنسل . . ويحتاج الأمر إلى مشروعات هندسية لتنظيم استخدام الماء ، وتخزينه وقت فيضانه وتوجيهه إلى الزراعة وإنتاج الكهرباء . . فما الذي يمنع من تنفيذ تلك المشروعات ؟ ذات العوامل . . ذات القوى المتسلطة التي لا تريد للمسلمين أن يقوموا من وهدتهم .
فكيف تواجه تلك القوى بغير جهاد ؟!
ويقولون : نقوي أنفسنا بالسلاح لكي نواجه الأعداء !
ونقول : مرحباً بتقوية أنفسنا بالسلاح . . فذلك أمر لا غنى عنه في أي حال من الأحوال .
ولكن الوهم يقع مرة أخرى حين نظن أن هذا الطريق موصل بذاته ، بغير جهاد .
فمن أين نأتي بسلاحنا ؟
إنه من عند ذات القوى التي تمنعنا من تطبيق شريعتنا ، وتمنعنا في الوقت ذاته من تملك القوة الحقيقية التي نحمي بها أنفسنا فضلاً عن أن تكون عندنا قوة ترهب الأعداء ، كما أمر رب العالمين :
( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ) (1) .
وحين نحاول أن نصنّع شيئاً من وسائل القوة تهددنا القوى المتسلطة أو تضربنا .
ولنتذكر جيداً أن " القوى العظمى " مكنت إسرائيل من ضرب المفاعل النووي في إحدى الدول العربية بحجة أنه يهدد أمنها ، بينما تملك إسرائيل ثلاث مفاعلات نووية - بحماية القوى العظمى - تهدد بها أمن العالم العربي بأسره والعالم الإسلامي !
ولنذكر أيضاً أن أمريكا هددت بضرب ليبيا بحجة أنها تسعى في إنشاء مصنع للأسلحة الكيماوية ! بينما تملك كل دول الغرب مصانع ومصانع من كل نوع من أنواع السلاح بما في ذلك الأسلحة الكيماوية الممنوعة على ليبيا !
__________
(1) سورة الأنفال [ 60 ] .(3/223)
ولا تجد " الدول العظمى " في نفسها خجلاً من مثل هذه التصرفات المكشوفة ، لأنها " عظمى " . . لأنها تملك القوة !
ومن قبل تذرعت بريطانيا " العظمى " لاحتلال مصر عام 1882م ، بأن مصر ترمم حصونها الساحلية في أبى قير !! فمجرد ترميم الحصون القديمة اعتبرته بريطانيا عملاً عدائياً ضدها ! عملاً يستوجب التأديب ! .
فهل من سبيل لرفع ذلك الجور المحيط بالأمة الإسلامية في جميع الميادين إلا بالجهاد ؟!
يقولون : نتعلم .
ونقول : مرحباً بالعلم ، فذلك أمر لا غنى عنه في أي حال من الأحوال .
ولكن أبناءنا حين يتعلمون بغير روح الجهاد ، فإنما يتعلمون قشوراً من العلم ، ولا يصبرون على تكاليف العلم الحقيقي . ويتعلمون لكي يحصلوا على ورقة تؤهلهم للوظيفة المريحة في العمل المريح ، ويهربون من العمل الشاق الذي ترتقي به البلاد . ومن شذ منهم فبرز في علمه حقيقة تسعى " القوى العظمى " إلى شرائه ، إما بإغرائه بالهجرة إليها ، وإما بشراء فكره وقلبه فيكون أداة إفساد في وطنه بدلاً من أن يكون أداة إصلاح . .
ويقولون . . ويقولون . . ويقولون . .
كل الوسائل التي يقترحونها تدور في مدى معين ، هو المدى الذي رسمته لنا القوى العالمية التي تحارب تطبيق شريعة الله .. فهل من سبيل إلا بالجهاد ؟!
* * *
يقول الذين يتهيبون الطريق . . كيف نجاهد ونحن مستضعفون ؟ كيق نجاهد ونحن في قبضتهم أنّى اتجهنا ؟
وهؤلاء نقول لهم : انظروا إلى الجهاد الأفغاني . . وانظروا إلى الانتفاضة الإسلامية في فلسطين :
من كان يتصور - أو يصدق - أن أمة شبه عزلاء تضطر أكبر قوة وحشية في التاريخ الحديث أن تسحب جنودها من الميدان ؟!
إن الجهاد الأفغاني آية من آيات الله . . إنه تصديق عملى لما جاء في كتاب الله :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) (1) .
لقد كاد انتصار الفئة القليلة المؤمنة على أضعافها من القوى الكافرة يصبح أسطورة في حس " المسلم المعاصر " ، أو على الأكثر ذكرى لأيام خلت لا يمكن أن تعود !
وحين يقرأ " المسلم المعاصر " في كتاب الله أمثال هذه الايات :
( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (2) .
( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (3) .
حين يقرأ " المسلم المعاصر " أمثال هذه الآيات في كتاب الله لا يحس أنها موجهة إليه هو ، ولا موجهة إليه الآن في هذه اللحظة . إنما يقرؤها على أنها كانت موجهة للذين تلقوا القرآن أول مرة ولا علاقة لها بالأجيال الحاضرة ! وهي في حسه رواية عن أحداث مضت ، وليست سنناً جارية تتحقق كلما تحققت أسبابها !
ولكن الجهاد الأفغاني أعادها إلى وضعها الحقيقي . . إنها توجيهات ربانية موجهة للأمة كلها في جميع أجيالها ، وسنن جارية تتحقق كلما تحققت أسبابها . . ( تنصروا الله ) هذا هو المطلوب من الأمة ، وحين يقع ، يترتب عليه الجزاء الرباني ( ينصركم ويثبت اقدامكم ) ، ( وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (4) .
والمعركة في أفغانستان ما تزال دائرة ، وما ندري إلى أي شيء ينتهي ذلك الصراع الجبار ، ولكن ما تم منه حتى اللحظة درس للمتهيبين ، ودرس للمترددين ، ودرس للمتشككين . . ودافع في الوقت ذاته لأولي العزم من المجاهدين .
أما الانتفاضة الفلسطينية فهي درس آخر على الطريق .
إنها لا تملك إلا الحجارة . . ولكنها تملك أكبر طاقة يؤتاها البشر : الإيمان .
وقد فعلت الحجارة في يد الصبية المؤمنين ما لم تفعل أربعون سنة من المناورات والمحادثات والمفاوضات والاجتماعات فيما يسمى " المحافل الدولية " وغيرها من المنتديات .
إنها تحقيق آخر للسنن الربانية الجارية ، التي تتحقق كلما تحققت الأسباب .
ودافع لاستنهاض الهمم لمن يملك العزيمة ويبحث عن الطريق . .
* * *
لا بد للأمة الإسلامية - لكي تستعيد مقومات وجودها ، وفي مقدمتها التحاكم إلى شريعة الله ، وتحقيق منهج الله - لابد لها من الجهاد ، فإن الأعداء لن يسلموا لها شيء إلا بالجهاد . . لا التعليم الحقيقي المثمر ، ولا الاقتصاد المستقل ، ولا السلاح . . ولا شيء على الإطلاق . إنهم سيظلون يحاورون ويداورون ، ثم لا يعطون الأمة إلا ما يريدون هم ، وما يحقق مصالحهم هم ، لا ما يحقق الوجود الحقيقي للأمة التي لا يريدون لها الوجود !
والجهاد وحده هو الذي يحقق للأمة كيانها الذي تتطلع إليه . كيانها السياسي . وكيانها الاقتصادي . وكيانها الحضاري ، وكيانها العلمي ، وكل كيان .
ولن يتحقق شيء في يوم وليلة ، فالمشوار طويل ، لأن المدى الذي بعدته هذه الأمة عن طريق الله ، والذي ينبغي أن تقطعه من جديد لتعود إليه . . مدى كبير ، يحتاج إلى زمن غير قصير ، وجهد غير قليل .
ولكنه أمر لا بد منه . .
ينبغي لنا أن نوطن أنفسنا لجهاد طويل . .
__________
(1) سورة محمد [ 7 ] .
(2) سورة البقرة [ 249 ] .
(3) سورة آل عمران [ 146 - 148 ] .
(4) سورة الروم [ 6 ] .(3/224)
ينبغي أن نتعلم بروح الجهاد ، ونعمل بروح الجهاد ، ونعيش بروح الجهاد ، ونحمل في حسنا في كل لحظة أن لنا هدفاً ضخماً نريد تحقيقه ، ونعمل على تحقيقه . فبمثل هذه الروح تولد الأمم من جديد ، وتأخذ طريقها إلى الصعود .
لا بد من تربية جيل جاد ، يحمل بين جنبيه الشعلة المقدسة : شعلة الإيمان ، شعلة الجهاد .
وحين يولد هذا الجيل ، فسيحقق الله النصر على يديه ، تحقيقاً لسننه الجارية ، ولوعده الخاص لهذه الأمة :
( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) (1) .
وحين يولد هذا الجيل ، الذي يعيش بروح الجهاد في كل لحظة ، فهو إما أن يجد الطريق مفتوحاً ، فيحقق أهدافه بجهاد العمل الشاق المتواصل ، وإما أن يجد الطريق مسدوداً فيفتحه بجهاد القتال . . ولا ينال في كل حالة إلا إحدى الحسنيين
( قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ) (2) .
