المفصل في شرح حديث من بدل دينه فاقتلوه
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين 0
أما بعد :
فهذا شرح مفصل لحديث « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ».
وقد أجمعت الأمة الإسلامية على وجوب إقامة هذا الحد عبر العصور الإسلامية السالفة ، وذلك لحماية المجتمع الإسلامي من الفساد والإلحاد ، فالإسلام لا يجبر أحدا على الدخول فيه ، ولكنه إذا دخل بإرادته فلا يجوز له الرجوع عنه بحال من الأحوال .....
===================
وأما فقهاء العصر فكان موقفهم - من إقامة حدِّ الردةِ-مختلفٌ على الشكل التالي :
الفريق الأول- وهم الذين باعوا دينهم بثمن بخس ، فقد أنكروا حدَّ الردة ، واعتبروه مناف للحرية الشخصية على حذِ زعمهم، واستدلوا بقوله تعالى :{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256) سورة البقرة
فالجواب على شبهتهم من وجوه:
(1) أولاً: إن المرتد بعد أن أقر بالإسلام والتزم به وتسمى به، فقد رضي بكل ما تضّمنه الإسلام من أحكام ومنها حكم المرتد.
(2) ثانياً: إن المرتد لا يقتل إلا بعد استتابته ثلاثاً- أي: ثلاثة أيام- مع خلاف في بعض المسائل كمن سب الله تعالى أو رسوله -عليه الصلاة والسلام-. فإصراره على الردة، والسيف مروض على رقبته، يدل على عدم استحقاقه البقاء، إذ لو بقي لكان عامل فتنة مهدم لضعيفي الإيمان من أبناء الأمة، بما قد يلقيه عليهم وبينهم من الشبه والأغلوطات، فقتل المرتد حماية لغيره من اقتفاء أثره والتشبه بمسكله. وتأمل كيف سمى الله تعالى قتل القاتل حياة حين قال:"ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون".
(3) ثالثاً: لو تُرك المرتد بلا قتل؛ لاتخذ الناس دين الله هزواً ولعبا؛ً فيسلم أحدهم اليوم ويكفر غداً ويسلم غداً ويكفر بعد غد بلا مبالاة، بدعوى حرية المعتقد، وفي ذلك مفاسد لا تخفى والله المستعان.
كما أن التساهل في هذه العقوبة يؤدي إلى زعزعة النظام الاجتماعي القائم على الدين، فكان لا بد من تشديد العقوبة لاستئصال المجرم من المجتمع منعاً للجريمة وزجراً عنها. وشدة العقوبة تولّد في نفس الإنسان من العوامل الصارفة عن الجريمة ما يكبت العوامل الدافعة إليها، ويمنع من ارتكاب الجريمة في أغلب الأحوال.
ومن المعلوم أن العقوبات تتناسب مع الجرائم؛ فكلما ازدادت بشاعة الجريمة استلزمت عقاباً موازياً لها في الشدة
ومن المبادئ المتفق عليها لدى التشريعات الجنائية مبدأ مقارنة جسامة الجريمة بجسامة العقوبة، وكلما زادت العقوبة في جسامتها دل ذلك على ارتفاع جسامة الوصف القانوني للجريمة.
---------------
والفريق الثاني - فقد أنكروا حدَّ الردة أيضاً ، واعتبروا أن الحديث الذي ورد فيه ليس متواترا ، ولا يوجد في القرآن الكريم نصٌّ على عقوبة المرتدِّ !!!!
وقد قالوا ذلك تحت تأثير عفن الحضارة الغربية التي تدعو إلى الحرية المطلقة للإنسان ؛ سواء في عقيدته أو عبادته أو تصرفاته ، حتى لو كانت ضارة بمصلحة المجتمع ،لأنها تقدم مصلحة الأفراد على مصلحة الجماعة باسم هذه الحرية المزعومة !!
وذلك يتناقض مناقضة صريحة مع دعوة الإسلام التي تضبط جميع تصرفات الإنسان وفق منهج رباني رفيع يراعى فيه حق الفرد وحق الجماعة ،لكي لا يطغى أحدهما على حساب الآخر ، ولكنهما إذا تعارضا قدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد مع التعويض العادل للفرد 0
وفاتهم قول الله تعالى :{مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (7) سورة الحشر
--------------
الفريق الثالث- أقرُّوا بحدِّ الردة ، ولكنهم قالوا : هو ليس ملزما ، فهو من باب السياسة الشرعية ، فإن شاء الحاكم أقامه ، وإن شاء تركه ...... وهذا لا أصل له في الدين ، ولا عند الأقدمين
---------------
الفريق الرابع- أقرُّوا بحدِّ الردةِ ، ولكنهم قالوا : لا يقتل المرتد إلا إذا دعا للكفر والفسوق والعصيان ، فإذا كانت ردته لا تتعداه ، فلا يقام عليه حدُّ الردَّةِ ، ولا أصل لهذا التقسيم ، ولكنهم
قالوا ذلك - تحت وطأة الواقع المر والأليم، الذي تمر به الأمة الإسلامية .
-------------------
الفريق الخامس - أقرُّوا بحدِّ الردَّةِ ، وقالوا : هو جزء لا يتجزا من الدين ، وهو معلوم من الدين بالضرورة والبداهة ، فمن أنكره فقد كفر ، وخرج من الدين ، وقالوا : لا بد من إقامة حدِّ الردة ضمن الضوابط الشرعية المعتبرة ، فالتلاعب به تلاعب بالدين ، وقد ردوا على الفئات الضالة السابقة بقوة ، وكشفوا للناس زيف دعوتهم وبينوا بطلانها بأدلة ناصعةٍ ، غير قابلة للرَّدِّ والمماحكة
وهذا هو الحق ، وما بعد الحق إلا الضلال
================
طريقتي في العمل
وقد حاولت تفصيل شرح هذا الحديث من كتب الحديث وشروحها وكتب الفقه والأصول
وقد قسمته لستة أبواب :
الباب الأول -نص الحديث الشريف
ذكرت فيه تخريح الحديث من مصارده الرئيسة وهو حديث متواتر من حيث المعنى
الباب الثاني -شرح الحديث
نقلت شرحه من سائر كتب شروح الحديث وهي كثيرة بفضل الله
الباب الثالث - أقوال الفقهاء
ذكرت أقوال الفقهاء القدامى من كتبهم مباشرة ، على جميع المذاهب الفقهية ، بما فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
الباب الرابع - الخلاصة في أحكام المرتد
من الموسوعة الفقهية ، وقد جمعتها من المجلدات الخمسة والأربعين
الباب الخامس -بعض أقوال المعاصرين
ذكرت بعض أقوال العلماء المعاصرين المعتبرين ، الذين لم يعطوا الدنية في دينهم ، ومن فتاوى الأزهر
الباب السادس- رد بعض الشبهات حول حد الردة
رددت على الشبهات التي أثيرت - من قبل أعداء الإسلام أو المنافقين من أبناء جلدتنا- حول إقامة الحدود ولا سيما حدَّ الردة
==================
لذا أرجو من الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره
وأن يكون كافياً شافيا في هذا الباب
قال تعالى :
( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود:88)
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
12 جمادى الأولى 1425 هـ الموافق 30/6 /20004 م
وتم تعديله بتاريخ 8 رمضان 1428 هـ الموافق ل 20/9/2007م
=============(2/1)
تمهيد حول هذا الموضوع
وقد حذر الله تعالى من الردة :
قال تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة:54)
إن تهديد من يرتد عن دينه من الذين آمنوا - على هذه الصورة . وفي هذا المقام - ينصرف - ابتداء - إلى الربط بين موالاة اليهود والنصارى وبين الارتداد عن الإسلام . وبخاصة بعد ما سبق من اعتبار من يتولاهم واحدًا منهم , منسلخا من الجماعة المسلمة منضما إليهم: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) . .
وعلى هذا الاعتبار يكون هذا النداء الثاني في السياق توكيدا وتقريرا للنداء الأول
يدل على هذا كذلك النداء الثالث الذي يلي هذا النداء والسياق , وهو منصب على النهي عن موالاة أهل الكتاب والكفار , يجمع بينهم على هذا النحو , الذي يفيد أن موالاتهم كموالاة الكفار سواء , وأن تفرقة الإسلام في المعاملة بين أهل الكتاب والكفار , لا تتعلق بقضية الولاء , إنما هي في شئون أخرى لا يدخل فيها الولاء .
(يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه , فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه , أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين , يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) . .
إن اختيار الله للعصبة المؤمنة , لتكون أداة القدر الإلهي في إقرار دين الله في الأرض , وتمكين سلطانه في حياة البشر , وتحكيم منهجه في أوضاعهم وأنظمتهم , وتنفيذ شريعته في أقضيتهم وأحوالهم , وتحقيق الصلاح والخير والطهارة والنماء في الأرض بذلك المنهج وبهذه الشريعة . .
إن هذا الاختيار للنهوض بهذا الأمر هو مجرد فضل الله ومنته . فمن شاء أن يرفض هذا الفضل وأن يحرم نفسه هذه المنة . .
فهو وذاك , والله غنى عنه - وعن العالمين . والله يختار من عباده من يعلم أنه أهل لذلك الفضل العظيم .
والصورة التي يرسمها للعصبة المختارة هنا , صورة واضحة السمات قوية الملامح , وضيئة جذابة حبيبة للقلوب:
(فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) . .
فالحب والرضى المتبادل هو الصلة بينهم وبين ربهم . . الحب . .
هذا الروح الساري اللطيف الرفاف المشرق الرائق البشوش . . هو الذي يربط القوم بربهم الودود .
وحب الله لعبد من عبيده , أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله - سبحانه - بصفاته كما وصف نفسه , وإلا من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره وكينونته كلها . .
أجل لا يقدر حقيقة هذا العطاء إلا الذي يعرف حقيقة المعطي . . الذي يعرف من هو الله . .
من هو صانع هذا الكون الهائل , وصانع الإنسان الذي يلخص الكون وهو جرم صغير ! من هو في عظمته . ومن هو في قدرته . ومن هو في تفرده . ومن هو في ملكوته . .
من هو ومن هذا العبد الذي يتفضل الله عليه منه بالحب . . والعبد من صنع يديه - سبحانه - وهو الجليل العظيم , الحي الدائم , الأزلى الأبدي , الأول والآخر والظاهر والباطن .
وحب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلا من ذاقها . .
وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا هائلا عظيما , وفضلا غامرا جزيلا , فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد , الذي الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها ولا شبيه . .
هو إنعام هائل عظيم . . وفضل غامر جزيل .
وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا فوق التعبير أن يصفه , فإن حب العبد لربه أمر قلما استطاعت العبارة أن تصوره إلا في فلتات قليلة من كلام المحبين . .
