فَإِنَّ مُوجِبَهُ وَحَقِيقَتَهُ نَفْيُ الْجَوَازِ وَمُحْتَمَلُهُ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ وَالْمُحْتَمَلُ هُوَ الْمُرَادُ لِدَلَائِلَ دَلَّتْ عَلَيْهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ النَّاقِلُ بِالْمَعْنَى فَقِيهًا رُبَّمَا يَنْقُلُهُ بِلَفْظٍ لَا يَبْقَى فِيهِ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِأَنْ قَالَ مَثَلًا لَا يَجُوزُ وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُسَمِّ فَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ وَيَفْسُدُ الْمَعْنَى , وَلَعَلَّهُ أَيْ النَّاقِلُ يُرِيدُهُ عُمُومًا بِأَنْ يَذْكُرَ جَمْعَ الْكَثْرَةِ مَقَامَ جَمْعِ الْقِلَّةِ أَوْ يَذْكُرَ لَفْظَ الْجَمَاعَةِ مَكَانَ الطَّائِفَةِ أَوْ يَذْكُرَ لَفْظَ الْجِنْسِ مَقَامَ الْعَامِّ صِفَةً وَمَعْنًى . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْمُشْكِلُ وَالْمُشْتَرَكُ فَلَا يُخِلُّ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام { الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ } فَإِنَّ مَعْنَاهُ إيجَادُ الطَّلَاقِ أَوْ إظْهَارُ الطَّلَاقِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَكِ وَمِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام { الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا } فَإِنَّ التَّفَرُّقَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَحْتَمِلُ التَّفَرُّقَ فِي الْقَوْلِ وَالْبَدَنِ كَذَا رَأَيْت بِخَطِّ شَيْخِي رحمه الله . قَوْلُهُ ( وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ ) وَهُوَ جَوَامِعُ الْكَلِمِ فَلَا يُؤْمَنُ فِيهِ أَيْ فِي نَقْلِهِ بِالْمَعْنَى الْغَلَطُ لِإِحَاطَةِ الْجَوَامِعِ بِهِ فَلَا يُخِلُّ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى وَكُلُّ مُكَلَّفٍ بِمَا وَسِعَهُ كَأَنَّهُ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْ السُّنَّةِ لِأَلْفَاظِهَا وَلَا يُمْكِنُ دَرْكُ مَعَانِي جَوَامِعِ الْكَلِمِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ نَقْلُهُ بِاللَّفْظِ فَقَالَ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَرْكِ الْمَعَانِي فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَبْلِيغِ اللَّفْظِ فَكُلِّفَ بِمَا كَانَ فِي وُسْعِهِ , وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } أَيْ غَلَّةُ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى الْحَاصِلَةُ قَبْلَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ طَيِّبَةٌ لِلْمُشْتَرِي ; لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ قَبْلَ الرَّدِّ هَلَكَ مِنْ مَالِهِ كَذَا فِي لَبَاتَ الْغَرْبِيِّينَ . وَفِي الْفَائِقِ كُلُّ مَا خَرَجَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ خَرَاجُهُ فَخَرَاجُ الشَّجَرِ ثَمَرُهُ , وَخَرَاجُ الْحَيَوَانِ دَرُّهُ وَنَسْلُهُ . قَوْلُهُ عليه السلام { الْغُرْمُ بِإِزَاءِ الْغُنْمِ } { الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ } { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ } { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } . وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْجَوَامِعِ وَغَيْرِهَا يَعْنِي إنْ كَانَتْ الْكَلِمَةُ الْجَامِعَةُ ظَاهِرَةَ الْمَعْنَى يَجُوزُ نَقْلُهَا بِالْمَعْنَى عِنْدَهُمْ كَمَا يَجُوزُ نَقْلُ سَائِرِ الظَّوَاهِرِ وَلَكِنْ بِالشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا لِعِلْمِ اللُّغَةِ وَفِقْهِ الشَّرِيعَةِ ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ يُؤْمَنُ فِي نَقْلِهِ عَنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ يُخِلُّ بِمَعْنَى الْكَلَامِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الظَّاهِرِ , لَكِنَّ هَذَا أَيْ عَدَمَ الْجَوَازِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ فَحْوَى الْكَلَامِ أَحْوَطُ الْوَجْهَيْنِ وَهُمَا الْجَوَازُ وَعَدَمُ الْجَوَازِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام كَانَ مَخْصُوصًا بِهَذَا النَّظْمِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ { أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ } أَيْ خُصِّصْت بِهَا فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ بَعْدَهُ عَلَى مَا كَانَ هُوَ مَخْصُوصًا بِهِ وَلَكِنْ كُلُّ مُكَلَّفٍ بِمَا فِي وُسْعِهِ وَفِي وُسْعِهِ نَقْلُ ذَلِكَ اللَّفْظِ لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا إلَى غَيْرِهِ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ بِيَقِينٍ , وَإِذَا نَقَلَهُ إلَى عِبَارَتِهِ لَمْ نَأْمَنْ الْقُصُورَ فِي الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ بِهِ وَنَتَيَقَّنُ بِالْقُصُورِ فِي النَّظْمِ الَّذِي هُوَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَكَانَ هَذَا النَّوْعُ هُوَ مُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ ثُمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا . وَبِمَا ذَكَرْنَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالُوا إنَّ النَّبِيَّ عليه السلام مَخْصُوصٌ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ فَلَا يُؤْمَنُ فِي النَّقْلِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ ; لِأَنَّا لَمْ نُجَوِّزْ النَّقْلَ فِي الْجَوَامِعِ وَلَا فِيمَا لَا يُؤْمَنُ فِيهِ عَنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ إنَّمَا جَوَّزْنَاهُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ عَالِمًا بِأَوْضَاعِ الْكَلَامِ أَوْ فِيمَا لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ جَامِعًا بَيْنَ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفِقْهِ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُؤْمَنُ فِيهِ عَنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ عَادَةً وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ وَفِي تَفْصِيلِ الرُّخْصَةِ جَوَابٌ عَمَّا قَالَ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا تَمَسُّك لَهُمْ فِيهِ ; لِأَنَّ الْأَدَاءَ كَمَا سَمِعَ لَيْسَ بِمُقْتَصِرٍ عَلَى نَقْلِ الْمَعْنَى أَيْضًا فَإِنَّ الشَّاهِدَ أَوْ الْمُتَرْجِمَ إذَا أَدَّى الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ يُقَالُ إنَّهُ أَدَّى كَمَا(2/258)
سَمِعَ وَإِنْ كَانَ الْأَدَاءُ بِلَفْظٍ آخَرَ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ التَّأْدِيَةَ حَسَبَ مَا سَمِعَ إنَّمَا يَكُونُ بِاللَّفْظِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِرُجُوعِ الضَّمَائِرِ إلَى الْمُقَابَلَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَالْمَنْعِ مِنْ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ عليه السلام دَعَا لِمَنْ حَفِظَ اللَّفْظَ وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَرْغُوبٌ فِيهِ لَا عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ وَنَحْنُ نَقُولُ بِالْأَوْلَوِيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
==============
وَهَذَا ( بَابُ مَا يَلْحَقُهُ النَّكِيرُ مِنْ قِبَلِ الرَّاوِي ) :(1)
__________
(1) - كشف الأسرار - (ج 5 / ص 136)(2/259)
وَهَذَا النَّوْعُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : مَا أَنْكَرَهُ صَرِيحًا , وَالثَّانِي أَنْ يَعْمَلَ بِخِلَافِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ أَوْ بَعْدَ مَا بَلَغَهُ أَوْ لَا يَعْرِفُ تَارِيخَهُ , وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يُعَيِّنَ بَعْضَ مَا احْتَمَلَهُ الْحَدِيثُ مِنْ تَأْوِيلٍ أَوْ تَخْصِيصٍ , وَالرَّابِعُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ . أَمَّا إذَا أَنْكَرَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ الرِّوَايَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ وَهَذَا أَشْبَهُ , وَقَدْ قِيلَ إنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ أَنْ يَسْقُطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله لَا يَسْقُطُ وَهُوَ فَرْعُ اخْتِلَافِهِمَا فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى الْقَاضِي بِقَضِيَّةٍ وَهُوَ لَا يَذْكُرُهَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله لَا تُقْبَلُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ تُقْبَلُ . أَمَّا مَنْ قَبِلَهُ فَقَدْ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَهُ حَيْثُ قَالَ أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَهَا فَقَالَ كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ ذَلِكَ قَدْ كَانَ , وَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَا نَعَمْ فَقَبِلَ شَهَادَتَهُمَا عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لَمْ يَذْكُرْ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ مُحْتَمَلٌ مِنْ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بِتَحْمِيلِ الْأُصُولِ فَلِذَلِكَ بَطَلَتْ بِإِنْكَارِهِمْ , وَالْحُجَّةُ لِلْقَوْلِ الثَّانِي مَا رُوِيَ عَنْ { عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ أَمَا تَذْكُرُ حَيْثُ كُنَّا فِي إبِلٍ فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْت فِي التُّرَابِ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ عليه السلام فَقَالَ إنَّمَا كَانَ يَكْفِيك ضَرْبَتَانِ } فَلَمْ يَذْكُرْهُ عُمَرُ فَلَمْ يَقْبَلْ خَبَرَهُ مَعَ عَدَالَتِهِ وَفَضْلِهِ وَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُرَدُّ بِتَكْذِيبِ الْعَادَةِ فَتَكْذِيبُ الرَّاوِي - وَعَلَيْهِ مَدَارُهُ - أَوْلَى , وَحَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام ذَكَرَهُ فَعَمِلَ بِذِكْرِهِ وَعِلْمِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ فَمَا كَانَ يُقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ , وَالْحَاكِي يَحْتَمِلُ النِّسْيَانَ بِأَنْ سَمِعَ غَيْرَهُ فَنَسِيَهُ وَهُمَا فِي الِاحْتِمَالِ عَلَى السَّوَاءِ وَمِثَالُ ذَلِكَ حَدِيثُ رَبِيعَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ فِي الشَّاهِدَيْنِ وَالْيَمِينِ أَنَّ سُهَيْلًا سُئِلَ عَنْ رِوَايَةِ رَبِيعَةَ عَنْهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ وَكَانَ يَقُولُ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي وَمِثْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا نِكَاحُهَا بَاطِلٌ } رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيِّ وَسَأَلَ ابْنُ جُرَيْجٍ الزُّهْرِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ فَلَمْ تَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رحمهما الله وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَنْكَرَ مَسَائِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ حَكَاهَا عَنْهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَلَمْ يَقْبَلْ شَهَادَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ حِينَ لَمْ يَذْكُرْ وَصَحَّحَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ وَأَمَّا إذَا عَمِلَ بِخِلَافِهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ رِوَايَتِهِ وَقَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ لَمْ يَكُنْ جَرْحًا ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ تَرَكَهُ بِالْحَدِيثِ إحْسَانًا لِلظَّنِّ بِهِ , وَأَمَّا إذَا عَمِلَ بِخِلَافِهِ بَعْدَهُ مِمَّا هُوَ خِلَافٌ بِيَقِينٍ فَإِنَّ ذَلِكَ جَرْحٌ فِيهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ حَقًّا فَقَدْ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَإِنْ كَانَ خِلَافُهُ بَاطِلًا فَقَدْ سَقَطَ بِهِ رِوَايَتُهُ إلَّا أَنْ يَعْمَلَ بِبَعْضِ مَا يَحْتَمِلُهُ الْحَدِيثُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى , وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ تَارِيخُهُ لَمْ يَسْقُطْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ ; لِأَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَهُوَ بَاطِلٌ } ثُمَّ إنَّهَا زَوَّجَتْ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ غَائِبٌ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الرِّوَايَةِ فَلَمْ يَبْقَ حُجَّةٌ وَمِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ سَقَطَ بِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ صَحِبْت ابْنَ عُمَرَ سِنِينَ فَلَمْ أَرَهُ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَأَمَّا عَمَلُ الرَّاوِي بِبَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ فَرُدَّ لِسَائِرِ الْوُجُوهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الْجَرْحُ بِهَذَا ; لِأَنَّ احْتِمَالَ الْكَلَامِ لُغَةً لَا يَبْطُلُ بِتَأْوِيلِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا } وَحَمْلُهُ عَلَى افْتِرَاقِ الْأَبَدَانِ وَالْحَدِيثُ مُحْتَمِلٌ افْتِرَاقَ الْأَقْوَالِ وَهُوَ مَعْنَى الْمُشْتَرَكِ ; لِأَنَّهُمَا مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ وَالِاشْتِرَاكُ لُغَةً لَا يَسْقُطُ بِتَأْوِيلِهِ وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ(2/260)
عَبَّاسٍ رضي الله عنه { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } , وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه لَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لَا يُتْرَكُ عُمُومُ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ وَتَخْصِيصِهِ , وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ مِثْلُ الْعَمَلِ بِخِلَافِهِ ; لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ حَرَامٌ مِثْلُ الْعَمَلِ بِخِلَافِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( بَابُ مَا يَلْحَقُهُ النَّكِيرُ مِنْ قِبَلِ رَاوِيهِ ) النَّكِيرُ اسْمٌ لِلْإِنْكَارِ أَيْ يَلْحَقُهُ إنْكَارٌ مِنْ قِبَلِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ وَيُسَمَّى رَاوِيًا بِاعْتِبَارِ نَقْلِهِ الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَوْ عَنْ غَيْرِهِ وَمِنْ قِبَلِ عَيْنِهِ بِاعْتِبَارِ نَقْلِ السَّامِعِ عَنْهُ , وَفِي الصِّحَاحِ النَّكِيرُ وَالْإِنْكَارُ تَغَيُّرُ الْمُنْكَرِ فَكَأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ بِالطَّعْنِ وَالتَّكْذِيبِ يُغَيِّرُ الْمُنْكَرَ الَّذِي ارْتَكَبَهُ الرَّاوِي عَلَى زَعْمِهِ قَوْلُهُ ( أَمَّا إذَا أَنْكَرَهُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ الرِّوَايَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِ ) ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي هَذَا الْفَصْلِ مُطْلَقًا وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ , أَمَّا إنْ أَنْكَرَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ إنْكَارَ جَاحِدٍ مُكَذِّبٍ بِأَنْ قَالَ مَا رَوَيْتُ لَك هَذَا الْحَدِيثَ قَطُّ أَوْ كَذَبْت عَلَيَّ أَوْ أَنْكَرَهُ إنْكَارَ مُتَوَقِّفٍ بِأَنْ قَالَ لَا أَذْكُرُ أَنِّي رَوَيْت لَك هَذَا الْحَدِيثَ أَوْ لَا أَعْرِفُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مُكَذِّبٌ لِلْآخَرِ فَلَا بُدَّ مِنْ كَذِبِ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْقَدْحِ فِي الْحَدِيثِ وَلَكِنْ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي عَدَالَتِهِمَا لِلتَّيَقُّنِ بِعَدَالَةِ كُلِّ وَاحِدٍ وَوُقُوعِ الشَّكِّ فِي زَوَالِهَا فَلَا يُتْرَكُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ كَبَيِّنَتَيْنِ مُتَكَافِئَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَيْنِ لَمْ تُقْبَلَا وَلَمْ تَسْقُطْ عَدَالَتُهُمَا وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْخَبَرِ كَذَا فِي عَامَّةِ نُسَخِ الْأُصُولِ , وَذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ إذَا جَحَدَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ وَكَذَّبَ بِالْحَدِيثِ سَقَطَ الْحَدِيثُ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ وَأَقُولُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَسْقُطَ ; لِأَنَّهُ قَالَ مَا قَالَ بِحَسَبِ ظَنِّهِ . وَإِنْ قَالَ مَا رَوَيْتُهُ أَصْلًا فَيُعَارِضُهُ قَوْلُ الرَّاوِي إنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثِقَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ رَوَاهُ ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَا يَسْقُطُ رِوَايَةُ الرَّاوِي بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ثِقَةً وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إلَى أَنَّ الْعَمَلَ يَسْقُطُ بِهِ كَمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُخْتَارُ الْقَاضِي الْإِمَامِ وَالشَّيْخَيْنِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يُنْكِرْ , وَمَا قِيلَ إنَّ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ عُلَمَائِنَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْطُلَ الْخَبَرُ بِإِنْكَارِ رَاوِي الْأَصْلِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ يَبْطُلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ زَوْجَ الْمُعْتَدَّةِ لَوْ قَالَ أَخْبَرَتْنِي أَنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ , وَقَدْ أَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ الْإِخْبَارَ فَعِنْدَنَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ بَعْدَ إنْكَارِهَا حَتَّى يَحِلَّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِأُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا وَعِنْدَ زُفَرَ رحمه الله لَا يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ إلَّا فِي حَقِّهَا حَتَّى حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأُخْتِ وَالْأَرْبَعِ وَلَمْ يَحِلَّ لَهَا التَّزَوُّجُ بِزَوْجٍ آخَرَ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْأُخْتِ وَالْأَرْبَعِ لَهُ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي حَقِّهِ بِقَوْلِهِ لِكَوْنِهِ أَمِينًا فِي الْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ لَا لِاتِّصَالِ الْخَبَرِ بِهَا وَإِسْنَادِهِ إلَيْهَا , وَلِهَذَا لَوْ قَالَ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَلَمْ يُضِفْ الْخَبَرَ إلَيْهَا كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله . وَاحْتَجَّ مَنْ قَبْلَهُ بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِنَا صَلَاةَ الْعَصْرِ فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ إلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَاهُ أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ فَقَالَ كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَقَالَ قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ أَحَقٌّ مَا يَقُولُهُ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَا نَعَمْ فَقَامَ وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ } وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام رَدَّ(2/261)
حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ ثُمَّ لَمْ يَرُدَّ حَدِيثَهُ حَتَّى عَمِلَ بِقَوْلِ النَّاسِ أَوْ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما بِنَاءً عَلَى خَبَرِهِ فَلَوْ لَمْ يَبْقَ حُجَّةٌ بَعْدَ الرَّدِّ لَمَا عَمِلَ بِهِ عليه السلام هَكَذَا ذَكَرَ فِي نُسْخَةٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَأَظُنُّهَا لِلشَّيْخِ . قَالَ الْوَاقِدِيُّ اسْمُ ذِي الْيَدَيْنِ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ وَقِيلَ اسْمُهُ عَبْدُ عَمْرٍو بْنُ نَضْلَةَ وَقِيلَ اسْمُهُ ذُو الشِّمَالَيْنِ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ , وَقَالَ الْقُتَبِيُّ ذُو الشِّمَالَيْنِ الَّذِي اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ ذِي الْيَدَيْنِ وَاسْمُ ذُو الْيَدَيْنِ عُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو , وَقَالَ الْقُتَبِيُّ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا , وَقِيلَ لَقَبُهُ الْخِرْبَاقُ , وَبِأَنَّ حَالَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلَةٌ فَإِنَّ حَالَ الْمُدَّعِي يَحْتَمِلُ السَّهْوَ وَالْغَلَطَ وَحَالَ الْمُنْكِرِ يَحْتَمِلُ النِّسْيَانَ وَالْغَفْلَةَ إذْ النِّسْيَانُ قَدْ يَرْوِي شَيْئًا لِغَيْرِهِ ثُمَّ يَنْسَى بَعْدَ مُدَّةٍ فَلَا يَتَذَكَّرُهُ أَصْلًا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَدْلٌ ثِقَةٌ فَكَانَ مُصَدَّقًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يَبْطُلُ مَا تَرَجَّحَ مِنْ جِهَةِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِ الرَّاوِي بِعَدَالَتِهِ بِنِسْيَانِ الْآخَرِ كَمَا لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ وَجُنُونِهِ فَحَلَّ لِلرَّاوِي الرِّوَايَةُ . وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَإِنَّ الْأَصْلَ إذَا أَنْكَرَ لَا يَحِلُّ لِلْفَرْعِ الشَّهَادَةُ ; لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى التَّحْمِيلِ فَإِذَا أَنْكَرَ الْأَصْلُ سَقَطَ التَّحْمِيلُ وَبَقِيَ الْعِلْمُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الشَّهَادَةُ فَأَمَّا الرِّوَايَةُ فَمَبْنِيَّةٌ عَلَى السَّمَاعِ دُونَ التَّحْمِيلِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يَحْمِلْهُ الْمُحَدِّثُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِسَمَاعِهِ حَلَّ لِلسَّامِعِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فَإِذَا أَنْكَرَهَا وَالْمُدَّعِي مُصَدَّقٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بَقِيَ السَّمَاعُ فَحَلَّ لَهُ الرِّوَايَةُ كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ , وَاحْتَجَّ مَنْ رَدَّهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ رضي الله عنهما - وَكَانَ لَا يَرَى التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ - أَمَا تَذْكُرُ إذْ كُنَّا فِي إبِلٍ يَعْنِي إبِلَ الصَّدَقَةِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْت فِي التُّرَابِ أَيْ تَمَرَّغْت فَصَلَّيْت فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ { إنَّمَا يَكْفِيَك أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الْأَرْضَ ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَك وَذِرَاعَيْك } فَلَمْ يَرْفَعْ عُمَرُ رضي الله عنه رَأْسَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ رِوَايَتَهُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَدْلًا ; لِأَنَّهُ رَوَى عَنْهُ شُهُودٌ الْحَادِثَةَ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ هُوَ مَا رَوَاهُ وَكَانَ لَا يَرَى التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ بَعْدَ ذَلِكَ , وَبِأَنَّ بِتَكْذِيبِ الْعَادَةِ يُرَدُّ الْحَدِيثُ بِأَنْ كَانَ الْخَبَرُ غَرِيبًا فِي حَادِثَةٍ مَشْهُورَةٍ فَبِتَكْذِيبِ الرَّاوِي أَوْلَى ; لِأَنَّ تَكْذِيبَهُ أَدَلُّ عَلَى الْوَهْنِ مِنْ تَكْذِيبِ الْعَادَةِ ; لِأَنَّهُ يَدُورُ عَلَيْهِ وَهُوَ تَكْذِيبٌ صَرِيحًا وَذَلِكَ تَكْذِيبٌ دَلَالَةً وَالصَّرِيحُ رَاجِحٌ عَلَى الدَّلَالَةِ , وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً وَمَعْمُولًا بِهِ بِالِاتِّصَالِ بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَبِإِنْكَارِ الرَّاوِي يَنْقَطِعُ الِاتِّصَالُ ; لِأَنَّ إنْكَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ أَوْ يَصِيرُ هُوَ مُنَاقِضًا بِإِنْكَارِهِ وَمَعَ التَّنَاقُضِ لَا تَثْبُتُ الرِّوَايَةُ وَبِدُونِ الرِّوَايَةِ لَا يَثْبُتُ الِاتِّصَالُ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً كَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ , وَبِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ بِالتَّذْكِيرِ كَانَ مُغَفَّلًا وَرِوَايَةُ الْمُغَفَّلِ لَا تُقْبَلُ , وَبِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُصَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيَحِلُّ لِلرَّاوِي أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَلَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ لِتَحَقُّقِ الِانْقِطَاعِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِتَكْذِيبِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ وَأَمَّا حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ ; لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ الشَّفْعَ مِنْ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ عَنْ التَّقْرِيرِ عَلَى الْخَطَأِ يُعْمَلُ بِعِلْمِهِ لَا بِإِخْبَارِ أَحَدٍ . أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَاحِدٌ بِقَوْلِهِمَا لَكَانَ هَذَا تَقْلِيدًا مِنْهُ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَذَكَّرْ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الْغَيْرِ تَقْلِيدًا وَتَقْلِيدُهُ لِلْأَنْبِيَاءِ غَيْرُ جَائِزٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ , أَوْ تَذَكَّرَ غَفْلَتَهُ عَنْ حَالِهِ لِشَغْلِ . قَلْبٍ اعْتَرَضَ فَيُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِ , وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْخَبَرِ إنَّ رَاوِيَ الْأَصْلِ يَنْظُرُ فِي نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ يَمِيلُ إلَى غَلَبَةِ نِسْيَانٍ أَوْ كَانَتْ عَادَتُهُ ذَلِكَ فِي(2/262)
مَحْفُوظَاتِهِ قَبْلَ رِوَايَةِ غَيْرِهِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ يَمِيلُ إلَى جَهْلِهِ أَصْلًا بِذَلِكَ الْخَبَرِ رَدَّهُ وَقَلَّمَا يَنْسَى الْإِنْسَانُ شَيْئًا ضَبَطَهُ نِسْيَانًا لَا يَتَذَكَّرُ بِالتَّذْكِيرِ وَالْأُمُورُ تُبْنَى عَلَى الظَّوَاهِرِ لَا عَلَى النَّوَادِرِ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ قَوْلُهُ ( وَالْحَاكِي يَحْتَمِلُ النِّسْيَانَ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ النِّسْيَانُ مُحْتَمَلٌ مِنْ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ يَعْنِي كَمَا يُتَوَهَّمُ نِسْيَانُ الْأَصْلِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ يُتَوَهَّمُ نِسْيَانُ الْفَرْعِ وَغَلَطُهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْمَعُ حَدِيثًا فَيَحْفَظُهُ وَلَا يَحْفَظُ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ وَيَظُنُّ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ فُلَانٍ , وَقَدْ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَثْبُتُ الْمُعَارَضَةُ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الِاحْتِمَالِ فَلَمْ يَثْبُتْ أَحَدُهُمَا , يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَعْلَمُ بِسَمَاعِهِ عَنْ أَمْرِ يَقِينٍ يَعْلَمُ بِتَرْكِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ سَبَبِ يَقِينٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ أَيْضًا , لَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِيمَا إذَا كَانَ إنْكَارُ الْأَصْلِ إنْكَارَ جُحُودٍ وَالْخُصُومُ قَدْ سَلَّمُوا فِيهِ أَنَّهُ مَرْدُودٌ فَأَمَّا إذَا كَانَ إنْكَارُهُ إنْكَارَ مُتَوَقِّفٍ وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ التَّنَازُعُ فِيهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ ; لِأَنَّ الْفَرْعَ عَدْلٌ جَازِمٌ بِرِوَايَتِهِ عَنْ الْأَصْلِ وَالْأَصْلُ لَيْسَ بِمُكَذِّبٍ لَهُ ; لِأَنَّهُ يَقُولُ لَا أَدْرِي فَلَا يَكُونُ الِاحْتِمَالُ فِي الْفَرْعِ مِثْلُ الِاحْتِمَالِ فِي الْأَصْلِ بَلْ الِاحْتِمَالُ فِي الْأَصْلِ أَقْوَى فَلَا يَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ فَوَجَبَ قَبُولُ رِوَايَةِ الْفَرْعِ حِينَئِذٍ لِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِصِدْقِهِ وَسَلَامَتِهِ عَنْ الْمُعَارَضَةِ . وَذَكَرَ فِي الْمَحْصُولِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ رَاوِيَ الْفَرْعِ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَازِمًا بِالرِّوَايَةِ أَوْ لَا يَكُونُ , فَإِنْ كَانَ جَازِمًا فَالْأَصْلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَازِمًا بِالْإِنْكَارِ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ تَعَارَضَا فَلَا يُقْبَلُ الْحَدِيثُ , وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ الْأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ أَنِّي رَوَيْتُهُ أَوْ الْأَغْلَبُ أَنِّي مَا رَوَيْته أَوْ الْأَمْرَانِ عَلَى السَّوَاءِ أَوْ لَا يَقُولَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَقْبُولًا فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ لِكَوْنِ الْفَرْعِ جَازِمًا , وَإِنْ كَانَ الْفَرْعُ غَيْرَ جَازِمٍ بَلْ يَقُولُ أَظُنُّ أَنِّي سَمِعْته مِنْكَ فَإِنْ جَزَمَ الْأَصْلُ أَبَى مَا رَوَيْته لَك تَعَيَّنَ الرَّدُّ , وَإِنْ قَالَ أَظُنُّ أَنِّي مَا رَوَيْته لَك تَعَارَضَا وَالْأَصْلُ الْعَدَمُ , وَإِنْ ذَهَبَ إلَى سَائِرِ الْأَقْسَامِ فَالْأَشْبَهُ قَبُولُهُ , وَالضَّابِطُ أَنَّهُ إذَا كَانَ قَوْلُ الْأَصْلِ مُعَادِلًا لِقَوْلِ الْفَرْعِ تَعَارَضَا , وَإِذَا تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الرَّاجِحُ قَوْلُهُ ( وَمِثَالُ ذَلِكَ ) أَيْ مِثَالُ الْحَدِيثِ الَّذِي أَنْكَرَهُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ حَدِيثُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم { قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ } فَإِنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيَّ قَالَ لَقِيت سُهَيْلًا فَسَأَلْته عَنْ رِوَايَةِ رَبِيعَةَ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَلَمْ يَعْرِفْهُ وَكَانَ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي , فَأَصْحَابُنَا لَمْ يَقْبَلُوا هَذَا الْحَدِيثَ لِانْقِطَاعِهِ بِإِنْكَارِ سُهَيْلٍ وَتَمَسَّك بِهِ بَعْضُ مَنْ قَبِلَ هَذَا النَّوْعَ فَقَالَ لَمَّا قَالَ سُهَيْلٌ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي وَشَاعَ وَذَاعَ ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى قَبُولِهِ وَهَذَا فَاسِدٌ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ , غَايَتُهُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَقُولَ الْأَصْلُ بَعْدَ النِّسْيَانِ حَدَّثَنِي الْفَرْعُ عَنِّي وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ وَلَا جَوَازَهُ .(2/263)
قَوْلُهُ ( وَمِثْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ ) رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ بِنَذْرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ } الْحَدِيثَ . فَذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْهُ ابْنَ شِهَابٍ فَلَمْ يَعْرِفْهُ كَذَا ذَكَرَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْ ابْنِ أَبِي عُلَيَّةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ , فَلَمَّا رَدَّهُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ وَهُوَ الزُّهْرِيُّ لَمْ يَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ , وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي هَذَا الْأَصْلِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِمَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الشَّاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى الْقَاضِي يَقْضِيه وَهُوَ الظَّاهِرُ , وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وِفَاقِ قَوْلِهِمَا إلَى أَنَّهُ لَمْ يُجَوِّزْ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ لِأَحَادِيثَ أُخَرَ وَرَدَ فِيهِ مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام { لَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلَا الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا } . وَقَوْلُهُ عليه السلام { كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعٌ فَهُوَ سِفَاحٌ خَاطِبٌ وَوَلِيٌّ وَشَاهِدَا عَدْلٍ } وَقَوْلُهُ عليه السلام { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ } , وَنَحْوُهَا إلَّا أَنَّ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ عِنْدَهُمَا غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهَا لِمُعَارَضَتِهَا بِأَحَادِيثَ أُخَرَ مِثْلِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا } , وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً زَوَّجَتْ ابْنَتَهَا بِرِضَاهَا فَجَاءَ أَوْلِيَاؤُهُمَا فَخَاصَمُوهَا إلَى عَلِيٍّ فَأَجَازَ النِّكَاحَ . وَقَوْلُهُ عليه السلام { لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ } وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْأَسْرَارِ وَشَرْحِ الْآثَارِ وَالْمَبْسُوطِ , وَرَأَيْت فِي نُسْخَةٍ نَقْلًا عَنْ خَطِّ الشَّيْخِ الْإِمَامِ سَيْفِ الْحَقِّ وَالدِّينِ الْبَاخَرْزِيِّ رحمه الله أَنَّ مَدَارَ حَدِيثِ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا } عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى الدِّمَشْقِيِّ صَاحِبِ الْمَنَاكِيرِ ضَعَّفَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ , ثُمَّ السُّؤَالُ إذَا كَانَ بِمَعْنَى الِالْتِمَاسِ يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْهِ بِنَفْسِهِ يُقَالُ سَأَلْتُهُ الرَّغِيفَ , وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْسَارِ يَتَعَدَّى إلَى الْأَوَّلِ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الثَّانِي بِعَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْجِبَالِ } , { وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ } فَعَرَفْت بِهَذَا أَنَّ كَلِمَةَ عَنْ فِي قَوْلِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَهَا وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ وَسَأَلَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ كَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَا وَجْهَ لَهُ بَلْ الصَّوَابُ وَسَأَلَ ابْنُ جُرَيْجٍ الزُّهْرِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ . قَوْلُهُ ( وَمِثَالُ ذَلِكَ ) أَيْ مِثَالُ إنْكَارِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ فِي غَيْرِ الْأَحَادِيثِ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ كَانَ يَتَوَقَّعُ مِنْ مُحَمَّدٍ رحمهما الله أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ كِتَابًا فَصَنَّفَ مُحَمَّدٌ كِتَابَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَأَسْنَدَهُ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِوَاسِطَةِ أَبُو يُوسُفَ رحمهم الله فَلَمَّا عُرِضَ عَلَى أَبِي يُوسُفَ اسْتَحْسَنَهُ . وَقَالَ حَفِظَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إلَّا مَسَائِلَ خَطَّأَهُ فِي رِوَايَتِهَا عَنْهُ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مُحَمَّدًا قَالَ بَلْ حَفِظْتُهَا وَنَسِيَ هُوَ فَلَمْ يَقْبَلْ أَبُو يُوسُفَ شَهَادَةَ مُحَمَّدٍ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ وَلَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى إخْبَارِهِ عَنْهُ , وَصَحَّحَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ أَيْ أَصَرَّ عَلَى مَا رُوِيَ وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ بِإِنْكَارِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لَا يَسْقُطُ الْخَبَرُ بِإِنْكَارِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ , وَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ فَقِيلَ هِيَ ثَلَاثٌ وَقِيلَ هِيَ أَرْبَعٌ وَقِيلَ سِتٌّ وَالِاخْتِلَافُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْعَرَضِ وَجَمِيعُهَا مَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْمُصَنِّفِ رحمه الله . قَوْلُهُ ( وَأَمَّا إذَا عَمِلَ بِخِلَافِهِ ) عَمَلُ الرَّاوِي بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَوْ فَتْوَاهُ بِخِلَافِهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ رِوَايَتِهِ الْحَدِيثَ وَقَبْلَ بُلُوغِهِ إيَّاهُ , أَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ قَبْلَ الرِّوَايَةِ , أَوْ بَعْدَ الرِّوَايَةِ وَلَا يَخْلُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ خِلَافًا بِيَقِينٍ أَيْ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْ الْخَبَرِ بِوَجْهٍ أَوْ لَا يَكُونَ , فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرِّوَايَةِ وَقَبْلَ بُلُوغِهِ إيَّاهُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ جَرْحًا فِي الْحَدِيثِ بِوَجْهٍ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَذْهَبُهُ وَأَنَّهُ تَرَكَ(2/264)
ذَلِكَ الْخِلَافَ بِالْحَدِيثِ وَرَجَعَ إلَيْهِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ إحْسَانًا لِلظَّنِّ . أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ بَعْدَ تَحْرِيمِهَا قَبْلَ بُلُوغِهِ إيَّاهُمْ مُعْتَقِدِينَ إبَاحَتَهَا فَلَمَّا بَلَغَهُمْ انْتَهَوْا عَنْهُ حَتَّى نَزَلَ قوله تعالى { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ } الْآيَةَ وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ أَوْ الْفَتْوَى مِنْهُ بِخِلَافِ الْحَدِيثِ بَعْدَ الرِّوَايَةِ أَوْ بَعْدَ بُلُوغِهِ إيَّاهُ وَذَلِكَ خِلَافُ يَقِينٍ , فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْ الْخِلَافَ جَرْحٌ فِيهِ أَيْ فِي الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ خِلَافَهُ إنْ كَانَ حَقًّا بِأَنْ خَالَفَ لِلْوُقُوفِ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ أَوْ لَيْسَ بِثَابِتٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ , فَقَدْ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ أَيْ بِالْحَدِيثِ ; لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ أَوْ مَا هُوَ لَيْسَ بِثَابِتٍ سَاقِطُ الْعَمَلِ وَالِاعْتِبَارِ . وَإِنْ كَانَ خِلَافُهُ بَاطِلًا بِأَنْ خَالَفَ لِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ وَالتَّهَاوُنِ بِالْحَدِيثِ أَوْ لِغَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ فَقَدْ سَقَطَتْ بِهِ رِوَايَتُهُ ; لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا وَكَانَ فَاسِقًا أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُغَفَّلًا وَكِلَاهُمَا مَانِعٌ مِنْ قَبُولِ الرِّوَايَةِ , فَإِنْ قِيلَ إنَّهُ إنَّمَا صَارَ فَاسِقًا بِالْخِلَافِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي قَبُولِ مَا رُوِيَ قَبْلَهُ كَمَا لَوْ مَاتَ أَوْ جُنَّ بَعْدَ الرِّوَايَةِ , قُلْنَا قَدْ بَلَغَ الْحَدِيثُ إلَيْنَا بَعْدَمَا ثَبَتَ فِسْقُهُ وَلَا بُدَّ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ الْإِسْنَادِ إلَيْهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا رَوَاهُ فِي الْحِلِّ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَدَالَةَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِالِاسْتِدْلَالِ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ مَحْظُورِ دِينِهِ فَإِذَا لَمْ يُحْتَرَزْ ظَهَرَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِثْلِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ إنْ كَذَبَ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ وَجَبَ إسْقَاطُ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِهِ , وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَوْتِ وَالْجُنُونِ ; لِأَنَّ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ كَانَا ثَابِتَيْنِ قَطْعًا فَلَا يُظْهِرُ الْمَوْتُ وَالْجُنُونُ عَدَمَهُمَا , وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ تَارِيخُهُ أَيْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ عَمِلَ بِخِلَافِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ إلَيْهِ وَالرِّوَايَةِ أَوْ بَعْدَ وَاحِدٍ مِنْهَا لَا يَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ فِي الْأَصْلِ بِيَقِينٍ , وَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي سُقُوطِهِ ; لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْخِلَافُ قَبْلَ الرِّوَايَةِ وَالْبُلُوغِ إلَيْهِ كَانَ الْحَدِيثُ حُجَّةً وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الرِّوَايَةِ وَالْبُلُوغِ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ , وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الرِّوَايَةِ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى أَحْسَنِ الْوَجْهَيْنِ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ قَوْلُهُ . ( وَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ ) أَيْ الْحَدِيثِ الَّذِي عَمِلَ الرَّاوِي بِخِلَافِهِ بَعْدَ الرِّوَايَةِ مِثْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهَا زَوَّجَتْ بِنْتَ أَخِيهَا حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُنْذِرَ بْنَ زُبَيْرٍ , وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ كَانَ غَائِبًا بِالشَّامِ فَلَمَّا قَدِمَ غَضِبَ , وَقَالَ أَمِثْلِي يُصْنَعُ بِهِ هَذَا وَيُفْتَاتُ عَلَيْهِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَوَتَرْغَبُ عَنْ الْمُنْذِرِ ثُمَّ قَالَتْ لِلْمُنْذِرِ لَتُمَلِّكَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمْرَهَا فَقَالَ الْمُنْذِرُ إنَّ ذَلِكَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَا كُنْت أَرُدُّ أَمْرًا قَضَيْتِيهِ فَقَرَّتْ حَفْصَةُ عِنْدَهُ فَلَمَّا رَأَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ تَزْوِيجَهَا بِنْتَ أَخِيهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ جَائِزٌ وَرَأَتْ ذَلِكَ الْعَقْدَ مُسْتَقِيمًا حَتَّى أَجَازَتْ فِيهِ التَّمْلِيكَ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَثُبُوتِهِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ تَرَى ذَلِكَ مَعَ صِحَّةِ مَا رَوَتْ فَثَبَتَ فَسَادُ مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي ذَلِكَ كَذَا فِي شَرْحِ الْآثَارِ , وَذَكَرَ فِي غَيْرِهِ فَلَمَّا أَنْكَحَتْ فَقَدْ جَوَّزَتْ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا دَلَالَةً ; لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا انْعَقَدَ بِعِبَارَةِ غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَةِ مِنْ النِّسَاءِ فَلَأَنْ يَنْعَقِدَ بِعِبَارَتِهَا أَوْلَى فَيَكُونُ فِيهِ عَمَلٌ بِخِلَافِ مَا رَوَتْ , أَوْ يُقَالُ لَمَّا أَنْكَحَتْ فَقَدْ اعْتَقَدَتْ جَوَازَ نِكَاحِهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ; لِأَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ النِّكَاحَ لَا يَمْلِكُ الْإِنْكَاحَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَمَنْ مَلَكَ الْإِنْكَاحَ مَلَكَ النِّكَاحَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى . قَوْلُهُ ( وَمِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ ) رَوَى جَابِرٌ عَنْ { سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ فِي الصَّلَاةِ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَحِينَ رَكَعَ وَحِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ(2/265)
فَسَأَلَهُ جَابِرٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَفْعَلُ ذَلِكَ . وَقَالَ رَأَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ ذَلِكَ } ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ فِعْلِهِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِلَافُ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ مُجَاهِدٌ صَلَّيْت خَلْفَ ابْنِ عُمَرَ فَلَمْ يَكُنْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى فَعَمَلُهُ بِخِلَافِ مَا رُوِيَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ نَسْخِهِ فَلَا يَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ , فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرَ مُجَاهِدٌ مُعَارَضٌ بِمَا ذَكَرَ طَاوُسٌ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ عُمَرَ يَفْعَلُ مَا يُوَافِقُ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام قُلْنَا يَجُوزُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ طَاوُسٌ قَبْلَ الْعِلْمِ بِنَسْخِهِ ثُمَّ تَرَكَهُ بَعْدَمَا عَلِمَ بِهِ وَفَعَلَ مَا ذَكَرَهُ عَنْهُ مُجَاهِدٌ وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ مَا رُوِيَ عَنْهُمْ وَيُنْفَى عَنْهُمْ الْوَهْمُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ وَإِلَّا سَقَطَ أَكْبَرُ الرِّوَايَاتِ , إلَيْهِ أُشِيرَ فِي شَرْحِ الْآثَارِ قَوْلُهُ ( وَأَمَّا عَمَلُ الرَّاوِي بِبَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ ) أَيْ مُحْتَمَلَاتِ الْحَدِيثِ بِأَنْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا فَعَمِلَ بِخُصُوصِهِ دُونَ عُمُومِهِ أَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا أَوْ بِمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ فَعَمِلَ بِأَحَدِ وُجُوهِهِ فَذَلِكَ رَدٌّ مِنْهُ لِسَائِرِ الْوُجُوهِ لَكِنْ لَا يَثْبُتُ الْجَرْحُ فِي الْحَدِيثِ بِهَذَا أَيْ بِعَمَلِ الرَّاوِي بِبَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ وَتَعْيِينِهِ , ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْحُجَّةَ هِيَ الْحَدِيثُ وَبِتَأْوِيلِهِ لَا يَتَغَيَّرُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَاحْتِمَالُهُ لِلْمَعَانِي لُغَةً وَتَأْوِيلُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ كَمَا لَا يَكُونُ اجْتِهَادُهُ حُجَّةً فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ التَّأَمُّلُ وَالنَّظَرُ فِيهِ فَإِنْ اتَّضَحَ لَهُ وَجْهٌ وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ , وَذَلِكَ أَيْ الْحَدِيثُ الَّذِي عَمِلَ الرَّاوِي بِبَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما { الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا } لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ مَا وَقَعَ التَّفَرُّقُ عَنْهُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّفَرُّقُ بِالْأَقْوَالِ فَإِنَّ الْبَائِعَ إذَا قَالَ بِعْتُ وَالْمُشْتَرِي إذَا قَالَ اشْتَرَيْتُ فَقَدْ تَفَرَّقَا بِذَلِكَ الْقَوْلِ وَانْقَطَعَ مَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ خِيَارِ إبْطَالِ كَلَامِهِ بِالرُّجُوعِ وَإِبْطَالِ كَلَامِ صَاحِبِهِ بِالرَّدِّ وَعَدَمِ الْقَبُولِ . وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَنْقُولٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله , وَيَحْتَمِلُ التَّفَرُّقَ بِالْأَبْدَانِ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ , أَحَدُهُمَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ بِعْتُ عَبْدِي بِكَذَا فَلِلْمُخَاطَبِ أَنْ يَقْبَلَ مَا لَمْ يُفَارِقْ صَاحِبَهُ فَإِذَا افْتَرَقَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله , وَالثَّانِي ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا بَدَنًا فَإِذَا تَفَرَّقَا سَقَطَ الْخِيَارُ وَيُسَمَّى ذَلِكَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فَحَمَلَ هَذَا الْحَدِيثَ رَاوِيهِ وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما عَلَى الْوَجْهِ الْأَخِيرِ , وَلِهَذَا كَانَ إذَا بَايَعَ رَجُلًا وَأَرَادَ أَنْ لَا يُقِيلَهُ قَامَ يَمْشِي ثُمَّ يَرْجِعُ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي احْتِمَالِ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ الْمَذْكُورَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَكِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَرَكًا لَفْظًا فَلَا يَبْطُلُ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِتَأْوِيلِهِ وَكَانَ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ بِمَا اتَّضَحَ لَهُ مِنْ الدَّلِيلِ . وَمِنْ ذَلِكَ أَيْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } أَيْ دِينَ الْحَقِّ فَكَلِمَةُ مَنْ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ , وَقَدْ خَصَّهُ الرَّاوِي بِالرِّجَالِ عَلَى مَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما , لَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ , فَلَمْ يَعْمَلْ الشَّافِعِيُّ رحمه الله بِتَخْصِيصِهِ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ , وَكَانَ الشَّيْخُ أَرَادَ بِإِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله يُوَافِقُنَا فِي هَذَا الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ خَالَفَنَا فِي حَدِيثِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَأَثْبَتَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ لِدَلَالَةِ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ لَا لِتَأْوِيلِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا خَصَصْنَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم بِالرِّجَالِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُرْتَدَّةِ وَغَيْرِهَا لَا لِتَخْصِيصِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما هَذَا الْحَدِيثَ بِالرِّجَالِ , وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ أَيْ بِالْحَدِيثِ مِثْلُ الْعَمَلِ بِخِلَافِهِ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً ; لِأَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَرَامٌ كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ بِخِلَافِهِ حَرَامٌ ,(2/266)
وَالْمُرَادُ بِالِامْتِنَاعِ هُوَ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِالْعَمَلِ بِمَا يُوجِبُهُ الْحَدِيثُ وَلَا بِمَا يُخَالِفُهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ كَمَا إذَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِالصَّلَاةِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ وَلَا بِشَيْءٍ آخَرَ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ كَانَ هَذَا امْتِنَاعًا عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَا عَمَلًا بِخِلَافِهِ وَلَوْ اشْتَغَلَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي وَقْتِ الصَّوْمِ كَانَ هَذَا عَمَلًا بِخِلَافِهِ إلَّا أَنَّ كِلَيْهِمَا فِي التَّحْقِيقِ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ كَالِاشْتِغَالِ بِفِعْلٍ آخَرَ فَيَكُونُ عَمَلًا بِالْخِلَافِ أَيْضًا , وَلِهَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله تَرْكَ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما الْعَمَلَ بِحَدِيثِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْقَبِيلَيْنِ . وَرَأَيْت فِي الْمُعْتَمَدِ لِأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ حَكَى عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الرَّاوِيَ لِلْحَدِيثِ الْعَامِّ إذَا خَصَّهُ أَوْ تَأَوَّلَهُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى تَأْوِيلِهِ وَتَخْصِيصِهِ ; لِأَنَّهُ لِمُشَاهَدَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْرَفُ بِمَقَاصِدِهِ , وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ الْمَصِيرُ إلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ أَوْلَى , وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ التَّمَسُّكَ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ الرَّاوِي إذَا كَانَ تَأْوِيلُهُ بِخِلَافِ ظَاهِرِ الْخَبَرِ , وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ أَحَدَ مُحْتَمَلَيْ الظَّاهِرِ حُمِلَتْ الرِّوَايَةُ عَلَيْهِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله ; لِأَنَّهُ حَمَلَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما مِنْ حَدِيثِ الِافْتِرَاقِ عَلَى افْتِرَاقِ الْأَبْدَانِ ; لِأَنَّهُ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما , وَقِيلَ إنْ لَمْ يَكُنْ لِمَذْهَبِ الرَّاوِي وَتَأْوِيلِهِ وَجْهٌ إلَّا أَنَّهُ عَلِمَ قَصْدَ النَّبِيِّ عليه السلام إلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ ضَرُورَةً وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى تَأْوِيلِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ بَلْ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ صَارَ إلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ لِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ وَجَبَ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ فَإِنْ اقْتَضَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الرَّاوِي وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا , وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ صَارَ إلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ لِنَصٍّ جَلِيٍّ لَا مَسَاغَ لِلِاجْتِهَادِ فِي خِلَافِهِ وَتَأْوِيلِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَى تَأْوِيلٍ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ التَّأْوِيلِ وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ مُجْمَلًا وَبَيَّنَهُ الرَّاوِي فَإِنَّ بَيَانَهُ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
================
( بَابُ الرُّكْنِ ) : قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رُكْنُ الْقِيَاسِ مَا جُعِلَ عَلَمًا عَلَى حُكْمِ النَّصِّ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ النَّصُّ وَجُعِلَ الْفَرْعُ نَظِيرًا لَهُ فِي حُكْمِهِ بِوُجُودِهِ فِيهِ 0(1)
وَهُوَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لَازِمًا مِثْلُ الثَّمَنِيَّةِ جَعَلْنَاهَا عِلَّةً لِلزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ وَالطَّعْمِ جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ عِلَّةً لِلرِّبَا , أَوْ وَصْفًا عَارِضًا أَوْ اسْمًا , { كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُسْتَحَاضَةِ إنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ } , وَهُوَ اسْمُ عَلَمٍ وَانْفَجَرَ صِفَةٌ عَارِضَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ وَعَلَّلْنَا بِالْكَيْلِ , وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ وَيَكُونُ جَلِيًّا وَخَفِيًّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الَّتِي سَأَلَتْهُ عَنْ الْحَجِّ { أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ } , وَهَذَا حُكْمٌ وَكَقَوْلِنَا فِي الْمُدَبَّرِ إنَّهُ مَمْلُوكٌ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى , وَهَذَا حُكْمٌ أَيْضًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا وَعَدَدًا كَمَا فِي بَابِ الرِّبَا , أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي النَّصِّ وَهَذَا لَا يَشْكُلُ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهِ إذَا كَانَ ثَابِتًا بِهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي السَّلَمِ , وَهُوَ مَعْلُولٌ بِإِعْدَامِ الْعَاقِدِ وَلَيْسَ فِي النَّصِّ وَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْآبِقِ مَعْلُولٌ بِالْجَهَالَةِ , أَوْ الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ وَلَيْسَ فِي النَّصِّ وَعَلَّلَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ بِإِرْقَاقِ جُزْءٍ مِنْهُ وَلَيْسَ فِي النَّصِّ لَكِنَّهُ ثَابِتٌ بِهِ وَإِنَّمَا اسْتَوَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ إنَّمَا تُعْرَفُ صِحَّتُهَا بِأَثَرِهَا وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ , وَاتَّفَقُوا أَنَّ كُلَّ أَوْصَافِ النَّصِّ بِجُمْلَتِهَا لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً .
__________
(1) -كشف الأسرار - (ج 6 / ص 440)(2/267)
قَوْلُهُ ( وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ) أَيْ مَا جُعِلَ عَلَمًا عَلَى حُكْمِ النَّصِّ فَرْدًا أَيْ وَصْفًا فَرْدًا , وَهُوَ بِلَا خِلَافٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَدًا مِنْ الْأَوْصَافِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ مِنْ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ حَتَّى لَوْ كَانَ كُلُّ وَصْفٍ يَعْمَلُ فِي الْحُكْمِ بِانْفِرَادِهِ كَاجْتِمَاعِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَذْيِ وَالرُّعَافِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُسْتَقِلٌّ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ الْحَدَثِ وَكَاجْتِمَاعِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَالرِّدَّةِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُسْتَبِدٍّ فِي إيجَابِ الْقَتْلِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ وَفِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ثُمَّ التَّعْلِيلُ بِعَدَدٍ مِنْ الْأَوْصَافِ جَائِزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ; لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِهِ عِلِّيَّةُ الْوَصْفِ الْوَاحِدِ ثَبَتَ بِهِ عِلِّيَّةُ الْأَوْصَافِ الْمُتَعَدِّدَةِ إذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ مِنْ الْأَوْصَافِ الْمُتَعَدِّدَةِ عِلَّةً بِمَا يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى ظَنِّ التَّعْلِيلِ بِهَا مِنْ تَأْثِيرٍ , أَوْ مُنَاسَبَةٍ أَوْ إخَالَةٍ , أَوْ غَيْرِهَا مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ . وَذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّ التَّعْلِيلَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِوَصْفٍ وَاحِدٍ لَا تَرْكِيبَ فِيهِ ; لِأَنَّ تَرْكِيبَ الْعِلَّةِ لَوْ صَحَّ لَكَانَتْ الْعِلِّيَّةُ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى مَجْمُوعِ الْأَوْصَافِ ; لِأَنَّا نَعْقِلُ مَجْمُوعَ الْأَوْصَافِ وَنَجْهَلُ كَوْنَهَا عِلَّةً وَالْمَجْهُولُ غَيْرُ الْمَعْلُومِ بَعْدَمَا ثَبَتَ أَنَّهَا زَائِدَةٌ فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ : حَصَلَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ بِتَمَامِهَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَصْفٍ عِلَّةً لَا أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ عِلَّةً وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ حَصَلَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ لِلْمَجْمُوعِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ إنْ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْصَافِ جُزْءٌ مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ وَهُوَ فَاسِدٌ ; لِأَنَّ انْقِسَامَ الصِّفَةِ الْعَقْلِيَّةِ بِحَيْثُ يَكُونُ لَهَا نِصْفٌ وَثُلُثٌ وَرُبُعٌ مُحَالٌ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي حُصُولِ الصِّفَةِ لِلْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْأَفْرَادِ ; لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ شَيْءٌ وَاحِدٌ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ يَنْتَقِضُ بِالْحُكْمِ عَلَى الْمُتَعَدِّدِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْحُرُوفِ بِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاسْتِخْبَارٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ ; لِأَنَّ كَوْنَهُ خَبَرًا زَائِدٌ عَلَيْهِ ثُمَّ إمَّا أَنْ يَقُومَ كَوْنُهُ خَبَرًا بِكُلِّ حَرْفٍ أَوْ بِمَجْمُوعِ الْحُرُوفِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ انْقِسَامُ الْمَعْنَى إلَى آخَرِ مَا ذَكَرْتُمْ وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ مَجْمُوعِ الْأَوْصَافِ عِلَّةً هُوَ أَنَّ الشَّارِعَ قَضَى بِالْحُكْمِ عِنْدَهُ رِعَايَةً لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْأَوْصَافُ مِنْ الْحِكْمَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ صِفَةً لَهَا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ صِفَةً زَائِدَةً لِيَلْزَمَ مَا ذَكَرُوهُ وَقَوْلُهُ كَمَا فِي الرِّبَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ عَدَدًا فَإِنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا مُتَعَلِّقَةٌ بِوَصْفَيْنِ وَهُمَا الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْجَمِيعِ فَإِنَّ حُرْمَةَ رِبَا النَّسِيئَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِوَصْفٍ وَاحِدٍ , وَهُوَ الْجِنْسُ أَوْ الْقَدْرُ عِنْدَنَا وَحُرْمَةُ رِبَا الْفَضْلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِوَصْفَيْنِ كَمَا قُلْنَا فَيَكُونُ الرِّبَا مِثَالًا لِلْفَرْدِ وَالْعَدَدِ جَمِيعًا وَالتَّعْلِيلُ بِالْأَوْصَافِ مِثْلُ تَعْلِيلِنَا فِي نَجَاسَةِ سُؤْرِ السِّبَاعِ بِأَنَّ السِّبَاعَ حَيَوَانٌ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ لَا لِكَرَامَتِهِ وَلَا بَلْوَى فِي سُؤْرِهِ فَيَكُونُ سُؤْرُهُ نَجَسًا كَسُؤْرِ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ وَكَتَعْلِيلِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِالْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ مِنْ الْخَشَبِ بِأَنَّهُ قَتْلُ عَمْدٌ عُدْوَانٌ مَحْضٌ فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ كَالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ , ثُمَّ مَنْ جَوَّزَ التَّعْلِيلَ بِالْأَوْصَافِ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى عَدَدٍ إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزِيدَ الْأَوْصَافَ عَلَى سَبْعَةٍ وَجْهُهُ أَنَّ أَقْصَى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ مَحَلُّهُ وَمَعْنَى يَقْتَضِيهِ إمَّا مُطْلَقًا , أَوْ مَشْرُوطًا بِوُجُودِ شَرْطٍ , أَوْ عَدَمِ مَانِعٍ وَقَدْ يَتَعَلَّقُ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي بِالْفَاعِلِ فَيُعْتَبَرُ أَهْلِيَّتُهُ وَأَقْصَاهَا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ , ثُمَّ قَدْ لَا يَشْتَغِلُ بِهِ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ بِصِيَغِ الْمُعَارَضَاتِ فَيَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ مَجْمُوعُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ إيجَابًا وَقَبُولًا صُدُورًا مِنْ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ فِي الْمَحَلِّ مَعَ قِرَانِ الشَّرْطِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَهِيَ سَبْعَةٌ وَكُلُّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ تَفْصِيلُ(2/268)
هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَيُمْكِنُ رَدُّهُ إلَيْهَا وَلَمَّا لَمْ يَخْلُ هَذَا عَنْ تَكَلُّفٍ كَمَا نَرَى أَعْرَضَ عَنْهُ الْعَامَّةُ وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى عَدَدٍ قَوْلُهُ ( وَيَجُوزُ فِي النَّصِّ ) يَعْنِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَذْكُورًا فِي النَّصِّ لَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى ثَابِتًا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ كَالتَّعْلِيلِ بِالطَّوَافِ فِي الْهِرَّةِ فَإِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي النَّصِّ , وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ وَالطَّوَّافَاتِ عَلَيْكُمْ } , أَوْ هُوَ ثَابِتٌ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ , وَهُوَ الْهِرَّةُ , وَكَذَا التَّعْلِيلُ بِالْقَدْرِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ فَإِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي النَّصِّ , وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم كَيْلًا بِكَيْلٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ , أَوْ ثَابِتٌ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ , وَهُوَ الْأَشْيَاءُ السِّتَّةُ . وَهَذَا لَا يَشْكُلُ أَيْ جَوَازُ التَّعْلِيلِ بِوَصْفٍ فِي النَّصِّ غَيْرُ مُشْكِلٍ ; لِأَنَّ النَّصَّ هُوَ الَّذِي يُعَلِّلُ فَالتَّعْلِيلَ بِوَصْفٍ فِيهِ يَكُونُ صَحِيحًا لَا مَحَالَةَ . وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهِ إذَا كَانَ ثَابِتًا بِهِ مَعْنًى وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى ثَابِتًا بِصَرِيحِ النَّصِّ , أَوْ لَا يَكُونُ ثَابِتًا فِي الْمَحَلِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بَلْ يَكُونُ فِي غَيْرِهِ وَلَكِنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِهِ مِثْلُ تَعْلِيلِ جَوَازِ السَّلَمِ بِإِعْدَامِ الْعَاقِدِ أَيْ بِفَقْرِهِ وَاحْتِيَاجِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي النَّصِّ ; لِأَنَّ الْإِعْدَامَ مَعْنًى فِي الْعَاقِدِ لَا فِي السَّلَمِ لَكِنَّهُ ثَابِتٌ بِهِ أَيْ بِالنَّصِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ وُجُودَ السَّلَمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يَقْتَضِي عَاقِدًا وَالْإِعْدَامُ صِفَتُهُ فَكَانَ ثَابِتًا بِاقْتِضَائِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِعَيْنِ النَّصِّ وَعَلَّلَ الشَّافِعِيُّ عَدَمَ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ الثَّابِتِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ } بِأَنَّهُ أَيْ نِكَاحَ الْأَمَةِ إرْقَاقُ جُزْءٍ مِنْهُ , وَهُوَ الْوَلَدُ مَعَ الْغُنْيَةِ عَنْهُ فَلَا يَجُوزُ وَعَدَاهُ إلَى نِكَاحِ الْأَمَةِ مَعَ طُولِ الْحُرَّةِ وَلَيْسَ فِي النَّصِّ فَإِنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم { لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ } لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِصَرِيحِهِ وَلَكِنَّهُ ثَابِتٌ بِهِ فَإِنَّ ذِكْرَ النِّكَاحِ يَقْتَضِي نَاكِحًا كَمَا أَنَّ ذِكْرَ السَّلَمِ يَقْتَضِي عَاقِدًا وَالْإِرْقَاقُ صِفَتُهُ فَكَانَ ثَابِتًا بِمُقْتَضَى النَّصِّ . وَذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْوَصْفِ قَائِمًا بِمَحَلِّ الْحُكْمِ فَعِنْدَ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ هُوَ شَرْطٌ اسْتِدْلَالًا بِالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ كَالْحَرَكَةِ عِلَّةٌ لِصَيْرُورَةِ الذَّاتِ مُتَحَرِّكًا , وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْحَرَكَةُ فِي مَحَلِّ عِلَّةٍ لِصَيْرُورَةِ ذَاتِ آخَرَ مُتَحَرِّكًا فَكَذَا فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَشَايِخُنَا قَالُوا إنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَصْفُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحُكْمِ فَإِنَّ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ وَنَحْوَهَا عِلَلٌ لِثُبُوتِ الْأَحْكَامِ فِي الْمَحَالِّ بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ قَائِمَةٌ بِالْعَاقِدَيْنِ . وَكَذَا كَوْنُ الشَّخْصِ مُعْدَمًا مُحْتَاجًا , عِلَّةُ جَوَازِ السَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ , وَهَذَا الْوَصْفُ قَائِمٌ بِالْعَاقِدِ لَا بِمَحَلِّ الْحُكْمِ قَالَ : وَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ وُجُودُهُ شَرْطًا فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ ; لِأَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ وَدَلَالَاتٌ عَلَى الْأَحْكَامِ وَقِيَامُ الدَّلِيلِ بِالْمَدْلُولِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الدَّلِيلِ كَالْعَالَمِ دَلِيلُ وُجُودِ الصَّانِعِ ; وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ السِّحْرَ عِلَّةٌ لِتَغَيُّرِ الْمَسْحُورِ . وَكَذَا الْعَيْنُ عِلَّةٌ لِتَغَيُّرِ الشَّيْءِ الَّذِي أَصَابَتْهُ الْعَيْنُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الِاتِّصَالُ وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ الْعِلَّةُ بِهَذَا الشَّرْطِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَلِهَذَا أَنْكَرُوا السِّحْرَ وَالْعَيْنَ لِعَدَمِ الِاتِّصَالِ بِمَحَلِّ الْحُكْمِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - قَوْلُهُ ( وَإِنَّمَا اسْتَوَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ ) يَعْنِي الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنْ قَوْلِهِ , وَهُوَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لَازِمًا إلَى قَوْلِهِ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهِ إذَا كَانَ ثَابِتًا بِهِ فِي صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِهَا ; لِأَنَّ التَّعْلِيلَ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ كَوْنُ الْوَصْفِ حُجَّةً وَيُعْرَفُ بِهِ كَوْنُهُ عِلَّةً هُوَ الْأَثَرُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ وَذَلِكَ أَيْ الْأَثَرُ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ هَذِهِ الْوُجُوهِ لِجَوَازِ ظُهُورِ التَّأْثِيرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَمَتَى ظَهَرَ لِشَيْءٍ مِنْهَا التَّأْثِيرُ فَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً فَوَجَبَ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهِ . وَاتَّفَقُوا أَنَّ كُلَّ أَوْصَافِ النَّصِّ بِجُمْلَتِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً ; لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْأَوْصَافِ فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ بِوَصْفِ(2/269)
الْأَعْرَابِيِّ الْمَذْكُورِ فِي { قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُجَامِعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَعْتِقْ رَقَبَةً } فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ التُّرْكِيَّ وَالْهِنْدِيَّ فِيهِ سَوَاءٌ وَلَا لِمَعْنَى الْحُرِّيَّةِ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا لِوِقَاعِ الْأَهْلِ فَإِنَّهَا تَجِبُ بِالزِّنَا وَبِوَطْءِ الْأَمَةِ وَلَا لِلْيَوْمِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الشَّهْرِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ فَإِنَّ سَائِرَ الْأَيَّامِ مِنْ ذَلِكَ الشَّهْرِ وَسَائِرِ شُهُورِ رَمَضَانَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ سَوَاءٌ وَكَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ فَإِنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَكَانِ كَذَا وَزَمَانِ كَذَا وَلَا دَخْلَ لِمِثْلِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي الْحُكْمِ بِالِاتِّفَاقِ فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّعْلِيلَ بِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ; وَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ تَعْلِيلٌ بِمَا لَا يَتَعَدَّى ; لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَوْصَافِ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَكَمَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْجَمْعِ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِكُلِّ وَصْفٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ فِي الْحُكْمِ , أَلَا تَرَى أَنَّ الْحِنْطَةَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنَّهَا مَكِيلَةٌ مَطْعُومَةٌ مُقْتَاتَةٌ مُدَّخَرَةٌ جب جثم شَيْءٌ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ كُلَّ وَصْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ عِلَّةٌ لِحُكْمِ الرِّبَا فِيهَا بَلْ الْعِلَّةُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُعَلِّلِ أَنْ يُعَلِّلَ بِأَيِّ وَصْفٍ شَاءَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ; لِأَنَّ ادَّعَاهُ وَصْفًا مِنْ الْأَوْصَافِ أَنَّهُ عِلَّةٌ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَاهُ الْحُكْمَ فَكَمَا لَا يُسْمَعُ مِنْهُ دَعْوَى الْحُكْمِ بِلَا دَلِيلٍ لَا يُسْمَعُ دَعْوَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً بِلَا دَلِيلٍ . وَذَكَرَ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ وَلَكِنْ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يُبْطِلَ مَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُعَلِّلُ إنْ كَانَ عِنْدَهُ مُبْطَلٌ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ لَزِمَهُ الِانْقِيَادُ وَهَذَا فَاسِدٌ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْمُعَلِّلَ مُدَّعٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى دَعْوَاهُ لِئَلَّا يَكُونَ مُتَحَكِّمًا عَلَى شَرْعٍ ( فَإِنْ قِيلَ ) عَجْزُ السَّائِلِ عَنْ الِاعْتِرَاضِ , أَوْ انْتِفَاءُ الْمُفْسِدِ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ ( قُلْنَا ) وَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ الِاعْتِرَاضِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ وَالسَّائِلُ مُسْتَرْشِدٌ يَطْلُبُ دَلِيلَ الْعِلَّةِ لِيَنْقَادَ لِقَضِيَّتِهَا فَكَانَ عَلَى الْمُعَلِّلِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ وَكَيْفَ يُمْكِنُ جَعْلُ انْتِفَاءِ الْمُفْسِدِ دَلِيلُ الصِّحَّةِ مَعَ إمْكَانِ قَلْبِهِ لِلسَّائِلِ بِأَنْ يَقُولَ لَا بَلْ عَدَمُ الْمُصَحِّحِ دَلِيلُ فَسَادِهِ . يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَوْ قَالَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَجْزُك عَنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى دَعْوَايَ وَعَنْ نَقْضِهَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهَا فَلَا حَاجَةَ لِي إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ , أَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي عَجْزُك عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنِّي مُحِقٌّ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا وَلَا يَسْقُطُ بِهَذَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَنْ الْمُدَّعِي وَلَا الْيَمِينُ عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكَذَا هَاهُنَا , وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ جَمِيعًا ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ إلَّا أَنَّ وُجُودَهَا فِي الْفَرْعِ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ مِنْ الْحِسِّ وَدَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْعُرْفِ وَالشَّرْعِ , وَوُجُودُهَا فِي الْأَصْلِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَنَّ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةَ وَضْعٍ شَرْعِيٍّ كَمَا أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ فَلَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُهُ إلَّا بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ النُّصُوصُ وَالْإِجْمَاعُ وَالِاسْتِنْبَاطُ وَلَا خِلَافَ أَنَّ النَّصَّ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْعِلَّةِ سَوَاءٌ دَلَّ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ التَّصْرِيحِ بِأَنْ يَذْكُرَ الشَّارِعُ لَفْظًا مِنْ أَلْفَاظِ التَّعْلِيلِ بِأَنْ يَقُولَ لِكَذَا , أَوْ لِعِلَّةِ كَذَا أَوْ لِأَجْلِ كَذَا , أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِثْلُ قوله تعالى { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ } { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } " وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيّ } لِأَجْلِ الرَّأْفَةِ عَلَى الْقَافِلَةِ أَوْ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ وَالْإِشَارَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضَتْ بِمَاءٍ } { أَرَأَيْت لَوْ(2/270)
كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ } { أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا جَفَّ } { تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ } { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَكَقَوْلِ الرَّاوِي { وَسَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَجَدَ } { زَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ } وَكَذَا الْإِجْمَاعُ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ مِثْلُ وَصْفِ الصِّغَرِ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ فَأَثْبَتْنَا بِهِ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ فِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرِ وَمِثْلُ تَقْدِيمِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ فِي الْمِيرَاثِ فَإِنَّ امْتِزَاجَ الْأُخُوَّةِ عِلَّةُ التَّقْدِيمِ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ فَيُقَاسَ عَلَيْهِ النِّكَاحُ وَبِعَدَمِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فِيهِ أَيْضًا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ .
===============
وفي تبيين الحقائق :(1)
( بَابُ الْمُرْتَدِّينَ )
قَالَ رحمه الله ( يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الْمُرْتَدِّ وَتُكْشَفُ شُبْهَتُهُ وَيُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَعَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عَلَى مَا قَالُوا وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُ غَيْرَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ اعْتَرَاهُ شُبْهَةٌ فَيُعْرَضُ عَلَيْهِ لِتُزَاحَ وَيَعُودَ إلَى الْإِسْلَامِ لِأَنَّ عَوْدَهُ مَرْجُوٌّ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْمُرْتَدُّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَبَى قُتِلَ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ الْإِمْهَالُ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله الْإِمْهَالُ وَاجِبٌ لَا يَحِلُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّ ارْتِدَادَ الْمُسْلِمِ يَكُونُ عَنْ شُبْهَةٍ ظَاهِرًا فَلَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ التَّأَمُّلُ فِيهَا فَقَدَّرْنَاهُ بِالثَّلَاثِ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا وقوله تعالى { اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } مُطْلَقًا وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ فَيُقْتَلُ لِلْحَالِ وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ لِإِطْلَاقِ الدَّلَائِلِ فَإِنْ ارْتَدَّ وَتَابَ ثُمَّ ارْتَدَّ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَهَكَذَا دَائِمًا لِأَنَّا نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَكَانَ عليه الصلاة والسلام يُقْبَلُ ظَاهِرُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ { وَقَالَ عليه الصلاة والسلام لِمَنْ قَتَلَ شَخْصًا بَعْدَمَا أَسْلَمَ هَلَّا شَقَقْت قَلْبَهُ } وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الِارْتِدَادُ يُقْتَلُ مِنْ غَيْرِ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُسْتَخِفٌّ بِالدِّينِ
__________
(1) - تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - (ج 9 / ص 470) فما بعدها(2/271)
بَابُ الْمُرْتَدِّ ) لَمَّا فَرَغَ عَنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْكُفَّارِ مِنْ الْأَصْلِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْكُفَّارِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْعَارِضَ بَعْدَ الْأَصْلِيِّ فِي الْوُجُودِ فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَضْعًا . ا هـ . أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ ) أَيْ وَأَبُو دَاوُد . ا هـ . كَاكِيٌّ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُ ) أَيْ وَعَرْضُ الْإِسْلَامِ هُوَ الدَّعْوَةُ إلَيْهِ وَدَعْوَةُ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بَلْ مُسْتَحَبَّةٌ . ا هـ . كَمَالٌ رحمه الله وَفِي الْكَافِي يُقْتَلُ مِنْ سَاعَتِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طَلَبَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ . ا هـ . دِرَايَةٌ ( قَوْلُهُ لِتُزَاحَ ) أَيْ تُزَالَ ا هـ ( قَوْلُهُ فَإِنْ أَبَى قُتِلَ ) أَيْ مَكَانَهُ فَيُفِيدُ أَنَّ إنْظَارَهُ لَيْسَ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا ا هـ فَتْحٌ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذِمِّيٍّ وَلَا مُسْتَأْمَنٍ إذْ لَا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ مِنْهُ وَمَا طَلَبَ الْأَمَانَ فَكَانَ حَرْبِيًّا لِإِطْلَاقِ النَّصِّ . ا هـ . دِرَايَةٌ ( قَوْلُهُ فَإِنْ ارْتَدَّ وَتَابَ ثُمَّ ارْتَدَّ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ ) أَيْ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لقوله تعالى { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ مَنْ كَرَّرَ رِدَّتَهُ كَالزِّنْدِيقِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَاللَّيْثُ لقوله تعالى { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } . ا هـ . كَاكِيٌّ قَالَ الْكَمَالُ قُلْنَا رَتَّبَ عَدَمَ الْمَغْفِرَةِ عَلَى شَرْطِ قَوْلِهِ { ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا } . ا هـ . كَاكِيٌّ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ إنَّ الْآيَةَ فِي حَقِّ مَنْ ازْدَادَ كُفْرًا لَا فِي حَقِّ مَنْ آمَنَ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إطْلَاقُ قوله تعالى { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا } وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } . ا هـ . ( قَوْلُهُ وَهَكَذَا دَائِمًا ) أَيْ وَلَا يُقْتَلُ إلَّا إنْ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا إنَّ الْمُرْتَدَّ يُسْتَتَابُ أَبَدًا وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّهُ مُسْتَخِفٌّ مُسْتَهْزِئٌ وَلَيْسَ بِثَائِبٍ . ا هـ . أَتْقَانِيٌّ
قَالَ رحمه الله ( وَكُرِهَ قَتْلُهُ قَبْلَهُ )
أَيْ كُرِهَ قَتْلُهُ قَبْلَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّ فِي قَتْلِهِ تَفْوِيتَ الْعَرْضِ الْمُسْتَحَبِّ وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مَعْنَى الْكَرَاهَةِ هُنَا تَرْكُ الْمُسْتَحَبِّ قَالَ رحمه الله ( وَلَمْ يَضْمَنْ قَاتِلُهُ ) لِأَنَّ الْكُفْرَ بِوَصْفِ الْحِرَابِ مُبِيحٌ وَالْعَرْضُ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَلَمْ يَضْمَنْ لِذَلِكَ وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ }
( قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَكُرِهَ قَتْلُهُ قَبْلَهُ ) قَالَ فِي الْهِدَايَةِ فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ قَالَ الْكَمَالُ أَوْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْهُ كُرِهَ ذَلِكَ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ وَالْقَاطِعِ لِأَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ وَكُلُّ جِنَايَةٍ عَلَى الْمُرْتَدِّ هَدَرٌ ا هـ وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَيْ الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ أُدِّبَ ا هـ قَالَ قَاضِي خَانْ وَرِدَّةُ الرَّجُلِ تُبْطِلُ عِصْمَةَ نَفْسِهِ حَتَّى لَوْ قَتَلَهُ الْقَاتِلُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِ السُّلْطَانِ أَوَأَتْلَفَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ . ا هـ . ( قَوْلُهُ مَعْنَى الْكَرَاهَةِ هُنَا تَرْكُ الْمُسْتَحَبِّ ) أَيْ فَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَعِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الْفَرْضِ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ . ا هـ . كَمَالٌ
قَالَ رحمه الله ( وَارْتِدَادُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ صَحِيحٌ كَإِسْلَامِهِ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَا يُقْتَلُ )(2/272)
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ارْتِدَادُهُ لَيْسَ بِارْتِدَادٍ وَإِسْلَامُهُ إسْلَامٌ وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ ارْتِدَادُهُ لَيْسَ بِارْتِدَادٍ وَلَا إسْلَامُهُ بِإِسْلَامٍ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَحْكَامٌ يَشُوبُهُ بِهَا ضَرَرٌ كَحِرْمَانِ الْإِرْثِ وَلُزُومِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ الْمُشْرِكَةِ أَوْ الْمُسْلِمَةِ وَامْتِنَاعِ وُجُوبِ نَفَقَتِهِ عَلَى أَبَوَيْهِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَقَارِبِهِ وَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ فَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا إذْ التَّبَعِيَّةُ دَلِيلُ الْعَجْزِ وَالْأَصَالَةُ دَلِيلُ الْقُدْرَةِ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الِارْتِدَادَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ فَلَا يُؤَهَّلُ لَهُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا تَمَحَّضَ ضَرَرًا وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ فَإِذَا أَعْرَبَ عَنْهُ لِسَانُهُ فَإِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَ عليه الصلاة والسلام إيمَانَ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَقَدْ كَانَ آمَنَ صَبِيًّا وَافْتِخَارُهُ بِذَلِكَ مَعْرُوفٌ وَكَانَ يَقُولُ : سَبَقْتُكُمْ إلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا غُلَامًا مَا بَلَغْت أَوَانَ حُلْمِي وَسُقْتُكُمْ إلَى الْإِسْلَامِ قَهْرًا بِصَارِمِ هِمَّتِي وَسِنَانِ عَزْمِي وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ ابْنَ خَمْسِ سِنِينَ وَذَكَرَ الْقُتَبِيُّ أَنَّ عُمْرَهُ كَانَ سَبْعَ سِنِينَ وَعَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ أَسْلَمَ عَلِيٌّ وَعُمْرُهُ ثَمَانُ سِنِينَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَكَذَا أَتَى بِحَقِيقَةِ الْكُفْرِ وَهُوَ الْجُحُودُ وَالْإِنْكَارُ وَلَا مَرَدَّ لِلْحَقَائِقِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ عَنْ طَوْعٍ دَلِيلُ الِاعْتِقَادِ فَلَا سَبِيلَ إلَى رَدِّهِ وَلَا الْحَجْرِ عَنْهُ لِأَنَّ الْحَقَائِقَ لَا يُحْجَرُ عَنْهَا كَمَا لَا يُحْجَرُ فِي حَقِّ سَائِرِ أَفْعَالِهِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِهِ مَالَ الْغَيْرِ شَرْعًا وَفَسَدَ صَوْمُهُ بِأَكْلِهِ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَا يُعْذَرُ فِيهِ لِأَجْلِ صِبَاهُ وَالْحَجْرُ عَنْ الْإِسْلَامِ كُفْرٌ وَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِالشَّارِعِ وَلَا يُمْكِنُ رَدُّهُ بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِي الدُّنْيَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ نَجَاةٌ سَرْمَدِيَّةٌ وَسَعَادَةٌ أَبَدِيَّةٌ هِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمَنَافِعِ وَهُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ يَبْنِي عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَلَا يُبَالِي بِشَوْبِهِ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْحُكْمُ الْمَوْضُوعُ لَهُ لَا مَا يَلْزَمُهُ فِي ضِمْنِهِ وَقَوْلُهُ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ فَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا إلَخْ قُلْنَا إنَّمَا جُعِلَ تَبَعًا لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ وَفِي اعْتِبَارِ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ مَعَ إبْقَاءِ التَّبَعِيَّةِ تَحْصِيلُ الْمَنْفَعَةِ بِطَرِيقَيْنِ وَذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُ وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مُضَادَّةٌ وَأَمَّا إذَا تَأَيَّدَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّبَعَ إذَا نَوَى السَّفَرَ كَالْمَرْأَةِ وَنَحْوِهَا صَارَ مُسَافِرًا بِنِيَّتِهِ وَبِنِيَّةِ أَصْلِهِ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ قِيلَ لَوْ صَحَّ إسْلَامُهُ بِنَفْسِهِ لَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ فَرْضًا لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْإِيمَانِ نَفْلًا بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّهَا مُتَنَوِّعَةٌ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ . فَإِذَا صَارَ فَرْضًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبًا وَلَا قَائِلَ بِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَصْحِيحُهُ فَرْضًا لَمْ يَصِحَّ بِخِلَافِ مَا إذَا جُعِلَ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَنَّ صِفَةَ الْفَرْضِيَّةِ فِي الْأَصْلِ مُغْنِيَةٌ عَنْ اعْتِبَارِهِ فِي التَّبَعِ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَقْلُهُ مُعْتَبَرًا لَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ إذَا لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يَصِفَ الْإِسْلَامَ كَالْبَالِغِ قُلْنَا إنَّمَا لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ فَإِذَا أَدَّاهُ صَحَّ كَالْمُسَافِرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ يُؤَدِّي الْجُمُعَةَ فَإِنَّهَا تَصِحُّ وَتَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْجُمُعَةُ فَرْضًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا لَمْ تَبِنْ زَوْجَتُهُ مِنْهُ إذَا لَمْ يُحْسِنْ الْوَصْفَ بَعْدَمَا عَقَلَ لِبَقَاءِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ وَفِيهِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَقَوْلُهُ لَا يُقْتَلُ يَعْنِي إذَا أَبَى أَنْ يُسْلِمَ بَعْدَمَا ارْتَدَّ لِأَنَّ الْقَتْلَ عُقُوبَةٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا وَالْإِجْبَارُ عَلَى الْإِسْلَامِ نَفْعٌ لَهُ فَيُجْبَرُ هَذَا فِي صَبِيٍّ يَعْقِلُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْقِلُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِقَادِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ وَكَذَا الْمَجْنُونُ لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا السَّكْرَانُ فِي الرِّدَّةِ دُونَ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ(2/273)
وَيُلْحَقُ السَّاحِرُ بِالْمُرْتَدِّ قَالَ فِي الْمُحِيطِ مَعْزِيًّا إلَى الْفَتَاوَى : السَّاحِرُ هَلْ يُقْتَلُ أَوْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ يُنْظَرُ إنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ خَالِقٌ لِمَا يَفْعَلُ فَإِنْ تَابَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَتَبَرَّأَ عَمَّا اعْتَقَدَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَلَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ كَافِرٌ أَسْلَمَ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ يُقْتَلْ لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمُجَرَّدِ إنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إنِّي أَتْرُكُ السِّحْرَ وَأَتُوبُ مِنْهُ إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ الْآنَ سَاحِرٌ أَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ السَّاحِرَةُ تُقْتَلُ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَتَبَ إلَى نُوَّابِهِ أَنْ اُقْتُلُوا السَّاحِرَ وَالسَّاحِرَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيُّ وَعَنْ جُنْدَبٍ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ { حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ } رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ قُلْنَا : الْمَوْقُوفُ فِي مِثْلِهِ مَحْمُولٌ عَلَى السَّمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى أَنَّهَا لَا تُقْتَلُ وَلَكِنْ تُحْبَسُ وَتُضْرَبُ كَالْمُرْتَدَّةِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ ضَرَرَ كُفْرِهَا وَهُوَ السِّحْرُ يَتَعَدَّى فَتَكُونُ سَاعِيَةً فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَكَذَلِكَ الزِّنْدِيقُ يُقْتَلُ وَلَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ أُتِيَ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَقَالَ لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أَحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ(2/274)
( قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَارْتِدَادُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ صَحِيحٌ كَإِسْلَامِهِ ) أَيْ فَلَا يَرِثُ أَبَوَيْهِ إذَا كَانَا كَافِرَيْنِ . ا هـ . ( قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ارْتِدَادُهُ لَيْسَ بِارْتِدَادٍ ) وَفِي الْمُحِيطِ عَنْ ابْنِ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ . ا هـ . كَاكِيٌّ وَفِي حَجّ غَرِيبُ الرِّوَايَةِ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ زُفَرَ فِي ابْنِ عَشْرِ سِنِينَ إذَا ارْتَدَّ ثُمَّ رَمَى صَيْدًا أَوْ ذَبَحَ أَنَّهُ يُؤْكَلُ وَلَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ ا هـ فُصُولٌ اعْلَمْ أَنَّ الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ إذَا أَسْلَمَ يَصِحُّ إسْلَامُهُ اسْتِحْسَانًا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ ذَكَرَ الِاسْتِحْسَانَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْمُرَادُ بِالصِّحَّةِ تَرْتِيبُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ نَحْوُ الْإِرْثِ مِنْ أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْحِرْمَانِ مِنْ أَقَارِبِهِ الْمُشْرِكِينَ وَحُرْمَةِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ فِي حَقِّهِ وَحِلِّ نِكَاحِ الْمُؤْمِنَةِ وَبُطْلَانِ مَالِيَّةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي حَقِّهِ وَعِصْمَةِ دَمِهِ وَمَالِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . ا هـ . أَتْقَانِيٌّ رحمه الله ( قَوْلُهُ وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إلَخْ ) ثُمَّ لَمَّا صَحَّ ارْتِدَادُ الصَّبِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَمْ يَرِثْ أَبَوَيْهِ الْمُسْلِمَيْنِ لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ وَالْمُرْتَدُّ لَا يَرِثُ أَحَدًا . ا هـ . أَتْقَانِيٌّ رحمه الله ( قَوْلُهُ فَلَا يُعْذَرُ فِيهِ لِأَجْلِ صِبَاهُ ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ ثُمَّ لَمَّا جُعِلَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبَوَيْهِ حُكْمًا تَبَعًا لَهُمَا فَلَأَنْ يُجْعَلَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ نَفْسِهِ حَقِيقَةً أَوْلَى وَأَحْرَى وَالْأَحْكَامُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ فَوْزُ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ ثُمَّ إذَا تَرَتَّبَتْ الْأَحْكَامُ عَلَيْهَا لَا يُبَالِي بِهَا لِأَنَّهَا حَصَلَتْ ضِمْنًا وَضِمْنِيَّاتُ الشَّيْءِ لَا تُعَلَّلُ ا هـ ( فَرْعٌ ) رَجُلٌ حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ أَسْلَمَ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ قَالَهُ قَاضِي خَانْ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَسْطُرٍ رَجُلٌ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ صَلَاةٍ أَوْ صِيَامٍ تَرَكَهَا فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ قَضَى مَا تَرَكَ فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ مَعْصِيَةٌ وَالْمَعْصِيَةُ تَبْقَى بَعْدَ الرِّدَّةِ وَمَا أَدَّى مِنْ الصَّلَوَاتِ وَالصِّيَامَاتِ فِي إسْلَامِهِ ثُمَّ ارْتَدَّ تَبْطُلُ طَاعَتُهُ لَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ . ا هـ . ( قَوْلُهُ وَيُلْحَقُ السَّاحِرُ إلَخْ ) السِّحْرُ قَوْلٌ يُعَظِّمُ فِيهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى تُنْسَبُ إلَيْهِ التَّقْدِيرَاتُ وَالتَّأْثِيرَاتُ ا هـ ( قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الزِّنْدِيقُ إلَخْ ) قَالُوا لَوْ جَاءَ الزِّنْدِيقُ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ فَأَقَرَّ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ فَتَابَ عَنْ ذَلِكَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَإِنْ أُخِذَ ثُمَّ تَابَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ لِأَنَّهُمْ بَاطِنِيَّةٌ يُظْهِرُونِ شَيْئًا وَيَعْتَقِدُونَ فِي الْبَاطِنِ خِلَافَ ذَلِكَ فَيُقْتَلُونَ وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ كَذَا فِي سِيَرِ فَتَاوَى قَاضِي خَانْ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْكِفَايَةِ . ا هـ .
================
وفي شرح التلويح على التوضيح :(1)
( فَصْلٌ ) فِي الطَّعْنِ 0
__________
(1) - شرح التلويح على التوضيح - (ج 2 / ص 28)(2/275)
وَهُوَ إمَّا مِنْ الرَّاوِي أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ إمَّا بِأَنْ يَعْمَلَ بِخِلَافِهِ بَعْدَ الرِّوَايَةِ فَيَصِيرُ مَجْرُوحًا كَحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ } ثُمَّ زَوَّجَتْ بَعْدَهَا ابْنَةَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ رحمه الله تعالى , وَهُوَ غَائِبٌ وَكَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ صَحِبْت ابْنَ عُمَرَ رحمه الله تعالى عَشْرَ سِنِينَ فَلَمْ أَرَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ , وَإِنْ عَمِلَ بِخِلَافِهِ قَبْلَهَا أَوْ لَا يُعْلَمُ التَّارِيخُ لَا يُجَرَّحُ , وَأَمَّا بِأَنْ يَعْمَلَ بِبَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ ; فَإِنَّهُ رَدٌّ مِنْهُ لِلْبَاقِي بِطَرِيقِ التَّأْوِيلِ لَا جَرْحٌ كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ , وَقَالَ لَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ , وَأَمَّا بِأَنْ أَنْكَرَهَا صَرِيحًا ( كَحَدِيثِ عَائِشَةَ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ } الْحَدِيثَ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ عَنْ مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها , وَقَدْ أَنْكَرَ الزُّهْرِيُّ لَا يَكُونُ جَرْحًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى لِقِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ ) , وَهِيَ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام صَلَّى إحْدَى الْعِشَاءَيْنِ فَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِ رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَهَا ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَقَالَ وَبَعْضُ ذَلِكَ قَدْ كَانَ فَأَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَقَالَ أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ فَقَالَا : نَعَمْ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ } فَقَبِلَ عليه السلام رِوَايَتَهُمَا عَنْهُ مَعَ إنْكَارِهِ . وَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ كَلَامَ النَّاسِي يُبْطِلُ الصَّلَاةَ زَعَمَ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ نُسِخَ ( وَلِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى نِسْيَانِهِ أَوْلَى مِنْ تَكْذِيبِ الثِّقَةِ الَّذِي يَرْوِي عَنْهُ , وَيَكُونُ جَرْحًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله تعالى ; لِأَنَّ { عَمَّارًا قَالَ لِعُمَرَ أَمَا تَذْكُرُ حَيْثُ كُنَّا فِي إبِلٍ فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْتُ إلَى آخِرِهِ وَلَمْ يَقْبَلْهُ عُمَرُ رضي الله تعالى عنه قَالَ كُنَّا فِي إبِلِ الصَّدَقَةِ فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام فَقَالَ : أَمَا كَانَ يَكْفِيكَ ضَرْبَتَانِ فَلَمْ يَتَذَكَّرْهُ عُمَرُ فَلَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ عَمَّارٍ } يُقَالُ : تَمَعَّكَتْ الدَّابَّةُ فِي التُّرَابِ أَيْ : تَمَرَّغَتْ . وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهَذَا أَنَّ عَمَّارًا لَوْ لَمْ يَحْكِ حُضُورَ عُمَرَ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ لَقَبِلَهُ عُمَرُ لِعَدَالَةِ عَمَّارٍ فَالْمَانِعُ مِنْ الْقَبُولِ أَنَّ عَمَّارًا حَكَى حُضُورَ عُمَرَ وَعُمَرُ لَمْ يَتَذَكَّرْ ذَاكَ فَبِالْأَوْلَى إذَا نُقِلَ عَنْ رَجُلٍ حَدِيثٌ , وَهُوَ لَا يَتَذَكَّرُهُ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا . وَنَقَلَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سُفْيَانَ { عَنْ شَقِيقٍ كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ , وَأَبِي مُوسَى فَقَالَ أَبُو مُوسَى أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ لِعُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنِي أَنَا وَأَنْتَ فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْتُ الصَّعِيدَ فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْنَاهُ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام أَمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا , وَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ وَاحِدَةً , وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَفَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِقَوْلِ عَمَّارٍ ؟ } . ( وَهَذَا فَرْعُ خِلَافِهِمَا فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى قَاضٍ أَنَّهُ قَضَى بِهَذَا , وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الْقَاضِي , وَالثَّانِي أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ الصَّحَابِيِّ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْخَفَاءَ يَكُونُ جَرْحًا نَحْوَ { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ } ) وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ رضي الله عنهما , وَلَا يُمْكِنُ خَفَاءُ مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ عَنْهُمَا , وَفِيمَا يَحْتَمِلُ الْخَفَاءَ لَا يَكُونُ جَرْحًا كَمَا لَمْ يَعْمَلْ أَبُو مُوسَى بِحَدِيثِ الْوُضُوءِ عَلَى مَنْ قَهْقَهَ فِي الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُ مِنْ الْحَوَادِثِ النَّادِرَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْخَفَاءِ عَنْهُ , وَإِنْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فَإِنْ كَانَ الطَّعْنُ مُجْمَلًا لَا يُقْبَلُ , وَإِنْ كَانَ مُفَسَّرًا , فَإِنْ فَسَّرَ بِمَا هُوَ جَرْحٌ شَرْعًا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ , وَالطَّاعِنُ مِنْ أَهْلِ النَّصِيحَةِ لَا مِنْ أَهْلِ الْعَدَاوَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ يَكُونُ جَرْحًا وَإِلَّا , فَلَا , وَمَا لَيْسَ بِطَعْنٍ شَرْعًا فَمَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْبَزْدَوِيِّ فَإِنْ أَرَدْت فَعَلَيْكَ بِالْمُطَالَعَةِ فِيهِ .(2/276)
( قَوْلُهُ : فَصْلٌ فِي الطَّعْنِ ) كَحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَدْ يُقَالُ : إنَّ غَيْبَةَ الْأَبِ لَا تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ بِلَا وَلِيٍّ ; لِأَنَّ الْوِلَايَةَ تَنْتَقِلُ إلَى الْأَبْعَدِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْأَقْرَبِ . ( قَوْلُهُ : وَإِنْ عَمِلَ ) أَيْ : الرَّاوِي بِخِلَافِ مَا رَوَى قَبْلَ الرِّوَايَةِ لَا يُجَرَّحُ لِجَوَازِ أَنَّهُ كَانَ مَذْهَبَهُ فَتَرَكَهُ بِالْحَدِيثِ وَكَذَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ ; لِأَنَّهُ حُجَّةٌ بِيَقِينٍ , فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ . ( قَوْلُهُ : عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهما ) تَرَكَ بَيْنَهُمَا ذِكْرَ عُرْوَةَ , وَهُوَ الرَّاوِي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها . ( قَوْلُهُ : لِقِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ ) هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ سُمِّيَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ , وَقِيلَ لِطُولِ يَدَيْهِ اسْتَدَلَّ بِالْقِصَّةِ عَلَى أَنَّ رَدَّ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ لَا يَكُونُ جَرْحًا وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَبِلَ رِوَايَةَ أَبِي بَكْرٍ , وَعُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ مَعَ أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَوَّلًا ; لِأَنَّ سِيَاقَ الْقِصَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا عَمِلَ بِقَوْلِهِمَا إلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ . وَكَلَامُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام إنَّمَا جَرَى عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَ الصَّلَاةَ فَكَانَ فِي حُكْمِ النَّاسِي وَكَلَامُ النَّاسِي لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ , وَالْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ ; لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ كَانَ بِمَكَّةَ وَحُدُوثَ هَذَا الْأَمْرِ إنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ ; لِأَنَّ رَاوِيَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ , وَهُوَ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ , وَقَدْ رَوَاهُ عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ , وَهِجْرَتُهُ مُتَأَخِّرَةٌ كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ . ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى نِسْيَانِهِ أَوْلَى مِنْ تَكْذِيبِ الثِّقَةِ الَّذِي يَرْوِي عَنْهُ ) فَإِنْ قِيلَ : إنْ أُرِيدَ بِالتَّكْذِيبِ النِّسْبَةُ إلَى تَعَمُّدِ الْكَذِبِ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ سَهْوًا أَوْ نِسْيَانًا , وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ , فَلَا أَوْلَوِيَّةَ ; لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ أَيْضًا ثِقَةٌ قُلْنَا تَعَارَضَا فَبَقِيَ أَصْلُ الْخَبَرِ مَعْمُولًا بِهِ , وَفِيهِ نَظَرٌ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رحمه الله تعالى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِيمَا إذَا صَرَّحَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ بِالْإِنْكَارِ وَالتَّكْذِيبِ , وَلَا يُشْعِرُ بِالْحُكْمِ فِيمَا إذَا تَوَقَّفَ , وَقَالَ : لَا أَتَذَكَّرُ ذَلِكَ . وَقِيلَ الْخِلَافُ فِي الثَّانِي , وَفِي الْأَوَّلِ يَسْقُطُ بِلَا خِلَافٍ , وَقِيلَ إنْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فِي الْجَزْمِ فَهُوَ الْمُعْتَبَرُ , وَإِنْ تَسَاوَيَا فَقَدْ تَسَاقَطَا , فَلَا يُعْمَلُ بِالْحَدِيثِ . ( قَوْلُهُ : وَيَكُونُ جَرْحًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) لِقِصَّةِ عَمَّارٍ , وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ الِانْقِطَاعُ , وَيَكُونُ أَحَدُهُمَا مُغَفَّلًا وَجَوَابُهُ أَنَّ عَدَمَ التَّذَكُّرِ فِي حَادِثَةٍ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ مُغَفَّلًا بِحَيْثُ يُرَدُّ خَبَرُهُ , وَقَلَّمَا يَسْلَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ النِّسْيَانِ , وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْ عُمَرَ , وَعَمَّارٍ عَدْلٌ ضَابِطٌ , وَأَيْضًا عَدَالَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَضَبْطُهُ يَقِينٌ , فَلَا يَرْتَفِعُ بِالشَّكِّ . ( قَوْلُهُ : وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ عُمَرُ ) , , وَعَلِيٌّ رضي الله عنهما فَإِنْ قِيلَ قَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه نَفَى رَجُلًا فَلَحِقَ بِالرُّومِ مُرْتَدًّا فَحَلَفَ , وَاَللَّهِ لَا أَنْفِي أَبَدًا أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَانَ سِيَاسَةً إذْ لَوْ كَانَ حَدًّا لَمَا حَلَفَ إذْ الْحَدُّ لَا يُتْرَكُ بِالِارْتِدَادِ , وَفِيهِ بَحْثٌ ; لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ لَا قَطْعَ بِهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ بِذَلِكَ , وَالْإِنْصَافُ أَنَّ قِصَّةَ أَعْرَابِيٍّ وَقَعَ فِي كُوَّةٍ فِي الْمَسْجِدِ , وَقَهْقَهَتْ الْأَصْحَابُ فِي الصَّلَاةِ بِمَحْضَرٍ مِنْ كِبَارِ الْأَصْحَابِ , وَأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم إيَّاهُمْ بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ لَيْسَتْ أَخْفَى مِنْ حَدِيثٍ فِي تَغْرِيبِ الْعَامِ فِي زِنَا الْبِكْرِ بِالْبِكْرِ ذَكَرَهُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام وَرَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله تعالى عنه . ( قَوْلُهُ : فَإِنْ كَانَ الطَّعْنُ مُجْمَلًا ) بِأَنْ يَقُولَ : هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ ثَابِتٍ أَوْ مُنْكَرٌ أَوْ مَجْرُوحٌ أَوْ رَاوِيهِ مَتْرُوكِ الْحَدِيثِ أَوْ غَيْرُ الْعَدْلِ لَمْ يُقْبَلْ ; لِأَنَّ الْعَدَالَةَ أَصْلٌ فِي كُلِّ مُسْلِمٍ نَظَرًا إلَى الْعَقْلِ وَالدِّينِ لَا سِيَّمَا الصَّدْرُ الْأَوَّلُ , فَلَا يُتْرَكُ بِالْجَرْحِ الْمُبْهَمِ لِجَوَازِ أَنْ يَعْتَقِدَ الْجَارِحُ مَا لَيْسَ تَجْرِيحًا , وَقِيلَ يُقْبَلُ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الْجَارِحِ الصِّدْقُ , وَالْبَصَارَةُ بِأَسْبَابِ الْجَرْحِ وَمَوَاقِعِ الْخِلَافِ . وَالْحَقُّ أَنَّ الْجَارِحَ إنْ كَانَ ثِقَةً(2/277)
بَصِيرًا بِأَسْبَابِ الْجَرْحِ وَمَوَاقِعِ الْخِلَافِ ضَابِطًا لِذَلِكَ يُقْبَلُ جَرْحُهُ الْمُبْهَمُ , وَإِلَّا , فَلَا . ( قَوْلُهُ : مَا لَيْسَ بِطَعْنٍ شَرْعًا ) مِثْلُ رَكْضِ الْخَيْلِ , وَالْمُزَاحِ وَتَحَمُّلِ الْحَدِيثِ فِي الصِّغَرِ وَمِثْلُ الْإِرْسَالِ , وَالِاسْتِكْسَارِ مِنْ فُرُوعِ الْفِقْهِ , وَأَمْثَالِ ذَلِكَ
================
وفي البحر المحيط :(1)
وَمِنْهَا الْفَاءُ : وَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ وَزِيَادَةٍ , وَهِيَ التَّعْقِيبُ أَيْ :
__________
(1) - البحر المحيط - (ج 3 / ص 12)(2/278)
أَنَّ الْمَعْطُوفَ بَعْدَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُ , وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ : إنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ بِلَا مُهْلَةٍ أَيْ : فِي عَقِبِهِ وَلِهَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ : إنَّ مَعْنَاهَا التَّفَرُّقُ عَلَى مُوَاصَلَةٍ . وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تُحْكَى عَنْ الزَّجَّاجِ وَأَخَذَهَا ابْنُ جِنِّي فِي لُمَعِهِ " . وَمَعْنَى التَّفَرُّقِ أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلْجَمْعِ كَالْوَاوِ , وَمَعْنَى عَلَى مُوَاصَلَةٍ أَيْ : أَنَّ الثَّانِيَ لَمَّا كَانَ يَلِي الْأَوَّلَ مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ زَمَانِيٍّ كَانَ مُوَاصِلًا لَهُ . وَاسْتَدَلَّ الْفَارِسِيُّ فِي " الْإِيضَاحِ " عَلَى ذَلِكَ بِوُقُوعِهَا فِي جَوَابِ الشَّرْطِ , نَحْوُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ . يُرِيدُ أَنَّ الْجَوَابَ يَلِي الشَّرْطَ عَقِبَهُ بِلَا مُهْلَةٍ . وَأَمَّا قوله تعالى : { وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا } قَالَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ مَعْنَاهُ قَرُبَ هَلَاكُهَا . وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ : أَيْ أَرَدْنَا إهْلَاكَهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا , وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْكَلَامِ . وَقِيلَ : لَمَّا كَانَ مَجِيءُ الْبَأْسِ مَجْهُولًا عِنْدَ النَّاسِ قُدِّرَ كَالْعَدَمِ , وَلَمَّا حَصَلَ الْهَلَاكُ اعْتَقَدُوا وُجُودَهُ فَحَسُنَ دُخُولُ الْفَاءِ . وَقِيلَ : لَيْسَتْ عَاطِفَةً , وَإِنَّمَا هِيَ سَبَبِيَّةٌ , وَالْفَاءُ السَّبَبِيَّةُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّعْقِيبُ , فَإِنَّك تَقُولُ : أَكْرَمْت زَيْدًا أَمْسِ , فَأَكْرَمَنِي الْيَوْمَ , وَهَذَا تَأْوِيلٌ ظَاهِرٌ , وَعَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قوله تعالى : { فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً } ثُمَّ التَّرْتِيبُ إمَّا فِي الزَّمَانِ نَحْوُ { خَلَقَك فَسَوَّاك } وَلِهَذَا كَثُرَ كَوْنُ تَابِعِهَا مُسَبَّبًا , نَحْوُ ضَرَبْته فَهَلَكَ , أَوْ فِي الذِّكْرِ , وَهُوَ عَطْفُ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ هُوَ , نَحْوُ { وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ } أَوْ مُتَأَخِّرٌ عَمَّا قَبْلَهُ فِي الْإِخْبَارِ نَحْوُ : بِسَقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدُّخُولِ فَحَوْمَلِ وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّهَا تَأْتِي لِغَيْرِ التَّرْتِيبِ , وَهَذَا مَعَ مَا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ أَنَّ الْوَاوَ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ عَجِيبٌ , وَهُوَ يُوقِعُ خَلَلًا فِي ذَلِكَ النَّقْلِ , فَإِنَّهُ قَدْ ذُكِرَ هَذَا فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ فِي قوله تعالى { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } الْمَعْنَى ثُمَّ تَدَلَّى فَدَنَا , وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ إذَا كَانَ الْمَعْنَى فِي الْفِعْلَيْنِ وَاحِدًا , أَوْ كَالْوَاحِدِ قَدَّمْت أَيَّهُمَا شِئْت فَقُلْت : دَنَا فَقَرُبَ أَوْ قَرُبَ فَدَنَا , وَشَتَمَنِي فَأَسَاءَ , أَوْ أَسَاءَ فَشَتَمَنِي ; لِأَنَّ الشَّتْمَ وَالْإِسَاءَةَ وَاحِدٌ . وَنُوقِشَ بِأَنَّ الْقَلْبَ إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مُسَبَّبًا وَسَبَبًا مِنْ وَجْهَيْنِ , فَيَكُونُ التَّرْتِيبُ حَاصِلًا قَدَّمْت أَوْ أَخَّرْت , فَقَوْلُكَ : دَنَا فَقَرُبَ . الدُّنُوُّ عِلَّةُ الْقُرْبِ , وَالْقُرْبُ غَايَتُهُ . فَإِذَا قُلْت : دَنَا فَقَرُبَ , فَمَعْنَاهُ لَمَّا دَنَا حَصَلَ الْقُرْبُ , وَإِذَا عَكَسْت فَقُلْت : قَرُبَ فَدَنَا , فَمَعْنَاهُ قَرُبَ فَلَزِمَ مِنْهُ الدُّنُوُّ , وَلَا يَصِحُّ فِي قَوْلِك : ضَرَبْته فَبَكَى ; لِأَنَّ الضَّرْبَ لَيْسَ غَايَتَهُ الْبُكَاءُ بَلْ الْأَدَبُ , أَوْ شَيْءٌ آخَرُ , وَكَذَلِكَ أَعْطَيْته فَشَنَّعَا . وَقَالَ الْجَرْمِيُّ : لَا تُفِيدُ الْفَاءُ التَّرْتِيبَ فِي الْبِقَاعِ وَلَا فِي الْأَمْطَارِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : بَيْنَ الدُّخُولِ فَحَوْمَلِ . وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : نَصَّ الْفَارِسِيُّ فِي " الْإِيضَاحِ " عَلَى أَنَّ " ثُمَّ " أَشَدُّ تَرَاخِيًا مِنْ الْفَاءِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاءَ لَهَا تَرَاخٍ , وَكَذَلِكَ ذَكَرَ غَيْرُهُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ , وَلَمْ يَدَّعِ أَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ إلَّا الْمُتَأَخِّرُونَ . قُلْت : وَهِيَ عِبَارَةُ أَبِي بَكْرِ بْنِ السَّرَّاجِ فِي أُصُولِهِ " , فَقَالَ : وَ " ثُمَّ " مِثْلُ الْفَاءِ إلَّا أَنَّهَا أَشَدُّ تَرَاخِيًا , وَقَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ : ظَاهِرُهُ أَنَّ فِي الْفَاءِ تَرَاخِيًا جَمًّا ; لِأَنَّ أَشَدَّ " أَفْضَلُ لِلتَّفْضِيلِ " وَلَا يَقَعُ التَّفْضِيلُ إلَّا بَيْنَ مُشْتَرِكَيْنِ فِي مَعْنًى , ثُمَّ يَزِيدُ الْمُفَضَّلُ عَلَى الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى , وَلَا تَرَاخِيَ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَاءُ فِيمَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ عَدَّ تَعْقِيبَ الْفَاءِ وَتَرْتِيبَهَا تَرَاخِيًا فَذَلِكَ تَسَاهُلٌ فِي الْعِبَارَةِ وَتَسَامُحٌ . ثُمَّ شَرَعَ فِي تَأْوِيلِ عِبَارَةِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَنَّ " أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ " قَدْ لَا يُرَادُ بِهِ ظَاهِرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا } وَمِنْ الْبَيِّنِ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي مُسْتَقَرِّ أَهْلِ النَّارِ . قُلْت : وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا فَقَدْ صَرَّحَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ , فَقَالَ فِي الْفَاءِ : إنَّ أَصْلَهَا الْإِتْبَاعُ , وَلِذَلِكَ لَا تَعْرَى عَنْهُ مَعَ تَعَرِّيهَا عَنْ الْعَطْفِ فِي جَوَازِ الشَّرْطِ , وَلَكِنْ(2/279)
مَعَ ذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّرَاخِي الْيَسِيرُ . ا هـ . وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ : مَعْنَى التَّرَاخِي فِيهَا وَإِنْ لَطُفَ فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ التَّعْقِيبِ تَرَاخِي الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ بِزَمَانٍ وَإِنْ قَلَّ بِحَيْثُ لَا يُدْرَكُ ; إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مُقَارَنًا , وَالْقُرْآنُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لَهُ , وَأَنْتَ إذَا عَلِمْت تَفْسِيرَنَا التَّعْقِيبَ بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُ زَالَ الْإِشْكَالُ . وَقَدْ جَوَّزُوا " دَخَلْت الْبَصْرَةَ فَالْكُوفَةَ " , وَبَيْنَ الدُّخُولَيْنِ تَرَاخٍ وَمُهْلَةٌ , وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحَوَى } فَإِنَّ بَيْنَ الْإِخْرَاجِ وَالْإِحْوَاءِ وَسَائِطَ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ : الِاتِّصَالُ يَكُونُ حَقِيقَةً وَيَكُونُ مَجَازًا , فَإِذَا كَانَ حَقِيقَةً فَلَا تَرَاخِيَ فِيهِ وَإِذَا كَانَ مَجَازًا فَفِيهِ تَرَاخٍ بِلَا شَكٍّ , كَقَوْلِك : دَخَلْت الْبَصْرَةَ فَالْكُوفَةَ وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْفَاءُ ; لِأَنَّ سَبَبَ دُخُولِ الْكُوفَةِ اتَّصَلَ بِدُخُولِ الْبَصْرَةِ , فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُهْلَةٌ . وَقَدْ يَكُونُ التَّرَاخِي بَيْنَهُمَا قَلِيلًا فَيَكُونُ كَالْمُسْتَهْلِكِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ لِعِلَّتِهِ , فَتَدْخُلُ الْفَاءُ كَذَلِكَ . وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ وَجْهُ التَّعْقِيبِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ } وَبِظَاهِرِهِ تَمَسَّكَ أَهْلُ الظَّاهِرِ فِي إيجَابِ عِتْقِهِ , وَأَنَّهُ لَا يُعْتَقُ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ فَإِنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ : " فَيُعْتِقَهُ " مَعْنًى . وَقَالَ الْأَئِمَّةُ : فَائِدَتُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ بِذَلِكَ الشِّرَاءِ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ كَمَا يُقَالُ : أَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ وَسَقَاهُ فَأَرْوَاهُ . أَيْ : بِهَذَا الْإِطْعَامِ ; إذْ لَوْ كَانَ الْإِشْبَاعُ بِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا بِهِ , لَا يُقَالُ : لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْإِعْتَاقُ حُكْمًا لِلشِّرَاءِ ; لِأَنَّ الشِّرَاءَ مَوْضُوعٌ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ , وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةٌ , فَكَانَ مُنَافِيًا لَهُ , وَالْمُنَافِي لِحُكْمِ الشَّيْءِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ ; لِأَنَّا نَقُولُ : إنَّهُ بِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا لَهُ وَلَكِنَّهُ يَصْلُحُ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ , وَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ بِالشِّرَاءِ يَصِيرُ مُتَمَلَّكًا , وَالْمِلْكُ فِي الْوَقْتِ إكْمَالٌ لِعِلَّةِ الْعِتْقِ فَيَصِيرُ الْعِتْقُ مُضَافًا إلَى الشِّرَاءِ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ , وَإِذَا صَارَ مُضَافًا إلَيْهِ يَصِيرُ بِهِ مُعْتَقًا , وَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعْتَاقٍ آخَرَ . ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي كَوْنِهَا لِلتَّعْقِيبِ بَيْنَ الْعَاطِفَةِ وَالْوَاقِعَةِ جَوَابًا لِلشَّرْطِ وَسَبَقَ فِي كَلَامِ الْفَارِسِيِّ الِاسْتِدْلَال بِجَوَابِ الشَّرْطِ , فَاقْتَضَى أَنَّهُ مَحَلُّ وِفَاقٍ . وَقَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ فِي " الْعَوْنِيِّ " : الْمَعْنَى الْخَاصُّ بِالْفَاءِ التَّعْقِيبُ فَلَا تَكُونُ عَاطِفَةً إلَّا مُعَقِّبَةً , وَقَدْ تَكُونُ مُعَقِّبَةً غَيْرَ عَاطِفَةٍ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا } وَالْفَاءُ فِي هَذَا وَشَبَهِهِ عَاطِفَةٌ مُعَقِّبَةٌ , وَنَظِيرُهُ فِي الْكَلَامِ : جَاءَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو , وَأَمَّا الْمُعَقِّبَةُ غَيْرُ الْعَاطِفَةِ كَالْوَاقِعَةِ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ ; لِأَنَّ الْجَوَابَ يَعْقُبُ الشَّرْطَ , وَلَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ ; إذْ لَوْ عُطِفَ عَلَيْهِ لَكَانَ شَرْطًا أَيْضًا لَا جَوَابًا انْتَهَى . وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ : هِيَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ لِلتَّعْقِيبِ فِي الْعَطْفِ , وَأَمَّا فِي الْجَوَابِ فَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ أَيْضًا . وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بِدَلِيلِ قوله تعالى : { لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ } وَلِأَنَّك تَقُولُ : إذَا دَخَلْت مَكَّةَ فَاشْتَرِ لِي عَبْدًا , فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّعْقِيبَ . انْتَهَى . وَلِهَذَا اخْتَارَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهَا رَابِطَةٌ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ لَا غَيْرُ , وَأَنَّ التَّعْقِيبَ غَيْرُ لَازِمٍ بِدَلِيلِ قوله تعالى : { فَيُسْحِتَكُمْ } وَقَوْلُهُ { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } وَلَيْسَ فِيهَا جَزَاءٌ عَقِبَ شَرْطِهِ . وَحَمَلَهُ الْأَوَّلُونَ عَلَى الْمَجَازِ ; لِأَنَّ الْإِسْحَاتَ لَمَّا تَحَقَّقَ وُقُوعُهُ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ عَقِبَهُ . وَمَا نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ يُبَايِنُهُ مُبَايَنَةً ظَاهِرَةً مَا نَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي أُصُولِهِ " فَإِنَّهُ قَالَ مَا نَصُّهُ : إنَّ الْفَاءَ إنْ كَانَتْ لِلْجَزَاءِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ كَقَوْلِك : جَاءَنِي فَضَرَبْته وَشَتَمَنِي فَحَدَدْته . وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كَانَتْ لِلْعَطْفِ فَقِيلَ :(2/280)
كَالْأَوَّلِ وَقِيلَ كَالْوَاوِ . ا هـ . لَكِنْ الْخِلَافُ فِي الْجَزَاءِ ثَابِتٌ , وَجَعَلُوا مِنْ فَوَائِدِهِ الْخِلَافَ فِي وُجُوبِ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } فَإِنْ جَعَلْنَاهُ لِلتَّعْقِيبِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ وَإِلَّا فَلَا . وَأَنْكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ كَوْنَهَا لِلتَّعْقِيبِ إذَا وَقَعَتْ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَدَافَعَ الْمُعْتَزِلَةُ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُنْ فَيَكُونُ } فَإِنَّ الْفَاءَ هُنَا لِلتَّعْقِيبِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ وَلَا مُهْلَةٍ , وَإِذَا كَانَ الْكَائِنُ الْحَادِثُ عَقِبَ قَوْلِهِ : " كُنْ " مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ وَلَا مُهْلَةٍ اقْتَضَى ذَلِكَ حَدَثُ الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ " كُنْ " . وَاشْتَدَّ نَكِيرُ الْقَاضِي فِي كَوْنِ الْفَاءِ تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ فِي مِثْلِ هَذَا , وَرَأَى أَنَّهَا تَقْتَضِيهِ فِي الْعَطْفِ فَقَطْ , وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ , وَعَلَى هَذَا فَلَا يَحْسُنُ الِاسْتِدْلَال بِهَا عَلَى التَّرْتِيبِ فِي قوله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا } وَأَنَّهُ إذَا ثَبَتَتْ الْبُدَاءَةُ بِالْوَجْهِ ثَبَتَ التَّرْتِيبُ فِي الْبَاقِي ; إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ . قِيلَ : وَأَصْلُ الْفَاءِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْمَعْلُولِ لِأَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ , وَالْمَعْلُولُ يَعْقُبُ الْعِلَّةَ , وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مَعْلُولٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } وَسَيَأْتِي لَهُ مَزِيدٌ فِي بَابِ الْقِيَاسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
===============
وفي البحر المحيط:(1)
فَصْلٌ فِي اشْتِمَالِ الْعُمُومِ عَلَى بَعْضِ مَنْ يُشْكِلُ تَنَاوُلُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْمُخَاطَبِ وَغَيْرِهِ , وَفِيهِ مَسَائِلُ :
__________
(1) - البحر المحيط 1/ 240 وإرشاد الفحول للشوكاني - (ج 1 / ص 94)(2/281)
الْأُولَى : الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الْجَمْعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى دَلَالَتِهَا عَلَى الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ عَلَى أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمَا , وَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْآخَرِ بِحَالٍ , كَرِجَالٍ لِلْمُذَكَّرِ وَالنِّسَاءِ لِلْمُؤَنَّثِ , فَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ بِالِاتِّفَاقِ إلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ مِنْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ , قَالَهُ الْأُسْتَاذَانِ أَبُو إسْحَاقَ وَأَبُو مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُمَا . قِيلَ : وَمِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ الذُّكُورُ : الْهَاءُ وَالْمِيمُ وَالْوَاوُ وَالنُّونُ , وَمِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ الْإِنَاثُ الْأَلِفُ وَالتَّاءُ وَمِنْهُ الْوَقْفُ عَلَى الْبَنِينَ لَا تَدْخُلُ الْبَنَاتُ أَوْ الْبَنَاتِ لَا تَدْخُلُ الْبَنُونَ , لَكِنْ سَيَأْتِي فِي الْجُمُوعِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ . وَمِنْهُ " الْقَوْمُ " فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالذُّكُورِ , قَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ , وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ } وَلِهَذَا لَا يَدْخُلْنَ فِي الْوَصِيَّةِ لَهُمْ عَلَى الْأَصَحِّ . الثَّانِي : مَا يَعُمُّ الْفَرِيقَيْنِ بِوَضْعِهِ , وَلَيْسَ لِعَلَامَةِ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ فِيهِ مَدْخَلٌ , كَالنَّاسِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْأُنَاسِ وَالْبَشَرِ , فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالِاتِّفَاقِ أَيْضًا . وَفِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي " الْمَنْخُولِ " إثْبَاتُ خِلَافٍ , وَهُوَ بَعِيدٌ . الثَّالِثُ : لَفْظٌ يَشْمَلُهَا مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ ظَاهِرَةٍ فِي أَحَدِهِمَا " كَمَنْ " , وَهَذَا مِنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ , فَقِيلَ : لَا يَدْخُلُ فِيهِ النِّسَاءُ إلَّا بِدَلِيلٍ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُمَا بِدَلِيلِ قوله تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } فَلَوْلَا اشْتِمَالُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَحْسُنْ التَّقْسِيمُ بَعْدَ ذَلِكَ وَمِمَّنْ حَكَى الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ فِي " التَّلْوِيحِ " . وَحَكَاهُ غَيْرُهُمَا عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ , وَإِنَّهُمْ لِذَلِكَ قَالُوا : إنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ , لِعَدَمِ دُخُولِهَا فِي قَوْلِهِ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } ; لَكِنْ الْمَوْجُودُ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهَا تَعُمُّ الْجَمِيعَ , كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ , وَصَرَّحَ بِهِ الْبَزْدَوِيُّ وَشُرَّاحُ كِتَابِهِ . وَابْنُ السَّاعَاتِيِّ وَغَيْرُهُمَا . وَنَقَلَ فِي " الْمَحْصُولِ " الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : مَنْ دَخَلَ دَارِي مِنْ أَرِقَّائِي فَهُوَ حُرٌّ دَخَلَ فِيهِ الْإِمَاءُ , وَكَذَلِكَ لَوْ عَلَّقَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَصِيَّةً أَوْ تَوْكِيلًا أَوْ إذْنًا فِي أَمْرٍ لَمْ يَخْتَصَّ بِالذُّكُورِ , وَكَانَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لِهَذَا يُنْكِرُ حِكَايَةَ الْخِلَافِ عَلَى ابْنِ الْحَاجِبِ , وَقَدْ عَلِمْت مُسْتَنَدَهُ , ثُمَّ إنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ خَصَّ الْخِلَافَ بِمَا إذَا كَانَتْ شَرْطِيَّةً . قَالَ الْهِنْدِيُّ : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ " مَنْ " الْمَوْصُولَةِ وَالِاسْتِفْهَامِيَّة , وَالْخِلَافُ جَارٍ فِي الْجَمِيعِ , وَهُوَ كَمَا قَالَ بِنَاءً عَلَى عُمُومِهِنَّ , وَالْإِمَامُ إنَّمَا فَرَضَ الْخِلَافَ فِي الشَّرْطِيَّةِ , لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عُمُومَ غَيْرِهَا , ثُمَّ ذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ مُسْتَنَدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا لَا تَتَنَاوَلُ الْمُؤَنَّثَ قَوْلُهُمْ فِي بَابِ الْحِكَايَةِ : " مِنْ وَمِنْهُ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُ الْمُؤَنَّثَ إلَّا بِعَلَامَةِ تَأْنِيثٍ . وَأَجَابَ , وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ , بِأَنَّهَا لُغَةٌ شَاذَّةٌ وَلَيْسَتْ مِنْ الْفَصِيحِ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; بَلْ هِيَ الْفَصِيحَةُ فِي بَابِ الْحِكَايَةِ وَظَنَّ الْإِمَامُ أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ , وَهُوَ وَهْمٌ , بَلْ هِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ , وَوَهَمَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ : إنَّهُ قَدْ يَعُودُ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا عَلَى اللَّفْظِ , وَجَمْعًا عَلَى الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْك } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْك } وَهَذِهِ لَيْسَتْ شَرْطِيَّةً بَلْ مَوْصُولَةٌ , وَتَبِعَهُ إِلْكِيَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ . وَإِنَّمَا الْجَوَابُ مَا ذَكَرَهُ ثَانِيًا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ بِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَقْصِدْ حِينَئِذٍ بِهَا مَعْنَاهَا الْأَصْلِيَّ , وَإِنَّمَا تَأْتِي بِهِ فِي حِكَايَةِ النَّكِرَاتِ خَاصَّةً , فَيَحْصُلُ الشَّبَهُ بَيْنَ كَلَامِ الْحَاكِي وَالْمُخْبِرِ , فَإِذَا قَالَ : جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ . قَالَ لَهُ الْمُسْتَفْهِمُ : " مِنْهُ " ؟ لِلْمُحَاكَاةِ , لَا لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُ الْمُؤَنَّثَ إلَّا بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ . وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ " مَنْ " وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَامَةُ تَأْنِيثٍ يُفْصَلُ بِهَا بِالْأَصَالَةِ , لَكِنْ يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ تَأْنِيثِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ بَعْدَهَا وَتَذْكِيرِهِ , نَحْوُ مَنْ فَعَلَ كَذَا , وَمَنْ فَعَلَتْ , وَهَذَا ضَعِيفٌ , لِأَنَّهُ يَصِحُّ(2/282)
تَذْكِيرُ الْفِعْلِ وَتَأْنِيثُهُ مُرَاعَاةً لِلَفْظِهَا تَارَةً , وَلِمَعْنَاهَا أُخْرَى . قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا } فَذَكَّرَ الْفِعْلَ أَوَّلًا , ثُمَّ أَنَّثَهُ , وَالْخِطَابُ فِيهِمَا لِلْإِنَاثِ . فُرُوعٌ يَنْبَغِي بِنَاؤُهَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ : مِنْهَا : أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ هَلْ تُقْتَلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ : ( مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ ) أَوْ لَا تَعُمُّ ؟ وَمِنْهَا : إذَا قَتَلَتْ هَلْ لَهَا السَّلَبُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ , وَالْأَصَحُّ تَعُمُّ , لِعُمُومِ قَوْلِهِ { مَنْ قَتَلَ . . . فَلَهُ سَلَبُهُ } وَمِنْهَا إذَا نَظَرَتْ فِي بَيْتٍ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تُهْدَرُ كَالرَّجُلِ , لِعُمُومِ قَوْلِهِ { مَنْ اطَّلَعَ عَلَى قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ } . الْحَدِيثَ .
=====================
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَابٍ يَكُونُ أَعَمَّ مِنْ السُّؤَالِ :(1)
__________
(1) - البحر المحيط - (ج 4 / ص 20)(2/283)
وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ , وَفُرُوعُ مَذْهَبِهِ تَدُلُّ عَلَيْهِ , وَقَدْ نَصَّ فِي " الْأُمِّ " فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ لِلْأَلْفَاظِ وَلَا تَعْمَلُ الْأَسْبَابُ شَيْئًا , لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ يَكُونُ , وَيَحْدُثُ الْكَلَامُ عَلَى غَيْرِ السَّبَبِ , وَلَا يَكُونُ مُبْتَدَأُ الْكَلَامِ الَّذِي حَكَمَ , وَخَدَشَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا , فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ أَنَّ الْغَضَبَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَرِدُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ لَا يَدْفَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ , وَنَحْنُ نَقُولُ : بَلْ الْعِبْرَةُ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ , وَقَوْلُهُ : لَا عَمَلَ لِلْأَسْبَابِ عَلَى عُمُومِهِ , وَلَا يَخُصُّهُ سِيَاقُهُ . وَقَالَ فِي " الْأُمِّ " فِي بَابِ بَيْعِ الْعَرَايَا لِلْأَغْنِيَاءِ مَا نَصُّهُ : وَاَلَّذِي أَذْهَبُ إلَيْهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَحَلَّهَا لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ دُونَ أَحَدٍ , كَمَا قَالَ : تَحِلُّ لَك , وَلِمَنْ كَانَ مِثْلَك , كَمَا قَالَ فِي التَّضْحِيَةِ بِالْجَذَعَةِ : { تَجْزِيكَ وَلَا تَجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك } , وَكَمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ فَلَمْ يُرَخِّصْ فِيهَا إلَّا لِلْمُضْطَرِّ , وَكَثِيرٌ مِنْ الْفَرَائِضِ نَزَلَ بِأَسْبَابِ قَوْمٍ , وَكَانَ لَهُمْ وَلِلنَّاسِ عَامَّةً إلَّا مَا بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ أَحَلَّ لِغَيْرِهِ ضَرُورَةً أَوْ حَاجَةً . انْتَهَى . وَقَدْ نَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْهُ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي " أَنَّ قَرِينَةَ الْغَضَبِ لَا تَجْعَلَ الْكِنَايَةَ صَرِيحًا " أَنَّهُ إذَا كَانَ لَفْظُهُ عَامًّا لَمْ أَعْتَبِرْ خُصُوصَ السَّبَبِ , وَإِنْ كَانَ خَاصًّا لَمْ أَعْتَبِرْ عُمُومَ السَّبَبِ . وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ : لَوْ مَنَّ عَلَيْهِ بِمَالٍ , فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ لَك مَاءً مِنْ عَطَشٍ , انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمَاءِ وَحْدَهُ , وَقَالَ مَالِكٌ : بِكُلِّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ مَالِهِ . قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ : وَسَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَنَا بِاللَّفْظِ , وَبِهِ أَعْتُبِرَ عُمُومُهُ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا , وَخُصُوصُهُ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ عَامًّا , وَعِنْدَهُ الِاعْتِبَارُ بِالسَّبَبِ دُونَ اللَّفْظِ . وَقَدْ أَنْكَرَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَنْ نَقَلَ عَنْهُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ , وَقَالَ : مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَصِحَّ هَذَا النَّقْلُ عَنْهُ , كَيْفَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْآيَاتِ نَزَلَ فِي أَسْبَابِ خَاصَّةٍ ؟ ثُمَّ لَمْ يَقُلْ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهَا مَقْصُورَةٌ عَلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ . وَالسَّبَبُ فِي وُقُوعِ هَذَا النَّقْلِ الْفَاسِدِ أَنَّهُ يَقُولُ بِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى سَبَبِهِ أَقْوَى ; لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ تِلْكَ الصُّورَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّفْظُ جَوَابًا عَنْهُ , وَلَا تَأَخَّرَ الْبَيَانُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ , وَأَبُو حَنِيفَةَ عَكَسَ ذَلِكَ , وَقَالَ : دَلَالَتُهُ عَلَى سَبَبٍ عَلَى النُّزُولِ أَضْعَفُ , وَحُكِمَ بِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَلْحَقُهُ وَلَدُ أَمَتِهِ وَإِنْ وَطِئَهَا , مَا لَمْ يُقِرَّ بِالْوَلَدِ , مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم : { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ , وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } إنَّمَا وَرَدَ فِي أَمَةٍ , وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ فِي عَبْدِ ابْنِ زَمْعَةَ , فَبَالَغَ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُجَوِّزُ إخْرَاجَ السَّبَبِ , وَأَطْنَبَ فِي أَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ قَطْعِيَّةٌ , كَدَلَالَةِ الْعَامِّ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ , وَكَوْنُهُ وَارِدًا لِبَيَانِ حُكْمِهِ , فَتَوَهَّمَ الْمُتَوَهِّمُ أَنَّهُ يَقُولُ إنَّ الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ . قُلْتُ : وَأَمَّا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ , بِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ قوله تعالى : { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } الْآيَةَ . قَاصِرًا لِلْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ , قَالَ : لِوُرُودِ الْآيَةِ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يُحِلُّونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ , وَيَتَحَرَّجُونَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ مُبَاحَاتِ الشَّرْعِ , فَكَانَتْ سَجِيَّتُهُمْ تُخَالِفُ وَضْعَ الشَّرْعِ وَتُضَادُّهُ , وَكَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ إبَانَةَ كَوْنِهِمْ عَلَى مُضَادَّةِ الْحَقِّ , فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَلَّلْتُمُوهُ , وَالْقَصْدُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فَقَطْ . قَالَ : وَلَوْلَا سَبْقُ الشَّافِعِيِّ إلَى ذَلِكَ مَا كَانَ يَسْتَجِيزُ مُخَالَفَةَ تِلْكَ فِي مَصِيرِهِ إلَى حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ . انْتَهَى . وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ . وَذَكَرَ غَيْرُهُ مَوَاضِعَ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ يُؤْخَذُ مِنْهَا ذَلِكَ . مِنْهَا : أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ عليه السلام(2/284)
: { الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } ; خَرَجَ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ بِئْرُ بُضَاعَةَ , فَقَصَرَهُ عَلَى سَبَبِهِ . وَقَالَ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ : أَمَّا حَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ , فَإِنَّ بِئْرَ بُضَاعَةَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ وَاسِعَةٌ , كَانَ يُطْرَحُ فِيهَا مِنْ الْأَنْجَاسِ مَا لَا يُغَيِّرُ لَهَا لَوْنًا وَلَا طَعْمًا وَلَا رِيحًا , فَقِيلَ : أَنَتَوَضَّأُ مِنْهَا وَيُطْرَحُ فِيهَا كَذَا ؟ فَقَالَ عليه السلام مُجِيبًا : { الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } , وَكَانَ جَوَابُهُ مُحْتَمِلًا كُلَّ مَاءٍ , وَإِنْ قَلَّ . وَبَيَّنَّا أَنَّ فِي الْمَاءِ مِثْلَهَا إذَا كَانَ مُجِيبًا عَلَيْهَا , فَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَنْ يُغْسَلَ الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا دَلَّ عَلَى أَنَّ جَوَابَهُ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ عَلَيْهَا , وَكَانَ الْعِلْمُ أَنَّهُ عَلَى مِثْلِهَا أَوْ أَكْثَرِ مِنْهَا , وَلَا يَدُلُّ حَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَحْدَهُ عَلَى أَنَّ مَا دُونَهَا مِنْ الْمَاءِ لَا يُنَجَّسُ , وَكَانَتْ آنِيَّةُ النَّاسِ صِغَارًا , وَكَانَ فِي حَدِيثِ الْوُلُوغِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَدْرَ مَاءِ الْإِنَاءِ يُنَجَّسُ بِمُخَالَطَةِ النَّجَاسَةِ لَهُ , وَإِنْ لَمْ يُغَيَّرْ . انْتَهَى . وَقَالَ فِي قَوْلِهِ : { إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } : إنَّهُ خَرَجَ عَلَى سُؤَالِ سَائِلٍ , فَقَصَرَهُ . وَمِنْهَا قَوْلُهُ : إنَّ جِلْدَ الْكَلْبِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ , وَجُعِلَ قَوْلُهُ : { أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ } خَاصًّا بِالْمَأْكُولِ , فَقَدْ قَصَرَهُ عَلَى سَبَبِهِ . وَمِنْهَا أَنَّهُ خَصَّصَ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ بِالْحَرْبِيَّاتِ , لِخُرُوجِهِ عَلَى سَبَبٍ , وَهُوَ { أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ , فَقَالَ : لِمَ قُتِلَتْ وَهِيَ لَا تُقَاتِلُ ؟ } وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ; فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ الْحَرْبِيَّاتِ . وَتَخَلَّصَ بِذَلِكَ عَنْ اسْتِدْلَالِ أَبِي حَنِيفَةَ بِهِ عَلَى مَنْعِ قَتْلِ الْمُرْتَدَّةِ . فَقَدْ أَلْغَى الشَّافِعِيُّ التَّعْمِيمَ وَقَصَرَهُ عَلَى السَّبَبِ . وَمِنْهَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي : لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْفِطْرِ , لِأَنَّ الْفِطْرَ مَضْمُونٌ بِالْقَضَاءِ , وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام : { لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ } , فَهَذَا وُرُودٌ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام مَرَّ بِرَجُلٍ , وَقَدْ أَحْدَقَ بِهِ النَّاسُ , فَسَأَلَ عَنْهُ , فَقِيلَ مُسَافِرٌ , قَدْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ , فَقَالَ { لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ } , وَعِنْدَنَا أَنَّ مَنْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ فَفِطْرُهُ أَوْلَى . ا هـ . قُلْت : وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَنْبَغِي السَّبَقُ بِهِ إلَى نِسْبَةِ الشَّافِعِيِّ إلَى اعْتِبَارِ خُصُوصِ السَّبَبِ , أَمَّا مَا ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ , فَلَيْسَ ذَلِكَ مُصَيِّرًا إلَى اعْتِبَارِ السَّبَبِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ التَّخْصِيصَ هُنَا مِنْ السَّبَبِ , وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ التَّأْوِيلِ فِي اللَّفْظِ , وَلَهُ مَحَامِلُ وَقَصْدُهُ بِذَلِكَ تَطَرُّقُ التَّأْوِيلِ إلَى الْآيَةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا مَالِكٌ , وَلَوْلَا فَتْحُ هَذَا الْبَابِ لَكَانَتْ الْآيَةُ نَصًّا فِي الْحَصْرِ , وَهِيَ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ , وَلَا نَسْخَ فِيهَا , وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَشَرَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ وَالْعُذُرَاتِ , وَلَمْ تَنْطَوِ الْآيَةُ عَلَيْهَا , وَكَيْفَ تَجْرِي الْآيَةُ مَعَ هَذَا عَلَى الْعُمُومِ . وَالثَّانِي : أَنَّ النِّزَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ لَا دَلِيلَ يُصْرَفُ إلَى السَّبَبِ , وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا قَصَرَ الْآيَةَ عَلَى سَبَبِهَا لَمَّا وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِمُحَرَّمَاتٍ كَثِيرَةٍ كَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ , وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ , وَذَكَرَ الْآيَةَ الْأُخْرَى عَلَى جَمْعِ الْخَبَائِثِ , فَجَمَعَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا , بِأَنْ قَصَرَ آيَةَ الْإِبْهَامِ عَلَى سَبَبِهَا , وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إلَى ذَلِكَ فِي الرِّسَالَةِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ { الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } وَ { إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } فَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ , لِأَنَّهُ رَأَى الْأَخْبَارَ تَعَارَضَتْ , فَلَمْ يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا , فَحَمَلَهَا عَلَى السَّبَبِ لِلتَّعَارُضِ . وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الدِّبَاغِ فَلَمْ يَقْصُرْ الْحُكْمَ عَلَى السَّبَبِ , وَإِلَّا لَقَصَرَهُ عَلَى خُصُوصِ الشَّاةِ , بَلْ سَائِرُ جِلْدِ الْمَأْكُولِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ , وَإِنَّمَا أُخْرِجَ جِلْدُ الْكَلْبِ عَنْ الْعَامِّ بِدَلِيلٍ , وَكَذَا مَسْأَلَةُ الْقَطْعِ . وَأَمَّا مَا قَالَهُ فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ , فَإِنَّهُ إنَّمَا قَصَرَهُ عَلَى سَبَبِهِ لَمَّا عَارَضَهُ قَوْلُهُ : { مَنْ بَدَّلَ(2/285)
دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } , وَلَمْ يَكُنْ بِهِ مِنْ تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ , فَوَجَبَ تَخْصِيصُ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبِهِ , وَحُمِلَ الْآخَرُ عَلَى عُمُومِهِ , لِأَنَّ السَّبَبَ مِنْ أَمَارَاتِ التَّخْصِيصِ . ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي . وَأَمَّا مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ حَدِيثُ : { لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ } فَإِنَّمَا اعْتَبَرَ السَّبَبَ لِقَصْدِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ كَنَظِيرِ مَا سَبَقَ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ , كَيْفَ وَقَدْ نَصَّ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ فِي إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ : { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } , فَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي أُصُولِهِ : قَصَرَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى سَبَبِهِ , وَهُوَ فِيهِ عَبْدٌ بِيعَ , فَظَهَرَ فِيهِ عَيْبٌ , فَجَهِلَ لِمُشْتَرِيهِ خَرَاجُهُ لِضَمَانِهِ إيَّاهُ لَوْ تَلِفَ . قَالَ : فَجَعَلَ أَصْحَابُنَا ذَلِكَ حُكْمًا فِي الْبُيُوعِ دُونَ الْغُصُوبِ وَإِنْ كَانَتْ الْغُصُوبُ مَضْمُونَةً , وَقَدْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُمْ . ا هـ . وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ : الْغَاصِبُ يَضْمَنُ مَنْفَعَةَ الْمَغْصُوبِ اسْتَوْفَاهَا أَمْ لَا , خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ , وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ : { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } , وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ فِي خَرَاجِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي الْمُشْتَرِي إذَا اسْتَعْمَلَ الْمَبِيعَ , ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ , فَأَرَادَ الرَّدَّ . ا هـ . هَذَا مِنْ الْقَفَّالِ وَالْقَاضِي اعْتِبَارًا لِلسَّبَبِ . وَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَوَى هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ : أَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ } , وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ , إذْ لَا عُمُومَ لِمِثْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ عَلَى الْأَصَحِّ , كَمَا فِيمَنْ قَضَى بِالشُّفْعَةِ . قُلْت : لَكِنْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } . وَهَذِهِ صِيغَةٌ عَامَّةٌ , ثُمَّ رَأَيْت الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَالْحُجَّةُ فِي أَنَّ عَلَى الْغَاصِبِ غَلَّةُ مَا اغْتَصَبَهُ , وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْ الدَّارَ , وَلَمْ يَرْكَبْ الدَّابَّةَ حَدِيثُ مُجَالِدِ بْنِ خَلَّافٍ حِينَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } , وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي عَبْدٍ , وَلَيْسَ بِعَيْبِهِ , فَقَضَى النَّبِيُّ عليه السلام بِالْغَلَّةِ لِمَالِك الرَّقَبَةِ , فَذَلِكَ يَقْضِي بِالْغَلَّةِ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ , وَهُوَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ , لِأَنَّهُ مَالِكُ الشَّيْءِ . ا هـ . وَهَذَا الِاسْتِدْلَال يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ , وَقَدْ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ : قِيلَ : إنَّ الشَّافِعِيَّ أَشَارَ إلَى اعْتِبَارِ خُصُوصِ السَّبَبِ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ , وَقَالَ فِي قَوْلِهِ : { الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } مَقْصُودٌ عَلَى سَبَبِهِ . وَقَالَ فِي قَوْلِهِ : { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ } أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي ثِمَارِهِمْ وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي مَوَاضِعَ مُحَوَّطَةٍ . وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ قَالُوا : إنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ هَذَا لِأَدِلَّةٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ , فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ عَلَى التَّخْصِيصِ فَمَذْهَبُهُ إجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ . ا هـ . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي أُصُولِهِ , وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ أَيْضًا : كُلُّ خِطَابٍ حَصَلَ عِنْدَ حُدُوثِ مَعْنًى , فَإِنْ كَانَ فِي الْخِطَابِ أَوْ غَيْرِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْحُكْمَ فِي الْمَعْنَى فَالنَّظَرُ إلَى الْمَعْنَى ابْتِدَاءً سَوَاءٌ كَانَ أَعَمَّ مِنْ الِاسْمِ أَوْ أَخَصَّ , لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى , وَإِنْ لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ فَالْحُكْمُ لِلِاسْمِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ . انْتَهَى . وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي الْقَصْرَ عَلَى السَّبَبِ , فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ كَمَا فَعَلَ فِي الْآيَةِ , وَفِي حَدِيثِ { الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ } , وَبِئْرِ بُضَاعَةَ , وَغَيْرِهَا . وَحَكَاهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ عَنْ أَصْحَابِنَا . وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْقَصْرِ عَلَى السَّبَبِ لِدَلِيلِ الْعَمَلِ بِهِ مُطْلَقًا , فَمِنْ هَاهُنَا مَثَارُ الْغَلَطِ عَلَى الشَّافِعِيِّ , فَقَدْ عَمِلُوا بِحَدِيثِ : { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ } مُطْلَقًا فِي الْإِمَاءِ وَالْحَرَائِرِ وَالْأَمَةِ الْمَمْلُوكَةِ وَالْمَنْكُوحَةِ مَعَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي التَّدَاعِي فِي وَلَدِ الْمَمْلُوكَةِ , وَعَمِلُوا بِحَدِيثِ الْعَرَايَا مُطْلَقًا , لِلْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ , مَعَ أَنَّ الرُّخْصَةَ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْفُقَرَاءِ . وَكَذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةُ الرَّمَلِ ثَبَتَتْ مُطْلَقًا , وَإِنْ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ , وَقَدْ زَالَ . وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ عَلَى(2/286)
أَنَّ الْمُحْرِمَ يَحْصُرُهُ عَدُوٌّ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ , سَوَاءٌ كَانَ الْمَانِعُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا لِعُمُومِ الْآيَةِ , وَإِنْ كَانَتْ قَدْ وَرَدَتْ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ , وَهُوَ صَدُّ الْمُشْرِكِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْبَيْتِ , أَوْ يُقَالُ : إنَّ الْعَامَّ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَرَدَ مَقْصُودًا بِهِ حَقِيقَةُ السَّبَبِ , وَمُؤَثِّرًا فِي دَفْعِهِ , وَإِمَّا أَنْ يَرِدَ لِقَصْدِ التَّشْرِيعِ , وَالْأَوَّلُ هُوَ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِالْحَمْلِ عَلَى الْخُصُوصِ . وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ خِلَافٌ . وَالثَّانِي هُوَ الْمُرَادُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ . وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيَّ لَمَّا جَزَمَ الْقَوْلَ بِالْحُكْمِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ , قَالَ : يَعُمُّ الْعَامُّ الَّذِي لَمْ يَرِدْ عَلَى سَبَبٍ أَقْوَى وَهَذَا دُونَهُ , قَالَ : وَلَا جُرْمَ قَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّ قوله تعالى : { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا } الْآيَةَ لَا نَرَى دَلَالَتَهُ عَلَى حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا رَآهُ مَالِكٌ , فَإِنَّهُ نَزَلَ عَلَى سَبَبٍ , وَهُوَ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي تَنَاوُلِ الْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ , فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ لَا مُحَرَّمَ مِمَّا يَأْكُلُونَ إلَّا كَذَا وَكَذَا يَعُمُّ , قَدْ بَانَ الشَّرْعُ بِصِيغَةٍ فِي تَمْهِيدِ قَاعِدَةٍ . ثُمَّ يُجْعَلُ مَحَلُّ السُّؤَالِ كَالْفَرْعِ لَهُ , أَوْ كَالْمِثَالِ , فَذَلِكَ لَا يُوهِنُ التَّعَلُّقَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ , كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } ثُمَّ قَالَ : { فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ } الْحَدِيثَ . وَمَحَلُّ السُّؤَالِ الْهِجْرَةُ , وَلَكِنْ اللَّفْظُ لَا يَتَأَثَّرُ وَلَا يَنْحَطُّ عَنْ غَيْرِهِ عَلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَفِيهِ بَحْثٌ . ا هـ . وَيَجْتَمِعُ مِمَّا سَبَقَ فِي الْمَنْسُوبِ لِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَمْسَةُ طُرُقٍ : أَحَدُهَا : حِكَايَةُ قَوْلَيْنِ لَهُ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ . وَالثَّانِيَةُ : تَنْزِيلُهُمَا عَلَى حَالَيْنِ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي ذَكَرْتُهَا . أَخِيرًا . وَالثَّالِثَةُ : الْقَطْعُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ وَهِيَ طَرِيقَةُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ . وَالرَّابِعَةُ : الْقَطْعُ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَهِيَ الْمَشْهُورُ الْخَامِسَةُ : الْقَطْعُ بِاعْتِبَارِهِ فِيمَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى الْقَصْرِ عَلَى السَّبَبِ , وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مُنَقِّحَةٌ لِلرَّابِعَةِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . [ بَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ فِيمَا إذَا كَانَ الْجَوَابُ أَعَمُّ مِنْ السُّؤَالِ ] : وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : الْوَقْفُ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْبَعْضَ وَيَحْتَمِلُ الْكُلَّ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ حَكَاهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " . الرَّابِعُ : التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ سُؤَالَ سَائِلٍ فَيَخْتَصُّ بِهِ , وَأَنْ يَكُونَ وُقُوعَ حَادِثَةٍ فَلَا . حَكَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ " . وَالْخَامِسُ : إنْ عَارَضَهُ عُمُومٌ خَرَجَ ابْتِدَاءً بِلَا سَبَبٍ قَصَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبَبِهِ , وَإِنْ لَمْ يُعَارِضْهُ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِهِ . قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ : هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ . قَالَ : وَلِذَلِكَ قَصَرْنَا نَهْيَهُ عليه السلام عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ عَلَى الْحَرْبِيَّاتِ دُونَ الْمُرْتَدَّاتِ , لِمُعَارَضَتِهِ قَوْلَهُ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } , وَقَدْ يُقَالُ : هَذَا عَيْنُ الْمَذْهَبِ الثَّانِي , لِأَنَّ الْمُعَمِّمِينَ شَرَطُوا عَدَمَ الْمُعَارِضِ .
==============
[ تَخْصِيصُ الْحَدِيثِ بِمَذْهَبِ رَاوِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ ](1)
__________
(1) -البحر المحيط - (ج 4 / ص 264)(2/287)
الضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ هُوَ الرَّاوِي , كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } فَإِنَّ لَفْظَةَ : " مَنْ " عَامَّةٌ فِي الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَدَّتْ تُحْبَسُ وَلَا تُقْتَلُ , فَخَصَّ الْحَدِيثَ بِالرِّجَالِ , فَإِنْ قُلْنَا : قَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ , خُصَّ عَلَى الْمُخْتَارِ . وَقَالَ الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " : وَقَدْ نُسِبَ ذَلِكَ إلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الَّذِي يُقَلِّدُ الصَّحَابِيَّ فِيهِ , وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُخَصَّصُ بِهِ , إلَّا إذَا انْتَشَرَ فِي هَذَا الْعَصْرِ , وَلَمْ يُنْكِرْهُ , وَجُعِلَ ذَلِكَ نَازِلًا مَنْزِلَةَ الْإِجْمَاعِ . وَإِنْ قُلْنَا : قَوْلُهُ : غَيْرُ حُجَّةٍ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ . وَالصَّحِيحُ : أَنَّهُ لَا يُخَصُّ بِهِ , خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الصَّحَابِيَّ الْعَدْلَ لَا يَتْرُكُ مَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَيَعْمَلُ بِخِلَافِهِ إلَّا لِنَسْخٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ , وَلَنَا أَنَّ الْحُجَّةَ فِي اللَّفْظِ وَهُوَ عَامٌّ , وَتَخْصِيصُ الرَّاوِي لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا , لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَصَّهُ بِدَلِيلٍ لَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ لَوْ ظَهَرَ , فَلَا يَتْرُكُ الدَّلَالَةَ اللَّفْظِيَّةَ الْمُحَقَّقَةَ لِمُحْتَمَلٍ . قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَقَدْ يُخَالِفُ فِي هَذَا وَيَقُولُ : إنَّ الْقَرَائِنَ تُخَصِّصُ الْعُمُومِ , وَالرَّاوِي يُشَاهِدُ مِنْ الْقَرَائِنِ مَا لَا يُشَاهِدُهُ غَيْرُهُ , وَعَدَالَتُهُ وَتَيَقُّظُهُ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْعُمُومَ مِمَّا لَا يُخَصُّ إلَّا بِمُوجِبٍ مِمَّا يَمْنَعُهُ أَنْ يُحْكَمَ بِالتَّخْصِيصِ إلَّا بِمُسْتَنَدٍ , وَجَهَالَتُهُ دَلَالَةَ مَا ظَنَّهُ مُخَصِّصًا عَلَى التَّخْصِيصِ يَمْنَعُ مِنْهُ مَعْرِفَتُهُ بِاللِّسَانِ , وَتَيَقُّظُهُ . ا هـ . وَجَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ , وَالشَّيْخُ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " فِي هَذَا الضَّرْبِ بِأَنَّ مَذْهَبَهُ لَا يُخَصِّصُ عُمُومَ الْحَدِيثِ . وَقَالَ سُلَيْمٌ : لَا يَخُصُّهُ عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ , وَكَلَامُ مَنْ جَزَمَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّفْرِيعِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ , فَإِنَّ تَخْرِيجَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ أَمْ لَا , لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الرَّاوِي لَهُ أَمْ لَا , لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اطَّلَعَ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام عَلَى قَرَائِنَ حَالِيَّةٍ تَقْتَضِي التَّخْصِيصَ , فَهُوَ أَقْوَى مِنْ التَّخْصِيصِ بِمَذْهَبِ صَحَابِيٍّ آخَرَ لَمْ يَرْوِ الْخَبَرَ , وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ , وَلَوْ بَلَغَهُ لَمْ يُخَالِفْهُ بِإِخْرَاجِ بَعْضِهِ . وَإِلَى هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةِ يُرْشِدُ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي الْمُخْتَصَرِ " بِقَوْلِهِ : مَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ لَا يُخَصِّصُ , وَلَوْ كَانَ الرَّاوِي , خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيَّ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ , فَقَالَ إنْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِهِ , لَمْ يُخَصَّ بِمَذْهَبِ الرَّاوِي بَلْ بِهِ , إنْ اقْتَضَى نَظَرُ النَّاظِرِ فِيهِ ذَلِكَ وَإِلَّا خُصَّ بِمَذْهَبِ الرَّاوِي وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ . وَمَثَّلَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " هَذَا الْقِسْمَ بِحَدِيثِ { لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ } . قَالَ : وَحَمَلَهُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى فَرَسِ الْغَازِي لِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ , وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ . فَإِنَّ الْحَدِيثَ لَا يُعْرَفُ مِنْ طَرِيقِ زَيْدٍ . وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ : إذَا رَوَى الصَّحَابِيُّ خَبَرًا , وَعَمِلَ بِخِلَافِهِ , فَاَلَّذِي نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِرِوَايَتِهِ لَا بِفِعْلِهِ . وَنَقَلَ الْقَاضِي أَنَّ مُجَرَّدَ مَذْهَبِ الرَّاوِي لَا يُبْطِلُ الْحَدِيثَ وَلَا يَدْفَعُهُ , لَكِنْ إنْ صَدَرَ ذَلِكَ الْمَذْهَبُ مِنْهُ مَصْدَرَ التَّأْوِيلِ وَالتَّخْصِيصِ فَيُقْبَلُ , وَتَخْصِيصُهُ أَوْلَى . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمَا رَوَاهُ إذَا كَانَ عَمَلُهُ مُخَالِفًا . وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا كَانَ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَعَمِلَ بِخِلَافِ مَا رُوِيَ كَانَ دَلِيلًا عَلَى نَسْخِ الْخَبَرِ . قَالَ وَالِاخْتِيَارُ مَا ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ , وَهُوَ إنَّا إنْ تَحَقَّقْنَا نِسْيَانَهُ لِلْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ , أَوْ فَرَضْنَا مُخَالَفَتَهُ لِخَبَرٍ لَمْ يَرْوِهِ وَجَوَّزْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ فَالْعَمَلُ بِالْخَبَرِ وَإِنْ رَوَى خَبَرًا مُقْتَضَاهُ رَفْعُ الْحَرَجِ وَالْحَرَجُ فِيمَا سَبَقَ فِيهِ تَحْرِيمٌ وَحَظْرٌ , ثُمَّ رَأَيْنَاهُ يَتَحَرَّجُ فَالِاسْتِمْسَاكُ بِالْخَبَرِ , وَعَمَلُهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَرَعِ . وَإِنْ نَاقَضَ عَمَلُهُ رِوَايَتَهُ , وَلَمْ نَجِدْ مَحْمَلًا فِي الْجَمِيعِ امْتَنَعَ التَّعَلُّقُ بِرِوَايَتِهِ , فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَعْمِدَ إلَى مُخَالَفَةِ مَا رَوَاهُ(2/288)
إلَّا عَنْ سَبَبٍ يُوجِبُ الْمُخَالَفَةَ . وَالْحَاصِلُ : أَنَّهُ إنْ فَعَلَ مَا لَهُ فِعْلُهُ فَلَا احْتِجَاجَ بِمَا رَوَاهُ , وَإِنْ فَعَلَ مَا لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ أَخْرَجَهُ ذَلِكَ عَنْ رُتْبَةِ الْفِقْهِ . قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ : وَعَلَى هَذَا فَلَا يُقْطَعُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ , كَمَا صَارَ إلَيْهِ ابْنُ أَبَانَ , وَلَعَلَّهُ عَلِمَ شَيْئًا يَقْتَضِي تَرْكَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ . وَيُتَّجَهُ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ : لَوْ كَانَ ثَمَّ سَبَبٌ يُوجِبُ رَدَّ الْخَبَرِ لَوَجَبَ عَلَى هَذَا الرَّاوِي أَنْ يُثْبِتَهُ , إذْ لَا يَجُوزُ تَرْكُ ذِكْرِ مَا عَلَيْهِ مَدَارُ الْأَمْرِ , وَالْمَحَلُّ مَحَلُّ الْتِبَاسٍ , ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ : إذَا رَوَى الرَّاوِي خَبَرًا , وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُحِطْ بِمَعْنَاهُ فَمُخَالَفَتُهُ لِلْخَبَرِ لَا تَقْدَحُ فِي الْخَبَرِ وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ نَاسٍ لِلْخَبَرِ أَوْ ذَاكِرٌ لِمَا عَمِلَ بِخِلَافِهِ فَالتَّعَلُّقُ بِالْخَبَرِ , لِأَنَّهُ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ , وَنَحْنُ عَلَى تَرَدُّدٍ فِيمَا يَدْفَعُ التَّعَلُّقَ بِهِ , فَلَا يُدْفَعُ الْأَصْلُ بِهَذَا التَّرَدُّدِ , بَلْ إنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ خَالَفَ الْحَدِيثَ قَصْدًا وَلَمْ نُحَقِّقْهُ , فَهَذَا يُعَضِّدُ التَّأْوِيلَ وَيُؤَيِّدُهُ , وَيَحُطُّ مَرْتَبَةَ الظَّاهِرِ , وَيُخَصُّ الْأَمْرُ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي عَضَّدَهُ التَّأْوِيلُ . وَقَالَ إلْكِيَا وَابْنُ فُورَكٍ : الْمُخْتَارُ أَنَّا إنْ عَلِمْنَا مِنْ حَالِ الرَّاوِي أَنَّهُ إنَّمَا حَمَلَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا عَلِمَ مِنْ قَصْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَجَبَ اتِّبَاعُهُ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ عليه السلام , وَإِنْ حَمَلَهُ عَلَى وَجْهِ اسْتِدْلَالٍ أَوْ تَخْصِيصًا بِخَبَرٍ آخَرَ فَلَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ . قُلْت : وَسَكَتَا عَنْ حَالَةٍ ثَالِثَةٍ , وَهِيَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ الْحَالُ . وَكَأَنَّهَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ , وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي الْإِفَادَةِ " فَالْأَحْوَالُ إذَنْ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُعْلَمَ مِنْ قَصْدِ النَّبِيِّ عليه السلام وَمَخْرَجِ كَلَامِهِ أَنَّ الْمُرَادَ الْخُصُوصُ فَيَجِبُ اتِّبَاعُ الرَّاوِي فِيهِ . الثَّانِي : أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ خُصَّ الْخَبَرُ بِدَلِيلٍ آخَرَ , أَوْ ضَرْبٍ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ فَيَجِبُ اسْتِعْمَالُ الْخَبَرِ قَطْعًا . الثَّالِثُ : أَنْ لَا يُعْلَمَ مَا لِأَجْلِهِ خُصَّ الْخَبَرُ , وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ بِدَلِيلٍ , فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَالرَّاجِحُ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ : إنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الرَّاوِي لِلْخَبَرِ إذَا كَانَ الْخَبَرُ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ قَالَ : وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ أَحَدُهُمَا فَإِذَا فَسَّرَهُ بِأَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ أَخَذْنَا بِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ : { الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا } حَيْثُ فَسَّرَهُ بِالتَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ . فَأَمَّا مَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ , وَهَذَا مَذْهَبُنَا , وَبِهِ قَالَ الْكَرْخِيّ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ إلَى أَنَّهُ يُخَصُّ عُمُومُ الْخَبَرِ , وَتَرْكُ ظَاهِرِهِ بِقَوْلِ الرَّاوِي وَبِمَذْهَبِهِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْخَبَرِ بِأَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ , فَالْمَكَانُ الَّذِي نَقْبَلُ قَوْلَهُ فِيهِ لَا يَقْبَلُونَهُ , وَالْمَكَانُ الَّذِي يَقْبَلُونَهُ لَا نَقْبَلُهُ
================
الْخَامِسَ عَشَرَ : الْمُعَارَضَةُ وَهِيَ مِنْ أَقْوَى الِاعْتِرَاضَاتِ . (1)
__________
(1) - البحر المحيط - (ج 7 / ص 216)(2/289)
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ : وَقِيلَ : هِيَ إلْزَامُ الْجَمْعِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا . وَقِيلَ : إلْزَامُ الْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ قَوْلًا قَالَ بِنَظِيرِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنَاقَضَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلًّا نَقْضُ مُعَارَضَةٍ , بِخِلَافِ الْعَكْسِ . وَأَيْضًا فَالنَّقْضُ لَا يَكُونُ بِالدَّلِيلِ , وَالْمُعَارَضَةُ بِالدَّلِيلِ عَلَى الدَّلِيلِ صَحِيحَةٌ ( قَالَ ) : وَهِيَ تَرْجِعُ إلَى الِاسْتِفْهَامِ ( قَالَ ) وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا : فَأَثْبَتَهَا أَكْثَرُ أَهْلِ النَّظَرِ , وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِسُؤَالٍ صَحِيحٍ . وَاخْتَلَفَ مَثْبُوتُهَا فِي الثَّابِتِ مِنْهَا , فَقِيلَ : إنَّهَا تَصِحُّ مُعَارَضَةُ الدَّلَالَةِ بِالدَّلَالَةِ وَالْعِلَّةِ , وَلَا تَجُوزُ مُعَارَضَةُ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى . وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي هَاشِمِ بْنِ الْجُبَّائِيُّ , وَحَكَاهُ أَصْحَابُهُ عَنْ الْجُبَّائِيُّ , وَوَجَدْنَا فِي كِتَابِهِ خِلَافَهُ . وَذَكَرَ الْكَعْبِيُّ فِي جَدَلِهِ " جَوَازَ مُعَارَضَةِ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى . وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ : الْمُعَارَضَةُ إظْهَارُ عِلَّةٍ مُعَارِضَةٍ لِعِلَّةٍ , أَوْ لِعِلَلٍ , فِي نَقِيضِ مُقْتَضَاهَا . هَذَا أَصْلُ الْبَابِ , وَلَا يَجْرِي إلَّا فِي الظَّنِّيَّاتِ ثُمَّ يُرَجَّحُ أَحَدُ الظَّنَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ . وَكَذَلِكَ الْمُعَارَضَةُ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ كُلِّ اعْتِرَاضٍ قَدَّمْنَاهُ , فَإِنَّ فَسَادَ الْوَضْعِ وَالْمَنْعِ لَا يَصْلُحُ عَلَى حِيَالِهِ اقْتِضَاءُ الْحُكْمِ حَتَّى يُعَارَضَ بِهِ . وَإِنَّمَا الْمُعَارَضَةُ حَيْثُ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ لَاسْتَقَلَّتْ الْعِلَّةُ فِي نَفْسِهَا أَوْ جِنْسِهَا بِاقْتِضَاءِ الْحُكْمِ لِوُجُودِ أَصْلِ الظَّنِّ الْمُعْتَبَرِ , وَلَكِنَّ الْمُعَارِضَ مَنَعَ اعْتِبَارَهَا دُونَ تَرْجِيحٍ . فَالْحَرْفُ : الْمُعَارَضَةُ تُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَى أَصْلِ الظَّنِّ الْمُعْتَبَرِ فِي هَذَا الْمَجَالِ عَلَى الْخُصُوصِ . وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ عَلَى عِلَّةِ صِحَّةِ الْحِجَاجِ بِالْمُعَارَضَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَهَا عَلَى الْكُفَّارِ فَقَالَ : { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } يَعْنِي أَنَّ بُطْلَانَ الْوُصُولِ إلَى ذِي الْعَرْشِ عِلَّةُ عَجْزِهِمْ , وَمَنْ صَحَّ عَجْزُهُ ثَبَتَ نَقْصُهُ وَاسْتَحَالَ وَصْفُهُ بِمَا وَصَفْتُمْ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ إمَّا فِي الْأَصْلِ أَوْ فِي الْفَرْعِ أَوْ فِي الْوَصْفِ : أَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ فَإِنْ ذَكَرَ عِلَّةً أُخْرَى فِي الْأَصْلِ سِوَى عِلَّةِ الْمُعَلِّلِ وَتَكُونُ تِلْكَ الْعِلَّةُ مَعْدُومَةً فِي الْفَرْعِ , وَنَقُولُ : إنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ نَشَأَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْتَهَا لَا بِالْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَفِيُّ فِي تَبْيِيتِ النِّيَّةِ : صَوْمُ عَيْنٍ فَتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ , كَالنَّفْلِ . فَيُقَالُ : لَيْسَ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ مَا ذَكَرْت , بَلْ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النَّفَلَ مِنْ عَمَلِ السُّهُولَةِ وَالْخِفَّةِ , فَجَازَ أَدَاؤُهُ بِنِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْ الشُّرُوعِ , بِخِلَافِ الْفَرْضِ . قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ : وَهَذَا هُوَ سُؤَالُ الْفَرْقِ , فَسَيَأْتِي فِيهِ مَا سَبَقَ وَذَكَرَهُ غَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ يُبْدِيهَا الْمُعْتَرِضُ مُسْتَقِلَّةً بِالْحُكْمِ كَمُعَارَضَةِ الْكَيْلِ بِالطُّعْمِ , أَوْ غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ عَلَى أَنَّهَا جُزْءُ الْعِلَّةِ , كَزِيَادَةِ الْجَارِحِ إلَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فِي مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْجَدَلِيُّونَ فِي قَبُولِهِ , فَقِيلَ : لَا يُقْبَلُ , بِنَاءً عَلَى مَنْعِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَسْأَلَةً وَلَا جَوَابًا , وَبِهِ جَزَمَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْعَمِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي كِتَابِهِ الْغَرَرِ فِي الْأُصُولِ " قَالَ : لِأَنَّ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ : لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا , بَلْ أَقُولُ بِالْعِلَّتَيْنِ جَمِيعًا . قَالَ : وَلَيْسَتْ مُنَاقَضَةً لِأَنَّهَا سَدُّ مَجْرَى الْعِلَّةِ وَلَمْ يَسُدَّ عَلَيْهِ الْمُجِيبُ مُنَاقَضَةً مِنْ الْعِلَّةِ . وَقِيلَ : يُقْبَلُ , وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ , وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْجَدَلِيِّينَ ( قَالُوا ) لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ فِي الْأَصْلِ وَصْفَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِلِاسْتِقْلَالِ فَإِنَّهُ يَتَعَارَضُ عِنْدَ النَّظَرِ ثَلَاثَةُ احْتِمَالَاتٍ : أَحَدُهَا - أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ وَصْفَ الْمُسْتَدِلِّ خَاصَّةً . وَالثَّانِي - أَنْ تَكُونَ وَصْفَ الْمُعْتَرِضِ خَاصَّةً . وَالثَّالِثُ - أَنْ تَكُونَ مَجْمُوعَ الْوَصْفَيْنِ . وَإِذَا تَعَارَضَتْ الِاحْتِمَالَاتُ فَالْقَوْلُ بِتَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ , وَهَلْ يَقْتَضِي(2/290)
إبْطَالَ الدَّلِيلِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ - حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إسْحَاقَ فِي شَرْحِ التَّرْتِيبِ : أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ يَتِمُّ دَلِيلُ الْمَسْئُولِ بِالْمُعَارَضَةِ , لِأَنَّهُ إنْ كَانَ صَحِيحًا فَمَا يُعَارِضُهُ بِهِ خَصْمُهُ يَسْتَحِيلُ دَلِيلًا . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرَى الْمُسْتَدِلُّ فَسَادَهُ . فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ بَانَ عَجْزُهُ . وَالثَّانِي - أَنَّهُ مَا لَمْ يُفْسِدْ الْمَسْئُولُ تِلْكَ الْمُعَارَضَةَ لَا يَتِمُّ دَلِيلُهُ - لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمُعَارَضَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ وَدَلِيلُ الْمَسْئُولِ يُشْبِهُهُ , غَيْرَ أَنَّ السَّائِلَ عَجَزَ عَنْ إيرَادِ مَا يُفْسِدُهُ . وَاعْلَمْ أَنَّ بِنَاءَ الْخِلَافِ فِي قَبُولِ هَذَا السُّؤَالِ وَرَدِّهِ عَلَى تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ . فَإِنْ جَوَّزْنَا لَمْ يُقْبَلْ , وَإِلَّا قُبِلَ : ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ , وَنَازَعَهُ شَارِحُهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فَقَالَ : نَحْنُ وَإِنْ فَرَضْنَا جَوَازَ اجْتِمَاعِ الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ فَإِنَّهُ يَتَّجِهُ ذَلِكَ إذَا شَهِدَتْ الْأُصُولُ بِالِاسْتِقْلَالِ وَالتَّعْدَادِ . وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا شَهِدَ لِكُلِّ عِلَّةٍ أَصْلٌ انْفَرَدَتْ فِيهِ ثُمَّ اجْتَمَعَتْ فِي مَحَلٍّ آخَرَ , كَاجْتِمَاعِ الْحَيْضِ وَالْإِحْرَامِ , فَإِنَّ اسْتِقْلَالَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ عِلَّتِهِ حَيْثُ يَنْفَرِدُ ثُمَّ يَقَعُ الْآخَرُ حَيْثُ يَجْتَمِعُ , فَقَائِلٌ يَقُولُ : أَجْمَعْنَا عَلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ , وَآخَرُ يَقُولُ : لِكُلِّ حُكْمٍ عِلَّةٌ فَاجْتَمَعَ عِلَّتَانِ وَحُكْمَانِ . أَمَّا إذَا فَرَضْنَا إبْدَاءَ السُّؤَالِ عِلَّةً , فَعَارَضَهُ السَّائِلُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى فَفَرْضُهُمَا عِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ يَسْتَدْعِي انْفِرَادَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي أَصْلٍ سِوَى مَحَلِّ الِاجْتِمَاعِ , فَإِذَا لَمْ يَظْفَرْ الِانْفِرَادُ فَالْمُعَارَضَةُ وَارِدَةٌ , بِنَاءً عَلَى خَلَلِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ , لِأَنَّ الْمَسْئُولَ إنْ قَالَ : الْبَاعِثُ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي أَبْدَيْتُهُ قَالَ السَّائِلُ : الْبَاعِثُ مَعْنَاهُ , أَوْ الْأَمْرَانِ مَعًا , بِحَيْثُ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءَ عِلَّةٍ . فَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ مُتَسَاوِيَةٌ , وَالْمُسْتَدِلُّ فِي تَعْيِينِ مَقْصُودِهِ بِالدَّعْوَى مُتَحَكِّمٌ . وَلِهَذَا لَوْ لَمْ نَعْتَبِرْ شَهَادَةَ الْأُصُولِ وَأَجَزْنَا الْمُرْسَلَاتِ لَمْ يَرِدْ هَذَا السُّؤَالُ . وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ بَيَانُ انْتِفَاءِ الْوَصْفِ الَّذِي عَارَضَ بِهِ الْأَصْلَ عَنْ الْفَرْعِ ؟ فِيهِ مَذَاهِبُ : ( أَحَدُهَا ) وَهُوَ الْمُخْتَارُ , أَنَّهُ لَا يَجِبُ , لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي الْفَرْعِ افْتَقَرَ الْمُسْتَدِلُّ إلَى بَيَانِهِ فِيهِ لِيَصِحَّ الْإِلْحَاقُ , وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ بَطَلَ الْجَمْعُ . وَ ( الثَّانِي ) يَجِبُ نَفْيُهُ , لِأَنَّ الْفَرْقَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ . وَ ( الثَّالِثُ ) وَبِهِ أَجَابَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ , إنْ قَصَدَ الْفَرْقَ فَلَا بُدَّ مِنْ نَفْيِهِ , وَإِلَّا فَلَا , لِأَنَّهُ يَقُولُ : إنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِيهِ فَهُوَ فَرْقٌ , وَإِلَّا فَالْمُسْتَدِلُّ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا بَعْضَ الْعِلَّةِ . وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ إشْكَالٍ . هَذَا إذَا كَانَ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ أَصْلًا وَاحِدًا , فَإِنْ كَانَ أُصُولًا فَقِيلَ : لَا يَرِدُ , لِأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِأَصْلٍ آخَرَ عَنْ هَذَا حَاصِلٌ . وَقِيلَ : يَرِدُ , لِأَنَّهُ أَقْوَى فِي إفَادَةِ الظَّنِّ . وَالْقَائِلُونَ بِالرَّدِّ اخْتَلَفُوا فِي الِاقْتِصَارِ فِي الْمُعَارَضَةِ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ , فَقِيلَ : يَكْفِي لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ قَصَدَ جَمْعَ الْأُصُولِ , فَإِذَا ذَهَبَ وَاحِدٌ ذَهَبَ غَرَضُهُ وَقِيلَ : لَا بُدَّ مِنْ الْجَمْعِ لِأَنَّ الْمُسْتَقِلَّ يَكْتَفِي بِأَصْلٍ وَاحِدٍ . وَالْقَائِلُونَ بِالتَّعْمِيمِ اخْتَلَفُوا , فَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ اتِّحَادَ الْمُعَارِضِ فِي الْكُلِّ , دَفْعًا لِانْتِشَارِ الْكَلَامِ , وَقِيلَ : لَا يَلْزَمُ , لِجَوَازِ أَنْ لَا يُسَاعِدَهُ فِي الْكُلِّ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ . ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ , فَقِيلَ : يَقْتَصِرُ الْمُسْتَدِلُّ فِي الْجَوَابِ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ , لِأَنَّهُ بِهِ يَتِمُّ مَقْصُودُهُ . وَقِيلَ : لَا بُدَّ مِنْ الْجَوَابِ عَنْ الْكُلِّ , لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْقِيَاسَ عَلَى الْكُلِّ . وَجَوَابُ الْمُعَارَضَةِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهُمَا - مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ , بِأَنْ يَقُولَ : لَا أُسَلِّمُ وُجُودَ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ . ( الثَّانِي ) - مَنْعُ الْمُنَاسَبَةِ , أَوْ مَنْعُ الشَّبَهِ إنْ أَثْبَتَهُ بِهِمَا لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُعَارِضِ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلتَّعْلِيلِ , وَلَا يَصْلُحُ إلَّا إذَا كَانَ مُنَاسِبًا أَوْ شِبْهًا , إذْ لَوْ كَانَ طَرْدًا لَمْ يَكُنْ صَالِحًا . وَإِنَّمَا لَمْ يُكْتَفَ مِنْ الْمُعْتَرِضِ بِالْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ فِي قِيَاسِ الْإِخَالَةِ , لِأَنَّ الْوَصْفَ الشَّبَهِيَّ أَدْنَى مِنْ الْمُنَاسِبِ , فَلَا يُعَارِضُهُ . فَإِنْ كَانَ أَثْبَتَهُ بِطَرِيقِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ(2/291)
فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمُعْتَرِضَ بِالتَّأْثِيرِ , فَإِنَّ مُجَرَّدَ الِاحْتِمَالَاتِ كَافٍ , فَمَنْ دَفَعَ السَّبْرَ فَعَلَيْهِ دَفْعُهُ لِيَتِمَّ لَهُ طَرِيقُ السَّبْرِ . الثَّالِثُ , وَالرَّابِعُ - أَنْ يَقُولَ : مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْوَصْفِ خَفِيٌّ فَلَا يُعَلَّلُ بِهِ أَمْرٌ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ أَوْ غَيْرُ ظَاهِرٍ أَوْ غَيْرُ وُجُودِيٍّ وَنَحْوُهُ مِنْ قَوَادِحِ الْعِلَّةِ . كَذَا ذَكَرَهُ الْجَدَلِيُّونَ . قَالَ ابْنُ رَحَّالٍ : وَهُوَ ضَعِيفٌ , لِأَنَّ الظُّهُورَ وَالِانْضِبَاطَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ نَصْبِهِ أَمَارَةً , أَمَّا فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِأَجْلِهِ فَلَا , لِأَنَّ الْحُكْمَ يَصِحُّ ثُبُوتُهُ لِلْخَفِيِّ وَالْمُضْطَرِبِ , وَلَكِنْ إذَا أُرِيدَ نَصْبُهُ أَمَارَةً تَعَيَّنَ النَّظَرُ إلَى مَظِنَّتِهِ . وَالْمُعَارِضُ هَاهُنَا لَيْسَ مَقْصُودُهُ نَصْبَ الْأَمَارَةِ , وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ مَا ثَبَتَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهِ , فَلَا مَعْنَى لِتَكْلِيفِهِ إثْبَاتَ الظُّهُورِ وَالِانْضِبَاطِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ جَعَلْتُمْ مِنْ الْأَسْئِلَةِ النِّزَاعَ فِي ظُهُورِ الْوَصْفِ وَانْضِبَاطِهِ , وَإِذَا صَحَّتْ مُطَالَبَةُ الْمُسْتَدِلِّ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ التَّعْلِيلِ صَحَّتْ مُطَالَبَةُ الْمُعْتَرِضِ بِهِ , قُلْنَا : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ جَمَعَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِوَصْفٍ ادَّعَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ أَمَارَةً , فَظُهُورُهُ وَانْضِبَاطُهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ نَصْبِهِ أَمَارَةً , وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُعْتَرِضُ , فَإِنَّهُ لَمْ يَدَّعِ الْأَمَارَةَ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ طَرِيقُ الْإِجْمَالِ لِشَهَادَةِ الْأَصْلِ مِمَّا ثَبَتَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهِ , وَالظُّهُورُ وَالِانْضِبَاطُ لَيْسَ شَرْطًا فِي ذَلِكَ , فَافْتَرَقَا . الْخَامِسُ - بَيَانُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى عَدَمِ وَصْفٍ مَوْجُودٍ فِي الْفَرْعِ , لَا إلَى ثُبُوتِ مُعَارِضٍ فِي الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ , وَهَذَا إنَّمَا يَكْفِي إذَا قُلْنَا : لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِالْعَدَمِ , فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ لَمْ يَكْفِ هَذَا فِي الْجَوَابِ , بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَقْدَحَ فِيهِ لِوَجْهٍ آخَرَ غَيْرِ كَوْنِهِ عَدَمًا . هَذَا كُلُّهُ إذَا تَحَقَّقَ أَنَّ الْوَصْفَ عَدَمٌ فِي الْأَصْلِ ثُبُوتٌ فِي الْفَرْعِ . السَّادِسُ - إلْغَاءُ الْوَصْفِ الَّذِي وَقَعَتْ بِهِ الْمُعَارَضَةُ وَقَدْ اسْتَشْكَلَ هَذَا بِأَنَّ الْإِلْغَاءَ ضَرْبَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) إلْغَاءٌ بِإِيمَاءِ النَّصِّ . وَ ( الثَّانِي ) إلْغَاءٌ بِتَبْدِيلِ الْأَصْلِ . فَالْأَوَّلُ فِيهِ انْتِقَالٌ مِنْ مَسْلَكٍ اجْتِهَادِيٍّ إلَى مَسْلَكٍ نَقْلِيٍّ , وَالِانْتِقَالُ مِنْ أَقْبَحِ الِانْقِطَاعِ , وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَدَلَّ بِإِيمَاءِ النَّصِّ أَوَّلًا لَأَغْنَاهُ ذَلِكَ عَنْ الْمَسَالِكِ الِاجْتِهَادِيَّةِ , فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا التَّطْوِيلِ ؟ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ اسْتِدْلَالُهُ أَوَّلًا . كَمَا قَالُوا فِيمَا إذَا اسْتَدَلَّ بِقِيَاسٍ عَلَى وَجْهٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ التَّرْجِيحِ بِالنَّصِّ . وَأَمَّا الثَّانِي فَفِيهِ انْتِقَالٌ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ , مَعَ بَقَاءِ مَسْلَكِ الْمُنَاسَبَةِ وَالِاقْتِرَانِ , مَعَ أَنَّ فِي [ ذَلِكَ ] تَطْوِيلَ الطَّرِيقِ بِلَا فَائِدَةٍ . إذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَالْإِلْغَاءُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : بِإِيمَاءِ النَّصِّ , وَهُوَ قِسْمَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا لَا يُتَصَوَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ , لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ , بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا وَصْفًا وَاحِدًا , كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ مِنْ الْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ إنَّهُ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا , لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ , فَالْتَحَقَ بِالْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ . فَعَارَضَ الْحَنَفِيُّ فِي الْأَصْلِ بِالْكَيْلِ . فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ : وَصْفُ الْكَيْلِ مُلْغًى بِإِيمَاءِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ , إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ } فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ , وَتَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُشْتَقِّ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً . فَإِنْ قِيلَ لِلشَّافِعِيِّ : تَرَكْتَ النَّصَّ أَوَّلًا : فَلَمْ تَسْتَدِلَّ بِهِ , وَاسْتَدْلَلْتَ بِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا بُدَّ لَك مَعَهُ مِنْ النَّصِّ , وَهَذَا تَطْوِيلٌ . فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَدَلَّ أَوَّلًا بِالنَّصِّ لَاحْتَاجَ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ , وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى فَكَانَ الْأَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِغَيْرِ النَّصِّ وَيَدَّخِرَ النَّصَّ لِمَقْصُودِهِ الْإِلْغَاءَ , وَهَذَا مَقْصُودٌ صَحِيحٌ . فَإِنْ كَانَ هَذَا الْعُذْرُ مُطَّرِدًا فِي جَمِيعِ صُوَرِ الْإِلْغَاءِ كَانَ السُّؤَالُ السَّابِقُ مُنْدَفَعًا . وَثَانِيهِمَا مَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ , كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُرْتَدَّةِ : يَجِبُ قَتْلُهَا , لِأَنَّهُ شَخْصٌ كَفَرَ بَعْدَ إيمَانِهِ , كَالرَّجُلِ . فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ : أُعَارِضُ فِي(2/292)
الْأَصْلِ : الْوَصْفُ فِي الرُّجُولِيَّةِ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ النَّاجِزِ بِالْمُسْلِمِينَ , وَذَلِكَ مَفْقُودٌ فِي الْمَرْأَةِ . فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ : وَصْفُ الرُّجُولِيَّةِ مُلْغًى بِإِيمَاءِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى قَتْلِ جَمِيعِ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ جِهَةِ تَعْلِيقِهِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ بِوَصْفِ ( التَّبْدِيلِ ) . الثَّانِي : إلْغَاءٌ بِتَبْدِيلِ الْأَصْلِ : وَصُورَتُهُ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ صُورَةً ثَالِثَةً يُثْبِتُ فِيهَا الْحُكْمَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى وَفْقِ عِلَّتِهِ بِدُونِ مَا عَارَضَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأَصْلِ الثَّانِي , إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبِرًا فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ مَعْدُومًا . وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ : فَهِيَ أَنْ يُعَارِضَ حُكْمَ الْفَرْعِ بِمَا يَقْتَضِي نَقِيضَهُ أَوْ ضِدَّهُ , بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ , أَوْ بِوُجُودِ مَانِعٍ , أَوْ بِفَوَاتِ شَرْطٍ . فَيَقُولُ : مَا ذَكَرْت مِنْ الْوَصْفِ وَإِنْ اقْتَضَى ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ فَعِنْدِي وَصْفٌ آخَرُ يَقْتَضِي نَقِيضَهُ , فَتَوَقَّفَ دَلِيلُك . مِثَالُ النَّقِيضِ : إذَا بَاعَ الْجَارِيَةَ إلَّا حَمْلَهَا صَحَّ فِي وَجْهٍ , كَمَا لَوْ بَاعَ هَذِهِ الصِّيعَانَ إلَّا صَاعًا . فَنَقُولُ : لَا يَصِحُّ , كَمَا لَوْ بَاعَ الْجَارِيَةَ إلَّا يَدَهَا . وَمِثَالُ الضِّدِّ : الْوِتْرُ وَاجِبٌ , قِيَاسًا عَلَى التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ , بِجَامِعِ مُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , فَنَقُولُ : فَيُسْتَحَبُّ قِيَاسًا عَلَى الْفَجْرِ , بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُفْعَلُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِفَرْضٍ مُعَيَّنٍ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ , فَإِنَّ الْوِتْرَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرَ فِي وَقْتِ الصُّبْحِ , وَلَمْ يُعْهَدْ مِنْ الشَّرْعِ وَضْعُ صَلَاتَيْ فَرْضٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ .
==============
( حَادِيَ عَشَرَهَا ) يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ مِنْ لَفْظٍ العمُومٍ إلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ . (1)
لِأَنَّ الِانْقِيَادَ إلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ الِانْقِيَادِ إلَى غَيْرِ الْمُعَلَّلِ , لِأَنَّ ظُهُورَ التَّعْلِيلِ مِنْ أَسْبَابِ قُوَّةِ التَّعْمِيمِ , كَتَقْدِيمِ قَوْلِهِ عليه السلام : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } عَلَى حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ , مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّبْدِيلَ إيمَاءٌ إلَى الْعِلَّةِ . .
===============
وفي طرح التثريب :(2)
( الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ ) التَّحْرِيقُ بِالنَّارِ مَنْسُوخٌ 0
بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْثٍ فَقَالَ : إنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ , ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ إنِّي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إلَّا اللَّهُ فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا } . وَرَوَى الْجَمَاعَةَ الْمَذْكُورِينَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ قَالَ أَتَى عَلِيٌّ رضي الله عنه بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ : لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } زَادَ التِّرْمِذِيُّ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ صَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ { لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ } وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ { لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ } , فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ أَنَّ مَا كَانَ هَمَّ بِهِ مِنْ التَّحْرِيقِ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ .
===============
وفي البحر الزخار :(3)
. فَصْلٌ وَالرِّدَّةُ هِيَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ0
لقوله تعالى { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } وَحَدُّهُ الْقَتْلُ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَنَحْوِهِ . وَإِنَّمَا تَصِحُّ مِنْ بَالِغٍ عَاقِلٍ ( هـ ش ) فَلَا رِدَّةَ لِصَغِيرٍ وَقِيلَ : يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ وَلَا يُقْتَلُ حَتَّى يَبْلُغَ . لَنَا { رُفِعَ الْقَلَمُ } . وَكَالْمَجْنُونِ , وَفِي السَّكْرَانِ الْخِلَافُ .
__________
(1) - البحر المحيط - (ج 8 / ص 20)
(2) -طرح التثريب - (ج 3 / ص 45)
(3) - البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار - زيدية - (ج 14 / ص 386)(2/293)
( قَوْلُهُ ) { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ { مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ } قَالَ مَالِكٌ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ : مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : أَنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَى غَيْرِهِ , مِثْلُ الزَّنَادِقَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ , فَأُولَئِكَ إذَا ظُهِرَ عَلَيْهِمْ يُقْتَلُونَ وَلَا يُسْتَتَابُونَ لِأَنَّهُمْ لَا تُعْرَفُ تَوْبَتُهُمْ , فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَيُعْلِنُونَ الْإِسْلَامَ فَلَا أَدْرِي أَنْ يُسْتَتَابَ هَؤُلَاءِ إذَا ظُهِرَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ . قَالَ مَالِكٌ : وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَى الرِّدَّةِ أَنْ يُسْتَتَابُوا , فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا . قَالَ : وَمَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } مَنْ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَى غَيْرِهِ لَا مَنْ خَرَجَ مِنْ دِينِ غَيْرِ الْإِسْلَامِ إلَى غَيْرِهِ , كَمَنْ يَخْرُجُ مِنْ يَهُودِيَّةٍ إلَى نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يُسْتَتَبْ وَلَمْ يُقْتَلْ " أَخْرَجَهُ الْمُوَطَّأُ . وَنَحْوُهُ ( قَوْلُهُ ) صلى الله عليه وآله وسلم { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ أَوْ كُفْرٍ بَعْدَ إسْلَامٍ , أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ } وَقَدْ تَكَرَّرَ ( قَوْلُهُ ) لَنَا { رُفِعَ الْقَلَمُ } تَكَرَّرَ .
" مَسْأَلَةٌ " 1 ثُمَّ ( بص هر ) ثُمَّ ( هـ ن عي ل ش ك مد حَقّ )
===================
وَتُقْتَلُ الْمَرْأَةُ بِالرِّدَّةِ لِعُمُومِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } (1)
( عَلِيٌّ هـ ) وَعَنْ ( بص ) بَلْ تُسْتَرَقُّ كَالْحَرْبِيَّةِ . قُلْنَا : لَمْ يَصِحَّ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام . سَلَّمْنَا , فَاجْتِهَادٌ ( ع ) ثُمَّ ( ق ح مُحَمَّدٌ ) بَلْ تُحْبَسُ , فَإِنْ لَحِقَتْ ثُمَّ سُبِيَتْ , اُسْتُرِقَّتْ , { لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ } . قُلْنَا : أَرَادَ الْحَرْبِيَّاتِ لِنَصِّ ( عم وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَالْخُدْرِيِّ وَأَبِي بُرْدَةَ ) عَلَى وُرُودِهِ فِيهِنَّ . قَالُوا : أُمُّ مُحَمَّدٍ بِنْتُ عَلِيٍّ مَسْبِيَّةٌ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ وَهُمْ ارْتَدُّوا فَحُورِبُوا فَسُبِيَتْ . قُلْنَا : قَدْ قِيلَ , كَانَتْ أَمَةً مَاتَ عَنْهَا سَيِّدُهَا فَكَانَتْ فَيْئًا كَالْمَالِ .
( قَوْلُهُ ) { لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ } سَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
مَسْأَلَةٌ " ( م ى ح ) وَجُحُودُ الْمُرْتَدِّ لِلرِّدَّةِ تَوْبَةٌ فَلَا يُعْمَلُ بِالْبَيِّنَةِ ( ن ني للش ) لَا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ , مَا لَمْ يُجَدِّدْ الشَّهَادَتَيْنِ قُلْنَا : الْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ ( مد ) لَا يُحْقَنُ دَمُهُ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ وَإِنْ تَابَ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } لَنَا قوله تعالى { إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } .
مَسْأَلَةٌ " ( الْأَكْثَرُ ) وَاسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ قَبْلَ قَتْلِهِ مَشْرُوعَةٌ ( بص ) لَا , لِعُمُومِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ }
( طا إمَامِيَّةٌ ) مَنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ ارْتَدَّ لَمْ يُسْتَتَبْ , إذْ لَا عُذْرَ لَهُ . وَمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ كُفْرٍ ثُمَّ ارْتَدَّ اُسْتُتِيبَ . لَنَا عُمُومُ قوله تعالى { إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } وَفِعْلُ الْخُلَفَاءِ ( وع ) ( وعو ) وَلَمْ يُخَالِفُوا . وَقَوْلُ 2 " هَلَّا أَدْخَلْتُمُوهُ بَيْتًا " الْخَبَرَ وَنَحْوَهُ , ( فَرْعٌ ) ( هـ ط ى ش ) وَالِاسْتِتَابَةُ وَاجِبَةٌ , لِمَا مَرَّ ( ن م ) وَتَحْصِيلُهُ ( ح قش ) بَلْ مُسْتَحَبَّةٌ فَقَطْ , لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَلَمْ يَذْكُرْهَا وَهُوَ فِي مَحِلِّ التَّعْلِيمِ , وَإِذْ لَمْ يُضَمِّنْهُمْ 2 لَنَا قَوْلُ 2 " اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَشْهَدْ " الْخَبَرَ . يَقْتَضِي كَوْنَهُ مَعْصِيَةً .
قَوْلُهُ ) " هَلَّا أَدْخَلْتُمُوهُ بَيْتًا " الْخَبَرَ وَنَحْوَهُ . عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَارِيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : " قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي زَمَنِ خِلَافَتِهِ رَجُلٌ مِنْ الْيَمَنِ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ , وَكَانَ عَامِلًا لَهُ , فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ النَّاسِ ثُمَّ قَالَ لَهُ : هَلْ كَانَ فِيكُمْ مِنْ مُغَرِّبَةٍ خَبَرٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ , رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ قَالَ : فَمَا فَعَلْتُمْ بِهِ , قَالَ : قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ , قَالَ : فَهَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ , اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي " أَخْرَجَهُ الْمُوَطَّأُ وَفِي مَعْنَاهُ غَيْرُهُ . ( قَوْلُهُ ) " لَنَا قَوْلُ عُمَرَ " إلَخْ . تَقَدَّمَ آنِفًا .
__________
(1) - البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار - زيدية - (ج 14 / ص 389)(2/294)
مَسْأَلَةٌ " وَحَدُّ الْمُرْتَدِّ إلَى الْإِمَامِ 0
{ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَرْبَعَةٌ إلَى الْوُلَاةِ } وَمَنْ فَعَلَ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ إذْ هُوَ هَدَرٌ , لَكِنَّ لِلْإِمَامِ تَعْزِيرَهُ ( م ) حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُحْصَنِ ( ى ) مَا ذَكَرَهُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ , إذْ هُوَ مُبَاحُ الدَّمِ بِخِلَافِ الْمُحْصَنِ . وَلِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ , لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } الْخَبَرَ .
( قَوْلُهُ ) { أَرْبَعَةٌ إلَى الْوُلَاةِ } تَقَدَّمَ وَهُوَ أَيْضًا وَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الشِّفَاءِ .
مَسْأَلَةٌ " ( هـ ش ) وَإِذَا تَهَوَّدَ النَّصْرَانِيُّ أَوْ الْعَكْسُ لَمْ يُعْتَرَضْ لِتَقْرِيرِهِ عَلَى الْكُفْرِ
( قش ) بَلْ يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ إنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَى حَالَتِهِ الْأُولَى , لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } قُلْنَا : لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمِلَّتَيْنِ فَلَا وَجْهَ لِرَدِّهِ , وَكَلَوْ خَرَجَ الْيَعْقُوبِيُّ إلَى الْمَلْكَانِيِّ وَالنَّسْطُورِيُّ إلَى الْمَرْقُونِيِّ , وَكُلُّهُمْ نَصَارَى . "
" مَسْأَلَةٌ " ( ط ى ) وَلَا يَقْتَصُّ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ الْحَاكِمِ0
لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِي تَفَاصِيلِهِ وَفِي كَوْنِهِ حَدًّا أَمْ لَا , فَلَا يَلْزَمُ خَصْمَهُ اجْتِهَادُهُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ فَعَلَ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ , وَفِي تَعْزِيرِهِ تَرَدُّدٌ : الْأَصَحُّ يُعَزَّرُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { أَمِثْلِي يُفْتَاتُ عَلَيْهِ ؟ } وَقِيلَ : إنْ شَاهَدَ الْقَتْلَ أَوْ تَوَاتَرَ أَوْ أَقَرَّ الْجَانِي , جَازَ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ , لَا بِالشَّهَادَةِ إذْ سَمَاعُهَا إلَى الْحَاكِمِ , فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ الْقَوَدُ , لَنَا مَا مَرَّ . وَنُدِبَ الْإِشْهَادُ كَالدَّيْنِ وَأَنْ يَتَفَقَّدَ الْإِمَامُ الْآلَةَ ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ } فَإِنْ اقْتَصَّ بِآلَةٍ كَلِيلَةٍ , فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا تَعْزِيرَ وَيُمْنَعُ مِنْ سَمِّ الْآلَةِ لِسِرَايَتِهِ , وَيُعَزَّرُ إنْ فَعَلَ لِعِصْيَانِهِ , فَلَوْ اقْتَصَّ مِنْ طَرَفٍ بِآلَةٍ مَسْمُومَةٍ فَمَاتَ , فَلَا قَوَدَ إذْ مَاتَ بِمُبَاحٍ وَمُحَرَّمٍ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ . قُلْت : وَفِيهِ نَظَرٌ .(2/295)
( قَوْلُهُ ) { لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ } وَنَحْوُهُ { لَا قَوَدَ إلَّا بِحَدِيدٍ } حَكَاهُمَا فِي الشِّفَاءِ . وَقَالَ فِي التَّلْخِيصِ حَدِيثُ { لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ } ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ , وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالطَّحَاوِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ والدارقطني وَالْبَيْهَقِيُّ وَأَلْفَاظُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ وَإِسْنَادُهُمْ ضَعِيفٌ . ( قَوْلُهُ ) { مَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ } إلَخْ . قَالَ فِي التَّلْخِيصِ : حَدِيثُ { مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ } الْبَيْهَقِيّ فِي الْمَعْرِفَةِ , وَقَالَ فِي الْإِسْنَادِ : بَعْضُ مَنْ يُجْهَلُ , وَإِنَّمَا قَالَهُ زِيَادٌ فِي خُطْبَتِهِ . ( قَوْلُهُ ) وَلِرَضْخِهِ صلى الله عليه وآله وسلم رَأْسَ الْيَهُودِيِّ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا فَقَتَلَهَا بِحَجَرَيْنِ , فَجِيءَ بِهَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وَبِهَا رَمَقٌ , فَقَالَ لَهَا : أَقَتَلَك فُلَانٌ ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا , ثُمَّ قَالَ لَهَا الثَّانِيَةَ , فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا , ثُمَّ سَأَلَهَا الثَّالِثَةَ فَقَالَتْ نَعَمْ وَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا فَقَتَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بِحَجَرَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَأُخِذَ فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ تُرَضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِيهِ رِوَايَاتٌ أُخَرُ . ( قَوْلُهُ ) " كَتَحْرِيقِ عَلِيٍّ عليه السلام الْغُلَاةَ " قَالَ فِي شَرْحِ ابْنِ أَبِي الْحَدِيدِ : قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : يَعْنِي الْمُبَرِّدَ : وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ عليه السلام عَثَرَ عَلَى قَوْمٍ خَرَجُوا مِنْ مَحَبَّتِهِ , فَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ إلَى أَنْ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَجَحَدُوا مَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُمْ أَنْ اتَّخَذُوهُ رَبًّا وَإِلَهًا , وَقَالُوا : أَنْتَ خَالِقُنَا وَرَازِقُنَا فَاسْتَتَابَهُمْ فَأَبَوْا , فَحَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ " وَرُوِيَ " أَنَّهُ لَمَّا حَرَّقَهُمْ صَاحُوا إلَيْهِ : الْآنَ ظَهَرَ لَنَا ظُهُورًا بَيِّنًا أَنَّك أَنْتَ إلَهٌ ; لِأَنَّ ابْنَ عَمِّك الَّذِي أَرْسَلْته قَالَ : { لَا يُحَرِّقُ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ } وَذَكَرَ رِوَايَةً أَبْسَطَ مِنْ هَاتَيْنِ . وَفِي الْجَامِعِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ " أُتِيَ عَلِيٌّ عليه السلام بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ : لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ { لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } وَلَقَتَلْتهمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ " زَادَ التِّرْمِذِيُّ " فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا عليه السلام فَقَالَ : صَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ " وَفِي الْحَدِيثِ رِوَايَاتٌ أُخَرُ لِلسِّتَّةِ إلَّا الْمُوَطَّأَ وَمُسْلِمًا ( قَوْلُهُ ) " وَأَبِي بَكْرٍ الْفُجَاءَةُ " حُكِيَ فِي الشِّفَاءِ وَغَيْرِهِ " أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَحْرَقَ الْفُجَاءَةَ بِالنَّارِ حِينَ ارْتَدَّ " وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( قَوْلُهُ ) { لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ } فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا لَفْظُهُ { وَرَأَى يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ أَحْرَقْنَاهَا , فَقَالَ : مَنْ أَحْرَقَ هَذِهِ ؟ قُلْنَا : نَحْنُ , قَالَ : إنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ }
" مَسْأَلَةٌ " وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ وَالْعَكْسُ , وَلَا بَيْنَ وَثَنِيٍّ وَكِتَابِيٍّ , وَلَا مَجُوسِيٍّ 0
, لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { لَا تَوَارُثَ بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتَيْنِ } ( ح ) الْكُفْرُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ قُلْنَا : إذًا لَقُبِلَتْ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ , وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وآله وسلم { لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مِلَّةٍ عَلَى مِلَّةٍ إلَّا مِلَّةَ الْإِسْلَامِ } . " مَسْأَلَةٌ " فَإِنْ تَنَصَّرَ يَهُودِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ أَوْ الْعَكْسُ أُقِرَّ عَلَى مَا صَارَ إلَيْهِ , وَيَرِثُهُ أَهْلُ الْمِلَّةِ الَّتِي انْتَقَلَ إلَيْهَا . قُلْتُ : فَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وآله وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } فَأَرَادَ مَنْ ارْتَدَّ , "
( قَوْلُهُ ) { لَا تَوَارُثَ بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتَيْنِ } تَقَدَّمَ . ( قَوْلُهُ ) " لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مِلَّةٍ عَلَى مِلَّةٍ إلَّا مِلَّةَ الْإِسْلَامِ " تَمَامُهُ " فَإِنَّ شَهَادَةَ الْمُسْلِمِينَ جَائِزَةٌ عَلَى أَهْلِ الْمِلَلِ " هَكَذَا فِي أُصُولِ الْأَحْكَامِ .
فَصْلُ . وَحَدُّهُ الْقَتْلُ 0(2/296)
لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ " } الْخَبَرَ , وَنَحْوَهُ , " مَسْأَلَةٌ " ( 1 ) ثُمَّ ( بص عي ) ثُمَّ ( ش ل ك مد حَقّ ط هـ ) . وَتُقْتَلُ الْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ " } وَلِأَمْرِهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِقَتْلِ أُمِّ رُومَانَ حِينَ ارْتَدَّتْ , وَلَمْ تَتُبْ ( عَلِيٌّ عليه السلام ده ) لَا تُقْتَلُ لِعُمُومِ { " نُهِيت عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ " } ( ع ح ) لَكِنْ تُسْبَى الْحُرَّةُ إنْ لَحِقَتْ وَتُسْتَرَقُّ , وَالْأَمَةُ يُخَيِّرُهَا سَيِّدُهَا , لَنَا مَا مَرَّ . وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام " أَنَّ الْحُرَّةَ لَا تُقْتَلُ بَلْ تُسْتَرَقُّ " لَمْ يَصِحَّ . وَقَوْلُهُمْ : إنَّ أُمَّ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ سُبِيَتْ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا أَمَةٌ سُبِيَتْ فَاسْتُرِقَّتْ .
( قَوْلُهُ ) صلى الله عليه وسلم { " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ " } إلَى آخِرِهِ . تَقَدَّمَ . ( قَوْلُهُ ) صلى الله عليه وسلم { " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ " } تَقَدَّمَ . ( قَوْلُهُ ) " وَلِأَمْرِهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِقَتْلِ أُمِّ رُومَانَ " إلَخْ . رُوِيَ { " أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا : أُمُّ رُومَانَ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ , فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم , فَأَمَرَ بِأَنَّهَا تُسْتَتَابُ , فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ " } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . قُلْت : وَلَا أَدْرِي مَنْ أُمُّ رُومَانَ هَذِهِ ؟ فَإِنَّ الْمَشْهُورَ بِهَذِهِ الْكُنْيَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم زَوْجَةُ أَبِي بَكْرٍ أُمُّ عَائِشَةَ . وَهِيَ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الصَّالِحَاتِ , تُوُفِّيَتْ سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ , وَقَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم حِينَ أُدْلِيَتْ فِي قَبْرِهَا : { مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى امْرَأَةٍ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ فَلْيَنْظُرْ إلَى هَذِهِ " } ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ وَغَيْرُهُ , نَعَمْ فِي التَّلْخِيصِ حَدِيثُ جَابِرٍ { " أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا : أُمُّ رُومَانَ ارْتَدَّتْ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بِأَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ , فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ " } الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ , وَزَادَ فِي إحْدَاهُمَا " فَأَبَتْ أَنْ تُسْلِمَ فَقُتِلَتْ " وَإِسْنَادُهُمَا ضَعِيفَانِ . ( تَنْبِيهٌ ) وَقَعَ فِي الْأَصْلِ أُمُّ رُومَانَ وَهُوَ تَحْرِيفٌ . وَالصَّوَابُ : أُمُّ مَرْوَانَ , انْتَهَى بِلَفْظِهِ .
==============
وفي التقرير والتحبير :(1)
( الْبَحْثُ الْخَامِسُ يَرِدُ عَلَى الْعَامِّ التَّخْصِيصُ فَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ )
__________
(1) -التقرير والتحبير - (ج 2 / ص 162)(2/297)
, وَهُمْ الْكَرْخِيُّ وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا عَلَى مَا فِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ ( بَيَانُ أَنَّهُ ) أَيْ الْعَامَّ ( أُرِيدَ بَعْضُهُ بِمُسْتَقِلٍّ مُقَارِنٍ ) فَاحْتُرِزَ بِمُسْتَقِلٍّ , وَهُوَ مَا كَانَ مُسْتَبِدًّا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِصَدْرِ الْكَلَامِ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ , وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالصِّفَةِ وَبِمُقَارِنٍ ( أَيْ مَوْصُولٍ ) بِالْعَامِّ أَيْ مَذْكُورٍ عَقِبَهُ ( فِي ) الْمُخَصِّصِ ( الْأَوَّلِ ) , وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِهِ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقَارَنَةِ الْمَعِيَّةُ فَإِنَّهَا بِهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُرَادَةٍ هُنَا مَعَ أَنَّهَا إنَّمَا تُتَصَوَّرُ فِي فِعْلٍ خَاصٍّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ قَوْلٍ عَامٍّ عَمَّا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ نَسْخٌ لَا تَخْصِيصٌ , وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ ( فَإِنْ تَرَاخَى ) الْبَيَانُ الْمَذْكُورُ عَنْهُ ( فَنَاسِخٌ لَا ) فِي الْمُخَصِّصِ ( الثَّانِي ) , وَهَلُمَّ جَرَّا , قَالَ الْمُصَنِّفُ ( : وَالْوَجْهُ أَنَّ الثَّانِيَ ) , وَهَلُمَّ جَرَّا إذَا تَرَاخَى ( نَاسِخٌ أَيْضًا إلَّا الْقِيَاسُ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ تَرَاخِيهِ ) أَيْ مُقْتَضَاهُ لِعُمُومِ عِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِلْمَقِيسِ الْمُوجِبَةِ لِمُشَارَكَتِهِ إيَّاهُ فِي الْحُكْمِ , وَإِنَّمَا كَانَ الْوَجْهُ هَذَا الْجَرَيَانَ الْمُوجِبَ لِاشْتِرَاطِ الْمُقَارَنَةِ فِي الْأَوَّلِ فِيمَا بَعْدَهُ فَعَلَى مَا ذَكَرُوا يَجُوزُ الْإِلْحَاقُ بِالْمُخَصِّصِ الثَّانِي الْمُتَأَخِّرِ , وَتَعَدِّيَةُ الْإِخْرَاجِ , وَعَلَى مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بَحْثًا لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ نَاسِخٌ وَالنَّاسِخُ لَا يُعَلَّلُ . ( وَصَرَّحَ الْمُحَقِّقُونَ بِأَنَّ تَفَرُّعَ عَدَمِ جَوَازِ ذِكْرِ بَعْضٍ ) مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ ( دُونَ بَعْضٍ عَلَى مَنْعِ تَأْخِيرِ الْمُخَصِّصِ ضَرُورِيٌّ ) مِنْ الْعِلْمِ بِعِلَّةِ مَنْعِ تَأْخِيرِ الْمُخَصِّصِ , وَهَذَا يُؤَيِّدُ كَوْنَ الثَّانِي إذَا تَرَاخَى يَكُونُ نَاسِخًا ثُمَّ عُطِفَ عَلَى تَرَاخٍ ( أَوْ جُهِلَ ) تَرَاخِيهِ كَمَا جُهِلَ أَيْضًا مُقَارَنَتُهُ ( فَحُكْمُ التَّعَارُضِ ) يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَدْرِ الْمُعَارِضِ لَهُ مِنْ الْعَامِّ ( كَتَرْجِيحِ الْمَانِعِ ) مِنْهُمَا أَيَّامًا كَانَ عَلَى الْمُبِيحِ ( وَإِلَّا ) أَيْ , وَإِنْ لَمْ يَتَأَتَّ التَّرْجِيحُ فَالْحُكْمُ ( الْوَقْفُ ) كَمَا فِي الْبَدِيعِ أَوْ التَّسَاقُطُ كَمَا فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ , وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ . ( وَوَجَبَ نَسْخُ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ الْمُتَأَخِّرِ عَنْهُ ) كَقَلْبِهِ وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَفِي الْبَدِيعِ جُعِلَ هَذَا قَوْلَ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ ثُمَّ قَالَ وَالشَّافِعِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَجَمْعٌ مِنْ مَشَايِخِنَا الْخَاصُّ مُبَيِّنٌ مُطْلَقًا يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ الْخَاصُّ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا أَوْ مَجْهُولًا أَوْ وَرَدَا مَعًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ شَارِحُوهُ وَذَكَرَ فِي الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ أَنَّ كَوْنَ الْخَاصِّ الْوَارِدِ بَعْدَ الْعَامِّ مُخَصِّصًا مَحَلَّهُ إذَا وَرَدَ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ ; لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ جَائِزٌ أَمَّا إذَا وَرَدَ بَعْدَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَاسِخًا ; لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ , قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَحِينَئِذٍ فَلَا نَأْخُذُ بِهِ مُطْلَقًا , وَإِنَّمَا نَأْخُذُ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يُؤَدِّي إلَى نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ , وَأَمَّا الْعَامَّانِ مِنْ وَجْهٍ الْخَاصَّانِ مِنْ وَجْهٍ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِمَا فِي التَّعَارُضِ . هَذَا وَمِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ زَادَ لَفْظِيٌّ بَعْدَ مُسْتَقِلٍّ احْتِرَازًا عَنْ غَيْرِ اللَّفْظِيِّ كَالْعَقْلِ . ( وَالشَّافِعِيَّةُ ) أَيْ أَكْثَرُهُمْ ( وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ قَصَرَ الْعَامَّ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّاهُ وَقِيلَ ) عَلَى بَعْضِ ( مُسَمَّيَاتِهِ ) كَمَا فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْبَدِيعِ بِنَاءً ( عَلَى إرَادَةِ أَجْزَاءِ مُسَمَّاهُ ) كَمَا حَكَاهُ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الشَّارِحِينَ تَنْزِيلًا لِأَجْزَائِهِ مَنْزِلَةَ مُسَمَّيَاتٍ لَهُ إذْ لَا مُسَمَّيَاتِ لِلَّفْظِ الْوَاحِدِ بَلْ مُسَمَّاهُ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ , وَهُوَ كُلُّ وَاحِدٍ ( وَهُوَ ) أَيْ كَوْنُ الْمُرَادِ هَذَا ( يُحَقِّقُ مَا أَسْلَفْنَاهُ ) فِي الْكَلَامِ عَلَى تَعْرِيفِ الْعَامِّ ( أَنَّ دَلَالَتَهُ ) أَيْ الْعَامِّ ( عَلَى الْأَفْرَادِ تَضَمُّنِيَّةٌ أَوْ ) إرَادَةُ ( الْآحَادِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي الْمُشْتَرَكِ ) بَيْنَهُمَا , وَهُوَ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ الَّذِي يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الْمُسَمَّيَاتُ الَّتِي هِيَ جُزْئِيَّاتٌ لَهُ وَيَصْدُقُ حَمْلُهُ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْفَاضِلُ الْأَبْهَرِيُّ ( , وَإِضَافَةُ الْمُسَمَّيَاتِ إلَيْهِ ) أَيْ الْعَامِّ ( حِينَئِذٍ ) أَيْ حِينَ يَكُونُ الْمُرَادُ هَذَا ( بِعُمُومِ نِسْبَتِهِ فَإِنَّهَا ) أَيْ الْآحَادَ ( مُسَمَّيَاتٌ فِي(2/298)
نَفْسِ الْأَمْرِ لَا بِهِ ) أَيْ بِالْعَامِّ , وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ بَعْضُ أَفْرَادِهِ لَكَانَ أَوْضَحَ كَمَا قَالَ السُّبْكِيُّ : وَهَذَا أَوْلَى ثُمَّ لَا خَفَاءَ فِي صِدْقِهِ عَلَى الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ ابْتِدَاءُ الْخُصُوصِ وَالْعَامِّ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ بَعْدَ إرَادَةِ الْعُمُومِ , وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَخْصُوصَ عُمُومُهُ مُرَادٌ تَنَاوُلًا لَا حُكْمًا وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ عُمُومُهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ لَا حُكْمًا وَلَا تَنَاوُلًا . ( وَيَكُونُ ) التَّخْصِيصُ ( بِمُسْتَقِلٍّ كَالْعَقْلِيِّ وَالسَّمْعِيِّ الْمُنْفَصِلِ , وَمُتَّصِلٍ , وَالْعَامُّ فِيهِ ) أَيْ فِي تَعْرِيفِ التَّخْصِيصِ ( حَقِيقَةً ; لِأَنَّهُ ) أَيْ التَّخْصِيصَ ( حُكْمٌ عَلَى الْمُسْتَغْرِقِ ) بِإِرَادَةِ بَعْضِهِ لَا مَجَازٌ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ خُصِّصَ الْعَامُّ , وَهَذَا عَامٌّ مُخَصَّصٌ وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِنَفْيِ مَا ذَكَرَ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَامٌّ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْمُخَصِّصِ فِي غَيْرِ الِاسْتِثْنَاءِ ( فَمُخْرِجُ الْبَعْضِ مُطْلَقًا ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مُتَّصِلًا أَوْ لَا ( مُخَصِّصَ ) أَيْ الدَّالَّ عَلَى إخْرَاجِ الْبَعْضِ مِنْ عَقْلٍ أَوْ حِسٍّ أَوْ لَفْظٍ أَوْ عَادَةٍ يُقَالُ لَهُ مُخَصِّصٌ مَجَازًا مَشْهُورًا تَسْمِيَةً لِلدَّلِيلِ بِاسْمِ الْمَدْلُولِ ; لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ إرَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَيْضًا مُعْتَقِدُ ذَلِكَ مِنْ مُجْتَهِدٍ أَوْ مُقَلِّدٍ . ( وَيُقَالُ ) : التَّخْصِيصُ ( لِقَصْرِ اللَّفْظِ مُطْلَقًا ) أَيْ عَامًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ( عَلَى بَعْضِ مُسَمَّاهُ ) , وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ لِصِدْقِهِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْكُلِّ فِي الْجُزْءِ ( وَلَا يَخْفَى مَا فِي قَصْرَ إذْ لَا يَنْفِي النَّسْخَ ) بَلْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَنَسْخِ بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَامُّ لَكِنْ أَجَابَ الْأَبْهَرِيُّ بِمَنْعِ وُرُودِهِ ; لِأَنَّ الْعَامَّ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي الْبَعْضِ لَمْ يَكُنْ مَقْصُورًا عَلَى بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ حِينَ أُطْلِقَ بَلْ أُرِيدَ بِهِ أَوَّلًا ثُمَّ رُفِعَ الْبَعْضُ أَوْ انْتَهَى حُكْمُهُ عَلَى اخْتِلَافِ تَعْرِيفِ النَّسْخِ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْعَامِّ حِينَ أُطْلِقَ إلَّا الْبَعْضَ إمَّا بِحَسَبِ الْحُكْمِ كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ , وَإِمَّا بِحَسَبِ الذَّاتِ كَمَا فِي غَيْرِهِ ( وَمَنْعُهُ ) أَيْ التَّخْصِيصِ ( شُذُوذٌ بِالْعَقْلِ ; لِأَنَّهُ ) أَيْ التَّخْصِيصَ بِالْعَقْلِ ( لَوْ صَحَّ صَحَّتْ إرَادَتُهُ ) أَيْ مَا قَضَى الْعَقْلُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ الْعَامِّ , وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ . أَمَّا الْمُلَازَمَةُ فَلِأَنَّ الْخَارِجَ بِالْعَقْلِ مِنْ مُسَمَّيَاتِهِ , وَإِطْلَاقَ اللَّفْظِ لُغَةً عَلَى مُسَمَّيَاتِهِ صَحِيحٌ لُغَةً , وَأَمَّا انْتِفَاءُ اللَّازِمِ فَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِعَاقِلٍ أَنْ يُرِيدَ مَا يُخَالِفُ صَرِيحَ الْعَقْلِ فَإِذَا قُلْنَا { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } فُهِمَ مِنْهُ لُغَةً أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ نَفْسِهِ أَمَّا لَوْ أَرَادَ مُرِيدٌ بِهِ نَفْسَهُ كَانَ الْمُرِيدُ مُخْطِئًا لُغَةً كَمَا هُوَ مُخْطِئٌ عَقْلًا فَيَكُونُ خُرُوجُهُ بِاللُّغَةِ مُوَافِقًا لِلْعَقْلِ لَا بِالْعَقْلِ ( وَلَكَانَ ) الْعَقْلُ ( مُتَأَخِّرًا ) عَنْ الْعَامِّ ; لِأَنَّهُ بَيَانٌ , وَالْبَيَانُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْمُبَيَّنِ . ( وَالْعَقْلُ مُتَقَدِّمٌ وَلَصَحَّ نَسْخُهُ ) أَيْ كَوْنُ الْعَقْلِ نَاسِخًا ; لِأَنَّهُ بَيَانٌ أَيْضًا وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ أَيْضًا ( أُجِيبَ بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ ) فِي الْكُلِّ ( بَلْ اللَّازِمُ ) فِي الْأَوَّلِ ( دَلَالَتُهُ ) أَيْ الْعَامِّ عَلَى مَا قَضَى الْعَقْلُ بِإِخْرَاجِهِ ( وَهِيَ ثَابِتَةٌ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ وَتَأَخَّرَ بَيَانُهُ ) أَيْ وَاللَّازِمُ فِي الثَّانِي تَأَخُّرُ بَيَانِ الْعَقْلِ عَنْ الْعَامِّ ( لَا ذَاتِهِ ) أَيْ الْعَقْلِ ( وَلِعَجْزِ الْعَقْلِ عَنْ دَرْكِ الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لِلْحُكْمِ ) فِي الثَّالِثِ ; لِأَنَّ النَّسْخَ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَنَظَرُ الْعَقْلِ مَحْجُوبٌ عَنْهُ بِخِلَافِ الْمُخَصِّصِ فَإِنَّ خُرُوجَ الْبَعْضِ عَنْ الْخِطَابِ قَدْ يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ فَافْتَرَقَا ( وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ ) أَيْ لَوْ صَحَّ لَصَحَّتْ إرَادَتُهُ كَمَا فِي مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهِ ( أَيْضًا بِأَنَّ التَّخْصِيصَ لِلْمُفْرَدِ , وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ ) فِي قَوْلِنَا { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } بَعْدَ التَّرْكِيبِ ( وَيَصِحُّ إرَادَةُ الْجَمِيعِ ) أَيْ جَمِيعُ الْمُسَمَّيَاتِ الَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْهَا شَيْءٌ ( بِهِ ) أَيْ بِكُلِّ شَيْءٍ ( إلَّا أَنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي التَّرْكِيبِ وَنُسِبَ إلَيْهِ مَا يَمْتَنِعُ ) نِسْبَتُهُ , وَهِيَ الْمَخْلُوقِيَّةُ ( إلَى الْكُلِّ ) أَيْ إلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ ( مَنَعَهَا ) أَيْ الْعَقْلُ إرَادَةً الْكُلِّ ; لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى خَالِقَ نَفْسِهِ ( وَهُوَ ) أَيْ مَنْعُ الْعَقْلِ إرَادَتَهُ هُوَ ( مَعْنَى تَخْصِيصِ الْعَقْلِ وَدُفِعَ أَيْضًا ) هَذَا الْجَوَابُ وَدَافَعَهُ(2/299)
الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ ( بِأَنَّ التَّحْقِيقَ صِحَّتُهَا ) أَيْ إرَادَةُ الْكُلِّ ( فِي التَّرْكِيبِ أَيْضًا لُغَةً غَيْرَ أَنَّهُ يُكَذِّبُ ) التَّرْكِيبَ حِينَئِذٍ لِعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ الْوَاقِعَ ( وَهُوَ ) أَيْ وَكَذَّبَهُ ( غَيْرُهَا ) أَيْ صِحَّتُهَا فَالْمَانِعُ إنَّمَا هُوَ لُزُومُ الْكَذِبِ لَا غَيْرُ , وَدَفَعَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الدَّفْعَ بِقَوْلِهِ ( وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ ) مِنْ تَخْصِيصِ الْعَقْلِ ( حُكْمُ الْعَقْلِ بِإِرَادَةِ الْبَعْضِ لِامْتِنَاعِهِ ) أَيْ حُكْمِهِ ( فِي الْكُلِّ ) أَيْ بِإِرَادَةِ الْكُلِّ ( فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِمَّنْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ ) فَلَمْ تَصِحَّ إرَادَةُ الْكُلِّ فِي التَّرْكِيبِ لُغَةً أَيْضًا لِامْتِنَاعِ إرَادَةِ اللُّغَةِ مَا يَمْنَعُ الْعَقْلُ إرَادَتَهُ ثُمَّ الْمِثَالُ الْمَذْكُورُ بِنَاءً عَلَى مَا عَلَيْهِ كَثِيرٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِشَيْءٍ فِي مِثْلِهِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ شَيْءٍ لُغَةً , وَإِلَّا فَقَدْ أَفَدْنَاك فِي مَسْأَلَةِ الْمُخَاطَبِ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ مُتَعَلِّقِ خِطَابِهِ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي الْمُعِينِ النَّسَفِيِّ وَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ عَنْ غَيْرِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ بِالْعَقْلِ فَالْجَوَابُ هُوَ الْأَوَّلُ ( قَالُوا ) أَيْ الْمَانِعُونَ مِنْ التَّخْصِيصِ بِالْعَقْلِ : ( تَعَارَضَا ) الْعَامُّ وَالْعَقْلُ ( فَتَسَاقَطَا ) هَرَبًا مِنْ التَّحَكُّمِ بِتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا بِلَا مُرَجِّحٍ ( أَوْ يُقَدَّمُ الْعَامُّ ; لِأَنَّ أَدِلَّةَ الْأَحْكَامِ النَّقْلُ لَا الْعَقْلُ قُلْنَا فِي إبْطَالِهِ ) أَيْ الْعَقْلِ ( إبْطَالٌ ) أَيْ النَّقْلِ ( لِأَنَّ دَلَالَتَهُ ) أَيْ النَّقْلِ ( فَرْعُ حُكْمِهِ ) أَيْ الْعَقْلِ ( بِهَا ) أَيْ بِدَلَالَتِهِ ( فَإِذَا حَكَمَ ) الْعَقْلُ ( بِأَنَّهَا ) أَيْ دَلَالَتَهُ ( عَلَى وَجْهِ كَذَا ) كَالْخُصُوصِ هُنَا ( لَزِمَ ) حُكْمُهُ , وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ( وَأَيْضًا يَجِبُ تَأْوِيلُ الْمُحْتَمَلِ ) إذَا عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ ( وَهُوَ ) أَيْ الْمُحْتَمَلُ هُنَا ( النَّقْلُ ) ; لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ يَحْتَمِلُ غَيْرَ ظَاهِرِهِ , وَهُوَ الْخُصُوصُ بِخِلَافِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُ قَاطِعٌ فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ النَّقْلِ بِالتَّخْصِيصِ الْمَذْكُورِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْلِ هَذَا وَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ كَمَا ذَكَرَ السُّبْكِيُّ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُنَازِعُ فِي أَنَّ مَا يُسَمَّى مُخَصِّصًا بِالْعَقْلِ خَارِجٌ , وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ اللَّفْظَ هَلْ يَشْمَلُهُ فَمَنْ قَالَ يَشْمَلُهُ سَمَّاهُ تَخْصِيصًا وَمَنْ قَالَ لَا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ لَا يُسَمِّيهِ مُخَصِّصًا . وَحُمِلَتْ دَعْوَى أَبِي حَامِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ مُخَصِّصٌ عَلَى أَنَّ مَا يُسَمَّى مُخَصِّصًا خَارِجٌ لَا عَلَى أَنَّهُ يُسَمَّى مُخَصِّصًا فَإِنَّ الْخِلَافَ فِيهِ مَشْهُورٌ ( وَآخَرُونَ ) أَيْ وَمَنَعَ التَّخْصِيصَ قَوْمٌ آخَرُونَ ( مُطْلَقًا ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ بِالْعَقْلِ أَوْ غَيْرِهِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ التَّخْصِيصِ ( كَذِبٌ ) ; لِأَنَّهُ يَنْفِي فَيَصْدُقُ نَفْيُهُ فَلَا يَصْدُقُ هُوَ وَإِلَّا صَدَقَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ مَعًا ( قُلْنَا يَصْدُقُ ) نَفْيُ التَّخْصِيصِ ( مَجَازًا ) نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَيَصْدُقُ ثُبُوتُهُ حَقِيقَةً نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى فَلَا تَتَّحِدُ جِهَةُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ . ( قِيلَ ) الْقَائِلُ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ : ( يُزَادُ أَوْ بِدَاءٌ ) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ , وَهُوَ ظُهُورُ الْمَصْلَحَةِ بَعْدَ خَفَائِهَا لِيَشْمَلَ الْإِنْشَاءَ كَمَا فِي الْمِنْهَاجِ وَغَيْرِهِ , وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ أَيْضًا ( وَإِلَّا ) أَيْ , وَإِنْ لَمْ يَزِدْ ( خَصَّ ) الِامْتِنَاعُ ( الْخَبَرَ ) ; لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَذِبُ ( وَلَيْسَ ) الِامْتِنَاعُ بِخَاصٍّ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا ( لَكِنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ إلَّا فِي الْخَبَرِ ) وَالْمُصَرِّحُ الْآمِدِيُّ ( وَاعْتَرَضَ أَبُو إسْحَاقَ ) وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الشِّيرَازِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمَشْهُورُ ( مَنْ أَوْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّهُ ) أَيْ الْخِلَافَ ( فِي الْأَمْرِ أَيْضًا ) . قُلْت فَانْدَفَعَ مَا ذَكَرَهُ الْفَاضِلُ الْأَبْهَرِيُّ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ لِنَفْيِهِ فِي الْإِنْشَاءِ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ إذْ الْمُثْبَتُ يَجُوزُ وُقُوعُهُ فِي الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ كِلَيْهِمَا وَالنَّافِي يَمْنَعُهُ فِي كِلَيْهِمَا فَإِذَا انْتَفَى وُقُوعُهُ فِي الْإِخْبَارِ لَزِمَ انْتِفَاؤُهُ فِي الْإِنْشَاءِ أَيْضًا ; وَلِأَنَّ الْإِنْشَاءَ فِي حُكْمِ الْإِخْبَارِ ; لِأَنَّك إذَا قُلْت أَكْرِمْ كُلَّ رَجُلٍ فَكَأَنَّك قُلْت كُلُّ رَجُلٍ أَنْتَ مَأْمُورٌ بِإِكْرَامِهِ فَإِذَا خَصَّصْت وَقُلْت إلَّا الْفَاسِقَ فَكَأَنَّك قُلْت لَيْسَ كُلُّ رَجُلٍ أَنْتَ مَأْمُورٌ بِإِكْرَامِهِ فَيَلْزَمُ الْكَذِبُ فِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ مَعَ أَنَّ فِي هَذَا مِنْ التَّعَسُّفِ مَا لَا يَخْفَى ثُمَّ مُلَخَّصُ الْجَوَابِ أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ الْكَذِبُ أَوْ(2/300)
الْبِدَاءُ إذَا أَرَادَ الْعُمُومَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ أَبَدًا , أَمَّا إذَا لَمْ يُرِدْهُ وَنَصَبَ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ فَلَا , وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَقُولُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ أَمَّا فِي الْخَبَرِ فَكَمَا قَالَ . ( وَالْقَاطِعُ فِيهَا ) أَيْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِشَيْءٍ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ شَيْءٍ لُغَةً كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا فَيَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمُمْكِنَ وَالْمُمْتَنِعَ ثُمَّ يَكُونُ مَخْصُوصًا فِي الْآيَتَيْنِ بِالْمُمْكِنِ لِامْتِنَاعِ وُقُوعِ الْخَلْقِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى ذَاتِهِ وَسَائِرِ الْمُمْتَنِعَاتِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَقَدْ أَسْلَفْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُخَاطَبِ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ مُتَعَلِّقِ خِطَابِهِ مَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ عَنْ غَيْرِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ أَنَّ الشَّيْءَ فِيهِمَا بِمَعْنَى الْمَشْيِ وَأَنَّهُ فِيهِمَا عَلَى عُمُومِهِ وَمَا قَالَهُ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَخُصُوصًا عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى عُمُومَ الْمُشْتَرَكِ مُطْلَقًا أَوْ فِي الْإِثْبَاتِ وَلَا خَفَاءَ أَنَّهُ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ لَا حُجَّةَ فِي الْآيَتَيْنِ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ أَصْلًا فَضْلًا أَنْ يَكُونَا دَلِيلَيْنِ قَطْعِيَّيْنِ فِيهِ فَلْيُتَنَبَّهْ لَهُ . وَأَمَّا فِي الْإِنْشَاءِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } مَعَ الْقَطْعِ بِعَدَمِ إرَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَأْتِي فِي هَذَا الْخِلَافِ أَنَّهُ لَفْظِيٌّ كَمَا فِيمَا قَبْلَهُ فَلْيُتَأَمَّلْ . ( وَلَنَا فِي ) مَنْعِ ( التَّرَاخِي أَنَّ إطْلَاقَهُ ) أَيْ الْعَامِّ ( بِلَا مَخْرَجِ إفَادَةِ إرَادَةِ الْكُلِّ فَمَعَ عَدَمِهَا ) أَيْ إرَادَةِ الْكُلِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ( يَلْزَمُ إخْبَارُ الشَّارِعِ ) فِي الْخَبَرِ ( وَإِفَادَتُهُ ) فِي الْإِنْشَاءِ ( مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ ) فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ( وَذَلِكَ كَذِبٌ ) فِي الْخَبَرِ ( وَطُلِبَ لِلْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ ) فِي الْإِنْشَاءِ , وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فَالتَّرَاخِي مُنْتَفٍ ( وَهَذَا ) الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ ( يَجْرِي فِي الْمُخَصِّصِ الثَّانِي ) , وَهَلُمَّ جَرَّا ( كَالْأَوَّلِ ) فَلَا جَرَمَ أَنْ قُلْنَا : وَالْوَجْهُ نَفْيُ التَّرَاخِي أَيْضًا فِي الثَّانِي , وَهَلُمَّ جَرَّا ( وَمُقْتَضَى هَذَا ) الدَّلِيلِ أَيْضًا ( وُجُوبُ وَصْلِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ) بِالْعَامِّ ( مِنْ ) الْبَيَانِ ( الْإِجْمَالِيِّ كَقَوْلِ أَبِي الْحُسَيْنِ أَوْ التَّفْصِيلِيِّ ثُمَّ يَتَأَخَّرُ ) الْبَيَانُ التَّفْصِيلِيُّ ( فِي ) الْمُخَصِّصِ ( الْأَوَّلِ ) أَيْ الْإِجْمَالِيِّ إذَا وَقَعَ ( إلَى ) وَقْتِ ( الْحَاجَةِ ) إلَيْهِ لِلْحَاجَةِ إلَى الِامْتِثَالِ ( بَعْدَهُ ) أَيْ الْبَيَانِ الْإِجْمَالِيِّ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْبَيَانَ التَّفْصِيلِيَّ ( حِينَئِذٍ ) أَيْ حِينَ كَانَ الْعَامُّ مَوْصُولًا بِالْإِجْمَالِيِّ ( بَيَانُ الْمُجْمَلِ ) , وَهُوَ جَائِزُ التَّأْخِيرِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَى الْفِعْلِ كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ ( وَلَا يَبْعُدُ إرَادَتُهُمُوهُ ) أَيْ إرَادَةُ الْحَنَفِيَّةِ وُجُوبَ وَصْلِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْبَيَانِ الْإِجْمَالِيِّ أَوْ التَّفْصِيلِيِّ بِاشْتِرَاطِهِمْ مُقَارَنَةَ الْمُخَصِّصِ الْأَوَّلِ لِلْعَامِّ , وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِوَصْلِ الْإِجْمَالِيِّ بِهِ ( كَهَذَا الْعَامِّ مُرَادًا بَعْضُهُ ) أَوْ مَخْصُوصٌ ( وَبِهِ ) أَيْ وَبِكَوْنِ مُرَادِهِمْ هَذَا بِذَاكَ ( تَنْتَفِي اللَّوَازِمُ الْبَاطِلَةُ ) مِنْ الْكَذِبِ وَطَلَبِ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ عَلَى تَقْدِيرِ تَرَاخِي الْمُخَصِّصِ مُطْلَقًا وَلَا سِيَّمَا الْأَوَّلُ لِمَا يُقَارِنُهُ مِنْ الْقَرِينَةِ الْمُصَرِّحَةِ إجْمَالًا أَوْ تَفْصِيلًا بِأَنَّ الْعُمُومَ غَيْرُ مُرَادٍ لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الشَّأْنُ فِي هَذَا بَعْدَ إرَادَتِهِمْ إيَّاهُ فِي الْإِجْمَالِيِّ حَيْثُ لَا تَفْصِيلِيَّ مُقَارِنٌ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَنُقِلَ عَادَةً وَمَنْ ادَّعَاهُ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ وُجِدَ عَامٌّ مُخَرَّجٌ مِنْهُ خُرُوجًا مُتَرَاخِيًا مَا نُسَمِّيهِ تَخْصِيصًا مَعَ عَدَمِ اقْتِرَانِهِ بِبَيَانٍ إجْمَالِيٍّ وَمَنْ ادَّعَاهُ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ ( وَإِلْزَامُ الْآمِدِيِّ ) وَغَيْرِهِ الْحَنَفِيَّةَ بِنَاءً عَلَى امْتِنَاعِ تَأْخِيرِ الْمُخَصِّصِ لِلْعَامِّ ( امْتِنَاعَ تَأْخِيرِ النَّسْخِ بِجَامِعِ الْجَهْلِ بِالْمُرَادِ ) بِالْعَامِّ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْمُخَصِّصِ وَبِمُدَّةِ الْمَنْسُوخِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالنَّاسِخِ وَلَا يَمْتَنِعُ تَأْخِيرُ النَّسْخِ فَكَذَا التَّخْصِيصُ ( لَيْسَ لَازِمًا ; لِأَنَّ ) الْجَهْلَ ( الْبَسِيطَ غَيْرُ مَذْمُومٍ ) فِي الْجُمْلَةِ ( وَلِذَا طُلِبَ عِنْدَنَا فِي الْمُتَشَابِهِ ) فَقُلْنَا يَجِبُ اعْتِقَادُ حَقِيقَتِهِ , وَتَرْكُ طَلَبِ تَأْوِيلِهِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ ( بِخِلَافِ ) الْجَهْلِ ( الْمُرَكَّبِ ) فَإِنَّهُ مَذْمُومٌ لَمْ يُطْلَبْ , وَالْأَوَّلُ هُوَ اللَّازِمُ فِي(2/301)
النَّسْخِ , وَالثَّانِي هُوَ اللَّازِمُ فِي تَرَاخِي الْمُخَصِّصِ عَنْ الْعَامِّ فَلَمْ يُوجَدْ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا ( وَلِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْعَمَلِ الْمُطَابِقِ ) لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فِي الْمَنْسُوخِ ( إلَى سَمَاعِ النَّاسِخِ ) بِخِلَافِ الْعَامِّ الْمُتَرَاخِي عَنْهُ مُخَصِّصُهُ إلَى سَمَاعِ مُخَصِّصِهِ فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرُ فِي التَّرَاخِي وَمَنْعِهِ . ( وَقَوْلُهُمْ ) أَيْ الْمُجَوِّزِينَ لِلتَّرَاخِي فِيهِ كَالشَّافِعِيَّةِ لَا يَلْزَمُ مِنْ إطْلَاقِ الْعَامِّ , وَإِرَادَةِ بَعْضِهِ مِنْهُ بِلَا قَرِينَةٍ إفَادَةُ الشَّارِعِ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ ( بَلْ ) إطْلَاقُهُ ( لِتَفْهِيمِ إرَادَةِ الْعُمُومِ عَلَى احْتِمَالِ الْخُصُوصِ إنْ أُرِيدَ الْمَجْمُوعُ ) مِنْ تَفْهِيمِ إرَادَةِ الْعُمُومِ وَتَجْوِيزِ التَّخْصِيصِ ( مَعْنَى الصِّيغَةِ ) الْعَامَّةِ ( فَبَاطِلٌ ) ; لِأَنَّ الصِّيغَةَ لَمْ تُوضَعْ لِلْمَجْمُوعِ قَطْعًا ( أَوْ هُوَ ) أَيْ مَعْنَى الصِّيغَةِ ( الْأَوَّلُ ) أَيْ تَفْهِيمُ إرَادَةِ الْعُمُومِ ( وَالِاحْتِمَالُ ) أَيْ احْتِمَالُ الْخُصُوصِ ثَابِتٌ ( بِخَارِجٍ ) عَنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ , وَهُوَ كَثْرَةُ تَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ ( لَزِمَ أَنْ تُعَيِّنَهُ ) أَيْ هَذَا الِاحْتِمَالُ ( قَرِينَةٌ لَازِمَةٌ , وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ ) الْخَارِجَ ( تَعَقُّلُهُ ) أَيْ الْعَامِّ ( لَا يُفِيدُ ) ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَعْنَى الْوَضْعِيِّ لِلَّفْظِ ( وَلُزُومُهَا ) أَيْ الْقَرِينَةِ الْمُعَيَّنَةِ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ لِلَّفْظِ ( مَمْنُوعٌ إلَّا إنْ كَانَتْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ غَلَبَةِ التَّخْصِيصِ فِي بَحْثِ الْقَطْعِيَّةِ , وَعَلِمْت أَنَّهَا ) أَيْ كَثْرَةَ التَّخْصِيصِ ( إنَّمَا تُفِيدُ ) عَدَمَ الْقَطْعِ ( فِي الْعَامِّ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي خُصُوصِ ) الْعَامِّ ( الْمُسْتَعْمَلِ ) فَيَسْتَمِرُّ لُزُومُ الْمَنْعِ لِدَعْوَى الْقَرِينَةِ اللَّازِمَةِ لَهُ ( قَالُوا ) أَيْ الْمُجَوِّزُونَ لِلتَّرَاخِي ( وَقَعَ فَإِنْ فَاتَ { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ( خُصَّ بِهِ ) أَيْ بِمَنْطُوقِهِ عُمُومُ قوله تعالى { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } فَإِنَّهُ شَامِلٌ لِلْحَامِلِ وَالْحَائِلِ مَعَ التَّرَاخِي بَيْنَهُمَا ( قُلْنَا الْأُولَى مُتَأَخِّرَةٌ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَنْ شَاءَ بَاهَلْته أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ) ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ وَيُوَضِّحُهُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ مَنْ شَاءَ لَاعَنْته لَأُنْزِلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا , وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ وَلَا تَجْعَلُونَ لَهَا الرُّخْصَةَ أُنْزِلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } . وَزَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ وَكَانَ بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيًّا يَقُولُ هِيَ آخِرُ الْأَجَلَيْنِ فَقَالَ ذَلِكَ ( فَيَكُونُ ) إخْرَاجُ الْحَوَامِلِ بِآيَةِ سُورَةِ الطَّلَاقِ مِنْ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ( نَسْخًا ) لَا تَخْصِيصًا ( وَكَذَا { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } ( بَعْدَ { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ } ) كَمَا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَيَدُلُّ لَهُ مَا عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ حَجَجْت فَدَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ لِي يَا جُبَيْرُ تَقْرَأُ الْمَائِدَةَ قُلْت نَعَمْ فَقَالَتْ أَمَا إنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَيَكُونُ إخْرَاجُ الْكِتَابِيَّاتِ مِنْ الْمُشْرِكَاتِ نَسْخًا . ( وَكَذَا جَعْلُ السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ مُطْلَقًا ) أَيْ سَوَاءٌ نَفَّلَهُ الْإِمَامُ أَمْ لَا إذَا كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ السَّهْمِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَزَادَ أَحْمَدُ أَوْ الرَّضْخُ , وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا ( أَوْ بِرَأْيِ الْإِمَامِ ) كَمَا هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَمَالِكٍ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَسَلَبُ الْمَقْتُولِ ثِيَابُهُ وَسِلَاحُهُ وَمَرْكَبُهُ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْآلَةِ وَمَا مَعَهُ مِنْ مَالٍ ( بَعْدَ ) قوله تعالى { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } الْآيَةَ فَيَكُونُ اخْتِصَاصُ الْمُقَاتِلِ بِالسَّلَبِ نَسْخًا . ( وَكُلُّ مُتَرَاخٍ ) مُخَرَّجٌ مِنْ عُمُومٍ سَابِقٍ بَعْضُهُ يَكُونُ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْبَعْضِ لَا مُخَصِّصًا ( قَالُوا ) أَيْضًا قوله تعالى قَالَ تَعَالَى لِنُوحٍ عليه السلام { فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَك } وَتَرَاخَى إخْرَاجُ ابْنِهِ ) كَنْعَانَ بِقَوْلِهِ { يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ(2/302)
أَهْلِك } ( قُلْنَا هُوَ ) أَيْ تَرَاخَى إخْرَاجُ ابْنِهِ ( بَيَانُ الْمُجْمَلِ ) وَالْمُجْمَلُ يَجُوزُ تَرَاخِي بَيَانِهِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْأَهْلَ ( شَاعَ فِي النَّسَبِ وَغَيْرِهِ كَالزَّوْجَةِ وَالْأَتْبَاعِ الْمُوَافِقِينَ ) كَمَا فِي قوله تعالى { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا } ( وَبَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ { لَيْسَ مِنْ أَهْلِك } إرَادَتَهُ أَحَدَ الْمَفْهُومَيْنِ , وَهُوَ الْمُتَّبِعُونَ أَوْ هُوَ ) أَيْ الْبَيَانُ الْمُتَأَخِّرُ ( لِاسْتِثْنَاءٍ مَجْهُولٍ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ أَهْلُك , وَهُوَ ( إلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ ) الْقَوْلُ مِنْهُمْ فَهُوَ بَيَانٌ مُجْمَلٌ أَيْضًا , وَعَلَى اصْطِلَاحِ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ بَيَانِ بَعْضِ الْمُرَادِ بِالتَّخْصِيصِ الْإِجْمَالِيِّ لِلْعُمُومِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِالْأَهْلِ الْأَهْلُ إيمَانًا وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْأَهْلُ قَرَابَةً فَإِنْ أُرِيدَ هُنَا الْأَهْلُ إيمَانًا لَمْ يَتَنَاوَلْ الِابْنَ ; لِأَنَّهُ كَافِرٌ وَيَكُونُ قَوْلُهُ إلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا . ( وَقَوْلُهُ { إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي } لِظَنِّ إيمَانِهِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْآيَةِ ) أَيْ طُغْيَانِ الْمَاءِ وَغَزَارَةِ فَيْضِهِ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَوْ ظَنِّ إيمَانِهِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِكُفْرِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ عَلَى مَا قِيلَ وَرُبَّمَا يَشْهَدُ لَهُ قوله تعالى { إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } كَمَا هُوَ احْتِمَالٌ فِي الْآيَةِ ( أَوْ ظَنِّ إرَادَةِ النَّسَبِ ) بِالْأَهْلِ , وَهَذَا تَكْمِيلٌ لِتَقْرِيرِ الْجَوَابِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ , وَإِنْ أُرِيدَ هُنَا الْأَهْلُ قَرَابَةً تَنَاوَلَ الْأَهْلُ الِابْنَ الْكَافِرَ لَكِنْ اسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ { إلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } وَعَلَى هَذَا فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ وَقَوْلُهُ { إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي } لِظَنِّ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَهْلِ الَّذِينَ سَبَقَ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ وَقَوْلُهُ { إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِك } أَيْ الَّذِينَ لَمْ يَسْبِقْ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ وَالْمُرَادُ بِسَبْقِ الْقَوْلِ مَا سَبَقَ مِنْ قَضَائِهِ بِإِهْلَاكِ الْكُفَّارِ , وَهَذَا تَكْمِيلٌ لِتَقْرِيرِ الْجَوَابِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ( وَأَمَّا { إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } ( فَعُمُومُهُ فِي مَعْبُودِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ ) , وَهُمْ قُرَيْشٌ , وَهُوَ الْأَصْنَامُ كَمَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ ( فَلَمْ يَتَنَاوَلْ عِيسَى وَالْمَلَائِكَةَ ) حَتَّى يُقَالَ إنَّهُمْ أُخْرِجُوا مُتَرَاخِيًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } الْآيَاتِ فَيَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ لِجَوَازِ تَرَاخِي الْمُخَصِّصِ . ( وَاعْتِرَاضُ ابْنِ الزِّبَعْرَى ) بِكَسْرِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ فَتْحُ الزَّايِ وَأَصْلُهُ الْبَعِيرُ الْكَثِيرُ الشَّعْرُ فِي الرَّأْسِ وَالْأُذُنَيْنِ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ : السَّيِّئُ الْخُلُقُ . قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ : وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ كَانَ مِنْ أَعْيَانِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفُحُولِ الشُّعَرَاءِ وَكَانَ يُهَاجِي الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ , وَحَسُنَ إسْلَامُهُ وَلَهُ أَشْعَارٌ يَعْتَذِرُ فِيهَا مِمَّا سَبَقَ مِنْهُ مَذْكُورَةٌ فِي السِّيرَةِ لِابْنِ إسْحَاقَ ( جَدَلٌ مُتَعَنِّتٌ عَلَى حِكَايَةِ الْأُصُولِيِّينَ ) , وَهِيَ مُخْتَصَرَةٌ مِمَّا أَسْنَدَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْك { إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } قَالَ نَعَمْ قَالَ فَقَدْ عُبِدَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْمَلَائِكَةُ وَعِيسَى وَعُزَيْرٌ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ مَعَ آلِهَتِنَا فَنَزَلَتْ { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } وَنَزَلَتْ { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا } إلَى قَوْلِهِ { خَصِمُونَ } } ثُمَّ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَكَوْنُهُ جَدَلٌ مُتَعَنِّتٌ ظَاهِرٌ مِنْ هَذَا وَمِمَّا تَقَدَّمَ . وَأَمَّا قَوْلُ الْآمِدِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ كَالْقَاضِي عَضُدِ الدِّينِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ { مَا أَجْهَلَك بِلُغَةِ قَوْمِك } لِمَا لَا يَعْقِلُ فَقَالَ السُّبْكِيُّ : فَشَيْءٌ لَا يُعْرَفُ وَقَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ : لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ طَرِيقٍ ثَابِتَةٍ وَلَا وَاهِيَةٍ ( وَأَمَّا عَلَى بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { أَنَّهُ سَأَلَهُ صلى الله عليه وسلم أَهَذَا لِكُلِّ مَا عُبِدَ فَقَالَ نَعَمْ } فَلَا ) يَكُونُ جَدَلٌ مُتَعَنِّتٌ وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ نَقَضَ الْحَافِظُ الزَّيْلَعِيُّ قَوْلَ السُّهَيْلِيِّ السَّابِقِ لَكِنْ كَمَا قَالَ(2/303)
الْمُصَنِّفُ ( وَفِي صِحَّتِهِ ) أَيْ هَذَا الْمَرْوِيِّ ( بُعْدٌ ) مِنْ جِهَةِ الدِّرَايَةِ , وَإِنْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ وَالْوَاحِدِيُّ بِلَفْظِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَهَذَا لِآلِهَتِنَا أَوْ لِكُلِّ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَالَ أَلَسْت تَزْعُمُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عِبَادٌ صَالِحُونَ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدٌ صَالِحٌ وَأَنَّ عُزَيْرًا عَبْدٌ صَالِحٌ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَهَذِهِ النَّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى , وَهَذِهِ الْيَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْرًا وَقَدْ عَبَدْت الْمَلَائِكَةُ قَالَ فَضَجَّ أَهْلُ مَكَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } الْآيَةَ وَقَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ : حَدِيثٌ حَسَنٌ انْتَهَى . فَإِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مُنْكَرَةٌ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ قَاضٍ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا بِجَرِيمَةٍ صَادِرَةٍ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَدْعُ إلَيْهَا وَلَا رَضِيَ بِهَا فَكَيْفَ يُصَرِّحُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَا يُنَافِيهِ وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا يُعَدُّ مِنْ الِانْقِطَاعِ الْبَاطِنِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ فَالْوَجْهُ هُوَ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ . ( قَالُوا فِيهِ ) أَيْ فِي نَسْخِ الْخَاصِّ الْمُتَقَدِّمِ بِالْعَامِّ الْمُتَأَخِّرِ ( إبْطَالُ الْقَاطِعِ بِالْمُحْتَمَلِ ) , وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فَيَتَعَيَّنُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِهِ ( قُلْنَا ) هَذَا ( مَبْنِيٌّ عَلَى ظَنِّيَّةِ دَلَالَةِ الْعَامِّ , وَهُوَ ) أَيْ وَكَوْنُهُ ظَنِّيَّ الدَّلَالَةِ ( مَمْنُوعٌ ) بَلْ هُوَ قَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَكُونُ فِيهِ إلَّا إبْطَالُ الْقَاطِعِ بِالْقَاطِعِ وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ ( وَلَوْ سُلِّمَ ) أَنَّ الْعَامَّ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ ( فَلَا مُخَصِّصَ فِي الشَّرْعِ بِخَاصٍّ ) مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ( بِالِاسْتِقْرَاءِ بَلْ بِعَامٍّ خُصُوصُهُ بِالنِّسْبَةِ ) إلَى مَا هُوَ مُخَصَّصٌ بِهِ ( كَلَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ ) أَيْ كَمَا لَوْ قَالَ الشَّارِعُ هَذَا مَعَ قوله تعالى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } أَوْ مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } فَإِنَّ ذَاكَ عَامٌّ فِي نَفْسِهِ خَاصٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ , وَإِنَّمَا قُلْت كَمَا لَوْ قَالَ الشَّارِعُ هَذَا ; لِأَنَّهُ بِعَيْنِهِ لَا يَحْضُرُنِي عَنْهُ بَلْ مَعْنَاهُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم { أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَفِي آثَارِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ النِّسَاءُ إذَا هُنَّ ارْتَدَدْنَ لَا يُقْتَلْنَ وَلَكِنْ يُحْبَسْنَ وَيُدْعَيْنَ إلَى الْإِسْلَامِ وَيُجْبَرْنَ عَلَيْهِ ( وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ } { وَالْمُحْصَنَاتُ } ) فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَامٌّ فِي نَفْسِهِ خَاصٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا هُوَ مُخَصَّصٌ بِهِ عَلَى قَوْلِهِمْ ( فَاللَّازِمُ إبْطَالُ ظَنِّيٍّ بِظَنِّيٍّ ) وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ , هَذَا وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْبَدِيعِ وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ الِاسْتِقْلَالَ مَعَ الِاتِّصَالِ فِي أَوَّلِ مُخَصِّصٍ , وَالْفَرْقُ أَنَّ غَيْرَ الْمُسْتَقِلِّ إذَا كَانَ مَعْلُومًا فَالْعَامُّ فِيمَا وَرَاءَهُ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ لِعَدَمِ قَبُولِ التَّعْلِيلِ ; وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي , وَهُوَ مَعْلُومُ الْعُمُومِ بِخِلَافِ الْمُسْتَقِلِّ الْمُتَّصِلِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْعَامِّ مِنْ الْقَطْعِ إلَى الِاحْتِمَالِ لِشَبَهِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ حُكْمًا وَبِالنَّاسِخِ صِيغَةً , فَقَالَ الْمُصَنِّفُ بِنَاءً عَلَى ظَنِّ إفَادَةِ هَذَا : إنَّ الْمُوجِبَ لِظَنِّيَّةِ الْعَامِّ إذَا كَانَ مُخَصِّصًا عِنْدَ الْقَائِلِ بِقَطْعِيَّتِهِ قَبْلَ التَّخْصِيصِ إنَّمَا هُوَ كَوْنُ الْمُخَصِّصِ مُسْتَقِلًّا .
===============
( مَسْأَلَةٌ حَمْلُ الصَّحَابِيِّ مَرْوِيَّهُ الْمُشْتَرَكَ )(1)
__________
(1) -التقرير والتحبير - (ج 4 / ص 269)(2/304)
لَفْظًا أَوْ مَعْنًى ( وَنَحْوَهُ ) كَالْمُجْمَلِ وَالْمُشْكِلِ وَالْخَفِيِّ ( عَلَى أَحَدٍ مَا يَحْتَمِلُهُ ) مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْحَمْلُ الْمَذْكُورُ ( تَأْوِيلُهُ ) أَيْ الصَّحَابِيِّ لِذَلِكَ ( وَاجِبُ الْقَبُولِ ) عِنْدَ الْجُمْهُورِ ( خِلَافًا لِمَشْهُورِي الْحَنَفِيَّةِ ) وَوَجَبَ الْقَبُولُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ( لِظُهُورِ أَنَّهُ ) أَيْ حَمْلَهُ الْمَذْكُورَ ( لِمُوجِبٍ هُوَ بِهِ أَعْلَمُ ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ بِاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ لِقَصْدِ التَّشْرِيعِ إلَّا وَمَعَهُ قَرِينَةٌ حَالِيَّةٌ أَوْ مَقَالِيَّةٌ مُعَيَّنَةً مُرَادُهُ وَالصَّحَابِيُّ الرَّاوِي الْحَاضِرُ لِمَقَالِهِ الشَّاهِدُ لِأَحْوَالِهِ أَعْرَفُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ ( وَهُوَ ) أَيْ وُجُوبُ قَبُولِ تَأْوِيلِهِ ( مِثْلُ تَقْلِيدِهِ فِي اللَّازِمِ ) يَعْنِيَ لَازِمَ وُجُوبِ تَقْلِيدِهِ فِي حُكْمِهِ بِالْحُكْمِ وَلَازِمُ وُجُوبِ الرُّجُوعِ إلَى تَأْوِيلِهِ وَاحِدٌ فَالْفَرْقُ بِلَا فَارِقٍ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ اللَّازِمِ ظُهُورُ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ جَازَ خِلَافُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ غَالِبُ أَحْوَالِهِمْ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ خِلَافُهُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى ( وَ ) حَمْلُ الصَّحَابِيِّ مَرْوِيَّهُ ( الظَّاهِرَ عَلَى غَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ الظَّاهِرِ حُكْمُهُ مَا يُذْكَرُ : ( فَالْأَكْثَرُ ) مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ وَالْكَرْخِيُّ الْمَعْمُولُ بِهِ هُوَ ( الظَّاهِرُ ) دُونَ مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ الرَّاوِي مِنْ تَأْوِيلِهِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ كَيْفَ أَتْرُكُ الْحَدِيثَ لِقَوْلِ مَنْ لَوْ عَاصَرْته لَحَاجَجْته ) أَيْ الصَّحَابِيَّ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَقِيلَ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا عَيَّنَهُ الرَّاوِي وَفِي شَرْحِ الْبَدِيعِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا انْتَهَى وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إنْ عَلِمَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إنَّمَا صَارَ إلَى تَأْوِيلِهِ الْمَذْكُورِ لِعِلْمِهِ بِقَصْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ جَهِلَ أَنَّهُ لِذَلِكَ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِدَلِيلٍ ظَهَرَ لَهُ مِنْ نَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِمَا وَجَبَ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ الدَّلِيلِ فَإِنْ اقْتَضَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صِيرَ إلَيْهِ وَإِلَّا وَجَبَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دُونَ تَأْوِيلِ الصَّحَابِيِّ وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ مَأْخَذَ الرَّاوِي فِي الْمُخَالَفَةِ وَكَانَ الْمَأْخَذُ مِمَّا يُوجِبُ حَمْلَ الْخَبَرِ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْمَلِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ اتِّبَاعًا لِذَلِكَ الدَّلِيلِ لَا لِحَمْلِ الرَّاوِي عَلَيْهِ وَعَمَلِهِ بِهِ لِأَنَّ عَمَلَ أَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْبَاقِي وَإِنْ جَهِلَ مَأْخَذَهُ عَمِلَ بِالظَّاهِرِ لِأَنَّ الرَّاوِيَ عَدْلٌ وَقَدْ جَزَمَ بِالرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْأَصْلُ فِي خَبَرِ الْعَدْلِ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْهُ يُوجِبُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ إذْ كَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ مُرَادُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِنِسْيَانٍ طَرَأَ عَلَيْهِ أَوْ لِدَلِيلٍ اجْتَهَدَ فِيهِ وَهُوَ مُخْطِئٌ فَلَا يَتْرُكُ الظَّاهِرَ بِالشَّكِّ أَثِمَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا يَفْسُقُ الرَّاوِي بَلْ تَبْقَى رِوَايَتُهُ مَقْبُولَةً فِي هَذَا الْخَبَرِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ بِاجْتِهَادِهِ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَا فِسْقَ بِإِتْيَانِ الْوَاجِبِ فَإِنْ قِيلَ مُخَالَفَةُ الظَّاهِرِ حَرَامٌ فَكَيْفَ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى خِلَافِهِ كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ ( قُلْنَا لَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ ) أَيْ الصَّحَابِيِّ الرَّاوِي ( تَحْرِيمُ تَرْكِ الظَّاهِرِ إلَّا لِمَا يُوجِبُهُ ) أَيْ تَرْكَهُ ( فَلَوْلَا تَيَقُّنُهُ ) أَيْ الرَّاوِي ( بِهِ ) أَيْ بِمَا يُوجِبُ تَرْكَهُ ( لَمْ يَتْرُكْهُ وَلَوْ سُلِّمَ ) انْتِفَاءُ تَيَقُّنِهِ بِهِ ( فَلَوْلَا أَغْلَبِيَّتُهُ ) أَيْ أَغْلَبِيَّةُ الظَّنِّ بِمَا يُوجِبُ تَرْكَهُ لَمْ يَتْرُكْهُ ( وَلَوْ سُلِّمَ ) انْتِفَاءُ أَغْلَبِيَّةِ الظَّنِّ بَلْ إنَّمَا ظَنَّ ذَلِكَ ظَنًّا لَا غَيْرُ ( فَشُهُودُهُ ) أَيْ الرَّاوِي ( مَا هُنَاكَ ) أَيْ لِحَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَقَالِهِ ( يُرَجِّحُ ظَنَّهُ ) بِالْمُرَادِ لِقِيَامِ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ عِنْدَهُ بِذَلِكَ ( فَيَجِبُ الرَّاجِحُ وَبِهِ ) أَيْ وَبِشُهُودِهِ ذَلِكَ ( يَنْدَفِعُ تَجْوِيزُ خَطَئِهِ بِظَنِّ مَا لَيْسَ دَلِيلًا دَلِيلًا ) فَإِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْهُ ذَلِكَ مَعَ عَدَالَتِهِ وَعِلْمِهِ بِالْمَوْضُوعَاتِ اللُّغَوِيَّةِ وَمَوَاقِعِ اسْتِعْمَالِهَا وَحَالَةِ مَنْ صَدَرَ عَنْهُ ذَلِكَ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ الدَّلِيلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْجَبَ ذَلِكَ وَقَدْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ ( وَمِنْهُ ) أَيْ تَرْكِ الظَّاهِرِ لِدَلِيلٍ(2/305)
( لَا مِنْ الْعَمَلِ بِبَعْضِ الْمُحْتَمَلَاتِ تَخْصِيصُ الْعَامِّ ) مِنْ الصَّحَابِيِّ ( يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى سَمَاعِ الْمُخَصِّصِ كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ) مَرْفُوعًا ( { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ ( وَأَسْنَدَ أَبُو حَنِيفَةَ ) عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ ( عَنْهُ ) أَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا مَعْنَاهُ ( لَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ ) إذْ لَفْظُهُ لَا تُقْتَلُ النِّسَاءُ إذَا هُنَّ ارْتَدَدْنَ عَنْ الْإِسْلَامِ لَكِنْ يُحْبَسْنَ وَيُدْعَيْنَ إلَى الْإِسْلَامِ وَيُجْبَرْنَ عَلَيْهِ ( فَلَزِمَ ) تَخْصِيصُهُ الْمُبَدَّلَ بِكَوْنِهِ مِنْ الرِّجَالِ لِسَمَاعِهِ مُخَصَّصًا لَهُ وَهُوَ إمَّا { نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ } كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَإِمَّا سَمَاعُهُ خُصُوصَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَا تُقْتَلْ الْمُرْتَدَّةُ إذَا ارْتَدَّتْ } وَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْسٍ الْجَزَرِيُّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ كَذَّابٌ يَضَعُ الْحَدِيثَ أَوْ ثُبُوتُ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِوَجْهٍ غَيْرِ سَمَاعِهِ نَفْسِهِ لَهُ فَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ هَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا ( خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ) وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فَقَالُوا يُقْتَلُ عَمَلًا بِالْعُمُومِ الظَّاهِرِ ( فَلَوْ كَانَ ) الْمَرْوِيُّ ( مُفَسَّرًا وَتُسَمِّيهِ الشَّافِعِيَّةُ نَصًّا عَلَى مَا سَلَفَ ) فِي التَّقْسِيمِ الثَّانِي لِلْمُفْرَدِ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ أَوَائِلَ الْكِتَابِ ( وَتَرْكُهُ ) أَيْ الصَّحَابِيِّ ( بَعْدَ رِوَايَتِهِ لَا إنْ لَمْ يُعْرَفْ تَارِيخٌ ) لِتَرْكِهِ وَرِوَايَتِهِ لَهُ ( تَعَيَّنَ كَوْنُ تَرْكِهِ لِعَمَلِهِ بِالنَّاسِخِ ) لِأَنَّهُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُخَالِفَ النَّصَّ بِغَيْرِ دَلِيلٍ , وَلَا وَجْهَ لِمُخَالَفَتِهِ لَهُ سِوَى اطِّلَاعِهِ عَلَى نَاسِخٍ لَهُ فَيَتَعَيَّنُ . ( فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ ) فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ( وَبِهِ ) أَيْ كَوْنِ تَرْكِ الرَّاوِي الْمَرْوِيَّ الْمُفَسَّرَ وَعَمَلِهِ بِخِلَافِهِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ لَهُ إنَّمَا يَكُونُ لِعِلْمِهِ بِالنَّاسِخِ ( يَتَبَيَّنُ نَسْخُ حَدِيثُ السَّبْعِ مِنْ الْوُلُوغِ ) أَيْ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ } ( إذْ صَحَّ اكْتِفَاءً ) رِوَايَةُ ( أَبِي هُرَيْرَةَ بِالثَّلَاثِ ) كَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ ( فَيَقْوَى بِهِ ) أَيْ بِاكْتِفَائِهِ بِالثَّلَاثِ ( حَدِيثُ اغْسِلُوهُ ثَلَاثًا وَمِمَّنْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ ) وَلَكِنْ لَفْظُهُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي { الْكَلْبِ يَلَغُ فِي الْإِنَاءِ يُغْسَلُ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا } ثُمَّ قَالَ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ إسْمَاعِيلَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ ثُمَّ إنَّمَا يَقْوَى بِهِ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا ( لِمُوَافَقَتِهِ الدَّلِيلَ ) كَأَنَّهُ يُرِيدُ الدَّلِيلَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى ذِكْرِ الثَّلَاثِ فِي تَطْهِيرِ النَّجَاسَةِ ( وَلَا خَفَاءَ فِي عَدَمِ اعْتِبَارِ الضَّعْفِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فِي مُسَمَّاهُ ) أَيْ الضَّعِيفِ ( بَلْ ) إنَّمَا يُعْتَبَرُ ( ظَاهِرًا فَإِذَا اعْتَضَدَ ) الضَّعِيفُ بِمُؤَيِّدٍ لَهُ ( ظَهَرَ أَنَّ مَا ظَهَرَ غَيْرُ الْوَاقِعِ كَمَا يَضْعُفُ ظَاهِرُ الصِّحَّةِ بِعِلَّةٍ بَاطِنَةٍ وَاحْتِمَالُ ظَنِّ الصَّحَابِيِّ مَا لَيْسَ نَاسِخًا نَاسِخًا لَا يَخْفَى بُعْدُهُ فَوَجَبَ نَفْيُهُ ) أَيْ هَذَا الِاحْتِمَالِ لِانْتِفَاءِ الدَّلِيلِ الْمُلْجِئِ إلَى اعْتِبَارِهِ ( قَالُوا النَّصُّ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ قُلْنَا نَعَمْ وَهُوَ النَّاسِخُ الَّذِي لِأَجْلِهِ تَرَكَ ) الْمَرْوِيُّ الْمُفَسَّرُ لَا نَفْسُ الْمُفَسِّرِ ( وَمِنْهُ ) أَيْ تَرْكِ الصَّحَابِيِّ مَرْوِيَّهُ بَعْدَ رِوَايَتِهِ لَهُ حَتَّى يَكُونَ تَرْكُهُ نَسْخًا لِمَرْوِيِّهِ ( تَرْكُ ابْنِ عُمَرَ الرَّفْعَ ) لِلْيَدَيْنِ فِيمَا عَدَا تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ مِنْ الصَّلَاةِ ( عَلَى مَا صَحَّ عَنْ مُجَاهِدٍ صَحِبْت ابْنَ عُمَرَ سِنِينَ فَلَمْ أَرَهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ ) أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِ مَا رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي أَوَّلِ مَا يَفْتَتِحُ وَالطَّحَاوِيُّ بِلَفْظِ صَلَّيْت خَلْفَ ابْنِ عُمَرَ فَلَمْ يَكُنْ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ مَا أَخْرَجَ السِّتَّةُ عَنْهُ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ كَبَّرَ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَإِذَا رَفَعَ مِنْ الرُّكُوعِ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ } وَإِنْ جُهِلَ تَارِيخُ الْمُخَالَفَةِ لِلْمَرْوِيِّ لَمْ يُرَدَّ بِهَا الْحَدِيثُ لِأَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ بِيَقِينٍ فِي الْأَصْلِ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي سُقُوطِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ وَحُمِلَتْ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ(2/306)
الرِّوَايَةِ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى أَحْسَنِ الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ وَقَدْ عُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ مُخَالَفَتُهُ قَبْلَ الرِّوَايَةِ بِيَقِينٍ لَا تَكُونُ مُخَالَفَتُهُ جَرْحًا فِي الْحَدِيثِ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْعَدْلِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْحُكْمُ الْمُخَالِفُ لِلْحَدِيثِ مَذْهَبًا لَهُ ثُمَّ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ أَنَّهُ يَتْرُكُ مَذْهَبَهُ وَيَرْجِعُ إلَى الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ .
==============(2/307)
( وَعَلَى قَبُولِهَا ) أَيْ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ هَلْ يَلْزَمُ الْمُعْتَرِضَ بَيَانُ أَنَّ وَصْفَهُ (1)
الَّذِي أَبْدَاهُ فِي الْأَصْلِ مُعَارَضًا مُنْتَفٍ فِي الْفَرْعِ فِيهِ أَقْوَالٌ فَأَحَدُهَا يَلْزَمُهُ لِيَنْفَعَهُ دَعْوَى التَّعْلِيلِ بِهِ إذْ لَوْلَاهُ لَمْ تَنْتَفِ الْعِلَّةُ فِي الْفَرْعِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ وَيَحْصُلُ مَطْلُوبُ الْمُسْتَدِلِّ فَثَانِيهَا لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّ غَرَضَهُ عَدَمُ اسْتِقْلَالِ مَا ادَّعَى الْمُسْتَدِلُّ اسْتِقْلَالَهُ وَهَذَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ إبْدَائِهِ ( فَثَالِثُهَا ) الَّذِي هُوَ ( الْمُخْتَارُ لَا يَلْزَمُ ) الْمُعْتَرِضَ ( بَيَانُ انْتِفَائِهِ ) أَيْ الْوَصْفِ الْمُبْدِي فِي الْأَصْلِ مُعَارِضًا ( عَنْ الْفَرْعِ إلَّا إنْ ذَكَرَهُ ) أَيْ الْمُعْتَرِضُ انْتِفَاءَهُ فِي الْفَرْعِ ( لِأَنَّ مَقْصُودَهُ ) أَيْ الْمُعْتَرِضِ ( لَمْ يَنْحَصِرْ فِي ضِدِّهِ ) أَيْ صَرْفِ الْمُسْتَدِلِّ ( عَنْ التَّعْلِيلِ ) بِذَلِكَ ( لِيَنْتَفِيَ لُزُومُهُ ) أَيْ بَيَانُ انْتِفَائِهِ ( مُطْلَقًا ) أَيْ ذَكَرَهُ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ كَمَا هُوَ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ( وَلَا نَفَى حُكْمَهُ ) أَيْ وَلَمْ يَنْحَصِرْ فِي نَفْيِ حُكْمِهِ ( فِي الْفَرْعِ لِيَلْزَمَ ) بَيَانُ انْتِفَائِهِ ( مُطْلَقًا ) أَيْ ذَكَرَهُ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ وَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي ( بَلْ قَدْ ) يَكُونُ مَقْصُودُ الْمُعْتَرِضِ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ . ( وَقَدْ ) يَكُونُ مَقْصُودُهُ الْأَمْرَ الثَّانِيَ ( فَإِذَا ادَّعَاهُ ) أَيْ الْمُعْتَرِضُ انْتِفَاءً كَأَنْ قَالَ هَذَا الْوَصْفُ الْآخَرُ الصَّالِحُ فِي الْأَصْلِ مُنْتَفٍ فِي الْفَرْعِ ( لَزِمَهُ ) أَيْ الْمُعْتَرِضَ ( إثْبَاتُهُ ) لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَمْرًا فَيَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِهِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً ثُمَّ هَلْ يَلْزَمُ الْمُعْتَرِضَ ذِكْرُ أَصْلٍ يُبَيِّنُ تَأْثِيرَ وَصْفِهِ الَّذِي أَبْدَاهُ فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ حَتَّى يُقْبَلَ مِنْهُ قِيلَ يَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ بِدُونِ الِاقْتِرَانِ لَا تَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَصْلٍ يَشْهَدُ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ ( وَ ) الْمُخْتَارُ ( لَا ) يَلْزَمُ الْمُعْتَرِضَ ( ذِكْرُهُ أَصْلًا لَوَصْفِهِ ) الَّذِي أَبْدَاهُ فِي الْأَصْلِ يُبَيِّنُ تَأْثِيرَهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ ( كَمُعَارَضَةِ الِاقْتِيَاتِ بِالطُّعْمِ ) أَيْ كَأَنْ يَقُولَ الْعِلَّةُ الطُّعْمُ لَا الْقُوتُ ( كَمَا فِي الْمِلْحِ ) فَإِنَّهُ طُعْمٌ وَلَيْسَ بِقُوتٍ وَقَدْ أَثَّرَ فِيهِ حَيْثُ جُعِلَ مِنْ الرِّبَوِيَّاتِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمُعْتَرِضَ ( لَمْ يَدَعْهُ ) أَيْ كَوْنَ وَصْفِهِ عِلَّةً حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ ( إنَّمَا جَوَّزَ مَا ذَكَرَ ) مِنْ كَوْنِ وَصْفِهِ عِلَّةً أَوْ جُزْأَهَا ( لِيَلْزَمَ ) الْمُسْتَدِلَّ ( التَّحَكُّمُ ) عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ عِلَّةً دُونَ وَصْفِهِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الصُّلُوحِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ فِي الْوُجُودِ ( وَأَيْضًا يَكْفِيهِ ) أَيْ الْمُعْتَرِضَ فِي وَصْفِهِ الْمُبْدِي ( أَصْلُ الْمُسْتَدِلِّ ) إذْ أَصْلُ الْمُسْتَدِلِّ أَصْلُهُ إذْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ وَصْفِهِ فِيهِ وَإِلَّا لَمْ يُعَارَضْ ( فَيَقُولُ ) الْمُعْتَرِضُ ( جَازَ الطُّعْمُ أَوْ الْكَيْلُ أَوْ هُمَا ) عِلَّةً ( كَمَا فِي الْبُرِّ بِعَيْنِهِ وَجَوَابُهَا ) أَيْ الْمُعَارَضَةِ مِنْ الْمُسْتَدِلِّ ( عَلَى الْقَبُولِ بِمَنْعِ وُجُودِهِ ) أَيْ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ فِي الْأَصْلِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمْ أَنَّهُ مَكِيلٌ فِي زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ . ( أَوْ ) مَنْعِ ( تَأْثِيرِهِ ) أَيْ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ ( إنْ كَانَ ) وَصْفُ الْمُسْتَدِلِّ أَيْ عِلِّيَّتُهُ ( لَمْ يُثْبِتْهُ الْمُسْتَدِلُّ أَوْ أَثْبَتَهُ ) الْمُسْتَدِلُّ ( بِمَا ) أَيْ بِأَيِّ طَرِيقٍ ( كَانَ وَتَقْيِيدُ سَمَاعِهِ ) أَيْ هَذَا السُّؤَالِ وَهُوَ مُطَالَبَةُ الْمُسْتَدِلِّ الْمُعْتَرِضِ بِتَأْثِيرِ وَصْفِ الْمُعْتَرِضِ ( مِنْ الْمُسْتَدِلِّ بِمَا إذَا كَانَ الْمُسْتَدِلُّ أَثْبَتَ وَصْفَهُ ) أَيْ عِلِّيَّتَهُ ( بِالْمُنَاسَبَةِ وَنَحْوِهَا ) أَيْ بِالشُّبْهَةِ لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ إذَا لَمْ تُعَارَضْ بِمُنَاسَبَةٍ أُخْرَى ( لَا ) إذَا أَثْبَتَ وَصْفَهُ ( بِالسَّبْرِ وَنَحْوِهِ ) لِأَنَّ الْوَصْفَ يَدْخُلُ فِي السَّبْرِ بِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ كَوْنِهِ مُنَاسِبًا وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ الْمُنَاسَبَةُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ أَوْ إلَى الْخَارِجِ عَلَى مَا يَعُمُّ الشَّبَهَ فَتَتِمُّ الْمُعَارَضَةُ بِمُجَرَّدِ إبْدَاءِ وَصْفٍ آخَرَ مُحْتَمِلٌ لِلْعِلِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ مُنَاسَبَتُهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ ( تَحَكُّمٌ لِأَنَّ ذَاكَ ) الْمُثْبَتَ بِمَا كَانَ مِنْ الطَّرِيقِ ( وَصْفُهُ ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ ( وَهَذَا ) الْمُبْدِي وَصْفٌ ( آخَرُ مُجَوَّزٌ ) أَيْ جَوَّزَهُ الْمُعْتَرِضُ وَقَدْ ( دَفَعَهُ ) الْمُسْتَدِلُّ ( بِعَدَمِ التَّأْثِيرِ وَهُوَ ) أَيْ عَدَمُ التَّأْثِيرِ ( عَدَمُ الْمُنَاسَبَةِ عِنْدَهُمْ ) أَيْ الشَّافِعِيَّةِ ( فَيَجِبُ
__________
(1) -التقرير والتحبير - (ج 6 / ص 75)(2/308)
إثْبَاتُهُ ) عَلَى الْمُعْتَرِضِ بِمَا شَاءَ ( فَبِالْمُنَاسَبَةِ ظَاهِرٌ وَكَذَا بِالسَّبْرِ لِأَنَّ مَا أَفَادَ الْعِلِّيَّةَ أَفَادَ الْمُنَاسَبَةَ إذْ هِيَ ) أَيْ الْمُنَاسَبَةُ ( لَازِمُ الْعِلَّةِ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ ) فَمَا أَفَادَهَا أَفَادَهَا ( لَكِنْ لَا يَلْزَمُ إبْدَاؤُهَا ) أَيْ الْمُنَاسَبَةِ ( فِي السَّبْرِ وَنَحْوِهِ وَلِذَا ) أَيْ عَدَمِ لُزُومِ إبْدَائِهَا فِيهِ ( عُورِضَ الْمُسْتَبْقَى فِيهِ ) أَيْ السَّبْرُ ( لِعَدَمِهَا ) أَيْ الْمُنَاسَبَةِ ( وَقِيلَ الْمَعْنَى ) لِلْمُسْتَدِلِّ مُطَالَبَةُ الْمُعْتَرِضِ بِكَوْنِ وَصْفِهِ مُؤَثِّرًا ( إذَا كَانَ الْمُعْتَرِضُ أَثْبَتَهُ بِالْمُنَاسَبَةِ ) كَمَا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ شَارِحِي مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ ( وَهُوَ خَبْطٌ إذْ بِفَرْضِ إثْبَاتِهِ ) أَيْ الْمُعْتَرِضِ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةً ( بِهَا ) أَيْ بِالْمُنَاسَبَةِ ( كَيْفَ يَمْنَعُ ) الْمُسْتَدِلُّ ( التَّأْثِيرَ وَهُوَ ) أَيْ التَّأْثِيرُ ( هِيَ ) أَيْ الْمُنَاسَبَةُ ( إذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ ) أَيْ التَّأْثِيرِ ( عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ ) أَيْ الشَّافِعِيَّةِ ( فِيهِ ) أَيْ فِي التَّأْثِيرِ ( وَهُوَ كَوْنُ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ إذْ لَا يَتَعَيَّنُ ) إثْبَاتُ الْمُعْتَرِضِ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةً بِهَذَا ( عَلَيْهِ ) أَيْ الْمُعْتَرِضِ ( بَعْدَ إثْبَاتِهِ ) أَيْ الْمُعْتَرِضِ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةً ( بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ هِيَ الْمُنَاسَبَةُ بِالْفَرْضِ نَعَمْ ) يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ إثْبَاتُهُ بِالتَّأْثِيرِ ( لَوْ كَانَ الْمُعْتَرِضُ حَنَفِيًّا فَإِنَّ الْمُنَاسَبَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الِاعْتِبَارَ عِنْدَهُمْ ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ ( فَالتَّأْثِيرُ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ مَعَ الْمُنَاسَبَةِ وَهُوَ ) أَيْ التَّأْثِيرُ عِنْدَهُمْ ( إنْ ثَبَتَ اعْتِبَارُ جِنْسِ الْمُنَاسَبَةِ إلَى آخِرِ الْأَقْسَامِ ) الْمَاضِيَةِ فِي بَحْثِ التَّأْثِيرِ . ( وَلَا يَصِحُّ ) مِمَّنْ أَثْبَتَ وَصْفَهُ بِالسَّبْرِ مُسْتَدِلًّا كَانَ أَوْ مُعْتَرِضًا التَّرْجِيحُ ( بِتَرْجِيحِ السَّبْرِ ) عَلَى الْمُنَاسَبَةِ ( لِتَعَرُّضِهِ ) أَيْ لِأَجْلِ تَعَرُّضِ السَّبْرِ ( لِنَفْيِ غَيْرِهِ وَ ) لَا ( بِكَثْرَةِ الْفَائِدَةِ ) وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ ( لِأَنَّ ذَلِكَ ) أَيْ تَعَرُّضَهُ لِنَفْيٍ غَيْرِهِ إنَّمَا يَكُونُ مُرَجَّحًا ( بَعْدَ ظُهُورِ شَرْطِهِ ) أَيْ السَّبْرِ وَهُوَ مُنَاسَبَةُ الْمُسْتَبْقَى لِأَنَّ شَرْطَ كُلِّ عِلَّةٍ مُنَاسَبَتُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ إظْهَارُهَا عَلَى الْمُعَلِّلِ فِي كُلِّ إثْبَاتٍ لِأَنَّ بَعْضَ طُرُقِ الْعِلَّةِ لَا تَتَعَرَّضُ لِذَلِكَ كَالسَّبْرِ ( أَوْ عَدَمِ ظُهُورِ عَدَمِهِ ) أَيْ الشَّرْطِ وَهُوَ مُنْتَفٍ هُنَا ( أَمَّا مَعَ ظُهُورِهِ ) أَيْ عَدَمِ الشَّرْطِ كَمَا إذَا قَالَ الْمُعْتَرِضُ الْمُسْتَبْقَى أَيْضًا غَيْرَ مُنَاسِبٍ فِيمَا إذَا أَبْدَى وَصْفًا آخَرَ لِيُبْطِلَ الْحَصْرَ فَقَالَ الْمُعَلِّلُ هَذَا لَمْ أُدْخِلْهُ فِي سَبْرِي لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ ( فَلَا ) يَتَرَجَّحُ السَّبْرُ ( إذْ لَا يُفِيدُ ) السَّبْرُ ( مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ ) أَيْ الْمُنَاسَبَةِ ( وَهُوَ ) أَيْ عَدَمُ الشَّرْطِ هُوَ ( الْمُعْتَرَضُ بِهِ ) لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ عَارَضَ ظُهُورَ مُنَاسَبَةِ الْمُسْتَبْقَى عِنْدَهُ بِظُهُورِ عَدَمِ مُنَاسَبَةِ الْمُسْتَبْقَى عِنْدَهُ ( أَوْ بَيَانِ خَفَائِهِ ) أَيْ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ فَهُوَ مَجْرُورٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَنْعِ وُجُودِهِ أَوْ تَأْثِيرِهِ . وَكَذَا ( أَوْ عَدَمِ انْضِبَاطِهِ أَوْ مَنْعِ ظُهُورِهِ أَوْ ) مَنْعِ ( انْضِبَاطِهِ ) أَوْ كُلٍّ مِنْهَا عُطِفَ عَلَى مَا يَلِيهِ إذْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ أَجْوِبَةِ الْمُعَارَضَةِ لِمَا عُلِمَ فِي شُرُوطِ الْعِلَّةِ اشْتِرَاطُ الظُّهُورِ وَالِانْضِبَاطِ فِي الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ بِهِ فَلَا بُدَّ فِي دَعْوَى صُلُوحِ الْوَصْفِ عِلَّةً مِنْ بَيَانِهِمَا وَالصَّادِرُ عَنْهُمَا إنْ تَبَيَّنَ عَدَمُهَا وَأَنْ يُطَالِبَ بِبَيَانِ وُجُودِهِمَا ( أَوْ أَنَّهُ ) أَيْ الْوَصْفَ الْمُعَارَضَ بِهِ لَيْسَ وَصْفًا وُجُودِيًّا بَلْ هُوَ ( عَدَمُ مُعَارِضٍ فِي الْفَرْعِ ) وَالْعَدَمُ لَا يَكُونُ عِلَّةً وَلَا جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ فِي الْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ ( كَالْمُكْرَهِ ) أَيْ كَقِيَاسِ الْقَاتِلِ الْمُضْطَرِّ إلَى الْقَتْلِ ( عَلَى الْمُخْتَارِ ) أَيْ الْقَاتِلِ بِاخْتِيَارِهِ ( فِي ) وُجُوبِ ( الْقِصَاصِ بِجَامِعِ الْقَتْلِ فَيُعَارَضُ بِأَنَّهَا ) أَيْ الْعِلَّةَ ( هُوَ ) أَيْ الْقَتْلُ ( مَعَ الطَّوَاعِيَةِ ) فَإِنَّهَا مُنَاسِبَةٌ لِإِيجَابِ الْقِصَاصِ فَلَا تَكُونُ الْعِلَّةُ الْقَتْلَ الْعَمْدَ الْعُدْوَانَ فَقَطْ بَلْ بِقَيْدِ الِاخْتِيَارِ ( فَيُجِيبُ ) الْمُسْتَدِلُّ ( بِأَنَّهَا ) أَيْ الطَّوَاعِيَةَ ( عَدَمُ الْإِكْرَاهِ لَا الْإِكْرَاهُ الْمُنَاسِبُ لِنَقِيضِ الْحُكْمِ ) أَيْ عَدَمُ الْقِصَاصِ وَعَدَمُ الْإِكْرَاهِ عَدَمُ الْمَانِعِ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ لَا يُسْنَدُ الْحُكْمُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْبَاعِثِ فِي شَيْءٍ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَجْوِبَةِ الْمُعَارَضَةِ كَقَوْلِهِ ( أَوْ بِإِلْغَائِهِ ) أَيْ كَوْنِ(2/309)
الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ مُلْغًى إمَّا مُطْلَقًا فِي جِنْسِ الْأَحْكَامِ كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ أَوْ فِي الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ بِهِ كَالذُّكُورَةِ فِي الْعِتْقِ ( بِاسْتِقْلَالِ وَصْفِهِ ) أَيْ بِسَبَبِ اسْتِقْلَالِ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ بِالْعِلِّيَّةِ ( بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ كَ { لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ } وَقَدَّمْنَا فِي مَبَاحِثِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَخْرَجَهُ بِمَعْنَاهُ ( فِي مُعَارَضَةِ الطُّعْمِ ) أَيْ كَجَوَابِ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الطُّعْمُ لِمُعْتَرِضِهِ بِمُعَارَضَتِهِ ( بِالْكَيْلِ ) بِأَنَّ النَّصَّ دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ الطُّعْمِ فِي صُورَةٍ مَا وَهُوَ هَذَا الْحَدِيثُ فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْحُكْمِ مُرَتَّبًا عَلَى وَصْفٍ يُشْعِرُ بِالْعِلِّيَّةِ ( { وَمَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } ) كَمَا هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ . ( عِنْدَ مُعَارَضَةِ مُطْلِقِهِ ) أَيْ التَّبْدِيلِ ( بِتَبْدِيلِ الْإِيمَانِ بِالْكُفْرِ ) أَيْ وَكَجَوَابِ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى قَتْلِ الْيَهُودِيِّ إذَا تَنَصَّرَ وَالنَّصْرَانِيِّ إذَا تَهَوَّدَ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ كَالْمُرْتَدِّ لِتَبْدِيلِهِ دِينَهُ لِمُعْتَرِضِهِ بِمُعَارَضَتِهِ لِوَصْفِهِ الَّذِي هُوَ مُطْلَقُ التَّبْدِيلِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ تَبْدِيلُ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ بِأَنَّ التَّبْدِيلَ مُعْتَبَرٌ فِي صُورَةٍ مَا لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ ( وَلَوْ قَالَ ) الْمُسْتَدِلُّ ( عَمَّ ) الْحَدِيثُ ( فِي كُلِّ تَبْدِيلٍ ) سَوَاءٌ كَانَ تَبْدِيلَ دِينِ حَقٍّ بِبَاطِلٍ أَوْ بَاطِلٍ بِبَاطِلٍ ( كَانَ ) هَذَا الْقَوْلُ ( شَيْئًا آخَرَ ) أَيْ إثْبَاتًا لِلْحُكْمِ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ وَالْمَقْصُودُ إثْبَاتُهُ بِهِ بَلْ وَيَكُونُ الْقِيَاسُ حِينَئِذٍ ضَائِعًا وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ هَذَا نَعَمْ لَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُ عَامًّا إذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّعْمِيمِ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِهِ ( وَلَيْسَ مِنْهُ ) أَيْ الْإِلْغَاءِ الْمَقْبُولِ ( انْفِرَادُ الْحُكْمِ عَنْهُ ) أَيْ الْوَصْفِ الْمُبْدِي لِلْمُعْتَرِضِ ( لِعَدَمِ ) اشْتِرَاطِ ( الْعَكْسِ ) فِي الْعِلَّةِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ ( لَكِنْ يَتِمُّ اسْتِقْلَالُ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ ) لِكَوْنِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِدُونِ الْوَصْفِ عَدَمُ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ وَكَوْنُهُ لَغْوًا ( وَلِكَوْنِهِ ) أَيْ انْفِرَادِ الْحُكْمِ عَنْهُ ( لَيْسَ إلْغَاءً لَا يُفِيدُ ) الْمُسْتَدِلَّ فِي تَمَامِ إلْغَاءِ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ فِي صُورَةِ عَدَمِهِ ( إبْدَاءُ الْخَلَفِ ) أَيْ وَصْفٍ آخَرَ يَخْلُفُ الْوَصْفَ الْمُبْدَيْ أَوَّلًا الَّذِي أَلْغَاهُ الْمُسْتَدِلُّ ( مِنْ الْمُعْتَرِضِ ) لِئَلَّا يَكُونَ وَصْفُ الْمُسْتَدِلِّ مُسْتَقِلًّا وَإِنَّمَا لَا يُفِيدُ الْمُسْتَدِلُّ هَذَا تَمَامَ إلْغَائِهِ لِابْتِنَاءِ إلْغَاءِ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ عَلَى اسْتِقْلَالِ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ فِي صُورَةِ عَدَمِ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ وَقَدْ بَطَلَ اسْتِقْلَالُهُ بِإِبْدَاءِ الْمُعْتَرِضِ قَيْدًا آخَرَ يَنْضَمُّ إلَيْهِ فَيَبْطُلُ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ . ( وَهُوَ ) أَيْ فَسَادُ الْإِلْغَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ( تَعَدُّدُ الْوَضْعِ ) لِتَعَدُّدِ أَصْلَيْ الْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ أَوْرَدَهُمَا الْمُعْتَرِضُ وَصَيْرُورَتِهِ مُعَلَّلًا بِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى وَضْعٍ أَيْ مَعَ قَيْدٍ ( نَحْوُ ) أَنْ يُقَالَ فِي صِحَّةِ أَمَانِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ الْعَاقِلِ لِلْحَرْبِيِّ ( أَمَانٌ ) صَادِرٌ ( مِنْ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ فَيُقْبَلُ كَالْحُرِّ ) أَيْ كَأَمَانِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ الْعَاقِلِ لَهُ ( لِأَنَّهُمَا ) أَيْ الْإِسْلَامَ وَالْعَقْلَ ( مَظِنَّتَانِ لِلِاحْتِيَاطِ لِلْأَمَانِ ) أَيْ لِإِظْهَارِ مَصْلَحَةٍ بَدَلَ الْأَمَانِ ( فَيَعْتَرِضُ بِاعْتِبَارِ الْحُرِّيَّةِ مَعَهُمَا ) أَيْ الْإِسْلَامِ وَالْعَقْلِ ( لِأَنَّهَا ) أَيْ الْحُرِّيَّةَ ( مَظِنَّةُ التَّفَرُّغِ ) لِلنَّظَرِ فِي مَصْلَحَةِ الْأَمَانِ لِعَدَمِ اشْتِغَالِهِ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى ( فَنَظَرَهُ ) أَيْ الْحُرِّ ( أَكْمَلُ ) مِنْ نَظَرِ الْعَبْدِ ( فَيُلْغِيهَا ) أَيْ الْمُسْتَدِلُّ الْحُرِّيَّةَ ( بِالْمَأْذُونِ فِي الْقِتَالِ ) أَيْ بِاسْتِقْلَالِ الْإِسْلَامِ وَالْعَقْلِ بِالْأَمَانِ فِي الْعَبْدِ الَّذِي أَذِنَ سَيِّدُهُ لَهُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ فَإِنَّ لَهُ الْأَمَانَ بِالِاتِّفَاقِ ( فَيَقُولُ ) الْمُعْتَرِضُ ( الْإِذْنُ ) أَيْ إذْنُ السَّيِّدِ لَهُ فِي ذَلِكَ ( خَلَفَهَا ) أَيْ الْحُرِّيَّةَ ( لِدَلَالَتِهِ ) أَيْ إذْنِ السَّيِّدِ لَهُ فِي ذَلِكَ ( عَلَى عِلْمِ السَّيِّدِ بِصَلَاحِهِ ) لِإِظْهَارِ مَصَالِحِ الْأَمَانِ أَوْ قَامَ الْإِذْنُ مَقَامَ الْحُرِّيَّةِ فَإِنَّهُ مَظِنَّةٌ لِبَذْلِ الْوُسْعِ فِي النَّظَرِ ( فَالْبَاقِي ) أَيْ الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ ( عِلَّةٌ عَلَى وَضْعٍ أَيْ قَيْدِ الْحُرِّيَّةِ ) أَيْ هُمَا مَعَهَا ( وَآخَرَ ) أَيْ وَالْبَاقِي عِلَّةٌ أَيْضًا عَلَى وَضْعٍ آخَرَ وَهُوَ كَوْنُ الْإِسْلَامِ وَالْعَقْلِ مَعَ ( الْإِذْنِ وَجَوَابُهُ ) أَيْ تَعَدُّدِ الْوَضْعِ ( أَنْ يُلْغِيَ ) الْمُسْتَدِلُّ ذَلِكَ ( الْخَلْفَ(2/310)
بِصُورَةٍ لَيْسَ ) ذَلِكَ الْخَلْفُ ( فِيهَا فَإِنْ أَبْدَى ) الْمُعْتَرِضُ ( فِيهَا ) أَيْ الصُّورَةِ الْمُبْدَاةِ ( خَلَفًا ) آخَرَ ( فَكَذَلِكَ ) أَيْ فَجَوَابُهُ إلْغَاؤُهُ بِإِبْدَائِهِ صُورَةً أُخْرَى لَا يُوجَدُ فِيهَا ذَلِكَ الْخَلَفُ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا ( إلَى أَنْ يَقِفَ أَحَدُهُمَا ) إمَّا الْمُسْتَدِلُّ لِعَجْزِهِ عَنْ الْإِلْغَاءِ أَوْ الْمُعْتَرِضُ لِعَجْزِهِ عَنْ ثُبُوتِ عِوَضٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَظْهَرُ الرِّجَالُ وَيَتَبَيَّنُ فُرْسَانُ الْجِدَالِ . ( وَلَا يُلْغِي ) أَيْ وَلَا يُفِيدُ الْمُسْتَدِلُّ إلْغَاءَ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ فِي الْأَصْلِ ( بِضَعْفِ الْحِكْمَةِ إنْ سَلَّمَ ) الْمُسْتَدِلُّ ( الْمَظِنَّةَ ) أَيْ وُجُودَ الْمَظِنَّةِ الْمُتَضَمَّنَةِ لِتِلْكَ الْحِكْمَةِ ( كَالرِّدَّةِ عِلَّةُ الْقَتْلِ ) فِي قِيَاسِ الْمُرْتَدَّةِ عَلَى الْمُرْتَدِّ فِي وُجُوبِ الْقَتْلِ ( فَيُقَالُ ) مِنْ قِبَلِ الْمُعْتَرِضِ بَلْ ( مَعَ الرُّجُولِيَّةِ لِأَنَّهُ ) أَيْ كَوْنَ الْمُرْتَدِّ رَجُلًا ( الْمَظِنَّةُ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ) إذْ يُعْتَادُ ذَلِكَ مِنْ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ( فَيُلْغِيهِ ) أَيْ الْمُسْتَدِلُّ كَوْنَ الْمُرْتَدِّ رَجُلًا الْمَظِنَّةُ لِذَلِكَ ( بِمَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ ) لِضَعْفِ الرُّجُولِيَّةِ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ يُقْتَلُ اتِّفَاقًا إذَا ارْتَدَّ فَهَذَا ( لَا يُقْبَلُ ) مِنْ الْمُسْتَدِلِّ أَيْ لَا يَنْفَعُهُ ( بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِ الرُّجُولِيَّةِ مَظِنَّةً ) اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَيْهَا غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إلَى حِكْمَتِهَا كَسَفَرِ الْمَلِكِ الْمُرَفَّهِ لَا يَمْنَعُ الرُّخْصَ ( وَلَا يُفِيدُ تَرْجِيحُ الْمُسْتَدِلِّ وَصْفَهُ ) عَلَى وَصْفِ الْمُعْتَرِضِ ( بِشَيْءٍ ) مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ فِي جَوَابِ الْمُعَارَضَةِ خِلَافًا لِلْآمِدِيِّ ( لِأَنَّ الْمُفِيدَ ) فِي ذَلِكَ ( تَرْجِيحُ أَوْلَوِيَّةِ اسْتِقْلَالِ وَصْفِهِ ) أَيْ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ اسْتِقْلَالِ وَصْفِ الْمُعَارَضَةِ إذْ لَا تَعْلِيلَ بِالْمَرْجُوحِ مَعَ وُجُودِ الرَّاجِحِ ( وَهُوَ ) أَيْ تَرْجِيحُهَا ( مُنْتَفٍ مَعَ احْتِمَالِ الْجُزْئِيَّةِ ) أَيْ جُزْئِيَّةِ وَصْفِ الْمُعَارَضَةِ لِوَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ وَهُوَ بَاقٍ إذْ لَا يَمْتَنِعُ تَرْجِيحُ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ عَلَى بَعْضِ كَمَا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فَإِنَّ الْقَتْلَ أَقْوَى فِي الْعِلِّيَّةِ مِنْ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فَلَوْ قِيلَ بِاسْتِقْلَالِ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى وَصْفِ الْمُعَارَضَةِ كَانَ تَحَكُّمًا ( أَوْ يَدَّعِي ) أَيْ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ ( الْمُعْتَرِضُ اسْتِقْلَالَ وَصْفِهِ ) أَيْ وَصْفِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُفِيدُ تَرْجِيحَ وَصْفِ نَفْسِهِ . ( وَأَمَّا أَنَّ ) الْعِلَّةَ ( الْمُتَعَدِّيَةَ لَا تُرَجَّحُ ) عَلَى الْقَاصِرَةِ ( لِمُعَارَضَةِ مُوَافَقَةِ الْأَصْلِ ) أَيْ لِكَوْنِ الْقَاصِرَةِ مُعَارِضَةً لَهَا بِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِلْأَصْلِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْأَحْكَامِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عَضُدُ الدِّينِ ( فَلَا ) قَالَ الْمُصَنِّفُ أَيْ فَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّنَزُّلُ مِنْهُمْ بِعَدَمِ التَّرْجِيحِ لِأَجْلِ مُعَارَضَةِ الْأَصْلِ بَلْ يَكُونُ الْوَصْفُ الْمُسْتَقِلُّ الْمُتَعَدِّي مُرَجَّحًا عَلَى الْمُسْتَقِلِّ الْقَاصِرِ .
===============
وفي التاج والإكليل :(1)
( وَاسْتُتِيبَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَا جُوعٍ وَعَطَشٍ وَمُعَاقَبَةٍ مَا لَمْ يَتُبْ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ )
قَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } قَالَ مَالِكٌ : وَذَلِكَ فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَى غَيْرِهِ لَا مَنْ خَرَجَ مِنْ مِلَّةٍ سِوَاهُ إلَى غَيْرِهَا . وَجَاءَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَعَنْ غَيْرِهِ اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ ثَلَاثًا لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا } وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْلِ عُمَرَ : أَلَا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ رَغِيفًا فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ وَلَيْسَ بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ . قَالَ مَالِكٌ : وَإِذَا تَابَ الْمُرْتَدُّ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِيمَا صَنَعَ فِي ارْتِدَادِهِ . وَمِنْ ابْنِ شَاسٍ : ثُمَّ عَرْضُ التَّوْبَةِ عَلَى الْمُرْتَدِّ وَاجِبٌ وَالنَّصُّ أَنَّهُ يُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ . قَالَ مَالِكٌ : وَمَا عَلِمْت فِي اسْتِتَابَتِهِ تَعْطِيشًا وَلَا تَجْوِيعًا وَلَا عُقُوبَةً عَلَيْهِ إذَا تَابَ . ابْنُ الْحَاجِبِ إنْ لَمْ يُبَتَّ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ غَيْرُ الْفِرْيَةِ وَيُقْتَلُ . وَانْظُرْ قَبْلَ قَوْلِهِ : " لَا حَدَّ الْفِرْيَةِ إنْ أُخِذَ عَلَى ارْتِدَادِهِ لَمْ يُسْتَتَبْ إنْ حَارَبَ بِأَرْضِ الْكُفْرِ أَوْ بِأَرْضِ الْإِسْلَامِ " ( وَاسْتُبْرِئَتْ بِحَيْضَةٍ ) أَمَّا فِي حَدِّ الزِّنَا فَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ : " وَتُؤَخَّرُ الْمُتَزَوِّجَةُ لِحَيْضَةٍ " وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ : " وَالْحَامِلُ وَإِنْ بِجَرْحٍ مَخُوفٍ " مَا فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَأَنَّهَا لَا تُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الْحَمْلِ .
===================
__________
(1) - التاج والإكليل لمختصر خليل - (ج 12 / ص 51)(2/311)
وفي أسنى المطالب :(1)
( الرُّكْنُ الثَّانِي : الْقَتِيلُ وَشَرْطُهُ الْعِصْمَةُ )
بِإِيمَانٍ , أَوْ أَمَانٍ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } , وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } الْآيَةَ وقوله تعالى { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك } الْآيَةَ ( فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ ) مَعْصُومٌ ( بِغَيْرِ مَعْصُومٍ كَالْمُرْتَدِّ ) وَالْحَرْبِيِّ , وَلَوْ صَبِيًّا وَامْرَأَةً وَعَبْدًا , وَإِنَّمَا حَرُمَ قَتْلُهُمْ رِعَايَةً لِحَقِّ الْغَانِمِينَ لَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى , وَالْأَصْلُ فِيمَا قَالَهُ قوله تعالى { اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَخَبَرِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } ( وَكَذَا الزَّانِي الْمُحْصَنُ ) لَا يُقْتَلُ بِهِ مُسْلِمٌ مَعْصُومٌ لِاسْتِيفَائِهِ حَدَّ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ أَقَتَلَهُ قَبْلَ أَمْرِ الْإِمَامِ بِقَتْلِهِ أَمْ لَا وَسَوَاءٌ أَثَبَتَ زِنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ أَمْ بِالْإِقْرَارِ , وَوَقَعَ فِي تَصْحِيحِ التَّنْبِيهِ لِلنَّوَوِيِّ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا ثَبَتَ زِنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ قُتِلَ بِهِ ( وَ ) كَذَا ( تَارِكُ الصَّلَاةِ ) عَمْدًا ( بَعْدَ الْأَمْرِ بِهَا ) , وَقَدْ خَرَجَ وَقْتُهَا لَا يُقْتَلُ بِهِ مُسْلِمٌ مَعْصُومٌ ( وَيُقْتَلُ بِقَتْلِ مَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ لِغَيْرِهِ ) أَيْ لِغَيْرِ الْقَاتِلِ لَا لَهُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاحِ الدَّمِ , وَإِنَّمَا ثَبَتَ عَلَيْهِ حَقٌّ قَدْ يُتْرَكُ , وَقَدْ يُسْتَوْفَى نَعَمْ إنْ تَحَتَّمَ عَلَيْهِ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ لَمْ يُقْتَلْ قَاتِلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ ( وَيُعْصَمُ تَارِكُ الصَّلَاةِ بِالْجُنُونِ ) لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ ( وَالسُّكْرِ ) لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ حِينَئِذٍ مِنْهَا ( لَا الْمُرْتَدُّ ) فَلَا يُعْصَمُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِقِيَامِ الْكُفْرِ .
( قَوْلُهُ : بِإِيمَانٍ أَوْ أَمَانٍ ) أَوْ بِضَرْبِ الرِّقِّ عَلَى كَافِرٍ ( قَوْلُهُ : كَالْمُرْتَدِّ وَالْحَرْبِيِّ ) أَيْ وَالصَّائِلِ , وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ اللَّذَيْنِ لَا يَنْدَفِعُ شَرُّهُمَا إلَّا بِالْقَتْلِ , وَسَيَأْتِي أَنَّ مَنْ قُتِلَ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ لَا يُضْمَنُ ( قَوْلُهُ : وَكَذَا الزَّانِي الْمُحْصَنُ لَا يُقْتَلُ بِهِ مُسْلِمٌ إلَخْ ) شَمِلَ مَا لَوْ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ بَعْدَ الْجُرْحِ ثُمَّ مَاتَ بِالسَّرَايَةِ قَوْلُهُ : وَسَوَاءٌ ثَبَتَ زِنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ أَمْ بِالْإِقْرَارِ ) , وَسَوَاءٌ أَقَتَلَهُ قَبْلَ رُجُوعِهِ عَنْ إقْرَارِهِ أَوْ رُجُوعِ الشُّهُودِ عَنْ شَهَادَتِهِمْ أَمْ بَعْدَهُ , وَلَوْ كَانَ الزَّانِي الْمُحْصَنُ ذِمِّيًّا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ كَافِرٌ لَيْسَ زَانِيًا مُحْصَنًا , وَلَا وَجَبَ قَتْلُهُ بِقَطْعِ طَرِيقٍ وَنَحْوِهِ ( قَوْلُهُ : وَيُقْتَلُ بِقَتْلِ مَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ لِغَيْرِهِ ) لقوله تعالى { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } فَخَصَّ وَلِيَّهُ بِقَتْلِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ وَلِيِّهِ مَمْنُوعٌ مِنْهُ ( قَوْلُهُ : إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ ) أَيْ فِي الْقَتْلِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى .
===============
( كِتَابُ الرِّدَّةِ ) .(2)
__________
(1) - أسنى المطالب شرح روض الطالب - (ج 18 / ص 300)
(2) -أسنى المطالب شرح روض الطالب - (ج 19 / ص 399) فما بعدها(2/312)
( هِيَ ) لُغَةً الرُّجُوعُ عَنْ الشَّيْءِ إلَى غَيْرِهِ وَشَرْعًا مَا سَيَأْتِي , وَهِيَ ( أَفْحَشُ الْكُفْرِ , وَأَغْلَظُهُ حُكْمًا ) لقوله تعالى { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } الْآيَةَ وَلِقَوْلِهِ { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } ( وَفِيهِ بَابَانِ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَتِهَا ) وَمَنْ تَصِحُّ مِنْهُ وَفِيهِ طَرَفَانِ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَتِهَا , وَهَذَا سَقَطَ مِنْ نُسْخَةٍ , وَلَا بُدَّ مِنْهُ لِقَوْلِهِ بَعْدَ الطَّرَفِ الثَّانِي فِيمَنْ تَصِحُّ رِدَّتُهُ ( وَهِيَ قَطْعُ الْإِسْلَامِ إمَّا بِتَعَمُّدِ فِعْلٍ ) , وَلَوْ بِقَلْبِهِ اسْتِهْزَاءً أَوْ جُحُودًا ( كَسُجُودٍ لِصَنَمٍ , وَإِلْقَاءِ مُصْحَفٍ ) أَوْ نَحْوِهِ كَكُتُبِ الْحَدِيثِ ( فِي قَذِرٍ اسْتِخْفَافًا ) أَيْ عَلَى وَجْهٍ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ بِهِمَا وَكَأَنَّهُ احْتَرَزَ بِهِ فِي الْأُولَى عَمَّا لَوْ سَجَدَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَكْفُرُ كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ النَّصِّ , وَإِنْ زَعَمَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْمَشْهُورَ خِلَافُهُ وَفِي الثَّانِيَةِ عَمَّا لَوْ أَلْقَاهُ فِي قَذِرٍ خِيفَةَ أَخْذِ الْكُفَّارِ لَهُ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِهِ , وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ ( وَسِحْرٍ فِيهِ عِبَادَةُ الشَّمْسِ ) وَنَحْوِهَا كَالْمَشْيِ إلَى الْكَنَائِسِ مَعَ أَهْلِهَا بِزِيِّهِمْ مِنْ الزَّنَانِيرِ وَغَيْرِهَا كَمَا ذَكَرَهُ الْأَصْلُ ( وَأَمَّا بِقَوْلِ كُفْرٍ صَدَرَ عَنْ اعْتِقَادٍ أَوْ عِنَادٍ أَوْ اسْتِهْزَاءٍ ) بِخِلَافِ مَا لَوْ اقْتَرَنَ بِهِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ الرِّدَّةِ كَاجْتِهَادٍ أَوْ سَبْقِ لِسَانٍ أَوْ حِكَايَةٍ أَوْ خَوْفٍ .
( كِتَابُ الرِّدَّةِ ) ( قَوْلُهُ : وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } ) وَخَبَرِ { لَا يَحِلُّ دَمُ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ } , وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الرِّدَّةَ إنَّمَا تُحْبِطُ الْعَمَلَ بِالْمَوْتِ لقوله تعالى { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } فَلَوْ أَسْلَمَ , وَكَانَ قَدْ حَجَّ قَبْلَ الِارْتِدَادِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ لَكِنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ عَلَى حُبُوطِ ثَمَرَاتِ الْأَعْمَالِ بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ , وَهِيَ فَائِدَةٌ نَفِيسَةٌ ( قَوْلُهُ : وَهِيَ قَطْعُ الْإِسْلَامِ ) فَإِنْ قِيلَ الْإِسْلَامُ مَعْنًى مَعْقُولٌ لَا مَحْسُوسٌ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ قَطْعُهُ قِيلَ الْمُرَادُ قَطْعُ اسْتِمْرَارِهِ وَدَوَامِهِ فَهُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ ( قَوْلُهُ : كَكُتُبِ الْحَدِيثِ ) أَيْ وَالْفِقْهِ وَكُلِّ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى , وَكَذَا تَضَمُّخُ الْكَعْبَةِ الشَّرِيفَةِ بِالْغَائِطِ وَمِثْلُ السُّجُودِ الرُّكُوعُ وَسَائِرُ التَّعْظِيمَاتِ , وَإِنَّمَا خَصَّ الْمُصَنِّفُ السُّجُودَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُعْبَدْ غَيْرُ اللَّهِ بِالرُّكُوعِ , وَلَوْ أَلْقَى آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ كَبَسْمُ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الْقَاذُورَاتِ فَكَالْمُصْحَفِ ( قَوْلُهُ : كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ النَّصِّ ) , وَهُوَ الرَّاجِحُ ( قَوْلُهُ : إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِهِ ) أَشَارَ إلَى تَصْحِيحِهِ ( قَوْلُهُ : كَمَا ذَكَرَهُ الْأَصْلُ ) حَذَفَهُ الْمُصَنِّفُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرِدَّةٍ , وَلَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي الْمَغْلُوبِ كَالصَّادِرِ مِنْ الْوَلِيِّ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ وَفِي أَمَالِي الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ لَوْ , قَالَ وَلِيٌّ أَنَا اللَّهُ عُزِّرَ التَّعْزِيرَ الشَّرْعِيَّ , وَهَذَا لَا يُنَافِي الْوِلَايَةَ ; لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومِينَ . ا هـ . ( قَوْلُهُ : أَوْ حِكَايَةٌ أَوْ خَوْفٌ ) أَيْ أَوْ صُدُورُهُ مِنْ الْوَلِيِّ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ .
( الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الرِّدَّةِ )(2/313)
( لَا نَسْتَرِقُّ ) نَحْنُ ( مُرْتَدًّا ) لِبَقَاءِ عَلَقَةِ الْإِسْلَامِ فِيهِ ( وَيَجِبُ قَتْلُهُ ) إنْ لَمْ يَتُبْ لِخَبَرِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } , وَهُوَ شَامِلٌ لِلْمَرْأَةِ وَغَيْرِهَا ; وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُقْتَلُ بِالزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ فَكَذَلِكَ بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ كَالرَّجُلِ , وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ فَمَحْمُولٌ بِدَلِيلِ سِيَاقِ خَبَرِهِ عَلَى الْحَرْبِيَّاتِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَا يُدْفَنُ الْمُرْتَدُّ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ لِخُرُوجِهِ بِالرِّدَّةِ عَنْهُمْ , وَلَا فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ لِمَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنْ حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ ( وَيَتَوَلَّاهُ ) أَيْ قَتْلَهُ ( الْحَاكِمُ ) , وَلَوْ بِنَائِبِهِ ( بِضَرْبِ الرَّقَبَةِ لَا الْإِحْرَاقِ ) بِالنَّارِ أَوْ غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُثْلَةِ فَلَوْ تَوَلَّاهُ غَيْرُ الْحَاكِمِ أَوْ الْحَاكِمُ بِغَيْرِ ضَرْبِ الرَّقَبَةِ عُزِّرَ وَسَيُصَرِّحُ بِالْأَوَّلِ ( وَيُسْتَتَابُ ) قَبْلَ قَتْلِهِ ( وُجُوبًا لَا اسْتِحْبَابًا ) ; لِأَنَّهُ كَانَ مُحْتَرَمًا بِالْإِسْلَامِ وَرُبَّمَا عَرَضَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فَتُزَالُ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ كَمَا مَرَّ , وَالِاسْتِتَابَةُ تَكُونُ ( فِي الْحَالِ ) لِظَاهِرِ الْخَبَرِ السَّابِقِ ; وَلِأَنَّهُ حَدٌّ فَلَا يُؤَجَّلُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ ( لَا ثَلَاثًا ) رُدَّ لِمَا قِيلَ إنَّهُ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ; لِأَنَّهَا أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ وَآخَرُ حَدِّ الْقِلَّةِ ; وَلِأَنَّهُ قَدْ تَعْرِضُ لَهُ شُبْهَةٌ فَاحْتُمِلَتْ لَهُ الثَّلَاثَةُ لِيَتَرَوَّى فِيهَا قَالَ فِي الْأَصْلِ , وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ لَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ شَيْءٌ أَيْ غَيْرَ التَّعْزِيرِ , وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُسِيئًا بِفِعْلِهِ , وَحَذَفَهُ الْمُصَنِّفُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا مَرَّ فِي قَتْلِهِ فِي جُنُونِهِ .
( الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الرِّدَّةِ ) ( قَوْلُهُ : فَلَوْ تَوَلَّاهُ غَيْرُ الْحَاكِمِ إلَخْ ) نَعَمْ إنْ قَاتَلَ , قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ جَازَ أَنْ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ كَالْحَرْبِيِّ ( قَوْلُهُ : وَرُبَّمَا عَرَضَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فَتُزَالُ ) فَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ قَبْلَ كَشْفِهَا وَالِاسْتِتَابَةُ مِنْهَا كَأَهْلِ الْحَرْبِ ظَانًّا لَا نَقْتُلُهُمْ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ , وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ , وَلَا يَقْتُلُهُ إلَّا الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ ; لِأَنَّ قَتْلَهُ مُسْتَحَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَأَشْبَهَ رَجْمَ الزَّانِي .
=================
وفي الروضة البهية :(1)
( وَالْمَرْأَةُ لَا تُقْتَلُ بِالِارْتِدَادِ )
, لِقُصُورِ عَقْلِهَا ( وَلَكِنْ تُحْبَسُ وَتُضْرَبُ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ حَتَّى تَتُوبَ , أَوْ تَمُوتَ , وَكَذَلِكَ الْخُنْثَى ) لِلشَّكِّ فِي ذُكُورِيَّتِهِ الْمُسَلِّطَةِ عَلَى قَتْلِهِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَلْحَقَهُ حُكْمُ الرَّجُلِ , لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } , خَرَجَ مِنْهُ الْمَرْأَةُ فَيَبْقَى الْبَاقِي دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ إذْ لَا نَصَّ عَلَى الْخُنْثَى بِخُصُوصِهِ وَهَذَا مُتَّجَهٌ لَوْلَا أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ .
( وَمِنْهَا - الِارْتِدَادُ . وَهُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِمَّا يُوبِقُ الْأَدْيَانَ )
__________
(1) - جامع الفقه الإسلامي(2/314)
وَالْكُفْرُ يَكُونُ بِنِيَّةٍ , وَبِقَوْلِ كُفْرٍ , وَفِعْلِ مُكَفِّرٍ فَالْأَوَّلُ الْعَزْمُ عَلَى الْكُفْرِ وَلَوْ فِي وَقْتٍ مُتَرَقَّبٍ . وَفِي حُكْمِهِ التَّرَدُّدُ فِيهِ . وَالثَّانِي كَنَفْيِ الصَّانِعِ لَفْظًا , أَوْ الرُّسُلِ , وَتَكْذِيبِ رَسُولٍ , وَتَحْلِيلِ مُحَرَّمٍ بِالْإِجْمَاعِ كَالزِّنَا , وَعَكْسُهُ كَالنِّكَاحِ , وَنَفْيِ وُجُوبٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ كَرَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ , وَعَكْسُهُ كَوُجُوبِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ يَوْمِيَّةٍ . وَالضَّابِطُ إنْكَارُ مَا عَلِمَ مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً . وَلَا فَرْقَ فِي الْقَوْلِ بَيْنَ وُقُوعِهِ عِنَادًا , أَوْ اعْتِقَادًا , أَوْ اسْتِهْزَاءً حَمْلًا عَلَى الظَّاهِرِ وَيُمْكِنُ رَدُّ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ إلَى الْأَوَّلِ حَيْثُ يَعْتَقِدُهَا مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ . وَالثَّالِثُ مَا تَعَمَّدَهُ اسْتِهْزَاءً صَرِيحًا بِالدِّينِ , أَوْ جُحُودًا لَهُ كَإِلْقَاءِ مُصْحَفٍ , أَوْ بَعْضِهِ فِي قَاذُورَةٍ قَصْدًا , أَوْ سُجُودٍ لِصَنَمٍ . وَيُعْتَبَرُ فِيمَا خَالَفَ الْإِجْمَاعَ : كَوْنُهُ مِمَّا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ ضَرُورَةً , كَمَا ذُكِرَ لِخَفَاءِ كَثِيرٍ مِنْ الْإِجْمَاعِيَّاتِ عَلَى الْآحَادِ , وَكَوْنِ الْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُكَفَّرُ الْمُخَالِفُ فِي مَسْأَلَةٍ خِلَافِيَّةٍ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا . وَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْأَصْحَابِ وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا الشَّرْطِ فَاقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى اعْتِبَارِ مُطْلَقِ الْإِجْمَاعِ , وَآخَرُونَ عَلَى إضَافَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ الْأَجْوَدُ , وَقَدْ يَتَّفِقُ لِلشَّيْخِ - رحمه الله - الْحُكْمُ بِكُفْرِ مُسْتَحِلِّ مَا خَالَفَ إجْمَاعَنَا خَاصَّةً كَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْهُ فِي بَابِ الْأَطْعِمَةِ وَهُوَ نَادِرٌ وَفِي حُكْمِ الصَّنَمِ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْعِبَادَةُ لِلْمَسْجُودِ لَهُ . فَلَوْ كَانَ مُجَرَّدُ التَّعْظِيمِ مَعَ اعْتِقَادِ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ لَمْ يَكُنْ كُفْرًا . بَلْ بِدْعَةً قَبِيحَةً وَإِنْ اسْتَحَقَّ التَّعْظِيمَ بِغَيْرِ هَذَا النَّوْعِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْصِبْ السُّجُودَ تَعْظِيمًا لِغَيْرِهِ . ( وَيُقْتَلُ ) الْمُرْتَدُّ ( إنْ كَانَ ) ارْتِدَادُهُ ( عَنْ فِطْرَةِ ) الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ , } وَصَحِيحَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الْبَاقِرِ عليه السلام " مَنْ رَغِبَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَكَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله بَعْدَ إسْلَامِهِ فَلَا تَوْبَةَ لَهُ , وَقَدْ وَجَبَ قَتْلُهُ , وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ , وَيُقَسَّمُ مَا تَرَكَهُ عَلَى وَلَدِهِ " وَرَوَى عَمَّارٌ عَنْ الصَّادِقِ عليه السلام قَالَ : " كُلُّ مُسْلِمٍ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَجَحَدَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وآله نُبُوَّتَهُ وَكَذَّبَهُ فَإِنَّ دَمَهُ مُبَاحٌ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ , وَامْرَأَتُهُ بَائِنَةٌ مِنْهُ يَوْمَ ارْتَدَّ فَلَا تَقْرَبُهُ , وَيُقَسَّمُ مَالُهُ عَلَى وَرَثَتِهِ وَتَعْتَدُّ امْرَأَتُهُ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا , وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَلَا يَسْتَتِيبَهُ " ( وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ ) ظَاهِرًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ , وَلِلْإِجْمَاعِ فَيَتَعَيَّنُ قَتْلُهُ مُطْلَقًا . وَفِي قَبُولِهَا بَاطِنًا قَوْلٌ قَوِيٌّ . حَذَرًا مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ لَوْ كَانَ مُكَلَّفًا بِالْإِسْلَامِ , أَوْ خُرُوجُهُ عَنْ التَّكْلِيفِ مَا دَامَ حَيًّا كَامِلَ الْعَقْلِ . وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . وَحِينَئِذٍ فَلَوْ لَمْ يَطَّلِعْ أَحَدٌ عَلَيْهِ , أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَتْلِهِ , أَوْ تَأَخَّرَ قَتْلُهُ بِوَجْهٍ وَتَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى , وَصَحَّتْ عِبَادَاتُهُ وَمُعَامَلَاتُهُ , وَطَهُرَ بَدَنُهُ , وَلَا يَعُودُ مَالُهُ وَزَوْجَتُهُ إلَيْهِ بِذَلِكَ عَمَلًا بِالِاسْتِصْحَابِ , وَلَكِنْ يَصِحُّ لَهُ تَجْدِيدُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ , وَفِي جَوَازِهِ فِيهَا وَجْهٌ , كَمَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ الْعَقْدُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ عَنْهُ بَائِنًا . وَبِالْجُمْلَةِ فَيُقْتَصَرُ فِي الْأَحْكَامِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ عَلَى الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فِي حَقِّهِ , وَحَقِّ غَيْرِهِ وَهَذَا أَمْرٌ آخَرُ وَرَاءَ الْقَبُولِ بَاطِنًا ( وَتَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ , وَتَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ ) وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى الْأَصَحِّ لِمَا تَقَدَّمَ ( وَتُورَثُ أَمْوَالُهُ ) الْمَوْجُودَةُ حَالَ الرِّدَّةِ ( بَعْدَ قَضَاءِ دُيُونِهِ ) السَّابِقَةِ عَلَيْهَا ( وَإِنْ كَانَ حَيًّا بَاقِيًا ) , لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ فِي ذَلِكَ . وَهَلْ يَلْحَقُهُ بَاقِي أَحْكَامِهِ مِنْ إنْفَاذِ وَصَايَاهُ السَّابِقَةِ عَلَى الرِّدَّةِ , وَعَدَمِ قَبُولِهِ التَّمَلُّكِ بَعْدَهَا نَظَرٌ مِنْ مُسَاوَاتِهِ لَهُ فِي الْأَحْكَامِ , وَكَوْنِهِ حَيًّا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُسَاوَاتِهِ الْمَيِّتَ فِي جُمْلَةٍ مِنْ الْأَحْكَامِ إلْحَاقُهُ بِهِ مُطْلَقًا . وَلَوْ أَدْخَلْنَا الْمُتَجَدِّدَ فِي مِلْكِهِ كَالِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ صَارَ إرْثًا , وَعَلَى هَذَا لَا(2/315)
يَنْقَطِعُ إرْثُهُ مَا دَامَ حَيًّا وَهُوَ بَعِيدٌ وَمَعَهُ فَفِي اخْتِصَاصِ وَارِثِهِ عِنْدَ ارْتِدَادِهِ بِهِ أَوْ عِنْدَ التَّكَسُّبِ وَجْهَانِ وَيُعْتَبَرُ فِي تَحَقُّقِ الِارْتِدَادِ الْبُلُوغُ , وَالْعَقْلُ , وَالِاخْتِيَارُ .
===============
وفي شرح الكوكب المنير :(1)
( فَصْلٌ ) : ( لَفْظُ الرِّجَالِ وَالرَّهْطِ لَا يَعُمُّ النِّسَاءَ وَلَا الْعَكْسَ )
__________
(1) - شرح الكوكب المنير - (ج 2 / ص 127) ومختصر التحرير - (ج 21 / ص 5)(2/316)
وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ النِّسَاءِ لَا يَعُمُّ الرِّجَالَ . وَلَا الرَّهْطَ قَطْعًا ( وَيَعُمُّ نَحْوُ ) لَفْظِ ( النَّاسِ , وَ ) لَفْظِ ( الْقَوْمِ ) كَالْإِنْسِ وَالْآدَمِيِّينَ ( الْكُلِّ ) أَيْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ , ثُمَّ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ خَاصَّةً , وَفِي مَدْلُولِ " الْقَوْمِ " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . قَالَ فِي الْقَامُوسِ : الْقَوْمُ : الْجَمَاعَةُ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَعًا , أَوْ مِنْ الرِّجَالِ خَاصَّةً , أَوْ يَدْخُلُ النِّسَاءُ عَلَى التَّبَعِيَّةِ , وَيُؤَنَّثُ . ا هـ . وَيُسْتَأْنَسُ لِلْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ } فَيَدْخُلُ النِّسَاءُ فِي ذَلِكَ ا هـ . وَنَحْوُ : الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُصَلِّينَ وَالْمُزْكِينَ ( كَالْمُسْلِمِينَ , وَ ) نَحْوُ ( فَعَلُوا ) كَكُلُوا وَشَرِبُوا , وَكَذَلِكَ افْعَلُوا كَكُلُوا وَاشْرَبُوا , وَيَفْعَلُونَ كَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ , وَفَعَلْتُمْ كَأَكَلْتُمْ وَشَرِبْتُمْ , وَكَذَا اللَّوَاحِقُ , كَذَلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ , وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ فِيهِ الْمُذَكَّرُ ( يَعُمُّ النِّسَاءَ تَبَعًا ) عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَالْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ . وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ رحمه الله . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى : لَا يَعُمُّ , اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَالطُّوفِيُّ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ . وَنَقَلَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ عَنْ مُعْظَمِ الْفُقَهَاءِ . قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ عَنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ : إنَّ عُمُومَهُ لَيْسَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ , بَلْ بِالْعُرْفِ , أَوْ بِعُمُومِ الْأَحْكَامِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ . قَالَ أَبُو الْمَعَالِي : انْدِرَاجُ النِّسَاءِ تَحْتَ لَفْظِ " الْمُسْلِمِينَ " بِالتَّغْلِيبِ لَا بِأَصْلِ الْوَضْعِ . وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ : لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالنُّحَاةِ فِي عَدَمِ تَنَاوُلِهِنَّ لِجَمْعٍ كَجَمْعِ الذُّكُورِ . وَإِنَّمَا ذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى ثُبُوتِ التَّنَاوُلِ , لِكَثْرَةِ اشْتِرَاكِ النَّوْعَيْنِ فِي الْأَحْكَامِ لَا غَيْرُ , فَيَكُونُ الدُّخُولُ عُرْفًا لَا لُغَةً . ثُمَّ قَالَ : وَإِذَا قُلْنَا بِالتَّنَاوُلِ : هَلْ يَكُونُ دَالًّا عَلَيْهِمَا بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَوْ عَلَيْهِمَا مَجَازًا صِرْفًا ؟ خِلَافَ . ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ : الثَّانِي , وَالْقِيَاسُ قَوْلُ أَبِي الْمَعَالِي الْأَوَّلِ . انْتَهَى . وَاسْتَدَلَّ لِلْأَوَّلِ بِمُشَارَكَةِ الذُّكُورِ فِي الْأَحْكَامِ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ . رُدَّ بِالْمَنْعِ بِلَا لِدَلِيلٍ وَلِهَذَا لَمْ يَعُمَّهُنَّ الْجِهَادُ وَالْجُمُعَةُ وَغَيْرُهُمَا . أُجِيبَ بِالْمَنْعِ . ثُمَّ لَوْ كَانَ لَعُرِفَ . وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ , وَخُرُوجُهُنَّ مِنْ بَعْضِ الْأَحْكَامِ لَا يُمْنَعُ كَبَعْضِ الذُّكُورِ , وَلِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ غَلَّبُوا الْمُذَكَّرَ بِاتِّفَاقٍ بِدَلِيلِ { اهْبِطُوا } لِآدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ . رُدَّ بِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ , وَيَكُونُ مَجَازًا . أُجِيبَ : لَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ الْعِلْمَ بِقَصْدِهِ , ثُمَّ لَوْ لَمْ يَعُمَّهُنَّ لَمَا عَمَّ بِالْقَصْدِ , بِدَلِيلِ جَمْعِ الرِّجَالِ , وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ , وَلَوْ كَانَ مَجَازًا لَمْ يُعَدَّ الْعُدُولُ عَنْهُ عِيًّا . قَالَ الْمَانِعُونَ : قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { مَا لَنَا لَا نُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ كَمَا يُذْكَرُ الرِّجَالُ ؟ فَنَزَلَتْ { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } - الْآيَةَ } رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ . وَلَوْ دَخَلْنَ لَمْ يَصْدُقْ نَفْيَهَا , وَلَمْ يَصِحَّ تَقْرِيرُهُ لَهُ . رُدَّ : يَصْدُقُ , وَيَصِحُّ , لِأَنَّهَا إنَّمَا أَرَادَتْ التَّنْصِيصَ تَشْرِيفًا لَهُنَّ لَا تَبَعًا . قَالُوا : الْجَمْعُ تَضْعِيفُ الْوَاحِدِ , وَمُسْلِمٌ لِرَجُلٍ , فَمُسْلِمُونَ لِجَمْعِهِ . رُدَّ : يُحْتَمَلُ مَنْعُهُ . قَالَهُ الْحَلْوَانِيُّ . وَقَدْ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ قوله تعالى { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } عَامٌّ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى . وَأَمَّا الْخَنَاثَى : فَعَلَى الْقَوْلِ بِدُخُولِ النِّسَاءِ : الْخَنَاثَى أَوْلَى وَعَلَى الْمَنْعِ : فَالظَّاهِرُ مِنْ تَصَرُّفِ الْفُقَهَاءِ : دُخُولُهُمْ فِي خِطَابِ النِّسَاءِ فِي التَّغْلِيظِ , وَالرِّجَالِ فِي التَّخْفِيفِ . قَالَ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ : وَمِمَّا يُخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسْأَلَةُ الْوَاعِظِ الْمَشْهُورَةِ , وَهِيَ قَوْلُهُ لِلْحَاضِرِينَ عِنْدَهُ : طَلَّقْتُكُمْ ثَلَاثًا , وَامْرَأَتُهُ فِيهِمْ , وَهُوَ لَا يَدْرِي . فَأَفْتَى أَبُو الْمَعَالِي بِالْوُقُوعِ . قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَفِي الْقَلْبِ مِنْهُ شَيْءٌ . قُلْت : الصَّوَابُ عَدَمُ الْوُقُوعِ . وَقَالَ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ : وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ . وَلَهُمْ فِيهَا كَلَامٌ كَثِيرٌ . ( وَإِخْوَةٌ وَعُمُومَةٌ لِذَكَرٍ وَأُنْثَى ) قَالَ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ : وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْعُمُومَةَ يَعُمُّ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ . قَطَعَ بِهِ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ وَشَرْحِ ابْنِ رَزِينٍ وَصَاحِبِ الْفُرُوعِ فِيهِ(2/317)
وَغَيْرُهُمْ . وَظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الْوَاضِحِ : أَنَّ الْإِخْوَةَ لَا تَعُمُّ الْإِنَاثَ , وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَعُمُّهُنَّ ( وَتَعُمُّ " مَنْ " الشَّرْطِيَّةُ الْمُؤَنَّثَ ) لقوله تعالى { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } فَالتَّفْسِيرُ بِالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى دَلَّ عَلَى تَنَاوُلِ الْقِسْمَيْنِ . وَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : فَكَيْفَ . تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ ؟ فَأَقَرَّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَهْمِ دُخُولِ النِّسَاءِ فِي مَنْ الشَّرْطِيَّةِ } . وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : مَنْ دَخَلَ دَارِي فَهُوَ حُرٌّ , فَدَخَلَهُ الْإِمَاءُ عَتَقْنَ بِالْإِجْمَاعِ . قَالَهُ فِي الْمَحْصُولِ . وَحَكَى غَيْرُهُ قَوْلًا : أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ . وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ , وَأَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُرْتَدَّةِ , فَجَعَلُوا قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } لَا يَتَنَاوَلُهَا . وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ ( وَيَعُمُّ النَّاسُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَنَحْوُهُمَا ) كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَيَا عِبَادِي ( عَبْدًا ) كُلُّهُ رَقِيقٌ ( وَمُبَعَّضًا ) قَلَّ الرِّقُّ فِيهِ أَوْ كَثُرَ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله وَأَكْثَرِ أَتْبَاعِهِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ , لِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي الْخَبَرِ , فَكَذَا فِي الْأَمْرِ , وَبِاسْتِثْنَاءِ الشَّارِعِ لَهُمْ فِي الْجُمُعَةِ . وَقِيلَ : لَا يَدْخُلُونَ إلَّا بِدَلِيلٍ . وَقِيلَ : إنْ تَضَمَّنَ الْعَبِيدَ دَخَلُوا , وَإِلَّا فَلَا . قَالَ الْهِنْدِيُّ : الْقَائِلُونَ بِعُمُومِ دُخُولِ الْعَبِيدِ وَالْكُفَّارِ فِي لَفْظِ " النَّاسِ " وَنَحْوِهِ , إنْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ لُغَةً فَمُكَابَرَةٌ , وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ الرِّقَّ وَالْكُفْرَ أَخْرَجَهُمْ شَرْعًا فَبَاطِلٌ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ فِي الْجُمْلَةِ ( وَ ) يَدْخُلُ الَّذِينَ هُمْ ( كُفَّارٌ وَجِنٌّ فِي ) مُطْلَقِ لَفْظِ ( النَّاسِ وَنَحْوِهِ ) مِثْلَ ( أُولِي الْأَلْبَابِ ) فِي الْأَصَحِّ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ لُغَةً . وَبِهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ . إذْ لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ . أَمَّا إذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ بِعَدَمِ دُخُولِهِمْ , أَوْ أَنَّهُمْ هُمْ الْمُرَادُ , لَا الْمُؤْمِنُونَ : عُمِلَ بِهَا , نَحْوُ قوله تعالى { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } لِأَنَّ الْأَوَّلَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ : أَمَّا نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيُّ , وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ , أَوْ أَرْبَعَةٌ , كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ . وَالثَّانِي : لِكُفَّارِ مَكَّةَ . لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : بِأَنَّ اللَّامَ فِي ذَلِكَ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ , وَالْكَلَامُ فِي الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ } الْمُرَادُ الْكُفَّارُ بِدَلِيلِ بَاقِي الْآيَةِ . نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ , وَجَعَلَهُ مِنْ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ . فَقَدْ يَدَّعِي ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا , فَلَا تَكُونُ أَلْ فِيهَا عَهْدِيَّةً . ( وَ ) قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ( { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ } لَا يَشْمَلُ الْأُمَّةَ ) أَيْ أُمَّةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْأَكْثَرِ . وَقَطَعَ بِهِ بَعْضُهُمْ . وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا } { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى مُشَارَكَةِ الْأُمَّةِ لَهُمْ . وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ قَاصِرٌ عَلَيْهِمْ فَلَا يَتَعَدَّاهُمْ . وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ : الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى . قَالَ الْمَجْدُ فِي الْمُسَوَّدَةِ : يَشْمَلُ الْأُمَّةَ إنْ شَرَكُوهُمْ فِي الْمَعْنَى . قَالَ : لِأَنَّ شَرْعَهُ عَامٌّ لِبَنِي إسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ , كَالْمُؤْمِنِينَ , فَثَبَتَ الْحُكْمُ فِيهِمْ , كَأُمِّيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَذَلِكَ كَافٍ لِوَاحِدٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ , فَإِنَّهُ يَعُمُّ غَيْرَهُ . وَإِنْ لَمْ يُشْرِكْهُمْ فَلَا , كَمَا فِي . قوله تعالى . لِأَهْلِ بَدْرٍ { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ } وَلِأَهْلِ أُحُدٍ { إذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا } فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَعُمُّ غَيْرَهُمْ . قَالَ : ثُمَّ الشُّمُولُ هُنَا بِطَرِيقِ الْعَادَةِ الْعُرْفِيَّةِ أَوْ الِاعْتِبَارِ الْعَقْلِيِّ , وَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ . قَالَ : وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي اسْتِدْلَالُ الْآيَةِ عَلَى حُكْمِنَا , مِثْلَ رضي الله عنه { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ } - الْآيَةَ " فَإِنَّ هَذِهِ(2/318)
الضَّمَائِرَ رَاجِعَةٌ لِبَنِي إسْرَائِيلَ . قَالَ : وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْخِطَابِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم . أَمَّا خِطَابُهُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام : فَهِيَ مَسْأَلَةُ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا : هَلْ هُوَ شَرْعٌ لَنَا ؟ وَالْحُكْمُ هُنَا لَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ الْخَطَّابِيِّ قَطْعًا , بَلْ بِالِاعْتِبَارِ الْعَقْلِيِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ( وَيَعُمُّهُ ) أَيْ يَعُمُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } , وَ { يَا عِبَادِي } وَنَحْوُ ذَلِكَ , كَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا , عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ( حَيْثُ لَا قَرِينَةَ تَخُصُّهُمْ ) نَحْوُ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ , وَ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } لِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِالِاسْتِجَابَةِ . وَقِيلَ : يَعُمُّهُ خِطَابُ الْقُرْآنِ دُونَ خِطَابِ السُّنَّةِ , وَقِيلَ : لَا يَعُمُّهُ خِطَابُ الْقُرْآنِ وَلَا خِطَابُ السُّنَّةِ لِقَرِينَةِ الْمُشَافَهَةِ , وَلِأَنَّ الْمُبَلِّغَ - بِكَسْرِ اللَّامِ - غَيْرُ الْمُبَلَّغِ - بِفَتْحِهَا . وَالْآمِرَ وَالنَّاهِيَ غَيْرُ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ , فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا . رُدَّ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْعِبَادِ , وَهُوَ مِنْهُمْ , وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُبَلِّغٌ لِلْأُمَّةِ ; فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْآمِرُ وَالنَّاهِي , وَجِبْرِيلَ هُوَ الْمُبَلِّغُ لَهُ , وَلَا يُنَافِي كَوْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُخَاطِبًا مُخَاطَبًا وَمُبَلِّغًا وَمُبَلَّغًا بِاعْتِبَارَيْنِ وَرُبَّمَا اعْتَلَّ الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ , بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَهُ خَصَائِصُ , فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ لِخُصُوصِيَّتِهِ , بِخِلَافِ الْأَمْرِ الَّذِي خَاطَبَ بِهِ النَّاسَ . وَرُدَّ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ , حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلٌ , وَتَظْهَرَ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فِيمَا إذَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ : هَلْ يَكُونُ نَسْخًا فِي حَقِّهِ ؟ إنْ قُلْنَا : يَعُمُّهُ الْخِطَابُ فَنَسْخٌ , أَيْ إذَا دَخَلَ وَقْتُ الْعَمَلِ , لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطُ الْمَسْأَلَةِ , وَإِلَّا فَلَا . ( وَيَعُمُّ ) الْخِطَابُ ( غَائِبًا وَمَعْدُومًا ) حَالَتُهُ ( إذَا وُجِدَ وَكُلِّفَ لُغَةً ) أَيْ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ . قَالَهُ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ . قَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ : لَيْسَ النِّزَاعُ فِي قَوْلِنَا " وَيَعُمُّ الْغَائِبَ وَالْمَعْدُومَ إذَا وُجِدَ وَكُلِّفَ " فِي الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ , بَلْ هَذِهِ خَاصَّةٌ بِاللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ . وَلِأَنَّنَا مَأْمُورُونَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَحَصَلَ ذَلِكَ إخْبَارًا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ وُجُودِنَا فَاقْتَضَى بِطَرِيقِ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ , وَأَنْ لَا يَكُونَ قَسِيمًا لِلْخَبَرِ . انْتَهَى . وَقِيلَ : لَا يَعُمُّهُ الْخِطَابُ إلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ . قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ : وَمِمَّا اُخْتُلِفَ فِي عُمُومِهِ : الْخِطَابُ الْوَارِدُ شِفَاهًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , مِثْلَ قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } - { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } - { يَا عِبَادِي } لَا خِلَافَ أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْحُكْمِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ مَنْ لَمْ يُشَافَهْ بِهِ , سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا غَائِبًا وَقْتَ تَبْلِيغِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مَعْدُومًا بِالْكُلِّيَّةِ . فَإِذَا بَلَغَ الْغَائِبُ وَالْمَعْدُومُ بَعْدَ وُجُودِهِ تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ . وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي جِهَةِ عُمُومِهِ . وَالْحَاصِلُ : أَنَّ الْعَامَّ الْمُشَافَهَ فِيهِ بِحُكْمٍ , لَا خِلَافَ فِي شُمُولِهِ لُغَةً لِلْمُشَافَهِينَ , وَفِي غَيْرِهِمْ حُكْمًا , وَكَذَا الْخِلَافُ فِي غَيْرِهِمْ هَلْ الْحُكْمُ شَامِلٌ لَهُمْ بِاللُّغَةِ أَوْ بِدَلِيلٍ آخَرَ ؟ ذَهَبَ جَمْعٌ مِنْ الْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ مِنْ اللَّفْظِ , أَيْ اللُّغَوِيِّ . وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إلَى أَنَّهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ . وَذَلِكَ مِمَّا عُلِمَ مِنْ عُمُومِ دِينِهِ صلى الله عليه وسلم بِالضَّرُورَةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً } . قَالَ : وَهَذَا مَعْنًى كَثِيرٌ , كَابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّ مِثْلَ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } لَيْسَ خِطَابًا لِمَنْ بَعْدَهُمْ , أَيْ لِمَنْ بَعْدَ الْمُوَاجِهِينَ . وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ إجْمَاعٍ أَوْ نَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ . وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلْمَعْدُومِينَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ . وَأَجَابُوا عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْخَصْمُ , بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَعْدُومُونَ مُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا إلَيْهِمْ , بِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الْخِطَابُ الشِّفَاهِيُّ فِي الْإِرْسَالِ , بَلْ مُطْلَقُ الْخِطَابِ كَافٍ . وَاَللَّهُ(2/319)
أَعْلَمُ .