وعندئذ يصبح تطبيق الشريعة أمراً واقعاً . . وتصبح العقبات هي الأوهام !
====================
تعقيب
الآن وقد ناقشنا الشبهات التي تثار حول تطبيق الشريعة ، يتبين لنا أن كثيراً منها ليس ناشئاً من تفكيرنا الذاتي ، ولا من تجربتنا الذاتية ، إنما هي أفكار أثارها في حياتنا الغزو الفكري ، ليباعد بيننا وبين العودة إلى الشريعة الربانية بعد إذ أجلانا عنها الغزو الصليبي . وأن ما يتعلق منها بعدم إمكان التطبيق هو مجرد عقبات مصطنعة جسمت لنا لتصدنا عن المحاولة ، بل عن مجرد التفكير . .
وكثيراً ما تكبر الأوهام في نفوس الناس حتى تصبح في وهمهم هي الحقيقة ، ويصبح الحق هو الخاطر البعيد الذي يحتاج إلى جهد لتثبيته مكان الأوهام .
وليس العجب على أي حال أن يسعى أعداؤنا إلى تشكيكنا في ديننا ، فهذا دأبهم منذ نزل هذا الدين . إنما العجب أن يتبعهم في تشكيكهم " مسلمون " يحملون أسماء إسلامية ، ويقولون بأفواههم لا إله إلا الله .
وأياً تكن الأسباب التي أدت بهؤلاء أن يقفوا ذلك الموقف ، فإن ذلك يفتح أعيننا على التبعة الجسيمة التي تقع على عاتقنا إزاء هذه الأوضاع .
إنه ما كان لهذه الشبهات أن تثار ، وما كان للغزو الفكري أن يتوغل في حياة الناس ، لو أن الناس كانوا على فهم حقيقي للإسلام ، وممارسة حقيقية لمقتضيات الإيمان .
والتبعة الكبرى تقع الآن على الدعاة . .
هم الذين ينبغي أن يدركوا حقيقة الأوضاع الراهنة في الأمة ، ويقدموا لها العلاج .
ولن تكون الدعوة مجرد دروس ومحاضرات ، ولن تكون مجرد وعظ يلقى على أسماع الناس ، إن هذا كله مفيد ولازم للدعوة ، ولكنه - وحده - لا يصنع شيئاً في حقيقة الأمر .
إنما الدعوة قدوة وتربية ، قبل أن تكون وعظاً ودروساً ومحاضرات .
وذلك الذي ينبغي أن يدركه الدعاة جيداً إن أرادوا حقاً تغيير واقع هذه الأمة ، وردها إلى الجادة من جديد .
وحين يدرك الدعاة مهمتهم الأصيلة ، فسيكون جانب منها ولا شك بيان حقيقة التوحيد ، وأنها عبادة الله وحده بلا شريك ، وإقامة الحياة كلها بمقتضى المنهج الرباني - بما في ذلك تطبيق شريعة الله - ونبذ كل الآلهة المزعومة التي تقف في طريق التوحيد الخالص ، بما في ذلك دعاوى الجاهلية المعاصرة التي تناوئ بها عبادة الله ، باسم التطور مرة ، وباسم الحضارة مرة ، وباسم العلم مرة ، وباسم الثورة التكنولوجيا مرة ، وباسم الرأي العام العالمي مرات . .
وسيكون جانب من مهمتهم ولا شك تلقين الشباب - من خلال القدوة والتربية - أن الإيمان قول وعمل . فليس الإيمان كلمة . وليس وجداناً مستسرا في الضمير . وليس " مفهوماً " فكرياً يلقى . إنما هو الكلمة والوجدان والمفهوم الفكري مترجمة كلها إلى واقع سلوكي مشهود . واقع يغير النفس من داخلها ويغير الحياة الواقعية ، فيشكلهما بمقتضى المنهج الرباني ، المنزل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
سئلت عائشة - رضي الله عنها - عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : " كان خلقه القرآن " (3) .
وبهذه الحقيقة الهائلة التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم وربّى عليها أصحابه رضوان الله عليهم تغيرت الأرض ، وبرزت إلى الوجود خير أمة أخرجت للناس .
والبشرية الضالة اليوم - برغم كل ما تملكه من علم ومن حضارة ومن تكنولوجيا - في أشد الحاجة إلى مثل ذلك التغيير مرة أخرى ، ليرتد إليها صوابها ، وتعود إلى عبادة الله ، وتنبذ عبادة الشيطان ، وتستخدم ما فتح الله عليها من العلم والحضارة والتكنولوجيا في أداء المهمة الكبرى التي خلقت من أجلها :
( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (4) .
( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ ) (5) .
والدعاة - الذين تقع عليهم هذه التبعة الهائلة - يلزمهم ، فيما يلزمهم ، أن يكونوا هم القدوة لما يدعون الناس إليه ، وأن يمارسوا هذا الدين على نطاقه الأشمل ، ليعرضوا للناس حقيقته كاملة ، وأن يركزوا على بناء القاعدة الصلبة التي تحمل التبعة وتحسن المسير .
=================
__________
(1) سورة النور [ 55 ] .
(2) سورة التوبة [ 52 ] .
(3) أخرجه مسلم .
(4) سورة الذاريات [ 56 ] .
(5) سورة الأنعام [ 162 - 163 ] .(3/225)
واجبنا نحو تطبيق شريعة الله
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
الحمد لله رب العالمين، مالك السموات والأرض، خالق كل شيء ومليكه، لا شريك له في خلقه، وملكه وحكمه، والصلاة والسلام على المبعوث بالحنيفية السمحة والشريعة الغراء وعلى آله وأصحابه الذين أقاموا العدل في الأرض، ونشروا الخير في كل مكان.. وبعد،،
غاية الخلق:
فإن الله ما خلقنا إلا لنعبده سبحانه، وما وضع هذه الأرض ورفع هذه السماء إلا بذلك. وهو سبحانه الذي ارتضى لنا الدين، وشرع لنا المنهج والطريق، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات:56) وقال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون، فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} (المؤمنون:116).
شريعة الله واجبة الاتباع:
وقد ألزمنا سبحانه بطاعة رسله واتباع شرعه، وجعل هذه الطاعة هي العبادة المفروضة علينا، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} (المائدة:48). وقال تعالى أيضاً: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} (المائدة:49).. وقال تعالى في بدء سورة النور: {سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون} (النور:1) ثم شرع يُبين هذه الفرائض فأثبت حكم الزنى، وقذف المحصنات، والاستئذان وإعانة كل راغب في الزواج، والأكل من بيوت الغير، والحجاب وغض البصر وغير ذلك مما حوته هذه السورة العظيمة التي سميت بسورة النور.
وكل هذا يدل على أن شريعة الله جميعها واجبة الاتباع سواء منها ما يتعلق بالعبادات كالصلاة والزكاة والصوم والحج أو ما يتعلق بالمعاملات أو الآداب أو الحدود. ولعل أهم ما يوضح هذا المعنى ما قاله الله في شأن الربا، وهو معاملة من المعاملات حيث يقول سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فائذنوا بحرب من الله ورسوله} (البقرة:279). فقد هدد سبحانه وتعالى بحرب منه ومن رسوله لكل من أصر على الربا، وبقي على التعامل به بعد أن صدر فيه حكم خالق السموات والأرض سبحانه وتعالى. ومعلوم أن الربا معاملة من المعاملات، وليس عبادة من القربات. ولا شك أن الالتزام به عبادة، أي طاعة لخالق الأرض والسماوات.
وكل هذا يدلنا أن أهل الإسلام ليسوا مخيرين في أخذ شريعة الله وتركها بل هم ملزمون بذلك. بل لا إيمان أصلاً لمن كفر بها وردها وهجرها، أو انتقصها وعابها أو ذمها لأنها تنزيل الحكيم الحميد سبحانه وتعالى، بل إن كل صادّ عنها وتارك لها كافر لا شك في كفره لما قال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (المائدة:44) وقال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} (المائدة:45) وقال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} (المائدة:46).
فلا إيمان إلا مع الإقرار بشريعة الله والإذعان لحكمه، ولا إسلام إلا بالاستسلام لأمر الله ونهيه، والسمع والطاعة لحكمه وخبره.
الشرائع الوضعية والمطبقة ومنافاتها للإسلام:
ولا شك أن الشرائع الوضعية المطبقة في بلاد المسلمين اليوم يجب تغييرها وإحلال شريعة الله المطهرة مكانها، وكل مقصر في ذلك فهو مسئول محاسب أمام الله سبحانه وتعالى عن ذلك.
ولا شك أيضاً أن معظم هذه التشريعات الوضعية مخالفة لشريعة الله، وخاصة في مسائل الحلال والحرام والمعاملات المالية، والسياسية، والاجتماعية، والحدود والعقوبات.
ولا شك أن أهم هذه المخالفات هو أن هذه الأحكام الوضعية والشرائع البشرية لم توضع ليكون هدف الناس وغايتهم هو عبادة ربهم والخضوع لمشيئة سبحانه والاستسلام لأمره ونهيه، وذلك أنها انبثقت ابتداء من عقيدة باطلة لا تؤمن بخالق للكون وبدء له ومدبر له، بل خرجت من كفار بالبعث والنشور جاحدين لخالق السموات والأرض، ممن يعيشون لدنياهم فقط، ولا يؤمنون بحياة بعد الموت وأما شريعة الله فإنها جاءت من عنده، وغايتها في النهاية إقامة عبادته سبحانه وتعالى في الأرض والخضوع لمشيئته والاستسلام لأمره.