وهذا هو الباب الذي تفوق فيه الواصلون من رجال التصوف الصادقين - وهم قليل من بين ذلك الحشد الذي يلبس مسوح التصوف ويعرف في سجلهم الطويل - ولا زالت أبيات رابعة العدوية تنقل إلى حسي مذاقها الصادق لهذا الحب الفريد , وهي تقول:
فليتك تحلو والحياة مريرة * وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر * وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين * وكل الذي فوق التراب تراب
وهذا الحب من الجليل للعبد من العبيد , والحب من العبد للمنعم المتفضل , يشيع في هذا الوجود ويسري في هذا الكون العريض , وينطبع في كل حي وفي كل شيء , فإذا هو جو وظل يغمران هذا الوجود , ويغمران الوجود الإنساني كله ممثلا في ذلك العبد المحب المحبوب . .
والتصور الإسلامي يربط بين المؤمن وربه بهذا الرباط العجيب الحبيب . . وليست مرة واحدة ولا فلتة عابرة . . إنما هو أصل وحقيقة وعنصر في هذا التصور أصيل:
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًا) . . (إن ربي رحيم ودود) . .(وهو الغفور الودود) . . (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) . . (والذين آمنوا أشد حبا لله) . . (قل:إن كنم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) . . وغيرها كثير . .
وعجبا لقوم يمرون على هذا كله , ليقولوا:إن التصور الإسلامي تصور جاف عنيف , يصور العلاقة بين الله والإنسان علاقة قهر وقسر , وعذاب وعقاب , وجفوة وانقطاع . . .
لا كالتصور الذي يجعل المسيح ابن الله وأقنوم الإله , فيربط بين الله والناس , في هذا الازدواج !
إن نصاعة التصور الإسلامي في الفصل بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية , لا تجفف ذلك الندى الحبيب ,بين الله والعبيد , فهي علاقة الرحمة كما أنها علاقة العدل , وهي علاقة الود كما أنها علاقة التجريد , وهي علاقة الحب كما أنها علاقة التنزية . .
إنه التصور الكامل الشامل لكل حاجات الكينونة البشرية في علاقتها برب العالمين
وهنا - في صفة العصبة المؤمنة المختارة لهذا الدين - يرد ذلك النص العجيب: (يحبهم ويحبونه) ويطلق شحنته كلها في هذا الجو , الذي يحتاج إليه القلب المؤمن , وهو يضطلع بهذا العبء الشاق . شاعرا أنه الاختيار والتفضل والقربى من المنعم الجليل . .
ثم يمضي السياق يعرض بقية السمات: (أذلة على المؤمنين) . .
وهي صفة مأخوذة من الطواعية واليسر واللين . . فالمؤمن ذلول للمؤمن . . غير عصي عليه ولا صعب . هين لين . . ميسر مستجيب . . سمح ودود . . وهذه هي الذلة للمؤمنين .
وما في الذلة للمؤمنين من مذلة ولا مهانة . إنما هي الأخوة , ترفع الحواجز , وتزيل التكلف وتخلط النفس بالنفس , فلا يبقى فيها ما يستعصي وما يحتجز دون الآخرين .
إن حساسية الفرد بذاته متحوصلة متحيزة هي التي تجعله شموسا عصيا شحيحا على أخيه . فأما حين يخلط نفسه بنفوس العصبة المؤمنة معه , فلن يجد فيها ما يمنعه وما يستعصي به . .
وماذا يبقى له في نفسه دونهم , وقد اجتمعوا في الله إخوانا ; يحبهم ويحبونه , ويشيع هذا الحب العلوي بينهم ويتقاسمونه ?!
(أعزة على الكافرين) . .
فيهم على الكافرين شماس وإباء واستعلاء . . ولهذه الخصائص هنا موضع . .
إنها ليست العزة للذات , ولا الاستعلاء للنفس . إنما هي العزة للعقيدة , والاستعلاء للراية التي يقفون تحتها في مواجهة الكافرين . إنها الثقة بأن ما معهم هو الخير , وأن دورهم هو أن يطوعوا الآخرين للخير الذي معهم لا أن يطوعوا الآخرين لأنفسهم ولا أن يطوعوا أنفسهم للآخرين وما عند الآخرين !
ثم هي الثقة بغلبة دين الله على دين الهوى ; وبغلبة قوة الله على تلك القوى ; وبغلبة حزب الله على أحزاب الجاهلية . . فهم الأعلون حتى وهم ينهزمون في بعض المعارك , في أثناء الطريق الطويل . .
(يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) . .
فالجهاد في سبيل الله , لإقرار منهج الله في الأرض , وإعلان سلطانه على البشر , وتحكيم شريعته في الحياة , لتحقيق الخير والصلاح والنماء للناس . . هي صفة العصبة المؤمنة التي يختارها الله ليصنع بها في الأرض ما يريد . .
وهم يجاهدون في سبيل الله ; لا في سبيل أنفسهم ; ولا في سبيل قومهم ; ولا في سبيل وطنهم ; ولا في سبيل جنسهم . . في سبيل الله . لتحقيق منهج الله , وتقرير سلطانه , وتنفيذ شريعته , وتحقيق الخير للبشر عامة عن هذا الطريق . . وليس لهم في هذا الأمر شيء , وليس لأنفسهم من هذا حظ , إنما هو لله وفي سبيل الله بلا شريك . .
وهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . .
وفيم الخوف من لوم الناس , وهم قد ضمنوا حب رب الناس ? وفيم الوقوف عند مألوف الناس , وعرف الجيل , ومتعارف الجاهلية , وهم يتبعون سنة الله , ويعرضون منهج الله للحياة ? إنما يخشى لوم الناس من يستمد مقاييسه وأحكامه من أهواء الناس ; ومن يستمد عونه ومدده من عندالناس ; أما من يرجع إلى موازين الله ومقاييسه وقيمه ليجعلها تسيطر على أهواء الناسوشهواتهم وقيمهم ; وأما من يستمد قوته وعزته من قوة الله وعزته , فما يبالي ما يقول الناس وما يفعلون . كائنا هؤلاء الناس ما كانوا ; وكائنا واقع هؤلاء الناس ما كان , وكائنة "حضارة " هؤلاء الناس وعلمهم وثقافتهم ما تكون !
إننا نحسب حسابا لما يقول الناس ; ولما يفعل الناس ; ولما يملك الناس ; ولما يصطلح عليه الناس ; ولما يتخذه الناس في واقع حياتهم من قيم واعتبارات وموازين . .
لأننا نغفل أو نسهو عن الأصل الذي يجب أن نرجع إليه في الوزن والقياس والتقويم . .(2/2)
إنه منهج الله وشريعته وحكمه . .
فهو وحده الحق وكل ما خالفة فهو باطل ; ولو كان عرف ملايين الملايين , ولو أقرته الأجيال في عشرات القرون !
إنه ليست قيمة أي وضع , أو أي عرف , أو أي تقليد , أو أية قيمة . . أنه موجود ; وأنه واقع ; وأن ملايين البشر يعتنقونه , ويعيشون به , ويتخذونه قاعدة حياتهم . . فهذا ميزان لا يعترف به التصور الإسلامي . إنما قيمة أي وضع , وأي عرف , وأي تقليد , وأية قيمة , أن يكون لها أصل في منهج الله , الذي منه - وحده - تستمد القيم والموازين . .
ومن هنا تجاهد العصبة المؤمنة في سبيل الله ولا تخاف لومة لائم . .
فهذه سمة المؤمنين المختارين . .
ثم إن ذلك الاختيار من الله , وذلك الحب المتبادل بينه وبين المختارين , وتلك السمات التي يجعلها طابعهم وعنوانهم , وهذا الاطمئنان إلى الله في نفوسهم , والسير على هداه في جهادهم . .
ذلك كله من فضل الله .
(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . والله واسع عليم) .
يعطي عن سعة , ويعطي عن علم . .
وما أوسع هذا العطاء ; الذي يختار الله له من يشاء عن علم وعن تقدير .
ويحدد الله للذين آمنوا جهة الولاء الوحيدة التي تتفق مع صفة الإيمان ; ويبين لهم من يتولون: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا , الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) . .
هكذا على وجه القصر الذي لا يدع مجالا للتمحل أو التأول ; ولا يترك فرصة لتمييع الحركة الإسلامية أو تمييع التصور . .
ولم يكن بد أن يكون الأمر كذلك ! لأن المسألة في صميمها - كما قلنا - هي مسألة العقيدة . ومسألة الحركة بهذه العقيدة . وليكون الولاء لله خالصا , والثقة به مطلقة , وليكون الإسلام هو "الدين" . وليكون الأمر أمر مفاصلة بين الصف المسلم وسائر الصفوف التي لا تتخذ الإسلام دينا , ولا تجعل الإسلام منهجا للحياة . ولتكون للحركة الإسلامية جديتها ونظامها ; فلا يكون الولاء فيها لغير قيادة واحدة وراية واحدة . ولا يكون التناصر إلا بين العصبة المؤمنة ; لأنه تناصر في المنهج المستمد من العقيدة . .
ولكن حتى لا يكون الإسلام مجرد عنوان , أو مجرد راية وشعار , أو مجرد كلمة تقال باللسان , أو مجرد نسب ينتقل بالوراثة , أو مجرد وصف يلحق القاطنين في مكان ! فإن السياق يذكر بعض السمات الرئيسية للذين آمنوا:
(الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة , وهم راكعون) . .
فمن صفتهم إقامة الصلاة - لا مجرد أداء الصلاة - وإقامة الصلاة تعني أداءها أداء كاملا , تنشأ عنه آثارها التي يقررها قوله تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . .
والذي لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر , لم يقم الصلاة ; فلو أقامها لنهته كما يقول الله !
ومن صفتهم إيتاء الزكاة . . أي أداء حق المال طاعة لله وقربى عن رضى نفس ورغبة . فليست الزكاة مجرد ضريبة مالية , إنما هي كذلك عبادة . أو هي عبادة مالية . وهذه هي ميزة المنهج الإسلامي . الذي يحقق أهدافا شتى بالفريضة الواحدة . وليس كذلك الأنظمة الأرضية التي تحقق هدفا وتفرط في أهداف . .
إنه لا يغني في إصلاح حال المجتمع أن يأخذ المجتمع المال ضريبة [ مدنية ! ] أو أن يأخذ المال من الأغنياء للفقراء باسم الدولة , أو باسم الشعب , أو باسم جهة أرضية ما . .
فهي في صورتها هذه قد تحقق هدفا واحدا ; وهو إيصال المال للمحتاجين . .