=================
( فَصْلٌ ) ( إذَا وَرَدَ ) عَنْ الشَّارِعِ لَفْظٌ ( عَامٌّ وَ ) لَفْظٌ ( خَاصٌّ , قُدِّمَ الْخَاصُّ مُطْلَقًا )(1)
أَيْ سَوَاءٌ كَانَا مُقْتَرِنَيْنِ , مِثْلَ : مَا لَوْ قَالَ فِي كَلَامٍ مُتَوَاصِلٍ : اُقْتُلُوا الْكُفَّارَ وَلَا تَقْتُلُوا الْيَهُودَ , أَوْ يَقُولُ : زَكُّوا الْبَقَرَ , وَلَا تُزَكُّوا الْعَوَامِلَ , أَوْ كَانَا غَيْرَ مُقْتَرِنَيْنِ , سَوَاءٌ كَانَ الْخَاصُّ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا , وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ . لِأَنَّ فِي تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَمَلًا بِكِلَيْهِمَا , بِخِلَافِ الْعَكْسِ . فَكَانَ أَوْلَى . وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي صُورَةِ الِاقْتِرَانِ تَعَارُضُ الْخَاصِّ لِمَا قَابَلَهُ مِنْ الْعَامِّ , وَلَا يُخَصَّصُ بِهِ . وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه رِوَايَةٌ فِي غَيْرِ الْمُقْتَرِنَيْنِ مُوَافَقَةٌ لِقَوْلِ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ : أَنَّهُ إنْ تَأَخَّرَ الْعَامُّ نُسِخَ , وَإِنْ تَأَخَّرَ الْخَاصُّ نُسِخَ مِنْ الْعَامِّ بِقَدْرِهِ . فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ : إنْ جُهِلَ التَّارِيخُ وُقِفَ الْأَمْرُ حَتَّى يُعْلَمَ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ الصَّحِيحُ . سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } خَصَّ قوله تعالى ( { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ } ) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : عَلَى هَذَا عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ , وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ . مِنْهُمْ : عُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَحُذَيْفَةُ وَجَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ . وَأَيْضًا : الْخَاصُّ قَاطِعٌ أَوْ أَشَدُّ تَصْرِيحًا , وَأَقَلُّ احْتِمَالًا , وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ لُغَةً بَيْنَ تَقْدِيمِ الْخَاصِّ وَتَأْخِيرِهِ ( وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا ) أَيْ مِنْ اللَّفْظَيْنِ الْوَارِدَيْنِ ( عَامًّا مِنْ وَجْهٍ . خَاصًّا مِنْ وَجْهٍ ) آخَرَ , مِثَالُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ } فَالْأَوَّلُ : خَاصٌّ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ الْفَائِتَةِ , عَامٌّ فِي الْوَقْتِ , وَالثَّانِي : عَامٌّ فِي الْمَكْتُوبَةِ وَالنَّافِلَةِ , خَاصٌّ فِي الْوَقْتِ , وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { مَنْ بَدَّلَ دَيْنَهُ فَاقْتُلُوهُ } مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ } فَالْأَوَّلُ عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ , خَاصٌّ فِي الْمُرْتَدِّينَ . وَالثَّانِي : خَاصٌّ فِي النِّسَاءِ , عَامٌّ فِي الْحَرْبِيَّاتِ وَالْمُرْتَدَّاتِ , إذَا عُلِمَ ذَلِكَ : فَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا إذَا وَرَدَا ( تَعَارَضَا ) لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِهِمَا بِالْعَمَلِ بِهِ دُونَ الْآخَرِ ( وَطُلِبَ الْمُرَجِّحُ ) مِنْ خَارِجٍ , وَقَدْ تَرَجَّحَ قَوْلُهُ { مَنْ بَدَّلَ دَيْنَهُ فَاقْتُلُوهُ } عَلَى اخْتِصَاصِ الثَّانِي , وَهُوَ قَوْلُهُ { نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ } بِسَبَبِهِ النَّاشِئِ عَنْ قَتْلِ الْحَرْبِيَّاتِ . وَقِيلَ : الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا نَاسِخٌ . وَحُكِيَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ ( وَإِذَا وَافَقَ خَاصٌّ عَامًّا ) بِأَنْ . يَرِدْ لَفْظٌ عَامٌّ , وَيَأْتِي لَفْظٌ خَاصٌّ , هُوَ بَعْضٌ لِذَلِكَ الْعَامِّ وَدَاخِلٌ فِيهِ , نَحْوُ { قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ دِبَاغُهَا طُهُورُهَا } فَهَذَا خَاصٌّ وَهُوَ بَعْضُ أَفْرَادِ الْعَامِّ ( لَمْ يُخَصِّصْهُ ) أَيْ لَمْ يُخَصِّصْ الْخَاصُّ الْعَامَّ لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ . وَقِيلَ : بَلَى , اسْتَدَلَّ لِلْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا فَيُعْمَلَ بِهِمَا . وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ أَيْضًا : قوله تعالى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } فَذِكْرُهُ بَعْدَهُ لَيْسَ تَخْصِيصًا لِلْأَوَّلِ بِإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى , بَلْ اهْتِمَامًا بِهَذَا النَّوْعِ , فَإِنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ إذَا اهْتَمَّتْ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْعَامِّ خَصَّصَتْهُ بِالذِّكْرِ , إبْعَادًا لَهُ عَنْ الْمَجَازِ وَالتَّخْصِيصِ بِذَلِكَ النَّوْعِ , وَكَذَا قوله تعالى { وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ قوله تعالى { فِيهَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } لِأَنَّ فَاكِهَةً مُطْلَقٌ ( وَلَا تَخُصُّ عَادَةٌ عُمُومًا , وَلَا تُقَيِّدُ ) الْعَادَةُ ( مُطْلَقًا ) نَحْوُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الرِّبَا فِي الطَّعَامِ وَعَادَتُهُمْ الْبُرُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالشَّافِعِيَّةِ , خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ . وَلِهَذَا لَا نَقْضَ بِنَادِرٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . قَصْرًا لِلْغَائِطِ عَلَى الْمُعْتَادِ . وَذَكَرَهُ الْقَاضِيَ فِي مَوَاضِعَ : وَجْهُ الْأَوَّلِ الْعُمُومُ لُغَةً وَعُرْفًا , وَالْأَصْلُ عَدَمُ مُخَصَّصٍ , وَفِي شَرْحِ الْعُنْوَانِ لِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّ الصَّوَابَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْعَادَةِ الرَّاجِعَةِ إلَى الْفِعْلِ , وَالرَّاجِعَةِ إلَى الْقَوْلِ , فَيُخَصَّصُ بِالثَّانِيَةِ الْعُمُومُ لِسَبْقِ الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَيْهِ دُونَ الْأُولَى ,
__________
(1) -شرح الكوكب المنير - (ج 2 / ص 195)(2/320)
أَيْ إذَا تَقَدَّمَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ , وَلَكِنْ لَمْ يُقَرِّرْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( وَلَا يُخَصُّ عَامٌّ بِمَقْصُودِهِ ) عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالْأَكْثَرِ , خِلَافًا لِعَبْدِ الْوَهَّابِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ . وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ : الْمُتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ لَمْسِ النِّسَاءِ مَا يُقْصَدُ مِنْهُنَّ غَالِبًا مِنْ الشَّهْوَةِ , ثُمَّ لَوْ عَمَّتْ خُصَّتْ بِهِ . وَخَصَّهُ حَفِيدُهُ أَيْضًا بِالْمَقْصُودِ ( وَلَا ) يُخَصُّ عَامٌّ ( بِرُجُوعِ ضَمِيرٍ إلَى بَعْضِهِ ) أَيْ بَعْضِ الْعَامِّ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا , وَالشَّافِعِيَّةِ , وَعَنْهُ : بَلْ كَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ . وَقِيلَ : بِالْوَقْفِ , مِثَالُ ذَلِكَ : قوله تعالى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } ثُمَّ قَالَ { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } فَإِنَّ الْمُطَلَّقَاتِ يَعُمُّ الْبَوَائِنَ وَالرَّجْعِيَّاتِ وَالضَّمِيرُ فِي قوله تعالى { وَبُعُولَتُهُنَّ } عَائِدٌ إلَى الرَّجْعِيَّاتِ ; لِأَنَّ الْبَائِنَ لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ رَدَّهَا . وَلَوْ وَرَدَ بَعْدَ الْعَامِّ حُكْمٌ لَا يَأْتِي إلَّا فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الضَّمِيرِ . صَرَّحَ بِهِ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ . وَمِثْلُهُ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } ثُمَّ قَالَ { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ } يَعْنِي الرَّغْبَةَ فِي مُرَاجَعَتِهِنَّ , وَالْمُرَاجَعَةُ لَا تَأْتِي فِي الْبَائِنِ وَجْهُ الْأَوَّلِ : أَنَّ الْمَظْهَرَ عَامٌّ , وَالْأَصْلَ بَقَاؤُهُ . فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَخْصِيصِ الْمُضْمَرِ تَخْصِيصُهُ , قَالُوا : يَلْزَمُ وَإِلَّا لَمْ يُطَابِقْهُ رُدَّ , لَا يَلْزَمُ كَرُجُوعِهِ مَظْهَرًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
=================
( وَالْمُنَاسِبُ ) ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ .(1)
__________
(1) - شرح الكوكب المنير - (ج 2 / ص 402)(2/321)
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ ( دُنْيَوِيٌّ ) وَيَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ الْأَوَّلُ ( ضَرُورِيٌّ أَصْلًا , وَهُوَ أَعْلَى رُتَبِ الْمُنَاسَبَاتِ ) وَهُوَ مَا كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ فِي مَحَلِّ الضَّرُورَةِ . وَيَتَنَوَّعُ إلَى خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ , وَهِيَ الَّتِي رُوعِيَتْ فِي كُلِّ مِلَّةٍ , وَهِيَ ( حِفْظُ الدِّينِ , فَ ) حِفْظُ ( النَّفْسِ , فَ ) حِفْظُ ( الْعَقْلِ , فَ ) حِفْظُ ( النَّسْلِ , فَ ) حِفْظُ ( الْمَالِ , وَ ) حِفْظُ ( الْعِرْضِ ) . فَأَمَّا حِفْظُ الدِّينِ : فَبِقِتَالِ الْكُفَّارِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ - } الْآيَةَ " وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . وَأَمَّا حِفْظُ النَّفْسِ : فَبِمَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } { وَقَالَ صلى الله عليه وسلم يَا أَنَسُ , كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ } . وَأَمَّا حِفْظُ الْعَقْلِ : فَبِتَحْرِيمِ الْمُسْكِرَاتِ وَنَحْوِهَا , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَأَمَّا حِفْظُ النَّسْلِ : فَبِوُجُوبِ حَدِّ الزَّانِي . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } وَقَدْ { جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمَ } . وَأَمَّا حِفْظُ الْمَالِ : فَبِقَطْعِ السَّارِقِ وَتَضْمِينِهِ وَتَضْمِينِ الْغَاصِبِ وَنَحْوِهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { إنَّ أَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ } وَقَالَ تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } . وَأَمَّا حِفْظُ الْعِرْضِ : فَبِحَدِّ الْقَذْفِ , قَالَ صلى الله عليه وسلم { إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ } وَجَعَلَهُ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَمَنْظُومَةِ الْبِرْمَاوِيِّ فِي رُتْبَةِ الْمَالِ , لِعَطْفِهِ بِالْوَاوِ . وَتَابَعْنَاهُ , فَيَكُونُ مِنْ أَدْنَى الْكُلِّيَّاتِ ( وَ ) يَلْحَقُ بِالضَّرُورِيِّ مَا هُوَ ( مُكَمِّلٌ لَهُ , كَحِفْظِ الْعَقْلِ بِالْحَدِّ بِقَلِيلٍ مُسْكِرٍ ) وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لَهُ : أَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ ضَرُورِيًّا بِنَفْسِهِ , بَلْ بِطَرِيقِ الِانْضِمَامِ , فَلَهُ تَأْثِيرٌ فِيهِ , لَكِنْ لَا بِنَفْسِهِ ; فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الضَّرُورَةِ مُبَالَغَةً فِي مُرَاعَاتِهِ . فَالْمُبَالَغَةُ فِي حِفْظِ الْعَقْلِ : بِالْحَدِّ بِشُرْبِ قَلِيلِ الْمُسْكِرِ , وَتَقَدَّمَ . وَالْمُبَالَغَةُ فِي حِفْظِ الدِّينِ : بِتَحْرِيمِ الْبِدْعَةِ وَعُقُوبَةِ الْمُبْتَدِعِ الدَّاعِي إلَيْهَا . وَالْمُبَالَغَةُ فِي حِفْظِ النَّفْسِ : بِإِجْرَاءِ الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحَاتِ . وَالْمُبَالَغَةُ فِي حِفْظِ النَّسَبِ : بِتَحْرِيمِ النَّظَرِ وَاللَّمْسِ وَالْخَلْوَةِ , وَالتَّعْزِيرِ عَلَيْهِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي حِفْظِ الْمَالِ بِتَعْزِيرِ الْغَاصِبِ وَنَحْوِهِ . وَالْمُبَالَغَةُ فِي حِفْظِ الْعِرْضِ : بِتَعْزِيرِ السَّابِّ بِغَيْرِ الْقَذْفِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ . الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ : الْحَاجِيُّ وَهُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ فِي مَحَلِّ الضَّرُورَةِ , بَلْ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ , وَهُوَ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَحَاجِيٌّ ) , ( كَبَيْعٍ وَنَحْوِهِ ) كَإِجَارَةٍ وَمُضَارَبَةٍ وَمُسَاقَاةٍ ; لِأَنَّ مَالِكَ الشَّيْءِ قَدْ لَا يَهَبُهُ , فَيَحْتَاجُ إلَى شِرَائِهِ , وَلَا يُعِيرُهُ فَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْجَارِهِ , وَلَيْسَ كُلُّ ذِي مَالٍ يُحْسِنُ التِّجَارَةَ , فَيَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَعْمَلُ لَهُ فِي مَالِهِ , وَلَيْسَ كُلُّ مَالِكِ شَجَرٍ يُحْسِنُ الْقِيَامَ عَلَى شَجَرِهِ , فَيَحْتَاجُ إلَى مَنْ يُسَاقِيهِ عَلَيْهَا . فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَمَا أَشْبَهَهَا لَا يَلْزَمُ مِنْ فَوَاتِهَا فَوَاتُ شَيْءٍ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ ( وَبَعْضُهَا ) أَيْ وَبَعْضُ صُوَرِ الْحَاجِيِّ ( أَبْلَغُ ) مِنْ بَعْضٍ ( وَقَدْ يَكُونُ ) الْحَاجِيُّ ( ضَرُورِيًّا ) فِي بَعْضِ الصُّوَرِ ( كَشِرَاءِ وَلِيِّ ) طِفْلٍ ( مَا يَحْتَاجُهُ طِفْلٌ ) مِنْ مَطْعُومٍ وَمَلْبُوسٍ , حَيْثُ كَانَ فِي مَعْرِضٍ مِنْ الْجُوعِ وَالْبَرْدِ ( وَنَحْوِهِ ) أَيْ وَنَحْوِ مَا ذُكِرَ , كَاسْتِئْجَارِ الْوَلِيِّ لِحِفْظِ الطِّفْلِ مَنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ , مَعَ اشْتِغَالِ الْوَلِيِّ عَنْ تَرْبِيَةِ الطِّفْلِ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا ( وَمُكَمِّلٍ لَهُ ) أَيْ لِلْحَاجِيِّ ( كَرِعَايَةِ كَفَاءَةٍ , وَ ) كَرِعَايَةِ ( مَهْرِ , مِثْلٍ فِي تَزْوِيجِ صَغِيرَةٍ ) وَكَإِثْبَاتِ خِيَارٍ فِي بَيْعٍ بِأَنْوَاعِهِ , لِمَا فِيهِ مِنْ التَّرَوِّي , وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْحَاجَةِ حَاصِلًا بِدُونِهِ . الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ : التَّحْسِينِيُّ , وَهُوَ مَا لَيْسَ ضَرُورِيًّا وَلَا حَاجِيًّا , وَلَكِنَّهُ فِي(2/322)
مَحَلِّ التَّحْسِينِ , وَهُوَ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَتَحْسِينِيٌّ ) وَهُوَ ضَرْبَانِ , أَحَدُهُمَا ( غَيْرُ مُعَارِضٍ لِلْقَوَاعِدِ ) أَيْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ ( كَتَحْرِيمِ النَّجَاسَةِ ) فَإِنَّ نَفْرَةَ الطِّبَاعِ مَعْنًى يُنَاسِبُ تَحْرِيمَهَا حَتَّى أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّضَمُّخُ بِالنَّجَاسَةِ بِلَا عُذْرٍ ( وَ ) كَ ( سَلْبِ الْمَرْأَةِ عِبَارَةَ عَقْدِ النِّكَاحِ ) لِاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْعُقُودِ عَلَى فُرُوجِهِنَّ , لِإِشْعَارِهِ بِتَوَقَانِ نُفُوسِهِنَّ إلَى الرِّجَالِ , وَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ بِالْمُرُوءَةِ , وَكَذَا اعْتِبَارُ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ لِتَعْظِيمِ شَأْنِهِ وَتَمْيِيزِهِ عَنْ السِّفَاحِ بِالْإِعْلَامِ وَالْإِظْهَارِ ( لَا ) سَلْبِ ( الْعَبْدِ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ عَلَى أَصْلِنَا ) لِقَبُولِهَا عِنْدَنَا فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْمَذْهَبِ . الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ التَّحْسِينِيِّ : الْمُعَارِضُ لِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ . وَهُوَ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( أَوْ مُعَارِضٍ ) , ( كَالْكِتَابَةِ ) وَهِيَ بَيْعُ سَيِّدٍ رَقِيقَهُ نَفْسَهُ بِمَالٍ فِي ذِمَّتِهِ يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ : مُبَاحٍ مَعْلُومٍ مُنَجَّمٍ نَجْمَيْنِ فَصَاعِدًا , أَوْ مَنْفَعَةٍ مُؤَجَّلَةٍ , فَإِنَّ الْكِتَابَةَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا مَكْرُمَةً فِي الْقَاعِدَةِ مُسْتَحْسَنَةً احْتَمَلَ الشَّرْعُ فِيهَا جَزْمَ قَاعِدَةٍ مُمَهِّدَةٍ , وَهِيَ امْتِنَاعُ بَيْعِ الْإِنْسَانِ مَالَ نَفْسِهِ بِمَالِ نَفْسِهِ وَمُعَامَلَةِ عَبْدِهِ ( وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ بِحُجَّةٍ ) عِنْدَ الْأَكْثَرِ , خِلَافًا لِمَالِكٍ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ , وَتُسَمَّى الْمَصْلَحَةَ الْمُرْسَلَةَ . قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ . انْتَهَى . وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِأَنَّا لَا نَعْلَمُ مُحَافَظَةَ الشَّرْعِ عَلَيْهَا , وَلِذَلِكَ لَمْ يُشْرَعْ فِي زَوَاجِرِهَا أَبْلَغُ مِمَّا شُرِعَ , كَالْمُثْلَةِ فِي الْقِصَاصِ , فَإِنَّهَا أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ عَنْ الْقَتْلِ , وَكَذَا الْقَتْلُ فِي السَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ , فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ عَنْهُمَا , وَلَمْ يُشْرَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ . فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ حُجَّةً لَحَافَظَ الشَّرْعُ عَلَى تَحْصِيلِهَا بِأَبْلَغِ الطُّرُقِ , لَكِنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ بِفِعْلٍ , فَلَا تَكُونُ حُجَّةً , فَإِذًا إثْبَاتُهَا حُجَّةٌ مِنْ بَابِ وَضْعِ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ . وَاحْتَجَّ مَنْ اعْتَبَرَهَا بِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهَا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ , لَا حَصْرَ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَالْأَمَارَاتِ , وَسَمَّوْهَا مَصْلَحَةً مُرْسَلَةً , وَلَمْ يُسَمُّوهَا قِيَاسًا ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ مُعَيَّنٍ , بِخِلَافِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ , فَإِنَّهَا لَا تَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ مُعَيَّنٍ , بَلْ رَأَيْنَا الشَّارِعَ اعْتَبَرَهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ الشَّرِيعَةِ , فَاعْتَبَرْنَاهَا حَيْثُ وُجِدَتْ ; لِعِلْمِنَا أَنَّ جِنْسَهَا مَقْصُودٌ لَهُ , وَبِأَنَّ الرُّسُلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ - بُعِثُوا لِتَحْصِيلِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ , فَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِالِاسْتِقْرَاءِ , فَمَهْمَا وَجَدْنَا مَصْلَحَةً غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا مَطْلُوبَةٌ لِلشَّرْعِ فَنَعْتَبِرُهَا ; لِأَنَّ الظَّنَّ مَنَاطُ الْعَمَلِ .
=================
الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ الْقَوَادِحِ ( الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ )(1)
__________
(1) - شرح الكوكب المنير - (ج 2 / ص 464)(2/323)
وَهُوَ أَنْ يُبْدِيَ الْمُعْتَرِضُ مَعْنًى آخَرَ يَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ غَيْرَ مَا عَلَّلَ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ , وَهُوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ ( بِمَعْنًى آخَرَ مُسْتَقِلٍّ ) بِالتَّعْلِيلِ . كَمَا لَوْ عَلَّلَ الشَّافِعِيُّ تَحْرِيمَ رِبَا الْفَضْلِ فِي الْبُرِّ بِالطُّعْمِ , فَعَارَضَهُ الْحَنَفِيُّ بِتَعْلِيلِ تَحْرِيمِهِ بِالْكَيْلِ أَوْ الْجِنْسِ أَوْ الْقُوتِ ( أَوْ ) تَكُونُ الْمُعَارَضَةُ بِمَعْنًى آخَرَ ( غَيْرِ مُسْتَقِلٍّ ) بِالتَّعْلِيلِ . وَلَكِنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ وَصَالِحٌ لَهُ كَمَا لَوْ عَلَّلَ الشَّافِعِيُّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ . فَعَارَضَهُ الْحَنَفِيُّ بِتَعْلِيلِ وُجُوبِهِ بِالْجَارِحِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْجَدَلِيُّونَ فِي قَبُولِ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ ( وَالثَّانِي ) وَهُوَ كَوْنُ الْمُعَارَضَةِ بِمَعْنًى غَيْرِ مُسْتَقِلٍّ بِالتَّعْلِيلِ ( مَقْبُولٌ ) عِنْدَ الْجُمْهُورِ ; لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّحَكُّمُ ; لِأَنَّ وَصْفَ الْمُسْتَدِلِّ لَيْسَ بِأَوْلَى بِكَوْنِهِ جُزْءًا أَوْ مُسْتَقِلًّا . فَإِنْ رَجَحَ اسْتِقْلَالُهُ بِتَوْسِعَةِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَتَكْثُرُ الْفَائِدَةُ . فَلِلْمُعْتَرِضِ مَنْعُ دَلَالَةِ الِاسْتِقْلَالِ عَلَيْهَا , ثُمَّ لَهُ مُعَارَضَتُهُ بِأَنَّ الْأَصْلَ انْتِفَاءُ الْأَحْكَامِ , وَ بِاعْتِبَارِهِمَا مَعًا فَهُوَ أَوْلَى . قَالُوا : يَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِقْلَالُهُمَا بِالْعِلِّيَّةِ فَيَلْزَمُ تَعَدُّدُ الْعِلَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ . رُدَّ بِالْمَنْعِ لِجَوَازِ اعْتِبَارِهِمَا مَعًا , كَمَا لَوْ أَعْطَى قَرِيبًا عَالِمًا ( وَلَا يَلْزَمُ الْمُعْتَرِضَ بَيَانُ نَفْيِ وَصْفِ الْمُعَارَضَةِ عَنْ الْفَرْعِ ) هَذَا بَحْثٌ يَتَفَرَّعُ عَلَى قَبُولِ الْمُعَارَضَةِ , وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَلْزَمُ الْمُعْتَرِضَ بَيَانُ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي أَبْدَيْته مُنْتَفٍ فِي الْفَرْعِ أَوْ لَا ؟ فَاَلَّذِي قَدَّمَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ وَتَبِعَهُ فِي التَّحْرِيرِ : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ; لِأَنَّ غَرَضَهُ عَدَمُ اسْتِقْلَالِ مَا ادَّعَى الْمُسْتَدِلُّ أَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ , وَهَذَا الْقَدْرُ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ إبْدَائِهِ , وَقِيلَ : يَلْزَمُهُ ; لِأَنَّهُ قَصَدَ الْفَرْقَ , وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ قَالَ الْعَضُدُ : وَقِيلَ : إنْ تَعَرَّضَ لِعَدَمِهِ فِي الْفَرْعِ صَرِيحًا لَزِمَهُ بَيَانُهُ وَإِلَّا فَلَا , وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ . أَمَّا إنَّهُ إذَا لَمْ يُصَرِّحْ [ بِهِ ] فَلَيْسَ عَلَيْهِ بَيَانُهُ : فَلِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَا لَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ مَعَهُ , وَهَذَا غَرَضُهُ , لَا بَيَانُ عَدَمِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ , حَتَّى لَوْ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ إلْزَامًا لَهُ , وَرُبَّمَا سَلَّمَهُ , وَأَمَّا أَنَّهُ إذَا صَرَّحَ بِهِ [ لَزِمَهُ ] : فَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَمْرًا وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً , فَيَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِهِ , وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَهُ ( وَلَا يَحْتَاجُ وَصْفُهَا ) أَيْ الْمُعَارَضَةَ ( إلَى أَصْلٍ ) هَذَا بَحْثٌ آخَرُ يَتَفَرَّعُ عَلَى قَبُولِ الْمُعَارَضَةِ , وَهُوَ أَنَّهُ : هَلْ يَحْتَاجُ الْمُعَارِضُ إلَى أَصْلٍ يُبَيِّنُ تَأْثِيرَ وَصْفِهِ الَّذِي أَبْدَاهُ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ , حَتَّى يُقْبَلَ مِنْهُ , بِأَنْ يَقُولَ : الْعِلَّةُ الطُّعْمُ دُونَ الْقُوتِ - كَمَا فِي الْمِلْحِ - أَمْ لَا ؟ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ حَاصِلَ هَذَا الِاعْتِرَاضِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إمَّا نَفْيُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ بِعِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ , وَيَكْفِيهِ أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ عِلِّيَّتَهَا بِالِاسْتِقْلَالِ , وَلَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى أَنْ يُثْبِتَ عِلِّيَّةَ مَا أَبْدَاهُ بِالِاسْتِقْلَالِ . فَإِنَّ كَوْنَهُ جُزْءَ الْعِلَّةِ يُحَصِّلُ مَقْصُودَهُ فَقَدْ لَا يَكُونُ عِلَّةً فَلَا يُؤَثِّرُ فِي أَصْلٍ أَصْلًا . وَإِمَّا صَدُّ الْمُسْتَدِلِّ عَنْ التَّعْلِيلِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ لِجَوَازِ أَنَّ تَأْثِيرَ هَذَا وَالِاحْتِمَالِ كَافٍ , فَهُوَ لَا يَدَّعِي عِلِّيَّتَهُ , حَتَّى يَحْتَاجَ شَهَادَةَ أَصْلٍ . وَأَيْضًا فَإِنَّ أَصْلَ الْمُسْتَدِلِّ أَصْلُهُ ; لِأَنَّهُ كَمَا يَشْهَدُ لِوَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ بِالِاعْتِبَارِ ; كَذَلِكَ يَشْهَدُ لِوَصْفِ الْمُعْتَرِضِ بِالِاعْتِبَارِ ; لِأَنَّ الْوَصْفَيْنِ مَوْجُودَانِ فِيهِ , وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ مَوْجُودٌ , بِأَنْ يَقُولَ : الْعِلَّةُ الطُّعْمُ أَوْ الْكَيْلُ أَوْ كِلَاهُمَا . كَمَا فِي الْبُرِّ بِعَيْنِهِ , فَإِذًا مُطَالَبَتُهُ بِأَصْلٍ مُطَالَبَةٌ لَهُ بِمَا قَدْ تَحَقَّقَ حُصُولُهُ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ . ( وَجَوَابُهَا ) أَيْ جَوَابُ الْمُعَارَضَةِ لَهُ وُجُوهٌ . الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ ( بِمَنْعِ وُجُودِ الْوَصْفِ ) مِثْلَ أَنْ يُعَارِضَ الْقُوتَ بِالْكَيْلِ . فَيَقُولَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَكِيلٌ ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعَادَةِ زَمَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ حِينَئِذٍ مَوْزُونًا ( وَالثَّانِي ) مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( أَوْ الْمُطَالَبَةُ ) أَيْ مُطَالَبَةُ الْمُسْتَدِلِّ الْمُعَارِضَ ((2/324)
بِتَأْثِيرِهِ ) أَيْ يَكُونُ وَصْفُ الْمُعَارِضِ مُؤَثِّرًا وَمَحَلُّهُ ( إنْ أَثْبَتَ ) الْمُسْتَدِلُّ الْوَصْفَ ( بِمُنَاسَبَةٍ أَوْ بِشَبَهٍ ) حَتَّى يَحْتَاجَ الْمُعَارِضُ فِي مُعَارَضَتِهِ إلَى بَيَانِ مُنَاسَبَةٍ أَوْ شَبَهٍ ( لَا ) إنْ أَثْبَتَ الْمُسْتَدِلُّ الْوَصْفَ ( بِسَبْرٍ ) فَإِنَّ الْوَصْفَ يَدْخُلُ فِي السَّبْرِ بِدُونِ ثُبُوتِ الْمُنَاسَبَةِ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ ( وَالثَّالِثُ ) مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( أَوْ بِخَفَائِهِ ) أَيْ خَفَاءِ وَصْفِ الْمُعَارَضَةِ ( وَالرَّابِعُ ) مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( أَوْ لَيْسَ مُنْضَبِطًا ) أَيْ كَوْنُ وَصْفِ الْمُعَارَضَةِ لَيْسَ مُنْضَبِطًا ( وَالْخَامِسُ ) مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( أَوْ مَنْعِ ظُهُورِهِ ) بِأَنْ يَمْنَعَ الْمُسْتَدِلُّ ظُهُورَ وَصْفِ الْمُعَارَضَةِ ( وَالسَّادِسُ ) مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( أَوْ انْضِبَاطِهِ ) بِأَنْ يَمْنَعَ الْمُسْتَدِلُّ انْضِبَاطَ وَصْفِ الْمُعَارَضَةِ . فَإِنَّ وَصْفَ الْمُعَارِضِ إذَا كَانَ خَفِيًّا أَوْ ظَاهِرًا غَيْرَ مُنْضَبِطٍ , أَوْ مَنَعَ الْمُسْتَدِلُّ ظُهُورَهُ أَوْ مَنَعَ انْضِبَاطَهُ لَا يُثْبِتُ عِلِّيَّةَ وَصْفِ الْمُعَارِضِ لِوُجُوبِ ظُهُورِ الْوَصْفِ وَانْضِبَاطِهِ . ( وَالسَّابِعُ ) مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( أَوْ بَيَانُ ) أَيْ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ ( أَنَّهُ ) أَيْ أَنَّ وَصْفَ الْمُعَارِضِ ( غَيْرُ مَانِعٍ ) عَنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ . كَمَا لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ : يُقْتَلُ الْقَاتِلُ الْمُكْرَهُ : قِيَاسًا عَلَى الْمُخْتَارِ , وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ , فَيَعْتَرِضُ الْمُعْتَرِضُ بِالِاخْتِيَارِ , أَيْ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ بِالِاخْتِيَارِ , وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْفَرْعِ . فَيُجِيبُ الْمُسْتَدِلُّ بِأَنَّ وَصْفَ الْمُعَارِضِ غَيْرُ مَانِعٍ عَنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ ; لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ عَدَمُ الْإِكْرَاهِ الْمُنَاسِبِ لِنَقِيضِ الْحُكْمِ , وَعَدَمِ الْإِكْرَاهِ طَرْدٌ لَا يَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ , فَالْإِكْرَاهُ مُنَاسِبٌ لِنَقِيضِ الْحُكْمِ وَهُوَ عَدَمُ الِاقْتِصَاصِ , لَكِنَّ عَدَمَ الْإِكْرَاهِ طَرْدِيٌّ لَا يَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْبَاعِثِ فِي شَيْءٍ ( وَالثَّامِنُ ) مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( أَوْ مُلْغًى , أَوْ أَنَّ مَا عَدَاهُ مُسْتَقِلٌّ ) بِالْعِلِّيَّةِ ( فِي صُورَةٍ مَا بِظَاهِرِ نَصٍّ , أَوْ إجْمَاعٍ ) يَعْنِي أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ كَوْنَ الْوَصْفِ الَّذِي عَارَضَ بِهِ الْمُعَارِضُ مُلْغًى . فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ الْمُسْتَدِلُّ : فَقَدْ تَبَيَّنَ اسْتِقْلَالُ الْبَاقِي بِالْعِلِّيَّةِ فِي صُورَةٍ مَا بِظَاهِرِ نَصٍّ , أَوْ إجْمَاعٍ . مِثَالُهُ : إذَا عَارَضَ فِي الرِّبَا الطُّعْمَ بِالْكَيْلِ . فَيُجِيبُ بِأَنَّ النَّصَّ دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ الطُّعْمِ فِي صُورَةٍ مَا , وَهُوَ قَوْلُهُ { لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ } وَمِثَالٌ آخَرُ : أَنْ يَقُولَ فِي يَهُودِيٍّ صَارَ نَصْرَانِيًّا أَوْ بِالْعَكْسِ : بَدَّلَ دِينَهُ . فَيُقْتَلُ كَالْمُرْتَدِّ , فَيُعَارِضُ بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ . فَيُجِيبُ بِأَنَّ التَّبْدِيلَ مُعْتَبَرٌ فِي صُورَةٍ مَا , كَقَوْلِهِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَهَذَا إذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّعْمِيمِ , فَلَوْ عَمَّمَ وَقَالَ : فَثَبَتَ رِبَوِيَّةُ كُلِّ مَطْعُومٍ أَوْ اعْتِبَارُ كُلِّ تَبْدِيلٍ ; لِلْحَدِيثِ . لَمْ يُسْمَعْ ; لِأَنَّ ذَلِكَ إثْبَاتٌ لِلْحُكْمِ بِالنَّصِّ دُونَ الْقِيَاسِ , وَلَا تَعْمِيمَ لِلْقِيَاسِ بِالْإِلْغَاءِ , وَالْمَقْصُودُ ذَلِكَ , وَلِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْعُمُومُ لَكَانَ الْقِيَاسُ ضَائِعًا . وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ عَامًّا إذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْعُمُومِ وَلَمْ يَسْتَدِلُّ بِهِ ( وَيَكْفِي فِي اسْتِقْلَالِهِ ) أَيْ اسْتِقْلَالِ الْوَصْفِ ( إثْبَاتُ ) الْمُسْتَدِلِّ ( الْحُكْمَ فِي صُورَةٍ دُونَهُ ) أَيْ : دُونَ الْوَصْفِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ غَيْرِهِ , وَيَدُلُّ عَلَيْهِ عَجَزُ الْمُعَارِضِ عَنْهُ . ذَكَرَهُ الْمُوَفَّقُ فِي الرَّوْضَةِ . وَقِيلَ : لَا ; لِجَوَازِ عِلَّةٍ أُخْرَى قَطَعَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ وَالْقَادِحُ السَّادِسَ عَشَرَ , هُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَلَوْ أَبْدَى الْمُعْتَرِضُ ) وَصْفًا ( آخَرَ يَقُومُ مَقَامَ ) الْوَصْفِ ( الْمُلْغَى ) أَيْ الَّذِي أَلْغَاهُ الْمُسْتَدِلُّ ( بِثُبُوتِ الْحُكْمِ دُونَهُ ) أَيْ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمُلْغَى ( فَسَدَ الْإِلْغَاءُ . وَيُسَمَّى ) هَذَا ( تَعَدُّدُ الْوَضْعِ , لِتَعَدُّدِ أَصْلَيْهِمَا ) أَيْ أَصْلِ الْمُسْتَدِلِّ وَأَصْلِ الْمُعْتَرِضِ . ( وَجَوَابُ فَسَادِ الْإِلْغَاءِ : الْإِلْغَاءُ , إلَى أَنْ يَقِفَ أَحَدُهُمَا ) قَالَ الْعَضُدُ : وَرُبَّمَا يُظَنُّ أَنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ فِي صُورَةٍ دُونَ وَصْفِ الْمُعَارِضِ كَافٍ فِي إلْغَائِهِ . وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافٍ , لِجَوَازِ وُجُودِ عِلَّةٍ أُخْرَى لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ جَوَازِ تَعَدُّدِ الْعِلَّةِ , وَعَدَمِ وُجُوبِ الْعَكْسِ , وَلِأَجْلِ(2/325)
ذَلِكَ لَوْ أَبْدَى الْمُعْتَرِضُ فِي صُورَةٍ عَدَمَ وَصْفِ الْمُعَارَضَةِ وَصْفًا آخَرَ يَقُومُ مَقَامَ مَا أَلْغَاهُ الْمُسْتَدِلُّ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ دُونَهُ فَسَدَ الْإِلْغَاءُ ; لِابْتِنَائِهِ عَلَى اسْتِقْلَالِ الْبَاقِي فِي تِلْكَ الصُّورَةِ . وَقَدْ بَطَلَ , وَتُسَمَّى هَذِهِ الْحَالَةُ تَعَدُّدَ الْوَضْعِ لِتَعَدُّدِ أَصْلَيْهِمَا , وَالتَّعْلِيلُ فِي أَحَدِهِمَا بِالْبَاقِي عَلَى وَضْعٍ , أَيْ مَعَ قَيْدٍ , وَفِي الْآخَرِ عَلَى وَضْعٍ آخَرَ , أَيْ مَعَ قَيْدٍ آخَرَ . مِثَالُهُ : أَنْ يُقَالَ فِي مَسْأَلَةِ أَمَانِ الْعَبْدِ لِلْحَرْبِيِّ أَمَانٌ مِنْ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ , فَيُقْبَلُ كَالْحُرِّ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْعَقْلَ مَظِنَّتَانِ لِإِظْهَارِ مَصْلَحَةِ الْإِيمَانِ أَيْ بَذْلِ الْأَمَانِ وَجَعْلِهِ آمِنًا . فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ : هُوَ مُعَارَضٌ بِكَوْنِهِ حُرًّا , أَيْ الْعِلَّةُ كَوْنُهُ مُسْلِمًا عَاقِلًا حُرًّا . فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ مَظِنَّةُ فَرَاغِ قَلْبِهِ لِلنَّظَرِ لِعَدَمِ اشْتِغَالِهِ بِخِدْمَةِ السَّيِّدِ فَيَكُونُ إظْهَارُ مَصَالِحِ الْإِيمَانِ مَعَهُ أَكْمَلَ . فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ : الْحُرِّيَّةُ مُلْغَاةٌ لِاسْتِقْلَالِ الْإِسْلَامِ وَالْعَقْلِ بِهِ فِي صُورَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ مِنْ قِبَلِ سَيِّدِهِ فِي أَنْ يُقَاتِلَ . فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ : إذْنُ السَّيِّدِ لَهُ خَلَفٌ عَنْ الْحُرِّيَّةِ . فَإِنَّهُ مَظِنَّةٌ لِبَذْلِ الْوُسْعِ فِيمَا تَصَدَّى لَهُ مِنْ مَصَالِحِ الْقِتَالِ , أَوْ لِعِلْمِ السَّيِّدِ صَلَاحَهُ لِإِظْهَارِ مَصَالِحِ الْإِيمَانِ . وَجَوَابُ تَعَدُّدِ الْوَضْعِ : أَنْ يُلْغِيَ الْمُسْتَدِلُّ ذَلِكَ الْخَلَفَ بِإِبْدَاءِ صُورَةٍ لَا يُوجَدُ فِيهَا الْخَلَفُ . فَإِنْ أَبْدَى الْمُعْتَرِضُ خَلَفًا آخَرَ فَجَوَابُهُ إلْغَاؤُهُ . وَعَلَى هَذَا , إلَى أَنْ يَقِفَ أَحَدُهُمَا . فَتَكُونُ الدَّبْرَةُ عَلَيْهِ . فَإِنْ ظَهَرَ صُورَةٌ لَا خَلَفَ فِيهَا تَمَّ الْإِلْغَاءُ , وَبَطَلَ الِاعْتِرَاضُ , وَإِلَّا ظَهَرَ عَجْزُ الْمُسْتَدِلِّ ( وَلَا يُفِيدُ الْإِلْغَاءَ لِضَعْفِ الْمَظِنَّةِ ) الْمُتَضَمِّنَةِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى ( بَعْدَ تَسْلِيمِهَا ) . مِثَالُهُ : أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ : الرِّدَّةُ عِلَّةُ الْقَتْلِ . فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ : بَلْ مَعَ الرُّجُولِيَّةِ ; لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْإِقْدَامِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ , إذْ يُعْتَادُ ذَلِكَ مِنْ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ . فَيُجِيبُ الْمُسْتَدِلُّ : بِأَنَّ الرُّجُولِيَّةَ وَكَوْنَهَا مَظِنَّةَ الْإِقْدَامِ لَا تُعْتَبَرُ , وَإِلَّا لَمْ يُقْتَلْ مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ ; لِأَنَّ احْتِمَالَ الْإِقْدَامِ فِيهِ ضَعِيفٌ , بَلْ أَضْعَفُ مِنْ احْتِمَالِهِ فِي النِّسَاءِ , وَهَذَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ , حَيْثُ سَلَّمَ أَنَّ الرُّجُولِيَّةَ مَظِنَّةٌ اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ . وَذَلِكَ كَتَرَفُّهِ الْمَلِكِ فِي السَّفَرِ لَا يَمْنَعُ رُخَصَ السَّفَرِ فِي حَقِّهِ لِعِلَّةِ الْمَشَقَّةِ , إذْ الْمُعْتَبَرُ الْمَظِنَّةُ وَقَدْ وُجِدَتْ لَا مِقْدَارُ الْحِكْمَةِ لِعَدَمِ انْضِبَاطِهَا ( وَلَا يَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ رُجْحَانُ وَصْفِهِ ) قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ : لَا يَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ رُجْحَانُ وَصْفِهِ خِلَافًا لِلْآمِدِيِّ ; لِقُوَّةِ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ , كَالْقَتْلِ عَلَى الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ ( أَمَّا إنْ اتَّفَقَا عَلَى كَوْنِ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِأَحَدِهِمَا ) أَيْ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ ( قُدِّمَ الرَّاجِحُ وَلَا يَكْفِي كَوْنُهُ مُتَعَدِّيًا ) لِاحْتِمَالِ تَرْجِيحِ الْقَاصِرِ . قَالَ الْعَضُدُ : هَذَانِ وَجْهَانِ تُوُهِّمَا جَوَابًا لِلْمُعَارَضَةِ وَلَا يَكْفِيَانِ . الْأَوَّلُ : رُجْحَانُ الْمُعَيَّنِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ فِي جَوَابِ الْمُعَارَضَةِ : مَا عَيَّنْته مِنْ الْوَصْفِ رَاجِحٌ عَلَى مَا عَارَضْت بِهِ , ثُمَّ يُظْهِرُ وَجْهًا مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ . وَهَذَا الْقَدْرُ غَيْرُ كَافٍ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِقْلَالَ وَصْفِهِ أَوْلَى مِنْ اسْتِقْلَالِ وَصْفِ الْمُعَارَضَةِ ; إذْ لَا يُعَلَّلُ بِالْمَرْجُوحِ مَعَ وُجُودِ الرَّاجِحِ , لَكِنَّ احْتِمَالَ الْجُزْئِيَّةِ بَاقٍ , وَلَا بُعْدَ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ عَلَى بَعْضٍ فَيَجِيءُ التَّحَكُّمُ . الثَّانِي : كَوْنُ مَا عَيَّنَهُ الْمُسْتَدِلُّ مُتَعَدِّيًا وَالْآخَرُ قَاصِرًا غَيْرُ كَافٍ فِي جَوَابِ الْمُعَارَضَةِ , إذْ مَرْجِعُهُ التَّرْجِيحُ بِذَلِكَ , فَيَجِيءُ التَّحَكُّمُ . هَذَا وَالشَّأْنُ فِي التَّرْجِيحِ فَإِنَّهُ إنْ رُجِّحَتْ الْمُتَعَدِّيَةُ بِأَنَّ اعْتِبَارَهُ يُوجِبُ الِاتِّسَاعَ فِي الْأَحْكَامِ , وَبِأَنَّهَا مُتَّفَقٌ عَلَى اعْتِبَارِهَا بِخِلَافِ الْقَاصِرَةِ رُجِّحَتْ الْقَاصِرَةُ بِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِلْأَصْلِ . إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ الْأَحْكَامِ , وَبِأَنَّ اعْتِبَارَهَا إعْمَالٌ لِلدَّلِيلَيْنِ مَعًا , دَلِيلِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَدَلِيلِ الْقَاصِرَةِ , بِخِلَافِ إلْغَائِهَا . ( وَيَجُوزُ تَعَدُّدُ أُصُولِ الْمُسْتَدِلِّ ) عَلَى الصَّحِيحِ ; لِأَنَّ الظَّنَّ يَقْوَى بِالتَّعَدُّدِ , وَكَمَا أَنَّ أَصْلَ الظَّنِّ مَقْصُودٌ , فَقُوَّتُهُ أَيْضًا مَقْصُودَةٌ ( وَ )(2/326)
عَلَى هَذَا يَجُوزُ ( اقْتِصَارٌ عَلَى ) أَصْلٍ ( وَاحِدٍ فِي مُعَارَضَةٍ , وَ ) فِي ( جَوَابٍ ) مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِبَقِيَّةِ الْأُصُولِ فِيهِ ; لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِذَلِكَ , وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ فِيهِمَا . ( فَوَائِدُ ) تَدُلُّ عَلَى مَعَانِي أَلْفَاظٍ مُتَدَاوَلَةٍ بَيْنَ الْجَدَلِيِّينَ . نَبَّهَ عَلَيْهَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ فِي كِتَابِهِ الْإِيضَاحِ الْأُولَى ( الْفَرْضُ ) وَهُوَ ( أَنْ يُسْأَلَ عَامًّا , فَيُجِيبَ خَاصًّا أَوْ يُفْتِيَ عَامًّا وَيَدُلَّ خَاصًّا ) وَقَالَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ : الْفَرْضُ : وَهُوَ تَخْصِيصُ بَعْضِ صُوَرِ النِّزَاعِ بِالْحِجَاجِ , وَإِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ ( وَ ) الثَّانِيَةُ ( التَّقْدِيرُ ) وَهُوَ ( إعْطَاءُ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ , وَعَكْسُهُ ) وَهُوَ إعْطَاءُ الْمَعْدُومِ حُكْمَ الْمَوْجُودِ , وَهُوَ مُقَارِنُ الْفَرْضِ , فَإِنَّهُ يُقَالُ : يُقَدَّرُ الْفَرْضُ فِي كَذَا , وَالْفَرْضُ مُقَدَّرٌ فِي كَذَا . مِثَالُ إعْطَاءِ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ : الْمَاءُ لِلْمَرِيضِ الَّذِي يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ بِاسْتِعْمَالِهِ , فَيَتَيَمَّمُ وَيَتْرُكُهُ مَعَ وُجُودِهِ حِسًّا . وَمِثَالُ إعْطَاءِ الْمَعْدُومِ حُكْمَ الْمَوْجُودِ : الْمَقْتُولُ تُورَثُ عَنْهُ الدِّيَةُ وَإِنَّمَا تَجِبُ بِمَوْتِهِ وَلَا تُورَثُ عَنْهُ , إلَّا إذَا دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ . فَيُقَدَّرُ دُخُولُهَا قَبْلَ مَوْتِهِ ( وَ ) الثَّالِثَةُ ( مَحَلُّ النِّزَاعِ ) وَهُوَ ( الْحُكْمُ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا ) وَهُوَ أَيْضًا كَالْمُقَارِنِ لِلْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ . فَمَحَلُّ النِّزَاعِ : هُوَ الْمُتَكَلَّمُ فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ . ( وَ ) الرَّابِعَةُ ( الْإِلْغَاءُ ) وَهُوَ ( إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِدُونِ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ ) .
===============
وفي الزواجر :
الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي الْكَبَائِرِ الْبَاطِنَةِ وَمَا يَتْبَعُهَا .(1)
__________
(1) - الزواجر عن اقتراف الكبائر - (ج 1 / ص 59)(2/327)
وَقَدَّمْتُهَا لِأَنَّهَا أَخْطَرُ , وَمُرْتَكِبَهَا أَذَلُّ الْعُصَاةِ وَأَحْقَرُ , وَلِأَنَّ مُعْظَمَهَا أَعَمُّ وُقُوعًا وَأَسْهَلُ ارْتِكَابًا وَأَمَرُّ يَنْبُوعًا فَقَلَّمَا يَنْفَكُّ إنْسَانٌ عَنْ بَعْضِهَا لِلتَّهَاوُنِ فِي أَدَاءِ فَرْضِهَا , فَلِذَلِكَ كَانَتْ الْعِنَايَةُ بِهَذَا الْقِسْمِ أَوْلَى وَكَانَ صَرْفُ عِنَانِ الْفِكْرِ إلَى تَلْخِيصِهِ وَتَحْرِيرِهِ أَحَقَّ وَأَحْرَى . وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ : كَبَائِرُ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ كَبَائِرِ الْجَوَارِحِ لِأَنَّهَا كُلَّهَا تُوجِبُ الْفِسْقَ وَالظُّلْمَ , وَتَزِيدُ كَبَائِرُ الْقُلُوبِ بِأَنَّهَا تَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ وَتُوَالِي شَدَائِدَ الْعُقُوبَاتِ . وَلَمَّا ذَكَرَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ الْكَبَائِرَ الْبَاطِنَةَ وَأَوْصَلَهَا إلَى أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ قَالَ : وَالذَّمُّ عَلَى هَذِهِ الْكَبَائِرِ أَعْظَمُ مِنْ الذَّمِّ عَلَى الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ لِعِظَمِ مَفْسَدَتِهَا وَسُوءِ أَثَرِهَا وَدَوَامِهِ , فَإِنَّ آثَارَهَا تَدُومُ بِحَيْثُ تَصِيرُ حَالًا لِلشَّخْصِ وَهَيْئَةً رَاسِخَةً فِي قَلْبِهِ بِخِلَافِ آثَارِ مَعَاصِي الْجَوَارِحِ فَإِنَّهَا سَرِيعَةُ الزَّوَالِ بِمُجَرَّدِ الْإِقْلَاعِ مَعَ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } . ( الْكَبِيرَةُ الْأُولَى : الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ ) أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَخَتَمَ لَنَا بِالْحُسْنَى فِي عَافِيَةٍ بِلَا مِحْنَةٍ إنَّهُ أَكْرَمُ كَرِيمٍ وَأَرْحَمُ رَحِيمٍ . اعْلَمْ وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ لِمَرْضَاتِهِ وَأَجْزَلَ عَلَيْنَا هَوَاطِلَ جُودِهِ وَسَوَابِغَ هِبَاتِهِ أَنَّهُ مَرَّ أَنَّ كُلًّا مِنْ تَعَارِيفِ الْكَبِيرَةِ السَّابِقَةِ ظَاهِرُهُ إنَّمَا هُوَ تَعْرِيفٌ لِلْكَبِيرَةِ الْمُصَاحِبَةِ لِلْإِيمَانِ , فَلِذَلِكَ بَدَأَ كَثِيرُونَ فِي تَعْدَادِهَا بِمَا يَلِي الْكُفْرَ وَهُوَ الْقَتْلُ , وَلَمْ نُجْرِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مَقْصُودَنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ اسْتِيفَاءُ الْكَلَامِ عَلَى سَائِرِ مَا قِيلَ : إنَّهُ كَبِيرَةٌ مَعَ بَيَانِ مَرَاتِبِهَا وَمَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ . وَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ كَانَ أَحَقَّ بِأَنْ يُبْسَطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَحْكَامِهِ فَنَقُولَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاَللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ , فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ } . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا : { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ وَذَكَرَ مِنْهَا الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ } . وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ { الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ } الْحَدِيثَ . وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ { الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ , أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قَوْلُ الزُّورِ } , وَكَوْنُهُ أَكْبَرَهُنَّ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْهَا كَالشِّرْكِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا . وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ : { الْكَبَائِرُ تِسْعٌ وَأَعْظَمُهُنَّ إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ } الْحَدِيثَ . وَالطَّبَرَانِيُّ : { اجْتَنِبُوا الْكَبَائِرَ السَّبْعَ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ } الْحَدِيثَ . وَالْبَزَّارُ : { إنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَمَنْعُ فَضْلِ الْمَاءِ وَمَنْعُ الْفَحْلِ } . وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَوْلُ الزُّورِ } . وَالطَّبَرَانِيُّ : { الْكَبَائِرُ سَبْعٌ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ } الْحَدِيثَ . وَذَكَرَ مِنْهَا الْأَعْرَابِيَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ , وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَالْبُخَارِيُّ : { أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ } . وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ : { إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ وَالْيَمِينَ الْغَمُوسَ , وَمَا حَلَفَ حَالِفٌ بِاَللَّهِ يَمِينَ صَبْرٍ فَأَدْخَلَ فِيهَا جَنَاحَ بَعُوضَةٍ إلَّا جُعِلَتْ نُكْتَةً فِي قَلْبِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . وَالطَّبَرَانِيُّ . : { مِنْ(2/328)
أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ } . وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الْمُصَلُّونَ وَمَنْ يُقِيمُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ الَّتِي كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ , وَيَصُومُ رَمَضَانَ وَيَحْتَسِبُ صَوْمَهُ يَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ حَقٌّ , وَيُؤْتِي زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ أَيَحْتَسِبُهَا وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا ؟ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ الْكَبَائِرُ ؟ قَالَ : هِيَ تِسْعٌ أَعْظَمُهُنَّ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ , وَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ حَقٍّ , وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ , وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ , وَالسِّحْرُ , وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ , وَأَكْلُ الرِّبَا , وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ , وَاسْتِحْلَالُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قِبْلَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا لَا يَمُوتُ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ هَؤُلَاءِ الْكَبَائِرَ , وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ إلَّا رَافَقَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي بُحْبُوحَةِ جَنَّةٍ ; أَبْوَابُهَا مَصَارِيعُ الذَّهَبِ } . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { اذْهَبْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ , وَفِي رِوَايَةٍ قُمْ يَا عُمَرُ فَنَادِ فِي النَّاسِ : إنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا الْمُؤْمِنُونَ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ , وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { يَا ابْنَ عَوْفٍ ارْكَبْ فَرَسَك ثُمَّ نَادِ إنَّ الْجَنَّةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِمُؤْمِنٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { يَا بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنْ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مُؤْمِنٌ , وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ إنَّهُ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ . وَالشَّيْخَانِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالْأَرْبَعَةُ { مَنْ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ فَاقْتُلُوهُ } . وَالطَّبَرَانِيُّ { أَسْلِمْ وَإِنْ كُنْت كَارِهًا } . وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَالضِّيَاءُ : { آمُرُكُمْ بِثَلَاثٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ : أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا , وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَتُطِيعُوا لِمَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ , وَأَنْهَاكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ : قِيلَ وَقَالَ : وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ } . وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ { أَيُّمَا رَجُلٍ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَادْعُهُ إلَيْهِ فَإِنْ تَابَ فَاقْبَلْ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ , وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ فَادْعُهَا فَإِنْ تَابَتْ فَاقْبَلْ مِنْهَا وَإِنْ أَبَتْ فَاسْبِهَا } رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ , وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ , وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا خِلَافُهُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ أَوْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُعَذِّبُوا عِبَادَ اللَّهِ بِعَذَابِ اللَّهِ } يَعْنِي النَّارَ . وَالطَّبَرَانِيُّ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ , وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَةَ عَبْدٍ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ , أَيْ مَا دَامَ مُصِرًّا عَلَى كُفْرِهِ } . وَابْنُ حِبَّانَ { مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ أَحَدًا } يَعْنِي النَّارَ . وَالشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ { مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ } . وَالطَّبَرَانِيُّ { مَنْ خَالَفَ دِينُهُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ , وَإِذَا شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ شَيْئًا فَيُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّهُ } .
===============
وفي تحفة المحتاج :
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْقَوَدِ شُرُوطًا فِي الْقَتْلِ قَدْ مَرَّتْ وَفِي الْقَاتِلِ وَسَتَأْتِي وَفِي الْقَتِيلِ كَمَا قَالَ ( وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ )(1)
__________
(1) - تحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 36 / ص 332)(2/329)
بَلْ وَالضَّمَانُ مِنْ أَصْلِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ ( فِي الْقَتِيلِ إسْلَامٌ ) مَعَ عَدَمِ نَحْوِ صِيَالٍ وَقَطْعِ طَرِيقٍ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ { فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } ( أَوْ أَمَانٌ ) يَحْقِنُ دَمَهُ بِعَقْدِ ذِمَّةٍ أَوْ عَهْدٍ أَوْ أَمَانٍ مُجَرَّدٍ وَلَوْ مِنْ الْآحَادِ أَوْ ضَرْبِ رِقٍّ ; لِأَنَّهُ بِهِ يَصِيرُ مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ وَمَالُهُمْ فِي أَمَانٍ لِعِصْمَتِهِ حِينَئِذٍ وَيُشْتَرَطُ لِلْقَوَدِ وُجُودُ الْعِصْمَةِ الَّتِي هِيَ حَقْنُ الدَّمِ مِنْ أَوَّلِ أَجْزَاءِ الْجِنَايَةِ كَالرَّمْيِ إلَى الزُّهُوقِ كَمَا يَأْتِي ( فَيَهْدُرُ ) بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ الصَّائِلُ إذَا تَعَيَّنَ قَتْلُهُ فِي دَفْعِ شَرِّهِ وَ ( الْحَرْبِيُّ ) وَلَوْ نَحْوُ امْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ لقوله تعالى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } ( وَالْمُرْتَدُّ ) إلَّا عَلَى مِثْلِهِ كَمَا يَأْتِي لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرْبِيِّ بِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ فَعُصِمَ عَلَى مِثْلِهِ وَلَا كَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ
( قَوْلُهُ : وَقَدْ مَرَّتْ ) وَهِيَ كَوْنُهُ عَمْدًا ظُلْمًا مِنْ حَيْثُ الْإِتْلَافُ ( قَوْلُهُ : بَلْ وَالضَّمَانُ ) أَيْ الشَّامِلُ لِلدِّيَةِ . ( قَوْلُهُ : وَقَطْعِ طَرِيقٍ ) أَيْ تَحَتَّمَ قَتْلُهُ بِهِ كَمَا يَأْتِي سم ( قَوْلُهُ : فَإِذَا قَالُوهَا ) أَيْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُغْنِي ( قَوْلُهُ { إلَّا بِحَقِّهَا } ) لَا دَخَلَ لَهُ فِي الدَّلِيلِ كَمَا لَا يَخْفَى رَشِيدِيٌّ ( قَوْلُهُ : يَحْقِنُ دَمَهُ ) أَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْأَمَانُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الشَّامِلِ لِنَحْوِ الْجِزْيَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ بِعَقْدِ ذِمَّةٍ إلَخْ رَشِيدِيٌّ ( قَوْلُهُ بِهِ يَصِيرُ ) أَيْ بِضَرْبِ الرِّقِّ ع ش ( قَوْلُهُ مِنْ أَوَّلِ إلَخْ ) مُتَعَلِّقٌ بِوُجُودِ إلَخْ ( قَوْلُهُ كَالرَّمْيِ ) مِثَالُ الْجِنَايَةِ ( قَوْلُهُ : كَمَا يَأْتِي ) أَيْ فِي أَوَاخِرِ الْفَصْلِ ( قَوْلُهُ : بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ إلَخْ ) شَامِلٌ لِلذِّمِّيِّ وَالْمُعَاهَدِ ع ش ( قَوْلُهُ : وَلَوْ نَحْوُ امْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ ) إنَّمَا أَخَذَهُمَا غَايَةً لِحُرْمَةِ قَتْلِهِمَا ع ش ( قَوْلُهُ : إلَّا عَلَى مِثْلِهِ ) فَلَا يَهْدُرُ فَيُقْتَلُ بِمُرْتَدٍّ مِثْلُهُ ع ش عِبَارَةُ الْمُغْنِي وَالْمُرَادُ إهْدَارُهُ أَيْ الْمُرْتَدِّ فِي حَقِّ مُسْلِمٍ أَمَّا فِي حَقِّ ذِمِّيٍّ أَوْ مُرْتَدٍّ فَسَيَأْتِي ا هـ . ( قَوْلُهُ : بَيْنَهُ ) أَيْ الْمُرْتَدِّ ( قَوْلُهُ : وَبَيْنَ الْحَرْبِيِّ ) أَيْ حَيْثُ هَدَرَ , وَلَوْ عَلَى مِثْلِهِ ( قَوْلُهُ : بِأَنَّهُ ) أَيْ الْمُرْتَدَّ وَقَوْلُهُ عَلَى مِثْلِهِ أَيْ مُرْتَدٍّ مِثْلِهِ ع ش .
=================
( وَتَجِبُ اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ )(1)
__________
(1) - تحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 38 / ص 285)(2/330)
لِاحْتِرَامِهِمَا بِالْإِسْلَامِ قَبْلُ وَرُبَّمَا عَرَضَتْ شُبْهَةٌ بَلْ الْغَالِبُ أَنَّهَا لَا تَكُونُ عَنْ عَبَثٍ مَحْضٍ وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ خَبَرَ أَنَّهُ { صلى الله عليه وسلم أَمَرَ فِي امْرَأَةٍ ارْتَدَّتْ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ } , وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَتِبْ الْعُرَنِيِّينَ لِأَنَّهُمْ حَارَبُوا وَالْمُرْتَدُّ إذَا حَارَبَ لَا يُسْتَتَابُ كَذَا قِيلَ وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ الَّذِي يَتَّجِهُ وُجُوبُ الِاسْتِتَابَةِ حَتَّى فِيمَنْ حَارَبَ لِأَنَّ تَحَتُّمَ قَتْلِهِ لَا يَمْنَعُ طَلَبَ اسْتِتَابَتِهِ لِيَنْجُوَ مِنْ الْخُلُودِ فِي النَّارِ وَحِينَئِذٍ فَاَلَّذِي يَتَّجِهُ فِي الْجَوَابِ أَنَّهَا وَاقِعَةُ حَالٍ مُحْتَمِلَةٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ أَوْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قِيلَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَبِّرَ بِقَتْلِهَا إنْ لَمْ تَتُبْ لِأَنَّهُ الَّذِي خَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ , وَهُوَ عَجِيبٌ فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِهِ بَعْدُ ( وَفِي قَوْلٍ يُسْتَحَبُّ ) كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ ( وَهِيَ ) عَلَى الْقَوْلَيْنِ ( فِي الْحَالِ ) لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَمَرَّ نَدْبُ تَأْخِيرِهَا إلَى صَحْوِ السَّكْرَانِ ( وَفِي قَوْلٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ) لِأَثَرٍ فِيهِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه ( فَإِنْ أَصَرَّا ) أَيْ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ عَلَى الرِّدَّةِ ( قُتِلَا ) لِلْخَبَرِ الْمَذْكُورِ لِعُمُومِ مَنْ فِيهِ وَالنَّهْيُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَرْبِيَّاتِ وَلِلسَّيِّدِ قَتْلُ قِنِّهِ وَالْقَتْلُ هُنَا بِضَرْبِ الْعُنُقِ دُونَ مَا عَدَاهُ وَلَا يَتَوَلَّاهُ إلَّا الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ فَإِنْ افْتَاتَ عَلَيْهِ أَحَدٌ عُزِّرَ وَلَوْ قَالَ عِنْدَ الْقَتْلِ عَرَضَتْ لِي شُبْهَةٌ فَأَزِيلُوهَا لِأَتُوبَ نَاظَرْنَاهُ وُجُوبًا مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ تَسْوِيفٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْأَوْلَى أَوْ قَبْلَهُ عَلَى الْأَوْجَهِ فَإِنَّ الْحُجَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى السَّيْفِ فَاغْتُفِرَ لَهُ هَذَا الزَّمَنُ الْقَصِيرُ لِلْحَاجَةِ وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِنَا لِكُفْرِهِ وَلَا فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ لِمَا سَبَقَ لَهُ مِنْ حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ كَذَا قَالُوهُ وَهُوَ مُشْكِلٌ فَإِنَّهُ أَخَسُّ مِنْهُمْ وَحُرْمَةُ الْإِسْلَامِ لَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ أَلْبَتَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ ( وَإِنْ أَسْلَمَ صَحَّ ) إسْلَامُهُ ( وَتُرِكَ ) لقوله تعالى { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } وَلِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ { فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } وَشَمِلَ كَلَامُهُ مَنْ كَفَرَ بِسَبِّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ بِسَبِّ نَبِيٍّ غَيْرِهِ , وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ مَذْهَبًا لَكِنْ اُخْتِيرَ قَتْلُهُ مُطْلَقًا وَنَقَلَ الْفَارِسِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ مِنْ أَئِمَّتِنَا الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ فِي سَبٍّ هُوَ قَذْفٌ لَا مُطْلَقًا هَذَا هُوَ صَوَابُ النَّقْلِ عَنْ الْفَارِسِيِّ وَمِمَّنْ بَالَغَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ وَلِلسُّبْكِيِّ هُنَا مَا اعْتَرَفَ بِخُرُوجِهِ عَنْ الْمَذْهَبِ فَلْيُحْذَرْ أَيْضًا وَلَمْ يَحْتَجْ هُنَا لِلتَّثْنِيَةِ لِفَوَاتِ الْمَعْنَى السَّابِقِ الْحَامِلِ عَلَيْهَا , وَهُوَ الْإِشَارَةُ لِلْخِلَافِ فَانْدَفَعَ مَا قِيلَ الْأَحْسَنُ أَسْلَمَا لِيُوَافِقَ مَا قَبْلَهُ ( وَقِيلَ لَا يُقْبَلُ إسْلَامُهُ إنْ ارْتَدَّ إلَى كُفْرٍ خَفِيٍّ كَزَنَادِقَةٍ وَبَاطِنِيَّةٍ ) ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ عِنْدَ الْخَوْفِ عَيْنُ الزَّنْدَقَةِ وَالزِّنْدِيقُ مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُخْفِي الْكُفْرَ كَذَا ذَكَرَاهُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ وَذَكَرَا فِي آخَرَ أَنَّهُ مَنْ لَا يَنْتَحِلُ دِينًا وَرَجَّحَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْأَوَّلَ الْمُنَافِقُ وَقَدْ غَايَرُوا بَيْنَهُمَا , وَالْبَاطِنِيُّ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لِلْقُرْآنِ بَاطِنًا غَيْرُ ظَاهِرِهِ , وَأَنَّهُ الْمُرَادُ مِنْهُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الظَّاهِرِ وَلَيْسَ مِنْهُ خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ إشَارَاتُ الصُّوفِيَّةِ الَّتِي فِي تَفَاسِيرِهِمْ كَتَفْسِيرِ السُّلَمِيُّ وَالْقُشَيْرِيِّ ; لِأَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَدَّعِ أَنَّهَا مُرَادَةٌ مِنْ لَفْظِ الْقُرْآنِ , وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ بَابِ أَنَّ الشَّيْءَ يُتَذَكَّرُ بِذِكْرِ مَالَهُ بِهِ نَوْعُ مُشَابَهَةٍ , وَإِنْ بَعُدَتْ . وَلَا بُدَّ فِي الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا وَفِي النَّجَاةِ مِنْ الْخُلُودِ فِي النَّارِ كَمَا حَكَى عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مِنْ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مِنْ النَّاطِقِ فَلَا يَكْفِي مَا بِقَلْبِهِ مِنْ الْإِيمَانِ , وَإِنْ قَالَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَجَمْعٌ مُحَقِّقُونَ ; لِأَنَّ تَرْكَهُ لِلتَّلَفُّظِ بِهِمَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَعِلْمِهِ بِشَرْطِيَّتِهِ أَوْ شَطْرِيَّتِهِ لَا يَقْصُرُ عَنْ نَحْوِ رَمْيِ مُصْحَفٍ بِقَذِرٍ وَلَوْ بِالْعَجَمِيَّةِ , وَإِنْ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ عَلَى الْمَنْقُولِ الْمُعْتَمَدِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ جَلِيٌّ بِتَرْتِيبِهِمَا ثُمَّ الِاعْتِرَافِ بِرِسَالَتِهِ صلى(2/331)
الله عليه وسلم إلَى غَيْرِ الْعَرَبِ مِمَّنْ يُنْكِرُهَا أَوْ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ دِينٍ يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ وَبِرُجُوعِهِ عَنْ الِاعْتِقَادِ الَّذِي ارْتَدَّ بِسَبَبِهِ وَلَا يُعَزَّرُ مُرْتَدٌّ تَابَ عَلَى أَوَّلِ مَرَّةٍ خِلَافًا لِمَا يَفْعَلُهُ جَهَلَةُ الْقُضَاةِ وَمِنْ جَهْلِهِمْ أَيْضًا أَنَّ مَنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ بِرِدَّةٍ أَوْ جَاءَهُمْ بِطَلَبِ الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ يَقُولُونَ لَهُ تَلَفَّظْ بِمَا قُلْتَ وَهَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه إذَا اُدُّعِيَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ ارْتَدَّ , وَهُوَ مُسْلِمٌ لَمْ أَكْشِفْ عَنْ الْحَالِ وَقُلْتُ لَهُ قُلْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , وَأَنَّك بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ انْتَهَى وَيُؤْخَذُ مِنْ تَكْرِيرِهِ رضي الله عنه لَفْظُ أَشْهَدُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي صِحَّةِ الْإِسْلَامِ , وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الشَّيْخَيْنِ فِي الْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهَا لَكِنْ خَالَفَ فِيهِ جَمْعٌ وَفِي الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ لِكُلٍّ
( قَوْلُهُ : وَلَا يَتَوَلَّاهُ إلَّا الْإِمَامُ ) أَيْ فِي الْحُرِّ ( قَوْلُهُ : بَعْدَ الْإِسْلَامِ ) كَتَبَ عَلَيْهِ م ر ( قَوْلُهُ : أَيْضًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ نَاظَرْنَاهُ كَمَا فِي تَضْبِيبِهِ قَوْلُهُ : فَانْدَفَعَ إلَخْ ) فِي انْدِفَاعِهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى إذْ لَا شُبْهَةَ فِي أَحْسَنِيَّةِ مَا ذُكِرَ وَأَمَّا التَّوْجِيهُ الَّذِي ذَكَرَهُ فَغَايَتُهُ تَصْحِيحُ الْعِبَارَةِ بِالتَّكَلُّفِ ( قَوْلُهُ : بِتَرْتِيبِهِمَا ) أَيْ وَمُوَالَاتِهِمَا م ر ( قَوْلُهُ : فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه إذَا اُدُّعِيَ عَلَى رَجُلٍ إلَخْ ) هَذَا النَّصُّ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عَطْفُ إحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى وَيُوَافِقُهُ قَوْلُهُمْ : لَوْ أَذَّنَ كَافِرٌ غَيْرُ عِيسَوِيٍّ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ أَنَّ الْأَذَانَ لَا عَطْفَ فِي شَهَادَتَيْهِ ( قَوْلُهُ : أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ تَكْرِيرِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُغْنِيَ عَنْهُ الْعَطْفُ(2/332)
( قَوْلُ الْمَتْنِ وَيَجِبُ اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ إلَخْ ) فَلَوْ قَتَلَهُ أَحَدٌ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ عُزِّرَ فَقَطْ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِإِهْدَارِهِ ا هـ ع ش ( قَوْلُهُ : لِاحْتِرَامِهِمَا ) إلَى قَوْلِهِ كَذَا قِيلَ فِي الْمُغْنِي ( قَوْلُهُ : وَرُبَّمَا عَرَضَتْ ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي فَرُبَّمَا إلَخْ بِالْفَاءِ ( قَوْلُهُ : لَا تَكُونُ عَنْ عَبَثٍ إلَخْ ) أَيْ بَلْ عَنْ شُبْهَةٍ عَرَضَتْ ( قَوْلُهُ : فِي امْرَأَةٍ ) يُقَالُ لَهَا أُمُّ رُومَانَ ا هـ مُغْنِي ( قَوْلُهُ : وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَتِبْ إلَخْ ) جَوَابُ سُؤَالٍ وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ رَاجِعٌ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم ( قَوْلُهُ : لِأَنَّهَا ) أَيْ قِصَّةَ الْعُرَنِيِّينَ ( قَوْلُهُ : أَوْ عَلِمَ أَنَّهُمْ إلَخْ ) أَوْ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ وُجُوبِ الِاسْتِتَابَةِ ا هـ سَيِّدُ عُمَرُ ( قَوْلُهُ : قِيلَ كَانَ إلَخْ ) وَافَقَهُ الْمُغْنِي عِبَارَتُهُ نَصُّ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْمَرْأَةِ إشَارَةً إلَى خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ لَكِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُعَبِّرَ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَيُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ إنْ لَمْ يَتُبْ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً ; لِأَنَّ خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَتْلِهَا لَا فِي اسْتِتَابَتِهَا فَإِنَّهُ قَالَ تُحْبَسُ وَتُضْرَبُ إلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ تُسْلِمَ ا هـ . ( قَوْلُهُ : وَهُوَ عَجِيبٌ ) أَيْ الْقَوْلُ الْمَذْكُورُ ( قَوْلُهُ : صَرَّحَ بِهِ ) أَيْ بِقَتْلِ الْمَرْأَةِ ( قَوْلُهُ : وَهِيَ ) أَيْ الِاسْتِتَابَةُ ( قَوْلُهُ : { مَنْ بَدَّلَ دَيْنَهُ فَاقْتُلُوهُ } ) لَعَلَّ وَجْهَ الدَّلَالَةِ مَا أَفَادَتْهُ الْفَاءُ مِنْ التَّعْقِيبِ ا هـ رَشِيدِيٌّ ( قَوْلُ الْمَتْنِ وَفِي قَوْلٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ) أَيْ وَفِي قَوْلٍ يُمْهِلُ فِيهَا عَلَى الْأَوَّلَيْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ا هـ مُغْنِي ( قَوْلُهُ : وَالنَّهْيُ ) إلَى قَوْلِهِ وُجُوبًا فِي النِّهَايَةِ وَالْمُغْنِي ( قَوْلُهُ : وَالْقَتْلُ هُنَا إلَخْ ) أَيْ وَأَمَّا فِيمَا عَدَاهُ فَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ ضَرْبِ الْعُنُقِ كَأَنْ كَانَ الْقَتْلُ قِصَاصًا عَنْ قَتْلٍ بِغَيْرِ ضَرْبِ الْعُنُقِ فَيُقْتَلُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ لِلْمُنَاسَبَةِ ا هـ ع ش ( قَوْلُهُ : وَلَا يَتَوَلَّاهُ إلَّا الْإِمَامُ إلَخْ ) أَيْ فِي الْحُرِّ سم وَمُغْنِي ( قَوْلُهُ : أَوْ نَائِبُهُ ) هَذَا إنْ لَمْ يُقَاتِلْ فَإِنْ قَاتَلَ جَازَ قَتْلُهُ لِكُلِّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ا هـ مُغْنِي ( قَوْلُهُ : نَاظَرْنَاهُ وُجُوبًا إلَخْ ) قَدْ يُقَالُ مُقْتَضَاهُ بَقَاءُ وُجُوبِ الْمُنَاظَرَةِ حَتَّى بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَقَدْ يُوَجَّهُ بِأَنَّ الْغَرَضَ إزَالَةُ الشُّبْهَةِ وَمُقْتَضَاهُ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَهُ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ تَسْوِيفٌ قَيْدٌ فِي الْمُنَاظَرَةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ قَبْلَهُ مَا لَمْ يَظْهَرْ إلَخْ ا هـ سَيِّدُ عُمَرُ أَقُولُ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَيْدٌ لِوُجُوبِ الْمُنَاظَرَةِ مُطْلَقًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ قَبْلَهُ فَمُفَادُهُ حِينَئِذٍ إسْقَاطُ الْوُجُوبِ بِتَسْوِيفِهِ مُطْلَقًا وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ . ( قَوْلُهُ : بَعْدَ الْإِسْلَامِ ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ نَاظَرْنَاهُ كَمَا فِي تَضْبِيبِهِ ا هـ سم ( قَوْلُهُ : أَوْ قَبْلَهُ إلَخْ ) خَالَفَ فِيهِ النِّهَايَةَ وَالْمُغْنِيَ فَقَالَ نَاظَرْنَاهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا قَبْلَهُ , وَإِنْ شَكَا جُوعًا قَبْلَ الْمُنَاظَرَةِ أُطْعِمَ أَوَّلًا ا هـ أَيْ وُجُوبًا ع ش ( قَوْلُهُ : فَإِنَّهُ أَخَسُّ مِنْهُمْ إلَخْ ) فَلَا مَانِعَ مِنْ دَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ ا هـ مُغْنِي ( قَوْلُهُ : لَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ إلَخْ ) أَيْ بِمَوْتِهِ كَافِرًا ا هـ مُغْنِي ( قَوْلُ الْمَتْنِ , وَإِنْ أَسْلَمَ ) أَيْ مَنْ قَامَتْ بِهِ الرِّدَّةُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى صَحَّ وَتُرِكَ أَيْ وَإِنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ مِرَارًا لَكِنَّهُ لَا يُعَزَّرُ عَلَى أَوَّلِ مَرَّةٍ كَمَا يَأْتِي وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي قَبُولِ الْإِسْلَامِ مِنْهُ مَعَ التَّكَرُّرِ بَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ إنَّمَا يُسْلِمُ بَعْدَ الرِّدَّةِ تَقِيَّةً أَوْ لَا . ا هـ ع ش ( قَوْلُهُ : إسْلَامُهُ ) إلَى قَوْلِهِ لَكِنْ اُخْتِيرَ فِي النِّهَايَةِ وَكَذَا فِي الْمُغْنِي إلَّا قَوْلَهُ وَلِلْخَبَرِ إلَى وَشَمِلَ ( قَوْلُهُ : بِسَبِّهِ إلَخْ ) أَيْ أَوْ قَذْفِهِ ا هـ مُغْنِي ( قَوْلُهُ : وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ) أَيْ صِحَّةُ إسْلَامِ مَنْ كَفَرَ بِالسَّبِّ وَتُرِكَ قَتْلُهُ ( قَوْلُهُ : مُطْلَقًا ) أَيْ تَابَ أَمْ لَا ( قَوْلُهُ : عَلَيْهِ ) أَيْ الْفَارِسِيِّ ( قَوْلُهُ : وَلِلسُّبْكِيِّ هُنَا ) أَيْ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ بِسَبِّهِ صلى الله عليه وسلم ( قَوْلُهُ : وَلَمْ يَحْتَجْ ) إلَى الْمَتْنِ فِي النِّهَايَةِ ( قَوْلُهُ : وَلَمْ يَحْتَجْ ) أَيْ الْمُصَنِّفُ هُنَا أَيْ فِي أَسْلَمَ وَتُرِكَ ( قَوْلُهُ : لِفَوَاتِ الْمَعْنَى السَّابِقِ إلَخْ ) أَيْ وَلِلْإِشَارَةِ بِالْمُغَايَرَةِ إلَى الْخِلَافِ وَلَوْ ثَنَّى هُنَا أَيْضًا فَاتَتْ هَذِهِ الْإِشَارَةُ كَمَا لَا يَخْفَى فَمَا صَنَعَهُ الْمُصَنِّفُ أَحْسَنُ مِمَّا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُعْتَرِضُ وَإِنْ قَالَ الشِّهَابُ(2/333)
ابْنُ قَاسِمٍ إنَّ مَا ذَكَرَهُ إنَّمَا هُوَ مُصَحَّحٌ لِلْعِبَارَةِ بِتَكَلُّفٍ لَا دَفْعٌ لِأَحْسَنِيَّةِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُعْتَرِضُ . ا هـ رَشِيدِيٌّ ( قَوْلُهُ : وَهُوَ الْإِشَارَةُ لِلْخِلَافِ ) أَيْ ; لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ قُتِلَا إشَارَةً لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ إنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُقْتَلُ وَفِي قَوْلِهِ السَّابِقِ وَالنَّهْيُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ إلَخْ تَعْرِيضٌ بِالرَّدِّ عَلَى قَائِلِهِ ا هـ ع ش ( قَوْلُهُ : مَا قِيلَ إلَخْ ) وَافَقَهُ الْمُغْنِي وَسَمِّ ( قَوْلُهُ : ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ ) إلَى قَوْلِهِ كَذَا ذَكَرَاهُ فِي النِّهَايَةِ ( قَوْلُهُ : وَالزِّنْدِيقُ ) إلَى قَوْلِهِ أَوْ مَعَ الظَّاهِرِ فِي الْمُغْنِي ( قَوْلُهُ : فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ ) أَيْ فِي هَذَا الْبَابِ وَبَابَيْ صِفَةِ الْأَئِمَّةِ وَالْفَرَائِضِ وَقَوْلُهُ فِي آخَرَ أَيْ فِي اللِّعَانِ مُغْنِي وَشَرْحِ الْمَنْهَجِ ( قَوْلُهُ : مَنْ لَا يَنْتَحِلُ دِينًا ) أَيْ مِنْ لَا يَنْتَسِبُ إلَى دِينٍ ا هـ ع ش ( قَوْلُهُ : أَوْ مَعَ الظَّاهِرِ إلَخْ ) مَحَلُّ تَأَمُّلٍ وَالْمَوْجُودُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ قَصْرُ الْبَاطِنِيَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ وَتَجْوِيزُ الثَّانِي لِلصُّوفِيَّةِ ا هـ سَيِّدُ عُمَرُ أَقُولُ وَمِمَّنْ قَصَرَهُمْ عَلَى الْأَوَّلِ الْمُغْنِي ( قَوْلُهُ : وَلَيْسَ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْبَاطِنِ ( قَوْلُهُ : لَمْ يَدَّعِ أَنَّهَا مُرَادَةٌ إلَخْ ) إنْ أَرَادَ قَطْعًا فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّ ذَلِكَ جَارٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ وُجُوهِ تَفْسِيرِ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَوْ مُطْلَقًا فَمَحَلُّ تَأَمُّلٍ وَقَوْلُهُ : وَإِنَّمَا هِيَ إلَخْ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ ; لِأَنَّهُ مُسَلَّمٌ فِي بَعْضِهَا وَأَمَّا كَثِيرٌ مِنْهَا فَمِمَّا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ احْتِمَالًا ظَاهِرًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مُصْطَلَحِهِمْ بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى اللَّفْظِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ الْمَحْكِيَّةِ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ ا هـ سَيِّدُ عُمَرُ ( قَوْلُهُ : وَلَا بُدَّ فِي الْإِسْلَامِ ) إلَى قَوْلِهِ خِلَافًا لِمَا يَفْعَلُهُ فِي النِّهَايَةِ وَالْمُغْنِي إلَّا قَوْلَهُ وَفِي النَّجَاةِ إلَى مِنْ التَّلَفُّظِ وَقَوْلُهُ مِنْ النَّاطِقِ إلَى وَلَوْ بِالْعَجَمِيَّةِ وَقَوْلُهُ وَالْفَرْقُ إلَى بِتَرْتِيبِهِمَا ( قَوْلُهُ : مُطْلَقًا ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ يُنْكِرُ رِسَالَتَهُ صلى الله عليه وسلم لِلْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ أَوْ يُنْكِرُهَا لِغَيْرِهِمْ خَاصَّةً قَالَهُ ع ش وَعِبَارَةُ الرَّوْضِ مَعَ شَرْحِهِ لَا بُدَّ فِي إسْلَامِ الْمُرْتَدِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكُفَّارِ إلَخْ وَلَعَلَّ هَذَا التَّعْمِيمَ , هُوَ الْمُرَادُ هُنَا . ( قَوْلُهُ : مِنْ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ ) أَيْ وَلَوْ ضِمْنًا عَلَى مَا يَأْتِي وَيُسَنُّ امْتِحَانُ الْكَافِرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِتَقْرِيرِهِ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَوْ قَالَ بَدَلَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فِي الشَّهَادَتَيْنِ أَحْمَدُ وَأَبُو الْقَاسِمِ رَسُولُ اللَّهِ كَفَاهُ وَلَوْ قَالَ النَّبِيُّ بَدَلَ رَسُولِ اللَّهِ كَفَاهُ لَا الرَّسُولُ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَرَسُولِ اللَّهِ فَلَوْ قَالَ آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ كَفَى بِخِلَافِ آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ الرَّسُولِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ لَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى وَالرَّسُولُ قَدْ يَكُونُ لِغَيْرِهِ وَبِخِلَافِ آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ كَمَا فُهِمَ بِالْأَوْلَى , وَغَيْرُ وَسِوَى وَمَا عَدَا وَنَحْوُهَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ كَإِلَّا فِي الِاكْتِفَاءِ بِهَا كَقَوْلِهِ لَا إلَهَ غَيْرُ اللَّهِ أَوْ سِوَى اللَّهِ أَوْ مَا عَدَا اللَّهَ أَوْ مَا خَلَا اللَّهَ وَلَوْ قَالَ كَافِرٌ أَنَا مِنْكُمْ أَوْ مِثْلُكُمْ أَوْ مُسْلِمٌ أَوْ وَلِيُّ مُحَمَّدٍ أَوْ أُحِبُّهُ أَوْ أَسْلَمْتُ أَوْ آمَنْتُ لَمْ يَكُنْ اعْتِرَافًا بِالْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ أَنَا مِنْكُمْ أَوْ مِثْلُكُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ فَإِنْ قَالَ آمَنْتُ أَوْ أَسْلَمْتُ أَوْ أَنَا مُؤْمِنٌ أَوْ مُسْلِمٌ مِثْلُكُمْ أَوْ أَنَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَوْ دِينُكُمْ حَقٌّ أَوْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مَا يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ أَوْ اعْتَرَفَ مَنْ كَفَرَ بِإِنْكَارِ وُجُوبِ شَيْءٍ بِوُجُوبِهِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ إحْدَاهُمَا , وَهِيَ مَا عَلَيْهَا الْجُمْهُورُ , وَهِيَ الرَّاجِحَةُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ اعْتِرَافًا بِالْإِسْلَامِ وَالثَّانِيَةُ وَنَسَبَهَا الْإِمَامُ لِلْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ يَكُونُ اعْتِرَافًا بِهِ وَلَوْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مِلَّةٍ تُخَالِفُ الْإِسْلَامَ لَمْ يَكْفِ عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي التَّعْطِيلَ الَّذِي يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ , وَهُوَ لَيْسَ عِلَّةً وَمَنْ قَالَ آمَنْتُ بِاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ الْوَثَنَ وَكَذَا لَا إلَهَ إلَّا الْمَلِكُ أَوْ إلَّا الرَّزَّاقُ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ السُّلْطَانَ الَّذِي يَمْلِكُ أَمْرَ الْجُنْدِ وَيُرَتِّبُ أَرْزَاقَهُمْ فَإِنْ قَالَ آمَنْتُ بِاَللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى دِينٍ قَبْلَ ذَلِكَ صَارَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ فَيَأْتِي بِالشَّهَادَةِ الْأُخْرَى , وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا لَمْ(2/334)
يَصِرْ مُؤْمِنًا حَتَّى يَضُمَّ إلَيْهِ وَكَفَرْتُ بِمَا كُنْتُ أَشْرَكْتُ بِهِ وَمَنْ قَالَ بِقِدَمِ غَيْرِ اللَّهِ كَفَى لِلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ أَنْ يَقُولَ لَا قَدِيمَ إلَّا اللَّهُ كَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ يَكْفِيهِ أَيْضًا اللَّهُ رَبِّي مُغْنِي وَرَوْضٌ مَعَ شَرْحِهِ . ( قَوْلُهُ : وَعِلْمِهِ إلَخْ ) مَفْهُومُهُ أَنَّ سُكُوتَ الْمُكَلَّفِ عَنْهُ لِجَهْلِهِ بِاعْتِبَارِهِ فِي الْإِيمَانِ شَطْرًا أَوْ شَرْطًا لَا يَضُرُّ فَهُوَ مُؤْمِنٌ فِي الْبَاطِنِ لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ شَطْرًا أَوْ شَرْطًا مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ , وَهُوَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْجَهْلُ فَتَأْثِيرُ الْجَهْلِ هُنَا يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَجَمْعٌ مُحَقِّقُونَ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ التَّصْدِيقُ فَقَطْ وَوُجُوبُ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ عَلَى الْقَادِرِ بِهِ وُجُوبٌ فِقْهِيٌّ يُوجِبُ تَرْكُهُ الْإِثْمَ لَا الْكُفْرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( قَوْلُهُ : وَلَوْ بِالْعَجَمِيَّةِ ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي يَصِحُّ الْإِسْلَامُ بِسَائِرِ اللُّغَاتِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ وَبِإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ نَعَمْ لَوْ لُقِّنَ الْعَجَمِيُّ الْكَلِمَةَ الْعَرَبِيَّةَ فَقَالَهَا وَلَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهَا لَمْ يَكْفِ ا هـ . ( قَوْلُهُ : وَلَوْ بِالْعَجَمِيَّةِ ) أَيْ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفْهَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ أَمَّا إذَا نَطَقَ بِهَا عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهَا فَقَتَلَهُ لِظَنِّ بَقَائِهِ عَلَى الْكُفْرِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَلَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ ثُمَّ إذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ مَا نَطَقَ بِهِ هُوَ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ لِمَعْرِفَتِهَا بِلِسَانِهِ دُونَ الْقَاتِلِ فَيَنْبَغِي وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ ; لِأَنَّهُ قَتَلَ مُسْلِمًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَظَنَّ كُفْرَهُ إنَّمَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ ا هـ ع ش ( قَوْلُهُ : بَيْنَهُ ) أَيْ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ ( قَوْلُهُ : جَلِيٌّ ) لَعَلَّهُ بِوُرُودِ الْأَمْرِ بِتَعَيُّنِ اللَّهُ أَكْبَرُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي } هُنَاكَ وَعَدَمُ وُرُودِ الْأَمْرِ بِتَعَيُّنِ الْعَرَبِيَّةِ هُنَا ( قَوْلُهُ : بِتَرْتِيبِهِمَا إلَخْ ) قَضِيَّةُ صَنِيعِهِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمَا وَبِهِ صَرَّحَ الْمُغْنِي عِبَارَتُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ تَرْتِيبِ الشَّهَادَتَيْنِ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ ثُمَّ بِرَسُولِهِ فَإِنْ عَكَسَ لَمْ يَصِحَّ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَرْتِيبِ الْوُضُوءِ وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ إنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمَا لَا تُشْتَرَطُ فَلَوْ تَأَخَّرَ الْإِيمَانُ بِرَسُولِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مُدَّةً طَوِيلَةً صَحَّ ا هـ ر لَكِنْ جَرَى النِّهَايَةُ عَلَى اعْتِبَارِهَا عِبَارَتُهُ وَيُعْتَبَرُ تَرْتِيبُهُمَا وَمُوَالَاتُهُمَا وَجَزَمَ بِهِ الْوَالِدُ رحمه الله تعالى فِي شُرُوطِ الْإِمَامَةِ ا هـ . ( قَوْلُهُ : ثُمَّ الِاعْتِرَافِ إلَخْ ) عَطْفٌ عَلَى التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَقَوْلُهُ أَوْ الْبَرَاءَةِ إلَخْ عَطْفٌ عَلَى الِاعْتِرَافِ وَقَوْلُهُ وَبِرُجُوعِهِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِرِسَالَتِهِ ( قَوْلُهُ : وَبِرُجُوعِهِ عَنْ الِاعْتِقَادِ إلَخْ ) أَيْ كَأَنْ يَقُولَ بَرِئْتُ مِنْ كَذَا فَيَبْرَأُ مِنْهُ ظَاهِرًا وَأَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَالْعِبْرَةُ بِمَا فِي نَفْسِهِ ا هـ ع ش ( قَوْلُهُ : وَلَا يُعَزَّرُ مُرْتَدٌّ تَابَ إلَخْ ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي نَعَمْ يُعَزَّرُ مِنْ تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُ لِزِيَادَةِ تَهَاوُنِهِ بِالدِّينِ فَيُعَزَّرُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَمَا بَعْدَهَا وَلَا يُعَزَّرُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى ا هـ . ( قَوْلُهُ : فَقَدْ قَالَ ) إلَى قَوْلِهِ وَفِي الْأَحَادِيثِ فِي النِّهَايَةِ ( قَوْلُهُ : فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ إلَخْ ) هَذَا النَّصُّ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عَطْفُ إحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى وَيُوَافِقُهُ قَوْلُهُ : لَوْ أَذَّنَ كَافِرٌ غَيْرُ عِيسَوِيٍّ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ أَنَّ الْأَذَانَ لَا عَطْفَ فِي شَهَادَتَيْهِ سم وَعِ ش ( قَوْلُهُ : وَيُؤْخَذُ مِنْ تَكْرِيرِهِ إلَخْ ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ فِي مُخْتَصَرِ الْكِفَايَةِ وَهُمَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَنْ أَفْتَى مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظِ أَشْهَدُ فِي الشَّهَادَتَيْنِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ وَقَالَ الزَّنْكَلُونِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ وَهُمَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ لَفْظَةَ أَشْهَدُ لَا تُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَتَيْنِ وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَنْ أَفْتَى بِعَدَمِ الِاشْتِرَاطِ , وَهِيَ وَاقِعَةُ حَالٍ اخْتَلَفَ الْمَفْتُون فِي الْإِفْتَاءِ فِي عَصْرِنَا فِيهَا وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ النَّقِيبِ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَمَالِ وَمَا قَالَهُ الزَّنْكَلُونِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى(2/335)
أَقَلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِسْلَامُ فَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ا هـ . ( قَوْلُهُ : أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ تَكْرِيرِهِ أَيْ وَعَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ بِدُونِهِ , وَإِنْ أَتَى بِالْوَاوِ قَالَهُ ع ش وَقَالَ سم يَنْبَغِي أَنْ يُغْنِيَ عَنْهُ الْعَطْفُ ا هـ . ( قَوْلُهُ : وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إلَخْ ) مُعْتَمَدٌ كَذَا فِي ع ش لَكِنَّ الْمُوَافِقَ لِلْأَدِلَّةِ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ كَمَا مَالَ إلَيْهِ الشَّارِحُ بَلْ عَدَمُ اشْتِرَاطِ لَفْظَةِ أَشْهَدُ مِنْ أَصْلِهَا كَمَا مَرَّ آنِفًا عَنْ الْمُغْنِي اسْتِظْهَارُهُ وَعَنْهُ وَعَنْ الرَّوْضِ مَعَ شَرْحِهِ مَا يُفِيدُهُ
==============
وفي كشاف القناع :(1)
( بَاب حُكْمُ الْمُرْتَدِّ وَهُوَ )
__________
(1) - شرح منتهى الإرادات - (ج 11 / ص 300) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 21 / ص 94) ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى - (ج 18 / ص 351) وزاد المستقنع في إختصار المقنع - (ج 1 / ص 49) ومنار السبيل شرح الدليل - (ج 2 / ص 285)(2/336)
لُغَةً الرَّاجِعُ يُقَالُ ارْتَدَّ فَهُوَ مُرْتَدٌّ إذَا رَجَعَ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } وَشَرْعًا ( الَّذِي يَكْفُرُ بَعْدَ إسْلَامِهِ ) نُطْقًا أَوْ اعْتِقَادًا أَوْ شَكًّا أَوْ فِعْلًا ( وَلَوْ مُمَيِّزًا ) فَتَصِحّ رِدَّتُهُ كَإِسْلَامِهِ وَيَأْتِي ( طَوْعًا ) لَا مُكْرَهًا لقوله تعالى : { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } ( وَلَوْ ) كَانَ ( هَازِلًا ) لِعُمُومِ قوله تعالى : { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } الْآيَةَ وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ . ( فَمَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ ) تَعَالَى أَيْ كَفَرَ بِهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ وَلَوْ مُكْرَهًا بِحَقٍّ كَفَرَ لقوله تعالى { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } ( أَوْ جَحَدَ بِرُبُوبِيَّتِهِ أَوْ وَحْدَانِيِّتِهِ ) كَفَرَ لِأَنَّ جَاحِدَ ذَلِكَ مُشْرِكٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى ( أَوْ ) جَحَدَ ( صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ ) اللَّازِمَةِ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ لِأَنَّهُ كَجَاحِدِ الْوَحْدَانِيَّةِ . وَفِي الْفُصُولِ : شَرْطُهُ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مُتَّفَقًا عَلَى إثْبَاتِهَا ( أَوْ اتَّخَذَ لَهُ ) أَيْ لِلَّهِ ( صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا ) كَفَرَ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ وَنَفَاهُ عَنْهُ فَمُتَّخِذُهُ مُخَالِفٌ لَهُ غَيْرُ مُنَزِّهٍ لَهُ عَنْ ذَلِكَ ( أَوْ ادَّعَى النُّبُوَّةَ أَوْ صَدَّقَ مَنْ ادَّعَاهَا ) بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَفَرَ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } . وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا نَبِيَّ بَعْدِي } ( أَوْ جَحَدَ نَبِيًّا ) مَجْمَعًا عَلَى نُبُوَّتِهِ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِلَّهِ جَاحِدٌ لِنُبُوَّةِ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ ( أَوْ ) جَحَدَ ( كِتَابًا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ ) لِأَنَّ جَحْدَ شَيْءٍ مِنْهُ كَجَحْدِهِ كُلِّهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي كَوْنِ الْكُلِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ( أَوْ جَحَدَ الْمَلَائِكَةَ ) أَوْ أَحَدًا مِمَّنْ ثَبَتَ أَنَّهُ مَلَكٌ كَفَرَ لِتَكْذِيبِهِ الْقُرْآنَ ( أَوْ ) جَحَدَ ( الْبَعْثَ ) كَفَرَ لِتَكْذِيبِهِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ( أَوْ سَبَّ اللَّهَ أَوْ رَسُولَهُ ) كَفَرَ لِأَنَّهُ لَا يَسُبُّهُ إلَّا وَهُوَ جَاحِدٌ بِهِ ( أَوْ اسْتَهْزَأَ بِاَللَّهِ ) تَعَالَى ( أَوْ بِكُتُبِهِ أَوْ رُسُلِهِ ) لقوله تعالى : { قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } . قَالَ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ : وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى فِي الْهَازِئِ بِذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يُؤَدَّبَ أَدَبًا يَزْجُرُهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُكْتَفَ مِمَّنْ سَبَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم بِالتَّوْبَةِ فَهَذَا أَوْلَى . ( قَالَ الشَّيْخُ أَوْ كَانَ مُبْغِضًا لِرَسُولِهِ أَوْ لِمَا جَاءَ بِهِ ) الرَّسُولُ ( اتِّفَاقًا , وَقَالَ أَوْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَسَائِطَ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ وَيَدْعُوهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ إجْمَاعًا انْتَهَى ) أَيْ كَفَرَ لِأَنَّ ذَلِكَ كَفِعْلِ عَابِدِي الْأَصْنَامِ قَائِلِينَ : { مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى } . ( أَوْ سَجَدَ لِصَنَمٍ أَوْ شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ ) عِبَارَةُ الْمُنْتَهَى لِكَوْكَبٍ فَيَدْخُلُ فِيهِ سَائِرُ الْكَوَاكِبِ كَفَرَ لِأَنَّ ذَلِكَ إشْرَاكٌ ( أَوْ أَتَى بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ صَرِيحٍ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِالدِّينِ ) الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ كَفَرَ لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ ( أَوْ وُجِدَ مِنْهُ امْتِهَانٌ لِلْقُرْآنِ أَوْ طَلَبُ تَنَاقُصِهِ أَوْ دَعْوَى أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ أَوْ ) أَنَّهُ ( مُخْتَلِفٌ أَوْ مَقْدُورٌ عَلَى مِثْلِهِ أَوْ إسْقَاطٌ لِحُرْمَتِهِ ) كَفَرَ لقوله تعالى : { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } وَقَوْلُهُ : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } وَقَوْلُهُ : { قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ } الْآيَة ( أَوْ أَنْكَرَ الْإِسْلَامَ ) كَفَرَ لقوله تعالى : { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } ( أَوْ ) أَنْكَرَ ( الشَّهَادَتَيْنِ أَوْ ) أَنْكَرَ ( أَحَدَهُمَا كَفَرَ ) لِأَنَّهُ إنْكَارٌ لِلْوَحْدَانِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ أَوْ إحْدَاهُمَا , وَذَلِكَ كُفْرٌ لِمَا مَرَّ .
( فَصْلُ وَمَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ )(2/337)
رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ يُوجِبُ الْحَدَّ فَاسْتَوَى فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ كَالزِّنَا وَمَا رُوِيَ أَنَّ " أَبَا بَكْرٍ اسْتَرَقَّ نِسَاءَ بَنِي حَنِيفَةَ " فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُنَّ إسْلَامٌ وَأَمَّا نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ الْمَرْأَةِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْأَصْلِيَّةُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الشُّيُوخَ وَلَا الْمَكَافِيفُ ( وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ ) لِأَنَّ الطِّفْلَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَالْمَجْنُونَ وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِنَوْمٍ أَوْ إغْمَاءٍ أَوْ شُرْبٍ مُبَاحٍ لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ وَلَا حُكْمَ لِكَلَامِهِ وَالْمُمَيِّزَ وَإِنْ صَحَّتْ رِدَّتُهُ لَا يُقْتَلُ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالِاسْتِتَابَةِ لِحَدِيثِ : { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ } ( مُخْتَارٌ ) لقوله تعالى : { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } ( دُعِيَ إلَيْهِ ) أَيْ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالِاسْتِتَابَةِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ( ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَضُيِّقَ عَلَيْهِ ) فِيهَا . ( وَحُبِسَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ ) لِمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي قَالَ : " قَدِمَ رَجُلٌ عَلَى عُمَرَ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى فَسَأَلَهُ عَنْ النَّاسِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ هَلْ مِنْ مُغَرِّبَةٍ خَبَرٌ قَالَ نَعَمْ رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَقَالَ مَا فَعَلْتُمْ بِهِ قَالَ قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ فَقَالَ عُمَرُ هَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا وَأَسْقَيْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَرْضَ وَلَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي " رَوَاهُ مَالِكُ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ لَمَا بَرِئَ مِنْ فِعْلِهِمْ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ اسْتِصْلَاحُهُ فَلَمْ يَجُزْ إتْلَافُهُ قُبِلَ اسْتِصْلَاحُهُ كَالثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ مُدَّةٌ يَتَكَرَّرُ فِيهَا الرَّأْيُ وَيَتَقَلَّبُ النَّظَرُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَكْثَرِ مِنْهَا وَيَكُونُ الْقَتْلُ ( بِالسَّيْفِ ) لِحَدِيثِ { إذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ } ( إلَّا رَسُولُ الْكُفَّارِ إذَا كَانَ مُرْتَدًّا ) فَلَا يُقْتَلُ ( بِدَلِيلِ رَسُولَيْ مُسَيْلِمَةَ ) بِكَسْرِ اللَّامِ الْكَذَّابِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ قِصَّتِهِمَا فِي الْجِهَادِ . ( وَلَا يَقْتُلُهُ إلَّا الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ حُرًّا كَانَ الْمُرْتَدُّ أَوْ عَبْدًا ) لِأَنَّهُ قُتِلَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ إلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ كَقَتْلِ الْحُرِّ وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } لِأَنَّ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ لِكُفْرِهِ لَا حَدًّا ( وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ فِدَاءٍ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ الْمُرْتَدِّ بَلْ يُقْتَلُ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } ( وَإِنْ قَتَلَهُ ) أَيْ الْمُرْتَدَّ ( غَيْرُهُ ) أَيْ غَيْرُ الْإِمَامِ وَنَائِبِهِ ( بِلَا إذْنِهِ أَسَاءَ وَعُزِّرَ ) لِافْتِيَاتِهِ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ ( وَلَمْ يَضْمَنْ ) الْقَاتِلُ الْمُرْتَدَّ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ غَيْرُ مَعْصُومٍ ( سَوَاءٌ قَتَلَهُ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ أَوْ بَعْدَهَا ) لِأَنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي الْجُمْلَةِ وَرِدَّتُهُ مُبِيحَةٌ لِدَمِهِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ كَمَا هِيَ مَوْجُودَةٌ بَعْدَهَا ( إلَّا أَنْ يَلْحَقَ ) الْمُرْتَدُّ ( بِدَارِ حَرْبٍ فَلِكُلِّ ) أَحَدٍ ( قَتْلُهُ ) بِلَا اسْتِتَابَةٍ ( وَأَخْذُ مَا مَعَهُ مِنْ مَالٍ ) لِأَنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا وَمَا تَرَكَهُ بِدَارِنَا مَعْصُومٌ نَصَّ عَلَيْهِ .
===============
( وَإِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِمَا لَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُمَا )(1)
__________
(1) - الإنصاف - (ج 16 / ص 110) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 21 / ص 156) والمبدع شرح المقنع - (ج 9 / ص 437) والإقناع - (ج 4 / ص 305)(2/338)
لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُقَرُّ عَلَى الرِّدَّةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الَّذِينَ سَبَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ كَانُوا أَسْلَمُوا وَلَا تَثْبُتُ لَهُمْ حُكْمُ الرِّدَّةِ وَقَوْلُ عَلِيٍّ بِسَبْيِ الْمُرْتَدِّ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ ( وَلَا اسْتِرْقَاقُ أَوْلَادِهِمَا الَّذِينَ وُلِدُوا ) أَيْ حُمِلَ بِهِمْ ( فِي الْإِسْلَامِ ) لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِمْ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِمْ قَبْلَ الرِّدَّةِ يَتْبَعُونَهُمْ فِيهَا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَقَدْ تَبِعُوهُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَلَا يَتْبَعُوهُمْ فِي الرِّدَّةِ ( وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ ) أَيْ مِنْ أَوْلَادِهِمَا الَّذِينَ وُلِدُوا أَوْ حُمِلَ بِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ ( قُتِلَ ) بَعْدَ بُلُوغِهِ وَاسْتِتَابَتِهِ لِخَبَرِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } .
==================
( وَلَا يَجْرِي عَلَى الْمُرْتَدِّ رِقٌّ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَقَامَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ )
لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى الرِّدَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ ( وَمَنْ وُلِدَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْتَدِّينَ قَبْلَ الرِّدَّةِ أَوْ كَانَ حَمْلًا وَقْتُهَا ) أَيْ الرِّدَّةِ ( فَمَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يَتْبَعُ أَبَوَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ لَا فِي الرِّدَّةِ ( وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ صِغَارًا ) لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ( وَلَا كِبَارًا ) لِأَنَّهُمْ إنْ ثَبَتُوا عَلَى إسْلَامِهِمْ بَعْدَ كِبَرِهِمْ فَهُمْ مُسْلِمُونَ وَإِنْ كَفَرُوا فَهُمْ مُرْتَدُّونَ ( وَبَعْدَ الْبُلُوغِ ) إذَا ثَبَتُوا عَلَى الْكُفْرِ ( فَيُسْتَتَابُونَ كَآبَائِهِمْ ) فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا ( وَلَا يُقَرُّ مُرْتَدٌّ بِجِزْيَةٍ ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَتْلُهُ لِخَبَرِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } .
==============
وفي مجمع الأنهر :(1)
وَلَوْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي بَلْخِي أَوْ فِي هَذِهِ السِّكَّةِ أَوْ فِي هَذَا الْجَامِعِ حُرٌّ وَعَبْدُهُ فِيهَا لَا يُعْتَقُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ عَبْدَهُ .
__________
(1) - مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر - (ج 3 / ص 460)(2/339)
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يُعْتَقُ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ كَمَا فِي أَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ , وَلَوْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ حُرٌّ وَعَبْدُهُ فِيهَا يُعْتَقُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا , وَلَوْ قَالَ وَلَدُ آدَمَ كُلُّهُمْ أَحْرَارٌ لَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ فِي قَوْلِهِمْ , وَفِي الْجَوْهَرَةِ : وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَبَيْنَ مَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْعِتْقُ كَالْبَهِيمَةِ وَالْحَائِطِ فَقَالَ عَبْدِي هَذَا حُرٌّ وَهَذَا أَوْ قَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ عَتَقَ الْعَبْدُ عِنْدَ الْإِمَامِ وَعِنْدَهُمَا لَا , وَإِنْ قَالَ لِعَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ لَمْ يُعْتَقْ إجْمَاعًا إلَّا بِالنِّيَّةِ . وَفِي الشُّمُنِّيِّ نَقْلًا عَنْ الْمَرْغِينَانِيِّ : نَظَرَ إلَى عَشْرِ جَوَارٍ فَقَالَ إنْ اشْتَرَيْت جَارِيَةً مِنْكُنَّ فَهِيَ حُرَّةٌ فَاشْتَرَى جَارِيَتَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً إحْدَاهُمَا لِنَفْسِهِ وَالْأُخْرَى لِغَيْرِهِ لَمْ تُعْتَقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا قَالَ : وَالْمَعْنَى فِيهِ غُمُوضٌ . وَفِي الْخَانِيَّةِ : وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ قَدْ أَعْتَقَك اللَّهُ عَتَقَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ هُوَ الْمُخْتَارَ , وَلَوْ قَالَ الْعَتَاقُ عَلَيْك يُعْتَقُ وَلَوْ قَالَ عِتْقُكَ عَلَيَّ وَاجِبٌ لَا يُعْتَقُ ( وَمَنْ مَلَكَ ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ الْآتِي عَتَقَ عَلَيْهِ ( ذَا رَحِمٍ ) يَعْنِي مَحْرَمِيَّتُهُ بِالْقَرَابَةِ لَا بِالرَّضَاعِ حَتَّى لَوْ مَلَكَ ابْنَ عَمِّهِ وَهِيَ أُخْتُهُ رَضَاعًا لَا يُعْتَقُ ( مِنْهُ ) أَيْ مِنْ مَالِكٍ ( عَتَقَ عَلَيْهِ ) وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْقَرَابَةَ أَقْسَامٌ قَرِيبَةٌ كَالْوِلَادَةِ وَحُكْمُهَا الْعِتْقُ بِالْإِنْفَاقِ خِلَافًا لِأَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ لَكِنْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعْتَقَ , وَبَعِيدَةٌ كَبَنِي الْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ وَحُكْمُهُمَا عَدَمُ الْعِتْقِ بِالْإِنْفَاقِ ; لِأَنَّهَا بَعُدَتْ وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي حُرْمَةِ النِّكَاحِ فَلَمْ يُعْتَقْ بِالْمِلْكِ , وَمُتَوَسِّطَةٌ كَالْقَرَابَةِ الْمُتَأَبِّدَةِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ , وَتَفْسِيرُهُ كُلُّ مَنْ حَرُمَ نِكَاحُهُ عَلَى التَّأْبِيدِ لِأَجْلِ النَّسَبِ فَالشَّافِعِيُّ أَلْحَقَ الْمُتَوَسِّطَةَ بِالْبَعِيدَةِ وَيَقُولُ الْعِلَّةُ فِي الْوِلَادَةِ الْبَعْضِيَّةِ ; وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُخَالِفَ الْبَعْضُ الْكُلَّ وَنَحْنُ نُلْحِقُهَا بِالْقَرِيبَةِ وَنَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام { مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ أَوْ عَتَقَ عَلَيْهِ } وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْعِتْقِ الْمِلْكُ مَعَ الْقَرَابَةِ الْمُتَأَبِّدَةِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ , فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِبَيَانِ السَّبَبِ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وَهَذَا ; لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُنَاكَحَةِ ثَبَتَتْ بِهَذِهِ الْقَرَابَةِ لِمَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ ذَلِكَ الِاسْتِفْرَاشِ وَالِاسْتِخْدَامِ قَهْرًا وَمِلْكُ الْيَمِينِ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِدْلَالِ مِنْ الِاسْتِفْرَاشِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ هَذِهِ قَرَابَةٌ صِينَتْ عَنْ أَدْنَى الذُّلَّيْنِ فَلَأَنْ يُصَانَ عَنْ أَعْلَاهُمَا أَوْلَى كَمَا فِي الْمُسْتَصْفَى . ( وَلَوْ ) : وَصْلِيَّةٌ ( كَانَ الْمَالِكُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا ) أَوْ كَافِرًا لِعُمُومِ الْعِلَّةِ , لَكِنْ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حَتَّى لَوْ مَلَكَ قَرِيبَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَعْتَقَ الْمُسْلِمُ عَبْدَهُ فِيهَا لَا يُعْتَقُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَكَذَا إذَا أَعْتَقَ الْحَرْبِيُّ عَبْدَهُ فِيهَا كَمَا فِي الْإِيضَاحِ هَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ حَرْبِيًّا أَمَّا لَوْ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَأَعْتَقَ الْحَرْبِيُّ فِيهَا عَتَقَ إجْمَاعًا كَمَا فِي الْجَوْهَرَةِ . ( وَالْمُكَاتَبُ يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ قَرَابَةُ الْوِلَادِ فَحَسْبُ ) كَمَا إذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ وَإِذَا اشْتَرَى أَخَاهُ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُ لَا يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا لَهُ التَّكَسُّبُ خَاصَّةً وَقَرَابَةُ الْوِلَادِ تَجِبُ مُوَاسَاتُهَا بِالتَّكَسُّبِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَقَارِبِ وَكَذَا التَّكَاتُبُ ( خِلَافًا لَهُمَا ) أَيْ إذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَخَاهُ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُ يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حُرًّا عَتَقَ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ مُكَاتَبًا يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ كَقَرَابَةِ الْوِلَادِ .
===============
بَاب ( الْمُرْتَدِّ )(1)
__________
(1) - مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر - (ج 4 / ص 371)(2/340)
هُوَ فِي اللُّغَةِ الرَّاجِعُ مُطْلَقًا وَفِي الشَّرْعِ هُوَ الرَّاجِعُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَرُكْنُ الرِّدَّةِ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَشَرَائِطُ صِحَّتِهَا الْعَقْلُ وَالطَّوْعُ ( مَنْ ارْتَدَّ وَ ) نَعُوذُ ( الْعِيَاذَ بِاَللَّهِ تَعَالَى ) فَهِيَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مَكْسُورُ الْعَيْنِ ( يُعْرَضُ ) أَيْ عَرَضَ الْإِمَامُ وَالْقَاضِي كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّأْجِيلِ لِرَجَاءِ الْعَوْدِ إلَيْهِ ( عَلَيْهِ ) أَيْ الْمُرْتَدِّ ( الْإِسْلَامُ ) وَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ اسْتِحْبَابًا إلَّا أَنَّهُ إذَا ارْتَدَّ ثَانِيًا الْعِيَاذَ بِاَللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ تَابَ ضَرَبَهُ الْإِمَامُ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ وَإِنْ ارْتَدَّ ثَالِثًا حَبَسَهُ بَعْدَ الضَّرْبِ الْمُوجِعِ حَتَّى يَظْهَرَ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ وَيَرَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ مُخْلِصٌ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ فَإِنْ عَادَ فَعَلَهُ بِهِ هَكَذَا وَيُقْتَلُ إلَّا أَنْ يَأْبَى أَنْ يُسْلِمَ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ وَمُسْتَهْزِئٌ لَيْسَ بِتَائِبٍ ( وَتُكْشَفُ شُبْهَتُهُ ) الَّتِي عُرِضَتْ فِي الْإِسْلَامِ ( إنْ كَانَتْ ) أَيْ إنْ وُجِدَتْ لَهُ شُبْهَةٌ ( فَإِنْ اسْتَمْهَلَ ) أَيْ طَلَبَ الْمَهْلَ بَعْدَ الْعَرْضِ لِلتَّفَكُّرِ ( حُبِسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ) لِأَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَمْهِلْ لَا يُمْهَلُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَلْ يُقْتَلُ مِنْ سَاعَتِهِ إلَّا إذَا كَانَ الْإِمَامُ يَرْجُو إسْلَامَهُ . وَعَنْ الشَّيْخَيْنِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُمْهَلَ بِلَا اسْتِمْهَالٍ لِرَجَاءِ الْإِسْلَامِ . وَقَالَ عليه الصلاة والسلام { لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُقْتَلَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْإِمْهَالُ وَاجِبٌ وَلَا يَحِلُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ قَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ فِيهِ سِيَّانِ ( فَإِنْ تَابَ ) بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ ( قُتِلَ ) وُجُوبًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } ( وَتَوْبَتُهُ بِالتَّبَرُّؤِ ) بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ ( عَنْ كُلِّ دِينٍ سِوَى الْإِسْلَامِ أَوْ ) بِالتَّبَرِّي ( عَمَّا انْتَقَلَ إلَيْهِ ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا دِينَ لَهُ وَفِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْكَافِرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لَصَارَ مُسْلِمًا وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَى هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ وَيُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ اسْمِهِ عليه الصلاة والسلام دُونَ مَعْرِفَةِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ .
=============
( وَالْمَرْأَةُ ) إذَا ارْتَدَّتْ ( لَا تُقْتَلُ )(2/341)
عِنْدَنَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً ( بَلْ تُحْبَسُ ) إنْ أَبَتْ وَلَوْ صَغِيرَةً فَتُطْعَمُ كُلَّ يَوْمٍ لُقْمَةً وَشَرْبَةً وَتُمْنَعُ مِنْ سَائِرِ الْمَنَافِعِ ( حَتَّى تَتُوبَ ) أَيْ تُسْلِمَ أَوْ تَمُوتَ وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَاللَّيْثِ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَكْحُولٍ وَحَمَّادٍ تُقْتَلُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَكَلِمَةُ مَنْ تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ قَالُوا مِنْ طَرَفِ الْحَنَفِيَّةِ الْمُرَادُ الْمُحَارِبُ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام { نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ غَيْرِ مُحَارِبَاتٍ } وَجَزَاءُ مُجَرَّدِ الْكُفْرِ لَا يُقَامُ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهَا دَارُ الِابْتِلَاءِ وَإِنَّمَا تُحْبَسُ لِأَنَّهَا ارْتَكَبَتْ جَرِيمَةً عَظِيمَةً ( تُضْرَبُ كُلَّ ) ثَلَاثَةِ ( أَيَّامٍ ) مُبَالَغَةً فِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَعَنْ الْإِمَامِ أَنَّ الْحُرَّةَ تَخْرُجُ كُلَّ يَوْمٍ وَتُضْرَبُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ سَوْطًا حَتَّى تُسْلِمَ أَوْ تَمُوتَ ( وَالْأَمَةُ ) الَّتِي ارْتَدَّتْ ( يُجْبِرُهَا ) عَلَى الْإِسْلَامِ ( مَوْلَاهَا ) يَعْنِي إذَا ارْتَدَّتْ الْأَمَةُ تُحْبَسُ فِي مَنْزِلِ الْمَوْلَى وَتُؤَدَّبُ وَتُسْتَخْدَمُ حَتَّى تُسْلِمَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ الْجَبْرِ وَالِاسْتِخْدَامِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي دَفْعِهِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ وَيُسْتَثْنَى مِنْ خِدْمَتِهَا عَدَمُ وَطْئِهَا وَقَدْ صَرَّحَ الْإِسْبِيجَابِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَطَؤُهَا كَمَا فِي الْبَحْرِ . وَفِي الْفَتْحِ وَلَا تُسْتَرَقُّ الْحُرَّةُ الْمُرْتَدَّةُ مَا دَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَحِينَئِذٍ تُسْتَرَقُّ إذَا سُبِيَتْ وَتُجْبَرُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَبَطَلَتْ عَنْهَا الْعِدَّةُ وَلِزَوْجِهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا وَأَرْبَعًا سِوَاهَا مِنْ سَاعَتِهِ لِانْعِدَامِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا كَالْمَيِّتَةِ وَلَوْ وُلِدَتْ فِي دَارِهِمْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ لَكِنْ يُسْتَرَقُّ الْوَلَدُ تَبَعًا لَهَا وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَعَنْ الْإِمَامِ فِي النَّوَادِرِ تُسْتَرَقُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَيْضًا ( وَيُنَفَّذُ جَمِيعُ تَصَرُّفِهَا ) أَيْ الْمَرْأَةِ ( فِي مَالِهَا ) كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا لِصِحَّتِهَا لِعَدَمِ قَتْلِهَا هَذَا إنْ أَسْلَمَتْ فِي دَارِنَا وَإِلَّا فَإِنْ مَاتَتْ أَوْ لَحِقَتْ بِدَارِهِمْ فَالتَّصَرُّفُ بَاطِلٌ عِنْدَهُ صَحِيحٌ عِنْدَهُمَا كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ ( وَجَمِيعُ كَسْبِهَا ) أَيْ كَسْبِ الْمُرْتَدَّةِ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ فِي الرِّدَّةِ ( لِوَارِثِهَا الْمُسْلِمِ إذَا مَاتَتْ ) أَوْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ لَا حِرَابَ مِنَّا فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْفَيْءِ ( وَيَرِثُهَا زَوْجُهَا ) أَيْ يَرِثُ الزَّوْجُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْمُرْتَدَّةِ ( إنْ ارْتَدَّتْ مَرِيضَةً ) وَمَاتَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهَا قَصَدَتْ إبْطَالَ حَقِّهِ فَيُرَدُّ عَلَيْهَا قَصْدُهَا كَمَا قَصْدِهَا فِي جَانِبِ الزَّوْجِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَرِثَهَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ( إلَّا إنْ ارْتَدَّتْ صَحِيحَةً ) فَلَا يَرِثُهَا زَوْجُهَا لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بِالِارْتِدَادِ وَهِيَ لَا تُقْتَلُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُ بِمَالِهَا ( وَقَاتِلُهَا ) أَيْ قَاتِلُ الْمُرْتَدَّةِ ( يُعَزَّرُ فَقَطْ ) أَيْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ لِلشُّبْهَةِ لَكِنْ يُؤَدَّبُ وَيُعَزَّرُ إذَا كَانَتْ فِي دَارِنَا لِكَوْنِهِ فُضُولِيًّا فِيمَا فَعَلَهُ ( وَسَائِرُ أَحْكَامِهَا ) أَيْ الْمُرْتَدَّةِ ( كَالرَّجُلِ ) الْمُرْتَدِّ فِيمَا ذُكِرَ .
==================
وفي الفواكه الدواني :(1)
وَلَمَّا قَدَّمَ أَحْكَامَ مَنْ يُقْتَلُ لِجِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ , شَرَعَ فِيمَنْ يُقْتَلُ لِجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ :
__________
(1) - الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني - (ج 7 / ص 131)(2/342)
( وَيُقْتَلُ ) وُجُوبًا ( الزِّنْدِيقُ حَدًّا ) لَا كُفْرًا ( وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ ) وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ : ( وَهُوَ الَّذِي يُسِرُّ ) أَيْ يُخْفِي ( الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ ) قَالَ خَلِيلٌ : وَقُتِلَ الْمُسْتَسِرُّ بِلَا اسْتِتَابَةٍ إلَّا أَنْ يَجِيءَ تَائِبًا أَيْ قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَمَالُهُ لِوَارِثِهِ وَهُوَ فَائِدَةُ قَتْلِهِ حَدًّا , وَشَرْطُ إرْثِهِ إنْ تَابَ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ تَوْبَتُهُ لَا تُسْقِطُ قَتْلَهُ , وَمِثْلُ تَوْبَتِهِ إنْكَارُهُ لِمَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّنْدَقَةِ , وَأَمَّا لَوْ اعْتَرَفَ بِمَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّنْدَقَةِ فَإِنَّهُ لَا يُورَثُ وَيَكُونُ مَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ كَمَالِ الْمُرْتَدِّ وَلَا يَكُونُ قَتْلُهُ حَدًّا , وَسَوَاءٌ كَانَ الْكُفْرُ الَّذِي سَتَرَهُ بِارْتِدَادٍ أَوْ سِحْرٍ , فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ أَيْ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ , وَأَمَّا لَوْ تَابَ قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ لَسَقَطَ قَتْلُهُ , وَالدَّلِيلُ عَلَى قَتْلِ الزِّنْدِيقِ مَا فِي الْبُخَارِيِّ : { أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أَتَى بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ , فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ : لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أَحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ , وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . فَإِنْ قِيلَ : الزِّنْدِيقُ هُوَ الْمُنَافِقُ , وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ الْمُنَافِقِينَ . فَالْجَوَابُ , أَنْ يُقَالَ : النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا كَانَ يَتْرُكُ قَتْلَهُمْ لِئَلَّا تَقُولَ قُرَيْشٌ : إنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِنَفْرَةِ النَّاسِ عَنْ الْإِسْلَامِ , وَالْحَالُ أَنَّ شَأْنَهُ صلى الله عليه وسلم التَّأْلِيفُ لِأَجْلِ حُصُولِ الْإِسْلَامِ .
=================
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّ مِنْ الِارْتِدَادِ الَّذِي هُوَ الرُّجُوعُ وَمِنْهُ الْمُرْتَدُّ 0(1)
__________
(1) - الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني - (ج 7 / ص 137)(2/343)
وَحَقِيقَةُ الرِّدَّةِ شَرْعًا قَطْعُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُكَلَّفِ وَفِي الصَّبِيِّ خِلَافٌ , وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ : الرِّدَّةُ كُفْرٌ بَعْدَ إسْلَامٍ تَقَرَّرَ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْتِزَامِ أَحْكَامِهِمَا بِقَوْلِهِ : ( وَيُقْتَلُ ) وُجُوبًا كُلُّ ( مَنْ ارْتَدَّ ) أَيْ قَطَعَ إسْلَامَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ بِصَرِيحِ لَفْظِهِ كَقَوْلِهِ : { عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } أَوْ الْبَعِيدُ كَفَرَ بِاَللَّهِ , أَوْ أَشْرَكَ بِهِ , أَوْ أَتَى بِلَفْظٍ يَقْتَضِي الْكُفْرَ , كَقَوْلِهِ : الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ , أَوْ الرُّكُوعُ أَوْ السُّجُودُ غَيْرُ فَرْضٍ لِأَنَّ الْجَاحِدَ كَافِرٌ , أَوْ الْحَجُّ غَيْرُ فَرْضٍ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ , أَوْ اللَّهُ جِسْمٌ كَأَجْسَامِ الْحَوَادِثِ , أَوْ أَتَى بِفِعْلٍ يَسْتَلْزِمُ الْكُفْرَ كَإِلْقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِي قَذَرٍ اخْتِيَارًا أَوْ شَدَّ نَحْوَ الزُّنَّارِ وَتَوَجَّهَ بِهِ إلَى مُتَعَبَّدِهِمْ , وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . وَفِي رِوَايَةٍ : { فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ } . وَمَحَلُّ قَتْلِهِ ( إلَى أَنْ يَتُوبَ ) بِرُجُوعِهِ إلَى الْإِسْلَامِ , وَأَشَارَ إلَى مُدَّةِ تَأْخِيرِهِ لِلتَّوْبَةِ بِقَوْلِهِ : ( وَيُؤَخَّرُ ) وُجُوبًا ( لِلتَّوْبَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ) قَالَ خَلِيلٌ : وَاسْتُتِيبَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَا جُوعٍ وَعَطَشٍ وَمُعَاقَبَةٍ , وَإِنْ قَالَ : لَا أَتُوبُ , فَإِنْ تَابَ فَلَا إشْكَالَ وَإِلَّا قُتِلَ بِغُرُوبِ شَمْسِ الثَّالِثِ , وَتُحْسَبُ الثَّلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ يَوْمِ ثُبُوتِ الْكُفْرِ لَا مِنْ يَوْمِ الرَّفْعِ مَعَ تَأَخُّرِ الثُّبُوتِ , وَلَا يُحْسَبُ الْيَوْمُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الثُّبُوتُ وَلَا يَوْمُ الِارْتِدَادِ , لِأَنَّ الْيَوْمَ لَا يُلَفَّقُ هُنَا , وَإِنَّمَا كَانَ زَمَنُ الِاسْتِتَابَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَّرَ قَوْمَ صَالِحٍ ذَلِكَ الْقَدْرَ حَيْثُ قَالَ : { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } فَلَوْ حَكَمَ الْإِمَامُ بِقَتْلِهِ دَاخِلَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ مَضَى لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ , وَقَيَّدْنَا بِبَعْدِ الْبُلُوغِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ إذَا ارْتَدَّ يُهَدَّدُ وَلَا يُقْتَلُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ , وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ , وَلَا بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى , وَلِذَلِكَ قَالَ : ( وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ ) تُقْتَلُ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا أَنْ تَتُوبَ , إلَّا أَنْ تَكُونَ ذَاتَ سَيِّدٍ أَوْ زَوْجٍ , وَهِيَ مِمَّنْ يُتَوَقَّعُ حَمْلُهَا فَتُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ وَلَوْ حُرَّةً , وَإِنْ كَانَتْ تُرْضِعُ فَتُؤَخَّرُ حَتَّى تَجِدَ مَنْ يُرْضِعُ وَلَدَهَا وَيَقْبَلُهُ الْوَلَدُ , وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى الْمَرْأَةِ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ قَتْلِ النِّسَاءِ لِنَهْيِهِ عليه الصلاة والسلام عَنْ قَتْلِهِنَّ , لِأَنَّ مَحْمَلَهُ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا عَلَى الْمُرْتَدَّةِ , وَيُطْعَمُ الْمُرْتَدُّ مِنْ مَالِهِ زَمَنَ الرِّدَّةِ , وَأَمَّا وَلَدُهُ وَعِيَالُهُ فَلَا يُنْفِقُونَ مِنْهُ لِأَنَّهُ صَارَ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا مَالَ عِنْدَهُ . ( تَنْبِيهٌ ) قَتْلُ الْمُرْتَدِّ لَيْسَ كَقَتْلِ الزِّنْدِيقِ الْمُسْتَسِرِّ , لِأَنَّ الزِّنْدِيقَ يُقْتَلُ حَدًّا فَتَرِثُهُ وَرَثَتُهُ وَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ , وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ وَكَذَلِكَ السَّاحِرُ الْمُتَجَاهِرُ فَيُقْتَلُ كُفْرًا فَلَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَمَالُهُ يَكُونُ فَيْئًا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لَا لِوَرَثَتِهِ , وَهَذَا حُكْمُ الْمُرْتَدِّ الْحُرِّ , وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ الرَّقِيقُ فَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ لِأَنَّهُ الْمَالِكُ الْحَقِيقِيُّ .
=================
وَلَمَّا كَانَتْ الْمُحَرَّمَاتُ عَلَى الْمُكَلَّفِ كَثِيرَةً قَالَ :(1)
__________
(1) - الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني - (ج 8 / ص 86)(2/344)
( وَ ) مِنْ الْفَرَائِضِ اجْتِنَابُ ( الْبَاطِلِ ) وَهُوَ كُلُّ مَا لَا يَحِلُّ . ( كُلِّهِ ) سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَقْوَالِ كَالسَّبِّ وَاللَّعْنِ وَالْقَذْفِ , أَوْ مِنْ الْأَفْعَالِ كَالْغَصْبِ وَالْخِيَانَةِ وَالسَّرِقَةِ وَالْخَدِيعَةِ وَالْغِشِّ وَاللَّهْوِ وَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ اخْتِيَارَيْهَا اخْتِيَارًا , وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ , أَوْ الْأَخْلَاقِ كَالْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ . قَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا فِي جَوْهَرَتِهِ : وَأْمُرْ بِعُرْفٍ أَوْ اجْتَنِبْ نَمِيمَهُ وَغِيبَةً وَخَصْلَةً ذَمِيمَهُ كَالْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَدَاءِ الْحَسَدْ وَكَالْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ فَاعْتَمِدْ فَالْكِبْرُ هُوَ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ لِخَبَرِ : { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مِنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْكِبْرِ } هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْكِبْرِ عَلَى الصَّالِحِينَ , وَأَمَّا التَّكَبُّرُ عَلَى نَحْوِ الْفَسَقَةِ فَمَطْلُوبٌ شَرْعًا , وَغَمْصُ النَّاسِ بِالصَّادِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ احْتِقَارُهُمْ , وَبَطَرُ الْحَقِّ رَدُّهُ عَلَى قَائِلِهِ , وَالْعُجْبُ هُوَ رُؤْيَةُ الْعِبَادَةِ حَسَنَةً وَاسْتِعْظَامُهَا مِنْ الْعَبْدِ , كَمَا يُعْجَبُ الْعَابِدُ بِعِبَادَتِهِ وَالْعَالِمُ بِعِلْمِهِ , وَلَا يُبْطِلُ الْعِبَادَةَ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لِوُقُوعِهِ بَعْدَهَا بِخِلَافِ الرِّيَاءِ , وَلَيْسَ مِنْ الرِّيَاءِ وَلَا الْعُجْبِ رُؤْيَةُ الشَّخْصِ ثَوْبَهُ أَوْ فِعْلَهُ حَسَنًا لِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْجَمَالَ , ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِ الْبَاطِلِ كُلِّهِ بِحَدِيثَيْنِ : أَوَّلُهُمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : ( قَالَ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ ) الْإِيمَانَ الْكَامِلَ الْمُنْجِي مِنْ عَذَابِهِ الْمُوَصِّلِ إلَى رِضَاهُ ( بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ ) وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ , وَمَعْنَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ الِاعْتِرَافُ بِوُجُوبِ وُجُودِهِ وَصَانِعِيَّتِهِ لِلْعَالَمِ , وَمَعْنَى الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخَرِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَبِأَهْوَالِهِ وَفَظَائِعِهِ الَّتِي تَقَعُ فِيهِ وَجَوَابُ الشَّرْطِ . ( فَلْيَقُلْ ) أَيْ يَذْكُرْ ( خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ) بِكَسْرِ الْمِيمِ مَاضِيه صَمَتَ بِفَتْحِ الْمِيمِ , لِأَنَّ قِيَاسَ فَعَلَ الْمَفْتُوحِ الْعَيْنِ يَفْعِلُ بِكَسْرِهَا وَقِيلَ بِضَمِّهَا , وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَوْلِ الْخَيْرِ أَوْ السُّكُوتِ عَنْهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ , لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ , وَلِذَلِكَ أَوَّلُوا الْحَدِيثَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ فَلْيَقُلْ خَيْرًا يُثَبْ عَلَيْهِ , أَوْ يَسْكُتُ عَنْ شَرٍّ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ , وَقِيلَ : " أَوْ " فِيهِ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَالْمَعْنَى : فَلْيَقُلْ خَيْرًا وَلْيَصْمُتْ عَنْ الشَّرِّ , وَأَشَارَ إلَى ثَانِيهِمَا بِقَوْلِهِ : ( وَقَالَ عَلَيْهِ ) الصَّلَاةُ , وَ ( السَّلَامُ { مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ أَيْ الْإِنْسَانِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيه } أَيْ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِي فِعْلِهِ , وَإِنَّمَا قَالَ : مِنْ حُسْنِ ; لِأَنَّ تَرْكَ مَا لَا يَعْنِي لَيْسَ هُوَ الْإِسْلَامُ وَلَا جُزْءٌ مِنْهُ بَلْ هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ , وَآثَرَ ذِكْرَ الْإِسْلَامِ عَلَى الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ : { الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } إلَخْ وَالْأَفْعَالُ الظَّاهِرَةُ اخْتِيَارِيَّةٌ لِلْإِنْسَانِ , بِخِلَافِ الْبَاطِنَةِ الرَّاجِعَةِ لِلْإِيمَانِ فَهِيَ اضْطِرَارِيَّةٌ مَانِعَةٌ لِمَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِي النُّفُوسِ وَيُوقِعُهُ فِيهَا الَّذِي يَعْنِي الْإِنْسَانَ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ عِنَايَتُهُ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي آخِرَتِهِ , أَوْ يُضْطَرُّ إلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَلُبْسٍ وَمَا يَعِفُّ فَرْجَهُ , وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَدْفَعُ عَنْهُ الضَّرَرَ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ دُونَ مَا يَفْعَلُ لِمُجَرَّدِ التَّلَذُّذِ , فَإِذَا اقْتَصَرَ عَلَى مَا يَعْنِيه سَلِمَ مِنْ سَائِرِ الْآفَاتِ وَحَصَلَ مَا أَرَادَهُ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ , وَهَذَانِ حَدِيثَانِ جَلِيلَانِ , لِأَنَّ أَوَّلَهُمَا يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ , وَالثَّانِي يَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ صُحْبَةِ مَنْ لَا خَيْرَ فِي صُحْبَتِهِ , وَيُرَغِّبُهُ فِي صُحْبَةِ مِنْ يَنْتَفِعُ بِصُحْبَتِهِ لِاسْتِفَادَتِهِ مِنْهُ عِلْمًا أَوْ مَالًا . قَالَ الْحُمَيْدِيُّ : لِقَاءُ النَّاسِ لَيْسَ يُفِيدُ شَيْئًا سِوَى الْهَذَيَانِ مِنْ قِيلٍ وَقَالَ فَأَقْلِلْ مِنْ لِقَاءِ النَّاسِ إلَّا لِأَخْذِ الْعِلْمِ أَوْ إصْلَاحِ حَالْ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْمَنَّانَ بِفَضْلِهِ أَنْ يُلْهِمَنَا رُشْدَنَا وَيُمَلِّكَنَا أَنْفُسَنَا أَوْ يُذَكِّرَنَا عُيُوبَنَا . ( وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ) سَفْكَ ( دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ) أَوْ قَطْعَ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِمْ , وَلَا مَفْهُومَ لِلْمُسْلِمِينَ بَلْ أَهْلُ الذِّمَّةِ كَذَلِكَ لِوُجُوبِ عِصْمَةِ الْجَمِيعِ , دَلَّ عَلَى الْحُرْمَةِ(2/345)
الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ , فَالْكِتَابُ قوله تعالى : { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ } وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ , قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ , وَالسَّحَرُ , وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ , وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ , وَأَكْلُ الرِّبَا , وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ , وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ عَامًا } عَلَى إحْدَى الرِّوَايَاتِ , وَيَرَحْ بِفَتْحِ الرَّاءِ مَعْنَاهُ لَمْ يَشُمَّ رَائِحَتَهَا مَعَ أَنَّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ يَشُمُّهَا مَنْ هُوَ عَلَى هَذِهِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ , وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَأَشَارَ إلَيْهِ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ بِقَوْلِهِمْ : إنَّ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ أَوْ السِّتِّ مِمَّا أَجْمَعَتْ الْمِلَلُ عَلَى وُجُوبِ حِفْظِهَا وَصِيَانَتِهَا لِشَرَفِهَا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي خُطْبَتِهِ الْمَشْهُورَةِ : { فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ } الْحَدِيثَ . وَفِي آخَرَ : { أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضَكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ } . وَأَشَارَ إلَى ضَبْطِهَا صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِقَوْلِهِ : وَحِفْظُ دِينٍ ثُمَّ نَفْسٍ مَالٍ نَسَبْ وَمِثْلُهَا عَقْلٌ وَعِرْضٌ قَدْ وَجَبْ وَلِوُجُوبِ حِفْظِ النُّفُوسِ شَرَعَ الْقِصَاصَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَالطَّرْفِ إذَا صَدَرَتْ مِنْ مُكَلَّفٍ مُلْتَزِمٍ لِلْأَحْكَامِ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ وَالْعُدْوَانِ . ( وَ ) حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَيْضًا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ إتْلَافَ ( أَمْوَالِهِمْ ) أَيْ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ أَمْوَالُ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَحَقِيقَةُ الْمَالِ كُلُّ مَا مُلِكَ شَرْعًا وَلَوْ قَلَّ , وَلِوُجُوبِ حِفْظِهِ شَرَعَ حَدَّ السَّرِقَةِ وَحَدَّ الْحِرَابَةِ . ( وَ ) حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَيْضًا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَذِيَّةَ ( أَعْرَاضِهِمْ ) جَمْعُ عِرْضٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مَوْضِعُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِنْ الْإِنْسَانِ وَقِيلَ الْحَسَبُ , وَلِحِفْظِهِ شَرَعَ حَدَّ الْقَذْفِ لِمَنْ رَمَى غَيْرَهُ بِفِعْلِ الْفَاحِشَةِ أَوْ نَفَى نَسَبَهُ اللَّاحِقَ وَالتَّعْزِيرُ لِغَيْرِهِ . ( تَنْبِيهٌ ) عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ مَفْهُومَ الْمُسْلِمِينَ مُعَطَّلٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَعَلَى الْمَالِ بِخِلَافِ الْأَعْرَاضِ . وَلَمَّا كَانَتْ حُرْمَةُ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ لَيْسَتْ مُطْلَقَةً قَالَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ( إلَّا بِحَقِّهَا ) أَيْ الْمَذْكُورَاتِ , وَالْمُرَادُ بِحَقِّهَا السَّبَبُ الْمُقْتَضَيْ لِاسْتِحْقَاقِهَا , فَحَقُّ الْأَمْوَالِ الْمُبِيحُ لَهَا هُوَ إتْلَافُهَا الْمُشَارُ إلَيْهِ فِيمَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ : وَمَنْ اسْتَهْلَكَ عَرَضًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ , وَحَقُّ الْأَعْرَاضِ عَدَمُ الْعِفَّةِ عَنْ ارْتِكَابِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ أَوْ التَّعْزِيرَ . وَأَشَارَ إلَى بَيَانِ مَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الدَّمِ بِقَوْلِهِ : ( وَلَا يَحِلُّ ) إرَاقَةُ ( دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا أَنْ يَكْفُرَ بَعْدَ إيمَانِهِ ) الْمُتَقَرِّرِ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْتِزَامِ أَحْكَامِهِمَا , وَهُوَ الرِّدَّةُ الْمُشَارُ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } أَيْ بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ غَيْرِ جُوعٍ وَلَا عَطَشٍ . ( أَوْ ) إلَّا أَنْ ( يَزْنِيَ بَعْدَ إحْصَانِهِ ) فَيُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ الْمُعْتَدِلَةِ حَتَّى يَمُوتَ وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْإِحْصَانِ وَشُرُوطُهُ . ( أَوْ ) إلَّا أَنْ ( يَقْتُلَ نَفْسًا ) مَعْصُومَةً مُكَافِئَةً لَهُ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ قِصَاصًا , وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : ( بِغَيْرِ نَفْسٍ ) عَمَّا لَوْ قَتَلَ نَفْسًا قِصَاصًا فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مَعْصُومَةٍ لِلْوَلِيِّ . ( أَوْ ) إلَّا أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ ( فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ ) بِأَنْ يُحَارِبَ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ أَوْ قَتْلِ النَّاسِ لِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْغَوْثُ , أَوْ يَسْقِيَ غَيْرَهُ شَيْئًا يُغَيِّبُ عَقْلَهُ لِيَأْخُذَ مَالَهُ , فَيُخَيَّرُ الْإِمَامُ فِي قَتْلِهِ أَوْ صَلْبِهِ أَوْ قَطْعِهِ مِنْ خِلَافِ أَوْ نَفْيِهِ لِآيَةِ : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا } الْآيَةَ . ( أَوْ ) إلَّا أَنْ ( يَمْرُقَ ) أَيْ يَخْرُجَ ( مِنْ الدِّينِ ) بِاعْتِقَادِ مَا يَكْفُرُ بِهِ , كَاعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ أَوْ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ مُفَصَّلَةً أَوْ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا كَمَا تَعْتَقِدُهُ الْقَدَرِيَّةُ الْأُولَى , وَمِمَّا(2/346)
يَحِلُّ بِهِ دَمُ الْمُسْلِمِ الزَّنْدَقَةُ وَالسِّحْرُ وَسَبُّ الْبَارِي , أَوْ الْمُجْمَعِ عَلَى نُبُوَّتِهِ أَوْ مِلْكِيَّتِهِ , أَوْ جَحْدِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ , أَوْ الِامْتِنَاعِ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ عِنَادًا أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الصِّيَامِ أَوْ الزَّكَاةِ . ( تَنْبِيهٌ ) إنَّمَا حَمَلْنَا الْمُرُوقَ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى اعْتِقَادِ مَا يُكَفِّرُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْإِشَارَةُ إلَى عَدَمِ تَكْرَارِهِ مَعَ قَوْلِهِ سَابِقًا : إلَّا أَنْ يَكْفُرَ بَعْدَ إيمَانِهِ لِحَمْلِهِ عَلَى مَنْ ارْتَدَّ بِنَحْوِ إلْقَاءِ مُصْحَفٍ فِي قَذَرٍ أَوْ شَدِّ زُنَّارٍ مَعَ تَوَجُّهٍ لِنَحْوِ كَنِيسَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا لَيْسَ بِاعْتِقَادٍ , وَالْمُرُوقُ مِنْ الدِّينِ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ الِاعْتِقَادُ الْفَاسِدُ . وَثَانِيهمَا : التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ فِرَقَ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْهُمْ مَنْ يَكْفُرُ بِبِدْعَتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ , لِأَنَّ الصَّحِيحَ عَدَمُ تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ كَانَ يَسْتَوْجِبُونَ الْأَدَبَ , وَقَوْلُ الْعَلَّامَةِ السَّنُوسِيِّ : إنَّهُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَحْمُولٌ إمَّا عَلَى مَجْمُوعِهِمْ أَوْ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ عَلَى حَدِّ : لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ تُقْطَعُ يَدُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَشَارَ إلَى ضَابِطِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِمَّا هُوَ أَعَمُّ مِمَّا سَبَقَ بِقَوْلِهِ : ( وَلْتَكُفَّ ) أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ ( يَدَك عَمَّا لَا يَحِلُّ لَك ) تَنَاوَلَهُ شَرْعًا وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ : ( مِنْ مَالِ ) مَمْلُوكٍ لِغَيْرِك لِأَنَّ مَالَ الْغَيْرِ لَا يَحِلُّ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسِ مَالِكِهِ , وَلِذَلِكَ شَرَعَ اللَّهُ الْبَيْعَ لَيُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى مَا فِي يَدِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهٍ جَائِزٍ . ( أَوْ ) مَسِّ ( جَسَدِ ) أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ ذَكَرٍ أَوْ دَابَّةٍ عَلَى قَصْدِ الِالْتِذَاذِ . ( أَوْ ) إرَاقَةِ ( دَمٍ ) وَلَوْ بِجُرْحٍ , وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يُمْسِكَ نَفْسَهُ عَمَّا لَا يَحِلُّ بِهِ فِعْلُهُ وَلَوْ بِالنُّطْقِ وَالْكِتَابَةِ أَوْ الْإِشَارَةِ فَلَا مَفْهُومَ لِلْيَدِ وَلِذَلِكَ قَالَ : ( وَلَا تَسْعَ ) بِالْجَزْمِ بِحَذْفِ الْأَلْفِ ( بِقَدَمَيْك فِيمَا لَا يَحِلُّ لَك ) السَّعْيُ إلَيْهِ كَزِنًا أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا كَالسَّعْيِ إلَى أَهْلِ الْجَوْرِ , وَإِلَّا لِحَاجَةٍ كَشَفَاعَةٍ لِمَظْلُومٍ لِمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَنَّ مِمَّا يُسَهِّلُ هَوْلَ الْمَوْقِفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَفْرِيجُ الْكَرْبِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُمْ . ( وَلَا تُبَاشِرْ ) أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ ( بِفَرْجِك أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِك مَا لَا يَحِلُّ لَك ) مُبَاشَرَتُهُ وَهُوَ مَا خَلَا الزَّوْجَةَ وَالْأَمَةَ ( قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } ) مِنْ الْإِنَاثِ ( إلَى قَوْلِهِ : { فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ } ) أَيْ الْمُتَجَاوِزُونَ إلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُمْ , وَلِذَا لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُبَاشِرَ بِشَيْءٍ مِنْ أَطْرَافِهَا بِقَصْدِ الِالْتِذَاذِ سِوَى زَوْجِهَا , وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حُكْمِ النَّظَرِ . ( وَ ) الْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْك أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّهُ ( حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ) وَتَعَالَى جَمِيعَ ( الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ } قِيلَ هُوَ الْخَمْرُ , وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ } وَالْبَذِيءُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الَّذِي يُصَرِّحُ بِمَا يُكَنَّى عَنْهُ مِنْ الْقَبِيحِ , وَالْمُرَادُ بِالْفَاحِشِ كُلُّ مُسْتَقْبَحٍ شَرْعًا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ , وَالْمُرَادُ بِمَا ظَهَرَ مَا يُشَاهَدُ بِالْعَيْنِ , وَالْمُرَادُ بِمَا بَطَنَ خِلَافُهُ , فَيَدْخُلُ الْغِيبَةُ بِالْقَلْبِ وَتَحْدِيثُ النَّفْسِ بِمَسَاوِئِ النَّاسِ وَالْمُرَادُ جَزْمُ الْقَلْبِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ } الْآيَةَ , وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ } وَالْمُرَادُ أَنْ تَجْزِمَ بِقَلْبِك لَا مُجَرَّدَ حَدِيثِ النَّفْسِ بِقِيَامِ السُّوءِ بِالْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ فَإِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ اتِّفَاقًا لِحَدِيثِ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ } وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْخَاطِرُ غِيبَةً أَوْ كُفْرًا , فَمَنْ خَطَرَ عَلَى قَلْبِهِ نَحْوُ الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ لِتَحْصِيلِهِ ثُمَّ صَرَفَهُ فِي الْحَالِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
==================
وفي بريقة محمودية :(1)
( الْقِسْمُ الثَّانِي ) مِنْ قِسْمَيْ آفَاتِ اللِّسَانِ
__________
(1) -بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية - (ج 4 / ص 363)(2/347)
( فِي آفَاتِهِ تَفْصِيلًا اعْلَمْ أَنَّ آفَاتِهِ إمَّا فِي السُّكُوتِ ) لِأَنَّهُ حَرَامٌ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ( أَوْ فِي الْكَلَامِ وَالْكَلَامُ عَلَى ضَرْبَيْنِ مَا الْأَصْلُ فِيهِ الْمَنْعُ ) كَالْكَذِبِ ( وَالْإِذْنُ لِعَارِضٍ ) كَالْإِكْرَاهِ وَالْإِصْلَاحِ . ( وَ ) الثَّانِي ( مَا عَلَى الْعَكْسِ ) أَيْ الْأَصْلُ فِيهِ الْإِذْنُ وَالْمَنْعُ لِعَارِضٍ ( وَالثَّانِي ) أَيْ الْإِذْنُ ( إمَّا مِنْ الْعَادَاتِ ) كَالْبَيْعِ ( أَوْ مِنْ الْعِبَادَاتِ ) كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ( وَمَا مِنْ الْعَادَاتِ إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِنِظَامِ الْعَالَمِ وَانْتِظَامِ الْمَعَاشِ أَوْ لَا وَمَا مِنْ الْعِبَادَاتِ إمَّا مُتَعَدِّيَةٌ ) كَالْأَعْمَالِ الْغَيْرِ الْمُنْقَطِعَةِ ( أَوْ قَاصِرَةٌ ) كَالذِّكْرِ ( فَفِيهِ سِتَّةُ مَبَاحِثَ الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي الْكَلَامِ الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ الْحَظْرُ ) أَيْ الْمَنْعُ وَالْحُرْمَةُ ( وَهُوَ سِتُّونَ الْأَوَّلُ كَلِمَةُ الْكُفْرِ ) اتِّفَاقًا أَوْ اخْتِلَافًا بَيْنَ فُقَهَائِنَا ( الْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمُهُ إنْ كَانَ طَوْعًا مِنْ غَيْرِ سَبْقِ لِسَانٍ إحْبَاطُ الْعَمَلِ كُلِّهِ ) لَمَّا كَانَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ رُكْنَيْنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَانَ الْمُنَافِي لِكُلٍّ مِنْهَا كُفْرًا أَمَّا مُنَافِي الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِنْكَارُ وَالْوَهْمُ وَالشَّكُّ وَالظَّنُّ فَكُفْرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَأَمَّا مُنَافِي الثَّانِي فَكُفْرٌ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ إنْ صَدَرَ بِلَا سَبْقِ لِسَانٍ جِدًّا أَوْ هَزْلًا وَأَمَّا مَعَهُ فَمَعْفُوٌّ وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ فَإِنْ بِالْمُلْجِئِ أَعْنِي تَلَفَ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ فَفِيهِ رُخْصَةٌ لِلْعُذْرِ وَالْعَزِيمَةُ عَدَمُهُ فَإِنْ قُتِلَ كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ مِثْلَ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ وَالْحَبْسِ الْمَدِيدِ وَتَلَفِ الْمَالِ فَلَا يَجُوزُ أَصْلًا حَتَّى لَوْ تَكَلَّمَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ صَارَ كَافِرًا دِيَانَةً وَقَضَاءً ( ثُمَّ لَا يَعُودُ بَعْدَ التَّوْبَةِ ) عِنْدَ أَئِمَّتِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الِاخْتِلَافُ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَالشَّافِعِيُّ حَمَلَ قوله تعالى - { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } عَلَى قَوْلِهِ { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } الْآيَةُ فَاشْتَرَطَ فِي الْإِحْبَاطِ الْمَوْتُ عَلَى الْكُفْرِ وَأَمَّا أَئِمَّتُنَا فَلَمْ يَحْمِلُوا بَلْ عَمِلُوا بِكِلَيْهِمَا لِإِمْكَانٍ الْعَمَلِ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِيهِ الْمَوْتَ الْمَذْكُورَ فَعَلَى قَوْلِهِمْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ أَسْلَمَ ابْتِدَاءً وَبَيْنَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْكُفْرُ ثُمَّ تَابَ فِي عَدَمِ الْخَيْرِ بَلْ أَشَدُّ مِنْهُ لِأَنَّهُ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ تَخَلَّصَ عَنْ جَمِيعِ الْآثَارِ بِخِلَافِ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْكُفْرُ فَإِنَّ مَعَاصِيَهُ لَا تَذْهَبُ بِكُفْرِهِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ قَضَاءُ مَا فَاتَ فِي إسْلَامِهِ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ كَذَا فِي بَعْضِ مَنْهِيَّاتِ الْمُصَنِّفِ ( فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَعُودُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَيَجِبُ بَعْدَ التَّوْبَةِ ثَانِيًا ( إنْ كَانَ غَنِيًّا ) أَيْ مُسْتَطِيعًا فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْغِنَى لَيْسَ بِمُوجِبٍ ( وَلَوْ حَجَّ أَوَّلًا وَلَا يَجِبُ قَضَاءُ مَا صَلَّى وَصَامَ وَزَكَّى ) قَبْلَ الرِّدَّةِ فِي حَالِ إسْلَامِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ وَلِعَدَمِ تَقَرُّرِهِ فِي ذِمَّتِهِ وَعَدَمِ بَقَاءِ سَبَبِ وُجُوبِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَهُوَ الْوَقْتُ وَالشُّهُودُ وَالنِّصَابُ ( وَيَجِبُ قَضَاءُ مَا فَاتَ مِنْهَا ) فِي حَالِ إسْلَامِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ ( لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَذْهَبُ بِالْكُفْرِ ) فَيَجِبُ قَضَاءُ جَمِيعِ فَوَائِتِهِ الْمَفْرُوضَةِ وَالْوَاجِبَةِ ( وَانْفِسَاخُ النِّكَاحِ ) عَطْفٌ عَلَى إحْبَاطِ الْعَمَلِ ( وَلَوْ مِنْ الْمَرْأَةِ ) إلَّا أَنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى النِّكَاحِ بِزَوْجِهَا الْأَوَّل خِلَافًا لِمَشَايِخ بَلْخٍ كَأَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ فَلَا تُؤَثِّرُ رِدَّةُ الْمَرْأَةِ فِي فَسَادِ النِّكَاحِ وَلَا يُؤْمَرُ بِتَجْدِيدِ النِّكَاحِ حَسْمًا لِهَذَا الْبَابِ عَلَيْهِنَّ ( بِلَا طَلَاقٍ ) فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَأَمَّا فِي الرَّجُلِ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ طَلَاقٌ فَيَلْزَمُ التَّحْلِيلُ بَعْدَ ثَلَاثٍ عَلَى قَوْلِهِ خِلَافًا لَهُمَا فَقَوْلُهُ ( فَلَا يَلْزَمُ الْحِلُّ ) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( بَعْدَ الثَّلَاثِ فَلَوْ صَدَرَتْ ) كَلِمَةُ الْكُفْرِ ( مِنْ الْمَرْأَةِ تُجْبَرُ عَلَى تَجْدِيدِ النِّكَاحِ بَعْدَ التَّوْبَةِ ) مَعَ زَوْجِهَا ( وَإِنْ ) أَيْ لَوْ صَدَرَتْ ( مِنْ الرَّجُلِ تَتَخَيَّرُ الْمَرْأَةُ إنْ تَابَ وَ ) حُكْمُهُ أَيْضًا ( حُرْمَةُ ذَبِيحَتِهِ وَحِلُّ قَتْلِهِ ) فَدَمُهُ هَدَرٌ لَا تَلْزَمُ الدِّيَةُ عَلَى قَاتِلِهِ لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُقْتَلَ قَبْلَ الْعَرْضِ وَالْإِبَاءِ(2/348)
لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ }
===============
( وَيُكْرَهُ إحْرَاقُ كُلِّ حَيٍّ )(1)
بِالنَّارِ أَوْ بِالْمَاءِ الْحَارِّ آذَى أَمْ لَا ( قَمْلَةً أَوْ نَمْلَةً أَوْ عَقْرَبًا أَوْ نَحْوَهَا ) مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ مِثْلُ الْحَيَّةِ وَالْجَرَادِ لِأَنَّهُ { صلى الله تعالى عليه وسلم نَهَى عَنْ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ وَقَالَ لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ أَشَدُّ الْعَذَابِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ هَذَا حَيْثُ أَمْكَنَ وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ بِالتَّحْرِيقِ هَذَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَقِصَّةُ الْعُرَنِيِّينَ مَنْسُوخَةٌ أَوْ كَانَتْ قِصَاصًا بِالْمُمَاثَلَةِ وَذَهَبَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ إلَى حِلِّ تَحْرِيقِ الْكُفَّارِ مُبَالَغَةً فِي النِّكَايَةِ وَالنَّكَالِ لِأَعْدَاءِ ذِي الْجَلَالِ لَكِنْ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّهُ رَجَعَ أَمَّا لَوْ تَعَذَّرَ قَتْلُ مَنْ وَجَبَ قَتْلُهُ إلَّا بِإِحْرَاقِهِ فَيَجُوزُ فَقَدْ رَوَى الْحَكِيمُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله تعالى عنهما { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام بِمِنًى فَمَرَّتْ حَيَّةٌ فَقَالَ اُقْتُلُوهَا فَسَبَقَتْنَا إلَى جُحْرٍ فَدَخَلَتْ فَقَالَ هَاتُوا سَعَفَةً وَنَارًا فَأَضْرِمُوهَا نَارًا } انْتَهَى رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا حَرَّقَ قَوْمًا فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَقَالَ لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ { لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } وَلَقَتَلَتُهُمْ لِقَوْلِهِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَى مَذْهَبِ عَلِيٍّ رضي الله تعالى عنه مَالِكٌ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ سَبَّ النَّبِيَّ فَأَمَرَ كَاتِبَهُ أَنْ يَكْتُبَ يُقْتَلُ فَزَادَ كَاتِبُهُ وَيُحَرَّقُ بِالنَّارِ فَقَالَ أَصَبْت كَذَا فِي الْمَطَامِحِ وَأَنَا أَقُولُ هَذَا غَيْرُ مَقْبُولٍ فَإِنَّ كَلَامَ مَالِكٍ هَذَا كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّهُ يُحَرَّقُ بَعْدَ قَتْلِهِ وَأَمَّا عَلِيٌّ فَحَرَّقَهُمْ وَهُمْ أَحْيَاءٌ فَلَا يَجُوزُ بِمُجَرَّدِ هَذَا أَنْ يُنْسَبَ إلَى مَالِكٍ أَنَّهُ قَائِلٌ بِقَوْلِ عَلِيٍّ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنَاوِيِّ لَكِنْ فِي بَعْضِ حَوَاشِي الْجَلَالِ شَرْحِ عَقَائِدِ الْعَضُدِ عِنْدَ عَدِّ الْكَبَائِرِ عِنْدَ عَدِّ الْإِحْرَاقِ مِنْ الْكَبَائِرِ قَالَ وَأَفْتَوْا فِي الْقَمْلِ لِلضَّرُورَةِ وَأَيْضًا فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى جَوَازُ إحْرَاقِ الْجَرَادِ عِنْدَ امْتِنَاعِ دَفْعِ ضَرَرِهَا بِمُعَالَجَةِ غَيْرِ الْإِحْرَاقِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إطْلَاقُ كَرَاهَةِ الْإِحْرَاقِ وَقَدْ عَدُّوهُ مِنْ الْكَبِيرَةِ فَتَأَمَّلْ وَعَنْ الْغِيَاثِيَّةِ الْبَهِيمَةُ الْمَوْطُوءَةُ تُذْبَحُ وَتُحَرَّقُ إنْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ , وَيَجُوزُ ذَبْحُ الْحِمَارِ الْمَرِيضِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَرْجُوِّ الِانْتِفَاعِ وَيُكْرَهُ الْكَيُّ فِي الْوَجْهِ وَلَا بَأْسَ بِقَطْعِ الْعُضْوِ لِلْأَكَلَةِ وَلَا بَأْسَ بِشَقِّ الْمَثَانَةِ إذَا كَانَ فِيهَا حَصَاةٌ وَلَا بَأْسَ بِثَقْبِ أُذُنِ الطِّفْلِ وَخِصَاءِ الْحَيَوَانَاتِ سِوَى بَنِي آدَمَ لَا بَأْسَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ وَخِصَاءُ بَنِي آدَمَ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ وَعَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّ خِصَاءَ الْفَرَسِ حَرَامٌ وَكَذَا غَيْرُهُ إلَّا عِنْدَ الْمَنْفَعَةِ وَكَذَا خِصَاءُ السِّنَّوْرِ عِنْدَ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ وَأَمَّا سِمَةُ الْبَهَائِمِ فَجَوَّزَهُ بَعْضٌ وَكَرِهَهُ آخَرُ وَلَا بَأْسَ بِكَيِّ الْأَغْنَامِ الْكُلُّ مِنْ التتارخانية وَفِي الْخُلَاصَةِ لَا بَأْسَ بِكَيِّ الصِّبْيَانِ إنْ لِدَاءٍ وَخِصَاءُ بَنِي آدَمَ مَكْرُوهٌ وَلِذَا يُكْرَهُ كَسْبُ الْخُصْيَانِ وَمِلْكُهُمْ وَاسْتِخْدَامُهُمْ لَكِنْ قَدْ سَمِعْت آنِفًا دَعْوَى الِاتِّفَاقِ فِي الْحُرْمَةِ
=============
وفي سبل السلام :
شرح حديث من بدل دينه
( وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه فِي رَجُلٍ أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ , قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) جُوِّزَ فِي قَضَاءٍ رَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَنَصْبُهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ حُذِفَ فِعْلُهُ , وَهُوَ يُشِيرُ إلَى حَدِيثِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ }
__________
(1) -بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية - (ج 5 / ص 354)(2/349)
وَسَيَأْتِي مَنْ خَرَّجَهُ ( فَأُمِرَ بِهِ فَقُتِلَ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد وَكَانَ اُسْتُتِيبَ قَبْلَ ذَلِكَ ) . الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ قَتْلُ الْمُرْتَدِّ , وَهُوَ إجْمَاعٌ , وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ هَلْ تَجِبُ اسْتِتَابَتُهُ قَبْلَ قَتْلِهِ , أَوْ لَا ؟ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى وُجُوبِ الِاسْتِتَابَةِ لِمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد هَذِهِ وَلَهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فَدَعَاهُ أَبُو مُوسَى عِشْرِينَ لَيْلَةً , أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا وَجَاءَ مُعَاذٌ فَدَعَاهُ فَأَبَى فَضَرَبَ عُنُقَهُ . وَذَهَبَ الْحَسَنُ وَطَاوُسٌ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَآخَرُونَ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ , وَأَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْحَالِ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } يَعْنِي وَالْفَاءُ تُفِيدُ التَّعْقِيبَ كَمَا لَا يَخْفَى , وَلِأَنَّ حُكْمَ الْمُرْتَدِّ حُكْمُ الْحَرْبِيِّ الَّذِي بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ , فَإِنَّهُ يُقَاتَلُ مِنْ دُونِ أَنْ يُدْعَى قَالُوا : وَإِنَّمَا شُرِعَتْ الدَّعْوَةُ لِمَنْ خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ لَا عَنْ بَصِيرَةٍ . وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ عَنْ بَصِيرَةٍ فَلَا . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ إنْ كَانَ أَصْلُهُ مُسْلِمًا لَمْ يُسْتَتَبْ وَإِلَّا اُسْتُتِيبَ نَقَلَهُ عَنْهُمَا الطَّحَاوِيُّ . ثُمَّ لِلْقَائِلِينَ بِالِاسْتِتَابَةِ خِلَافٌ آخَرُ , وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَكْفِي مَرَّةً , أَوْ لَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثٍ فِي مَجْلِسٍ , أَوْ فِي يَوْمٍ , أَوْ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ؟ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه يُسْتَتَابُ شَهْرًا .
( 1126 ) - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . ( وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ كَمَا تَقَدَّمَ , وَهُوَ عَامٌّ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْأَوَّلُ إجْمَاعٌ . وَفِي الثَّانِي خِلَافٌ . ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهَا تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ الْمُرْتَدَّةُ ; لِأَنَّ كَلِمَةَ مَنْ هُنَا تَعُمُّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَلِأَنَّهُ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَاوِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ " تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ الْمُرْتَدَّةُ " وَلِمَا أَخْرَجَهُ هُوَ والدارقطني " أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه قَتَلَ امْرَأَةً مُرْتَدَّةً فِي خِلَافَتِهِ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ " , وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَأَخْرَجَ أَيْضًا حَدِيثًا مَرْفُوعًا فِي قَتْلِ الْمَرْأَةِ وَلَكِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ , وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ { خَالِدٍ حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْيَمَنِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ أَيُّمَا رَجُلٍ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَادْعُهُ , فَإِنْ عَادَ وَإِلَّا فَاضْرِبْ عُنُقَهُ وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ فَادْعُهَا , فَإِنْ عَادَتْ وَإِلَّا فَاضْرِبْ عُنُقَهَا } وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ , وَهُوَ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهَا لَا تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ إذَا ارْتَدَّتْ قَالُوا ; لِأَنَّهُ قَدْ { وَرَدَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ لَمَّا رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً , وَقَالَ مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ } . رَوَاهُ أَحْمَدُ . وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ عَنْ قَتْلِ الْكَافِرَةِ الْأَصْلِيَّةِ كَمَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ قِصَّةِ النَّهْيِ فَيَكُونُ النَّهْيُ مَخْصُوصًا بِمَا فُهِمَ مِنْ الْعِلَّةِ , وَهُوَ لَمَّا كَانَتْ لَا تُقَاتِلُ فَالنَّهْيُ عَنْ قَتْلِهَا إنَّمَا هُوَ لِتَرْكِهَا الْمُقَاتَلَةَ فَكَانَ ذَلِكَ فِي دِينِ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ الْمُتَحَزَّبِينَ لِلْقِتَالِ وَبَقِيَ عُمُومُ قَوْلِهِ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ وَأَيَّدَتْهُ الْأَدِلَّةُ الَّتِي سَلَفَتْ . وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ إطْلَاقُ التَّبْدِيلِ فَيَشْمَلُ مَنْ تَنَصَّرَ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَهُودِيًّا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَدْيَانِ الْكُفْرِيَّةِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَتْ الشَّافِعِيَّةُ وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَدْيَانِ الَّتِي تُقِرُّ بِالْجِزْيَةِ أَمْ لَا لِإِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ وَخَالَفَتْ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ , وَقَالُوا لَيْسَ الْمُرَادُ إلَّا تَبْدِيلَ الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ . قَالُوا : وَإِطْلَاقُ الْحَدِيثِ مَتْرُوكٌ اتِّفَاقًا فِي حَقِّ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ مَعَ تَنَاوُلِ الْإِطْلَاقِ لَهُ وَبِأَنَّ الْكُفْرَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فَالْمُرَادُ مَنْ بَدَّلَ دِينَ الْإِسْلَامِ بِدِينٍ آخَرَ , فَإِنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا { مَنْ خَالَفَ دِينُهُ دِينَ الْإِسْلَامِ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ } فَصَرَّحَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ .
==============
وفي حاشية العطار :(1)
__________
(1) -حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 3 / ص 152)(2/350)
( الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ مَنْ ) بِفَتْحِ الْمِيمِ ( شَرْطِيَّةٌ )
نَحْوُ { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } ( وَاسْتِفْهَامِيَّةٌ ) نَحْوُ { مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا } ( وَمَوْصُولَةٌ ) نَحْوُ { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } . ( وَنَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ ) نَحْوُ مَرَرْت بِمَنْ مُعْجَبٌ لَك أَيْ بِإِنْسَانٍ ( قَالَ أَبُو عَلِيٍّ ) الْفَارِسِيُّ ( وَنَكِرَةٌ تَامَّةٌ ) كَقَوْلِهِ وَنِعْمَ مَنْ هُوَ فِي سِرٍّ وَإِعْلَانِ فَفَاعِلُ نِعْمَ مُسْتَتِرٌ وَمَنْ تَمْيِيزٌ بِمَعْنَى رَجُلًا وَهُوَ بِضَمِّ الْهَاءِ مَخْصُوصٌ بِالْمَدْحِ رَاجِعٌ إلَى بِشْرٍ مِنْ قَوْلِهِ وَكَيْفَ أَرْهَبُ أَمْرًا أَوْ أُرَاعُ لَهُ وَقَدْ زَكَأْتُ إلَى بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ نِعْمَ مَزْكَأً مَنْ ضَاقَتْ مَذَاهِبُهُ وَنِعْمَ مَنْ إلَخْ وَفِي سِرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِنِعْمَ , وَغَيْرُ أَبِي عَلِيٍّ لَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ وَقَالَ مَنْ مَوْصُولَةٌ فَاعِلُ نِعْمَ وَهُوَ بِضَمِّ الْهَاءِ رَاجِعٌ إلَيْهَا مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ هُوَ مَحْذُوفٌ رَاجِعٌ إلَى بِشْرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي سِرٍّ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْفِعْلِ كَمَا سَيَظْهَرُ وَالْجُمْلَةُ صِلَةُ مَنْ وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ أَيْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى بِشْرٍ أَيْضًا وَالتَّقْدِيرُ نِعْمَ الَّذِي هُوَ الْمَشْهُورُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ بِشْرٌ وَفِيهِ تَكَلُّفٌ .
( قَوْلُهُ : مَنْ شَرْطِيَّةٌ ) قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ هِيَ إحْدَى صِيَغِ الْعُمُومِ إذَا وَقَعَتْ شَرْطًا وَتَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ ذَهَبَ إلَى هَذَا أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ أَرْبَابِ اللِّسَانِ وَالْأُصُولِ وَذَهَبَ شِرْذِمَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى إلَى أَنَّهَا لَا تَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ وَاسْتَمْسَكُوا بِهَذَا الْمَسْلَكِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَرْأَةِ الْمُرْتَدَّةِ فَقَالُوا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } لَا يَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ وَإِنَّمَا غَرَّهُمْ مَا طَرَقَ مَسَامِعَهُمْ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْعَرَبِ : مَنْ وَمَنَهْ وَمَنَانْ وَمَنُونْ وَمَنْتَانْ وَمَنَاتْ قَالَ الشَّاعِرُ أَتَوْا دَارِي فَقُلْت مَنُونَ أَنْتُمْ فَقَالُوا الْجِنُّ قُلْت عِمُوا ظَلَامًا هَذَا مِنْ قَوْلِ الْأَغْبِيَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَعْقِلُوا مِنْ حَقَائِقِ اللِّسَانِ وَالْأُصُولِ شَيْئًا وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ إذَا أُطْلِقَ بِهَا شَرْطًا لَمْ يَخْتَصَّ بِذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى جَمْعٍ أَوْ وُحْدَانَ وَهَذَا مُسْتَمِرٌّ فِي الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَلْفَاظِ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي الْحُلُولِ وَالْعُقُودِ وَالْأَيْمَانِ وَالتَّعْلِيقَاتِ وَهُوَ الْجَارِي فِي تَفَاهُمِ ذَوِي الْعَادَاتِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي وَضْعِ اللُّغَاتِ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ مَنْ دَخَلَ الدَّارَ مِنْ أَرِقَّائِي فَهُوَ حُرٌّ لَمْ يَخْتَصَّ بِالْعَبِيدِ الذُّكُورِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى بِهَذِهِ الصِّيغَةِ أَوْ أَنَاطَ بِهَا تَوْكِيلًا أَوْ إذْنًا فِي قَضِيَّةٍ مِنْ الْقَضَايَا وَمَا اغْتَرَّ بِهِ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ مَنْ وَمَنَانْ إلَخْ فَهَذَا أَوَّلًا مِنْ شَوَاذِّ اللُّغَةِ وَلَيْسَ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الْحِكَايَةِ وَبَنَى الْجَوَابَ عَلَى مُحَاكَاةِ الْخِطَابِ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ جَاءَ رَجُلٌ قُلْت مَنْ وَإِذَا قَالَ جَاءَ رَجُلَانِ قُلْت مَنَانْ إلَخْ ( قَوْلُهُ : وَاسْتِفْهَامِيَّةٌ ) وَقَدْ تُشْرَبُ مَعْنَى النَّفْيِ فَيَقَعُ بَعْدَهَا الِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّغُ نَحْوُ { وَمَنْ يَغْفِرْ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ } وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ بِمَعْنَى النَّفْيِ . ( قَوْلُهُ : فَفَاعِلُ نِعْمَ إلَخْ ) هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ وَسَيَأْتِي بِشَرْحِهِ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ . ( قَوْلُهُ : مُسْتَتِرٌ ) يَعُودُ عَلَى بِشْرٍ . ( قَوْلُهُ : وَمَنْ تَمْيِيزٌ ) فَهِيَ نَكِرَةٌ تَامَّةٌ إذْ لَمْ تُوصَفْ بِشَيْءٍ . ( قَوْلُهُ : بِضَمِّ الْهَاءِ ) أَتَى بِذَلِكَ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَفْظُ هُوَ وَلَيْسَتْ ضَمِيرًا وَإِلَّا فَلَا يُتَوَهَّمُ عَدَمُ ضَمِّ الْهَاءِ . ( قَوْلُهُ : خَبَرُهُ هُوَ مَحْذُوفٌ ) لِأَنَّهُ صِلَةٌ ( قَوْلُهُ : وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ ) فَإِنْ جَعَلَ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ مَحْذُوفًا قَدَّرَ هُوَ رَابِعًا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ نِعْمَ هُوَ هُوَ هُوَ هُوَ بِأَرْبَعَةِ ضَمَائِرَ أَحَدُهَا يَعُودُ إلَى بِشْرٍ وَالثَّانِي رَابِطٌ وَالثَّالِثُ مَخْصُوصٌ بِالْمَدْحِ وَالرَّابِعُ خَبَرٌ وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّارِحُ وَهُوَ تَكَلُّفٌ . ( قَوْلُهُ : وَالْمَشْهُورُ ) بَيَانٌ لِمَعْنَى هُوَ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الْجَارُّ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الْفِعْلِ .