وهذا هو الفارق الأساسي بين شريعة الله وشرائع البشر، فشريعة الله من عنده، ولا يرضى سبحانه وتعالى لأحد أن يتقول عليه، أو يشرع لنفسه دون الرجوع إليه، وما الرسول صلوات الله وسلامه عليه إلا ناطق بأمره، صادر عن حكمه، منفذ لمشيئته، مطيع لشريعته، وما المجتهدون والخلفاء بعده إلا موقعون عنه يجتهدون في سبيل الوصول إلى حكمه، راجعون في كل اجتهاد ورأي إلى كلامه سبحانه، وكلام رسوله الله صلى الله عليه وسلم. وأما شرائع البشر الوضعية فهم يأخذونها من أغلبيتهم التي تتظاهر على الهوى والعصبية، وتصدر عن جهل، وتحكم عن تحكم، أو من ملوكهم والمتسلطين عليهم الذين جعلوا من أنفسهم آلهة وأرباباً يشرعون للعباد ويعتدون على حق رب العباد سبحانه وتعالى كما قال فرعون {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل لرشاد} (غافر:29) علماً أن حكم فرعون لم يكن إلا استبداداً وتسخيراً للشعب في عبادته وصرفاً للناس عن عبادة ربهم وخالقهم سبحانه وتعالى. قال تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناؤهم، ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين} (القصص:4).
وهكذا كان منطق الطغاة دائماً. يفسدون في الأرض، ويزعمون الصلاح والإصلاح.
باختصار.. المسلم المؤمن هو الملتزم بشريعة الله والكافر هو الذي يرد شريعة الله سبحانه وتعالى.
واجبنا نحو شريعة الله:
بعد هذا البيان الموجز نجمل واجب كل مسلم نحو شريعة ربه فيما يلي:(3/226)
1. وجوب الإيمان بأن الدين الحق هو طاعة شريعة الله والإذعان لأمره سبحانه وتعالى. وأن من لم يفعل ذلك فهو كافر لا تنفعه صلاة أو صوم أو حج أو عبادة.
2. وجوب العمل لإحلال شريعة لإحلال شريعة الله محل شريعة الكفر وذلك من كل مسلم بحسب قدرته واستطاعته فعلى الإمام من ذلك ما ليس على عامة الناس، وعلى أهل العلم ما ليس على الجاهل، وعلى أهل التمكين ما ليس على المستضعفين. وإن كل أحد مسئولاً كما قال صلى الله عليه وسلم: [كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته] (أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر)
3. عدم الرضا بأي قانون أو تشريع يخالف شريعة الله فكل من رضي أو قدم مختاراً تشريعاً يخالف ما أنزله فقد بالله ولو كان هذا في أي شيء يسير كما قال سبحانه وتعالى في شأن من رأى جواز الأكل مما يُذبح ولم يذكر اسم الله عليه {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن اطعتموهم إنكم لمشركون} (الأنعام:121). وقد أجمعت الأمة أن من ساوى بين تشريع الله وتشريع غيره فهو كافر وكذلك من قدم تشريع غير الله على تشريع الله سبحانه وتعالى. ولا يجوز لأحد طاعة تشريع غير الله إلا مجبراً ومكرهاً.
4. الدعوة إلى الله بكل سبيل. وبيان الحق وعدم كتمانه حتى تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
وكذلك نُذكر به إخواننا المسلمين ليهبوا لنصرة شريعة ربهم، والحياة في ظل أحكام قرآنهم وسنة نبيهم، بدلاً من العيش في ظل الأنظمة الجاهلية التي وضعها الكفار لهم.
{قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} (يوسف:108)
================(3/227)
المصادر والمراجع الهامة
موطأ مالك
صحيح البخارى
صحيح مسلم
سنن أبى داود
سنن الترمذى
سنن النسائى
سنن ابن ماجه
مصنف عبد الرزاق مشكل
مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل
مسند أحمد
الإبانة الكبرى لابن بطة
الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم
السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة
المستدرك للحاكم مشكلا
المعجم الكبير للطبراني
المعجم الأوسط للطبراني
المعجم الصغير للطبراني
دلائل النبوة للبيهقي
السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي
شعب الإيمان للبيهقي
سنن الدارمى
مستخرج أبي عوانة
مسند البزار 1-14
مسند أبي يعلى الموصلي
مسند الحميدى
سنن الدارقطنى
صحيح ابن حبان
صحيح ابن خزيمة
مسند الشاميين للطبراني
مسند الطيالسي 204
مسند عبد بن حميد
شرح معاني الآثار
المنتقى من السنن المسندة لابن الجارود
بلوغ المرام من أدلة الأحكام
مجمع الزوائد للهيثمي مدقق
موسوعة السنة النبوية
اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة
في ظلال القرآن
تفسير السعدي
التحرير والتنوير
التمهيد لابن عبد البر
فتح الباري لابن حجر
عون المعبود
تحفة الأحوذي
شرح سنن النسائي
حاشية السندي على ابن ماجه
موطأ محمد بشرح اللكنوي
المنتقى - شرح الموطأ
عمدة القاري شرح صحيح البخاري
شرح ابن بطال
فيض القدير، شرح الجامع الصغير
فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح
الفقه على المذاهب الأربعة
بداية المجتهد ونهاية المقتصد
الأم للشافعي
مشكل الآثار للطحاوي
أحكام القرآن للجصاص
المحلى [مشكول و بالحواشي]
الأحكام السلطانية
المبسوط للسرخسي
شرح كتاب السير الكبير
السير الكبير
المستصفى الغزالي
أحكام القرآن لابن العربي
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المغني لابن قدامة
مجموع فتاوى ابن تيمية
كشف الأسرار
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق
شرح التلويح على التوضيح
البحر المحيط الزركشي
إرشاد الفحول للشوكاني
طرح التثريب العراقي
البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار
التقرير والتحبير
التاج والإكليل لمختصر خليل
أسنى المطالب شرح روض الطالب
جامع الفقه الإسلامي
شرح الكوكب المنير
الزواجر عن اقتراف الكبائر
تحفة المحتاج في شرح المنهاج
شرح منتهى الإرادات
كشاف القناع عن متن الإقناع
مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى
زاد المستقنع في إختصار المقنع
منار السبيل شرح الدليل
الإنصاف للبهوتي
المبدع شرح المقنع
الإقناع
مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر
الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني
بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية
حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع
نيل الأوطار للشوكاني
شرح النيل وشفاء العليل - إباضية
الموسوعة الفقهية1-45
تفسير ابن كثير
صحيح البخاري
كتاب " الجامع الفريد " الطبعة الثانية
واقعنا المعاصر
مفاهيم ينبغي أن تصحح
مذاهب فكرية معاصرة
إنسانية الإنسان ، ترجمة د. نبيل صبحي الطويل ، مؤسسة الرسالة بيروت ط 1، 1979
الإنسان ذلك المجهول ، ترجمة شفيق أسعد ، بيروت ، ط3
المكتبة الشاملة 2
برنامج قالون
كثير من مواقع النت(3/227)
الفهرس العام
تمهيد حول هذا الموضوع
وقد حذر الله تعالى من الردة :
وبين تعالى حبوط الأعمال بالردة والخلود في النار
وليس هناك تعارض بين حد الردة وهو حق لله تعالى وبين قوله تعالى :
( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256) يقول السعدي رحمه الله :
والذين ينكرون حد الردة ليسوا مسلمين أصلا مهما تزييوا بزي المسلمين
والذي يتنازل عن جزء من الإسلام إرضاء للعدو أو لأي سبب كان، هو مستعد للنازل عن الإسلام كله ، لأن الأعداء لن يرضوا بأقل من هذا 0
والمسلم الحق لا يتنازل عن أي جزء من دينه، لأنه من عند الله العليم الخبير وما سواه فباطل ، مهما زينه أتباعه وزركشوه !!!(3/227)
الباب الأول
نص الحديث الشريف
الباب الثاني
شرح الحديث
قال ابن عبد البر :
وفي فتح الباري :
وفي عون المعبود :
وفي تحفة الأحوذي :
وفي شرح النسائي :
وفي حاشية السندي على ابن ماجة :
وفي شرح موطأ محمد :
وقال الباجي :
قتل من كفر بعد إسلامه
وفي عمدة القاري :
وقال ابن بطال :
وقال أيضاً :
وقال المناوي :
وقال ملا علي القاري :
وفي كتاب فقه الدعوة :
الباب - أقوال الفقهاء
ففي الفقه على المذاهب الأربعة :
*4* حكم نكاح المرتد عن دينه من الزوجين
*مبحث حكم المرتد - تعريف المرتد.
استتابة المرتد
حكم المرأة المرتدة
*مبحث أملاك المرتد.
حكم الزنديق.
مبحث لحوق المرتد بدار الحرب.
*مبحث تصرفات المرتد.
*مبحث حكم الصبي إذا بلغ مرتداً.
*مبحث ردة السكران وإسلامه.
أعمال المرتد.