فأما الزكاة . . فتعني اسمها ومدلولها . . إنها قبل كل شيء طهارة ونماء . .
إنها زكاة للضمير بكونها عبادة لله . وبالشعور الطيب المصاحب لها تجاه الإخوان الفقراء , بما أنها عبادة لله يرجو عليها فاعلها حسن الجزاء في الآخرة , كما يرجو منها نماء المال في الحياة الدنيا بالبركة وبالنظام الاقتصادي المبارك . ثم بالشعور الطيب في نفوس الفقراء الآخذين أنفسهم ; إذ يشعرون أنها فضل الله عليهم إذ قررها لهم في أموال الأغنياء ; ولا يشعرون معها بالحقد والتشفي من إخوانهم الأغنياء [ مع تذكر أن الأغنياء في النظام الإسلامي لا يكسبون إلا من حلال ولا يجورون على حق أحد وهم يجمعون نصيبهم من المال ] . .
وفي النهاية تحقق هدف الضريبة المالية في هذا الجو الراضي الخير الطيب . . جو الزكاة والطهارة والنماء . .
وأداء الزكاة سمة من سمات الذين آمنوا تقرر أنهم يتبعون شريعة الله في شئون الحياة ; فهي إقرار منهم بسلطان الله في أمرهم كله . . وهذا هو الإسلام . .
(وهم راكعون) . .
ذلك شأنهم , كأنه الحالة الأصلية لهم . .
ومن ثم لم يقف عند قوله: (يقيمون الصلاة) . . فهذه السمة الجديدة أعم وأشمل . إذ أنها ترسمهم للخاطر كأن هذا هو شأنهم الدائم . فأبرز سمة لهم هي هذه السمة , وبها يعرفون . .
وما أعمق إيحاءات التعبيرات القرآنية في مثل هذه المناسبات !
والله يعد الذين آمنوا - في مقابل الثقة به , والالتجاء إليه , والولاء له وحده - ولرسوله وللمؤمنين بالتبعية . . ومقابل المفاصلة الكاملة بينهم وبين جميع الصفوف إلا الصف الذي يتمحض لله . . يعدهم النصر والغلبة:
(ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) . .
وقد جاء هذا الوعد بالغلب بعد بيان قاعدة الإيمان في ذاتها . .
وأنها هي الولاء لله ورسوله وللمؤمنين ; وبعد التحذير من الولاء لليهود والنصارى واعتباره خروجا من الصف المسلم إلى صف اليهود والنصارى , وارتدادا عن الدين . .(2/3)
وهنا لفتة قرآنية مطردة . . فالله - سبحانه - يريد من المسلم أن يسلم لمجرد أن الإسلام خير ! لا لأنه سيغلب , أو سيمكن له في الأرض ; فهذه ثمرات تأتي في حينها ; وتأتي لتحقيق قدر الله في التمكين لهذا الدين ; لا لتكون هي بذاتها الإغراء على الدخول في هذا الدين . . والغلب للمسلمين لا شيء منه لهم . لا شيء لذواتهم وأشخاصهم . وإنما هو قدر الله يجريه على أيديهم , ويرزقهم إياه لحساب عقيدتهم لا لحسابهم ! فيكون لهم ثواب الجهد فيه ; وثواب النتائج التي تترتب عليه من التمكين لدين الله في الأرض , وصلاح الأرض بهذا التمكين . .
كذلك قد يعد الله المسلمين الغلب لتثبيت قلوبهم ; وإطلاقها من عوائق الواقع الحاضر أمامهم - وهي عوائق ساحقة في أحيان كثيرة - فإذا استيقنوا العاقبة قويت قلوبهم على اجتياز المحنة ; وتخطي العقبة , والطمع في أن يتحقق على أيديهم وعد الله للأمة المسلمة , فيكون لهم ثواب الجهاد , وثواب التمكين لدين الله , وثواب النتائج المترتبة على هذا التمكين .
كذلك يشي ورود هذا النص في هذا المجال , بحالة الجماعة المسلمة يومذاك , وحاجتها إلى هذه البشريات . بذكر هذه القاعدة من غلبة حزب الله . . مما يرجح ما ذهبنا إليه من تاريخ نزول هذا القطاع من السورة .
ثم تخلص لنا هذه القاعدة ; التي لا تتعلق بزمان ولا مكان . . فنطمئن إليها بوصفها سنة من سنن الله التي لا تتخلف . وإن خسرت العصبة المؤمنة بعض المعارك والمواقف . فالسنة التي لا تنقض هي أن حزب الله هم الغالبون . . ووعد الله القاطع أصدق من ظواهر الأمور في بعض مراحل الطريق ! وأن الولاء لله ورسوله والذين آمنوا هو الطريق المؤدي لتحقق وعد الله في نهاية الطريق ! (1)
=============
وبين تعالى حبوط الأعمال بالردة والخلود في النار
قال تعالى :( يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:217)
وفي تفسير السعدي :(2)
الجمهور على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم, منسوخ بالأمر بقتال المشركين حيثما وجدوا، وقال بعض المفسرين: إنه لم ينسخ, لأن المطلق محمول على المقيد، وهذه الآية مقيدة لعموم الأمر بالقتال مطلقا؛ ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم، بل أكبر مزاياها, تحريم القتال فيها, وهذا إنما هو في قتال الابتداء، وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الأشهر الحرم, كما يجوز في البلد الحرام.
ولما كانت هذه الآية نازلة بسبب ما حصل, لسرية عبد الله بن جحش, وقتلهم عمرو بن الحضرمي, وأخذهم أموالهم, وكان ذلك - على ما قيل - في شهر رجب، عيرهم المشركون بالقتال بالأشهر الحرم, وكانوا في تعييرهم ظالمين, إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما عيروا به المسلمين, قال تعالى في بيان ما فيهم: { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي: صد المشركين من يريد الإيمان بالله وبرسوله, وفتنتهم من آمن به, وسعيهم في ردهم عن دينهم, وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام, والبلد الحرام, الذي هو بمجرده, كاف في الشر، فكيف وقد كان في شهر حرام وبلد حرام؟! { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } أي: أهل المسجد الحرام, وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, لأنهم أحق به من المشركين, وهم عماره على الحقيقة, فأخرجوهم { مِنْهُ } ولم يمكنوهم من الوصول إليه, مع أن هذا البيت سواء العاكف فيه والباد، فهذه الأمور كل واحد منها { أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } في الشهر الحرام, فكيف وقد اجتمعت فيهم؟! فعلم أنهم فسقة ظلمة, في تعييرهم المؤمنين.
ثم أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين، وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم, وإنما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم, ويكونوا كفارا بعد إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير، فهم باذلون قدرتهم في ذلك, ساعون بما أمكنهم, { ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون }
وهذا الوصف عام لكل الكفار, لا يزالون يقاتلون غيرهم, حتى يردوهم عن دينهم، وخصوصا, أهل الكتاب, من اليهود والنصارى, الذين بذلوا الجمعيات, ونشروا الدعاة, وبثوا الأطباء, وبنوا المدارس, لجذب الأمم إلى دينهم, وتدخيلهم عليهم, كل ما يمكنهم من الشبه, التي تشككهم في دينهم.
ولكن المرجو من الله تعالى, الذي مَنّ على المؤمنين بالإسلام, واختار لهم دينه القيم, وأكمل لهم دينه، أن يتم عليهم نعمته بالقيام به أتم القيام, وأن يخذل كل من أراد أن يطفئ نوره, ويجعل كيدهم في نحورهم, وينصر دينه, ويعلي كلمته.
وتكون هذه الآية صادقة على هؤلاء الموجودين من الكفار, كما صدقت على من قبلهم: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ }
ثم أخبر تعالى أن من ارتد عن الإسلام, بأن اختار عليه الكفر واستمر على ذلك حتى مات كافرا، { فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } لعدم وجود شرطها وهو الإسلام، { وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 130)
(2) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 97)(2/4)
ودلت الآية بمفهومها, أن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام, أنه يرجع إليه عمله الذي قبل ردته، وكذلك من تاب من المعاصي, فإنها تعود إليه أعماله المتقدمة.
=================
ويقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله :(1)
{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217]
اعتراض ثان، أو عطف على الاعتراض الذي قبله، والمقصد منه التحذير، لأنه لما ذكر حرص المشركين على رد المسلمين عن الإسلام وعقبه باستبعاد أن يصدر ذلك من المسلمين، أعقبه بالتحذير منه، وجيء بصيغة {يَرْتَدِدْ} وهي صيغة مطاوعة إشارة إلى أن رجوعهم عن الإسلام إن قدر حصوله لا يكون إلا عن محاولة من المشركين فإن من ذاق حلاوة الإيمان لا يسهل عليه رجوعه عنه ومن عرف الحق لا يرجع عنه إلا بعناء، ولم يلاحظ المفعول الثاني هنا؛ إذ لا اعتبار بالدين المرجوع إليه وإنما نيط الحكم بالارتداد عن الإسلام إلى أي دين ومن يومئذ صار اسم الردة لقبا شرعيا على الخروج من دين الإسلام وإن لم يكن في هذا الخروج رجوع إلى دين كان عليه هذا الخارج.
وقوله "فيمت" معطوف على الشرط فهو كشرط ثان.
وفعل حبط من باب سمع ويتعدى بالهمزة، قال اللغويون أصله من الحبط بفتح الباء وهو انتفاخ في بطون الإبل من كثرة الأكل فتموت من ذلك، فإطلاقه على إبطال الأعمال تمثيل؛ لأن الإبل تأكل الخضر شهوة للشبع فيئول عليها بالموت، فشبه حال من عمل الأعمال الصالحة لنفعها في الآخرة فلم يجد لها أثرا بالماشية التي أكلت حتى أصابها الحبط، ولذلك لم تقيد الأعمال بالصالحات لظهور ذلك التمثيل.
وحبط الأعمال: زوال آثارها المجعولة مرتبة عليها شرعا، فيشمل آثارها في الدنيا والثواب في الآخرة وهو سر قوله: {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}.
فالآثار التي في الدنيا هي ما يترتب على الإسلام من خصائص المسلمين وأولها آثار كلمة الشهادة من حرمة الأنفس والأموال والأعراض والصلاة عليه بعد الموت والدفن في مقابر المسلمين.
وآثار العبادات وفضائل المسلمين بالهجرة والأخوة التي بين المهاجرين والأنصار وولاء الإسلام وآثار الحقوق مثل حق المسلم في بيت المال والعطاء وحقوق التوارث والتزويج فالولايات والعدالة وما ضمنه الله للمسلمين مثل قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97].
وأما الآثار في الآخرة فهي النجاة من النار بسبب الإسلام وما يترتب على الأعمال الصالحات من الثواب والنعيم.