=================
( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّ مَنْ الشَّرْطِيَّةَ تَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ )(1)
__________
(1) -حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 3 / ص 373)(2/351)
وَقِيلَ تَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ نَظَرَتْ امْرَأَةٌ فِي بَيْتِ أَجْنَبِيٍّ جَازَ رَمْيُهَا عَلَى الْأَصَحِّ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ { مَنْ تَطَلَّعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ } وَقِيلَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يُسْتَتَرُ مِنْهَا ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّ جَمْعَ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ ) كَالْمُسْلِمِينَ ( لَا يَدْخُلُ فِيهِ النِّسَاءُ ظَاهِرًا ) وَإِنَّمَا يَدْخُلْنَ بِقَرِينَةٍ تَغْلِيبًا لِلذُّكُورِ وَقِيلَ يَدْخُلْنَ فِيهِ ظَاهِرًا لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ فِي الشَّرْعِ مُشَارَكَتُهُنَّ لِلذُّكُورِ فِي الْأَحْكَامِ لَا يَقْصِدُ الشَّارِعُ بِخِطَابِ الذُّكُورِ قَصْرَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّ خِطَابَ الْوَاحِدِ ) بِحُكْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ ( لَا يَتَعَدَّاهُ ) إلَى غَيْرِهِ ( وَقِيلَ يَعُمُّ ) غَيْرَهُ ( عَادَةً ) لِجَرَيَانِ عَادَةِ النَّاسِ بِخِطَابِ الْوَاحِدِ وَإِرَادَةِ الْجَمْعِ فِيمَا يَتَشَارَكُونَ فِيهِ قُلْنَا مَجَازٌ يَحْتَاجُ إلَى الْقَرِينَةِ .(2/352)
( قَوْلُهُ : مَنْ الشَّرْطِيَّةَ ) يَدُلُّ لَهُ قوله تعالى { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } إذْ لَوْلَا تَنَاوُلُهَا لِلْأُنْثَى وَضْعًا لَمَا صَحَّ إنْ تَبَيَّنَ بِالْقِسْمَيْنِ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَكَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ } الْحَدِيثَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فَفَهِمَتْ دُخُولَ النِّسَاءِ فِي مَنْ الشَّرْطِيَّةِ وَأَقَرَّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ مَنْ دَخَلَ دَارِي فَهُوَ حُرٌّ فَدَخَلَهَا الْإِمَاءُ عَتَقْنَ إجْمَاعًا وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مَنْ الشَّرْطِيَّةَ لَا تَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ وَيُعْزَى لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَبُنِيَ عَلَيْهِ عَدَمُ قَتْلِ الْمُرْتَدَّةِ عِنْدَهُمْ بِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَالسُّنَنِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } ثُمَّ إنَّ التَّقْيِيدَ بِالشَّرْطِيَّةِ لَا مَفْهُومَ لَهُ بَلْ مِثْلُهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْصُولَةُ وَالِاسْتِفْهَامِيَّة فَتَخْصِيصُ مَوْضِعِ الْخِلَافِ بِهَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ . ( قَوْلُهُ : عَلَى الْأَصَحِّ ) أَيْ بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ التَّنَاوُلِ وَقَوْلُهُ وَقِيلَ لَا يَجُوزُ إلَخْ أَيْ بِنَاءً عَلَى مُقَابِلِ الْأَصَحِّ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَى الْأَصَحِّ فَتَكُونُ مَنْ فِي الْحَدِيثِ مِنْ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ وَلَوْ قَالَ هُنَا عَلَى الْأَوَّلِ وَفِي قَوْلِهِ وَقِيلَ لَا يَجُوزُ عَلَى الثَّانِي كَانَ أَوْلَى لِيُفِيدَ بِنَاءَ ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ لَكِنَّهُ أَرَادَ بِهِمَا الْجَوَازَ وَعَدَمَهُ فِي الْفِقْهِ وَلِهَذَا عَلَّلَ الثَّانِيَ بِقَوْلِهِ ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إلَخْ فَهُوَ تَعْلِيلٌ لِلْحُكْمِ الْفِقْهِيِّ لِمَا لَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمَبْحَثِ الْأُصُولِيِّ وَإِلَّا لَقَالَ ; لِأَنَّ مَنْ لَا تَتَنَاوَلُهَا . ( قَوْلُهُ : جَمْعَ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ ) التَّقْيِيدُ بِهِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْمُكَسَّرِ فَقَدْ صُرِّحَ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ الْمُؤَنَّثُ وَأَمَّا مَا أُلْحِقَ بِالْجَمْعِ فَمِنْهُ مَا يَشْمَلُهَا قَطْعًا كَعِشْرِينَ وَمِنْهُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْإِنَاثُ قَطْعًا كَأَرَضِينَ وَسِنِينَ . ( قَوْلُهُ : كَالْمُسْلِمِينَ ) تَحْرِيرٌ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي دُخُولِ النِّسَاءِ فِي نَحْوِ الرِّجَالِ فِيمَا وُضِعَ لِلذُّكُورِ خَاصَّةً لِانْتِفَائِهِ اتِّفَاقًا وَلَا فِي نَحْوِ النَّاسِ وَلَا نَحْوِ مَنْ وَمَا مِمَّا هُوَ مَوْضُوعٌ لِمَا يَعُمُّ الصِّنْفَيْنِ لِثُبُوتِهِ اتِّفَاقًا بَلْ فِيمَا مُيِّزَ فِيهِ بَيْنَ صِيغَةِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِعَلَامَةٍ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُغَلِّبُ فِيهِ الْمَذْكُورَ فَإِذَا أَرَادُوا الْجَمْعَ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ يُطْلِقُونَهُ وَيُرِيدُونَ الطَّائِفَتَيْنِ وَلَا يُفْرَدُ الْمُؤَنَّثُ بِالذِّكْرِ وَذَلِكَ مِثْلُ الْمُسْلِمِينَ وَفَعَلُوا وَافْعَلُوا فَهَذِهِ الصِّيَغُ إذَا أُطْلِقَتْ هَلْ هِيَ ظَاهِرَةٌ فِي دُخُولِ النِّسَاءِ فِيهَا كَمَا تَدْخُلُ عِنْدَ التَّغْلِيبِ أَوْ لَا ؟ الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ ظَاهِرًا وَفِي التَّمْهِيدِ إذَا وَقَفَ عَلَى بَنِي زَيْدٍ أَوْ أَوْصَى إلَيْهِمْ لَا يَدْخُلُ بَنَاتُهُ بِخِلَافِ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي هَاشِمٍ وَنَحْوِهِمَا فَتَدْخُلُ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَالِ ; لِأَنَّ الْفَرْقَ أَنَّ بَنِي تَمِيمٍ اسْمٌ لِلْقَبِيلَةِ بِتَمَامِهَا وَلَوْ نِسَاءً فَالْمَقْصُودُ الْجِهَةُ وَفِيهِ أَيْضًا تَفْرِيعًا عَلَى نَحْوِ افْعَلُوا مَسْأَلَةُ الْوَاعِظِ الْمَشْهُورَةُ وَهِيَ أَنَّ وَاعِظًا طَلَبَ مِنْ الْحَاضِرِينَ شَيْئًا فَلَمْ يُعْطُوهُ فَقَالَ مُتَضَجِّرًا مِنْهُمْ طَلَّقْتُكُمْ ثَلَاثًا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ زَوْجَتَهُ كَانَتْ فِيهِمْ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ أَفْتَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ قَالَ وَفِي الْقَلْبِ مِنْهُ شَيْءٌ قَالَ الرَّافِعِيُّ وَلَك أَنْ تَقُولَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَطْلُقَ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلَّقْتُكُمْ لَفْظٌ عَامٌّ وَهُوَ يَقْبَلُ الِاسْتِثْنَاءَ بِالنِّيَّةِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُسَلِّمُ عَلَى زَيْدٍ فَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ وَاسْتَثْنَاهُ بِقَلْبِهِ لَا يَحْنَثُ وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ زَوْجَتَهُ فِي الْقَوْمِ كَانَ مَقْصُودُهُ غَيْرَهَا . ( قَوْلُهُ : لَا يَدْخُلُ فِيهِ النِّسَاءُ ) أَيْ تَبَعًا وَدَلِيلُهُ الْعَطْفُ فِي نَحْوِ قوله تعالى { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ فَإِنْ ادَّعَى الْخَصْمُ أَنَّ ذِكْرَهُنَّ لِلتَّنْصِيصِ عَلَيْهِنَّ قُلْنَا فَائِدَةُ التَّأْسِيسِ أَوْلَى وَسَكَتُوا عَنْ الْخَنَاثَى وَالظَّاهِرُ مِنْ تَعْرِيفِ الْفُقَهَاءِ دُخُولُهُمْ فِي خِطَابِ النِّسَاءِ فِي التَّغْلِيظِ وَالرِّجَالِ فِي التَّخْفِيفِ وَرُبَّمَا أُخْرِجُوا عَنْ الْقِسْمَيْنِ . ( قَوْلُهُ : وَقِيلَ يَدْخُلْنَ ) وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَيُنْسَبُ لِلْحَنَابِلَةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ لَكِنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَيْثُ(2/353)
اللُّغَةُ بَلْ بِالْعُرْفِ أَوْ بِعُمُومِ الْأَحْكَامِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَكَلَامُ الْعَضُدِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الدُّخُولَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ حَقِيقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ ا هـ . وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ وَهُوَ مَجَازٌ . ( قَوْلُهُ : لَا يَقْصِدُ إلَخْ ) إيقَاعُ الْمُضَارِعِ جَوَابًا لِلَمَّا يَتَمَشَّى عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ عُصْفُورٍ أَوْ يُقَالُ إنَّهَا لَا جَوَابَ لَهَا إذْ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا التَّعْلِيقُ بَلْ هِيَ لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ فَلَا تَحْتَاجُ لِجَوَابٍ وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ لَا يُقْصَدُ خَبَرُ أَنَّ وَلَمَّا مُتَعَلِّقٌ بِهِ . ( قَوْلُهُ : قَصْرَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ ) أَيْ عَلَى الْمَذْكُورِ بَلْ يَقْصِدُ مُطْلَقَ الْجَمَاعَةِ الشَّامِلَةِ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَبَحَثَ فِيهِ الشِّهَابُ عَمِيرَةُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلْقَصْرِ غَايَةُ الْأَمْرِ السُّكُوتُ عَنْهُنَّ ا هـ . وَأَجَابَ سم بِأَنَّ الْمُرَادَ الْقَصْرُ لَفْظًا بِأَنْ لَا يُرِيدَ تَنَاوُلَ اللَّفْظِ لَهُنَّ وَلَا بَيَانَ حُكْمِهِنَّ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَا يُرِيدُ بِاللَّفْظِ إلَّا الرِّجَالَ لَا قَصْرَ الْحُكْمِ فِي الْوَاقِعِ كَمَا هُوَ مَبْنَى بَحْثِ الشِّهَابِ ( قَوْلُهُ : وَالْأَصَحُّ أَنَّ خِطَابَ الْوَاحِدِ ) أَيْ وَخِطَابَ الِاثْنَيْنِ أَوْ خِطَابَ الْجَمَاعَةِ الْمُعَيَّنَةِ فَلَفْظُ الْوَاحِدِ لَا مَفْهُومَ لَهُ ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَعَمُّ مِنْ الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ وَهِيَ مُخَاطَبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَفْظٍ يَخْتَصُّ بِهِ وَمَا هُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَتَحْرِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ الْخِطَابَ الْخَاصَّ بِوَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ إنْ اقْتَرَنَ بِمَا يَخُصُّ ذَلِكَ الْوَاحِدَ فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُ مِثْلَهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ كَحَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ فِي الْعَنَاقِ فِي الصَّحِيحَيْنِ { يُجْزِيك وَلَنْ يُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك } وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ فَفِيهِ مَذَاهِبُ الْأَوَّلُ عَدَمُ التَّنَاوُلِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ . الثَّانِي : وَيُعْزَى لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ عَامٌّ بِنَفْسِهِ وَكَلَامُ الْقَاضِي هُوَ عَامٌّ بِالشَّرْعِ لَا بِاللُّغَةِ الثَّالِثُ وَبِهِ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَة أَنَّهُ إنْ وَقَعَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ { كَقَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ وَاقَعْت أَهْلِي فِي رَمَضَانَ فَقَالَ أَعْتِقْ } كَانَ عَامًّا وَإِلَّا فَلَا , نَحْوُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ } فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ . ( قَوْلُهُ : لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ ) أَيْ بَلْ الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِالْقِيَاسِ وَبِنَحْوِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي مُبَايَعَةِ النِّسَاءِ إنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ وَمَا قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا كَقَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَأَمَّا حَدِيثُ { حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ } فَلَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ بِهَذَا اللَّفْظِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخِلَافَ مَعْنَوِيٌّ وَلَيْسَ لَفْظِيًّا كَمَا قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ . ( قَوْلُهُ : وَقِيلَ يَعُمُّ غَيْرَهُ ) لَمْ يُرِدْ الْعُمُومَ الْمُصْطَلَحَ بَلْ مُطْلَقَ التَّنَاوُلِ فَلَا يُقَالُ فِيهِ تَجُوزُ حَيْثُ جُعِلَ الْعُمُومُ مِنْ عَوَارِضِ الْخِطَابِ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ وَلَمْ يَقُلْ وَقِيلَ يَتَعَدَّاهُ ; لِأَنَّهُ قَصَدَ تَفْسِيرَ التَّعَدِّي هُنَا بِعُمُومِ غَيْرِهِ مَعَهُ ; لِأَنَّهُ أَظْهَرُ فِي الْمُرَادِ إذْ قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ التَّعَدِّي إلَى غَيْرِهِ انْقِطَاعُهُ عَنْهُ وَتَعَلُّقُهُ بِغَيْرِهِ . ( قَوْلُهُ : فِيمَا يَتَشَارَكُونَ فِيهِ ) أَمَّا مَا لَا يَتَشَارَكُونَ فِيهِ فَلَا يَعُمُّ قَطْعًا . ( قَوْلُهُ : قُلْنَا مَجَازٌ ) أَيْ وَإِرَادَةُ الْجَمِيعِ فِيمَا يَتَشَارَكُونَ فِيهِ مَجَازٌ أَيْ وَالْكَلَامُ فِي التَّنَاوُلِ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ وَالْحَقِيقَةِ
=================
( وَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ ) الصَّلَاةُ وَ ( السَّلَامُ وَتَقْرِيرِهِ فِي الْأَصَحِّ )(1)
__________
(1) -حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 3 / ص 489)(2/354)
فِيهِمَا , كَمَا لَوْ قَالَ : الْوِصَالُ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ثُمَّ فَعَلَهُ أَوْ أَقَرَّ مَنْ فَعَلَهُ وَقِيلَ : لَا يُخَصِّصَانِ بَلْ يَنْسَخَانِ حُكْمَ الْعَامِّ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ تَسَاوِي النَّاسِ فِي الْحُكْمِ . وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ أَوْلَى مِنْ النُّسَخِ لِمَا فِيهِ مِنْ إعْمَال الدَّلِيلَيْنِ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّ عَطْفَ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ ) وَعَكْسَهُ الْمَشْهُورُ ( لَا يُخَصِّصُ ) الْعَامَّ وَقِيلَ يُخَصِّصُهُ أَيْ يَقْصُرُهُ عَلَى ذَلِكَ الْخَاصِّ لِوُجُوبِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ وَصِفَتِهِ قُلْنَا فِي الصِّفَةِ مَمْنُوعٌ مِثَالُ الْعَكْسِ حَدِيثُ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ { وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ } يَعْنِي كَافِرٌ حَرْبِيٌّ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى قَتْلِهِ بِغَيْرِ الْحَرْبِيِّ فَقَالَ الْحَنَفِيُّ : يُقَدَّرُ الْحَرْبِيُّ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِوُجُوبِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفَيْنِ فِي صِفَةِ الْحُكْمِ فَلَا يُنَافِي مَا قَالَ بِهِ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ , وَمِثَالُ الْأَوَّلِ أَنْ يُقَالَ : لَا يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِكَافِرٍ وَلَا الْمُسْلِمُ بِكَافِرٍ فَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِ الْأَوَّلِ الْحَرْبِيُّ فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ : وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِ الثَّانِي الْحَرْبِيُّ أَيْضًا لِوُجُوبِ الِاشْتِرَاكِ الْمَذْكُورِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّمْثِيلُ بِالْحَدِيثِ لِمَسْأَلَةِ : إنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْعَامِّ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَى الْأَصَحِّ ( وَ ) الْأَصَحُّ أَنَّ ( رُجُوعَ الضَّمِيرِ أَوْ الْبَعْضِ ) أَيْ بَعْضِ الْعَامِّ لَا يُخَصِّصُهُ أَيْ يَقْصُرُهُ عَلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ حَذَرًا مِنْ مُخَالَفَةِ الضَّمِيرِ لِمَرْجِعِهِ . وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِي الْمُخَالَفَةِ لِقَرِينَةٍ مِثَالُهُ قوله تعالى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } مَعَ قَوْلِهِ بَعْدَهُ { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } فَضَمِيرُ بُعُولَتِهِنَّ لِلرَّجْعِيَّاتِ وَيَشْمَلُ قَوْلُهُ وَالْمُطَلَّقَاتُ مَعَهُنَّ الْبَوَائِنَ وَقِيلَ لَا وَيُؤْخَذُ حُكْمُ الْبَوَائِنِ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ( وَ ) الْأَصَحُّ أَنَّ ( مَذْهَبَ الرَّاوِي ) لِلْعَامِّ بِخِلَافِهِ لَا يُخَصِّصُهُ ( وَلَوْ ) كَانَ ( صَحَابِيًّا ) وَقِيلَ يُخَصِّصُهُ مُطْلَقًا وَقِيلَ إنْ كَانَ صَحَابِيًّا وَقِيلَ إنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ غَيْرُ الرَّاوِي لِلْعَامِّ بِخِلَافِهِ يُخَصِّصُهُ أَيْضًا أَيْ يَقْصُرُهُ عَلَى مَا عَدَا مَحَلَّ الْمُخَالَفَةِ ; لِأَنَّهَا إنَّمَا تَصْدُرُ عَنْ دَلِيلٍ , قُلْنَا : فِي ظَنِّ الْمُخَالِفِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ اتِّبَاعُهُ ; لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا كَمَا سَيَأْتِي , مِثَالُهُ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } مَعَ قَوْلِهِ : إنْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ , وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ مَنْ الشَّرْطِيَّةَ لَا تَتَنَاوَلُ الْمُؤَنَّثَ كَمَا هُوَ قَوْلٌ تَقَدَّمَ .(2/355)
( قَوْلُهُ : وَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ ) أَيْ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ( قَوْلُهُ : بِفِعْلِهِ عليه السلام ) إنَّمَا ذَكَرَهُ مَعَ أَنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ ; لِأَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ مِمَّنْ قَالَ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالسُّنَّةِ , وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى أَنْ يَكُونَ مُخَصَّصًا بِالْفَتْحِ ; إذْ لَا عُمُومَ لَهُ بَلْ مُخَصِّصًا بِالْكَسْرِ ( قَوْلُهُ : وَتَقْرِيرُهُ ) وَهَلْ التَّخْصِيصُ بِنَفْسِ تَقْرِيرِهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ سَبْقِ قَوْلٍ بِهِ فَيُسْتَدَلُّ بِتَقْرِيرِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ خُصَّ بِقَوْلٍ سَابِقٍ ; إذْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا مَا فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلْعَامِّ إلَّا بِإِذْنٍ صَرِيحٍ , فَتَقْرِيرُهُ دَلِيلُ ذَلِكَ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ الْقَطَّانِ وَإِلْكِيَا قَالَ ابْنُ فُورَكٍ وَالطَّبَرِيُّ إنَّ الظَّاهِرَ الْأَوَّلُ أَفَادَهُ الْبِرْمَاوِيُّ ( قَوْلُهُ : كَمَا قَالَ الْوِصَالُ إلَخْ ) قَالَ الْعَلَّامَةُ الْبِرْمَاوِيُّ مَحَلُّ كَوْنِهِ تَخْصِيصًا إذَا كَانَ الْعُمُومُ شَامِلًا لَهُ وَلِلْأُمَّةِ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ مَثَلًا ثُمَّ يَفْعَلُ الْفِعْلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ , وَهُوَ مِمَّا لَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ فِيهِ إمَّا لِكَوْنِهِ مِنْ خَصَائِصِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَمَّا إذَا أَوْجَبْنَا التَّأَسِّي بِهِ فِيهِ فَيَرْتَفِعُ الْحُكْمُ عَنْ الْكُلِّ , وَذَلِكَ نَسْخٌ لَا تَخْصِيصٌ , وَأَمَّا إذَا كَانَ الْعُمُومُ لِلْأُمَّةِ دُونَهُ فَفِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِي الْعُمُومِ , وَقَدْ مُثِّلَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ , وَاسْتِدْبَارِهَا ثُمَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ مُسْتَقْبِلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّهْيَ شَامِلٌ لِلصَّحْرَاءِ وَالْبُنْيَانِ فَيَحْرُمُ فِيهِمَا , وَبِهِ قَالَ جَمْعٌ يَكُونُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خُصَّ بِذَلِكَ , وَخَرَجَ مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ , وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ مُخْتَصًّا بِذَلِكَ فَالتَّخْصِيصُ لِلْبَيَانِ مِنْ الْعُمُومِ سَوَاءٌ هُوَ وَالْأُمَّةُ فِي ذَلِكَ ( قَوْلُهُ : بَلْ يَنْسَخَانِ حُكْمَ الْعَامِّ ) أَيْ فَتَكُونُ الْحُرْمَةُ مَنْسُوخَةً عَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ ثُمَّ إنَّ هَذَا كَلَامٌ مُجْمَلٌ يُعْلَمُ تَفْصِيلُهُ مِنْ قَوْلِ الْعَلَّامَةِ الْبِرْمَاوِيِّ فَتَقْرِيرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاحِدًا مِنْ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَامِّ فَهَلْ يَكُونُ تَخْصِيصًا إذَا وُجِدَتْ شَرَائِطُ التَّقْرِيرِ فِيهِ , فَإِنْ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ , وَلَمْ يَثْبُتْ مُسَاوَاةُ الَّذِي قَرَّرَهُ لِغَيْرِهِ كَانَ تَخْصِيصًا , وَإِنْ ثَبَتَ الْمُسَاوَاةُ لِجَمِيعِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ أَوْ كَانَ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الْعَمَلِ كَانَ نَاسِخًا , وَمَثَّلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ مَا يَكُونُ تَخْصِيصًا { بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وَتَرْكُهُ صلى الله عليه وسلم أَخْذَ الزَّكَاةِ مِنْ الْخَضْرَاوَاتِ , وَكَذَا تَقْرِيرُهُ عَلَى تَرْكِ الْوُضُوءِ لِمَنْ نَامَ قَاعِدًا } ا هـ . ( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْأَصْلَ تَسَاوِي النَّاسِ فِي الْحُكْمِ ) لَعَلَّ فِيهِ إشَارَةً إلَى مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ إنْ اُشْتُهِرَ كَوْنُ الْفِعْلِ مِنْ خَصَائِصِهِ لَمْ يُخَصَّ بِهِ , وَإِلَّا خُصَّ كَمَا جَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ وَقَالَ إلْكِيَا : إنَّهُ الْأَصَحُّ قَالَ : وَلِهَذَا حَمَلَ الشَّافِعِيُّ { تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها وَهُوَ عليه الصلاة والسلام مُحْرِمٌ } عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ قَالَهُ الْبِرْمَاوِيُّ ( قَوْلُهُ : وَعَكْسُهُ ) يُحْتَمَلُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ أَيْ كَذَلِكَ , وَالنَّصْبُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ عَطْفَ , وَقَوْلُهُ الْمَشْهُورُ أَيْ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَوْ بِالْخِلَافِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي عَكْسِهِ أَيْضًا الِاتِّحَادُ الْمُدْرَكُ وَفِيهِ إيمَاءٌ لِعُذْرِ الْمُصَنِّفِ فِي تَرْكِهِ الْعَكْسَ ( قَوْلُهُ : أَيْ يَقْصُرُهُ إلَخْ ) هَذَا مَعْنًى آخَرَ لِلتَّخْصِيصِ غَيْرُ الْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ فَإِنَّ الْمُتَقَدِّمَ قَصْرُهُ عَلَى مَا عَدَا الْخَاصَّ ( قَوْلُهُ : وَصِفَتُهُ ) وَمِنْهَا الْخُصُوصُ وَتَعْمِيمُ الْخَاصِّ لَا يُمْكِنُ ; لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِأَمْرٍ وَاحِدٍ ( قَوْلُهُ : : مِثَالُ الْعَكْسِ ) قَدَّمَهُ لِوُرُودِ مِثَالِهِ وَلِأَنَّهُ الَّذِي اُشْتُهِرَ فِيهِ الْخِلَافُ فَقَدَّمَهُ اعْتِنَاءً بِهِ قَوْلُهُ : { لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ } قَالَ الشِّهَابُ الْعَامُّ الْكَافِرُ الْأَوَّلُ وَالْخَاصُّ الْكَافِرُ الْمُقَدَّرُ فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَافِرِ الْأَوَّلِ , وَقَوْلُهُ : بِكَافِرٍ حَرْبِيٍّ مَعْطُوفٌ بِالْوَاوِ الدَّاخِلَةِ عَلَى : وَلَا ذُو عَهْدٍ فَإِنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ عَطَفَ ذُو عَلَى مُسْلِمٍ وَبِكَافِرٍ حَرْبِيٍّ عَلَى بِكَافِرٍ ا هـ . وَهُوَ ظَاهِرٌ , وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعَامِّ(2/356)
عَلَى الْخَاصِّ , أَوْ عَكْسِهِ ( قَوْلُهُ : لِلْإِجْمَاعِ عَلَى قَتْلِهِ ) أَيْ الْمُعَاهَدِ وَهُوَ عِلَّةٌ لِتَقْدِيرِ الْخَاصِّ ( قَوْلُهُ : بَيْنَ الْمَعْطُوفَيْنِ ) فِيهِ تَغْلِيبٌ ( قَوْلُهُ : فِي صِفَةِ الْحُكْمِ ) وَهِيَ الْحِرَابَةُ , وَهِيَ صِفَةٌ خَاصَّةٌ , وَمَعْنَى كَوْنِهَا صِفَةً لِلْحُكْمِ أَنَّهَا صِفَةٌ لِمُتَعَلِّقِهِ , وَهُوَ الشَّخْصُ الْكَافِرُ ( قَوْلُهُ : وَقَدْ تَقَدَّمَ إلَخْ ) أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّ صِحَّةَ التَّمْثِيلِ بِهِ فِي الْمَوْضُوعَيْنِ بِاعْتِبَارَيْنِ فَالتَّمْثِيلُ بِهِ هُنَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْعَامِّ أَيْ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ , وَالتَّمْثِيلُ بِهِ هُنَاكَ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْعَامِّ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي الْمَعْطُوفِ ( قَوْلُهُ : وَرُجُوعُ الضَّمِيرِ إلَخْ ) قَدْ يُعَبَّرُ بَدَلَ الضَّمِيرِ بِمَا يَعُمُّهُ وَغَيْرُهُ ; لَأَنْ يُقَالَ : تَعْقِيبُ الْعَامِّ بِمَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِهِ لَا يُخَصِّصُهُ فِي الْأَصَحِّ وَالْغَيْرُ كَالْمُحَلَّى بِأَلْ وَاسْمِ الْإِشَارَةِ كَأَنْ يُقَالَ بَدَلَ : " وَبُعُولَتُهُنَّ " إلَخْ فِي الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَبِقَوْلِهِ : " الْمُطَلَّقَاتُ " أَوْ هَؤُلَاءِ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ا هـ . ز ( قَوْلُهُ : لَا مَحْذُورَ ) بَلْ فِيهِ مِنْ الْمُحَسِّنَاتِ الِاسْتِخْدَامُ ( قَوْلُهُ : وَالْمُطَلَّقَاتُ ) أَيْ مِنْ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ غَيْرِ الْحَوَامِلِ وَغَيْرُهُ الصَّغِيرَةُ وَالْآيِسَةُ وَكُنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَكُنَّ أَحْرَارًا فَفِي الْآيَةِ تَخْصِيصَاتٌ ( قَوْلُهُ : : أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ لَيْسَ عَلَى بَابِهِ وَقَوْلُهُ : فِي ذَلِكَ أَيْ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ ( قَوْلُهُ : وَيَشْمَلُ ) أَيْ فَالْمُطَلَّقَاتُ عَامٌّ فِي الْبَائِنَاتِ وَالرَّجْعِيَّاتِ فَلَا يَخْتَصُّ التَّرَبُّصُ بِالرَّجْعِيَّاتِ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِنَّ وَبِالْبَائِنَاتِ ( قَوْلُهُ : مَعَهُنَّ ) حَالٌ مِنْ الْبَوَائِنِ أَيْ يَشْمَلُ الْبَوَائِنَ حَالَ كَوْنِهِنَّ مَعَ الرَّجْعِيَّاتِ فِي الشُّمُولِ ( قَوْلُهُ : وَقِيلَ لَا ) أَيْ لَا يَشْمَلُ , وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى مُقَدَّرٍ هُوَ الْمُتَضَمَّنُ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ وَهُوَ الرَّجْعِيَّاتُ مَدْلُولًا تَضْمِينًا لِلْمُتَضَمِّنِ عَلَى صِفَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ , وَهُوَ الْمُطَلَّقَاتُ مُرَادًا بِهِنَّ الرَّجْعِيَّاتُ مَجَازًا مِنْ إطْلَاقِ الْكُلِّ , وَإِرَادَةِ الْبَعْضِ , وَوُجُوبُ تَرَبُّصِ غَيْرِ الرَّجْعِيَّاتِ بِدَلِيلٍ آخَرَ كَالْإِجْمَاعِ ( قَوْلُهُ : لِلْعَامِّ ) مُتَعَلِّقٌ بِالرَّاوِي وَاللَّامُ لِلتَّقْوِيَةِ وَبِخِلَافِهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَذْهَبٍ أَوْ حَالٌ مِنْهُ قَوْلُهُ : وَلَوْ كَانَ صَحَابِيًّا ) لِأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ , وَالْعَامُّ حُجَّةٌ ( قَوْلُهُ : مُطْلَقًا ) أَيْ صَحَابِيًّا أَوْ غَيْرَهُ ( قَوْلُهُ : وَقِيلَ : إنَّ مَذْهَبَ إلَخْ ) خَارِجٌ عَنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ; لِأَنَّ كَلَامَهُ فِي الرَّاوِي ( قَوْلُهُ : : يُخَصِّصُهُ أَيْضًا ) أَيْ كَمَا يُخَصِّصُهُ مَذْهَبُ الرَّاوِي , وَهَذَا عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ ( قَوْلُهُ : مَا عَدَا إلَخْ ) وَهِيَ الْأَفْرَادُ الَّتِي أُخْرِجَ مِنْهَا ( قَوْلُهُ : : لِأَنَّهَا إنَّمَا تَصْدُرُ إلَخْ ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَعْلِيلُ الْقَوْلِ الْأَخِيرِ أَيْ وَإِذَا صَدَرَتْ عَنْ دَلِيلٍ جَازَ أَنْ تَكُونَ مُخَصِّصَةً ( قَوْلُهُ : فِي ظَنِّ الْمُخَالِفِ ) أَيْ الْمُخَالَفَةِ أَيْ هُوَ دَلِيلٌ فِي ظَنِّهِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِإِمْكَانِ أَنَّهُ أَخَصُّ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ إلَخْ ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّاوِي الْمُجْتَهِدُ ( قَوْلُهُ : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ ) عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ( قَوْلُهُ : إنْ ثَبَتَ عَنْهُ ) وَإِلَّا فَقَدْ طَعَنَ فِي بَعْضِ رُوَاتِهِ بِالْوَضْعِ ( قَوْلُهُ : إنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ ) وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله ( قَوْلُهُ : وَيُحْتَمَلُ إلَخْ ) أَيْ فَلَا يَكُونُ مُخَالَفَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُرْتَدَّةِ إنْ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ قَبِيلِ التَّخْصِيصِ لِعُمُومِ مَرْوِيِّهِ ا هـ ز
==================
وَالْأَعَمُّ ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ ( وَالْعَامُّ ) الْوَارِدُ عَلَى ( سَبَبٍ خَاصٍّ ) فِي سُؤَالٍ أَوْ غَيْرِهِ ( مُعْتَبَرٌ عُمُومُهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ )(1)
__________
(1) - حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 4 / ص 7)(2/357)
نَظَرًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ , وَقِيلَ : هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى السَّبَبِ لِوُرُودِهِ فِيهِ , مِثَالُهُ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ ؟ فَقَالَ : إنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } أَيْ مِمَّا ذُكِرَ وَغَيْرُهُ , وَقِيلَ : مِمَّا ذُكِرَ , وَهُوَ سَاكِتٌ عَنْ غَيْرِهِ ( فَإِنْ كَانَتْ ) أَيْ وُجِدَتْ ( قَرِينَةُ التَّعْمِيمِ فَأَجْدَرُ ) أَيْ أَوْلَى بِاعْتِبَارِ الْعُمُومِ مِمَّا لَوْ لَمْ تَكُنْ مِثَالُهُ قوله تعالى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَسَبَبُ نُزُولِهِ عَلَى مَا قِيلَ رَجُلٌ سَرَقَ رِدَاءَ صَفْوَانَ فَذَكَرَ السَّارِقَةَ قَرِينَةً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالسَّارِقِ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَقَطْ وقوله تعالى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } نَزَلَ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي شَأْنِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ لَمَّا أَخَذَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ قَهْرًا بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ لِيُصَلِّيَ فِيهَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ , وَخَرَجَ فَسَأَلَهُ الْعَبَّاسُ الْمِفْتَاحَ لِيَضُمَّ السِّدَانَةَ إلَى السِّقَايَةِ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فَرَدَّهُ عَلَى عُثْمَانَ بِلُطْفٍ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ بِذَلِكَ فَتَعَجَّبَ عُثْمَانُ مِنْ ذَلِكَ فَقَرَأَ لَهُ عَلِيٌّ الْآيَةَ فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ فَذِكْرُ الْأَمَانَاتِ بِالْجَمْعِ قَرِينَةٌ عَلَى إرَادَةِ الْعُمُومِ .(2/358)
( قَوْلُهُ : ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ إلَخْ ) مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ فِي ضِمْنِ الْعَامِّ فَإِنَّ قَوْلَهُ : وَالْعَامُّ إلَخْ غَيْرُ قَاصِرٍ عَلَى الْجَوَابِ وَالسُّؤَالِ ( قَوْلُهُ وَالْمُسَاوِي وَاضِحٌ ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَقِلًّا أَمْ لَا ; وَلِهَذَا مَثَّلَ الشَّارِحُ لَهُ بِمِثَالَيْنِ أَوَّلُهُمَا لِلْمُسْتَقِلِّ , وَالثَّانِي لِغَيْرِهِ هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِهِ , وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى عَطْفِ الْمُسَاوِي عَلَى الْمُسْتَقِلِّ , وَفِيهِ تَكْرَارٌ ; لِأَنَّ غَيْرَ الْمُسْتَقِلِّ عُلِمَ مِمَّا مَرَّ فَالْأَوْجَهُ عَطْفُهُ عَلَى الْأَخَصِّ , وَالْمُسَاوِي صَادِقٌ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْعُمُومِ , وَفِي الْخُصُوصِ فَالْمِثَالُ الْأَوَّلُ لِلْعُمُومِ , وَالثَّانِي لِلْخُصُوصِ لَكِنْ بِزِيَادَةِ إنْ جَامَعْت فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بَعْدُ عَلَيْك قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ( قَوْلُهُ : فِي سُؤَالٍ ) ظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ السُّؤَالُ عَامًّا , أَوْ لَا وَفِي سُؤَالٍ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِسَبَبٍ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ : الْوَارِدُ أَوْ فِي شَأْنِ سُؤَالٍ وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ وَالْعَامُّ إلَخْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ جَوَابُ السَّائِلِ إلَخْ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ ( قَوْلُهُ : نَظَرًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ ) إذْ الْحُجَّةُ فِي اللَّفْظِ وَهُوَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ , وَالسَّبَبُ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا ( قَوْلُهُ : وَقِيلَ : هُوَ مَقْصُودٌ إلَخْ ) نَسَبَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ : إنَّهُ الَّذِي صَحَّ عِنْدَنَا مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَكَذَا نَقَلَهُ تِلْمِيذُهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ ( قَوْلُهُ : : أَتَتَوَضَّأُ ) بِتَاءَيْنِ مُثَنَّاتَيْنِ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ( قَوْلُهُ : بُضَاعَةَ ) فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ أَهْلُ اللُّغَةِ يَضُمُّونَ الْبَاءَ وَيَكْسِرُونَهَا وَالْمَحْفُوظُ الضَّمُّ وَفِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ حَكَى بَعْضُهُمْ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ قَالَهُ بَعْضُ حَوَاشِي التَّلْوِيحِ ( قَوْلُهُ : الْحِيَضُ ) جَمْعُ حِيضَةٍ كَكِسْرَةٍ وَكِسَرٍ وَدِيمَةٍ وَدِيَمٍ , وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ حَيْضَةٍ بِالْفَتْحِ كَضِيَعِ جَمْعُ ضَيْعَةٍ , وَالْمُرَادُ إلْقَاءُ خِرَقِ الْحِيَضِ قَوْلُهُ : وَالنَّتْنُ ) فِي الْقَامُوسِ النَّتْنُ ضِدُّ الْفَوْحِ نَتُنَ كَكَرُمَ وَضَرَبَ نَتَانَةً وَأَنْتَنَ فَهُوَ مُنْتِنٌ ا هـ . ( قَوْلُهُ : شَيْءٌ ) هَذَا هُوَ الْعَامُّ ( قَوْلُهُ : وَقِيلَ مِمَّا ذُكِرَ ) أَيْ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ مِنْ الْحِيَضِ وَمَا بَعْدَهُ ( قَوْلُهُ : وَهُوَ سَاكِتٌ عَنْ غَيْرِهِ ) أَيْ فَلَا يَكُونُ عَدَمُ التَّنَجُّسِ بِهِ ثَابِتًا بِعُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ بَلْ بِدَلِيلٍ آخَرَ كَالْقِيَاسِ ( قَوْلُهُ : أَيْ وُجِدَتْ ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ أَيْ أَوْلَى إلَخْ وَهَلْ يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ , أَوْ يُقْطَعُ بِالتَّعْمِيمِ لِلْقَرِينَةِ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : إنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ حَيْثُ لَا قَرِينَةَ تَدُلُّ عَلَى قَصْرِهِ عَلَى السَّبَبِ أَوْ تَعْمِيمِهِ ( قَوْلُهُ : مِمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ) وُجِدَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِمَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ بِزِيَادَةِ لَوْ وَيَرِدُ عَلَيْهَا أَنَّ لَوْ لِلنَّفْيِ , وَلَمْ لِلنَّفْيِ , وَنَفْيُ النَّفْيِ إثْبَاتٌ فَتَكُونُ الْقَرِينَةُ مَوْجُودَةً , وَهُوَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ فَنُسْخَةُ حَذْفِهَا أَوْلَى ( قَوْلُهُ : عَلَى مَا قِيلَ ) عَبَّرَ بِذَلِكَ لِقَوْلِ الْبَيْهَقِيّ : إنَّهُ رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لَكِنَّ الْحَدِيثَ رَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقٍ مِنْهَا عَنْ طَاوُسٍ عَنْ صَفْوَانَ وَرَجَّحَهُمَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ا هـ . ز . وَنَقَلَ الْكَمَالُ عَنْ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ , وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ابْنِ بَيْرَقٍ وَسَارِقِ الدِّرْعِ الْمَذْكُورِ وَقِصَّتُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي آيَةِ { يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ } ( قَوْلُهُ : قَهْرًا ) لِامْتِنَاعِهِ مِنْ دَفْعِ الْمِفْتَاحِ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه لَيْلًا , وَقَالَ : لَمْ تُفْتَحْ الْكَعْبَةُ لَيْلًا أَبَدًا فَإِنْ قُلْت : كَيْفَ يُسَمِّيهِ اللَّهُ أَمَانَةً مَعَ أَخْذِهِ قَهْرًا . وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ غَصْبًا إلَّا إذَا كَانَ الْآخِذُ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ , وَالْآخِذُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مُسْتَحِقٌّ امْتِثَالًا لِأَمْرِ الشَّارِعِ ( قَوْلُهُ : السِّدَانَةَ ) أَيْ خِدْمَةَ الْبَيْتِ وَالسِّقَايَةَ أَيْ سِقَايَةَ زَمْزَمَ فَإِنَّهَا كَانَتْ مَعَ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه ( قَوْلُهُ : فَأَسْلَمَ ) لَعَلَّ الْمُرَادَ فَأَظْهَرَ إسْلَامَهُ ; إذْ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ , وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ(2/359)
وَالنَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ وَالْمُزَنِيُّ وَالذَّهَبِيُّ وَغَيْرُهُمْ ( قَوْلُهُ : فَذَكَرَ الْأَمَانَاتِ بِالْجَمْعِ إلَخْ ) حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ سَوَاءٌ وُجِدَتْ قَرِينَةُ التَّعْمِيمِ أَمْ لَا نَعَمْ لَوْ وُجِدَتْ قَرِينَةُ الْخُصُوصِ فَهُوَ الْمُعْتَبَرُ كَالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ فَإِنَّ سَبَبَهُ { أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَأَى امْرَأَةً حَرْبِيَّةً فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ مَقْتُولَةً } وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْحَرْبِيَّاتِ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْمُرْتَدَّةَ , وَإِنَّمَا قُتِلَتْ لِخَبَرِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } ا هـ . ز .
================
( وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمُتَأَخِّرُ ) عَنْ الْخَاصِّ ( نَاسِخٌ ) لَهُ كَعَكْسِهِ بِجَامِعِ التَّأَخُّرِ(1)
قُلْنَا : الْفَرْقُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْخَاصِّ الْمُتَأَخِّرِ لَا يُلْغِي الْعَامَّ بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَالْخَاصُّ أَقْوَى مِنْ الْعَامِّ فِي الدَّلَالَةِ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ قَالُوا ( فَإِنْ جُهِلَ ) التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا ( فَالْوَقْفُ ) عَنْ الْعَمَلِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ( أَوْ التَّسَاقُطُ ) لَهُمَا قَوْلَانِ لَهُمْ مُتَقَارِبَانِ لِاحْتِمَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا عِنْدَهُمْ لَأَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِاحْتِمَالِ تَقَدُّمِهِ عَلَى الْآخَرِ مِثَالُ الْعَامِّ { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } وَالْخَاصُّ أَنْ يُقَالَ : لَا تَقْتُلُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ ( وَإِنْ كَانَ ) كُلٌّ مِنْهُمَا ( عَامًّا عَلَى وَجْهٍ ) خَاصًّا مِنْ وَجْهٍ ( فَالتَّرْجِيحُ ) بَيْنَهُمَا مِنْ خَارِجٍ وَاجِبٌ لِتَعَادُلِهِمَا تَقَارَنَا أَوْ تَأَخَّرَ أَحَدُهُمَا ( وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ ) لِلْمُتَقَدِّمِ مِثَالُ ذَلِكَ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . , وَحَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ } فَالْأَوَّلُ عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ خَاصٌّ بِأَهْلِ الرِّدَّةِ وَالثَّانِي خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ عَامٌّ فِي الْحَرْبِيَّاتِ وَالْمُرْتَدَّاتِ .
__________
(1) -حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 4 / ص 22)(2/360)
( قَوْلُهُ : كَعَكْسِهِ ) أَيْ الْخَاصِّ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ الْعَامِّ أَيْ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْعَمَلِ قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ : جَعَلَ الْحَنَفِيَّةُ الْخَاصَّ الْمُتَأَخِّرَ عَنْ الْخِطَابِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْعَمَلِ نَاسِخًا لِمَا قَبْلَهُ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِهِمْ إنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ قَطْعِيَّةٌ ( قَوْلُهُ : لَا يُلْغِي الْعَامَّ ) أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ يَقْصُرُهُ عَلَى مَا عَدَا ذَلِكَ الْخَاصِّ , وَقَوْلُهُ : بِخِلَافِ الْعَكْسِ أَيْ فَإِنَّهُ يُلْغِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ ( قَوْلُهُ : فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ ) أَيْ فَلَا يَكُونُ الْعَامُّ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ بَلْ الْخَاصُّ مُبَيِّنٌ لِلْمُرَادِ مِنْهُ ( قَوْلُهُ : فَالْوَقْفُ ) أَيْ إلَى أَنْ يَظْهَرَ التَّارِيخُ أَوْ مَا يُرَجِّحُ أَحَدَهُمَا , أَوْ يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِمَا ( قَوْلُهُ : مُتَقَارِبَانِ ) لِاتِّحَادِ ثَمَرَتِهِمَا , وَهِيَ عَدَمُ الْعَمَلِ ( قَوْلُهُ : لِاحْتِمَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا عِنْدَهُمْ ) ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَهُمْ بِالْمُتَأَخِّرِ ( قَوْلُهُ : لَأَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا ) لَمْ يَقُلْ : وَنَاسِخًا اقْتِصَارًا عَلَى الِاحْتِمَالِ الْمُلَائِمِ لِلْغَرَضِ , وَهُوَ عَدَمُ الْعَمَلِ ( قَوْلُهُ : وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا ) يَعْنِي مِنْ الْمُتَعَارِضَيْنِ لَا مِنْ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ , وَإِلَّا لَكَانَ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ مُطْلَقٌ لَا عُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ ا هـ ز أَيْ ; لِأَنَّ مِنْ لَازِمِ كَوْنِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ خَاصًّا وَالْآخَرِ عَامًّا بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ تَكُونَ النِّسْبَةُ بَيْنَهُمَا الْعُمُومَ الْمُطْلَقَ ( قَوْلُهُ : فَالتَّرْجِيحُ ) قَالَ سم : أَطْلَقَ اعْتِبَارَ التَّرْجِيحِ هُنَا لَكِنَّ الَّذِي فِي الْوَرَقَاتِ , وَشَرْحِهَا لِلشَّارِحِ إنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بِتَخْصِيصِ عُمُومِ كُلٍّ بِخُصُوصِ الْآخَرِ وَجَبَ وَإِلَّا اُحْتِيجَ إلَى التَّرْجِيحِ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : فَالْحُكْمُ التَّخْيِيرُ كَمَا قَالَهُ فِي الْمَحْصُولِ ا هـ . سم . ( قَوْلُهُ : مِنْ خَارِجٍ ) لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ مِثْلُهُ الدَّاخِلُ كَوَصْفِ أَحَدِهِمَا بِكَوْنِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ( قَوْلُهُ : وَاجِبٌ ) أَيْ بِالنِّسْبَةِ لِمَا وَقَعَ فِيهِ التَّعَارُضُ ( قَوْلُهُ : تَقَارَنَا ) أَيْ اتَّصَلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ( قَوْلُهُ : أَوْ تَأَخَّرَ أَحَدُهُمَا إلَخْ ) أَيْ وَلَوْ احْتِمَالًا لِيَشْمَلَ مَا إذَا جُهِلَ تَارِيخُهُمَا ( قَوْلُهُ : وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ : الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ لِلْمُتَقَدِّمِ ) أَيْ لِمَا تَعَارَضَا فِيهِ مِنْهُ , وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلُوهُ تَخْصِيصًا ; لِأَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ فِي الْمُخَصِّصِ الْمُقَارَنَةَ ا هـ . ز . ثُمَّ قَضِيَّةُ هَذَا الصُّنْعِ أَنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَكُونُ نَاسِخًا مُطْلَقًا وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْ دُخُولِهِ وَقْتَ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ وَبَحَثَ سم فِي شَرْحِ الْوَرَقَاتِ بِأَنَّ قِيَاسَ سم أَيْ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا تَأَخَّرَ الْخَاصُّ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ كَانَ نَاسِخًا مِنْهُ لِمَا تَعَارَضَا فِيهِ إنَّ خَبَرَ إنَّ الْمُتَأَخِّرَ مِمَّا بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْآخَرِ نَاسِخٌ لِلْآخَرِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا عَارَضَهُ فِيهِ وَقَالَ : وَلَمْ أَرَهُ ا هـ . وَكَتَبَ تِلْمِيذُهُ الْعَلَّامَةُ أَحْمَدُ الْغُنَيْمِيُّ أَنَّ قِيَاسَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا تَأَخَّرَ أَحَدُهُمَا عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ أَنْ يَكُونَ خُصُوصُ الْمُتَأَخِّرِ نَاسِخًا , وَعُمُومُهُ مَخْصُوصٌ بِمَا فِي الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ مَنْسُوخًا مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِ وَمُخَصَّصًا بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ بِالْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ عُمُومِهِ ا هـ . ( قَوْلُهُ : مِثَالُ ذَلِكَ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ إلَخْ ) قَدْ تَرَجَّحَ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ بِقِيَامِ الْقَرِينَةِ عَلَى اخْتِصَاصِ الثَّانِي بِسَبَبِهِ , وَهُوَ الْحَرْبِيَّاتُ ا هـ . ز ( قَوْلُهُ : عَامٌّ فِي الْحَرْبِيَّاتِ وَالْمُرْتَدَّاتِ ) فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ تَعَارَضَا بِالنِّسْبَةِ لِلنِّسَاءِ الْمُرْتَدَّاتِ فَالْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِقَتْلِهِنَّ وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ .
=============
( وَالْمُشْتَمِلُ عَلَى زِيَادَةٍ ) فَيُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ(1)
__________
(1) -حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 5 / ص 433)(2/361)
كَخَبَرِ التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدِ سَبْعًا مَعَ خَبَرِ التَّكْبِيرِ فِيهِ أَرْبَعًا رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَأَخَذَ بِالثَّانِي الْحَنَفِيَّةُ تَقْدِيمًا لِلْأَقَلِّ , وَالْأَوْلَى مِنْهُ لِلِافْتِتَاحِ ( وَالْوَارِدُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ ) ; لِأَنَّ الْوَارِدَ بِغَيْرِ لُغَتِهِمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَرْوِيًّا بِالْمَعْنَى فَيَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الْخَلَلُ , ( وَالْمَدَنِيُّ ) عَلَى الْمَكِّيِّ لِتَأَخُّرِهِ عَنْهُ , وَالْمَدَنِيُّ مَا وَرَدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَالْمَكِّيُّ قَبْلَهَا ( وَالْمُشْعِرُ بِعُلُوِّ شَأْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ) لِتَأَخُّرِهِ عَمَّا لَمْ يُشْعِرُ بِذَلِكَ ( وَالْمَذْكُورُ فِيهِ الْحُكْمُ مَعَ الْعِلَّةِ ) عَلَى مَا فِيهِ الْحُكْمُ فَقَطْ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى فِي الِاهْتِمَامِ بِالْحُكْمِ مِنْ الثَّانِي مِثَالُهُ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } مَعَ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ } نِيطَ الْحُكْمُ فِي الْأَوَّلِ بِوَصْفِ الرِّدَّةِ الْمُنَاسِبِ وَلَا وَصْفِ فِي الثَّانِي فَحَمَلْنَا النِّسَاءَ فِيهِ عَلَى الْحَرْبِيَّاتِ .
( قَوْلُهُ : وَالْمُشْتَمِلُ عَلَى زِيَادَةٍ ) هُوَ مِنْ قَبِيلِ تَقْدِيمِ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مَعَهَا زِيَادَةُ عِلْمٍ فَيُقَدَّمُ خَبَرُهَا ( قَوْلُهُ : وَالْأَوْلَى مِنْهُ لِلِافْتِتَاحِ ) كَانَ يَنْبَغِي زِيَادَةٌ , وَالرَّابِعَةُ لِلرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَاعْتَذَرَ عَنْ وَاحِدٍ وَتَرَكَ الْآخَرَ ( قَوْلُهُ : مَا وَرَدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ ( قَوْلُهُ : وَالْمَكِّيُّ قَبْلَهَا ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ ( قَوْلُهُ : بِعُلُوِّ شَأْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ) ; لِأَنَّ عُلُوَّ شَأْنِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَجَدَّدُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَمَا أَشْعَرَ بِأَنَّ شَأْنَهُ أَعْلَى فَهُوَ الْمُتَأَخِّرُ , وَلِأَنَّ عُلُوَّ شَأْنِهِ وَإِظْهَارَ دِينِهِ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا كَانَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم . ( قَوْلُهُ : وَالْمَذْكُورُ فِيهِ الْحُكْمُ إلَخْ ) قَالَ سم وَقَدْ يَسْتَشْكِلُ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ الْآتِي وَالنَّهْيُ عَلَى الْأَمْرِ ; لِأَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ فَإِنْ خُصَّ عُمُومُ كُلٍّ بِخُصُوصِ الْآخَرِ تَعَارَضَا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إذَا كَانَ الْأَمْرُ مَعَ الْعِلَّةِ كَمَا فِي الْمِثَالِ أَعْنِي قَوْلَ الشَّارِحِ مِثَالُهُ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } إلَخْ وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ بِالنَّظَرِ لِمُجَرَّدِ مُقَابِلِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُقَابِلُهُ وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَعَارُضِ اثْنَيْنِ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ وَلَيْسَ كَلَامُهُ فِيهِ ( قَوْلُهُ : فَحَمَلْنَا النِّسَاءَ فِيهِ عَلَى الْحَرْبِيَّاتِ ) لَا يُقَالُ هَذَا جَمْعٌ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِغَيْرِ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ الْآخَرُ فَفِيهِ الْعَمَلُ بِهِمَا , وَالْكَلَامُ فِي التَّرْجِيحِ الَّذِي هُوَ إعْمَالُ أَحَدِهِمَا وَإِلْغَاءُ الْآخَرِ ; لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا مَمْنُوعٌ , وَذَلِكَ لِأَنَّ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ عُمُومًا مِنْ وَجْهٍ وَلَوْ خَصَّصْنَا عُمُومَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِخُصُوصِ الْآخَرِ تَعَارَضَ فِي الْمُرْتَدَّةِ فَرَجَّحْنَا الْأَوَّلَ حَيْثُ حَكَمْنَا بِقَتْلِ الْمُرْتَدَّةِ الَّتِي دَلَّ الثَّانِي عَلَى مَنْعِ قَتْلِهَا , وَلَزِمَ مِنْ هَذَا التَّرْجِيحِ قَصْرُ الثَّانِي عَلَى الْحَرْبِيَّاتِ فَقَدْ أَشَارَ بِحَمْلِ الثَّانِي عَلَى الْحَرْبِيَّاتِ إلَى تَقْدِيمِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ فِي الْمُرْتَدَّاتِ الَّتِي تَعَارَضَا فِيهِ , وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّعَارُضَ بَيْنَهُمَا لَيْسَ إلَّا فِي الْمُرْتَدَّاتِ وَقَدْ أَلْغَيْنَا الثَّانِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا فَقَدْ أَعْمَلْنَا أَحَدَهُمَا وَأَلْغَيْنَا الْآخَرَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا تَعَارَضَا فِيهِ , وَذَلِكَ هُوَ حَقِيقَةُ التَّرْجِيحِ ا هـ سم .
==============
وفي نيل الأوطار :(1)
قتل المرتد
__________
(1) - نيل الأوطار - (ج 11 / ص 446)(2/362)
أَثَرُ عُمَرَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي عَنْ أَبِيهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : مَنْ لَا يَتَأَنَّى بِالْمُرْتَدِّ زَعَمُوا أَنَّ هَذَا الْأَثَرَ عَنْ عُمَرَ لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ : " لَمَّا نَزَلْنَا عَلَى تَسْتُرَ " فَذَكَرَ الْحَدِيثَ , وَفِيهِ : " فَقَدِمْت عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ : يَا أَنَسُ مَا فَعَلَ السِّتَّةُ الرَّهْطُ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ فَلَحِقُوا بِالْمُشْرِكِينَ ؟ قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قُتِلُوا بِالْمَعْرَكَةِ , فَاسْتَرْجَعَ عُمَرُ , قُلْت : وَهَلْ كَانَ سَبِيلُهُمْ إلَّا الْقَتْلَ ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : كُنْت أَعْرِضُ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ , فَإِنْ أَبَوْا أَوْدَعْتُهُمْ السِّجْنَ " . وَفِي الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ : " أَنَّ امْرَأَةً أُمَّ رُومَانَ " وَفِي التَّلْخِيصِ " أَنَّ الصَّوَابَ { أُمُّ مَرْوَانَ ارْتَدَّتْ , فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ , فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ } . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ , وَزَادَ فِي إحْدَاهُمَا { فَأَبَتْ أَنْ تُسْلِمَ فَقُتِلَتْ } . قَالَ الْحَافِظُ : وَإِسْنَادَاهُمَا ضَعِيفَانِ . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ امْرَأَةً ارْتَدَّتْ يَوْمَ أُحُدٍ , فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُسْتَتَابَ , فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ } . وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَتَابَ رَجُلًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ } . وَفِي إسْنَادِهِ الْعَلَاءُ بْنُ هِلَالٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرٍ . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ مُرْسَلًا , وَسَمَّى الرَّجُلَ نَبْهَانَ . وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ " أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَتَابَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ قِرْفَةَ كَفَرَتْ بَعْدَ إسْلَامِهَا فَلَمْ تَتُبْ فَقَتَلَهَا " . قَالَ الْحَافِظُ : وَفِي السِّيَرِ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ أُمَّ قِرْفَةَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ } وَهِيَ غَيْرُ تِلْكَ " . وَفِي الدَّلَائِلِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ " أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَتَلَ أُمَّ قِرْفَةَ فِي سَرِيَّتِهِ إلَى بَنِي فَزَارَةَ " . قَوْلُهُ : ( بِزَنَادِقَةٍ ) بِزَايٍ وَنُونٍ وَقَافِ جَمْعُ زِنْدِيقٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ . قَالَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ وَغَيْرُهُ : الزِّنْدِيقُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ أَصْلُهُ زنده كرد أَيْ يَقُولُ بِدَوَامِ الدَّهْرِ , لِأَنَّ زنده : الْحَيَاةُ , وكرد : الْعَمَلُ , وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ يَكُونُ دَقِيقَ النَّظَرِ فِي الْأُمُورِ . وَقَالَ ثَعْلَبٌ : لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ زِنْدِيقٌ , وَإِنَّمَا يُقَالُ زندقي لِمَنْ يَكُونُ شَدِيدَ الْبُخْلِ , وَإِذَا أَرَادُوا مَا تُرِيدُ الْعَامَّةُ قَالُوا : مُلْحِدٌ وَدَهْرِيٌّ بِفَتْحِ الدَّالِ : أَيْ يَقُولُ بِدَوَامِ الدَّهْرِ , وَإِذَا قَالُوهَا بِالضَّمِّ أَرَادُوا كِبَرَ السِّنِّ , وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الزِّنْدِيقُ مِنْ الثَّنَوِيَّةِ , وَفَسَّرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِأَنَّهُ الَّذِي يَدَّعِي مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ . وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى كُلِّ مُشْرِكٍ . قَالَ الْحَافِظُ : وَالتَّحْقِيقُ مَا ذَكَرَهُ مَنْ صَنَّفَ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ أَنَّ أَصْلَ الزَّنْدَقَةِ اتِّبَاعُ دَيْصَانَ ثُمَّ مَانِّي ثُمَّ مَزْدَكٍ , الْأَوَّلُ : بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ بَعْدَهَا صَادٌ مُهْمَلَةٌ , وَالثَّانِي : بِتَشْدِيدِ النُّونِ , وَقَدْ تُخَفَّفُ وَالْيَاءُ خَفِيفَةٌ , وَالثَّالِثُ : بِزَايٍ سَاكِنَةٍ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ كَافٌ . وَحَاصِلُ مَقَالَتِهِمْ أَنَّ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ قَدِيمَانِ , وَأَنَّهُمَا امْتَزَجَا فَحَدَثَ الْعَالَمُ كُلُّهُ مِنْهُمَا , فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّرِّ فَهُوَ مِنْ الظُّلْمَةِ , وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ فَهُوَ مِنْ النُّورِ , وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُسْعَى فِي تَخْلِيصِ النُّورِ مِنْ الظُّلْمَةِ فَيَلْزَمُ إزْهَاقُ كُلِّ نَفْسٍ , وَكَانَ بَهْرَامُ جَدُّ كِسْرَى تَحَايَلَ عَلَى مَانِي حَتَّى حَضَرَ عِنْدَهُ وَأَظْهَرَ لَهُ أَنَّهُ قَبِلَ مَقَالَتَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ وَقَتَلَ أَصْحَابَهُ , وَبَقِيَتْ مِنْهُمْ بَقَايَا اتَّبَعُوا مَزْدَكَ الْمَذْكُورَ وَقَامَ الْإِسْلَامُ . وَالزِّنْدِيقُ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ , وَأَظْهَرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْإِسْلَامَ خَشْيَةَ الْقَتْلِ , فَهَذَا أَصْلُ الزَّنْدَقَةِ . وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ الزَّنْدَقَةَ عَلَى مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُخْفِي الْكُفْرَ مُطْلَقًا . وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ : الزِّنْدِيقُ : الَّذِي لَا يَنْتَحِلُ دِينًا .(2/363)
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الَّذِينَ وَقَعَ لَهُمْ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رضي الله عنه مَا وَقَعَ , وَسَيَأْتِي . قَوْلُهُ : ( لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ : لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ ) أَيْ لِنَهْيِهِ عَنْ الْقَتْلِ بِالنَّارِ بِقَوْلِهِ : { وَلَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا سَمِعَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ . وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثًا وَفِيهِ : { وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إلَّا اللَّهُ } ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجِهَادِ . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قِصَّةٍ بِلَفْظِ : { وَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ } . قَوْلُهُ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } هَذَا ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ التَّبْدِيلُ وَلَكِنَّهُ عَامٌّ وَيُخَصُّ مِنْهُ مَنْ بَدَّلَهُ فِي الْبَاطِنِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ تُجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الظَّاهِرِ وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فِي الظَّاهِرِ وَلَكِنْ مَعَ الْإِكْرَاهِ , هَكَذَا فِي الْفَتْحِ . قَالَ فِيهِ : وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى قَتْلِ الْمُرْتَدَّةِ كَالْمُرْتَدِّ , وَخَصَّهُ الْحَنَفِيَّةُ بِالذَّكَرِ وَتَمَسَّكُوا بِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ . وَحَمَلَ الْجُمْهُورُ النَّهْيَ عَلَى الْكَافِرَةِ الْأَصْلِيَّةِ إذَا لَمْ تُبَاشِرْ الْقِتَالَ لِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ لَمَّا رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ , ثُمَّ نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ مَنْ الشَّرْطِيَّةَ لَا تَعُمُّ الْمُؤَنَّثَ . وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَاوِي الْخَبَرِ وَقَدْ قَالَ بِقَتْلِ الْمُرْتَدَّةِ , وَقَتَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي خِلَافَتِهِ امْرَأَةً ارْتَدَّتْ كَمَا تَقَدَّمَ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ ذَلِكَ . وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم { لَمَّا أَرْسَلَهُ إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ : أَيُّمَا رَجُلٍ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَادْعُهُ , فَإِنْ عَادَ وَإِلَّا فَاضْرِبْ عُنُقَهُ , وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ فَادْعُهَا , فَإِنْ عَادَتْ وَإِلَّا فَاضْرِبْ عُنُقَهَا } . قَالَ الْحَافِظُ : وَسَنَدُهُ حَسَنٌ وَهُوَ نَصٌّ فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ . وَيُؤَيِّدُهُ اشْتِرَاكُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا : الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ وَمِنْ صُوَرِ الزِّنَا رَجْمُ الْمُحْصَنِ حَتَّى يَمُوتَ , فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنَى مِنْ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ فَيُسْتَثْنَى قَتْلُ الْمُرْتَدَّةِ مِثْلَهُ . وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ مَنْ انْتَقَلَ مِنْ مِلَّةٍ مِنْ مِلَلِ الْكُفْرِ إلَى مِلَّةٍ أُخْرَى . وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ فِيمَنْ كَانَ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ اتِّفَاقًا مَعَ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ الَّذِي هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ , لِأَنَّ الدِّينَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } . وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْكُفْرَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ , فَإِذَا انْتَقَلَ الْكَافِرُ مِنْ مِلَّةٍ كُفْرِيَّةٍ إلَى أُخْرَى مِثْلِهَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ دِينِ الْكُفْرِ , وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قوله تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } . وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ : { مَنْ خَالَفَ دِينُهُ دِينَ الْإِسْلَامِ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ } وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ الزِّنْدِيقُ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ . وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا رضي الله عنه اسْتَتَابَهُمْ كَمَا فِي الْفَتْحِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ الْعَامِرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قِيلَ لِعَلِيٍّ : إنَّ هُنَا قَوْمًا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَزْعُمُونَ أَنَّك رَبُّهُمْ , فَدَعَاهُمْ فَقَالَ لَهُمْ : وَيْلَكُمْ مَا تَقُولُونَ ؟ قَالُوا أَنْتَ رَبُّنَا وَخَالِقُنَا وَرَازِقُنَا , قَالَ : وَيْلَكُمْ إنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مِثْلُكُمْ آكُلُ الطَّعَامَ كَمَا تَأْكُلُونَ , وَأَشْرَبُ كَمَا تَشْرَبُونَ , إنْ أَطَعْت اللَّهَ أَثَابَنِي إنْ شَاءَ , وَإِنْ عَصَيْته خَشِيت أَنْ يُعَذِّبَنِي , فَاتَّقُوا اللَّهَ وَارْجِعُوا , فَأَبَوْا , فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ غَدَوْا عَلَيْهِ فَجَاءَ قَنْبَرٌ فَقَالَ : قَدْ وَاَللَّهِ رَجَعُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ الْكَلَامَ , فَقَالَ : أَدْخِلْهُمْ , فَقَالُوا(2/364)
كَذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ الثَّالِثُ قَالَ لَئِنْ قُلْتُمْ ذَلِكَ لَأَقْتُلَنَّكُمْ بِأَخْبَثِ قِتْلَةٍ , فَأَبَوْا إلَّا ذَلِكَ فَأَمَرَ عَلِيٌّ أَنْ يُخَدَّ لَهُمْ أُخْدُودٌ بَيْنَ بَابِ الْمَسْجِدِ وَالْقَصْرِ وَأَمَرَ بِالْحَطَبِ أَنْ يُطْرَحَ فِي الْأُخْدُودِ وَيُضْرَمَ بِالنَّارِ , ثُمَّ قَالَ لَهُمْ : إنِّي طَارِحُكُمْ فِيهَا أَوْ تَرْجِعُوا , فَأَبَوْا أَنْ يَرْجِعُوا , فَقَذَفَ بِهِمْ حَتَّى إذَا احْتَرَقُوا قَالَ : إنِّي إذَا أُرِيت أَمْرًا مُنْكَرَا أَوْقَدْت نَارِي وَدَعَوْت قَنْبَرَا قَالَ الْحَافِظُ : إنَّ إسْنَادَ هَذَا صَحِيحٌ . وَزَعَمَ أَبُو مُظَفَّرٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ أَنَّ الَّذِينَ أَحْرَقَهُمْ عَلِيٌّ رضي الله عنه طَائِفَةٌ مِنْ الرَّوَافِضِ ادَّعَوْا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ وَهُمْ السَّبَئِيَّةُ وَكَانَ كَبِيرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَإٍ يَهُودِيًّا ثُمَّ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَابْتَدَعَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ , وَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّهُمْ أُنَاسٌ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فِي السِّرِّ فَسَنَدُهُ مُنْقَطِعٌ , فَإِنْ ثَبَتَ حُمِلَ عَلَى قِصَّةٍ أُخْرَى , وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ يُسْتَتَابُ الزِّنْدِيقُ كَمَا يُسْتَتَابُ غَيْرُهُ . وَعَنْ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا : لَا يُسْتَتَابُ , وَالْأُخْرَى : إنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ , وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ , قَالَ الْحَافِظُ : وَلَا يَثْبُتُ عَنْهُ بَلْ قِيلَ : إنَّهُ تَحْرِيفٌ مِنْ إسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ , وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ . وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إنْ جَاءَ تَائِبًا قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا , وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ , وَاخْتَارَهُ أَبُو إسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَأَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ . وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ : إنْ كَانَ دَاعِيَةً لَمْ يُقْبَلْ وَإِلَّا قُبِلَ . وَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْعِتْرَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ لِعُمُومِ { إنْ يَنْتَهُوا } . وَعَنْ مَالِكٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْجَصَّاصِ : لَا تُقْبَلُ إذْ يُعْرَفُ مِنْهُمْ التَّظَهُّرُ تَقِيَّةً بِخِلَافِ مَا يَنْطِقُونَ بِهِ . قَالَ الْمَهْدِيُّ : فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ حِينَئِذٍ فَيُرْجَعُ إلَى الْقَرَائِنِ , لَكِنَّ الْأَقْرَبَ الْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ , وَإِنْ الْتَبَسَ الْبَاطِنُ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ اسْتَأْذَنَهُ فِي قَتْلِ مُنَافِقٍ : { أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } الْخَبَرَ وَنَحْوِهِ . قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا } فَقَالَ : الزِّنْدِيقُ لَا يُطَّلَعُ عَلَى إصْلَاحِهِ لِأَنَّ الْفَسَادَ إنَّمَا أَتَى مِمَّا أَسَرَّهُ , فَإِذَا اُطُّلِعَ عَلَيْهِ وَأَظْهَرَ الْإِقْلَاعَ عَنْهُ لَمْ يُرَدَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ , وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } . وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ . وَاسْتَدَلَّ لِمَنْ قَالَ بِالْقَبُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إظْهَارَ الْإِيمَانِ يُحَصِّنُ مِنْ الْقَتْلِ . قَالَ الْحَافِظُ : وَكُلُّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الدُّنْيَا عَلَى الظَّاهِرِ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ , وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم لِأُسَامَةَ : { هَلَّا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ } وَقَالَ لِلَّذِي سَارَّهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ : { أَلَيْسَ يُصَلِّي ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : أُولَئِكَ الَّذِينَ نُهِيت عَنْ قَتْلِهِمْ } { وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِخَالِدٍ لَمَّا اسْتَأْذَنَهُ فِي قَتْلِ الَّذِي أَنْكَرَ الْقِسْمَةَ : إنِّي لَمْ أُومَرْ بِأَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ } وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحِ , وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ . قَوْلُهُ : ( ثُمَّ أَتْبَعَهُ ) بِهَمْزَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ سَاكِنَةٍ . قَوْلُهُ : ( مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ) بِالنَّصْبِ أَيْ بَعْدَهُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِهِ بَعْدَ أَنْ تَوَجَّهَ , وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَاتَّبَعَهُ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ , وَمُعَاذٌ بِالرَّفْعِ . قَوْلُهُ : ( فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ ) فِي الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ عَلَى عَمَلٍ مُسْتَقِلٍّ , وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ إذَا سَارَ فِي أَرْضِهِ بِقُرْبٍ مِنْ صَاحِبِهِ أَحْدَثَ بِهِ عَهْدًا وَفِي أُخْرَى لَهُ : " فَجَعَلَا يَتَزَاوَرَانِ " . قَوْلُهُ : ( وِسَادَةً ) هِيَ مَا تُجْعَلُ تَحْتَ رَأْسِ النَّائِمِ , كَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ , قَالَ : وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنَّ مَنْ أَرَادُوا إكْرَامَهُ وَضَعُوا(2/365)
الْوِسَادَةَ تَحْتَهُ مُبَالَغَةً فِي إكْرَامِهِ . قَوْلُهُ : ( وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ . . . إلَخْ ) هِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْجَوَابِ . قَالَ الْحَافِظُ : وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ . قَوْلُهُ : ( قَضَاءُ اللَّهِ ) خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ وَيَجُوزُ النَّصْبُ . قَوْلُهُ : ( فَضَرَبَ عُنُقَهُ ) فِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ { فَأُتِيَ بِحَطَبٍ فَأَلْهَبَ فِيهِ النَّارَ فَكَتَّفَهُ وَطَرَحَهُ فِيهَا } . وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ ضَرَبَ عُنُقَهُ ثُمَّ أَلْقَاهُ فِي النَّارِ . قَوْلُهُ : ( هَلْ مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا مَعَ الْإِضَافَةِ فِيهِمَا , مَعْنَاهُ : هَلْ مِنْ خَبَرٍ جَدِيدٍ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ . قَالَ الرَّافِعِيُّ : شُيُوخُ الْمُوَطَّإِ فَتَحُوا الْغَيْنَ وَكَسَرُوا الرَّاءَ وَشَدَّدُوهَا . قَوْلُهُ : ( هَلَّا حَبَسْتُمُوهُ . . . إلَخْ ) وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ : " فَدَعَاهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً . . . إلَخْ " اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ مَنْ أَوْجَبَ الِاسْتِتَابَةَ لِلْمُرْتَدِّ قَبْلَ قَتْلِهِ . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ . قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : اخْتَلَفُوا فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ , فَقِيلَ : يُسْتَتَابُ , فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ , وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَقِيلَ : يَجِبُ قَتْلُهُ فِي الْحَالِ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَسَنُ وَطَاوُسٌ , وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ , وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُعَاذٍ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ , وَعَلَيْهِ يَدُلُّ تَصَرُّفُ الْبُخَارِيِّ فَإِنَّهُ اسْتَظْهَرَ بِالْآيَاتِ الَّتِي لَا ذِكْرَ فِيهَا لِلِاسْتِتَابَةِ , وَاَلَّتِي فِيهَا أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَنْفَعُ , وَبِعُمُومِ قَوْلِهِ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَبِقِصَّةِ مُعَاذٍ الْمَذْكُورَةِ , وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ ذَلِكَ . قَالَ الطَّحَاوِيُّ : ذَهَبَ هَؤُلَاءِ إلَى أَنَّ حُكْمَ مَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ حُكْمُ الْحَرْبِيِّ الَّذِي بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ , فَإِنَّهُ يُقَاتَلُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُدْعَى , قَالُوا : وَإِنَّمَا تُشْرَعُ الِاسْتِتَابَةُ لِمَنْ خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ لَا عَنْ بَصِيرَةٍ . فَأَمَّا مَنْ خَرَجَ عَنْ بَصِيرَةٍ فَلَا , ثُمَّ نَقَلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مُوَافَقَتَهُمْ , لَكِنْ إنْ جَاءَ مُبَادِرًا بِالتَّوْبَةِ خُلِّيَ سَبِيلُهُ وَوُكِلَ أَمْرُهُ إلَى اللَّهِ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : إنْ كَانَ أَصْلُهُ مُسْلِمًا لَمْ يُسْتَتَبْ وَإِلَّا اُسْتُتِيبَ . وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْقَصَّارِ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ بِالْإِجْمَاعِ , يَعْنِي السُّكُوتِيَّ , لِأَنَّ عُمَرَ كَتَبَ فِي أَمْرِ الْمُرْتَدِّ : " هَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؟ " ثُمَّ ذَكَرَ الْأَثَرَ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ . ثُمَّ قَالَ : وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ كَأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } أَيْ إنْ لَمْ يَرْجِعْ , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالِاسْتِتَابَةِ هَلْ يُكْتَفَى بِالْمَرَّةِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثٍ ؟ وَهَلْ الثَّلَاثُ فِي مَجْلِسٍ أَوْ فِي يَوْمٍ أَوْ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ؟ وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ يُسْتَتَابُ شَهْرًا , وَعَنْ النَّخَعِيّ يُسْتَتَابُ أَبَدًا .
===============
وفي شرح النيل :(1)
( وَيُؤْجَرُ مُتَبَرِّعٌ بِقِتَالِ بَاغٍ أَوْ مَانِعٍ ) لِحَقٍّ ( أَوْ قَاطِعٍ ) لِطَرِيقٍ ( أَوْ مُرْتَدٍّ ) عَنْ الْإِسْلَامِ
__________
(1) -شرح النيل وشفاء العليل - إباضية - (ج 29 / ص 84)(2/366)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي رَجُلٍ أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ : لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد : وَكَانَ قَدْ اُسْتُتِيبَ قَبْلَ ذَلِكَ , وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما { أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَتَقَعُ فِيهِ فَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي , فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَخَذَ الْمِعْوَلَ فَجَعَلَهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا , فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : أَلَا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدْرٌ } ( أَوْ طَاعِنٍ فِي الدِّينِ ) سُئِلَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ مَا تَقُولُ فِي الطَّاعِنِ فِي الدِّينِ , هَلْ يُقْتَلُ فِي كُلِّ زَمَانٍ ؟ قَالَ لِلسَّائِلِ : فَمَا تَقُولُ أَنْتَ فِي الْمُرْتَدِّ أَيُقْتَلُ فِي كُلِّ زَمَانٍ ؟ قَالَ السَّائِلُ : نَعَمْ , قَالَ : الطَّاعِنُ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَشَرُّ , قَالَ فِي جُمْلَةِ مَسَائِلَ أَجَابَ فِيهَا بِالنَّظِيرِ , وَقَالَ عَمْرُوسٌ لِأَبِي مَنْصُورٍ : إنْ لَمْ تَأْذَنْ لِي بِثَلَاثَةٍ يَا إلْيَاسُ فَخُذْ خَاتَمَك عَنِّي : مَانِعُ الْحَقِّ يُقْتَلُ , وَالطَّاعِنُ فِي الدِّينِ يُقْتَلُ , وَالدَّالُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ أَوْ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ الْمُخَالِفِينَ أَوْ فُسَّاقِ أَهْلِ الدَّعْوَةِ عَلَى أَنْ يَرْجِعُوا إلَى الْحَقِّ .
=================(2/367)
الباب الرابع - الخلاصة في أحكام المرتد
أَثَرُ الرِّدَّةِ عَلَى الْإِحْصَانِ بِنَوْعَيْهِ :(1)
19 - لَوْ ارْتَدَّ الْمُحْصَنُ لَا يَبْطُلُ إحْصَانُهُ عِنْدَ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ الْإِسْلَامَ فِي الْإِحْصَانِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَيُوَافِقُهُمَا أَبُو يُوسُفَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا , وَلَوْ كَانَ الْإِسْلَامُ شَرْطًا فِي الْإِحْصَانِ مَا رَجَمَهُمَا . ثُمَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : " أَوْ زِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ " ; وَلِأَنَّهُ زِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ فَكَانَ حَدُّهُ الرَّجْمَ كَاَلَّذِي لَمْ يَرْتَدَّ . وَنَظَرًا لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَجْعَلُ الْإِسْلَامَ شَرْطًا فِي الْإِحْصَانِ فَالْمُحْصَنُ إذَا ارْتَدَّ يَبْطُلُ إحْصَانُهُ . وَحُجَّتُهُ حَدِيثُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ } . فَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ لَا يَبْقَى مُحْصَنًا لِفَقْدِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْإِحْصَانِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ . وَبِهَذَا أَخَذَ مَالِكٌ , وَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ حُكْمُ الْإِحْصَانِ سَوَاءٌ فِي إحْصَانِ الرَّجْمِ أَوْ الْقَذْفِ , ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ حُكْمُ الْإِحْصَانِ , فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا إلَّا بِإِحْصَانٍ مُسْتَأْنَفٍ . وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك } وَهَذَا قَدْ أَشْرَكَ , فَوَجَبَ أَنْ يَحْبَطَ كُلُّ عَمَلٍ كَانَ عَمِلَهُ .
==============
إرْثُ الْمُرْتَدِّ :(2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 584)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7795)
19 - لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّ - وَهُوَ مَنْ تَرَكَ الْإِسْلَامَ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ - لَا يَرِثُ أَحَدًا مِمَّنْ يَجْمَعُهُ وَإِيَّاهُمْ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمِيرَاثِ , لَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ , أَوْ أَيِّ دِينٍ آخَرَ خِلَافُهُ , لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ , وَلِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ . وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدَّةُ لَا تَرِثُ أَحَدًا , لِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُرْتَدِّ إنْ كَانَ رَجُلًا هُوَ أَنْ يَتُوبَ وَيَرْجِعَ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ يُقْتَلَ إنْ أَصَرَّ عَلَى رِدَّتِهِ , وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَإِنَّهَا تُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ أَوْ يُدْرِكَهَا الْمَوْتُ , وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا مَعْنَى مُطْلَقًا لَأَنْ يُقَالَ بِأَنَّهُ يَرِثُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ . أَمَّا كَوْنُهُ يُورَثُ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - قَالَ الْقَاضِي : هِيَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ - أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ انْتَقَلَ إلَى دِينِهِمْ بَلْ مَالُهُ كُلُّهُ - إنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ - يَكُونُ فَيْئًا وَحَقًّا لِبَيْتِ الْمَالِ . وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ , وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ , وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ إلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ , وَعَلِيٍّ , وَابْنِ مَسْعُودٍ , وَابْنِ الْمُسَيِّبِ , وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ , وَالْحَسَنِ , وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيِّ , وَالثَّوْرِيِّ , وَالْأَوْزَاعِيِّ , وَابْنِ شُبْرُمَةَ , وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِفِعْلِ الْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدَيْنِ أَبِي بَكْرٍ , وَعَلِيٍّ , وَلِأَنَّ رِدَّتَهُ يَنْتَقِلُ بِهَا مَالُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا لَوْ انْتَقَلَ بِالْمَوْتِ . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ , فَالْمُرْتَدَّةُ يَرِثُهَا أَقَارِبُهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَيَرِثُونَ كُلَّ مَالِهَا , سَوَاءٌ مَا اكْتَسَبَتْهُ حَالَ إسْلَامِهَا أَوْ حَالَ رِدَّتِهَا . أَمَّا الْمُرْتَدُّ فَإِنَّ وَرَثَتَهُ الْمُسْلِمِينَ يَرِثُونَ مِنْهُ مَا اكْتَسَبَهُ فِي زَمَانِ إسْلَامِهِ . وَلَا يَرِثُونَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي زَمَانِ رِدَّتِهِ . وَيَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ لَكِنْ هَلْ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ وَقْتَ رِدَّتِهِ أَوْ وَقْتَ مَوْتِهِ أَوْ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ؟ أَوْ مَنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ وَقْتَ رِدَّتِهِ وَوَقْتَ مَوْتِهِ ؟ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ . فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّ الْوَارِثَ لِلْمُرْتَدِّ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ وَقْتَ رِدَّتِهِ وَبَقِيَ إلَى مَوْتِ الْمُرْتَدِّ , أَمَّا مَنْ حَدَثَتْ لَهُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَرِثُهُ , فَلَوْ أَسْلَمَ بَعْضُ قَرَابَتِهِ بَعْدَ رِدَّتِهِ أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ رِدَّتِهِ , فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ , لِأَنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ هُنَا الرِّدَّةُ , فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ ذَلِكَ لَمْ يَنْعَقِدْ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ , وَتَمَامُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْمَوْتِ , فَيُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْوَارِثِ إلَى حِينِ تَمَامِ السَّبَبِ . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَارِثِ وَقْتَ الرِّدَّةِ , وَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُرْتَدِّ , لِأَنَّ الرِّدَّةَ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ كَالْمَوْتِ , وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ قَبْلَ قِسْمَةِ مِيرَاثِهِ لَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ وَيَحِلُّ وَارِثُهُ مَحَلَّهُ . وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ , وَهُوَ الْأَصَحُّ , أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ حِينَ مَاتَ أَوْ قُتِلَ , سَوَاءٌ أَكَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الرِّدَّةِ أَمْ حَدَثَ بَعْدَهُ , لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْلَ تَمَامِهِ يُعْتَبَرُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ , مِثْلُ الزِّيَادَةِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ ; إذْ تُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فَتَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهَا بِالْقَبْضِ , وَيَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ , فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ هُنَا . وَاعْتَبَرَ الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ إلْحَاقَ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ , فَتُقْسَمُ تَرِكَتُهُ مِنْ حِينِ اللَّحَاقِ . وَاعْتَبَرَ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ حِينَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ , وَتَرِثُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ إنْ مَاتَ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ عَلَى رَأْيِ الصَّاحِبَيْنِ , لِأَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَإِنْ ارْتَفَعَ بِالرِّدَّةِ لَكِنَّهُ فَارٌّ عَنْ مِيرَاثِهَا(2/368)
. وَامْرَأَةُ الْفَارِّ تَرِثُ إذَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ وَقْتَ مَوْتِهِ . وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ الْإِمَامِ تَرِثُ وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ مَوْتِهِ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ , لِأَنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ كَانَ مَوْجُودًا فِي حَقِّهَا عِنْدَ رِدَّتِهِ ; إذْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُعْتَبَرُ قِيَامُ السَّبَبِ عِنْدَ أَوَّلِ الرِّدَّةِ .
==================
أَسْرَى الْمُرْتَدِّينَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْ أَحْكَامٍ(1)
46 - الرِّدَّةُ فِي اللُّغَةِ : الرُّجُوعُ , فَيُقَالُ : ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ إذَا كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامٍ . وَتَخْتَصُّ الرِّدَّةُ - فِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ - بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ . وَكُلُّ مُسْلِمٍ ارْتَدَّ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ إنْ لَمْ يَتُبْ , إلَّا الْمَرْأَةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهَا تُحْبَسُ , وَلَا يُتْرَكُ الْمُرْتَدُّ عَلَى رِدَّتِهِ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ وَلَا بِأَمَانٍ , وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ حَتَّى لَوْ أُسِرَ بَعْدَ أَنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ , بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا تُسْتَرَقُّ بَعْدَ اللِّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ , عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ ( رِدَّةٌ ) .
=============
47 - وَإِذَا ارْتَدَّ جَمْعٌ , وَتَجَمَّعُوا وَانْحَازُوا فِي دَارٍ يَنْفَرِدُونَ بِهَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ , حَتَّى صَارُوا فِيهَا ذَوِي مَنَعَةٍ وَجَبَ قِتَالُهُمْ عَلَى الرِّدَّةِ بَعْدَ مُنَاظَرَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ0
وَيُسْتَتَابُونَ وُجُوبًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ , وَاسْتِحْبَابًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَيُقَاتَلُونَ قِتَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ , وَمَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ قُتِلَ صَبْرًا إنْ لَمْ يَتُبْ , وَيُصَرِّحْ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّنَا نَبْدَؤُهُمْ بِالْقِتَالِ إذَا امْتَنَعُوا بِنَحْوِ حِصْنٍ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَرَقَّ رِجَالُهُمْ , وَلَكِنْ تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ , وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ الَّذِينَ حَدَثُوا بَعْدَ الرِّدَّةِ , لِأَنَّهَا دَارٌ تَجْرِي فِيهَا أَحْكَامُ أَهْلِ الْحَرْبِ فَكَانَتْ دَارَ حَرْبٍ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُهَادَنُوا عَلَى الْمُوَادَعَةِ , وَلَا يُصَالَحُوا عَلَى مَالٍ يَقَرُّونَ بِهِ عَلَى رِدَّتِهِمْ , بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ . وَقَدْ سَبَى أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه ذَرَارِيَّ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ , وَسَبَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه بَنِي نَاجِيَةَ . وَإِنْ أَسْلَمُوا حُقِنَتْ دِمَاؤُهُمْ , وَمَضَى فِيهِمْ حُكْمُ السَّبَاءِ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ , فَأَمَّا الرِّجَالُ فَأَحْرَارٌ لَا يُسْتَرَقُّونَ , وَلَيْسَ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ سَبْيٌ وَلَا جِزْيَةٌ , إنَّمَا هُوَ الْقَتْلُ أَوْ الْإِسْلَامُ . وَإِنْ تَرَكَ الْإِمَامُ السَّبَاءَ وَأَطْلَقَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ وَتَرَكَ لَهُمْ أَرْضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَهُوَ فِي سَعَةٍ .
================
أَسْبَابُ الْإِعَادَةِ :(2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1302)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1658)(2/369)
مِنْ أَسْبَابِ الْإِعَادَةِ مَا يَلِي : أ - وُقُوعُ الْفِعْلِ غَيْرَ صَحِيحٍ لِعَدَمِ تَوَفُّرِ شُرُوطِ صِحَّتِهِ : 6 - كَمَنْ تَوَضَّأَ وَتَرَكَ جُزْءًا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ . وَمَنْ تَوَضَّأَ أَوْ اغْتَسَلَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ النِّيَّةَ لَهُمَا . وَمَنْ رَأَوْا أَسْوِدَةً فَظَنُّوهَا عَدُوًّا , فَصَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ , ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا غَيْرُ عَدُوٍّ . ب - ( الشَّكُّ فِي وُقُوعِ الْفِعْلِ ) : 7 - كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ , وَلَا يَدْرِي مَا هِيَ , فَإِنَّهُ يُعِيدُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ احْتِيَاطًا , لِأَنَّ الشَّكَّ قَدْ طَرَأَ عَلَى أَدَاءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا . ج - الْإِبْطَالُ بَعْدَ الْوُقُوعِ : 8 - كَإِعَادَةِ مَا أَبْطَلَتْهُ الرِّدَّةُ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا دَامَ سَبَبُهَا - أَيْ سَبَبُ الْعِبَادَةِ - بَاقِيًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ , وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : الرِّدَّةُ لَا تُبْطِلُ الْأَعْمَالَ أَبَدًا إلَّا إذَا اتَّصَلَتْ بِالْمَوْتِ . وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ مَنْ صَلَّى الظُّهْرَ , ثُمَّ ارْتَدَّ , ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ الْعَصْرِ , وَجَبَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الظُّهْرِ لِأَنَّ سَبَبَهُ - وَهُوَ الْوَقْتُ - مَا زَالَ بَاقِيًا , وَمَنْ حَجَّ ثُمَّ ارْتَدَّ , ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْعَامِ نَفْسِهِ , أَوْ بَعْدَ أَعْوَامٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْحَجِّ , لِأَنَّ سَبَبَهُ بَاقٍ وَهُوَ " الْبَيْتُ " . د - ( زَوَالُ الْمَانِعِ ) : 9 - كَإِعَادَةِ الصَّلَاةِ بِالْوُضُوءِ لِمَنْ تَيَمَّمَ - لِوُجُودِ عَدُوٍّ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ - وُجُوبًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . وَكَإِعَادَةِ الْمُتَيَمِّمِ الصَّلَاةَ اسْتِحْبَابًا إذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ . وَانْظُرْ ( التَّيَمُّمُ ) . وَإِذَا كَانَ الْمَانِعُ مِنْ أَمْرٍ لَيْسَ لَهُ بَدَلٌ , كَمَنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ , وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُزِيلُهَا بِهِ , أَوْ كَانَ فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ غَيْرُهُ , وَلَا مَا يُزِيلُهَا بِهِ , فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِيهِ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ وَلَا فِي غَيْرِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَقَالَ غَيْرُهُمْ يُعِيدُ مُطْلَقًا إذَا زَالَ الْمَانِعُ كَمَا فَصَّلَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عِنْدَ كَلَامِهِمْ عَلَى شُرُوطِ الصَّلَاةِ . هـ - ( الِافْتِيَاتُ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ ) : 10 - إذَا كَانَ لِمَسْجِدٍ أَهْلٌ مَعْلُومُونَ , فَصَلَّى فِيهِ غُرَبَاءُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ , فَلَا يُكْرَهُ لِأَهْلِهِ إعَادَةُ الْأَذَانِ , وَإِنْ صَلَّى فِيهِ أَهْلُهُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ يُكْرَهُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ إعَادَةُ الْأَذَانِ فِيهِ , وَإِذَا أَذَّنَ غَيْرُ الْمُؤَذِّنِ الرَّاتِبِ ثُمَّ حَضَرَ الْمُؤَذِّنُ الرَّاتِبُ فَلَهُ إعَادَةُ الْأَذَانِ .
=============
الرَّابِعُ - الرِّدَّةُ :(1)
44 - يَبْطُلُ الِاعْتِكَافُ بِالرِّدَّةِ عَلَى قَوْلِهِمْ جَمِيعًا , لَكِنْ إذَا تَابَ وَأَسْلَمَ هَلْ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الِاعْتِكَافِ ؟ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِئْنَافِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ , فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَضَاءُ لَمَّا بَطَلَ بِرِدَّتِهِ , وَلَا يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى . لقوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ } . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وُجُوبُ الِاسْتِئْنَافِ .
==============
الْإِعْذَارُ فِي الرِّدَّةِ ( الِاسْتِتَابَةُ ) :(2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1720)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1737)(2/370)
10 - ( الرِّدَّةُ ) : الرُّجُوعُ عَنْ الْإِسْلَامِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِيمَا يَكُونُ رِدَّةً أَوْ لَا يَكُونُ , يُنْظَرُ تَحْتَ عِنْوَانَيْ : ( إسْلَامٌ , رِدَّةٌ ) . حُكْمُ الْإِعْذَارِ إلَى الْمُرْتَدِّ : 11 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ , وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ , وَرِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ اسْتِتَابَةَ الْمُرْتَدِّ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً , فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : مَنْ ارْتَدَّ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ اسْتِحْبَابًا عَلَى الْمَذْهَبِ , وَتُكْشَفُ شُبْهَتُهُ وَيُحْبَسُ وُجُوبًا , وَقِيلَ : نَدْبًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا إنْ طَلَبَ الْمُهْلَةَ لِيَتَفَكَّرَ , فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ مُهْلَةً بَعْدَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَكَشْفِ شُبْهَتِهِ قُتِلَ مِنْ سَاعَتِهِ , إلَّا إذَا رُجِيَ إسْلَامُهُ فَإِنَّهُ يُمْهَلُ , قِيلَ : وُجُوبًا , وَقِيلَ : اسْتِحْبَابًا , وَهُوَ الظَّاهِرُ . وَإِذَا ارْتَدَّ ثَانِيًا ثُمَّ تَابَ ضَرَبَهُ الْإِمَامُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ , وَإِنْ ارْتَدَّ ثَالِثًا ضَرَبَهُ الْإِمَامُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَحَبَسَهُ حَتَّى تَظْهَرَ عَلَيْهِ آثَارُ التَّوْبَةِ , وَيَرَى أَنَّهُ مُخْلِصٌ ثُمَّ يُخَلِّي سَبِيلَهُ , فَإِنْ عَادَ فُعِلَ بِهِ هَكَذَا . لَكِنْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ آخَرِ حُدُودِ الْخَانِيَّةِ مَعْزِيًّا لِلْبَلْخِيِّ مَا يُفِيدُ قَتْلَهُ بِلَا اسْتِتَابَةٍ , لِحَدِيثِ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } , وَكُرِهَ تَنْزِيهًا قَتْلُهُ قَبْلَ الْعَرْضِ عَلَيْهِ , فَإِنْ قَتَلَهُ قَبْلَ الْعَرْضِ فَلَا ضَمَانَ , لِأَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ لِلدَّمِ . وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِتَابَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَلَمْ يَذْكُرْ اسْتِتَابَتَهُ . وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ , وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ . أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يُسْتَتَابَ وُجُوبًا , وَمُدَّةُ الِاسْتِتَابَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا , وَفِي قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ , أَنَّهُ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ , قَالَ الْمَالِكِيَّةُ : وَالْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ , هِيَ مِنْ يَوْمِ الثُّبُوتِ لَا مِنْ يَوْمِ الْكُفْرِ , وَلَا يُحْسَبُ يَوْمُ الرَّفْعِ إلَى الْحَاكِمِ , وَلَا يَوْمُ الثُّبُوتِ إنْ كَانَ الثُّبُوتُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ , وَلَا يُعَاقَبُ بِجُوعٍ وَلَا عَطَشٍ وَلَا بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ , وَإِنْ لَمْ يَعُدْ بِالتَّوْبَةِ فَإِنْ تَابَ تُرِكَ , وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ , وَفِي قَوْلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ فِي الْحَالِ بِلَا اسْتِتَابَةٍ . دَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ : 12 - احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الِاسْتِتَابَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ يُسْتَتَابَ الْمُرْتَدُّ , وَبِمَا رَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : هَلْ مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ , فَقَالَ : مَا فَعَلْتُمْ بِهِ ؟ قَالَ : قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ . فَقَالَ عُمَرُ : فَهَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا , فَأَطْعَمْتُمُوهُ رَغِيفًا كُلَّ يَوْمٍ وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ أَوْ يُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ , اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ , وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي . وَلَوْ لَمْ تَجِبْ اسْتِتَابَتُهُ لَمَا بَرِئَ مِنْ فِعْلِهِمْ , وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ اسْتِصْلَاحُهُ فَلَمْ يَجُزْ إتْلَافُهُ قَبْلَ اسْتِصْلَاحِهِ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ , وَأَمَّا الْأَمْرُ بِقَتْلِهِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . فَالْمُرَادُ بِهِ قَتْلُهُ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ . الْإِعْذَارُ إلَى الْمُرْتَدَّةِ : 13 - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ أَوْ الْمُرْتَدَّةِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ إنْ لَمْ يَرْجِعُوا إلَى الْإِسْلَامِ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ فِي وُجُوبِ الْإِعْذَارِ أَوْ اسْتِحْبَابِهِ . رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما , وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَمَكْحُولٌ وَحَمَّادٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } , وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا تُسْتَرَقُّ وَلَا تُقْتَلُ , لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَرَقَّ نِسَاءَ بَنِي حَنِيفَةَ . وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ : أَنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ وَلَا تُقْتَلُ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً } , وَلِأَنَّهَا(2/371)
لَا تُقْتَلُ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ فَلَا تُقْتَلُ بِالطَّارِئِ . وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ إذْ قَالُوا : إنَّهَا تُقْتَلُ إنْ لَمْ تَرْجِعْ إلَى الْإِسْلَامِ , لَكِنْ تُسْتَبْرَأُ قَبْلَ الْقَتْلِ بِحَيْضَةٍ , خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا , فَإِنْ حَاضَتْ أَيَّامَ الِاسْتِتَابَةِ اُنْتُظِرَ تَمَامُهَا فَيُنْتَظَرُ أَقْصَرُ الْأَجَلَيْنِ , فَإِنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ أُخِّرَتْ حَتَّى تَضَعَ . وَمُقْتَضَى مَا ذُكِرَ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُسْتَتَابُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ , فَإِنْ رَجَعَتْ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا قُتِلَتْ , وَأَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ جَبْرُهَا عَلَى الْعَوْدَةِ إلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ .
==============
( إغْمَاءُ الْقَاضِي ) :(1)
16 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ عَنْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ , وَإِذَا أَفَاقَ لَا تَعُودُ وِلَايَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ , وَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِيمَا حَكَمَ فِيهِ حَالَ إغْمَائِهِ , وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ تَعُودُ وِلَايَتُهُ إذَا أَفَاقَ . أَمَّا غَيْرُ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَنُصُّوا عَلَى ذَلِكَ صَرَاحَةً , إلَّا أَنَّ مَفْهُومَ النُّصُوصِ عِنْدَهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْعَزِلُ بِالْإِغْمَاءِ , فَقَدْ جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ : لَوْ فَسَقَ الْقَاضِي أَوْ ارْتَدَّ أَوْ عَمِيَ ثُمَّ صَلُحَ وَأَبْصَرَ فَهُوَ عَلَى قَضَائِهِ . وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ : لَا يُعْزَلُ الْقَاضِي إلَّا بِالْكُفْرِ فَقَطْ . وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ : يَتَعَيَّنُ عَزْلُ الْقَاضِي مَعَ مَرَضٍ يَمْنَعُهُ مِنْ الْقَضَاءِ لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَى إقَامَةِ غَيْرِهِ .
==============
أَثَرُ تَغَيُّرِ الْأَهْلِيَّةِ فِي انْفِسَاخِ الْعُقُودِ :(2)
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1796)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2367)(2/372)
20 - الْأَهْلِيَّةُ : صَلَاحِيَّةُ الْإِنْسَانِ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ , وَلِصُدُورِ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا . وَتَعْرِضُ لِلْأَهْلِيَّةِ أُمُورٌ تُغَيِّرُهَا وَتُحَدِّدُهَا فَتَتَغَيَّرُ بِهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ , كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ . وَتَغَيُّرُ الْأَهْلِيَّةِ بِمَا يَعْرِضُ مِنْ بَعْضِ الْعَوَارِضِ , كَالْجُنُونِ أَوْ الْإِغْمَاءِ أَوْ الِارْتِدَادِ وَنَحْوِهَا , لَهُ أَثَرٌ فِي انْفِسَاخِ بَعْضِ الْعُقُودِ , فَقَدْ صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) أَنَّ الْعُقُودَ الْجَائِزَةَ : مِثْلُ الْمُضَارَبَةِ , وَالشَّرِكَةِ , وَالْوَكَالَةِ , الْوَدِيعَةِ , وَالْعَارِيَّةِ , تَنْفَسِخُ بِجُنُونِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعَقْدُ الْمُضَارَبَةِ عِنْدَهُمْ عَقْدٌ لَازِمٌ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ وَلِهَذَا يُورَثُ , وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْعَارِيَّةِ إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِأَجَلٍ أَوْ عَمَلٍ , فَلَا يَنْفَسِخَانِ بِالْجُنُونِ . أَمَّا فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ جُنُونَ الْوَكِيلِ لَا يُوجِبُ عَزْلَهُ إنْ بَرَأَ , وَكَذَا جُنُونُ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ , فَإِنْ طَالَ نَظَرَ السُّلْطَانُ فِي أَمْرِهِ . وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُ الشَّرِكَةِ ; لِأَنَّ الشَّرِيكَ يُعْتَبَرُ وَكِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا عَنْهُ , وَكِلَاهُمَا مِنْ الْعُقُودِ غَيْرِ اللَّازِمَةِ ( الْجَائِزَةِ ) . أَمَّا الْعُقُودُ اللَّازِمَةُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ , فَلَا تَنْفَسِخُ بِالْجُنُونِ بَعْدَ تَمَامِهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ . حَتَّى إنَّ الْحَنَفِيَّةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِانْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ بِالْمَوْتِ ; لِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ - وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا - صَرَّحُوا بِعَدَمِ انْفِسَاخِهَا بِالْجُنُونِ , فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ : الْإِجَارَةُ لَا تَنْفَسِخُ بِجُنُونِ الْآجِرِ أَوْ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا بِارْتِدَادِهِمَا , وَإِذَا ارْتَدَّ الْآجِرُ أَوْ الْمُسْتَأْجِرُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ , وَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ عَادَتْ الْإِجَارَةُ . وَلَعَلَّ دَلِيلَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ انْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ بِالْمَوْتِ وَعَدَمِ انْفِسَاخِهَا بِالْجُنُونِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ أَنَّ الْمَوْتَ سَبَبُ نَقْلِ الْمِلْكِيَّةِ , فَلَوْ أَبْقَيْنَا الْعَقْدَ لَاسْتُوْفِيَتْ الْمَنَافِعُ أَوْ الْأُجْرَةُ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ ( الْوَرَثَةُ ) وَهَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ , بِخِلَافِ الْجُنُونِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ سَبَبًا لِانْتِقَالِ الْمِلْكِيَّةِ , فَبَقَاءُ الْإِجَارَةِ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنَافِعِ وَالْأُجْرَةِ مِنْ مِلْكِ الْعَاقِدَيْنِ . 21 - وَمِنْ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ الَّتِي لَا تَنْفَسِخُ تِلْقَائِيًّا بِالْجُنُونِ عَقْدُ النِّكَاحِ , لَكِنَّهُ يُعْتَبَرُ عَيْبًا يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ( الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) ر ( نِكَاحٌ . فَسْخٌ ) .
===============
22 - وَرِدَّةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مُوجِبَةٌ لِانْفِسَاخِ عَقْدِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ (1)
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2369)(2/373)
. بِدَلِيلِ قوله تعالى : { لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } , وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } . فَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ فِي الْحَالِ وَلَمْ يَرِثْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ , وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - حِيلَ بَيْنَهُمَا إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ , فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَالْعِصْمَةُ بَاقِيَةٌ , وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْإِسْلَامِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ بِلَا طَلَاقٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : إنَّ ارْتِدَادَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَسْخٌ عَاجِلٌ بِلَا قَضَاءٍ فَلَا يُنْقِصُ عَدَدَ الطَّلَاقِ , سَوَاءٌ أَكَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَمْ بَعْدَهُ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ , وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ بِطَلَاقٍ بَائِنٍ . أَمَّا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَتَخَلَّفَ الْآخَرُ - مَا لَمْ يَكُنْ الْمُتَخَلِّفُ زَوْجَةً كِتَابِيَّةً - حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّةُ الْمَرْأَةِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ , سَوَاءٌ أَكَانَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَمْ بِدَارِ الْحَرْبِ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُتَخَلِّفُ عَنْ الْإِسْلَامِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ , أَمَّا إنْ كَانَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ , فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا . وَهَلْ يُعْتَبَرُ هَذَا الِانْفِسَاخُ طَلَاقًا أَمْ لَا ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ : فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - إذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنْ الْإِسْلَامِ يُعْتَبَرُ هَذَا التَّفْرِيقُ طَلَاقًا يُنْقِصُ الْعَدَدَ , بِخِلَافِ مَا إذَا امْتَنَعَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ الْإِسْلَامِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ التَّفْرِيقُ فَسْخًا ; لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ . وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ ( الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ ) إلَى أَنَّهُ فَسْخٌ لَا طَلَاقٌ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ .
==============
الِانْفِسَاخُ فِي الْجُزْءِ وَأَثَرُهُ فِي الْكُلِّ :(1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2372)(2/374)
27 - انْفِسَاخُ الْعَقْدِ فِي جُزْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ يُؤَدِّي فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ إلَى الِانْفِسَاخِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كُلِّهِ . وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ الْجُزْءُ الَّذِي يَنْفَسِخُ فِيهِ الْعَقْدُ قَدْ قُدِّرَ نَصِيبُهُ مِنْ الْعِوَضِ , أَوْ كَانَ فِي تَجْزِئَةِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ , أَوْ يَجْمَعُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بَيْنَ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ , وَهَذَا مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ . فَإِذَا جَمَعَ فِي الْعَقْدِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَجُوزُ يَبْطُلُ فِيمَا لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ خِلَافٍ . وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْبَاقِي , يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْعُقُودِ , وَإِمْكَانِ التَّجْزِئَةِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ . وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ : ( تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ ) . 28 - وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنْ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ : أ - إنْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ فَتَلِفَ بَعْضُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي , وَيَأْخُذُ الْمُشْتَرِي الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ; لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا , فَذَهَابُ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَفْسَخُهُ ; لِإِمْكَانِ تَبْعِيضِهِ مَعَ عَدَمِ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ , كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ . ب - وَفِي الْقَوَاعِدِ لِابْنِ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيِّ أَنَّهُ : إذَا طَرَأَ مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ بِعَيْنِهَا , كَرِدَّةٍ وَرَضَاعٍ اخْتَصَّتْ بِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ وَحْدَهَا بِغَيْرِ خِلَافٍ . وَإِنْ طَرَأَ مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِإِحْدَاهُمَا مَزِيَّةٌ , بِأَنْ صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا بِالِارْتِضَاعِ , فَفِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ : أَصَحُّهُمَا يَخْتَصُّ الِانْفِسَاخُ بِالْأُمِّ وَحْدَهَا إذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا ; لِأَنَّ الِاسْتِدَامَةَ أَقْوَى مِنْ الِابْتِدَاءِ , فَهُوَ كَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى أُمٍّ وَبِنْتٍ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا , فَإِنَّهُ يَثْبُتُ نِكَاحُ الْبِنْتِ دُونَ الْأُمِّ . ج - سَبَقَ أَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ انْفِسَاخُ عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا . فَإِذَا أَجَّرَ رَجُلَانِ دَارًا مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْمُؤَجَّرَيْنِ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَبْطُلُ ( تَنْفَسِخُ ) فِي نَصِيبِهِ فَقَطْ , وَتَبْقَى بِالنِّسْبَةِ لِنَصِيبِ الْحَيِّ عَلَى حَالِهَا . وَكَذَا إذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُسْتَأْجَرِينَ . وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارَيْنِ فَسَقَطَتْ إحْدَاهُمَا فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا , لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهِمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً , وَقَدْ تَفَرَّقَتْ , فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ . د - لَوْ بَاعَ دَابَّتَيْنِ فَتَلِفَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ قَبْضِهَا انْفَسَخَ الْبَيْعُ فِيمَا تَلِفَ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ . أَمَّا فِيمَا لَمْ يَتْلَفْ فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ , وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ , بَلْ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ , فَإِنْ أَجَازَهُ فَبِحِصَّتِهِ مِنْ الْمُسَمَّى , وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ , وَيَنْفَسِخُ فِي الْجَمِيعِ عِنْدَهُمْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . هـ - لَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ كُلُّهُ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ إذَا كَانَ الْجُزْءُ الْمُسْتَحَقُّ هُوَ الْأَكْثَرَ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الْجُزْءِ الْمُسْتَحَقِّ وَحْدَهُ فِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ إذَا كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَكَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا لَا يَضُرُّ تَبْعِيضُهُ , كَمَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ فَاسْتَحَقَّ أَحَدَهُمَا . وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ فِي الْكُلِّ وَبَيْنَ الْإِمْضَاءِ فِي الْبَاقِي عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( اسْتِحْقَاقٌ ) .
==============
أَثَرُ إنْكَارِ الرِّدَّةِ فِي حُصُولِ التَّوْبَةِ مِنْهَا :(1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2406)(2/375)
25 - إذَا ثَبَتَتْ رِدَّةُ إنْسَانٍ بِالْبَيِّنَةِ , فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ارْتَدَّ , فَلِلْفُقَهَاءِ فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْإِنْكَارِ مِنْهُ تَوْبَةٌ قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ : وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ : أَنَّ مَنْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِالرِّدَّةِ , وَهُوَ يُنْكِرُهَا , وَهُوَ مُقِرٌّ بِالتَّوْحِيدِ وَبِمَعْرِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِدِينِ الْإِسْلَامِ , فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ , لَا لِتَكْذِيبِ الشُّهُودِ , بَلْ لِأَنَّ إنْكَارَهُ تَوْبَةٌ وَرُجُوعٌ , فَيُمْتَنَعُ الْقَتْلُ فَقَطْ , وَتَثْبُتُ بَقِيَّةُ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ , كَحُبُوطِ عَمَلٍ وَبُطْلَانِ وَقْفٍ . . . إلَخْ . الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ , وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا , فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ اُسْتُتِيبَ , فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْمَالِكِيَّةُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِمْ . هَذَا وَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ ثُبُوتُ رِدَّتِهِ بِالْإِقْرَارِ . فَإِنَّ إنْكَارَهُ يَكُونُ تَوْبَةً , وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ , كَمَا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ . وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْحَنَابِلَةِ نَصًّا فِي ذَلِكَ , وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ .
151 - وَالْمُؤَكِّدَةُ لِلْحَثِّ أَوْ الْمَنْعِ تَنْحَلُّ بِأُمُورٍ : الْأَوَّلُ :
الرِّدَّةُ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى - وَهِيَ تَحُلُّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَتَعْلِيقِ الْكُفْرِ بِقَصْدِ الْيَمِينِ , وَإِنَّمَا ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ , فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ فِي بَقَاءِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ الْإِسْلَامَ , كَمَا يَشْتَرِطُونَهُ فِي أَصْلِ الِانْعِقَادِ , فَالرِّدَّةُ عِنْدَهُمْ تُبْطِلُ الِانْعِقَادَ , سَوَاءٌ أَكَانَتْ قَبْلَ الْحِنْثِ أَمْ بَعْدَهُ , وَلَا يَرْجِعُ الِانْعِقَادُ بِالرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ . الثَّانِي : ذَكَرَ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ بِشَرَائِطِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ . فَمَنْ حَلَفَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ الِاسْتِثْنَاءُ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ , فَإِذَا وَصَلَ بِهَا الِاسْتِثْنَاءَ انْحَلَّتْ , وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ , وَخَالَفَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا : لَا بُدَّ مِنْ قَصْدِ الِاسْتِثْنَاءِ قَبْلَ فَرَاغِ الْيَمِينِ , ثُمَّ وَصَلَ الِاسْتِثْنَاءَ بِهِ , فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مَانِعًا مِنْ انْعِقَادِ الْيَمِينِ . الثَّالِثُ : فَوَاتُ الْمَحَلِّ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْإِثْبَاتِ الْمُؤَقَّتِ , نَحْوُ : وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ , فَإِذَا صَبَّهُ الْحَالِفُ أَوْ غَيْرُهُ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ; لِأَنَّ الْبِرَّ لَا يَجِبُ إلَّا آخِرَ الْيَوْمِ - أَيْ الْوَقْتِ الْمُتَّصِلِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ - وَفِي هَذَا الْوَقْتِ لَا يُمْكِنُهُ الْبِرُّ ; لِحُصُولِ الْفَرَاغِ مِنْ الْمَاءِ قَبْلَهُ , فَلَا يَحْنَثُ , وَبِهَذَا يَعْلَمُ انْحِلَالَ يَمِينِهِ مِنْ حِينِ فَرَاغِ الْكُوزِ . وَغَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ يَرَوْنَ أَنَّ فَوَاتَ الْمَحَلِّ إذَا كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْحَالِفِ وَقَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْبِرِّ يُحَلُّ يَمِينُهُ , كَمَا لَوْ انْصَبَّ الْكُوزُ عَقِبَ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ , أَوْ أَخَذَهُ إنْسَانٌ فَشَرِبَهُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ . الرَّابِعُ : الْبِرُّ فِي الْيَمِينِ , بِأَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ , أَوْ يَسْتَمِرَّ عَلَى تَرْكِ كُلِّ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ . الْخَامِسُ : الْحِنْثُ , فَإِنَّ الْيَمِينَ إذَا انْعَقَدَتْ , ثُمَّ حَصَلَ الْحِنْثُ بِوُقُوعِ مَا حَلَفَ عَلَى نَفْيِهِ , أَوْ بِالْيَأْسِ مِنْ وُقُوعِ مَا حَلَفَ عَلَى ثُبُوتِهِ , فَهَذَا الْحِنْثُ تَنْحَلُّ بِهِ الْيَمِينُ . السَّادِسُ : الْعَزْمُ عَلَى الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْإِثْبَاتِ الْمُطْلَقِ , وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , فَلَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَتَزَوَّجَنَّ , ثُمَّ عَزَمَ عَلَى عَدَمِ الزَّوَاجِ طُولَ حَيَاتِهِ , فَمِنْ حِينِ الْعَزْمِ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ , وَيُعْتَبَرُ حَانِثًا , وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ , وَلَوْ رَجَعَ عَنْ عَزْمِهِ لَمْ تَرْجِعْ الْيَمِينُ . السَّابِعُ : الْبَيْنُونَةُ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ , فَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ , ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ بِخُلْعٍ أَوْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ , أَوْ بِإِكْمَالِ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا , أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ , ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ لَمْ يَعُدْ التَّعْلِيقُ لِانْحِلَالِهِ بِالْبَيْنُونَةِ .
===============
الإيمَانُ(1)
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2771)(2/376)
1 - الْإِيمَانُ مَصْدَرُ " آمَنَ " " وَآمَنَ " أَصْلُهُ مِنْ الْأَمْنِ ضِدَّ الْخَوْفِ . يُقَالُ : آمَنَ فُلَانُ الْعَدُوَّ يُؤْمِنُهُ إيمَانًا , فَهُوَ مُؤْمِنٌ , وَمِنْ هُنَا يَأْتِي الْإِيمَانُ بِمَعْنَى : جُعِلَ الْإِنْسَانِ فِي مَأْمَنٍ مِمَّا يَخَافُ . جَاءَ فِي اللِّسَانِ : قُرِئَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ { إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ } مَنْ قَرَأَهُ بِكَسْرِ الْأَلِفِ مَعْنَاهُ : أَنَّهُمْ إنْ أَجَارُوا وَأَمِنُوا الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَفُوا وَغَدَرُوا , وَالْإِيمَانُ هُنَا : الْإِجَارَةُ . وَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ لُغَةً بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ ضِدَّ التَّكْذِيبِ . يُقَالُ : آمَنَ بِالشَّيْءِ إذَا صَدَّقَ بِهِ , وَآمَنَ لِفُلَانٍ إذَا صَدَّقَهُ فِيمَا يَقُولُ . فَفِي التَّنْزِيلِ { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } وَفِيهِ { وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } وَالْإِيمَانُ فِي الِاصْطِلَاحِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ : فَقِيلَ : هُوَ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ , مَعَ إظْهَارِ الْخُضُوعِ وَالْقَبُولِ لِمَا أَتَى بِهِ . فَهُوَ اعْتِقَادٌ بِالْجَنَانِ , وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ , وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ . وَالْمُرَادُ بِالِاعْتِقَادِ : الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدْرِ , عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عليه السلام . وَالْمُرَادُ بِقَوْلِ اللِّسَانِ : النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ . وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ : فِعْلُهَا وَكَفُّهَا تَبَعًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ : هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ , وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ , إلَّا أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ جَعَلُوا الْأَعْمَالَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ , وَالسَّلَفَ جَعَلُوهَا شَرْطًا فِي كَمَالِهِ . وَقِيلَ : الْإِيمَانُ هُوَ : التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَقَطْ , وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْوَضْعُ اللُّغَوِيُّ لِلَفْظِ ( الْإِيمَانِ ) وَأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّقْلِ . وَلَيْسَتْ الْأَعْمَالُ عِنْدَهُمْ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ . فَإِذَا وُجِدَ لَدَى الْإِنْسَانِ الْإِيمَانُ وُجِدَ كَامِلًا , وَإِنْ زَالَ زَالَ دَفْعَةً وَاحِدَةً . أَمَّا عَلَى قَوْلِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ , فَإِنَّ الْإِيمَانَ دَرَجَاتٌ بِحَسَبِ قُوَّةِ التَّصْدِيقِ لِوُضُوحِ الْأَدِلَّةِ وَجَوْدَةِ الْفَهْمِ . وَيَزِيدُ الْإِيمَانُ بِالطَّاعَاتِ , وَيَنْقُصُ بِالْمَعَاصِي , وَيُفَاضَلُ النَّاسُ فِيهِ . وَاسْتَشْهَدَ لَهُمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ { يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ } .
الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ :
2 - الْإِسْلَامُ لُغَةً : الِاسْتِسْلَامُ , وَشَرْعًا : النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالْعَمَلُ بِالْفَرَائِضِ , فَالْإِيمَانُ أَخَصُّ مِنْ الْإِسْلَامِ , إذْ يُؤْخَذُ فِي مَعْنَى الْإِيمَانِ - مَعَ النُّطْقِ وَالْعَمَلِ - التَّصْدِيقُ , وَالْإِحْسَانُ أَخَصُّ مِنْ الْإِيمَانِ . فَكُلُّ مُحْسِنٍ مُؤْمِنٌ , وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ , وَلَا عَكْسَ . قَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } قَالَ : الْإِسْلَامُ إظْهَارُ الْخُضُوعِ وَالْقَبُولِ لِمَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَبِهِ يُحْقَنُ الدَّمُ . فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ الْإِظْهَارِ اعْتِقَادٌ وَتَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ فَذَلِكَ هُوَ الْإِيمَانُ , الَّذِي يُقَالُ لِلْمَوْصُوفِ بِهِ هُوَ مُؤْمِنٌ مُسْلِمٌ . فَأَمَّا مَنْ أَظْهَرَ قَبُولَ الشَّرِيعَةِ وَاسْتَسْلَمَ ; لِدَفْعِ الْمَكْرُوهِ , فَهُوَ فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمٌ , وَبَاطِنُهُ غَيْرُ مُصَدِّقٍ , فَذَلِكَ الَّذِي يَقُولُ : أَسْلَمْت . وَحُكْمُهُ فِي الظَّاهِرِ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ . وَفِي الْعَقَائِدِ النَّسَفِيَّةِ وَشَرْحِهَا أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ شَيْءٌ وَاحِدٌ , أَوْ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْآخَرِ . وَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ إذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا دَخَلَ فِيهِ الْآخَرُ , وَدَلَّ بِانْفِرَادِهِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْآخَرُ بِانْفِرَادِهِ . وَإِنْ قَرَنَ بَيْنَهُمَا تَغَايَرَا , عَلَى وِزَانِ مَا قَالُوهُ فِي ( الْفَقِيرِ ) ( وَالْمِسْكِينِ )
( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) :(2/377)
3 - الْإِيمَانُ وَاجِبٌ , بَلْ هُوَ أَعْظَمُ الْفَرَائِضِ . وَلَا يُعْتَبَرُ التَّصْدِيقُ إلَّا مَعَ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مِنْ الْقَادِرِ . وَالِامْتِنَاعُ مِنْ التَّلَفُّظِ - مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ - مُنَافٍ لِلْإِذْعَانِ . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي الْإِيمَانِ , عَلَى قَوْلَيْنِ . 4 - وَالْإِيمَانُ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الْعِبَادَاتِ ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَقَوْلِهِ { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْآيَاتِ . أَمَّا صِحَّةُ الْأَعْمَالِ ظَاهِرًا وَجَرَيَانُ الْأَحْكَامِ عَلَى الشَّخْصِ , كَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَيُشْتَرَطُ لَهَا الْإِسْلَامُ فَقَطْ , إذْ التَّصْدِيقُ وَالِاعْتِقَادُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ الظَّاهِرَةُ . وَقَدْ يَكُونُ الْإِسْلَامُ شَرْطَ وُجُوبٍ , كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْجِهَادِ حَيْثُ وَجَبَتْ , فَإِنَّمَا تَجِبُ ظَاهِرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ . مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ , وَأَنَّ مَبَاحِثَ الْفِقْهِ مُنَصَّبَةٌ عَلَى الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ , فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَسْتَعْمِلُونَ غَالِبًا فِي بَيَانِهِمْ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَفْظَ ( الْإِسْلَامِ ) , وَيَجْعَلُونَهُ مُتَعَلِّقُ الْأَحْكَامِ , دُونَ لَفْظِ ( الْإِيمَانِ ) وَلِذَلِكَ يُنْظَرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ ( ر : إسْلَامٌ ) . 5 - وَإِذَا وُجِدَتْ الرِّدَّةُ - بِارْتِكَابِ أَحَدِ الْمُكَفِّرَاتِ اخْتِيَارًا - أَبْطَلَتْ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ ظَاهِرًا . وَخَرَجَ صَاحِبُهُ مِنْهُ إلَى الْكُفْرِ اتِّفَاقًا ( ر : رِدَّةٌ ) . 6 - أَمَّا الْفِسْقُ وَالْمَعَاصِي فَلَا يَخْرُجُ بِهِمَا الْمُؤْمِنُ مِنْ الْإِيمَانِ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ . وَعِنْدَ الْخَوَارِجِ يَخْرُجُ بِهِمَا مِنْ الْإِيمَانِ وَيَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ . وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ , وَلَا يَدْخُلُ الْكُفْرَ , بَلْ هُوَ فِي مَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ . 7 - وَفِي حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ , بِأَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ اخْتِلَافٌ , وَالْحَقِيقَةُ أَنَّهُ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ ; لِأَنَّهُ لَوْ قَصَدَ حَقِيقَةَ التَّعْلِيقِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِالْإِجْمَاعِ , وَلَوْ قَصَدَ التَّبَرُّكَ وَالتَّأَدُّبَ , بِإِسْنَادِ الْأَمْرِ وَالتَّفْوِيضِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَبَرُّكًا , فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤْمِنٍ .
تَجْدِيدُ نِكَاحِ الْمُرْتَدَّةِ :
5 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَدَّتْ , وَلَمْ تَرْجِعْ إلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ تُقْتَلُ , وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : لَا تُقْتَلُ , بَلْ تُحْبَسُ إلَى أَنْ تَمُوتَ . وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ إذَا ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ , تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَتَجْدِيدِ النِّكَاحِ مَعَ زَوْجِهَا , وَلَوْ بِغَيْرِ رِضَاهَا , إذَا رَغِبَ زَوْجُهَا فِي ذَلِكَ . وَلَا يَجُوزُ لَهَا إذَا رَجَعَتْ إلَى الْإِسْلَامِ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ , وَلِكُلِّ قَاضٍ أَنْ يُجَدِّدَ النِّكَاحَ بِمَهْرٍ يَسِيرٍ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( رِدَّةٌ ) . وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَنْ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الدُّخُولِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ , فَإِنْ عَادَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا إلَى الْإِسْلَامِ , وَكَانَتْ الْعِدَّةُ قَائِمَةً وَجَبَ تَجْدِيدُ الْعَقْدِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ النِّكَاحَ مَوْقُوفٌ إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ , فَإِنْ عَادَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا إلَى الْإِسْلَامِ , وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ . وَإِنْ لَمْ يَعُدْ انْفَسَخَ النِّكَاحُ مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ , وَتَبْدَأُ الْعِدَّةُ مُنْذُ الرِّدَّةِ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ ( رِدَّةٌ ) .
شُرُوطُ الْمُحَكَّمِ :(2/378)
10 - أ - أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا . فَلَوْ حَكَّمَ الْخَصْمَانِ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ مَثَلًا لَمْ يَجُزْ بِالْإِجْمَاعِ , لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَهَالَةِ , إلَّا إذَا رَضَوْا بِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ , فَيَكُونُ حِينَئِذٍ تَحْكِيمًا لِمَعْلُومٍ . 11 - ب - أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ . وَعَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ , عَلَى خِلَافٍ فِيمَا بَيْنَهَا فِي تَحْدِيدِ عَنَاصِرِ تِلْكَ الْأَهْلِيَّةِ . وَالْمُرَادُ بِأَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ هُنَا : الْأَهْلِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ لِلْقَضَاءِ , لَا فِي خُصُوصِ الْوَاقِعَةِ مَوْضُوعِ النِّزَاعِ . وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ : إنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ عِنْدَمَا لَا يُوجَدُ الْأَهْلُ لِذَلِكَ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ مُطْلَقًا , وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَ جَوَازَ التَّحْكِيمِ بِعَدَمِ وُجُودِ قَاضٍ , وَقِيلَ : يَتَقَيَّدُ بِالْمَالِ دُونَ الْقِصَاصِ وَالنِّكَاحِ , أَيْ إثْبَاتِ عَقْدِ النِّكَاحِ . وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ : إنَّ الْمُحَكَّمَ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ كُلُّ صِفَاتِ الْقَاضِي . وَثَمَّةَ أَحْكَامٌ تَفْصِيلِيَّةٌ لِهَذَا الشَّرْطِ يُرْجَعُ إلَيْهَا فِي مَبْحَثِ ( دَعْوَى ) ( وَقَضَاءٌ ) . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَحَقِّقَةً فِي الْمُحَكَّمِ مِنْ وَقْتِ التَّحْكِيمِ إلَى وَقْتِ الْحُكْمِ . وَمِنْ ذَلِكَ : أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَكَّمِ : الْإِسْلَامُ , إنْ كَانَ حَكَمًا بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ , وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا , أَمَّا إذَا كَانَا غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ يُشْتَرَطُ إسْلَامُ الْمُحَكَّمِ . وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ , فَيَكُونُ تَرَاضِي الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ كَتَوْلِيَةِ السُّلْطَانِ إيَّاهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ وِلَايَةَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ الْحُكْمَ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ صَحِيحَةٌ . وَكَذَلِكَ التَّحْكِيمُ . وَلَوْ كَانَا غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ , وَحَكَّمَا غَيْرَ مُسْلِمٍ جَازَ . فَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ الْحُكْمِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُ الْحَكَمِ عَلَى الْمُسْلِمِ , وَيَنْفُذُ لَهُ . وَقِيلَ : لَا يَنْفُذُ لَهُ أَيْضًا . 12 - أَمَّا الْمُرْتَدُّ فَتَحْكِيمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه مَوْقُوفٌ , فَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ صَحَّ , وَإِلَّا بَطَلَ . وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ جَائِزٌ فِي كُلِّ حَالٍ . وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ حَكَّمَ مُسْلِمٌ وَمُرْتَدٌّ رَجُلًا , فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا , ثُمَّ قُتِلَ الْمُرْتَدُّ , أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ , لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا . 13 - وَرَتَّبُوا عَلَى ذَلِكَ آثَارًا تَظْهَرُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ التَّفْرِيعِيَّةِ . . . مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْخَصْمَيْنِ لَوْ حَكَّمَا صَبِيًّا فَبَلَغَ , أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ فَأَسْلَمَ , ثُمَّ حَكَمَ , لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ . وَلَوْ حَكَّمَا مُسْلِمًا , ثُمَّ ارْتَدَّ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ أَيْضًا , وَكَانَ فِي رِدَّتِهِ عَزْلُهُ . فَإِذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْكِيمٍ جَدِيدٍ . وَلَوْ عَمِيَ الْمُحَكَّمُ , ثُمَّ ذَهَبَ الْعَمَى , وَحَكَمَ لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ . أَمَّا إنْ سَافَرَ أَوْ مَرِضَ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ , ثُمَّ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ أَوْ بَرِئَ وَحَكَمَ جَازَ , لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ بِأَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ . وَلَوْ أَنَّ حَكَمًا غَيْرَ مُسْلِمٍ , حَكَّمَهُ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ , ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ الْحُكْمِ , فَهُوَ عَلَى حُكُومَتِهِ , لِأَنَّ تَحْكِيمَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لِلْمُسْلِمِ جَائِزٌ وَنَافِذٌ . وَلَوْ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ وَكَّلَ الْحَكَمَ بِالْخُصُومَةِ فَقَبِلَ , خَرَجَ عَنْ الْحُكُومَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ , وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْهَا عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ وَمُحَمَّدٍ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهَا فِي قَوْلِ الْكُلِّ . 14 - ج - أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَ الْمُحَكَّمِ وَأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَرَابَةٌ تَمْنَعُ مِنْ الشَّهَادَةِ . وَإِذَا اشْتَرَى الْمُحَكَّمُ الشَّيْءَ الَّذِي اخْتَصَمَا إلَيْهِ فِيهِ , أَوْ اشْتَرَاهُ ابْنُهُ أَوْ أَحَدٌ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ , فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْحُكُومَةِ . وَإِنْ حَكَّمَ الْخَصْمُ خَصْمَهُ , فَحَكَمَ لِنَفْسِهِ , أَوْ عَلَيْهَا جَازَ تَحْكِيمُهُ ابْتِدَاءً , وَمَضَى حُكْمُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ جَوْرًا بَيِّنًا , وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا , سَوَاءٌ أَكَانَ الْخَصْمُ الْحَكَمَ قَاضِيًا أَمْ غَيْرَهُ . الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا لِلتُّهْمَةِ . الثَّالِثُ : التَّفْرِقَةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُحَكَّمُ قَاضِيًا أَوْ غَيْرَهُ , فَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ الْمُحَكَّمُ قَاضِيًا لَمْ يَجُزْ , إنْ لَمْ يَكُنْ قَاضِيًا جَازَ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ , وَبِهِ أَخَذَ الْحَنَابِلَةُ .
===============(2/379)
تَحَوُّلُ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَعَكْسُهُ :(1)
33 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ مَتَى ارْتَدَّ أَهْلُ بَلَدٍ وَجَرَتْ فِيهِ أَحْكَامُهُمْ صَارَتْ الدَّارُ دَارَ حَرْبٍ , وَعَلَى الْإِمَامِ قِتَالُهُمْ بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالْإِعْذَارِ , لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ بِجَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ . 34 - وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ لَا تَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ إلَّا بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ : أ - أَنْ تَجْرِيَ فِيهَا أَحْكَامُ أَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى الِاشْتِهَارِ , وَأَنْ لَا يُحْكَمَ فِيهَا بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ , أَمَّا لَوْ أُجْرِيَتْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ , وَأَحْكَامُ أَهْلِ الشِّرْكِ , فَلَا تَكُونُ دَارَ حَرْبٍ . ب - أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً ( أَيْ مُجَاوِرَةً ) لِدَارِ الْحَرْبِ , بِأَنْ لَا تَتَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا بَلْدَةٌ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ . ج - أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ آمِنًا بِالْأَمَانِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ , لِلْمُسْلِمِ بِإِسْلَامِهِ , وَلِلذِّمِّيِّ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ . وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَيَقُولَانِ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ لَا غَيْرُ , وَهُوَ : إظْهَارُ حُكْمِ الْكُفْرِ , وَهُوَ الْقِيَاسُ . وَتَتَرَتَّبُ عَلَى دَارِ الرِّدَّةِ أَحْكَامٌ , اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا , تُنْظَرُ فِي مَظَانِّهَا , وَفِي مُصْطَلَحِ : ( رِدَّةٌ ) . 35 - وَتَتَحَوَّلُ دَارُ الْحَرْبِ إلَى إسْلَامٍ بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِيهَا كَجُمُعَةٍ وَعِيدٍ , وَإِنْ بَقِيَ فِيهَا كَافِرٌ أَصْلِيٌّ , وَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ .
=============
عَاشِرًا : تَدَاخُلُ الْحُدُودِ :(2)
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ - كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ - إذَا اتَّفَقَتْ فِي الْجِنْسِ وَالْمُوجِبِ أَيْ الْحَدِّ فَإِنَّهَا تَتَدَاخَلُ , فَمَنْ زَنَى مِرَارًا , أَوْ سَرَقَ مِرَارًا , أَوْ شَرِبَ مِرَارًا , أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ لِلزِّنَى الْمُتَكَرِّرِ , وَآخَرُ لِلسَّرِقَةِ الْمُتَكَرِّرَةِ . وَآخَرُ لِلشُّرْبِ الْمُتَكَرِّرِ ; لِأَنَّ مَا تَكَرَّرَ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا سَبَقَهُ , فَدَخَلَ تَحْتَهُ . وَمِثْلُ ذَلِكَ حَدُّ الْقَذْفِ إذَا قَذَفَ شَخْصًا وَاحِدًا مِرَارًا , أَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ , فَإِنَّهُ يَكْتَفِي فِيهِ بِحَدٍّ وَاحِدٍ اتِّفَاقًا , بِخِلَافِ مَا لَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَاتٍ , أَوْ خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَذْفٍ . وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ شَرِبَ , فَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ , ثُمَّ صَدَرَ مِنْهُ أَحَدُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مَرَّةً أُخْرَى , فَإِنَّهُ يُحَدُّ ثَانِيًا , وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْفِعْلِ الَّذِي سَبَقَهُ , وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى عَدَمِ التَّدَاخُلِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ عِنْدَ اخْتِلَافِهَا فِي الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيهَا , فَمَنْ زَنَى وَسَرَقَ وَشَرِبَ حُدَّ لِكُلِّ فِعْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ ; لِاخْتِلَافِهَا فِي الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيهَا , فَلَا تَتَدَاخَلُ . أَمَّا إذَا اتَّحَدَتْ فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ وَاخْتَلَفَتْ فِي الْجِنْسِ , كَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ مَثَلًا , فَلَا تَدَاخُلَ بَيْنَهَا عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ , وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَتَتَدَاخَلُ ; لِاتِّفَاقِهَا فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيهَا , وَهُوَ الْحَدُّ , فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِي الْقَذْفِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً وَفِي الشُّرْبِ أَيْضًا مِثْلُهُ , فَإِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا سَقَطَ عَنْهُ الْآخَرُ . وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ إلَّا وَاحِدًا فَقَطْ , ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ شَرِبَ أَوْ قَذَفَ , فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِمَا ضُرِبَ لَهُ عَمَّا ثَبَتَ . وَمِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ - أَيْ الْمَالِكِيَّةِ - مَا لَوْ سَرَقَ وَقَطَعَ يَمِينَ آخَرَ , فَإِنَّهُ يَكْتَفِي فِيهِ بِحَدٍّ وَاحِدٍ . وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْحُدُودِ الْقَتْلُ , فَإِنْ كَانَ فِيهَا الْقَتْلُ , فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ : مَا كَانَتْ حُدُودٌ فِيهَا قَتْلٌ إلَّا أَحَاطَ الْقَتْلُ بِذَلِكَ كُلِّهِ , وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ وَقَدْ حَصَلَ . وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ حَدَّ الْقَذْفِ , فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْقَتْلِ , بَلْ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِيفَائِهِ قَبْلَهُ . وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لَا يَكْتَفُونَ بِالْقَتْلِ , وَلَمْ يَقُولُوا بِالتَّدَاخُلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , بَلْ يُقَدِّمُونَ الْأَخَفَّ ثُمَّ الْأَخَفَّ , فَمَنْ سَرَقَ وَزَنَى وَهُوَ بِكْرٌ , وَشَرِبَ وَلَزِمَهُ قَتْلٌ بِرِدَّةٍ , أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ الْوَاجِبَةُ فِيهَا بِتَقْدِيمِ الْأَخَفِّ ثُمَّ الْأَخَفِّ .
=============
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3733)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3852)(2/380)
تَدَارُكُ الْمُرْتَدِّ لِمَا فَاتَهُ :(1)
37 - مَا فَاتَ الْمُرْتَدَّ مِنْ الْعِبَادَاتِ أَيَّامَ الرِّدَّةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ , إذَا تَابَ وَرَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ , وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } , وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ } . وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ أَيَّامَ رِدَّتِهِ مِنْ عِبَادَاتٍ ; لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ كَانَ مُقِرًّا بِإِسْلَامِهِ وَلِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ .
38 - وَمَا فَاتَهُ أَيَّامَ إسْلَامِهِ مِنْ عِبَادَاتٍ قَبْلَ رِدَّتِهِ وَحَالَ إسْلَامِهِ , يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ بَعْدَ تَوْبَتِهِ مِنْ الرِّدَّةِ ; لِاسْتِقْرَارِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِ حَالَ إسْلَامِهِ , وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : لَا يُطَالَبُ بِمَا فَاتَهُ قَبْلَ رِدَّتِهِ , فَالرِّدَّةُ تُسْقِطُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ إلَّا الْحَجَّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْهُ , فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ , وَيَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَتُهُ إذَا أَسْلَمَ ; لِبَقَاءِ وَقْتِهِ وَهُوَ الْعُمْرُ .
39 - وَإِذَا رَجَعَ الْمُرْتَدُّ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَدْرَكَ وَقْتَ صَلَاةٍ , أَوْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ رَمَضَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ
==============
تَعَارُضُ احْتِمَالِ بَقَاءِ الْإِسْلَامِ وَحُدُوثِ الرِّدَّةِ :(2)
14 - فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ . وَأَكْثَرُ الْمَذَاهِبِ تَوَسُّعًا فِيهِ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ : إذْ قَالُوا : لَا يَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنْ الْإِيمَانِ إلَّا جُحُودُ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ , ثُمَّ مَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ رِدَّةٌ يُحْكَمُ بِهَا , وَمَا يُشَكُّ أَنَّهُ رِدَّةٌ لَا يُحْكَمُ بِهَا , إذْ الْإِسْلَامُ الثَّابِتُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ , وَالْإِسْلَامُ يَعْلُو . وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ هَذَا أَلَّا يُبَادِرَ بِتَكْفِيرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ , مَعَ أَنَّهُ يَتَسَاهَلُ فِي إثْبَاتِ الْإِسْلَامِ , فَيُقْضَى بِصِحَّةِ إسْلَامِ الْمُكْرَهِ . وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ صَاحِبِ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى قَوْلُهُ : الْكُفْرُ شَيْءٌ عَظِيمٌ , فَلَا أَجْعَلُ الْمُؤْمِنَ كَافِرًا مَتَى وُجِدَتْ رِوَايَةٌ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ . وَفِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ : إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وُجُوهٌ تُوجِبُ التَّكْفِيرَ , وَوَجْهٌ وَاحِدٌ يَمْنَعُهُ , فَعَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَمِيلَ إلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ , تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ , إلَّا إذَا صَرَّحَ بِإِرَادَةِ مُوجِبِ الْكُفْرِ , فَلَا يَنْفَعُهُ التَّأْوِيلُ . وَلَا يَكْفُرُ بِالْمُحْتَمَلِ ; لِأَنَّ عُقُوبَةَ الْكُفْرِ نِهَايَةٌ فِي الْعُقُوبَةِ , تَسْتَدْعِي نِهَايَةً فِي الْجِنَايَةِ , وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا نِهَايَةَ فِي الْجِنَايَةِ , وَاَلَّذِي تَقَرَّرَ : أَنَّهُ لَا يُفْتَى بِكُفْرِ مُسْلِمٍ أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَحْمَلٍ حَسَنٍ , أَوْ كَانَ فِي كُفْرِهِ اخْتِلَافٌ , وَلَوْ رِوَايَةً ضَعِيفَةً
. 15 - وَفُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى يَقُولُونَ أَيْضًا : إذَا قَامَ دَلِيلٌ أَوْ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي عَدَمَ الْقَتْلِ قُدِّمَتْ . قَالُوا : وَلَوْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ قُرْبٍ , وَقَالَ : أَسْلَمْت عَنْ ضِيقٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ غُرْمٍ , وَظَهَرَ عُذْرُهُ , فَفِي قَبُولِ عُذْرِهِ قَوْلَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ .
================
وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّكْرَارِ أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهِ فِي مَسَائِلَ ,(3)
وَاخْتَلَفُوا فِي أُخْرَى . فَمِنْ الْمَسَائِلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3874)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4356)
(3) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4747)(2/381)
4 - عَدَمُ جَوَازِ تَكْرَارِ سُجُودِ السَّهْوِ , وَعَدَمُ تَكْرَارِ الْحَجِّ وُجُوبًا , لِأَنَّ سَبَبَهُ الْبَيْتُ , وَأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ , فَلَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ . وَعَدَمُ جَوَازِ تَكْرَارِ الْحَدِّ , فَإِنَّ مَنْ كَرَّرَ جَرَائِمَ السَّرِقَةِ , أَوْ الزِّنَى , أَوْ الشُّرْبِ , أَوْ الْقَذْفِ , قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ , أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ , وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يُحَدُّ حَدًّا ثَانِيًا . وَمِنْ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا : 5 - تَكْرَارُ السَّرِقَةِ بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ , فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى مُصْطَلَحِ " سَرِقَةٌ " وَإِلَى مَوْطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ . وَتَكْرَارُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَقَبُولُ تَوْبَةِ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ يُرْجَعُ إلَى مُصْطَلَحَيْ ( صَلَاةُ الْكُسُوفِ , وَتَوْبَةٌ ) وَمَوَاطِنِهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ . وَمِنْهَا تَكْرِيرُ الْإِقْرَارِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ : فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ , وَالشَّافِعِيَّةُ , وَالْحَنَفِيَّةُ - مَا عَدَا زُفَرَ - إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَكْرِيرُ الْإِقْرَارِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ , وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ شُبْرُمَةَ , وَابْنُ أَبِي لَيْلَى تَكْرِيرَ الِاعْتِرَافِ مَرَّتَيْنِ , وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَيْضًا . وَفِي تَكْرَارِ الطَّلَاقِ لِمَدْخُولٍ بِهَا وَغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا , وَتَكْرَارُ الطَّلَاقِ مَعَ الْعَطْفِ وَعَدَمِهِ , وَتَكْرَارُ يَمِينِ الْإِيلَاءِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ , وَتَكْرَارُ الظِّهَارِ وَأَثَرُهُ فِي تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ , وَتَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ , خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى مُصْطَلَحِ ( اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ ) الْمَوْسُوعَةِ 2 23 , 24 وَمَوَاطِنِهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ . وَأَمَّا مَسْأَلَةُ اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْخَالِي عَنْ الْقَرَائِنِ - التَّكْرَارِ أَمْ لَا ؟ فَمَوْطِنُ تَفْصِيلِهَا الْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ .
=============
تَكْفِيرُ السَّكْرَانِ :(1)
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّكْرَانَ غَيْرُ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ لَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ إذَا صَدَرَ مِنْهُ مَا هُوَ مُكَفِّرٌ , وَاخْتَلَفُوا فِي السَّكْرَانِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ : فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) إلَى تَكْفِيرِهِ إذَا صَدَرَ مِنْهُ مَا هُوَ مُكَفِّرٌ . لِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه " إذَا سَكِرَ هَذَى , وَإِذَا هَذَى افْتَرَى , وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ حَدَّ الْفِرْيَةِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا فِي سُكْرِهِ وَاعْتَبَرُوا مَظِنَّتَهَا , وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَسَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ فَتَصِحُّ رِدَّتُهُ , وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى عَدَمِ تَكْفِيرِ السَّكْرَانِ مُطْلَقًا .
آثَارُ التَّكْفِيرِ :
18 - يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّكْفِيرِ آثَارٌ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْمُكَفِّرِ وَالْمُكَفَّرِ فَآثَارُهُ عَلَى الْمُكَفَّرِ إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ هِيَ :
أ - ( حُبُوطُ الْعَمَلِ ) : 19 - إذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ وَاسْتَمَرَّ كَافِرًا حَتَّى مَوْتِهِ كَانَتْ رِدَّتُهُ مُحْبِطَةً لِلْعَمَلِ لقوله تعالى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } . فَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْحَجِّ وَمَا بَقِيَ سَبَبُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ لِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ صَارَ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فَإِذَا أَسْلَمَ وَهُوَ غَنِيٌّ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ . وَلِأَنَّ وَقْتَهُ مُتَّسِعٌ إلَى آخِرِ الْعُمْرِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِخِطَابٍ مُبْتَدَأٍ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالزَّكَاةُ لِلْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ , وَلِأَنَّ سَبَبَهُ الْبَيْتُ الْمُكَرَّمُ وَهُوَ بَاقٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي أَدَّاهَا , لِخُرُوجِ سَبَبِهَا . وَمَا بَقِيَ سَبَبُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ كَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ مَثَلًا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ تَابَ فِي الْوَقْتِ يُعِيدُ الظُّهْرَ لِبَقَاءِ السَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ عِبَادَاتِهِ الَّتِي فَعَلَهَا فِي إسْلَامِهِ مِنْ صَلَاةٍ وَحَجٍّ وَغَيْرِهَا , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فَعَلَهَا عَلَى وَجْهِهَا وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهَا فَلَا تَعُودُ إلَى ذِمَّتِهِ , كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ . وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى حُبُوطُ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ لَا نَفْسُ الْأَعْمَالِ .
============
التَّلْفِيقُ بَيْنَ شَهَادَتَيْنِ لِإِثْبَاتِ الرِّدَّةِ :(2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4750)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4820)(2/382)
12 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى جَوَازِ التَّلْفِيقِ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ فِي الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي اللَّفْظِ الْمُتَّفِقَةِ فِي الْمَعْنَى لِإِثْبَاتِ الرِّدَّةِ , كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يُكَلِّمْ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا , وَشَهِدَ آخَرُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : مَا اتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا , فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَجْمَعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الشَّهَادَتَيْنِ لِإِثْبَاتِ الرِّدَّةِ . أَمَّا إذَا كَانَتْ إحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى قَوْلٍ , مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : فِي كُلِّ جِنْسٍ نَذِيرٌ , وَالْأُخْرَى عَلَى فِعْلٍ كَإِلْقَاءِ مُصْحَفٍ فِي قَاذُورَةٍ , أَوْ كَانَتَا عَلَى فِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْإِلْقَاءِ الْمَذْكُورِ , وَشَدِّ الزُّنَّارِ فَلَا تَلْفِيقَ . هَذَا وَفِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِإِثْبَاتِ الرِّدَّةِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهَا هَلْ تَثْبُتُ بِهَا مُطْلَقًا أَيْ : عَلَى وَجْهِ الْإِطْلَاقِ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ التَّفْصِيلِ ؟ وَهَلْ يُتَعَرَّضُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إذَا أَنْكَرَ ؟ وَهَذَا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ بِهَا لَا يُقْبَلُ فِيهَا إلَّا الْعُدُولُ . فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ كَمَا جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ إلَى أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا عَلَى مُسْلِمٍ بِالرِّدَّةِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ لَا لِتَكْذِيبِ الشُّهُودِ وَالْعُدُولِ بَلْ لِأَنَّ إنْكَارَهُ تَوْبَةٌ وَرُجُوعٌ يُدْرَأُ عَنْهُ الْقَتْلُ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ , كَحَبْطِ عَمَلٍ وَبُطْلَانِ وَقْفٍ وَبَيْنُونَةِ زَوْجَةٍ وَإِلَّا أَيْ : إذَا لَمْ يُنْكِرْ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ كَارْتِدَادِهِ بِنَفْسِهِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ بِهَا لَا تُقْبَلُ بِإِطْلَاقٍ , بَلْ لَا بُدَّ مِنْ التَّفْصِيلِ لِاخْتِلَافِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَسْبَابِ الْكُفْرِ فَرُبَّمَا وَجَبَ عِنْدَ بَعْضٍ دُونَ آخَرِينَ . وَالْقَوْلُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ هُوَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِهَا تُقْبَلُ بِإِطْلَاقٍ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ , حَتَّى إذَا أَنْكَرَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ لَا يَنْفَعُهُ إنْكَارُهُ بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ التَّوْبَةِ وَإِلَّا قُتِلَ , لِأَنَّهَا لِخَطَرِهَا لَا يُقَدَّمُ الْعَدْلُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِهَا إلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِهَا بِأَنْ يَذْكُرَ مُوجِبَهَا وَإِنْ لَمْ يَقُلْ عَالِمًا مُخْتَارًا لِاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي الْكُفْرِ وَخَطَرِ أَمْرِ الرِّدَّةِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ " رِدَّةٌ " .
==============
تَمْيِيزٌ(1)
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4856)(2/383)
التَّمْيِيزُ لُغَةً مَصْدَرُ مَيَّزَ . يُقَالُ : مَازَ الشَّيْءَ إذَا عَزَلَهُ وَفَرَزَهُ وَفَصَلَهُ , وَتَمَيَّزَ الْقَوْمُ وَامْتَازُوا صَارُوا فِي نَاحِيَةٍ . وَامْتَازَ عَنْ الشَّيْءِ تَبَاعَدَ مِنْهُ وَيُقَالُ : امْتَازَ الْقَوْمُ إذَا تَمَيَّزَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ . وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ : سِنُّ التَّمْيِيزِ , وَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ تِلْكَ السِّنُّ الَّتِي إذَا انْتَهَى إلَيْهَا الصَّغِيرُ عَرَفَ مَضَارَّهُ وَمَنَافِعَهُ , وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَيَّزْت الْأَشْيَاءَ إذَا فَرَّقْت بَيْنَ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا . وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ ( أَهْلِيَّةٌ ) . الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ : الْإِبْهَامُ : 2 - الْإِبْهَامُ مَصْدَرُ أَبْهَمَ الْخَبَرَ إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْهُ , وَطَرِيقٌ مُبْهَمٌ إذَا كَانَ خَفِيًّا لَا يَسْتَبِينُ , وَكَلَامٌ مُبْهَمٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ وَجْهٌ يُؤْتَى مِنْهُ , وَبَابٌ مُبْهَمٌ مُغْلَقٌ لَا يُهْتَدَى لِفَتْحِهِ فَهُوَ ضِدُّ التَّمْيِيزِ . الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّمْيِيزِ : إسْلَامُ الْمُمَيِّزِ وَرِدَّتُهُ : 3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّ إسْلَامَ الْمُمَيِّزِ يَصِحُّ اسْتِقْلَالًا مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ , أَوْ تَبَعِيَّتِهِ لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ ; لِأَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا عَلِيًّا رضي الله عنه إلَى الْإِسْلَامِ , وَهُوَ مَا زَالَ فِي صِبَاهُ فَأَسْلَمَ , وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الصِّبْيَانِ } ; وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ } ; وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَصَحَّتْ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ . وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ أَنَّ إسْلَامَ الْمُمَيِّزِ اسْتِقْلَالًا لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ } وَفِي رِوَايَةٍ : { وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ } " . وَلِأَنَّ نُطْقَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ إمَّا خَبَرٌ أَوْ إنْشَاءٌ , فَإِنْ كَانَ خَبَرًا فَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ , وَإِنْ كَانَ إنْشَاءً فَهُوَ كَعُقُودِهِ وَهِيَ بَاطِلَةٌ , وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ زُفَرُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ . وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّ إسْلَامَهُ يَصِحُّ اسْتِقْلَالًا ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا فَإِنْ بَلَغَ وَاسْتَمَرَّ فِي إسْلَامِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ مِنْ يَوْمَئِذٍ , وَإِنْ أَفْصَحَ بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْبُلُوغِ تَبَيَّنَ أَنَّ إسْلَامَهُ كَانَ لَغْوًا . أَمَّا رِدَّتُهُ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَتَّى يَبْلُغَ , فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إلَى أَنَّ رِدَّتَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِحَدِيثِ { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ } وَفِيهِ : { عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ } وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ : يَصِحُّ إسْلَامُهُ وَلَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مَحْضُ مَصْلَحَةٍ , وَالرِّدَّةَ مَحْضُ مَضَرَّةٍ وَمَفْسَدَةٍ فَلَا تَصِحُّ مِنْهُ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ ( رِدَّةٌ ) .
===============
مَنَاطُ التَّكْلِيفِ التَّمْيِيزُ أَوْ الْبُلُوغُ :(1)
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ فِي الْإِنْسَانِ هُوَ الْبُلُوغُ وَلَيْسَ التَّمْيِيزَ , وَأَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَلَا يُعَاقَبُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْهَا , أَوْ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْآخِرَةِ ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ } . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ إذَا ارْتَدَّ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ صَحَّ كَإِسْلَامِهِ , وَالْعَاقِلُ هُوَ الْمُمَيِّزُ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي يَعْقِلُ أَنَّ الْإِسْلَامَ سَبَبُ النَّجَاةِ وَيُمَيِّزُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي " أَهْلِيَّةٌ " .
==================
عَدَمُ الْعَوْدِ :(2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4860)
(2) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4955)(2/384)
6 - لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّوْبَةِ عَدَمُ الْعَوْدِ إلَى الذَّنْبِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ , وَإِنَّمَا تَتَوَقَّفُ التَّوْبَةُ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنْ الذَّنْبِ وَالنَّدَمِ عَلَيْهِ وَالْعَزْمِ الْجَازِمِ عَلَى تَرْكِ مُعَاوَدَتِهِ , فَإِنْ عَاوَدَهُ مَعَ عَزْمِهِ حَالَ التَّوْبَةِ عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِدَهُ صَارَ كَمَنْ ابْتَدَأَ الْمَعْصِيَةَ , وَلَمْ تَبْطُلْ تَوْبَتُهُ الْمُتَقَدِّمَةُ , وَلَا يَعُودُ إلَيْهِ إثْمُ الذَّنْبِ الَّذِي ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ , وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَذَلِكَ بِنَصِّ الْحَدِيثِ : { التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ } . وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَعُودُ إلَيْهِ إثْمُ الذَّنْبِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ الذَّنْبِ بِمَنْزِلَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْكُفْرِ , وَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ هَدَمَ إسْلَامُهُ مَا قَبْلَهُ مِنْ إثْمِ الْكُفْرِ وَتَوَابِعِهِ , فَإِذَا ارْتَدَّ عَادَ إلَيْهِ الْإِثْمُ الْأَوَّلُ مَعَ الرِّدَّةِ . وَالْحَقُّ أَنَّ عَدَمَ مُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ وَاسْتِمْرَارَ التَّوْبَةِ شَرْطٌ فِي كَمَالِ التَّوْبَةِ وَنَفْعِهَا الْكَامِلِ لَا فِي صِحَّةِ مَا مَضَى مِنْهَا . هَذَا وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ فِي ثُبُوتِ بَعْضِ أَحْكَامِ التَّوْبَةِ إصْلَاحَ الْعَمَلِ , فَلَا تَكْفِي التَّوْبَةُ حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةٌ تَظْهَرُ فِيهَا آثَارُ التَّوْبَةِ وَيَتَبَيَّنُ فِيهَا صَلَاحُهُ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي فِي آثَارِ التَّوْبَةِ .
=============
ب - تَوْبَةُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ :(1)
14 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَنُسِبَ إلَى مَالِكٍ بِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ ; لقوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا } . وَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } وَالِازْدِيَادُ يَقْتَضِي كُفْرًا جَدِيدًا لَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ إيمَانٍ عَلَيْهِ . وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أُتِيَ بِرَجُلٍ فَقَالَ لَهُ : إنَّهُ أُتِيَ بِك مَرَّةً فَزَعَمْت أَنَّك تُبْت وَأَرَاك قَدْ عُدْت فَقَتَلَهُ . وَلِأَنَّ تَكْرَارَ الرِّدَّةِ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ عَقِيدَتِهِ وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِالدِّينِ فَيُقْتَلُ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ : إنَّهُ تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ وَلَوْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ ; لِإِطْلَاقِ قوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , فَإِذَا قَالُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } . لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُرْتَدَّ الْمُتَكَرِّرَةُ مِنْهُ الرِّدَّةُ إذَا تَابَ ثَانِيًا عُزِّرَ بِالضَّرْبِ أَوْ بِالْحَبْسِ وَلَا يُقْتَلُ , قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : إذَا ارْتَدَّ ثَانِيًا ثُمَّ تَابَ ضَرَبَهُ الْإِمَامُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ , وَإِنْ ارْتَدَّ ثَالِثًا ثُمَّ تَابَ ضَرَبَهُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَحَبَسَهُ حَتَّى تَظْهَرَ عَلَيْهِ آثَارُ التَّوْبَةِ وَيَرَى أَنَّهُ مُخْلِصٌ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ , فَإِنْ عَادَ فَعَلَ بِهِ هَكَذَا أَبَدًا مَا دَامَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْإِسْلَامِ , وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ هَذَا عَنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ .
===============
ثَانِيًا : فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى :(2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4959)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4963)(2/385)
18 - حُقُوقُ اللَّهِ الْمَالِيَّةُ كَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ , بَلْ يَجِبُ مَعَ التَّوْبَةِ تَبْرِئَةُ الذِّمَّةِ بِأَدَائِهَا كَمَا تَقَدَّمَ . أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ الْمَالِيَّةِ كَالْحُدُودِ مَثَلًا فَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ جَرِيمَةَ قَطْعِ الطَّرِيقِ ( الْحِرَابَةُ ) تَسْقُطُ بِتَوْبَةِ الْقَاطِعِ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ ; لقوله تعالى : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ إذَا تَابَ قَبْلَ أَنْ يُظْفَرَ بِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ , وَالْمُرَادُ بِمَا قَبْلَ الْقُدْرَةِ فِي الْآيَةِ أَنْ لَا تَمْتَدَّ إلَيْهِمْ يَدُ الْإِمَامِ بِهَرَبٍ أَوْ اسْتِخْفَاءٍ أَوْ امْتِنَاعٍ . وَتَوْبَتُهُ بِرَدِّ الْمَالِ إلَى صَاحِبِهِ إذَا كَانَ قَدْ أَخَذَ الْمَالَ لَا غَيْرُ , مَعَ الْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ لِمِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ أَصْلًا , وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَتْلُ حَدًّا , وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ حَدًّا , وَلَكِنْ يَدْفَعَهُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ يَقْتُلُونَهُ قِصَاصًا إذَا تَحَقَّقَتْ شُرُوطُهُ . وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ فَتَوْبَتُهُ النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ وَالْعَزْمُ عَلَى التَّرْكِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . وَلَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُحَارِبِ حَدُّ الزِّنَى وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ إذَا ارْتَكَبَهَا حَالَ الْحِرَابَةِ ثُمَّ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ , وَهُوَ احْتِمَالٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , وَمَفْهُومُ إطْلَاقِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحُدُودِ . وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ خِلَافُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تَسْقُطُ عَنْ الْمُحَارِبِ إذَا تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِعُمُومِ الْآيَةِ . أَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْجِرَاحِ فَلَا تَسْقُطُ عَنْ الْمُحَارِبِ كَغَيْرِ الْمُحَارِبِ إلَّا أَنْ يُعْفَى لَهُ عَنْهَا .
19 - أَمَّا فِي غَيْرِ الْمُحَارَبَةِ فَإِنَّ الْحُدُودَ الْمُخْتَصَّةَ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ; لقوله تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَهَذَا عَامٌّ فِي التَّائِبِينَ وَغَيْرِهِمْ ; وَلِأَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ , وَقَطَعَ الَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ , وَقَدْ جَاءُوا تَائِبِينَ يَطْلُبُونَ التَّطْهِيرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ , وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِعْلَهُمْ تَوْبَةً فَقَالَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ : لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ عَلَى سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ } وَالرَّأْيُ الثَّانِي وَهُوَ خِلَافُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَرَأْيٌ لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إنْ تَابَ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُحَارِبِينَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ لقوله تعالى : { وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } وَذَكَرَ حَدَّ السَّارِقِ ثُمَّ قَالَ : { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ } . عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ فَرَّقُوا بَيْنَ التَّوْبَةِ مِنْ هَذِهِ الْجَرَائِمِ قَبْلَ الرَّفْعِ لِلْإِمَامِ وَبَعْدَهُ فَيَقُولُونَ بِإِسْقَاطِ التَّوْبَةِ لَهَا قَبْلَ الرَّفْعِ لَا بَعْدَهُ . كَمَا فُصِّلَ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا , وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عُقُوبَةَ الرِّدَّةِ تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الرَّفْعِ وَبَعْدَهُ . ( ر : رِدَّةٌ ) .
================
هـ - الرِّدَّةُ :(1)
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الرِّدَّةَ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - لَا تُبْطِلُ التَّيَمُّمَ فَيُصَلِّي بِهِ إذَا أَسْلَمَ ; لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِالتَّيَمُّمِ الطَّهَارَةُ , وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِيهَا كَالْوُضُوءِ ; وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ تُبْطِلُ ثَوَابَ الْعَمَلِ لَا زَوَالَ الْحَدَثِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الرِّدَّةَ تُبْطِلُ التَّيَمُّمَ لِضَعْفِهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ لِقُوَّتِهِ .
==============
ب - ( فِي الْحُدُودِ ) :(2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5117)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5571)(2/386)
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - بِالنِّسْبَةِ لِحَدِّ الرِّدَّةِ - عَلَى أَنَّ مَنْ ارْتَدَّ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ , فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَالَ جُنُونِهِ , بَلْ يُنْتَظَرُ حَتَّى يُفِيقَ وَيُسْتَتَابَ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَعْقِلُ وَيَعُودُ إلَى الْإِسْلَامِ ; وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الرِّدَّةِ , وَالْمَجْنُونُ لَا يُوصَفُ بِالْإِصْرَارِ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِتَابَتُهُ . هَذَا وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ ارْتَدَّ وَاسْتُتِيبَ فَلَمْ يَتُبْ ثُمَّ جُنَّ , فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ حَالَ جُنُونِهِ , وَلَمْ أَعْثُرْ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ عِنْدَ غَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ , وَإِنْ كَانَتْ قَوَاعِدُهُمْ لَا تَأْبَاهُ ; لِأَنَّ الْغَايَةَ مِنْ انْتِظَارِ إفَاقَتِهِ هِيَ الِاسْتِتَابَةُ وَقَدْ حَصَلَتْ . أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِبَقِيَّةِ الْحُدُودِ فَهُنَاكَ فَرْقٌ بَيِّنٌ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ , وَبَيْنَ مَا يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ وَمَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ . جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ : مَنْ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ حَدَّ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ جُنَّ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ احْتِيَاطًا ; لِأَنَّهُ قَدْ يَرْجِعُ عَنْ الْإِقْرَارِ , فَلَوْ اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ , بِخِلَافِ مَا لَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ أَقَرَّ بِقَذْفٍ ثُمَّ جُنَّ فَإِنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنْهُ فِي جُنُونِهِ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِرُجُوعِهِ . وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ ثُمَّ جُنَّ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَالَ جُنُونِهِ ; لِأَنَّ رُجُوعَهُ يُقْبَلُ , فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا رَجَعَ . وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ ارْتَكَبَ مَا يُوجِبُ حَدًّا ثُمَّ جُنَّ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَتَّى يُفِيقَ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ مِنْ : ( زِنًى , وَقَذْفٌ , وَسَرِقَةٌ . . . إلَخْ ) .
==============
أَسْبَابُ سُقُوطِ الْحَبْسِ تَعْزِيرًا وَقَطْعُ مُدَّتِهِ :(1)
24 - سُقُوطُ الْحَبْسِ يُقْصَدُ بِهِ تَوْقِيفُ تَنْفِيذِهِ بَعْدَ النُّطْقِ بِهِ , سَوَاءٌ أُبْدِئَ بِتَنْفِيذِ بَعْضِهِ أَمْ لَمْ يَبْدَأْ . وَأَسْبَابُ سُقُوطِ الْحَبْسِ هِيَ : أ - ( الْمَوْتُ ) : 25 - يَنْتَهِي الْحَبْسُ بِمَوْتِ الْجَانِي لِانْتِهَاءِ مَوْضِعِ التَّكْلِيفِ , وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْوِيقُ الشَّخْصِ وَقَدْ فَاتَ , وَلَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ الْحَبْسِ بَعْدَ انْعِدَامِ الْمَحَلِّ . ب - ( الْجُنُونُ ) : 26 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ ) عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ الطَّارِئَ بَعْدَ الْجَرِيمَةِ يُوقِفُ تَنْفِيذَ الْحَبْسِ ; لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ مُكَلَّفًا وَلَا أَهْلًا لِلْعُقُوبَةِ وَالتَّأْدِيبِ , وَهُوَ لَا يَعْقِلُ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحَبْسِ لِفَقْدِهِ الْإِدْرَاكَ . وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِيِّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ - أَنَّ الْجُنُونَ لَا يُوقِفُ تَنْفِيذَ التَّعْزِيرِ - وَالْحَبْسُ فَرْعٌ مِنْهُ - وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْغَايَةَ مِنْهُ التَّأْدِيبُ وَالزَّجْرُ , فَإِذَا تَعَطَّلَ جَانِبُ التَّأْدِيبِ بِالْجُنُونِ فَلَا يَنْبَغِي تَعْطِيلُ جَانِبِ الزَّجْرِ مَنْعًا لِلْغَيْرِ .
ج - ( الْعَفْوُ ) : 27 - إذَا كَانَ الْحَبْسُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ سَقَطَ بِعَفْوِهِ . وَضَرَبُوا مِثَالًا لِذَلِكَ بِالْمَدِينِ الْمَحْبُوسِ لِحَقِّ الدَّائِنِ .
د - ( الشَّفَاعَةُ ) : 28 - تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ تَعْزِيرًا قَبْلَ الْبَدْءِ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ وَبَعْدَهُ , وَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ أَذًى , لِمَا فِيهَا مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ . وَيَجُوزُ لِلْحَاكِمِ رَدُّ الشَّفَاعَةِ إنْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا مَصْلَحَةٌ , وَقَدْ رَدَّ عُمَرُ رضي الله عنه الشَّفَاعَةَ فِي مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ حِينَ حَبَسَهُ لِتَزْوِيرِهِ خَاتَمَهُ . وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ : إطْلَاقُ اسْتِحْبَابِ الشَّفَاعَةِ فِي التَّعْزِيرِ فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ إذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ التَّعْزِيرِ كَانَ لِلْإِمَامِ ; لِأَنَّهُ شُرِعَ لِلْإِصْلَاحِ وَقَدْ يَرَى ذَلِكَ فِي إقَامَتِهِ وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَنْبَغِي اسْتِحْبَابُهَا .
29 - وَكَانَ مِنْ الْيَسِيرِ فِي الزَّمَنِ السَّابِقِ قَبُولُ الشَّفَاعَةِ فِي الْمَحْبُوسِ ; لِأَنَّ الْقَاضِيَ كَانَ يُشْرِفُ إشْرَافًا مُبَاشِرًا عَلَى تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ , وَكَانَ لِلْقُضَاةِ سُجُونٌ تُنْسَبُ إلَيْهِمْ فَيُقَالُ : سِجْنُ الْقَاضِي كَمَا يُقَالُ : سِجْنُ الْوَالِي .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5751)(2/387)
هـ - ( التَّوْبَةُ ) :
30 - لَيْسَ لِتَوْبَةِ الْمَحْبُوسِ وَنَحْوِهِ زَمَنٌ مُحَدَّدٌ تُعْرَفُ بِهِ , بَلْ يَعُودُ تَقْدِيرُ إمْكَانِيَّةِ حُصُولِهَا إلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ قَرَائِنَ نَتِيجَةَ الْمُرَاقَبَةِ وَالتَّتَبُّعِ . وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ : أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَأْخُذَ أَهْلَ الْجَرَائِمِ بِالتَّوْبَةِ إجْبَارًا وَيُظْهِرَ مِنْ الْوَعِيدِ عَلَيْهِمْ مَا يَقُودُهُمْ إلَيْهَا طَوْعًا . وَمِنْ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى التَّوْبَةِ تَمْكِينُ أَهْلِ الْمَحْبُوسِ وَجِيرَانِهِ مِنْ زِيَارَتِهِ . فَذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ كَرَدِّ الْحُقُوقِ إلَى أَصْحَابِهَا , وَذَلِكَ تَوْبَةٌ .
31 - عَلَى أَنَّ هُنَاكَ جَرَائِمَ جَسِيمَةً وَخَطِيرَةً تَسْتَلْزِمُ سُرْعَةَ ظُهُورِ التَّوْبَةِ لِمَا فِي الْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ مِنْ آثَارٍ خَطِيرَةٍ , وَمِنْ ذَلِكَ : الرِّدَّةُ الَّتِي حُدِّدَتْ مُدَّةُ التَّوْبَةِ مِنْهَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَيُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي السِّحْرِ , وَتَرْكِ الصَّلَاةِ كَسَلًا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ . أَمَّا إذَا حُبِسَ الزَّانِي الْبِكْرُ بَعْدَ حَدِّهِ وَظَهَرَتْ تَوْبَتُهُ قَبْلَ السَّنَةِ فَلَا يُخْرَجُ حَتَّى تَنْقَضِيَ , لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْحَدِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ .
==============
حَالَاتُ الْحَبْسِ بِسَبَبِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الدِّينِ وَشَعَائِرِهِ :(1)
أ - ( الْحَبْسُ لِلرِّدَّةِ ) : 55 - إذَا ثَبَتَتْ رِدَّةُ الْمُسْلِمِ حُبِسَ حَتَّى تُكْشَفَ شُبْهَتُهُ وَيُسْتَتَابَ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْحَبْسِ عَلَى قَوْلَيْنِ : الْقَوْلِ الْأَوَّلِ : إنَّ حَبْسَ الْمُرْتَدِّ لِاسْتِتَابَتِهِ قَبْلَ قَتْلِهِ وَاجِبٌ , وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ أُخْبِرَ عَنْ قَتْلِ رَجُلٍ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامٍ فَقَالَ لِقَاتِلِيهِ : أَفَلَا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَقَدَّمْتُمْ لَهُ خُبْزًا , فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قَتَلْتُمُوهُ . . اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي . فَلَوْ كَانَ حَبْسُهُ غَيْرَ وَاجِبٍ لَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ , وَلَمَا تَبَرَّأَ مِنْ عَمَلِهِمْ , وَقَدْ سَكَتَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ فَكَانَ إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا . ثُمَّ إنَّ اسْتِصْلَاحَ الْمُرْتَدِّ مُمْكِنٌ بِحَبْسِهِ وَاسْتِتَابَتِهِ فَلَا يَجُوزُ إتْلَافُهُ قَبْلَ ذَلِكَ . وَبِنَحْوِ هَذَا فَعَلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه . الْقَوْلِ الثَّانِي : إنَّ حَبْسَ الْمُرْتَدِّ لِاسْتِتَابَتِهِ قَبْلَ قَتْلِهِ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ , وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ , وَالْمَنْقُولُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَطَاوُسٍ , وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِحَدِيثِ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَلِأَنَّهُ يَعْرِفُ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ , وَقَدْ جَاءَتْ رِدَّتُهُ عَنْ تَصْمِيمٍ وَقَصْدٍ , وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجِبُ حَبْسُهُ لِاسْتِتَابَتِهِ بَلْ يُسْتَحَبُّ طَمَعًا فِي رُجُوعِهِ الْمَوْهُومِ . وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ بَعَثَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُخْبِرُهُ بِفَتْحِ تَسْتُرَ , فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ قَوْمٍ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ : مَا أَخْبَارُهُمْ ؟ فَقَالَ أَنَسٌ : إنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ وَلَحِقُوا بِالْمُشْرِكِينَ مَا سَبِيلُهُمْ إلَّا الْقَتْلُ . فَقَالَ عُمَرُ : لَأَنْ آخُذَهُمْ سِلْمًا أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ . فَقَالَ أَنَسٌ : وَمَا تَصْنَعُ بِهِمْ ؟ قَالَ عُمَرُ : أَعْرِضُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ فَعَلُوا وَإِلَّا اسْتَوْدَعْتهمْ السِّجْنَ . وَيُرْوَى فِي هَذَا أَيْضًا أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَدِمَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْيَمَنَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ رَجُلًا مُوثَقًا فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالَ : رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامٍ , ثُمَّ دَعَاهُ إلَى الْجُلُوسِ فَقَالَ مُعَاذٌ : لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ هَذَا - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ . وَفِي الْمُرْتَدِّ الَّذِي يُحْبَسُ , وَمُدَّةُ حَبْسِهِ وَمَسَائِلَ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِالْمُرْتَدِّ تَفْصِيلَاتٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( رِدَّةٌ ) .
=============
إنْفَاقُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ الْمَحْبُوسَةِ :(2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5760)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5782)(2/388)
122 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : أَنَّهُ لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ الْمَحْبُوسَةِ فِي دَيْنٍ وَلَوْ ظُلْمًا - بِأَنْ كَانَتْ مُعْسِرَةً - لِفَوَاتِ الِاحْتِبَاسِ وَكَوْنِ الِامْتِنَاعِ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهِ . وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ إنْ لَمْ تَكُنْ مُمَاطِلَةً , سَوَاءٌ كَانَ الْحَبْسُ فِي دَيْنِ الزَّوْجِ أَوْ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهَا , وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ . وَفَرَّقَ النَّوَوِيُّ بَيْنَ حَبْسِ الزَّوْجَةِ الْمُقِرَّةِ بِدَيْنٍ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا وَبَيْنَ حَبْسِ مَنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى اسْتِدَانَتِهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ . وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَلْزَمُ الزَّوْجَ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ الْمَحْبُوسَةِ بِسَبَبِ رِدَّتِهَا .