وفي بداية المجتهد :
بَابٌ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّ
وفي الأم :
الْمُرْتَدُّ عَنْ الْإِسْلَامِ
( قَالَ ) : وَإِنْ أَعْتَقَ فِي رِدَّتِهِ أَحَدًا مِنْ رَقِيقِهِ فَالْعِتْقُ مَوْقُوفٌ وَيُسْتَغَلُّ الْعَبْدُ , وَيُوقَفُ عَلَيْهِ فَإِنْ مَاتَ فَهُوَ رَقِيقٌ ,
الْخِلَافُ فِي الْمُرْتَدِّ
قتل من لم تقم عليه البينة
بَابُ مَا يَحْرُمُ بِهِ الدَّمُ مِنْ الْإِسْلَامِ
تَفْرِيعُ الْمُرْتَدِّ
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَالْإِقْرَارُ بِالْإِيمَانِ وَجْهَانِ :
الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ
مَالُ الْمُرْتَدِّ وَزَوْجَةُ الْمُرْتَدِّ
مَالُ الْمُرْتَدِّ
الْمُكْرَهُ عَلَى الرِّدَّةِ
مَا أَحْدَثَ الْمُرْتَدُّ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فِي مَالِهِ
جِنَايَةُ الْمُرْتَدِّ
الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ
الدَّيْنُ عَلَى الْمُرْتَدِّ
الدَّيْنُ لِلْمُرْتَدِّ
ذَبِيحَةُ الْمُرْتَدّ
الْخِلَافُ فِي الْمُرْتَدِّ
خِلَافُ بَعْضِ النَّاسِ فِي الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ
إقْرَارُ أَحَدِ الِابْنَيْنِ بِالْأَخِ
وفي مشكل الآثار :
بَابٌ بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } )
وقال الجصاص :
بَابُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ السَّاحِرِ وَقَوْلِ السَّلَف فِيهِ
بَابُ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ
الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ
وفي الأحكام السلطانية :
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَمَا عَدَا جِهَادَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قِتَالٍ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ :
وفي المحلى :
قَالُوا : فَمَنْ قَتَلَ أَحَدًا بِغَيْرِ السَّيْفِ ظَالِمًا عَامِدًا :
. 2171 - مَسْأَلَةٌ : هَلْ تَسْقُطُ الْحُدُودُ بِالتَّوْبَةِ أَمْ لَا ؟
المحاربين
وفي المبسوط :
وَأَمَّا النَّذْرُ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ فَإِمَّا أَنْ يُضِيفَهُ إلَى مَكَان أَوْ زَمَانٍ0
بَابُ عِتْقِ ذَوِي الْأَرْحَامِ
( قَالَ ) : وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفُلَ أَحَدًا مِمَّا قَدْ أَصَابَهُ إنَّمَا النَّفَلُ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ أَنْ يَقُولَ : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَقَدْ كَانَ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْإِغْرَاءِ عَلَى الْقِتَالِ 0
بَابُ الْمُرْتَدِّينَ
فَإِنَّ ارْتَدَّ ثَانِيًا وَثَالِثًا فَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَإِذَا أَسْلَمَ خُلِّيَ سَبِيلُهُ
وَقَتْلُ الْكَافِرِ الَّذِي بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ جَائِزٌ .
ما اكتسبه المرتد حال ردته
( قَالَ ) وَجَمِيعُ مَا فَعَلَ الْمُرْتَدُّ فِي حَالِ رِدَّتِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءِ أَوْ عِتْقٍ أَوْ تَدْبِيرٍ أَوْ كِتَابَةٍ بَاطِلٌ إنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ , وَقَسَّمَ الْإِمَامُ مَالَهُ 0
وَإِذَا أَعْتَقَ الْمُرْتَدُّ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ ابْنُهُ أَيْضًا , وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
ميراث الأب المرتد لمعتقه
وَإِنَّ جَنَى الْمُرْتَدُّ جِنَايَةً لَمْ يَعْقِلْهُ الْعَاقِلَةُ ;
وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ هَدَرٌ ;
حكم من قطع يد مسلم ثم ارتد المقطوعة يده
وَلَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ , وَلَكِنَّهَا تُحْبَسُ , وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا 0
استرقاق المرتدة إذا لحقت بدار الحرب
تصرفات المرتدة المالية
ولد المرتدة بعد الردة
إذا أنكرت الردة
قتل المملوك المرتد
وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمَمَالِيكِ فِي الرِّدَّةِ هَدَرٌ
باع عبده المرتد أو أمته
المدبرة أو أم الولد إذا ارتدت ولحقت بدار الحرب
إذا ارتد العبد مع مولاه ولحقا بدار الحرب
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا ذَهَبَ بِهِ الْمُرْتَدُّ مِنْ مَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ فَهُوَ فَيْءٌ ,
وَلَوْ ارْتَدَّ الْعَبْدُ وَأَخَذَ مَالَ مَوْلَاهُ فَذَهَبَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَخَذَ مَعَ ذَلِكَ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ فَيْئًا , وَيُرَدُّ عَلَى مَوْلَاهُ ;
ارتدوا عن الإسلام وحاربوا المسلمين تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم
ارتداد الزوجين ولحوقهما بدار الحرب
حكم ولد المرتد في دار الحرب
نقض أهل الذمة العهد
وَإِذَا نَقَضَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْعَهْدَ , وَغَلَبُوا عَلَى مَدِينَةٍ فَالْحُكْمُ فِيهَا كَالْحُكْمِ فِي الْمُرْتَدِّينَ إلَّا أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَرِقَّ رِجَالَهُمْ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّينَ 0
ارتدا وبقيت زوجته في دار الإسلام
دار المرتدين دار كفر
لا يسترق المرتد
( قَالَ ) وَلَا يُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الصُّلْحُ وَالذِّمَّةُ 0
استرقاق عبدة الأوثان
من ارتد وغنم من دار الحرب ثم أسلم(3/228)
إِذَا ارْتَدَّ الْغُلَامُ الْمُرَاهِقُ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمْ يُقْتَلْ
( قَالَ ) وَإِذَا ارْتَدَّ الْغُلَامُ الْمُرَاهِقُ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمْ يُقْتَلْ , وَهُنَا فَصْلَانِ إذَا أَسْلَمَ الْغُلَامُ الْعَاقِلُ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ فَإِسْلَامُهُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا 0
الَّذِي أَسْلَمَ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ إذَا بَلَغَ مُرْتَدًّا فِي الْقِيَاسِ يُقْتَلُ
وَهَذِهِ فُصُولٌ أَحَدُهَا فِي الَّذِي أَسْلَمَ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ إذَا بَلَغَ مُرْتَدًّا فِي الْقِيَاسِ يُقْتَلُ لِارْتِدَادِهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ 0
هل تبين زوجة المرتد السكران ؟
وَإِذَا ارْتَدَّ السَّكْرَانُ فِي الْقِيَاسِ تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ ; لِأَنَّ السَّكْرَانَ كَالصَّاحِي فِي اعْتِبَارِ أَقْوَالِهِ , وَأَفْعَالِهِ حَتَّى لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بَانَتْ مِنْهُ 0
هل تبين زوجة المكره على الردة ؟
وَالْمُكْرَهُ عَلَى الرِّدَّةِ فِي الْقِيَاسِ تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ , وَبِهِ أَخَذَ الْحَسَنُ 0
هل يأخذ ورثة المرتد كسبه بعد ردته ؟
تركة الذي الذي يلحق بدار الحرب
إكراه النصراني على الإسلام
وفي شرح السير الكبير :
139 - قَالَ : وَإِذَا أَعْطَى الرَّجُلُ رَجُلًا جُعْلًا عَلَى أَنْ يُسْلِمَ فَأَسْلَمَ فَهُوَ مُسْلِمٌ , لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ .
67 - أَبْوَابُ الْأَنْفَالِ
179 - بَابُ الْمُرْتَدِّينَ كَيْفَ يَحْكُمُ فِيهِمْ
المرتدون ليسوا من أهل الذمة
وفي المستصفى :
الْبَابُ الرَّابِعُ : فِي تَعَارُضِ الْعُمُومَيْنِ , وَوَقْتِ جَوَازِ الْحُكْمِ بِالْعُمُومِ 0
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ إثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِأَدِلَّةٍ نَقْلِيَّةٍ وَجُمْلَةُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ تَرْجِعُ إلَى أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاسْتِنْبَاطِ فَنَحْصُرُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :
وقال ابن العربي :
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : تَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ; وَهِيَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِصَاصِ , وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ صَحِيحٌ وَعُمُومٌ صَرِيحٌ 0
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قوله تعالى : { وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ } .
وفي بدائع الصنائع :
وَأَمَّا حُكْمُ الرِّدَّةِ
وفي المغني لابن قدامة :
( 5391 ) مَسْأَلَةٌ ; قَالَ : ( وَإِذَا تَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً , فَانْتَقَلَتْ إلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ الْكُفْرِ غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ , أُجْبِرَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ , فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا , انْفَسَخَ نِكَاحُهَا )
كِتَابُ الْمُرْتَدِّ الْمُرْتَدُّ :
( 7084 ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي وُجُوبِ الْقَتْلِ .
الْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ عَاقِلٍ0
( 7086 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يُسْتَتَابَ ثَلَاثًا .