والمراد بالأعمال: الأعمال التي يتقربون بها إلى الله تعالى ويرجون ثوابها بقرينة أصل المادة ومقام التحذير؛ لأنه لو بطلت الأعمال المذمومة لصار الكرم تحريضا، وما ذكرت الأعمال في القرآن مع حبطت إلا غير مقيدة بالصالحات اكتفاء بالقرينة.
وقوله: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} عطف على جملة الجزاء على الكفر، إذ الأمور بخواتمها، فقد ترتب على الكفر أمران: بطلان فضل الأعمال السالفة، والعقوبة بالخلود في النار، ولكون الخلود عقوبة أخرى أعيد اسم الإشارة في قوله: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}
وفي الإتيان باسم الإشارة في الموضعين التنبيه على أنهم أحرياء بما ذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما ذكر قبل اسم الإشارة.
هذا وقد رتب حبط الأعمال على مجموع أمرين الارتداد والموت على الكفر، ولم يقيد الارتداد بالموت عليه في قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5] وقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88]
وقد اختلف العلماء في المرتد عن الإسلام إذا تاب من ردته ورجع إلى الإسلام، فعند مالك وأبي حنيفة أن من ارتد من المسلمين ثم عاد إلى الإسلام وتاب لم ترجع إليه أعماله التي عملها قبل الارتداد فإن كان عليه نذور أو أيمان لم يكن عليه شيء منها بعد عودته إلى الإسلام، وإن كان حج قبل أن يرتد ثم عاد إلى الإسلام استأنف الحج ولا يؤخذ بما كان عليه زمن الارتداد إلا ما فعله في الكفر أخذ به.وقال الشافعي إذا عاد المرتد إلى الإسلام عادت إليه أعماله كلها ما له وما عليه.
فأما حجة مالك فقال ابن العربي قال علماؤنا إنما ذكر الله الموافاة1 شرطا ههنا، لأنه علق الخلود في النار عليها فمن أوفى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية: ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى فهما آيتان مفيدتان لمعنيين وحكمين متغايرين اه يريد أن بين الشرطين والجوابين هنا توزيعا فقوله: {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} جواب لقوله: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} . وقوله: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} جواب لقوله: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} ، ولعل في إعادة {وَأُولَئِكَ} إيذانا بأنه جواب ثان، وفي إطلاق الآي الأخرى عن التقييد بالموت على الكفر قرينة على قصد هذا المعنى من هذا القيد في هذه الآية.
وفي هذا الاستدلال إلغاء لقاعدة حمل المطلق على المقيد، ولعل نظر مالك في إلغاء ذلك أن هذه أحكام ترجع إلى أصول الدين ولا يكتفي فيها بالأدلة الظنية، فإذا كان
ـــــــ
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 2 / ص 314)(2/5)
1 الموافاة لقب عند قدماء المتكلمين أول من عبر به الشيخ الأشعري ومعناها الحالة التي يختم بها عمر الإنسان من إيمان أو كفر، فالكافر عند الأشعري من علم الله أنه يموت كافرا والمؤمن بالعكس وهي مأخوذة من إطلاق الموافاة على القدوم إلى الله تعالى أي رجوع روحه إلى عالم الأرواح
الدليل المطلق يحمل على المقيد في فروع الشريعة فلأنه دليل ظني، وغالب أدلة الفروع ظنية، فأما في أصول الاعتقاد فأخذ من كل آية صريح حكمها، وللنظر في هذا مجال، لأن بعض ما ذكر من الأعمال راجع إلى شرائع الإسلام وفروعه كالحج.
والحجة للشافعي إعمال حمل المطلق على المقيد كما ذكره الفخر وصوبه ابن الفرس من المالكية.
فإن قلت فالعمل الصالح في الجاهلية يقرره الإسلام فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "أسلمت على ما أسلمت عليه من خير" ، فهل يكون المرتد عن الإسلام أقل حالا من أهل الجاهلية. فالجواب أن حالة الجاهلية قبل مجيء الإسلام حالة خلو عن الشريعة فكان من فضائل الإسلام تقريرها.
وقد بني على هذا خلاف في بقاء حكم الصحبة للذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا إلى الإسلام مقل قرة ابن هبيرة العامري، وعلقمة بن علاثة، والأشعث بن قيس، وعيينة بن حصن، وعمرو بن معد يكرب، وفي "شرح القاضي زكريا علي ألفية العراقي": وفي دخول من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مسلما ثم ارتد ثم أسلم بعد وفاة الرسول في الصحابة نظر كبير اه قال حلولو في "شرح جمع الجوامع" ولو ارتد الصحابي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ورجع إلى الإيمان بعد وفاته جرى ذلك على الخلاف في الردة، هل تحبط العمل بنفس وقوعها أو إنما تحبطه بشرط الوفاة عليها، لأن صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم فضيلة عظيمة، أما قبول روايته بعد عودته إلى الإسلام ففيها نظر، أما من ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى الإسلام في حياته وصحبه ففضل الصحبة حاصل له مثل عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
فإن قلت: ما السر في اقتران هذين الشرطين في هذه الآية مع خلو بقية نظائرها عن ثاني الشرطين، قلت: تلك الآي الأخر جاءت لتهويل أمر الشرك على فرض وقوعه من غير معين كما في آية {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ} [المائدة:5] بالإيمان أو وقوعه ممن يستحيل وقوعه منه كما في آية {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] وآية {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] فاقتصر فيها على ما ينشأ عن الشرك بعد الإيمان من حبط الأعمال، ومن الخسارة بإجمال، أما هذه الآية فقد وردت عقب ذكر محاولة المشركين ومعالجتهم ارتداد المسلمين المخاطبين بالآية، فكان فرض وقوع الشرك والارتداد منهم أقرب، لمحاولة المشركين ذلك بقتال المسلمين، فذكر فيها زيادة تهويل وهو الخلود في النار.
وكانت هذه الآية من دلائل النبوة، إذ وقع في عام الردة، أن من بقي في قلبهم أثر الشرك حاولوا من المسلمين الارتداد وقاتلوهم على ذلك فارتد فريق عظيم وقام لها الصديق رضي الله عنه بعزمه ويقينه فقاتلهم فرجع منهم من بقي حيا، فلولا هذه الآية لأيسوا من فائدة الرجوع إلى الإسلام وهي فائدة عدم الخلود في النار.
وقد أشار العطف في قوله: {فيمت} بالفاء المفيدة للتعقيب إلى أن الموت يعقب الارتداد وقد علم كل أحد أن معظم المرتدين لا تحضر آجالهم عقب الارتداد فيعلم السامع حينئذ أن المرتد يعاقب بالموت عقوبة شرعية، فتكون الآية بها دليلا على وجوب قتل المرتد،
وقد اختلف في ذلك علماء الأمة فقال الجمهور يستتاب المرتد ثلاثة أيام ويسجن لذلك فإن تاب قبلت توبته وإن لم يتب قتل كافرا وهذا قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه سواء كان رجلا أو امرأة، وقال أبو حنيفة في الرجل مثل قولهم، ولم ير قتل المرتدة بل قال تسترق، وقال أصحابه تحبس حتى تسلم، وقال أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وطاووس وعبيد الله بن عمر وعبد العزيز بن الماجشون والشافعي بقتل المرتد ولا يستتاب، وقيل يستتاب شهرا
وحجة الجميع حديث ابن عباس: "من بدل دينه فاقتلوه " وفعل الصحابة فقد قاتل أبو بكر المرتدين وأحرق على السبائية الذين ادعوا ألوهية علي، وأجمعوا على أن المراد بالحديث من بدل دينه الذي هو الإسلام، واتفق الجمهور على أن "من" شاملة للذكر والأنثى إلا من شذ منهم وهو أبو حنيفة وابن شبرمة والثوري وعطاء والحسن القائلون لا تقتل المرأة المرتدة واحتجوا بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء فخصوا به عموم "من بدل دينه"، وهو احتجاج عجيب، لأن هذا النهي وارد في أحكام الجهاد، والمرأة من شأنها ألا تقاتل، فإنه نهي أيضا عن قتل الرهبان والأحبار أفيقول هؤلاء: إن من ارتد من الرهبان والأحبار بعد إسلامه لا يقتل.
وقد شدد مالك وأبو حنيفة في المرتد بالزندقة أي إظهار الإسلام وإبطان الكفر فقالا: يقتل ولا تقبل توبته إذا أخذ قبل أن يأتي تائبا.
ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولا تقبل توبته.(2/6)
هذا، واعلم أن الردة في الأصل هي الخروج من عقيدة الإسلام عند جمهور المسلمين؛ والخروج من العقيدة وترك أعمال الإسلام عند الخوارج وبعض المعتزلة القائلين بكفر مرتكب الكبيرة، ويدل على خروج المسلم من الإسلام تصريحة به بإقراره نصا أو صمنا فالنص ظاهر، والضمن أن يأتي أحد بلفظ أو فعل يتضمن ذلك لا يحتمل غيره بحيث يكون قد نص الله ورسوله أو أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا عن كافر مثل السجود للصنم، والتردد إلى الكنائس بحالة أصحاب دينها.وألحقوا بذلك إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به، أي ما كان العلم به ضروريا قال ابن راشد في "الفائق" "في التفكير بإنكار المعلوم ضرورة خلاف". وفي ضبط حقيقته أنظار للفقهاء محلها كتب الفقه والخلاف.
وحكمة تشريع قتل المرتد مع أن الكافر بالأصالة لا يقتل أن الارتداد خروج فرد أو جماعة من الجامعة الإسلامية فهو بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه ينادي على أنه لما خالط هذا الدين وجده غير صالح ووجد ما كان عليه قبل ذلك أصلح فهذا تعريض بالدين واستخفاف به، وفيه أيضا تمهيد طريق لمن يريد أن ينسل من هذا الدين وذلك يفضي إلى انحلال الجامعة، فلو لم يجعل لذلك زاجر ما انزجر الناس ولا نجد شيئا زاجرا مثل توقع الموت، فلذلك جعل الموت هو العقوبة للمرتد حتى لا يدخل أحد في الدين إلا على بصيرة، وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه، وليس هذا من الإكراه في الدين المنفي بقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] على القول بأنها غير منسوخة، لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديانهم والدخول في الإسلام وأما هذا فهو من الإكراه على البقاء في الإسلام.