=============
شُرُوطُ إجْزَاءِ الْحَجِّ عَنْ الْفَرْضِ :(1)
36 - شُرُوطُ إجْزَاءِ الْحَجِّ عَنْ الْفَرْضِ ثَمَانِيَةٌ وَهِيَ : أ - الْإِسْلَامُ : وَهُوَ شَرْطٌ لِوُقُوعِهِ عَنْ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ , بَلْ لِصِحَّتِهِ مِنْ أَسَاسِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ . ب - بَقَاؤُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ إلَى الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ ارْتِدَادٍ عِيَاذًا بِاَللَّهِ تَعَالَى , فَإِنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْحَجِّ ثُمَّ تَابَ عَنْ رِدَّتِهِ وَأَسْلَمَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ جَدِيدٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ , وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ : لَا تَجِبُ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ مُجَدَّدًا بَعْدَ التَّوْبَةِ عَنْ الرِّدَّةِ . اسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك . . } فَقَدْ جَعَلَتْ الْآيَةُ الرِّدَّةَ نَفْسَهَا مُحْبِطَةً لِلْعَمَلِ . وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . فَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ إحْبَاطَ الرِّدَّةِ لِلْعَمَلِ مَشْرُوطٌ بِالْمَوْتِ كَافِرًا .
================
( الرِّدَّةُ ) :(2)
19 - الرِّدَّةُ - وَهِيَ الْإِتْيَانُ بِمَا يُخْرِجُ مِنْ الْإِسْلَامِ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ - حَدَثٌ حُكْمِيٌّ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , فَالْمُرْتَدُّ إذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ وَرَجَعَ إلَى دِينِ الْحَقِّ فَلَيْسَ لَهُ الصَّلَاةُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ وَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا قَبْلَ رِدَّتِهِ وَلَمْ يُنْقَضْ وُضُوءُهُ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى . لقوله تعالى : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إلَيْك وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِك لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك } وَالطَّهَارَةُ عَمَلٌ . وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ اسْتِحْبَابُ الْوُضُوءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ . وَلَمْ يَعُدَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الرِّدَّةَ مِنْ أَسْبَابِ الْحَدَثِ فَلَا يُنْقَضُ الْوُضُوءُ بِهَا عِنْدَهُمْ لقوله تعالى : { وَمِنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } فَشَرَطَ الْمَوْتَ بَعْدَ الرِّدَّةِ لِحُبُوطِ الْعَمَلِ - كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( رِدَّةٌ )
=================
تَقْدِيمُ الْحُقُوقِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ تَيَسُّرِهِ وَتَعَذُّرِ الْجَمْعِ :(3)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5825)
(2) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5910)
(3) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 6164)(2/389)
19 - قَالَ الْإِمَامُ الزَّرْكَشِيّ : حُقُوقُ اللَّهِ إذَا اجْتَمَعَتْ فَهِيَ عَلَى أَقْسَامٍ : أ - مَا يَتَعَارَضُ فَيُقَدَّمُ آكَدُهُ . ( فَمِنْهُ ) : تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ آخِرَ وَقْتِهَا عَلَى رَوَاتِبِهَا وَكَذَلِكَ عَلَى الْمَقْضِيَّةِ إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ الْوَقْتِ إلَّا مَا يَسَعُ الْحَاضِرَةَ فَإِنْ كَانَ يَسَعُ الْمُؤَدَّاةَ وَالْمَقْضِيَّةَ فَالْفَائِتَةُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ . ( وَمِنْهَا ) : تَقْدِيمُ النَّوَافِلِ الْمَشْرُوعِ فِيهَا الْجَمَاعَةُ كَالْعِيدَيْنِ عَلَى الرَّوَاتِبِ . نِعْمَ تُقَدَّمُ الرَّوَاتِبُ عَلَى التَّرَاوِيحِ فِي الْأَصَحِّ ( وَتَقْدِيمُ الرَّوَاتِبِ عَلَى النَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ , وَتَقْدِيمُ الْوِتْرِ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فِي الْأَصَحِّ ) وَتَقْدِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ , وَالصِّيَامِ الْوَاجِبِ عَلَى نَفْلِهِ , وَالنُّسُكِ الْوَاجِبِ عَلَى غَيْرِهِ . وَإِذَا تَيَقَّنَ الْمُسَافِرُ وُجُودَ الْمَاءِ آخِرَ الْوَقْتِ فَتَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِانْتِظَارِهِ أَفْضَلُ مِنْ التَّقْدِيمِ بِالتَّيَمُّمِ . وَلَوْ أَوْصَى بِمَاءٍ لِأَوْلَى النَّاسِ بِهِ قُدِّمَ غُسْلُ الْمَيِّتِ عَلَى غَيْرِهِ , وَغُسْلُ النَّجَاسَةِ عَلَى الْحَدَثِ , لِأَنَّهُ لَا بَدَلَ لَهُ , وَفِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ تَقْدِيمُ غُسْلِ الْجَنَابَةِ , وَالثَّانِي تَقْدِيمُ غُسْلِ الْحَيْضِ , وَثَالِثُهَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فَيُقْرَعُ . وَيُقَدَّمُ ( الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ ) وَغُسْلُ الْجُمُعَةِ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَغْسَالِ , وَأَيُّهُمَا يُقَدَّمُ قَوْلَانِ : فَصَحَّحَ الْعِرَاقِيُّونَ تَقْدِيمَ الْغُسْلِ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ عَلَى غُسْلِ الْجُمُعَةِ , لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ عَلَّقَ الْقَوْلَ بِوُجُوبِهِ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ , وَصَحَّحَ الْخُرَاسَانِيُّونَ وَتَابَعَهُمْ النَّوَوِيُّ تَقْدِيمَ غُسْلِ الْجُمُعَةِ , لِصِحَّةِ أَحَادِيثِهِ . وَمِنْهَا , قَاعِدَةُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى فَضِيلَةٍ تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْعِبَادَةِ أَوْلَى مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى فَضِيلَةِ تَتَعَلَّقُ بِمَكَانِهَا . ب - مَا يَتَسَاوَى لِعَدَمِ الْمُرَجِّحِ , كَمَنْ عَلَيْهِ فَائِتٌ مِنْ رَمَضَانَيْنِ , فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ , وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ الَّذِي عَلَيْهِ فِدْيَةُ أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَيْنِ , وَمَنْ عَلَيْهِ شَاتَانِ مَنْذُورَتَانِ فَلَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى إحْدَاهُمَا , نَذَرَ حَجًّا أَوْ عَمْرَةً بِنَذْرٍ وَاحِدٍ أَوْ بِنُذُورٍ مُخْتَلِفَةٍ , فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ . ج - مَا تَفَاوَتَتْ , فَيُقَدَّمُ الْمُرَجَّحُ , كَالدَّمِ الْوَاجِبِ فِي الْإِحْرَامِ , وَالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ , فَإِذَا اجْتَمَعَا فِي شَاةٍ , فَالزَّكَاةُ أَوْلَى , وَمِثْلُهُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ وَالْفِطْرَةِ , إذَا اجْتَمَعَا فِي مَالٍ يَقْصُرُ عَنْهُمَا , فَالْفِطْرَةُ أَوْلَى , لِتَعَلُّقِهِمَا بِالْعَيْنِ . وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ , وَوَجَدَ الْإِطْعَامَ لِإِحْدَاهُمَا وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ , وَقُلْنَا بِالْإِطْعَامِ فِي الْقَتْلِ , فَالظِّهَارُ أَوْلَى . د - مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ كَالْعَارِي هَلْ يُصَلِّي قَائِمًا ؟ وَيُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ مُحَافَظَةً عَلَى الْأَرْكَانِ , أَوْ يُصَلِّي قَاعِدًا مُومِيًا مُحَافَظَةً عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ , أَوْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ؟ وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ , وَكَذَا الْمَحْبُوسُ بِمَكَانٍ نَجَسٍ , وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ وَلَا يَجْلِسُ , بَلْ يَنْحَنِي لِلسُّجُودِ إلَى الْقَدْرِ الَّذِي لَوْ زَادَ عَلَيْهِ لَاقَى النَّجَاسَةَ . وَلَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ نَجَسٍ وَمَعَهُ ثَوْبٌ , فَهَلْ يَبْسُطُهُ وَيُصَلِّي عُرْيَانًا أَوْ يُصَلِّي فِيهِ أَوْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ؟ فِيهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ , وَلَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا ثَوْبَ حَرِيرٍ , فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ تَجِبُ الصَّلَاةُ فِيهِ . وَلَوْ اجْتَمَعَ عُرَاةٌ فَهَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلُّوا فُرَادَى أَوْ جَمَاعَةً أَوْ يَتَخَيَّرُوا أَوْ هُمَا سَوَاءٌ ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ . وَفِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ إذَا اجْتَمَعَتْ : قَالَ الزَّرْكَشِيّ أَيْضًا : فَتَارَةً تَسْتَوِي كَالْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ , وَتَسَاوِي أَوْلِيَاءِ النِّكَاحِ فِي دَرَجَةٍ , وَتَسْوِيَةِ الْحُكَّامِ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي الْمُحَاكَمَاتِ , وَتَسَاوِي الشُّرَكَاءِ فِي الْقِسْمَةِ وَالْإِجْبَارِ عَلَيْهَا , وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ السَّابِقَيْنِ إلَى مُبَاحٍ . وَتَارَةً يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا كَنَفَقَةِ نَفْسِهِ عَلَى نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وَقَرِيبِهِ , وَتَقْدِيمِ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ عَلَى نَفَقَةِ قَرِيبِهِ , وَتَقْدِيمِ غُرَمَائِهِ عَلَيْهِ فِي بَيْعِ مَالِهِ , وَقَضَاءِ دِينِهِ , وَتَقْدِيمِهِ عَلَى غُرَمَائِهِ بِنَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ وَكِسْوَتِهِمْ فِي مُدَّةِ الْحَجْرِ , وَتَقْدِيمِ الْمُضْطَرِّ عَلَى غَيْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ , وَتَقْدِيمِ ذَوِي الضَّرُورَاتِ عَلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ , وَالتَّقْدِيمُ بِالسَّبْقِ إلَى الْمَسَاجِدِ وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ , وَتَقْدِيمِ حَقِّ(2/390)
الْبَائِعِ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي , وَالتَّقْدِيمُ فِي الْإِرْثِ بِالْعُصُوبَةِ وَقُرْبِ الدَّرَجَةِ وَفِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ بِالْأُبُوَّةِ وَالْجُدُودَةِ , ثُمَّ بِالْعُصُوبَةِ , وَالْحَقُّ الثَّابِتُ لِمُعَيِّنٍ أَقْوَى مِنْ الْحَقِّ الثَّابِتِ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ , وَلِهَذَا تَجِبُ زَكَاةُ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ عَلَى مُعَيَّنٍ , بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ , وَالْحَقُّ الْمُتَعَلِّقُ بِالْعَيْنِ أَقْوَى مِنْ الْمُتَعَلِّقِ بِالذِّمَّةِ , وَلِهَذَا قُدِّمَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُفْلِسِ بِالسِّلْعَةِ عَلَى الْغُرَمَاءِ , وَكَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ يُقَدَّمُ بِالْمَرْهُونِ , وَيُقَدَّمُ مَا لَهُ مُتَعَلِّقٌ وَاحِدٌ عَلَى مَا لَهُ مُتَعَلِّقَانِ , كَمَا لَوْ جَنَى الْمَرْهُونُ يُقَدَّمُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ , لِأَنَّهُ لَا مُتَعَلِّقَ لَهُ سِوَى الرَّقَبَةِ , وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ . وَفِي اجْتِمَاعِ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْآدَمِيِّ قَالَ الزَّرْكَشِيّ : هُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : أ - مَا قُطِعَ فِيهِ بِتَقْدِيمِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى , كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ , وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ , فَإِنَّهَا تُقَدَّمُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ التَّرَفُّهِ وَالْمَلَاذِّ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ الْعَبْدِ فِي الْآخِرَةِ , وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ وَطْءِ الْمُتَحَيِّرَةِ , وَإِيجَابُ الْغُسْلِ عَلَيْهَا لِكُلِّ صَلَاةٍ . ب - مَا قُطِعَ فِيهِ بِتَقْدِيمِ حَقِّ الْآدَمِيِّ كَجَوَازِ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ وَلُبْسِ الْحَرِيرِ عِنْدَ الْحَكَّةِ , وَكَتَجْوِيزِ التَّيَمُّمِ بِالْخَوْفِ مِنْ الْمَرَضِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَعْذَارِ , وَكَذَلِكَ الْأَعْذَارُ الْمُجَوِّزَةُ لِتَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ , وَالْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ , وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَغَيْرُهَا , وَالتَّدَاوِي بِالنَّجَاسَاتِ غَيْرِ الْخَمْرِ , وَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ قَتْلُ قِصَاصٍ وَقَتْلُ رِدَّةٍ قُدِّمَ قَتْلُ الْقِصَاصِ , وَجَوَازُ التَّحَلُّلِ بِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ . ج - مَا فِيهِ خِلَافٌ بِحَقِّهِ . فَمِنْهَا , إذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ زَكَاةٌ وَدَيْنُ آدَمِيٍّ وَفِيهِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ : قِيلَ تُقَدَّمُ الزَّكَاةُ , وَقِيلَ يُقَدَّمُ الدَّيْنُ , وَقِيلَ إنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ وَالْأَصَحُّ تَقْدِيمُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى . وَمِنْهَا , الْحَجُّ وَالْكَفَّارَةُ , وَالْأَصَحُّ تَقْدِيمُ الْحَجِّ وَالْكَفَّارَةِ , قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ : وَلَا تَجْرِي هَذِهِ الْأَقْوَالُ فِي حَقِّ الْمَحْجُورِ , بَلْ يُقَدَّمُ حَقُّ الْآدَمِيِّ وَيُؤَخَّرُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مَا دَامَ حَيًّا , وَمُرَادُهُ الْحُقُوقُ الْمُسْتَرْسِلَةُ فِي الذِّمَّةِ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ , فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ حَيًّا وَمَيِّتًا , وَلِهَذَا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ فِي الْمَرْهُونِ تُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ , وَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَى التَّرِكَةِ دَيْنُ آدَمِيٍّ وَجِزْيَةٌ , فَالصَّحِيحُ تَسَاوِيهِمَا , وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّكَاةِ أَنَّ الْمُغَلِّبَ فِي الْجِزْيَةِ حَقُّ الْآدَمِيِّ , فَإِنَّهَا عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى الدَّارِ , فَأَشْبَهَتْ غَيْرَهَا مِنْ دُيُونِ الْآدَمِيِّينَ , وَلِهَذَا , لَوْ أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ لَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ , وَلَوْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ , وَأَيْضًا , فَإِنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوُجُوبِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا , وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ , إلَّا بِآخِرِ الْحَوْلِ . وَمِنْهَا إذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَطَعَامَ الْغَيْرِ , فَأَقْوَالٌ , قِيلَ : تُقَدَّمُ الْمَيْتَةُ , وَقِيلَ طَعَامُ الْغَيْرِ , وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ . وَمِنْهَا , لَوْ بَذَلَ الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ الطَّاعَةَ فِي أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَجَبَ عَلَى الْأَبِ قَبُولُهُ , وَكَذَا لَوْ بَذَلَ لَهُ الْأُجْرَةَ عَلَى وَجْهٍ وَلَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ الْقَبُولَ فِي دَيْنِ الْآدَمِيِّ , بِلَا خِلَافٍ .
=============
سُقُوطُ دَيْنِ اللَّهِ(1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7411)(2/391)
11 - الْأَصْلُ أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ وَلَا تَبْرَأُ مِنْهُ الذِّمَّةُ إلَّا بِالْقَضَاءِ , لَكِنْ هُنَاكَ بَعْضُ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَسْقُطُ بِهَا الْقَضَاءُ وَمِنْ ذَلِكَ : 1 - ( الْحَرَجُ ) : 12 - أ - فَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُمَا قَضَاءُ الصَّوْمِ وَيَسْقُطُ عَنْهُمَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ لِلْحَرَجِ يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ : يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قَضَاءُ الصَّوْمِ لِفَوَاتِ صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَيْهِمَا وَلِقُدْرَتِهِمَا عَلَى الْقَضَاءِ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ , وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ . ب - الْمُغْمَى عَلَيْهِ , إنْ أُغْمِيَ عَلَى شَخْصٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَلَّ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلَاةِ لِانْعِدَامِ الْحَرَجِ , وَإِنْ زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ يُحْرَجُ فِي الْقَضَاءِ لِدُخُولِ الْعِبَادَةِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ . وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُفِيقَ فِي جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهَا . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَقْضِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي فَاتَتْهُ حَالَ إغْمَائِهِ . وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ : ( إغْمَاءٌ ) . ج - يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ : الْمَرِيضُ الْعَاجِزُ عَنْ الْإِيمَاءِ فِي الصَّلَاةِ إذَا فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ ثُمَّ بَرِئَ , فَإِنْ كَانَ مَا فَاتَهُ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ قَضَاهُ , وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَرَجِ , وَذَلِكَ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَبِمِثْلِ ذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ اخْتِيَارَاتِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ . 2 - ( الْعَجْزُ عَنْ الْقَضَاءِ ) : 13 - أ - مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ لِعُذْرٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ ثُمَّ مَاتَ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَ بِالشَّرْعِ , وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ إمْكَانِ فِعْلِهِ فَسَقَطَ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ كَالْحَجِّ . ب - مَنْ عَجَزَ عَنْ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ الَّتِي وَجَبَتْ بِجِمَاعٍ أَوْ بِغَيْرِهِ , عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ , سَقَطَتْ عَنْهُ ; لِأَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ أَنْ يُطْعِمَ أَهْلَهُ } , وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ أُخْرَى وَلَا بَيَّنَ لَهُ بَقَاءَهَا فِي ذِمَّتِهِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ . وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ : تَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ . 3 - هَلَاكُ مَالِ الزَّكَاةِ : 14 - هَلَاكُ نِصَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا بِحَوَلَانِ الْحَوْلِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْهَلَاكُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ أَمْ بَعْدَهُ ; لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يَسْتَدْعِي تَفْوِيتَ مِلْكٍ أَوْ يَدٍ , وَتَأْخِيرَ الزَّكَاةِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَى الْفَقِيرِ مِلْكًا وَلَا يَدًا فَلَا يَضْمَنُ . وَيَقُولُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فَعَزَلَهَا وَأَخْرَجَهَا فَتَلِفَتْ مِنْهُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ إلَّا إنْ تَلِفَ الْمَالُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ بِلَا تَقْصِيرٍ , أَمَّا بَعْدَ التَّمَكُّنِ فَتَلَفُ الْمَالِ يُوجِبُ الضَّمَانَ . وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : الزَّكَاةُ لَا تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ , هَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ , وَحَكَى عَنْهُ الْمَيْمُونِيُّ أَنَّهُ إذَا تَلِفَ النِّصَابُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ عَنْهُ , وَإِنْ تَلِفَ بَعْدَهُ لَمْ تَسْقُطْ , وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ , ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ بَعْدَ ذَلِكَ : وَالصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ إذَا لَمْ يُفَرِّطْ فِي الْأَدَاءِ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ فَلَا تَجِبُ عَلَى وَجْهٍ يَجِبُ أَدَاؤُهَا مَعَ عَدَمِ الْمَالِ وَفَقْرِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي : ( زَكَاةٌ ) . 4 - ( الرِّدَّةُ ) 15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الرِّدَّةَ تُسْقِطُ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى , سَوَاءٌ أَكَانَ بَدَنِيًّا أَمْ مَالِيًّا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ } . وَعَلَى هَذَا فَمَنْ كَانَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - ثُمَّ أَسْلَمَ فَمَا كَانَ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذِمَّتِهِ فَقَدْ بَطَلَ تَعَلُّقُهُ بِهَا وَسَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى(2/392)
أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُسْقِطُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مَالِيًّا أَوْ بَدَنِيًّا . وَقَدْ فَصَّلَ ابْنُ قُدَامَةَ الْقَوْلَ بِالنِّسْبَةِ لِمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ فَقَالَ فِي الزَّكَاةِ : مَنْ ارْتَدَّ قَبْلَ مُضِيِّ الْحَوْلِ وَحَالَ الْحَوْلُ وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ , نَصَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فَعَدَمُهُ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ كَالْمِلْكِ وَالنِّصَابِ , وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ مُضِيِّ الْحَوْلِ اسْتَأْنَفَ حَوْلًا , أَمَّا إنْ ارْتَدَّ بَعْدَ الْحَوْلِ لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ عَنْهُ . وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا تَسْقُطُ أَيْضًا لَكِنْ لَا يُطَالَبُ بِفِعْلِهَا لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ مِنْهُ وَلَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ , فَإِذَا عَادَ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا , وَالزَّكَاةُ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ وَلَا تَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ كَالدَّيْنِ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي : ( رِدَّةٌ , زَكَاةٌ ) . 5 - ( الْمَوْتُ ) : 16 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ دُيُونَ اللَّهِ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ بَلْ تَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ فَيَخْرُجُ مِنْهَا مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى كَدُيُونِ الْآدَمِيِّ . وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْحَجُّ فَيَحُجُّ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ . أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَسْقُطُ عَنْهُ عِنْدَهُمَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا إلَّا مَا قَالَهُ الْبُوَيْطِيُّ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْإِطْعَامِ عَنْهُ لِكُلِّ صَلَاةٍ مُدٌّ , وَمِثْلُ ذَلِكَ قِيلَ فِي الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ . وَأَمَّا الصِّيَامُ فَيُفْدَى عَنْهُ , وَفِي الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُصَامُ عَنْهُ , قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ وَالْقَدِيمُ أَظْهَرُ . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ نَذْرُ الْعِبَادَةِ يُفْعَلُ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ تَرِكَتِهِ , أَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ وَالْكَفَّارَةُ فَيُطْعِمُ عَنْهُ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِعَدَمِ سُقُوطِ دَيْنِ اللَّهِ بِالْمَوْتِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { قَالَتْ امْرَأَةٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا قَالَ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّك دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . قَالَ : فَصَوْمِي عَنْ أُمِّك } . وَمَا رَوَى النَّسَائِيُّ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ ؟ قَالَ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ أَكَنَّتْ قَاضِيَهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ } , كَمَا اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِصِيَامِ الْوَلِيِّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ : { مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } . وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَوْتَ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا لَمْ يُوصِ بِهِ , فَمَنْ مَاتَ وَفِي ذِمَّتِهِ صَلَاةٌ أَوْ صَوْمٌ أَوْ زَكَاةٌ أَوْ حَجٌّ أَوْ كَفَّارَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى سَقَطَتْ عَنْهُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا , وَلِذَلِكَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَلَا يُؤْمَرُ الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ بِالْأَدَاءِ مِنْ التَّرِكَةِ ; لِأَنَّ دَيْنَ اللَّهِ عِبَادَةٌ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِنِيَّةِ الْمُكَلَّفِ وَفِعْلِهِ فَإِذَا لَمْ يُوصِ فَقَدْ فَاتَ الشَّرْطُ بِمَوْتِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْوَاجِبِ فَيَسْقُطُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِلتَّعَذُّرِ . لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْعُشْرِ إذَا كَانَ قَائِمًا , فَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ الْعُشْرُ , فَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ قَائِمًا فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ , وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْقُطُ , أَمَّا لَوْ كَانَ الْخَارِجُ مُسْتَهْلَكًا فَإِنَّهُ يَسْقُطُ . وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمَوْتَ يُسْقِطُ مَا عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا فِي أَحْوَالٍ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ : أ - ( إذَا أَوْصَى بِهَا ) . ب - إذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِهَا . ج - إذَا تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ قَائِمَةٍ كَزَكَاةِ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي : ( حَجٌّ , وَصَوْمٌ ) .
=============
شُرُوطُ الرَّجْعَةِ : وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ مَا يَلِي :(1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7693)(2/393)
5 - الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : أَنْ تَكُونَ الرَّجْعَةُ بَعْدَ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ سَوَاءٌ صَدَرَ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ الْقَاضِي ; لِأَنَّهَا اسْتِئْنَافٌ لِلْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي قُطِعَتْ بِالطَّلَاقِ , فَلَوْلَا وُقُوعُهُ لَمَا كَانَ لِلرَّجْعَةِ فَائِدَةٌ , فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ مُرَاجَعَتِهَا , إذْ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ تَبِينُ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا بَيْنُونَةً كُبْرَى وَلَا يَحِلُّ لَهُ مُرَاجَعَتُهَا حَتَّى تَتَزَوَّجَ آخَرَ . قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } . وَالْفُقَهَاءُ جَمِيعًا مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ . 6 - الشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ تَحْصُلَ الرَّجْعَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ , فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَأَرَادَ مُرَاجَعَتَهَا فَلَيْسَ لَهُ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } . إلَّا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اعْتَبَرُوا الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ فِي حُكْمِ الدُّخُولِ مِنْ حَيْثُ صِحَّةُ الرَّجْعَةِ ; لِأَنَّ الْخَلْوَةَ تُرَتِّبُ أَحْكَامًا مِثْلَ أَحْكَامِ الدُّخُولِ , أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ فَلَا بُدَّ عِنْدَهُمْ مِنْ الدُّخُولِ لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ , وَلَا تَكْفِي الْخَلْوَةُ . 7 - الشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الْمُطَلَّقَةُ فِي الْعِدَّةِ , فَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَا يَصِحُّ ارْتِجَاعُهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ , لقوله تعالى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } أَيْ فِي الْقُرُوءِ الثَّلَاثَةِ ; وَلِأَنَّ فِي ارْتِجَاعِ الْمُطَلَّقَةِ فِي فَتْرَةِ الْعِدَّةِ اسْتِدَامَةً وَاسْتِمْرَارًا لِعَقْدِ النِّكَاحِ , فَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ انْقَطَعَتْ هَذِهِ الِاسْتِدَامَةُ فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ , وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ : مِنْ شُرُوطِ جَوَازِ الرَّجْعَةِ قِيَامُ الْعِدَّةِ فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ; لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ , وَالْمِلْكُ يَزُولُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ , فَلَا تُتَصَوَّرُ الِاسْتِدَامَةُ , إذْ الِاسْتِدَامَةُ لِلْقَائِمِ لِصِيَانَتِهِ عَنْ الزَّوَالِ وَأَمَّا مَا تَنْتَهِي بِهِ الْعِدَّةُ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( عِدَّةٌ ) . 8 - ( الشَّرْطُ الرَّابِعُ ) : أَلَّا تَكُونَ الْفُرْقَةُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ نَاشِئَةً عَنْ فَسْخِ عَقْدِ النِّكَاحِ , وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ : ( فَسْخٌ ) . 9 - ( الشَّرْطُ الْخَامِسُ ) : أَلَّا يَكُونَ الطَّلَاقُ بِعِوَضٍ , فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بِعِوَضٍ فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ ; لِأَنَّ الطَّلَاقَ حِينَئِذٍ بَائِنٌ لِافْتِدَاءِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا مِنْ الزَّوْجِ بِمَا قَدَّمَتْهُ لَهُ مِنْ عِوَضٍ مَالِيٍّ يُنْهِي هَذِهِ الْعَلَاقَةَ مِثْلَ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ . 10 - ( الشَّرْطُ السَّادِسُ ) : أَنْ تَكُونَ الرَّجْعَةُ مُنَجَّزَةً فَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ أَوْ إضَافَتُهَا إلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ , وَصُورَةُ التَّعْلِيقِ عَلَى الشَّرْطِ أَنْ يَقُولَ : إنْ جَاءَ زَيْدٌ فَقَدْ رَاجَعْتُك , أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَقَدْ رَاجَعْتُك , وَصُورَةُ الْإِضَافَةِ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ كَأَنْ يَقُولَ : أَنْتِ رَاجِعَةٌ غَدًا أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ وَهَكَذَا , وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ : ( تَعْلِيقٌ ف 46 ) الْمَوْسُوعَةِ ج 12 ص 31 . اسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةٌ لِعَقْدِ النِّكَاحِ أَوْ إعَادَةٌ لَهُ , وَالنِّكَاحُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ وَالْإِضَافَةَ , وَالرَّجْعَةُ تَأْخُذُ حُكْمَ النِّكَاحِ . 11 - ( الشَّرْطُ السَّابِعُ ) : أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَجِعُ أَهْلًا لِإِنْشَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ . وَهَذَا الشَّرْطُ وَرَدَ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي إنْشَاءِ عَقْدِ الزَّوَاجِ يَكُونُ لَهُ الْحَقُّ فِي ارْتِجَاعِ مُطَلَّقَتِهِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ شُرُوطِ الرَّجْعَةِ , وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِمَا لِإِنْشَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ , وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ رَجْعَةَ نَاقِصِي الْأَهْلِيَّةِ , وَهُمْ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ , وَالسَّفِيهُ , وَالْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ , وَالْمُفْلِسُ , وَقَدْ بَنَوْا إجَازَةَ الرَّجْعَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى أَسَاسِ عَدَمِ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِمْ , وَعَلَى حَسَبِ حَالَةِ كُلٍّ مِنْ(2/394)
هَؤُلَاءِ عَلَى حِدَةٍ , فَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَيَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ إلَّا أَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ , فَكَمَا صَحَّ عَقْدُهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ , وَأَمَّا السَّفِيهُ فَيَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ فِي حُدُودِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَصَحَّتْ رَجْعَتُهُ لِاسْتِمْرَارِ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ جِهَةٍ ; وَكَذَا لِعَدَمِ وُجُودِ الْإِسْرَافِ مِنْهُ , وَأَمَّا الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ فَقَدْ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ ; لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَيْسَ فِيهَا إدْخَالُ غَيْرِ وَارِثٍ مَعَ الْوَرَثَةِ , وَأَمَّا الْمُفْلِسُ فَصَحَّتْ الرَّجْعَةُ مِنْهُ ; لِأَنَّهَا لَا تَتَطَلَّبُ مَهْرًا جَدِيدًا فَلَا تَشْغَلُ ذِمَّتَهُ بِالْتِزَامَاتٍ مَالِيَّةٍ وَلَا يَحْتَاجُ لِإِذْنِ الدَّائِنِينَ , كَمَا أَجَازُوا الرَّجْعَةَ مِنْ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ مَعَ عَدَمِ جَوَازِ عَقْدِ نِكَاحِهِ ; لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِمْرَارٌ لِعَقْدِ النِّكَاحِ وَلَيْسَتْ إنْشَاءً جَدِيدًا لَهُ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ شَرْطَ الْمُرْتَجِعِ أَهْلِيَّةُ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا مُخْتَارًا غَيْرَ مُرْتَدٍّ ; لِأَنَّ الرَّجْعَةَ كَإِنْشَاءِ النِّكَاحِ فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ فِي الرِّدَّةِ وَالصِّبَا وَالْجُنُونِ وَلَا مِنْ مُكْرَهٍ , كَمَا لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ فِيهَا . فَالرَّجْعَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ بَالِغٍ , عَاقِلٍ مُخْتَارٍ . وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ السَّفِيهَ فَكَمَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ . . . وَالسَّكْرَانُ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ تَصِحُّ رَجْعَتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ; لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ أَهْلٌ لِإِبْرَامِ عَقْدِ النِّكَاحِ , وَلَا تَصِحُّ رَجْعَتُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , كَمَا لَا تَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رَجْعَةُ السَّكْرَانِ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ , لِأَنَّ أَقْوَالَهُ كُلَّهَا لَاغِيَةٌ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى صِحَّةِ الرَّجْعَةِ مِنْ الْمُحْرِمِ ; لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الْمُحْرِمِ لِإِنْشَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ عَارِضٌ . هَذَا وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّجْعَةِ رِضَا الْمَرْأَةِ . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } . يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى .
================
رِدَّةٌ(1)
1 - الرِّدَّةُ لُغَةً : الرُّجُوعُ عَنْ الشَّيْءِ , وَمِنْهُ الرِّدَّةُ عَنْ الْإِسْلَامِ . يُقَالُ : ارْتَدَّ عَنْهُ ارْتِدَادًا أَيْ تَحَوَّلَ . وَالِاسْمُ الرِّدَّةُ , وَالرِّدَّةُ عَنْ الْإِسْلَامِ : الرُّجُوعُ عَنْهُ . وَارْتَدَّ فُلَانٌ عَنْ دِينِهِ إذَا كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : ( الرِّدَّةُ : كُفْرُ الْمُسْلِمِ بِقَوْلٍ صَرِيحٍ أَوْ لَفْظٍ يَقْتَضِيهِ أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ ) . شَرَائِطُ الرِّدَّةِ : 2 - لَا تَقَعُ الرِّدَّةُ مِنْ الْمُسْلِمِ إلَّا إذَا تَوَفَّرَتْ شَرَائِطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالِاخْتِيَارِ .
رِدَّةُ الصَّبِيِّ :
3 - رِدَّةُ الصَّبِيِّ لَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ , وَقَوْلٌ لِأَحْمَدَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَمُحَمَّدٌ : يُحْكَمُ بِرِدَّةِ الصَّبِيِّ اسْتِحْسَانًا , وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ .
الْمُرْتَدُّ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَا يُقْتَلُ :
4 - ذَهَبَ الْقَائِلُونَ بِوُقُوعِ رِدَّةِ الصَّبِيِّ إلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ قَبْلَ بُلُوغِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّ الصَّبِيَّ إذَا ارْتَدَّ لَا يُقْتَلُ حَتَّى بَعْدَ بُلُوغِهِ , قَالَ فِي الْأُمِّ : ( فَمَنْ أَقَرَّ بِالْإِيمَانِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا , ثُمَّ ارْتَدَّ قَبْلَ الْبُلُوغِ أَوْ بَعْدَهُ , ثُمَّ لَمْ يَتُبْ بَعْدَ الْبُلُوغِ , فَلَا يُقْتَلُ ; لِأَنَّ إيمَانَهُ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ بَالِغٌ , وَيُؤْمَرُ بِالْإِيمَانِ , وَيُجْهَدُ عَلَيْهِ بِلَا قَتْلٍ ) .
رِدَّةُ الْمَجْنُونِ :
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِإِسْلَامِ مَجْنُونٍ وَلَا لِرِدَّتِهِ . وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ تَبْقَى سَائِرَةً عَلَيْهِ . لَكِنْ إنْ كَانَ يُجَنُّ سَاعَةً وَيُفِيقُ أُخْرَى , فَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ فِي إفَاقَتِهِ وَقَعَتْ , وَإِنْ كَانَتْ فِي جُنُونِهِ لَا تَقَعُ , كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ الْكَاسَانِيُّ .
رِدَّةُ السَّكْرَانِ :
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7778)فما بعد(2/395)
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ : إلَى أَنَّ رِدَّةَ السَّكْرَانِ لَا تُعْتَبَرُ , وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ : أَنَّ الرِّدَّةَ تُبْنَى عَلَى الِاعْتِقَادِ , وَالسَّكْرَانُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَا يَقُولُ . وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ , وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إلَى وُقُوعِ رِدَّةِ السَّكْرَانِ , وَحُجَّتُهُمْ : أَنَّ الصَّحَابَةَ أَقَامُوا حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى السَّكْرَانِ , وَأَنَّهُ يَقَعُ طَلَاقُهُ , فَتَقَعُ رِدَّتُهُ , وَأَنَّهُ مُكَلَّفٌ , وَأَنَّ عَقْلَهُ لَا يَزُولُ كُلِّيًّا , فَهُوَ أَشْبَهُ بِالنَّاعِسِ مِنْهُ بِالنَّائِمِ أَوْ الْمَجْنُونِ .
الْمُكْرَهُ عَلَى الرِّدَّةِ :
7 - الْإِكْرَاهُ : اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ , فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ , أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ , مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْعَدِمَ بِهِ أَهْلِيَّتُهُ , أَوْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْخِطَابُ . وَالْإِكْرَاهُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ طَبْعًا , كَالْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ أَوْ الْقَطْعِ أَوْ الضَّرْبِ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ , قَلَّ الضَّرْبُ أَوْ كَثُرَ . وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى إكْرَاهًا تَامًّا . وَنَوْعٌ لَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ , وَهُوَ الْحَبْسُ أَوْ الْقَيْدُ أَوْ الضَّرْبُ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ , وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِكْرَاهِ يُسَمَّى إكْرَاهًا نَاقِصًا . 8 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ , لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لقوله تعالى : { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ } . وَمَا نُقِلَ مِنْ { أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رضي الله عنهما - حَمَلَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَا يَكْرَهُ فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ : إنْ عَادُوا فَعُدْ } , وَهَذَا فِي الْإِكْرَاهِ التَّامِّ . 9 - وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِسْلَامِ طَوْعًا , مِثْلَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ , فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ - وَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنُونَ - فَلَا يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا , وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ وَلَا إجْبَارُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ ; لِعَدَمِ صِحَّةِ إسْلَامِهِ ابْتِدَاءً . أَمَّا إنْ كَانَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِمَّنْ يَجُوزُ إكْرَاهُهُ وَهُوَ الْحَرْبِيُّ وَالْمُرْتَدُّ , فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا بِرُجُوعِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ , وَيُطَبَّقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ .
مَا تَقَعُ بِهِ الرِّدَّةُ : 10
- تَنْقَسِمُ الْأُمُورُ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الرِّدَّةُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أ - رِدَّةٌ فِي الِاعْتِقَادِ . ب - رِدَّةٌ فِي الْأَقْوَالِ . ج - رِدَّةٌ فِي الْأَفْعَالِ . د - رِدَّةٌ فِي التَّرْكِ . إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ تَتَدَاخَلُ , فَمَنْ اعْتَقَدَ شَيْئًا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلٍ , أَوْ فِعْلٍ , أَوْ تَرْكٍ . مَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ مِنْ الِاعْتِقَادِ : 11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ , أَوْ جَحَدَهُ , أَوْ نَفَى صِفَةً ثَابِتَةً مِنْ صِفَاتِهِ , أَوْ أَثْبَتَ لِلَّهِ الْوَلَدَ فَهُوَ مُرْتَدٌّ كَافِرٌ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ بَقَائِهِ , أَوْ شَكَّ فِي ذَلِكَ . وَدَلِيلُهُمْ قوله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ } . وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : ( لِأَنَّ حُدُوثَ الْعَالَمِ مِنْ قَبِيلِ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ وَالتَّوَاتُرُ , بِالنَّقْلِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ , فَيَكْفُرُ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِ النَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ ) . 12 - وَيَكْفُرُ مَنْ جَحَدَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ , وَلَوْ كَلِمَةً . وَقَالَ الْبَعْضُ : بَلْ يَحْصُلُ الْكُفْرُ بِجَحْدِ حَرْفٍ وَاحِدٍ . كَمَا يَقَعُ الْكُفْرُ بِاعْتِقَادِ تَنَاقُضِهِ وَاخْتِلَافِهِ , أَوْ الشَّكِّ بِإِعْجَازِهِ , وَالْقُدْرَةِ عَلَى مِثْلِهِ , أَوْ إسْقَاطِ حُرْمَتِهِ , أَوْ الزِّيَادَةِ فِيهِ . أَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلُهُ , فَلَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ , وَلَا رَادُّهُ ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ اجْتِهَادِيٌّ مِنْ فِعْلِ الْبَشَرِ . وَقَدْ نَصَّ ابْنُ قُدَامَةَ عَلَى أَنَّ اسْتِحْلَالَ دِمَاءِ الْمَعْصُومِينَ وَأَمْوَالِهِمْ , إنْ جَرَى بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ - كَمَا فَعَلَ الْخَوَارِجُ - لَمْ يَكْفُرْ صَاحِبُهُ . وَلَعَلَّ السَّبَبَ أَنَّ الِاسْتِحْلَالَ جَرَى بِاجْتِهَادٍ خَاطِئٍ , فَلَا يَكْفُرُ صَاحِبُهُ . 13 - وَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا مَنْ اعْتَقَدَ كَذِبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ , وَمَنْ اعْتَقَدَ حِلَّ شَيْءٍ مُجْمَعٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ , كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ , أَوْ أَنْكَرَ أَمْرًا مَعْلُومًا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ .
( حُكْمُ سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى ) :(2/396)
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى كَفَرَ , سَوَاءٌ كَانَ مَازِحًا أَوْ جَادًّا أَوْ مُسْتَهْزِئًا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلَتْهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } . وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى قَبُولِهَا , وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . وَلَمْ نَجِدْ لِلشَّافِعِيَّةِ تَفْرِقَةً بَيْنَ الرِّدَّةِ بِذَلِكَ وَبَيْنَ الرِّدَّةِ بِغَيْرِهِ .
حُكْمُ سَبِّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلمِ :
15 - السَّبُّ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الِانْتِقَادُ وَالِاسْتِخْفَافُ , وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ السَّبُّ فِي عُقُولِ النَّاسِ , عَلَى اخْتِلَافِ اعْتِقَادَاتِهِمْ , كَاللَّعْنِ وَالتَّقْبِيحِ . وَحُكْمُ سَابِّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مُرْتَدٌّ بِلَا خِلَافٍ . وَيُعْتَبَرُ سَابًّا لَهُ صلى الله عليه وسلم كُلُّ مَنْ أَلْحَقَ بِهِ صلى الله عليه وسلم عَيْبًا أَوْ نَقْصًا , فِي نَفْسِهِ , أَوْ نَسَبِهِ , أَوْ دِينِهِ , أَوْ خُصْلَةٍ مِنْ خِصَالِهِ , أَوْ ازْدَرَاهُ , أَوْ عَرَّضَ بِهِ , أَوْ لَعَنَهُ , أَوْ شَتَمَهُ , أَوْ عَابَهُ , أَوْ قَذَفَهُ , أَوْ اسْتَخَفَّ بِهِ , وَنَحْوَ ذَلِكَ .
هَلْ يُقْتَلُ السَّابُّ رِدَّةً أَمْ حَدًّا ؟
16 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ : إنَّ سَابَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا , كَأَيِّ مُرْتَدٍّ ; لِأَنَّهُ بَدَّلَ دِينَهُ فَيُسْتَتَابُ , وَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ . أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ - فِيمَا يَنْقُلُهُ السُّبْكِيّ - فَيَرَوْنَ أَنَّ سَبَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رِدَّةٌ وَزِيَادَةٌ , وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ السَّابَّ كَفَرَ أَوَّلًا , فَهُوَ مُرْتَدٌّ , وَأَنَّهُ سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاجْتَمَعَتْ عَلَى قَتْلِهِ عِلَّتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا تُوجِبُ قَتْلَهُ وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ سَابَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُسْتَتَابُ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فَيُسْلِمَ .
حُكْمُ سَبِّ الْأَنْبِيَاءِ عليهم الصلاة والسلام :
17 - مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ هُمْ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ , فَمَنْ سَبَّهُمْ فَكَأَنَّمَا سَبَّ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم وَسَابُّهُ كَافِرٌ , فَكَذَا كُلُّ نَبِيٍّ مَقْطُوعٍ بِنُبُوَّتِهِ , وَعَلَى ذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ . وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِنُبُوَّتِهِ , فَمَنْ سَبَّهُ زُجِرَ , وَأُدِّبَ وَنُكِلَ بِهِ , لَكِنْ لَا يُقْتَلُ , صَرَّحَ بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ .
حُكْمُ سَبِّ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم :
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ رضي الله عنها , فَقَدْ كَذَّبَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ بِحَقِّهَا , وَهُوَ بِذَلِكَ كَافِرٌ قَالَ تَعَالَى فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ بَعْدَ أَنْ بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ : { يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } . فَمَنْ عَادَ لِذَلِكَ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ . وَهَلْ تُعْتَبَرُ مِثْلُهَا سَائِرُ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ ؟ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : إنَّهُنَّ مِثْلُهَا فِي ذَلِكَ . وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } . وَالطَّعْنُ بِهِنَّ يَلْزَمُ مِنْهُ الطَّعْنُ بِالرَّسُولِ وَالْعَارُ عَلَيْهِ , وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ وَهُوَ مَذْهَبٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ : إنَّهُنَّ - سِوَى عَائِشَةَ - كَسَائِرِ الصَّحَابَةِ , وَسَابُّهُنَّ يُجْلَدُ , لِأَنَّهُ قَاذِفٌ . أَمَّا سَابُّ الْخُلَفَاءِ فَهُوَ لَا يَكْفُرُ , وَتَوْبَتُهُ مَقْبُولَةٌ .
حُكْمُ مَنْ قَالَ لِمُسْلِمٍ يَا كَافِرُ :(2/397)
19 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ : يَا كَافِرُ , فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إنْ كَانَ كَمَا قَالَ , وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ } وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِفِسْقِ الْقَائِلِ . قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ : وَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَيَجِبُ فِي جِنَايَةٍ لَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ لِلْحَدِّ , بِأَنْ قَالَ : يَا كَافِرُ , أَوْ يَا فَاسِقُ , أَوْ يَا فَاجِرُ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ مَنْ أَطْلَقَ الشَّارِعُ كُفْرَهُ , مِثْلَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم } . فَهَذَا كُفْرٌ لَا يُخْرِجُ عَنْ الْإِسْلَامِ بَلْ هُوَ تَشْدِيدٌ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : مَنْ كَفَّرَ مُسْلِمًا وَلَوْ لِذَنْبِهِ كَفَرَ ; لِأَنَّهُ سَمَّى الْإِسْلَامَ كُفْرًا , وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ : { مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلَّا حَارَ عَلَيْهِ } . أَيْ رَجَعَ عَلَيْهِ هَذَا إنْ كَفَّرَهُ بِلَا تَأْوِيلٍ لِلْكُفْرِ بِكُفْرِ النِّعْمَةِ أَوْ نَحْوِهِ وَإِلَّا فَلَا يَكْفُرُ , وَهَذَا مَا نَقَلَهُ الْأَصْلُ عَنْ الْمُتَوَلِّي , وَأَقَرَّهُ , وَالْأَوْجَهُ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْخَبَرَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ فَلَا يَكْفُرُ غَيْرُهُ , وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ فِي أَذْكَارِهِ أَنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ تَحْرِيمًا مُغَلَّظًا .
مَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ مِنْ الْأَفْعَالِ :
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إلْقَاءَ الْمُصْحَفِ كُلِّهِ فِي مَحَلٍّ قَذِرٍ يُوجِبُ الرِّدَّةَ ; لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ اسْتِخْفَافٌ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى , فَهُوَ أَمَارَةُ عَدَمِ التَّصْدِيقِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ : وَكَذَا إلْقَاءُ بَعْضِهِ . وَكَذَا كُلُّ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ . كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ سَجَدَ لِصَنَمٍ , أَوْ لِلشَّمْسِ , أَوْ لِلْقَمَرِ فَقَدْ كَفَرَ . وَمَنْ أَتَى بِفِعْلٍ صَرِيحٍ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِالْإِسْلَامِ , فَقَدْ كَفَرَ . قَالَ بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَدَلِيلُهُمْ قوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلَتْهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } .
الرِّدَّةُ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ :
21 - لَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ جَاحِدًا لَهَا يَكُونُ مُرْتَدًّا , وَكَذَا الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ ; لِأَنَّهَا مِنْ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ الْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ . وَأَمَّا تَارِكُ الصَّلَاةِ كَسَلًا فَفِي حُكْمِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : يُقْتَلُ رِدَّةً , وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ , وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ , وَأَبِي عَمْرٍو , وَالْأَوْزَاعِيِّ , وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ , وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ , وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ , وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ , وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ , وَحَكَاهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ , وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ , وَأَبِي هُرَيْرَةَ , وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُقْتَلُ حَدًّا لَا كُفْرًا , وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ , وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ كَسَلًا يَكُونُ فَاسِقًا وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ , وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ .
جِنَايَاتُ الْمُرْتَدِّ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ :(2/398)
22 - جِنَايَاتُ الْمُرْتَدِّ عَلَى غَيْرِهِ لَا تَخْلُو : إمَّا أَنْ تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً , وَكُلٌّ مِنْهَا , إمَّا أَنْ تَقَعَ عَلَى مُسْلِمٍ , أَوْ ذِمِّيٍّ , أَوْ مُسْتَأْمَنٍ , أَوْ مُرْتَدٍّ مِثْلِهِ . وَهَذِهِ الْجِنَايَاتُ إمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى النَّفْسِ بِالْقَتْلِ , أَوْ عَلَى مَا دُونَهَا , كَالْقَطْعِ وَالْجُرْحِ , أَوْ عَلَى الْعِرْضِ كَالزِّنَى وَالْقَذْفِ , أَوْ عَلَى الْمَالِ كَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ . وَهَذِهِ الْجِنَايَاتُ قَدْ تَقَعُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ , ثُمَّ يَهْرُبُ الْمُرْتَدُّ إلَى بِلَادِ الْحَرْبِ , أَوْ لَا يَهْرُبُ , أَوْ تَقَعُ فِي بِلَادِ الْحَرْبِ , ثُمَّ يَنْتَقِلُ الْمُرْتَدُّ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ . وَقَدْ تَقَعُ مِنْهُ هَذِهِ كُلُّهَا فِي إسْلَامِهِ , أَوْ رِدَّتِهِ , وَقَدْ يَسْتَمِرُّ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ يَعُودُ مُسْلِمًا , وَقَدْ تَقَعُ مِنْهُ مُنْفَرِدًا , أَوْ فِي جَمَاعَةٍ , أَوْ أَهْلِ بَلَدٍ . وَمِثْلُ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْمُرْتَدِّ . جِنَايَةُ الْمُرْتَدِّ عَلَى النَّفْسِ : 23 - إذَا قَتَلَ مُرْتَدٌّ مُسْلِمًا عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ , اتِّفَاقًا . أَمَّا إذَا قَتَلَ الْمُرْتَدُّ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا فَيُقْتَلُ بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّهُ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الذِّمِّيِّ , إذْ الْمُرْتَدُّ مُهْدَرُ الدَّمِ وَلَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ , وَلَا مُنَاكَحَتُهُ , وَلَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ . وَلَا يُقْتَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ لِبَقَاءِ عَلَقَةِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى رِدَّتِهِ . وَإِذَا قَتَلَ الْمُرْتَدُّ حُرًّا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا خَطَأً وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ , وَلَا تَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَالدِّيَةُ يُشْتَرَطُ لَهَا عِصْمَةُ الدَّمِ لَا الْإِسْلَامُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ; لِأَنَّهُ قَدْ حَلَّ دَمُهُ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : بِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ; لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ يَأْخُذُ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ مِمَّنْ جَنَى فَكَمَا يَأْخُذُ مَالَهُ يَغْرَمُ عَنْهُ . وَهَذَا إنْ لَمْ يَتُبْ . فَإِنْ تَابَ فَقِيلَ : فِي مَالِهِ , وَقِيلَ : عَلَى عَاقِلَتِهِ , وَقِيلَ : عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَقِيلَ : عَلَى مَنْ ارْتَدَّ إلَيْهِمْ .
جِنَايَةُ الْمُرْتَدِّ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ :
24 - قَالَ الْمَالِكِيَّةُ : لَا فَرْقَ فِي جِنَايَةِ الْمُرْتَدِّ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى مَا دُونَهَا , وَلَا يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالذِّمِّيِّ , وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِزِيَادَتِهِ عَلَى الذِّمِّيِّ بِالْإِسْلَامِ الْحُكْمِيِّ . وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ . وَإِنْ قَطَعَ طَرَفًا مِنْ أَحَدِهِمَا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِيهِ أَيْضًا . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : لَا يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالذِّمِّيِّ وَلَا يُقْطَعُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ ; لِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ بَاقِيَةٌ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِ وَمُطَالَبَتِهِ بِالْإِسْلَامِ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : وَلَنَا : أَنَّهُ كَافِرٌ فَيُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ كَالْأَصْلِيِّ . وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ : الْأَظْهَرُ قَتْلُ الْمُرْتَدِّ بِالذِّمِّيِّ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْكُفْرِ . بَلْ الْمُرْتَدُّ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فَأَوْلَى أَنْ يُقْتَلَ بِالذِّمِّيِّ .
زِنَى الْمُرْتَدِّ :
25 - إذَا زَنَى مُرْتَدٌّ أَوْ مُرْتَدَّةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا جُلِدَ . وَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا فَفِي زَوَالِ الْإِحْصَانِ بِرِدَّتِهِ خِلَافٌ . أَسَاسُهُ الْخِلَافُ فِي شُرُوطِ الْإِحْصَانِ , هَلْ مِنْ بَيْنِهَا الْإِسْلَامُ أَمْ لَا ؟ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ : مَنْ ارْتَدَّ بَطَلَ إحْصَانُهُ , إلَّا أَنْ يَتُوبَ أَوْ يَتَزَوَّجَ ثَانِيَةً . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ : إنَّ الرِّدَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْإِحْصَانِ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ مِنْ شُرُوطِ الْإِحْصَانِ .
قَذْفُ الْمُرْتَدِّ غَيْرَهُ :
26 - إذَا قَذَفَ الْمُرْتَدُّ غَيْرَهُ , وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِشُرُوطِهِ , إلَّا أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ , حَيْثُ لَا سُلْطَةَ لِلْمُسْلِمِينَ . وَالْقَضِيَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى شَرَائِطِ الْقَذْفِ , وَلَيْسَ مِنْ بَيْنِهَا إسْلَامُ الْقَاذِفِ .
( إتْلَافُ الْمُرْتَدِّ الْمَالَ ) :
27 - إذَا اعْتَدَى مُرْتَدٌّ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ - فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ - فَهُوَ ضَامِنٌ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ جِنَايَةٌ , وَهِيَ لَا تَمْنَحُ صَاحِبَهَا حَقَّ الِاعْتِدَاءِ .
( السَّرِقَةُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ ) :(2/399)
28 - إذَا سَرَقَ الْمُرْتَدُّ مَالًا , أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ , فَهُوَ كَغَيْرِهِ مُؤَاخَذٌ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ السَّرِقَةِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ الْإِسْلَامُ . لِذَا فَالْمُسْلِمُ وَالْمُرْتَدُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ .
مَسْئُولِيَّةُ الْمُرْتَدِّ عَنْ جِنَايَاتِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ :
29 - إذَا جَنَى مُسْلِمٌ عَلَى غَيْرِهِ , ثُمَّ ارْتَدَّ الْجَانِي يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِكُلِّ مَا فَعَلَ سَوَاءٌ اسْتَمَرَّ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ تَابَ عَنْهَا .
الِارْتِدَادُ الْجَمَاعِيُّ :
30 - الْمَقْصُودُ بِالِارْتِدَادِ الْجَمَاعِيِّ : هُوَ أَنْ تُفَارِقَ الْإِسْلَامَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهِ , أَوْ أَهْلِ بَلَدٍ . كَمَا حَدَثَ عَلَى عَهْدِ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه . فَإِنْ حَصَلَ ذَلِكَ , فَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِهِمْ مُسْتَدِلِّينَ بِمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ بِأَهْلِ الرِّدَّةِ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِمَصِيرِ دَارِهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ : الْأَوَّلِ لِلْجُمْهُورِ ( الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ ) : إذَا أَظْهَرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ فِيهَا , فَقَدْ صَارَتْ دَارُهُمْ دَارَ حَرْبٍ ; لِأَنَّ الْبُقْعَةَ إنَّمَا تُنْسَبُ إلَيْنَا , أَوْ إلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالْغَلَبَةِ . فَكُلُّ مَوْضِعٍ ظَهَرَ فِيهِ أَحْكَامُ الشِّرْكِ فَهُوَ دَارُ حَرْبٍ , وَكُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ الظَّاهِرُ فِيهِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ , فَهُوَ دَارُ إسْلَامٍ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه إنَّمَا تَصِيرُ دَارُ الْمُرْتَدِّينَ دَارَ حَرْبٍ بِثَلَاثِ شَرَائِطَ : أَوَّلًا : أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً أَرْضَ الشِّرْكِ , لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَرْضِ الْحَرْبِ دَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ . ثَانِيًا : أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ آمِنٌ بِإِيمَانِهِ , وَلَا ذِمِّيٌّ آمِنٌ بِأَمَانِهِ . ثَالِثًا : أَنْ يُظْهِرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ فِيهَا . ( فَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ تَمَامَ الْقَهْرِ وَالْقُوَّةِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْبَلْدَةَ كَانَتْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ , مُحْرَزَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الْإِحْرَازُ , إلَّا بِتَمَامِ الْقَهْرِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ , وَذَلِكَ بِاسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ الثَّلَاثِ ) .
الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ :
31 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا ارْتَدَّ مُسْلِمٌ فَقَدْ أُهْدِرَ دَمُهُ , لَكِنْ قَتْلُهُ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ , وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عُزِّرَ فَقَطْ ; لِأَنَّهُ افْتَاتَ عَلَى حَقِّ الْإِمَامِ ; لِأَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ لَهُ . وَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ ذِمِّيٌّ , فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ ) إلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْ الذِّمِّيِّ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ إلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْ الذِّمِّيِّ .
الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ :
32 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْمُرْتَدِّ هَدَرٌ ; لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لَهُ . أَمَّا إذَا وَقَعَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى مُسْلِمٍ ثُمَّ ارْتَدَّ فَسَرَتْ وَمَاتَ مِنْهَا , أَوْ وَقَعَتْ عَلَى مُرْتَدٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَسَرَتْ وَمَاتَ مِنْهَا فَفِيهَا أَقْوَالٌ تُنْظَرُ فِي بَابِ " الْقِصَاصِ " مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ .
قَذْفُ الْمُرْتَدِّ :
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِ الْمُرْتَدِّ , لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ : أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ مُسْلِمًا . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( قَذْفٌ )
ثُبُوتُ الرِّدَّةِ :
34 - تَثْبُتُ الرِّدَّةُ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالشَّهَادَةِ . وَتَثْبُتُ الرِّدَّةُ عَنْ طَرِيقِ الشَّهَادَةِ , بِشَرْطَيْنِ : أ - شَرْطِ الْعَدَدِ : اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِشَاهِدَيْنِ فِي ثُبُوتِ الرِّدَّةِ , وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إلَّا الْحَسَنُ , فَإِنَّهُ اشْتَرَطَ شَهَادَةَ أَرْبَعَةٍ . ب - تَفْصِيلِ الشَّهَادَةِ : يَجِبُ التَّفْصِيلُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الرِّدَّةِ بِأَنْ يُبَيِّنَ الشُّهُودُ وَجْهَ كُفْرِهِ , نَظَرًا لِلْخِلَافِ فِي مُوجِبَاتِهَا , وَحِفَاظًا عَلَى الْأَرْوَاحِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( إثْبَاتٌ , وَشَهَادَةٌ ) . وَإِذَا ثَبَتَتْ الرِّدَّةُ بِالْإِقْرَارِ وَبِالشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ , فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَإِنْ أَنْكَرَ الْمُرْتَدُّ مَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ اُعْتُبِرَ إنْكَارُهُ تَوْبَةً وَرُجُوعًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيَمْتَنِعُ الْقَتْلُ فِي حَقِّهِ . وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ : يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ وَلَا يَنْفَعُهُ إنْكَارُهُ , بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا .
اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ حُكْمُهَا :(2/400)
35 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ - فِي قَوْلٍ - وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إلَى أَنَّ اسْتِتَابَةَ الْمُرْتَدِّ غَيْرُ وَاجِبَةٍ . بَلْ مُسْتَحَبَّةٌ كَمَا يُسْتَحَبُّ الْإِمْهَالُ , إنْ طَلَبَ الْمُرْتَدُّ ذَلِكَ , فَيُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ . وَعِنْدَ مَالِكٍ تَجِبُ الِاسْتِتَابَةُ وَيُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ . وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ يَجِبُ الِاسْتِتَابَةُ وَتَكُونُ فِي الْحَالِ فَلَا يُمْهَلُ . وَثَبَتَتْ الِاسْتِتَابَةُ بِمَا وَرَدَ { أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ رُومَانَ ارْتَدَّتْ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ } . وَلِأَثَرٍ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ اسْتَتَابَ الْمُرْتَدَّ ثَلَاثًا .
كَيْفِيَّةُ تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ :
36 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : تَوِيَةُ الْمُرْتَدِّ أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنْ الْأَدْيَانِ سِوَى الْإِسْلَامِ , أَوْ عَمَّا انْتَقَلَ إلَيْهِ بَعْدَ نُطْقِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ , وَلَوْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ أَوْ بِدُونِ التَّبَرِّي لَمْ يَنْفَعْهُ مَا لَمْ يَرْجِعْ عَمَّا قَالَ إذْ لَا يَرْتَفِعُ بِهِمَا كُفْرُهُ . قَالُوا : إنْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى مُسْلِمٍ بِالرِّدَّةِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ لَا لِتَكْذِيبِ الشُّهُودِ , بَلْ لِأَنَّ إنْكَارَهُ تَوْبَةٌ وَرُجُوعٌ , فَيَمْتَنِعُ الْقَتْلُ فَقَطْ وَتَثْبُتُ بَقِيَّةُ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ . قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْكَارُ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ . وَإِذَا نَطَقَ الْمُرْتَدُّ بِالشَّهَادَتَيْنِ : صَحَّتْ تَوْبَتُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَالشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ , لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , فَمَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ } . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَحَيْثُ إنَّ الشَّهَادَةَ يَثْبُتُ بِهَا إسْلَامُ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فَكَذَا الْمُرْتَدُّ . فَإِذَا ادَّعَى الْمُرْتَدُّ الْإِسْلَامَ , وَرَفَضَ النُّطْقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ , لَا تَصِحُّ تَوْبَتُهُ . وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إنْ مَاتَ , فَأَقَامَ وَارِثُهُ بَيِّنَةً أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ الرِّدَّةِ : حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ . وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَحْصُلُ تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ بِصَلَاتِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : لَا بُدَّ فِي إسْلَامِ الْمُرْتَدِّ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ كُفْرُهُ لِإِنْكَارِ شَيْءٍ آخَرَ , كَمَنْ خَصَّصَ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ بِالْعَرَبِ أَوْ جَحَدَ فَرْضًا أَوْ تَحْرِيمًا فَيَلْزَمُهُ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ الْإِقْرَارُ بِمَا أَنْكَرَ . قَالَ الْحَنَابِلَةُ : وَلَوْ صَلَّى الْمُرْتَدُّ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ رِدَّتُهُ بِجَحْدِ فَرِيضَةٍ , أَوْ كِتَابٍ , أَوْ نَبِيٍّ , أَوْ مَلَكٍ , أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُكَفِّرَةِ الَّتِي يَنْتَسِبُ أَهْلُهَا إلَى الْإِسْلَامِ , فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِمُجَرَّدِ صَلَاتِهِ ; لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَيَفْعَلُهَا مَعَ كُفْرِهِ . وَأَمَّا لَوْ زَكَّى أَوْ صَامَ فَلَا يَكْفِي ذَلِكَ لِلْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ , لِأَنَّ الْكُفَّارَ يَتَصَدَّقُونَ , وَالصَّوْمُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُعْلَمُ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ , وَتَوْبَةِ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ , وَتَوْبَةُ السَّاحِرِ عَلَى أَقْوَالٍ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ : ( تَوْبَةٌ ) .
تَوْبَةُ سَابِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم :
37 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِقَبُولِ تَوْبَةِ سَابِّ اللَّهِ تَعَالَى . وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ , مَعَ ضَرُورَةِ تَأْدِيبِ السَّابِّ وَعَدَمِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُ ثَلَاثًا . وَفِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ خِلَافٌ , الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ قَبُولُ تَوْبَتِهِ , وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ . أَمَّا سَابُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ , وَالْحَنَابِلَةُ إلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : تُقْبَلُ تَوْبَةُ قَاذِفِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَصَحِّ , وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ : يُقْتَلُ حَدًّا وَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ , وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ : يُجْلَدُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ ارْتَفَعَتْ بِإِسْلَامِهِ وَبَقِيَ جَلْدُهُ . وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : مَنْ شَتَمَ نَبِيًّا مُجْمَعًا عَلَى نُبُوَّتِهِ بِقُرْآنٍ أَوْ نَحْوِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ ; لِأَنَّ كُفْرَهُ يُشْبِهُ كُفْرَ الزِّنْدِيقِ , وَيُقْتَلُ حَدًّا لَا كُفْرًا إنْ قُتِلَ بَعْدَ تَوْبَتِهِ لِأَنَّ قَتْلَهُ حِينَئِذٍ لِأَجْلِ ازْدِرَائِهِ لَا لِأَجْلِ كُفْرِهِ .
تَوْبَةُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ :(2/401)
38 - مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ وَتَوْبَتُهُ قَالَ الْأَحْنَافُ وَالشَّافِعِيَّةُ : تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ . لقوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ , فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } . وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : تَوْبَةُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ لَا تُقْبَلُ . وَحُجَّتُهُمْ قوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا } وَلِأَنَّ تَكْرَارَ الرِّدَّةِ , دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ الْعَقِيدَةِ , وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ .
تَوْبَةُ السَّاحِرِ :
39 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ : بِعَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ السَّاحِرِ , وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ ( وَانْظُرْ مُصْطَلَحَيْ : تَوْبَةٌ , وَسِحْرٌ ) .
قَتْلُ الْمُرْتَدِّ :
40 - إذَا ارْتَدَّ مُسْلِمٌ , وَكَانَ مُسْتَوْفِيًا لِشَرَائِطِ الرِّدَّةِ , أُهْدِرَ دَمُهُ , وَقَتْلُهُ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ . فَلَوْ قُتِلَ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ فَقَاتِلُهُ مُسِيءٌ , وَلَا يَجِبُ بِقَتْلِهِ شَيْءٌ غَيْرَ التَّعْزِيرُ , إلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولًا لِلْكُفَّارِ فَلَا يُقْتَلُ ; لِأَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْتُلْ رُسُلَ مُسَيْلِمَةَ } . فَإِذَا قُتِلَ الْمُرْتَدُّ عَلَى رِدَّتِهِ , فَلَا يُغَسَّلُ , وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ , وَلَا يُدْفَنُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ . وَدَلِيلُ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَحَدِيثُ : { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : النَّفْسِ بِالنَّفْسِ , وَالثَّيِّبِ الزَّانِي وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ } . أَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَهِيَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ كَالْمُرْتَدِّ , لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } , وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ { أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ رُومَانَ ارْتَدَّتْ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ } . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ , بَلْ تُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ أَوْ تَمُوتَ , { لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ الْكَافِرَةِ الَّتِي لَا تُقَاتِلُ أَوْ تُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ } , فَتُقَاسُ الْمُرْتَدَّةُ عَلَيْهِمَا .
أَثَرُ الرِّدَّةِ عَلَى مَالِ الْمُرْتَدِّ وَتَصَرُّفَاتِهِ : دُيُونُ الْمُرْتَدِّ :(2/402)
41 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ اُبْتُدِئَ مِنْ تَرِكَتِهِ بِتَسْدِيدِ دُيُونِهِ . لَكِنْ هَلْ يُسَدَّدُ مِنْ كَسْبِهِ فِي الْإِسْلَامِ ؟ أَمْ مِنْ كَسْبِهِ فِي الرِّدَّةِ ؟ أَمْ مِنْهُمَا مَعًا ؟ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مَصِيرِ أَمْوَالِ الْمُرْتَدِّ وَتَصَرُّفَاتِهِ , وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ السَّرَخْسِيُّ : اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ , فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنْ تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ , فَإِنْ لَمْ يَفِ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ حَقُّ وَرَثَتِهِ , وَلَا حَقَّ لِوَرَثَتِهِ فِي كَسْبِ رِدَّتِهِ , بَلْ هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ , فَلِهَذَا كَانَ فَيْئًا إذَا قُتِلَ , فَكَانَ وَفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ أَوْلَى , وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكَسْبِ الْإِسْلَامِ فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ , فَإِنْ لَمْ تَفِ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ ; لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ مِلْكِ الْمَدْيُونِ . . فَأَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ , فَلَا يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْهُ , إلَّا إذَا تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ . وَرَوَى زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ دُيُونَ إسْلَامِهِ تُقْضَى مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ , وَمَا اسْتَدَانَ فِي الرِّدَّةِ يُقْضَى مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ ; لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْكَسْبَيْنِ مُخْتَلِفٌ , وَحُصُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَسْبَيْنِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الدَّيْنُ , فَيُقْضَى كُلُّ دَيْنٍ مِنْ الْكَسْبِ الْمُكْتَسَبِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ; لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِمُقَابَلَةِ الْغُنْمِ , وَبِهِ قَالَ زُفَرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اكْتَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ , كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِيهِ ; لِأَنَّهُ كَسْبُهُ فَيَكُونُ مَصْرُوفًا إلَى دَيْنِهِ , كَكَسْبِ الْمُكَاتَبِ . 42 - وَإِذَا أَقَرَّ الْمُرْتَدُّ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : إنْ أَسْلَمَ جَازَ , أَمَّا إنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ , فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ إلَّا عَلَى مَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ رِدَّتِهِ . أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَيَرَى أَنَّ إقْرَارَهُ كُلَّهُ جَائِزٌ إنْ قُتِلَ مُرْتَدًّا , أَوْ تَابَ , وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ , فَإِنَّ إقْرَارَهُ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ , يُبْتَدَأُ أَوَّلًا بِدَيْنِ الْإِسْلَامِ , فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ كَانَ لِأَصْحَابِ دُيُونِ الرِّدَّةِ ; لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا أُهْدِرَ دَمُهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى اعْتِبَارِ إقْرَارِ الْمُرْتَدِّ عَمَّا قَبْلَ الرِّدَّةِ وَخِلَالِهَا , مَا لَمْ يُوقَفْ تَصَرُّفُهُ , فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَقَرَّ بِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ لِأَحَدٍ , قَالَ : وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ الدَّيْنُ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ , وَلَا بِإِقْرَارٍ مِنْهُ مُتَقَدِّمٍ لِلرِّدَّةِ , وَلَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِإِقْرَارٍ مِنْهُ فِي الرِّدَّةِ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ عَلَيْهِ وَمَا دَانَ فِي الرِّدَّةِ , قَبْلَ وَقْفِ مَالِهِ لَزِمَهُ , وَمَا دَانَ بَعْدَ وَقْفِ مَالِهِ , فَإِنْ كَانَ مِنْ بَيْعٍ رُدَّ الْبَيْعُ , وَإِنْ كَانَ مِنْ سَلَفٍ وُقِفَ , فَإِنْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ بَطَلَ , وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ لَزِمَهُ .
أَمْوَالُ الْمُرْتَدِّ وَتَصَرُّفَاتُهُ :(2/403)
43 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ , وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ لَا يَزُولُ عَنْ مَالِهِ بِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ , وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى مَالِهِ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ زَالَ مِلْكُهُ وَصَارَ فَيْئًا , وَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ عَادَ إلَيْهِ مَالُهُ ; لِأَنَّ زَوَالَ الْعِصْمَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ زَوَالُ الْمِلْكِ ; وَلِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ . وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ وَيُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ , وَلَوْ تَصَرَّفَ تَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ مَوْقُوفَةً فَإِنْ أَسْلَمَ جَازَ تَصَرُّفُهُ , وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ بَطَلَ تَصَرُّفُهُ وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا : إنْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ كَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْوَصِيَّةِ كَانَ تَصَرُّفُهُ مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ حَالُهُ , أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَكُونُ مُنَجَّزَةً وَلَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ بِنَاءً عَلَى بُطْلَانِ وَقْفِ الْعُقُودِ , وَهَذَا فِي الْجَدِيدِ , وَفِي الْقَدِيمِ تَكُونُ مَوْقُوفَةً أَيْضًا كَغَيْرِهَا . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : لَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِرِدَّتِهِ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ حَالَةَ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَأَهْلِيَّتِهِ وَهِيَ الْحُرِّيَّةُ , وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي الْمِلْكَ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ , وَبِنَاءً عَلَى هَذَا تَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ جَائِزَةً كَمَا تَجُوزُ مِنْ الْمُسْلِمِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ , أَوْ دَبَّرَ , أَوْ كَاتَبَ , أَوْ بَاعَ , أَوْ اشْتَرَى , أَوْ وَهَبَ نَفَذَ ذَلِكَ كُلُّهُ , إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ : يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الصَّحِيحِ , أَمَّا مُحَمَّدٌ فَقَالَ : يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ ; لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ مُشْرِفٌ عَلَى التَّلَفِ ; لِأَنَّهُ يُقْتَلُ فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ . وَقَدْ أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ اسْتِيلَادَ الْمُرْتَدِّ وَطَلَاقَهُ وَتَسْلِيمَهُ الشُّفْعَةَ صَحِيحٌ وَنَافِذٌ ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَصَحَّحَهُ أَبُو إسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ بِرِدَّتِهِ لِزَوَالِ الْعِصْمَةِ بِرِدَّتِهِ فَمَا لَهُ أَوْلَى , وَلِمَا رَوَى طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ لِوَفْدِ بِزَاخَّةِ وَغَطَفَانَ : نَغْنَمُ مَا أَصَبْنَا مِنْكُمْ وَتَرُدُّونَ إلَيْنَا مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا ; وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَلَكُوا دَمَهُ بِالرِّدَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكُوا مَالَهُ . وَعَلَى هَذَا فَلَا تَصَرُّفَ لَهُ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ . وَمَا سَبَقَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْتَدِّ الذَّكَرِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْتَدَّةِ الْأُنْثَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَدَّةِ الْأُنْثَى عَنْ أَمْوَالِهَا بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ فَتَجُوزُ تَصَرُّفَاتُهَا ; لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ فَلَمْ تَكُنْ رِدَّتُهَا سَبَبًا لِزَوَالِ مِلْكِهَا عَنْ أَمْوَالِهَا .
أَثَرُ الرِّدَّةِ عَلَى الزَّوَاجِ :(2/404)
44 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ حِيلَ بَيْنَهُمَا فَلَا يَقْرَبُهَا بِخَلْوَةٍ وَلَا جِمَاعٍ وَلَا نَحْوِهِمَا . ثُمَّ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً , دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُنَافِي النِّكَاحَ وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا عَاجِلًا لَا طَلَاقًا وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءٍ . ثُمَّ إنْ كَانَتْ الرِّدَّةُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَكَانَ الْمُرْتَدُّ هُوَ الزَّوْجَ فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى أَوْ الْمُتْعَةُ , وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةَ فَلَا شَيْءَ لَهَا . وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا الْمَهْرُ كُلُّهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُرْتَدُّ الزَّوْجَ أَوْ الزَّوْجَةَ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ : إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ كَانَ ذَلِكَ طَلْقَةً بَائِنَةً , فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ تَرْجِعْ لَهُ إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ , مَا لَمْ تَقْصِدْ الْمَرْأَةُ بِرِدَّتِهَا فَسْخَ النِّكَاحِ , فَلَا يَنْفَسِخُ ; مُعَامَلَةً لَهَا بِنَقِيضِ قَصْدِهَا . وَقِيلَ : إنَّ الرِّدَّةَ فَسْخٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّةُ الزَّوْجَةِ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ وَيَرْجِعَ إلَى الْإِسْلَامِ , فَإِذَا انْقَضَتْ بَانَتْ مِنْهُ , وَبَيْنُونَتُهَا مِنْهُ فَسْخٌ لَا طَلَاقٌ , وَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ فَوْرًا وَتَنَصَّفَ مَهْرُهَا إنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُرْتَدَّ , وَسَقَطَ مَهْرُهَا إنْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةَ . وَلَوْ كَانَتْ الرِّدَّةُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَفِي رِوَايَةٍ تُنَجَّزُ الْفُرْقَةُ . وَفِي أُخْرَى تَتَوَقَّفُ الْفُرْقَةُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ .
حُكْمُ زَوَاجِ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ الرِّدَّةِ :
45 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا ارْتَدَّ ثُمَّ تَزَوَّجَ فَلَا يَصِحُّ زَوَاجُهُ ; لِأَنَّهُ لَا مِلَّةَ لَهُ , فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُسْلِمَةً , وَلَا كَافِرَةً , وَلَا مُرْتَدَّةً .
مَصِيرُ أَوْلَادِ الْمُرْتَدِّ :
46 - مَنْ حُمِلَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُسْلِمٌ , وَكَذَا مَنْ حُمِلَ بِهِ فِي حَالِ رِدَّةِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ وَالْآخَرُ مُسْلِمٌ , قَالَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ ; لِأَنَّ بِدَايَةَ الْحَمْلِ كَانَ لِمُسْلِمَيْنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَإِنْ وُلِدَ خِلَالَ الرِّدَّةِ . لَكِنْ مَنْ كَانَ حَمْلُهُ خِلَالَ رِدَّةِ أَبَوَيْهِ كِلَيْهِمَا , فَفِيهِ خِلَافٌ , فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ , وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , إلَى أَنَّهُ يَكُونُ مُرْتَدًّا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ فَيُسْتَتَابُ إذَا بَلَغَ . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ بِالْجِزْيَةِ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ , وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَا لَوْ كَانَ فِي أُصُولِ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا تَبَعًا لَهُ , وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا مَا لَوْ أَدْرَكَ وَلَدُ الْمُرْتَدِّ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ .
إرْثُ الْمُرْتَدِّ :
47 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ إذَا قُتِلَ , أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أ - أَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ يَكُونُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ , وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ . ب - أَنَّهُ يَكُونُ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , سَوَاءٌ اكْتَسَبَهُ فِي إسْلَامِهِ أَوْ رِدَّتِهِ , وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . ج - أَنَّ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ إسْلَامِهِ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَمَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ لِبَيْتِ الْمَالِ , وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ لِانْقِطَاعِ الصِّلَةِ بِالرِّدَّةِ . كَمَا لَا يَرِثُ كَافِرًا ; لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى الدِّينِ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ . وَلَا يَرِثُ مُرْتَدٌّ مِثْلَهُ . وَوَصِيَّةُ الْمُرْتَدِّ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا مِنْ الْقُرَبِ وَهِيَ تَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ .
أَثَرُ الرِّدَّةِ فِي إحْبَاطِ الْعَمَلِ :(2/405)
48 - قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } قَالَ الْأَلُوسِيُّ تَبَعًا لِلرَّازِيِّ : إنَّ مَعْنَى الْحُبُوطِ هُوَ الْفَسَادُ . وَقَالَ النَّيْسَابُورِيُّ : إنَّهُ أَتَى بِعَمَلٍ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ , بَلْ فِيهِ مَضَرَّةٌ , أَوْ أَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ أَعْمَالَهُ السَّابِقَةَ لَمْ يَكُنْ مُعْتَدًّا بِهَا شَرْعًا . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : بِأَنَّ الْحُبُوطَ يَكُونُ بِإِبْطَالِ الثَّوَابِ , دُونَ الْفِعْلِ . وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الرِّدَّةِ يُوجِبُ الْحَبْطَ , مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ . . . } أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا : بِأَنَّ الْوَفَاةَ عَلَى الرِّدَّةِ شَرْطٌ فِي حُبُوطِ الْعَمَلِ , أَخْذًا مِنْ قوله تعالى :
{ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } فَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُحْبَطُ ثَوَابُ الْعَمَلِ فَقَطْ , وَلَا يُطَالَبُ الْإِعَادَةُ إذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ وَمَاتَ عَلَيْهِ .
أَثَرُ الرِّدَّةِ عَلَى الْعِبَادَاتِ تَأْثِيرُ الرِّدَّةِ عَلَى الْحَجِّ :
49 - يَجِبُ عَلَى مَنْ ارْتَدَّ وَتَابَ أَنْ يُعِيدَ حَجَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَالْمَالِكِيَّةِ , وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ ارْتَدَّ ثُمَّ تَابَ أَنْ يُعِيدَ حَجَّهُ . أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ , بَلْ يُجْزِئُ الْحَجُّ الَّذِي فَعَلَهُ قَبْلَ رِدَّتِهِ .
تَأْثِيرُ الرِّدَّةِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ :
50 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ الَّتِي تَرَكَهَا أَثْنَاءَ رِدَّتِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا , وَإِيمَانُهُ يَجُبُّهَا . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ . وَنُقِلَ عَنْ الْحَنَابِلَةِ الْقَضَاءُ وَعَدَمُهُ . وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ . فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُرْتَدِّ الَّذِي تَابَ صَلَاةٌ فَائِتَةٌ , قَبْلَ رِدَّتِهِ أَوْ صَوْمٌ أَوْ زَكَاةٌ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ؟ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ ; لِأَنَّ تَرْكَ الْعِبَادَةِ مَعْصِيَةٌ , وَالْمَعْصِيَةُ تَبْقَى بَعْدَ الرِّدَّةِ . وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ , وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ , وَهُوَ بِتَوْبَتِهِ أَسْقَطَ مَا قَبْلَ الرِّدَّةِ .
51 - تَأْثِيرُ الرِّدَّةِ عَلَى الْوُضُوءِ :
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْوُضُوءَ يُنْتَقَضُ بِالرِّدَّةِ , وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَنَفِيَّةُ وَلَا الشَّافِعِيَّةُ الرِّدَّةَ مِنْ بَيْنِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ .
ذَبَائِحُ الْمُرْتَدِّ :
52 - ذَبِيحَةُ الْمُرْتَدِّ لَا يَجُوزُ أَكْلُهَا ; لِأَنَّهُ لَا مِلَّةَ لَهُ , وَلَا يُقَرُّ عَلَى دِينٍ انْتَقَلَ إلَيْهِ , حَتَّى وَلَوْ كَانَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ . إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ , وَإِسْحَاقَ , مِنْ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إنْ تَدَيَّنَ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَلَّتْ ذَبِيحَتُهُ .
=================
رِزْقٌ(1)
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7797)(2/406)
1 - الرِّزْقُ لُغَةً الْعَطَاءُ دُنْيَوِيًّا كَانَ أَمْ أُخْرَوِيًّا , وَالرِّزْقُ أَيْضًا مَا يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ وَيَتَغَذَّى بِهِ , يُقَالُ : أَعْطَى السُّلْطَانُ رِزْقَ الْجُنْدِ , وَرُزِقْت عِلْمًا قَالَ الْجُرْجَانِيِّ : الرِّزْقُ اسْمٌ لِمَا يَسُوقُهُ اللَّهُ إلَى الْحَيَوَانِ فَيَأْكُلُهُ , فَيَكُونُ مُتَنَاوِلًا لِلْحَلَالِ وَالْحَرَامِ . وَالرِّزْقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ : مَا يُفْرَضُ فِي بَيْتِ الْمَالِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْكِفَايَةِ مُشَاهَرَةً أَوْ مُيَاوَمَةً . وَقِيلَ : الرِّزْقُ هُوَ مَا يُجْعَلُ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُقَاتِلِينَ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الْعَطَاءُ : 2 - الْعَطَاءُ لُغَةً اسْمٌ لِمَا يُعْطَى , وَالْجَمْعُ أَعْطِيَةٌ , وَجَمْعُ الْجَمْعِ أُعْطِيَاتٌ . وَالْعَطَاءُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ مَا يُفْرَضُ فِي كُلِّ سَنَةٍ لَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ بَلْ بِصَبْرِ الْمُعْطَى لَهُ وَغِنَائِهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ . وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّزْقِ وَالْعَطِيَّةِ أَنَّ الْعَطِيَّةَ مَا يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِلِ , وَالرِّزْقَ مَا يُجْعَلُ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُقَاتِلِينَ . وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ الْأَتْقَانِيِّ أَنَّهُ نَظَرَ فِي هَذَا الْفَرْقِ . وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ : الْعَطَاءُ لِكُلِّ سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ , وَالرِّزْقُ يَوْمًا بِيَوْمٍ . وَالْفُقَهَاءُ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الرِّزْقِ وَالْعَطَاءِ فِي غَالِبِ اسْتِعْمَالَاتهمْ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى : وَأَمَّا تَقْدِيرُ الْعَطَاءِ فَمُعْتَبَرٌ بِالْكِفَايَةِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ بِهَا . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : يَصْرِفُ ( الْإِمَامُ ) قَدْرَ حَاجَتِهِمْ - يَعْنِي أَهْلَ الْعَطَاءِ - وَكِفَايَتِهِمْ . قَالَ النَّوَوِيُّ : يُفَرِّقُ ( الْإِمَامُ ) الْأَرْزَاقَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً وَيَجْعَلُ لَهُ وَقْتًا مَعْلُومًا لَا يَخْتَلِفُ , وَإِذَا رَأَى مَصْلَحَةً أَنْ يُفَرِّقَ مُشَاهَرَةً وَنَحْوَهَا فَعَلَ . كَمَا أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُطْلِقُونَ الرِّزْقَ عَلَى مَا يُفْرَضُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِلْمُقَاتِلَةِ وَلِغَيْرِهِمْ , كَالْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ . أَخْذُ الرِّزْقِ لِلْإِعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ : 3 - يَجُوزُ أَخْذُ الرِّزْقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى مَا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ إلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمَصَالِحِ , كَالْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا وَالْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَتَدْرِيسِ الْعِلْمِ النَّافِعِ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ , وَتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا . كَمَا يَدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقَ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ . قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : أَمَّا مَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَيْسَ عِوَضًا وَأُجْرَةً بَلْ رِزْقٌ لِلْإِعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ , وَأَخْذُ الرِّزْقِ عَلَى الْعَمَلِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْبَةً وَلَا يَقْدَحُ فِي الْإِخْلَاصِ ; لِأَنَّهُ لَوْ قَدَحَ مَا اُسْتُحِقَّتْ الْغَنَائِمُ وَسَلَبُ الْقَاتِلِ . وَلِلتَّفْصِيلِ ر : ( بَيْتُ الْمَالِ ف 12 ج 8 ص 251 ) .
==============
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الْأَحْكَامِ الْمُتَّصِلَةِ بِالرِّزْقِ :(1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7798)(2/407)
4 - أ - قَالَ الْقَرَافِيُّ : إنَّ الْأَرْزَاقَ الَّتِي تُطْلَقُ لِلْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْوُلَاةِ يَجُوزُ فِيهَا الدَّفْعُ وَالْقَطْعُ وَالتَّقْلِيلُ وَالتَّكْثِيرُ وَالتَّغْيِيرُ ; لِأَنَّ الْأَرْزَاقَ مِنْ بَابِ الْمَعْرُوفِ وَتُصْرَفُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ , وَقَدْ تَعْرِضُ مَصْلَحَةٌ أَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِمَامِ الصَّرْفُ فِيهَا . فَقَدْ كَتَبَ أَبُو يُوسُفَ فِي رِسَالَتِهِ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدِ : مَا يَجْرِي عَلَى الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جِبَايَةِ الْأَرْضِ أَوْ مِنْ خَرَاجِ الْأَرْضِ وَالْجِزْيَةِ لِأَنَّهُمْ فِي عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ فَيَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ وَيَجْرِي عَلَى كُلِّ وَالِي مَدِينَةٍ وَقَاضِيهَا بِقَدْرِ مَا يَحْتَمِلُ , وَكُلُّ رَجُلٍ تُصَيِّرُهُ فِي عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ فَأَجْرِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ وَلَا تَجْرِ عَلَى الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ شَيْئًا إلَّا وَالِيَ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ يُجْرَى عَلَيْهِ مِنْهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي أَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْوُلَاةِ وَالنُّقْصَانِ مِمَّا يَجْرِي عَلَيْهِمْ فَذَلِكَ إلَيْك , مَنْ رَأَيْت أَنْ تَزِيدَهُ فِي رِزْقِهِ مِنْهُمْ زِدْت , وَمَنْ رَأَيْت أَنْ تَحُطَّ رِزْقَهُ حَطَطْت , أَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُوَسَّعًا عَلَيْك . 5 - ب - قَالَ الْقَرَافِيُّ : أَرْزَاقُ الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ يَجُوزُ أَنْ تُنْقَلَ عَنْ جِهَاتِهَا إذَا تَعَطَّلَتْ أَوْ وُجِدَتْ جِهَةٌ هِيَ أَوْلَى بِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْجِهَةِ الْأُولَى ; لِأَنَّ الْأَرْزَاقَ مَعْرُوفٌ يَتْبَعُ الْمَصَالِحَ فَكَيْفَمَا دَارَتْ دَارَ مَعَهَا . 6 - ج - قَالَ الْقَرَافِيُّ أَيْضًا : الْإِقْطَاعَاتُ الَّتِي تُجْعَلُ لِلْأُمَرَاءِ وَالْأَجْنَادِ مِنْ الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الرِّبَاعِ هِيَ أَرْزَاقُ بَيْتِ الْمَالِ , وَلَيْسَتْ إجَارَةً لَهُمْ , لِذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا مِقْدَارٌ مِنْ الْعَمَلِ وَلَا أَجَلٌ تَنْتَهِي إلَيْهِ الْإِجَارَةُ , وَلَيْسَ الْإِقْطَاعُ مُقَدَّرًا كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا , وَكُلَّ سَنَةٍ بِكَذَا حَتَّى تَكُونَ إجَارَةً , بَلْ هُوَ إعَانَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ , وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ تَنَاوُلُهُ إلَّا بِمَا قَالَهُ الْإِمَامُ مِنْ الشَّرْطِ مِنْ التَّهَيُّؤِ لِلْحَرْبِ , وَلِقَاءِ الْأَعْدَاءِ , وَالْمُنَاضَلَةِ عَلَى الدِّينِ , وَنُصْرَةِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ , وَالِاسْتِعْدَادِ بِالسِّلَاحِ وَالْأَعْوَانِ عَلَى ذَلِكَ . فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا شَرَطَهُ الْإِمَامُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّنَاوُلُ ; لِأَنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِإِطْلَاقِ الْإِمَامِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الَّذِي أَطْلَقَهُ . 7 - د - وَقَالَ الْقَرَافِيُّ أَيْضًا : الْمَصْرُوفُ مِنْ الزَّكَاةِ لِلْمُجَاهِدِينَ لَيْسَ أُجْرَةً , بَلْ هُوَ رِزْقٌ خَاصٌّ مِنْ مَالٍ خَاصٍّ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّزْقِ الْخَاصِّ وَبَيْنَ أَصْلِ الْأَرْزَاقِ هُوَ أَنَّ أَصْلَ الْأَرْزَاقِ يَصِحُّ أَنْ يَبْقَى فِي بَيْتِ الْمَالِ , وَهَذَا يَجِبُ صَرْفُهُ إمَّا فِي جِهَةِ الْمُجَاهِدِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ ; لِأَنَّ جِهَةَ هَذَا الْمَالِ عَيَّنَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إخْرَاجُهَا فِيهَا إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ . 8 - هـ - مَا يُصْرَفُ مِنْ جِهَةِ الْحُكَّامِ لِقَسَّامِ الْعَقَارِ بَيْنَ الْخُصُومِ , وَلِمُتَرْجِمِ الْكُتُبِ عِنْدَ الْقُضَاةِ وَلِكَاتِبِ الْقَاضِي , وَلِأُمَنَاءِ الْقَاضِي عَلَى الْأَيْتَامِ , وَلِلْخَرَّاصِ عَلَى خَرْصِ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ مِنْ الدَّوَالِي أَوْ النَّخْلِ , وَلِسُعَاةِ الْمَوَاشِي وَالْعُمَّالِ عَلَى الزَّكَاةِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ رِزْقٌ يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَرْزَاقِ دُونَ أَحْكَامِ الْإِجَارَاتِ . 9 - و - نَقَلَ الرَّحِيبَانِيُّ عَنْ ابْنِ تَيْمِيَّةَ قَوْلَهُ : الْأَرْزَاقُ الَّتِي يُقَدِّرُهَا الْوَاقِفُونَ ثُمَّ يَتَغَيَّرُ نَقْدُ الْبَلَدِ فِيمَا بَعْدُ فَإِنَّهُ يُعْطَى الْمُسْتَحِقُّ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ مَا قِيمَتُهُ قِيمَةُ الْمَشْرُوطِ .
===============
وَظَائِفُ الْإِمَامِ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى أَهْلِ الْجِهَادِ مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ :(1)
لِلْإِمَامِ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى أَهْلِ الْجِهَادِ مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ وَظَائِفُ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7799)(2/408)
10 - إحْدَاهَا : يَضَعُ دِيوَانًا - وَهُوَ الدَّفْتَرُ الَّذِي يُثْبِتُ فِيهِ الْأَسْمَاءَ - فَيُحْصِي الْمُرْتَزِقَةَ بِأَسْمَائِهِمْ وَيَنْصِبُ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ أَوْ عَدَدٍ يَرَاهُ عَرِيفًا لِيَعْرِضَ عَلَيْهِ أَحْوَالَهُمْ وَيَجْمَعَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيُثْبِتَ فِيهِ قَدْرَ أَرْزَاقِهِمْ . 11 - الثَّانِيَةُ : يُعْطِي كُلَّ شَخْصٍ قَدْرَ حَاجَتِهِ فَيَعْرِفُ , وَعَدَدَ مَنْ فِي نَفَقَتِهِ , وَقَدْرَ نَفَقَتِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ وَسَائِرِ مُؤْنَتِهِمْ , وَيُرَاعِي الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ وَمَا يَعْرِضُ مِنْ رُخْصٍ وَغَلَاءٍ , وَحَالِ الشَّخْصِ فِي مُرُوءَتِهِ وَضِدِّهَا , وَعَادَةِ الْبَلَدِ فِي الْمَطَاعِمِ , فَيَكْفِيهِ الْمُؤْنَاتِ لِيَتَفَرَّغَ لِلْجِهَادِ فَيُعْطِيَهُ لِأَوْلَادِهِ الَّذِينَ هُمْ فِي نَفَقَتِهِ أَطْفَالًا كَانُوا أَوْ كِبَارًا , وَكُلَّمَا زَادَتْ الْحَاجَةُ بِالْكِبَرِ زَادَ فِي حِصَّتِهِ . 12 - الثَّالِثَةُ : يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِمَامُ فِي الْإِعْطَاءِ وَفِي إثْبَاتِ الِاسْمِ فِي الدِّيوَانِ قُرَيْشًا عَلَى سَائِرِ النَّاسِ . 13 - الرَّابِعَةُ : لَا يُثْبِتُ الْإِمَامُ فِي الدِّيوَانِ اسْمَ صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا امْرَأَةٍ , وَلَا ضَعِيفٍ لَا يَصْلُحُ لِلْغَزْوِ كَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ , وَإِنَّمَا هُمْ تَبَعٌ لِلْمُقَاتِلِ إذَا كَانُوا فِي عِيَالِهِ يُعْطِي لَهُمْ كَمَا سَبَقَ , وَإِنَّمَا يُثْبِتُ فِي الدِّيوَانِ الرِّجَالَ الْمُكَلَّفِينَ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْغَزْوِ . وَلَخَّصَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى شَرْطَ إثْبَاتِ الْجَيْشِ فِي الدِّيوَانِ فِي خَمْسَةِ أَوْصَافٍ وَهِيَ : الْبُلُوغُ , وَالْحُرِّيَّةُ , وَالْإِسْلَامُ , وَالسَّلَامَةُ مِنْ الْآفَاتِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْقِتَالِ , وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْإِقْدَامِ عَلَى الْحُرُوبِ . 14 - الْخَامِسَةُ : يُفَرِّقُ الْإِمَامُ الْأَرْزَاقَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً وَيَجْعَلُ لَهُ وَقْتًا مَعْلُومًا لَا يَخْتَلِفُ , وَإِذَا رَأَى مَصْلَحَةً أَنْ يُفَرِّقَ مُشَاهَرَةً وَنَحْوَهَا فَعَلَ . وَإِذَا تَأَخَّرَ الْعَطَاءُ عَنْهُمْ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِ وَكَانَ حَاصِلًا فِي بَيْتِ الْمَالِ كَانَ لَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ كَالدُّيُونِ الْمُسْتَحَقَّةِ . وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ دَفَعَ إلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تُعْطَ ذُرِّيَّتُهُ بَعْدَهُ لَمْ يُجَرِّدْ نَفْسِهِ لِلْقِتَالِ ; لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ الضَّيَاعَ , فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ يُكْفَوْنَ بَعْدَ مَوْتِهِ سَهُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ . وَإِذَا بَلَغَ ذُكُورُ أَوْلَادِهِمْ وَاخْتَارُوا أَنْ يَكُونُوا فِي الْمُقَاتِلَةِ فَرَضَ لَهُمْ الرِّزْقَ وَإِنْ لَمْ يَخْتَارُوا تُرِكُوا . وَمَنْ بَلَغَ مِنْ أَوْلَادِهِ وَهُوَ أَعْمَى أَوْ زَمِنٌ رُزِقَ كَمَا كَانَ يُرْزَقُ قَبْلَ الْبُلُوغِ , هَذَا فِي ذُكُورِ الْأَوْلَادِ أَمَّا الْإِنَاثُ فَمُقْتَضَى مَا وَرَدَ فِي " الْوَسِيطِ " أَنَّهُنَّ يُرْزَقْنَ إلَى أَنْ يَتَزَوَّجْنَ .
==============
الْقَوْلُ الضَّابِطُ فِيمَنْ يَرْعَاهُ الْإِمَامُ :(1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7801)(2/409)
15 - مَنْ يَرْعَاهُ الْإِمَامُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : صِنْفٌ مِنْهُمْ مُحْتَاجُونَ وَالْإِمَامُ يَبْغِي سَدَّ حَاجَاتِهِمْ وَهَؤُلَاءِ مُعْظَمُ مُسْتَحِقِّي الزَّكَوَاتِ فِي الْآيَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى ذِكْرِ أَصْنَافِ الْمُسْتَحِقِّينَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ . . . } الْآيَةَ . وَلِلْمَسَاكِينِ اسْتِحْقَاقٌ فِي خُمُسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ كَمَا يُفَصِّلُهُ الْفُقَهَاءُ , وَهَؤُلَاءِ صِنْفٌ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ . وَالصِّنْفُ الثَّانِي : أَقْوَامٌ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ كِفَايَتُهُمْ وَيَدْرَأُ عَنْهُمْ بِالْمَالِ الْمُوَظَّفِ لَهُمْ حَاجَتَهُمْ , وَيَتْرُكُهُمْ مَكْفِيِّينَ لِيَكُونُوا مُتَجَرِّدِينَ لِمَا هُمْ بِصَدَدِهِ مِنْ مَهَامِّ الْإِسْلَامِ وَهَؤُلَاءِ صِنْفَانِ : 16 - أَحَدُهُمَا : الْمُرْتَزِقَةُ وَهُمْ نَجْدَةُ الْمُسْلِمِينَ وَعِدَّتُهُمْ وَوَزَرُهُمْ وَشَوْكَتُهُمْ , فَيَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ إلَيْهِمْ مَا يَرُمُّ خَلَّتَهُمْ وَيَسُدُّ حَاجَتَهُمْ وَيَسْتَعْفُوا بِهِ عَنْ وُجُوهِ الْمَكَاسِبِ وَالْمَطَالِبِ , وَيَتَهَيَّئُوا لِمَا رُشِّحُوا لَهُ , وَتَكُونُ أَعْيُنُهُمْ مُمْتَدَّةً إلَى أَنْ يَنْدُبُوا فَيُخْفُوا عَلَى الْبِدَارِ , وَيَنْتَدِبُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَثَاقَلُوا وَيَتَشَاغَلُوا بِقَضَاءِ أَرَبٍ وَتَمْهِيدِ سَبَبٍ . فَقَدْ وَرَدَ عَنْ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ أَنَّهُ قَالَ : { سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلًا فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَةً , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا } . وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ } . 17 - وَالصِّنْفُ الثَّانِي : الَّذِينَ انْتَصَبُوا لِإِقَامَةِ أَرْكَانِ الدِّينِ , وَانْقَطَعُوا بِسَبَبِ اشْتِغَالِهِمْ وَاسْتِقْلَالِهِمْ بِهَا عَنْ التَّوَسُّلِ إلَى مَا يُقِيمُ أَوَدَهُمْ وَيَسُدُّ خَلَّتَهُمْ , وَلَوْلَا قِيَامُهُمْ بِمَا لَابَسُوهُ لَتَعَطَّلَتْ أَرْكَانُ الْإِيمَانِ . فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَكْفِيَهُمْ مُؤَنَهُمْ حَتَّى يَسْتَرْسِلُوا فِيمَا تَصَدَّرُوا لَهُ بِفَرَاغِ جَنَانٍ , وَتَجَرُّدِ أَذْهَانٍ , وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ وَالْقُسَّامُ وَالْمُفْتُونَ وَالْمُتَفَقِّهُونَ , وَكُلُّ مَنْ يَقُومُ بِقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ يُلْهِيهِ قِيَامُهُ بِهَا عَمَّا فِيهِ سَدَادُهُ وَقِوَامُهُ . فَأَمَّا الْمُرْتَزِقَةُ فَالْمَالُ الْمَخْصُوصُ بِهِمْ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ , وَالصِّنْفُ الثَّانِي يُدِرُّ عَلَيْهِمْ كِفَايَتَهُمْ وَأَرْزَاقَهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ ( ر : بَيْتُ الْمَالِ ) . 18 - وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ : قَوْمٌ تُصْرَفُ إلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى غِنَاهُمْ وَاسْتِظْهَارِهِمْ وَلَا يُوقَفُ اسْتِحْقَاقُهُمْ عَلَى سَدِّ حَاجَةٍ وَلَا عَلَى اسْتِيفَاءِ كِفَايَةٍ وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ , فَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ سَهْمًا مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ حَاجَةٍ وَكِفَايَةٍ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ . وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( آلٌ ف 14 ج 1 ص 105 ) ( وَخُمُسٌ , وَغَنِيمَةٌ , وَقَرَابَةٌ ) .
================
انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ :(1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8311)(2/410)
14 - مِنْ الشُّرُوطِ الْمُوجِبَةِ لِحَدِّ الزِّنَى وَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ } . وَقَدْ نَازَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْإِرْسَالِ تَارَةً وَبِالْوَقْفِ تَارَةً أُخْرَى . قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ : وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ الْإِرْسَالَ لَا يَقْدَحُ , وَإِنَّ الْمَوْقُوفَ فِي هَذَا لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ ; لِأَنَّ إسْقَاطَ الْوَاجِبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِشُبْهَةٍ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْلِ , بَلْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ بَعْدَ تَحَقُّقِ الثُّبُوتِ لَا يَرْتَفِعُ بِشُبْهَةٍ فَحَيْثُ ذَكَرَهُ صَحَابِيٌّ حُمِلَ عَلَى الرَّفْعِ . وَأَيْضًا فِي إجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ كِفَايَةٌ . وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ . وَأَيْضًا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ . وَفِي تَتَبُّعِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ مَا يَقْطَعُ فِي الْمَسْأَلَةِ . فَقَدْ عَلِمْنَا { أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِمَاعِزٍ : لَعَلَّك قَبَّلْت أَوْ غَمَزْت أَوْ نَظَرْت } . كُلُّ ذَلِكَ يُلَقِّنُهُ أَنْ يَقُولَ : نَعَمْ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِالزِّنَى , وَلَيْسَ لِذَلِكَ فَائِدَةٌ إلَّا كَوْنَهُ إذَا قَالَهَا تُرِكَ , وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ . وَلَمْ يَقُلْ لِمَنْ اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِدَيْنٍ , لَعَلَّهُ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَك فَضَاعَتْ , وَنَحْوِهِ . وَكَذَا قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ نَحْوُ ذَلِكَ . وَكَذَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه لِشُرَاحَةَ : لَعَلَّهُ وَقَعَ عَلَيْك وَأَنْتِ نَائِمَةٌ , لَعَلَّهُ اسْتَكْرَهَك , لَعَلَّ مَوْلَاك زَوَّجَك مِنْهُ وَأَنْتِ تَكْتُمِينَهُ . فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَوْنُ الْحَدِّ يُحْتَالُ فِي دَرْئِهِ بِلَا شَكٍّ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِفْسَارَاتِ الْمُفِيدَةَ لِقَصْدِ الِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ كُلَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الثُّبُوتِ ; لِأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ صَرِيحِ الْإِقْرَارِ وَبِهِ الثُّبُوتُ . وَهَذَا هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ وَمِنْ قَوْلِهِ : { ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ } . فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَقْطُوعًا بِثُبُوتِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ , فَكَانَ الشَّكُّ فِيهِ شَكًّا فِي ضَرُورِيٍّ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَائِلِهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاخْتِلَافُ أَحْيَانًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الشُّبُهَاتِ أَهِيَ شُبْهَةٌ صَالِحَةٌ لِلدَّرْءِ بِهَا أَمْ لَا . وَعَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الشُّبْهَةَ بِأَنَّهَا مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ . وَقَدْ قَسَّمَ كُلُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الشُّبْهَةَ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ . تَفْصِيلُهَا فِيمَا يَلِي : أ - ( أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ) : 15 - الشُّبْهَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ , وَشُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ , وَشُبْهَةُ الْعَقْدِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى النَّوْعَيْنِ الْأُولَيَيْنِ , وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّالِثِ . 1 - ( الشُّبْهَةُ فِي الْفِعْلِ ) : 16 - وَتُسَمَّى أَيْضًا : شُبْهَةَ الْمُشَابَهَةِ , وَشُبْهَةَ الِاشْتِبَاهِ . وَهِيَ : أَنْ يُظَنَّ غَيْرُ الدَّلِيلِ دَلِيلًا . فَتَتَحَقَّقَ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَقَطْ , أَيْ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ , وَلَا دَلِيلَ فِي السَّمْعِ يُفِيدُ الْحِلَّ بَلْ ظَنُّ غَيْرِ الدَّلِيلِ دَلِيلًا , فَلَا بُدَّ مِنْ الظَّنِّ , وَإِلَّا فَلَا شُبْهَةَ أَصْلًا , لِفَرْضِ أَنْ لَا دَلِيلَ أَصْلًا لِتَثْبُتَ الشُّبْهَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ظَنُّهُ ثَابِتًا لَمْ تَكُنْ شُبْهَةٌ أَصْلًا , وَلَيْسَتْ بِشُبْهَةٍ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ , حَتَّى لَوْ قَالَ : إنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ حُدَّ . ثُمَّ إنَّ شُبْهَةَ الْفِعْلِ تَكُونُ فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ : ثَلَاثَةٍ مِنْهَا فِي الزَّوْجَاتِ , وَخَمْسَةٍ فِي الْجَوَارِي . فَمَوَاضِعُ الزَّوْجَاتِ : مَا لَوْ وَطِئَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا فِي الْعِدَّةِ , أَوْ وَطِئَ مُطَلَّقَتَهُ الْبَائِنَ فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ , أَوْ الْمُخْتَلِعَةَ . وَمَوَاضِعُ الْجَوَارِي : هِيَ وَطْءُ جَارِيَةِ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ أَوْ الْجَدِّ أَوْ الْجَدَّةِ وَإِنْ عَلَوْا , وَوَطْءُ جَارِيَةِ الزَّوْجَةِ , وَوَطْءُ أُمِّ وَلَدِهِ الَّتِي أَعْتَقَهَا وَهِيَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ , وَالْعَبْدُ يَطَأُ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ , وَالْمُرْتَهِنُ يَطَأُ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ عِنْدَهُ , وَكَذَا الْمُسْتَعِيرُ لِلرَّهْنِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَهِنِ . فَالْوَاطِئُ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ إذَا ظَنَّ الْحِلَّ يُعْذَرُ , وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ ; لِأَنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ , بِخِلَافِ مَا لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً وَقَالَ : ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي , فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى دَعْوَاهُ وَيُحَدُّ . وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ فِي شُبْهَةِ الْفِعْلِ(2/411)
وَإِنْ ادَّعَاهُ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ تَمَحَّضَ زِنًى لِفَرْضِ أَنْ لَا شُبْهَةَ مِلْكٍ هُنَا , إلَّا أَنَّ الْحَدَّ سَقَطَ لِظَنِّهِ الْمَحَلَّ , فَضْلًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى , وَهُوَ أَمْرٌ رَاجِعٌ إلَى الْوَاطِئِ لَا إلَى الْمَحَلِّ , فَكَأَنَّ الْمَحَلَّ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ حِلٍّ , فَلَا يَثْبُتُ نَسَبٌ بِهَذَا الْوَطْءِ , وَكَذَا لَا تَثْبُتُ بِهِ عِدَّةٌ ; لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ مِنْ الزَّانِي . وَقِيلَ : إنَّ هَذَا غَيْرُ مُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ , فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا ; لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي شُبْهَةِ الْعَقْدِ , فَيَكْفِي ذَلِكَ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ . وَأُلْحِقَتْ بِهَا الْمُطَلَّقَةُ بِعِوَضٍ , وَالْمُخْتَلِعَةُ . وَثُبُوتُ النَّسَبِ هُنَا لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْوَطْءِ فِي الْعِدَّةِ , بَلْ بِاعْتِبَارِ الْعُلُوقِ السَّابِقِ عَلَى الطَّلَاقِ . وَلِذَا ذَكَرُوا أَنَّ نَسَبَ وَلَدِهَا يَثْبُتُ إلَى أَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ , وَلَا يَثْبُتُ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ . وَيَجِبُ فِي شُبْهَةِ الْفِعْلِ مَهْرُ الْمِثْلِ . 2 - الشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ : وَتُسَمَّى أَيْضًا الشُّبْهَةُ الْحُكْمِيَّةُ وَشُبْهَةُ الْمِلْكِ : 17 - وَتَنْشَأُ عَنْ دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْحِلِّ فِي الْمَحَلِّ , فَتُصْبِحُ الْحُرْمَةُ الْقَائِمَةُ فِيهَا شُبْهَةً أَنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً , نَظَرًا إلَى دَلِيلِ الْحِلِّ , كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } . فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ لِأَجْلِ شُبْهَةٍ وُجِدَتْ فِي الْمَحَلِّ وَإِنْ عَلِمَ حُرْمَتَهُ ; لِأَنَّ الشُّبْهَةَ إذَا كَانَتْ فِي الْمَوْطُوءَةِ يَثْبُتُ فِيهَا الْمِلْكُ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ اسْمُ الزِّنَى فَامْتَنَعَ الْحَدُّ ; لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمُثْبِتَ لِلْحِلِّ قَائِمٌ , وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْ إثْبَاتِهِ لِمَانِعٍ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً . وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ تَكُونُ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ : وَاحِدٌ مِنْهَا فِي الزَّوْجَاتِ , وَالْبَاقِي فِي الْجَوَارِي . فَمَوْضِعُ الزَّوْجَاتِ : وَطْءُ الْمُعْتَدَّةِ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ بِالْكِنَايَاتِ , فَلَا يُحَدُّ , لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي كَوْنِهَا رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً . وَمَوَاضِعُ الْجَوَارِي : هِيَ وَطْءُ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ , وَوَطْءُ الْبَائِعِ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا لِلْمُشْتَرِي , وَوَطْءُ الزَّوْجِ الْجَارِيَةَ الْمَجْعُولَةَ مَهْرًا قَبْلَ تَسْلِيمِهَا لِلزَّوْجَةِ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ فِيهِمَا لَمْ يَسْتَقِرَّ لِلْمُشْتَرِي وَالزَّوْجَةِ , وَوَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَغَيْرِهِ , وَوَطْءُ الْمُرْتَهِنِ لِلْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ فِي رِوَايَةٍ لَيْسَتْ بِالْمُخْتَارَةِ . وَزَادَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ : وَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ , وَوَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ , وَوَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمُكَاتَبِ , وَوَطْءَ الْبَائِعِ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَاَلَّتِي فِيهَا الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي . وَكَذَا وَطْءُ جَارِيَتِهِ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ , وَجَارِيَتُهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ , وَوَطْءَ الزَّوْجَةِ الَّتِي حُرِّمَتْ بِرِدَّتِهَا , أَوْ بِمُطَاوَعَتِهَا لِابْنِهِ أَوْ جِمَاعِهِ أُمَّهَا ثُمَّ جَامَعَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُحَرِّمْ بِهِ , فَاسْتُحْسِنَ أَنْ يَدْرَأَ بِذَلِكَ الْحَدِّ . قَالَ : وَالِاسْتِقْرَاءُ يُفِيدُ غَيْرَ ذَلِكَ أَيْضًا , فَالِاقْتِصَارُ عَلَى السِّتَّةِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ . فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنْ قَالَ : عَلِمْت أَنَّهَا حَرَامٌ ; لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الشُّبْهَةُ , وَهِيَ هَاهُنَا قَائِمَةٌ فِي نَفْسِ الْحُكْمِ , وَلَا اعْتِبَارَ بِمَعْرِفَتِهِ بِالْحُرْمَةِ وَعَدَمِهَا . وَيَثْبُتُ النَّسَبُ فِي شُبْهَةِ الْمَحَلِّ إذَا ادَّعَى الْوَلَدَ . 3 - ( شُبْهَةُ الْعَقْدِ ) : 18 - قَالَ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ , وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَزُفَرُ . وَهِيَ عِنْدَهُ تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ , وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ النَّسَبِيَّةِ , أَوْ بِالرَّضَاعِ , أَوْ بِالْمُصَاهَرَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ بِهِمَا , فَإِذَا وَطِئَ الشَّخْصُ إحْدَى مَحَارِمِهِ بَعْدَ أَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ , وَلَكِنْ يَجِبُ الْمَهْرُ وَيُعَاقَبُ عُقُوبَةً هِيَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ التَّعْزِيرِ سِيَاسَةً لَا حَدًّا إذَا كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا تَعْزِيرَ . فَوُجُودُ الْعَقْدِ يَنْفِي الْحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَلَالًا كَانَ الْعَقْدُ أَوْ حَرَامًا , مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ , عَلِمَ الْوَاطِئُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ . وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ بِأَنَّ الْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ مَحَلٌّ لِهَذَا الْعَقْدِ ; لِأَنَّ مَحَلَّ الْعَقْدِ مَا(2/412)
يَكُونُ قَابِلًا لِمَقْصُودِهِ الْأَصْلِيِّ , وَكُلُّ أُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ قَابِلَةٌ لِمَقْصُودِ النِّكَاحِ وَهُوَ التَّوَالُدُ وَالتَّنَاسُلُ . وَإِذَا كَانَتْ قَابِلَةً لِمَقْصُودِهِ كَانَتْ قَابِلَةً لِحُكْمِهِ , إذْ الْحُكْمُ يَثْبُتُ ذَرِيعَةً إلَى الْمَقْصُودِ , فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ , إلَّا أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ إفَادَةِ الْحِلِّ حَقِيقَةً لِمَكَانِ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ فِيهِنَّ بِالنَّصِّ فَيُورِثُ شُبْهَةً , إذْ الشُّبْهَةُ مَا يُشْبِهُ الْحَقِيقَةَ لَا الْحَقِيقَةَ نَفْسَهَا . وَالْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ مَحَلٌّ لِلْعَقْدِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ أَوْلَى بِإِيرَاثِ الشُّبْهَةِ , وَكَوْنُهَا مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ لَا يُنَافِي الشُّبْهَةَ " , أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ أَمَتَهُ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ . وَالنِّكَاحُ فِي إفَادَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ , لِأَنَّهُ شَرَعَ لَهُ بِخِلَافِ مِلْكِ الْيَمِينِ , فَكَانَ أَوْلَى فِي إفَادَةِ الشُّبْهَةِ ; لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تُشْبِهُ الْحَقِيقَةَ فَمَا كَانَ أَقْوَى فِي إثْبَاتِ الْحَقِيقَةِ كَانَ أَقْوَى فِي إثْبَاتِ الشُّبْهَةِ . وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ , وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ , وَاحْتَجَّا لِذَلِكَ بِأَنَّ حُرْمَتَهُنَّ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ , وَإِضَافَةُ الْعَقْدِ إلَيْهِنَّ كَإِضَافَتِهِ إلَى الذُّكُورِ , لِكَوْنِهِ صَادَفَ غَيْرَ الْمَحَلِّ فَيَلْغُو ; لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْحِلُّ هُنَا , وَهِيَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَيَكُونُ وَطْؤُهَا زِنًى حَقِيقَةً لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ فِيهَا . وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } وَالْفَاحِشَةُ هِيَ الزِّنَى لقوله تعالى : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } وَمُجَرَّدُ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى غَيْرِ الْمَحَلِّ لَا عِبْرَةَ فِيهِ , أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ الْوَارِدَ عَلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا حَتَّى لَا يُفِيدَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ , غَيْرَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا يُعْذَرُ بِالِاشْتِبَاهِ . وَمَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ فِي النِّكَاحِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ , وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى التَّأْبِيدِ . أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ , كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَبِلَا شُهُودٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْكُلِّ . فَالشُّبْهَةُ إنَّمَا تَنْتَفِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إذَا كَانَ النِّكَاحُ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى التَّأْبِيدِ . وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . ب - أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : 19 - قَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ الشُّبْهَةَ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فِي إفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ : شُبْهَةٍ فِي الْوَاطِئِ , وَشُبْهَةٍ فِي الْمَوْطُوءَةِ , وَشُبْهَةٍ فِي الطَّرِيقِ . فَالشُّبْهَةُ فِي الْوَاطِئِ : كَاعْتِقَادِ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْنَبِيَّةَ امْرَأَتُهُ , فَالِاعْتِقَادُ الَّذِي هُوَ جَهْلٌ مُرَكَّبٌ وَغَيْرُ مُطَابِقٍ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُعْتَقِدٌ الْإِبَاحَةَ , وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فِي اعْتِقَادِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ , فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ . وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَوْطُوءَةِ : كَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ إذَا وَطِئَهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ . فَمَا فِيهَا مِنْ نَصِيبِهِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ , وَمَا فِيهَا مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ , فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ . وَالشُّبْهَةُ فِي الطَّرِيقِ : كَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي إبَاحَةِ الْمَوْطُوءَةِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَنَحْوِهِ . فَإِنَّ قَوْلَ الْمُحَرِّمِ يَقْتَضِي الْحَدَّ , وَقَوْلَ الْمُبِيحِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ , فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ . فَهَذِهِ الثَّلَاثُ هِيَ ضَابِطُ الشُّبْهَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَهُمْ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ . غَيْرَ أَنَّ لَهَا شَرْطًا وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمُقْدِمِ عَلَى الْفِعْلِ مُقَارَنَةَ السَّبَبِ الْمُبِيحِ , وَإِنْ أَخْطَأَ فِي حُصُولِ السَّبَبِ كَأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً يَعْتَقِدُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ . وَضَابِطُ الشُّبْهَةِ الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ تَتَحَقَّقُ بِأَمْرَيْنِ : إمَّا بِالْخُرُوجِ عَنْ الشُّبُهَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ كَمَنْ تَزَوَّجَ خَامِسَةً أَوْ مَبْتُوتَةً ثَلَاثًا قَبْلَ زَوْجٍ , أَوْ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ النَّسَبِ أَوْ ذَاتَ مَحْرَمٍ عَامِدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ , أَوْ بِعَدَمِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ كَأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُهَا فَإِنَّ(2/413)
الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ لِعَدَمِ اعْتِقَادِ مُقَارَنَةِ الْعِلْمِ لِسَبَبِهِ . ج - أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : 20 - الشُّبْهَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : شُبْهَةٍ فِي الْمَحَلِّ , وَشُبْهَةٍ فِي الْفَاعِلِ , وَشُبْهَةٍ فِي الْجِهَةِ . فَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ , كَوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْحَائِضَ وَالصَّائِمَةِ , وَالْمُحْرِمَةِ , وَأَمَتِهِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ , وَجَارِيَةِ وَلَدِهِ . فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ . وَكَذَا لَوْ وَطِئَ مَمْلُوكَتَهُ الْمُحَرَّمَةَ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ , كَأُخْتِهِ مِنْهُمَا , أَوْ بِمُصَاهَرَةٍ كَمَوْطُوءَةِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ , فَلَا حَدَّ بِوَطْئِهَا فِي الْأَظْهَرِ ; لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ : وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِيمَنْ يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا كَأُخْتِهِ . أَمَّا مَنْ لَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا كَالْأُمِّ وَالْجَدَّةِ فَهُوَ زَانٍ قَطْعًا . وَكَذَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ , أَوْ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ , أَوْ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ غَيْرِهِ , أَوْ الْمَجُوسِيَّةَ وَالْوَثَنِيَّةَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ , وَمِثْلُهُ مَا لَوْ أَسْلَمَتْ أَمَةُ ذِمِّيٍّ فَوَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ تُبَاعَ . وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْفَاعِلِ , فَمِثْلُ أَنْ يَجِدَ امْرَأَةً فِي فِرَاشِهِ فَيَطَؤُهَا ظَانًّا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ , وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ ظَنَّ ذَلِكَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ . وَلَوْ ظَنَّهَا جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ فَكَانَتْ غَيْرَهَا فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ لِأَنَّهُ عَلِمَ التَّحْرِيمَ فَكَانَ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ . وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ احْتِمَالَيْنِ . وَجَزَمَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِسُقُوطِهِ . وَيَدْخُلُ فِي شُبْهَةِ الْفَاعِلِ الْمُكْرَهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ . وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ . وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْجِهَةِ : فَهِيَ كُلُّ طَرِيقٍ صَحَّحَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَأَبَاحَ الْوَطْءَ بِهَا فَلَا حَدَّ فِيهَا عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ نَظَرًا لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ . فَلَا حَدَّ فِي الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَبِلَا شُهُودٍ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ . وَلَا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ كَمَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِشُبْهَةِ الْخِلَافِ . ثُمَّ إنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي النِّكَاحِ الْمَذْكُورِ أَنْ لَا يُقَارِنَهُ حُكْمٌ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ . فَإِنْ قَارَنَهُ حَكَمَ قَاضٍ بِبُطْلَانِهِ حُدَّ قَطْعًا , أَوْ حَكَمَ قَاضٍ بِصِحَّتِهِ لَمْ يُحَدَّ قَطْعًا . وَقَدْ صَرَّحَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الضَّابِطَ فِي الشُّبْهَةِ قُوَّةُ الْمُدْرِكِ لَا عَيْنُ الْخِلَافِ . فَلَوْ وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ حُدَّ عَلَى الْمَذْهَبِ , وَإِنْ حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ حِلُّ ذَلِكَ . وَصَرَّحَ الرَّمْلِيُّ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ مِنْ عَالِمٍ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْهُ الْفَاعِلُ . د - الشُّبْهَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : 21 - لَمْ يُقَسِّمْ الْحَنَابِلَةُ الشُّبْهَةَ إلَى أَنْوَاعٍ كَالْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى , وَإِنَّمَا ذَكَرُوا لَهَا أَمْثِلَةً فَقَالُوا : لَا حَدَّ عَلَى الْأَبِ إنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ سَوَاءٌ وَطِئَهَا الِابْنُ أَوْ لَا ; لِأَنَّهُ وَطْءٌ تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِيهِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي مِلْكِ وَلَدِهِ لِحَدِيثِ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } . وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ , أَوْ لِوَلَدِهِ فِيهَا شِرْكٌ , أَوْ لِمُكَاتَبِهِ فِيهَا شِرْكٌ ; لِلْمِلْكِ أَوْ شُبْهَتِهِ , وَلَا حَدَّ إنْ وَطِئَ أَمَةً كُلَّهَا لِبَيْتِ الْمَالِ أَوْ بَعْضَهَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ , لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَالِ . وَلَا حَدَّ إنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ دُبُرٍ ; لِأَنَّ الْوَطْءَ قَدْ صَادَفَ مِلْكًا , وَإِنْ وَطِئَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ فِي مَنْزِلِهِ ظَنَّهَا امْرَأَتَهُ أَوْ زُفَّتْ إلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ لَهُ : هَذِهِ امْرَأَتُك , فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ . وَلَوْ دَعَا ضَرِيرٌ امْرَأَتَهُ فَأَجَابَتْهُ امْرَأَةٌ غَيْرَهَا فَوَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ . بِخِلَافِ مَا لَوْ دَعَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ فَأَجَابَهُ غَيْرُهَا فَوَطِئَهَا يَظُنُّهَا الْمَدْعُوَّةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ , سَوَاءٌ أَكَانَتْ الْمَدْعُوَّةُ مِمَّنْ لَهُ فِيهَا شُبْهَةٌ كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ أَمْ لَمْ يَكُنْ ; لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِهَذَا , أَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا يَظُنُّهُ ابْنَهُ فَبَانَ أَجْنَبِيًّا . وَإِنْ وَطِئَ أَمَتَهُ الْمَجُوسِيَّةَ أَوْ الْوَثَنِيَّةَ أَوْ الْمُرْتَدَّةَ أَوْ الْمُعْتَدَّةَ , أَوْ الْمُزَوَّجَةَ , أَوْ فِي مُدَّةِ اسْتِبْرَائِهَا فَلَا حَدَّ , لِأَنَّهَا مِلْكُهُ . وَإِنْ وَطِئَ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ أَوْ فِي مِلْكٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ , وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ , أَوْ بِلَا شُهُودٍ , وَنِكَاحِ الشِّغَارِ(2/414)
, وَنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ , وَنِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا , وَنَحْوِهَا , وَنِكَاحِ الْبَائِنِ مِنْهُ , وَنِكَاحِ خَامِسَةٍ فِي عِدَّةِ رَابِعَةٍ لَمْ تُبَنْ , وَنِكَاحِ الْمَجُوسِيَّةِ , وَعَقْدِ الْفُضُولِيِّ وَلَوْ قَبْلَ الْإِجَازَةِ , سَوَاءٌ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ أَمْ لَا . هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ . وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ , أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ إذَا اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ . وَإِنْ جَهِلَ نِكَاحًا بَاطِلًا إجْمَاعًا كَخَامِسَةٍ فَلَا حَدَّ لِلْعُذْرِ , وَيُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا . أَمَّا إذَا عَلِمَ بِبُطْلَانِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ . وَلَا حَدَّ فِي الْوَطْءِ فِي شِرَاءٍ فَاسِدٍ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَوْ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ لِلشُّبْهَةِ ; لِأَنَّ الْبَائِعَ بِإِقْبَاضِهِ الْأَمَةَ كَأَنَّهُ أَذِنَهُ فِي فِعْلِ مَا يَمْلِكُهُ بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَمِنْهُ الْوَطْءُ , أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَيُحَدُّ عَلَى الصَّحِيحِ . كَمَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي وَطْءِ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ إذَا كَانَ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ وَيَعْلَمُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ عَلَى الصَّحِيحِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ .
=================
أَسْبَابُ السَّبْيِ : الْأَوَّلُ - الْقِتَالُ :(1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8461)(2/415)
5 - شُرِعَ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لِإِعْلَاءِ دِينِ الْحَقِّ وَكَسْرِ شَوْكَةِ الْأَعْدَاءِ . وَالْأَصْلُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُشَارِكْ فِي الْقِتَالِ فَلَا يُقْتَلْ , وَلِذَلِكَ يُمْنَعُ التَّعَرُّضُ لِلنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الْعَجَزَةِ الَّذِينَ لَا يُشَارِكُونَ فِي الْقِتَالِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ . قَالَ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا طِفْلًا وَلَا امْرَأَةً } . وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا جَوَازُ قَتْلِ مَنْ يُشَارِكُ فِي الْقِتَالِ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ أَوْ يُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ , وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي ( جِهَادٍ ف 29 ) . وَإِذَا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ الْغَنَائِمَ فَإِنَّ مَنْ يُوجَدُ فِيهَا مِنْ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ يُعْتَبَرُ سَبْيًا . الثَّانِي : النُّزُولُ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ : 6 - لَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ حِصْنًا لِلْعَدُوِّ , وَطَلَبَ أَهْلُ الْحِصْنِ النُّزُولَ عَلَى حُكْمِ فُلَانٍ وَارْتَضَوْا حُكْمَ أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ , فَلَهُ الْحُكْمُ بِسَبْيِ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ . وَقَدْ وَرَدَ { أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا حَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رضي الله تعالى عنه , فَحَكَمَ سَعْدُ أَنْ تُقَتَّلَ رِجَالُهُمْ وَتُقَسَّمَ أَمْوَالُهُمْ وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَقَدْ حَكَمْت بِمَا حَكَمَ الْمَلِكُ } . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي ( جِهَادٍ ف 24 ) الثَّالِثُ - الرِّدَّةُ : 7 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ إنْ اُسْتُتِيبَتْ وَلَمْ تَتُبْ فَإِنَّهَا تُقْتَلُ , لِمَا رُوِيَ { أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ رُومَانَ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ , فَبَلَغَ أَمْرُهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ أَنْ تُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ } . وَلِأَنَّهَا شَخْصٌ مُكَلَّفٌ بَدَّلَ دِينَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ , فَيُقْتَلُ كَالرَّجُلِ . 8 - وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تُحْبَسُ إلَى أَنْ تَتُوبَ - إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَى مَا سَيَأْتِي . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَدَّتْ فَإِنَّهَا تُسْبَى وَلَا تُقْتَلُ , لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله تعالى عنه اسْتَرَقَّ نِسَاءَ بَنِي حَنِيفَةَ وَذَرَارِيَّهُمْ , وَأَعْطَى عَلِيًّا مِنْهُمْ امْرَأَةً فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ , وَكَانَ هَذَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَادِرِ قَالَ : إنَّهَا تُسْتَرَقُّ وَلَوْ كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , قِيلَ : لَوْ أَفْتَى بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا بَأْسَ بِهِ فِيمَنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ حَسْمًا لِتَوَصُّلِهَا لِلْفُرْقَةِ بِالرِّدَّةِ . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - غَيْرُ رِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ - لَا تُسْبَى الْمَرْأَةُ إلَّا إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ ارْتِدَادِهَا , فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ سِبَاؤُهَا . 9 - أَمَّا ذُرِّيَّةُ الْمُرْتَدِّ فَمَنْ وُلِدَ بَعْدَ رِدَّةِ أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُ مَحْكُومٌ بِكُفْرِهِ , لِأَنَّهُ وُلِدَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ , وَيَجُوزُ سِبَاؤُهُ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَدٍّ , نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ , وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ , وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ . وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِرْقَاقُهُمْ ; لِأَنَّ آبَاءَهُمْ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِدَفْعِ الْجِزْيَةِ فَلَا يُقِرُّونَ بِالِاسْتِرْقَاقِ . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُسْبَى مَنْ وُلِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ لَحِقَ أَبَوَاهُ بِدَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ مَعَهُمَا , وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : إذَا قُتِلَ الْمُرْتَدُّ بَقِيَ وَلَدُهُ مُسْلِمًا سَوَاءٌ وُلِدَ قَبْلَ الرِّدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا .
10 - وَمَتَى ارْتَدَّ أَهْلُ بَلَدٍ وَجَرَتْ فِيهِ أَحْكَامُهُمْ صَارَ دَارَ حَرْبٍ , فَإِذَا غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ كَانَ لَهُمْ سَبْيُ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَاَلَّذِينَ وُلِدُوا بَعْدَ الرِّدَّةِ , كَمَا سَبَى أَبُو بَكْرٍ رضي الله تعالى عنه ذَرَارِيَّ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ , وَكَمَا سَبَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله تعالى عنه بَنِي نَاجِيَةَ مُوَافَقَةً لِأَبِي بَكْرٍ , وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَصْبَغَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ , وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - غَيْرِ أَصْبَغَ - لَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَلَا ذَرَارِيُّهُمْ . الرَّابِعُ : نَقْضُ الْعَهْدِ : 11 - أَهْلُ الذِّمَّةِ آمِنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الْعَهْدِ , فَإِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ قَاتَلَهُمْ الْإِمَامُ وَأَسَرَ رِجَالَهُمْ , أَمَّا نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ فَلَا يُسَبُّونَ لِأَنَّ(2/416)
أَمَانَهُمْ لَمْ يَبْطُلْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ , وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَشْهَبَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ غَيْرَ أَشْهَبَ وَمُقَابِلِ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : يُنْتَقَضُ عَهْدُ الْجَمِيعِ وَتُسْبَى النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ , قَالَ الْمَالِكِيَّةُ : هَذَا الَّذِي خَالَفَتْ فِيهِ سِيرَةُ عُمَرَ سِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله تعالى عنهما فِي الَّذِينَ ارْتَدُّوا مِنْ الْعَرَبِ , سَارَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ سِيرَةَ النَّاقِضِينَ فَسَبَى النِّسَاءَ وَالصِّغَارَ وَجَرَتْ الْمَقَاسِمُ فِي أَمْوَالِهِمْ . فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بَعْدَهُ نَقَضَ ذَلِكَ وَسَارَ فِيهِمْ سِيرَةَ الْمُرْتَدِّينَ , أَخْرَجَهُمْ مِنْ الرِّقِّ وَرَدَّهُمْ إلَى عَشَائِرِهِمْ وَإِلَى الْجِزْيَةِ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : مَنْ وُلِدَ بَعْدَ نَقْضِ الْعَهْدِ فَإِنَّهُ يُسْتَرَقُّ وَيُسْبَى . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي ( أَهْلِ الذِّمَّةِ ) .
===============
سِرَايَةُ الْقَوَدِ :(1)
5 - سِرَايَةُ الْقَوَدِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , فَإِذَا قَطَعَ طَرَفًا يَجِبُ الْقَوَدُ فِيهِ فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ الْجَانِي بِسِرَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يَلْزَمْ الْمُسْتَوْفِي شَيْءٌ , وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ , وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم , وَقَالُوا : لِأَنَّهُ قَطْعٌ مُسْتَحَقٌّ مُقَدَّرٌ فَلَا تُضْمَنُ سِرَايَتُهُ كَقَطْعِ السَّارِقِ , وَلَا يُمْكِنُ التَّقْيِيدُ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ لِمَا فِيهِ سَدُّ بَابِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ بِالْقِصَاصِ , وَالِاحْتِرَازُ عَنْ السِّرَايَةِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَضْمَنُ دِيَةَ النَّفْسِ ; لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَطْعِ وَهُوَ وَقَعَ قَتْلًا , وَلَوْ وَقَعَ هَذَا الْقَطْعُ ظُلْمًا فِي غَيْرِ قِصَاصٍ وَسَرَى إلَى النَّفْسِ , كَانَ قَتْلًا مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ , أَوْ الدِّيَةِ ; وَلِأَنَّهُ جُرْحٌ أَفْضَى إلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ , وَهُوَ مُسَمَّى الْقَتْلِ إلَّا أَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَوَجَبَ الْمَالُ . وَالتَّفْصِيلُ فِي " قِصَاصٍ " . وَالْعِبْرَةُ فِي الضَّمَانِ , وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ بِوَقْتِ الْجِنَايَةِ لَا بِوَقْتِ السِّرَايَةِ , فَإِنْ جَرَحَ مُسْلِمٌ حَرْبِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَا ثُمَّ مَاتَا بِالسِّرَايَةِ فَلَا ضَمَانَ , كَعَكْسِهِ , بِأَنْ جَرَحَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا فَأَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ ثُمَّ مَاتَ الْمُسْلِمُ ; لِأَنَّهُ جُرْحٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَسِرَايَتُهُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ . وَإِنْ جَرَحَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَجْرُوحُ فَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ فَلِوَلِيِّهِ الْقِصَاصُ بِالْجُرْحِ , لَا بِالنَّفْسِ . وَإِنْ تَخَلَّلَ الْمُهْدَرُ بَيْنَ الْجُرْحِ وَالْمَوْتِ بِالسِّرَايَةِ كَأَنْ يَجْرَحَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا , ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَجْرُوحُ , ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِتَخَلُّلِ حَالَةِ الْإِهْدَارِ بَيْنَ الْجِنَايَةِ , وَالْمَوْتِ بِالسِّرَايَةِ وَتَجِبُ الدِّيَةُ لِوُقُوعِ الْجِنَايَةِ , وَالْمَوْتِ بِالسِّرَايَةِ فِي حَالَةِ الْعِصْمَةِ . وَإِنْ جَرَحَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فَأَسْلَمَ وَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ فَلَا قِصَاصَ عِنْدَ مَنْ يَرَى عَدَمَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِجِنَايَتِهِ مَنْ يُكَافِئُهُ , وَتَجِبُ دِيَةُ مُسْلِمٍ ; لِأَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ مَضْمُونٌ وَفِي الِانْتِهَاءِ حُرٌّ مُسْلِمٌ . وَالْقَاعِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ هِيَ : 1 - أَنَّ كُلَّ جُرْحٍ غَيْرُ مَضْمُونٍ لَا يَنْقَلِبُ مَضْمُونًا بِتَغَيُّرِ الْحَالِ فِي الِانْتِهَاءِ . 2 - وَكُلُّ جُرْحٍ مَضْمُونٌ فِي الْحَالَيْنِ فَالْعِبْرَةُ فِي قَدْرِ الضَّمَانِ بِالِانْتِهَاءِ . 3 - وَكُلُّ جُرْحٍ مَضْمُونٍ لَا يَنْقَلِبُ غَيْرَ مَضْمُونٍ بِتَغَيُّرِ الْحَالِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي ( قِصَاصٍ ) .
=============
الْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ وَالسُّكْرُ بَعْدَ النِّيَّةِ :(2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8598)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 9923)(2/417)
34 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إذَا نَوَى الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ , ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ إغْمَاءٌ أَوْ جُنُونٌ أَوْ سُكْرٌ : فَإِنْ لَمْ يُفِقْ إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ , فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى عَدَمِ صِحَّةِ صَوْمِهِ , لِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ مَعَ النِّيَّةِ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { قَالَ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ , فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ , يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي } فَأَضَافَ تَرْكَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَيْهِ , فَإِذَا كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ فَلَا يُضَافُ الْإِمْسَاكُ إلَيْهِ , فَلَمْ يُجْزِئْهُ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى صِحَّةِ صَوْمِهِ , لِأَنَّ نِيَّتَهُ قَدْ صَحَّتْ , وَزَوَالُ الِاسْتِشْعَارِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ , كَالنَّوْمِ . أَمَّا إذَا أَفَاقَ أَثْنَاءَ النَّهَارِ , فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ إذَا أَفَاقَ قَبْلَ الزَّوَالِ , وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى عَدَمِ صِحَّةِ صَوْمِهِ , وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ إذَا أَفَاقَ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ النَّهَارِ صَحَّ صَوْمُهُ , سَوَاءٌ أَكَانَ فِي أَوَّلِهِ أَمْ فِي آخِرِهِ . وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ , فَالْمَذْهَبُ : أَنَّهُ لَوْ جُنَّ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ بَطَلَ صَوْمُهُ , وَقِيلَ : هُوَ كَالْإِغْمَاءِ . وَأَمَّا الرِّدَّةُ بَعْدَ نِيَّةِ الصَّوْمِ فَتُبْطِلُ الصَّوْمَ بِلَا خِلَافٍ .
================
انْحِلَالُ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ :(1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 10325)(2/418)
53 - إذَا عَلَّقَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ عَلَى شَرْطٍ , فَإِنَّهُ يَنْحَلُّ بِحُصُولِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً , مَعَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ عَلَى الزَّوْجَةِ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ , فَإِذَا عَادَتْ إلَيْهِ ثَانِيَةً فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا , لَمْ تَقَعْ عَلَيْهَا بِهِ طَلْقَةٌ أُخْرَى لِانْحِلَالِهِ , هَذَا مَا لَمْ يَكُنْ التَّعْلِيقُ بِلَفْظِ ( كُلَّمَا ) , وَإِلَّا وَقَعَ عَلَيْهَا بِهِ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً ; لِأَنَّ كُلَّمَا تُفِيدُ التَّكْرَارَ دُونَ غَيْرِهَا . وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ دَخَلْت دَارَ فُلَانٍ , ثُمَّ طَلَّقَهَا مُنَجَّزًا وَاحِدَةً قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ , ثُمَّ مَضَتْ عِدَّتُهَا , ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا , ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بِزَوْجِيَّةٍ أُخْرَى , جَازَ , فَإِذَا دَخَلَتْ الدَّارَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهَا , وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا بِذَلِكَ شَيْءٌ , لِانْحِلَالِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالدُّخُولِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الْعِدَّةِ , فَإِذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا الثَّلَاثَ عَلَى دُخُولِ الدَّارِ , ثُمَّ نَجَّزَ طَلَاقَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً , وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا دُونَ أَنْ تَدْخُلَ الدَّارَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا , ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ , ثُمَّ دَخَلَتْهَا , وَقَعَ الثَّلَاثُ عَلَيْهَا , لِعَدَمِ انْحِلَالِ الْيَمِينِ الْمُعَلَّقَةِ , بِخِلَافِ مَا لَوْ دَخَلَتْهَا بَعْدَ عِدَّتِهَا , فَإِنَّهَا تَنْحَلُّ بِذَلِكَ . وَكَذَلِكَ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى شَرْطٍ بِزَوَالِ الْحِلِّ بِالْكُلِّيَّةِ , كَمَا إذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا الثَّلَاثَ عَلَى دُخُولِ الدَّارِ , ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُنَجَّزَةً , ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ التَّحْلِيلِ , ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ وَلَمْ تَكُنْ دَخَلَتْهَا مِنْ قَبْلُ , فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ هُنَا لِانْحِلَالِ الْيَمِينِ الْمُعَلَّقَةِ بِزَوَالِ الْحِلِّ بِالْكُلِّيَّةِ , وَذَلِكَ بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا , عَلَى خِلَافِ وُقُوعِ مَا دُونَ الثَّلَاثِ , فَإِنَّهُ لَا يُزِيلُ الْحِلَّ , فَلَا تَنْحَلُّ بِهِ الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ إلَّا بِحُصُولِ الشَّرْطِ فِعْلًا مَرَّةً . وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ , وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ : الْأَوَّلُ : يَقَعُ مُطْلَقًا , وَالثَّانِي : لَا يَقَعُ مُطْلَقًا , وَالثَّالِثُ : يَقَعُ بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ , وَلَا يَقَعُ بَعْدَ الثَّلَاثِ , وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى وُقُوعِهِ فِي الْكُلِّ . كَمَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى شَرْطٍ بِرِدَّةِ الْحَالِفِ مَعَ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ , فَلَوْ طَلَّقَهَا مُعَلَّقًا , ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ , ثُمَّ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ , وَعَادَ إلَيْهَا , ثُمَّ فَعَلَتْ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ , فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ بِذَلِكَ , لِانْحِلَالِ الْيَمِينِ الْمُعَلَّقَةِ بِرِدَّتِهِ , وَهَذَا قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَخَالَفَهُ الصَّاحِبَانِ : أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ , وَقَالَا : لَا يَنْحَلُّ التَّعْلِيقُ بِالرِّدَّةِ مُطْلَقًا . وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى شَرْطٍ أَيْضًا بِفَوْتِ مَحَلِّ الْبِرِّ , فَإِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت دَارَ فُلَانٍ , ثُمَّ خَرِبَتْ الدَّارُ , أَوْ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا فَمَاتَ زَيْدٌ , انْحَلَّتْ الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ , حَتَّى لَوْ أَنَّ الدَّارَ الْخَرِبَةَ بُنِيَتْ ثَانِيَةً فَإِنَّ الْيَمِينَ الْمُعَلَّقَةَ لَا تَعُودُ , لِأَنَّهَا غَيْرُ الدَّارِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا .
===============
ج - ( الرِّدَّةُ ) :(1)
13 - الرِّدَّةُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِعَزْلِ الْقَاضِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ; لِأَنَّهُمْ اشْتَرَطُوا لِصِحَّةِ تَوَلِّيهِ الْقَضَاءَ الْإِسْلَامَ , فَإِذَا ارْتَدَّ الْقَاضِي فَقَدَ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ التَّوْلِيَةِ وَوَجَبَ عَزْلُهُ ; لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ لقوله تعالى : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } وَلَا سَبِيلَ أَعْظَمُ مِنْ الْقَضَاءِ . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : عَدَمُ عَزْلِ الْقَاضِي بِالرِّدَّةِ إلَّا أَنَّ مَا قَضَى بِهِ فِي حَالِ الرِّدَّةِ بَاطِلٌ . الثَّانِيَةُ : يَنْعَزِلُ بِالرِّدَّةِ , كَمَا نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ الْبَزَّازِيَّةُ مِنْ أَنَّ أَرْبَعَ خِصَالٍ إذَا حَلَّتْ بِالْقَاضِي انْعَزَلَ : فَوَاتُ السَّمْعِ أَوْ الْبَصَرِ أَوْ الْعَقْلِ أَوْ الدِّينِ
===========
و - ( الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ ) :(2)
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 10779)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11590)(2/419)
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الرِّدَّةَ سَبَبٌ لِلْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَوْرًا , وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْفُرْقَةِ , فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً , دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ , وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا عَاجِلًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءٍ . وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ حَالَةَ مَا إذَا قَصَدَتْ الْمَرْأَةُ بِرِدَّتِهَا فَسْخَ النِّكَاحِ , فَلَا تَفْسَخُ الرِّدَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ النِّكَاحَ , مُعَامَلَةً لَهَا بِنَقِيضِ قَصْدِهَا . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا فَوْرًا حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّةُ الزَّوْجَةِ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ وَيَرْجِعَ إلَى الْإِسْلَامِ , فَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ , وَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الرِّدَّةَ إنْ كَانَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ يُفَرَّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَوْرًا , وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ فَفِي رِوَايَةٍ تُنْجَزُ الْفُرْقَةُ , وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى تَتَوَقَّفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( رِدَّةٌ ف 44 )
================
( فَسْخُ النِّكَاحِ ) :(1)
19 - التَّفْرِيقُ فِي النِّكَاحِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فَسْخًا أَوْ طَلَاقًا . وَالْفَسْخُ : مِنْهُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ , وَمِنْهُ مَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ . أَمَّا الْفَسْخُ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى الْقَضَاءِ فَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ يَكُونُ فِي الْأُمُورِ الْآتِيَةِ : أ - ( عَدَمُ الْكَفَاءَةِ ) . ب - ( نُقْصَانُ الْمَهْرِ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ) . ج - إبَاءُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْإِسْلَامَ إذَا أَسْلَمَ الْآخَرُ , لَكِنَّ الْفُرْقَةَ بِسَبَبِ إبَاءِ الزَّوْجَةِ فَسْخٌ بِالِاتِّفَاقِ , أَمَّا الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ إبَاءِ الزَّوْجِ فَهِيَ فَسْخٌ فِي رَأْيِ الْجُمْهُورِ وَمِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ , وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ , فَلَمْ يَرَيَا تَوَقُّفَهَا عَلَى الْقَضَاءِ , لِأَنَّ الْفُرْقَةَ حِينَئِذٍ طَلَاقٌ فِي رَأْيِهِمَا . د - خِيَارُ الْبُلُوغِ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إذَا زَوَّجَهُمَا فِي الصِّغَرِ غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ . هـ - خِيَارُ الْإِفَاقَةِ مِنْ الْجُنُونِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إذَا زَوَّجَ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْجُنُونِ غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالِابْنِ . وَأَمَّا الْفَسْخُ غَيْرُ الْمُتَوَقِّفِ عَلَى الْقَضَاءِ فَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ فِي الْأُمُورِ التَّالِيَةِ : أ - ( فَسَادُ الْعَقْدِ فِي أَصْلِهِ , كَالزَّوَاجِ بِغَيْرِ شُهُودٍ ) . ب - ( طُرُوءُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ) . ج - رِدَّةُ الزَّوْجِ فِي رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ , فَإِنْ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ .
===============
تَوْبَةُ الْفَاسِقِ :(2)
19 - تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْفَاسِقِ إذَا اسْتَجْمَعَتْ شُرُوطَهَا , إلَّا ثَلَاثَةً اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ , هُمْ : الزِّنْدِيقُ وَالسَّاحِرُ وَمَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( تَوْبَةٌ ف 12 )
===============
قَذْفُ الْمُرْتَدِّ وَالْكَافِرِ وَالذِّمِّيِّ وَالْفَاسِقِ :(3)
46 - مَنْ قَذَفَ مُرْتَدًّا لَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ غَيْرُ مُحْصَنٍ بِأَنْ خَرَجَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ , وَإِنْ ارْتَدَّ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ قَذْفِهِ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ وَلَوْ تَابَ بِأَنْ رَجَعَ لِلْإِسْلَامِ , وَقَالَ الْمُزَنِيّ وَأَبُو ثَوْرٍ : إنْ ارْتَدَّ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ قَذْفِهِ فَإِنَّ رِدَّتَهُ لَا تُسْقِطُ الْحَدَّ ; لِأَنَّهَا أَمْرٌ طَرَأَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ فَلَا يَسْقُطُ مَا وَجَبَ مِنْ الْحَدِّ . وَمَنْ قَذَفَ كَافِرًا وَلَوْ ذِمِّيًّا لَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَيُعَزَّرُ لِلْإِيذَاءِ , لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ } , وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : عَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ , قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَجُلُّ الْعُلَمَاءِ مُجْمِعُونَ وَقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ , وَلَمْ أُدْرِكْ أَحَدًا وَلَا لَقِيته يُخَالِفُ ذَلِكَ . وَيُحَدُّ قَاذِفُ الْفَاسِقِ إذَا كَانَ فِسْقُهُ بِغَيْرِ الزِّنَا ; لِكَوْنِهِ عَفِيفًا عَنْ الزِّنَا فَهُوَ مُحْصَنٌ وَقَذْفُ الْمُحْصَنِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ , قَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } الْآيَةَ .
==============
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11621)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11629)
(3) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11900)(2/420)
مَا يَقْطَعُ أَحْكَامَ الْقَرَابَةِ مِنْ الرِّدَّةِ أَوْ اخْتِلَافِ الدِّينِ :(1)
17 - لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الْقَرَابَةِ تَتَأَثَّرُ بِالْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ ( اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ ف 3 , وَاخْتِلَافُ الدِّينِ ف 2 , وَرِدَّةٌ ف 47 , وَإِرْثٌ ف 18 ) .
=============
مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ :(2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11954)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12287)(2/421)
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ عَلَى النَّاسِي وَالنَّائِمِ , كَمَا يَرَى الْفُقَهَاءُ وُجُوبَ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ عَلَى السَّكْرَانِ بِالْمُحَرَّمِ . وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ إذَا أَسْلَمَ . 7 - وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى تَارِكِ الصَّلَاةِ عَمْدًا , وَالْمُرْتَدِّ , وَالْمَجْنُونِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ , وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ , وَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ فِي الْوَقْتِ , وَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَفَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ . 8 - فَأَمَّا الْمُتَعَمِّدُ فِي التَّرْكِ , فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْفَوَائِتِ , وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْمُجَامِعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا مَعَ الْكَفَّارَةِ } أَيْ بَدَلَ الْيَوْمِ الَّذِي أَفْسَدَهُ بِالْجِمَاعِ عَمْدًا , وَلِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى التَّارِكِ نَاسِيًا فَالْعَامِدُ أَوْلَى . وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَدَمَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ فِي التَّرْكِ , قَالَ عِيَاضٌ : وَلَا يَصِحُّ عِنْدَ أَحَدٍ سِوَى دَاوُد وَابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيِّ . 9 - وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ وُجُوبِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ الَّتِي تَرَكَهَا أَثْنَاءَ رِدَّتِهِ , لِأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا وَإِيمَانُهُ يَجُبُّهَا . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ بَعْدَ إسْلَامِهِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ , وَلِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا بِالْإِسْلَامِ فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِالْجُحُودِ كَحَقِّ الْآدَمِيِّ . وَذَكَرَ أَبُو إسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا عَنْ أَحْمَدَ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُرْتَدِّ رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ , وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ فِي حَالِ كُفْرِهِ , وَلَا فِي حَالِ إسْلَامِهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ , وَلَوْ كَانَ قَدْ حَجَّ لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ , لِأَنَّ عَمَلَهُ قَدْ حَبِطَ بِكُفْرِهِ . وَالثَّانِيَةُ : يَلْزَمُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ وَإِسْلَامِهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ , وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْحَجِّ , لِأَنَّ الْعَمَلَ إنَّمَا يَحْبَطُ بِالْإِشْرَاكِ مَعَ الْمَوْتِ . وَفِي الْإِنْصَافِ : وَإِنْ كَانَ مُرْتَدًّا فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَقْضِي مَا تَرَكَهُ قَبْلَ رِدَّتِهِ , وَلَا يَقْضِي مَا فَاتَهُ زَمَنَ رِدَّتِهِ . 10 - وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ جُنُونِهِ . ( ر : جُنُونٌ ف 11 ) . وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَى مَجْنُونٍ حَالَةَ جُنُونِهِ لِمَا فَاتَهُ فِي حَالَةِ عَقْلِهِ , كَمَا لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ عَقْلِهِ لِمَا فَاتَهُ حَالَةَ جُنُونِهِ , هَذَا إذَا اسْتَمَرَّ جُنُونُهُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لِلْحَرَجِ , وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ . وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَقَدْ بَقِيَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ خَمْسُ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ وَثَلَاثٌ فِي السَّفَرِ , وَجَبَتْ عَلَيْهِ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ , وَإِنْ بَقِيَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ إلَى رَكْعَةٍ وَجَبَتْ الْعَصْرُ وَحْدَهَا , وَإِنْ بَقِيَ أَقَلُّ مِنْ رَكْعَةٍ سَقَطَتْ الصَّلَاتَانِ , وَفِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إنْ بَقِيَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْجُنُونِ خَمْسُ رَكَعَاتٍ وَجَبَتْ الصَّلَاتَانِ , وَإِنْ بَقِيَ ثَلَاثًا سَقَطَتْ الْمَغْرِبُ , وَإِنْ بَقِيَ أَرْبَعٌ فَقِيلَ : تَسْقُطُ الْمَغْرِبُ , لِأَنَّهُ أَدْرَكَ قَدْرَ الْعِشَاءِ خَاصَّةً , وَقِيلَ : تَجِبُ الصَّلَاتَانِ , لِأَنَّهُ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ كَامِلَةً وَيُدْرِكُ الْعِشَاءَ بِرَكْعَةٍ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَى ذِي جُنُونٍ غَيْرِ مُتَعَدٍّ فِيهِ , وَيُسَنُّ لَهُ الْقَضَاءُ , أَمَّا الْمُتَعَدِّي فَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْ الصَّلَوَاتِ زَمَنَ ذَلِكَ لِتَعَدِّيهِ . وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمَجْنُونَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ , وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ فِي حَالِ جُنُونِهِ , إلَّا أَنْ يُفِيقَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ , لِأَنَّ مُدَّتَهُ تَطُولُ غَالِبًا , فَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ يَشُقُّ , فَعُفِيَ عَنْهُ . وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَثَرِ الْجُنُونِ فِي سُقُوطِ الصَّلَاةِ ( ر : جُنُونٌ ف 11 ) . 11 - وَأَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ , فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ إلَّا أَنْ يُفِيقَ فِي جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهَا وَلَمْ يُؤَدِّهَا , وَهَذَا قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ . وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَدِّيَ بِإِغْمَائِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ . وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ(2/422)
أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مُغْمًى عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إذَا زَادَتْ الْفَوَائِتُ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ . وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ : إنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ حُكْمُ النَّائِمِ , لَا يَسْقُطُ عَنْهُ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَجِبُ قَضَاؤُهَا عَلَى النَّائِمِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ . وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَثَرِ الْإِغْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ ( ر : إغْمَاءٌ ف 7 - 12 ) . 12 - وَأَمَّا الصَّبِيُّ , فَلَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , وَلَكِنَّهُ يُؤْمَرُ بِهَا إذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ , وَيُضْرَبُ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ , وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الصَّبِيَّ لَوْ كَانَ مُمَيِّزًا فَتَرَكَهَا ثُمَّ بَلَغَ أُمِرَ بِالْقَضَاءِ بَعْدَ الْبُلُوغِ نَدْبًا , كَمَا كَانَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَدَاؤُهَا . وَفِي أَوْجَهِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُضْرَبُ عَلَى الْقَضَاءِ . وَفِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ . وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَلْزَمُ الصَّبِيَّ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْ الصَّلَوَاتِ . وَعَنْ أَحْمَدَ : إنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ عَلَى مَنْ بَلَغَ عَشْرًا , وَعَنْهُ تَجِبُ عَلَى الْمُرَاهِقِ , وَعَنْهُ تَجِبُ عَلَى الْمُمَيِّزِ . وَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ إذَا بَلَغَ فِي أَثْنَائِهَا أَوْ بَعْدَهَا فِي الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إذَا صَلَّى الصَّبِيُّ وَظِيفَةَ الْوَقْتِ , ثُمَّ بَلَغَ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُعِيدَهَا , وَلَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ عَلَى الصَّحِيحِ . 13 - أَمَّا مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَتَرَكَ صَلَوَاتٍ أَوْ صِيَامًا لَا يَعْلَمُ وُجُوبَهُ , لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ وَإِطْلَاقَاتِ الْمَالِكِيَّةِ . وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُعْذَرُ مَنْ أَسْلَمَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُصَلِّ وَلَمْ يُزَكِّ وَهَكَذَا , لِجَهْلِهِ الشَّرَائِعَ , جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ : لَا قَضَاءَ عَلَى مُسْلِمٍ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُصَلِّ مُدَّةً لِجَهْلِهِ بِوُجُوبِهَا . 14 - وَأَمَّا فَاقِدُ الطَّهُورَيْنِ , فَقَدْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ : لَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ أَوْ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِمَا كَالْمُكْرَهِ وَالْمَرْبُوطِ , وَلَا يَقْضِيهَا عَلَى الْمَشْهُورِ إنْ تَمَكَّنَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ . وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ فَقَطْ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يَتَشَبَّهُ بِالْمُصَلِّينَ احْتِرَامًا لِلْوَقْتِ , فَيَرْكَعُ وَيَسْجُدُ إنْ وَجَدَ مَكَانًا يَابِسًا , وَإِلَّا فَيُومِئُ قَائِمًا , وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ بَعْدَ ذَلِكَ . وَلِلتَّفْصِيلِ ( ر : فَقْدُ الطَّهُورَيْنِ ف 2 ) . وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ يُقَاسُ عَلَى الْمَجْنُونِ , فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْ الصَّلَوَاتِ .
===============
الرّدّة بإهانة المصحف :(1)
33 - إذا أهان المسلم مصحفاً متعمّداً مختاراً يكون مرتداً ويقام عليه حد الرّدّة .
وقد اتّفق الفقهاء على ذلك , فمن صور ذلك ما قال الحنفيّة : لو وطئ برجله المصحف استخفافاً وإهانةً يكون كافراً , وكذا من أمر بوطئه يكون كافراً .
ولو ألقى مصحفاً في قاذورةٍ متعمّداً قاصداً الإهانة فقد ارتدّ عند الجميع , قال الشّافعيّة : وكذا لو مسّه بالقاذورة ولو كانت طاهرةً كالبصاق والمخاط .
فإن كان ذلك عن سهوٍ أو غفلةٍ أو في نومٍ لم يكفر .
وكذا إن كان مكرهاً أو مضطراً ففعله لا يكفر .
=================
سادساً : ردّة ربّ المال أو المضارب :(2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 13979)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 14074)(2/423)
77 - قال الحنفيّة : لو ارتدّ رب المال فباع المضارب واشترى بالمال بعد الرّدّة فذلك كله موقوف في قول أبي حنيفة : إن رجع إلى الإسلام بعد ذلك نفذ كله والتحقت ردّته بالعدم في جميع أحكام المضاربة وكأنّه لم يرتدّ أصلاً , وكذلك إن لحق بدار الحرب ثمّ عاد مسلماً قبل أن يحكم بلحاقه بدار الحرب - على الرّواية الّتي تشترط حكم الحاكم بلحاقه للحكم بموته وصيرورة أمواله ميراثاً لورثته - فإن مات أو قتل على الرّدّة أو لحق بدار الحرب وقضى القاضي بلحاقه بطلت المضاربة من يوم ارتدّ , على أصل أبي حنيفة أنّ ملك المرتدّ موقوف إن مات أو قتل أو لحق فحكم باللّحاق يزول ملكه من وقت الرّدّة إلى ورثته , ويصير كأنّه مات في ذلك الوقت فيبطل تصرف المضارب بأمره لبطلان أهليّة الآمر , ويصير كأنّه تصرّف في ملك الورثة , فإن كان رأس المال يومئذٍ قائماً في يده لم يتصرّف فيه , ثمّ اشترى بعد ذلك فالمشترى وربحه يكون له لأنّه زال ملك ربّ المال عن المال فينعزل المضارب عن المضاربة , فصار متصرّفاً في ملك الورثة بغير أمرهم , وإن كان صار رأس المال متاعاً فبيع المضارب فيه وشراؤه جائز حتّى ينضّ رأس المال , لأنّه في هذه الحالة لا ينعزل بالعزل والنّهي ولا بموت ربّ المال فكذلك ردّته , فإن حصل في يد المضارب دنانير ورأس المال دراهم أو العكس فالقياس أن لا يجوز له التّصرف , لأنّ الّذي حصل في يده من جنس رأس المال معنىً , لاتّحادهما في الثّمنيّة فيصير كأنّ عين المال قائم في يده إلا أنّهم استحسنوا فقالوا : إن باعه بجنس رأس المال جاز , لأنّ على المضارب أن يردّ مثل رأس المال فكان له أن يبيع ما في يده كالعروض .
وأمّا على أصل أبي يوسف ومحمّدٍ فالرّدّة لا تقدح في ملك المرتدّ فيجوز تصرف المضارب بعد ردّة ربّ المال كما يجوز تصرف ربّ المال بنفسه عندهما , فإن مات رب المال أو قتل كان موته كموت المسلم في بطلان عقد المضاربة , وكذلك إن لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه , لأنّ ذلك بمنزلة الموت بدليل أنّ ماله يصير ميراثاً لورثته فبطل أمره في المال . وإن لم يرتدّ رب المال ولكنّ المضارب ارتدّ , فالمضاربة على حالها في قولهم جميعاً , لأنّ وقوف تصرف ربّ المال بنفسه لوقوف ملكه ولا ملك للمضارب فيما يتصرّف فيه بل الملك لربّ المال ولم توجد منه الرّدّة فبقيت المضاربة , إلا أنّه لا عهدة على المضارب وإنّما العهدة على ربّ المال ، في قياس قول أبي حنيفة ، لأنّ العهدة تلزم بسبب المال فتكون على ربّ المال , فأمّا على قولهما فالعهدة عليه , لأنّ تصرفه كتصرف المسلم .
وإن مات المضارب أو قتل على الرّدّة بطلت المضاربة لأنّ موته في الرّدّة كموته قبل الرّدّة , وكذا إذا لحق بدار الحرب وقضي بلحاقه , لأنّ ردّته مع اللّحاق والحكم به بمنزلة موته في بطلان تصرفه , فإن لحق بدار الحرب بعد ردّته فباع واشترى هناك ثمّ رجع مسلماً فجميع ما اشترى وباع في دار الحرب يكون له ولا ضمان عليه في شيءٍ , لأنّه لمّا لحق بدار الحرب صار كالحربيّ إذا استولى على مال إنسانٍ ولحق بدار الحرب : أنّه يملكه فكذا المرتد .
وارتداد المرأة وعدم ارتدادها سواء في قولهم جميعاً , كان المال لها أو كانت هي مضاربةً , لأنّ ردّتها لا تؤثّر في ملكها إلا أن تموت فتبطل المضاربة كما لو ماتت قبل الرّدّة أو لحقت بدار الحرب وحكم بلحاقها لأنّ ذلك بمنزلة الموت .
==============
وجوب المتعة للمفوّضة إذا طلقت قبل الدخول :(1)
10 - ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا طلقت المفوّضة قبل الدخول بها وقبل أن يفرض لها مهر فلا تستحق على زوجها شيئاً إلا المتعة , واختلفوا في وجوب المتعة لها إذا كانت الفرقة من جهة الزّوج لا من جهتها :
فذهب الجمهور وهم الحنفيّة والشّافعيّة في الجديد والحنابلة إلى وجوب المتعة لها إذا طلقت قبل الدخول وقبل أن يفرض لها شيء وذلك إذا كانت الفرقة من جهة الزّوج كأن يطلّق أو يلاعن أو يفسخ العقد من قبلها بسبب الجبّ والعنّة والرّدّة منه وإبائه الإسلام وتقبيله ابنتها , أو أمّها عند من يرى ذلك .
أمّا إذا كان السّبب من جهتها فلا متعة لها عندهم لا وجوباً ولا استحباباً .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة في القديم إلى أنّ المتعة ليست واجبةً للمفوّضة .
وسبب الخلاف يعود إلى اختلافهم في تفسير بعض الألفاظ الواردة في قوله تعالى : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ } .
وينظر التّفصيل في مصطلح : ( تفويض ف 8 , متعة الطّلاق ف 2 ) .
================
خامساً - سب الملائكة :(2)
9 - اتّفق الفقهاء على أنّ من سبّ أنبياء اللّه تعالى أو ملائكته - الوارد ذكرهم في الكتاب الكريم والسنّة الصّحيحة - أو استخفّ بهم أو كذّبهم فيما أتوا به أو أنكر وجودهم وجحد نزولهم قتل كفراً .
واختلفوا هل يستتاب أم لا ؟
فقال الجمهور : يستتاب وجوباً أو استحباباً على خلاف بينهم .
وعند المالكيّة : لا يستتاب على المشهور .
قال الدسوقي : قتل ولم يستتب - أيّ بلا طلب أو بلا قبول توبة منه - حداً إن تاب وإلّا قتل كفراً , إلّا أن يسلم الكافر فلا يقتل لأنّ الإسلام يجب ما قبله .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 14312)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 14413)(2/424)
قال الموّاق : وهذا كله فيمن تحقّق كونه من الملائكة والنّبيّين كجبريل وملك الموت والزّبانية ورضوان ومنكر ونكير , فأمّا من لم تثبت الأخبار بتعيينه ولا وقع الإجماع على كونه من الملائكة أو الأنبياء , كهاروت وماروت , ولقمان وذي القرنين ومريم وأمثالهم فليس الحكم فيهم ما ذكرنا إذ لم تثبت لهم تلك الحرمة , لكن يؤدّب من تنقّصهم .
وأمّا إنكار كونهم من الملائكة أو النّبيّين فإن كان المتكلّم من أهل العلم فلا حرج , وإن كان من عوامّ النّاس زجر عن الخوض في مثل هذا , وقد كره السّلف الكلام في مثل هذا ممّا ليس تحته عمل .( ر : ردّة ف / 16 - 17 , 35 ) .
=================
المرتد :(1)
2 - من معاني المرتدّ في اللغة الرّاجع عن الشّيء ، والرّدّة الرجوع عن الشّيء إلى غيره. والمرتد شرعاً : هو الرّاجع عن دين الإسلام .
والعلاقة بين المنتقل والمرتدّ أنّ كلاً منهما خرج عن دينه ، إلّا أنّ المرتدّ خرج من دين الحقّ إلى الباطل ، والمنتقل خرج من الباطل إلى الباطل .
الأحكام المتعلّقة بالمنتقل :
الدّين الّذي يُقَرّ عليه المنتقل :
3 - اختلف الفقهاء في الدّين الّذي يقر عليه المنتقل إلى عدّة آراء :
ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه تقبل الجزية من كتابي ومجوسي ، ووثني عجمي .
كما ذهبوا إلى أنّه إذا انتقل واحد منهم من دينه إلى دين آخر غير الإسلام ، فإنّه لا يجبر على العود للدّين الّذي كان عليه ، لأنّ الكفر كلّه ملّة واحدة .
وحكى القاضي أبو بكر المالكي روايةً : أنّ المنتقل يقتل لخروجه عن العهد الّذي انعقد له إلّا أن يسلم .
وذهب الشّافعيّة في الأظهر والحنابلة في إحدى الرّوايتين - اقتصر عليها البهوتيّ - إلى أنّه إذا انتقل كتابيّ إلى دين آخر من أهل الكتاب كاليهوديّ يتنصّر أو النّصرانيّ يتهوّد لم يقرّ بالجزية لقوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } ، وقد أحدث ديناً باطلاً بعد اعترافه ببطلانه فلا يقر عليه .
قال الخطيب من الشّافعيّة : محل عدم قبول غير الإسلام فيما بعد عقد الجزية كما بحثه الزّركشي ، أمّا لو تهوّد نصرانيّ بدار الحرب ثمّ جاءنا وقبل الجزية فإنّه يقر لمصلحة قبولها.
ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة والرّواية الثّانية للحنابلة - نصّ عليه أحمد وهو ظاهر كلام الخرقيّ واختيار الخلّال - أنّه يقر على الدّين الّذي انتقل إليه لأنّه لم يخرج عن دين أهل الكتاب ، ولتساويهما في التّقرير بالجزية وكل منهما خلاف الحقّ .
وفي قول عند الشّافعيّة : يقبل منه الإسلام أو دينه الأوّل لأنّه كان مقراً عليه .
وصرّح الحنابلة والشّافعيّة بأنّه إذا انتقل الكتابي إلى غير دين أهل الكتاب كما لو توثّن يهوديّ أو نصرانيّ لم يقرّ بالجزية قطعاً .
وفيما يقبل منه قولان عند الشّافعيّة : أظهرهما الإسلام . والثّاني : هو أو دينه الأوّل . وانفرد المحلّي - في شرح المنهاج - بإضافة قول ثالث في هذه المسألة وهو أنّه يقر على مساويه .
ونصّ الشّافعيّة على أنّه لو تهوّد وثنيّ أو تنصّر لم يقرّ بالجزية ويتعيّن الإسلام في حقّه لانتقاله عمّا لا يقر عليه إلى باطل والباطل لا يفيد الإقرار .
وقال الحنابلة : إذا انتقل مجوسيّ إلى دين لا يقر أهله عليه لم يقرّ كأهل ذلك الدّين . وإنّ انتقل إلى دين أهل الكتاب ، خرج فيه الرّوايتان :
إحداهما : لا يقر .
والثّانية : يقر عليه
نكاح المنتقل :
اختلف الفقهاء في حكم نكاح اليهوديّة إذا تنصّرت والنصرانية إذا تهوّدت والمجوسيّة إذا تهوّدت أو تنصّرت .
وتوضيح ذلك فيما يلي :
أ - نكاح المسلم للمنتقلة :
4 - اختلف الفقهاء في حكم نكاح المسلم للمنتقلة :
فذهب الجمهور إلى أنّه يجوز للمسلم نكاح المنتقلة إلى اليهوديّة أو النّصرانيّة دون المجوسيّة ، لأنّ الكفر كلّه ملّة واحدة ، ولأنّ المنتقلة تقر على ما انتقلت إليه ، ولعموم قوله تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } .
وذهب الشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة إلى أنّه لا يجوز للمسلم نكاح المنتقلة من اليهوديّة إلى النّصرانيّة أو العكس وإن كانت منكوحة مسلم فإنَّ تهودها أو تنصرها كردّة مسلمة تحته فتنجّز الفرقة في الحال ولا مهر لها لأنّ الفسخ من قبلها وذلك إذا كان قبل الدخول ، وإن كان بعد الدخول وقف نكاحها على انقضاء العدّة فإن أسلمت قبل انقضاء العدّة أو عادت إلى دينها الأوّل عند الشّافعيّة في قول دام النّكاح ، وإلّا بان حصول الفرقة من وقت الانتقال ، وهو إحدى الرّوايتين عند الحنابلة ، وفي رواية أخرى ينفسخ في الحال .
ب - انتقال أحد الزّوجين الذّمّيّين إلى غير دين الإسلام :
5 - إذا انتقل أحد الزّوجين الذّمّيّين إلى دين كفر آخر فيرى الحنفيّة أنّهما على نكاحهما . قال ابن عابدين : النّصرانيّة إذا تهوّدت أو عكسه لا يلتفت إليهم لأنّ الكفر كلّه ملّة واحدة وكذا لو تمجّست زوجة النّصرانيّ فهما على نكاحهما كما لو كانت مجوسيّةً في الابتداء ، والمراد بالمجوسيّ من ليس له كتاب سماويّ فيشمل الوثنيّ والدّهريّ .
وهذا ما تقتضيه عبارات فقهاء المالكيّة حيث يصرّحون بفساد أنكحة الكفّار .
ويرى الشّافعيّة أنّ المنتقلة إن كانت منكوحة كافر لا يرى حلّ المنتقلة فهي كالمرتدّة فتتنجّز الفرقة قبل الوطء وكذا بعده إن لم تعد إلى دينها قبل انقضاء العدّة
أمّا إن كان الزّوج الكافر يرى نكاحها فتقر .