( 7087 ) الْفَصْلُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ إنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ ; لِمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ .
( 7088 ) الْفَصْلُ الْخَامِسُ : أَنَّ مَفْهُومَ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ , أَنَّهُ إذَا تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ , وَلَمْ يُقْتَلْ , أَيَّ كُفْرٍ كَانَ , وَسَوَاءٌ كَانَ زِنْدِيقًا يَسْتَسِرُّ بِالْكُفْرِ , أَوْ لَمْ يَكُنْ .
( 7089 ) فَصْلٌ : وَقَتْلُ الْمُرْتَدِّ إلَى الْإِمَامِ , حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا .
( 7090 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَكَانَ مَالُهُ فَيْئًا بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ 0
( 7091 ) فَصْلٌ : وَلَا يُحْكَمُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمُرْتَدِّ بِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
( 7092 ) فَصْلٌ : وَيُؤْخَذُ مَالُ الْمُرْتَدِّ , فَيُجْعَلُ عِنْدَ ثِقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَإِنْ كَانَ لَهُ إمَاءٌ جُعِلْنَ عِنْدَ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ ; لِأَنَّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْهِ , فَلَا يُمَكَّنُ مِنْهُنَّ .
( 7093 ) فَصْلٌ : وَتَصَرُّفَاتُ الْمُرْتَدِّ فِي رِدَّتِهِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ ; إنْ أَسْلَمَ تَبَيَّنَّا أَنَّ تَصَرُّفَهُ كَانَ صَحِيحًا , وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ , كَانَ بَاطِلًا .
( 7094 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَزَوَّجَ , لَمْ يَصِحَّ تَزَوُّجُهُ ; لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى النِّكَاحِ 0
( 7095 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وُجِدَ مِنْ الْمُرْتَدِّ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْمِلْكَ , كَالصَّيْدِ , وَالِاحْتِشَاشِ , وَالِاتِّهَابِ , وَالشِّرَاءِ , وَإِيجَارِ نَفْسِهِ إجَارَةً خَاصَّةً , أَوْ مُشْتَرَكَةً , ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ ; لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْمِلْكِ , وَكَذَلِكَ تَثْبُتُ أَمْلَاكُهُ .
( 7096 ) فَصْلٌ : وَإِنْ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ , فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِيمَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ0
( 7097 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ , دُعِيَ إلَيْهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , فَإِنْ صَلَّى , وَإِلَّا قُتِلَ , جَاحِدًا تَرْكَهَا أَوْ غَيْرَ جَاحِدٍ 0(3/229)
( 7098 ) فَصْلٌ : وَمَنْ اعْتَقَدَ حِلَّ شَيْءٍ أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ , وَظَهَرَ حُكْمُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , وَزَالَتْ الشُّبْهَةُ فِيهِ لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِيهِ , كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ , وَالزِّنَى , وَأَشْبَاهِ هَذَا , مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ , كُفِّرَ 0
( 7099 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَذَبِيحَةُ الْمُرْتَدِّ حَرَامٌ , وَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ0
( 7100 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالصَّبِيُّ إذَا كَانَ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ , وَعَقَلَ الْإِسْلَامَ , فَأَسْلَمَ , فَهُوَ مُسْلِمٌ )
( 7101 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ رَجَعَ , وَقَالَ : لَمْ أَدْرِ مَا قُلْت . لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ , وَأُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ )
( 7102 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يُقْتَلُ حَتَّى يَبْلُغَ , وَيُجَاوِزَ بَعْدَ بُلُوغِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى كُفْرِهِ قُتِلَ )
( 7103 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ , وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ , لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمَا وَلَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِمَا مِمَّنْ كَانُوا قَبْلَ الرِّدَّةِ رِقٌّ )
( 7104 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَوْلَادِهِمَا الَّذِينَ وَصَفْتُ مِنْ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْبُلُوغِ , اُسْتُتِيبَ ثَلَاثًا , فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ ) .
( 7105 ) فَصْلٌ : وَمَتَى ارْتَدَّ أَهْلُ بَلَدٍ , وَجَرَتْ فِيهِ أَحْكَامُهُمْ , صَارُوا دَارَ حَرْبٍ فِي اغْتِنَامِ أَمْوَالِهِمْ , وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ الْحَادِثِينَ بَعْدَ الرِّدَّةِ , وَعَلَى الْإِمَامِ قِتَالُهُمْ 0
( 7106 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَتَلَ الْمُرْتَدُّ مَنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا , فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ .
( 7107 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : (وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ كَانَ أَوْلَادُهُ الْأَصَاغِرُ تَبَعًا لَهُ )
مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ عَلَى كُفْرِهِ , قُسِمَ لَهُ الْمِيرَاثُ ; وَكَانَ مُسْلِمًا بِمَوْتِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمَا )
( 7109 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ , فَقَالَ : مَا كَفَرْت . فَإِنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , لَمْ يُكْشَفْ عَنْ شَيْءٍ )
( 7111 ) فَصْلٌ : وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الرِّدَّةِ مِنْ عَدْلَيْنِ , فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
( 7112 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا ثَبَتَتْ رِدَّتُهُ بِالْبَيِّنَةِ , أَوْ غَيْرِهَا فَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , لَمْ يُكْشَفْ عَنْ صِحَّةِ مَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ , وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ0
( 7113 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَتَى الْكَافِرُ بِالشَّهَادَتَيْنِ , ثُمَّ قَالَ : لَمْ أُرِدْ الْإِسْلَامَ فَقَدْ صَارَ مُرْتَدًّا , وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ . وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ , أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ , وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ , فَلَا يُرَاقُ دَمُهُ بِالشُّبْهَةِ , وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ قَدْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ , فَيُقْتَلُ إذَا رَجَعَ كَمَا لَوْ طَالَتْ مُدَّتُهُ .
( 7114 ) فَصْلٌ : وَإِذَا صَلَّى الْكَافِرُ , حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ , سَوَاءٌ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ صَلَّى جَمَاعَةً أَوْ فُرَادَى .
( 7115 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ , كَالذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ , فَأَسْلَمَ , لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ , حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إسْلَامِهِ طَوْعًا , مِثْلُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ .
( 7116 ) فَصْلٌ : وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ , فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ , لَمْ يَصِرْ كَافِرًا .
( 7117 ) فَصْلٌ : وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ , فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَصْبِرَ وَلَا يَقُولَهَا , وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ 0
( 7118 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ ارْتَدَّ وَهُوَ سَكْرَانُ , لَمْ يُقْتَلُ حَتَّى يُفِيقَ , وَيَتِمَّ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ وَقْتِ رِدَّتِهِ , فَإِنْ مَاتَ فِي سُكْرِهِ , مَاتَ كَافِرًا )
( 7119 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ إسْلَامُ السَّكْرَانِ فِي سُكْرِهِ ;
( 7120 ) فَصْلٌ : وَلَا تَصِحُّ رِدَّةُ الْمَجْنُونِ وَلَا إسْلَامُهُ ;
( 7121 ) فَصْلٌ : وَمَنْ أَصَابَ حَدًّا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ , أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّهُ .
تصرفات المرتد
( 7123 ) فَصْلٌ : وَمَنْ ادَّعَى النُّبُوَّةَ , أَوْ صَدَّقَ مَنْ ادَّعَاهُ , فَقَدْ ارْتَدَّ ;
( 7125 ) فَصْلٌ : فِي(حكم) السِّحْرِ :
( 7126 ) فَصْلٌ : وَحَدُّ السَّاحِرِ الْقَتْلُ .
( 7127 ) فَصْلٌ : وَهَلْ يُسْتَتَابُ السَّاحِرُ ؟
( 7128 ) فَصْلٌ : وَالسِّحْرُ الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمَهُ . هُوَ الَّذِي يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ سِحْرًا , مِثْلُ فِعْلِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ , حِينَ سَحَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ .
( 7130 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ , فَلَا يُقْتَلُ لِسِحْرِهِ , إلَّا أَنْ يَقْتُلَ بِهِ(3/230)
الباب - رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
انقسام المسلمين إلى مسلم طائع ومسلم فاسق ومنافق
إذا عرف تفسير القرآن والسنة من قبل الشارع لا يجوز العدول عنه
لِلنَّاسِ فِي " الْإِسْلَامِ " و " الْإِيمَانِ " مِنْ الْكَلَامِ الْكَثِيرِ
قتل من كفر بعد لإسلامه
رأي علي رضي الله عنه بمن قدسه
قتل المرتد بعد استتابته ثلاثا
قتل المرتد لا ينافي القدر
الرد على المعتزلة حول مرتكب الكبيرة
السنة النبوية وأهل البدع
قتل من ترك فرائض الإسلام
حكم الوقف المخالف للشرع
وفي كشف الأسرار :
بَابُ شَرْطِ نَقْلِ الْمُتُونِ :
وَهَذَا ( بَابُ مَا يَلْحَقُهُ النَّكِيرُ مِنْ قِبَلِ الرَّاوِي ) :
( بَابُ الرُّكْنِ ) : قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رُكْنُ الْقِيَاسِ مَا جُعِلَ عَلَمًا عَلَى حُكْمِ النَّصِّ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ النَّصُّ وَجُعِلَ الْفَرْعُ نَظِيرًا لَهُ فِي حُكْمِهِ بِوُجُودِهِ فِيهِ 0
وفي تبيين الحقائق :
( بَابُ الْمُرْتَدِّينَ )
قَالَ رحمه الله ( وَكُرِهَ قَتْلُهُ قَبْلَهُ )
قَالَ رحمه الله ( وَارْتِدَادُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ صَحِيحٌ كَإِسْلَامِهِ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَا يُقْتَلُ )
وفي شرح التلويح على التوضيح :
( فَصْلٌ ) فِي الطَّعْنِ 0
وفي البحر المحيط :
وَمِنْهَا الْفَاءُ : وَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ وَزِيَادَةٍ , وَهِيَ التَّعْقِيبُ أَيْ :
فَصْلٌ فِي اشْتِمَالِ الْعُمُومِ عَلَى بَعْضِ مَنْ يُشْكِلُ تَنَاوُلُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْمُخَاطَبِ وَغَيْرِهِ , وَفِيهِ مَسَائِلُ :
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَابٍ يَكُونُ أَعَمَّ مِنْ السُّؤَالِ :
[ تَخْصِيصُ الْحَدِيثِ بِمَذْهَبِ رَاوِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ ]
الْخَامِسَ عَشَرَ : الْمُعَارَضَةُ وَهِيَ مِنْ أَقْوَى الِاعْتِرَاضَاتِ .
( حَادِيَ عَشَرَهَا ) يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ مِنْ لَفْظٍ العمُومٍ إلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ .
وفي طرح التثريب :
( الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ ) التَّحْرِيقُ بِالنَّارِ مَنْسُوخٌ 0
وفي البحر الزخار :
. فَصْلٌ وَالرِّدَّةُ هِيَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ0
وَتُقْتَلُ الْمَرْأَةُ بِالرِّدَّةِ لِعُمُومِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ }
مَسْأَلَةٌ " ( الْأَكْثَرُ ) وَاسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ قَبْلَ قَتْلِهِ مَشْرُوعَةٌ ( بص ) لَا , لِعُمُومِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ }
مَسْأَلَةٌ " وَحَدُّ الْمُرْتَدِّ إلَى الْإِمَامِ 0
مَسْأَلَةٌ " ( هـ ش ) وَإِذَا تَهَوَّدَ النَّصْرَانِيُّ أَوْ الْعَكْسُ لَمْ يُعْتَرَضْ لِتَقْرِيرِهِ عَلَى الْكُفْرِ
" مَسْأَلَةٌ " ( ط ى ) وَلَا يَقْتَصُّ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ الْحَاكِمِ0
" مَسْأَلَةٌ " وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ وَالْعَكْسُ , وَلَا بَيْنَ وَثَنِيٍّ وَكِتَابِيٍّ , وَلَا مَجُوسِيٍّ 0
فَصْلُ . وَحَدُّهُ الْقَتْلُ 0
وفي التقرير والتحبير :
( الْبَحْثُ الْخَامِسُ يَرِدُ عَلَى الْعَامِّ التَّخْصِيصُ فَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ )
( مَسْأَلَةٌ حَمْلُ الصَّحَابِيِّ مَرْوِيَّهُ الْمُشْتَرَكَ )
وفي التاج والإكليل :
( وَاسْتُتِيبَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَا جُوعٍ وَعَطَشٍ وَمُعَاقَبَةٍ مَا لَمْ يَتُبْ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ )
وفي أسنى المطالب :
( الرُّكْنُ الثَّانِي : الْقَتِيلُ وَشَرْطُهُ الْعِصْمَةُ )
( كِتَابُ الرِّدَّةِ ) .
( الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الرِّدَّةِ )
وفي الروضة البهية :
( وَالْمَرْأَةُ لَا تُقْتَلُ بِالِارْتِدَادِ )
( وَمِنْهَا - الِارْتِدَادُ . وَهُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِمَّا يُوبِقُ الْأَدْيَانَ )
وفي شرح الكوكب المنير :
( فَصْلٌ ) : ( لَفْظُ الرِّجَالِ وَالرَّهْطِ لَا يَعُمُّ النِّسَاءَ وَلَا الْعَكْسَ )
( فَصْلٌ ) ( إذَا وَرَدَ ) عَنْ الشَّارِعِ لَفْظٌ ( عَامٌّ وَ ) لَفْظٌ ( خَاصٌّ , قُدِّمَ الْخَاصُّ مُطْلَقًا )
( وَالْمُنَاسِبُ ) ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ .
الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ الْقَوَادِحِ ( الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ )
وفي الزواجر :
الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي الْكَبَائِرِ الْبَاطِنَةِ وَمَا يَتْبَعُهَا .
وفي تحفة المحتاج :
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْقَوَدِ شُرُوطًا فِي الْقَتْلِ قَدْ مَرَّتْ وَفِي الْقَاتِلِ وَسَتَأْتِي وَفِي الْقَتِيلِ كَمَا قَالَ ( وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ )
( وَتَجِبُ اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ )
وفي كشاف القناع :
( بَاب حُكْمُ الْمُرْتَدِّ وَهُوَ )
( فَصْلُ وَمَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ )
( وَإِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِمَا لَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُمَا )
( وَلَا يَجْرِي عَلَى الْمُرْتَدِّ رِقٌّ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَقَامَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ )
وفي مجمع الأنهر :
وَلَوْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي بَلْخِي أَوْ فِي هَذِهِ السِّكَّةِ أَوْ فِي هَذَا الْجَامِعِ حُرٌّ وَعَبْدُهُ فِيهَا لَا يُعْتَقُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ عَبْدَهُ .
بَاب ( الْمُرْتَدِّ )
( وَالْمَرْأَةُ ) إذَا ارْتَدَّتْ ( لَا تُقْتَلُ )
وفي الفواكه الدواني :(3/231)
وَلَمَّا قَدَّمَ أَحْكَامَ مَنْ يُقْتَلُ لِجِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ , شَرَعَ فِيمَنْ يُقْتَلُ لِجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ :
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّ مِنْ الِارْتِدَادِ الَّذِي هُوَ الرُّجُوعُ وَمِنْهُ الْمُرْتَدُّ 0
وَلَمَّا كَانَتْ الْمُحَرَّمَاتُ عَلَى الْمُكَلَّفِ كَثِيرَةً قَالَ :
وفي بريقة محمودية :
( الْقِسْمُ الثَّانِي ) مِنْ قِسْمَيْ آفَاتِ اللِّسَانِ
( وَيُكْرَهُ إحْرَاقُ كُلِّ حَيٍّ )
وفي سبل السلام :
شرح حديث من بدل دينه
وفي حاشية العطار :
( الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ مَنْ ) بِفَتْحِ الْمِيمِ ( شَرْطِيَّةٌ )
( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّ مَنْ الشَّرْطِيَّةَ تَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ )
( وَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ ) الصَّلَاةُ وَ ( السَّلَامُ وَتَقْرِيرِهِ فِي الْأَصَحِّ )
وَالْأَعَمُّ ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ ( وَالْعَامُّ ) الْوَارِدُ عَلَى ( سَبَبٍ خَاصٍّ ) فِي سُؤَالٍ أَوْ غَيْرِهِ ( مُعْتَبَرٌ عُمُومُهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ )
( وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمُتَأَخِّرُ ) عَنْ الْخَاصِّ ( نَاسِخٌ ) لَهُ كَعَكْسِهِ بِجَامِعِ التَّأَخُّرِ
( وَالْمُشْتَمِلُ عَلَى زِيَادَةٍ ) فَيُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ
وفي نيل الأوطار :
قتل المرتد
وفي شرح النيل :
( وَيُؤْجَرُ مُتَبَرِّعٌ بِقِتَالِ بَاغٍ أَوْ مَانِعٍ ) لِحَقٍّ ( أَوْ قَاطِعٍ ) لِطَرِيقٍ ( أَوْ مُرْتَدٍّ ) عَنْ الْإِسْلَامِ
الباب الرابع - الخلاصة في أحكام المرتد
أَثَرُ الرِّدَّةِ عَلَى الْإِحْصَانِ بِنَوْعَيْهِ :
إرْثُ الْمُرْتَدِّ :
أَسْرَى الْمُرْتَدِّينَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْ أَحْكَامٍ
47 - وَإِذَا ارْتَدَّ جَمْعٌ , وَتَجَمَّعُوا وَانْحَازُوا فِي دَارٍ يَنْفَرِدُونَ بِهَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ , حَتَّى صَارُوا فِيهَا ذَوِي مَنَعَةٍ وَجَبَ قِتَالُهُمْ عَلَى الرِّدَّةِ بَعْدَ مُنَاظَرَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ0
أَسْبَابُ الْإِعَادَةِ :
الرَّابِعُ - الرِّدَّةُ :
الْإِعْذَارُ فِي الرِّدَّةِ ( الِاسْتِتَابَةُ ) :
( إغْمَاءُ الْقَاضِي ) :
أَثَرُ تَغَيُّرِ الْأَهْلِيَّةِ فِي انْفِسَاخِ الْعُقُودِ :
22 - وَرِدَّةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مُوجِبَةٌ لِانْفِسَاخِ عَقْدِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ
الِانْفِسَاخُ فِي الْجُزْءِ وَأَثَرُهُ فِي الْكُلِّ :
أَثَرُ إنْكَارِ الرِّدَّةِ فِي حُصُولِ التَّوْبَةِ مِنْهَا :
الإيمَانُ
الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ :
( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) :
تَجْدِيدُ نِكَاحِ الْمُرْتَدَّةِ :
شُرُوطُ الْمُحَكَّمِ :
تَحَوُّلُ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَعَكْسُهُ :
عَاشِرًا : تَدَاخُلُ الْحُدُودِ :
تَدَارُكُ الْمُرْتَدِّ لِمَا فَاتَهُ :
تَعَارُضُ احْتِمَالِ بَقَاءِ الْإِسْلَامِ وَحُدُوثِ الرِّدَّةِ :
وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّكْرَارِ أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهِ فِي مَسَائِلَ ,
تَكْفِيرُ السَّكْرَانِ :
آثَارُ التَّكْفِيرِ :
التَّلْفِيقُ بَيْنَ شَهَادَتَيْنِ لِإِثْبَاتِ الرِّدَّةِ :
تَمْيِيزٌ
مَنَاطُ التَّكْلِيفِ التَّمْيِيزُ أَوْ الْبُلُوغُ :
عَدَمُ الْعَوْدِ :
ب - تَوْبَةُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ :
ثَانِيًا : فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى :
هـ - الرِّدَّةُ :
ب - ( فِي الْحُدُودِ ) :
أَسْبَابُ سُقُوطِ الْحَبْسِ تَعْزِيرًا وَقَطْعُ مُدَّتِهِ :
حَالَاتُ الْحَبْسِ بِسَبَبِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الدِّينِ وَشَعَائِرِهِ :
إنْفَاقُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ الْمَحْبُوسَةِ :
شُرُوطُ إجْزَاءِ الْحَجِّ عَنْ الْفَرْضِ :
( الرِّدَّةُ ) :
تَقْدِيمُ الْحُقُوقِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ تَيَسُّرِهِ وَتَعَذُّرِ الْجَمْعِ :
سُقُوطُ دَيْنِ اللَّهِ
شُرُوطُ الرَّجْعَةِ : وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ مَا يَلِي :
رِدَّةٌ
رِدَّةُ الصَّبِيِّ :
الْمُرْتَدُّ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَا يُقْتَلُ :
رِدَّةُ الْمَجْنُونِ :
رِدَّةُ السَّكْرَانِ :
الْمُكْرَهُ عَلَى الرِّدَّةِ :
مَا تَقَعُ بِهِ الرِّدَّةُ : 10
( حُكْمُ سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى ) :
حُكْمُ سَبِّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلمِ :
هَلْ يُقْتَلُ السَّابُّ رِدَّةً أَمْ حَدًّا ؟
حُكْمُ سَبِّ الْأَنْبِيَاءِ عليهم الصلاة والسلام :
حُكْمُ سَبِّ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم :
حُكْمُ مَنْ قَالَ لِمُسْلِمٍ يَا كَافِرُ :
مَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ مِنْ الْأَفْعَالِ :
الرِّدَّةُ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ :
جِنَايَاتُ الْمُرْتَدِّ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ :
جِنَايَةُ الْمُرْتَدِّ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ :
زِنَى الْمُرْتَدِّ :
قَذْفُ الْمُرْتَدِّ غَيْرَهُ :
( إتْلَافُ الْمُرْتَدِّ الْمَالَ ) :
( السَّرِقَةُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ ) :
مَسْئُولِيَّةُ الْمُرْتَدِّ عَنْ جِنَايَاتِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ :
الِارْتِدَادُ الْجَمَاعِيُّ :
الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ :
الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ :
قَذْفُ الْمُرْتَدِّ :
ثُبُوتُ الرِّدَّةِ :
اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ حُكْمُهَا :
كَيْفِيَّةُ تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ :
تَوْبَةُ سَابِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم :
تَوْبَةُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ :
تَوْبَةُ السَّاحِرِ :
قَتْلُ الْمُرْتَدِّ :(3/232)
أَثَرُ الرِّدَّةِ عَلَى مَالِ الْمُرْتَدِّ وَتَصَرُّفَاتِهِ : دُيُونُ الْمُرْتَدِّ :
أَمْوَالُ الْمُرْتَدِّ وَتَصَرُّفَاتُهُ :
أَثَرُ الرِّدَّةِ عَلَى الزَّوَاجِ :
حُكْمُ زَوَاجِ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ الرِّدَّةِ :
مَصِيرُ أَوْلَادِ الْمُرْتَدِّ :
إرْثُ الْمُرْتَدِّ :
أَثَرُ الرِّدَّةِ فِي إحْبَاطِ الْعَمَلِ :
أَثَرُ الرِّدَّةِ عَلَى الْعِبَادَاتِ تَأْثِيرُ الرِّدَّةِ عَلَى الْحَجِّ :
تَأْثِيرُ الرِّدَّةِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ :
51 - تَأْثِيرُ الرِّدَّةِ عَلَى الْوُضُوءِ :
ذَبَائِحُ الْمُرْتَدِّ :
رِزْقٌ
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الْأَحْكَامِ الْمُتَّصِلَةِ بِالرِّزْقِ :
وَظَائِفُ الْإِمَامِ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى أَهْلِ الْجِهَادِ مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ :
الْقَوْلُ الضَّابِطُ فِيمَنْ يَرْعَاهُ الْإِمَامُ :
انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ :
أَسْبَابُ السَّبْيِ : الْأَوَّلُ - الْقِتَالُ :
سِرَايَةُ الْقَوَدِ :
الْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ وَالسُّكْرُ بَعْدَ النِّيَّةِ :
انْحِلَالُ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ :
ج - ( الرِّدَّةُ ) :
و - ( الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ ) :
( فَسْخُ النِّكَاحِ ) :
تَوْبَةُ الْفَاسِقِ :
قَذْفُ الْمُرْتَدِّ وَالْكَافِرِ وَالذِّمِّيِّ وَالْفَاسِقِ :
مَا يَقْطَعُ أَحْكَامَ الْقَرَابَةِ مِنْ الرِّدَّةِ أَوْ اخْتِلَافِ الدِّينِ :
مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ :
الرّدّة بإهانة المصحف :
سادساً : ردّة ربّ المال أو المضارب :
وجوب المتعة للمفوّضة إذا طلقت قبل الدخول :
خامساً - سب الملائكة :
المرتد :
الأحكام المتعلّقة بالمنتقل :
نكاح المنتقل :
4 - اختلف الفقهاء في حكم نكاح المسلم للمنتقلة :
الزّيادة في المهر والحط منه :
أ - مواضع تنصف المهر :
41 - وأمّا كيفيّة التّشطر عند الشّافعيّة ففيها أوجه :
د - إمهال المرتدّ :
الباب الخامس
بعض أقوال المعاصرين
الردة والمفهوم المغلوط [ أبو سعد العاملي]
وفي فتاوى الأزهر :
الموضوع (76) زواج المسيحى بمسلمة وآثاره.
الموضوع (3331) مسيحى يدعى الإسلام ثم يتزوج بمسلمة.
الموضوع (3333) زواج موقوف.
الموضوع(3334) أثر الردة على عقد الزواج.
الموضوع (363) وجوب العدة على المرتدة.
الموضوع (191 ) حضانة المرتدة وميراثها قبل الردة.
الموضوع (126) مشروع نفقة زوجات المسجونين والمفقودين وسيىء العشرة.
الموضوع (1024) وصية من توفى مرتدا باطلة.
الموضوع ( 2498 ) اختلاف الدين والردة من موانع الإرث
الموضوع ( 2504 ) وفاة أب مسيحى عن زوجة وأولاد مسيحيين وابن مرتد.
الموضوع ( 2506 ) وفاة زوجة مسيحية عن زوج أسلم ثم ارتد.
الموضوع ( 683 ) تشبه المسلم بالكافر.
الموضوع (302) اعتناق اسلام.
الموضوع (1228) ردة
الموضوع (1229) ردة وعودة إلى الإسلام.
الموضوع (1230) الردة بالفعل أو بالقول.
الموضوع (311) ردة الزوجة لا تقتضى فسخ نكاحها.
الموضوع (312) حكم زوجة المرتد.
الموضوع ( 938 ) ردة الزوجة وما يتبع معها.
الموضوع ( 939 ) ردة غير معتبرة شرعا.
الموضوع ( 943 ) ردة الصبى المميز معتبرة شرعا.
الموضوع ( 3432 ) ردة عن الإسلام.
الموضوع ( 673 ) الاستعانة بغير المسلمين وغير الصالحين على مافيه الخير جائزة.
الموضوع (993) أ- سلخ قرنية عين ميت وتركيبها لحى، ب- وكالة واختلاف دين.
الموضوع (1321) دور الشريعة الإسلامية فى تحقيق أهداف المجتمع.
الموضوع ( 697 ) حكم وقف المسلم بعد ردته.