[218] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
قال الفخر: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان، أحدهما: أن عبد الله بن جحش قال: يا رسول الله هب أنه لا عقاب علينا فيما فعلنا، فهل نطمع منه أجرا أو ثوابا? فنزلت هذه الآية؛ لأن عبد الله كان مؤمنا ومهاجرا وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهدا "يعني فتحققت فيه الأوصاف الثلاثة". الثاني: أنه تعالى لما أوجب الجهاد بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216] أتبع ذلك بذكر من يقوم به اه، والذي يظهر لي أن تعقيب ما قبلها بها من باب تعقيب الإنذار بالبشارة وتنزيه للمؤمنين من احتمال ارتدادهم فإن المهاجرين لم يرتد منهم أحد. وهذه الجملة معترضة بين آيات التشريع.
و {الَّذِينَ هَاجَرُوا} هم الذين خرجوا من مكة إلى المدينة فرارا بدينهم، مشتق من الهجر وهو الفراق، وإنما اشتق منه وزن المفاعلة للدلالة على أنه هجر نشأ عن عداوة من الجانبين فكل من المنتقل والمنتقل عنه قد هجر الآخر وطلب بعده، أو المفاعلة للمبالغة كقولهم: عافاك الله فيدل على أنه هجر قوما هجرا شديدا، قال عبدة بن الطيب:
إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول
والمجاهدة مفاعلة مشتقة من الجهد وهو المشقة وهي القتال لما فيه من بذل الجهد كالمفاعلة للمبالغة، وقيل: لأنه يضم جهده إلى جهد آخر في نصر الدين مثل المساعدة وهي ضم الرجل ساعده إلى ساعد آخر للإعانة والقوة، فالمفاعلة بمعنى الضم والتكرير، وقيل: لأن المجاهد يبذل جهده في قتال من يبذل جهده كذلك لقتاله فهي مفاعلة حقيقية.
و"في" للتعليل.
و"سبيل الله" ما يوصل إلى رضاه وإقامة دينه، والجهاد والمجاهدة من المصطلحات القرآنية والإسلامية، وكرر الموصول التعظيم الهجرة والجهاد كأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء.وجيء باسم الإشارة للدلالة على أن رجاءهم رحمة الله لأجل إيمانهم وهجرتهم وجهادهم، فتأكد بذلك ما يدل عليه الموصول من الإيماء إلى وجه بناء الخبر، وإنما احتيج لتأكيده لأن الصلتين لما كانتا مما اشتهر بهما المسلمون وطائفة منهم صارتا كاللقب؛ إذ يطلق على المسلمين يومئذ في لسان الشرع اسم الذين آمنوا كما يطلق على مسلمي قريش يومئذ اسم المهاجرين فأكد قصد الدلالة على وجه بناء الخبر من الموصول.
والرجاء: ترقب الخير مع تغليب ظن حصوله، فإن وعد الله وإن كان لا يخلف فضلا منه وصدقا، ولكن الخواتم مجهولة ومصادفة العمل لمراد الله قد تفوت لموانع لا يدريها المكلف ولئلا يتكلوا في الاعتماد على العمل.
وفي الظلال :(1)
إن الإسلام منهج واقعي للحياة , لا يقوم على مثاليات خيالية جامدة في قوالب نظرية . إنه يواجه الحياة البشرية - كما هي - بعوائقها وجواذبها وملابساتها الواقعية . يواجهها ليقودها قيادة واقعية إلى السير وإلى الارتقاء في آن واحد . يواجهها بحلول عملية تكافىء واقعياتها , ولا ترفرف في خيال حالم , ورؤى مجنحة:لا تجدي على واقع الحياة شيئا
هؤلاء قوم طغاة بغاة معتدون . لا يقيمون للمقدسات وزنا , ولا يتحرجون أمام الحرمات , ويدوسون كل ما تواضع المجتمع على احترامه من خلق ودين وعقيدة . يقفون دون الحق فيصدون الناس عنه , ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء , ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام ! . .
ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام , ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الحرمات والمقدسات , ويرفعون أصواتهم:انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام !
فكيف يواجههم الإسلام ? يواجههم بحلول مثالية نظرية طائرة ? إنه إن يفعل يجرد المسلمين الأخيار من السلاح , بينما خصومهم البغاة الأشرار يستخدمون كل سلاح , ولا يتورعون عن سلاح . . !
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 31)(2/7)
كلا إن الإسلام لا يصنع هذا , لأنه يريد مواجهة الواقع , لدفعه ورفعه . يريد أن يزيل البغي والشر , وأن يقلم أظافر الباطل والضلال . ويريد أن يسلم الأرض للقوة الخيرة , ويسلم القيادة للجماعة الطيبة . ومن ثم لا يجعل الحرمات متاريس يقف خلفها المفسدون البغاة الطغاة ليرموا الطيبين الصالحين البناة , وهم في مأمن من رد الهجمات ومن نبل الرماة !
إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات , ويشدد في هذا المبدأ ويصونه . ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات , ويؤذون الطيبين , ويقتلون الصالحين , ويفتنون المؤمنين , ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان !
وهو يمضي في هذا المبدأ على اطراد . . إنه يحرم الغيبة . . ولكن لا غيبة لفاسق . . فالفاسق الذي يشتهر بفسقه لا حرمة له يعف عنها الذين يكتوون بفسقه . وهو يحرم الجهر بالسوء من القول . ولكنه يستثني (إلا من ظلم) . . فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول , لأنه حق . ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدأ الكريم الذي لا يستحقه !
ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدنى إلا مستوى الأشرار البغاة . ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ووسائلهم الخسيسة . .
إنه فقط يدفع الجماعة المسلمة إلى الضرب على أيديهم , وإلى قتالهم وقتلهم , وإلى تطهير جو الحياة منهم . . هكذا جهرة وفي وضح النهار . .
وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المؤمنة المستقيمة , وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات . .
حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة كما أرادها الله .
هذا هو الإسلام . .
صريحا واضحا قويا دامغا , لا يلف ولا يدور ; ولا يدع الفرصة كذلك لمن يريد أن يلف من حوله وأن يدور .
وهذا هو القرآن يقف المسلمين على أرض صلبة , لا تتأرجح فيها أقدامهم , وهم يمضون في سبيل الله , لتطهير الأرض من الشر والفساد , ولا يدع ضمائرهم قلقة متحرجة تأكلها الهواجس وتؤذيها الوساوس . .
هذا شر وفساد وبغي وباطل . . فلا حرمة له إذن , ولا يجوز أن يتترس بالحرمات , ليضرب من ورائها الحرمات !
وعلى المسلمين أن يمضوا في طريقهم في يقين وثقة ; في سلام مع ضمائرهم , وفي سلام من الله . .
ويمضي السياق بعد بيان هذه الحقيقة , وتمكين هذه القاعدة , وإقرار قلوب المسلمين وأقدامهم . . يمضي فيكشف لهم عن عمق الشر في نفوس أعدائهم , وأصالة العدوان في نيتهم وخطتهم:
(ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) . .
وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر ; وعلى فتنة المسلمين عن دينهم ; بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم . وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل . . إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين ; ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم . فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل , ويرهبه كل باغ , ويكرهه كل مفسد . إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج , ومن منهج قويم , ومن نظام سليم . .
إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد . ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون .ومن ثم يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه , ويردوهم كفارا في صورة من صور الكفر الكثيرة . ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم , وفي الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين , وتتبع هذا المنهج , وتعيش بهذا النظام .
وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته , ولكن الهدف يظل ثابتا . . أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا . وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحا غيره , وكلما كلت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها . .
والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام , وينبهها إلى الخطر ; ويدعوها إلى الصبر على الكيد , والصبر على الحرب , وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة ; والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر:
ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر , فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . .
والحبوط مأخوذ من حبطت الناقة إذا رعت مرعى خبيثا فانتفخت ثم نفقت . .
والقرآن يعبر بهذا عن حبوط العمل , فيتطابق المدلول الحسي والمدلول المعنوي .
يتطابق تضخم العمل الباطل وانتفاخ مظهره , وهلاكه في النهاية وبواره . .
مع تضخم حجم الناقة وانتفاخها ثم هلاكها في النهاية بهذا الانتفاخ ّ !
ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وعرفه ; تحت مطارق الأذى والفتنة - مهما بلغت - هذا مصيره الذي قرره الله له . . حبوط العمل في الدنيا والآخرة . ثم ملازمة العذاب في النار خلودا .
إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه , لا يمكن أن يرتد عنه ارتدادا حقيقيا أبدا . إلا إذا فسد فسادا لا صلاح له . وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة . فالله رحيم . رخص للمسلم - حين يتجاوز العذاب طاقته - أن يقي نفسه بالتظاهر , مع بقاء قلبه ثابتا على الإسلام مطمئنا بالإيمان . ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي , وفي الارتداد الحقيقي , بحيث يموت وهو كافر . . والعياذ بالله . .
وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان . .
ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه , ويرتد عن إيمانه وإسلامه , ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه . .
وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله . والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به , ويصبرون على الأذى في سبيله . فهو معوضهم خيرا:إحدى الحسنيين:النصر أو الشهادة .
==========(2/8)
وليس هناك تعارض بين حد الردة وهو حق لله تعالى وبين قوله تعالى :
( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256)
يقول السعدي رحمه الله :(1)
يخبر تعالى أنه لا إكراه في الدين لعدم الحاجة إلى الإكراه عليه، لأن الإكراه لا يكون إلا على أمر خفية أعلامه، غامضة أثاره، أو أمر في غاية الكراهة للنفوس، وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت أعلامه للعقول، وظهرت طرقه، وتبين أمره، وعرف الرشد من الغي، فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره، وأما من كان سيئ القصد فاسد الإرادة، خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل، ويبصر الحسن فيميل إلى القبيح، فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين، لعدم النتيجة والفائدة فيه، والمكره ليس إيمانه صحيحا، ولا تدل الآية الكريمة على ترك قتال الكفار المحاربين، وإنما فيها أن حقيقة الدين من حيث هو موجب لقبوله لكل منصف قصده اتباع الحق، وأما القتال وعدمه فلم تتعرض له، وإنما يؤخذ فرض القتال من نصوص أخر، ولكن يستدل في الآية الكريمة على قبول الجزية من غير أهل الكتاب، كما هو قول كثير من العلماء، فمن يكفر بالطاغوت فيترك عبادة ما سوى الله وطاعة الشيطان، ويؤمن بالله إيمانا تاما أوجب له عبادة ربه وطاعته { فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي: بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ورسخت أركانه، وكان المتمسك به على ثقة من أمره، لكونه استمسك بالعروة الوثقى التي { لا انفصام لها } وأما من عكس القضية فكفر بالله وآمن بالطاغوت، فقد أطلق هذه العروة الوثقى التي بها العصمة والنجاة، واستمسك بكل باطل مآله إلى الجحيم { والله سميع عليم } فيجازي كلا منهما بحسب ما علمه منهم من الخير والشر، وهذا هو الغاية لمن استمسك بالعروة الوثقى ولمن لم يستمسك بها.