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 14514)(2/425)
وصرّح الحنابلة بأنّه إذا انتقل أحد الزّوجين الذّمّيّين إلى دين لا يقر عليه كاليهوديّ يتنصّر أو النّصرانيّ يتهوّد ، أو تمجّس أحد الزّوجين الكتابيّين فكالرّدّة فينفسخ النّكاح قبل الدخول ويتوقّف بعده على انقضاء العدّة ، لأنّه انتقال إلى دين باطل قد أقرّ ببطلانه فلم يقرّ عليه كالمرتدّ .
ج - انتقال أحد الزّوجين الذّمّيّين إلى الإسلام :
6 - للفقهاء في الآثار المترتّبة على انتقال أحد الزّوجين الكافرين إلى الإسلام خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح ( إسلام ف / 5 ) .
================
الزّيادة في المهر والحط منه :(1)
21 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ الزّيادة في المهر بعد العقد تلحق به ، واستدلوا بقوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } .
فإنّه يتناول ما تراضيا على إلحاقه وإسقاطه ، ولأنّ ما بعد العقد زمن لفرض المهر فكان حالة الزّيادة كحالة العقد .
جاء في الفتاوى الهنديّة : الزّيادة في المهر صحيحة حال قيام النّكاح عند علمائنا الثّلاثة " أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّد " ، فإذا زادها في المهر بعد العقد لزمته ، هذا إذا قبلت المرأة الزّيادة ، سواء كانت من جنس المهر أو لا ، من زوج أو من ولي .
والزّيادة إنّما تتأكّد بأحد معان ثلاثة : إمّا بالدخول وإمّا بالخلوة وإمّا بموت أحد الزّوجين ، فإن وقعت الفرقة بينهما من غير هذه المعاني الثّلاثة بطلت الزّيادة وتنصّف الأصل ولا تنتصف الزّيادة ، وعن أبي يوسف أنّه تنتصف الزّيادة .
وقال زفر : إن زاد لها في المهر بعد العقد لا تلزمه الزّيادة ، لأنّه لو صحّ بعد العقد لزم كون الشّيء بدل ملكه .
وإن حطّت الزّوجة عن زوجها مهرها صحّ الحط عند الحنفيّة ولو بشرط كما لو تزوّجها بمائة دينار على أن تحطّ عنه خمسين منها فقبلت لأنّ المهر بقاء حقّها والحط يلاقيه حالة البقاء ، ويصح الحط ولو بعد الموت أو البينونة .
وصرّح الحنفيّة بأنّ حطّ وليّ الزّوجة غير صحيح ، فإن كانت الزّوجة صغيرةً فالحط باطل ، وإن كانت كبيرةً توقّف على إجازتها .
ثمّ يشترط في صحّة الحطّ أن يكون المهر دراهم أو دنانير ، فلو كان عيناً لا يصح لأنّ الحطّ لا يصح في الأعيان ، ومعنى عدم صحّته أنّ لها أن تأخذه ما دام قائماً ، فلو هلك في يده سقط المهر عنه لأنّ المهر صار مضموناً بالقيمة في ذمّته فيصح الإسقاط .
كما يشترط لصحّة حطّها أن لا تكون مريضةً مرض الموت لأنّ الحطّ في مرض الموت وصيّة تتوقّف على الإجازة ، إلّا أن تكون مبانةً من الزّوج وقد انقضت عدّتها فينفذ من الثلث .
ولا بدّ لصحّة حطّها من الرّضا حتّى لو كانت مكرهةً لم يصحّ ، فلو خوّف امرأته بضرب حتّى وهبت مهرها لا يصح إن كان قادراً على الضّرب .
ولو اختلفا في الكراهية والطّوع - ولا بيّنة - فالقول لمدّعي الإكراه ، ولو أقاما البيّنة فبيّنة الطّواعية أولى .
وقال المالكيّة : إذا وهبت الزّوجة من زوجها جميع صداقها ، ثمّ طلّقها قبل البناء لم يرجع عليها بشيء ، وكأنّها عجّلت إليه بالصّداق ، ولأنّها لمّا لم يستقرّ ملكها عليه على المشهور، وانكشف الآن أنّها إنّما تملك منه النّصف ، وافقت هبتها ملكها وملكه ، فنفذت في ملكها دون ملكه .
ولو وهبت منه نصف الصّداق ثمّ طلّقها فله الربع ، وكذلك إن وهبته أكثر من النّصف أو أقلّ، فله نصف ما بقي لها بعد الهبة .
وقالوا : يجوز للأب أن يسقط نصف صداق ابنته البكر إذا طلقت قبل البناء .
وذهب الشّافعيّة في الأظهر إلى أنّ الزّوجة لو وهبت المهر لزوجها بلفظ الهبة بعد قبضها له - والمهر عين - ثمّ طلّق ، أو فارق بغير طلاق - كردّة قبل الدخول - فله نصف بدل المهر من مثل أو قيمة ، لأنّه ملك المهر قبل الطّلاق من غير جهة الطّلاق .
وفي مقابل الأظهر لا شيء له لأنّها عجّلت له ما يستحق بالطّلاق فأشبه تعجيل الدّين قبل الدخول .
ولو كان الصّداق ديناً فأبرأته منه لم يرجع على المذهب ، ولو وهبت له الدّين ، فالمذهب أنّه كالإبراء ، وقيل كهبة العين .
وصرّح الشّافعيّة على الجديد بأنّه : ليس للوليّ العفو عن مهر موليّته كسائر ديونها ، والقديم له ذلك بناءً على أنّه الّذي بيده عقدة النّكاح .
وقال الحنابلة : إذا طلّق الزّوج زوجته قبل الدخول والخلوة وسائر ما يقرّر الصّداق ، فأي الزّوجين عفا لصاحبه عمّا وجب له من المهر - والعافي جائز التّصرف - برئ منه صاحبه، سواء كان المعفو عنه عيناً أو ديناً ، فإن كان المعفو عنه ديناً سقط بلفظ الهبة والتّمليك والإسقاط والإبراء والعفو والصّدقة والتّرك ، ولا يفتقر إسقاطه إلى القبول كسائر الديون .
وإن كان المعفو عنه عيناً في يد أحدهما فعفا الّذي هو في يده فهو هبة يصح بلفظ العفو والهبة والتّمليك ، ولا يصح بلفظ الإبراء والإسقاط ، لأنّ الأعيان لا تقبل ذلك أصالةً ، ويفتقر لزوم العفو عن العين ممّن هي بيده إلى القبض فيما يشترط فيه القبض ، لأنّ ذلك هبة حقيقة ولا تلزم إلّا بالقبض ، والقبض في كلّ شيء بحسبه .
ولا يملك الأب العفو عن نصف مهر ابنته الصّغيرة إذا طلقت - ولو قبل الدخول - كثمن مبيعها ، ولا يملك الأب أيضاً العفو عن شيء من مهر ابنته الكبيرة إذا طلقت ولو قبل الدخول لأنّه لا ولاية له عليها .
ولا يملك غير الأب من الأولياء كالجدّ والأخ والعمّ العفو عن شيء من مهر وليّته ولو طلقت قبل الدخول لأنّه لا ولاية لهم في المال .
===============
أ - مواضع تنصف المهر :(2)
38 - قال الحنفيّة : ما يسقط به نصف المهر نوعان :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 14584)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 14598)(2/426)
نوع يسقط به نصف المهر صورةً ومعنىً ، ونوع يسقط به نصف المهر معنىً والكل صورة.
أمّا النّوع الأوّل : فهو الطّلاق قبل الدخول في نكاح فيه تسمية المهر ، والمهر دين لم يقبض بعد .
وأمّا النّوع الثّاني : وهو ما يسقط به نصف المهر معنىً والكل صورة فهو كل طلاق تجب فيه المتعة .
وتجب المتعة عند الحنفيّة في الطّلاق قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه ولا فرض بعده ، أو كانت التّسمية فيه فاسدةً ، وكذا في الفرقة بالإيلاء واللّعان والجبّ والعنّة ، فكل فرقة جاءت من قبل الزّوج قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه توجب المتعة ، لأنّها توجب نصف المسمّى في نكاح فيه تسمية ، والمتعة عوضٌ عنه كردّة الزّوج وإبائه الإسلام .
وصرّح المالكيّة بأنّ اختيار الزّوج لإيقاع الطّلاق قبل المسيس يوجب تشطير المهر الثّابت بتسمية مقرونة بالعقد صحيحة ، أو بفرض صحيح بعد العقد في المفوّضة ، ويستوي فيه عدد الموقع من الطّلاق ، وأمّا إذا أرادت الزّوجة ردّ زوجها بعيب به قبل البناء فطلّق عليه لامتناعه منه ، أو فسخ الزّوج النّكاح لعيب بها قبل البناء فإنّه لا شيء لها على الزّوج . قال ابن شاسٍ : وإنّما يسقط جميع المهر قبل المسيس بالفسخ أو باختياره ردّها لعيبها ، وفي اختيارها لردّه بعيبه خلاف لأنّه غار ، ولا صداق لها فيما سوى ذلك .
وقال الشّافعيّة : يتشطّر الصّداق بالطّلاق والخلع قبل الدخول ، وفيما إذا طلّقت نفسها بتفويضه إليها ، أو علّق طلاقها بدخول الدّار فدخلت ، أو طلّقها بعد مدّة الإيلاء بطلبها ، وبكلّ فرقة تحصل لا بسبب من المرأة ، بأن أسلم ، أو ارتدّ ، أو أرضعت أم الزّوجة الزّوج وهو صغير ، أو أم الزّوج أو ابنته الزّوجة الصّغيرة ، أو وطئها أبوه أو ابنه بشبهة وهي تظنه زوجها ، أو قذفها ولاعن .
فأمّا إذا كان الفراق منها أو بسبب منها بأن أسلمت ، أو ارتدّت أو فسخت النّكاح بعتق أو عيب ، أو أرضعت زوجةً أخرى له صغيرةً ، أو فسخ النّكاح بعيبها فيسقط جميع المهر ، وشراؤها زوجها يسقط الجميع على الأصحّ ، وشراؤه زوجته يشطّر على الأصحّ .
ويرى الحنابلة أنّ المهر يتنصّف بشراء الزّوجة زوجها ، وفرقة من قبله كطلاقه وخلعه - ولو بسؤالها - وإسلامه ما عدا مختارات من أسلم ، وردّته وشرائه إيّاها ولو من مستحقّ مهر أو من قبل أجنبي - كرضاع ونحوه - قبل دخول .
ب - كيفيّة تنصف المهر :
39 - قال الحنفيّة : إنّ الطّلاق قبل الدخول في نكاح فيه تسمية قد يسقط به عن الزّوج نصف المهر ، وقد يعود به إليه النّصف ، وقد يكون له به مثل النّصف صورةً ومعنىً ، أو معنىً لا صورةً .
وبيان هذه الجملة : أنّ المهر المسمّى إمّا أن يكون ديناً ، وإمّا أن يكون عيناً ، وكل ذلك لا يخلو إمّا أن يكون مقبوضاً ، وإمّا أن يكون غير مقبوض .
فإن كان ديناً فلم يقبضه حتّى طلّقها قبل الدخول بها سقط نصف المسمّى بالطّلاق وبقي النّصف ، وهذا طريق عامّة مشايخ الحنفيّة .
وقال بعضهم : إنّ الطّلاق قبل الدخول يسقط جميع المسمّى وإنّما يجب نصف آخر ابتداءً على طريقة المتعة لا بالعقد ، إلّا أنّ هذه المتعة مقدّرة بنصف المسمّى ، والمتعة في الطّلاق قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه غير مقدّرة بنصف مهر المثل .
وإلى هذا الطّريق ذهب الكرخي والرّازي ، وكذا روي عن إبراهيم النّخعيّ أنّه قال في الّذي طلّق قبل الدخول وقد سمّى لها : أنّ لها نصف المهر وذلك متعتها .
وهذا إذا كان المهر ديناً فقبضته أو لم تقبضه حتّى ورد الطّلاق قبل الدخول .
فأمّا إذا كان المهر عيناً بأن كان معيّناً مشاراً إليه ممّا يحتمل التّعيين كالعبد والجارية وسائر الأعيان فلا يخلو : إمّا إن كان بحاله لم يزد ولم ينقص ، وإمّا أن زاد أو نقص .
فإن كان بحاله لم يزد ولم ينقص : فإن كان غير مقبوض فطلّقها قبل الدخول بها عاد الملك في النّصف إليه بنفس الطّلاق ولا يحتاج للعود إليه إلى الفسخ والتّسليم منها ، حتّى لو كان المهر أمةً فأعتقها الزّوج قبل الفسخ والتّسليم ينفذ إعتاقه في نصفها بلا خلاف .
وإن كان مقبوضاً لا يعود الملك في النّصف إليه بنفس الطّلاق ولا ينفسخ ملكها في النّصف حتّى يفسخه الحاكم أو تسلّمه المرأة .
هذا إذا كان المهر لم يزد ولم ينقص .
فأمّا إذا زاد فالزّيادة لا تخلو : إمّا أن كانت في المهر أو على المهر : فإن كانت على المهر بأن سمّى الزّوج لها ألفاً ثمّ زادها بعد العقد مائةً ثمّ طلّقها قبل الدخول بها ، فلها نصف الألف وبطلت الزّيادة في ظاهر الرّواية .
وروي عن أبي يوسف أنّ لها نصف الألف ونصف الزّيادة أيضاً .
وإن كانت الزّيادة في المهر فالمهر لا يخلو : إمّا أن يكون في يد الزّوج وإمّا أن يكون في يد المرأة .
فإن كان في يد الزّوج فالزّيادة لا تخلو أمّا إن كانت متّصلةً بالأصل ، وإمّا إن كانت منفصلةً عنه .
والمتّصلة لا تخلو من أن تكون متولّدةً من الأصل كالسّمن والكبر والجمال والبصر والسّمع والنطق وانجلاء بياض العين وزوال الخرس والصّمم ، والشّجر إذا أثمر ، والأرض إذا زرعت ، أو غير متولّدة منه كالثّوب إذا صبغ ، والأرض إذا بني فيها بناء ، وكذا المنفصلة لا تخلو : أمّا إن كانت متولّدةً من الأصل كالولد والوبر والصوف إذا جزّ ، والشّعر إذا أزيل، والثّمر إذا جدّ ، والزّرع إذا حصد ، أو كانت في حكم المتولّد منه كالأرش والعقر .
وأمّا إن كانت غير متولّدة منه ، ولا في حكم المتولّد كالهبة والكسب .(2/427)
فإن كانت الزّيادة متولّدةً من الأصل أو في حكم المتولّد فهي مهر ، سواء كانت متّصلةً بالأصل أو منفصلةً عنه ، حتّى لو طلّقها قبل الدخول بها يتنصّف الأصل والزّيادة جميعاً بالإجماع ، لأنّ الزّيادة تابعة للأصل لكونها نماء الأصل ، والأرش بدل جزء هو مهر فليقوم مقامه ، والعقر بدل ما هو في حكم الجزء فكان بمنزلة المتولّد من المهر . فإذا حدثت قبل القبض - وللقبض شبه بالعقد - فكان وجودها عند القبض كوجودها عند العقد ، فكانت محلاً للفسخ .
وإن كانت غير متولّدة من الأصل : فإن كانت متّصلةً بالأصل فإنّها تمنع التّنصيف ، وعليها نصف قيمة الأصل لأنّ هذه الزّيادة ليست بمهر - لا مقصوداً ولا تبعاً - لأنّها لم تتولّد من المهر فلا تكون مهراً فلا تتنصّف ، ولا يمكن تنصيف الأصل بدون تنصيف الزّيادة ، فامتنع التّنصيف ، فيجب عليها نصف قيمة الأصل يوم الزّيادة ، لأنّها بالزّيادة صارت قابضةً للأصل فتعتبر قيمته يوم حكم بالقبض .
وإن كانت الزّيادة منفصلةً عن الأصل فالزّيادة ليست بمهر ، وهي كلها للمرأة في قول أبي حنيفة ولا تتنصّف ويتنصف الأصل ، وعند أبي يوسف ومحمّد هي مهر فتتنصّف مع الأصل.
وإن كانت الزّيادة متّصلةً غير متولّدة من الأصل فإنّها تمنع التّنصيف ، وعليها نصف قيمة الأصل .
وإن كانت منفصلةً متولّدةً من الأصل فإنّها تمنع التّنصيف في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّد ، وعليها رد نصف قيمة الأصل .
وقال زفر : لا تمنع وينتصف الأصل مع الزّيادة .
وإن كانت منفصلةً غير متولّدة من الأصل فهي لها خاصّةً والأصل بينهما نصفان بإجماع الحنفيّة .
أمّا حكم النقصان : فحدوث النقصان في المهر لا يخلو إمّا أن يكون في يد الزّوج وإمّا أن يكون في يد المرأة .
فإن كان النقصان في يد الزّوج فلا يخلو من خمسة أوجهٍ : إمّا أن يكون بفعل أجنبي ، وإمّا أن يكون بآفة سماويّة ، وإمّا أن يكون بفعل الزّوج ، وإمّا أن يكون بفعل المهر ، وإمّا أن يكون بفعل المرأة .
وكل ذلك لا يخلو : إمّا أن يكون قبل قبض المهر أو بعده ، والنقصان فاحشٌ أو غير فاحشٍ. فإن كان النقصان بفعل أجنبي وهو فاحشٌ قبل القبض : فالمرأة بالخيار إن شاءت أخذت العبد النّاقص واتّبعت الجاني بالأرش ، وإن شاءت تركت وأخذت من الزّوج قيمة العبد يوم العقد ، ثمّ يرجع الزّوج على الأجنبيّ بضمان النقصان وهو الأرش .
وإن كان النقصان بآفة سماويّة : فالمرأة بالخيار إن شاءت أخذته ناقصاً ولا شيء لها غير ذلك ، وإن شاءت تركته وأخذت قيمته يوم العقد .
وإن كان النقصان بفعل الزّوج ، ذكر في ظاهر الرّواية أنّ المرأة بالخيار إن شاءت أخذته ناقصاً وأخذت معه أرش النقصان ، وإن شاءت أخذت قيمته يوم العقد .
وروي عن أبي حنيفة : أنّ الزّوج إذا جنى على المهر فهي بالخيار إن شاءت أخذته ناقصاً ولا شيء لها غير ذلك ، وإن شاءت أخذت القيمة .
وإن كان النقصان بفعل المهر ، بأن جنى المهر على نفسه ففيه روايتان : في رواية : حكم هذا النقصان ما هو حكم النقصان بآفة سماويّة ، وفي رواية : حكمه حكم جناية الزّوج . وإن كان النقصان بفعل المرأة فقد صارت قابضةً بالجناية فجعل كأنّ النقصان حصل في يدها، كالمشتري إذا جنى على المبيع في يد البائع أنّه يصير قابضاً له كذا هاهنا .
هذا إذا كان النقصان فاحشاً .
فأمّا إذا كان النقصان يسيراً فلا خيار لها كما إذا كان هذا العيب به يوم العقد .
ثمّ إن كان هذا النقصان بآفة سماويّة أو بفعل المرأة أو بفعل المهر فلا شيء لها ، وإن كان بفعل الأجنبيّ تتبعه بنصف النقصان وكذا إذا كان بفعل الزّوج .
هذا إذا حدث النقصان في يد الزّوج .
فأمّا إذا حدث في يد المرأة فهذا أيضاً لا يخلو من الأقسام الّتي وصفناها .
وإن حدث بفعل أجنبي وهو فاحشٌ قبل الطّلاق فالأرش لها ، فإن طلّقها الزّوج فله نصف القيمة يوم قبضت ولا سبيل له على العين ، لأنّ الأرش بمنزلة الولد فيمنع التّنصيف كالولد. وإن كانت جناية الأجنبيّ عليه بعد الطّلاق فللزّوجة نصف العبد وهو بالخيار في الأرش إن شاء أخذ نصفه من المرأة واعتبرت القيمة يوم القبض ، وإن شاء اتّبع الجاني وأخذ منه نصفه .
وكذلك إن حدث بفعل الزّوج فجنايته كجناية الأجنبيّ ، لأنّه جنى على ملك غيره ولا يد له فيه فصار كالأجنبيّ ، والحكم في الأجنبيّ ما وصفنا .
وإن حدث بآفة سماويّة قبل الطّلاق فالزّوج بالخيار إن شاء أخذ نصفه ناقصاً ولا شيء له غير ذلك ، وإن شاء أخذ نصف القيمة يوم القبض ، لأنّ حقّه معها عند الفسخ كحقّه معها عند العقد ، ولو حدث نقصان في يده بآفة سماويّة كان لها الخيار بين أن تأخذه ناقصاً أو قيمته ، فكذا حق الزّوج معها عند الفسخ ، وإن كان ذلك بعد الطّلاق فللزّوج أن يأخذ نصفه ونصف الأرش ، وإن شاء أخذ قيمته يوم قبضت .
وكذلك إن حدث بفعل المرأة ، فالزّوج بالخيار : إن شاء أخذ نصفه ولا شيء له من الأرش، وإن شاء أخذ نصف قيمته عبداً عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّد .
وقال زفر : للزّوج أن يضمّنها الأرش .
وإن كان ذلك بعد الطّلاق : فعليها نصف الأرش لأنّ حقّ الفسخ قد استقرّ . وكذلك إن حدث بفعل المهر ، فالزّوج بالخيار على الرّوايتين جميعاً : إن شاء أخذ نصفه ناقصاً وإن شاء أخذ نصف القيمة لأنَّا إن جعلنا جناية المهر كالآفة السّماويّة لم تكن مضمونةً ، وإن جعلناها كجناية المرأة لم تكن مضمونةً أيضاً ، فلم تكن مضمونةً أيضاً على الرّوايتين .
هذا إذا كان النقصان فاحشاً .
فأمّا إن كان غير فاحشٍ فإن كان بفعل الأجنبيّ أو بفعل الزّوج لا يتنصّف لأنّ الأرش يمنع التّنصيف ، وإن كان بآفة سماويّة أو بفعلها أو بفعل المهر أخذ النّصف ولا خيار له .(2/428)
40 - وقال المالكيّة : يتشطّر المهر في نكاح التّسمية أو التّفويض إذا فرض مهر المثل أو ما رضيت به قبل الدخول .
وقال ابن شاسٍ : معنى التّشطير أن يرجع الملك في شطر الصّداق إلى الزّوج بمجرّد الطّلاق أو يبقى عليه .
ثمّ في معنى الصّداق في التّشطير كل ما نحله الزّوج للمرأة أو لأبيها أو لوصيّها الّذي يتولّى العقد ، في العقد أو قبله لأجله ، إذ هو للزّوجة إن شاءت أخذته ممّن جعل له .
وقال ابن جزي : ما حدث في الصّداق من زيادة ونقصان قبل البناء فالزّيادة لهما والنقصان عليهما وهما شريكان في ذلك فإن تلف في يد أحدهما فما لا يغاب عليه فخسارته منهما ، وما يغاب عليه خسارته ممّن هو في يده إن لم تقم بيّنة بهلاكه ، فإن قامت به بيّنة ، فاختلف : هل يضمنه من كان تحت يده أم لا ؟
================
41 - وأمّا كيفيّة التّشطر عند الشّافعيّة ففيها أوجه :(1)
الصّحيح : أنّه يعود إليه نصف الصّداق بنفس الفراق .
والثّاني : أنّ الفراق يثبت له خيار الرجوع في النّصف ، فإن شاء يملكه وإلّا فيتركه كالشّفعة .
والثّالث : لا يرجع إليه إلّا بقضاء القاضي .
ولو طلّق ثمّ قال : أسقطت خياري .
وقلنا : الطّلاق يثبت الخيار ، فقد أشار الغزالي إلى احتمالين :
أحدهما : يسقط كخيار البيع ، وأرجحهما : لا ، كما لو أسقط الواهب خيار الرجوع .
ولم يجر هذا التّردد فيما لو طلّق على أن يسلم لها كلّ الصّداق ، ويجوز أن يسوّى بين الصورتين .
ولو زاد المهر بعد الطّلاق فللزّوج كل الزّيادة إذا عاد إليه كل الصّداق ، أو نصفها إذا عاد إليه النّصف لحدوثها في ملكه ، سواء أكانت الزّيادة متّصلةً أم منفصلةً .
فإن نقص المهر بعد الفراق ولو بلا عدوان وكان بعد قبضه فللزّوج كل الأرش أو نصفه . فإن ادّعت حدوث النّقص قبل الطّلاق صدّقت بيمينها ، وإن فارق لا بسببها - كأن طلّق والمهر تالف - فللزّوج نصف بدله من مثل في المثليّ أو قيمة في المتقوّم ، لأنّه لو كان باقياً لأخذ نصفه ، فإذا فات رجع بنصف بدله كما في الرّدّ بالعيب .
وإن تعيّب المهر في يد الزّوجة قبل الفراق ، فإن قنع الزّوج بالنّصف معيّباً فلا أرش له ، كما لو تعيّب المبيع في يد البائع ، وأمّا إذا لم يقنع الزّوج به فإن كان متقوّماً فله نصف قيمته سليماً ، وإن كان مثليّاً فله مثل نصفه ، لأنّه لا يلزمه الرّضا بالمعيب فله العدول إلى بدله .
وإن تعيّب المهر بآفة سماويّة قبل قبضها له وقنعت به فللزّوج نصفه ناقصاً بلا أرشٍ ولا خيار .
وإن صار المهر ذا عيب بجناية من أجنبي يضمن جنايته ، وأخذت الزّوجة أرشها أو عفت عن أخذه فالأصح أنّ للزّوج نصف الأرش مع نصف العين لأنّه بدل الفائت .
والثّاني : لا شيء له من الأرش كالزّيادة المنفصلة .
وصرّح الشّافعيّة بأنّ الزّيادة المنفصلة الّتي حدثت بعد الإصداق كثمرة وأجرة تسلّم للمرأة ، سواء أحدثت في يده أم يدها لأنّها حدثت في ملكها ، والطّلاق إنّما يقطع ملكها من حين وجوده لا من أصله ، ويختص الرجوع بنصف الأصل .
وأمّا الزّيادة المتّصلة كالسّمن وتعلم صنعة فلا يستقل الزّوج بالرجوع إلى عين النّصف بل يخيّر الزّوجة فإن أبت رجع إلى نصف القيمة بغير تلك الزّيادة .
وإن سمحت أجبر الزّوج على القبول ولم يكن له طلب القيمة .
وإذا تغيَّر الصّداق بالزّيادة والنّقص معاً إمّا بسبب واحد : بأن أصدقها شجرةً فكبرت فقلّ ثمرها وزاد حطبها ، وإمّا بسببين : بأن أصدقها عبداً فتعلّم القرآن واعورّ فيثبت لكلّ منهما الخيار ، وللزّوج أن لا يقبل العين لنقصها ويعدّل إلى نصف القيمة ، وللزّوجة أن لا تبذلها لزيادتها وتدفع نصف القيمة .
فإن اتّفقا على ردّ العين جاز ولا شيء لأحدهما على الآخر .
وليس الاعتبار بزيادة القيمة ، بل كل ما حدث وفيه فائدة مقصودة فهو زيادة من ذلك الوجه، وإن نقصت القيمة .
وقالوا : وإذا أثبتنا الخيار للمرأة بسبب زيادة الصّداق أو للزّوج بنقصه أو لهما بهما لم يملك الزّوج النّصف قبل أن يختار من له الخيار الرجوع إن كان الخيار لأحدهما ، وقبل أن يتوافقا إن كان الخيار لهما وإن قلنا الطّلاق يشطّر الصّداق نفسه .
وهذا الاختيار ليس على الفور لكن إذا طلبه الزّوج كلّفت الزّوجة اختيار أحدهما ، ولا يعيّن الزّوج في طلبه عيناً ولا قيمةً ، لأنّ التّعيين يناقض تفويض الأمر إليها بل يطالبها بحقّه عندها ، فإن امتنعت من الاختيار لم تحبس ونزعت منها العين ، فإن أصرّت بيع منها بقدر الواجب ، فإن تعذّر : بيع الجميع وتعطى الزّائد ، وإن استوى نصف العين ونصف القيمة أعطي نصف العين .
ومتى استحقّ الرجوع في العين استقلّ به .
ومتى وجب الرجوع بقيمة المهر في المتقوّم لهلاك الصّداق أو غيره أعتبر الأقل من قيمة المهر يومي الإصداق والقبض .
42 - وذهب الحنابلة إلى أنّ من أقبض الصّداق الّذي تزوّج عليه ثمّ طلّق زوجته قبل الدخول بها ملك نصف الصّداق قهراً ، كالميراث إن بقي في ملكها بصفته حين العقد بأن لم يزد ولم ينقص ، ولو كان الباقي بصفته النّصف من الصّداق مشاعاً أو معيّناً من متنصّف . ويمنع ذلك بيع - ولو مع خيارها - وهبة أقبضت ، وعتق ، ورهن ، وكتابة ، لا إجارة وتدبير ، وتزويجٌ .
فإن كان المهر قد زاد زيادةً منفصلةً رجع الزّوج في نصف الأصل والزّيادة لها ، ولو كانت ولد أمة .
وإن كانت الزّيادة متّصلةً - وهي غير محجور عليها - خيّرت بين دفع نصفه زائداً وبين دفع نصف قيمته يوم العقد - إن كان متميّزاً ، وغير المتميّز له قيمة نصفه يوم الفرقة على أدنى صفة من العقد إلى القبض .
والمحجور عليها لا تعطيه - أي عن طريق وليّها - إلّا نصف القيمة .
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 14605)(2/429)
وإن نقص المهر بغير جناية عليه خيّر الزّوج - جائز التّصرف - بين أخذه ناقصاً ولا شيء له غيره وبين أخذ نصف قيمته يوم العقد إن كان متميّزاً ، وغير المتميّز يوم الفرقة على أدنى صفة من العقد إلى القبض .
وإن اختاره ناقصاً بجناية فله معه نصف أرشها ، وإن زاد من وجهٍ ونقص من آخر فلكلّ الخيار ، ويثبت بما فيه غرضٌ صحيح وإن لم تزد قيمته .
وإن تلف المهر أو أستحقّ بدين رجع في المثليّ بنصف مثله ، وفي غيره بنصف قيمة المتميّز يوم العقد ، وفي غير المتميّز يوم الفرقة على أدنى صفة من العقد إلى القبض .
ولو كان المهر ثوباً فصبغته ، أو أرضاً فبنتها ، فبذل الزّوج قيمة الزّائد ليملكه فلا ذلك . وإن نقص المهر في يدها بعد تنصفه ضمنت نقصه مطلقاً .
وما قبض من مسمّى بذمّة كمعيّن إلّا أنّه يعتبر في تقويمه صفته يوم قبضه .
=============
د - إمهال المرتدّ :(1)
7 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في قول إلى أنّ المرتدّ يمهل ثلاثة أيّام لاستتابته على الخلاف بين وجوب الاستتابة أو استحبابها ، غير أنّ الحنفيّة نصوا على أنّه يستتاب ، فإن أبى الإسلام نظر الإمام في ذلك ، فإن طمع في توبته أو سأل هو التّأجيل أجّله ثلاثة أيّام ، وإن لم يطمع في توبته ولم يسأل هو التّأجيل قتله من ساعته ، وهذا في ظاهر الرّواية ، وفي النّوادر عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنّه يستحب للإمام أن يؤجّله ثلاثة أيّام طلب ذلك أو لم يطلب .
وفي الأظهر عند الشّافعيّة لا يمهل وتجب الاستتابة في الحال .
وتفصيل ذلك في ( ردّة ف / 35 ) .
=============
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 14637)(2/430)
الباب الخامس
بعض أقوال المعاصرين
الردة والمفهوم المغلوط [ أبو سعد العاملي]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد
لم يكن المسلمون ليصلوا إلى هذا التدني والضعف الصارخ إلا بسبب الانحراف الكبير الذي حصل لديهم على مستوى الرؤية الشرعية، فكثير من المفاهيم صارت مغلوطة في أذهان المسلمين، مما أدى إلى وجود مواقف خاطئة اتجاه الأمور، بل إلى وجود مناهج منحرفة على المستوى النظري والتطبيقي على حد سواء.
فضاعت العقيدة الصحيحة وسط زخم من البدع والانحرافات، كما ضاعت الأمة وسط أعدائها، حيث أنها لم تعد تستطيع التمييز بين العدو والصديق، ولا بين الكافر والمؤمن، ولا بين المنافق والصادق، كل هذا بسبب انتشار مذاهب البدعة بدلاً من مذهب أهل السنة والجماعة.
فلا غرابة أن ترى أن من بين أهم أهداف الإسلام هو التفريق بين سبيل الحق وأهله وبين سبل الباطل وأهله {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِين}[الأنعام 55]، لكي يعلم المسلمون أين يضعون أقدامهم وهم يتحركون بهذا الدين، ومع من ينبغي التعاون وإعطاء الولاء وعلى من ينبغي إعلان العداء. هذه من أهم المحطات الإيمانية وأخطرها على الإطلاق في عقيدتنا الغراء.
فمفهوم الردة عند المسلمين قد أصابه انحراف كبير، حيث أصبح المرتد عند الغالبية شيء مستحيل الحدوث، ذلك أن عقيدة الإرجاء المترسخة في النفوس والعقول، تأبى أن نتصور مسلماً يخرج من دينه بسبب اقترافه بعض الأعمال الكفرية، فالردة أبعد منا بُعد السماء عن الأرض، فالمسلم يبقى مسلماً حتى وإن قال أو عمل ما هو كفر ألف مرة في اليوم والليلة، حيث حصرنا مفهوم الكفر أو الردة في الجحود أو الاستحلال، وليس في القول والعمل كما هو مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة.
حكم الردة أغلظ من حكم الكفر الأصلي :
بسبب خطورة الردة والمرتد على ديننا، نجد أن الشارع الحكيم قد أغلظ العقوبة للمرتد، بخلاف الكافر الأصلي، فالمرتد يُقتل في كل حال ولا يُدفن في مقابر المسلمين ولا يُصلى عليه ولا يُورَّث، كما تسبى نساء وذراري المرتدين المحاربين للمسلمين، ويجهز على جريحهم.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «وكفر الردّة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي»[ مجموع الفتاوى، 28/478] وقال كذلك: «وقد استقرّت السنّة بأنّ عقوبة المرتدّ أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعدّدة، منها أنّ المرتدّ يُقتل بكلّ حال ولا يُضرب عليه جزية، ولا تُعقَد له ذمّة، بخلاف الكافر الأصلي الذي ليس هو من أهل القتال، فإنّه لا يُقتل عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد، ولهذا كان مذهب الجمهور أنّّ المرتدّ يُقتل كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد، ومنها أنّ المرتدّ لا يرث ولا يناكح ولا تؤكل ذبيحته، بخلاف الكافر الأصلي إلى غير ذلك من الأحكام».[ مجموع الفتاوى، 28/534.]
بل إنّهم رأوا في المرتدّ أن لا يُدفن: قال إسحق بن منصور: «قلت لأحمد: المرتدّ إذا قُتل ما يُصنع بجيفته؟ قال: يُقال: يُترك حيث ضُرب عنقه كأنّما كان ذاك المكان قبره. يُعجبني هذا».[ السابق، فقرة 1301]
وقال ابن تيمية: «والصدّيق رضي الله عنه وسائر الصحابة بدأوا بجهاد المرتدّين قبل جهاد الكفّار من أهل الكتاب، فإنّ جهاد هؤلاء حفظ لما فُتح من بلاد المسلمين وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه، وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين، وحفظ رأس المال مقدّم على الربح».[ مجموع الفتاوى، 35/158-159]
فالتعامل الشرعي مع المرتدين هو القتل والقتال، بينما ينبغي دعوة الكافر الأصلي إلى الإسلام وعرض الجزية عليه، قبل الإقدام على عملية القتال في المطاف الأخير.
هذا هو الحكم الشرعي المنسي فيما يخص المرتد، والذي حلًّ محله الحكم الوضعي الذي يساوي بين المسلم والمرتد، بل تراه يعظِّم المرتد ويعلي من شأنه ويقلِّده المناصب الكبرى والحساسة في الحكم والتسيير.
العلاقة التاريخية بين المرتدين والمحتلين :(2/430)
لا شك أن من أعظم أسباب كفر هؤلاء المرتدين بعد تركهم لحكم الله تعالى واستبداله بحكم الطاغوت وعدم اتباعهم لشرع الله جملة وتفصيلاً، هو موالاتهم للكفار الأصليين وتبعيتهم لهم حذو القذة بالقذة، بالإضافة إلى الخضوع التام لأوامرهم وقوانينهم الكفرية.
فهذه العلاقة المحرمة نشأت منذ فجر ما يسمى كذباً وزوراً ب"استقلال بلداننا" أو ما اصطلح على تسميته "بحروب التحرير"، فالمحتل الصليبي ما استطاع أن يتمكن من بلداننا إلا بفضل التعاون المتين لهؤلاء المرتدين، حيث رضعوا من لبن ثقافته حتى الثمالة، وخضعوا لعملية تربية دقيقة في بلدان الكفر أو في بلداننا على أيدي الخبراء الصليبيين واليهود، لكي يقوموا بأدوار طلائعية في الحفاظ على مصالح أعدائنا، مقابل الفوز بمناصب الحكم.
لقد قامت نخبة الردة في بلداننا بخداع الشعوب – أثناء ما يسمى بحرب التحرير – فتسلقوا على جهاد الشعوب الغافلة، واستغلوا دماءها وتضحياتها، ليقطفوا ثمرة جهادها المرير، ويجعلوا من جماجم وأشلاء الآلاف من الشهداء سلماً للوصول إلى مناصب الحكم، وقد ساعدهم على ذلك أعداؤنا، بالتمكين لهم وتصويرهم للشعوب على أنهم أبطال وقيادات لهذا الجهاد. فخرج المحتل من الباب ليدخل هؤلاء المرتدون من ألف نافذة، وليتمكنوا من خيرات البلاد ورقاب العباد، كما لو كان المحتل موجوداً حالاً وفعلاً.
لقد تربى هؤلاء المرتدون على موائد الكفار من صليبيين ويهود، ليقوموا بدور الخلفاء لهؤلاء، فقاموا بهذا الدور الخبيث خير قيام، فجمعوا ثروات شعوبنا وخيرات بلداننا – تحت مسميات عدة وعبر وسائل مختلفة - ليقدموها في أطباق من ذهب لأعدائنا أو يدَّخروها في بنوكهم ليتم استغلالها هناك بعيداً عن أصحابها الحقيقيين، كما ساهموا في ترويج ثقافة الفساد والكفر والفسوق في بلداننا تحت مسمى الانفتاح والتبادل الثقافي، وهو في حقيقة الأمر احتلال جديد للعقول، وهدم للعقيدة والقيم.
كما حاربوا- بأيديهم وأفواههم – كل من يدعو الأمة إلى دينها من المصلحين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فطاردوهم أو هجَّروهم أو سجنوهم أو قتلوهم، بعدما أدركوا خطرهم على مصائرهم ومخططاتهم الشيطانية.
ولقد تعاونوا مع أعدائنا في هذا المجال تعاوناً وثيقاً ولا يزالون، فسعوا إلى ما أسموه بتجفيف منابع الإصلاح والتضييق على الدعاة والمصلحين، بينما فتحوا أبواب الإفساد على مصراعيها لكل المفسدين لتنفيذ مهامهم وقدَّموا لهم كل الوسائل اللازمة لنشر مذاهبهم الهدامة. إن الله سبحانه وتعالى يخبرنا عن هذه العلاقة الجدلية والوطيدة بين الكفار الأصليين وهؤلاء المرتدين في قوله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، بل إن هؤلاء المرتدين لديهم درجة أعلى في الكفر، يستحقون بسببها أشد أنواع العذاب في الدنيا والآخرة، ومن لم يفهم هذه العلاقة وهذه الحقيقة ويدركها فلا زال في ضلال مبين، ولا يزال بحاجة إلى إعادة الفهم لدينه على ضوء فهم السلف الصالح.
المفهوم المغلوط وتأثيره على العمل الإسلامي :
بسبب خلل في عقيدتها، وانتشار عقيدة غلاة المرجئة في مسمى الإيمان والكفر، اعتبرت شعوبنا هذه الفئات المرتدة، فئات مسلمة بمجرد نطقها بالشهادتين أو في أغلب الأحيان بمجرد شهادة الميلاد، وهذه هي الطامة الكبرى، فمكنتها من الوصول إلى مناصب الحكم والقرار والتوجيه وما زالت هذه العقيدة منتشرة ومستشرية في الكثير من النفوس، بل ما زالت هي التي تطغى على مناهج وبرامج العمل لدى الكثير من الحركات الإسلامية في الساحة.
فمنذ فجر ما يسمى بالصحوة الإسلامية، والساحة تعرف هذا النوع من الفرق الإسلامية، التي تعتقد أن الإيمان هو مجرد النطق بالشهادتين أو هو عبارة عن اعتقاد محض، لا علاقة له بالعمل البتة، مما أدى إلى اختلاط المؤمن بالكافر، والصادق بالمنافق، والعدو بالولي، فصار الجميع مسلماً ينبغي التعاون معه، لمصلحة البلاد والعباد، وصار الجميع صديقاً وولياً ولا وجود لشيء يسمى البراء والعداء، ولا داعي لما يسمى بالجهاد، خاصة جهاد الطلب للتمكين لدين الله تعالى. فالجهاد أصبح للدفع ونُسخ جهاد الطلب، بل إننا وجدنا من أوقف حتى جهاد الدفع بدعوى أن الإسلام دين السلام والتسامح، ويحرص على دماء الأبرياء.
أما الكفار، فيعتبرهم هؤلاء أصدقاء، بل إنهم أهل كتاب ينبغي التعامل معهم بالتي هي أحسن، ولم لا، اعتبارهم إخوة لنا في الدين ينبغي التعاون معهم وفتح أبواب الحوار فيما بيننا، وتسمية ذلك بحوار الأديان أو حوار الحضارات بدلاً من تصادمها.
أما على المستوى الداخلي، وبخاصة التعامل مع الفئات الحاكمة في بلداننا، فإن الطامة أكبر، والمصيبة أعظم، حيث أننا نرى فقهاً جديداً يسمى بفقه المصالح المرسلة أو كما يعبرون عنه بقولهم المشهور "حيثما كانت مصلحة فثم دين الله"، بمعنى أن الدين ينبغي أن يدور مع مصالح القوم، وليس العكس، وكل ما يتعارض مع هذه المصالح فليس من دين الله تعالى في اعتقادهم.
هذه هي القاعدة البدعية الجديدة التي بنوا عليها فقهاً عريضاً وطويلاً، ما شهدنا مثله من قبل في سلفنا.
الشيء الذي انبثق عنه نتائج وخيمة وغريبة، مفادها أن الحاكم – بالرغم من ردته – يعتبر ولي الأمر الشرعي ينبغي الخضوع له واتباع أوامره ومبايعته على السمع والطاعة في المنشط والمكره.
وفي أسوأ حالات التعامل مع هؤلاء الحكام، فإنه لا يجوز الخروج عليه أو اعتباره كافراً مرتداً، بل أقصى ما يستطيعون وصفهم به، هو الظلم أو الانحراف، والصبر على أذاهم حتى لو جلدوا ظهورهم أو أخذوا أموالهم.(2/431)
ألا ترون ذلك في كل بلداننا، بدءاً من بلاد المشرق العربي، وبخاصة بلاد الحجاز وبلاد الشام و في بلاد المغرب العربي، ثم في بلدان آسيا المسلمة خاصة جنوب شرقي آسيا، حيث انتشرت عقيدة غلاة المرجئة في مسمى الإيمان والكفر، فسارعت هذه الطوائف والفرق للدخول في دين الحكام أفواجاً، فشاركوهم طقوسهم السياسية، فدخلوا في لعبة الانتخابات أو ما يسمى باللعبة الديموقراطية، وساهموا مع بقية الأحزاب المرتدة - طوعاً لا كرهاً - في تزيين صورة الأنظمة الحاكمة، بل إن من هذه الطوائف المبتدعة من قدَّم ولاءه وشارك مباشرة في هذه الحكومات، بحجة الإصلاح وجمع ذات البين وتوحيد كلمة المسلمين ومحاربة التشدد والتطرف.
لقد ابتلينا بهكذا جماعات، انحراف في العقيدة وانحراف في التطبيق، وقلب للموازين والمفاهيم الصحيحة اتجاه أعدى وأخطر فئة على الدين، إلا وهي فئة الردة والنفاق.
فلا يمكننا والحالة هذه، أن نتعامل مع هذه الطوائف إلا بمزيد من الحذر، واعتبارها أنصاراً مباشرين لهؤلاء المرتدين، وسياجهم الذي يتحصنون به في مواجهة جماعات الجهاد أو ما يسمونه بالجماعات الإرهابية.
لقد التقت مصالحهم على محاربة الجهاد والمجاهدين وكل من يحرض عليه من الدعاة والعلماء والمصلحين، وساهموا جميعاً في نشر دينهم الجديد، المبني على ما يسمى بتحقيق المصالح المرسلة، والحرص على إرضاء العباد على حساب إسخاط رب العباد، والحرص على إتباع الظن و إرضاء الهوى بدلاً من اتباع الحق وإرضاء الرب.
لقد أصبحت مهمة جماعات الجهاد صعبة ومتشعبة، حيث لابد من مواجهة هذه الطوائف وإزالتها من الطريق، وهدم أصنامها المتمثلة في هذه المفاهيم المغلوطة اتجاه الكثير من المصطلحات والمسائل الشرعية.
لن تكون بالمهمة الصعبة على عصابات الحق والجهاد، فالزبد يذهب جفاء وحده وبلا جهد يُذكر، بفضل توفيق الله تعالى وإرادته بإحقاق الحق ولو كره المجرمون والكافرون والمشركون {وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاِتهِ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُون}[الأعراف]، ثم بفضل العزيمة الكبيرة التي يتمتع بها هؤلاء المؤمنون.
فكل المؤشرات الحالية تبشر ببداية النهاية لهذه الطوائف البدعية، وبقرب زوال هذه المفاهيم المغلوطة من عقول الناس، حيث أن المفاهيم الشرعية قد بدأت تكتسح الساحة وتنتشر في أوساط العمل الإسلامي، وأخذت جماعات الجهاد مواقع متقدمة في مواجهة أعداء الأمة، من كفار أصليين ومرتدين ومنافقين، وأصبحت هذه الجماعات بمثابة رأس الحربة في حربنا الطويلة الأمد مع الأعداء، فلم يعد هناك مكان لمثل هؤلاء المبتدعة في مواصلة حضورهم على الساحة من أجل التأثير على مجريات الأمور، فمكانهم هو المؤخرة والقعود مع القاعدين، في انتظار قطف الثمرة بجهد بسيط، ومحاولة الركوب على موجة الجهاد المبارك كما فعلت الفئات الحاكمة مع جهاد أجدادنا في مواجهة المحتل بالأمس القريب.
لن تتكرر التجربة بإذن الله، وسوف يعرف المجاهدون هذه المرة كيف يقطفون ثمرة جهادهم بأيديهم، فلم يعودوا قاصرين سياسياً - كما كان حال أجدادنا وآبائنا عقب ما يسمى بالاستقلال الصوري - بل إن جيل الجهاد اليوم، يتمتع بوعي رفيع وفهم سليم وفقه رشيد، يمكِّنهم من قيادة البشرية جمعاء، فضلاً عن قيادة دولة أو قطر من أقطار عالمنا الإسلامي الفسيح.
وخير دليل على ما نقول، هو هذه الصور من التحدي الصارخ، وهذه الملامح الجهادية المباركة في مواجهة العالم أجمع، وعجز الأعداء عن تفادي هذه الضربات الجهادية فضلاً عن القضاء على هذه الجماعات المباركة.
لقد انتهى عهد البدعة وحل محله عهد السنة، وسوف نرى قريباً تحقيق وعد الله لعباده ولدينه بالتمكين، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
وكتبه : أبو سعد العاملي
[مجلة الانصار / 1 شوال 1423]
===============
وفي فتاوى الأزهر :
الموضوع (76) زواج المسيحى بمسلمة وآثاره.
زواج المسيحى بمسلمة وآثاره
المفتي
عبد المجيد سليم .
جمادى الآخرة 1347 هجرية - 19 نوفمبر 1928 م
المبادئ
1- زواج المسيحى بمسلمة ودخوله بها وإنجابه منها ولدا باطل ولا يثبت به نسب شرعا .
2- يكون الولد مسلما تبعا لأمه .
3- بوفاة الولد معتنقا الدين المسيحى يكون قد مات مرتدا من وقت اعتناقه الدين المسيحى سواء اعتنقه وهو صبى مميز على رأى الإمام ومحمد أو اعتنقه وهو بالغ على رأى أبى يوسف .
4- أولاد الزوج المسيحى لا يرثون من هذا الولد أما إذا كان له أخ لأمه مسلما فإنه يرثه بالنسبة لما اكتسبه فى حال إسلامه فقط وما اكتسبه بعد ردته يكون لبيت المال
السؤال
فى رجل مسيحى عاشر امرأة مسلمة بعد أن تزوجها وهو مسيحى وهى مسلمة ورزق منها بابن وهذا الابن عاش مسيحيا إلى أن مات بالغا رشيد وقد توفى أبوه قبله ثم توفى هذا الابن عن أخوين وأخت لأب مسيحى وعن أخ لأم مسلم من أب مسلم والكل متحدون بالدار وأما الأخوان والأخت لأب فمتحدون فى الدين مع المتوفى والمطلوب تقسيم التركة للمتوفى التى جمعها من كده ولم يرثها مع العلم بأن ما تركه المتوفى المذكور من كسب يده بعد بلوغ رشده وهو مسيحى وأن والده قبل وفاته اعترف ببنوته من تلك المرأة التى عاشرها وبيان من يرث ومن لا يرث وحصة كل من الورثة ولكم الأجر والثواب
الجواب
اطلعنا على هذا السؤال ونفيد بأن أولاد الزوج المسيحى لا يرثون من المتوفى المذكور لأمرين الأول أن هذا المتوفى الذى هو ولد المسلمة ثم يثبت نسبه شرعا ممن تزوجها إذ زواج المسيحى بالمسلمة زواج باطل شرعا لا يترتب عليه ثبوت النسب من الزواج فلا يعتبر أولاد هذا المسيحى أخوة لهذا الولد شرعا .(2/432)
الثانى أن هذا الولد يعتبر مسلما حكما تبعا لوالدته المسلمة وباعتناقه الدين المسيحى يعتبر مرتدا حكما والمرتد من حين اعتناقه الدين المسيحى وهو صبى مميز على رأى الإمام أبى حنفية ومحمد من صحة إرتداد الصبى المميز أو من حين اعتناقه الدين المسيحى وهو بالغ وعلى رأى أبى يوسف الذى لا يقول بصحة ارتداد الصبى المميز وعلى هذا ظهر أن أولاد الزوج المسيحيين لا يرثون من هذا الولد .
بقى هل يرثه أخوه المسلم قد اتفق الإمام وصاحباه على توريث المسلم من المرتد حقيقة فيما اكتسبه قبل الردة غير أنهم اختلفوا فيما اكتسبه وهو مرتد فذهب الصاحبان إلى أن يرثه فيه ورثته المسلمون أيضا .
وذهب الإمام إلى انهم لا يرثونه فيه بل يكون هذا المال فيئا فى بيت المال لا يستحق أحد من الورثة شيئا منه واتفقوا على أن المرتدة يرثها ورثتها المسلمون مطلقا سواء فى ذلك كسب الإسلام أو كسب الردة .
وظاهر كلام صاحب البدايع الذى نقله فى رد المحتار عن البحر أن المرتد حكما، حكم أكسابه كحكم أكساب المرتد .
فقد قال صبى أبواه مسلمان حتى حكم بإسلامه تبعا لأبويه فبلغ كافرا ولم يسمع منه إقرار باللسان بعد البلوغ ولا يقتل لانعدام الردة منه إذ هى اسم للتكذيب بعد سابقة التصديق ولم يوجد منه التصديق بعد البلوغ حتى لو أقر بالإسلام ثم ارتد يقتل ولكنه فى الأولى يحبس لأنه كان له حكم الإسلام قبل البلوغ تبعا والحكم فى أكسابه كالحكم فى أكساب المرتد لأنه مرتد حكما .
وعلى هذا يكون ما اكتسبه هذا الولد الذى يعتبر مرتدا حكما فى حال ردته مستحقا لبيت المال على مذهب الإمام أبى حنيفة الذى قال الفقهاء إنه هو الصحيح وإن كان مقتضى فرقهم بين كسب المرتد فى حال الردة وكسب المرتد فى هذه الحال يقضى بأن يكون لورثته المسلمين ولكن لم نجد هذا منقولا بل المنقول عبارة البدائع التى ذكرناها سابقا وهذا حيث كان الحال كما ذكر فى السؤال واللّه أعلم
==============
الموضوع (3331) مسيحى يدعى الإسلام ثم يتزوج بمسلمة.
مسيحى يدعى الإسلام ثم يتزوج بمسلمة
المفتي
جاد الحق على جاد الحق .
6 رمضان سنة 1399 هجرية - 30 يوليه سنة 1979م
المبادئ
1- يحرم على المسلمة أن تتزوج غير المسلم أيا كانت ديانته - بمقتضى الكتاب والسنة .
2- اتفق فقهاء المسلمين على أن المسلمة لا ينعقد زواجها على غير المسلم ، ويقع العقد باطلا .
3- إذا أسلمت الزوجة وزوجها باق على غير الإسلام يفرق بينهما .
4- إذا شهد الشخص بشهادة الإسلام فهو مسلم بشرط إلا يظهر منه فى عامة أحواله ما يناقض اسلامه .
5- من اتخذ من الدين وسيلة لاشباع شهوة فقط دون أن تظهر منه أو عليه أية أمارات المسلمين لا يعتبر مسلما .
6- المسلمة التى غيرت اسمها وديانتها إلى المسيحية بطلبها وارادتها تعتبر به مرتدة عن الإسلام .
7- معاشرة الزوج المسيحى للزوجة المسلمة تعتبر زنا إلا إذا ثبت أنه أسلم حقيقة وعقد عليها عقد زواج صحيح شرعا بعد اسلامه
السؤال
من النيابة الإدارية بالإسماعيلية بكتابها رقم 2677 المؤرخ 3/7/1979 بشأن العريضة رقم 138 لسنة 1979 إسماعيلية المتعلقة بما نسب إلى السيد / ع .
أ. ج .
الطبيب من زواجه بالممرضة ل ر المسلمة الديانة فى عام 1969 بالرغم من أنه مسيحى الديانة وانجابه منها طفلا بتاريخ 21/3/1975 ودفاعه بأنه قد تزوج المذكورة بعقد زواج عرفى بعد اعتناقه الإسلام عام 1967 دون أن يشهر اسلامه هذا بأى صورة من صور الاشهار أو الاعلان ومع أن كافة أوراقه - حتى تاريخه - تثبت أنه مازال مسيحى الديانة ومع ما كشف من التحقيق من تزويره فى المستندات الرسمية بتغيير اسم هذه الممرضة إلى ل .
أ .
بولس وديانتها إلى المسيحية واقترانه بها على الطريقة المسيحية وعدم قيده طفلها فى سجل المواليد وبالتالى عدم وجود شهادة ميلاد لهذا الطفل حتى الآن وطلبت النيابة الادارية فى كتابها الرأى فيما يلى : أولا - معاشرة المشكو فى حقه المذكورة منذ عام 1969 بالرغم من أنه مسيحى الديانة وهى مسلمة - ثانيا - موقف ومصير ثمرة هذه العلاقة الطفل المولود بينهما فى 21/3/1975 - ثالثا - حكم الشرع فى ثبوت ارتداد الزوجة عن الدين الإسلامى إلى المسيحية وتغيير اسمها وديانتها فى الأوراق الرسمية - رابعا - مدى تأثر ذلك بعقد الزواج العرفى الذى أشار إليه المشكو ومن أنه أثبت فيه اعتناقه للاسلام قلبا وسيشهر هذا فى الوقت المناسب ولم يشهره حتى تاريخه - خامسا - التعليق على هذا الموضوع من الناحية الشرعية وبيان الرأى للاستفادة به
الجواب
نفيد أنه يحرم على المسلمة أن تتزوج غير المسلم أيا كانت ديانته وهذا ثابت بقول الله تعالى فى سورة الممتحنة { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } الممتحنة 10 ، وبالأخبار الصحيحة التى استفاضت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد نقل عنهم أنهم كانوا يفرقوا بين النصرانى وزوجه إذا أسلمت وبقى هو على دينه وقد فعل هذا عمر بن الخطاب وانعقد الاجماع على ذلك فكان حجة دائمة مفسرا للآية الكريمة المتقدمة التى فيها قوله تعالى { لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } وبناء على هذا اتفق فقهاء المسلمين على أن المسلمة لا ينعقد زواجها على غير المسلم ويقع العقد باطلا ، وأنه إذا أسلمت الزوجة وزوجها باق على غير الإسلام يفرق بينهما .(2/433)
وإذا كان ذلك فماذا يجب توافره ليعتبر الشخص غير المسلم مسلما الأمر الذى لا مراء فيه والجوهرى فى هذا المقام هو نطق غير المسلم بكلمة التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن يبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام مع الإقرار بأن عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله إذا كان الشخص مسيحيا وأن يظهر منه الإذعان لكل ما جاء فى القرآن الكريم وكل ما يثبت من الدين بالضرورة ومقتضى هذا أنه لا ينظر فى الحكم على الشخص بالإسلام إلا بالظاهر فإذا شهد الشخص بشهادة الإسلام فهو مسلم بشرط إلا يظهر منه فى عامة أحواله ما يناقض الإسلام إذ أن مجرد النطق بالشهادتين لا يثبت به الإسلام إذا كان ثمة ما يناقض معناهما أو ما يدل على أنه ما يزال على دينه القديم ولا حاجة متى ظهر اسلام الشخص إلى الاشهار الرسمى والتوثيق، لأن هذه وسيلة اثبات واعلام فقط ويجوز اثبات اعتناق الإسلام بكافة طرق الاثبات الشرعية .
وفى معنى ما تقدم من ضرورة أن يظهر على الشخص أمارات الإسلام وألا يعمل ما يناقضه ما جاء فى حاشية العقائد العضدية ( لما كان التصديق أمرا مبطنا اعتبر معه ما يدل عليه وهو التصديق اللسانى أى الاقرار .
لأن التلفظ بالشهادة فى الشرع قائم مقامه ما لم يظهر خلافه قولا أو عملا .
وما جاء فى شرح العقائد النفسية للتفتازانى ( لو فرضنا أن أحدا صدق بجميع ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم وأقر به وعمل به ومع ذلك شد الزنار ( فى القاموس أن الزنار ما يشد على وسط بعض النصارى والمجوس ) بالاختيار أو سجد للصنم بالاختيار نجعله كافرا لأن النبى صلى الله عليه وسلم جعل ذلك علامة التكذيب والانكار ) وعلى هذا فإن من اتخذ الدين وسيلة لاشباع شهوة فقط دون أن تظهر منه أو عليه أية أمارات للمسلمين لا يعتبر مسلما فما بال من لا تزال أوراقه ومظاهره الدينية شاهدة على استمساكه بالمسيحية فوق ما قام به من تزوير فى اسم هذه السيدة المسلمة التى أغواها وأضلها حتى نسبها فى أوراقها إلى غير دين الإسلام ثم إن هذه السيدة فى حال ثبوت أن ما تم من تغيير اسمها إلى ل أ بولس وديانتها إلى المسيحية كان بطلبها وارادتها تعتبر به مرتدة عن دين الإسلام والمسلمة المرتدة حكمها الشرعى ان تستتاب وتنصح وتزال شبهتها الدينية بوساطة أحد علماء المسلمين الفاهمين للعقيدة وأحكام الشريعة فإن لم تتب وتقلع عن ردتها وتعود للاسلام تحبس حتى التوبة أو الموت .
وهذا الحكم لا يتنافى مع الحرية الشخصية فى العقيدة لأن حرية العقيدة لا تستتبع الخروج عن الإسلام بمؤثرات المادة أو التضليل .
وردة المسلمة مخالف للنظام العام فى الدولة التى تأمر القوانين بالتزامه فقد نص فى المادة الثانية من الباب الأول من الدستور على أن ( دين الدولة الإسلام وأن لغتها الرسمية هى اللغة العربية وأن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع ) وهذا يقطع بأن نظام الدولة العام هو الإسلام وأن خروج المسلم أو المسلمة عن هذا الدين يعتبر خروجا على النظام العام للدولة الأمر الذى يستتبع المساءلة التأديبية على هذا الجرم الذى ارتكبته هذه السيدة ما دامت المساءلة الجنائية عن الردة متعذرة .
وخلاصة ما تقدم - أولا - أن معاشرة الطبيب المسيحى المشكو للمرأة المسلمة منذ عام 1969 زنا إلا إذا أثبت أنه أسلم حقيقة وعقد عليها عقد زواج صحيح شرعا بعد الإسلام ولا يهم إن كان العقد عرفيا غير موثق أو موثقا - ثانيا - ( الطفل المولود بينهما إن كان فى ظل عقد شرعى بعد الإسلام فهو ثابت النسب من أبيه ويكون مسلما تبعا لأبويه المسلمين ، وإذا لم يثبت إسلام هذا الطبيب والمعاشرة الزوجية فى ظل عقد صحيح بعد الإسلام فإن هذا الطفل ينسب لأمه ولا يثبت نسبه لهذا الرجل لأنه ثمرة سفاح لا نكاح شرعى ويثبت النسب لهذه المرأة باعتبارها حالة ولادة طبيعية كأى لقيط حملت به أمه من الزنا وثبتت ولادتها أياه - ثالثا - أن المرأة المسلمة لا يقبل منها شرعا الردة عن الإسلام وتستتاب وتحبس حتى ترجع عن ردتها أو تموت ، ومثل هذه إذا ثبتت ردتها أنصح بانزال أقصى عقاب تأديبى عليها مع العودة بها فى أوراقها إلى الإسلام واتخاذ كافة ما تخوله القوانين من عقوبات ضدها وضد من أغراها وأضلها بعقد زواج باطل شرعا - رابعا - عقد الزواج إن كان قد تم وهذا الطبيب على مسيحيته باطل لا أثر له ولا يرتب حل المعاشرة فى نطاق أحكام الإسلام حسبما تقدم بيان سنده ، ثم إذا كان العقد العرفى مكتوبا وفيه نطقه بالشهادتين وبحضور شاهدين مسلمين وتمت صيغته بايجاب وقبول شرعيين فإنه يكون به مسلما ولكنه يعتبر مرتدا عن الإسلام بما أعقب هذا من الاجراءات التى اتخذها من تغيير اسمها وديانتها ومظهره الذى يدل على انتمائه للمسيحية كل هذا إذا قام الدليل على تمام العقد وهو مسلم بالمعيار سالف البيان .
وبعد فإنه إذا قصرت أحكام القوانين العقابية القائمة عن حماية عقيدة بناتنا المسلمات من المغريات والمضلات فإننا يجب أن نوجه العناية لهؤلاء المضللين المستغلين لسلطان الوظيفة أو المال وإن ندخل الدين واحترامه ضمن واجبات الموظف يساءل عن الخروج عليه وظيفيا باعتبار أن الدين من قوام شخصية الانسان فى نطاق النظام العام للدولة ومنه أن دينها الإسلام
================
الموضوع (3333) زواج موقوف.
زواج موقوف
المفتي
محمد خاطر .
9 محرم سنة 1393 هجرية - 12 فبراير 1973 م
المبادئ
1- عقد الزواج الذى يباشره من ليست له ولاية شرعية ولا وكالة عن المعقود عليه يتوقف عقده على اجازة المعقود عليه وإن كانت له الأهلية التى يصح بها العقد .
2- عقد الزواج الموقوف قبل اجازته لا يترتب عليه شىء من آثار الزوجية مطلقا فإن اجازه نفذ وثبتت له جميع الأحكام
السؤال(2/434)
من السيد / م أ ك بطلبه المتضمن أن السائل يريد الجواب عن السؤال الآتى هل ينعقد زواج امرأة بالغ ثيب شرعا وهى غائبة عن مجلس العقد ببلد بعيد ويقبض مهرها من وكيل وقع الوثيقة وقبض المهر دون وكالة بالعقد أو القبض عنها .
وطلب السائل بيان الحكم الشرعى فى هذا الموضوع
الجواب
عقد الزواج المسئول عنه هو نوع من أنواع الزواج الموقوف وهو الذى يباشره من ليست له ولاية شرعية ينفذ بها عقده ويترتب بها الآثار عليه وإن كانت له الأهلية إلى يصح بها العقد .
وجاء فى فقه الحنفية إن من يعقد لغيره من غير ولاية تامة ولا وكالة عنه كان فضوليا ويتوقف عقده على اجازة المعقود عليه - والعقد الموقوف قبل اجازته لا يترتب عليه شىء من آثار الزوجية فلا يحل فيه الدخول بالزوجة ولا يقع فيه طلاق وإذا مات أحد الزوجين فى هذه الحالة لا يرث الآخر - فإذا اجازه من له الاجازة نفذ وثبتت له جميع الأحكام - وعلى هذا فيكون عقد الزواج المسئول عنه هو عقد صحيح شرعا إلا أنه غير نافذ ولا يترتب عليه شىء من آثار الزوجية .
فإذا اجازته المرأة أو وكيلها المفوض عنه نفذ وترتبت عليه آثاره وإن لم تجزه هى أو وكيلها بطل ، هذا هو حكم الزواج الذى يجريه من ليس بوكيل ( الفضولى ) شرعا أما موضوع توقيع شخص على الوثيقة كوكيل وهو ليس بوكيل فهذا إن صح يرجع فيه إلى جهة القضائية المختصة .
ومن هذا يعلم الجواب عما جاء بالسؤال والله سبحانه وتعالى أعلم .
الموضوع(3334) أثر الردة على عقد الزواج .
المفتى : فضيلة الشيخ محمد خاطر .
29 صفر سنة 1395هجرية - 12 مارس سنة 1975م .
المبادئ :
1- إذا ارتد الزوج عن الإسلام انفسخ عقد الزواج فى الحال دون توقف على القضاء .
2- المقرر شرعا أن المسيحى إذا أسلم اعتبر مسلما من تاريخ اشهار إسلامه .
فإذا ما ارتد اعتبر مرتدا من تاريخ ردته .
3- إذا عاد الزوج بعد ردته وأراد العودة لزوجته لزمه أن يعقد عليها من جديد سواء أكانت فى عدته أم خرجت منها ما لم تحرم عليه تحريما مؤقتا أو مؤبدا بسبب آخر .
سئل :
من / ك .
جورجى بطلبه المتضمن أن شخصا مسيحيا أشهر اسلامه رسميا فى سنة 1962 ثم وثق زواجه بمسيحية فى سنة 1963 - ثم عاد تحت ظروف خاصة إلى المسيحية وتزوج بنفس السيدة المسيحية أمام الكنيسة المسيحية بتاريخ 4/7/1964 وقد ورد فى عقد الزواج الكنسى المذكور أنه انضم للديانة المسيحية فى 6/5/1964 وقد ولد له طفل من زوجته هذه قيد فى سجل المواليد فى سنة 1970 باعتباره مسيحيا - ثم عاد الشخص المذكور وقام بعمل اقرار واشهار توبة أمام الموثق فى 5/12/1970 وأقر أن العقد الكنسى السابق اجراؤه يعد باطلا وأنه متمسك بالدين الإسلامى وبعقد زواجه السابق اجراؤه أمام الموثق - وان انضمامه للدين المسيحى يعد باطلا وأنه مسلم من تاريخ اشهار اسلامه وطلب السائل بيان الحكم الشرعى فى الأمور الآتية : 1- هل يعتبر هذا الشخص مسلما من تاريخ اشهار اسلامه وحتى الآن أم لا .
2- هل يعتبر زواجه من السيدة المسيحية أمام الموثق قائما حتى الآن على الرغم من الزواج الكنسى أم أنه يجب أن يعقد عليها من جديد بعد أن تاب وعاد إلى الإسلام ليكون زواجه صحيحا فى ظل الشريعة الاسلامية .
3- ما هو وضع الطفل الذى قيد مسيحيا بعد أن تاب والده وعاد إلى الإسلام .
وهل أصبح مسلما بالتبعية أم يجب عمل اقرار بذلك أمام الموثق .
أجاب :
المقرر فى فقه الحنفية أنه إذا ارتد الزوج عن الإسلام انفسخ عقد النكاح فى الحال غير متوقف على القضاء .
وتعتبر الفرقة فسخا . وأن المقرر شرعا أن المسيحى إذا أسلم اعتبر مسلما من تاريخ اشهار اسلامه .
فإذا ما ارتد اعتبر مرتدا من تاريخ ردته .
فإذا ما تاب وعاد إلى الإسلام اعتبر مسلما من تاريخ توبته وعودته الى الإسلام وأن الولد يتبع خير الأبوين دينا وفى الحادثة موضوع السؤال يكون الشخص المسئول عنه مسلما من تاريخ اشهار اسلامه إلى تاريخ ردته .
ويكون مرتدا من تاريخ ردته حتى تاريخ توبته وعودته إلى الإسلام .
ويكون مسلما من تاريخ توبته وعودته الىالإسلام وحتى الان ما دام مصمما على توبته ومتمسكا باسلامه .
أما زواج هذا الشخص من السيدة المسيحية أمام الموثق فقد انفسخ بردته على الوجه الذى شرحناه قبلا - وعليه إذا أراد عودة الحياة الزوجية مع هذه الزوجة من جديد بعد التوبة والعودة إلى الإسلام أن يعقد عليها من جديد سواء أكانت لا تزال فى عدته أم خرجت من العدة ما لم تحرم عليه مؤقتا أو مؤبدا بسبب آخر .
أما الطفل الذى ولد له وهو مرتد فيعتبر الآن مسلما تبعا لاسلام والده بعد أن تاب والده وعاد إلى الإسلام لأن الولد كما قررنا سابقا يتبع خير الأبوين دينا .
وههنا الأم مسيحية والأب مسلم .
وهذا إذا كان الحال كما ذكرنا بالسؤال .
والله سبحانه وتعالى أعلم
================
الموضوع(3334) أثر الردة على عقد الزواج.
المفتى : فضيلة الشيخ محمد خاطر .
29 صفر سنة 1395هجرية - 12 مارس سنة 1975م .
المبادئ :
1- إذا ارتد الزوج عن الإسلام انفسخ عقد الزواج فى الحال دون توقف على القضاء .
2- المقرر شرعا أن المسيحى إذا أسلم اعتبر مسلما من تاريخ اشهار إسلامه .
فإذا ما ارتد اعتبر مرتدا من تاريخ ردته .
3- إذا عاد الزوج بعد ردته وأراد العودة لزوجته لزمه أن يعقد عليها من جديد سواء أكانت فى عدته أم خرجت منها ما لم تحرم عليه تحريما مؤقتا أو مؤبدا بسبب آخر .
سئل :
من / ك .(2/435)
جورجى بطلبه المتضمن أن شخصا مسيحيا أشهر اسلامه رسميا فى سنة 1962 ثم وثق زواجه بمسيحية فى سنة 1963 - ثم عاد تحت ظروف خاصة إلى المسيحية وتزوج بنفس السيدة المسيحية أمام الكنيسة المسيحية بتاريخ 4/7/1964 وقد ورد فى عقد الزواج الكنسى المذكور أنه انضم للديانة المسيحية فى 6/5/1964 وقد ولد له طفل من زوجته هذه قيد فى سجل المواليد فى سنة 1970 باعتباره مسيحيا - ثم عاد الشخص المذكور وقام بعمل اقرار واشهار توبة أمام الموثق فى 5/12/1970 وأقر أن العقد الكنسى السابق اجراؤه يعد باطلا وأنه متمسك بالدين الإسلامى وبعقد زواجه السابق اجراؤه أمام الموثق - وان انضمامه للدين المسيحى يعد باطلا وأنه مسلم من تاريخ اشهار اسلامه وطلب السائل بيان الحكم الشرعى فى الأمور الآتية : 1- هل يعتبر هذا الشخص مسلما من تاريخ اشهار اسلامه وحتى الآن أم لا .
2- هل يعتبر زواجه من السيدة المسيحية أمام الموثق قائما حتى الآن على الرغم من الزواج الكنسى أم أنه يجب أن يعقد عليها من جديد بعد أن تاب وعاد إلى الإسلام ليكون زواجه صحيحا فى ظل الشريعة الاسلامية .
3- ما هو وضع الطفل الذى قيد مسيحيا بعد أن تاب والده وعاد إلى الإسلام .
وهل أصبح مسلما بالتبعية أم يجب عمل اقرار بذلك أمام الموثق .
أجاب :
المقرر فى فقه الحنفية أنه إذا ارتد الزوج عن الإسلام انفسخ عقد النكاح فى الحال غير متوقف على القضاء .
وتعتبر الفرقة فسخا . وأن المقرر شرعا أن المسيحى إذا أسلم اعتبر مسلما من تاريخ اشهار اسلامه .
فإذا ما ارتد اعتبر مرتدا من تاريخ ردته .
فإذا ما تاب وعاد إلى الإسلام اعتبر مسلما من تاريخ توبته وعودته الى الإسلام وأن الولد يتبع خير الأبوين دينا وفى الحادثة موضوع السؤال يكون الشخص المسئول عنه مسلما من تاريخ اشهار اسلامه إلى تاريخ ردته .
ويكون مرتدا من تاريخ ردته حتى تاريخ توبته وعودته إلى الإسلام .
ويكون مسلما من تاريخ توبته وعودته الىالإسلام وحتى الان ما دام مصمما على توبته ومتمسكا باسلامه .
أما زواج هذا الشخص من السيدة المسيحية أمام الموثق فقد انفسخ بردته على الوجه الذى شرحناه قبلا - وعليه إذا أراد عودة الحياة الزوجية مع هذه الزوجة من جديد بعد التوبة والعودة إلى الإسلام أن يعقد عليها من جديد سواء أكانت لا تزال فى عدته أم خرجت من العدة ما لم تحرم عليه مؤقتا أو مؤبدا بسبب آخر .
أما الطفل الذى ولد له وهو مرتد فيعتبر الآن مسلما تبعا لاسلام والده بعد أن تاب والده وعاد إلى الإسلام لأن الولد كما قررنا سابقا يتبع خير الأبوين دينا .
وههنا الأم مسيحية والأب مسلم .
وهذا إذا كان الحال كما ذكرنا بالسؤال .
والله سبحانه وتعالى أعلم
================
الموضوع (363) وجوب العدة على المرتدة.
وجوب العدة على المرتدة
المفتي
حسنين محمد مخلوف .
11 من سبتمبر 1948 م
المبادئ
1 - تجب العدة على المرتدة لأنها مخاطبة شرعا بأحكام الإسلام ويجب عليها العمل بها .
2 - لا يجوز لها الزواج بآخر مادامت فى العدة فإن أقدمت على ذلك كان زواجها باطلا شرعا .
كما أن زواجها بعد العدة باطل أيضا ما لم تعد إلى الدين الإسلامى
السؤال
ما هى مدة العدة الشرعية .
وهل يجوز لسيدة مطلقة طلقة أولى رجعية أن تتزوج قبل استيفاء مدة العدة ولو تركت الدين الإسلامى واعتنقت الدين المسيحى أثناء مدة العدة
الجواب
اطلعنا على السؤال .
والجواب أن المرأة إذا خرجت عن دين الإسلام كانت مرتدة والمرتدة مخاطبة شرعا بأحكام الإسلام ويجب عليها العمل بها ومنها العدة فلا يسقط وجوب الاعتداد عليها بالردة .
وما دامت فى العدة لا يجوز لها أن تتزوج بزوج آخر . فإن أقدمت على ذلك كان الزواج باطلا شرعا، كما أن زواجها بآخر بعد العدة باطل أيضا ما لم تعد إلى الدين الإسلامى .
ومن هذا يعلم الجواب حيث كان الحال كما ذكر به .
والله تعالى أعلم
==============
الموضوع (191 ) حضانة المرتدة وميراثها قبل الردة.
حضانة المرتدة وميراثها قبل الردة
المفتي
عبد المجيد سليم .
شعبان 1349 هجرية 6 يناير 1931 م
المبادئ
1 - المرتدة لها حق حضانة الصغير ما لم يعقل الأديان فإذا عقل الأديان أو خيف عليه أن يألف الكفر سقط حقها فى الحضانة .
2 - المرتدة ترث زوجها إذا مات وهى مسلمة وكان ارتداها بعد الوفاة
السؤال
رجل مسلم تزوج من ابنة مسيحية بعد إسلامها بعقد شرعى ورزق منها بابنتين إحداهما تبلغ من العمر عشر سنوات والأخرى عمرها سنتان ومفطومة عن الرضاعة وقد توفى هذا الزوج منذ عام ونصف وقد قام والد المتوفى بواجبات زوجة ابنه فى دخولها العدة وما يلزمها ويلزم أولادها القصر بتقديم جميع المصاريف اللازمة لمعيشتهم وسكنهم وخلافهما ولكن حدث أن رجعت الزوجة إلى دينها (ارتدت) والبنتان الآن في حضانة الزوجة المرتدة فهل يجوز ذلك شرعا مع العلم بأن للبنتين جدة هى والدة والدهم المتوفى فهل من الممكن أن يأخذهما جدهما لأبيهما بالوجه الشرعى وتقوم جدتهما بتربيتهما خشية أن تؤثر الوالدة عليهما فيعتنقان الدين المسيحى وهل ترث الزوجة المرتدة أم لا
الجواب
اطلعنا على هذا السؤال ونفيد أولا أنه لا شبهة فى أن المرأة المذكورة ليس لها حق فى حضانة البنت التى بلغت من السن عشر سنوات إنما الكلام فى أن لها حقا فى حضانة البنت الصغيرة أم لا صرح الفقهاء بأن من شرائط ثبوت حق الحضانة للأم أن لا تكون مرتدة وعللوا ذلك بأن المرتدة تحبس فيتضرر به الصبى لأنها حينئذ لا تتفرغ للحضانة .(2/436)
ومقتضى هذا التعليل أن سقوط حق المرتدة فى الحضانة ليس لذات الردة بل لما يترتب عليها من الحبس بالفعل وعدم التفرغ للحضانة فإذا لم تحبس لم يكن هناك ضرر على الصغير فى بقائه عند والدته فلا يكون هناك مقتض لزوال حق الحضانة عنها وهذا ما نستظهره من كلام الفقهاء نعم إذا بلغت الصغيرة مبلغ من يعقل دينا بأن بلغت سبع سنين على ما استظهره صاحب النهر فى ولد الذمية المسلم أو خيف عليها أن تألف الكفر سقط حينئذ حقها فى حضانتها لتضررها حينئذ ببقائها عند والدتها كما هو الحكم فى الذمية الحاضنة للولد المسلم .
وثانيا أن الزوجة المذكورة ترث زوجها لأنها كانت مسلمة حال وفاته وارتدادها بعد الوفاة لا يؤثر فى إرثها .
هذا ما ظهر لنا واللّه سبحانه وتعالى أعلم
================
الموضوع (126) مشروع نفقة زوجات المسجونين والمفقودين وسيىء العشرة.
مشروع نفقة زوجات المسجونين والمفقودين وسيىء العشرة
المفتي
محمد عبده .
التاريخ 11 ربيع آخر 1318 هجرية
المبادئ
1- امتناع الزوج عن الإنفاق على زوجته وليس له مال ظاهر يقتضى التطليق .
2- ادعاء العجز عن النفقة .
عليه إثباته فإن أثبته أمهل وإلا طلقت عليه من القاضى .
3- كون الزوج مريضا أو مسجونا يقتضى إمهاله حتى يرجى شفاءه وخلاصه من السجن فإن طالت المدة بحيث يخشى الضرر أو الفتنة طلقها القاضى عليه .
4- غيابه وله مال أو دين فى ذمة أحد أو وديعة فى يد آخر يعطى للزوجة طلب فرض نفقتها فى هذا المال أو الدين ولها إقامة البينة على منكر ذلك منهم ويقضى لها بطلبها بلا كفالة .
5- تطليق القاضى لعدم الإنفاق يقع رجيعا .
6- من فقد فى بلاد المسلمين وانقطع خبره عن زوجته لها رفع الأمر إلى الحقانية مع بيان الجهة التى تعرف أو تظن أنه سار إليها أو يمكن وجوده فيها وبعد البحوث والتحريات والعجز عن خبره يضرب لها أربع سنين فإذا انتهت تعتد عدة الوفاة بدون حاجة إلى قضاء قاض ويحل لها التزوج بالغير بعد ذلك .
7 - مجيئه حيا أو ظهور حياته فإن لم تتزوج فهى زوجته وإن كانت قد تزوجت ولم يدخل بها الثانى فهى زوجة الأول أيضا وإن كانت قد دخلت بالثانى مع علم الثانى بحياة الأول أيضا .
8 - وفاة المفقود فى العدة أو بعدها سواء كان قبل العقد على الثانى أو بعده يقتضى ميراثها منه إلا إذا كان الثانى قد تمتع بها غير عالم بحياة الأول فإنها لا ترث .
9- المفقود فى معركة بين المسلمين بعضهم البعض إن ثبت حضوره القتال جاز لزوجته رفع الأمر إلى ناظر الحقانية وبعد البحث وعدم العثور عليه تعتد زوجته بدون مدة ولها أن تتزوج بغيره بعد العدة ويورث ماله بمجرد العجز عن خبره .
10- إذا لم يثبت حضوره المعركة إلا أنه سار مع الجيش كان حكمه كما سبق .
11- المفقود فى حرب بين المسلمين وغيرهم يجيز لزوجته رفع المر إلى الحقانية وبعد البحث وعدم العثور على خبره يضرب لها أجل لمدة سنة فإذا انقضت اعتدت وحل لها الزواج بالغير بعد العدة ويورث ماله بعد انقضاء السنة .
12- محل ضرب الأجل للعدة إذا كان فى ماله ما تنفق منه زوجته أو لم تخش على نفسها الفتنة وإلا كان لها رفع أمرها إلى القاضى ليطلق عليه متى أثبتت دعواها .
13- شدة النزاع بين الزوجين وتعذر وقفه يرفع الأمر إلى القاضى وعليه تعيين حكمين فإن أصلحا بينهما فبها ونعمت وإلا حكما بالطلاق وعلى القاضى أن يقضى بما حكما به ويكون الطلاق بائنا ولا يجوز للحكمين الزيادة على واحدة .
14- للزوجة طلب التطليق للضرر بسبب الهجر أو الضرب أو السب بدون سبب شرعى وعليها إثبات ما تدعيه بالطريقة الشرعية
السؤال
بإفادة من نظارة الحقانية مؤرخة فى 14 ربيع الأول سنة 1318 هجرية نمرة 19 مضمونها أنه بعد الإحاطة بما اشتملت عليه مكاتبة نظارة الداخلية نمرة 153 المختص بتضرر بعض زوجات المحكوم عليهم من عدم انفاق أزواجهن عليهم أو إطلاق عصمتهن وتعذر الأسباب التى تمكن القاضى الشرعى من الفصل فى ذلك بين الزوج والزوجة لوجودها فى مكان غير الذى فيه الزوج وما طلبته النظارة المشار إليها من استفتاء فضيلتكم عن الطريق التى يفصل بها فى الأمر شرعا لحسم شكوى تلك النسوة إجابة لطلب سعادة مفتى عموم السجون بافادته لها نمرة 113
الجواب
اطلعت على ما حررت سعادتكم فيما يختص بما ورد من نظارة الداخلية من الاستفهام عن الوجه الشرعى فى إزالة ما يشكو منه النساء اللاتى حكم على أزوجهن بمدد طويلة يقضونها فى السجن أو الأشغال الشاقة مع تركهن بلا نفقة ولا عائل لهن ولا لأولادهن منهم واطلعت على وجوه الضرورة المحتمة للبحث عن طريقة للفصل فى تلك الشكايات التى بينها جناب مفتى عموم السجون فيما كتبه لنظارة الداخلية هذه مسألة من عدة مسائل من قبيلها كثرت فيها الشكوى وعمت بها البلوى ونظارة الحقانية لا يمر عليها زمن طويل حتى يصلها من جميع أطراف القطر المصرى ما يستحثها للنظر فى مخلص مما يلحق النساء المعوزات من الضرر فى دينهن ومعيشتهن والفساد الذى يعرض لأولادهن وما ينشأون عليه من ردىء الأخلاق وسىء الأعمال وما يعقب هذه الحالة من القلق والاضطراب فى حالة الأمة بتمامها كما أشار إلى ذلك مفتى عموم البوليس فى كلامه عن مسألته .
ولهذا رأيت أن أبحث فى هذه المسائل جميعها وهى المسألة الأولى مسألة المسجونين التى جاءت برقيم سعادتكم .
الثانية مسألة عجز الزوج عن النفقة على زوجته أو امتناعه عن الإنفاق عليها عنادا كما يحصل من أغلب أفراد الطبقة السفلى من الأهالى وكثير من أفراد الطبقة الوسطى والعليا .(2/437)
والثالثة مسألة الغائب الذى ينقطع خبره أو تبعد غيبته ولا يترك لزوجته وأولاده شيئا من المال أو ترك مالا لكن لا تصل إليه يدها أو تحتاج زوجته بمقتضى الطبيعة البشرية إلى الخلاص من حالتها خصوصا إن كانت شابة ويندرج فى هذه المسألة ما يعرف بمسألة المفقود .
الرابعة مسألة الزوج الذى يضار زوجته ويعنتها فى المعاشرة حتى لا يكون سبيل لمعيشة الزوجين معا .
جميع هذه المسائل فى درجة واحدة من الحاجة إلى النظر وكثرا ما ترد على الأسئلة من كل جانب للاستفتاء عما يقتضيه الشرع فيها .
وقد سئلت من مدة أيام عن امرأة ارتدت لسوء معاشرة زوجها لا هو يطلقها ولا هو يحسن عشرتها ولا هو يدعها تعيش عند أهلها وعن أخرى على عزم الردة عن دينها لإكراهها على معاشرة قاتل أبيها ولها قضية فى محكمة مديرية الدقهلية وقد ورد على أثناء كتابة هذه السطور شكوى من امرأة عجز زوجها عن النفقة أرسلها مع هذه الوراق أما الشكوى من نساء الغائبين والعاجزين عن النفقة فعندى منها كثير وأرسلت بعضها للنظارة وللنظارة علم بكثير من ذلك الذى شوهد بالعيان ولم تبق فيه ريبة لمرتاب .
إن النساء فى أية حالة من الحالات الأربع التى عدننا مسائلها يلجأن بحكم الضرورة إلى الفحش وارتكاب ما يخالف أحكام كل دين وأدب أو يهلكن ولا سبيل لإنقاذهن من المهلكتين إلا التطليق على أزواجهن وذلك ما قضت به حالة الناس من فساد الاعتقاد وسوء الخلق وكل ما يلتمس وراء التطليق فهو خيال لا يمكن تحقيقه فالاضطرار إلى التطليق على الزوج فى الأحوال المذكورة أو اعتباره فى حكم الميت إن كان مفقودا مما لا ينكره إلا جاهل بأحوال المسلمين اليوم أو مكابر ينسى عقله وإحساسه ولا اعتداد بواحد منهما متى تحققت الضرورة وجب مراعاتها بنص الكتاب .
والسنة وإجماع الأئمة والأمة ولا حاجة لسد النصوص على ذلك لأنه معلوم من الدين بالضرورة ومراعاة حكم الضرورة لا يعد اجتهادا لأن الاجتهاد إنما يكون له مجال فى الأمر ذى الوجوه أما ما قضت به الضرورة فهو من قبيل المحسوس لا مجال للنظر فيه حتى يكون فيه اجتهاد وقد صرح الفقهاء عند الكلام على الحكم بالمرجوح أن محل الخطر فيه إذا لم تقض به الضرورة فإن قضت به ساغ للقاضى بلا استئذان من ولاه أن يحكم به فقد كان يصح للقضاة المقلدين لمذهب أبى حنيفة أن يحكموا الضرورة عند ظهروها بعد التحقق منها ولا يكونون قد خرجوا بذلك عن مذهب أبى حنيفة ولكنهم يتحرجون ذلك وذهب بعض المفتين غفلة منه عن حقيقة الدين إلى أنه لا يجوز الإفتاء ولا الحكم بما تقضى به الضرورة من التطليق على الزوج وأساء إلى دنيه بالتشنيع على من يفتى أو يحكم بذلك وهو لا يشعر بأنه يستبيح ارتكاب القبائح باسم الدين ثم قد صرح الفقهاء فى مسالة المفقود بجواز الإفتاء بمذهب مالك للضرورة ولا ضرورة أظهر مما نحن فيه الآن وللفقهاء من الحنفية خلاف فى الحكم بمذهب الغير وهل ينفذ أو لا ينفذ وأكثرهم على أنه ينفذ وأفتى بكل من القولين ولهم فى توجيه نفاذه أدلة مقبولة وقال صاحب فتح القدير عند البحث فى نفاذ الحكم بمذهب الغير أو عدم نفاذه ما معناه يحل الإقدام على الحكم بمذهب الغير لأن القاضى مأمور بالمشاورة وقد تقع على خلاف رأيه وقال قبل هذا بقليل إن المقلد إنما ولاه ليحكم بمذهب أبى حنيفة مثلا فلا تمكن المخالفة فيكون معزولا بالنسبة إلى ذلك الحكم وقد تبين من كلامهم وعلل أحكامهم أن الخلاف إنما هو فى الحكم الذى يصدر من القاضى بمذهب غيره إن كان مجتهدا أو على خلاف ما حدده من ولاه إن كان مقلدا ولم تكن هناك ضرورة ملجئة أما إذا كان الحكم بناء على أمر من ولى القاضى أو مراعاة للضرورة عند تحققها فلا خلاف فى صحته ونفاذه .
والذى تطلبه نظارة الحقانية الآن إنما هو طريقة شرعية للخلاص من انتهاك حرمات الدين أو التخليص من الهلكة على أن يصدر بتلك الطريقة أمر الجناب العالي الخديوى الذى يولى القضاة فتصبح مما لا خلاف فيه .
أما إن ذلك يجوز للجناب العالى الخديوى فهو مما لا ريب فيه فإنه هو الحاكم الذى يولى القضاة وهو الذى ينشر لهم المنشورات بالطرق التى يتبعونها والمذهب الذى يحكمون به وهو وحده الذى يسوغ له ذلك بمقتضى الأحكام الفقهية غاية ما فى الأمر أن الحكومة يمكنها أن تخص الحكم فى هذه المسائل بما عدا محكمة مصر الشرعية حيث عرضت الشبهة فى أن التولية فيها ليست خاصة بالجناب الخديوى بل يشترك فيها أمر الجناب السلطانى ثم تبيح لمن فى دائرة محكمة مصر الشرعية أن يرفعوا قضاياهم التى من هذا القبيل إلى قضاة القليوبية والجيزة ولا شىء فى ذلك لا شرعا ولا سياسة ولا شك أن سماحة قاضى مصر لا يعارض فى ذلك مادام الأمر بعيدا عنه ودام لم يسأل رأيه فيه .
للأسباب التى بينتها أرى أنه يجب الرجوع إلى ما جاء فى مذهب مالك من أحكام النفقات والغائبين والمفقودين والمسجونين والمضارين لأزواجهن وقد استخرجت من فقه المالكية ما تمس إليه الضرورة فى ديارنا وضمنته إحدى عشرة مادة وكتبت إلى الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ومفتى السادة المالكية أسأله هل يوافق على ما رأيت فكتب إلى ما يفيد أن رأيه موافق لرأيى وأنه يرى أنه الحالة الحضارة من الخطب الجسيم الذى يجب النظر فيه للخروج منه وإنى أرسل إلى سعادتكم هذا المشروع مع تصديق صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر ليرفع إلى الجناب الخديوى ليصدر أمره الكريم بمقتضاه بناء على إفتاء فضيلة شيخ الجامع الأزهر ومفتى المالكية وإفتاء مفتى الديار المصرية وموافقة نظارة الحقانية فقط بدون إرساله إلى شورى القوانين لعدم الضرورة إلى ذلك فى الأحكام الشرعية .(2/438)
أما تخصيص المحاكم بالحكم بمقتضى المشروع المذكور وهل يستأنف الحكم أو لا يستأنف وأمام أى المحاكم يكون استئنافه فذلك يوضع له مشروع آخر يصدق عليه مجلس النظار ويؤخذ فيه رأى شورى القوانين لأنه من الأحكام الوضعية وإذا رأت النظارة أن أشترك معها فى وضعه فذلك لها واللّه أعلم .
وطيه الأوراق عدد 6 بما فيها المشروع وصورته .
العجز عن النفقة .
1- إذا امتنع الزوج عن الإنفاق على زوجته فإن كان له مال ظاهر نفذ الحكم عليه بالنفقة فى ماله فإن لم يكن له مال ظاهر ولم يقل إنه معسر أو موسر ولكن أصر على عدم الإنفاق طلق عليه القاضى فى الحال وإن ادعى العجز فإن يم يثبته طلق عليه حالا وإن أثبت الإعسار أمهله مدة لا تزيد على شهر فإن لم ينفق طلق عليه بعد ذلك .
2- إن كان الزوج مريضا أو مسجونا وامتنع عن الإنفاق على زوجته أمهله القاضى مدة يرجى فيها الشفاء أو الخلاص من السجن فإن طالت مدة المرض أو السجن بحيث يخشى الضرر أو الفتنة طلق عليه القاضى .
3 - إذا كان الزوج غائبا غيبة قريبة ولم يترك نفقة لزوجته أعذر إليه القاضى بالطرق المعروفة وضرب له أجلا فإن لم يرسل ما تنفق منه زوجته على نفسها أو لم يحضر للإنفاق عليها طلق عليه القاضى بعد مضى الأجل فإن مكان بعيد الغيبة على مسيرة عشرة أيام فأكثر للراكب أو كان مجهول المحل وثبت أنه لا مال له تنفق منه الزوجة طلق عليه القاضى .
4 - إذا كان للزوج الغائب مال أو دين فى ذمة أحد أو وديعة فى يد آخر كان للزوجة حق طلب فرض النفقة فى ذلك المال أو الدين ولها أن تقيم البينة على من ينكر الدين أو الوديعة ويقضى لها بطلبها بلا كفيل وذلك بعد أن تحلف أنها مستحقة للنفقة على الغائب وأنه لم يترك لها مالا ولم يقم عنه وكيلا فى الإنفاق عليها ثم الغائب على حجته بعد عودته .
5- تطليق القاضى لعدم الإنفاق يقع رجعيا وللزوج أن يراجع زوجته إذا ثبت يساره واستعد للإنفاق فى أثناء العدة فإن لم يثبت يساره أو لم يستعد للإنفاق لم تصح الرجعة .
المفقود .
6- من فقد فى بلاد المسلمين وانقطع خبره عن زوجته كان لها أن ترفع إلى ناظر الحقانية مع بيان الجهة التى تعرف أو تظن أنه سار إليها أو يمكن أن يوجد فيها وعلى ناظر الحقانية عند ذلك أن يبحث عنه فى مظنات وجوده بطرق النشر للحكام ورجال البوليس وبعد العجز عن خبره يضرب لها أجل أربع سنين فإذا انتهت تعتد الزوجة عدة وفاة أربعة أشهر وعشرا بدون حاجة إلى قضاء قاض ويحل لها بعد ذلك أن تتزوج بغيره .
7 - إذا جاء المفقود أو تبين أنه حى وكان ذلك قبل تمتع الزوج الثانى بها غير عالم بحياته كانت الزوجة للمفقود ولو بعد العقد مطلقا أو بعد التمتع فى حال ما لو كان الزوج الثانى عالما بحياة المفقود فإن ظهر أن المفقود مات فى العدة أو بعدها قبل العقد على الزوج الثانى أو بعده ورثته ما لم يكن تمتع بها الثانى غير عالم بحياة الأول فإن مات بعد تمتعه وهو غير عالم بحياة الزوج الأول لم ترث .
8- من فقد فى معترك بين المسلمين بعضهم مع بعض وثبت أنه حضر القتال جاز لزوجته أن ترفع الأمر إلى ناظر الحقانية وبعد البحث عنه وعدم العثور عليه تعتد الزوجة بدون مدة ثم لها أن تتزوج بعد العدة ويورث ماله بمجرد العجز عن خبره فإن لم يثبت إلا أنه سار مع الجيش فقط كان حكمه ما فى المادتين السابقتين .
9- لزوجة المفقود فى حرب بين المسلمين وغيرهم أن ترفع الأمر إلى ناظر الحقانية وبعد البحث عنه يضرب لها أجل سنة فإذا انقضت اعتدت وحل لها الزواج بعد العدة ويورث ماله بعد انقضاء السنة ومحل ضرب الآجال لاعتداد زوجة المفقود إذا كان فى ماله ما تنفق منه الزوجة أو لم تخش على نفسها الفتنة وإلا رفعت الأمر إلى القاضى ليطلق عليه متى ثبت له صحة دعواها .
سوء المعاشرة .
10- إذا اشتد النزاع بين الزوجين ولم يمكن انقطاعه بينهما بطريقة من الطرق المنصوص عليها فى كتاب اللّه تعالى رفع الأمر إلى قاضى المركز وعليه عند ذلك أن يعين حكمين عدلين أحدهما من أقارب الزوج والثانى من أقارب الزوجة والأفضل أن يكونا جارين فإن تعذر العدول من الأقارب فإنه يعينهما من الأجانب وأن يبعث بهما إلى الزوجين فإن أصلحاهما فبها وألا حكما بالطلاق ورفعا الأمر إليه وعند ذلك عليه أن يقضى بما حكما به ويقع التطليق فى هذه الحالة طلقة واحدة بائنة ولا يجوز للحكمين الزيادة عليها .
11- للزوجة أن تطلب من القاضى التطليق على الزوج إذا كان يصلها منه ضرر والضرر هو ما لا يجوز شرعا كالهجر بغير سبب شرعى والضرب والسب بدون سبب شرعى وعلى الزوجة أن تثبت كل ذلك بالطرق الشرعية .
صورة تصديق حضرة شيخ الجامع الزهر ومفتى السادة المالكية بعد حمد اللّه تعالى والصلاة والسلام على نبيه أقول ما سطر بعاليه من المسائل الإحدى عشرة هى نصوص المالكية وعليها العمل وبها الفتوى سيما إذا دعت إليها ضرورة كما فى زماننا هذا فالعمل بها أوجب واللّه أعلم .
وقد ورد هذا المشروع مصدقا عليه من حضرته بإفادة مؤرخة 6 ربيع الآخر سنة 1318 هجرية نمرة 528 سايره بعد إرساله لحضرته بإفادة مؤرخة فى 4 منه نمرة 19
================
الموضوع (1024) وصية من توفى مرتدا باطلة.
وصية من توفى مرتدا باطلة
المفتي
حسن مأمون .
ذو الحجة 1379 هجرية - 8 يونية 1960 م
المبادئ
1 - ملك المرتد وتصرفاته موقوفة إلى أن يتبين حاله .
فإن عاد إلى الإسلام عاد إليه ملكه ونفذت تصرفاته . وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب بطلت .
2 - تركة المرتد الموصى تكون ملكا للخزانة العامة
السؤال(2/439)
بالطلب - المتضمن أن رجلا مسيحيا توفى بتاريخ 9 أبريل سنة 1932 - عن أولاد ذكور وإناث وعن تركة بينها أطيان زراعية بمنية السيرج تبع القاهرة، وأنه بتاريخ 9 مارس سنة 1939 بموجب إعلام شرعى أمام محكمة بنى سويف اعتنق أحد أولاده الدين الإسلامى، ومكث مسلما حتى 24 يناير سنة 1949، حيث ارتد عن دين الإسلام بإقرار صدر منه لدى بطريركية الأقباط الأرثوذكس .
وفى سنة 1953 تزوج هذا الشخص من سيدة مسيحية ولدت له ولدا ثم حملت، وفى أثناء حملها صدر منه إشهاد بوصية رسمية بتاريخ 30 يونية سنة 1956 برقم 8084 سنة 1956 أمام مكتب توثيق القاهرة - أوصى بموجبه بجميع أمواله التى ورثها عن والده المسيحى إلى زوجته وولده وحمله منها المستكن الذى انفصل بنتا ، لكل واحد منهم ثلث هذا المال .
وأنه توفى فى شهر أغسطس سنة 1957 - وطلب السائل الإفادة عما إذا كانت هذه الوصية تعتبر صحيحة ونافذة فى جميع تركته أم لا - علما بأنه ليس له ورثة مسلمون، وأن جميع أمواله ورثها عن والده المسيحى قبل أن يسلم ، وليس له مال سوى ذلك
الجواب
المنصوص عليه أن فقهاء الحنفية اختلفوا فى تصرفات المرتد فى أمواله فذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن ملك المرتد يزول عن ماله زوالا موقوفا إلى أن يتبين حاله، فيوقف بيعه وشراؤه وهبته ووصيته، فإن أسلم ورجع عن ارتداده صحت هذه العقود والتصرفات، وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب بطلت .
وقال صاحباه أبو يوسف ومحمد إن ملك المرتد لا يزول عن ماله، وتصح عندهما جميع تصرفاته، عدا شركة المفاوضة سواء أسلم أو بقى على ردته .
وهو عند الإمام محمد كالمريض مرض الموت تنفذ تصرفاته من ثلث ماله فقط .
وعند الإمام أبى يوسف كالصحيح تصح تصرفاته من جميع ماله، وهذا بشرط أن يكون التصرف قبل لحاقه بدار الحرم .
وذهب الشافعية إلى أن ملك المرتد ووصيته موقوفان، فقد جاء فى كتابى الإقناع والمنهج (وملك المرتد موقوف إن مات مرتدا بان زواله بالرجة .
وتصرفه إن لم يحتمل الوقف، بأن لم يقبل التعليق كبيع وكتابة باطل، لعدم احتمال الوقف، وإن احتمله بأن قبل التعليق كعتق ووصية قال فى مواهب الجليل تعليقا على قول المختصر (وأسقطت الردة صياما وصلاة ووصية) أى وأسقطت الردة وصية صدرت من المرتد فى حال ردته أو قبل ذلك .
وذهب الحنابلة إلى بطلان تصرف المرتد فى ردته قال صاحب كشاف القناع ما ملخصه (ويكون ملك المرتد موقوفا ويمنع من التصرف فى ماله، لتعلق حق الغير به، فإن أسلم أخذ ماله ونفذ تصرفه، وإن مات المرتد أو قتل مرتدا صار ماله فيئا من حين موته لأنه لا وارث له من المسلمين ولا من غيرهم .
وبطل تصرفه الذى كان تصرفه فى ردته تغليظا عليه بقطع ثوابه - وأخذ برأى الإمام أبى حنيفة الذى عليه المتون فى مذهب الحنفية، وهو الراجح فى المذهب الذى يتعين الأخذ به لقوة دليله، وموافقته لما ذهب إلى الأئمة الثلاثة كما بينا .
نفتى بأن الوصية المذكورة باطلة شرعا - وعليه فيكون جميع ما تركه الموصى المذكور ملكا للخزانة العامة بوفاته مرتدا وليس له ورثة مسلمون وبهذا علم الجواب عن السؤال .
والله أعلم
==============
الموضوع ( 2498 ) اختلاف الدين والردة من موانع الإرث
اختلاف الدين والردة من موانع الإرث
المفتي
حسنين محمد مخلوف .
رمضان سنة 1367 هجرية 11 من يوليو سنة 1948 م
المبادئ
1 - لا ميراث للمرتد لا من مسلم ولا من غيره .
2 - اختلاف الدين مانع من الإرث شرعا .
3 - بوفاة المتوفى المسلم عن زوجة مسيحية وعن بنت مرتدة عن الإسلام وعن أم وإخوة أشقاء مسلمين يكون للأم السدس فرضا والباقى للإخوة الأشقاء تعصيبا للذكر ضعف الأنثى ولا شئ للزوجة ولا للبنت المرتدة
السؤال
من حسن محمد قال توفى المرحوم محمد بك إبراهيم الصيرفى بتاريخ 17/4/1948 وهو مسلم وقد تزوج بأجنبية تدعى روزاه هارمين المولودة بسويسرا المتدينة بالدين المسيحى وهى من رعايا دولة سويسرا بنت جوزيف أدرس بموجب وثيقة عقد زواج كتابات سنة 1914 م وسنة 1332 هجرية وقد اشترط بهذه الوثيقة بالبند السادس كالآتى إن اختلاف الدين مانع من موانع الميراث فلا يرث أحد الزوجين الآخر إذا مات وقد رزقت ببنت تدعى سالمة الصيرفى وارتدت عن الإسلام وقد تزوجت بأجنبى انجليزى جاويش بالطيران يدعى طوماس وهو مسيحى والعقد حرر بكنيسة سان أندروس حسب طقوس كنيسة اسكوتلاندة بمصر بتاريخ 10 أكتوبر 1942 وفى هذه الحالة كان عمرها ستا وعشرين سنة ولا زالت مرتدة عن الإسلام حتى وفاة أبيها وللآن - وقد ترك المتوفى المرحوم محمد بك صدقى والدته الست خديجة السيد وإخوته الأشقاء وهم خمسة أشخاص حياة النفوس وعباس ونجيب وصلاح وعز الدين أولاد المرحوم إبراهيم بك صدقى الصيرفى وعن زوجته المسيحية المذكورة وبنته المرتدة المذكورة وترك ما يورث عنه شرعا .
فمن يرث ومن لا يرث وما نصيب كل من الورثة
الجواب
لوالدة المتوفى من تركته السدس فرضا لوجود عدد من الإخوة ولإخوته الأشقاء الباقى تعصيبا للذكر ضعف الأنثى ولا شئ لزوجته المسيحية لاختلاف الدين المانع من الإرث شرعا ولا لبنته إذا كانت مرتدة وقت وفاته لأن المرتد والمرتدة لا يرثان من المسلم ولا من غيره .
وهذا إذا كان الأمر كما ذكر ولم يكن للمتوفى وارث آخر ولا فرع يستحق وصية واجبة بمقتضى القانون رقم 71 سنة 1946 والله أعلم
=============
اختلاف الدين والردة من موانع الإرث
المفتي
حسن مأمون .
ذو القعدة سنة 1379 هجرية - 19 مايو سنة 1960 م
المبادئ
1 - المرتد ممنوع من الإرث والممنوع كالمعدوم لا يحجب غيره .
2 - ابن المسيحى إذا كان بالغا وقت إسلام أبيه يكون باقيا على مسيحيته ويرث جده المسيحى بعد وفاته .(2/440)
3 - إذا لم يكن هذه الابن بالغا وقت إسلام أبيه كان تابعا له فى إسلامه واستمراره مسيحيا يعتبر مرتدا ولا يرث أحدا
السؤال
من الأستاذ / فؤاد المطيعى بطلبه المتضمن أن الخواجة ونيس سنكجيان توفى بتاريخ 10 أكتوبر سنة 1959 عن زوجته هيرانوش سوفاجيان وبنتيه إراكس وأناهيد وبانه بوغوص وهذا الابن كان مسيحيا ثم أسلم قبل وفاة والده بسنة تقريبا ثم ارتد عن الإسلام وله ابن يدعى ونيس بوغوص وكان سنه وقت إسلام أبيه أربع عشرة سنة كما ترك هذا المتوفى ابن أخيه الشقيق وهو سنكريم محروس سنكجيان وأن الجميع من طائفة الأرمن الأرثوذكس ويتمتعون بجنسية الجمهورية العربية المتحدة وطلب السائل بيان الحكم الشرعى فيمن يرث من المذكورين فى تركة هذا المتوفى وكيف تقسم تركته بينهم
الجواب
إن لزوجة هذا المتوفى ثمن تركته فرضا لوجود الفرع الوارث ولبنتيه ثلثاها مناصفة بينهما فرضا .
أما ابنه بوغوص الذى أسلم قبل وفاته بسنة تقريبا ثم ارتد عن الإسلام فإنه فى حالة كونه مسلما وقت وفاته لا يرث لأن اختلاف الدين مانع من الإرث .
وفى حالة كونه مرتدا وقت وفاته لا يرث أيضا لأن المرتد لا يرث من أحد لا من مسلم ولا من غير مسلم ولا من مرتد مثله وهو فى كلتا الحالتين ممنوع من الإرث فيعتبر كالمعدوم والممنوع لا يحجب غيره لا حجب حرمان ولا حجب نقصان .
وأما ابن هذا المرتد الذى كانت سنه وقت إسلام أبيه أربع عشرة سنة فإنه إن كان قد بلغ وقت إسلام أبيه بإحدى العلامات وهى الأحبال أو الإنزال أو الإحتلام لا يكون تابعا لأبيه فى الإسلام ويكون باقيا على مسيحيته ويُصدق إن قال قد بلغت لأنه أمر لا يعرف إلا من جهته فيقبل فيه قوله - وفى هذه الحالة يرث الباقى بعد نصيب زوجة المتوفى وبنتيه تعصيبا .
أما إذا لم يكن قد بلغ بأن لم يرد إحدى العلامات المذكورة فإنه يكون تابعا لأبيه فى الإسلام قد بلغ بأن لم ير إحدى العلامات المذكورة فإنه يكون تابعا لأبيه فى الإسلام وباستمراره على المسيحية يعتبر مرتدا فلا يرث من جده شيئا فى هذه الحالة لما ذكرنا .
وذلك لأن التبعية فى الإسلام لا تنقطع إلا ببلوغه عاقلا أو بإسلامه بنفسه على ما هو التحقيق .
والبلوغ يكون برؤية إحدى العلامات المذكورة فإن لم يرها لا يحكم ببلوغه إلا إذا بلغ سنه خمس عشرة سنة وهو ما عليه الفتوى .
وفى الحالة الثانية التى لا يرث فيها ابن الابن يكون الباقى بعد نصيب زوجة المتوفى وبنتيه لابن أخيه الشقيق تعصيبا وهذا وإذا لم يكن للمتوفى وارث آخر ولا فرع يستحق وصية واجبة .
ومنه يعلم الجواب والله سبحانه وتعالى أعلم
==============
اختلاف الدين والردة من موانع الإرث
المفتي
أحمد هريدى .
جماد أول 1389 هجرية - 11 أغسطس سنة 1969 م
المبادئ
1 - تزوج المسلمة تبعا وهى بالغة عاقلة من مسيحى تعتبر بذلك مرتدة .
2 - استمرارها مع زوجها المسيحى حتى وفاة أبيها المسلم مانع لها من الإرث .
3 - إذا كانت وقت إسلام والدها بالغا فلا تدخل فى الإسلام تبعا وتكون مسيحية ولا ترث من أبيها المسلم لاختلاف الدين المانع من الإرث شرعا
السؤال
من السيد / م م بطلبه المتضمن أن كرلس حنا كان مسيحى الديانة وقد أسلم بتاريخ 1/ 7/1937 بمقتضى إشهاد إسلام صادر من محكمة مصر الشرعية وبعد إسلامه تزوج بمسلمة وأنجب منها أولادا وأنه كان قبل إسلامه متزوجا بمسيحية وأنجب منها بنته عزيزة وأن بنته عزيزة المذكورة زوجها خالها سنة 1939 برجل مسيحى الديانة وكان سنها وقت الزواج ست عشرة سنة ولا زالت فى عصمة زوجها المسيحى للآن وتوفى كرلس حنا المذكور سنة 1969 وطلب السائل بيان هل ترث البنت عزيزة فى تركة أبيها المذكورة
الجواب
بزواج عزيزة المذكورة من مسيحى وهى بالغة إذ أن سنها وقت الزواج كان ست عشرة سنة - تصير مرتدة بهذا الزواج واستمرارها مع زوجها إلى وقت وفاة والدها يمنعها من ميراثه إذ أن المنصوص عليه شرعا أن المرتدة لا ترث أحدا .
وعلى فرض أن عزيزة المذكورة كانت بالغة وقت إسلام والدها إذ أن سنها كان أربع عشرة سنة وقت إسلام والدها وأنها بقيت مسيحية فلا ترث أيضا إذ أنه لا ميراث مع اختلاف الدين .
ومما ذكر يعلم الجواب عن السؤال والله أعلم
================
الموضوع ( 2504 ) وفاة أب مسيحى عن زوجة وأولاد مسيحيين وابن مرتد.
وفاة أب مسيحى عن زوجة وأولاد مسيحيين وابن مرتد
المفتي
أحمد إبراهيم مغيث .
جمادى الأولى سنة 1374 هجرية - 6 يناير سنة 1955 م
المبادئ
1 - الردة من موانع الإرث شرعا .
2 - بوفاة أب مسيحى عن زوجة وأولاد مسيحيين وابن أسلم ثم ارتد .
يكون للزوجة الثمن فرضا ولأولاده - عدا المرتد - الباقى للذكر ضعف الأنثى تعصيبا
السؤال
من الأستاذ صبحى برسوم قال رجل مسيحى مصرى ( قبطى أرثوذكسى ) له زوجة وثلاثة أبناء ذكور وبنت اعتنق أحد أولاده الذكور الإسلام سنة 1943 وكان أبوه حيا بعد ذلك عاد هذا الابن للمسيحية وكان أبوه حيا - بعد ذلك توفى الأب سنة 1949 وترك ما يورث هل الابن الذى اعتنق الإسلام ثم عاد للمسيحية واستمر فيها للآن يرث أباه رغم كونه مرتدا أم أنه شرعا لا يرثه وأن الميراث بذلك يؤول للزوجة والولدين والبنت
الجواب
اطلعنا على السؤال والجواب أن لزوجة هذا المتوفى ثمن تركته فرضا لوجود الفرع الوارث ولأولاده عدا من أسلم منهم ثم ارتد الباقى للذكر ضعف الأنثى تعصيبا - أما ابنه الذى اعتنق الإسلام ثم رجع عنه فلا يستحق فى تركة أبيه شيئا لأنه بارتداده لا يرث من غيره ومن هذا يعلم الجواب عن السؤال - والله أعلم
============
الموضوع ( 2506 ) وفاة زوجة مسيحية عن زوج أسلم ثم ارتد.
وفاة زوجة مسيحية عن زوج أسلم ثم ارتد
المفتي
حسن مأمون .
رجب سنة 1375 هجرية 5 مارس سنة 1956 م
المبادئ(2/441)
1 - زواج المرتد عن الإسلام بمسيحية باطل لا يرتب أثرا .
2 - لا يرث المرتد زوجته المسيحية فى حال وفاتها، كما لايرثها لو عاد إلى الإسلام لاختلاف الدين
السؤال
من عزيز سيفين قال اعتنق مسيحى الدين الإسلامى فى سنة 1936 باشهاد رسمى ثم ارتد عن الإسلام للمسيحية فى سنة 1944 دون أن يشهد ذلك وتزوج بسيدة مسيحية فى سنة 1952 وقد توفيت فهل يرثها أم لا
الجواب
بردة الرجل المذكور خرج عن الإسلام لا إلى دين والمرتد لا يصح زواجه من أحد وكل عقد زواج يتم بينه وبين أى امرأة أثناء الردة عقد باطل شرعا لا يترتب عليه أى أثر من آثاره كما أن المرتد لا يرث من أحد وعلى ذلك فلا توارث بينه وبين المرأة التى عقد عليها فى حالة ردته وعلى فرض أن الرجل المذكور باق على الإسلام ولم يحدث منه ذلك أو ارتد وعاد إلى الإسلام فلا يرث زوجته المسيحية لأنه لا ميراث مع اختلاف الدين شرعا وطبقا للمادة السادسة من القانون رقم 77 سنة 943 وبهذا علم الجواب على السؤال والله أعلم
=============
الموضوع ( 683 ) تشبه المسلم بالكافر.
تشبه المسلم بالكافر
المفتي
عبد المجيد سليم .
جمادى الآخرة 1347 هجرية - 26 نوفمبر 1928 م
المبادئ
1- الكفر شىء عظيم فلا يحكم به على مؤمن متى وجدت رواية أنه لا يكفر .
ولا يكفر مسلم إلا إذا اتفق العلماء على أن ما أتى به يوجب الردة .
2- لا يكفر المسلم متى كان لكلامه أو فعله احتمال ولو بعيدا يوجب عدم تكفيره .
3- لا يخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه .
4- ما يتيقن بأنه ردة يحكم بها عليه، وما يشك فى أنه ردة لا يحكم به ن لأن الإسلام الثابت لا يزول بالشك .
5- مناط التكفير هو التكذيب أو الاستخفاف بالدين .
6- مجرد لبس البرنيطة ليس كفرا، لأنه لا دلالة فيه على الاستخفاف بالدين ولا على التكذيب بشىء مما علم من الدين بالضرورة حتى يكون ذلك ردة إلا إذا وجد من لابسها شىء يدل دلالة قطعية على الاستخفاف أو التكذيب بشىء مما علم من الدين بالضرورة بأن ذلك يكون ردة .
7- كل من حبذ واستحسن ماهو كفر إذا وجد مه ما يدل على ذلك دلالة قطعية يحكم بكفره .
8- لابس البرنيطة قصد التشبه بغير المسلمين مع عدم ما يدل على الاستخفاف أو التكذيب بشىء مما علم من الدين بالضرورة يكون آثما ولا يحكم بكفره .
9- قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تشبه بقوم فهو منهم يحمل على أنه يكون كافرا مثلهم إن تشبه بهم فيما هو كفر كتعظيم يوم عيدهم تبجيلا لدينهم، أو لبس شعارهم قاصدا الاستخفاف بالدين وإلا فإنه يكون آثما مثلهم فقط .
10- يحرم التشبه بأهل الكتاب فيما كان مذموما وبقصد التشبه بهم .
11- لبس القبعة وغيرها بدون قصد التشبه بالكفار بل قصدا لدفع برد أو حر فلا إثم فى ذلك أبدا مادام لم يوجد منهم استخفاف أو تكذيب
السؤال
من مفتى مدينة كملجة بما صورته أن أناسا قلائل ممن تسمى بأسماء المسلمين قد خلعوا منذ آونة أزياءنا وبرزوا بين ظهرانينا بالقبعة مع أننا سكان (تراكيا) الغربية المسلمين كنا ولا نزال فى سعة وحرية تامتين من جهة حكومتنا اليونانية ليس علينا أدنى حرج ولا نظره شزر إذا احتفظنا بأزيائنا القديمة وتقاليدنا الإسلامية وها أنا حاكم شرعى ومفت شرعى فى هذا البلد أحكم أفتى على منهج ديننا الحنيف حسبما فتح الله لى فى اجتهادى، لكن هؤلاء المتجددين لا يعبئون بنا وبمنهجنا الشرعى ويعتبروننا رجعيين إلى الخلف، ويقتدون فى تطوراتهم برئيس الجمهورية التركية محبذيه فى كل ما ابتدعه ، وإنى بصفتى الرسمية لا أقر لهم ببدعهم ولا أوقع على وراثتهم من المسلمين ولا على زواجهم من المسلمات، فيسخطون على ويحسبون أنى حرمتهم حقوقهم وظلمتهم، وفى اعتقادى أنى لا أحكم فيهم بغير ما حكم به الشرع الإسلامى { وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون } آل عمران 117 ، وبالجملة أنهم يريدون ألا يخضعوا لأقضيتى التى تحول بينهم وبين ميراث المسلمين ونساء المسلمين فيتخذوننى شكية عند الناس وعند الحكومة .
والحكومة لا تدرى المسألة الشرعية، فربما تقع فى خلدها شبهة منى ومن عدالتى وأمانتى، فإن كنت على حق فيما حكيته لكم فساعدونى رحمكم الله وأيدونى بكلمتكم الفصل، وإلا فدلونى على ما هو الحق الحقيق بالاتباع، أطال الله بقاءكم ومتعنا والمسلمين بعلومكم
الجواب
أما بعد .
فاعلم هدانى الله وإياك إلى الحق ورزقنا اتباعه وجنبنا الزلل فى القول والعمل .
أن علماءنا قالوا إن الكفر شىء عظيم، فلا نجعل المؤمن كافرا متى وجدنا رواية أنه لا يكفر، فلا يكفر مسلم إلا إذا اتفق العلماء على أن ما أتى به يوجب الردة، كما أنه لا يكفر مسلم متى كان لكلامه أو فعله احتمال ولو بعيدا يوجب عدم تكفيره .
فقد روى الطحاوى عن أبى حنيفة رحمه الله وأصحابنا أنه لا يخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه، ثم ما يتيقن بأنه ردة يحكم بها له، وما يشك بأنه ردة لا يحكم بها .
إذ الإسلام الثابت لا يزول بشك، مع أن الإسلام يعلو .
وينبغى للعالم إذا رفع إليه هذا أن لا يبادر بتكفير أهل الإسلام مع أنه يقضى بصحة إسلام المكره .
وقد قال صاحب جامع الفصولين بعد نقله هذه العبارة ما نصه (أقول قدمت هذه لتصير ميزانا فيما نقلته فى هذا الفصل من المسائل فإنه قد ذكر فى بعضها أنه كفر مع أنه لا يكفر على قياس هذه المقدمة فليتأمل ) .
وقالوا أيضا إن مناط الكفر والإكفار التكذيب أو الاستخفاف بالدين، فقد نقل صاحب نور العين على جامع الفصولين عن ابن الهمام فى المسايرة أن مناط الإكفار هو التكذيب أو الاستخفاف بالدين .(2/442)
وقد قال فى جامع الفصولين ما نصه (شد زنارا على وسطه ودخل دار الحرب للتجارة كفر قيل فى لبس السواد وشد الفائزة على الوسط ولبس السراغج ينبغى أن لا يكون كفرا استحسنه مشايخنا فى زماننا وكذا فى قلنسوة المغول إذ هذه الأشياء علامة ملكية لا تعلق لها بالدين .
إذا علمت هذا علمت أن مجرد لبس البرنيطة ليس كفرا لأنه لا يدل قطعا على الاستخفاف بالدين الإسلامى، ولا على التكذيب بشىء مما علم من الدين بالضرورة حتى يكون فى ذلك ردة .
نعم إذا وجد من لابس القبعة شىء يدل دلالة قطعية على الاستخفاف بالدين أو على تكذيب شىء مما علم من الدين بالضرورة كان ذلك ردة فيكفر .
وعلى ذلك يكفر كل من حبذ واستحسن ما هو كفر إذا وجد منه ما يدل على ذلك دلالة قطعية وإذا لبسها قاصدا التشبه بغير المسلمين ولم يوجد منه ما يدل على الاستخفاف بالدين ولا على التكذيب بشىء مما علم من الدين بالضرورة كان آثما فقط، لما روى أبو داود فى سننه حدثنا عثمان بن أبى شيبة حدثنا أبو النضر يعنى - هاشم بن القاسم - حدثنا عبد الرحمن بن ثابت حدثنا حسان ابن عطية عن أبى جنيب الجرشى عن ابن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم من تشبه بقوم فهو منهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهذا إسناد جيد، وبين ذلك فى كتابه اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام (فهو منهم) أنه كافر مثلهم إن تشبه بهم فيما هو كفر كأن عظم يوم عيدهم تبجيلا لدينهم، أو لبس زنارهم أو ما هو من شعارهم قاصدا بذلك التشبه بهم إستخفافا بالإسلام، كما قيد به أبو السعود والحموى على الأشباه وإلا فهو مثلهم فى الإثم فقط لا فى الكفر كما فى الفتاوى المهدية، وإنما شرطنا فى الإثم قصد التشبه لأن فى الحديث ما يدل على ذلك إذ لفظة التشبه تدل على القصد .
ومن أجل ذلك قال صاحب البحر ما نصه ثم أعلم أن التشبه بأهل الكتاب لا يكره فى كل شىء فإننا نأكل ونشرب كما يفعلون إنما الحرام هو التشبه فيما كان مذموما وفيما يقصد به التشبه كذا ذكره قاضيخان فى شرح الجامع الصغير ،وكتب ابن عابدين فى حاشيته على البحر تعليقا على هذا ما نصه أقول قال فى الذخيرة البرهانية قبيل كتاب التحرى قال هشام رأيت على أبى يوسف نعلين مخصوفين بمسامير فقلت أترى بهذا الحديد بأسا قال لا .
فقلت إن سفيان وثور بن يزيد رحمهما الله تعالى كرها ذلك، لأن فيه تشبها بالرهبان، فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يلبس النعال التى لها شعر، وإنها من لباس الرهبان فقد أشار إلى أن صورة المشابهة فيما تعلق به صلاح العباد لا تضر .
وقد تعلق بهذا النوع من الأحكام صلاح العباد، فإن الأرض ممالا يمكن قطع البعيدة فيها إلا بهذا النوع من الأحكام .
وعلى هذا فهؤلاء الناس الذين لبسوا القبعة آثمون إذا قصدوا من لبسها التشبه بالكفار، أما إذا لبسوها غير قاصدين التشبه بهم ، كأن كان لبسهم إياها لدفع برد أو حر أو غير ذلك من المصالح فلا إثم .
وهذا كله إذا لم يوجد منهم ما يدل دلالة قطعية على استخفافهم بالدين، أو تكذيبهم بشىء مما علم من الدين بالضرورة وإلا كانوا كفارا مرتدين يحكم عليهم بأحكام المرتدين من عدم صحة أنكحتهم وعدم توريثهم من الغير إلى غير ذلك .
والله سبحانه وتعالى أعلم
===========
الموضوع (302) اعتناق اسلام.
اعتناق اسلام
المفتي
محمد عبده .
صفر 1320 هجرية
المبادئ
1 - متى جاء الدرزى ونحوه طائعا معلنا رجوعه عن عقيدته وتبرؤه من كل دين يخالف دين الإسلام وجب قبول قوله واعتبر بذلك مسلما .
2 - من لم يقبل رجوعه إلى الإسلام يكون راضيا ببقائه على الكفر ويكون بذلك آثما .
3 - لا يحتاج فى إثبات الرجوع إلى الإسلام إلى طريق رسمى بل يكفى أن يعلم اللّه عنه ذلك ولا يحتاج فى سريان أحكام الإسلام عليه إلا أن يعرف الناس عنه ذلك ويشتهر أمره بين من يعرفونه
السؤال
من باشكاتب محكمة شرعية لواء نابلس الشيخ عبده بكر التميمى فى رجل أقر أنه كان من طائفة الدروز ويريد الآن أن يترك ما كان عليه من الإعتقادات الدرزية ويعتنق الدين الإسلامى الحنيف المبين .
فهل والحالة هذه إذا أتى بالشهادتين مع عبارة التبرى من جمعي ما يخالف دين الإسلام يعتبر بنظر الشرع مسلما ويعامل معاملة المسملين فورا ولا يعد منافقا وإذا صح إسلامه بتلك الصيغة فما حكم من لم يقبل إسلامه من المسملين، وهل يشترط لقبول إسلامه أن يكون رسيما أرجو الجواب
الجواب
الذى قالوه إنه متى جاء الدرزى ونحوه طائعا معلنا بأنه كان على عقيدته وأنه رجع عنها ومتبرئا من كل دين يخالف دين الإسلام وجب قبول قوله واعتبر مسلما .
وقالوا كذلك إن من لم يقبل رجوع من يريد الأوبة إلى الإسلام يكون راضيا ببقائه على الكفر .
وقالوا غن اقل ما فى ذلك أن يكون آثما مسئا ثم إنه ليست لنا سنة نتبعها فى اعتبار المتحول إلى الإسلام مسلما منا له مالنا وعليه ما علينا فى أخوة الدين إلا سنة نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم وقد كان عليه السلام يقبل الرجعة إلى الإسلام بعد الردة والإخلاص بعد النفاق ولم يكن ينظر إلى من شهد أن لا غله إلا اللّه وأن محمد رسول اللّه وأن القرآن حق والآخرة حق وأن جحميع ما فرضه اللّه فى كتابه واجب الأداء وما منعه يجب عنه الانتهاء إلا نظرة المسلم للمسلم ولم يكن يفرق بين المسملين فى الإسلام إلا أن يطلعه اللّه على ماكن شخص من نفاق أو قامت له على ذلك شواهل قاطعة .
وكتب السنة شاهدة بذلك فكيف لا نقنع من الناس ما قنع صلى اللّه عليه وسلم منهم وكيف نطالبهم بأكثر مما طالبهم به وهو صاحب الشريعة وإليه المرد عند النزاع .(2/443)
فهذا الدرزى الذى اعترف بما كان عليه وجاء الآن طائعا من نفسه يشهد أنه على الدين الحق وأنه ينبذ كل دين يخالفه .
يعد مسلما حقا .
ومن لم يقبل منه ذلك يخشى أن يبوء بها نعوذ باللّه فليتق اللّه المسلمون وليرجعوا إلى حكم اللّه وحكم رسوله ولا يكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم واللّه ينقذهم مما صاروا إليه وهو يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم .
أما اعتبار الراجع إلى العقيدة الصحيحة مسلما فلا يحتاج إلى أن يكون ذلك من طري رسمية بل يكفى ان يعلم اللّه عنه ذلك ثم فى جريان أحكام المسلمين عليه لا يحتاج إلا إلى أن يعرف الناس منه ذلك وتبين أمره بين من يعرفونه .
واللّه تعالى أعلم
============
الموضوع (1228) ردة
ردة
المفتي
جاد الحق على جاد الحق .
جمادى الآخرة 1399 هجرية - 2 مايو 1979 م
المبادئ
1 - باعتناق المسلم للديانة المسيحية وتسميه باسم مسيحى يصير مرتدا عن دين الإسلام .
2 - يقضى الحكم الشرعى بقتل المسلم الذى بدل دينه إذا أصر على ردته ولم يتب ولم يرجع إلى الإسلام متبرئا مما فعل، وهذا لا يتنافى مع الحرية الشخصية .
3 - إذا كان واقع الحال أن حد الردة غير منفذ الآن، فإن حماية المجتمع تقضى بإنزال العقوبات التأديبية السريعة الرادعة باعتباره مخالفا للنظام العام
السؤال
طلبت وزارة التربية والتعليم - مكتب الوزير - بكتابها رقم 7/1337 سرى المؤرخ 29/4/1979 إبداء الرأى فيما يقتضى اتخاذه قبل السيد /أ ك أ المدرس بمديرية التربية والتعليم بالقليوبية واعتناقه الديانة المسيحية وتسميه باسم م ع
الجواب
نفيد أن ما فعله هذا الرجل يصير به مرتدا عن دين الإسلام، وأن الحكم الشرعى يقضى بقتل المسلم الذى بدل دينه إذا أصر على ردته ولم يتب ولم يرجع إلى الإسلام متبرئا مما فعل، وهذا الحكم لا يتنافى مع الحرية الشخصية لأن حرية العقيدة لا تستتبع الخروج عن الإسلام بمؤثرات المادة أو التضليل .
وإذا كان واقع الحال أن حد الردة - بقتل المرتد إذا أصر على ردته - غير منفذ الآن فإن حماية المجتمع المدرسى الذى يعمل فيه هذا الرجل تقضى بإنزال العقوبات التأديبية السريعة الرادعة باعتباره صاحب فكر ملحد ومخالف للنظام العام الذى تأمر القوانين بالتزامه .
فقد نص الباب الأول من الدستور - وهو خاص بالدولة - فى المادة الثانية على أن دين الدولة الإسلام، وأن لغتها الرسمية اللغة العربية ، وأن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع .
وهذا يقطع بأن نظام الدولة العام هو الإسلام، وأن خروج المسلم عن هذا الدين يعتبر خروجا عن النظام العام للدولة، الأمر الذى يستتبع المساءلة التأديبية على هذا الجرم .
وهذا الشخص بحكم عمله التربوى ووضعه بين الطلاب والمدرسين والعمال يصبح خطرا على فكر هؤلاء جميعا من حيث إثارة الفتنة بين طوائف الأمة، بل إنه بخروجه عن دين الإسلام يعتبر قد خرج على مقتضى واجبات وظيفته التربوية لارتباطها بعقيدته وسلوكه، ولا شك أن من المخالفات التأديبية الأساسية الخروج على النظام العام للدولة - وإذ كانت شريعة الإسلام تأمر باستتابة المرتد عنها ونصحه وإزالة شبهته فإنى (وإلى أن يتم اتخاذ الإجراءات التأديبية) أقترح الآتى : أولا - انتداب هذا الشخص فورا لعمل مكتبى بعيدا عن البيئة التى افتتن فيها، وإبعادا له عن الطلاب والمدرسين والعمال الذين يعرفون ما وقع فيه .
ثانيا - استتابته ونصحه وإزالة شبهته الدينية بمعرفة أحد علماء المسلمين المختصين حتى تتضح هويته والمغريات التى تعرض لها ومن هم وراء تضليله، فإن كثيرا من الأفكار الملحدة المستوردة تلبس الآن ثوب الدين أو الخروج عليه لإحداث الفتن والخلافات بين عنصرى الأمة الأمر الذى يجب أن يشد انتباه المسئولين فى كل المواقع .
ثالثا - لما كان ما وقع فيه هذا الشخص مخالفا للنظام العام للدولة فإنه لا يقر عليه، ومن أجل هذا فواجب الإدارة ألا تسايره فى تغيير اسمه وديانته فى الأوراق الرسمية .
رابعا - اتخاذ الإجراءات التأديبية ضده كموظف عمومى تربوى خرج على النظام العام للدولة وعلى مقتضيات وظيفته بهذا الاعتبار حتى ينال جزاءه تأديبيا بعد إذ تعذر مساءلته جنائيا .
هدانا الله جميعا إلى الاعتصام بالإسلام دينا عقيدة وشريعة
=============
الموضوع (1229) ردة وعودة إلى الإسلام.
ردة وعودة إلى الإسلام
المفتي
جاد الحق على جاد الحق .
جمادى الأولى 1401 هجرية - 28 مارس 1981 م
المبادئ
1 - المرتد هو البالغ العاقل الذى يرجع عن الإسلام طوعا .
إما بالتصريح بالكفر، وإما بلفظ يقتضيه، أو بفعل يتضمنه .
2 - من الفعل الذى يصير به المسلم مرتدا السعى إلى كنائس المسيحيين أو معابد اليهود ودخولها وتأدية طقوسهم .
3 - الشبان المسلمون الذين ذهبوا إلى الكنائس المسيحية اليونانية وأعلنوا اعتناق الدين المسيحى دون إكراه وإنما طواعية بقصد الزواج وتيسير الإقامة والعمل .
زواجهم باطل ومعاشرتهم لزوجات المسيحيات اليونانيات من باب الزنا فى حكم الإسلام .
4 - تقبل توبة المرتد عن الإسلام لأن الردة من كبائر المعاصي .
5 - باعتذارهم بأنهم ما غامروا بما قالوا وما فعلوا إلا ابتغاء الزواج من مواطنات يونانيات فإنه تصحيحا لمواقفهم وتعاملهم شرعا يتبع الآتى (أ) يشهرون توبتهم بأعلام رسمى بين يدى القنصل بالسفارة المصرية .
(ب) يعدون زواجهم من جديد مع زوجاتهم اليونانيات وفقا لحكم الإسلام .
(ج) أولادهم ثمرة للزواج الأول وقبل تجديده فى نطاق أحكام الإسلام يثبت نسبهم منهم وتثبت ديانتهم على أنهم مسلمون تبعا لآبائهم .
(د) أقضية الأحوال الشخصية بالنسبة لهم تحكمها القواعد الإسنادية المبينة فى المواد 12، 13، 14 من القانون المدنى المصرى 131 لسنة 1948(2/444)
السؤال
من السيد الوزير المفوض أ ن م القنصل العام بسفارة جمهورية مصر العربية بأثينا - اليونان .
بخطاب السفارة الرقيم 32 المؤرخ 12/3/1981 والذى قيد برقم 93 لسنة 1981 م وقد جاء به إن بعض الشباب المسلم المقيم فى اليونان أقدم على الزواج من مواطنات يونانيات فى الكنيسة طبقا لما تقضى به طقوس الكنيسة اليونانية، وهى تلزم هذا الشباب بإعلانه اعتناق الدين المسيحى لإتمام الزواج، وحتى يتمكن فى ذات الوقت من الحصول على اعتراف السلطات اليونانية بقانونية هذا الزواج، وما يترتب عليه من حصوله على حق الإقامة والعمل فى اليونان .
ولقد عاد هذا الشباب بعد ذلك مبديا رغبته فى استخراج شهادات ميلاد لأولادهم من الزوجات اليونانيات، باعتبار أن الأولاد مسلموا الديانة وطالبوا إعادة إشهاد إسلامهم وعقد زواجهم مرة أخرى طبقا للشريعة الإسلامية، معلنين أن انضمامهم للديانة المسيحية أثناء زواجهم بالكنسية كان أمرا شكليا بعيدا عما استقر فى القلب، بغية إتمام الزواج من مواطنات يونانيات لتيسير سبل العمل والإقامة فى اليونان .
فما حكم صنيع هذا الشباب ، وهل كانوا بإتمام الزواج بالكنيسة ليسوا فى حكم المرتدين عن الإسلام ، وما حكم معاملة هؤلاء الشباب شرعا فيما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية
الجواب
إن المرتد هو البالغ العاقل الذى يرجع عن الإسلام طوعا، إما بالتصريح بالكفر وإما بلفظ يقتضيه، أو بفعل يتضمنه، ومن الفعل الذى يصير به المسلم مرتدا، السعى إلى كنائس المسيحيين أو معابد اليهود، ودخولها وتأدية طقوسهم .
لما كان ذلك وكان الظاهر من السؤال أن شباب المسلمين المسئول عنهم، قد ذهبوا إلى الكنائس المسيحية اليونانية وأعلنوا اعتناق الدين المسيحى دون إكراه، وإنما طواعية بقصد الزواج وتيسير الإقامة والعمل، كان من فعل ذلك مرتدا عن الإسلام .
ولما كانت تصرفات المرتد التى تعتمد الملة باطلة، فقد اتفق فقهاء المسلمين على أن زواج المرتد باطل سواء تزوج بمسلمة أو كتابية .
وإذ كان ذلك ك كان زواج هؤلاء المرتدين، بإعلانهم اعتناق الدين المسيحى وتزوجهم طبقا لطقوس الكنيسة زواجا باطلا وكانت معاشرتهم لزوجاتهم المسيحيات اليونانيات من باب الزنا فى حكم الإسلام .
ولما كان المرتد عن الإسلام تقبل توبته، لأن الردة من كبائر المعاصى وقد قال الله سبحانه { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما } النساء 48 ، وقال جل شأنه { قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } الزمر 53 ، وإذ هداهم الله وأبقى قلوبهم عامرة بالإيمان، موقنة بالإسلام واعتذروا بأنهم غامروا بما قالوا وما فعلوا ابتغاء الزواج من مواطنات يونانيات ،فإنه تصحيحا لمواقفهم وتعاملهم شرعا وقانونا يتبع الآتى : أولا - يشهرون توبتهم بإعلام رسمى بين يدى القنصل العام بالسفارة المصرية باليونان ويثبت فى الإشهاد وبعد نطقهم بأنهم تابوا إلى الله سبحانه عما فعلوا وعما قالوا، وأنهم يشهدون أن لا إليه إلا الله وأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الناس كافة، وأنهم برئوا من كل دين يخالف دين الإسلام ، ويستغفرون الله سبحانه من كل قول أو فعل صدر منهم مخالفا لعقيدة الإسلام وشريعته، وذلك بعد التثبت من شخصياتهم .
ثانيا - يعقدون زواجهم من جديد من زوجاتهم المواطنات اليونانيات ولو بقيت زوجاتهم على دينهن المسيحى، لأن الله سبحانه أباح للمسلم التزوج بالمسيحية واليهودية فى قوله تعالى { اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذى أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو فى الآخرة من الخاسرين } المائدة 5 ، ويكون تجديد عقود زواج هؤلاء الشبان وفقا لحكم الإسلام، أى بإيجاب وقبول بأن تقول المرأة للرجل زوجتك نفسى على كتاب الله القرآن الكريم وعلى سنة محمد رسول الله، وأن يجيبها الرجل فورا قبلت زواجك لنفسى على ذلك فى حضور شاهدين مسلمين، ويجوز أن يكونا مسيحيين أو يهوديين أو أحدهما غير مسلم، وأن يسمع الشاهدان الإيجاب والقبول بلغة يفهمانها ويعرفان أن ما سمعاه عقد زواج .
ثالثا - إذا كان قد ولد لهؤلاء الشبان أولاد من الزواج الأول فى الكنيسة وقبل تجديده فى نطاق أحكام الإسلام يثبت نسبهم من آبائهم وتثبت ديانتهم على أنهم مسلمون تبعا للآباء الذين تابوا عن الردة ورجعوا بالتوبة مسلمين، ويؤخذ إقرارهم ببنوة الأولاد إقرارا صحيحا ثابتا رسميا .
رابعا - فى شأن معاملة هؤلاء الشباب فيما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية فإنه قد جرى نص المادة 14 من القانون المدنى المصرى 131 لسنة 1948 بأنه فى الأحوال المنصوص عليها فى المادتين السابقتين ( 12، 13 ) إذا كان أحد الزوجين مصريا وقت انعقاد الزواج يسرى القانون المصرى وحده فيما عدا شرط الأهلية للزواج .
لما كان ذلك كانت أقضية الأحوال الشخصية بالنسبة للمسئول عنهم تحكمها القواعد الإسنادية المبينة فى المواد 12، 13، 14 من هذا القانون فى شأن تنازع القوانين من حيث المكان .
والله سبحانه وتعالى أعلم
=============
الموضوع (1230) الردة بالفعل أو بالقول.
الردة بالفعل أو بالقول
المفتي
جاد الحق على جاد الحق .
ربيع الأول 1401 هجرية - 27 يناير 1981 م
المبادئ
1 - إنابة المسيحى - الذى أسلم وتزوج بمسلمة - غيره فى تجديد جواز سفره المدون به ديانته السابقة لا يعتبر بها مرتدا
السؤال(2/445)
بالطلب المقيد برقم 26 لسنة 1981 الذى جاء به أن رجلا كان مسيحيا وأسلم ثم تزوج بمسلمة، وقد كان لهذا الرجل قبل إسلامه جواز سفر أوشكت مدته على الانتهاء، وعهد به إلى صديق له ليقوم بتجديده واستخراج جواز سفر آخر جديدا بديلا للجواز الذى أوشكت مدة صلاحيته على الانتهاء، وقد قام هذا الصديق باستخراج جواز السفر الجديد مطابقا للجواز القديم الذى كان له قبل الإسلام من حيث البيانات جميعها - الديانة والحالة الاجتماعية - أعزب .
والاسم والسن ،كما كان ثابتا بالجواز القديم المحرر قبل الإسلام ، وقد أعتذر الصديق الذى قام باستخراج جواز السفر الجديد عن هذا بأنه رغب فى الإسراع فى استخراجه .
ولقد سافر الزوجان إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأقاما هناك حوالى عامين، لم يخالف الزوج تعاليم الإسلام، ولم يباشر أى شىء من الطقوس الدينية التى كان يباشرها قبل اعتناقه الإسلام .
ثم تصادف أن اطلعت الزوجة على جواز سفر زوجها، ولما رأت بياناته عن الديانة وغيرها تشككت فى أمره، وقيل لها إن زوجها بهذا العلم - الذى باشره غيره - قد ارتد عن الإسلام، فى حين أن الزوج لم يرتد ولم يباشر أى شىء يخالف الإسلام وتعاليمه، وقد أبت الزوجة معاشرة زوجها، وتركت منزل الزوجية، اعتقادا منها أنه باستخراجه جواز السفر بالبيانات التى كانت قبل إسلامه - التى حررت بفعل غيره - قد ارتد والعياذ بالله، وهى فى الوقت نفسه متألمة من معاشرته إياها قبل علمها بما دون فى هذا الجواز من بيانات .
فما الحكم الشرعى فى ذلك - وهل الزوجة محقة فى تركها زوجها معتقدة ردته عن الإسلام أم لا
الجواب
إن المستخلص مما جاء فى هذا السؤال أن الزوج المسئول عنه لم يحرر بنفسه بيانات جواز السفر، ومنها ديانته قبل اعتناقه الإسلام، وأنه أعزب، وإنما حرر تلك البيانات صديق له أنابه فى استخراج هذا الجواز، وأنه قد عاش مع زوجته المسلمة قرابة العامين فى الولايات المتحدة مسلما، لم يخالف الإسلام أو تعاليمه، ولم يصدر منه ما يصير به مرتدا عن الإسلام .
ولما كان المرتد - فى اللغة - هو الراجع مطلقا، وفى اصطلاح فقهاء الشريعة الإسلامية هو الراجع عن دين الإسلام، وركن الردة إجراء كلمة من كلمات الكفر على اللسان بعد الإسلام والإيمان .
وشروط وقوع الردة أن تقع من مسلم عاقل يقظ طوعا واختيارا، ويجرى مجرى النطق بألفاظ الكفر كتابتها أو كلمة منها بنفسه، مدركا معناها ومرماها مع تحقق تلك الشروط .
فإذا كان هذا الزوج لم يكتب بنفسه فى أوراق جواز سفره ديانته قبل إسلامه، ولم يصدر منه منذ اعتناق دين الإسلام ما يخرجه عن هذه العقيدة، وكان ما دون بجواز السفر من فعل غيره لم يكن مسئولا عنه فى عقيدته، فلا يعتبر به مرتدا عن الإسلام، ولا يحاج به فى هذا الشأن، لأن الردة عن الإسلام ذاتية أى بفعل أو قول صادر من ذات المسلم بالشروط المتقدمة .
وإذ كان ذلك لم يكن لأحد اعتبار هذا الرجل مرتدا بما لم يقله أو يكتبه وإنما كتبه غيره، إذ أن الإسلام والارتداد عنه - والعياذ بالله سبحانه - لا بد أن يصدر من ذات الإنسان حتى تجرى عليه الأحكام الشرعية المقررة على المسلم أو المرتد، ففى القرآن الكريم قوله تعالى { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } الأنعام 164 ، وقوله { ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } الإسراء 15 ، وقوله { أم لم ينبأ بما فى صحف موسى .
وإبراهيم الذى وفى .
ألا تزر وازرة وزر أخرى . وأن ليس للانسان إلا ما سعى } النجم 36 ، 37 ،38 ، 39 ، وإذ كان الأمر على هذا الوجه، لم يصر به هذا الزوج مرتدا عن الإسلام، وكانت معاشرته لزوجته المسلمة معاشرة زوج مسلم، ولم يجز لها شرعا ترك معايشته أو معاشرته، متى كان بينا لها صدق هذه الوقائع وصدقته فيها، وما لم يكن هناك سبب شرعى آخر لاجتنابه .
والله سبحانه وتعالى أعلم
=============
الموضوع (311) ردة الزوجة لا تقتضى فسخ نكاحها.
ردة الزوجة لا تقتضى فسخ نكاحها
المفتي
محمد عبده .
جمادى الأولى 1317 هجرية
المبادئ
1 - لا ينفسخ النكاح ولا تقع الفرقة بمجرد ردة الزوجة وتبقى على عصمة زوجها .
2 - المهر واجب على الزوج بالدخول ولا يسقط بردتها
السؤال
زوجة ارتدت عن الإسلام بقصد فسخ النكاح وعادت إلى الإسلام فورا فهل يفسخ النكاح ردا لقصدها أولا يفسخ ولا ينفذ قصدها .
وإذا فسخ فما حكم الصداق .
هل يقرر على الزوج بالدخول أو يلزمها حيث إن الفسخ من جهتها وأن الزوج تركها من مدة ثلاثة شهور ولم يسأل عنها إلى الآن
الجواب
قال فى الفتح قد أفتى الدبوسى والصفار وبعض أهل سمرقند بعدم وقوع الفرقة بالردة ردا عليها .
وغيرهم مشوا على الظاهر .
ولكن حكموا بجبرها على تجديد النكاح مع الزوج . ولما كان الإجبار على النكاح غير متيسر ولانفاذ له وكان كثير من الزوجات قد اتخذن دينهن لعبة يخلعنه كلما أدرن التخلص من أزواجهن وهى وسيلة من أقبح الوسائل وجب لذلك إقفال هذا الباب فى وجوههن خصوصا مع تعذر إجراء أحكام الردة عليهن كما هو معلوم فلهذا لا ينفسخ النكاح ولا تقع الفرقة بمجرد ردة الزوجة بل تبقى الزوجة فى عصمة زوجها والمهر واجب عليه بالدخول لا يسقط بردتها كما هو ظاهر واللّه أعلم
===============
الموضوع (312) حكم زوجة المرتد.
حكم زوجة المرتد
المفتي
محمد عبده .
صفر 1313 هجرية
المبادئ
1 - الردة فسخ للزواج .
2 - تبين الزوجة بردة زوجها وتبدأ عدتها من تاريخ الردة وبعد انقضاء عدتها يحل لها التزوج بغيره
السؤال
من حسن م .
فى رجل كان كافرا فأسلم وتزوج بمسلمة وأتى منها بثلاثة أولاد وهو فى الإسلام .
ثم ارتد إلى دينه من مدة ثلاث سنوات .(2/446)
فهل تبقى من غير زوج تنتظر لعله يسلم أن تحل للأزواج بمجرد رجوعه للدين المذكور من غير أن تتوقف على ما يحل العصمة منه بعد ارتداده
الجواب
من المقرر شرعا أن المرتد هو الراجع عن دين الإسلام، وأن ارتداد أحد الزوجين فسخ تبين به الزوجة .
وعليه فمتى تحقق ارتداد الزوج المذكور فى هذه الحادثة عن دين الإسلام انفسخ نكاح زوجته المذكورة بارتداده وبانت منه بذلك وبعد انقضاء عدتها من حين الردة يجوز لها أن تتزوج بغيره .
واللّه أعلم
============
الموضوع ( 938 ) ردة الزوجة وما يتبع معها.
ردة الزوجة وما يتبع معها
المفتي
حسن مأمون .
ربيع الأول 1375 هجرية - 5 نوفمبر 1955م
المبادئ
1- المرتدة تحبس حتى تعود إلى الإسلام وتعزر بالضرب كل ثلاثة أيام حتى تعود .
2- بمجرد ردتها تقع الفرقة بينها وبين زوجها، لأن العقد يبطل بالردة عند الشافعية يشترطون فى بطلان العقد قضاء القاضى بذلك .
3- لا يجوز لها أن تتزوج بغير زوجها الأول بعد عودتها إلى الإسلام .
4- يجوز لكل قاض تجديد عقد زواجهما بزوجها الأول بمهر يسير رضيت بذلك أم لا .
5- لا يجوز لأى دولة إسلامية أن تضع نظما أو إجراءات تبيح للمسلم الخروج عن الإسلام، ولو وضعت هذه النظم أو الإجراءات كانت باطلة شرعا
السؤال
من السيد/ وكيل نيابة الميناء الجزئية ببورسعيد بكتاب النيابة رقم 7440 المؤرخ 20/10/1955 المطلوب بيان الإجراءات التى تتبع فى ارتداد مسلمة عن الإسلام وزواجها بمسيحى
الجواب
إنه لما كان النبى صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء عليهم السلام ورسالته هى آخر الرسالات التى أنزل الله بها الوحى على الرسل الكرام من قبله وكانت رسالته عامة لجميع العالمين، كان الناس جميعا مخاطبين برسالته عليه السلام، ومطالبين بالنظر فيما جاء به .
قال تعالى { إن الدين عند الله الإسلام } آل عمران 19 ، وقال تعالى { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين } آل عمران 85 ، وقال تعالى { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون } سبأ 28 ، لما كان الحال كذلك عنيت الشريعة الإسلامية بالمحافظة على العقيدة الإسلامية وانتشارها، ووضعت العقوبات الشديدة لمن يدخل فى الإسلام ثم ينقلب عليه حيث جاءت بقتل الرجل المسلم الذى يرتد عن الإسلام ولا يرجع إليه ثانية بعد ردته، كما جاءت بأحكام أخرى تفصيلية لمعاملته فى ماله الذى كسبه حين إسلامه وماله الذى كسبه حين ردته ولمن يؤول إليه هذا المال فى الحالين، كما بينت حكم بيعه وشرائه وهبته ورهنه وتصرفه فى ماله حال ردته إلى آخر ما جاء فى الفقه الإسلامى من الأحكام المتعلقة به .
هذا بالنسبة للرجل المسلم الذى يرتد عن دين الإسلام .
أما المرأة المسلمة فإن الشريعة وإن وافقت بينهما فى معظم الأحكام الخاصة بهما إلا أنها لم تقض بقتلها إذا ارتدت عن الإسلام ولم تعد إليه ، وإنما اتفق فقهاء المسلمين على أنها تحبس أبدا حتى تعود إلى الإسلام وتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام وإن أبت أجبرت عليه .
جاء فى الجامع الصغير (وتجبر المرأة على الإسلام ولا تقتل إن أبت العود كالرجل ولكن تحبس إلى أن تعود أو تموت لأن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء) وجاء فى الفتح أخرج الطبرانى فى معجمه عن معاذ بن جبل رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن أيما رجل ارتد عن دين الإسلام فادعه فإن تاب فاقبل منه وإن لم يتب فاضرب عنقه ، وأيما امرأة ارتدت عن دين الإسلام فادعها فإن تابت فاقبل منها فإن أبت فاستتبها) وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال (لا تقتل النساء إذا هن ارتددن عن الإسلام ولكن يحبسن ويدعين إلى الإسلام ويجبرن عليه) وذكر الفقهاء أنها تعزر بالضرب كل ثلاثة أيام حتى ترجع عن الكفر وتتبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام، وبمجرد ردتها تقع الفرقة بينها وبين زوجها، لأن الردة تبطل عقد النكاح .
وعند الحنفية تقع الفرقة بينهما بمجرد ردة أحدهما، واشترط الشافعى لبطلان عقد الزواج قضاء القاضى بالفرقة - أنتهى تنقيح الحامدية - .
ولا يجوز لها أن تتزوج بغير زوجها الأول، وإن فعلت كان نكاحها باطلا شرعا، لأنه ليس لها أن تتزوج بغير زوجها بعد أن تعود إلى الإسلام، ولكل قاض أن يجدد عقد النكاح بينهما حينئذ بمهر يسير رضيت بذلك أو أبت .
جاء فى التنقى شرح ملتقى الأبحر (ولا يصح تزوج المرتد ولا المرتدة أحدا من الناس مطلقا) هذه هى مجمل الأحكام الشرعية فى هذا الموضوع .
ومما تقدم يعلم أن المرتدة تحبس حتى تعود إلى الإسلام، ولا يصح زواجها بغير زوجها الأول ولو تزوجت غيره كان زواجها باطلا شرعا، لأنه من التصرفات التى اتفق الفقهاء على أنها باطلة ما دامت المرتدة فى دار الإسلام ولم تلحق بدار الكفار، ومن ثم والحكم ما سبق لا يجوز شرعا لدولة مسلمة أن تضع النظم والإجراءات لخروج المسلمين من دينهم ولو وجدت هذه الإجراءات فى أية دولة مسلمة كانت باطلة شرعا .
والله أعلم
============
الموضوع ( 939 ) ردة غير معتبرة شرعا.
ردة غير معتبرة شرعا
المفتي
حسن مأمون .
ربيع الآخر 1375 هجرية - 19 نوفمبر 1955 م
المبادئ
1- قول الرجل لزوجته (إنت كفرتينى) أو (أنا خلاص خرجت من دين المسلمين لدين النصارى) لا يعتبر ردة وبالتالى لا ينفسخ به عقد الزواج بينهما متى كان غير واع لما ينطق به ولا قاصدا له .
2- يشترط فى صحة الردة عن الإسلام العقل والصحو والطوع فلا ردة لمجنون أو معتوه أو مدهوش
السؤال(2/447)
من رجل قال إنه سلم زوجته عشرين جنيها أمانة لأصحابها عنده لتحفظها، ولما حل ميعاد تسليمها طلبها منها فأحضرت له ستة عشر جنيها منها فقط، فثار عليها وحلف قائلا (والله إن ما كنتيش تجبيبى الأمانة دى تكونى على ذمة نفسك مشى على ذمتى) .
وقال أيضا أثناء ثورته وبدون وعى منه (أنت كفرتينى وضربت نفسى بالنعال أنا خلاص خرجت من دين المسلمين لدين النصارى) وقال إنه لم يدرك ما قاله فى ثورته ولا يقر ما أتاه ولا يقيم عليه بضمير خالص لله - ويطلب بيان الحكم الشرعى فيما صدر منه
الجواب
إنه يظهر من قول السائل لزوجته بعد أن ظهر له أنها تصرفت فى جزء من الأمانة التى أودعها عندها (والله إن ماكنتيش تجيبيى الأمانة دى تكونى على ذمة نفسك مشى على ذمتى) وأنه علق طلاقها على عدم الإتيان بباقى الأمانة الذى تصرفت فيه منها فهو طلاق معلق، وحكمه أنه إذا قصد به مجرد حمل زوجته على الإتيان بالأمانة كاملة فلا يقع به شئ، وإذا قصد به تطليقها إذا لم تنفذ ما طلبه منها وقع طلاق رجعى .
ويبدو مما جاء بسؤاله أنه أراد بهذه الصيغة حملها على الإتيان بمبلغ عشرين جنيها فورا، بدليل أنه ثار لمجرد علمه بأنها لم تحتفظ بالأمانة كاملة إلى وقت طلبها، ولا يقصد بها رد الأمانة فى أى وقت ولو طال بها الأجل - كما يظهر أنه علق طلاقها على رد الأمانة ليحملها على المبادرة بإكمالها ليتمكن من ردها لأصحابها كاملة حين طلبهم إياها منه، ومع هذا الأمر موكول إلى غرضه وقصده من تعليق الطلاق المذكور، فإن قصد به الحمل فقط لم يقع به شئ من الطلاق، وإن قصد به وقوع الطلاق عند عدم الإتيان بالأمانة كاملة فورا وقع به طلاق رجعى واحد كما سبق أن بينا .
هذا بالنسبة ليمين الطلاق المذكور . وأما قوله أثناء ثورته وبدون وعى (أنت كفرتينى وضربت نفسى بالنعال، وقوله أيضا أنا خلاص خرجت من دين المسلمين لدين النصارى) فلا يعتبر ردة ينفسخ بها عقد النكاح بينه وبين زوجته لصدوره منه بدون وعى كما يقول، أى أن ثورته أفقدته عقله فنطق بما نطق به بدون قصد ولا وعى لما نطق به، لأن الفقهاء نصوا على أن شرط صحة ردة المسلم عن الإسلام العقل والصحو والطوع، وعلى عدم صحة ردة مجنون ومعتوه ومدهوش - ولكننا مع هذا ننصح السائل بأن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى مما نطق به بدون وعى وأن يملك نفسه عند الغضب حتى لا يتعرض لمثل هذا الموقف الذى لا يليق بالمسلم .
والله الهادى إلى سبيل الرشاد . والله أعلم
=============
الموضوع ( 943 ) ردة الصبى المميز معتبرة شرعا.
ردة الصبى المميز معتبرة شرعا
المفتي
أحمد هريدى .
12 مايو 1968 م
المبادئ
1- ردة الصبى المميز معتبرة ولكنه لا يقتل إلا بعد البلوغ وإصراره على ردته على الأصح .
2- سن التمييز عند الحنفية يكون ببلوغه سبع سنوات .
3- تعميد الصبى المميز بالكنيسة وهو فى العاشرة من عمره بواسطة أبيه المرتد يعتبر مرتدا، ولا يعتبر نصرف أبيه إكراها له على الردة مادام لم يصدر منه ما يدل على عدم القبول .
4- زواج المرتد باطل فى الشريعة الإسلامية أيا كانت ديانة الزوجة التى تزوجها .
5- لا ولاية للمرتد على أحد مطلقا
السؤال
إن مصريا مسلما تزوج من مسيحية وأنجب منها ولدا فى سنة 1923 وفى سنة 1931 ارتد هذا الشخص عن الإسلام واعتنق الدين المسيحى، وفى سنة 1934 قام بتنصير ابنه الذى رزق به فى سنة 1923 وكانت سنه إذ ذاك نحو عشر سنوات، وفى سنة 1942 تزوج هذا الابن الذى عمده أبوه ونصره من سيدة مسيحية وتم الزواج فى الكنيسة السريانية الكاثوليكية، وكانت سنه وقت الزواج تسعة عشر عاما وأنجب أولادا ثلاثة بنين وبنات .
وسأل الطالب . هل هذا الزواج صحيحا شرعا وهل استمرار إقرار الزوجين به سنين عديدة يصحح ما يكون قد شابه من عوار عند الانعقاد وهل يلزم لصحة الزواج أن يتم أمام الجهة الشرعية المختصة وما مدى ولاية الأب المرتد على القاصر وتنصيره له وهو ناقص الأهلية ولا تقدير له وهل يعتبر ما وقع ارتداد من الابن مع ملاحظة أنه حينما بلغ وأدرك لم يرجع إلى دينه الإسلام، ولم يوجد من حوله من يبصره بدين الإسلام وتعاليمه ليستطيع المفاضلة بين الإسلام وغيره .
وجاء ضمن الأوراق المقدمة شهادة من بطركخانة السريان الكاثوليك بالقاهرة بأن السيد/ قد قبل العناد الذى وقع فى 6 مايو سنة 1933
الجواب
اختلف فقهاء الحنفية فى اعتبار البلوغ شرطا لصحة الردة .
فقال أبو حنيفة ومحمد إن البلوغ لا يعتبر شرطا فى صحة الردة من الشخص ويكفى العقل .
ومن ثم لو ارتد الصبى المميز عن الإسلام تعتبر ردته وتبنى عليها الأحكام ماعدا القتل فإنه لا يقتل إلا بعد البلوغ والاستمرار على الردة .
وقال أبو يوسف يعتبر البلوغ شرطا لصحة الردة ومن ثم لا تصح ردة الصبى المميز عنده ما لم يبلغ والأول هو الأصح .
والصبى المميز هو الذى يميز الخبيث من الطيب والضار من النافع، وقدر فقهاء الحنفية سنة التمييز بسبع سنين .
والصبى فى حادثتنا قد نصره أبوه وعمده وهو فى سن تزيد عن العاشرة، ولا يمكن أن يعتبر تصرف أبيه إكراها على الارتداد مادام لم يصدر من الصبى ما يدل على عدم قبوله هذا التنصير فيعتبر والحالة هذه مرتدا، ويؤيد ذلك أنه استمر على الارتداد وقبول الردة بعد أن بلغ وتزوج وهو على هذه الحال، والمقرر أن المرتد لا دين له وأن زواجه يعتبر باطلا شرعا فى نظر الإسلام أيا كانت ديانة الزوجة التى تزوجها، ومن ثم لا نجد مجالا للبحث فى صحة هذا الزواج فى نظر الديانات والشرائع الأخرى، ولا فيما قد يترتب عليه من آثار فى نظر تلك الديانات والشرائع .
ومادمنا قد جرينا على اعتبار ردة الصبى المميز واعتبرنا بالتالى ردة الصبى موضوع الحادثة باعتبارها صادرة منه عن رضا وطواعية .(2/448)
فإنه لا مجال للبحث فى مدى ولاية الأب المرتد على ابنه إذ لا ولاية للمرتد على أحد، والفعل مسند إلى الشخص لا إلى أبيه ومما ذكر يعلم الجواب عن السؤال والله سبحانه وتعالى أعلم
===========
الموضوع ( 3432 ) ردة عن الإسلام.
ردة عن الإسلام
المفتي
عبد اللطيف حمزة .
شعبان سنة 1403 هجرية - 6 يونيه سنة 1983 م
المبادئ
1 - إذا قال الذمى أو المجوسى دخلت فى الإٍسلام، أو أسلمت - كان مسلما ويحكم بإسلامه، ولو لم ينطق بالشهادتين، لأن الإسلام يتضمنها .
2 - لما كانت الإحكام الدنيوية تناط بالأمور الظاهرة فقد جعل الشارع مناطها الإقرار باللسان، بأن يأتى بالشهادتين أو ما فى معناهما .
3 - إذا كان الولد غير بالغ أو غير عاقل يتبع خير الأبوين دينا .
4 - الولد الذى صار مسلما تبعا لأحد والديه أو تبعا لهما يظل مسلما بعد بلوغه ولا يحتاج إلى تجديد اسلامه ولو وارتد أبواه عن الإسلام أو ارتد من أسم منهما ظل هو على اسلامه .
5 - ابداء الرغبة فى اثبات الديانة المسيحية ممن أسلم بالبطاقة يعتبر ردة عن الإسلام يجب قتله إن لم يتب ويرجع إلى الإسلام متبرئا مما فعل
السؤال
بكتاب السيد اللواء / محمد أمين مدير الإدارة العامة للشئون الإدارية بوزارة الداخلية الرقيم 573 المؤرخ 26م4م1983 المقيد برقم 152 لسنة 1983 المتضمن الافادة بالرأى فى أن أحد المسيحيين قد رغب فى الزواج من مسلمة فأشهر اسلامه وتزوج منها وكان متزوجا من قبل بمسيحية وأنجب منها ولدين على الديانة المسيحية وأنه لدى بلوغهما سن السادسة عشر استخرجت بطاقة شخصية لكل منهما أثبت بخانة الديانة أنهما مسلمان طبقا لديانة والدهما الظاهرة وبعد بلوغهما السابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين أبديا أنهما ظلا على عقيدتهما الأولى المسيحية ويرغبان تغيير بيانات بطاقتهما الشخصية باثبات الديانة المسيحية الباقيين عليهما
الجواب
أنه قد جاء فى مجمع الأنهر عن الخانية وعن بعض المشايخ إذا قال اليهودى دخلت فى الإسلام يحكم بإسلامه وإن لم يقل تبرأت من اليهودية لأن قوله دخلت فى الإسلام إقرار بدخول حادث فى الإسلام وأفتى البعض فى ديارنا باسلامه من غير تبرى وهو المعمول به الآن والمجوسى إذا قال رجل للذمى أسلم فقال أسلمت كان مسلما ومثله فى التفاوى الأنفروية وفى رد المحتار على الدر المختار وفى المغنى لابن قدامة ( وإن قال أنا مؤمن أو أنا مسلم قال القاضى يحكم بإسلامه بهذا وإن لم يلفظ بالشهادتين لأنهما أسمان لشئ معلوم معروف وهو الشهادتان فإذا أخبر عن نفسه بما تضمن الشهادتين كان مخبرا بهما وروى المقداد أنه قال يا رسول الله أرأيت أن لقيت رجلا من الكفار فقاتلنى فضرب إحدى يدى بالسيف فقطعها ثم لاذمنى بشجيرة فقال أسلمت افأقتله يا رسول الله بعد أن قالها قال لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وأن بمنزلته قبل أن يقول كلمته التى قالها وعن عمران بن حصين قال أصاب المسلمون رجلا من عقيل فأتوا به النبى صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد أنى مسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كنت قلت وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح رواها مسلم - انتهى - وحقق العلامة ابن عابدين فى حاشيته رد المحتار على الدر المختار إن الذمى يهوديا كان أو نصرانيا إذا قال أنا مسلم صار بذلك مسلما فى عرف بلادنا وإن لم يسمع منه النطق بالشهادتين كما صرح به فى شرح السيد ولما كانت الأحكام الدنيوية إنما تناط بالأمور الظاهرة المنضبطة جعل الشارع مناطها الإقرار باللسان بأن يأتى المرء بكلمتى الشهادتين أعنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أو ما فى معناهما فإذا كان الثابت أن الأب فى الحالة المعروضة قد أشهر إسلامه وتزوج من مسلمة حكمنا بإسلامه وأجرينا عليه أحكام المسلمين الدنيوية من جواز الصلاة خلفه والصلاة عليه إذا مات ودفنه فى مقابر المسلمين إلى غير ذلك .
أما عن الولدين فقد قال الله سبحانه وتعالى فى القرآن الكريم { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شىء كل امرئ بما كسب رهين } وفى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى رواه البخارى ومسلم عن أبى هريرة ( كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه ) وقد أخذ الفقهاء من هذين النصين وغيرهما قاعدتهم أن الولد إذا كان غير بالغ وغير عاقل يتبع خير الأبوين دينا فإذا كان الأبوان كتابين وأسلم أحدهما تبعه الأولاد الذين لم يبلغوا أو كانوا غير عقلاء ويسمون هذا بالإسلام تبعا ولو تزوج مسلم كتابية أو يهودية أو نصرانية فأولاده منهما يكونون مسلمين تبعا له ويظل الولد الذى صار مسلما بالتبع للمسلم من أبويه أو بالتبع لهما إذا أسلما يظل مسلما بعد بلوغه ولا يحتاج إلى تجديد اسلامه ولو ارتد أبواه عن الإسلام أو ارتد من أسلم منهما والعياذ بالله ظل هو على إسلامه .
لما كان ذلك وكان الظاهر من السؤال أو الوالد قد اعتنق الإسلام كان ولداه من زوجته المسيحية مسلمين بالتبع له منذ اعتناقه الإسلام وذلك بمقتضى نص الآية الكريمة والحديث الشريف المرقومين وقد تأكد إسلام الولدين باستخراج البطاقة الشخصية لكل منهما عند بلوغه السادسة عشرة وإثبات أنه مسلم فى خانة الديانة .(2/449)
وما أبداه الولدان من رغبة فى تغيير بطاقتهما وإثبات الديانة المسيحية فيها يكونان به مرتدين عن دين الإسلام والحكم الشرعى يقضى بقتل المسلم الذى بدل دينه إذا أصر على ردته ولم يتب ولم يرجع إلى الإسلام متبرئا مما فعل وهذا الحكم لا يتنافى مع الحرية الشخصية لأن حرية العقيدة لا تستتبع الخروج عن الإسلام بمؤشرات المادة أو التضليل وإذا كان نواقع الحال أن حد الردة بقتل المرتد إذا أصر على ردته غير منفذ الآن فإن حماية المجتمع تقتضى انزال العقوبات الرادعة بهما باعتبارهما مخالفين للنظام العام الذى تأمر القوانين بالتزامه فقد نص الباب الأو من الدستور وهو خاص بالدولة - فى المادة الثانية على أن دين الدولة الإسلام وإن لغتها الرسمية اللغة العربية وإن الشرعية الإسلامية مصدر للتشريع وهذا يقطع بأن نظام الدولة العام هو الإسلام وإن خروج المسلم عن هذا الدين يعتبر خروجا على النظام العام للدولة الأمر الذى يستلزم - المساءلة التأديبية على هذا الجرم وإذا كانت شريعة الإسلام تأمر باستتابة المرتد عنها ونصحه وإزالة شبهته فأنى أقترح أولا استتابتهما ونصحهما وازالة شبهتهما الدينية بمعرفة أحد علماء المسلمين المختصين حتى تتضح هويتهما والمغريات التى تعرضا لها .
ثانيا لما كان ما رغبا فيه مخالفا للنظام العام للدولة فإنهما لا يقرأن عليه فالواجب عدم مسايرتهما فى تغيير ديانتهما فى الأوراق الرسمية .
ثالثا اتخاذ الإجراءات التأديبية ضدهما إذا كانا موظفين عموميين لخروجهما على النظام العام للدولة وعلى مقتضيات وظيفتهما بهذا الاعتبار حتى ينالا جزاءهما تأديبيا بعد إذ تعذر مساءلتهما جنائما
===============
الموضوع ( 673 ) الاستعانة بغير المسلمين وغير الصالحين على مافيه الخير جائزة.
الاستعانة بغير المسلمين وغير الصالحين على مافيه الخير جائزة
المفتي
محمد عبده .
محرم 1322 هجرية
المبادئ
1 - قامت الأدلة من الكتاب والسنة وعمل السلف على جواز الاستعانة بغير المؤمنين وغير الصالحين على ما فيه خير ومنفعة للمسلمين .
2 - استعان الخلفاء من بنى أمية وبنى العباس بأرباب العلوم والفنون من الملل المختلفة فيما هو من فنونهم على أعين الأئمة والأعيان والفقهاء والمحدثين بدون نكير .
3 - الذين يعمدون إلى هذه الاستعانة لجمع كلمة المسلمين وتربية أبنائهم وما فيه خير لهم لم يفعلوا إلا ما اقتضته الأسوة الحسنة بالنبى صلى الله عليه وسلم - وأن من كفرهم أو فسقهم فهو بين أحد الأمرين إما كافر أو فاسق
السؤال
الحمد لله رب العالمين .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين أما بعد فقد ألقى إلى أستاذ من أساتذة الجامع الأزهر وهو موظف كبير فى المحاكم الشرعية سؤالا ورد من الهند إلى بعض أبنائه يطلب الجواب عليه والسؤال موجه إلى العلماء لا إلى عالم واحد كما هو مذكور فى نصه، فرأيت أن يكون الجواب عليه محتويا على مقال كثير من أفاضل العلماء، وقد انتدب حضرة حامل السؤال إلى كتابة ما يجده كثير من أفاضل العلماء، وقد علماء الحنفية فى موضوعه، وأرسلت بنسخة من السؤال إلى حضرة الأستاذ شيخ الحنابلة فى الجامع الأزهر، فورد منه ما رآى أن يجيب به وكلفت جماعة من أساتذة الشافعية والمالكية أن يكتبوا ما يعتقدون أنه الحق فى جواب السؤال، فكتبوا وأشبعوا، جزاهم الله خيرا، وإنى أبتدىء بما أجاب به أفاضل الشافعية والمالكية بعد ذكر السؤال، ثم أثنى بجواب شيخ الحنابلة وأختم بمقال الأستاذ الحنفى ثم بما يعن لى أن أضمه إلى أقوال جميعهم والله الموفق للصواب .
وهو الهادى إلى الصراط المستقيم (السؤال)
الجواب
ما يقول السادة العلماء فى جماعة من المسلمين يقرون أنهم على عقيدة أهل السنة والجماعة ،ومن تعابعى فقهاء الأئمة الأربعة ، ويسعون فى تحصيل الألفة والاتفاق بين أهل الإسلام ويدعون أهل الردة واليسار إلى تربية أيتام المسلمين، وإلى إشاعة الإسلام فى مقابلة حملات الكتابيين وصولات الوثنيين، إلا أنهم مع ذلك يستعينون بالكفار وأهل البدع والأهواء لنصرة الملة الإسلامية وحفظ حوزة الأمة المحمدية وجمع شملها واتحاد كلمتها فهل مثل هذه الاستعانة تجوز شرعا وهل لها نظير فى القرون الثلاثة الفاضلة المشهود لها بالخير وهل يجوز شرعا وهل يجوز لأحد من المسلمين أن يعارضهم فى هذه الأعمال الجليلة والمقاصد الحسنة ويسعى فى تثبيط الهمم عن معاونتهم والتنفير من صحبتهم نظرا إلى أنهم يستعينون فيها بالكفار وأهل البدع والأهواء ويدخلون مجالسهم ويخالطونهم لمثل هذه المصالح العامة وما حكم من يرميهم بمجرد هذه الأعمال بالكفر والتضليل وسوء الاعتقاد والخروج عن أهل السنة والجماعة أفيدوا الجواب ولكم الثواب .