الموضوع ( 1113 ) التجسس فى الإسلام
طلاق معلق بكناية من كناياته وردة عن الإسلام
المرتدة ليست أهلا للحضانة
اعتناق المذهب البهائى ردة مانعة من الإرث
عودة المرتد إلى الإسلام
الإسلام الثابت لا يزول بالشك
ردة
اعتناق الدين البهائى ردة عن الإسلام
أحوال النبى عيسى عليه السلام
سب الديك
البيعة على الإسلام والهجرة
حفظ الأسرار والتجسس
السحر وخطره
التكفير وضوابطه
قتل المرتد إذا لم يتب
مقاصد الشريعة .. أساس لحقوق الإنسان
التكفير والنفاق ومذاهب العلماء فيهما
أمواج الردة وصخرة الإيمان
تعقيباً على تقرير أيديولوجيا التكفير والإرهاب
حكم تكريم بعض المنحرفين واستقبالهم والاحتفاء بهم
القول المُصيب في حكم زواج المسلمة من عابد الصليب
الردة
الردة
هل يقتل المسلم بالوراثة إذا ارتدَّ
ثبوت حد الردة!
هل أحرق الإمام علي بعض الخوارج؟
تكفير المعين المستهزئ بالدين
إقامة الحد من غير الإمام
إكراه المسلمات على الردة سيناريو مكرر وحقائق غائبة وردود معلبة
الردة في ثوبها الجديد
حد الردة هو السياج المنيع والحصن الحصين لحماية هذا الدين والحفاظ على المسلمين ( 1 )
حد الردة هو السياج المنيع والحصن الحصين لحماية هذا الدين والحفاظ على المسلمين ( 2 )
لا .. للمرتدين ذهنيّاً
جواب في الإيمان و نواقضه
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية
حرية العقيدة لا تعني حرية الارتداد
الأدلة الواقعية والنقلية على وجوب قتل المرتد
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ
حكم قتل المرتد من دون إذن الإمام
توضيح حول عدم إقامة حد الردة على عبيد الله بن جحش
الخروج من الدين ردة
الردة عن الإسلام أغلظ من الكفر الأصلي
معاملة المرتد في ظل غياب الشريعة
شبهة حول الإسلام وجوابها
شبهة وجوابها حول قتل المرتد والزاني المحصن
عقوبة المرتد وضوابطها
شبهة وجوابها حول قتل المرتد
ضوابط التكفير وحكم استتابة المرتد
الحدود الشرعية صادرة عن الله
حقوق الإنسان والإرهاب والعنف الدولي وحكم المرتدين
حكم أهل الكتاب
حكم الاستغاثة بأرواح الأولياء والصالحين
توبة المرتد(3/233)
فعل الكفر قبل التكليف
لا تجوز زيارة قبور الأولياء عند كل صلاة والتودد لهم مطية الشرك
أقوال العلماء فيمن حج ثم ارتد ثم تاب
مسبة الرب ردة
ماذا تفعل الخطيبة بهدايا الخاطب المرتد عن الإسلام
من تكرر منه شتم الرب، وحكم بقاء زوجته معه
عدم تكفير الكفار كفر
زواج الرجل بالرجل كبرت فاحشة!!!
التكفير يبت فيه العلماء الأثبات وفق ضوابط دقيقة
من أحكام التعامل مع المرتد
العلة في أقامة الحد على المرتد
الخطوات الواجبة على الزوجة تجاه زوجها المرتد
من انتسب إلى غير الإسلام فهو كما قال
كيفية رجوع زوجة المرتد النادم لزوجها
حكم الإنفاق على أولاد المرتد من ماله
حكم ترويج الكفر وإشاعته
مذاهب العلماء في حكم زوجة المرتد
التلفظ بما فيه إهانة للخالق كفر سواء قصد ذلك أم لا ما لم يكن سبق لسانه به .
مذاهب العلماء في حكم وراثة المرتد
حكم تناول الأطعمة المقدمة للأصنام
أقوال العلماء في غسل الكافر والمرتد إذا أسلم
حكم قبول الهدية ممن ثبتت ردته
صالحون من ذرية إبراهيم.. فلا تعارض إذن
كل مرتد هو معادٍ للإسلام
تنصر ومات.. كيف يتصرف أولاده المسلمون
حرمة زواج الكافر من المسلمة محل إجماع
حكم الملحد في الإسلام
الفكر الاعتزالي يهدف إلى تفريق الأمة وتمزيقها
عقوبة المرتد لا تتغير بتغير الزمان
حكم قبول المال من غير المسلم
حكم قطع صلة الجد المرتد
ما ذبحه المرتد لا يحل أكله
ذبيحة المرتد لا تؤكل
يجب على المسلم أن يقاوم الردة بكل صورها
الكليات الخمس بيانها وترتيبها
المرتد الذي يطبق عليه حد الردة
قول الجمهور في باب قضاء الصلاة أبرأ للذمة
لا يرث المرتد والده المسلم
حكم الوصية للابن المرتد
الكافر ليس من أهل الزكاة
هل يحال بين ساب الله وبين زوجه
هل تقبل توبة من تكررت منه الردة
الاستغفار بمجرده لا يكفي لتحقيق التوبة
هل يدفع مؤخر الصداق للزوجة المرتدة
المرتد ليس له ولاية على ابنته
الإسلام والردة
المرتد التائب كيف يرجع إلى زوجته
الأحوال التي يوصف بها الشخص بالردة
حكم ترك صلاة واحدة تكاسلا
الضحك عند الاستهزاء بالدين
نفقة زوجة وابنة المرتد
هل يغتسل المرتد إذا رجع إلى حظيرة الإسلام
الزواج بمن تنكر صفات الله تعالى
من أعمال الكفر: مظاهرة المشركين على المسلمين
الصلاة على المرتد
كيفية غسل المرتد إذا اسلم
أهل الكتاب الذين سمعوا برسولنا ولم يؤمنوا
موقف المسلم من المسلم الذي وقع في الكفر
حكم زوجة المرتد
هل يرث الأولاد الذين لم يعلنوا إسلامهم أباهم المسلم
قتل الساب هل يتعارض مع الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة
تعريف المرتد وما يلحق به من أحكام
المرتد إذا تاب وأخلص يمكن أن يكون من أهل الفردوس
نكاح المرتدة
دفاع عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
خطورة السماح بالتنصير في البلاد الإسلامية
من أحكام المرتد
ساب الدين هل يفسخ نكاحه وحكم طلاقه قبل توبته
غسل المرتد وهل يجزئه عن غسل الجنابة
هل يقبل الله توبة المرتد
الزواج من الكتابية وممن تنتمي إلى فرقة منحرفة
المعاصي هل تخرج الزوجة من العصمة
الإسلام هو الدين المقبول عند الله
حكم الاستهزاء بأحكام الدين
ترك الزوج المرتد ووقت انتهاء العدة
حكم الإسلام فيمن يسرقون المصلين في المساجد
بينونة الزوجة من الزوج الساب للدين والرب
أحكام من سب الله ورسوله وهو غضبان
حكم اغتسال المرتد إذا تاب
حكم ولد المرتد
طلاق المرتد
شروط توبة المرتد
هل يعود إلى الإسلام المرتد إذا صلى ونطق بالشهادتين في التشهد
بيان الردة وأحكامها
الباب السادس- رد بعض الشبهات حول حد الردة
126- الحدود فى الإسلام
129- حد الردة
شبهات النصارى حول الإسلام
وفي كتاب شبهات حول الإسلام للداعية الإسلامي الكبير محمد قطب حفظه الله :
الإسلام … وَالعقوبات
الرِّدة بين الصراع الحضاري وُسنَّة التدافع
الرد على شبهة حرية الرأي: حد الردة
شبهة حول قتل المرتد
هل يقر الإسلام الحرية الدينية؟
الحدود والحريات الفردية
الجمع بين إيجاب حد الردة وآية "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"
عقوبة المرتد...وحرية المعتقد
الردة: الأسباب والعقوبات وتهافت الشبهات
الرد على شبهات حول الجهاد العراقي
وفي كتاب : حول تطبيق الشريعة تأليف العلامة محمد قطب حفظه الله :
المبْحَثُ الأول - هَل تَنفَصِلُ العقيدَةُ عَنِ الشّريْعَة فِي دِيْنِ اللهِ
المبْحَثُ الثاني - هَلْ لِوَليِّ الأَمْرِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي أَحْكَامِ الشَّريْعَةِ بِحَسَبِ الأحوَال ؟
المبحَث الثالِث -شُبْهَةُ التطوّرْ وَعَدَمُ مُلاَءَمة الشَّريعة للأَحوالِ المُستَجدّة في حَياةِ النَّاسِ
المبحَث الرّابع -شُبْهَة تَعارُض أحكَام الشريْعة مَعَ مقتضَيَاتِ الحضَارة الحَديثة
وَوُجُوبُ الأَخْذِ بِمَعَايِيرْ الحَضَارة دُوْنَ الشَّرِيعَة
المبحَث الخامِس
شُبهَة عَدَم إِمْكَانِ تَطبيْقِ الشَّريعَةِ بِسَبَبِ وجُودِ الأَقليَّات غَير
المُسْلِمَةِ
المبْحَث السَّادسْ
شُبْهة عَدَم إمْكَانِ تَطبيْق الشَّريعَةِ
ِبسَبَبِ الدّولِ العظمَى وَضَغْطِها عَلى العَالم الإِسْلامِيِّ
تعقيب
واجبنا نحو تطبيق شريعة الله(3/234)