وفي الظلال :(2)
إن قضية العقيدة - كما جاء بها هذا الدين - قضية اقتناع بعد البيان والإدراك ; وليست قضية إكراه وغصب وإجبار . ولقد جاء هذا الدين يخاطب الإدراك البشري بكل قواه وطاقاته . يخاطب العقل المفكر , والبداهة الناطقة , ويخاطب الوجدان المنفعل , كما يخاطب الفطرة المستكنة . يخاطب الكيان البشري كله , والإدراك البشري بكل جوانبه ; في غير قهر حتى بالخارقة المادية التي قد تلجيء مشاهدها الجاء إلى الإذعان , ولكن وعيه لا يتدبرها وإدراكه لا يتعقلها لأنها فوق الوعي والإدراك .
وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحس البشري بالخارقة المادية القاهرة , فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوة والإكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع .
وكانت المسيحية - آخر الديانات قبل الإسلام - قد فرضت فرضا بالحديد والنار ووسائل التعذيب والقمع التي زاولتها الدولة الرومانية بمجرد دخول الإمبراطور قسطنطين في المسيحية . بنفس الوحشية والقسوة التي زاولتها الدولة الرومانية من قبل ضد المسيحيين القلائل من رعاياها الذين اعتنقوا المسيحية اقتناعا وحبا ! ولم تقتصر وسائل القمع والقهر على الذين لم يدخلوا في المسيحية ; بل إنها ظلت تتناول في ضراوة المسيحيين أنفسهم الذين لم يدخلوا في مذهب الدولة ; وخالفوها في بعض الاعتقاد بطبيعة المسيح !
فلما جاء الإسلام عقب ذلك جاء يعلن - في أول ما يعلن - هذا المبدأ العظيم الكبير:
(لا إكراه في الدين . قد تبين الرشد من الغي) . .
وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان ; واحترام إرادته وفكره ومشاعره ; وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه . . وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني . . التحرر الذي تنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهب معتسفة ونظم مذلة ; لا تسمح لهذا الكائن الذي كرمه الله - باختياره لعقيدته - أن ينطوي ضميره على تصور للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها التوجيهية , وما تمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها ; فإما أن يعتنق مذهب الدولة هذا - وهو يحرمه من الإيمان باله للكون يصرف هذا الكون - وإما أن يتعرض للموت بشتى الوسائل والأسباب !
إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق "الإنسان" التي يثبت له بها وصف "إنسان" . فالذي يسلب إنسانا حرية الاعتقاد , إنما يسلبه إنسانيته ابتداء . . ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة , والأمن من الأذى والفتنة . . وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة .
والإسلام - وهو أرقى تصور للوجود وللحياة , وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء - هو الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين ; وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين . . فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة المعتسفة وهي تفرض فرضا بسلطان الدولة ; ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة ?!
والتعبير هنا يرد في صورة النفي المطلق: (لا إكراه في الدين) . . نفي الجنس كما يقول النحويون . . أي نفي جنس الإكراه . نفي كونه ابتداء . فهو يستبعده من عالم الوجود والوقوع . وليس مجرد نهي عن مزاولته . والنهي في صورة النفي - والنفي للجنس - أعمق إيقاعا وآكد دلالة .
ولا يزيد السياق على أن يلمس الضمير البشري لمسة توقظه , وتشوقه إلى الهدى , وتهديه إلى الطريق ,وتبين حقيقة الإيمان التي اعلن أنها أصبحت واضحة وهو يقول:
(قد تبين الرشد من الغي) . .
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 110)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 40)(2/9)
فالإيمان هو الرشد الذي ينبغي للإنسان أن يتوخاه ويحرص عليه . والكفر هو الغي الذي ينبغي للإنسان أن ينفر منه ويتقي أن يوصم به .
والأمر كذلك فعلا . فما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان , وما تمنحه للإدراك البشري من تصور ناصع واضح , , وما تمنحه للقلب البشري من طمأنينة وسلام , وما تثيره في النفس البشرية من اهتمامات رفيعة ومشاعر نظيفة , وما تحققه في المجتمع الإنساني من نظام سليم قويم دافع إلى تنمية الحياة وترقية الحياة . .
ما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان على هذا النحو حتى يجد فيها الرشد الذي لا يرفضه إلا سفيه , يترك الرشد إلى الغي , ويدع الهدى إلى الضلال , ويؤثر التخبط والقلق والهبوط والضآلة على الطمأنينة والسلام والرفعة والاستعلاء !
ثم يزيد حقيقة الإيمان إيضاحا وتحديدا وبيانا:
(فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) . .
إن الكفر ينبغي أن يوجه إلى ما يستحق الكفر , وهو(الطاغوت) . وإن الإيمان يجب أن يتجه إلى من يجدر الإيمان به وهو(الله) .
والطاغوت صيغة من الطغيان , تفيد كل ما يطغى على الوعي , ويجور على الحق , ويتجاوز الحدود التي رسمها الله للعباد , ولا يكون له ضابط من العقيدة في الله , ومن الشريعة التي يسنها الله , ومنه كل منهج غير مستمد من الله , وكل تصور أو وضع أو أدب أو تقليد لا يستمد من الله . فمن يكفر بهذا كله في كل صورة من صوره ويؤمن بالله وحده ويستمد من الله وحده فقد نجا . .
وتتمثل نجاته في استمساكه بالعروة الوثقى لا انفصام لها .
وهنا نجدنا أمام صورة حسية لحقيقة شعورية , ولحقيقة معنوية . .
إن الإيمان بالله عروة وثيقة لا تنفصم أبدا . .
إنها متينة لا تنقطع . . ولا يضل الممسك بها طريق النجاة . . إنها موصولة بمالك الهلاك والنجاة . . والإيمان في حقيقته اهتداء إلى الحقيقة الأولى التي تقوم بها سائر الحقائق في هذا الوجود . . حقيقة الله . . واهتداء إلى حقيقة الناموس الذي سنه الله لهذا الوجود , وقام به هذا الوجود . والذي يمسك بعروته يمضي على هدى إلى ربه ; فلا يرتطم ولا يتخلف ولا تتفرق به السبل ولا يذهب به الشرود والضلال .
(والله سميع عليم) . .
يسمع منطق الألسنة , ويعلم مكنون القلوب . فالمؤمن الموصول به لا يبخس ولا يظلم ولا يخيب .
ثم يمضي السياق يصور في مشهد حسي حي متحرك طريق الهدى وطريق الضلال ; وكيف يكون الهدى وكيف يكون الضلال . .
يصور كيف يأخذ الله - ولي الذين آمنوا - بأيديهم , فيخرجهم من الظلمات إلى النور . بينما الطواغيت - أولياء الذين كفروا - تأخذ بأيدهم فتخرجهم من النور إلى الظلمات !
إنه مشهد عجيب حي موح . والخيال يتبع هؤلاء وهؤلاء , جيئة من هنا وذهابا من هناك . بدلا من التعبير الذهني المجرد , الذي لا يحرك خيالا , ولا يلمس حسا , ولا يستجيش وجدانا , ولا يخاطب إلا الذهن بالمعاني والألفاظ .
فإذا أردنا أن ندرك فضل طريقة التصوير القرآنية , فلنحاول أن نضع في مكان هذا المشهد الحي تعبيرا ذهنيا أيا كان . لنقل مثلا:الله ولي الذين آمنوا يهديهم إلى الإيمان . والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يقودونهم إلى الكفران . .
إن التعبير يموت بين أيدينا , ويفقد ما فيه من حرارة وحركة وإيقاع !
وإلى جانب التعبير المصور الحي الموحي نلتقي بدقة التعبير عن الحقيقة:
(الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور . والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) . .
إن الإيمان نور . . نور واحد في طبيعته وحقيقته . .
وإن الكفر ظلمات . . ظلمات متعددة متنوعة . ولكنها كلها ظلمات .
وما من حقيقة أصدق ولا أدق من التعبير عن الإيمان بالنور , والتعبير عن الكفر بالظلمة .
إن الإيمان نور يشرق به كيان المؤمن أول ما ينبثق في ضميره . تشرق به روحه فتشف وتصفو وتشع من حولها نورا ووضاءة ووضوحا . .
نور يكشف حقائق الأشياء وحقائق القيم وحقائق التصورات , فيراها قلب المؤمن واضحة بغير غبش , بينة بغير لبس , مستقرة في مواضعها بغير أرجحة ; فيأخذ منها ما يأخذ ويدع منها ما يدع في هوادة وطمأنينة وثقة وقرار لا أرجحة فيه . .
نور يكشف الطريق إلى الناموس الكوني فيطابق المؤمن بين حركته وحركة الناموس الكوني من حوله ومن خلاله ; ويمضي في طريقه إلى الله هينا لينا لا يعتسف ولا يصطدم بالنتوءات , ولا يخبط هنا وهناك . فالطريق في فطرته مكشوف معروف .
وهو نور واحد يهدي إلى طريق واحد . فأما ضلال الكفر فظلمات شتى منوعة . . ظلمة الهوى والشهوة . وظلمة الشرود والتيه . وظلمة الكبر والطغيان . وظلمة الضعف والذلة . وظلمة الرياء والنفاق . وظلمة الطمع والسعر . وظلمة الشك والقلق . . .
وظلمات شتى لا يأخذها الحصر تتجمع كلها عند الشرود عن طريق الله , والتلقي من غير الله , والاحتكام لغير منهج الله . . وما يترك الإنسان نور الله الواحد الذي لا يتعدد . نور الحق الواحد الذي لا يتلبس . حتى يدخل في الظلمات من شتى الأنواع وشتى الأصناف . . وكلها ظلمات . . !
والعاقبة هي اللائقة بأصحاب الظلمات:
(أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) . . وإذ لم يهتدوا بالنور , فليخلدوا إذن في النار !
إن الحق واحد لا يتعدد والضلال ألوان وأنماط . .
فماذا بعد الحق إلا الضلال ?
وقبل أن ننتقل من هذا الدرس يحسن أن نقول كلمة عن قاعدة:
(لا إكراه في الدين) إلى جوار فرضية الجهاد في الإسلام , والمواقع التي خاضها الإسلام . وقوله تعالى في آية سابقة: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) . .(2/10)
إن بعض المغرضين من أعداء الإسلام يرمونه بالتناقض ; فيزعمون أنه فرض بالسيف , في الوقت الذي قرر فيه:أن لا إكراه في الدين . . أما بعضهم الآخر فيتظاهر بأنه يدفع عن الإسلام هذه التهمة ; وهو يحاول في خبث أن يخمد في حس المسلم روح الجهاد ; ويهون من شأن هذه الأداة في تاريخ الإسلام وفي قيامه وانتشاره . ويوحي إلى المسلمين - بطريق ملتوية ناعمة ماكرة - أن لا ضرورة اليوم أو غدا للاستعانة بهذه الأداة !وذلك كله في صورة من يدفع التهمة الجارحة عن الإسلام ! . .