(ما كتبه جماعة من أفاضل المالكية والشافعية) .(2/450)
أما السعى فى تحصيل الألفة والاتفاق بين أهل الإسلام، فلا نزاع فى أنه من أفضل الأعمال الدينية وأعظمها عند الله تعالى، فإن التآلف والتودد بين المسلمين هو مدار الإيمان وأساس الإسلام ، والسبب الوحيد لنظام المدنية وقوام المجتمع الإنسانى ومدار سعادته فى الأولى والآخرة، وقد حث النبى صلى الله عليه وسلم على الأخذ به وبيان فوائده فى كثير من الأحاديث، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ) وقوله (لا يؤمن عبد حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير) وقوله ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) وقوله (والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل ومن يارسول الله قال الذى لا يأمن جاره بوائقه ( شروره ) أى لا يأمن جاره شره وقوله ( نظر المؤمن إلى أخيه المؤمن حبا له وشوقا إليه خير من اعتكاف سنة فى مسجدى هذا ) وقوله (أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سرورا أو تقضى عنه دينا) وقوله (أفضل الفضائل أن تصل من قطعك وتعطى من حرمك ) وقوله (من أصلح فيما بيته وبين الله أصلح الله فيما بينه وبين الناس، ومن أصلح جوانيه أصلح الله برانيه) ومن تأمل فى قوله تعالى { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } الحجرات 10 ، وقوله تعالى { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } الأنفال 46 ، مع قوله صلى الله عليه وسلم لا تباغضوا ولا تدابر ولا تنافسوا وكونوا عباد الله إخوانا) وقوله (دب فيكم داء الأمم قبلكم ألا وهى البغضاء والحسد والبغضاء هى الحالقة ولا أقول حالقة الشعر وإنما هى حالقة الدين) من نظر فى ذلك كله عرف ما للسعى فى تحصيل الألفة والمحبة بين الناس من المكانة فى الدين وأنه من أعظم الأعمال وأفضل الخصال، وعرف وجه حث الشارع عليه والتنويه بشأنه وتعظيم قدره .
وأما تربية أيتام المسلمين ودعوة المثرين إليها فمن الأمر بالمعروف فى الدين ومن أفضل أعمال البر وأحبها عند الله تعالى، والسنة مملوءة بطلب الرفق بالأيتام والضعفاء والمساكين .
ففى الحديث (من أحسن إلى يتيم أو يتيمة كنت أنا وهو فى الجنة كهاتين) وفيه خير بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه أنا وكافل اليتيم فى الجنة كهذا وقال بإصبعيه السبابة والوسطى ) وفيه أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك) وكان عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه إذا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم بكى وقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالناس وكان لليتيم كالوالد، وكان للمرأة كالزوج الكريم، وكان أشجع الناس قلبا وأوضحهم وجها وأطيبهم ريحا وأكرمهم حسبا، فلم يكن له مثل فى الأولين والآخرين .
إلى غير ذلك من الأحاديث - أما القرآن فكثيرا ما قرب بين اليتامى وذوى القربى والمساكين وابن السبيل فى مقام الأمر بالإحسان والعبادة .
قال تعالى { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين } النساء 36 ، وقال { وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين } البقرة 177 ، إلى غير ذلك من الآيات - وأما إشاعة الإسلام فى مقابلة حملات الأجانب والدعوة إليها فهى أول مسألة من مسائل الدين وأساس وجوده وعليها حفظ كيانه وبقائه بل هى النوع الميسور الآن من أنواع الجهاد فى سبيل الله تعالى كالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .
قال { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } المائدة 67 ، وقال تعالى { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } الحجر 94 ، وقال تعالى { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } التوبة 122 ، وقال تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين .
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } الشعراء 214 ، 215 ، وقوله { وقل إنى أنا النذير المبين } الحجر 89 ، إلى غير ذلك من الآيات .
وفى الحديث عن طارق قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذى المجاز فمر وعليه جبة حمرا وهو ينادى بأعلى صوته يا أيها الناس لا تطيعوه .
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين النصيحة قيل لمن يارسول الله قال لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم وقال عليه الصلاة والسلام لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم والآيات والأحاديث فى هذا الباب أكثر من أن تحصر .
وليست هذه المسائل الثلاثة من محل الخلاف بين العلماء، بل هى مما أجمع الكل عليه وأما الاستعانة بالكفار وأهل البدع والأهواء على مصالح المسلمين، فإن كانت بأموالهم وكانت لمصلحة دينية أو منفعة دنيوية ولم تشتمل على معنى الإذلال والولاية المنهى عنها، فلا نزاع فى جوازها، خصوصا إذا نظرنا للكفار وأهل الذمة من جهة أنهم نقضوا العهود وتمردوا على الأحكام فإنه لا بأس بتناول أموالهم والانتفاع بها متى أمنت الفتنة والرذيلة وقد قبل النبى صلى الله عليه وسلم الهدية من المشركين، ففى صحيح البخارى قال أبو حميد أهدى ملك أيله للنبى صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء وكساه بردا وكتب له ببحرهم ( أهل بحرهم والمقصود - بلدهم - والمعنى أنه أقره عليهم بما التزمه من الجزية ) وعن قتادة عن أنس أن أكيد ردومة أهدى إلى النبى صلى الله عليه وسلم .
وعن أنس بن مالك أن يهودية أتت النبى صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجىء بها فقال ألا نقتلها قال لا .(2/451)
فما زلت أعرفها فى لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن عبد الرحمن بن أبى بكر قال كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة فقال النبى صلى الله عليه وسلم هل مع أحد منكم طعام فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه فعجن ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها فقال النبى صلى الله عليه وسلم بيعا أم عطية أو قال أم هبة .
قال بل بيع فاشترى منه شاة فصنعت وأمر النبى صلى الله عليه وسلم بسواد البطن أن يشوى وأيم الله ما فى الثلاثين والمائة إلا وقد حز النبى صلى الله عليه وسلم له حزة من سواد بطنها إن كان شاهدا أعطاها إياه وإن كان غائبا خبأ له .
وطلب صلى الله عليه وسلم من يهودى له دين على صحابى مات وترك أيتاما أن يبرئهم من الدين فما قبل .
وقصته فى البخارى . وفى الألوسى عند قوله تعالى { وما كنت متخذ المضلين عضدا } الكهف 51 ، مانصه وأما الاستعانة بهم فى أمور الدنيا فالذى يظهر أنه لا بأس بها سواء كانت فى أمر ممتهن كنزع الكنائف أو فى غيره كعمل المنابر والمحاريب والخياطة ونحوها انتهى - وكتب على قوله تعالى { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شىء إلا أن تتقوا منهم تقاة } آل عمران 28 ، ما نصه قال ابن عباس .
نزلت فى طائفة من اليهود كانوا يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقيل لأولئك النفر اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم فأنزل الله هذه الآية ونهى المؤمنين عن فعلهم .
وحكى فى سبب نزول الآية غير ذلك . ثم أفاد أن المنهى عنه من الموالاة ما يقتضيه الإسلام من بغض وحب شرعيين يصح التكليف بهما، لما قالوا إن المحبة لقرابة أو صداقة قديمة أو جديدة خارجة عن الاختيار معفوة ساقطة عن درجة الاعتبار .
وحمل الموالاة على ما يعم الاستعانة بهم فى الغزو مما ذهب إليه البعض .
ومذهب الحنفية وعليه الجمهور أنه يجوز ويرضخ له .
وما روى عن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها قالت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لبدر فتبعه رجل مشرك كان ذا جراءة ونجدة ففرح أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم حينما رأوه، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم ارجع فلن أستعين بمشرك فمنسوخ - لأن النبى صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بنى قينقاع ورضخ لهم واستعان بصفوان بن أمية فى هوازن .
وذكر بعضهم جواز الاستعانة بشرط الحاجة والوثوق .
أما بدونها فلا تجوز . وعلى ذلك يحمل خبر عائشة، وكذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس فى سبب نزول الآية .
وبه يحصل الجمع وأدلة الجواز . ومما أشار إليه من أدلة المنع والجواز مارواه أحمد وسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذى تبعه ارجع فلن أستعين بمشرك، ثم تبعه فقال له تؤمن بالله ورسوله ن قال نعم .
فقال له فانطلق وعن الزهرى أن النبى صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود فى خيبر وأسهم لهم .
وأن قرمان خرج مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو مشرك فقتل ثلاثة من بنى عبد الراد حملة لواء المشركين حتى قال صلى الله عليه وسلم إن الله ليأزر هذا الدين بالرجل الفاجر .
كما ثبت ذلك عند أهل السير . وخرجت خزاعة مع النبى صلى الله عليه وسلم على قريش عام الفتح .
وقد تصدى أئمة الحديث والفقهاء إلى الجمع بين هذه الآثار بأوجه منها ما تقدم .
ومنها ما ذكره البيهقى عن نص الشافعى رضى الله عنه إن النبى صلى الله عليه وسلم تفرس الرغبة فى الذين ردهم فردهم رجاء أن يسلموا .
ومنها أن الأمر فى ذلك إلى رأى الإمام . ومنها أن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها .
قال الحافظ فى التلخيص وهذا أقربها عليه نص الشافعى .
وحكى فى البحر عن العترة وأبى حنيفة وأصحابه أنه تجوز الاستعانة بالكفار والفساق حيث يستقيمون على أوامره ونواهيه واستدلوا باستعانته صلى الله عليه وسلم بناس من اليهود وبصفوان بن أمية يوم حنين قال فى البحر وتجوز الاستعانة بالمنافق إجماعا لاستعانته صلى الله عليه وسلم بابن أبى وأصحابه - انظر نيل الأوطار .
وفى الألوسى عند قوله تعالى { إلا أن تتقوا منهم تقاة } مامفاده وفى الآية دليل على مشروعية التقية وعرفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء سواء كانت عداوتهم مبنية على اختلاف الدين كالكفر والإسلام أو على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة إلى أن قال وعد قوم من باب التقية مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم والتبسم فى وجوههم والانبساط منهم وإعطائهم لكف أذاهم وقطع لسانهم وصيانة العرض ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهى عنها بل هى سنة وأمر مشروع، وقد روى الديلمى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن الله تعالى أمرنى بمداراة الناس كما أمرنى بإقامة الفرائض) وفى رواية بعثت بالمداراة، وفى الجامع سيأيتكم ركب مبغضون .
فإذا جاءوكم فرحبوا بهم، وروى ابن أبى الدنيا رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى مداراة الناس، وفى رواية البيهقى رأس العقل المداراة، وأخرج الطبرانى مداراة الناس صدقة .
وأخرج ابن عدى وابن عساكر .
من عاش مداريا مات شهيدا، قوا بأموالكم أعراضكم وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه وعن عائشة رضى الله عنها قالت (استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس ابن العشيرة وأخو العشيرة .
ثم أذن له فألان له القول فلما خرج قلت يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول، فقال يا عائشة (إن من شر الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه .(2/452)
وفى البخارى عن النبى عن ابن أبى الدرداء إنا لنكشر ( نشكر بفتح النون وسكون الكاف وكسر الشين أى نضحك ونبتسم ) فى وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم .
وأخرج ابن أبى شيبة عن شعيب قال كنت مع على بن عبد الله فمر علينا يهودى أو نصرانى فسلم عليه قال شعيب فقلت إنه يهودى أو نصرانى فقرأ على آخر سورة فسلم عليه قال شعيب فقلت إنه يهودى أو نصرانى فقرأ على آخر سورة الزخرف { وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون .
فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون } الزخرف 88 ، 89 ، وقيل لعمر بن عبد العزيز كيف تبتدئ أهل الذمة بالسلام .
فقال ما أرى بأسا أن نبتدئهم . قلت لم قال لقوله تعالى { فاصفح عنهم وقل سلام } الزخرف 89 ، وروى البيهقى ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا بد له من معاشرته حتى يجعل الله له فى ذلك مخرجا، إلى غير ذلك من الأحاديث، غاية الأمر لا تنبغى المداراة إلى حيث يخدش الدين ويرتكب المنكر وتسىء الظنون إذا علمت ذلك فالاستعانة بالكفار وأهل البدع والأهواء المشار إليها فى السؤال متى خلت عما أومأنا إليه فلا بأس بها بل هى من الأمر المشروع كما تقدم .
وقد علمت نظيرها فى القرون الفاضلة المشهود لها بالخير متى كانت الاستعانة من هؤلاء لنصرة الملك وحفظ حوز الملة وحينئذ لا يجوز لأحد من الناس أن يعارضهم فى هذه الأعمال الجليلة ويسعى فى تثبيط الهمم عن معاونتهم بل الواجب على كل واحد من أفراد الأمة أن يشاركهم فى هذا العمل لأنه من البر والخير وقد قال تعالى { وافعلوا الخير لعلكم تفلحون } الحج 77 ، { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } المائدة 2 ، والمؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا والله فى عوف العبد ما دام العبد فى عون أخيه .
وأما حكم من يرميهم بالكفر والتضليل وسوء الاعتقاد فإن كان يعتقد أنهم كفار حقيقة بمثل هذا العمل وأنهم خرجوا عن دين الإسلام بمجرد ذلك، فحديث إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ظاهر فى تكفير هؤلاء المضللين وقد نص شراح الحديث وعلماء الأمة على الأخذ بظاهر هذا الحديث بالقيد المذكور، وإن قصدوا أن هؤلاء بولايتهم للكفار واستعانتهم بهم يفعلون فعل الكفار وليسوا بكفار حقيقة، فمع افترائهم وجهلهم بالدين قد أثموا وارتكبوا جريمة تقرب من الكفر بهذه الكلمة الشنيعة التى لا تصدر من مسلم، فضلا عن عالم .
وفى الحديث ( أبغض عباد الله إلى الله طعان لعان) وإن من أخلاق المؤمن ألا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب، ولا يضيع ما استودع ولا يحسد ولا يطغى ولا يلغى، ويعترف بالحق وإن لم يشهد عليه، ولا يتنابز بالألقاب - فى الصلاة متخشعا إلى الزكاة مسرعا فى الزلازل وقورا .
فى الرخاء شكورا قانعا بالذى له، لا يدعى ما ليس له، ولا يجمع فى الغيظ، ولا يغلبه الشح عن معروف عليه صبر حتى يكون الرحمن هو الذى ينتصر له هذه هى أخلاق المؤمنين حتى إذا خرجوا منها فسدت أخلاقهم وانطفأ نور إيمانهم ونقضوا عرى الإسلام عروة عروة حتى لا يبقى منهم شىء نسأله السلامة وفى الفروق القرافية اعلم أن النهى يعتمد كما أن الأوامر تعتمد المصالح فأعلى رتب المفاسد الكفر، وأدناها الصغائر، والكبائر متوسطة بينهما، وأكثر التباس الكفر إنما هو بالكبائر، فأعلى رتب الكبائر يليها أدنى رتب الكفر، وأدنى رتب الكبائر يليها أعلى رتب الصغائر .
وأصل الكفر إنما هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية، إما بالجهل بوجود الصانع، أو صفاته العلية، أو جحد ما علم من الدين بالضرورة، قال ابن رشد لا يحكم على أحد بالكفر إلا من ثلاثة أوجه وجهان متفق عليهما .
والثالث مختلف فيه . فأما المتفق عليهما فأحدهما أن يقر على نفسه بالكفر بالله تعالى، والثانى أن يقول قولا قد ورد السماع وانعقد الاجماع أن ذلك لا يقع إلا من كافر، وإن لم يكن ذلك نفسه كفرا على الحقيقة وذلك نحو استحلال شرب الخمر وغصب الأموال وترك فرائض الدين والقتل والزنا وعبادة الأوثان والاستخفاف بالرسل وجحد سورة من القرآن وأشباه ذلك مما يكون علامة على الكفر وإن لم يكن كفرا على الحقيقة، والثالث المختلف فيه أن يقول قولا يعلم أن قائله لا يكنه مع اعتقاده والتمسك به معرفة الله تعالى والتصديق به، وإن كان يزعم أنه يعرف الله تعالى ويصدق به .
وبهذا الوجه حكم بالكفر على أهل البدع من كفرهم، وعليه يدل قول مالك فى العتبية ما آية أشد على أهل الأهواء من هذه الآية { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } آل عمران 106 ، انظر فتاوى أبى عبد الله .(2/453)
والحاصل أن هؤلاء المضللين المكفرين قد ارتكبوا بهذه الكلمة كبيرة من الكبائر التى تفضى إلى الكفر إن لم يكونوا معتقدين كفر هؤلاء الجماعة المتمسكين بعقائد أهل السنة وأعمال الإسلام والمسلمين، ولعلهم إن شاء الله تعالى يكونون كذلك غير معتقدين كفر هؤلاء، وإنما نطقوا بهذه الكلمة تعصبا وعنادا ظاهريا، فإن باب التكفير باب خطير ينبغى الاحتراز عنه ما وجد إليه سبيل، ولا يعدل بالسلامة شىء وإن كن قولهم بالكفر من الجهل العظيم والإقدام على شريعة الله تعالى وأحكامه بالجهالة وعلى عباده بالفساد والظلم والعدوان، وأما إن كانوا يكفرون أولئك الساعين فى الخير وهم يعتقدون أنهم كفار حقيقة فيكونون هم الكافرين كما سبق فى أول الكلام للحديث ومع ذلك نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح حالهم وينقذهم من هذه الضلالة ويهديهم إلى الصراط المستقيم - ما كتبه الأستاذ شيخ الحنابلة الحكم عندنا معاشر الحنابلة أن الشرع الشريف ألزمنا ألا نكفر أحدا أهل القبلة إلا إذا عرض نفسه للكفر وكفر بمخالفته ما شرعه لهذه الأمة سيد البشر صلى الله عليه وسلم وكان المخالف فيه مجمعا عليه، وعلماء أهل السنة والجماعة المتصفون بهذه الصفات الممدوحة شرعا من تحصيل الاتفاق والائتلاف بين فرق أهل الإسلام من غير اختلاف وشقاق وغير ذلك من بقية الصفات التى حث عليها الشارع ليسوا كذلك، وإن استعانوا بالكفار فى تحصيل مصالح المسلمين العامة كالصنائع والجهاد وغيرهما، فإن الصنائع مأمور بها شرعا .
وقد اتصف بها آدم ومن بعده الأنبياء والمرسلين كما نص عليه ابن عباس .
وقد نقل المروذى عن الإمام أحمد أنه قال فى قوم لا يعملون ويقولون نحن متوكلون ويقولون نحن متوكلون - هؤلاء مبتدعة - واستعانة المسلمين بالكفار جائزة فى الجهاد للضرورة كضعف المسلمين ولو كان العدو من بغاة المسلمين .
لما روى الزهرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود فى حربه فأسهم لهم .
رواه سعيد . وإذا جازت الاستعانة بالكفار فى الجهاد فتجوز الاستعانة من المسلمين بهم فى غيره مما فيه مصلحة لعموم المسلمين بجامع أن كلا من المصالح العامة، وتكفير علماء أهل السنة والجماعة بالاستعانة بأهل البدع والأهواء ودخولهم فى مجالسهم واختلاطهم معهم فى هذه المصالح العامة لا يجوز شرعا .
وإن قال ابن مفلح فى الفروع إن الاستعانة بهم مختلف فيما، قيل بالجواز، وقيل بالمنع، بل مكفروا هؤلاء العلماء هم الكفار .
قال فى منتهى الإرادات وشرحه للبهوتى وعن الإمام أحمد أن الذين كفروا أهل الحق والصحابة - كفار قال المنقح وهو أظهر من القول بأنهم فسقة خوارج بغاة .
وقال فى الإنصاف والقول بتكفيرهم هو الصواب وهو الذى ندين الله به .
وقال ابن مفلح فى الفروع وعن الإمام أحمد أنهم كفار، وقال فى الترغيب والرعاية إنه الأشهر .
وذكر ابن حامد أنه لا خلاف فيه وفى الحديث الشريف الصحيح (إن من كفر أحدا بلا تأويل فقد كفر) وقال الشيخ برهان الدين الحلبى ومن كفر أخاه المسلم بغير تأويل فهو كافر يجب عليه تجديد الإسلام والتوبة من ذلك وتجديد نكاحه إن لم يدخل بزوجته، وكذا إن دخل بها عند أبى حنيفة .
وأما عندنا فالعصمة باقية إن عاد إلى الإسلام بالتوبة قبل انقضاء العدة .
فيجب على المسلم أن يصون من التكفير بغير موجب قطعي كل فرد من أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومرتكب ذلك لغرض نفسه لاريب هو من الضالين الممقوتين والله ولى المتقين وقد روى أبو داود بإسناده عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال لا إله إلا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه عن الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثنى الله إلى أن يقاتل آخر أمتى الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار .
والله أعلم. ما كتبه الأستاذ الفاضل الحنفى قال الله تعالى فى كتابه العزيز { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } المائدة 2 ، وقال عز من قائل { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } آل عمران 103 ، وقال مخاطبا لصفوته من خلقه { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } النحل 125 ، وقال فى محكم آياته { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } الممتحنة 8 ، وهى آية محكمة لم تنسخ على ما عليه أكثر أهل التأويل .
وقال صلى الله عليه وسلم (المؤمن إلف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) وقال عليه السلام ( إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) وهو فى الصحيحين .
إذا تمهد هذا . فنقول أما تكفير المؤمن، فإن مذهب أهل الحق عدم جوازه بارتكاب ذنب ليس من الكفر إن صغيرا كان الذنب أو كبيرا عالما كان مرتكبه أو جاهلا، وسواء كان من أهل البدع والأهواء أولا، نص عليه عبد السلام شارح الجوهرة عند قول المصنف فلا نكفر مؤمنا بالوزر وقال فى الدر من باب المرتد لا يفتى بالكفر بشىء من ألفاظه إلا فيما اتفق المشايخ عليه .
وقال فى جامع الفصولين لا يخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه، وما يشك فى أنه ردة لا يحكم به إذ الإسلام الثابت لا يزول بالشك مع أن الإسلام يعلو وينبغى للعالم إذا رفع إليه هذا ألا يبادر بتكفير أهل الإسلام .
وقال فى الفتاوى الصغرى الكفر شىء عظيم فلا أجعل المؤمن كافرا متى وجدت رواية أنه لا يكفر .
وقال فى الخلاصة وغيرها إذا كان فى المسألة وجوه وتوجب التكفير ووجه واحد يمنعه، فعلى المفتى أن يميل إلى الوجه الذى يمنع التكفير تحسينا للظن بالمسلم .(2/454)
وقال فى التتار خانية لا يكفر بالمحتمل لأن الكفر نهاية العقوبة ، فيستدعى نهاية الجناية، ومع الاحتمال لانهاية وفى رد المحتار من باب البغاة ما يفيد إجماع الفقهاء المجتهدين على عدم تكفير أهل البدع .
قال وإن ما يقع من تكفير أهل مذهب لمن خالفهم ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون، بل من غيرهم، ولا عبرة بغير الفقهاء، وفى الدر وحواشيه من باب الإمامة من كان من قبلتنا لا يكفر بالبدعة، حتى الخوارج الذين يستحلون دماءنا وأموالنا وسب أصحاب الرسول صلى الله عليه سلم غير الشيخين وينكرون صفاته تعالى وجواز رؤيته لكونه عن تأويل وشبهه والمراد بالخوارج من خرج عن معتقد أهل الحق، لا خصوص الفرقة التى خرجت على على، فيشمل المعتزلة والشيعة وأما الاستعانة بالكفار وبأهل البدع والأهواء على نصرة الملة الإسلامية فهذا مما لا شك فى جوازه وعدم خطره، يرشد إلى ذلك الحديث الصحيح المار ذكره (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) وقال صلى الله عليه وسلم ( إن الله ليؤيد الإسلام برجال ماهم من أهله) وقال فى الدر المختار من كتاب الغنائم عند قول المصنف أو دل الذمى على الطريق ومفاده جواز الاستعانة بالكافر عند الحاجة .
وقد استعان عليه الصلاة والسلام باليهود على اليهود ورضخ لهم، وفى شرح العين على البخارى أن النبى عليه الصلاة والسلام استعان بصفوان ابن أمية فى هوازن واستعار منه مائة درع وهو مشرك وفى المحيط من كتاب الكسب ذكر محمد فى السير الكبير لا بأس للمسلم أن يعطى كافرا حربيا أو ذميا وأن يقبل الهدية منه لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم بعث خمسمائة دينار إلى مكة حين قحطوا وأمر بدفعها إلى أبى سفيان بن حرب وصفوان بن أمية ليفرقاها على فقراء مكة .
ولأن صلة الرحم محمودة فى كل دين . والأهداء إلى الغير من مكارم الأخلاق وفى شرح السير الكبير للسرخسى لا بأس أن يصل الرجل المسلم المشرك قريبا كان أو بعيدا محاربا كان أو ذميا، وفى الدر المختار من كتاب الوصايا أوصى حربى أو مستأمن لا وراث له هنا بكل ما له لمسلم صح .
وكذا لو أوصى له مسلم أو ذمى جاز .
ثم قال وصاحب الهوى إذا كان لا يكفر فهو بمنزلة السلم فى الوصية .
وقال الفخر الرازى فى تفسير قوله تعالى { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم } الممتحنة 9 ، إلى قوله تعالى { أن تولوهم } قال أهل التأويل هذه الآية تدل على جواز البر بين المشركين والمسلمين وإن كانت الموالاة منقطعة .
وفى البخارى ما يدل على وصية عمر رضى الله عنه بالقتال عن أهل الذمة وأن لا يكلفوا إلا طاقتهم .
هذه هى نصوص الفقهاء وأصحاب الحديث وأهل التفسير فى وجهى السؤال .
وبها تندفع كل شبهة فى عمل هؤلاء الموفقين لخير أهل الملة الحنيفية السمحاء العاملين فى تحصيل الائتلاف والاتفاق بين فرق أهل الإسلام الداخلين بتربية أيتام المسلمين فى قوله صلى الله عليه وسلم كما فى صحيح البخارى (أنا وكافل اليتيم فى الجنة هكذا وقال بإصبعيه السبابة والوسطى) المجاهدين بعملهم هذا لإعلاء كلمة الله ونصرة الموحدين ولا يمنع من صحة عملهم دخولهم فى مجالس أهل البدع واختلاطهم معهم فى هذه المصالح العامة متى كانت نيتهم تحصيل ذلك الخير العام .
فإن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى .
والله أعلم . هذا ما ذكره هؤلاء الأفاضل ثم نقول .
المطلع على ما نقله حضرات الأساتذة من علماء الأزهر من نصوص الكتاب والسنة وأقوال الأئمة والعلماء من أهل المذاهب الأربعة يعلم حق العلم أن ما يفعله أولئك الأفاضل دعاة الخير هو الإسلام ومن أجل مظاهر الإيمان وأن الذين يكفرونهم أو يضللونهم هم الذين تعدوا حدود الله وخرجوا عن أحكام دينه القويم .
أولئك الدعاة إلى الخير قاموا بأمر الله فى قوله { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } آل عمران 104 ، أما خصومهم فقد خالفوا نهى الله سبحانه وتعالى فى قوله { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } آل عمران 105 ، وإن كانوا يعتقدون كفر أولئك المؤمنين حقيقة فالمفتى به عند الحنفية أنهم يكفرون بذلك لاعتدادهم الإيمان وأعماله كفرا وهو جحود لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .(2/455)
وإن كانوا يقولون ذلك نبذا بألسنتهم فأخف حالهم أن يدخلوا فى الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا وقد قال الله فيهم { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة } النور 19 ، لأنهم يضللون من يؤمن بالله واليوم الآخر وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويرمونهم بالفسق فى أعمالهم وهو إشاعة الفاحشة فى الذين آمنوا وما أعظم الوعيد عليه فى قوله تعالى { لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة } النور 19 ، فهو من فظائع الكبائر بقى أن بعض الجهلة المتشدقين ربما تعرض لهم الشبهة فى فهم قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم } آل عمران 118 ، إلى آخر الآية ، وقوله تعالى { ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون } المجادلة 14 ، وقوله تعالى { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } المجادلة 22 ، وقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا فى سبيلى وابتغاء مرضاتى تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } الممتحنة 1 ، وما لم أتذكره مما قد يكون فاتنى من الآيات التى تصرح أو تشير إلى المنع من موادة المؤمنين لغير المؤمنين على أنه لا شبهة لهؤلاء الجهلة فى مثل هذه الآيات تسوغ لهم تفسيق إخوانهم أو تكفيرهم بعدما جاء فى الآية المحكمة من قوله تعالى { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين .
إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } الممتحنة 8 ، 9 ، وبعدما جاء فى القصص الذى قصه الله علينا لتكون لنا فيه أسوة إذ قال تعالى { وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا } لقمان 15 ، وبعدما أباح الله لنا فى آخر ما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم نكاح الكتابيات ولا يكون نكاح فى قوم حتى تكون فيهم قرابة المصاهرة ولا تكون تلك القرابة حتى تكون المودة .
وحقيقة ما جاء فى الآيات الدالة على النهى عن موالاة غير المؤمنين أو مودة الفاسقين والمحادين لله تعالى أنه نهى عن الموالاة فى الدين ونصرة غير المؤمن على المؤمن فيما هو من دينه وإمداد الفاسق بالمعونة على فسقه، وعن اتخاذ بطانة من غير المؤمنين يكون من صفتها أنها تبذل وسعها فى خذلانهم وإيصال الضرر إليهم فيكون إدلاء المؤمنين إليها بأسرارهم وغلب الظن بالمنفعة ولم يكن فى الموادة معونة على تعدى حدود الله ومخالفة شرعه فلا حظر فى الاستعانة بمن لم يكن من المسلمين أو لم يكن من الموفقين الصالحين ممن يسمونهم أهل الأهواء، فإن طالب الخير يباح له بل ينبغي له أن يتوسل إليه بأية وسيلة توصل إليه ما لم يخالطها ضرر للدين أو للدنيا .
وقد بينت السنة وعمل النبى صلى الله عليه وسلم ما صرح به الكتاب فى قوله تعالى { لا ينهاكم الله } الخ ولقد كانت لنا أسوة حسنة فى استعانة رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفوان بن أمية فى حرب هوازن وفى غيرها من الوقائع كما هو معروف فى السنة ثم كان فى سيرة الخلفاء الراشدين من لدن عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى على كرم الله وجهه ما فيه الكفاية لمسترشد إذا استرشد فقد أنشأ عمر رضى الله عنه الديوان ونصب العمال واحتاج المسلمون إلى من يقوم فى العمل فى حساب الخراج وما ينفق من بيت المال واحتاجوا إلى كتاب المراسلات والقوم أميون لا يستطيعون القيام بما كان يطلبه العمل من العمال فوضعوا ذلك كله فى أيدى أهل الكتاب من الروم وفى أيدى الفرس ولم يزل العمل على ذلك فى خلافة بنى أمية بعد الراشدين إلى زمن عبد الملك بن مروان، ولا شك فى أن هذا استعانة بغير المسلمين على أعمال هى من أهم أعمالهم، فكيف ينكر هؤلاء الجهال جواز تلك الاستعانة، بل قد استعان كثير من ملوك المسلمين بغير المسلمين فى حروبهم، وإنا نذكر ما قاله ابن خلدون فى ذلك كله .
قال فى باب ديوان الأعمال والجبايات وأما ديوان الخراج والجبايات فبقى بعد الإسلام على ما كان عليه من قبل ديوان العراق بالفارسية، وديوان الشام بالرومية، وكتاب الدواوين من أهل العهد من الفريقين، ولما جاء عبد الملك .
ابن مروان واستحال الأمر ملكا وانتقل القوم من غضاضة البداوة إلى رونق الحضارة ومن سذاجة الأمية إلى حذق الكتابة وظهر فى العرب ومواليهم مهرة فى الكتابة والحسبان فأمر عبد الملك سليمان بن سعد وإلى الأردن لعهده أن ينقل ديوان الشام إلى العربية فأكمله لسنة من يوم ابتدائه ووقف عليه سرحون كاتب عبد الملك فقال لكتاب الروم اطلبوا العيش فى غير هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم، وأما ديوان العراق فأمر الحجاج كاتبه صالح بن عبد الرحمن وكان يكتب بالعربية والفارسية ولقن ذلك عن زادن فروخ كاتب الحجاج قبله .
ولما قتل زادان فى حرب ابن الأشعث استخلف الحجاج صالحا هذا مكانه وأمره أن ينقل الديوان من الفارسية إلى العربية ففعل ورغم لذلك كتاب الفرس .(2/456)
وقال فى الكلام على الوزارة وأما حال الجباية والإنفاق والحسبان فلم يكن عنده برتبة، لأن القوم كانوا عربا أميين لا يحسنون الكتابة والحساب فكانوا يستعملون فى الحساب أهل الكتاب أو أفرادا من موالى العجم ممن يجيده وكان قليلا فيهم، وأما أشرافهم فلم يكونوا يجيدونه، لأن الأمية كانت صفتهم التى امتازوا بها، وكذا حال المخاطبات وتنفيذ الأمور لم يكن عندهم رتبة خاصة للأمية التى كانت فيهم، والأمانة العامة فى كتمان القول وتأديته، ولم تخرج السياسة إلى اختياره لأن الخلافة إنما هى دين ليست من السياسة الكلية فى شىء وأيضا فلم تكن الكتابة صناعة فيستجاد للخليفة أحسنها لأن الكل كانوا يعبرون عن مقاصدهم بأبلغ العبارات ولم يبق إلا الخط فكان الخليفة يستنيب فى كتابته من عماله من يحسنه .
وقال فى الحروب ومذاهب الأمم فى ترتيبها فصل ولما ذكرناه من حرب المصاف وراء العساكر وتأكده فى قتال الكر والفر صار ملوك المغرب يتخذون طائفة من الإفرنج فى جندهم واختصوا بذلك لأن قتال أهل وطنهم كله بالكر والفر، والسلطان يتأكد فى حقه ضرب المصارف ليكون ردءا للمقاتلة أمامه فلابد وأن يكون أهل ذلك الصف من قوم متعودين للثبات فى الزحف وهم الإفرنج ويرتبون مصافهم المحدق بهم فها هنا على ما فيه من الاستعانة بأهل الكفر .
وإنما استخفوا ذلك للضرورة التى أريناكها من تخوف الإجفال على مصاف السلطان والإفرنج لا يعرفون غير الثبات فى ذلك لأن عادتهم فى القتال الزحف فكانوا أقوم بذلك من غيرهم، ثم جاء فى الأحكام السلطانية لقاضى القضاة ابن الحسن على بن محمد بن حبيب البصرى البغدادى فى الكلام على وزارة التنفيذ وهذا الوزير وسط بين الإمام وبين الرعايا والولاة يؤدى عنه ما أمر وينفذ عنه ما ذكر ويمضى ما حكم ويخبر بتقليد الولاة وتجهيز الجيوش ويعرض عليه ما ورد من مهم وتجدد فى حدث ملم ليعمل فيه ما يؤمر به، فهو معين فى تنفيذ الأمور وليس بوال عليها ولا متقلدا لها، فإن شورك فى الرأى كان باسم الوزارة أخص، ثم قال ويجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة، وإن لم يجز أن يكون وزير التفويض منهم واستعانة الخلفاء من بنى أمية وبنى العباس بأرباب العلوم والفنون من الملل المختلفة فيما هو من فنونهم مما لا يمكن لصبى يعرف شيئا من تاريخ الأمة إنكاره وقد كانوا يستعينون بهم على أعين الأئمة والعلماء والفقهاء والمحدثين بدون نكير، فقد قامت الأدلة من الكتاب والسنة وعمل السلف على جواز الاستعانة بغير المؤمنين وغير الصالحين على ما فيه خير ومنفعة للمسلمين وأن الذين يعمدون إلى هذه الاستعانة لجمع كلمة المسلمين وتربية أيتامهم وما فيه خير لهم لم يفعلوا إلا ما اقتضته الأسوة الحسنة بالنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن من كفرهم أو فسقهم فهو بين أحد الأمرين إما كافر أو فاسق .
فعلى دعاة الخير أن يجدوا فى دعوتهم وأن يمضوا على طريقتهم، ولا يحزنهم شتم الشاتمين، ولا يغيظهم لوم اللائمين .
فالله كفيل لهم بالنصر إذا اعتصموا بالحق والصبر .
والله أعلم .
=============
الموضوع (993) أ- سلخ قرنية عين ميت وتركيبها لحى، ب- وكالة واختلاف دين.
أ- سلخ قرنية عين ميت وتركيبها لحى، ب- وكالة واختلاف دين
المفتي
أحمد هريدى .
23 اكتوبر 1966م
المبادئ
1- سلخ قرنية العين من ميت لتركيبها لحى غير جائز شرعا إلا للضرورة التى تكون المصلحة فيها أعظم من الضرر الذى يصيب الميت .
2- اتحاد الدين ليس شرطا فى صحة الوكالة فى الخصومة عند الحنفية والشافعية .
3- الردة لا تمنع صحة الوكالة عند الحنفية، فلو وكل مسلم مرتدا جاز ذلك عندهم .
4- اختلاف الدارين مانع من صحة الوكالة بالنسبة لغير المسلمين عند الحنفية .
5- كل من صح تصرفه فى شئ بنفسه وكان مما تدخله النيابة صح أن يوكل فيه غيره مطلقا عند الحنابلة .
6- توكيل الذمى ذميا على استخلاص دين له على مسلم ممنوع عند المالكية، وإن كان الدين على غير مسلم جاز ذلك .
7- توكيل المسلم ذميا فى البيع والشراء وتقتضى الديون ممنوع عند المالكية .
8- مذهب الشافعية أن من صح منه مباشرة الشئ صح توكيل غيره فيه، وأن يوكل هو فيه عن غيره
السؤال
من الشيخ عبدالحليم رئيس المجلس الأعلى لشئون الإسلام بولاية قدح (ماليزيا) بكتاب وزارة الخارجية إدارة العلاقات الثقافية رقم 7936 ث ملف رقم 96/355 اث المقيد برقم 673 سنة 1966 المطلوب به الإفادة عن الحكم الشرعى فى الموضوعين الآتيين : 1- سلخ قرنية العين من الميت وتركيبها للكفيف .
2- قيام المحامى المدنى غير المسلم بما يقوم به المحامى الشرعى وتدخله تدخلا مباشرا فى الدفاع عن القضايا والأحكام الشرعية
الجواب
عن الموضوع الأول الإنسان الحر بعد موته تجب المحافظة عليه ودفنه وتكريمه وعدم ابتذاله - فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم النهى عن كسر عظم الميت لأنه ككسره حيا - ومعنى هذا الحديث أن للميت حرمة كحرمته حيا، فلا يتعدى عليه بكسر أو شق أو غير ذلك .
وإخراج عين الميت كإخراج عين الحى، ويعتبر اعتداء عليه غير جائز شرعا، إلا إذا دعت إليه ضرورة تكون المصلحة فيها أعظم من الضرر الذى يصيب الميت، وذلك لأن قواعد الدين الإسلامى الحنيف مبنية على رعاية المصالح الراجحة وتحمل الضرر الأخف لجلب مصلحة يكون تفويتها أشد من هذا الضرر، فإذا كان أخذ عين الميت لترقيع قرنية عين المكفوف يحقق مصلحة ترجح مصلحة المحافظة على الميت جاز ذلك شرعا، لأن الضرر الذى يلحق بالحى المضطر لهذا العلاج أشد من الضرر الذى يلحق بالميت الذى تؤخذ عينه بعد وفاته، وليس فى هذا ابتذال للميت ولا اعتداء على حرمته المنهى عنه شرعا، لأن النهى إنما يكون إذا كان التعدى لغير مصلحة راجحة أو لغير حاجة ماسة .(2/457)
وقد ذهبنا إلى جواز ذلك فى تشريح جثث الموتى ممن لا أهل لهم قبل دفنهم فى مقابر الصدقة لتحقيق مصلحة عامة راجحة للناس إحياء لنفوسهم أو علاجا لأمراضهم أو لمعرفة أسباب الحوادث الجنائية التى تقع عليهم مستندين إلى ما سبق أن أوضحناه، وإلى أن القواعد الأصولية تقضى بإيجاب ما يتوقف عليه أداء الواجب .
فإذا أوجب الشارع شيئا تضمن ذلك إيجاب ما يتوقف عليه ذلك الشئ .
وعلى ذلك وتطبيقا لما ذهبنا إليه فى الإفتاء بجواز تشريح الجثث للموتى نقول بجواز سلخ قرنية عين الميت وتركيبها للكفيف شرعا إذا كان فى ذلك مصلحة للكفيف .
عن الموضوع الثانى - ظاهر من السؤال أن المراد الاستفسار عن حكم توكيل المحامى المدنى غير المسلم ليقوم بما يقوم به المحامى الشرعى ويتدخل تدخلا مباشرا فى الدفاع فى القضايا والأحكام الشرعية أى التوكيل بالخصومة .
وقد اتفق الفقهاء على أن التوكيل بالخصومة جائز من الخصم طالبا كان أو مطلوبا، لأنه يملك أن يباشرها بنفسه فيملك إسنادها إلى غيره ليقوم فيها مقامه، فإن الحاجة تدعو إلى ذلك، إما لقلة هدايته وإما لصيانة نفسه عن الابتذال فى مجلس الخصومة .
وقد كان الإمام على كرم الله وجهه إذا خوصم فى شئ من أمواله وكل عقيلا رضى الله عنه، ولما كبرت سن عقيل كان يوكل عبدالله بن جعفر، وقال هو وكيلى فما قضى عليه فهو على، وما قضى له فهو لى .
وكان يقول إن للخصومة فحما، وإن الشيطان ليحضرها، وإنى لأكره أن أحضرها .
وقال ابن قدامة الحنبلى هذه قصص اشتهرت لأنها فى مظنه الشهرة، ولم ينقل إنكارها .
وأخذ من ذلك إجماع الصحابة على جوازها. وقال السرخسى الحنفى .
وقد جرى الرسم على التوكيل على أبواب القضاة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر ولا زجر زاجر، ومع اتفاق الفقهاء على أصل الجواز اختلفوا فقال مالك والشافعى وأحمد وابن أبى ليلى وأبو يوسف ومحمد يجوز التوكيل فى إثبات الحقوق والمخاصمة فيها صحيحا كان الموكل أو مريضا .
طالبا كان أو مطلوبا. شريفا كان أو وضيعا. رضى بذلك صاحبه أو لم يرض .
وقال أبو حنيفة إن التوكيل بالخصومة صحيح إلا إنه لا يلزمه بدون رضا الخصم إلا أن يكون الموكل مريضا أو غائبا مدة السفر أو امرأة مخدرة، فإنه إن كان معذورا بمثل هذه الأعذار جاز توكيله ولزم من غير رضا الخصم .
واتحاد الدين ليس شرطا فى صحة الوكالة عند الحنفية، فيصح أن يوكل المسلم الذمى، والذمى المسلم فى الخصومة .
والردة لا تمنع صحة الوكالة عندهم أيضا، فلو وكل المسلم مرتدا جاز، لأن توقف تصرفات المرتد لتوقف ملكه وهو إذا كان وكيلا لا يتصرف فى ملكه، بل يتصرف فى ملك الموكل وهو نافذ التصرفات .
أما اختلاف الدارين فهو مانع من صحة الوكالة عندهم بالنسبة لغير المسلمين .
فلو وكل المسلم أو الذمى فى دار الإسلام حربيا فى دار الحرب، أو وكل الحربى أحدهما فالوكالة باطلة .
سواء كان مدعيا أو مدعى عليه، كما لا يصح أن يحضر وكيلا عن الحربى حربى مستأمن فى دار الإسلام .
وعند الإمام أحمد كل من صح تصرفه فى شئ بنفسه وكان مما تدخله النيابة صح أن يوكل فيه رجلا أو امرأة حرا أو عبدا مسلما أو كافرا، سواء أكان هذا الكافر ذميا أو مستأمنا أو حربيا أو مرتدا .
وفى فروع المالكية إن توكيل الذمى على استخلاص دين له على مسلم ممنوع .
لأنه ربما أغلظ له وشق عليه فى الطلب وإن كان غير ذلك فلا منع وإن توكيل المسلم للذمى فى البيع والشراء وتقاضى الدين ممنوع، لأنه لا يعرف الشروط ولا يتحرى وقد يتعمد مخالفتها إذا عرفها .
وقال الدسوقى فى حاشيته. لا يمنع توكيله إلا فى هذه الثلاثة، ومقتضى ذلك جواز توكيل المسلم الذمى فى الخصومة وإن كان مقتضى تعليل المنع فى الأمور الثلاثة بأنه لا يعرف الشروط ولا يتحرى وقد يتعمد مخالفتها إذا عرفها - ألا يصح التوكيل فى الخصومة وعند الشافعية .
من صح منه مباشرة الشئ صح توكيله فيه غيره، وأن يوكل فيه عن غيره .
واستثنوا من الثانى توكيل الكافر فى شراء المسلم ويصح فى الأصح مع امتناع شرائه لنفسه، وكذلك توكيله فى طلاق المسلمة يصح فى الأصح (الأشباه والنظائر للسيوطى) فى فقه الشافعية .
صفحة 572، 573. ومقتضى التعميم فى بيان الحكم .
وظاهر الفروع التى سيقت على سبيل الاستثناء من الشق الثانى أن اختلاف الدين لا يمنع من صحة الوكالة عند الشافعية .
ونتيجة ذلك كله أن توكيل المسلم أو الذمى غير المسلم فى الخصومة جائز .
وتطبيقا على ذلك يجوز توكيل المحامى المدنى غير المسلم فى الدفاع فى القضايا والأحكام الرعية وقيامه مقام المحامى الشرعى فيما ذكر .
والله تعالى أعلم
==============
الموضوع (1321) دور الشريعة الإسلامية فى تحقيق أهداف المجتمع.
دور الشريعة الإسلامية فى تحقيق أهداف المجتمع
المفتي
جاد الحق على جاد الحق .
1 أبريل 1979 م
المبادئ
1 - الأحكام الشرعية التى فصلها المصدران الأساسيان وهما القرآن والسنة، وما أجمع عليه المسلمون، وما ثبت بالقياس الصحيح، كل ذلك ثابت لا نقاش فيه، أما ما لم يرد فيه نص قاطع أو إجماع فهو محل اجتهاد .
2 - تطبيق الشريعة الإسلامية فى المجتع إنما يعنى ربطه بالأسس الشرعية الثابتة دون الجزئيات المتغيرة، على أن الأخلاق الإسلامية لا تدخل فى المتغيرات .
بل هى من الأعمال الثابتة التى يجب أن يلتزم بها المجتمع .
3 - لابد من التفريق بين أخلاقيات وعادات الناس وأعرافهم .
4 - شريعة الإسلام دواء لما أصاب المجتمع من علل وأمراض اجتماعية، تخلق فيه روح الصفاء والتآلف والبذل والعطاء .(2/458)
5 - الضروريات الخمس وهى حفظ النفس والعقل والنسل والدين والمال اعتبرها الإسلام غاية وأساسا لقيام المجتمع السليم، وذلك لا يختلف فى القرن العشرين عنه فى القرون السابقة .
6 - شريعة الإسلام قامت على اعتبارات من الدين والأخلاق والعدالة المطلقة بين الناس على اختلاف عقائدهم الدينية .
7 - غير المسلمين يلتزمون بالقانون الإسلامى كقانون فقط لا مساس فيه بالقعيدة ولا ما يتبعها من الأمور اللصيقة بها .
8 - الشريعة كقانون مطبقة فعلا على جميع المصريين دون حرج أو اعتراض فى الميراث والوصية والولاية على المال .
9 - طبيعة العقوبات فى الشريعة لا تسمح بالتفريق فى العقوبة بين الأفراد لأى سبب أو وصف من الأوصاف .
10 - تطبيق حد الردة على المسلم الذى يرتد عن الإسلام استقرار للعقائد الدينية السماوية المتآخية فى هذا الوطن .
11 - التريث غير مطلوب لتطبيق الشريعة الإسلامية فى الحكم والقضاء حتى نعد جيلا جديدا على أساس خلق الإسلام .
12 - الإسلام والسياسة متداخلان لا انقصام بينهما، وهو شريعة وعقيدة لا ينفصل عن السياسة ولا تضربه، لأنه صمام الأمن والأمان لها .
13 - يحكم العرف والعادة ما لم يصادما نصا قطعيا فى القرآن والسنة .
أو إجماعا سابقا للأمة فى عصر من العصور
السؤال
فى مجلة المصور بالآتى س 1 يقول السيد محمد رشيد رضا الأحكام المنزلة من الله تعالى .
منها (أ) ما يتعلق بالدين نفسه كأحكام العبادات وما فى معناها كالنكاح والطلاق وهذه لا تحل مخالفتها .
(ب) ومنها ما يتعلق بأمور الدنيا كالعقوبات والحدود والمعاملات المدينة والمنزل من الله تعالى فى هذا قليل وأكثره متروك للاجتهاد .
ويقول الكاتب توفيق الحكيم إن الثابت من أحكام الدين هو الإلهيات بما فى ذلك علاقة الإنسان بالله وإن المتغير هو الانسانيات مثل المعاملات والاخلاقيات .
فما هو رأى فضيلتكم فى نصيب هذين الرأيين من الصواب والخطأ فيما يتصل بالدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية
الجواب
ج - 1 كرم الإسلام الإنسان وسخر الله له ما فى الأرض جميعا وجعله خليفته فيها وعلمه ما لم يكن يعلم ليعمر هذا العالم وشاءت إرادته تعالى ألا يترك الناس تسودهم الأهواء يستقل القوى بكل شىء وتنحصر يد الضعيف صفرا بغير شىء فجاءت رسله تترى فى كل عصر وزمان للهداية والرشاد حتى كانت خاتمة الراسلات الإسلام الذى هدفت شريعته إلى تكوين مجتمع فاضل يضم الأسرة الإنسانية كلها فبدأت بتربية ذات المسلم ليكون عضوا سليما فى هذا المجتمع فهذبت نفسه بالعبادات { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } العنكبوت 45 ، ومن أجل هذا الهدف كانت الضروريات فى الشريعة الإسلامية خمسا لحفظ النفس الإنسانية سامية تقية نفية آمنة مطمئنة - حفظ النفس والدين والعقل والنسل والمال - ثم كانت أحكام هذه الشرعية بمعناها العام الشامل للعقيدة أى ما يجب الإيمان به فيما يتعلق بالله تعالى وصفاته والدار الآخرة والرسل السابقين والقضاء والقدر وغير هذا مما اصطلح العلماء على تسمية بحوثه بعلم الكلام أو التوحيد، وما يشمل ما نسميه بالعلاقات الاجتماعية وهو المثل الأعلى الذى يجب على الإنسان بلوغه فى التعامل مع مجتمعه .
واصطلح على أنه علم الإخلاق، ثم فقه الشريعة الشامل لأحكام الله تعالى فيما يخص العمل من عبادات ومعاملات وحدود وتعازير، فهذه الشريعة الخاتمة لابد أن تحكم أحوال الإنسان حتى غاية الزمان، ومن أجل هذا جاءت أحكام الله محددة فيما فرضه من عبادات وفيما يتصل بتكوين الأسرة وترتيب نظامها منذ بدء الولادة للطفل الإنسانى وحتى مماته وتوريث تركته كما جاءت الحدود العقابية على بعض الجرائم الماسة بنظام المجتمع محددة كذلك، ومن ثم فإن الأحكام الشرعية التى فصلها المصدران الأساسيان وهما القرآن والسنة وما أجمع عليه المسلمون وما ثبت بالقياس الصحيح كل هذا ثابت لا نقاش فيه، أما ما لم يرد فيه نص قاطع أو إجماع فهو محل الاجتهاد ويدخل فيه العقود المالية وغيرها من طرق الكسب والتجارة وعقوبات التعزير على ما جد من جرائم، واستنباط الأحكام لمثل هذا لابد أن يكون فى نطاق الضوابط العامة للتعامل بين الناس الواردة فى كتاب الله وسنة روسله صلى الله عليه وسلم مثل { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } النساء 29 ، ففى هذه الآية ضوابط عامة لا يسوغ لأحد مخالفتها وللمجتمع الإسلامى أن يقننها فى قواعد حاكمة لتعاملة، ويجوز أن تتغير أسماء التعرفات والتجارات بتغير العصر والزمن وانحسار العادات والأعراف ولكن يظل التعامل قائما فى هذا النطاق الذى أمرت به هذه الآية الكريمة، وعلى هذا فان تطبيق أحكام الشريعة الاسمية فى المجتمع إنما يعنى ربطه بالأسس الشرعية الثابتة دون الجزئيات المتغيرة، على أن الأخلاق الإسلامية لا تدخل فى المتغيرات بل هى من العمد الثابتة التى يجب أن يلتزم بها المجتمع، فالصدق والأمانة والعفة ليس التحلى بها موضع اجتهاد ، على أنه لا يغيب عن البال أن الإسلام قد ربط دائما العمل بالنية وحاسب عليها فقد يتصدق المسلم وينفق أمواله بغية الذكر فى الدنيا أو التقرب من حاكم وهو فى هذا الحال مراء فلا يقبل الله منه هذا العمل، وفى سعى الرجل وكسبه للانفاق على زوجه وولده صدقة مع أنه يؤدى واجبا لزمه بعقد الزواج وبمقتضى الأبوة لطفله .(2/459)
فالاجتهاد فى الأحكام الشرعية لا يدخل نطاق ما حدده المشرع سبحانه بنص قاطع فى القرآن الكريم أو بقول الرسول أو فعله أو تقريره كما لا يدخل الاجتهاد فى أخلاقيات هذا الدين ولابد أن نفرق بين أخلاقياته وعادات الناس وأعرافهم لأن هذين يكتسبان وقد ينشآن عن أصل فى الدين أو البيئة أو تقليدا للغير ويجب رد كل أوليئك إلى النصوص الأصلية للشريعة احتكاما إليها { قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث } المائدة 100 ، { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول } النساء 59 ، ص 2 ما هو دور الشريعة الإسلامية فى تحقيق أهداف المجتمع روحيا وماديا ج - عنى الإسلام بتربية الفرد المسلم لأنه عماد الأسرة التى هى الخلية الأولى فى المجتمع الإنسانى فرباه على نقاء السيرة والسريرة وعلى الإخلاص والنصيحة لدينه وعشيرته لم يفرق بين بنى الإنسان بسبب اللون أو الجنس قال تعالى { إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } الحجرات 13 ، وفرض الصلاة وسن فيها الجماعة خمس مرات فى اليوم والليلة ثم صلاة أسبوعية جامعة ثم مؤتمرا سنويا أشتمل فى الحج كل ذلك لتصفو نفس الجماعة المسلمة بل الأمة الإسلامية وتجتمع على كلمة سواء .
أرأيت كيف حث الله تعالى فى آياته على صدق العقيدة مع الإخلاص له وحده فى العبادة وعلى البر بالوالدين وصلة الرحم وإكرام اليتيم والمسكين والإحسان إلى الجار والرحمة بالفقير والمحتاج ومساعدة الضعفاء، ثم التحذير من البخل والرياء والنهى عن الكفر الجحود ومعصية الرسول إليك واحدة من هذه الآى { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا } النساء 36 ، ورسول الله صلوات الله عليه يقول حماية للمجتمع (لا ضرر ولا ضرار) أرأيت أجمع وأشمل من هذه العبارة الوجيزة كيف جاءت بقاعدة شاملة تحمى الفرد والأمة .
وقول الله { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } المائدة 2 ، ثم ما فرضه الإسلام من تكافل بين الأسرة الواحدة ثم بين الأسر المتجاورة ثم الأمة كلها، كل هذا متمثل فى نظام الزكوات والكفارات والصدقات والنذور والوصايا، ثم مع هذا وقبله دعوة هذه الشريعة الإنسان للعمل والكسب والعمارة محاطا بقواعدها فى بيان والحلال والمحرم من الكسوب والأموال قال جل شأنه { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله } الجمعة 10 ، اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا .
وقال تعالى { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } الحديد 7 ، أليس الإنسان خليفة الله فى الأرض فما فى يده من مال ومتاع ملك لمولاه ومستخلف فيه، ومن هنا كانت شريعة الإسلام دواء لما أصابنا من علل وأمراض اجتماعية وتخلق فيه روح الصفاء والتآلف والبذل والعطاء ومع كل هذا تدفعه للعمل والكسب وعمارة الأرض حتى يكون قوى البناء كالجسد الواحد .
س 3 ما مدى ضرورة الشريعة الإسلامية فى القرن العشرين ج - الإسلام دين ودنيا غير موقوت بعصر وأوان وإنما هو دين الله ما دامت على الأرض حياة، أرأيت إلى شريعة حفظت حياة الإنسان وكرامته أى إنسان منذ تحرك فى بطن أمه جنينا فمنعت الاعتداء على نفس الإناسن أو أى جزء منه بل حافظت على سمعته وبعدت به عن مواطن الاحتقار والإهانة وقدست حريته وجعلت كل هذا ضروريا وشرعت عقوبات التعدى قال تعالى { ولكم فى القصاص حياة } البقرة 179 ، وعقوبة القذف والزنا ثم حافظت على عقل الإنسان وسلامته، ومن أجل هذا حرمت الخمر وكل ما يضر بعقل الإنسان ثم حافظت على النسل الإنسانى فكان على الوالد كفالة والده .
ومن هنا كان تنظيم الإسلام للزواج ومنع الاعتداء على الأعراض ثم حفظ الدين فكانت حماية العقيدة لأنها رابطة الإخلاص فى المجتمع، ونحن نرى من حولنا المجتمعات المادية منحلة متحللة لا تدعمها رابطة ولا تشدها عاطفة ثم المحافظة على المال، فبعد أن دعت إلى تحصيله بالطرث المشروعة وإنفاقه فى أوجه البر والخير منعت الاعتداء عليه بالسرقة أو الغصب أو أكله بالباطل رشوة أو تغريرا أو نصبا واحتيالا أو ربا .(2/460)
هذه الضروريا الخمس اعتبرها الإسلام غاية وأساسا لقيام المجتمع السليم، وذلك لا يختلف فى القرن العشرين عنه فى القرون السابقة بل اننا لو رجعنا البصر كرتين فى تاريخ الإسلام لوجدنا أن الأمة الإسلامية سادت نفسها وغيرها حين سادتها أحكام شريعتها وحين غفل المسلمون عن تطبيقها غاض خيرهم وانفض جمعهم وهانوا على أنفسهم وعلى غيرهم حتى تخطفتهم الأمم من حولهم، أليس التاريخ خير شاهد ثم أرايت نظاما قانونيا عاش أربعة عشر قرنا فما وهن لما أصاب أهله وما استكان لانصرافهم، تلكم هى الشريعة الإسلامية بسطت ظلها على الإنسان فى المجتمع المسلم نفسا ومالا وعيالا تدعمه وتنفث فيه من قوتها حتى يستوى عوده على هدى الله قال تعالى { إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا } الإسراء 9 ، س 4 ما موقف غير المسلمين فى حالة تطبيق الشريعة الإسلامية وهل تضار الوحدة الوطنية ج - يلزم أن يستقر فى الأذهان أن شريعة الإسلام قامت على اعتبارات من الدين والأخلاق والعدالة المطلقة بين الناس على اختلاف عقائدهم الدينية وهى فى تقديسها لهذه العدالة لم ترع المسلمين وحدهم بل كافة المواطنين، وحين حرمت التعدى والظلم وغيرهما من الموبقات لم تفرق بين المسلم وغير المسلم قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله } المائدة 8 ، أى لا ينبغى أن يحملكم أى خلاف مع آخرين بسبب ما كالمخالفة فى الدين على مجانبة العدل فى الأحكام ن ومن ثم فان الإسلام سوى فى الحكم والأحكام بين طوائف الناس جميعا، ومن هنا فان غير المسلمين إنما يلتزمون بالقانون الإسلامى كقانون فقط لا مساس فيه بالعقيدة ولا ما يتبعها من الأمور اللصيقة بها كمسائل الزواج والطلاق، ففى هذا الخصوص يقرر فقه الإسلام أن غير المسلمين يتركون وما يدينون، فيجب إذا ألا نخلط بين الإسلام كدين وبينه كقانون، وما لنا نذهب بعيدا فالشريعة كقانون مطبقة فعلا على جميع المصريين دون حرج أو اعتراض، فهذه قوانين الميراث والوصية الوقف والولاية على المال جميعها مصدرها الوحيد فقه الشريعة الإسلامية والك راض بها ووحدة الأمة مصونة فى ظلها، وقد كانت البلاد العربية فى إبان حضارتها يحكمها قانون واحد يتمثل فى الشريعة الإسلامية التى ظلت سائدة مطبقة تطبيقا شاملا فى مختلف النواحىة على مدى قرون طويلة دون تفريق بين المسلم وغير المسلم، بل الكل أمام قانونها سواء كما يأمر بذلك النص القرآنى الكريم سالف الذكر، فإذا عادت بلادنا إلى مقوماتها الأصلية تعين علينا الرجوع غلى هذه الثورة الفقهية لنقنن منها أنزة تتسق مع حاجات العصر، وإلا فهل يرضى غير المسلم أن لا يعاقب سارقه بقطع يده إذذا ثبتت السرقة ثبوتا شرعيا بل هل يليق أن يترك من يعتدى على عرض غير المسلم دون عقاب رادع إن نظام التجريم فى فقه الإسلام مقصوده الزجر والردع عن اقتراف تلك الجرائم، بل والعلاج الحاسم للعود، ثم هل هناك مجتمع يشفق أو يرحم من يسرق أمواله ويهتك أعراضه ويروع الأطفال والنساء، ان توفير الأمن فى الأمة وتقويم السلوك أمر متعلق بالنظام العام فى الدولة، وهو فى نفسه لا يمس عقيدة دينية ولا يحد منها، ولقد عاشت وحدة الوطن فى ظل القانون الإسلامى أكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزمان أمن فيه غير المسلمين قبل المسلمين على أموالهم وأعراضهم وأنفسهم ، فالمسلم يقتص منه عدلا بقتل غير المسلم كما يرجم إذا زنى بغير المسلمة كما تقطع يده إذا سرق المال .
والحال كذلك بالنسبة للجانى إذا كان غير مسلم لأن القصد هو سلامة المجتمع كله ومعاقبة المجرم أيا كان دينه ليصلح المجتمع .
ومن هذا يتضح أن طبيعة العقوبات فى الشريعة لا تسمع بالتفريق فى العقوبة بين الأفراد لأى سبب أو وصف من الأوصاف إذ العقوبة مقررة للجريمة حتى تسرى النصوص الحنائية على الكافة .
س 5 ما هو رأى فضيلتكم فيما يثار حول الردة ج - ان الأساس فى الشريعة فى التجريم هو حماية الأمة، ومن أجل هذا كانت الحدود فى الإسلام حازمة بالقدر الذى يكفى لاستئصال الجريمة وتأديب المجرم على وجه يمنعه من العودة إلى ارتكابها، بل ويزجر غيره عن التفكير فى مثلها، وعقيدة الجماعة فى حاجة إلى هذه الحماية حتى تعيش مستقرة، من أجل هذا كان حد الردة كغيره من الحدود المكافحة للجريمة الماسة بأمن المجتمع ، ذلك لأن التساهل يؤدى حتما إلى تحلل الأخلاق وفساد المجتمع، وفى تطبيق حد الردة على المسلم الذى يرتد عن الإسلام استقرار للعقائد الدينية السماوية المتآخية فى هذا الوطن، ولمنع هؤلاء اذين يتنقلون بين الأديان لأهواء فاسدة لا يقرها الدين أى دين، والمحاكم مليئة بالمنازعات التى ثارت بين الأزواج، والتى لجأ بعض الأطراف فيها إلى اعتناق دين غير دينه هربا من الزوج أو من الزوجة .
أو قصدا للزواج بمن لا تدين بدينه، ومن الأمور الثابتة أن رجال القانون المصريين من غير المسلمين قد شاركوا فى تقنين المواريث والوصية ولاوقف والولاية على المال من فقه الإسلام، بل وكثير من أحكام التقنين المدنى من هذا الفقه .(2/461)
ومن يتصفح محاضر لجان مجلس الشيوخ والنواب فيما قبل يوليه سنة 1952 يجد ذلك واضحا، كما يجد أن هؤلاء القانون لم يتعترضوا على هذا التقنين، وأمر آخر يجب أن يكون فى الحسبان أن آثار الردة مطبقة فعلا فى المواريث وغيرها، فإذا جاءت الدولة الآن لتقنن أمرا قائما تحمى به وحدة الأمة وهذه الوحدة مسألة أمن دولة يقضى بها الدستور فإن على جميع المواطين أن يعوانوا فى هذا السبيل، ثم أين هى حوادث الارتداد الفعلى ان الواقع هو حيل قانونية لا تتصل بالعقيدة وإنما تتخذ وسلة للهروب من التزامات أو الحصول على مكاسب ليست حقا ن ولعل الحقائق التاريخية الثابتة شاهدة على أن غير المسلمين عاشوا بين مواطنيهم المسلمين ثلاثة عشر قرنا من الزمان، وقد كان الجميع شركاء فى السراء والضراء والكل فى الوطن مواطن، وكما سبق أن قلت ان الحدود تطبيق قانونى على الجميع وإن إنفاذ حد الردة يحمى العقائد الدينية ويجعل الثبات عليها والالتزام أمرا مستقرا .
س 6 ما رأى فضيلتكم فى أن التشريع الإسلامى يعتمد اعمادا كبيرا على ضمير الفرد وإحساسه برقابة الله تعالى وأنه بغير هذا المضير وهذا الاحساس لا يمكن أن يستقيم التطبيق، وإنما يقتضى وجودهما إعداد جيل جديد على أساس خلق الإسلام وقيمة ومبادئه .
ج - إننا لا نبدأ من فراغ، فالدين الإسلامى قائم بحمد الله المعبود، ونحن نتلو القرآن الكريم ونسمعه ونعم بشرعه فى الكثير من نواحى الحياة وليست الصلة منقطعة بين الإسلام وواقع الحياة، فان التقنين المدنى فى مصر قد أخذ بالكثير من قواعد الفقه الإسلامى وقانون العقوبات أكثره يدخل تحت باب التعازير، والإسلام حين علم المسلم أن الله مطلع عليه ومراقب له قال تعالى { يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور } غافر 19 ، وقال جل شأنه { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } المجادلة 7 ، وحين وضح الرسول صلوات الله وسلامه هذا بقوله (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى) إنما أراد بهذا أن يكون المسلم سليم السيرة والسريرة .
فالأخلاق ترتبط فى الإسلام أشد الارتباط بالقانون المستنبط من القرآن والسنة، ولكنه من الخطأ أن يقال أنه لا تمييز بين السلوك أو الأخلاق وبين القواعد القانونية، لأن الإسلام وإن جعل التربية الخلقية جزءا من العمل يخضع للثواب والعقاب، إلا أن الفقه الإسلامى قد ماز بين قواعد الأخلاق وقواعد القانون .
ففى كتب هذا الفقه على اختلاف مذاهبه يفرقون بين ما هو واجب قانونا ويعبرون عنه بقضاء وما هو واجب ديانة أى خلقيا دون جزاء دنيوى، بل ان القرآن الكريم قد جنب هذه عن تلك فجاءت نصوصه فى الحدود سابغة قاطعة وفى الأخلاق بقوله تعالى { ولا تطع كل حلاف مهين .
هماز مشاء بنميم .
مناع للخير معتد أثيم } القلم 10 ، 11 ، 12 ، { ويل لكل همزة لمزة .
الذى جمع مالا وعدده } الهمزة 1 ، 2 ، فهذا من قبيل قواعد الأخلاق التى يحاسب عليها المسلم فى الآخرة، ولم يفرض لها جزاء فى الدنيا، والإسلام حين يسبغ على القاعدة القانونية صفة الأخلاق إنما يريد أن يقرها فى نفس المجتمع ليحاسب كل فرد نفسه .
ومن هذا يتضح أننا لسنا فى حاجة إلى التريث فى تطبيق الشريعة الإسلامية فى الحكم والقضاء حتى نعد جيلا جديدا على أساس خلق الإسلام وقيمه ومبادئه، لأننا أمة مسلمة نقيم أمور الإسلام ولا ينقصنا إلا القليل نبغى استكماله، وبه يعتدل سلوكنا على الجادة .
س 7 هل تنفضل فضيلتكم بتفصيل العلاقة بين السياسة والدين فى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية .
ج - لعل الرد على هذا التساؤل فى آيات من القرآن الكريم وعدة من أحاديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ففى القرآن قول الله تعالى { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } النساء 58 ، إلى آخر هذه الآية والتى تليها .
فقد قال العلماء فى شأن هاتين الآيتين ان فيهما جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة .
ومن هنا ندرك أن الإسلام نظم أمور الناس فى علاقتهم بربهم وفى علاقاتهم الأسرية وحقوق الجيرة، ثم سياسة الدولة، فجعل الحكم شورى ورسم طريق العدالة المطلقة، والمتتبع لآيات القرآن وأحاديث الرسول يرى صنوف السياسة وقواعدها فى إدارة أمور الناس وحسن اختيار الحكام والقضاة، كما يرى أن الإسلام والسياسة متداخلان لا انفصام بينهما لأنه دين ودنيا يسوس نفس الإنسان ويهذبها بالعبادات وصالح العمل، ويسوس علاقة الإنسان بزوجه وولده ووالديه والناس جميعا، ويضع لكل علاقة حكما وحدا ، ولكل عمل مواصفات العامل الذى يقول به، يتمثل هذا فى قول الرسول الأمين إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات .
حتى فى الصلاة وضع معايير لمن يؤم الناس فيها (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى فإن كانوا فى القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فان كانوا فى السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا فى الهجرة سواء فأقدمهم سلما ولا يؤمن الرجل الرجل فى سلطانه ولا يقعد فى بيته على تكرمته إلا بإذنه) رواه مسلم .
وقد حمل إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه مال عظيم من الخمس فقال (ان قوما أدوا الأمانة فى هذا لأمناء فقال له بعض الحاضرين انك أديت الأمانة إلى الله تعالى الأمانة إليك ولو رتعت رتعوا) من هذا وغيره مما تزخر به كتب هذه الشريعة من نصوص وآثار يبدون جليا أن الإسلام لا يفارق السياسة وإنما هو دين وسياسة، ولذلك فالنصوص التشريعية فى القرآن والسنة عامة تعرض لكليات الأمور مقرونة بحكمة تشريعها والمصلحة التى اقتضتها للارشاد إلى استنباط الأحكام لما يجد من أحداث فى العلاقات الخارجية كدولة وفى العلاقات بين الأفراد بل وبينهم وبين أولياء أمورهم على اختلاف صنوفهم .(2/462)
أرأيت بعد هذه الإشارات كيف أن الإسلام شريعة وعقيدة لا ينفصل عن السياسة ولا تضر به لأنه صمام الأمن والأمان لها .
س 8 كيف يمكن استخلاص أسس التلاحم المنشود بين أصول الشريعة الإسلامية والتشريع العصرى بما يوافق البنيات أو التركيب الحضارى الراهن لعصرنا ومجتمعنا ج - لا جدال فى أن مصدر الأحكام فى الشريعة الإسلامية هو نصوص القرآن والنسة وما يلحق بهما مما أجمعت عليه الأمة ثم ما هدى إليها اجتهاد علمائها على أساس هذه الأصول، وأن النصوص منها العام القطعى مثل قول الله سبحانه { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } المائدة 1 ، { وما جعل عليكم فى الدين من حرج } الحج 78 ، { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } النساء 29 ، وهناك نصوص قطعية خاصة مثل آيات المواريث وتحريم الربا والزنا والخمر والميسر، ومما أجتمعت عليه الأمة بطلان زواج المسلمة بغير المسلم ووجوب نفقه الزوجة على زوجها ، ومما قطعت فيه السنة، يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب .
وفى هذا النطاق يدور استنباط الأحكام من هذه المصادر فى باب المعاملا وفى التقنين الإدارى والاقتصادى والتجارى والجنائى ما دامت فى نطاق القواعد العامة لهذه الشريعة، ويضيق الوقت والنطاق عن تلاوة آيات القرآن الكريم التى نصت أو أشارت إلى قواعد قانونية فى شتى فروع القانون، كما اصطلحنا على تسميتها الآن، ففى كتاب الله أهم قواعد القانون الدولة المتعلقة بالسلم والحرب والمعاهدات، ففيه قاعدة المعاملة بالمثل وفيه حكم الأسرى فى الحروب والالتزام بالمبرم من المعاهدات والوفاء بها ووجوب إعلان إلغاء المعاهدات دون عذر، وفى هذا يقول فقيه مسلم (وفاء بعهد من غير غدر خير من غدر بغدر) وفى القرآن الدعوة إلى السلم وفيه العمل على الصلح بين التنازعين وردع المعتدين، وفيه المساواة بين الناس والدعوة إلى تحكيم الحجة والبرهان والمجادلة بالحسنى وصولا للحق، وفيه المساواة بين الرجل والمرأة فى الأهلية حيث حفظ لها رأيها وحريتها لا تذوب ولا تؤول إلىولاية زوجها كما تقرر أكثر قوانين الغرب الذى نسعى إلى تقليده، وفيه القواعد العامة للمعاملات المدينة، وفيه مبادىء قانون الإثبات مدنيا وجنائيا، وفيه أحكام الزواج والطلاق وتنظيم أمور حقوق الزوجين وفاقا وافتراقا، وحقوق الأولاد والوالدين وذوى القربى، وفيه عقوبات محددة للجرائم الماسة بأمن وسلامة المجتمع وثمة جرائم أخرى ناط تقدير العقوبة عليها بأولياء الأمور وهذه موضع الاجتهاد ومحل للتعديل والتبديل تبعا لتطور الأزمان، وكما قيل يحدث للناس أقضية بقدر ما يحدثون وهذا هو مؤدى القول المشهور .
إن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان .
إذ عموم قواعدها ومرونتها تجعلها غير جامدة ولا هامدة ، ولا مانع إطلاقا من تحكيم العرف والعادة إذا لم يصادما نصا قطعيا فى القرآن والسنة أو إجماعا سابقا للأمة فى عصر من العصور، وقد جرت نصوص الفقهاء المسلمين بذلك بل ان الدولة الإسلامية حين امتدت أطرافها نقل عمر بن الخطاب نظام الداوين وطرق جباية الموال عن الفرس والروم واستخدمهم فى هذه الأعمال للقيام بها ولتدريب المسلمين عليهيا .
ومن هنا كان لنا أن ننقل عن غيرنا ما لا يناقض أصول الإسلام .
وبعد فان كتب فقه الإسلام على اختلاف مذاهبه تحوى الكثير الوفير من القواعد العادلة التى تعالج مشاكل مجتمعنا بروج العصر دون تضييق أو خروج على أحكام الإسلام العامة والخاصة القطيعة، وأنه ينبغى أن تكون تلك القواعد هى المورد للمقننين والمصلحين بدلا من أن نستورد ما نشأ على غير أرضنا وفى غير بيئتنا وعادانا، وسنجد - ان فعلنا ذلك - أن تشريعنا المستمد من أصول الإسلام عصرى يواكب هذه الحضارات التى نعيشها، ويقول المجتمع إلى بر الأمن والسلام حافظا عليه دينه وتقاليده مشمولا برضى الله الذى رضى لنا هذا الدين وجعلنا خير أمة { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } آل عمران 110 .
=============
الموضوع ( 697 ) حكم وقف المسلم بعد ردته.
حكم وقف المسلم بعد ردته
المفتي
عبد المجيد سليم .
ذو القعدة سنة 1351 هجرية 18 مارس سنة 1933 م
المبادئ
وقف المسلم لا يبطل بردته عند أبى يوسف (من الحنفية) وعليه الفتوى
السؤال
من جان أبو طاقية بالآتى سيدة تدعى روجينا جيولتى بنت يوسف تاملو إسرائيلية أيطالية لا تعرف اللغة العربية .
ثم بتاريخ 14 أبريل لسنة 1932 أسلمت . ثم بعد إسلامها وقفت وقفا أهليا على نفسها أيام حياتها، ثم من بعدها على أشخاص عينتهم عنها .
ثم رجعت عن دين الإسلام بتاريخ 8 مارس سنة 1933 فهل والحال ما ذكر يبقى وقفها كما هو أو يبطل وتتصرف فيه تصرف الملاك فى أملاكهم
الجواب
اطلعنا على هذا السؤال ونفيد بأنه قد ذهب الخصاف إلى أن السلم إذا وقف وقفا فى حال إسلامه ثم ارتد والعياذ بالله عن الإسلام بطل وقفه بالارتداد .
وقد تبعه فى ذلك كثير ممن جاء بعده ، وقد اعترضه شارح الوهبانية حيث قال على ما جاء بتقرير المرحوم الشيخ الرافعى على رد المحتار ما نصه (ولى فى هذه المسألة نظر، فإن حبوط عمله ينبغى أن يكون فى إبطال ثوابه لا فى إبطال ما يتعلق به من حق الفقراء، وصار إليه فإنه ينبغى أن لا يبطل حقهم بفعله) .(2/463)
وهو اعتراض وجيه وأصله لصاحب المحيط حيث قال على ما جاء فى حاشية عبد الحليم على الدرر مانصه (وعندى فى هذه المسألة نظر، فإن حبوط علمه ينبغى أن يكون فى إبطال ثوابه لا إبطال ما يتعلق به حق الفقراء وصار إليهم فإنه ينبغى أن لا يبطل حقهم بفعله ، قال عبد الحليم بعد هذا ما نصه (أقول ومن الله الإعانة والتوفيق إن هذا النظر مدفوع عن آخره لما أن هذه المسألة مبنية على قول أبى حنيفة والوقف عنده حبس العين على ملك الواقف، ومن ذلك صح تمليكه وإرثه والرجوع عنه يعد كونه وقفا صحيحا، فإذا بقى الموقوف فى ملكه لم يبق فرق بين الوقف قبل الارتداد وبعده، وقد سبق فى باب المرتد أن تصرفاته موقوفة .
إن أسلم نفذت وإن هلك حقيقة أو حكما بطلت .
إذا عرفت هذا ظهر أن وقفه باطل على كلتا الحالتين من غير فرق عنده خلافا لهما فيهما .
فإنه إن وقف حال الإسلام فعند أبى يوسف خرج عن ملكه بمجرد قوله وقفت هذا لهذا، وعند محمد خرج عنه به وبالتسليم والقبض فلم يبق فى ملكه عندهما، فلا يبطل بالردة إلى آخر ماقاله ) .
وهذا تحقيق للمسألة جديد بالاعتبار والتعويل عليه، وبه يزول إشكال صاحب المحيط الذى تبعه فيه شارح الوهبانية وعلى ذلك فبارتداد الواقفة المذكورة عن الإسلام لا يبطل وقفها على قول أبى يوسف المفتى به والذى جرى عليه العمل هذا ما ظهر لنا .
والله تعالى أعلم
=============
الموضوع ( 1113 ) التجسس فى الإسلام
التجسس فى الإسلام
المفتي
حسن مأمون .
ذو القعدة 1376 هجرية - 12 يونية 1957 م
المبادئ
1 - الجاسوسية واقعة مادية تثبت بالإقرار وبالبينة كما تثبت بالأوراق القاطعة فى ذلك .
2 - مذهب الأئمة الثلاثة الشافعى وأحمد وأبى حنيفة عدم جواز قتل الجاسوس .
أما المالكية فإنه يجوز عندهم قتله ولو كان من المسلمين ولا يستتاب ولا دية له عندهم .
3 - التجسس على المسلمين لأعدائهم نوع من السعى فى الأرض فسادا .
وعقابه عقاب المحارب شرعا . 4 - سد الذرائع مناط للتشريع، وأصل من أصول الأحكام الاجتهادية .
5 - درء المفاسد عن المسلمين واجب، وعلى ولى الأمر أن يعطيها ما تستحق من العناية
السؤال
عن رأى الإسلام فى التجسس
الجواب
بناء على القرار الصادر من محكمة جنايات القاهرة فى قضية الجناية رقم لسنة 1957 - قصر النيل كلى سنة 1957 المؤجل النطق بالحكم فيها لجلسة 22 يونية سنة 1957 لإبداء رأينا بالنسبة للمتهم الرابع وفقا لنص المادة 381/2 من قانون الإجراءات الجنائية .
قد اطلعنا على أوراق القضية وتحقيقات النيابة وعلى محاضر الجلسات أمام محكمة الجنايات وأمام غرفة الاتهام وذلك بالنسبة للمتهم المذكور .
وتبين أنه ألقى القبض عليه وهو فى بيت المتهم الأول فى 27 أغسطس سنة 1956، وأن نيابة أمن الدولة حققت معه .
وأقواله مدونة بالصفحات من 15 إلى 21 كما أنها استجوبته بالصفحات 209 وما يليها .
وهذه الأقوال واضحة فى اعتراف المتهم بأنه كان يعطى المتهم الأول معلومات عن القوة المصرية، وانه كان يستخدم فى ذلك ابن شقيقته الذى يعمل فى سلاح الصيانة .
كما كان يستخدم ابنه وغيرهما وكان ينقل كل ما يصل إليه من معلومات نظير الأجر الذى يتقاضاه، وقد اعترف أيضا أمام غرفة الاتهام أنه لم يفعل شيئا وأن ما ذكره كان من الجرائد وأنه ذكر عدة أسماء ليتقاضى نقودا ، واعترافه أمام غرفة الاتهام لا ينفى شيئا من أقواله أمام النيابة بل يؤكدها، ويحاول التنصل منها ومن تبعاتها بما ذكره من أنه كان ينقل ما ينقله من الجرائد .
ولما سئل من المحكمة عن التهم المنسوبة إليه أنكرها، ولما واجهته المحكمة بأنه اعترف بها فى التحقيق أجاب بأنه اعترف تحت تأثير التهديد فى الأودة الضلمة من المباحث العامة .
ولما سئل عن التعذيب الذى يفهم من إجابته أجاب بأنه تهديد فقط إلى آخر أقواله التى لا تخرج عن محاولة إنكار اعترافاته أو نسبتها إلى التهديد الأمر الذى لم يقم عليه دليل فضلا عن أنه قد أكد هذه الاعترافات أمام غرفة الاتهام كما بينا ز ولهذا كله نرى أن تهمة الجاسوسية ثابتة عليه من اعترافات أمام غرفة الاتهام كما بينا .
ولهذا كله نرى أن تهمة الجاسوسية ثابتة عليه من اعترافاته التى تأيدت بأقوال غيره من أقاربه ومن غيرهم وبما ضبط من أوراق .
أما حكم الشريعة فيمن يتجسس على المسلمين وينقل أخبارهم وخاصة ما كان منها متعلقا بالدفاع عن البلاد الإسلامية فقد اختلف فيه الفقهاء فذهب كثير منهم إلى عدم قتل المسلم الجاسوس كالشافعى وأحمد وأبو حنيفة .
وذهب الإمام مالك وابن القيم من أصحاب أحمد وغيرهما إلى إباحة قتل الجاسوس المسلم .
وقد استدل الفريق الثانى بحادثة حاطب بن أبى بلتعة .
فعن على رضى الله عنه قال بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود قال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها فانطلقنا تتعادى بناخيلنا حتى انتهينا إلى الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجى الكتاب .
فقالت ما معى من كتاب فقلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبى بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا حاطب ما هذا قال يا رسول الله لا تعجل على إنى كنت امرأ ملصقا فى قريش ولم اكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتنى ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتى وما فعتل ذلك كفرا ولا ارتدادا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد صدقكم .(2/464)
فقال عمر يا رسول الله دعنى أضرب عنق هذا المنافق فقال إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم فنزلت الآية الكريمة { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق } الممتحنة 1 ، وقد ورد فى هذه الآية النهى عن موالاة غير المسلمين إذا عرفت عداوتهم لهم قال تعالى { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم } الممتحنة 9 ، وقد جاء فى كتاب زاد المعاد لابن القيم بالصفحة 377 جزء 3 المطبوع على هامش القسطلانى مانصه بعد أن أورد الحديث الخاص بتجسس حاطب بن أبى بلتعة ( واستدل به من يرى قتله كمالك وابن عقيل من أصحاب أحمد رحمة الله وغيرهما قالوا لأنه علل بعلة مانعة من القتل منتفية فى غيره، ولو كان الإسلام مانعا من قتله لم يعلل بأخص منه، لأن الحكم إذا علل بالأعم كان الأخص عديم التأثير وهذا أقوى ) وقد جاء فى صفحة 143 من الجزء الثانى من كتاب تبصرة الحكام لابن فرحون المالكى قال سحنون فى المسلم يكتب لأهل الحرب بأخبارنا يقتل ولا يستتاب ولا دية لورثته كالمحارب - وقد نقل صاحب نيل الأوطار هذا الحديث وقال إنه متفق عليه .
وقال فى التعليق عليه وفى الحديث دليل على أنه يجوز قتل الجاسوس وأن فيه متمسكا لمن قالوا إنه يجوز قتل الجاسوس ولو كان من المسلمين .
وقد نقل ابن حجر فى شرحه المسمى فتح البارى الجزء السابع .
منه - أن عمر رضى الله عنه لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم - أليس قد شهد بدرا قال بلى ولكنه نكث وظاهر أعداءك عليك .
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم - وهذا يؤكد ما ذهب إليه من استدل بهذا الحديث على جواز قتل الجاسوس المسلم على ما بينا - وأيضا فإن التجسس على المسلمين لصالح أعدائهم عمل يعرض مصالح المسلمين وبلادهم للضرر، وهو نوع من السعى بالفساد وقد نزلت الآية الكريمة فى عقاب من يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا وهى قوله تعالى فى سورة المائدة { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم } المائدة 33 ، وقد بين ابن جرير الطبرى فى تفسيره أن سبب نزول هذه الآية قد بينه ابن عباس رضى الله عنه قال كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبى صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا فى الأرض فخير الله رسوله إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف .
ونقل مثل ذلك عن غير ابن عباس رضى الله عنه - وقد بين القرطبى فى تفسيره أن العلماء اختلفوا فيمن يستحق اسم المحاربة فقال مالك المحارب عندنا من حمل على الناس فى مصر أو برية أو كابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون ثائرة أى هائجة ولا دخل أى ولا ثأر ولا عداوة .
وقال الشافعى وأبو ثور يجرى هذا الحكم سواء أكان فى المصر أو فى المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى .
وقال ابن المنذر هو كذلك لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة والكتاب على العموم وليس لأحد أن يخرج من عموم الآية قوما بغير حجة .
وقالت طائفة لا تكون المحاربة فى المصر إنما تكون خارجة عن المصر وهو قول النووى وإسحق والنعمان - واختلفوا فى حكم المحارب .
فقالت طائفة يقام عليه بقدر فعله وقال أبو ثور ومالك وقد روى عن كثير من الصحابة أن الإمام مخير فى الحكم على المحاربين .
واستدلوا بظاهر الآية قال ابن عباس ما كان فى القرآن - أو - فصاحبه بالخيار وهذا القول أشعر بظاهر الآية .
ومما تقدم يظهر أن فى حكم الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا قولين أحدهما أنه يحكم على كل بقدر فعله .
والثانى أن الإمام مخير فى الحكم عليهم بإحدى العقوبات الواردة فى الآية ومنها القتل، وأن القول الثانى هو المتفق مع ظاهر الآية الكريمة .
والحكمة فى تشديد العقوبة على المحاربين لله ورسوله أى لأوليائهم وهم المسلمون - ويسعون فى الأرض فسادا هو ضمان أمن المسلمين فى بلادهم .
ومن يتجسس على المسلمين ويتصل بأعدائهم ويعطيهم علما بأسرار عسكرية سرية لينتفعوا بها فى البطش بهم، وإلحاق الأذى والضرر ببلادهم جدير بأن نعامله معاملة من يحارب الله ورسوله ويسعى فى الأرض فسادا فلكل أمة نظمها العسكرية .
والمصلحة العامة تستلزم أن تحتفظ لنفسها بأسرار تخفيها عن أعدائها، ولا يعلمها إلا أهلها المتصلون بحكم عملهم بها .
فإذا سولت نفس أحد المواطنين له بأن يستطلع أمر هذه الأسرار بطرقه المختلفة - وينقلها إلى أعدائه وأعداء بلاده كان جاسوسا وكان ممن يسعى فى الأرض بالفساد ولأن من شأن اطلاع العدو على هذه الأسرار أن يسهل عليه محاربة المسلمين وتوهين قواهم، وربما آل الأمر إلى احتلال بلادهم لاقدر الله وبسط سلطانه ونفوذه عليها .
ولا نزاع فى أنه يبدو من الاطلاع على أوراق القضية أن المتهم الرابع هو المسئول الأول عن التجسس الذى ثبت ثبوتا لا مجال للشك فيه وأنه رضى بأن يبيع بلده وأمته لأعدائهم نظير ما كان يتقاضاه من الأجر الذى كان يعطى له نظير قيامه بهذه المهمة - بل إننا نرى أن شأنه من ناحية الخطورة والضرر الذى قد يصيب أمته من عمله أعظم من شأن من يقف فى الطريق ويقطعه على المارة ويهددهم فى أنفسهم وأموالهم .
وقد أجاز الحنفية القتل سياسة، فأجازوا قتل الساحر والزنديق الداعى، لأن كلا منهما يفسد فى الأرض بسعيه فى إفساد عقيدتهم .(2/465)
وقد جاء فى تنقيح الحامدية مانصه ( سئل فى رجل عدائى مفسد غماز يسعى فى الأرض بالفساد ويوقع الشر بين العباد ويغرى على أخذ الأموال بالباطل وذبح العباد ويؤذى المسلمين بيده ولسانه ولا يرتدع عن تلك الأفعال إلا بالقتل فما حكمه - وأجاب صاحب التنقيح بأنه إذا كان كذلك أو خبرجم من المسلمين بذلك يقتل ويثاب قاتله لما فيه من دفع شره عن عباد الله - وجاء فى الجزء الأول من تفسير الإمام محمد عبده أنه جعل سد ذرائع الفساد والشر وتقرير المصالح وإقامة الحق والعدل فى تنازع الناس بعضهم مع بعض مناطا للتشريع، وأصلا من أصول الأحكام الاجتهادية وذلك لأن الله علل به شرعه للقتال ومنته على نبيه داود وجنده بالنصر على عدوهم، وما ترتب عليه من إيتائه الحكم والنبوة إذ قال { فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين } البقرة 251 ، وفى معناه تعليل الإذن للمسلمين فى القتال أول مرة بقوله تعالى { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير .
الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز } الحج 39 ، 40 ، وما هنا أعم لأنه يشمل درء المفسدة فى الدين وغيرها من الفساد الدينى والدنيوى وهو المتأخر فى النزول - ومن هنا نعرف أن درء المفاسد والشرور عن المسلمين من الواجبات التى يجب على ولى الأمر أن يوليها ما تستحق من العناية - ولا نزاع فى أن الجاسوسية من أخطر الأعمال التى تعرض البلاد للفساد والشر والضرر إذا لم يضرب بيد قوية على من تسول له نفسه أن يقدم عليها غير مراع فى عمله حرمة دينه وبلاده وأهله ووطنه، ومالهم عليه من حقوق أقلها أن يكون مواطنا صالحا يتعاون معهم على البر والخير، ولا يتعاون على الإثم والعدوان .
ولهذا كله نرى مطمئنين إلى فتوانا أنه يجوز قتل المتهم المذكور .
والله أعلم
==================
طلاق معلق بكناية من كناياته وردة عن الإسلام
المفتي
حسن مأمون .
ربيع الثانى سنة 1375 هجرية - 19 نوفمبر 1955م
المبادئ
1 - الطلاق المعلق كناية من كناياته ان قصد به الحمل على فعل شىء أو تركه فقط لا يقع به شىء من الطلاق .
وأن قصد به الطلاق عند عدم تنفيذ المحلوف عليه وقع الطلاق .
2 - شرط صحة ردة المسلم عن الإسلام العقل والصحو والطوع فردة المجنون والمعتوه والمدهوش غير معتبرة ومتى كانت كذلك فلا ينفسخ بها عقد الزواج
السؤال
من السيد / ع م س أنه سلم زوجته مبلغ عشرين جنيها أمانة لأصحابها عنده لتحفظها ولما حل ميعاد طلبها منا أحضرت له ستة عشر جنيها منها فقط فثار عليها وحلف قائلا ( والله أن ماكنتيش تجيبى الأمانة دى تكونى على ذمة نفسك مش على ذمتى ) .
وقال أيضا أثناء ثورته وبدون وعى منه ( أنت كفرتينى وضربت نفسى بالنعال، أنا خلاص خرجت من دين المسلمين لدين النصارى ) وقال أنه لم يدرك العقل فى ثورته ولا يقر ما أتاه ولا يقيم عليه بضمير خالص لله - وطلب بيان الحكم الشرعى لما صدر منه
الجواب
أنه يظهر من قول السائل لزوجته بعد أن ظهر لها أنها تصرفت فى جزء من الأمانة التى أودعها عندها ( والله أن ماكنتيش تجيبى الأمانة دى تكونى على ذمة نفسك ومش على ذمتى ) أنه علق طلاقها على عدم الاتيان بباقى الأمانة الذى تصرفت فيه منها، فهو طلاق معلق وحكمه أنه اذا قصد به مجرد حمل زوجته على الاتيان بالأمانة كاملة فلا يقع به شىء، واذا قصد به تطليقها اذا لم تنفذ ما طلبه منها وقع طلاق رجعى .
ويبدو مما جاء بسؤاله أنه أراد بهذه الصيغة حملها على الاتيان بمبلغ العشرين جنيها فورا بدليل أنه ثار لمجرد علمه بأنها لم تحتفظ بالأمانة كاملة الى وقت طلبها، ولا يقصد بها رد الأمانة فى أى وقت ولو طال بها الأجل - كما يظهر أنه علق طلاقها على رد الأمانة ليحملها على المبادرة باكمالها ليتمكن من ردها لأصحابها كاملة حين طلبهم أياها منه، ومع هذا فالأمر موكول إلى غرضه وقصده من تعليق الطلاق المذكور فان قصد به الحمل فقط لم يقع به شىء من الطلاق وان قصد به وقوع الطلاق عند عدم الاتيان بالأمانة كاملة فورا وقع به طلاق رجعى واحد .
كما سبق أن بينا . هذا بالنسبة ليمين الطلاق المذكور - وأما قوله أثناء ثورته وبدون وعى ( أنت كفرتينى وضربت نفسى بالنعال وقوله أيضا أنا خلاص خرجت من دين المسلمين لدين النصارى ) فلا يعتبر ردة ينفسخ بها عقد النكاح بينه وبين زوجته لصدوره منه بدون وعى كما يقول، أى أن ثورته أفقدته عقله فنطق بما صحة ردة المسلم عن الإسلام العقل والصحو والطوع وعلى عدم صحة ردة مجنون ومعتوه ومدهوش، ولكننا مع هذا ننصح السائل بأن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى مما نطق به بدون وعى وأن يملك نفسه عند الغضب حتى لا يتعرض لمثل هذا الموقف الذى لا يليق بالمسلم والله الهادى إلى سبيل الرشاد
=============
المرتدة ليست أهلا للحضانة
المفتي
أحمد هريدى .
26 ديسمبر 1967 م
المبادئ
1 - بمجرد ردة الزوجة المسلمة تقع الفرقة بينها وبين زوجها المسلم دون توقف على القضاء بذلك .
2 - المرتدة ليست أهلا للحضانة لأن جزاءها الحبس حتى التوبة أو الموت ولو كان الصغير فى سن حضانة النساء .
3 - إذا كان الصغير فى يدها يجب عليها تسليمه إلى من يليها فى هذا الحق، ومن حق الأب تسلمه إذا لم يوجد له أو لم يتقدم أحد لحضانته من غيرها من النساء .
4 - بامتناعها عن تسليمه تؤمر من القاضى بذلك إذا رفع الأمر إليه
السؤال(2/466)
من السيد/ قال إن مصريا مسلما تزوج بإنجليزية بعد أن أسلمت وأشهرت إسلامها أمام الجهة المختصة، واستمرت علاقتهما الزوجية مدة اثنى عشر عاما أنجبا خلالها ذكرا سنة ثلاث سنوات وأنثى سنها سبع سنوات، وقضت ظروف عملهما أن يذهبا إلى انجلترا، وهناك أعلنت الزوجة ارتدادها عن الإسلام، ورفعت بناء على ذلك دعوى أمام محاكم إنجلترا طالبة تطليقها منه، وقد احتفظت بالولدين معها، وتحاول أن تخفيهما عن والدهما .
وطلب السائل الإفادة عن الحكم الشرعى فيما يأتى أولا هل للزوجة المسلمة التى ترتد عن الدين الإسلامى الحق فى حضانة أولادها ثانيا هل تصبح طالقة بعد ارتدادها عن الإسلام دون توقف على حكم بذلك ثالثا ما حكم الإسلام فى الزوجة التى تهرب من منزل زوجها إلى مكان غير معلوم وتخفى فيه أولادها .
أى بالنسبة لحضانة هؤلاء الأولاد رابعا ما حكم الشريعة فى ديانة هؤلاء الأولاد مع العلم بأن والدهم مسلم وأمهم مرتدة عن الإسلام
الجواب
المقرر فى مذهب الحنفية المعمول به فى الجمهورية العربية المتحدة أنه بمجرد ردة الزوجة المسلمة تقع الفرقة بينها وبين زوجها المسلم دون توقف على صدور حكم بذلك من القضاء .
وأن حق الحضانة يثبت للنساء من حين ولادة الصغير إلى سن معينة حددت بسبع سنين بالنسبة للصغير وتسع سنين بالنسبة للصغيرة .
ولا يتشرط فى حاضنة الولد المسلم أن تكون مسلمة، بل يثبت لها هذا الحق ولو كانت غير مسلمة، لأن الشفقة الطبيعية لا تختلف بالإسلام وغيره متى كانت أهلا لذلك بأن كانت بالغة عاقلة أمينة على الصغير قادرة على تربيته ورعايته، وأن لا تكون متزوجة بغير ذى رحم من الصغير، وأن لا تعيش به مع من يبغضه، ويبقى الولد فى يدها إلى سن التمييز فإذا بلغ من السن حدا يعقل فيه الأديان ويميز الطقوس والعبادات وخيف عليه أن يألف ديانتها ويتعود أعمال عبادتها ينزع من يدها قبل سن التمييز والمرتدة ليست أهلا للحضانة لأن جزاءها الحبس حتى تتوب أو تموت، فلا تصلح لحضانة الطفل وتربيته ما بقيت على ردتها، ولأنها برجوعها عن الإسلام تكون مبغضة لدين الطفل المسلم ولا تؤمن أن توجهه إلى غير الإسلام فينزع من يدها محافظة عليه .
والولد يتبع خير الأبوين دينا .
والأب فى حادثة السؤال مسلم، والأم كانت مسلمة وقد ولد الولدان من أبوين مسلمين فيكونان مسلمين، ولا تأثير لردة أمهما بعد ذلك على ديانتهما، ولا حق لأمهما فى حضانتهما فى حضانتهما مطلقا أيا كانت سنهما، ويجب عليها أن تسلمهما إلى من له حق حضانتها شرعا، ومن حق الأب أن يطلبهما إذا لم يتقدم أحد من أصحاب حق الحضانة لطلبهما، ومن واجب الأم أن تسلمهما إليه، وإن امتنعت عن ذلك يأمرها القاضى بالتسليم إذا رفع الأمر إليه .
ومما ذكر يعلم الجواب عن السؤال . والله أعلم
=============
اعتناق المذهب البهائى ردة مانعة من الإرث
المفتي
أحمد هريدى .
ربيع الأول سنة 1380 هجرية - 18 سبتمبر سنة 1960 م
المبادئ
1 - اعتناق الابن المذهب البهائى قبل وفاة والده المسلم مانع له من الميراث .
2 - بوفاة المورث عن زوجته وأولاده المسلمين وابنه البهائى يكون لزوجته الثمن فرضا ولأولاده المسلمين الباقى تعصيبا .
للذكر منهم ضعف الأنثى ولا شئ لابنه البهائى
السؤال
من السيد / أحمد مصطفى بطلبه المتضمن أن الدسوقى السيد ( المسلم ) توفى بتاريخ 13 يناير سنة 1934 عن زوجته وأولاده ذكورا وإناثا فقط وأن له ولدا من أولاده يدعى عوض اعتنق البهائية قبل وفاة والده ولا يزال بهائيا للآن وطلب بيان ورثته ونصيب كل وارث
الجواب
بوفاة الدسوقى السيد فى سنة 1934 عن المذكورين سابقا يكون لزوجته من تركته الثمن فرضا لوجود الفرع الوارث ولأولاده المسلمين الباقى تعصيبا للذكر منهم ضعف الأنثى ولا شئ لابنه عوض الذى اعتنق البهائية قبل وفاة والده واستمر معتنقا لها إلى الآن لأنه باعتناقه لمذهب البهائى يكون مرتدا عن الإسلام والمرتد لا يرث أحدا من أقاربه أصلا كما هو منصوص عليه شرعا .
وهذا إذا لم يكن لمتوفى وارث آخر والله أعلم
=============
عودة المرتد إلى الإسلام
المفتي
حسن مأمون .
جمادى الثانية 1378 هجرية - 9 مارس 1958 م
المبادئ
1- ردة من أسلم ثم إشهاده بعودته إلى الإسلام صحيح وبه يكون مسلما، ولا أثر لردته السابقة، وتعود به إليه عصمة نفسه وماله .
2- تقديم طلب منه إلى البطريركية برجوعه إلى المسيحية وعدم متابعته له ثم إشهار إسلامه بتاريخ لاحق له يعتبر به طلبه كأن لم يكن ولا أثر له على إسلامه الثانى من صدور قرار فى غيبته بقبول عودته إلى المسيحية .
3- عقده على مطلقته المسلمة بعقد ومهر جديدين صحيح شرعا
السؤال
من السيدة/ بالطلب المقيد برقم 2526 سنة 1958 المضموم إليه الطلب المقدم من زوجها السيد / المقيم معها قالت إن زوجها المذكور كان مسيحيا قبل أن يتزوج منها وأشهر إسلامه بتاريخ 7/12/1957 بإشهاد رقم 15978 سنة 1957، ثم تزوجت به بتاريخ 8/12/1957 لدى المأذون .
وبتاريخ 11/7/1958 طلقها نظير الإبراء بإلحاح وضغط أهلها وهو لايزال مسلما .
ثم بتاريخ 15/7/1958 تقدم إلى البطريركية بطلب رجوعه إسلامه بالإشهاد، ولم يتابع إجراءات هذا الطلب، ثم بتاريخ 9/8/1958 جدد إسلامه بالإشهاد رقم 9545، وعقد عليها من جديد بتاريخ 10/8/1958، ثم بتاريخ 7/10/1958 قرر المجلس الإكليركى للأقباط الأرثوذكسى قبول رجوعه إلى المسيحية فى غيبته بناء على طلبه السابق المؤرخ 15/7/1958 الذى تبرأ منه .
وسألا عن حكم الزواج القائم بينهما الآن فى ضوء هذه الوقائع
الجواب(2/467)
إن المنصوص عليه شرعا أن المرتد هو الراجع عن دين الإسلام بإجراء كلمة الكفر على لسانه بعد الإيمان وهو عاقل صحيح غير مكره على إجرائها وحكمه أنه يعرض عليه الإسلام وتكشف شبهته إن كانت له شبهة، فإن تاب بأن أتى بالشهادتين، وتبرأ عن كل دين سوى دين الإسلام صار مسلما كما كان وتعود إليه عصمة نفسه بمجرد رجوعه إلى الإسلام وكذا عصمة ماله لأنها تابعة لعصمة نفسه .
ومادام أن زوج السائلة قد جدد إسلامه ثانية بمقتضى الإشهاد رقم 9545 بتاريخ 9/8/1958 فإنه على فرض أنه ارتد فعلا بعد إسلامه الأول يكون بذلك راجعا إلى الإسلام، ويصبح وكأنه لم يرتد أصلا .
هذا - وصدور قرار من المجلس الإكليريكى بتاريخ 7/10/1958 بقبول رجوعه إلى الديانه المسيحية بناء على طلبه المشار إليه المقدم منه بتاريخ 15/7/1958 لا يغير من الواقع شيئا، وأن هذا الزوج قد عاد إلى الإسلام وأصبح مسلما فعلا بمقتضى الإشهاد الثانى الصادر بتاريخ 9/8/1958 ولايزال مصرا على الإسلام، كما يتضح ذلك من طلبه، فلا يخرج منه بقرار من المجلس المذكور فى حالة غيبته، وأيضا فإن النص الشرعى يقضى بأن المرتد عن الدين الإسلامى لا دين له، فلا يقبل منه شرعا غير دين الإسلام .
فإن أسلم فبها، وإلا وجب قتله شرعا .
عملا بقوله عليه الصلاة والسلام من بدل دينه فاقتلوه - فقرار المجلس المشار إليه باطل شرعا ونظاما ولا أثر له .
هذا بالنسبة لإسلام هذا الزوج . وأما بالنسبة لعلاقة زوجته (الطالبة) به شرعا فإنه بعد أن تزوجها وهو مسلم فى المرة الأولى طلقها وهو مسلم أيضا نظير الإبراء بتاريخ 11/7/1958 وبذلك بانت منه بينونة صغرى، ثم أعادها إلى عصمته بعقد جديد بتاريخ 10/8/1958 بعد تجديد إسلامه فى 9/8/1958 فيكون زواجه الثانى منها صحيحا شرعا .
والله أعلم
============
الإسلام الثابت لا يزول بالشك
المفتي
جاد الحق على جاد الحق .
صفر 1399 هجرية - 21 يناير 1979 م
المبادئ
1 - المقرر شرعا أن المسلم يعتبر مرتدا عن الإسلام إذا نطق بكلمة الكفر صريحا، أو تلفظ بما يقتضى الكفر لجحوده حكما معلوما بالضرورة فى الإسلام .
2 - متى ثبت ارتداد المسلم عن الإسلام على هذا الوجه ترتبت عليه الآثار المقررة شرعا .
3 - من اعتنق الإسلام قانعا مختارا، أو أشهر ذلك رسميا، واخذت الشركة التى يعمل بها التغييرات اللازمة بوصفه مسلما، ثم تقدم إلى الشركة تحت ضغط رجال الدين المسيحى طالبا إعادة اسمه إلى ما كان عليه لا يعتبر ذلك منه ردة، وعلى الشركة ألا تسايره فيما طلب
السؤال
بالطلب المقدم من الشركة المصرية لتعبئة الزاجات المؤرخ 22/5/1977 المقيد برقم 187 سنة 1977 المتضمن أن شخصا اعتنق الدين الإسلامى بموجب إشهاد رسمى رقم 7100 بتاريخ 16/6/1975 وغير اسمه وتقدم بطلب لإدارة الشركة التى يعمل بها لاتخاذ اللازم لإخطار الجهات الرسمية بهذا التغيير، وفعلا تم تغيير الاسم فى سجلات الشركة، وأثناء اتخاذ باقى الإجراءات بالنسبة للتأمينات الاجتماعية عاد هذا الشخص وقد طلبا بأنه وقع تحت ضغوط رجال الدين المسيحى وتسلموا منه إشهار الإسلام بعد أن وقع عليه بالتنازل - كما قدم طلبا للشركة لإعادة اسمه إلى ما كان عليه لإنهاء المشاكل المترتبة على إشهار إسلامه، بعد أن قرر أن إسلامه لا رجوع فيه، وأنه فى القلب وأمره مع الله سبحانه وتعالى .
وقد طلبت منه الشركة أن يقوم بإلغاء إشهار إسلامه فلم يتمكن .
وطلب السائل بيان الحكم الشرعى فى هذا الموضوع، وهل يجوز أن تعيد الشركة اسمه إلى ما كان عليه أم يظل كما هو بالاسم الجديد
الجواب
المقرر شرعا أن المسلم يعتبر مرتدا عن الإسلام إذا نطق بكلمة الكفر صريحا أو تلفظ بما يقتضى الكفر لجحوده حكما معلوما بالضرورة فى الإسلام، كما إذا أنكر فرضية الصلوات الخمس، أو صلاة الجمعة، أو صوم شهر رمضان، أو استحل الزنا، أو فعل ما يقتضى الكفر .
ومتى ثبت ارتداد المسلم عن الإسلام على هذا الوجه ترتب عليه الآثار المقررة شرعا .
ولما كان الظاهر من السؤال أن الشخص المسئول عنه قد اعتنق الإسلام طائعا مختارا وأشهر ذلك رسميا، واتخذت الشركة التغييرات اللازمة فى سجلاتها بوصفه مسلما، ثم إنه تقدم بطلب آخر راغبا العودة إلى اسمه الأول ج - س - ز - وأن هذا كان لوقوعه تحت ضغط رجال الدين المسيحى الذين تسلموا منه إشهار الإسلام بعد أن وقع عليه بالتنازل .
لما كان ذلك فإن هذا لا يعتبر ردة عن الإسلام بالمعنى السابق ذكره، لأن المقرر شرعا أن الرجل المسلم لا يخرجه عن الإسلام إلا جحود ما أدخله فيه، ثم ما ثبت يقينا أنه ردة، إذ الإسلام الثابت لا يزول بالشك .
وعلى ذلك فلا يجوز للشركة أن تسايره فيما طلب . ومن هذا يعلم الجواب إذا كان الحال كما ورد بالسؤال .
والله سبحانه وتعالى أعلم
=============
ردة
المفتي
حسن مأمون .
محرم 1379 هجرية - 27 يولية 1959 م
المبادئ
1- من الثابت شرعا أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين .
2- من قال بظهور نبى بعده فهو مرتد عن الإسلام ولا يرث من مسلم ولا يجوز أن يكون وكيلا أو وليا على أحد من أقاربه المسلمين
السؤال
بالطلب المقيد برقم 170 لسنة 1959 المتضمن أن جماعة من المسلمين يسمون باسم خاص بهم ويقيمون فى إحدى البلاد الإسلامية يؤمنون بنزل نبى فى باكستان بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
وطلب السائل بيان الحكم الشرعى فى هذه الطائف، وهل يجوز لأحد منهم أن يرث أباه المسلم وهل يجوز أن يكون وكيلا أو وليا عن أشقائه المسلمين أولا
الجواب
إن من الثابت شرعا أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين وثبوت ذلك بالكتاب والسنة والإجماع .(2/468)
فمن قال بظهور نبى بعده نص الفقهاء على أن يكون مرتدا، وحكم المرتد أنه لا يرث من أبيه المسلم ولا من أحد أقاربه المسلمين، ولا يجوز شرعا أن يكون وكيلا أو وليا على أحد منهم لأنه لا ملة له .
ومن هذا يعلم الجواب عن السؤال حيث كان ما ذكر به صحيح وثابتا والله أعلم
===============
اعتناق الدين البهائى ردة عن الإسلام
المفتي
أحمد هريدى .
25 مارس 1968 م
المبادئ
1- من اعتنق الدين البهائى يكون مرتدا عن الإسلام .
2- يستتاب ويعرض عليه الإسلام وتكشف شبهته إن كانت، فإن تاب فبها وإلا قتل شرعا .
3- لا مانع من إحالة أوراقه إلى مصلحة الشهر العقارى والتوثيق لعمل إشهاد توبة له
السؤال
طلبت مديرية أمن الغربية قسم السكرتارية بكتابها رقم 2042 بمرفقاته الإفادة بما يتبع نحو التماس المواطن السيد/ .
اعتناق الدين الإسلامى الحنيف لسابقة انتسابه لطائفة البهائيين، وأنه ثابت بكل من شهادة ميلاده وبطاقته الشخصية أنه مسلم
الجواب
إن السيد أ س ج (موضوع السؤال) كان فى الأصل مسلما من أبوين مسلمين وثابت فى شهادة ميلاده وبطاقته الشخصية أنه مسلم ثم اعتنق الدين البهائى أو نسب إليه اعتناقه كما يقول هو - ومن اعتنق الدين البهائى يكون مرتدا عن الدين الإسلامى، وحكم المرتد شرعا أنه يستتاب ويعرض عليه الإسلام وتكشف شبهته إن كانت فإن تاب فبها وإلا قتل شرعا .
وبما أن المذكور يريد التوبة والعودة إلى دينه الأصلى (الإسلام) وقد كان العمل جاريا قبل إلغاء المحاكم الشرعية على أن من خرج عن أحكام الدين الإسلام ثم أراد التوبة يعمل له إشهاد توبة أمامها ويسجل فى الدفاتر والمضابط الرسمية ولما ألغيت المحاكم الشرعية أحيلت أعمال التوثيق بها فى مصلحة الشهر العقارى والتوثيق، ولا مانع مطلقا من إحالة الأوراق إلى مصلحة الشهر العقارى والتوثيق لعمل إشهاد توبة للشخص المذكور أمامها .
والله أعلم
==============
أحوال النبى عيسى عليه السلام
المفتي
جاد الحق على جاد الحق .
جمادى الأولى 1399 هجرية - 24 أبريل 1979 م
المبادئ
1 - رفع الله سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام من بين أعدائه فلم يقتلوه ولم يصلبوه كما يزعم من يزعم الآن وقد التبس أمره على خصومه وقت القبض عليه بالاشتباه الذى كان سببا فى نجاته منهم .
2 - ينبغى الوقوف عند حد المسكوت عن بيانه فى آيات القرآن الكريم .
3 - نفى القتل والصلب عن عيسى عليه السلام وإثبات رفعه لا يجوز جحوده ومن جحده كان مرتدا .
4 - جمهور أهل العلم على أن عيسى عليه السلام حى عند الله تعالى حياة لم تثبت كيفيتها ولا طبيعتها .
5 - العقيدة الإسلامية إنما تثبت بالأدلة القطعية الثبوت والدلالة من القرآن والسنة ونزول عيسى عليه السلام لم يثبت بدليل قطعى الثبوت والدلالة من القرآن والسنة فمن حجد ذلك لا يكون به مرتدا .
6 - ما ورد من الأحاديث الدالة على نزول عيسى عليه السلام وأن ذلك من علامات الساعة تقبلها جمهور العلماء بقبول حسن .
7 - القول بموت عيسى عليه السلام فعلا من الاعتقاد برفعه إلى الله سبحانه وتعالى وعدم قتله وصلبه لا يقتضى ردة صاحب هذا القول .
8 - ليس هناك ما يؤكد أن عيسى عليه السلام قد نشر دعوته فى الهند وأفغانستان والسند وإيران، وإنما انتشر ذلك بفعل اتباعه وجهدهم .
9 - الترجمة الحرفية للقرآن الكريم غير جائزة شرعا
السؤال
بالكتاب الوارد من / عميد معهد علوم الشريعة الإسلامية - بجنوب أفريقيا - بتاريخ 10 من ذى القعدة سنة 1398 هجرية الموافق 3/10/78 م والمقيد برقم 284/1978 المطلوب به فتوى عن أحوال النبى عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلوات وأتم التسليم - والمحدد به الأسئلة التالية : 1 - ما هو حال النبى عيسى وفق الكتاب والسنة الشريفة الثابتة .
2 - ما حكم من قال ان عيسى قد مات .
3 - هل توجد أية أدلة تدل على أن عيسى قد نشر دعوته لأناس فى الهند وأفغانستان والسند وإيران .
4 - لماذا لم تطبع ترجمة القرآن الكريم فى دولة إسلامية إذ أن الترجمة التى نشرها أساتذة مسلمون من الهند بينهم من يدعى / محمد أسد - جاء فيها أن النبى عيسى عليه السلام مات وأن اعتقاد المسلمين فى عودته خطأ
الجواب
إن القرآن الكريم قد أخبر بنهاية أمر عيسى السلام مع قومه فلا ثلاث سور على الوجه التالى : 1 - قال الله تعالى فى سورة آل عمران { فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين .
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين .
إذ قال الله يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } آل عمران 52 - 55 .
2 - قال الله تعالى فى سورة النساء { وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفى شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا .
بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما } النساء 157 ، 158 .
3 - قال الله تعالى فى سورة المائدة { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما فى نفسى ولا أعلم ما فى نفسك إنك أنت علام الغيوب
ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شىء شهيد } المائدة 116 ، 117 ، صدق الله العظيم .
تأويل قوله تعالى { متوفيك } وأصل مادة توفى فى لغة العرب .(2/469)
لفظ { إنى متوفيك } فى آيات سورة آل عمران ولفظ { فلما توفيتنى } فى آيات سورة المائدة لامتبادر منهما أن عيسى عليه السلام قد مات لن كلمة (توفى) وردت فى القرآن الكريم بمعنى الموت، حتى صار هذا المعنى هو المتبادر منها عند النطق بها، كما يأتى لفظ (توفيت) فى اللغة بمعنى القبض والأخذ، وعلى هذا يكون معنى { إنى متوفيك } ، { فلما توفيتنى } إنى قابضك من الأرض ، كما يقال توفيت من فلان ما لى عليه بمعنى قبضته واستوفيته - ويأتى لفظ (يتوفى) بمعنى النوم كما فى قوله تعالى فى سورة الأنعام فى الآية 60 (وهو الذى يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم غليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم بعملون)
ففى هذه الآية جاء لفظ (يتوفى)، مقصودا به النوم، كما استعمل لفظ (يبعث) - الذى يشير عادة إلى البعث فى الحياة الأخرى بعد الموت فى الدنيا - بمعنى الأيقاظ من النوم وعلى هذا فإنه يمكن أن يقصد بلفظ (إنى متوفيك) و (فلما توفيتنى) معنى النوم أيضا بدلا من الوفاة بمعنى الموت السابق ذكره .
تأويل قول الله { ورافعك إلى } { بل رفعه الله إليه } فلفظ { ورافعك إلى } فى آيات آل عمران و { بل رفعه الله إليه } فى آيات سورة النساء فسره جمهور المفسرين على أن الله رفع عيسى عليه السلام إلى السماء - واللفظ الأخير { بل رفعه الله إليه } اخبار عن تحقيق ما وعد الله به فى آيات آل عمران بقوله تعالى { إنى متوفيك ورافعك إلى } وقد جاء لفظ الرفع فى القرآن الكريم بالرفع المادى المعنى الذى يدل على التشريف والتكريم، وإذا كان القول بالرفع المادى هو المقبول لأن به نجاة عيسى عليه السلام من أعدائه فعلا روحا وجسدا لزم عليه أن يسبق هذا الرفع المادى موته حيقيقة أو حكما بالنوم، لأن فى رفعه حيا بحياته العادية فى الدنيا تعذيبا له لما علم الآن بالتجربة العلمية من أن الإنسان كلما صعد فى الجو إلى أعلى ضاق صدره لقلة الاكسوجين فى الهواء كما يقول العلماء التجريبيون الآن .
ولعل الآية الكريمة فى سورة الأنعام تشير إلى صدق هذه التجربة العلمية ( يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد فى السماء) من الآية رقم 125 .
فجماع ما تقدم يشير إلى أن الله سبحانه وتعالى رفع عيسى عليه السلام وأنجاه من القتل والصلب، يعنى أنه توفاه وأماته إما حقيقة أو حكما بالنوم ليعفيه ويجنبه بهذه التوفية أقسى العذاب الذى يتعرض له الجسد الإنسانى الحى لو صعد بحالته العادية فى الدنيا إلى السماء، أو أنه رفع حيا وما زال كذلك حياة لا تدرى طبيعتها .
تأويل قوله تعالى { ولكن شبه لهم } فلفظ { ولكن شبه لهم } فى آيات سورة النساء السابق تلاوتها اختلف المفسرون فى صفة التشبيه وكيفيته - على ما حكاه الطبرى فى تفسيره - فقال بعضهم إن اليهود حين أحاطوا بعيسى عليه السلام مع أصحابه لم يكونوا يعرفونه بشخصه وأشكل عليهم استخراجه بذاته من بين من كانوا معه لأن الله حولهم جيمعا إلى شبه عيسى وصورته ، ولذلك ظنوا أن من قتلوه هو عيسى وليس كذلك .
وقال آخرون ان شبه عيسى ألقى على أحد أصحباه فأخذه اليهود وقتلوه .
ويأتى لفظ (شبه) فى اللغة العربية بمعنى لبس الأمر من قولهم اشتبهت الأمور وتشابهت التبست فلم تتميز ولم تظهر ومنه اشتبهت القبلة ونحوها أى لم تتبين جهتها - ومعنى (ولكن شبه لهم) على هذا أن الأمر بشأن المصلوب لبس على من قبضوا عليه وحاكموه ومن صلبوه، وأن الذى جعل الأمر يلتبس عليهم أن الله قد خلص المسيح عليه السلام ورفعه إليه دون أن يدرك ذلك من حضروا للقبض عليه بعد أن التبس عليهم شخصه وذاته فواقع المر قد لبس عليهم أو التبس واختلط فلم يدركوا ذات المسيح عليه السلام .
ويمكن أن يقال أيضا إن قوله تعالى { ولكن شبه لهم } معناه أى وقعت الشبهة لهم فظنوا أنهم قتلوه مع أنهم قتلوا غيره ظانين أنه هو .
وقد كذب الله سبحانه وتعالى وهمهم بقوله { وما قتلوه وما صلبوه } كما زعموا ولكن وقعت لهم شبهة فى ذاته فقتلوا وصلبوا غيره .
ومن هذا العرض لما تحمله هذه الآيات فى شأن وفاة عيسى عليه السلام وهل كانت وفاة موت أو وفاة نوم أو وفاة قبض ونقل ورفع وما يحتمله قوله تعالى { ورافعك } وقوله { بل رفعه الله إليه } من الرفع المادى بمعنى أنه نقله بذاته وجسمه من بين من أرادوا القبض عليه وقتله فلم يمكنهم منه أو أن الرفع أدبى ومعنوى رفع مكانة وتشريف وما قيل فى قوله تعالى { ولكن شبه لهم } من هذا يظهر اختلاف العلماء فى شأن عيسى عليه السلام .
المختار من هذه التأويلات والذى اختاره أن الله سبحانه وتعالى قد رفع عيسى عليه السلام من بين أعدائه ولم يمكنهم من القبض عليه فلم يقتلوه ولم يصلبوه كما يزعم أتباعه الآن وأن أمره التبس واشتبه على خصومه بأى طريق من طرق التلبس بالاشتباه التى أرادها الله سبحانه وأنجاه الله بها ولم تفصح الآيات المتلوة آنفا عن هذا الطريق بل جاء الفعل (شبه) بالبناء للمجهول الأم الذى كثرت فى بيانه واستبانته الأفهام، ومن الحكمة وحسن التأويل لآيات القرآن الكريم الوقوف عند ما سكتت عن بيانه والكف عن استكشاف مالا طائل وراءه لأنه غير ثابت فطعا - إذ المر الذى تفيده قطعا تلك الآيات أن الله تعالى لم يمكن اليهود من قتل عيسى عليه السلام وصلبه ولكن شبه لهم والتبس أمره عليهم فلم يعرفوا ذاته وقطع القرآن فى رفعه من بين أظهرهم واستخلاصه من أيديهم بقوله تعالى { وما قتلوه يقينا .(2/470)
بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما } ما يجب الإيمان به وبذلك تكون العقيدة الصحيحة للمسلم فى هذا هو ما قطعت به هذه الآية من نفى قتل عيسى عليه السلام وصلبه ومن إثبات رفعه إلى الله تعالى، فهذا القدر لا يجوز لمسلم جحوده، ويخرج عن الإسلام من اعتقد ما يقول المسيحيون الآن من قتل ذاات هذا النبى وصلبه .
أما رفعه عليه السلام حيا أو ميتا أو نائما إن كان حيا وما مكانه وما كيفية حياته وهيئتها فان هذا مما اختلف فى شأنه العماء إذ لم تفده آيات القرآن الكريم على وجه قطعى الدلالة .
وجمهور أهل العلم على أن عيسى عليه السلام حى عند الله تعالى حياة لم تثبت كيفيتها ولا طبيعتها مستدلين بما سنورده فيما يلى عن واقعة نزوله وعودته إلى الأرض .
نزول عيسى إلى الأرض يدل مجموع الأحاديث المروية فى كتب السنة على أن عيسى عليه السلام سينزل إلى الأرض داعيا بالإسلام وحاكما بشريعته ومتبعا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم .
من هذا ما أخرجه البخارى فى صحيحه فى كتاب الأنبياء عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذى نفسى بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فليكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية (أى يلغيها ولا يقبلها من أحد من أهل الأديان الأخرى إذ لا يقبل منهم غير الإسلام دينا) ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها ) ثم قال أبو هريرة أقرءوا إن شئتم قول الله تعالى { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا } النساء 159 ، وقد رواه مسلم فى صحيحه هكذا عن أبى هريرة وزاد أنه (يقتل الدجال) ما حكم من جحد نزول عيسى هذا الحديث الشريف وأمثاله ليس من الأدلة القطيعة الثبوت والدلالة لأنه ليس من المتواتر فلا يفيد قطعا نزول عيسى عليه السلام للأرض .
كذلك لم تفد آيات القرآن الكريم نزوله على وجه قاطع، وإن كانت الآيتان 159 من سورة النساء، 61 من سورة الزخرف تحتملان الدلالة على هذا فى أحد التأويلات الكثيرة لكل منهما والتى أوردها الكبرى فى تفسيره .
ولما كانت أسس العقيدة الإسلامية إنما تثبت بالدليل القطعى الثبوت والدلالة من القرآن والسنة .
فإن من جحد نزول عيسى عليه السلام وعودته إلى الأرض لا يخرج عن الإسلام ولا يعتبر كافرا لأن ماحجده غير ثابت بدليل قطعى من القرآن أو السنة .
ومع هذا فقد تقبل جمهور أهل العلم منذ حدث رواة هذا الحديث به وبأمثاله من الصحباه رضوان الله عليهم ومنذ أن دونت السنة الشريفة تقبلوا الأحاديث الشريفة الدلالة على نزول عيسى عليه السلام وعودته إلى الأرض قبولا حسنا وآمنوا بها وعدوا نزوله من أشراط الساعة وعلاماتها الكبرى .
وأختار طريق هؤلاء والاقتداء بهم باعتبار ذلك خبرا عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى مع عدم تكفير من يجحد نزول عيسى عليه السلام ما حكم من قال بموت عيسى ما كانت عبارة القرآن الكريم فى قوله تعالى { إنى متوفيك } فى آيات سورة آل عمران { فلما توفيتنى } فى سورة المائدة تحتمل الموت والنوم والاستيفاء والقبض على ما سبق بيانه فإنه مع هذه الاحتمالات تكون دلالة الآيات على حياته عليه السلام الآن غير قاطعة ، فمن قال من المسلمين بموته فعلا يكون متأولا لما يحتمل التأويل فلا يخرج بهذا القول من الإسلام ولا يعتبر كافرا ما دام معتقدا ومقرا بأن الله سبحانه وجلت قدرته قد رفعه إليه من بين أعدائه ولم يمكنهم من قتله وصلبه امتثالا وتصديقا لقوله تعالى { وما قتلوه يقينا .
بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما } هل نشر عيسى دعوته بالهند أما أن عيسى عليه السلام قد نشر دعوته فى الهند وأفغانستان والسند وإيران فليس هناك ما يؤكد هذا الزعم وإنما انتشرت بفعل أتباعه وجهدهم كما هو ملموس الآن من انتشار جماعات التبشير التى تلبس ثوب الإصلاح الاجتماعى والتطبيب العلاجى أو تفتح المدارس للتعليم فى المجتعمات التى تغلب فيها الأمية .
هل تجوز ترجمة القرآن الكريم أما عن ترجمة القرآن الكريم فإن الترجمة الحرفية لآيات القرآن الكريم غير جائزة شرعا، وإنما تجوز ترجمة المعنى والتفسير، فإذا وجدت ترجمة لفظية للقرآن فيجب ألا يعتمد عليها ولا تعتبر قرآنا .
وانا نأمل أن تقوم الجهات المعنية بترجمة تفسير مختار للقرآن الكريم بدلا من الترجمة المشار إليها فى السؤال وغيرها من الترجمات المنتشرة فى الغرب والشرق بيد المستشرقين أو بعض المسلمين الذين لا يحسنون صنعا .
والله الموفق والهادى إلى الصراط المستقيم وهو سبحانه وتعالى أعلم
==============
سب الديك
المفتي
عطية صقر .
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الدين فيمن يسبون الديك أو أى شىء آخر بدل أن يسبوا الدين ؟
الجواب
يجرى على ألسنة بعض الفساق عبارة سب الدين ، وذلك رِدة وكفر لها حكمها ، وأحيانا يقول الشخص "يلعن ديك أمك " وحكمه أنه إذا كانت نيتة سب الدين ولكن يتستر بلفظ الديك حتى لا يؤاخذه أحد عليه فهو مرتد عند اللّه سبحانه ، لأن الإنسان يحاسب عند ربه بحسب نيته ، أما بالنسبة لنا فلا نحكم عليه بالردة، لأننا مأمورون بالحكم بالظاهر ، والله يتولى السرائر .
وأحذر هؤلاء من هذه العبارة التى لو تعودوها فقد يصرحون بسب الدين وهنا يكون الكفر، مع أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن سب الديك فقال : "لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة" وفى لفظ "فإنه يدعو إلى الصلاة" رواه أحمد وابو داود وابن ماجه بإسناد جيد
===============
البيعة على الإسلام والهجرة
المفتي
عطية صقر .
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال(2/471)
جاء فى الأحاديث أن أعرابيا نقض البيعة مع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام والهجرة، فهل يعتبر ذلك ردة، وإذا كان ردة فلماذا لم يقم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم الحد ؟
الجواب
روى البخارى ومسلم عن جابر بن عبد اللّه أن أعرابيا بايع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأصاب الأعرابى وعْكٌ بالمدينة ، فقال : يا رسول اللّه أقلْنى بيعتى فأبى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، وتكرر الطلب والرفض ثلاث مرات ، فخرج الأعرابى فقال الرسول صلى الله عليه وسلم "إنما المدينة كالكير، تنفى خَبئَها ، وينْصعُ طيبها"والطيب بكسر الطاء هو الرائحة الحسنة ، وبفتحها وتشديد الياء هو الطاهر .
لم تصرح رواية مسلم بما بايع الأعرابى عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وصرحت رواية البخارى بأنه بايعه على الإسلام ، وجاء فى شرح النووى على صحيح مسلم أن المبايعة كانت على الإسلام والهجرة، وجاء فى فتح البارى لابن حجر أن طلب الإقالة من الأعرابى هل كان عن الإسلام والهجرة أم عن الهجرة فقط ؟ من المعلوم أن الهجرة إلى المدينة كانت واجبة قبل فتح مكة فى السنة الثامنة من الهجرة، ثم صارت بعد الفتح غير واجبة كما صح فى حديث البخارى ومسلم "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا" فتركها قبل الفتح معصية، وبعد فتحها ليس بمعصية .
ومن المعلوم أيضا أن جو المدينة لم يلائم كثيرا من الوافدين عليها ، وشكا بعض المهاجرين ذلك إلى النبى صلى الله عليه وسلم ومنهم أبو بكر وبلال رضى اللّه عنهما ، فدعا الرسول ربه أن يبارك فى المدينة كما بارك فى مكة أو أشد، كما رواه البخارى، ورغب في الصبر على شدتها وعدم مفارقتها .
والأعرابى الساكن فى البادية لما وفد إلى النبى بالمدينة وأسلم لم يعجبه جوها فطلب من الرسول إقالته فلم يُقِلْه ، فخرج الأعرابى من المدينة، واختلف العلماء فيما طلب الإقالة منه : هل هو الإسلام والهجرة، أو الهجرة فقط ؟ رجح جماعة أنه الهجرة فقط ، وذلك بعد سقوط فرضيتها بفتح مكة، لكن قيل : إذا كانت الهجرة سقطت فرضيتها فلماذا لم يأذن له الرسول بترك المدينة؟ أجيب بأن الرسول يحب لمن سكنها ألا يتركها حتى لو كان تركها مباحا، والرجل حين خرج منها بعد طلب الإقالة لم يرتكب إثما ، وإنما ارتكب خلاف الأولى، ولا عقوبة فى ذلك لا فى الآخرة ولا فى الدنيا .
وإذا كان طلبه الإقالة من الهجرة قبل فتح مكة كان تركه للمدينة معصية، والرسول لا يسمح بارتكاب المعصية حتى لو كانت صغيرة ، وهذه المعصية لا عقوبة عليها فى الدنيا مثل كثير من المعاصى كعقوق الوالدين والغيبة والنميمة وإن كانت لها عقوبة أخروية .
وقال جماعة : إن الأعرابى طلب الإقالة من الإسلام والهجرة ، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد رفض الإقالة من الهجرة على الوجه المبين من قبل ، فإنه يرفض الإقالة من الإسلام ، لأنها ردة .
وهنا يقال : لماذا لم يعاقبه الرسول على الردة؟ والجواب أن الأعرابى إذا خالف بالخروج من المدينة كما نص الحديث فإن رفضه للإسلام غير معلوم ، لأنه لا تلازم بين الإثنين ، وبخاصة أنه بيَّن فى طلبه عدم ملاءمة جو المدينة له فقط ، فيجوز أن يخرج من المدينة إلى البادية طلبا للصحة مع بقائه على الإسلام بعقيدته وشريعته .
ورفض الإسلام الذى يكون ردة أمر متعلق بالقلب والباطن ، لا يعلم إلا بقول يصرح فيه بالرفض والإنكار لأية عقيدة من عقائده ، أو بفعل يدل على ذلك كسجود لصنم أو إهانة المصحف بإلقائه مثلا فى القاذورات ، وبدون هذه الأمارات لا تعلم الردة ، كالمنافقين الذين تكفر قلوبهم ولا يصدر منهم قول أو فعل يصرح بما فى قلوبهم ، فكانوا يعاملون بظاهرهم معاملة المؤمنين .
والأعرابى لم يتبين للرسول منه ما يفيد رفضه للإسلام حتى يعامله معاملة المرتد،ومجرد خروجه من المدينة ونقض البيعة على الهجرة على فرض أنه من المعاصى الكبيرة لا يلزم منه الكفر، وحديث أبى ذر فى ذلك معروف ، فإن المؤمن مصيره الجنة ولا يخلد فى النار كالكافرين حتى لو سرق وزنا "رغم أنف أبى ذر" .
وما جاء من الأحاديث التى تنفى الإيمان عن مرتكب الكبائر مثل "لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن . . . " قال فيه العلماء : إن نفى الإيمان إما أن يكون نفيا لكماله ، وإما أن يكون نفيا لأصله إذا اعتقد أن الزنا حلال ، فإن اعتقاد حِلَّ ما حرمه اللّه تحريما قاطعا كفر، ولم يُعْلَم أن الأعرابى اعتقد أن ترك المدينة حلال على فرض أنه حرام ، ومن هنا لم يقم الرسول عليه حد الردة ، ولا يصح أن تكون هذه الواقعة مُتَكأً لمن يرفضون أن الردة يعاقب عليها بالقتل ، ويَدْعُون إلى الحرية فى اختيار أى دين ، والتحول من دين إلى آخر، أو عدم التقيد بأى دين ، تحقيقا للحرية المكفولة لكل إنسان . متجاهلين قول الله تعالى {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم فى الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خاسرون } البقرة : 217 ، وقوله {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين } آل عمران : 85 ، وقول النبى صلى الله عليه وسلم "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزانى والقاتل والتارك لدينه المفارق للجماعة" رواه البخارى ومسلم ، وقوله "من بدل دينه فاقتلوه " رواه البخارى
===============
حفظ الأسرار والتجسس
المفتي
عطية صقر .
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما رأى الدين فيمن يتجسسون على الناس لمعرفة أسرارهم ، وما حكم من ينقل الأخبار السرية للدولة لحساب دوله أخرى؟
الجواب(2/472)
إن المحافظة على الأسرار مرغوبة عقلا وشرعا ، ومحاولة الاطلاع عليها بأية وسيلة من الوسائل حذر منها الشرع أشد التحذير، قال تعالى { ولا تجسسوا}[ الحجرات : 12 ] وقال صلى الله عليه و سلم فيما رواه البخارى "من استمع خبر قوم وهم له كارهون صُبَّ فى أذنه الآنك ـ أي الرصاص المذاب ـ يوم القيامة "وفيما رواه أبو داود "لا يسأل الرجل فيم ضرب امرأته " وفيما رواه أحمد " إذا تناجى اثنان فلا يدخل بينهما الثالث إلا بإذنهما" .
وإفشاء الأسرار حرام ما لم تدع إليه ضرورة ، لأنه ضرر، والإسلام لاضرر فيه ولا ضرار، والأسرار فى خطورتها درجات ، ومن أخطرها ما يكون بين الزوجين من الأمور الخاصة ففى حديث مسلم " إن من أشر الناس منزلة يوم القيامة الرجل يفضى إلى المرأة وتفضى إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه " وكذلك أسرار البيوت التى يطلع عليها الخدم ومن يترددون عليها ، ومن أشدها خطرا ما كان خاصا بالدولة فى الأمور التى لا ينبغى أن تطلع عليها دولة أخرى، وعلى الأخص عند توتر العلاقات وقيام حالة الحرب بينهما فرب خبر بسيط يحرزُ به العدو نصرا مؤزرا إن حصل عليه ، أو يُهزمُ به هزيمة منكرة إن نقل عنه ، ومن احتياطات الرسول صلى الله عليه و سلم فى هذا المجال أنه كان يرسل السرية لاستطلاع أخبار العدو، ومع قائدها كتاب لا يفضه إلا بعد مسيرة يومين ليعرف المكان الذى يتوجه إليه ، حتى لا يتسرب الخبر إلى أحد من المدينة فيراسل العدو به ، وكان إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها ، ومن أعظم ما أثر فى عدم تمكين العدو من معرفة أسرار الدولة وصية أبى بكر لقائده شرحبيل ابن حسنة حيث قال له : وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرم مثواهم ، وأقلل حبسهم حتى يخرجوا من عندك وهم جاهلون بما عندك ، وامنع من قبلك من محادثتهم وليكن أنت الذى تلى كلامهم ، واستر فى عسكرك الأخبار، واصدق الله إذا لقيت ، ولا تجبن فيجبن سواك .
ومع هذه الاحتياطات للأسرار بين عقوبة من يفشيها ، فإلى جانب أنه خائن للأمانة التى استودعها ، غادر بالعهد الذى أخذ عليه أن يصون السر، اختلف الفقهاء فى قتله وبخاصة إذا اتخذ ذلك حرفة يعرف منها بأنه جاسوس ، وذلك بناء على ما حدث من حاطب بن أبى بلتعة حين أرسل خطابا إلى أهل مكة بتوجه النبى صلى الله عليه و سلم إليهم لفتحها ، وشاء الله أن يضبط هذا الخطاب مع المرأة التى حملته ، وقد اعتذر حاطب بأنه لم يرسله كفرا بالله ولا ردة عن الإسلام ولكن ليحمى أهله حيث لا نسب له فى مكة يحميهم كما يحمى غيرهم ، وحين هَم عمر بقتله منعه الرسول ، لأنه شهد بدرا، ولعل الله قال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، وحيث لا يوجد للجاسوس ما يوجد لحاطب من هذه المنقبة ذكر القرطبى فى تفسيره أن من نقل أخبار المسلمين إلى العدو ولم يستحل ذلك لم يكفر، ويترك أمره إلى الإمام ليعاقبه بما يراه ، كما قال مالك وابن القاسم وأشهب ، وقال عبد الملك إذا كانت عادته تلك قتل لأنه جاسوس ، ولإضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد فى الأرض ، كالذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون فى الأرض فسادا ، وعلى هذا الرأى بعض أصحاب أحمد وابن القيم ، والأحناف أجازوا قتله سياسة ، كما جاء فى بعض كتبهم جواز قتل كل من يؤذى المسلمين ولا يرتدع إلا بقتله
===============
السحر وخطره
يحيى بن موسى الزهراني
إمام الجامع الكبير بتبوك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب الأرض والسموات ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، عظيم الخيرات وكثير البركات ، كفر السحرة والساحرات ، وتوعدهم بأشد العقوبات ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله حذر من السحر وعده من السبع الموبقات ، عليه من ربه أفضل سلام ، وأعطر صلوات . . . أما بعد :
فإن السحر من الجرائم العظيمة ، ومن أنواع الكفر ومما يبتلى به الناس قديماً وحديثاً ، في الأمم الماضية وفي الجاهلية وفي هذه الأمة ، وعلى حسب كثرة الجهل وقلة العلم وقلة الوازع الإيماني والسلطاني - يكثر أهل السحر والشعوذة ، وينتشرون في البلاد للطمع في أموال الناس والتلبيس عليهم ، ولأسباب أخرى ، وعندما يظهر العلم ويكثر الإيمان ، ويقوى السلطان الإسلامي يقل هؤلاء الخبثاء وينكمشون وينتقلون من بلاد إلى بلاد لالتماس المحل الذي يروج فيه باطلهم ، ويتمكنون فيه من الشعوذة والفساد .
ولقد استطار شرر السحرة والكهنة والمشعوذين ، وعظم أمرهم وكثر خطرُهم فآذوا المؤمنين وأدخلوا الرعب على حرماتهم ، غير مبالين وقد توعد الله المجرمين بسقر وما أدراك ما سقر فقد أخبر الله في كتابه العزيز أن الساحر كافر فقال : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } .
ويعتبر السحر من أخطر الأمراض التي تصيب الإنسان ، وهو أذى وخطر موجه لبني الإنسان ، فهو لا يفرق بين إنسان تقي وإنسان غير تقي ، أو إنسان مؤمن أو كافر ، فالكل معرض لأذاه . ولكن ينعم الله عز وجل ويحمي من يشاء من خلقه ، لأن الله هو الضار والنافع والمعز والمذل والمحيي والمميت ، لا راد لقدره وقضائه فهو القادر والقاهر فوق عباده يفعل ما يشاء ويختار .
تعريف السحر :
لغة : ما لطف وخفي سببه . ومنه سمي آخر الليل سَحَراً .(2/473)
السحر سمي سحراً لأن أسبابه خفية ، ولأن السحرة يتعاطون أشياء خفية يتمكنون بها من التخييل على الناس والتلبيس عليهم ، والتزوير على عيونهم ، وإدخال الضرر عليهم وسلب أموالهم إلى غير ذلك ، بطرق خفية لا يفطن لها في الأغلب ولهذا يسمى آخر الليل سحراً ، لأنه يكون في آخره عند غفلة الناس وقلة حركتهم ، ويقال للرئة سحر ، لأنها في داخل الجسم وخفية .
شرعاً : عقد ورقى وكلام يتكلم به الساحر أو يكتبه أو يعمل شيئاً يؤثر بإذن الله في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له .
فما يتعاطاه السحرة من قبيل التخييل والتلبيس الذي يعتقده المشاهد حقيقة وهو ليس بحقيقة ، كما قال الله سبحانه عن سحرة فرعون : ( قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى ) طه/ 65 - 69 وقد يكون السحر من أشياء يفعلها السحرة مع عقد ينفثون فيها كما قال سبحانه ( ومن شر النفاثات في العقد ) الفلق/4 وقد يكون من أعمال أخرى يتوصلون إليها من طريق الشياطين فيعملون أعمالاً قد تغير عقل الإنسان ، وقد تسبب مرضاً له ، وقد تسبب تفريقاً بينه وبين زوجته فتقبح عنده ، ويقبح منظرها فيكرهها وهكذا هي قد يعمل معها الساحر ما يبغض زوجها إليها ، وينفرها من زوجها وهو كفر صريح بنص القرآن ، حيث قال عز وجل : ( واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) البقرة /102 , فأخبر سبحانه عن كفرهم بتعليمهم الناس السحر ، وقال بعدها : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) البقرة/102 ثم قال سبحانه : ( فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) البقرة/102 ، يعني هذا السحر وما يقع منه من الشر كله بقدر سابق بمشيئة الله ، فربنا جل وعلا لا يُغلب ولا يقع في ملكه ما لا يريد ، بل لا يقع شيء في هذه الدنيا ولا في الآخرة إلا بقدر سابق ، لحكمة بالغة شاءها سبحانه وتعالى ، فقد يُبتلى هؤلاء بالسحر ، ويُبتلى هؤلاء بالمرض ، ويبتلى هؤلاء بالقتل ... إلى غير ذلك ، لله الحكمة البالغة فيما يقضي ويقدر ، وفيما يشرعه سبحانه لعباده ، ولهذا قال سبحانه : ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) البقرة/102 يعني بإذنه الكوني القدري لا بإذنه الشرعي ، فالشرع يمنعهم من ذلك ويحرم عليهم ذلك ، لكن بالإذن القدري الذي مضى به علم الله وقدره السابق أن يقع من فلان السحر ، ويقع من فلانة ، ويقع على فلان وعلى فلانة ، كما مضى قدره .
أقسام السحر :
ينقسم السحر من حيث فعل الساحر والجني إلى قسمين رئيسيين :
القسم الأول : ( القاعدة ) :
فالقاعدة هي العمل الذي يسقى أو يؤكل عن طريق الفم ويصل أثره إلى المعدة ثم من خلالها إلى باقي الجسم . أو العمل الذي يرّش على الأرض في المنطقة التي يمر منها المسحور ، وهي في الغالب ما تكون عتبات البيوت أو أعتاب المحلات أو ما شابه ذلك ، أو يدفن في التراب ، أو يرمى في ماء جار ، أو ما شابه ذلك .
القسم الثاني : ( الخادم ) :
وهو من شياطين الجن ، ينفذ تضاريس السحر الموجودة على القاعدة ، ويتوكل بها ، ويكون الأمر لكبار الشياطين حلفاء وأولياء الساحر . وكبار الشياطين من الجن هم خدام الطلاسم والأسماء الشيطانية ، فيأمرون الخادم فينفذ ما أمره به الساحر من سحر . مثال على ذلك : يقرأ الساحر عزيمته الشيطانية أو يكتب طلاسمه ثم يقوم بالتوكيل بقوله : توكلوا يا خدام هذه الطلاسم أو العزائم بالتفريق ما بين فلان ابن فلانة ، وفلانة بنت فلانة ، فتقوم الخدام بالخدمة فيبدأ السحر وتبدأ معاناة المسحور .
أنواع السحر :
يقول أهل العلم أن للسحر أنواعاً عديدة سنذكرها بإذن الله تعالى حتى يتسنى للمسلم الصادق معرفتها ، ومن ثم الحذر منها بنفسه ، وتحذير غيره منها ، لأنها سبب في الوقوع في ظلمات الكفر ، وغياهب الشرك ، وفيها بعد عن الله تعالى ، وتكذيب له ، وتصديق للشيطان وأعوانه ، فمن أنواع السحر ما يلي :
النوع الأول / ما يستخدمه الساحر :
وهذا النوع ينقسم إلى عدة أنواع :
أولاً / السحر التخيلي ( التخييلي ) :
وليس له حقيقة ، وإنما هو خيال وشعوذة ، وهو ما يسمى بالقُمْرَة ، فالساحر يخيل للناس شيئاً وهو ليس حقيقة ، كأن يخيل للناس أنه دخل النار ، وأنه يمشي على حبل ، كالذي يحصل في السيرك ، أو يخيل للناس أن السيارة تمشي على بطنه ، أو يطعن نفسه بسيف ، أو يثني الحديد برقبته أو بعينه ، فكل ذلك من السحر التخيلي ، والذي يتم بمساعدة الجن ، قال تعالى في قصة موسى عليه السلام وسحرة فرعون : " قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى " ، وقال تعالى : " قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم " . فسحرهم هذا يكون بالزئبق ومواد لا يراها الناس ، فيظنون أنها تتحرك .
ثانياً / السحر الحقيقي :
وينقسم إلى عدة أقسام منها :(2/474)
1- الرقى : وهي الرقى الغير شرعية ، بل هي قراءات وطلاسم شركية يتوصل بها الساحر إلى إرضاء الجان ، ولا يتم له ذلك إلا بالكفر بالله تعالى ، فهذا النوع كفر صريح . لكن قد تكون الرقية شرعية وذلك بأن تكون من القرآن والسنة بشروطها الثلاثة التي سنذكرها بعد قليل إن شاء الله ، ولهذا جاء عن عوف بن مالك الأشجعي قال : كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك ؟ فقال : " اعرضوا علي رقاكم ، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك " [ أخرجه مسلم ] .
2- أدوية وعقاقير : وهي تؤثر في بدن المسحور وعقله وإرادته وميله ، ومنه الصرف والعطف ، فالصرف : التفريق بين المرء وزوجه ، أو الإنسان وصديقه أو ما شابه ذلك . أما العطف : فهو التوفيق بين المرء وزوجه ، أو استجلاب محبة بعض الناس بقصد ابتزازهم ، أو فعل ما حرم الله تعالى بهم ، كمن يعطف قلب امرأة إليه لفعل الفاحشة بها . وهذا النوع فسق وظلم وعدوان ، وهو محرم لكن لا يكفر صاحبه ، إلا إذا استخدم الجان والشياطين ، وفعل مع ذلك مكفراً من المكفرات . كأن يذبح لغير الله ، أو يدعو غير الله ، أو يقتل مسلماً ، أو غير ذلك من أسباب الكفر .
3- علم التنجيم : وهو أنواع فمن أعظمها ما يفعله عبدة النجوم ويعتقدونه في السبعة السيارة وغيرها ، فقد بنوا بيوتاً لأجلها ، وصوروا فيها تماثيل سموها بأسماء النجوم ، وجعلوا لها مناسك وشرائع يعبدونها بكيفياتها .
ومنها النظر في حركات الأفلاك ، ودورانها وطلوعها وغروبها ، واقترانها وافتراقها ، معتقدين أن لكل نجم منها تأثير على حركاته منفرداً ، يعني لا دخل لله في ذلك و العياذ بالله ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ، ويعتقدون أن للنجوم تأثيرات عند اقترانها وافتراقها ، ويستدلون بذلك على الحوادث الأرضية ، فيقولون مثلاً : إذا اقترن النجم الفلاني بالنجم الفلاني سيحدث كذا وكذا ، ويستدلون بولادة الإنسان في نجم معين أنه يكون سعيداً أو شقياً ، أو يقولون إذا طلع النجم الفلاني هل المطر ، أو إذا هبت الريح ظهر النجم الفلاني ، وهذا خطأ فادح ، فالنجوم لا علاقة لها بمثل تلك الأمور ، بل كل ذلك بقدر الله ومشيئته ، وكل الحوادث الأرضية من عند الله ، لا دخل لأحد من المخلوقات فيها ، فهي فوق تصور المخلوق وطاقته ، ولهذا جاء في حديث زيد بن خالد الجهني في غزوة الحديبية ، قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة على إثر سماء من الليل ، فقال : " قال الله تعالى : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فمن قال : مُطرنا بنوء كذا وكذا ، فإنه كافر بي مؤمن بالكواكب ، ومن قال : مُطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب " [ أخرجه مسلم ] ، ويقصدون بقوله : مطرنا بنوء كذا وكذا : أي أن السبب في المطر هو النجم الفلاني أو الكوكب الفلاني ، فهذا كفر بالله تعالى . وكم رأينا من فصول تسقط فيها المطر ومع ذلك لم يسقط فيها المطر ، فكل ذلك بقدر الله تعالى .
لكن صحيح أن بعض الأوقات والفصول يكون فيها ريح ومطر ، لكن ذلك بقدر الله تعالى ، وليس للكوكب دخل في وجود المطر أو الريح . وقد يستدل بالنجوم على القبلة أو الجهات الأربع أو فصول السنة المختلفة وهذا الأمر لا بأس به بل قد يكون واجباً تعلمه ، وخصوصاً إذا كان للناس حاجة إليه كتعلم أماكن القبلة حتى تؤدى الصلاة باتجاه القبلة ، قال تعالى : " وعلامات وبالنجم هم يهتدون " فالنجوم يُستدل بها على الأزمان وما شابه ذلك ، فهذا الأمر لا بأس به . أما إذا أُستُدل بها على الحوادث الأرضية فهذا حرام باطل ، فالأحوال الفلكية لا تأثير لها البتة على الحوادث الأرضية ، ومن اعتقد ذلك فقد كفر بالله تعالى .(2/475)
4- العُقَد : قال تعالى : " ومن شر النفاثات في العقد " ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عقد عقدة ، ثم نفث فيها ، فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق شيئاً وكل إليه " [ أخرجه النسائي ] ، عن زيد بن أرقم ، قال : سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود ، فاشتكى لذلك أياماً : فأتاه جبريل عليه السلام فقال : إن رجلا من اليهود سحرك ، عقد لك عقداً في بئر كذا وكذا ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستخرجوها ، فجيء بها ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال ، فما ذكر ذلك لذلك اليهودي ، ولا رآه في وجهه قط . [ أخرجه النسائي وقال الألباني صحيح الإسناد 3 / 98 ] . فمن عقد ونفث بقصد السحر فهو حرام ، أما من عقد ونفث في العقدة بعض الريق بقصد أن تتماسك العقدة فهذا لا بأس به . وقوله صلى الله عليه وسلم : " وكل إليه " يعني جعل هذا الشيء الذي تعلق به عماداً له ، ووكله الله إليه ، وتخلى الله عنه . فمن الناس من إذا سُحر ذهب إلى السحرة وتعلق بهم ، ولا يُرقي نفسه بكتاب الله تعالى ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولا يذهب للأدوية المباحة ، والأدعية المشروعة ، ولو أنه توكل على الله حق التوكل ، لكفاه كل ما يصيبه ، قال تعالى : " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " ومن كان الله حسبه كفاه كل ما يهمه ، ومن كان الله حسبه فلن يضيعه ، لكن من توكل على غير الله فسوف يتخلى الله عنه ويتركه وما تعلق به ، ولسوف يندم ويخسر خسارة كبيرة وعظيمة ، ومن أعظم ذلك خسارة الدين ، لأن التوكل على غير الله ينافي التوحيد والعقيدة الصادقة الصافية الصحيحة . قال تعالى : " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون " وقال تعالى : " والذين تدعون من دونه لا يملكون من قطمير * إن الذين تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير " . قال ابن كثير رحمه الله : القطمير : هو اللفافة الرقيقة التي تكون على نواة التمرة .
5- العزائم : جمع عزيمة ، وهي من الرقى التي كانوا يعزمون بها على الجن ، وزعموا أنها أسماء لملائكة وكلهم سليمان عليه السلام بقبائل الجان ، فإذا أقسم على صاحب الاسم ألزم الجن بما يريد ، وهذا كفر وضلالة ، وخداع ومكر ، يمكرون به على عباد الله ليبتزوا أموالهم . فسليمان عليه السلام لم يكن ساحراً وما تعلم السحر ، بل كذبوا عليه وافتروا عليه افتراءات هو وأبيه داود عليهما السلام ، قال تعالى : " وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا " ، فالله تبارك وتعالى سخر الجن لخدمته ، لا ليعلم الغيب أو يضر الناس أو يستخدمهم في أمور الشر وما شابه ذلك ، بل كان ذلك منة من الله عليه ، قال تعالى : " ولسليمان الريح غدوها شهر وراحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير " ، وقال تعالى : " ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك وكنا لهم حافظين " فالله تعالى سخر لنبيه سليمان الجن منهم من يغوص في الماء ليستخرج اللآلئ ، ومنهم من يعمل غير ذلك من الأعمال ، قال تعالى : " والشياطين كل بناءٍ وغواص " ، فكل منهم له عمله الموكل به ، ومع ذلك فهم لا يعصون سليمان عليه السلام بأمر من ربهم سبحانه وتعالى ، والله يحفظه في كل ذلك من أن يصيبوه بأذى ، أو يمسوه بسوء ، فكلهم في قبضته وتحت قهره ، ولا يتجاسر أحد منهم على القرب منه ، بل هو يحكم فيهم كيف شاء ، فيطلق بعضهم ، ويحبس البعض الآخر ، قال تعالى : " وآخرين مقرنين في الأصفاد " .
6- النميمة : وهي من أنواع السحر المجازي ، لأن بها يُفرق بين الأحبة ، ويُفرق بين الأسر ، ولهذا أوردها الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ضمن أنواع السحر في كتاب التوحيد ، وأورد حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا هل أنبئكم ما العَضْه ؟ هي النميمة ، القالة بين الناس " [ أخرجه مسلم ] . ومعنى الحديث : أي أتدرون ما السحر ، والعضه هي السحر ، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم حصر السحر في النميمة تحذيراً منها . ثم قال : هي النميمة .
فالنميمة تقطع أواصر المحبة بين الناس ، وتقطع وشائج الصلة بين الأهل والجيران ، وهي من كبائر الذنوب ، وهي سبب للعذاب في القبر ، ومن أسباب حرمان دخول الجنة ، ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين يعذبان ، أحدهما كان يمشي بالنميمة " [ متفق عليه ] ، وعن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة قتات " [ متفق عليه ] ، وفي رواية مسلم : " لا يدخل الجنة نمام " ، فالنميمة سبب لإفساد المجتمعات ، وتدمير البيوتات ، فهي كالسحر من حيث التفريق بين الناس ، ففيها تفريق ، كما أن السحر فيه تفريق ، والنميمة ليست سحراً في الحقيقة ، ولكن من باب اللغة ، وهذه هي مناسبة ذكر النميمة في باب السحر .(2/476)
فمن أنواع السحر ما هو شرك ، ومنها ما هو من كبائر الذنوب ، ومنها ما هو دون ذلك ، ومنها ما هو جائز على حسب ما يقصد به وعلى حسب تأثير وآثاره ، كالبيان فقد قال صلى الله عليه وسلم : " إن من البيان لسحراً " [ أخرجه البخاري ومسلم ] والبيان هو الفصاحة والبلاغة ولهذا قال تعالى : " خلق الإنسان * علمه البيان " ، فمن الناس من يكون فصيحاً لكن في الباطل ، فيضل الناس بكلامه عن سبيل الله فهذا حرام لا يجوز ، أما إن كان فصيحاً بليغاً ويدعو إلى الله تعالى ، فهذا جائز ولا ريب . والبيان نعمة من الله تعالى على الإنسان فيجب أن يسخر في طاعة الله تعالى .
النوع الثاني / ما يتعلق بالمسحور :
لما أحب الناس الدنيا وكرهوا الآخرة ، دبت الكراهية بين الناس ، وساد الحقد والغل وحب الذات ، وانتشر الحسد ، فأصبح الواحد يبحث عن وسيلة يؤذي بها الآخر دون أن يعرف لأنه يخاف من عقاب الناس ولا يخاف من عقاب الله فبمبلغ بسيط يستطيع شيطان من شياطين الإنس أن يعقد سحراً لبريء بدون أي سبب ، اللهم ذلك الحقد الدفين والبعد عن الله تعالى ، فيحول حياة أخيه المسلم أو أخته المسلمة إلى جحيم وعذاب ودمار ، وهذا والله لا يرضي الله سبحانه وتعالى ، ولا يرضى بذلك صاحب عقل أو فطنة أو دين ، وينقسم هذا النوع إلى أقسام عدة منها :
(1) سحر التفريق :
يعتبر سحر التفريق من أكثر أنواع السحر انتشاراً . وهو غالباً ما يكون بين الزوج والزوجة أو الأخ وأخيه أو بين الأب وابنه أو بين الأم وأولادها وبناتها أو حتى بين الشريك وشريكه في العمل . وأسبابه الحقد أو المصالح الدنيوية الدنيئة لشخص لا يروق له أن يرى علاقة مثالية بين اثنين .
فأقول للذين يذهبون إلى السحرة لفعل هذه المصائب ، ألم تعلموا بأن الله بالمرصاد ، فكفاكم حقداً وكرهاً واتقوا الله ربكم واعلموا أن أذية المسلم حرام ، قال تعالى : " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً " ، وقال تعالى : " إن الذين يحيون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وانتم لا تعلمون " ، فاتقوا الله تعالى وراقبوه في السر والعلن ، ودعوا الناس يرزق الله بعضهم بعضا ، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
(2) سحر المحبة :
يعتبر سحر المحبة من السحر الدارج في هذه الأيام . وتعود أسبابه لعدة عوامل منها : الخلافات العميقة بين الأفراد والعائلات والأزواج والاخوة . ومنها : الأطماع والمصالح المادية ، كطمع الأولاد بأموال الأب أو طمع الصانع بصاحب العمل أو طمع الموظف برضى مديره ليرقيه . ومنها : تحقيق أمنية الارتباط بفتاة لا تريده أو شابة تطمح بالارتباط بشاب لا يطيقها ، وهناك أمور كثيرة شبيهة بذلك . وأخطرها أن يقوم رجل بجلب امرأة محصنة أي متزوجة لهدف فعل فاحشة الزنا بها ، أو تقوم امرأة بجلب رجل لنفس الغرض ، فكل ذلك حرام ولا يجوز التعامل به .
(3) سحر ربط الشباب عن الزواج :
هذا النوع من السحر منتشر كثيراً في هذه الأيام . وهو يصيب الشباب من ذكور وإناث ، وفي الغالب تكون أسبابه انتقامية .
(4) سحر ربط العروسين :
يقع الكثير من العرسان في هذا السحر ، وهو ينشط في ليلة الزفاف وتكون تأثيراته واضحة . وهو إما أن يصيب العريس أو يصيب العروس أو يصيب الاثنين معا . وهدف السحر أن لا يوفق العروسان بالدخول . وهناك من يستمر هذا الحال معهم أسبوعا ، وهناك من يستمر معهم شهراً أو عدة اشهر ، وهناك من يستمر هذا الوضع معهم سنة أو أكثر . ويلجأ بعضهم إلى الأطباء ، فيأخذون الحقن المهدئة والمقويات ، ولكن دون جدوى . وهناك من يصبر ، وهناك من يرى أنه متضرر ويرى أن الحل هو الطلاق . وبعدها يقوم كل طرف باتهام الطرف الآخر بأن العيب فيه .
(5) سحر التخييل : و هذا السحر يستهدف شخص بحيث يفقده توازنه في الحياة .
(6) سحر الجنون : و هذا السحر يستهدف العقل بحيث يفقده صوابه .
(7) سحر الخمول : و هذا السحر يستهدف أعماله بحيث يقعده عن أي عمل .
(8) سحر المرض : و هذا السحر يستهدف تعطيل أي جزء من أجزاء الإنسان دون مرض بين .
أنواع السحر التي يستخدمها السحرة :
وهنا يستخدم السحرة عدة طرق لسحر من أرادوا أذاه والنيل منه ، وهذه الطرق ، تكون حسب طبيعة المسحور ، فالسحر تختلف طريقة وضعه للمسحور ، ومن تلك الطرق .
1- السحر المأكول والمشروب : أي ما يجعل مع الطعام والشراب وهو أشد أنواع السحر تأثيراً على المسحور .
2- المشموم : ما يخلط في الطيب أو يعمل من الطيب والبخور ، ويعتبر أيضاً من أخطر أنواع السحر .
3- المعقود : كل ما يمكن عقده والنفث عليه .
4- الأثر : ما يؤخذ من أثر المسحور ويعمل منه السحر .
5- المنثور : كل مسحوق ينفث عليه الساحر وينثر في الغرف وعند مداخل البيوت.
6- المرشوش : كل سائل ينفث عليه الساحر ويرش على الثياب أو عند عتب الأبواب أو في الأماكن التي غالبا ما يتواجد بها المراد سحره .
7- الطلاسم : وهي أسماء وكلمات وحروف وأرقام ومربعات مجهولة المعنى لغير السحرة ، لكن السحرة يعرفونها جيداً .
8- المرصود : يرصد لطلوع نجم أو قمر وما يترتب عليه من هيجان البحر والدم
حقيقة السحر :(2/477)
السحر حقيقة لا مجال للتكذيب فيه ، ودل على ذلك القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، وأجمع العلماء الأجلاء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على وجود السحر ووجود الجن ، ولا يضر من زاغ عن الحق ممن ضل ضلالاً مبيناً ، قال تعالى : { وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم } ( يونس79 ) ، وقال تعالى : { فألقي السحرة ساجدين } ( الشعراء46 ) والآيات في ذلك كثيرة معلومة لا ينكرها إلا جاهل أو معاند مكابر ، وأما الأحاديث فقوله صلى الله عليه وسلم : [ اجتنبوا السبع الموبقات ، وذكر منها ، السحر ] ( متفق عليه ) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : " سَحَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني زريق ـ وكان منافقاً حليفاً لليهود ـ يقال له لبيد بن الأعصم ، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله ، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي ، دعا الله ودعاه ، ثم قال : يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ فقال : مطبوب ، قال من طبه ؟ قال لبيد بن الأعصم ، قال : في أي شيء ؟ قال : في مشط ومشاطة ، وجف طلعة ذكر ، قال : وأين هو ؟ قال : في بئر ذروان ، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه فجاء فقال : يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء أو كأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين قلت يا رسول الله : أفلا استخرجته ؟ قال : قد عافاني الله فكرهت أن أثور على الناس فيه شراً فأمر بها فدفنت " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
قال النووي رحمه الله :
المطبوب المسحور يقال طُب الرجل إذا سُحر ، فكنوا بالطب عن السحر كما كنوا بالسليم عن اللديغ ، وقوله في مشط ومشاطة وجب طلعة ذكر ، أما المشاطة فبضم الميم وهي الشعر الذي يسقط من الرأس أو اللحية بعد تسريحه ، وأما المشط ففيه لغات مشط ومشط بضم الميم فيهما وإسكان الشين وضمها ومشط بكسر الميم وإسكان الشين وممشط ويقال له مشطأ بالهمزة وتركه ، ومشطاء ممدود ، وأما قوله وجف بالجيم والفاء : وهو وعاء طلع المخل وهو الغشاء الذي يكون عليه ويطلق على الذكر والأنثى فلهذا قيده في الحديث بقوله طلعة ذكر وهو بإضافة طلعة إلى ذكر والله أعلم ووقع في البخاري من رواية ابن عيينة ومشاقة بالقاف بدل مشاطة وهى المشاطة أيضا وقيل مشاقة الكتان قوله صلى الله عليه وسلم في بئر ذروان : وهى بئر بالمدينة في بستان بنى زريق قوله صلى الله عليه وسلم والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ، النقاعة : بضم النون الماء الذي ينقع فيه الحناء والحناء ممدود قولها فقلت : يارسول الله أفلا أحرقته وفى الرواية الثانية قلت يارسول الله فأخرجه كلاهما صحيح فطلبت أنه يخرجه ثم يحرقه المراد إخراج السحر فدفنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر أن الله تعالى قد عافاه . [ شرح النووي على مسلم ] .
والسحر يؤثر في المسحور إذا أصيب به ، وقد يقتله ، وتعلمه وتعليمه ، والعمل به أو طلب العلاج عن طريقه ، أو فعله لوقوع الضرر بالإنسان ، كل ذلك حرام ، لا يجوز ، بل يجب الحذر من ذلك لأنه قد يؤدي بصاحبه إلى الكفر والعياذ بالله ، قال تعالى : " وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمان منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون " [ البقرة ] .
تعلم السحر :
السحر من أعظم الكبائر والموبقات ، بل هو من نواقض الإسلام ، كما قال الله - عز وجل - في كتابه الكريم : ( وَاتَّبَعواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُون ) ( سورة البقرة :102، 103 ) .
فأخبر - سبحانه - في هاتين الآيتين أن الشياطين يعلمون الناس السحر وأنهم كفروا بذلك ، وأن الملكين ما يعلّمان من أحد حتى يخبراه أن ما يعلّمانه كفر وأنها فتنة .(2/478)
وأخبر - سبحانه - أن متعلمي السحر يتعلمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ، وأنهم ليس لهم عند الله من خلاق في الآخرة ، والمعنى ليس لهم حظٌ ولا نصيب من الخير في الآخرة . وبيّن - سبحانه - أن السحرة يفرقون بين المرء وزوجه بهذا السحر وأنهم لا يضرّون أحداً إلا بإذن الله المراد بذلك إذنه الكوني القدري لا إذنه الشرعيّ ، لأن جميع ما يقع في الوجود يكون بإذنه القدريّ ، ولا يقع في ملكه ما لا يريده كونّا وقدراً ، وبيّن - سبحانه- أن السحر ضد الإيمان والتقوى . وبهذا كلّه يُعلم أن السّحر كفر وضلال وردة عن الإسلام إذا كان من فعله يدعي الإسلام ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : [ اجتنبوا السبع الموبقات ) قلنا : وما هن يا رسول الله ؟ قال [ الشرك بالله والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ] . فبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح أن الشرك والسحر من السبع الموبقات أي : المهلكات والشرك أعظمها ، لأنه أعظم الذنوب ، والسحر من جملته ولهذا قرنه الرسول صلى الله عليه وسلم به ، لأن السحرة لا يتوصلون إلى السحر إلا بعبادة الشياطين والتقرب إليهم بما يحبون من الدعاء ، والذبح والنذر والاستعانة وغير ذلك ،
ولا يُستتاب الساحر إذا ثبت سحره ، لأن بقاءه مضر بالمجتمع الإسلامي والغالب عليه عدم الصدق في التوبة ، ولأن في بقائه خطراً كبيراً على المسلمين .
الفرق بين السحر والكهانة والتنجيم والعرافة :
السحر : عبارة عن عزائم ورقى وعقد يعملها السحرة بقصد التأثير على الناس بالقتل أو الأمراض أو التفريق بين الزوجين وهو كفر وعمل خبيث ومرض اجتماعي شنيع يجب استئصاله وإزالته وإراحة المسلمين من شره .
الكهانة : ادعاء علم الغيب بواسطة استخدام الجن ، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد : وأكثر ما يقع في هذا ما يخبر به الجن أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة بما يقع في الأرض من الأخبار فيظنه الجاهل كشفاً وكرامة ، وقد اغتر بذلك كثير من الناس يظنون المخبر بذلك عن الجن ولياً لله وهو من أولياء الشيطان .
قال البغوي : والعراف هو الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ، وقيل هو الكاهن .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق .
والتنجيم : هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية وهو من أعمال الجاهلية وهو شرك أكبر إذا اعتقد أن النجوم تتصرف في الكون .
كيف يعلم الساحر الغيب :
للساحر قرناء من الشياطين وهؤلاء يعرفون كل قرين لبني آدم ، والقرين هو الشيطان الذي لا يفارق بني آدم ويظله ، فيخبرانه عن صاحبه وهو الشخص فيخبرهم بما يشاءون ، وماذا أحدث وماذا فعل وأين أضاع مفقوداته ، وهم بالتالي ينقلونها ويخبرون بها الساحر . ولكنه لا يحدثك قط بالمستقبل فهو لا يعلمه أو أنه فقط يتنبأ به وقد كذب في ذلك ولو صدق ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " كذب المنجمون ولو صدقوا " .
وهنا سؤال : كيف بمقدور هذا الساحر بأن يأتي بالضالة وهي الأغنام الغائبة عن أصحابها ؟
فالجواب بأن الساحر يسلط الجن فيجوبوا الأرض بسرعة قصوى وينفذوا طلبه بعد كفره ويأتوا بالضالة كما أراد ذلك ونحن نعلم قصة العفريت الذي ذكر في القرآن الكريم عندما طلب سليمان عليه السلام من يأتيه بعرش بلقيس قبل أن تأتي مسلمة فـ : " قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين " فانظروا إلى تلك السرعة ، في ظرف لحظات أو دقائق معودة يأتي بعرشها العظيم من بين حراسها وحاشيتها من اليمن إلى فلسطين فسبحان الله .
شروط تعلم السحر :
لا يكون الرجل ساحراً ، أو المرأة ساحرة إلا إذا حصل منه عدة أمور ، حتى يتأكد الجان الذي سيخدمه أنه يريد فعلاً تعلم السحر ، والعمل به ، والإضرار بالناس ، ومن تلك الشروط :
أن يكفر بالله ، إما بسبه ، أو التعدي عليه .
أن يترك الصلاة .
أن يدخل الحمام ويصلي فيه .
أن يضع المصحف تحت قدميه ويدخل به الحمام .
أن يكتب كلمات القرآن بدم الحيض والنفاس .
أن يفعل الفاحشة في محارمه .
أن يبقى فترة أربعين يوماً مثلاً في غرفة مظلمة ولا يسمه ماءً .
أن يبقى فترة طويلة بجنابته دون غسل .
أن يبقى في غرفة مظلمة ويأتيه مارد الجن ويفعل به الفاحشة أو بالمرأة .
أن يقدم لهم القرابين .
فبهذه الشروط وغيرها يصبح الرجل ساحراً ، وينتقل من دائرة الإسلام ، إلى دائرة الكفر والعياذ بالله ، فيخسر الدنيا والآخرة .
كيف تعرف المسحور :
ليس من السهل الحكم على شخص ما بأنه مسحور لأن أعراض السحر قريبة جدا من أعراض العين ، وتتشابه مع أعراض المس بسبب وجود شيطان السحر في الغالب ، ولكن سوف أذكر أعراضاً هي في الغالب أقرب للسحر من غيرها من الأمراض الأخرى ، ومنها :
1) أعراض المس ( لوجود شيطان السحر) في غالبية أنواع السحر.
2) تغير مفاجئ في طباع المسحور من الحب إلى الكراهية ومن الصحة إلى المرض ومن العبادة إلى المعصية ومن الفرح والسرور إلى الحزن والضيق ومن الحلم إلى الغضب وإلى غير ذلك من أوامر السحر وتفلت الشياطين .
3) المسحور يكون في الغالب سريع الغضب والانفعال .
4) تزداد الحالة أو يتنقل المرض عند القراءة أو بعدها .
5) يشعر المسحور وكأنه مدفوعٌ بقول أو فعل بغير إرادته ، وغالباً ما يندم على ما فعل.
6) آلام في الأرحام .
7) آلام في أسفل الظهر .(2/479)
8) يُرى في عيني المسحور بريقا زائداً وملحوظا وغالبا ما تجده لا يستطيع تركيز النظر في عين الراقي وقت الرقية ولكنة يميل بالنظر إلى أعلى وإلى أسفل .
9) رائحة كريهة تخرج من فم أو من جلدة الرأس أو من الأرحام أو من جسد المسحور عموماً ، وهذه الرائحة يشمها المريض وغيره ومهما اجتهد في غسل جسده بالشامبو والصابون فإن الرائحة تعود في نفس اليوم خصوصاً عندما يعرق جسده ، وهذا يحصل في بعض حالات السحر المأكول والمشروب وليس كل الحالات .
وهناك بعض الأعراض التي تحصل للمسحور وقت القراءة :
¨ البكاء عند آيات السحر .
¨ الاستسلام للنوم .
¨ يشعر المسحور بمثل الكرة الصغيرة ساكنة أو متحركة في المريء.
¨ غالبا لا يظهر الجني بسرعة كما هو عليه الحال في المس.
¨ قد تظهر تشنجات ولاسيما في الأطراف وعلى العينين.
¨ غثيان أو ألم في البطن.
¨ لا يستجيب للقراءة والعلاج بسرعة ( أيضا بعض حالات العين لا تستجيب للعلاج بسرعة ).
¨ وقت الرقية ينظر إلى الراقي بسخرية وربما ضحك المصاب دون إرادة منه .
- إذا كان السحر المأكول أو المشروب جديداً فإنه غالباً ما يشتكي المسحور من آلام في البطن .
- الشعور بألم دائم في المعدة مع غثيان وتقيؤ مستمر في بداية الحالة ( ليس في كل الحالات ).
- غثيان ( يزداد وقت الرقية ) ما لم يكن السحر قديماً أو منتشرا في أنحاء الجسم.
- كثرة الغازات في البطن .
- يشعر بقعقعة في البطن وقت الرقية.
- يشعر بمثل الكرة في المريء والبلعوم خصوصا وقت القراءة.
- يشعر بحرارة في جوفه بل في بدنه عامة خصوصاً وقت الرقية.
- خروج رائحة كريهة من المعدة ( عن طريق الفم ) تزداد وقت الرقية .
- يشعر بألم وتقطيع في بطنه وقت الرقية .
- عدم الرغبة في الأكل ( ليس في كل الحالات ).
- الإمساك المزمن ( في بعض الحالات ) .
- الألم الشديدة فترة الدورة ( عند النساء ) .
- ضعف الرؤية ( البصر ) ، وربما ترى في عينيه بريقاً غامض يتدفق كأنه إشعاع مغناطيسي .
- قد يرى أمام عينيه شعراً أو حبالاً معقدة أو ملفوفة ولو كان مغمض العينين ، هذا غالبا ما يكون في السحر المأكول والمشروب .
- المسحور بهذا النوع من السحر ينزعج عندما يلمسه أحد خصوصا في المواضع التي يكثر فيه السحر في جسده .
- ومن علامات السحر المأكول والمشروب الشعور بالضيق عند التنفس ، ويسمع له أحيانا فحيح عند الشهيق والزفير وهو أشبه ما يكون بالشخص المصاب بالربو
- ومن علامات السحر المأكول والمشروب سواد الوجه خصوصاً وقت الرقية فإذا ما استفرغ السحر أشرق لونه واستنار وجهه.
- يشتكي المسحور بالمأكول والمشروب بآلام في أسفل الظهر في منطقة العجز والعصعص ولعل ذلك بسبب وجود السحر في المستقيم ( القولون ).
- في حالة السحر المأكول أو المشروب ، عند انتفاخ اليد أو الرجل أو ظهور البقع الزرقاء ووجود الألم فيها ، فيه إشارة على هيجان السحر في ذلك العضو.
- وقت الرقية يرى المريض فجأة في مخيلته بريقاً مفاجئاً أشبه ما يكون بمجموعة نجوم متلألئة ، وهذا يعني أن سحرا في مخيلته قد أحرقه الله وهو الغالب على الظن، أو شيطاناً تحرك بصورة سريعة في عصب عينيه .
- كثرة التمخط من الأنف والبصاق من الفم وقت الرقية فيه دليل على وجود السحر في مقدمة الرأس ( الدماغ ) والجيوب الأنفية .
- تجد أحياناً بعض من به سحر مأكول أو مشروب يكثر من فرك فروة رأسه أو يمسح مسحا خفيفا على جوانب رأسه ، وفيه ذلك دليل على وصول عقد السحر إلى الرأس.
- يذكر أكثر من شخص ممن يعانون من سحر في بطونهم أنهم يشعرون بمثل الكرة تنفجر في بطونهم وقت القراءة وبعدها يخرج السحر .
- من علامات السحر المأكول الخمول والثقل في البدن خصوصاً على الأكتاف والخفة بعد الاستفراغ .
- الموضع الذي يشعر به المسحور بألم غالبا ما يكون مكان عقد السحر في الجسد.
لا يسلم بهذه الأعراض ولكنها تحصل مع بعض من بهم سحر مأكول أو مشروب.
كيف يعرف الساحر :
يمكن أن يعرف الساحر بعلامات لا تخفى على كثير من الناس ، فمن وجدت فيه أي علامة منها فهو ساحر بدون أدنى شك وهذه العلامات هي :
1- يسأل المريض عن اسمه واسم أمه .
2- يأخذ أثراً من آثار المريض مثل : ثوب أو شماغ أو غترة أو طاقية أو منديل أو فانيلة أو سروال أو غير ذلك من أي شيء يستخدمه المريض .
3- يطلب حيواناً بصفات معينة ليذبحه ، ولا يذكر اسم الله عليه ، وربما لطَّخ بدمه أماكن الألم من المريض ، أو يرمي به في مكان خرب .
4- كتابة الطلاسم .
5- تلاوة الطلاسم والعزائم غير المفهومة .
6- إعطاء المريض حجاباً يحتوي على مربعات بداخلها حروف أو أرقام .
7- يأمر المريض بأن يعتزل الناس فترة معينة في غرفة لا تدخلها الشمس وهي ما يسمى ( بالحجبة ) .
8- يطلب من المريض أحياناً ألا يمس الماء لمدة معينة ، وغالباً ما تكون أربعين يوماً .
9- يعطي المريض أشياء يدفنها في الأرض .
10- يعطي المريض أوراقاً يحرقها ويتبخر بها .
11- يتمتم بكلام غير مفهوم ، وخارج تماماً عن اللغة العربية .
12- يخبر المريض أحياناً باسمه واسم بلده وما مشكلته التي جاء من أجلها ، وذلك قبل أن يتكلم المريض .
13- يكتب للمريض حروفاً مقطعة في ورقة وهي ( الحجاب ) أو في طبق ويأمر المريض بإذابته وشربه .
14- يظهر على الساحر قوة العناد والإصرار على الباطل ، وكثرة الكذب والمكر والخديعة ، فلا يمكن زعزعة عقيدته الشيطانية من نفسه .
15- إذا ظهر إبليس أو أحد أعوانه وأتباعه في أي صورة أو عندما يرى حريقاً أو أمراً مفزعاً ، فلا ترتعد فرائصه ولا تأخذه الرهبة ، لأنه قد تعود على تلك المشاهد والمناظر التي لم يعتادها غيره .(2/480)
16- لا يحترم الكتب السماوية ، وخاصة القرآن ، فقد يتبول عليه ويضعه في رجليه ويدخل به إلى الحمام ، ويستهزأ بما فيه من الآيات .
17- تجده دائماً قذراً ذو رائحة كريهة ، ومنظر بشع ، ويلبس ملابس متسخة .
18- أحياناً يكون في غرفة شبه مظلمة .
19- يستخدم أحياناً البخور والنار ويضع بداخلها بخوراً أو غيره .
20- قد يطلب أن يخلو بالمريض إذا كانت امرأة ، مع معرفة الناس تحريم خلوة الرجل الأجنبي بالمرأة الأجنبية .
21- لا يخرج مع الناس لأداء الصلاة في المساجد ، وقد يخرج أحياناً ولكن بكل نجاسة وقذارة ، حتى لا يكتشف أمره .
22- مستعد لارتكاب أي فاحشة ، ولا يتورع عن اقتراف أي رذيلة .
توبة الساحر :
لقد مر بنا فيما سبق حكم السحر وأنه حرام وقد ذكرت الأدلة على تحريمه من الكتاب والسنة ، بقي أن أذكر حكم توبة الساحر إذا تاب ، فتنقسم التوبة إلى قسمين :
1- توبة الظاهر : وهي التي يظهرها للناس ، ويعلن فيها توبته ، فهذه التوبة عند جمهور العلماء لا تقبل ولا بد من قتله ، قال القرطبي رحمه الله : ذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفراً يقتل ، ولا يستتاب ، ولا تقبل توبته ، لأنه أمر يستتر به كالزنديق ، والزاني ، ولأن الله تعالى سمى السحر كفراً بقوله تعالى : " وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر " وهذا القول هو قول : أحمد بن حنبل ، وأبي ثور ، وإسحاق ، وأبي حنيفة .
قال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى :
السحر من أعظم ما يكون في الجناية على بني آدم ، فهو يفسد عليه دينه ودنياه ، ويقلقه فيصبح كالبهائم ، بل أسوأ من ذلك ، فالآدمي إذا صُرف عن طبيعته وفطرته لحقه من الضيق والقلق ما لا يعلمه إلا رب العباد ، ولهذا كان السحر يلي الشرك بالله عز وجل ، كما في حديث أبي هريرة المتفق على صحته .
والحاصل : أنه يجب أن نقتل السحرة ، سواءً قلنا بكفرهم أم لم نقل ، لأنهم يُمرضون ، ويقتلون ، ويفرقون بين المرء وزوجه ، وكذلك بالعكس ، فقد يعطفون فيؤلفون بين الأعداء ، ويتوصلون إلى أغراضهم ، ولأنهم يسعون في الأرض فساداً ، فكان واجباً على ولي الأمر قتلهم بدون استتابة مادام أنه لدفع ضررهم وفظاعة أمرهم ، فإن الحد لا يستتاب صاحبه ، متى قبض عليه وجب أن ينفذ فيه الحد . والقول بقتلهم موافق للقواعد الشرعية ، لأن فسادهم من أعظم الفساد ، فقتلهم واجب على الإمام ، ولا يجوز للإمام أن يتخلف عن قتلهم ، لأن مثل هؤلاء إذا تركوا وشأنهم انتشر فسادهم في أرضهم وفي أرض غيرهم ، وإذا قتلوا سَلِمَ الناس من شرهم ، وارتدع الناس عن تعاطي السحر . [ القول المفيد 1 / 509 ] .
وقال الشيخ صالح الفوزان :
حكم الساحر وجوب قتله ، لأنه يفسد في الأرض ، كما قال تعالى : " ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين " فالساحر مفسد في الأرض يجب قتله ، وأيضاً هو كافر ، والكافر يجب قتله ، إن كان كافراً كفراً أصلياً وجب قتله بكفره وإفساده ، وإن كان مسلماً ثم استعمل السحر وجب قتله لردته ، وكفر الساحر مطلقاً هو مذهب الأئمة الثلاثة : أحمد ، ومالك ، وأبي حنيفة ، يرون كفر الساحر ، وقد سبقهم جمع من الصحابة ، ويقول الإمام الشافعي : نقول للساحر : صف لنا سحرك ، فإن وصفه بما يقتضي الكفر فهو كافر ، وإلا فلا . ولكن هذا المذهب مرجوح ، لأنه لا يمكن السحر إلا بالتعاون مع الشياطين ، والخضوع لهم ، وحينئذ يكون كافراً . وقد صح عن عمر بن الخطاب ، وحفصة أم المؤمنين ، وجندب بن كعب الأزدي الغامدي ، رضي الله عنهم وجوب قتل الساحر ولم يظهر لهم مخالف من الصحابة ، فدل ذلك على وجوب قتله لأنه مرتد ، والمرتد يجب قتله ، لقوله تعالى : " من بدل دينه فاقتلوه " ، والساحر لا يُستتاب ، بل يُقتل وإن تاب في الظاهر ، لأن التوبة لا تزيل السحر من قلبه بعدما تعلمه ، لأنه قد يُظهر التوبة وهو غير صادق ، بل من أجل أن يتقي الفساد . لكن إن كان صادقاً في توبته ، فهذا فيما بينه وبين الله ، أما الحد فلا يسقط عنه ، هذا حكمه في الدنيا . [ إعانة المستفيد 1 / 482- 488 ] .
وقال أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية :
إذا أتى الساحر في سحره بمكفر قتل لردته حداً ، وإن ثبت أنه قتل بسحره نفساً معصومة قتل قصاصاً ، وإن لم يأت في سحره بمكفر ، ولم يقتل نفساً ففي قتله خلاف ، والصحيح أنه يقتل حداً لردته ، لقوله تعالى : " واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا " فهذا الآية دلت على أن الساحر كافر مطلقاً . فلا توبة له عند الناس ، لأنه ماكر مخادع مؤذ ، لا يؤمن شره وفساده ، فلذلك يجب قتله ولا توبة له في الدنيا ، لما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أنه كتب قبل موته بشهرين : [ اقتلوا كل ساحر وساحرة ] ( رواه أبو داود وهو صحيح ) ، ولما ورد عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : [ أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها ] ( الموطأ 2/871 بإسناد صحيح ) . ولما ثبت في صحيح البخاري عن بجالة قال : " كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سواحر " ، ولما ثبت عن جندب مرفوعاً قال : " حد الساحر ضربه بالسيف " ، وعلى هذا فحكم الساحر أنه يقتل على الصحيح من أقوال العلماء .
2- توبة الباطن : وهي التوبة بين الساحر وبين ربه تبارك وتعالى ، فالله جل وعلا يقبل التوبة ، ولا يحول بين الساحر وبين التوبة أحد ، فإن تاب وصحة توبته ، قبلت منه بإذن الله تعالى ، لعموم آيات وأحاديث قبول التوبة . أما جزاؤه في الدنيا فلا بد من قتله لما سبق ذكره من أقوال العلماء ، ولأنه لا يؤمن جانبه .
حل ( أو فك ) السحر :(2/481)
إذا تبين لنا أن الساحر كافر ، ومدع علم الغيب ، ويتعامل مع الجن ، ولا يتأتى له ذلك حتى يكفر بالله تعالى ، فعلاج السحر ينقسم إلى قسمين :
1- حله بسحر مثله :
ومعنى حل السحر بالسحر : أي فك السحر وعلاجه عن طريق السحرة ، وهذا أمر محرم ، لمناقضته للكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة ، فيحرم فك السحر بسحر مثله .
لأن حل السحر بسحر مثله ، فيه إعانة للساحر على الباطل ، وتماد في غيه ، وفيه تعاون على الإثم والعدوان ، وفيه رضاً بعمل الساحر الذي هو من الكفر والعياذ بالله ، وفيه تقرب للشيطان بأنواع القرب ليبطل عمل السحر ، وهذا من الكفر بالله تعالى ، فلا يتوكل الإنسان إلا على الله تعالى ، لأنه هو النافع الضار ، وهو الذي بيده دفع الضرر عن المريض ، ولهذا قال الحسن رحمه الله : " لا يحل السحر إلا ساحر " ، يعني أن من فك السحر بسحر مثله كالطلاسم والكلام الغير مفهوم فهو ساحر مشرك بالله تعالى ، ما لم يكن ذلك من الكتاب والسنة ، فإن كان منهما فهو جائز ، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن النشرة ، فقال : " هي من عمل الشيطان "
2- حله بالرقية الشرعية :
من الكتاب والسنة بشروطها الثلاثة المعروفة ، وهذا معلوم بالضرورة فقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بالمعوذتين ، وكذلك رقى النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ،فالرقية بالكتاب والسنة أمر مشروع لبركة الكتابين .
بيان أمور يفعلها العامة هي من الشرك :
هناك بعض الأمور التي يعتقدها كثير من الناس جهلاً منهم بأنه تنفع أو تضر ، وهي من الشرك ، والشرك فيها يختلف ، فمنها ما هو شرك أكبر مخرج من الإسلام ، ومنها ما هو شرك أصغر ، ويجب على المسلم أن يعرف تلك الأمور كي يأخذ الحذر والحيطة من أن يقع فيها ، وهذه الاستخدامات لا يستخدمها إلا أهل الشعوذة والدجل ، لجلب أنظار الناس إليهم ، ومن تلك الوسائل :
التولة : ما يؤلف به بين المرء وزوجته .
الطيرة : وهي التشاؤم من شيء معين معلوم ، كمن يتشاءم من يوم معين ، أو شهر معين ، أو فصل من السنة ، وقد يكون التشاؤم بالطير ، أو بالزمان ، أو بالمكان ، أو بالأشخاص . والواجب على المسلم أن يعلم أن كل ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطئه لم يكن ليصيبه ، بل كل ذلك بقدر الله تعالى ، ومن تشاءم من شيء فرده تشاؤمه عن مقصده وغايته ، فقد أشرك ، قال صلى الله عليه وسلم : " من ردته الطيرة عن حاجته ، فقد أشرك ، قالوا : فما كفارة ذلك ؟ قال : " أن تقولوا : اللهم لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك ، ولا إله غيرك " [ أخرجه أحمد قال الهيثمي حديث حسن ] ، وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم دواءً للطيرة ، فعن عقبة ابن عامر قال ذُكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أحسنها الفأل ـ الكلمة الطيبة ـ ولا ترد مسلماً ، فإذا رأى أحدكم ما يكره ، فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا بك " [ أخرجه أبو داود وقال النووي سنده صحيح ] .
العيافة : زجر الطير للتشاؤم أو التفاؤل ، والزجر أنواع : فقد يكون للصيد فهذا جائز ، وقد يكون للتشاؤم فهذا محرم ، يعني إذا رأى طيراً وكان قد نوى سفراً ، فإن يرمي الطير ليطير ، فإذا طار تبعه ببصره ، فإن ذهب يميناً تفاءل ومضى في سفره ، وإذا ذهب شمالاً تراجع عما أراده .
الطرق : وهو خط يخطونه في الأرض ، ويدعون كذباً أنه يحصل على كذا وكذا أو ما شابه ذلك ، وأكثر ما يفعل هذا الأمر النساء ، وهو نوع من السحر .
الودعة : شيء أبيض يجلب من البحر ، يعلق في حلوق الصبيان وغيرهم ، ويعتقدون أنها تدفع العين .
الحلقة : كثيراً ما تستخدم من أجل العلاج من العين .
الخيط : ويعلقونه على المحموم ـ يعني المصاب بلدغة عقرب أو حية ـ ويعقدون فيه عقداً بحسب اصطلاحاتهم ، وأكثرهم يقرأ عليه سورة الشرح ، ويعقد عند كل حرف كاف عقدة ، فيجتمع في الخيط تسع عقد بعدد الكافات ، ثم يربطون به يد المحموم أو عنقه .
الناب : وهو أخذ ناب الضبع وتعليقه بحجة أنه ينفع في العلاج من العين .
العين : استخدام عين الذئب بتعليقها في رقبة المريض ، ويزعمون أن الجن تفر منها ، ويقولون : إذا وقع بصر الذئب على جني فإنه لا يستطيع أن يفر منه حتى يأخذه . ولذلك فهم يعلقونها في رقبة المريض ، أو من مات حتى لا تقربه الجن . وهذا توكل على غير الله تعالى ، وهذا شرك مخرج من دائرة الإسلام .
النشرة : قال في النهاية النشرة بالضم ضرب من الرقية والعلاج يعالج به من كان يظن أن به مسا من الجن سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء أي يكشف ويزال ، وقال الحسن النشرة من السحر . وسميت نشرة لانتشار الداء وانكشاف البلاء به هو من عمل الشيطان أي من النوع الذي كان أهل الجاهلية يعالجون به ويعتقدون فيه وأما ما كان من الآيات القرآنية والأسماء والصفات الربانية والدعوات المأثورة النبوية فلا بأس به .
التميمة : هي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم فأبطلها الإسلام ، وفي الحديث التمائم والرقي من الشرك وفي حديث آخر من علق تميمة فلا أتم الله له ، كأنهم كانوا يعتقدون أنها تمام الدواء والشفاء وإنما جعلها شركا لأنهم أرادوا بها دفع المقادير المكتوبة عليهم وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه . قال السندي : المراد تمائم الجاهلية مثل الخرزات وعظامها وأما ما يكون بالقرآن والأسماء الإلهية فهو خارج عن هذا الحكم بل هو جائز . وقال القاضي أبو بكر العربي في شرح الترمذي تعليق القرآن ليس من طريق السنة وإنما السنة فيه الذكر دون التعليق . [ عون المعبود ] .(2/482)
وفي كل تلك الأمور تعلق بغير الله تعالى ، وهذا من الشرك سواءً الشرك الأكبر ، أم الشرك الأصغر ، وهنا لا بد من أن يفهم المسلم أقسام التعلق بغير الله :
1- الأول : ما ينافي أصل التوحيد :
وهو أن يتعلق بشيء لا يمكن أن يكون له تأثير ، ويعتمد عليه اعتماداً معرضاً عن الله . مثل تعلق أهل القبور بمن فيها من الأموات ، عند حلول المصائب والمحن ، وعند وجود المشاكل ، ولهذا يلجاؤون لغير الله لتفريج كربهم ، وتنفيسها ، وهذا شرك أكبر ، من فعله واعتقده فقد خرج من دائرة الإسلام ، وفارق جماعة المسلمين والعياذ بالله .
2- الثاني : ما ينافي كمال التوحيد :
وهو أن يعتمد على سبب شرعي صحيح مع الغفلة عن المسبب وهو الله عز وجل ، وعدم صرف قلبه إليه ، فهذا نوع من الشرك ، ولكنه ليس شركاً أكبر ، بل أقل منها ، لأن ما تعلق به سبب صحيح ، لكنه غفل عن المسبب .
3- ما لا ينافي التوحيد إطلاقاً :
وذلك بأن يتعلق بالسبب تعلقاً مجرداً ، لكونه سبباً فقط ، مع اعتماده أصلاً على المسبب وهو الله عز وجل ، ويعتقد أن الله تعالى هو النافع الضار ، ولكنه اتخذ الأسباب التي لا تنافي التوحيد ، لا أصلاً ولا كمالاً ، فهذا النوع جائز .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئا وكل إليه " [ أخرجه النسائي والبيهقي في السنن الكبرى ] ، وعن بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من سحر ، زاد ما زاد " [ أخرجه أحمد ] ، قال أبو سليمان الخطابي : المنهي عنه من الرقى ما كان بغير لسان العرب فلا يدرى ما هو ولعله قد يدخله سحر أو كفر ، فأما إذا كان مفهوم المعنى وكان فيه ذكر الله تعالى فإنه مستحب متبرك به والله أعلم ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه دخل على امرأته وفي عنقها شيء معقود فجذبه فقطعه ثم قال : لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " قالوا يا أبا عبد الرحمن : هذه الرقى والتمائم قد عرفناهما ، فما التولة ؟ قال : شيء تصنعه النساء يتحببن إلى أزواجهن به " [ رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم باختصار عنه وقال صحيح الإسناد ] التولة بكسر الشاة فوق وبفتح الواو شيء شبيه بالسحر أو من أنواعه تفعله المرأة إلى زوجها . [ الترغيب والترهيب ] .
استخدام السحر في أمور الخير :
السحر من علم الشياطين وعملهم ، قال تعال : " واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر " ، وقال تعالى : " ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق " ، وقال تعالى : ( ولا يفلح الساحر حيث أتى ) . وقال عليه الصلاة و السلام : " اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : وما هن ، قال : " الشرك بالله ، والسحر ... الحديث " ، وقال عليه الصلاة والسلام : " ليس منا من سحر أو سُحر له " ، وعلى هذا لا يجوز استخدام السحر لأي غرض من الأغراض . فإن السحر باطل ، والباطل بأنواعه من الكفر ، والفسوق ، والمعاصي ، وكل ذلك لا يمكن أن يكون طريقاً إلى الخير ، بل طريق إلى الشر ، ولا يغتر سامع بقول من قال بتلك الخرافات والخزعبلات التي قد تمر مرور الكرام على بعض المسلمين ، فالسحر محرم كله تعلمه وتعليمه ، والواجب طلب الأغراض النافعة بالطرق الشرعية التي لا إثم فيها ، وعاقبتها مأمونة ، والله تعالى قد أغنى عباده بما أباح لهم ، عما حرم عليهم فله الحمد والشكر على إنعامه وكثير أفضاله فهو يعطي بلا حساب .
طلب العلاج :
على الإنسان أن يسعى جاهداً من أجل الحصول على علاج ما به من آلام وأمراض ، فذلك لا ينافي الإيمان ، بل سعي لطلب الأسباب بعد التوكل على الله تعالى ، فقد أخرج بن ماجة من طريق أبي خزامة عن أبيه قال : قلت يارسول الله أرأيت رقىً نسترقيها ودواءً نتداوى به ، هل يرد ذلك من قدر الله شيئاً ؟ قال : " هي من قدر الله تعالى " .
لكن للرقية الشرعية الصحيحة ثلاثة شروط ، يجب توفرها فيها هي :
1- أن تكون من الكتاب والسنة : فلا تجوز من غيرهما .
2- أن تكون باللغة العربية : بأن تكون محفوظة ألفاظها ، مفهومة معانيها ، فلا يجوز تغييرها بأي لغة أخرى غير مفهومة .
3- أن يعتقد أنها سبب من الأسباب ، لا تأثير لها إلا بإذن الله عز وجل : فلا يعتقد النفع فيها لذاتها ، فالراقي هو السبب ، والله هو المسبب ، فلا نفع ولا ضر إلا بإذن الله .
فإذا اجتمعت تلك الشروط الثلاثة في الرقية ، كانت الرقية شرعية ، وإن اختل شرط واحد منها كانت غير شرعية بل ينهى عنها ، لأنها لا تُعرف ما هيتها ، ولا يُدرى أهي كفر أم إيمان ، وهل فيها نفع أم ضر ، وهل هي رقية أم سحر . فلذلك كل رقية تخلو من أي شرط من الشروط الثلاثة ، فليست من الله في شيء ، وليست من الكتاب والسنة في ظل ولا فيء . فيحرم التعامل بها أو اللجوء إلى من يفعلها .
الوقاية من السحر :
ينبغي للمسلم أن يقي نفسه وأهله كل مرض وكل داء ، ولا يتأتى ذلك بعد الله تعالى ، إلا بأخذ الأسباب المبدئية ، قبل وقوع البلاء ، وهناك سبل وقائية مبدئية يتبعها الإنسان حفاظاً على نفسه وأهل بيته من شرور الإنس والجن ، ومنها :
1- العجوة :(2/483)
ويستخرج من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تعطي الناس من أكلها كل وقت وكل حين بإذن ربها ، ألا وهي النخلة ، قال تعالى : { والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج } [ ق10/11 ] ، وقال تعالى : { وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً * فكلي واشربي وقري عيناً } [ مريم 25 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " ياعائشة بيت لا تمر فيه جياع أهله " [ رواه مسلم ] . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحنك الأطفال بالتمر ، لما فيه من مادة سكرية يمتصها المولود بسرعة ، فتحافظ على مستوى السكر في دمه ، أو يرفعه إلى مستواه الطبيعي . فعن أبي موسى قال : ولد لي غلام فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم ، فسماه إبراهيم وحنكه بتمرة . [ متفق عليه ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : " من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر " [ متفق عليه ] ، من تصبح : أي يأكلها قبل أن يطعم شيئاً . [ عون المعبود ] ، والعجوة ضرب من أجود تمر المدينة وألينه : قال الداودي : هو من وسط التمر ، وقال ابن الأثير : العجوة ضرب من التمر أكبر من الصيحاني ، وهو مما غرسه النبي صلى الله عليه وسلم بيده بالمدينة . قال الخطابي : كون العجوة تنفع من السم والسحر إنما هو ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لتمر المدينة لا لخاصية في التمر .
وقال صلى الله عليه وسلم : " من أكل سبع تمرات مما بين لا بيتها حين يصبح لم يضره سم حتى يمسي " [ متفق عليه ] . وعن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " في عجوة العالية أول البكرة على ريق النفس شفاء من كل سحر أو سم " [ أخرجه أحمد ] .
وعجوة المدينة أفضل من غيرها لما لها من خاصية وميزة عن بقية العجوة الأخرى ، لأن عجوة المدينة من غراس النبي صلى الله عليه وسلم . ولكن هذا لا يمنع أن تكون كل عجوة من غير المدينة نافعة في مثل ذلك ، للحديث السابق الذكر وأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق في الحديث ولم يقيد ، فدل على أن كل عجوة من التمر مفيدة للوقاية من السحر والسم .
2- الأذكار :
قد جعل الله لكل شئ سبباً ، وجعل سبب المحبة دوام الذكر ، فمن أراد أن ينال محبة الله عز وجل ، فليلهج بذكره سبحانه ، فالذكر باب المحبة ، وشارعها الأعظم ، وصراطها الأقوم ، قال تعالى : " فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون " [ البقرة 152] .
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب من الكلم الطيب : [ أن للذكر أكثر من مائة فائدة ] . وذكر منها :
أ – أن الذكر يطرد الشيطان ويمنعه ويكسره .
ب- أنه يرضي الرحمن .
ج – أنه يزيل الهم والغم عن القلب .
د- أنه يجلب للقلب الفرح والسرور .
قال تعالى في سورة الأحزاب : " والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً (35) " .
وقال صلى الله عليه وسلم : " مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت " [ البخاري ] ، وعند مسلم : " مثل البيت الذي يُذكر الله فيه ، والبيت الذي لا يُذكر الله فيه ، مثل الحي والميت " .
قال أبو الدرداء رضي الله عنه : لكل شيء جلاء وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل فمن أفضل ما يقي الإنسان الشرور بإذن الله تعالى ، الأذكار والمحافظة عليها باستمرار ، طرفي النهار ، وموعد الأذكار كما قال الله تعالى : " فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " [ ق 39 ] ، أي بعد الفجر وقبل طلوع الشمس ، وقبل غروب الشمس قبل المغرب ، فمن نسي أجزأه بإذن الله قول الأذكار ولو بعد صلاة المغرب .
وهناك أذكار الصباح والمساء موجودة ومطبوعة فما على المسلم إلا أن يأخذ واحدة منها ويقوم بمراجعتها دائماً ، وكثرة المراجعة كفيلة بإذن الله تعالى أن تؤدي لحفظها وهذا أمر مجرب .
فمن القرآن : سورة الفاتحة ، وآية الكرسي ، وخواتيم سورة البقرة ، والإخلاص ، والمعوذتين ، والإكثار من التسبيح والاستغفار ، والحوقلة ، ففيها أجر عظيم ، ومنافع جمة ، لا يعلمها الله تبارك وتعالى ثم من جربها ، وداوم عليها ، فهي حرز حصين ، بإذن الله تعالى ، وهناك أذكار من السنة ، حبذا لو حفظها كل مسلم ومسلمة ، وحافظ على ذكرها ليلاً ونهاراً ، لسلمنا من كثير من الأمراض النفسية وغير النفسية .
ومن الأذكار التي وردت في السنة وهي نافعة ومجربة ما يلي :
1- { باسم الله أرقيك ، من كل داء يؤذيك ، ومن شر كل نفس أوعين حاسد ، الله يشفيك ، باسم الله أرقيك } ( مسلم ) .
2- { باسم الله يبريك ، ومن كل داء يشفيك ، ومن شر حاسد إذا حسد ، ومن شر كل ذي عين } ( مسلم ) .
3- { أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق } .
4- { أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة } .
5- { أعوذ بكلمات التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ما ذرأ في الأرض ، ومن شر ما يخرج منها ، ومن شر فتن الليل والنهار ، ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارق يطرق بخير يارحمن } .
6- { أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون } .
7- { اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته ، اللهم أنت تكشف المأثم والمغرم ، اللهم لا يهزم جندك ولا يخلف وعدك سبحانك وبحمدك } .
8- { أعوذ بوجه الله العظيم ، الذي لا شئ أعظم منه ، وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، وبأسماء الله الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم من شر ما خلق وذرأ وبرأ ، ومن شر كل ذي شر لا أطيق شره ، ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته إن ربي على صراط مستقيم } .(2/484)
9- { اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم ، أعلم أن الله على كل شئ قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شئ علماً ، وأحصى كل شئ عدداً ، اللهم إني أعوذ من شر نفسي وشر الشيطان وشركه ، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم } .
(10) { تحصنت بالله الذي لا إله إلا هو إلهي وإله كل شئ ، واعتصمت بربي ورب كل شئ ، وتوكلت على الحي الذي لا يموت ، واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله ، حسبي الله ونعم الوكيل ، حسبي الرب من العباد ، حسبي الخالق من المخلوق ، حسبي الرازق من المرزوق ، حسبي الله هو حسبي ، حسبي الذي بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه ، حسبي الله وكفى ، سمع الله لمن دعا ، وليس وراء الله مرمى ، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم } .
(11) { اللهم رب الناس أذهب البأس أشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفائك شفاءٌ لا يغادر سقماً } .
(12) { بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم } . من قال ذلك ثلاث مرات حين يصبح وحين يمسي لم يضره شيء ، وهناك أذكار أخرى كثيرة موجودة في كتب السنة كما أسلفنا فيما مضى ، فعلى المسلم أن يجاهد نفسه ، وأن يخسأ شيطانه بالمحافظة على أذكار طرفي النهار .
الوقاية من السحر بعد وقوعه :
إذا وقع السحر وأثر في الإنسان فهناك طرق كثيرة لإخراجه من الجسد أياً كان موضعه ، ومن تلك الطرق ما يلي :
1- العسل :
والعسل : يُذكّر ويُؤَنّث ، ويستخرج من حشرة نافعة وهي النحلة ، حيث تتغذى على أكثر أنواع الأزهار والأشجار ذات الفوائد المعلومة عند أهل التخصص والخبرة ، فهي طيبة ولا تتغذى إلا على الطيب لذلك أخرج الله من بطونها شراباً وغذاءً يُتغذى به وفيه شفاء من كثير من العلل والأسقام ، قال تعالى : [ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ] ( النحل 68/69 ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( عليكم بالشفاءين : العسل والقرآن ) { بن ماجة والحاكم } ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( الشفاء في ثلاث : شربة عسل ، وشرطة محجم ، وكية نار ، وأنا أنهى أمتي عن الكي ) { البخاري } . وفي حديث آخر : ( وما أحب أن أكتوي ) { رواه البخاري ومسلم } . وفي الحديثين السابقين إشارة إلى أنه يؤخر العلاج بالكي حتى تدفع الضرورة إليه ، ولا يعجل التداوي به لما فيه من استعجال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أخف من ألم الكي .
2- الحبة السوداء :
ويكفينا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بهذه الحبة السوداء فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام ) والسام هو الموت . { البخاري ومسلم } .
قال العلامة بن القيم رحمه الله : ( وهي كثيرة المنافع جداً ) انتهى .
وتسمى الحبة السوداء عند بعض الناس بالشونيز أو الشونير .
3- زيت الزيتون :
شجرة الزيتون ، شجرة مباركة وثمرها مبارك ، قال تعالى : [ شجرة مباركة زيتونة ] ( النور35 ) ، وقد ورد ذكر شجرة الزيتون في عدة مواضع من القرآن الكريم ، قال تعالى : [ والتين والزيتون ] ( التين 1 ) ، وقال تعالى : [ وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ] ( المؤمنون20 ) ، وذكر العلامة بن سعدي رحمه الله في تفسيره : [ أنها تنبت في أرض الشام ] ، وقال بن كثير رحمه في تفسيره : [ محلة التين والزيتون وهي بيت المقدس ] ، وقال القرطبي في تفسيره : [ وأقسم الله بالزيتون وهو أكثر أدم أهل الشام والمغرب ، يصطبغون به ، ويستعملونه في طبيخهم ، ويستصبحون به ، ويداوى به أدواء الجوف والقروح والجراحات ، وفيه منافع كثيرة ]، ولذلك أنفع الزيت زيت الأرض المباركة ببيت المقدس ، قال صلى الله عليه وسلم : ( كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة ) { الترمذي وابن ماجة وصححه الحاكم } ، وعند البيهقي وبن ماجة والحاكم وحسنه الألباني في صحيح الجامع ، قال صلى الله عليه وسلم : ( ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة ) .
ثم يقرأ على زيت الزيتون الآيات التي قرأت على ورق السدر والتي سأذكرها بعد قليل ، ثم يدهن بها موضع السحر الموجود أو يدهن بها كامل الجسد ، وسوف يبرأ بإذن الله تعالى صاحبه .
4- ماء زمزم :
زمزم هو اسم للبئر التي في المسجد الحرام ، وماء زمزم خير ماء على الأرض ، لما روى الطبراني عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم ، فيه طعام الطعم ، وشفاء من السقم ) [ صححه الألباني في صحيح الجامع ] ، فماء زمزم طعام الجائع ، وشراب الظامئ ، وشفاء السقيم ، وهذا مع إخلاص النية لله تعالى ، والصدق في ذلك ، لما حصل لأبي ذر عندما أقام شهراً بمكة لا قوت له إلا ماء زمزم [ في الصحيح ] ، وكانوا قديماً يسمون زمزم في الجاهلية ( شِباعة ) لأنها تروي وتشبع وتغني عن غيرها ، ودخل بن المبارك زمزم فقال : اللهم إن بن المؤمل حدثني عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ماء زمزم لما شرب له " اللهم فإني أشربه لعطش يوم القيامة [ ابن ماجة وصححه الألباني وهو في الإرواء ] ، وسماه بن عباس شراب الأبرار ، وقال بن القيم رحمه الله : [ وقد جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة ، واستشفيت به من عدة أمراض فبرأت بإذن الله ] .
هذا هو ماء زمزم وبعض ما ذكر فيه من فضائل وفوائد .
5- ورق السدر :(2/485)
ومما يعالج به السحر ، وكذلك المربوط عن أهله ، بأن يؤخذ سبع ورقات سدر ، وتدق بين حجرين أو في النجر ويسميه بعض الناس بالهاون ، أو غير ذلك ، ثم يوضع عليها ماء بنحو عشرين لتراً ، أي ما يكفي للشرب منه والاغتسال ، ثم يُقرأ عليها الآيات التالية :
1- أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين * [ سبع مرات ] .
2- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم * [ سبع مرات ] .
3- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير * آمن الرسول بما أنزل إليه منم ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفساً إلا وسعاها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولاتحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفرلنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين *
4- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون * فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون * فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين * وألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين *
5- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم * فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون * فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون *
6- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما ن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنه تسعى * فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى * فألقي السحرة سجداً * قالوا آمنا برب هارون وموسى *
7- بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد * [ سبع مرات ] .
8- بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد * [ سبع مرات ] .
9- بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس * [ سبع مرات ] .
10- بسم الله الرحمن الرحيم قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين * [ سبع مرات ] .
11- قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير * [ سبع مرات ] .
12- ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك وأمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض واغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من عندك وشفاء من شفائك على هذا الوجع [ سبع مرات ] .
13- أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر . [ سبع مرات ] .
14- وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم * [ سبع مرات ] .
15- لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون * هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارىء المصور له الأسماء الحسنى - يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم * [ سبع مرات ] .
16- أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب
17- ربي إني مسني الضر وأنت ارحم الرحمين
18- اللهم يا رافع السماوات السبع ارفع عني ما أنا فيه .
19- " ويشف صدور قوم مؤمنين "
20- يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث ومن عذابك نستجير أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك .
ملاحظة هامة :
ويمكن أن تقرأ تلك الآيات على المريض مباشرة ، وهذا الأمر أنفع وأفضل حتى يتسنى للقارئ مخاطبة الجني وإخراجه بالتي هي أحسن دون أدنى ضرر قد يلحق بالمريض أو الموجودين عنده .
العلاج مطلوب شرعاً ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " تداووا ولا تداووا بحرام " ، لكن من صبر على المرض فأجره عظيم ، وفضل ذلك كبير ، قال عطاء بن أبي رباح : قال لي ابن عباس ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت بلى ، قال : هذه المرأة السوداء ، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أصرع ، وإني أتكشف فادع الله لي ، قال : " إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك ؟ " فقالت : أصبر ، فقالت : إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف ، فدعا لها " [ متفق عليه ] .(2/486)
ومن صبر ولم يتعرض لأحد أن يقرأ عليه أو يرقيه ، فهو داخل بإذن الله تعالى مع السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، ودليل ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما : حدثنا سعيد بن منصور حدثنا هشيم أخبرنا حصين بن عبد الرحمن قال : " كنت عند سعيد بن جبير فقال : أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟ قلت : أنا ، ثم قلت أما إني لم أكن في صلاة ولكني ، لدغت ، قال : فماذا صنعت ؟ قلت : استرقيت . قال : فما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشعبي ، فقال : وما حدثكم الشعبي ؟ قلت : حدثنا عن بريدة بن حصيب الأسلمي أنه قال : لا رقية إلا من عين أو حمة . فقال : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، ولكن حدثنا بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي ليس معه أحد ، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي : هذا موسى صلى الله عليه وسلم وقومه ، ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب " ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فقال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله ، وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما الذي تخوضون فيه " فأخبروه فقال : " هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون " ، فقام عكاشة بن محصن فقال : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : " أنت منهم " ، ثم قام رجل آخر فقال ادع الله أن يجعلني منهم فقال سبقك بها عكاشة " [ متفق عليه واللفظ لمسلم ] .
ولفظ البخاري رحمه الله : " حدثنا مسدد ، حدثنا حصين بن نمير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن جبير ، عن بن عباس رضي الله عنهما قال : خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال : " عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد ورأيت سوادا كثيراً سد الأفق فرجوت أن يكون أمتي ، فقيل : هذا موسى وقومه ثم قيل لي انظر فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق ، فقيل لي : انظر هكذا وهكذا فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق فقيل هؤلاء أمتك ، ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فتفرق الناس ولم يبين لهم فتذاكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا أما نحن فولدنا في الشرك ولكنا آمنا بالله ورسوله ولكن هؤلاء هم أبناؤنا فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن فقال أمنهم أنا يا رسول الله قال نعم فقام آخر فقال أمنهم أنا فقال سبقك بها عكاشة " .
قال الحافظ بن حجر رحمه الله :
قوله كانوا لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون اتفق على ذكر هذه الأربع معظم الروايات في حديث بن عباس وإن كان عند البعض تقديم وتأخير وكذا في حديث عمران بن حصين عند مسلم وفي لفظ له سقط ولا يتطيرون هكذا في حديث بن مسعود وفي حديث جابر اللذين أشرت إليهما بنحو الأربع ووقع في رواية سعيد بن منصور عند مسلم ولا يرقون بدل ولا يكتوون وقد أنكر الشيخ تقي الدين بن تيمية هذه الرواية وزعم أنها غلط من راويها واعتل بأن الراقي يحسن إلى الذي يرقيه فكيف يكون ذلك مطلوب الترك وأيضا فقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ورقى النبي أصحابه وأذن لهم في الرقى وقال من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل والنفع مطلوب قال وأما المسترقي فإنه يسأل غيره ويرجو نفعه وتمام التوكل ينافي ذلك قال وإنما المراد وصف السبعين بتمام التوكل فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم ولا يتطيرون من شيء . [ فتح الباري ] .
وقال الألباني رحمه الله تعالى (( ليس عند البخاري ( لا يرقون ) وعنده مكانها ( لا يكتوون ) ولفظ مسلم شاذ سنداً ومتناً )) . [ رياض الصالحين 70 ، ومختصر صحيح مسلم 36 ] .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله (( قوله لا يرقون كلمة غير صحيحة ولا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن معنى لا يرقون أي لا يقرؤون على المرضى وهذا باطل فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرقي المرضى )) .
وقد ورد أن مع كل واحد من السبعين ألفاً سبعين ألفاً فانظر إلى فضل الله عز وجل ورحمته بخلقه ، فاللهم لك الحمد والمنة .
ولكن لابد من توفر الشروط التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم فيهم وهي :
أولاً : لا يسترقون : أي لا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم إذا أصابهم شيء .
ثانياً : ولا يكتوون : أي لا يطلبون من أحد أن يكويهم إذا مرضوا .
ثالثاً : ولا يتطيرون : أي لا يتشاءمون .
رابعاً : وعلى ربهم يتوكلون : أي يعتمدون على الله وحده .
فخلاصة القول :
أن الإنسان لا يتوكل إلا على الله ، ولا يلجأ إلا إلى الله ولا يستعين إلا بالله سبحانه ، فيكون أمره كله لله .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : { من قال ( إذا خرج من بيته ) بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، يقال له : هُديت وكُفيت ووقِيت وتنحى عنه شيطان } وزاد أبو داود : { فيقول الشيطان ، لشيطان آخر : كيف لك برجل قد هُدي وكُفي ووقي } [ أخرجه الترمذي والنسائي وأبو داود وهو صحيح ] .(2/487)
فالتوكل على الله حصن حصين ، ودرع متين ، يتحصن به المسلم من الشياطين . ولما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار كان أخر ما قال ( حسبي الله ونعم الوكيل ) ، فجاء الرد عاجلاً وسريعاً ممن عليه يتوكل المتوكلون : " قلنا يانار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم " [ الأنبياء 69 ] .
فالتوكل ثمرة عظيمة وصفة جليلة ينبغي للمؤمن أن يتحلى بها وهي من كمال العبودية لله عز وجل ، وحق من حقوق الله على عباده .
6- السنا :
قد يكون السحر مستقراً في المعدة ، فإذا كان ذلك نفع فيه بإذن الله تعالى شربة ( السنا ) وهي مجربة نافعة بإذن الله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو أن شيئاً كان فيه شفاء من الموت لكان السنا " [ رواه الترمذي ] .
وطريقة تحضيرها بأن توضع شربة السنا في قدر به لتر من الماء ، ثم تغلى على النار ، وبعد غليها تصفى من التفل ، وتترك لتبرد ، ثم يشرب منها المريض مقدار ثلاثة أكواب على الريق ، ويمكن أن يضاف لها عسل النحل لتحليتها ، بعدها يشعر المريض بإسهال شديد وقد يكون مصحوباً بمغص خفيف، ولكن بدون التهاب في الأمعاء ، فإذا بدأ مفعول شربة السنا في العمل ، فإنه يستفرغ جميع ما في البطن من فضلات ، وبذا تخرج المادة السحرية بإذن الله تعالى ، وهي مجربة نافعة ، ويمكن أن يحضر كوب ماء مغلي ويضع فيه قليلاً من ورق السناء ويخلطه ثم يترك ليبرد ثم يشرب بعد ذلك ، والله المستعان وعليه التكلان .
7- الحجامة :
الحجامة ، من الاستفراغات النافعة بإذن الله تعالى في دفع السحر ، والحجّام المصّاص ، يقال للحاجم حجام لامتصاصه فم المحجم . وأفضل أوقات الحجامة ما ثبت في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من احتجم لسبع عشرة من الشهر وتسع عشرة وإحدى وعشرين كان له شفاء من كل داء " [ أخرجه أبو داود ، بسند حسن . انظر صحيح الجامع ، وزاد المعاد 4/54 ] . قال ابن القيم رحمه الله : الحجامة في النصف الثاني من الشهر أنفع من أوله وآخره . قيل في الأثر : " الحجامة على الريق دواء ، وعلى الشبع داء ، وفي سبع عشرة من الشهر شفاء " .
وقيل أن الحجامة تكره يوم الأربعاء والسبت ، وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن الحجامة ، أي يوم تكره ؟ فقال : يوم السبت ويوم الأربعاء ، ويقولون : يوم الجمعة . وقد روي في ذلك حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : " من احتجم يوم الأربعاء ، أو يوم السبت ، فأصابه بياض أو برص ، فلا يلومن إلا نفسه " [ أخرجه الحاكم والبيهقي ، وفي سنده سليمان بن أرقم وهو متروك ، فلا يصح الحديث ] . وقيل أن أفضل أيام الحجامة يوم الاثنين ، وقد رويت عدة أحاديث في ذلك ، لكن كلها لا تخلوا من الضعف ، فلا يعول عليها حكم ، والصحيح في ذلك أن الإنسان متى ما احتاج إلى الحجامة ، فله ذلك في أي وقت ، ولكن كل ما ذُكر من باب الاحتياط والحفاظ على الصحة والتحرز من الأذى .
وقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم في رأسه لصداع كان به ( البخاري ) ، وأخرج البخاري ومسلم من حديث طاووس ، عن بن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم : " احتجم وأعطى الحجّام أجره " ، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الحجامة في قوله : " ثمن الحجام خبيث " [ أخرجه مسلم . منة المنعم 3 / 46 ، وابن حبان 11 / حديث رقم 5151 ] ، وفي الصحيحين أيضاً عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خير ما تداويتم به الحجامة " .
وأما إذا كان للسحر تأثيراً في الرأس فعلاجه يكون بالحجامة وقد تقدمت الأحاديث الواردة في فائدة الحجامة ، وهي نافعة بإذن الله تعالى في مثل هذه الحالات .
وكذلك إذا كان السحر في أي عضو من أعضاء الجسد فيمكن استخراج المادة السحرية منه عن طريق الحجامة ، أو أي طريقة استفراغ كانت من أجل أن يتم استخراج مادة السحر فيبرأ المريض بإذن عز وجل .
8- الدعاء :
وهو من أنفع العلاجات ، لجميع الأمراض ، والأسقام ، عضوية كانت أم غير عضوية ، فهاهو النبي صلى الله عليه وسلم ، يلجأ إلى ربه تبارك وتعالى ، لكشف طبه الذي طُب به ، فاستجاب الله له ، فكشف ما به من ضر .
ولكن يجب على المسلم أن يحذر موانع إجابة الدعاء ، ويجتنبها حتى يسلم له دعاؤه ، ومن هذه الموانع ما يلي :
1- أكل الحرام : ومن ذلك أكل الربا ، والرشوة ، وخصوصاً لما
يتوصل به إلى حرام ، وأكل أموال الناس بالباطل ، وأكل الميتة .
2- شرب الحرام : ومن ذلك شرب الخمور والدخان والمخدرات والمسكرات ، وكل ما فيه ضرر على الإنسان .
3- لبس الحرام : كمن يلبس ثوباً مسروقاً ، أو ثوب حرير ، أو الثوب الذي يشبه ثياب النساء ، أو ثياب الكفار ، أو الثوب الطويل الذي هو أسفل من الكعبين ، ومعلوم خلاف العلماء في صحة صلاة من صلى بثوب محرم ، فلينتبه المسلم إلى ذلك الخطر .
4- التغذي بالحرام : وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم : " الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يارب يارب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك " [ رواه مسلم ] .
5- عدم التعجل في إجابة الدعاء : لأن ذلك يجعل الإنسان يتباطأ الإجابة فيترك الدعاء ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي " [ رواه البخاري ] .
الحذر من السحرة والمشعوذين :(2/488)
فليحذر المسلم من أهل الدجل من الكهنة والمشعوذين ، والسحرة والساحرين ، وغيرهم من الماكرين والمبتزين ، واللاعبين بعقول ضعاف المسلمين ، فعليهم من الله ما يستحقون ، فمن اعتمد عليهم خذلوه وما زادوه إلا وهناً ومرضاً ، واعلم والله أنه ما رجا مخلوق مخلوقاً غير الله إلا خذله وما نفعه ، وذلك لأنه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فكيف ينفع غيره أو يضره ، فالله المستعان وعليه التكلان ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له ، أو سحر أو سحر له " [ حسنه الألباني في غاية المرام ] ، وقال عليه الصلاة والسلام : " من أتى عرافاً فسأله عن شئ لم تقبل له صلاة أربعين ليلةً " [ أخرجه مسلم ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد " [ صحيح أخرجه البزار واللفظ له ، وأخرجه أبو داود بدون لفظ ساحر " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " من أتى كاهناً أو عرافاً ، فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " [ أخرجه أحمد والحاكم في المستدرك ، وقال صحيح الإسناد على شرط الشيخين ] ، وفي فتح المجيد شرح كتاب التوحيد : [ قال البغوي : العراف : الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك ، والكاهن : هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل وقيل الذي يخبر عما في الضمير ] انتهى . فمن ادعى علم الغيب فهو كافر بالله تعالى مكذب بالقرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : " قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون " [ النمل 65 ] ، وقال تعالى : " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول " [ الجن 26/27 ] ، ومن المعلوم أن الرسالة قد انقطعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين ، فمن أين لأولئك بمعرفة الغيب ، وقد قال تعالى : " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيئاً عليماً " [ الأحزاب 40 ] .
فليتق الله أناس عرفوا الحق من الباطل ، وميزوا الخير من الشر واشرأبت نفوسهم أمر الله عز وجل وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام ثم يذهبون يتخبطون في ظلمات أولئك السحرة والدجالين غير آبهين بما أعد الله لهم من عذاب وعقوبات من جراء تلك الرحلات إلى أجواء الكذابين والكذابات .
وفي ختام هذا الموضوع أسأل الله العلي القدير ، أن يقينا وجميع المسلمين ، كيد السحرة والساحرين ، وأن يذهب عنا مكر الماكرين ، اللهم من أراد المسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره ، واجعل تدبيره تدميراً عليه ، اللهم نكس رأسه ، واجعل الخوف لباسه ، اللهم رد كيده عليه ، اللهم لا ترفع له راية ، واجعله لمن خلفه عبرة وآية . ياقوي ياعزيز ، ياجبار السموات والأرض .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .
المؤلف من يرجو فضل ربه وعفوه
يحيى بن موسى الزهراني
==================
التكفير وضوابطه
د. منقذ بن محمود السقار
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، رسول رب العالمين، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً، وبعد :
فقد بعث الله نبيه بالحجة البينة الواضحة، فأنار السبيل، وكشف الظلمة، وترك أمته على محجة بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
وكان من أوائل من زاغ عن هديه e الخوارج، فكانوا أول البدع ظهوراًً في الإسلام , وأظهرها ذماًً في السنة النبوية , فإن ذو الخويصرة قال للنبي e: اعدل يا محمد! فإنك لم تعدل, فأخبر النبي e عن خروجه وخروج أصحابه، وذكر أنهم ((يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)).1
وتحقق قول النبي r فيه وفي أصحابه من أهل النهروان، وقد "كان دينهم الذي اختصوا به من بين الداخلين في الفتن هو تكفير بعض المسلمين بما حسبوه كفراً، فوردت الأحاديث بمروقهم بذلك وتواترت، وهي في دواوين الإسلام الستة".2
وتصدى سلف الأمة لهذه الفتنة، وكان من أقوم سُبل معالجتها صبر عليٍّ وأناتُه على الخوارج، وإرساله حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لمحاورتهم ومجادلتهم.
فعاد إلى الحق جمهور كبير منهم، بينما كان سيف الحق بالمرصاد لبقيتهم، ممن اختار الغواية والعماية، ليسطع نور الحق من جديد، وتضمحل هذه الضلالة إلى أن غدت أثراً بعد عين.
لكن ذلك لم يمنع تداول هذا الفكر في العصور التالية، وإن سلُم هذه المرة من آفة الخروج والقتال، وتجسد ذلك في الفرق الإسلامية البدعية المختلفة التي أشهرت سيف التكفير في وجه مخالفيها، حتى غدا التكفير سمة لا تنفك عن أهل البدع: "وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع الذين يبتدعون بدعة، ويكفرون من خالفهم، كالخوارج والمعتزلة والجهمية".3
وما زال هذا الوباء يسري بين المسلمين حتى وصل إلى بعض المتنسبين للمذاهب الفقهية لأهل السنة والجماعة، فتداول متعصبة المذاهب تكفير الآخرين "ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم".4
ومن ذلك قول الرستغفني الحنفي: "لا تجوز المناكحة بين أهل السنة والاعتزال. وقال الفضل: لا يجوز بين من قال: أنا مؤمن إن شاء الله، لأنه كافر، ومقتضاه منع مناكحة الشافعية".5 فهو يرى كفر الشافعية الذين يوجبون الاستثناء في الإيمان.
ومثل هذا قول أبي القاسم البكري، وهو يعرّض بالحنابلة أمام طلابه في المدرسة النظامية: "وما كفر سليمان، ولكن الشياطين كفروا، والله ما كفر أحمد، ولكن أصحابه كفروا ".6(2/489)
لكن هذه الصورة من صور التكفير لم يكن لها كبير أثر في المسلمين، لأنها كما قال ابن الهمام: "ويقع في كلام أهل المذاهب تكفير كثير، ولكنه ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون، بل من غيرهم، ولا عبرة بغير الفقهاء".7
وفي أواسط القرن الميلادي العشرين، وفي غياهب سجون الظلم عادت هذه الظاهرة من جديد، فبدأ شررها بتكفير الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ويوقعون بدعاة تحكيم الشريعة الظلم والاضطهاد، ثم امتد بهم التكفير ليعم كل من يعمل في أجهزة الدولة، ومازال البلاء يطم ويعم، حتى قال قائلهم بتكفير المجتمع كله، إلا من قال بقولهم، أو انتمى إلى فكرهم، ولو لم يجاوزوا عدد أصابع اليدين.
وهذه البدعة - كسائر البدع - لا تعدم دليلاً تتعلق به بعد ليّ معناه أو تأويله وتحريفه "ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة، ولا أحداً من المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية، يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة.. بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة، وفي كتب التواريخ والأخبار من ذلك أطراف ما أشنعها في الافتئات على الشريعة". 8
لكن هذا لا يعني أن ما يتعلق به الواهمون صالح للاستدلال على المسائل المثارة، فإن "العلم شيئان: إما نقل مصدق، وإما بحث محقق، وما سوى ذلك فهذيان مسروق، وكثير من كلام هؤلاء هو من هذا القسم من الهذيان، وما يوجد فيه من نقل، فمنه ما لا يميز صحيحه عن فاسده، ومنه ما لا ينقله على وجهه، ومنه ما يضعه في غير موضعه...".9
وهؤلاء الذين حرموا التحقيق والتوثيق لمقالاتهم فاتهم الغوصُ في كثير من بحور العلم، مما لا يغنيهم عنه ما أدركوه في ساحله، فأقعدهم القليل عن طلب الكثير، وصدق من قال: " إنما يُفسد الناسَ نصفُ متكلم، ونصف فقيه، ونصف نحوي، ونصف طبيب، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد اللسان، وهذا يفسد الأبدان". 10
وأمام داهية عود التكفير - من جديد - بين بعض شباب المسلمين رأت رابطة العالم الإسلامي أن تسهم في التصدي لهذه الضلالة، بياناً للحق، وقياماً بالواجب، ولتكون هذه الدراسة وغيرها نبراس هداية لكل من استزله الشيطان فوقع في إخوانه المسلمين تكفيراً وتفسيقاً.
واللهَ نسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تعريف الكفر والردة
يلج العبد إلى الإسلام بنطقه للشهادتين أعلى شعب الإيمان، ويطمئن قلبه بالإيمان، تشهد له جوارحه بذلك، وهو يركع لله ويسجد، فيُحكم له بالإسلام يقيناً، ويحظى - في الدنيا - بما تستتبعه هذه الكلمة العظيمة من حقوق الولاء وحرمة الدم والعرض والمال، وأما الآخرة فهي دار كرامة الله للمؤمن، فالمؤمن ينجو فيها بإيمانه ((فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي وجه الله))11.
والعاصي - وكلنا عاص - يخلص بإسلامه ونطقه لتلك الكلمة الطيبة، فعن أنس أن النبي r قال: ((يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله. وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله. وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله. وفي قلبه وزن ذرة من خير )).12
ومثل هذه الشهادات الموثقة للمسلم لا تُنقض إلا بارتكابه جرماً عظيماً ينقض عروة الإيمان وأصله، فتطيش صحائفه ويبور عمله ] إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً[ (النساء : 137).
والذي يهدم أصل الإيمان هو الردة عن الدين والكفر بالله، سواء كان ذلك باللسان أم القلب أم العمل، أم بهن جميعاً.
والكفر في اللغة بمعنى الستر والتغطية , يقال للمزارع : " كافراً " لأنه يغطي البذر بالتراب , ومنه سمي الكفر الذي هو ضد الإيمان " كفراً "، لأن في كفره تغطية للحق بجحد أو غيره , وقيل : سمي الكافر "كافراً " لأنه قد غطى قلبه بالكفر. 13
وقد عرف أهل الاصطلاح الكفر والردة بمعان تدور حول جحود العبد، أو تكذيبه لأصول الإسلام، أو ارتكابه لما هو ناقض من نواقض الإيمان والإسلام.
يقول ابن حزم معرِّفاً الكفر: " وهو في الدين: صفة من جحد شيئاً مما افترض الله تعالى الإيمان به، بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه بقلبه دون لسانه، أو بلسانه دون قلبه، أو بهما معاً، أو عمل عملاً جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان".14
وأما الغزالي فيرى أن الكفر: " هو تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام، في شيء مما جاء به ".15
ويقول السبكي: " التكفير حكم شرعي، سببه جحد الربوبية والرسالة، أو قول أو فعل حكم الشارع بأنه كفر، وإن لم يكن جحداً".16
ويقول ابن تيمية: " الكفر يكون بتكذيب الرسول r فيما أخبر به، أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم".17
ويقول: "والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين ضرورة أو بإنكار الأحكام المتواترة والمجمع عليها".18
وأما الباقلاني فيضيف إلى خصال الكفر الجهل بالله تعالى "الكفر: هو ضد الإيمان، وهو الجهل بالله عز وجل، والتكذيب له الساتر لقلب الإنسان عن العلم به، فهو كالمغطي للقلب من معرفة الحق". 19
وهو غير معارض في هذا لما ذكره العلماء من تعريف الجحود بأنه : الإنكار مع العلم، أو كما عرفه الراغب الأصفهاني: نفي ما في القلب إثباته، وإثبات ما في القلب نفيه، كما قال تعالى: }فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون { ( الأنعام: 33). 20(2/490)
إذ الجحود عند بعض الفقهاء يطلق، ويراد به التكذيب بالإيجاب، المنافي للتصديق، كما يراد به أيضاً الامتناع عن الإقرار والامتناع عن الالتزام، وهو ما ينافي الانقياد. 21 وأي جهل بالله أعظم من أن ينكر العبد ربه وقد استيقنه بقلبه.
لكن الذي نتناوله في بحثنا هو حالة معينة من حالات الكفر، وهو الكفر بعد الإيمان والدخول في الإسلام، لا الكفر الأصلي، ولا النفاق الاعتقادي الذي يسره المنافق في قلبه، ويظهر لنا خلافه.
وهذا الذي يسميه العلماء بالردة، فالمرتد لغة: هو الراجع. ومنه قوله تعالى: }ولا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين{ (المائدة: 21).
قال الأصفهاني: "الردة: الرجوع في الطريق الذي جاء منه".22
ويقول البهوتي معرفاً الردة عند أهل الاصطلاح: " الذي يكفر بعد إسلامه نطقاً، أو اعتقاداً، أو شكاً، أو فعلاً ".23
و أما الكاساني فيقول في بيان ركن الردة: "فهو إجراء كلمة الكفر على اللسان بعد وجود الإيمان، إذ الردة عبارة عن الرجوع عن الإيمان".24
ويقول خليل في مختصره: "الردة كفر المسلم بصريح لفظ يقتضيه أو فعل يتضمنه".25
ويقول النووي: " الردة هي قطع الإسلام بنيِّة، أو قول كفر، أو فعله، سواء قاله استهزاءً، أو عناداً، أو اعتقاداً". 26
وهكذا فالردة هي الرجوع عن الإسلام بارتكاب ناقض من نواقضه القولية أو القلبية أو العملية، والردة صورة من صور الكفر التي تدور بمجموعها حول التكذيب والجحود.
التحذير من التكفير
ولخطورة القول بكفر المسلم وما يتبعه من أحكام في الحال والمآل، فإن القرآن والسنة يحذران من إطلاق هذا الحكم من غير تبينٍ ولا تثبت.
قال تعالى : ]يا أيّها الّذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل اللّه فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدّنيا فعند اللّه مغانم كثيرة كذلك كنتم مّن قبل فمنّ اللّه عليكم فتبيّنوا إنّ اللّه كان بما تعملون خبيراً[ (النساء: 94).
قال القرطبي : " معنى قوله: ]فتبينوا[ أي الأمر المشكل، أو تثبتوا ولا تعجلوا، المعنيان سواء، فإن قتله أحد فقد أتى منهياً عنه ". 27
والنبي e حذر من التكفير أشد التحذير فقال: ((إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما)). 28
ويروي أبو ذر رضي الله عنه عن النبي e أنه قال: (( لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك)).29
قال ابن عبد البر: " فقد باء القائل بذنب كبير وإثم عظيم، واحتمله بقوله ذلك، وهذا غاية في التحذير من هذا القول والنهي عن أن يقال لأحد من أهل القبلة: يا كافر".30
ويقول ابن دقيق العيد: "وهذا وعيد عظيم لمن أكفر أحداً من المسلمين وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين، ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث لما اختلفوا في العقائد، فغلظوا على مخالفيهم، وحكموا بكفرهم ". 31
وفي بيان معنى الحديث قال الحافظ ابن حجر: " والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم من أن يقول ذلك لأخيه المسلم … وقيل: معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره … فمعنى الحديث: فقد رجع عليه تكفيره، فالراجع التكفير لا الكفر، فكأنه كفَّر نفسه لكونه كفَّر من هو مثله...
وقال القرطبي:.. والحاصل أن المقول له إن كان كافراً كفراً شرعياً، فقد صدق القائل، وذهب بها المقول له، وإن لم يكن رجعت للقائل معرَّة ذلك القول وإثمه". 32
وفي حديث آخر يشبه النبي r تكفير المسلم بأعظم ذنب بعد الشرك بالله، وهو تعمد قتل المؤمن، فيقول: ((ومن قذف مؤمناً بكفر فهو كقتله)).33
ورمي المسلمين بالكفر باب لشرور عظيمة، لعل أهونها أنه من التنابز بالألقاب الذي نهى الله عنه، قال تعالى: ]ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان [ (الحجرات: 11).
قال ابن عبد البر: "هو قول الرجل لأخيه: يا كافر يا فاسق، وهذا موافق لهذا الحديث [الحديث السابق]، فالقرآن والسنة ينهيان عن تفسيق المسلم وتكفيره [إلا] ببيان لا إشكال فيه". 34
والتكفير استباحة لما حرمه الله من عرض المسلم، الذي أكد النبي r على حرمته في خطبته العظيمة في حِجة الوداع، فقال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، فليبلغ الشاهد الغائب)).35 والقول بكفر المسلم من أعظم ما يقدح في عرضه، وهو مستتبع لهتك ماله ودمه.
قال العز بن عبد السلام: " الأصل [في المسلم] براءة ذمته من الحقوق، وبراءة جسده من القصاص والحدود والتعزيرات، وبراءته من الانتساب إلى شخصٍ معين، ومن الأقوال كلها، والأفعال بأسرها". 36
ولما رأى ابن الوزير تتابع النصوص في النهي عن تكفير المسلم قال: " وفي مجموع ذلك ما يشهد لصحة التغليظ في تكفير المؤمن، وإخراجه من الإسلام مع شهادته بالتوحيد والنبوات، وخاصة مع قيامه بأركان الإسلام، وتجنبه للكبائر، وظهور أمارات صدقه في تصديقه لأجل غلط في بدعة، لعل المكفر له لا يسلم من مثلها أو قريب منها، فإن العصمة مرتفعة، وحسن ظن الإنسان بنفسه لا يستلزم السلامة من ذلك عقلاً ولا شرعاً، بل الغالب على أهل البدع شدة العجب بنفوسهم والاستحسان لبدعتهم ".37
ولغلظ أمر التكفير وشدة خطورته كان أصحاب النبي r يمتنعون عن إطلاق التكفير والتفسيق على أهل القبلة، روى ابن عبد البر عن أبي سفيان قال: "قلت لجابر: أكنتم تقولون لأحد من أهل القبلة: كافر؟ قال: لا. قلت: فمشرك؟ قال: معاذ الله. وفزع".38
ولما سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن أهل الجمل وصفين: أمشركون هم؟ قال: لا، من الشرك فروا. فقيل: أمنافقون؟ قال: لا، لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل: له فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا". 39(2/491)
ومما سبق ثبت يتضح أن الأصل في المسلم براءة الذمة، وأن الاعتداء عليه بتكفيره من أعظم ما توعد الله فاعله بوعيده، فقد توعده بالإثم العظيم أو الكفر، جزاء إقدامه على الولوغ في عرض أخيه المسلم.
التكفير حكم شرعي
وهذا الورع الذي رأيناه من أصحاب النبي e مرده أنهم فقهوا خطورة هذا الباب، كما أدركوا – بما آتاهم الله من فقه وبصيرة - أن التكفير حكم شرعي، كسائر الأحكام الشرعية، لا يصدر فيه إلا عن الأدلة الشرعية المعتبرة.
وقد فقه سلف الأمة وعلماؤها من بعدهم خطورة هذا الحكم من أحكام الشريعة، وحذروا من الخروج فيه عن أدلة الشرع المعتبرة إلى الهوى والرأي والتشفي.
يقول أبو حامد الغزالي: " الكفر حكم شرعي كالرق والحرية مثلاً، إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار، ومدركه شرعي، فيدرك إما بنص، وإما بقياس على منصوص".40
ويؤكد القاضي عياض أن : " كشف اللبس فيه، مورده الشرع، ولا مجال للعقل فيه".41
ويقول ابن تيمية: " الكفر حكم شرعي متلقى عن صاحب الشريعة، والعقل قد يُعلم به صواب القول وخطؤه، وليس كل ما كان خطأً في العقل، يكون كفراً في الشرع، كما أنه ليس كل ما كان صواباً في العقل، تجب في الشرع معرفته".42
ويقول ابن الوزير: " إن التكفير سمعي محض لا مدخل للعقل فيه"، ويقول: "إن الدليل على الكفر والفسق لا يكون إلا سمعياً قطعياً".43
وهكذا فالقول في هذه المسألة وغيرها من مسائل الدين والحياة مرده إلى علم الشريعة وفقه نصوصها، ولا يجوز في ذلك كله الخوض بلا علم ولا برهان من دين الله.
لكن تزداد خطورة القول بلا علم في مسألة التكفير لما فيها من إباحة الدماء وقطع الموالاة فالتكفير " حكم شرعي يرجع إلى إباحة المال وسفك الدماء والحكم بالخلود في النار".44
والحكم بالكفر تقرير لأمور خطيرة، منها " إسقاط العبادات عنهم إذا تابوا، وإسقاط جميع حقوق المخلوقين من الأموال والدماء وغيرهما، وإباحة فروج نسائهم إذا لم يتوبوا، وسفك دمائهم....".45
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إذا تبين ذلك، فاعلم أن مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل الأسماء والأحكام التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة، وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا، فإن الله سبحانه أوجب الجنة للمؤمنين، وحرم الجنة على الكافرين، وهذا من الأحكام الكلية في كل وقت ومكان".46
وكما سبق فإنه لا مدخل للعقل في هذه المسألة الشرعية، وكذلك فإن الهوى والتشفي والانتقام بالتكفير مذموم – من باب أولى - لما فيه من اعتداء على حكم الله وحقه وافتئات على عباده، لذا فإن "أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله كمن كذب عليك وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق لله، فلا يُكفر إلا من كفّره الله ورسوله".47
ويقول: "وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال: هي كفر، قولاً يطلق، كما دل على ذلك الدلائل الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك، بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه ". 48
وهكذا فإن التكفير حكم شرعي كسائر الأحكام التكليفية الأخرى، فلا يُصار إليه بالتشهي ولا بالظنون، فكما لا يقال عن أمر ما بأنه حرام أو واجب من غير دليل معتبر في الشرع، فإنه لا يقال بكفر مسلم من غير هذا الدليل، بل تكفير المسلمين أخطر وأقبح لما يستتبعه من أحكام دنيوية وأخروية في حق المكفَّر.
أقوال العلماء في التحذير من التكفير
أدرك علماء الإسلام فداحة القول بكفر المسلم فأطبقوا على منع التكفير إلا بدليل ساطع، لا مدافع له، إذ الشهادة بالكفر على الموحد من أعظم الزور والظلم والبهتان.
قال الشوكاني: " اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن ((من قال لأخيه: يا كافر. فقد باء بها أحدهما))... ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير".49
وأما ابن حزم فإنه يرى أن البرهان المطلوب للحكم بكفر المسلم ينبغي أن يكافئ ما ثبت به إسلامه، فلا يرفع عنه اسم الإسلام إلا بنص أو إجماع: "والحق هو أن كل من ثبت له عقد الإسلام، فإنه لا يزول عنه إلا بنفي50 أو إجماع، وأما بالدعوى والافتراء فلا.
فوجب أن لا يكفر أحد بقول قاله إلا بأن يخالف ما قد صح عنده أن الله تعالى قاله، أو أن رسول الله r قاله، فيستجيز خلاف الله تعالى وخلاف رسوله عليه الصلاة والسلام، وسواء كان ذلك في عقد دين أو في نحلة أو في فتيا، وسواء كان ما صح من ذلك عن رسول الله r منقولاً نقل إجماع تواتراً أو نقل آحاد".51
وبمثله قال الباقلاني: "ولا يكفر بقول ولا رأي إلا إذا أجمع المسلمون على أنه لايوجد إلا من كافر، ويقوم دليل على ذلك، فيكفر".52
ويقول ابن تيمية: "فليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزُل ذلك عنه بالشك، بل لا يزال إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة".53(2/492)
ومثله في الاحتياط وطلب السلامة من هذه البلية قول ابن عبد البر: "ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مدفع له، أن كل من ثبت له عقد الإسلام في وقت بإجماع من المسلمين، ثم أذنب ذنباً أو تأول تأويلاً، فاختلفوا بعد في خروجه من الإسلام لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معنىً يوجب حجة، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر أو سنة ثابتة لا معارض لها، وقد اتفق أهل السنة والجماعة، وهم أهل الفقه والأثر على أن أحداً لا يخرجه ذنبه - وإن عظم - من الإسلام، وخالفهم أهل البدع، فالواجب في النظر أن لا يكفَّر إلا من اتفق الجميع على تكفيره، أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة".54
ويروي ابن نجيم عن الطحاوي وغيره من علماء الحنفية قولهم بأن المسلم لا يخرج من الإسلام إلا بأمر يتيقن كفر صاحبه: " ما تيقن أنه ردة يحكم بها، وما يشك أنه ردة لا يحكم بها، إذ الإسلام الثابت لا يزول بشك، مع أن الإسلام يعلو، وينبغي للعالم إذا رفع إليه هذا أن لا يبادر بتكفير أهل الإسلام".55
ولما كان المكفرون لا يملكون - غالباً - الدليل المتيقن على كفر المخالف، فإنهم يعتمدون القياس في استدلالهم، وهو دليل لا يراه ابن الوزير كافياً في تكفير المشبهة والمجبرة، فإن كثيراً من العلماء لم يكفروهم، ونقل عن الشيخ مختار في كتابه "المجتبى" قوله: "لأن حجة من كفرهم القياس على المشركين المصرحين، وهما [أي أبو الحسين والرازي] قد قدحا في صحة هذا القياس، دع عنك كونه قطعياً، وذلك القدح هو بوجود الفارق الذي يمنع مثله من صحة القياس، وهو إيمان هؤلاء بجميع كتب الله تعالى وجميع رسله بأعيانهم وأسمائهم إلا من جهلوه، وإنما يخالفون حين يدعون عدم العلم، ثم ظهر عليهم ما يصدق من ذلك من إقامة أركان الإسلام وتحمل المشاق العظيمة بسبب تصديق الأنبياء عليهم السلام، ولأن القياس عند المحققين من علماء المعقولات لا يكون قاطعاً، لأن الأمرين إن استويا في جميع الوجوه لم يكن قياساً، وإن وجد بينهما فارق جاز أن يكون مؤثراً في عدم استوائهما في الحكم ".56
وعليه فإن ابن الوزير يرى "أن في الحكم بتكفير المختلف في كفرهم مفسدة بينة تخالف الاحتياط... أن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، نعوذ بالله من الخطأ في الجميع، ونسأله الإصابة والسلامة والتوفيق والهداية".57
ويدعو الشوكاني إلى تلمس المعاذير للمسلمين والإحجام قبل المسارعة إلى تكفيرهم "فحينئذ تنجو من معرَّة الخطر، وتسلم من الوقوع في المحنة، فإن الإقدام على ما فيه بعض البأس لا يفعله من يشح على دينه، ولا يسمح به فيما لا فائدة فيه ولا عائدة، فكيف إذا كان يخشى على نفسه إذا أخطأ أن يكون في عداد من سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كافراً، فهذا يقود إليه العقل فضلاً عن الشرع..
فحتم على كل مسلم أن لا يطلق كلمة الكفر إلا على من شرح بالكفر صدراً، ويقصر ما ورد مما تقدم على موارده، وهذا الحق ليس به خفاء، فدعني من بُنيات الطريق
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضح".58
ويقول الزركشي: "فلينتبه لهذا، وليحذر ممن يبادر إلى التكفير .. فيخاف عليه أن يكفر، لأنه كفّر مسلماً".59
ويقول عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: "وبالجملة فيجب على من نصح نفسه ألا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه، واستحسان عقله، فإن إخراج رجل من الإسلام، أو إدخاله فيه من أعظم أمور الدين".60
ويقول: "فما تنازع العلماء في كونه كفراً فالاحتياط للدين التوقف وعدم الإقدام، ما لم يكن في المسألة نص صريح".61
أما من تجرأ على التكفير من غير أن يملك مثل ذلك الدليل الساطع فإنه مستحق للعقوبة الغليظة بما اجترأ عليه، يقول ابن تيمية في سياق الحديث عن خلاف المسلمين في بعض مسائل التوسل: "بل المكفّر بمثل هذه الأمور يستحق من غليظ العقوبة والتعزير ما يستحقه أمثاله من المفترين على الدين، لا سيما مع قوله r : ((من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما))".62
وينبه ابن الوزير إلى مفسدة أخرى للتكفير، وهي التسبب في الفرقة بين المسلمين، وما تؤدي إليه من توهين أمر المسلمين، وهذه المفسدة حري دفعها بمزيد من العذر والتثبت والاحتياط، يقول: " وكم بين إخراج عوام فرق الإسلام أجمعين، وجماهير العلماء المنتسبين إلى الإسلام من الملة الإسلامية، وتكثير العدد بهم، وبين إدخالهم في الإسلام ونصرته بهم وتكثير أهله، وتقوية أمره، فلا يحل الجهد في التفرق بتكلف التكفير لهم بالأدلة المعارَضة بما هو أقوى منها أو مثلها مما يجمع الكلمة، ويقوي الإسلام، ويحقن الدماء، ويسكن الدهماء حتى يتضح كفر المبتدع اتضاح الصبح الصادق، وتجتمع عليه الكلمة، وتحقق إليه الضرورة".63
وقال الغزالي: "والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأِ في سفك محجمة من دم مسلم ".64
ويقول رحمه الله: "الوصية: أن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك، ما داموا قائلين: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، غير مناقضين لها ... فإن التكفير فيه خطر، والسكوت لا خطر فيه".65
وينقل ابن نجيم عن أهل العلم حرصهم على إعذار المسلم، وتوقفهم عن المبادرة إلى تكفيره مهما وهنت شبهته التي دفعت به إلى ارتكاب المكفِّر، فيقول: "وفي الفتاوى الصغرى: الكفر شيء عظيم، فلا أجعل المؤمن كافراً متى وجدت رواية أنه لا يكفر".66(2/493)
ويقول: " وفي الخلاصة وغيرها: إذا كان في المسالة وجوه توجب التكفير، ووجه واحد يمنع التكفير، فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير، تحسيناً للظن بالمسلم".67
ثم يقرر رحمه الله خلاصة رأيه فيقول: "والذي تحرر أنه لا يفتى بتكفير مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره اختلاف، ولو رواية ضعيفة، فعلى هذا فأكثر ألفاظ التكفير المذكورة لا يفتى بالتكفير بها، ولقد ألزمت نفسي أن لا أفتي بشيء منها".68
وينقل المليباري اتفاق العلماء قديماً وحديثاً على الاحتياط والتريث في هذه المسألة: "ينبغي للمفتي أن يحتاط في التكفير ما أمكنه لعظم خطره وغلبة عدم قصده سيما من العوام، وما زال أئمتنا على ذلك قديماً وحديثاً".69
لقد أطبق علماء الإسلام زرافاتٍ ووِحداناً على خطورة القول بكفر المسلم، ورأوا أن الخطأ في نسبته إلى الكفر من أعظم الظلم والغبن له، فالأصل فيه السلامة، والإسلام ثبت له بيقين، فلا يرفع إلا بيقين مثله، وما دون هذا اليقين ندفعه بإحسان الظن وتلمس الأعذار والاستتار دون تكفيره بضعيف الروايات احتياطاً للدين وصوناً لأعراض ودماء المسلمين.
أسباب الوقوع في التكفير
إن أسباب نشأة ظاهرة التكفير وفشوها وانتشارها في القديم والحديث يرجع إلى مجموعة من الأسباب المتشابكة، عملت جنباً إلى جنب في نشر هذه الظاهرة وتأمين البيئة الملائمة لنموها واستمرارها، ومنها:
1ـ الجهل المريع - وربما المركب - بهذه المسألة المهمة، التي هي من المسائل الدقيقة التي لا يحسنها إلا العلماء، الذين لهم دراية في فهم أدلة الوحي، والتمييز بين صحيحها وضعيفها، كما يفرقون – بما آتاهم الله من علم - بين المتشابهات لفظاً، والمختلفات حكماً، كالتفريق بين الكفرين: الأكبر والأصغر، وحال أصحابهما حين اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، والفرق بين الكفر المطلق والكفر المعين، وهو ما لا يحسنه الجهلة ولا يطيقونه، فيقعون في تكفير المسلمين " والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل".70
ولعل الجهل بأحكام الشريعة من أهم صفات الخوارج الذين كانوا أول من تولى وزر التكفير في هذه الأمة، حين كفروا أصحاب النبي e، فقد وصفهم النبي e بقوله: ((يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)).71
وجاء في رواية أبي سعيد: ((لا يجاوز تراقيهم، ولا تعيه قلوبهم)).72
يقول الإمام القرطبي مندداً بضلالة الخوارج وقلة فهمهم: "وكفى بذلك أن مقدمهم ردّ على رسول الله r أمره، ونسبه إلى الجور.... ويكفيك من جهلهم وغلوهم في بدعتهم حكمهم بتكفير من شهد له رسول الله بصحة إيمانه وبأنه من أهل الجنة".73
وهذا الجهل والغلو ينطبق على أضرابهم الذين يأتون في آخر الزمان، يقول عنهم النبي e: ((يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة)).74
قال السندي: " قوله: (( أحداث الأسنان )) أي صغار الأسنان، فإنّ حداثة السّنّ محلٌّ للفساد عادة. (( سفهاء الأحلام )) : ضعاف العقول".75
2ـ اتباع الهوى، وجعل التكفير وسيلة في الانتقام من المخالفين، وإشهاره سيفاً مسلطاً على رقابهم هو سبب آخر من أسباب انتشار التكفير ورواج سوقه، وهو فرع عن الجهل ودليل على رقَّة الدين.
وقد دأبت الفرق المنحرفة عن هدي الله وسنة رسوله في تاريخ الإسلام على تكفير مخالفيها، حتى أصبح سمتاً للفرق المبتدعة المختلفة، يقول ابن تيمية : "ومن البدع المنكرة تكفير الطائفة غيرها من طوائف المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم... وهذا حال عامة أهل البدع الذين يكفر بعضهم بعضاً... وهؤلاء من الذين قال الله تعالى فيهم: ]إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء[ (الأنعام: 159)".76
ويقول رحمه الله: " من ادعى دعوى وأطلق فيها عنان الجهل مخالفاً فيها لجميع أهل العلم، ثم مع مخالفتهم يريد أن يكفر ويضلل من لم يوافقه، فهذا من أعظم ما يفعله كل جهول مغياق".77
3- ولعل من أهم أسباب انتشار التكفير وقوع كثير من المسلمين في المكفرات، من سباب لله ورسوله أو لمز أو طعن في الدين في وسائل الإعلام وغيرها.
وأمام هذه الموبقات التي يرتكبها البعض بقصد أو بدونه تثور حمية الشباب المسلم الذي يتقد حماساً وغَيْرة على دين الله وما هُتك من محارمه، فلا يجد – لفرط الجهل - وسيلة للتغيير والإصلاح إلا العزلة عن مجتمعه لما شاع فيه من المنكر، ثم تكفيره لما وقع فيه البعض من الموبقات أو سُكت فيه عنها.
4- قلة العلماء المعتبرين بسبب موتهم أو تقييد حرية البعض مما يؤدي إلى تنامي ظاهرة أنصاف العلماء الذين ليس لهم كبير دراية في فهم النصوص وتنزيل النصوص الشرعية والقواعد العلمية على واقعٍ ما، فتحقيق المناط في الأحكام أمر لا يحسنه كل أحد، وهو الميدان الذي يتمايز فيه العلماء عن الأدعياء، وهؤلاء الأصاغر يفتون في مسائل وقف عندها الأكابر من أهل العلم، وبها يتصدرون المجالس، وهم للأسف يكثرون في آخر الزمان، حيث تُرزأ بهم أمة الإسلام ((إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر)).78
يقول ابن قتيبة: "لا يزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ، ولم يكن علماؤهم الأحداث، لأن الشيخ قد زالت عنه حِدَّة الشباب ومتعته وعجلته، واستصحب التجربة في أموره، فلا تدخل عليه في علمه الشُّبه، ولا يستميله الهوى، ولا يستزله الشيطان، والحَدَثُ قد تدخل عليه هذه الأمور التي أمنت على الشيخ، فإذا دخلت عليه, وأفتى هلك وأهلك".79(2/494)
وهكذا مع فساد الزمان وتلاحق الأيام يتحقق في المسلمين ما أخبر به النبي e حين قال: (( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)).80
وصدق الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وهو يحذر من هؤلاء الأغرار: " ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسقٍ بين فسقه، ولكني أخاف عليها رجلاً قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه، ثم تأوله على غير تأويله".81
5- والمتأمل لظاهرة الافتراق لا يغيب عن ناظريه أثر الغلو في ظهور الغلو المقابل، فالخوارج كانوا سبباً في ظهور المرجئة، وأخطاء الجبرية أدت إلى تنامي تيار القدرية، وهذا ما ينطبق على عموم الفرق الإسلامية.
إذ جنوح البعض إفراطاً أو تفريطاً يؤدي إلى تيار عكسي قد يجنح إلى الحقيقة فيقف عندها، وقد يفارقها إلى الطرف الآخر.
لذا كان من أهم الأسباب التي غذّت فكر التكفير في واقعنا المعاصر ما نلقاه من توقف الكثيرين عن تكفير من لا يسع مسلماً إلا تكفيره، إذ وصل الأمر ببعضهم إلى التوقف في إطلاق الكفر على اليهود والنصارى الذين تكاثرت الآيات على تكفيرهم وخلودهم بالنار، فمثل هذا التفريط يمهد الطريق لظهور المخالف الذي يكفر النصارى ومن وافقهم في أعيادهم ومناسباتهم، إلى غير ذلك من الصور.
فمثل هذه الصور يوجد النقيض، وهو المبالغة في التكفير، وشهره سيفاً على المخالفين.
6- انتشار هذه الظاهرة بين من عرف صلاحه واستقامة سلوكه سبب آخر يغرر بالكثيرين من الذين يعرفون الحق بالرجال، لا الدليل، فيغتر الناس بصلاح هؤلاء، على قلة علمهم، فيرددون ما قالوا من تكفير المسلمين واستباحة دمائهم إحساناً للظن بهم وبحسن عبادتهم، وقد حذر رسول الله e من أمثالهم الذين ((يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)).82
ورغم صلاح الخوارج وحسن تدينهم فإن بعض أهل العلم لم يتردد في تكفيرهم، وإن توقف الجمهور فيه، لكنهم – على كل حال - اتفقوا على ضلالهم وشناعة قولهم، يقول علي رضي الله عنه: (قوم أصابتهم فتنة، فعموا وصموا).83
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (هم شرار الخلق) , وقال: (انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين).84
فهذه جملة ما يوقع الناس في التكفير وما يؤدي إلى انتشار وبائه، والعاقل إذا عرف الداء أصاب الدواء، وتوخى موارد الزلل والهلاك بمزيد من الوقاية والحذر، حيطة لدينه وطلباً لسلامة آخرته.
التكفير والفهم الخاطئ للنصوص الشرعية
لعل من أهم ما أوقع بعض المسلمين في فتنة التكفير الفهم الخاطئ لبعض النصوص الشرعية، والجهل بدلالاتها الصحيحة، إذ رأى هؤلاء أن النصوص الشرعية وصفت بعض أصحاب العاصي بالكفر، أو نفت عنهم اسم الإيمان، أو أخبرت باستحقاقهم الخلود في النار، ففهم هؤلاء أنها تشهد على أصحابها بالكفر، وأن هذا الكفر هو الكفر الأكبر المخرج من الملة، فكفَّروا بفهمهم المغلوط عموم المسلمين.
أولاً :النصوص التي صرحت بكفر العاصي
جاء في السنة النبوية وصف الكثير من المعاصي بالكفر، ففهم منه بعض أهل البدع وغيرهم من أهل الجهل تكفير أصحاب هذه الذنوب وتلك المعاصي، إذ لم يروا القرآن إلا متحدثاً عن الكفر الأكبر، فقاسوا ما في السنة عليه.
ومن هذه الأحاديث قول النبي r : ((اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت)). 85
وقوله e: ((إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما)).86
وقوله e: ((أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر، حتى يرجع إليهم)).87
وقوله e: ((ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه، إلا كفر)). 88
ومثله ذم النبي r اقتتال المسلمين: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)). 89
قال الشوكاني وهو يعرض حجة من يفهم كفر أصحاب هذه الذنوب: "فإن قلت: قد ورد في السنة ما يدل على كفر من حلف بغير ملة الإسلام، وورد في السنة المطهرة ما يدل على كفر من كفر مسلماً، كما تقدم وورد في السنة المطهرة إطلاق الكفر على من فعل فعلاً يخالف الشرع... وكل ذلك يفيد أن صدور شيء من هذه الأمور يوجب الكفر، وإن لم يرد قائله أو فاعله الخروج من الإسلام إلى ملة الكفر". 90
وقد بين أهل العلم أصولاً ينبغي أن يرجع إليها في فهم هذه النصوص:
أولاً: أن ما ورد في السنة من نصوص أطلقت الكفر على أصحاب بعض المعاصي لا يقاس على ما ورد في القرآن الكريم في مثل هذه الإطلاقات، إذ من عادة القرآن أن يطلق وصف الإيمان على أكمل المؤمنين صفات، وكذا أطلق الكفر على أقبح الكافرين فعالاً، فوصفه بالكفر لا يحتمل إلا الكفر الأكبر.
وعليه فقد تقرر عند العلماء التفريق بين إطلاقات الكفر في القرآن وتلك التي في السنة النبوية، يقول الشاطبي: " فكان القرآن آتياً بالغايات تنصيصاً عليها، من حيث كان الحال والوقت يقتضي ذلك، ومنبهاً بها على ما هو دائر بين الطرفين.. فإنما أتى بهما في عبارات مطلقة تصدق على القليل يدل المساق على أن المراد أقصى المحمود أو المذموم في ذلك الإطلاق ".91
ثانياً : صحيح أن الأصل في النصوص إجراؤها على ظواهرها، لكن التأويل محتمل في حقها، ويصار إليه منعاً للتعارض، الذي هو قرينة على أن أحد المعنيين غير مراد من النص.
يقول الشاطبي: "والقاعدة في ذلك أن اللفظ يؤخذ على ظاهره ما لم تصرفه قرينة، فإن وجدت قرينة تدل على صرف لفظ الكفر في الحديث عن معناه الأصلي، وهو الكفر الأكبر، أمكن المصير إلى أنه كفر أصغر لثبوت إمكان ذلك في السّنّة الشريفة".(2/495)
ثالثاً : والنصوص التي احتج بها المكفرون بالذنوب معارضة معانيها الظاهرة بجملة من الحقائق، منها:
* النصوص التي شهدت بالإيمان للموحدين وإن ارتكبوا المعاصي، فإن ذلك لا يخرجهم عن الإيمان، بل يضعهم تحت المشيئة الإلهية، ولو كفروا لاستحقوا النار، يقول الله: ]إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ (النساء: 48)، فكل المعاصي المذكورة في الأحاديث المشكلة هي دون الشرك بالله، وهي تحت المشيئة، ففاعلها إذاً ليس بكافر، وعليه فمعناها الظاهر غير مراد.
ولو كان الظاهر لازماً على كل حال للزم رجم أو جلد المتعطرة المستشرفة على الناس لوصف رسول الله r لها بأنها زانية 92، ومثله قوله r : ((المستبّان شيطانان، يتهاتران، ويتكاذبان)).93، إذ لا يصح أن يعتبر المتسابان من ذرية إبليس، كما يفهم من ظاهر اللفظ.
- ومثله أحاديث كثيرة شهدت بالإسلام لمن قال لا إله إلا الله مخلصاً بها قلبه، منها قوله e : ((ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى، وإن سرق؟ قال: وإن زنى، وإن سرق. قلت: وإن زنى، وإن سرق؟ قال: وإن زنى، وإن سرق. قلت: وإن زنى، وإن سرق؟ قال: وإن زنى، وإن سرق، على رغم أنف أبي ذر)).94
إن الله ونبيه e شهدا لأصحاب هذه المعاصي بالإسلام، فالقاتل لأخيه المسلم سماه القرآن أخاً للمقتول، في قوله : ] فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسانٍ [ (البقرة: 178)، وكذا اعتبر الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين فقال: ] وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا[ (الحجرات: 9).
وعليه فقوله r : (( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) 95 ، وقوله ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)).96 على غير ظاهره، وينصرف فيه لفظ الكفر إلى الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة.
ومثله في قوله e عن آتي الكاهن او العراف غير المصدق له: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء ، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً))97، فهو يفيد إسلام من أتى العراف – غير المصدق له -، بدليل قبول صلواته بعد الأربعين يوماً، ويحمل حديث تكفير آتي الكاهن على الكفر الأصغر جمعاً بين الحديثين.
قال المناوي في شرح هذا الحديث: "تمسك به الخوارج على أصولهم الفاسدة في التكفير بالذنوب، ومذهب أهل السنة أنه لا يكفر، فمعناه قد كفر النعمة أي سترها، فإن اعتقد صدقه [أي الكاهن أو العرّاف] في دعواه الاطلاع على الغيب كفر حقيقة".98
كما أمر الله بإقامة الحدود على القاتل وغيره من أصحاب الذنوب، كل بقدره، وهو شهادة لأهلها بالإسلام، ولو كان الزاني قد خرج من الإسلام بزناه لقتل حداً على كل حال.
رابعاً : كما صرف العلماء هذه النصوص إلى أن المراد فيها التغليظ أي أنها من جنس أفعال الكفار أو أريد منها أن استحلال هذه الذنوب هو من الكفر الأكبر، لا أن مجرد ارتكابها منه.
قال أبو عبيد بن سلام: "وأما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك ووجوبهما بالمعاصي، فإن معناها عندنا ليست تثبت على أهلها كفراً ولا شركاً يزيلان الإيمان عن صاحبه، وإنما وجوهها: أنها من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركون".99
قال المباركفوري: "قوله : ((من أتى حائضاً أو امرأةً في دبرها أو كاهنًا فقد كفر بما أنزل على محمّدٍ)). الظّاهر أنّه محمول على التّغليظ والتّشديد كما قاله التّرمذيّ، وقيل: إن كان المراد الإتيان باستحلالٍ وتصديقٍ فالكفر محمول على ظاهره، وإن كان بدونهما فهو على كفران النّعمة". 100
قال ابن القيم: "والقصد: أن المعاصي كلها من نوع الكفر الأصغر، فإنها ضد الشكر، الذي هو العمل بالطاعة، فالسعي إما شكر وإما كفر، وإما ثالث لا من هذا ولا من هذا".101
وعن كفر من ادعى لغير أبيه قال النووي: " فيه تأويلان : أحدهما أنّه في حقّ المستحلّ. والثّاني : أنّه كفر النّعمة والإحسان وحقّ اللّه تعالى , وحقّ أبيه , وليس المراد الكفر الّذي يخرجه من ملّة الإسلام. وهذا كما قال e ((يكفرن)) 102, ثمّ فسّره e بكفرانهنّ الإحسان وكفران العشير".103
قال الحافظ ابن حجر: "وقد ورد الكفر في الشرع بمعنى جحد النعم، وترك شكر المنعم، والقيام بحقه". 104
إذاً الجهل بدلالة لفظ الكفر في الشرع أوقع الغلاة في تكفير المسلمين لإتيانهم بعض المعاصي التي وسم الله فاعلها بالكفر، أي الكفر الأصغر ، وجمع النصوص إلى بعضها كفيل برفع شبهة المكفِّرين لكل من أطلق عليه الشرع كلمة الكفر ، إذ المفهوم الخاطئ لهذا الإطلاق يجعل نصوص الشرع متعارضة متناقضة، والحق أن النصوص الشرعية يصدق بعضها بعضاً ، والواجب جمع النصوص بعضها إلى بعض، وإعمالها جميعاً بمزيد من التبصر في دلالات ألفاظها ومآلات عباراتها.
ثانياً : النصوص التي صرحت باستحقاق العاصي للنار أو حرمت عليه الجنة
ويحتج أهل التكفير بالمعاصي بآيات القرآن في مواضع متعددة من كتاب الله، شهد فيها أن معصية الله ورسوله تُدخل النار وتكتب للعاصي الخلود فيها كقوله تعالى: ]ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين النساء[ (النساء: 14)، وقوله تعالى: ]ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً[ ( الجن: 23). وقوله تعالى : ]بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون[ (البقرة: 81)، ونحوه قوله تعالى عن القاتل: ]ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً [ ( النساء: 93).
وكذا جاء في السنة مثل ذلك، فحكم النبي e بتحريم الجنة أو الحكم بالنار لبعض أصحاب المعاصي، ومنه قوله e :((من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم ، فالجنة عليه حرام)) 105، ونحوه قوله e: ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)).106(2/496)
وكذا قوله e: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)). 107
وأمثال هذا كثير في السنة، ففهم منه من أخطأ الفهم أن أصحاب المعاصي سيدخلون النار ويخلدون فيها، لأن الجنة عليهم حرام.
لكن منهج أهل السنة والجماعة في فهم النصوص يقوم على جمعها والنظر فيها للخروج منها بفهم يوفق بينها، ويُعملها جميعاً ولا يهملها، إذ هذه النصوص يصدق بعضها بعضاً، بينما يكثر في مناهج أهل البدع ضرب النصوص بعضها ببعض، فتتعطل دلالاتها، ويأخذون منها ويذرون حسب أهوائهم.
فالنصوص السابقة لا يمكن حملها على إطلاقها، لورود نصوص أخرى تفيد بتحريم النار والحكم بالجنة لكل من شهد شهادة التوحيد، منها قوله e: (( من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار)).108 وقوله e: ((من شهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من عمل)).109 وأمثالهما.
قال أبو سليمان الخطابي مبيناً منهج أهل السنة في فهم النصوص والجمع بينها: "القرآن كله بمنزلة الكلمة الواحدة، وما تقدم نزوله وما تأخر في وجوب العمل به سواء، ما لم يقع بين الأول والآخر منافاة، ولو جمع بين قوله: ]ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء[ (النساء : 48)، وبين قوله: ]ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها[ (النساء : 93) وألحق به قوله: ]لمن يشاء[ لم يكن متناقضاً، فشرط المشيئة قائم في الذنوب كلها ما عدا الشرك.
وأيضاً فإن قوله: ]فجزاؤه جهنم[ يحتمل أن يكون معناه: فجزاؤه جهنم إن جازاه الله ولم يعف عنه، فالآية الأولى خبر لا يقع فيه الخُلْف، والآية الأخرى وعد يرجى فيه العفو".110
ويقول الطبري في سياق حديثه عن قاتل النفس المتوعد بالخلود في النار: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: ومن يقتل مؤمناً متعمداً، فجزاؤه - إن جزاه - جهنم خالداً فيها، ولكنه يعفو أو يتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله، فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه - عز ذكره - إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إياها، ثم يخرجه منها بفضل رحمته، لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله: ]قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً[ (الزمر: 53)". 111
وأيضاً منعاً للتعارض تأول العلماء نصوص تحريم الجنة على العصاة بتأويلات، يقول النووي في سياق شرحه لحديث تحريم الجنة على مؤذ جيرانه: " ففيه جوابان: أحدهما: أنه محمول على من يستحل الإيذاء مع علمه بتحريمه، فهذا كافر لا يدخلها أصلاً، والثاني: معناه: جزاؤه أن لا يدخلها وقت دخول الفائزين إذا فتحت أبوابها لهم، بل يؤخر، ثم قد يجازى، وقد يعفى عنه، فيدخلها أولاً". 112
إذاً يمكننا أن نقول: إن العاصي المتوعد بحرمانه الجنة لا يدخل الجنة ابتداء، والجنة عليه حرام ابتداء، لكنه غير محجوب عنها بالكلية، ونحو ذلك.
وفي المقابل فإن من شهد بالشهادتين ولم ينقضهما كتب الله له الأمان من الخلود في النار، لكن دخولها ابتداء ممكن لأهل الكبائر، وهو متعلق بمشيئة الله، إن شاء أدخله النار بعدله قبل أن يدخله الجنة، وإن شاء تجاوز عنه وعفا برحمته.
وهذا المنهج الوسط لأهل السنة وسط بين إفراط الوعيدية من الخوارج الذين يحكمون بحرمان أصحاب المعاصي من الجنة، ويرون المعصية تخرج من الدين وتُوجب لصاحبها النار، وبين تفريط المرجئة الذين يرون أن الإيمان لا تضره المعصية، ولا تقدح فيه ولا تؤثر.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان معنى حديث تحريم الجنة على من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر: "قوله: ((لا يدخل الجنة)) متضمن لكونه ليس من أهلها ولا مستحقاً لها، لكن إن تاب أو كانت له حسنات ماحية لذنبه، أو ابتلاه الله بمصائب كفَّر بها خطاياه ونحو ذلك، زال ثمرة هذا الكبر المانع له من الجنة، فيدخلها، أو غفر الله له بفضل رحمته من ذلك الكبر من نفسه، فلا يدخلها ومعه شيء من الكبر.
ولهذا قال من قال في هذا الحديث وغيره: إن المنفي هو الدخول المطلق الذي لا يكون معه عذاب، لا الدخول المقيد الذي يحصل لمن دخل النار ثم دخل الجنة... فإذا تبين هذا كان معناه: أن من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ليس هو من أهل الجنة ولا يدخلها بلا عذاب، بل هو مستحق للعذاب لكبره، كما يستحقها غيره من أهل الكبائر، ولكن قد يعذب في النار ما شاء الله، فإنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد، وهذا كقوله: ((لا يدخل الجنة قاطع رحم)).113 وأمثال هذا من أحاديث الوعيد..
فالرجل الذي معه شيء من الإيمان وله كبائر قد يدخل النار، ثم يخرج منها إما بشفاعة النبي وإما بغير ذلك كما قال r : ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)).114 وكما في الصحيح أنه r قال: ((أخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان))".115
وهكذا الوعيد في قاتل النفس والزاني وشارب الخمر وآكل مال اليتيم وشاهد الزور وغير هؤلاء من أهل الكبائر، فإن هؤلاء وإن لم يكونوا كفاراً، لكنهم ليسوا من المستحقين للجنة الموعودين بها بلا عقاب، ومذهب أهل السنة والجماعة أن فساق أهل الملة ليسوا مخلدين في النار كما قالت الخوارج والمعتزلة، وليسوا كاملين في الدين والإيمان والطاعة، بل لهم حسنات وسيئات، يستحقون بهذا العقاب، وبهذا الثواب".116(2/497)
ومرة أخرى نرى أن جمع النصوص إلى بعضها يبين حقائق معانيها ويزيل الشبهة عما يلتبس من معانيها، فإن الذي حكم بالنار لبعض أصحاب المعاصي - هو نفسه تبارك وتعالى – فتح لهم باب الرجاء في رحمته، ووعد التائبين منهم بالحسنى وزيادة ، بل قد تسبق رحمته إلى ذلك العبد، فيكون في رحمته من غير توبة منه، بل بشفاعة الشافعين وجُودِ أرحم الراحمين.
ثالثاً: النصوص التي أسقطت عن العاصي اسم الإيمان
ومما تعلق به المسارعون إلى التكفير أن النصوص الشرعية رفعت عن بعض أصحاب المعاصي اسم الإيمان، فاستلزم ذلك وصفهم بالكفر، لأن الكفر والإيمان نقيضان، حيث رفع الأول ثبت الآخر.
من هذه النصوص قوله e: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)).117 وفي رواية: ((إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان، وكان عليه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان)).118
ومثله قوله e: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).119
فالزنا وعدم محبة الخير للمؤمن يناقضان الإيمان، حسب ظاهر النص، وعليه قاسوا غيرها من المعاصي، فصار مرتكب المعصية عندهم كافراً، لأنه ليس مؤمناً بنص وظاهر قول النبي r.
لكن المحققين من أهل السنة والجماعة ردوا هذا الفهم الظاهري الضعيف للنصوص بدلالة نصوص أخرى جمعوها إليها، وخلصوا منها إلى فهم يُعمِل جميع النصوص ولا يهملها، ولا يضرب بعضها ببعض.
فلئن وصف الزاني بعدم الإيمان فإن النبي r لم يرفع عنه أصل الإيمان، لأنه شهد بإمكانه دخول الجنة، ففي حديث أبي ذر أن النبي r قال: ((ما من عبد قال: لا إله إلا الله. ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي ذر)).120
قال ابن حجر: "وفي الحديث أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار، وأن الكبائر لا تسلب اسم الإيمان، وأن غير الموحدين لا يدخلون الجنة، والحكمة في الاقتصار على الزنا والسرقة الإشارة إلى حق الله تعالى وحق العباد، وكأن أبا ذر استحضر قوله r : ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) لأن ظاهره معارض لظاهر هذا الخبر.
لكن الجمع بينهما على قواعد أهل السنة، بحمل هذا على الإيمان الكامل، وبحمل حديث الباب على عدم التخليد في النار".121
قال النووي: "فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه : لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء، ويراد نفي كماله ومختاره، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة".122
وقال ابن تيمية: " قوله e: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) فنفي عنه الإيمان الواجب الذي يستحق به الجنة، ولا يستلزم ذلك نفي أصل الإيمان وسائر أجزائه وشعبه، وهذا معنى قولهم: نفي كمال الإيمان لا حقيقته، أي الكمال الواجب، ليس هو الكمال المستحب..".123
قال أبو عبيد بن سلام: "إن الذي عندنا في هذا الباب كله أن المعاصي والذنوب لا تزيل إيماناً، ولا توجب كفراً، ولكنها إنما تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه الذي نعت الله به أهله واشترطه عليهم".124
ومما يدلل صحة هذا الفهم أن الله شرع الرجم والجلد للزاني، ولو كان كافراً لكان حكمه الاستتابة ثم القتل، يقول ابن تيمية: "ويقال للخوارج: الذي نفى عن السارق والزاني والشارب وغيرهم الإيمان، هو لم يجعلهم مرتدين عن الإسلام، بل عاقب هذا بالجلد، وهذا بالقطع، ولم يقتل أحداً إلا الزاني المحصن، ولم يقتله قتل المرتد، فإن المرتد يقتل بالسيف بعد الاستتابة، وهذا يرجم بالحجارة بلا استتابة.
فدل ذلك على أنه وإن نفى عنهم الإيمان، فليسوا عنده مرتدين عن الإسلام مع ظهور ذنوبهم، وليسوا كالمنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فأولئك لم يعاقبهم إلا على ذنب ظاهر".125
وقال المروزي رحمه الله: " معنى ذلك كله أن من فعل تلك الأفعال لا يكون مؤمناً مستكمل الإيمان، لأنه قد ترك بعض الإيمان، نفى عنه الإيمان، يريد به الإيمان الكامل.. وإقامة الحدود عليه دليل على أن الإيمان لم يزل كله عنه، ولا اسمه، ولولا ذلك لوجب استتابته، وقتله، وسقطت عنه الحدود".126
واستدل ابن عبد البر لصحة هذا التأويل بإجماع العلماء على التوارث مع الزاني: "يريد مستكمل الإيمان، ولم يرد به نفي جميع الإيمان عن فاعل ذلك، بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر – إذا صلوا للقبلة وانتحلوا دعوة الإسلام – من قرابتهم المؤمنين الذين آمنوا بتلك الأحوال، وفي إجماعهم على ذلك مع إجماعهم على أن الكافر لا يرث المسلم، أوضح الدلائل على صحة قولنا: أن مرتكب الكبيرة ناقص الإيمان بفعله ذلك، وليس بكافر كما زعمت الخوارج". 127
أما النووي، فإنه ينقل الإجماع على عدم كفر الزاني، وبه يستدل على صحة التأويل لألفاظ نفي الإيمان، فيقول: "وإنما تأولناه على ما ذكرناه لحديث أبي ذر وغيره: ((من قال: لا إله إلا الله. دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق))، وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور أنهم بايعوه r على أن لا يسرقوا ولا يزنوا، ولا يعصوا....
فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح، مع قول الله عز وجل: ]إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء[ (النساء: 48)، مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك، لا يكفرون بذلك، بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان.. وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة".128(2/498)
وعن حكم هذا العاصي واسمه يقول: " ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم ".129
وأما الإمام أحمد ومن وافقه من المحدثين، فإنهم حكموا بإسلام الزاني وأضرابه، لكنهم توقفوا في إطلاق اسم الإيمان عليه، وقد رفعه النبي e بقوله السالف، وأثبتوا له اسم الإسلام وأحكامه، فقال أحمد: "من أتى هذه الأربعة: الزنا والسرقة وشرب الخمر والنهبة التي يرفع الناس فيها أبصارهم إليه، أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم، ولا أسميه مؤمناً، ومن أتى دون الكبائر نسميه مؤمناً ناقص الإيمان.
فإن صاحب هذا القول يقول: لما نفى عنه النبي r الإيمان نفيته عنه، كما نفاه عنه الرسول r، والرسول لم ينفه إلا عن صاحب كبيرة، وإلا فالمؤمن الذي يفعل الصغيرة هي مكفََّرة بفعله للحسنات واجتنابه للكبائر، لكنه ناقص الإيمان عمن اجتنب الصغائر، فما أتى بالإيمان الواجب، ولكن خلطه بسيئات كفرت عنه بغيرها، ونقصت بذلك درجته عمن لم يأت بذلك". 130
وهكذا فلئن رفعت النصوص اسم الإيمان عن بعض العصاة فإنها عاملتهم معاملة المؤمنين ، وحين أقامت عليهم الحدود حكمت بإسلامهم ، ولم تسقط عنهم حقاً من حقوق الإسلام، فدل ذلك على أن المنفي هو كمال الإيمان، لا أصله وحقيقته.
التفريق بين فعل الكفر والحكم بكفر الفاعل
لكن الذين يقعون في تكفير المسلمين لا يرون في فعلهم ما يخالف الاحتياط للدين وإحسان الظن بالمسلم، لأنهم – وحسب رأيهم – لا يكفرون إلا من وقع بما حكم الله ورسوله بكفر فاعله، فسقطت عنه عصمة المسلم وحقوقه، فهم لم يشهدوا عليه بالكفر إلا امتثالاً لحكم الشريعة في فعله أو قوله.
أما الراسخون من علماء الإسلام فإنهم لا يعتبرون الوقوع في الكفر مسوغاً للحكم بكفر المسلم قبل تبين حاله، فإنهم يفرقون بين وصف الفعل بالكفر ووسم فاعله بهذا الحكم، فإن ما ورد في النصوص من إطلاق حكم التكفير على فاعلي بعض الموبقات، لا يعني بالضرورة شمول الحكم كل من تلبس بهذه الموبقة.
والأصل في هذه العاصمة من قاصمة التكفير قصة الرجل الذي جلده النبي r في الشراب، فأُتي به يوماً، فأمر بجلده، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي r : ((لا تلعنه، فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله )).131
فهذا رجل ينهى رسول الله عن لعنه، مع أنه r لعن شاربي الخمر كما في حديث أنس بن مالك: ((لعن رسول الله r في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له )).132
فشارب الخمر ملعون على لسان النبي r، بينما منع رسول الله r من لعن هذا المعين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فنهى عن لعنه مع إصراره على الشرب، لكونه يحب الله ورسوله، مع أنه لعن في الخمر عشرة ... ولكن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعين، الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة به".
ثم يقيس شيخ الإسلام التكفير على اللعن فيقول: "وكذلك التكفير المطلق والوعيد المطلق، ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطاً بثبوت شروط، وانتفاء موانع".133
ويقول رحمه الله: " فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم - بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار - لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية، التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر، وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين".134
ويقول: " فقد يكون الفعل أو المقالة كفراً، ويطلق القول بتكفير من قال تلك المقالة، أو فعل ذلك الفعل، ويقال: من قال كذا، فهو كافر، أو من فعل ذلك، فهو كافر.
لكن الشخص المعين الذي قال ذلك القول أو فعل ذلك الفعل لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها. وهذا الأمر مطرد في نصوص الوعيد عند أهل السنة والجماعة، فلا يشهد على معيَّن من أهل القبلة بأنه من أهل النار، لجواز أن لا يلحقه الوعيد، لفوات شرط، أو لثبوت مانع".135
ويقول ابن الهمام الحنفي: "اعلم أن الحكم بكفر من ذكرنا من أهل الأهواء .. محمله أن ذلك المعتقد في نفسه كفر، فالقائل به قائل بما هو كفر، وإن لم يكفر".136
أما ما يمنع تحقق الوعيد في المعين فهو أمور كثيرة يجمعها ما أسماه شيخ الإسلام "فوات شرط أو ثبوت موانع"، فثمة شروط لتحقق الوعيد كالعلم بحرمة الفعل، ففوات هذا الشرط بتحقق الجهل عذر يعذر الله به ]وما كان اللّه ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم مّا يتّقون إنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليم[ (التوبة: 115).
قال ابن حزم: "لا يجوز أن يكفَّر أحد إلا من بلغه أمر عن رسول الله r، وصح عنده، فاستجاز مخالفته.. وأما من لم يبلغه الأمر عن النبي r فليس كافراً باعتقاده أي شيء اعتقده..".137
ويؤكد شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك بقوله: "أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية".138
وكذا ينبغي قبل الحكم بكفر المعين الجزم بانتفاء الموانع التي قد يرحمه الله ببعضها، وهي كثيرة، منها: توبة العبد التي ترفع الوعيد باتفاق المسلمين لورودها في صريح القرآن، وكذا قد يرفع الوعيد بشفاعة من قبِلَ الله شفاعته خلافاً للمعتزلة الذين ينكرونها، وسوى ذلك من الأعذار التي يقبلها الله، فيقيل بها العثرات (( ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين )).139(2/499)
يقول ابن تيمية وهو يعدد بعض موانع لحوق الوعيد بالمعين: " ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة، والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول r، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة.. وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً".140
والاجتراء على الله والافتئات على عفوه ورحمته كبيرة توبق العمل وتحبطه، وفيه قصة الرجلين من بني إسرائيل ((فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصِر. فوجده يوماً على ذنب فقال له: أقصر. فقال: خلني وربي. أبعثت علي رقيباً؟ فقال: والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الله الجنة.
فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار. قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده، لَتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته)).141
قال ابن أبي العز الحنفي: "وأما الشخص المعين، إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معيَّن أن الله لا يغفر له ولا يرحمه، بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت... ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، [ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص]، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله".142
يقول ابن القيم: "والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق، وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه الحجة أم لا، فذلك ما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب".143
والقول بلزوم تحقق الوعيد في كل أحد قول أهل البدع، يقول ابن أبي العز: "البدع هي من هذا الجنس، فإن الرجل يكون مؤمناً باطناً وظاهراً، لكن تأول تأويلاً أخطأ فيه، إما مجتهداً، وإما مفرطاً مذنباً، فلا يقال: إن إيمانه حبط لمجرد ذلك، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة.
ولا نقول: لا يكفر، بل العدل هو الوسط، وهو أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول أو إثبات ما نفاه أو الأمر بما نهى عنه أو النهي عما أمر به يقال فيها الحق ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويبين أنها كفر، ويقال: من قالها فهو كافر، ونحو ذلك كما يذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال... ".144
وهذا التفريق بين الكفر ومرتكبه طبقه السلف الصالح من أهل السنة والجماعة في واقعهم مع أشد مخالفيهم قسوة وظلماً، فالقول بخلق القرآن وغيره مما قاله المعتزلة كفر لا يلزم منه كفر قائله، يقول شارح الطحاوية: "وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة، ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة حتى اتفق رأيي ورأيه أن من قال بخلق القرآن فهو كافر ".145
وعلى الرغم من اتفاق بل إجماع أهل السنة على كفر القول بخلق القرآن146 فإنهم لم يقولوا بكفر معين ممن شارك في فتنة خلق القرآن، يقول شيخ الإسلام : " كان الإمام أحمد يكفِّر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته، لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول r ظاهرة بينة... لكن ما كان يكفر أعيانهم... ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية، ويدعون الناس إلى ذلك ويعاقبونهم، ويكفرون من لم يجبهم، ومع هذا فالإمام أحمد ترحم عليهم، واستغفر لهم، لعلمه بأنهم لمن يبين147 لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال لهم ذلك".148
ويقول: " التكفير له شروط وموانع، قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط، وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات، لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه".149
ثم ذكر شيخ الإسلام مثلاً آخر، وهو صنيع الشافعي، يقول: "وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد - حين قال: (القرآن مخلوق) -: كفرتَ بالله العظيم، بيّن له أن هذا القول كفر، ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك، لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد، لسعى في قتله، وقد صرح في كتبه بقبول شهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم".150
وطبق ابن تيمية رحمه الله هذا المسلك الأصيل عند علمائنا، فكان في محنته يقول للجهمية الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش: " أنا لو وافقتكم كنت كافراً، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون، لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم".151(2/500)
ومما سبق يتبين وجوب التفريق بين الحكم المطلق والحكم على معين، فلئن كان رسول الله لعن بإطلاق شارب الخمر، فإنه r نهى عن لعن معين من أصحابه شربها، ولئن كفر العلماء بإطلاق القائل بأن القرآن مخلوق، فإنهم امتنعوا عن تكفير آحاد القائلين به، إذ قد يتخلف تحقق الوعيد العام لأعذار قامت في المعين أو لغيرها من الموانع، وهذا الحكم يسري على سائر المكفرات.
الحكم بالظاهر والإعراض عن السرائر
الحكم بالظاهر والإعراض عن السرائر قاعدة شرعية متينة يلوذ بها الورع في دينه، والذي يؤثر السلامة فيه، فالأصل في سائر معاملات الشريعة ظاهر حال الإنسان، أما باطنه فمرجعه إلى عالم السر والنجوى.
أما من أظهر الكفر فهذا ما نغفل الحديث عنه في هذا المبحث، وله أحكام مفصلة معروفة في أبواب أحكام الكفار والمرتدين.
وأما المسلم الذي يظهر الإسلام ويدعيه، فإذا ما اشتبه علينا أمره، ودارت بنا الظنون في حقيقة ما يبطنه لما نرى من مريب أحواله وأفعاله، فإن شرعة الله تلزمنا معاملته على ما أعلن في ظاهر أمره، فيما الله يختص بحسابه في دار جزائه وعدله.
فإذا أظهر لنا المسلم إسلاماً قبل منه في الدنيا علانيته، وأقيمت عليه أحكام الشريعة فيها: ((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته)). 152
قال الطحاوي: "ونسمى أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ماداموا بما جاء به النبي r معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين".
وقال شارح الطحاوية: "والمراد بقوله: (أهل قبلتنا) من يدعي الإسلام ويستقبل الكعبة، وإن كان من أهل الأهواء أو من أهل المعاصي، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول". 153
وليس كل من نشهد له بالإسلام هو كذلك، بل قد نقرأ من بعض فعاله وأقواله مكنون قلبه وما انطوى عليه من الكفر، ولكن تبقى معاملته بحسب الظاهر.
يقول الله تعالى وهو يقرر هذه القاعدة في صدور المؤمنين: ]يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا[ (النساء: 94).
قال الشوكاني: " والمراد نهي المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه، ويقولوا: إنه إنما جاء بذلك تعوذاً وتقية ". 154 فظاهره الإسلام، وهو يقين في حقه، لا يرفعه ظنوننا وشكوكنا في دوافعه.
ويقول r في تقرير هذه القاعدة العظيمة: (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)).155
فقوله r: ((عصموا مني... وحسابهم على الله))، شهد لهم في الدنيا بعصمة الدماء والأموال وغيرها من أحكام الإسلام بما أظهروا من الإسلام، والله يتولى حسابهم على ما في قلوبهم في الآخرة.
قال ابن رجب: "وأما في الآخرة فحسابه على الله عز وجل، فإن كان صادقاً أدخله الله بذلك الجنة، وإن كان كاذباً فإنه من جملة المنافقين في الدرك الأسفل من النار".156
وقال القاضي عياض: "فالعصمة مقطوع بها مع الشهادة، ولا ترتفع ويستباح خلافها إلا بقاطع، ولا قاطع [إلا] من شرع، ولا قياس عليه".157
وقال ابن حجر: "أي في أمر سرائرهم.. وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر.. ويؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد".158
وقال البغوي: "وفي الحديث دليل على أن أمور الناس في معاملة بعضهم بعضاً إنما تجري على الظاهر من أحوالهم دون باطنها، وأن من أظهر شعار الدين أجري عليه حكمه، ولم يكشف عن باطن أمره".159
وفي الصدر الأول من المجتمع الإسلامي وجد المنافقون الذين أظهروا الإيمان تقية وطمعاً، وأبطنوا الكفر الصراح، فسماهم الله إخوان المشركين ]ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا [ (الحشر: 11)، وتوعدهم الله بعذاب ما توعد به الكافرين ] إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً[ (النساء: 145).
وأطلع الله نبيه على أسماء كثير من المنافقين، لكنه r لم يقتل أحداً منهم بسبب ردته، ولا منع توارثهم مع أوليائهم، لا بل لم يترك النبي r الصلاة على ميتهم والاستغفار لهم حتى نهي عن ذلك.
وكل ذلك إنما هو إجراء لأحكام أهل الإسلام عليهم بما أظهروا منه، فيما يتوعدهم الله في الآخرة بأليم عذابه ] استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّةً فلن يغفر اللّه لهم ذلك بأنّهم كفروا باللّه ورسوله واللّه لا يهدي القوم الفاسقين [ (التوبة: 80).
قال الإمام الشافعي في بيان شأن المنافقين: " الله عز وجل أخبر عن المنافقين بأنهم اتخذوا أيمانهم جُنة، يعني - والله أعلم -: من القتل، ثم أخبر بالوجه الذي اتخذوا به أيمانهم جُنة فقال: ]ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا[ فأخبر عنهم بأنهم آمنوا ثم كفروا بعد الإيمان كفراً إذا سئلوا عنه أنكروه، وأظهروا الإيمان وأقروا به، وأظهروا التوبة منه، وهم مقيمون فيما بينهم وبين الله على الكفر، قال الله جل ثناؤه: ]يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم[ (التوبة: 74).
فأخبر بكفرهم وجحدهم وكذب سرائرهم، وذكر كفرهم في غير آية.. وحكم فيهم - جل ثناؤه - في الدنيا بأن ما أظهروا من الإيمان، وإن كانوا به كاذبين، لهم جُنة من القتل، وهم المسرون الكفر المظهرون الإيمان...(3/1)
وبيّن رسول الله r إذا حقن 160 الله تعالى دماء من أظهر الإيمان بعد الكفر، أن لهم حكم المسلمين من الموارثة والمناكحة وغير ذلك من أحكام المسلمين، فكان بيناً في حكم الله عز وجل في المنافقين ثم حكم رسوله r، أن ليس لأحد أن يحكم على أحد بخلاف ما أظهر من نفسه، وأن الله عز وجل إنما جعل للعباد الحكم على ما أظهر، لأن أحداً منهم لا يعلم ما غاب إلا ما علمه الله عز وجل، فوجب على من عقل عن الله أن يجعل الظنون كلها في الأحكام معطلة، فلا يحكم على أحد بظن، وهكذا دلالة سنن رسول الله r حيث كانت لا تختلف".161
وقال شيخ الإسلام: "وبيان هذا الموضع مما يزيل الشبهة، فإن كثيراً من الفقهاء يظن أن من قيل: هو كافر. فإنه يجب أن تجرى عليه أحكام المرتد ردة ظاهرة، فلا يرث، ولا يورث ولا يناكح، حتى أجروا هذه الأحكام على من كفروه بالتأويل من أهل البدع.
وليس الأمر كذلك، فإنه قد ثبت أن الناس كانوا ثلاثة أصناف : مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق مظهر للإسلام مبطن للكفر، وكان في المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات، بل من لا يشكون في نفاقه، كابن أُبي وأمثاله، ومع هذا فلما مات هؤلاء ورِثهم ورَثَتهم المسلمون، وكان إذا مات لهم ميت آتوهم ميراثه، وكانت تُعصم دماؤهم حتى تقوم السُّنة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته".162
ويقول أيضاً: " وبالجملة فأصل هذه المسائل أن تعلم أن الكفر نوعان: كفر ظاهر، وكفر نفاق، فإذا تُكلم في أحكام الآخرة كان حكم المنافق حكم الكفار، وأما في أحكام الدنيا فقد تجري على المنافق أحكام المسلمين".163
ويقول: "وهكذا كان حكمه r في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم، لا يستحل منها شيئاً إلا بأمر ظاهر، مع أنه كان يعلم نفاق كثير منهم".164
ويقول الشاطبي: "إن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصاً، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموماً، فإن سيد البشر مع إعلامه بالوحي، يُجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه". 165
ثم أجاب الشاطبي عن قول بعضهم بأن ترك النبي r إقامة الحد على المنافقين كان بسبب خشيته من قول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه. فقال: " فالعلة أمر آخر لا ما زعمت، فإذا عُدم ما علل به فلا حرج. لأنا نقول: هذا من أدل الدليل على ما تقرر، لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ ترتيب الظواهر، فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر، فالعذر فيه ظاهر واضح، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر، بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر، وران على الظواهر، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى أن "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر".166
وهذه القاعدة في تطبيق أحكام الشريعة عامة في كل أحد، حتى عمّت نبينا r، نعم "لم يُستثن من ذلك أحد، حتى إن رسول الله r احتاج في ذلك إلى البينة، فقال: من يشهد لي؟ حتى شهد له خزيمة بن ثابت، فجعلها الله شهادتين، فما ظنك بآحاد الأمة، فلو ادعى أكبر167 الناس على أصلح الناس، لكانت البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، وهذا من ذلك، والنمط واحد، فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية".168
لذا فإن قوله r : ((من بدل دينه فاقتلوه)).169 كما يقول الحافظ ابن حجر: " هو عام، يُخَص منه من بدله في الباطن ولم يثبت عليه ذلك في الظاهر، فإنه تجرى عليه أحكام الظاهر... وإظهار الإيمان يحصن من القتل، وكلهم أجمعوا على أحكام الدنيا على الظاهر، والله يتولى السرائر".170
وشاهد آخر على إجراء الأحكام في الدنيا على الظاهر في حديث أسامة لما خرج في سرية، فأدرك رجلاً فقال: لا إله إلا الله، يقول أسامة: فطعنتُه، فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي r فقال r: ((أقال: لا إله إلا الله وقتلتَه؟! قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح. قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟)) فما زال يكررها علي، حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ.171
قال النووي : "وقوله r: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟)) الفاعل في قوله: ((أقالها)) هو القلب، ومعناه: أنك إنما كُلفت بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان، وأما القلب فليس لك طريق إلى معرفة ما فيه، فأنكر عليه امتناعه من العمل بما ظهر باللسان، وقال: ((أفلا شققت عن قلبه)) لتنظر، هل قالها القلب واعتقدها وكانت فيه، أم لم تكن فيه؟ بل جرت على اللسان فحسب، يعني: وأنت لست بقادر على هذا، فاقتصر على اللسان فحسب، يعني: ولا تطلب غيره".172
وقال : " وفيه دليل على القاعدة المعروفة في الفقه والأصول: أن الأحكام فيها بالظاهر، والله يتولى السرائر".173
وعليه فإن أهل السنة والجماعة يقبلون دعوى الناس الإسلام عملاً بالظاهر، ويدعون الحكم على السرائر إلى عالم السر وأخفى، فلا يقال بتكفير مسلم بزعم فساد سريرته وخبث طويته، بل يقبل منه ما ادعى، ونوله ما تولى، والله يتولى حسابه في الآخرة.
لازم القول ليس بقول
من أبواب غواية الشيطان في باب التكفير، تكفير الناس بما تؤول إليه أقوالهم وما تستلزمه من أقوال مستقبحة يكفر قائلها ومعتقدها.
وهذا باب لو فتح يكفر به كل أحد قال قولاً خاطئاً، فمثلاً لو ابتدع الإنسان بدعة، وزعم أن فيها خيراً، فإنه يلزم من قوله أن النبي e خان الأمانة لعدم تبليغه بهذا الخير الذي ابتدعه المبتدع، وهذا القول ولا ريب من الكفر.(3/2)
لكن هذه اللوازم، منها ما يلتزمه صاحب القول، فهو له مذهب، ومنها ما ينكره أو يجهله، فهو ليس بقول له، ولو كان مذهبه مستلزماً له حقيقة، وإضافة اللازم إليه في هذه الحال كذب، وغاية ما يمكننا القول أنه تناقض في قوله، ولا سبيل للقول بتكفيره في هذه الحال.
قال ابن حزم: "وأما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ، لأنه كذب على الخصم وتقويل له ما لم يقل به، وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط، والتناقض ليس كفراً، بل قد أحسن إذ فر من الكفر".174
ويقول شيخ الإسلام: " فالصواب أن مذهب الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه، فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذباً عليه، بل ذلك يدل على فساد قوله، وتناقضه في المقال غير التزامه اللوازم التي يظهر أنها من قبل الكفر والمحال، مما هو أكثر، فالذين قالوا بأقوال يلزمها أقوال يعلم أنه لا يلتزمها، لكن لم يعلم أنها تلزمه...".175
ويقول ابن حجر المكي: "الصواب عند الأكثرين من علماء السلف والخلف: أنا لا نكفِّر أهل البدع والأهواء إلا إن أتوا بمكفر صريح، لا استلزامي، لأن الأصح أن لازم المذهب ليس بلازم ".176
والتكفير باللازم يؤدي إلى شناعة لا حد لها، إذ يستلزم تبادل التكفير بين المسلمين، حتى لا تبقى طائفة إلا وهي تكفر الأخرى المخالفة لها، بما تراه لازماً لقولها، وهذا باب لفساد عريض.
يقول ابن حزم: "وأيضاً فإنه ليس للناس قول إلا ومخالف ذلك القول ملزم خصمه الكفر في فساد قوله وطرقه.177
فالمعتزلة تنسب إلينا تجوير الله عز وجل وتشبيهه بخلقه، ونحن ننسب إليهم مثل ذلك سواء بسواء، ونلزمهم أيضاً تعجيز الله عز وجل، وأنهم يزعمون أنهم يخلقون كخلقه، وأن له شركاء في الخلق، وأنهم يستغنون عن الله عز وجل.
ومن أثبت الصفات يسمي من نفاها نافية، لأنهم قالوا: تعبدون غير الله تعالى، لأن الله تعالى له صفات، وأنتم تعبدون من لا صفة له، ومن نفى الصفات يقول لمن أثبتها: أنتم تجعلون مع الله عز وجل أشياء لم تزل وتشركون به غيره وتعبدون غير الله، لأن الله تعالى لا أحد معه ولا شيء معه في الأزل، وأنتم تعبدون شيئاً من جملة أشياء لم تزل....
وكل فرقة فهي تنتفي بما تسميها به الأخرى، وتكفر من قال شيئاً من ذلك، فصح أنه لا يكفر أحد إلا بنفس قوله ونص معتقده، ولا ينتفع أحد بأن يعبر عن معتقده بلفظ يحسن به قبحه، لكن المحكوم به هو مقتضى قوله فقط ".178
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " ولو كان لازم المذهب مذهباً للزم تكفير كل من قال عن الاستواء أو غيره من الصفات أنه مجاز ليس بحقيقة، فإن لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه أو صفاته حقيقة، وكل من لم يثبت بين الاسمين قدراً مشتركاً لزم أن لا يكون شيء من الإيمان بالله ومعرفته والإقرار به إيماناً، فإنه ما من شيء يثبته القلب إلا ويقال فيه نظير ما يقال في الآخر، ولازم قول هؤلاء يستلزم قول غلاة الملاحدة المعطلين الذين هم أكفر من اليهود والنصارى ".179
ويقول : " ليس كل من تكلم بالكفر يكفر، حتى تقوم عليه الحجة المثبتة لكفره... فلازم المذهب ليس بمذهب، إلا أن يستلزمه صاحب المذهب، فخلق كثير من الناس ينفون ألفاظاً أو يثبتونها، بل ينفون معاني أو يثبتونها، ويكون ذلك مستلزماً لأمور هي كفر، وهم لا يعلمون بالملازمة، بل يتناقضون، وما أكثر تناقض الناس لا سيما في هذا الباب، وليس التناقض كفراً".180
وهذا المزلق، أي: التكفير بلازم القول. وقع به أهل البدع الذين يكفر بعضهم بعضاً، يقول ابن رشد (الحفيد): "وأكثر أهل البدع إنما يكفرون بالمآل ". 181
لذا استقبح العلماء التكفير باللازم، واعتبروه ضرباً من الجهل ورِقَّة الدين "وقد علم كل من كان من الأعلام أن التكفير بالإلزام من أعظم مزالق الأقدام، فمن أراد المخاطرة بدينه فعلى نفسه جنى".182
وأما من أراد السلامة في دينه والبراءة من الولوغ في ظلم الآخرين فإنه لا ينسب إلى الآخرين إلا صريح قولهم ، ولا يحاسبهم بما تؤول إليه أقوالهم مما يستنكونه ولا يقرونه، فهذا فعل أهل البدع لا الحق والرشاد.
العذر بالجهل
أولاً : أدلة العذر بالجهل
شاء الله عز وجل برحمته وعدله أن لا يعذب أحداً إلا وقد قامت عليه حجته تبارك وتعالى، بما أودعه في عباده من العقل وما هداهم إليه من الفطرة.
ولأجل ذلك بعث الله المرسلين وآتاهم الآيات والبينات ] رسلاً مبشّرين ومنذرين لئلاّ يكون للنّاس على اللّه حجّة بعد الرّسل وكان اللّه عزيزاً حكيماً [ (النساء: 165)، وأما أولئك الذين لم تقم عليهم حجة الله لعدم وصول الرسالة إليهم، فأولئك يرفع الله عنهم - بعدله - عذابه، فيقول: ] وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً [ (الإسراء: 15).
وقد رفع الله الإصر والعذاب عن أولئك الذين لا يقدرون على فهم حجته لعدم أهليتهم لتقبلها وفهمها، قال e: ((أربعة يحتجون على الله يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرِم، ورجل مات في فترة)).183
وهذا بعض عدل الله ورحمته بعباده، ولكن ماذا عن الجاهل الذي أخطأ لجهله من غير أن يعمد إلى عصيان الله، هل تسعه رحمة الله التي وسعت أولئك؟
والجواب الذي لا يختلف عليه المسلمون: هو أن رحمة الله تسعه كما وسعت غيره، يقول ابن تيمية: " فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه، كالمجنون مثلاً..".184(3/3)
وهذا مصداق قول الله: }وما كان اللّه ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم مّا يتّقون إنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليم{ (التوبة: 115)، وقوله: }ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيراً{ )النساء: 115(. فقد أخبرت الآيتان باستحقاق العبد العذاب بعد تبين الهدى له ومشاقته له، والجاهل إنما ضل عن الهدى، ولم يتبينه، لذا نال رحمة الله وعفوه.
وجاءت سنة النبي r توضح هذا المبدأ وتجليه في مواطن كثيرة، تبين أن الله يعذر المؤمن بجهله، فلا يؤاخذه لسوء فهمه وخطئه، بل يعذره حتى تقام عليه حجة الله، وأما قبل ذلك فلا يعذب ولا يكفر.
فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها جهلت أمراً لا يسع المؤمن جهله، فأبانه لها رسول الله r، وما كفرها ولا عاقبها، لأن الجهل عذر يقبله الله، فقد سألت رسول الله فقالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ قال: ((نعم)).185
قال ابن تيمية: " وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار [بذلك] عند قيام الحجة من أصول الإيمان، وإنكار علمه بكل شيء كإنكار قدرته على كل شيء... فقد تبين أن هذا القول كفر، ولكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها، ودلائل فساد هذا القول كثيرة في الكتاب والسنة ".186
كما عذر اللهُ الرجلَ الإسرائيلي الذي جهل قدرة الله وبعْثه للخلائق، فغفر الله له جهله، يقول النبي e حاكياً خبره: ((كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت، قال لبنيه: إذا أنا متّ، فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً. فلما مات فُعِل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم. فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك. فغفر له)).187
ويقول ابن قتيبة: " وهذا رجل مؤمن بالله، مقر به، خائف له، إلا أنه جهل صفة من صفاته، فظن أنه إذا أحرق وذري في الريح أنه يفوت الله تعالى، فغفر الله تعالى له بمعرفته ما بنيته، وبمخافته من عذابه جهلَه بهذه الصفة من صفاته".188
قال ابن حجر : " قال الخطابي : قد يستشكل هذا، فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى ؟ والجواب أنّه لم ينكر البعث، وإنّما جهل فظنّ أنّه إذا فُعِل به ذلك لا يعاد فلا يعذّب , وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنّه إنّما فعل ذلك من خشية اللّه ".189
يقول ابن تيمية: " فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك".190
ويقول أيضاً: "فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك، أو شك، وأنه لا يبعثه، وكل هذين الاعتقادين كفر، يكفر من قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك، ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله، وكان عنده إيمان بالله وبأمره ونهيه ووعده ووعيده، فخاف من عقابه، فغفر الله له بخشيته".191
وقد استنتج العلماء من فقه هذه القصة أن من " أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد، من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح، لم يكن أسوأ حالاً من هذا الرجل، فيغفر الله خطأه، أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه، وأما تكفير شخص عُلِم إيمانه بمجرد الغلط في ذلك، فعظيم".192
وهذه الرحمة من الله ليست خاصة بذلك الرجل، بل "كثير من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك، فلا يكون كافراً".193
قال ابن القيم: " وأما من جحد ذلك جهلاً، أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه: فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له، ورحمه لجهله، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه ولم يجحد قدرة الله على إعادته عناداً أو تكذيباً".194
ودليل آخر على عذر الجاهل في قصة الليثيين الذين أكذبوا النبي r، فعذرهم r لفرط جهلهم وبداوتهم.
والقصة أن النبي r بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقاً فلاجّه رجل في صدقته، فضربه أبو جهم فشجه، فأتوا النبي r فقالوا: القود يا رسول الله. فقال النبي e: ((لكم كذا وكذا، فلم يرضوا، فقال: لكم كذا وكذا، فلم يرضوا، فقال: لكم كذا وكذا )). فرضوا.
فقال النبي r: ((إني خاطب العشية على الناس ومخبرهم برضاكم)) فقالوا: نعم. فخطب رسول الله فقال r: ((إن هؤلاء الليثيين أتوني يريدون القود، فعرضت عليهم كذا وكذا، فرضوا، أرضيتم؟)) قالوا: لا.
فهمّ المهاجرون بهم، فأمرهم رسول الله r أن يكفوا عنهم، فكفوا ثم دعاهم فزادهم فقال: ((أرضيتم)) فقالوا: نعم.
قال: ((إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم)) قالوا: نعم.
فخطب النبي r فقال: ((أرضيتم؟)) قالوا: نعم.195
قال ابن حزم : "وفي هذا الخبر عذر الجاهل، وأنه لا يخرج من الإسلام بما لو فعله العالم الذي قامت عليه الحجة لكان كافراً، لأن هؤلاء الليثيين كذّبوا النبي r، وتكذيبه كفر مجرد بلا خلاف، لكنهم بجهلهم وأعرابيتهم عذروا بالجهالة، فلم يكفروا ".196
كما حكم رسول الله بإسلام قوم يأتون في آخر الزمان، حين يندرس الإسلام، لا يعرفون من الدين إلا كلمة التوحيد، قال r: ((يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس، الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله. فنحن نقولها)).(3/4)
فقال له صلة [أي لحذيفة راوي الحديث]: ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة، تنجيهم من النار.197
واستدلالاً بهذا الحديث يقول شيخ الإسلام بعذر الجاهل، ونقل اتفاق العلماء عليه، فقال : "وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلِّغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما بعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر هذه الأحكام الظاهرة المتواترة، فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرَّف ما جاء به الرسول ".198
وقد عذر رحمه الله بهذا الجهل بعض معاصريه، واعتذر لهم بشيوع الجهل في عصره: "بل كل من كان من المتنسكة والمتفقهة والمتعبدة والمتفقرة والمتزهدة والمتكلمة والمتفلسفة ومن وافقهم من الملوك والأغنياء والكتاب والحساب والأطباء وأهل الديوان والعامة خارجاً عن الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله، لا يقر بجميع ما أخبر الله به على لسان رسوله، ولا يحرم ما حرمه الله ورسوله، أو يدين بدين يخالف الدين الذي بعث الله به رسوله باطناً وظاهراً: مثل من يعتقد أن شيخه يرزقه أو ينصره أو يهديه أو يغيثه أو يعينه، أو كان يعبد شيخه أو يدعوه ويسجد له، أو كان يفضله على النبي تفضيلاً مطلقاً أو مقيداً في شيء من الفضل الذي يقرب إلى الله تعالى، أو كان يرى أنه هو أو شيخه مستغن عن متابعة الرسول r ، فكل هؤلاء كفار إن أظهروا ذلك، ومنافقون إن لم يظهروه.
وهؤلاء الأجناس وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك.
وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات، يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه ".199
فماذا يقول رحمه الله لو رأى عصرنا وفشو الجهل في مسائل الدين حتى بين من يُدعون بالمثقفين؟ وهؤلاء وأمثالهم قد يمتنع تكفير واحدهم لجهله ، وهم آثمون بما قصروا في البحث عن الحق مع قدرتهم عليه.
وبعد فتح مكة خرج رسول الله r إلى حنين ومعه مسلمة الفتح، فمروا بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم. فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؟ فقال النبي r: ((سبحان الله، هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. والذي نفسي بيده لتركبن سُنة من كان قبلكم )).200
وقال محمد بن عبد الوهاب: " وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي r لو لم يطيعوه، واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا .. ولكن القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك وهو لا يدري عنها، فتفيد لزوم التعلم والتحرز … وتفيد أيضاً أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري، فنُبِّه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر".201
وهكذا تبين أن العذر بالجهل دلت على وجوبه النصوص، وعدم اعتباره مؤد إلى تكفير أصحاب النبي r فيما جهلوه، وإذا كان الجهل عذراً في الصدر الأول فهو من باب أولى مما يعذر به الناس في عصور طغت عليها الجهالة ، وعزّ فيها العلماء.
ثانياً : أقوال أهل العلم في العذر بالجهل
يقول ابن حزم: " ولا خلاف في أن امرءاً لو أسلم، ولم يعلم شرائع الإسلام، فاعتقد أن الخمر حلال، وأن ليس على الإنسان صلاة، وهو لم يبلغه حكم الله تعالى لم يكن كافراً بلا خلاف يعتد به، حتى إذا قامت عليه الحجة، فتمادى، حينئذ بإجماع الأمة فهو كافر ".202
ويقول الإمام ابن القيم : "وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل".203
وقال الإمام الشافعي: "لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، و أما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا الرؤية والفكر".204
ويقول ابن تيمية: " من دعا غير الله، وحج إلى غير الله هو أيضاً مشرك، والذي فعله كفر، لكن قد لا يكون عالماً بأن هذا شرك محرم، كما أن كثيراً من الناس دخلوا في الإسلام من التتار وغيرهم، وعندهم أصنام لهم، صغار من لبد وغيره، وهم يتقربون إليها ويعظمونها، ولا يعلمون أن ذلك محرم في دين الإسلام، ويتقربون إلى النار أيضاً، ولا يعلمون أن ذلك محرم، فكثير من أنواع الشرك قد يخفى على بعض من دخل في الإسلام ولا يعلم أنه شرك، فهذا ضال، وعمله الذي أشرك فيه باطل، لكن لا يستحق العقوبة حتى تقوم عليه الحجة".205
ويقول ابن تيمية: " إن تكفير المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئاً من الدين يكفر".206
وفي هذا المقام يقول رحمه الله: " لكن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة، كما قال تعالى: ]لئلاّ يكون للنّاس على اللّه حجّة بعد الرّسل[ (النساء: 165)، وقال تعالى: ] وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً [ (الإسراء: 15)، ولهذا لو أسلم رجل، ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر حرام، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا، وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية".207(3/5)
ويقول: " فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحداً من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك.
بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول r مما يخالفه، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن، وقال: هذا أصل دين الإسلام ".208
ويقول: "وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال: هي كفر قولاً يطلق، كما دل على ذلك الدلائل الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر، حتى يثبت في حقه شروط التكفير، وتنتفي موانعه ".209
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في عذر الجاهل الذي يرتكب الكفر: "وأما ما ذكر الأعداء عني أني أكفّر بالظن وبالموالاة، أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله".210
قال ابن العربي: "الجاهل والمخطئ من هذه الأمة، ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركاً أو كافراً، فإنّه يعذر بالجهل والخطأ حتى تتبيّن له الحجة التي يكفر تاركها بياناً واضحاً ما يلتبس على مثله، وينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام، مما أجمعوا عليه إجماعاً قطعيّاً يعرفه كلّ المسلمين من غير نظرٍ وتأمّلٍ.. ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع ".211
يقول ابن تيمية وهو يعدد صوراً من الجهل الذي عذر به السلف: "فإذا رأيت إماماً قد غلّظ على قائل مقالته أو كفره فيها، فلا يعتبر هذا حكماً عاماً في كل من قالها، إلا إذا حصل فيه الشرط الذي يستحق به التغليظ عليه والتكفير له، فإن من جحد شيئاً من الشرائع الظاهرة، وكان حديث العهد بالإسلام أو ناشئاً ببلد جهل لا يكفر حتى تبلغه الحجة النبوية.
وكذلك العكس، إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم، فاغتُفرت لعدم بلوغ الحجة له، فلا يغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتُفر للأول، فلهذا يبدّع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك، ولا تبدع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأن الموتى يسمعون في قبورهم، فهذا أصل عظيم فتدبره، فإنه نافع ".212
ويقول ابن حزم وهو يذكر صوراً أخرى يفترض أنها تقع من جاهل، فيعذر لجهله: "وأما ما لم تقم الحجة على المخالف للحق في أي شيء كان فلا يكون كافراً إلا أن يأتي نص بتكفيره فيوقف عنده... فإن قال قائل: فما تقولون فيمن قال: أنا أشهد أن محمداً رسول الله، ولا أدري أهو قرشي أم تميمي أم فارسي، ولا هل كان بالحجاز أو بخراسان، ولا أدري أحي هو أو ميت، ولا أدري لعله هذا الرجل الحاضر أم غيره، قيل له: إن كان جاهلاً لا علم عنده بشيء من الأخبار والسير لم يضره ذلك شيئاً، ووجب تعليمه، فإذا علم وصح عنده الحق، فإن عاند فهو كافر حلال دمه وماله، محكوم عليه بحكم المرتد.
وقد علمنا أن كثيراً ممن يتعاطى الفتيا في دين الله عز وجل، نعم، وكثيراً من الصالحين لا يدري كم لموت النبي e، ولا أين كان، ولا في أي بلد كان، ويكفيه من كل ذلك إقراره بقلبه ولسانه أن رجلاً اسمه محمد أرسله الله تعالى إلينا بهذا الدين".213
ويعذر شيخ الإسلام بالجهل، فلا يوقع حكم الكفر على طوائف من الجهال المقلدين الذين أحسنوا الظن في بعض رؤوس أهل البدع من الباطنية الكفار، وتبعوهم، فيقول: "وأما الجهال الذين يحسنون الظن بقول هؤلاء، ولا يفهمونه، ويعتقدون أنه من جنس كلام المشايخ العارفين الذين يتكلمون بكلام صحيح، لا يفهمه كثير من الناس، فهؤلاء تجد فيهم إسلاماً وإيماناً ومتابعة للكتاب والسنة بحسب إيمانهم التقليدي، وتجد فيهم إقراراً لهؤلاء وإحساناً للظن بهم وتسليماً لهم بحسب جهلهم وضلالهم، ولا يتصور أن يثني على هؤلاء إلا كافر ملحد أو جاهل ضال، وهؤلاء من جنس الجهمية الذين يقولون: إن الله بذاته حال في كل مكان، ولكن أهل وحدة الوجود حققوا هذا المذهب أعظم من تحقيق غيرهم من الجهمية ".214
وسبب عذر هؤلاء الجهال من المقلدة أن " الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له، فهذا لا يكفر، ولا يفسق، ولا ترد شهادته إذا لم يكن قادراً على تعلم الهدى، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً".215
وهكذا فإن ثبوت الحجة شرط في استحقاق المعين التكفير، إذ الجهل عذر عند الله، يعذر به العالم الذي جهل مسألة فغمضت عليه، كما يعذر به من باب أولى عوام المسلمين المقلدين له.
وهذه المسألة أصل في الحكم على عوام أهل الفرق المنتسبة للإسلام، والتي في عقائدها ما يكفر به العالم المعاند دون الجاهل المقلد.
العذر بالخطأ مع سلامة القصد
الخطأ هو فعل الخطأ أو اعتقاده مع إرادة الحق والصواب.
قال ابن حجر: المخطئ: من أراد الصواب فصار إلى غيره، ويفرق بينه وبين الخاطئ بأن الخاطئ من تعمد الخطأ، ومنه قوله تعالى: ]إن قتلهم كان خِطئاً كبيراً[ (الإسراء: 31).
وأما الخطأ المعفو عنه، فهو مثل قوله تعالى: ]وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به[ (الأحزاب: 5).216(3/6)
وقد جاءت نصوص الشريعة بالوعيد لمن تعمد الخطأ دون من أراد الحق فأخطأه أو لم يتعمد الخطأ لكنه وقع فيه، فقد توعد الله قاتل النفس عمداً بغير حق بقوله تعالى: ]ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها[ (النساء:93)، فقيَّد تبارك وتعالى الوعيد على قاتل المؤمن بالتعمد، بينما غفر عز وجل الخطأ بقوله على لسان المؤمنين: ]ربنا لا تؤخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا[ (البقرة: 286)، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله سبحانه استجاب هذا الدعاء، فقال: ((فقد فعلت)).217
كما قال تعالى: ] وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم[ (الأحزاب: 5).
ومثله قول النبي r : ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه)).218
قال ابن رجب : " الخطأ هو أن يقصد بفعله شيئاً، فيصادف فعله غير ما قصده، مثل أن يقصد قتل كافر فصادف قتله مسلماً، والنسيان أن يكون ذاكراً الشيء فينساه عند الفعل، وكلاهما معفو عنه: يعني لا إثم فيه...والأظهر - والله أعلم - أن الناسي والمخطئ إنما عفي عنهما، بمعنى: رفع الإثم عنهما، لأن الإثم مرتب على المقاصد والنيات، والناسي والمخطئ لا قصد لهما، فلا إثم عليهما".219
والخطأ المعفو عنه على ضروب، فمنه ما هو متعلق بالألفاظ التي لم يقصد قائلها ما أدت إليه من معان مستقبحة، تكفر صاحبها لو أرادها وقصدها.
وفي ذلك أمثلة أصّلت هذه القاعدة الشرعية، منه ما جاء في حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله r : ((لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح)).220
قال القاضي عياض : " فيه أنّ ما قاله الإنسان من مثل هذا في حال دهشته وذهوله لا يؤاخذ به.. ويدل على ذلك حكاية النبيّ r ذلك، ولو كان منكراً ما حكاه".221
وقال ابن القيم: "وقد تقدَّم أن الذي قال لما وجد راحلته: اللهم أنت عبدي وأنا ربّك. أخطأ من شدّة الفرح، لم يكفر بذلك، وإن أتى بصريح الكفر، لكونه لم يرده".222
وقال ابن حجر في سياق حديثه عن الذي أمر بحرق جسده بعد موته : "ولعلّ هذا الرجل قال ذلك من شدّة جزعه وخوفه كما غلط ذلك الآخر فقال: أنت عبدي وأنا ربّك... وأظهر الأقوال أنّه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتّى ذهب بعقله لما يقول, ولم يقله قاصداً لحقيقة معناه، بل في حالة كان فيها كالغافل والذّاهل والنّاسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه ".223
وكذا كانت اليهود تؤذي رسول الله بقولهم له: (راعنا)، وقد قالها أصحاب النبي e من غير أن يقصدوا مقصد اليهود، فلم يكفروا لسلامة مقصدهم، وناداهم القرآن باسم الإيمان، فقال: ] يا أيّها الّذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم [ (البقرة: 104).
قال ابن تيمية: " إن المسلم إذا عنى معنىً صحيحاً في حق الله تعالى، أو الرسول e، ولم يكن خبيراً بدلالة الألفاظ، فأطلق لفظاً يظنه دالاً على ذلك المعنى، وكان دالاً على غيره أنه لا يكفر، ومن كفَّر مثل هذا كان أحق بالكفر، فإنه مخالف للكتاب والسنة و إجماع المسلمين، وقد قال تعالى: ]لا تقولوا راعنا[ (البقرة: 104)، وهذه العبارة كانت مما يقصد به اليهود إيذاء النبي e، والمسلمون لم يقصدوا ذلك، فنهاهم الله تعالى عنها، ولم يكفرهم بها".224
ويقول ابن القيم: "ومن تدبر مصادر الشرع وموارده تبين له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها، بل جرت على غير قصد منه كالنائم والناسي والسكران والجاهل والمكره والمخطئ من شدة الفرح أو الغضب أو المرض ونحوهم".225
قال ابن حزم: "ليس كل ضلال كفراً، ولا فسقاً إلا إذا كان عمداً، وأما إذا كان من غير قصد فالإثم مرفوع فيه كسائر الخطأ".226
ومثل هذا السوء في القول يصدر يوم القيامة من آخر أهل الجنة دخولاً إليها، فيقول مخاطباً ربه جل وعلا: ((أتسخر بي أو أتضحك بي وأنت الملك؟ قال: لقد رأيت رسول الله e ضحك حتى بدت نواجذه)).227 وهذا القول مستقبح لا يخاطَب به الله العظيم، لكنه عفي عن قائله لفرط ذهوله.
ونقل النووي عن القاضي عياض قوله في معنى الحديث : " هذا الكلام صدر من هذا الرّجل وهو غير ضابط لما قاله، لما ناله من السّرور ببلوغ ما لم يخطر بباله, فلم يضبط لسانه دهشاً وفرحاً، فقاله وهو لا يعتقد حقيقة معناه , وجرى على عادته في الدّنيا في مخاطبة المخلوق".228
كما لم يكفر الذين خاضوا بالإفك، وآذوا النبي e لعدم قصدهم إيذاءه، ومثلهم حال أولئك الأصحاب رضوان الله عليهم الذين أطالوا الجلوس عنده e في يوم زواجه، فآذوه بذلك ] إنّ ذلكم كان يؤذي النّبيّ فيستحي منكم واللّه لا يستحي من الحقّ [ (الأحزاب : 53).
يقول السبكي: " لكن الأذى على قسمين أحدهما: يكون فاعله قاصداً لأذى النبي e، ولاشك أن هذا يقتضي القتل، وهذا كأذى عبد الله بن أُبي في قصة الأفك، والآخر أن لا يكون فاعله قاصداً لأذى النبي e مثل كلام مسطح وحمنة في الإفك، فهذا لا يقتضي قتلاً.
ومن الدليل على أن الأذى لابد أن يكون مقصوداً قول الله تعالى: ]إنّ ذلكم كان يؤذي النّبيّ[ (الأحزاب: 53). فهذه الآية في ناس صالحين من الصحابة، لم يقتض ذلك الأذى كفراً، وكل معصية ففعلها مؤذي، ومع ذلك فليس بكفر، فالتفصيل في الأذى الذي ذكرناه يتعين".229(3/7)
وقياساً على هذه المسائل توقف العلماء في تكفير أصحاب صور من الكفر لعدم إرادتهم هذا الكفر، ومثال ذلك يورده القاضي عياض بقوله: " وقد اختلف أئمتنا في رجل أغضبه غريمه، فقال له: صل على النبي محمد r، فقال له الطالب: لا صلى الله على من صلى عليه. فقيل لسحنون: هل هو كمن شتم النبي r ، أو شتم الملائكة الذين يصلون عليه؟ قال: لا، إذا كان على ما وصفت من الغضب، لأنه لم يكن مضمراً الشتم.
وقال أبو إسحاق البرقي وأصبغ بن الفرج: لا يقتل، لأنه إنما شتم الناس، وهذا نحو قول سحنون، لأنه لم يعذره بالغضب في شتم النبي e، ولكنه لما احتمل الكلام عنده، ولم تكن معه قرينة تدل على شتم النبي e، أو شتم الملائكة صلوات الله عليهم، ولا مقدمة يحمل عليها كلامه، بل القرينة تدل على أن مراده الناس غير هؤلاء، لأجل قول الآخر له: صل على النبي، فحُمِل قوله وسبه لمن يصلي عليه الآن لأجل أمر الآخر له بهذا عند غضبه... وذهب الحارث بن مسكين القاضي وغيره في مثل هذا إلى القتل".230
وصاحب المقالة يكفر اتفاقاً لو قصد شتم النبي e أو الملائكة، ولكن عفي عنه لعدم إرادته هذا القصد السيئ.
يقول ابن القيم: " ما يظهر بأن المتكلم لم يرد معناه، وقد ينتهي هذا الظهور إلى حد اليقين بحيث لا يشك السامع فيه.... كالمكره والنائم والمجنون ومن اشتد به الغضب والسكران ".231
ويقول وهو يعدد بعض ما عفا الله عنه في أمة الإسلام: "فرفع عنها المؤاخذة بذلك كله، حتى الخطأ في اللفظ من شدة الفرح والغضب والسكر .. وكذلك الخطأ والنسيان والإكراه والجهل بالمعنى وسبق اللسان بما لم يرده والتكلم في الإغلاق". 232
ونختم بتلخيص جامع لمذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، لعالم عصره الشوكاني رحمه الله، إذ يقول: " لابد من شرح الصدر بالكفر، وطمأنينة القلب به، وسكون النفس إليه، فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشرك لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام، ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر، ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه".233
العذر بالتأويل
أولاً : أدلة العذر بالتأويل
وقد يقع الواحد من المسلمين في الكفر لتأول خاطئ أو فهم مغلوط للنصوص، فيقع في الخطأ، وهو لا يقصده، وهذا في الحقيقة فرع عن العذر بالخطأ، لكنه لفرط أهميته وتميز بعض صوره عن الخطأ استحق أن يفرد بالذكر.
والمخطئ في فهم النصوص المتأول لبعضها على معان خاطئة مجتهد أخطأ في فهم مراد الشارع، فإن كان تأوله مع بذله الجهد، واستفراغ الوسع، فهذا مجتهد أخطأ في اجتهاده، وهو موعود بالأجر على لسان رسول الله e حيث قال: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)).234
قال ابن حجر: " ولا يؤاخذ بإعطاء الحقّ لغير مستحقه لأنّه لم يتعمّد ذلك، بل وزر المحكوم له قاصر عليه , ولا يخفى أنّ محلّ ذلك أن يبذل وسعه في الاجتهاد وهو من أهله, وإلا فقد يلحق به الوزر إن أخلّ بذلك".235
وكل مجتهد يبغي الحق، وقد يصيبه، وقد يخطئه، يقول ابن حزم: "لم يأمر الله قط بإصابة الحق، لأنه تكليف ما ليس بوسعه".236
قال الخطيب البغدادي: "فإن قيل: كيف يجوز أن يكون للمخطئ فيما أخطأ فيه أجر، وهو إلى أن يكون عليه في ذلك إثم لتوانيه وتفريطه في الاجتهاد حتى أخطأ؟ فالجواب: إن هذا غلط، لأن النبي e لم يجعل للمخطئ أجراً على خطئه، وإنما جعل له أجراً على اجتهاده، وعفا عن خطئه، لأنه لم يقصده ".237
وقال أبو حامد الغزالي: "ولم يثبت لنا أن الخطأ في التأويل موجب للتكفير، فلا بد من دليل عليه، وثبت أن العصمة مستفادة من قول: لا إله إلا الله قطعاً، فلا يدفع ذلك إلا بقاطع. وهذا القدر كاف في التنبيه على أن إسراف من بالغ في التكفير ليس عن برهان".238
ولسبب الخطأ في التأويل مع قصد الحق عذر المسلمون أصحاب النبي e الذين شاركوا في الفتنة، وترضوا عن سائرهم، ولم يوقعوا فيهم النصوص الذي ذمت قاتل النفس المؤمنة كقوله : ((لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض)).239
ولعل أهم أدلة عذر السلف لمن أخطأ في التأويل عذرهم قدامة بن مظعون وأصحابه حين شربوا الخمر مستحلين شربها، لغلطهم في فهم معنى قوله تعالى: ] ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات[ (المائدة: 93)، واعتقاد جواز شرب الخمر كفر، لكن بسبب التأول لم يكفرهم عمر رضي الله عنه ولا الصحابة، بل بينوا لهم معنى الآية، واستتابوهم من ستحلالها، وعاقبوهم على شربها.
يقول الطحاوي: "اتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك، فإن قدامة بن عبد الله شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة، وتأولوا قوله تعالى: ] ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات [ (المائدة: 93).
فلما ذكروا ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا، وقال عمر لقدامة: (أخطأت إستك الحفرة، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر)".
وبعد أن نقل الطحاوي اتفاق الصحابة على عذر هؤلاء المتأولين قال: "وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام".
كما أزال الطحاوي اللبس حين بيّن أن هذه الآية "نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر، وكان تحريمها بعد وقعة أحد، قال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فأنزل الله هذه الآية، بيّن فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم يحرم فيها، فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين.. ".240(3/8)
وإطلاق قول التكفير على المخطأ قبل بيان الحجة وقيام المحجة ليس بشيء، يقول شيخ الإسلام: " وأمثال ذلك، فإنهم يستتابون، وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذ، ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك، كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل".241
ومثل هذا التأول الخاطئ وقع فيه ابن عباس وأصحابه، فاستحلوا بيع الصاعين بالصاع، إذا كان يداً بيد، وتأولوا في ذلك، وبيانه في الخبر أن أبا سعيد الخدري لقي ابن عباس فقال له: أرأيت قولك في الصرف، أشيئاً سمعته من رسول الله r أم شيئاً وجدته في كتاب الله عز وجل؟ فقال ابن عباس: كلا، لا أقول، أما رسول الله r فأنتم أعلم به، وأما كتاب الله فلا أعلمه، ولكن حدثني أسامة بن زيد أن رسول الله r قال: ((ألا إنما الربا في النسيئة)).242
يقول ابن تيمية عن الأكابر من الصحابة والتابعين الذين قالوا بهذا القول الخاطئ: "هم من صفوة الأمة علماً وعملاً، لا يحل لمسلم أن يعتقد أن أحداً منهم بعينه، أو من قلده بحيث يجوز تقليده، تبلغهم لعنة آكل الربا، لأنهم فعلوا ذلك متأولين تأويلاً سائغاً في الجملة".243
ثم ذكر رحمه الله مثالاً آخر لتأول بعض السلف من أهل المدينة، الذين أباحوا إتيان محاش النساء، مع ورود الوعيد الشديد في ذلك: ((من أتى امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد)).244
ويعقب رحمه الله فيقول: " أفيستحل مسلم أن يقول: إن فلاناً وفلاناً كانا كافرين بما أنزل على محمد؟!".245
كما ذكر رحمه الله أمثلة كثيرة للخطأ بالتأويل وعذر السلف في ذلك، نكتفي منها بخبر استلحاق معاوية لزياد بن أبيه المولود على فراش الحارث بن كلدة، فقد ألحقه بأبي سفيان، لأنه كان يقول: إنه من نطفته.
ورسول الله قضى أن الولد للفراش، وتوعد من ادعى إلى غير أبيه باللعن والحرمان من الجنة، فقال: ((من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم، فالجنة عليه حرام)).246
قال ابن تيمية: "نعلم أن من انتسب إلى غير الأب الذي هو صاحب الفراش فهو داخل في كلام الرسول e، مع أنه لا يجوز أن يعين أحد دون الصحابة، فضلاً عن الصحابة، فيقال: إن هذا الوعيد لاحق به، لإمكان أنه لم يبلغهم قضاء رسول الله e بأن الولد للفراش... وهذا باب واسع، فإنه يدخل فيه جميع الأمور المحرمة بكتاب أو سنة إذا كان بعض الأمة لم يبلغهم أدلة التحريم، فاستحلوها، أو عارض تلك الأدلة عندهم أدلة أخرى".247
ومن أمثلة توقف السلف وامتناعهم عن تكفير المتأول توقف الصحابة في تكفير الخوارج "وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفّروا مع أمر الله ورسوله بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه طوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه".248
يقول ابن الوزير: "فإذا تورع الجمهور من تكفير من اقتضت النصوص كفره، فكيف لا يكون الورع أشد من تكفير من لم يرد في كفره نص واحد، فاعتبر تورع الجمهور هنا، وتعلم الورع منهم في ذلك".249
ويستشهد ابن القيم بقصة الرجل الذي أمر بإحراق نفسه على عذر الله للمتأول، فيقول: "وأما من جحد ذلك جهلاً، أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه، فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له، ورحمه لجهله، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه ولم يجحد قدرة الله على إعادته عناداً أو تكذيباً".250
يقول ابن الوزير عن هذا الدليل : " وهذا أرجى حديث لأهل الخطأ في التأويل".251
وهكذا فإن الخطأ الذي يسببه التأويل مما لا يكفَّر به المسلم، لأن الحكم بكفره مبني على الجزم بتعمده جحد ما جحد من الدين، وعدم خطئه، و "قد تكاثرت الآيات والأحاديث في العفو عن الخطأ، والظاهر أن أهل التأويل أخطؤوا، ولا سبيل إلى العلم بتعمدهم، لأنه من علم الباطن الذي لا يعلمه إلا الله تعالى".252
ثانياً : أقوال العلماء في العذر بالتأويل
ولما سبق فإن أهل العلم والبصيرة ما فتئوا يعذرون من وقع في بعض المكفرات وهو متأول، وأطبق على ذلك جمهورهم، ومنه :
قول الشافعي: "ذهب الناس في تأويل القرآن والأحاديث أو من ذهب منهم إلى أمور اختلفوا فيها، فتباينوا فيها تبايناً شديداً، واستحل فيها بعضهم من بعض ما تطول حكايته، وكان ذلك منهم متقادماً، منه ما كان في عهد السلف وبعدهم إلى اليوم، فلم نعلم أحداً من سلف هذه الأمة يقتدى به ولا من التابعين بعدهم رد شهادة أحد بتأويل، وإن خطأه وضلله، ورآه استحل فيه ما حرم عليه، ولا رد شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال الدم والمال أو المفرط من القول".253
ويقول شيخ الإسلام : " فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبل التي نهى عنها، أو لاتباع هواه بغير هدى من الله، فهو الظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد، بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطناً وظاهراً الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله، فهذا مغفور له خطأُه".254
ومثل هذا المجتهد لا يحكم عليه بالكفر إلا بعد قيام الحجة الرسالية، فإن أصر بعد بيانها فهو معاند كافر، وأما قبل ذلك فلا، يقول ابن تيمية: " وأما التكفير فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد r وقصد الحق، فأخطأ : لم يكفر، بل يغفر له خطؤه.
ومن تبين له ما جاء به الرسول، فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، واتبع غير سبيل المؤمنين: فهو كافر.(3/9)
ومن اتبع هواه، وقصر في طلب الحق، وتكلم بلا علم : فهو عاص مذنب، ثم قد يكون فاسقاً، وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته، فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص".255
ولما عدّد شيخ الإسلام الأعذار التي تمنع إطلاق الكفر على من وقع في المكفرات، فذكر بينها الشبهة، وهي صورة قريبة من التأويل، إذ بسبب الشبهة التي تنقدح في ذهنه يصرف المسلم النصوص عن معانيها الصحيحة إلى معانٍ غير مرادة شرعاً: " الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطؤه كائناً ما كان، سواء كان في المسائل النظرية [العقدية] أو العملية [الفقهية]، هذا الذي عليه أصحاب النبي r وجماهير أئمة الإسلام".256
قال مرعي الكرمي المقدسي: "ولا نكفر أحداً من أهل الفرق بما ذهب إليه واعتقده، خصوصاً مع قيام الشبهة والدليل عنده".257
ويقول ابن تيمية: "التكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده، حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً".258
وقال ابن العربي: "الجاهل والمخطئ من هذه الأمة، ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركاً أو كافراً، فإنّه يعذر بالجهل والخطأ حتى تتبيّن له الحجة التي يكفر تاركها بياناً واضحاً ما يلتبس على مثله، وينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام، مما أجمعوا عليه إجماعاً قطعيّاً يعرفه كلّ المسلمين من غير نظرٍ وتأمّلٍ.. ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع ".259
ومثَّل بعض أهل العلم بأمثال للمكفرات التي يعذر صاحبها بالتأويل، ومنه قول ابن حزم: "وكذلك من قال: إن ربه جسم من الأجسام، فإنه إن كان جاهلاً أو متأولاً فهو معذور لا شيء عليه، ويجب تعليمه، فإذا قامت عليه الحجة من القرآن والسنن، فخالف ما فيهما عناداً، فهو كافر، يحكم عليه بحكم المرتد.
وأما من قال: إن الله عز وجل هو فلان، لإنسان بعينه، أو أن الله تعالى يحل في جسم من أجسام خلقه أو أن بعد محمد r نبياً غير عيسى ابن مريم، فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره لصحة قيام الحجة بكل هذا على كل أحد، ولو أمكن أن يوجد أحد يدين بهذا لم يبلغه قط خلافه لما وجب تكفيره حتى تقوم عليه الحجة ".260
والحجة التي يتحدث عنها العلماء ليست دعوى يدعي إقامتها كل أحد، بل هي منوطة بالعلماء، كما قال الحافظ العراقي تعليقاً على تكفير من غلط في حديث، فبُين له فلم يرجع، فقال: "قيد ذلك بعض المتأخرين بأن يكون الذي بيَّن له غلطه عالماً عند المبيَن له، أما إذا لم يكن عنده بهذه المثابة فلا حرج إذاً".
وأضاف أحمد شاكر: "وهذا القيد صحيح، لأن الراوي لا يُلزم بالرجوع عن روايته إن لم يثق بأن من زعم أنه أخطأ فيها أعرف منه بهذه الرواية التي يخطِّئه فيها، وهذا واضح".261
وقال ابن سحمان: "الذي يظهر لي - والله أعلم - أنها لا تقوم الحجة إلا بمن يحسن إقامتها، وأما من لا يحسن إقامتها كالجاهل الذي لا يعرف أحكام دينه ولا ما ذكره العلماء في ذلك، فإنه لا تقوم به الحجة".262
كما يجدر التنبيه هنا إلى أن قيام الحجة أمر نسبي، يختلف باختلاف فهوم الناس، قال ابن القيم: " إن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له".263
وقد عذر العلماء أتباع الفرق المنحرفة بسبب التأويل الخاطئ، فلم يكفروهم، وإن ضللوهم وخطؤوهم، لكن لا سبيل إلى تكفير المتأول المخطئ، الذي قصد الحق فأخطأه لشبهة أو دليل معارض، وهذا هو مذهب أئمة الإسلام وفحول العلم، يقول شيخ الإسلام في سياق عرضه لما حكاه البعض عن الإمام أحمد من تكفيره أهل البدع: " وليس هذا مذهب أحمد ولا غيره من أئمة الإسلام، بل لا يختلف قوله: أنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، ولا يكفر من يفضل علياً على عثمان، بل نصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم، وإنما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته، لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول r ظاهرة بينة، ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق، وكان قد ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم، وأنه يدور على التعطيل، وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة.
لكن ما كان يكفر أعيانهم، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط، والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه، ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة وغير ذلك، ويدعون الناس إلى ذلك، يمتحنونهم، ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم، ويكفرون من لم يجبهم.. ومع هذا فالإمام أحمد رحمه الله تعالى ترحم عليهم واستغفر لهم ".264(3/10)