وهؤلاء وهؤلاء كلاهما من المستشرقين الذين يعملون في حقل واحد في حرب الإسلام , وتحريف منهجه , وقتل إيحاءاته الموحية في حس المسلمين , كي يأمنوا انبعاث هذا الروح , الذي لم يقفوا له مرة في ميدان ! والذي آمنوا واطمأنوا منذ أن خدروه وكبلوه بشتى الوسائل , وكالوا له الضربات الساحقة الوحشية في كل مكان ! وألقوا في خلد المسلمين أن الحرب بين الاستعمار وبين وطنهم ليست حرب عقيدة أبدا تقتضي الجهاد ! إنما هي فقط حرب أسواق وخامات ومراكز وقواعد . . ومن ثم فلا داعي للجهاد !
لقد انتضى الإسلام السيف , وناضل وجاهد في تاريخه الطويل . لا ليكره أحدا على الإسلام ولكن ليكفل عدة أهداف كلها تقتضي الجهاد .
جاهد الإسلام أولا ليدفع عن المؤمنين الأذى والفتنة التي كانوا يسامونها ; وليكفل لهم الأمن على أنفسهم وأموالهم وعقيدتهم . وقرر ذلك المبدأ العظيم الذي سلف تقريره في هذه السورة - في الجزء الثاني - (والفتنة أشد من القتل) . . فاعتبر الاعتداء على العقيدة والإيذاء بسببها , وفتنة أهلها عنها أشد من الاعتداء على الحياة ذاتها . فالعقيدة أعظم قيمة من الحياة وفق هذا المبدأ العظيم . وإذا كان المؤمن مأذونا في القتال ليدفع عن حياته وعن ماله , فهو من باب أولى مأذون في القتال ليدفع عن عقيدته ودينه . .
وقد كان المسلمون يسامون الفتنة عن عقيدتهم ويؤذون , ولم يكن لهم بد أن يدفعوا هذه الفتنة عن أعز ما يملكون . يسامون الفتنة عن عقيدتهم , ويؤذون فيها في مواطن من الأرض شتى . وقد شهدت الأندلس من بشاعة التعذيب الوحشي والتقتيل الجماعي لفتنة المسلمين عن دينهم , وفتنة أصحاب المذاهب المسيحية الأخرى ليرتدوا إلى الكثلكة , ما ترك أسبانيا اليوم ولا ظل فيها للإسلام ! ولا للمذاهب المسيحية الأخرى ذاتها !
كما شهد بيت المقدس وما حوله بشاعة الهجمات الصليبية التي لم تكن موجهة إلا للعقيدة والإجهاز عليها ; والتي خاضها المسلمون في هذه المنطقة تحت لواء العقيدة وحدها فانتصروا فيها ; وحموا هذه البقعة من مصير الأندلس الأليم . .
وما يزال المسلمون يسامون الفتنة في أرجاء المناطق الشيوعية والوثنية والصهيونية والمسيحية في أنحاء من الأرض شتى . . وما يزال الجهاد مفروضا عليهم لرد الفتنة إن كانوا حقا مسلمين !
وجاهد الإسلام ثانيا لتقرير حرية الدعوة - بعد تقرير حرية العقيدة - فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود والحياة , وبأرقى نظام لتطوير الحياة . جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها ; ويبلغه إلى أسماعها وإلى قلوبها . فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن ومن شاء فليكفر . ولا إكراه في الدين . ولكن ينبغي قبل ذلك أن تزول العقبات من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافة ; كما جاء من عند الله للناس كافة . وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن يسمعوا وأن يقتنعوا وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا . ومن هذه الحواجز أن تكون هناك نظم طاغية في الأرض تصد الناس عن الاستماع إلى الهدى وتفتن المهتدين أيضا . فجاهد الإسلام ليحطم هذه النظم الطاغية ; وليقيم مكانها نظاما عادلا يكفل حرية الدعوة إلى الحق في كل مكان وحرية الدعاة . . وما يزال هذا الهدف قائما , وما يزال الجهاد مفروضا على المسلمين ليبلغوه إن كانوا مسلمين !
وجاهد الإسلام ثالثا ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه . .
وهو وحده النظام الذي يحقق حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان ; حينما يقرر أن هناك عبودية واحدة لله الكبير المتعال ; ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر في جميع أشكالها وصورها . فليس هنالك فرد ولا طبقة ولا أمة تشرع الأحكام للناس , وتستذلهم عن طريق التشريع . إنما هنالك رب واحد للناس جميعا هو الذي يشرع لهم على السواء , وإليه وحده يتجهون بالطاعة والخضوع , كما يتجهون إليه وحده بالإيمان والعبادة سواء . فلا طاعة في هذا النظام لبشر إلا أن يكون منفذا لشريعة الله , موكلا عن الجماعة للقيام بهذا التنفيذ . حيث لا يملك أن يشرع هو ابتداء , لأن التشريع من شأن الألوهية وحدها , وهو مظهر الألوهية في حياة البشر , فلا يجوز أن يزاوله إنسان فيدعي لنفسه مقام الألوهية وهو واحد من العبيد !
هذه هي قاعدة النظام الرباني الذي جاء به الإسلام . وعلى هذه القاعدة يقوم نظام أخلاقي نظيف تكفل فيه الحرية لكل إنسان , حتى لمن لا يعتنق عقيدة الإسلام , وتصان فيه حرمات كل أحد حتى الذين لا يعتنقون الإسلام , وتحفظ فيه حقوق كل مواطن في الوطن الإسلامي أيا كانت عقيدته . ولا يكره فيه أحد على اعتناق عقيدة الإسلام , ولا إكراه فيه على الدين إنما هو البلاغ .
جاهد الإسلام ليقيم هذا النظام الرفيع في الأرض ويقرره ويحميه . وكان من حقه أن يجاهد ليحطم النظم الباغية التي تقوم على عبودية البشر للبشر , والتي يدعي فيها العبيد مقام الألوهية ويزاولون فيها وظيفة الألوهية - بغير حق - ولم يكن بد أن تقاومه تلك النظم الباغية في الأرض كلها وتناصبه العداء . ولم يكن بد كذلك أن يسحقها الإسلام سحقا ليعلن نظامه الرفيع في الأرض . .(2/11)
ثم يدع الناس في ظله أحرارا في عقائدهم الخاصة . لا يلزمهم إلا بالطاعة لشرائعه الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والدولية . أما عقيدة القلب فهم فيها أحرار . وأما أحوالهم الشخصية فهم فيها أحرار , يزاولونها وفق عقائدهم ; والإسلام يقوم عليهم يحميهم ويحمي حريتهم في العقيدة ويكفل لهم حقوقهم , ويصون لهم حرماتهم , في حدود ذلك النظام .
وما يزال هذا الجهاد لإقامة هذا النظام الرفيع مفروضا على المسلمين: (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) . . فلا تكون هناك ألوهة للعبيد في الأرض , ولا دينونة لغير الله . .
لم يحمل الإسلام السيف إذن ليكره الناس على اعتناقه عقيدة ; ولم ينتشر السيف على هذا المعنى كما يريد بعض أعدائه أن يتهموه ! إنما جاهد ليقيم نظاما آمنا يأمن في ظله أصحاب العقائد جميعا , ويعيشون في إطاره خاضعين له وإن لم يعتنقوا عقيدته .
وكانت قوة الإسلام ضرورية لوجوده وانتشاره واطمئنان أهله على عقيدتهم , واطمئنان من يريدون اعتناقه على أنفسهم . وإقامة هذا النظام الصالح وحمايته . ولم يكن الجهاد أداة قليلة الأهمية , ولا معدومة الضرورة في حاضره ومستقبله كما يريد أخبث أعدائه أن يوحوا للمسلمين ! . .
لا بد للإسلام من نظام ولا بد للإسلام من قوة , ولا بد للإسلام من جهاد . فهذه طبيعته التي لا يقوم بدونها إسلام يعيش ويقود .
(لا إكراه في الدين) . . نعم ولكن: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم . وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) .
وهذا هو قوام الأمر في نظر الإسلام . . .
وهكذا ينبغي أن يعرف المسلمون حقيقة دينهم , وحقيقة تاريخهم ; فلا يقفوا بدينهم موقف المتهم الذي يحاول الدفاع ; إنما يقفون به دائما موقف المطمئن الواثق المستعلي على تصورات الأرض جميعا , وعلى نظم الأرض جميعا , وعلى مذاهب الأرض جميعا . . ولا ينخدعوا بمن يتظاهر بالدفاع عن دينهم بتجريده في حسهم من حقه في الجهاد لتأمين أهله ; والجهاد لكسر شوكة الباطل المعتدي ; والجهاد لتمتيع البشرية كلها بالخير الذي جاء به ; والذي لا يجني أحد على البشرية جناية من يحرمها منه , ويحول بينها وبينه . فهذا هو أعدى أعداء البشرية , الذي ينبغي أن تطارده البشرية لو رشدت وعقلت . وإلى أن ترشد البشرية وتعقل , يجب أن يطارده المؤمنون , الذين اختارهم الله وحباهم بنعمة الإيمان , فذلك واجبهم لأنفسهم وللبشرية كلها , وهم مطالبون بهذا الواجب أمام الله . .
إن هذا الدين ليس نظرية يتعلمها الناس في كتاب ; للترف الذهني والتكاثر بالعلم والمعرفة ! وليس كذلك عقيدة سلبية يعيش بها الناس بينهم وبين ربهم وكفى !
كما أنه ليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها الناس لربهم فيما بينهم وبينه !
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان . . وهو منهج حركي واقعي , يواجه واقع الناس بوسائل مكافئة . . يواجه حواجز الإدراك والرؤية بالتبليغ والبيان . . ويواجه حواجز الأوضاع والسلطة بالجهاد المادي لتحطيم سلطان الطواغيت وتقرير سلطان الله . .
والحركة بهذا الدين حركة في واقع بشري . والصراع بينه وبين الجاهلية ليس مجرد صراع نظري يقابلبنظرية! إن الجاهلية تتمثل في مجتمع ووضع سلطة , ولا بد - كي يقابلها هذا الدين بوسائل مكافئة - أن يتمثل في مجتمع ووضع وسلطة . ولا بد بعد ذلك أن يجاهد ليكون الدين كله لله , فلا تكون هناك دينونة لسواه .
هذا هو المنهج الواقعي الحركي الإيجابي لهذا الدين . . لا ما يقوله المهزومون والمخدوعون . . ولو كانوا من المخلصين الطيبين الذين يريدون أن يكونوا من "المسلمين" , ولكن تغيم في عقولهم وفي قلوبهم صورة هذا الدين !
إلا أن الذين يكتبون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام , وعن أحكام الجهاد في الإسلام , والذين يتصدون لتفسير الآيات المتضمنة لهذه الأحكام , يتعاظمهم ويهولهم أن تكون هذه هي أحكام الإسلام ! وأن يكون الله - سبحانه - قد أمر الذين آمنوا أن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار , وأن يظلوا يقاتلون من يلونهم من الكفار , كلما وجد هناك من يلونهم من الكفار ! . .
يتعاظمهم ويهولهم أن يكون الأمر الإلهي هكذا , فيروحون يتلمسون القيود للنصوص المطلقة ; ويجدون هذه القيود في النصوص المرحلية السابقة !
إننا نعرف لماذا يهولهم هذا الأمر ويتعاظمهم على هذا النحو . .
إنهم ينسون أن الجهاد في الإسلام جهاد في "سبيل الله" . .
جهاد لتقرير ألوهية الله في الأرض وطرد الطواغيت المغتصبة لسلطان الله . .
جهاد لتحرير "الإنسان" من العبودية لغير الله , ومن فتنته بالقوة عن الدينونة لله وحده والانطلاق من العبودية للعباد . . (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) .
وأنه ليس جهادا لتغليب مذهب بشري على مذهب بشري مثله . إنما هو جهاد لتغليب منهج الله على مناهج العبيد ! وليس جهادا لتغليب سلطان قوم على سلطان قوم , إنما هو جهاد لتغليب سلطان الله على سلطان العبيد ! وليس جهادا لإقامة مملكة لعبد , إنما هو جهاد لإقامة مملكة الله في الأرض . .
ومن ثم ينبغي له أن ينطلق في "الأرض" كلها , لتحرير "الإنسان" كله . بلا تفرقة بين ما هو داخل في حدود الإسلام وبين ما هو خارج عنها . . فكلها "أرض" يسكنها "الإنسان" وكلها فيها طواغيت تعبد العباد للعباد !
وحين ينسون هذه الحقيقة يهولهم طبعا أن ينطلق منهج ليكتسح كل المناهج , وأن تنطلق أمة لتخضع سائر الأمم . . إنها في هذا الوضع لا تستساغ ! وهي فعلا لا تستساغ ! . .(2/12)
لولا أن الأمر ليس كذلك . وليس لهشبيه فيما بين أنظمة البشر اليوم من إمكان التعايش ! إنها كلها اليوم أنظمة بشرية . فليس لواحد منها أن يقول:إنه هو وحده صاحب الحق في البقاء ! وليس الحال كذلك في نظام إلهي يواجه أنظمة بشرية ; ليبطل هذه الأنظمة كلها ويدمرها كي يطلق البشر جميعا من ذلة العبودية للعباد ; ويرفع البشر جميعا إلى كرامة العبودية لله وحده بلا شريك !
ثم إنه يهولهم الأمر ويتعاظمهم لأنهم يواجهون هجوما صليبيا منظما لئيما ماكرا خبيثا يقول لهم:إن العقيدة الإسلامية قد انتشرت بالسيف , وأن الجهاد كان لإكراه الآخرين على العقيدة الإسلامية ; وانتهاك حرمة حرية الاعتقاد !
والمسألة على هذا الوضع لا تكون مستساغة . .
لولا أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق . .
إن الإسلام يقوم على قاعدة: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) . .
ولكن لماذا ينطلق إذن بالسيف مجاهدا ; ولماذا اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة (يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون) ? . .
إنه لأمر آخر غير الإكراه على العقيدة كان هذا الجهاد . .
بل لأمر مناقض تماما للإكراه على العقيدة . . إنه لضمان حرية الاعتقاد كان هذا الجهاد ! . .
لأن الإسلام كإعلان عام لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد ; يواجه دائما طواغيت في الأرض يخضعون العباد للعباد . ويواجه دائما أنظمة تقوم على أساس دينونة العبيد للعبيد ; تحرس هذه الأنظمة قوة الدولة أو قوة تنظيمية في صورة من الصور ; وتحول دون الناس في داخلها ودون سماع الدعوة الإسلامية ; كما تحول دونهم ودون اعتناق العقيدة إذا ارتضتها نفوسهم , أو تفتنهم عنها بشتى الوسائل . . وفي هذا يتمثل انتهاك حرية الاعتقاد بأقبح أشكاله . . ومن هنا ينطلق الإسلام بالسيف ليحطم هذه الأنظمة , ويدمر هذه القوى التي تحميها .
. ثم ماذا ? . . ثم يترك الناس - بعد ذلك - أحرارا حقا في اختيار العقيدة التي يريدونها . إن شاءوا دخلوا في الإسلام , فكان لهم ما للمسلمين من حقوق , وعليهم ما عليهم من واجبات , وكانوا إخوانا في الدين للسابقين في الإسلام ! وإن شاءوا بقوا على عقائدهم وأدوا الجزية , إعلانا عن استسلامهم لانطلاق الدعوة الإسلامية بينهم بلا مقاومة ; ومشاركة منهم في نفقات الدولة المسلمة التي تحميهم من اعتداء الذين لم يستسلموا بعد , وتكفل العاجز منهم والضعيف والمريض كالمسلمين سواء بسواء .
إن الإسلام لم يكره فردا على تغيير عقيدته ; كما انطلقت الصليبية على مدار التاريخ تذبح وتقتل وتبيد شعوبا بأسرها - كشعب الأندلس قديما وشعب زنجبار حديثا - لتكرههم على التنصر . وأحيانا لا تقبل منهم حتى التنصر , فتبيدهم لمجرد أنهم مسلمون . .
وأحيانا لمجرد أنهم يدينون بمذهب نصراني مخالف لمذهب الكنيسة الرسمية . . وقد ذهب مثلا اثنا عشر ألفا من نصارى مصر ضحايا بصور بشعة إذ أحرقوا أحياء على نار المشاعل لمجرد مخالفتهم لجزئية اعتقادية عن كنيسة روما تتعلق بإنبثاق الروح القدس من الآب فقط , أو من الآب والابن معا !
أو يتعلق بما إذا كان للمسيح طبيعة واحدة لاهوتية , أو طبيعة لاهوتية ناسوتية . . . إلى آخر هذه الجزيئات الإعتقادية الجانبية !
وأخيرا فإن صورة الإنطلاق في الأرض لمواجهة من يلون المسلمين من الكفار تهول المهزومين روحيا في هذا الزمان وتتعاظمهم ; لأنهم يبصرون بالواقع من حولهم وبتكاليف هذا الإنطلاق فيهولهم الأمر . .
وهو يهول فعلا ! . .
فهل هؤلاء الذين يحملون أسماء المسلمين , وهم شعوب مغلوبة على أمرها ; أو قليلة الحيلة عموما !
هل هؤلاء هم الذين سينطلقون في الأرض يواجهون أمم الأرض جميعا بالقتال , حتى لا تكون فتنة ويكونالدين كله لله ?!
إنه لأمر لا يتصور عقلا . .
ولا يمكن أن يكون هذا هو أمر الله فعلا !
ولكن فات هؤلاء جميعا أن يروا متى كان هذا الأمر ? وفي أي ظرف ? لقد كان بعد أن قامت للإسلام دولة تحكم بحكم الله ; دانت لها الجزيرة العربية ودخلت في هذا الدين , ونظمت على أساسه . وقبل ذلك كله كانت هناك العصبة المسلمة التي باعت أنفسها لله بيعة صدق , فنصرها الله يوما بعد يوم , وغزوة بعد غزوة , ومرحلة بعد مرحلة . . وأن الزمان قد إستدار اليوم كهيئته يوم بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ليدعو الناس - في جاهليتهم - إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . فجاهد والقلة التي معه حتى قامت الدولة المسلمة في المدينة . وأن الأمر بالقتال مر بمراحل وأحكام مترقية حتى انتهى إلى تلك الصورة الأخيرة . .
وأن بين الناس اليوم وهذه الصورة أن يبدأوا من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول . .
ثم يصلوا - يوم أن يصلوا - إلى هذه الصورة الأخيرة بإذن الله . . ويومئذ لن يكونوا هم هذا الغثاء الذي تتقاسمه المذاهب والمناهج والأهواء ; والذي تتقاسمه الرايات القومية والجنسية والعنصرية . ولكنهم سيكونون العصبة المسلمة الواحدة التي ترفع راية:لا إله إلا الله . ولا ترفع معها راية أخرى ولا شعارا , ولا تتخذ لها مذهبا ولا منهجا من صنع العبيد في الأرض ; إنما تنطلق بإسم الله وعلى بركة الله . .
إن الناس لا يستطيعون أن يفقهوا أحكام هذا الدين , وهم في مثل ما هم فيه من الهزال ! إنه لن يفقه أحكام هذا الدين إلا الذين يجاهدون في حركة تستهدف تقرير ألوهية الله وحده في الأرض ومكافحة ألوهية الطواغيت !
إن فقه هذا الدين لا يجوز أن يؤخذ عن القاعدين , الذين يتعاملون مع الكتب والأوراق الباردة !
إن فقه هذا الدين فقه حياة وحركة وانطلاق . وحفظ ما في متون الكتب . والتعامل مع النصوص في غير حركة , لا يؤهل لفقه هذا الدين , ولم يكن مؤهلا له في يوم من الأيام !(2/13)
==========
والذين ينكرون حد الردة ليسوا مسلمين أصلا مهما تزييوا بزي المسلمين
والذي يتنازل عن جزء من الإسلام إرضاء للعدو أو لأي سبب كان، هو مستعد للنازل عن الإسلام كله ، لأن الأعداء لن يرضوا بأقل من هذا 0
قال تعالى في سورة النساء :
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( 60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ( 61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ( 62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا ( 63) }
ألم تر إلى هذا العجب العاجب . . قوم . . يزعمون . . الإيمان . ثم يهدمون هذا الزعم في آن ?!
قوم (يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) . ثم لا يتحاكمون إلى ما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ? إنما يريدون أن يتحاكموا إلى شيء آخر , وإلى منهج آخر , وإلى حكم آخر . . يريدون أن يتحاكموا إلى . . الطاغوت . .
الذي لا يستمد مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . ولا ضابط له ولا ميزان , مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . . ومن ثم فهو . . طاغوت . . طاغوت بادعائه خاصية من خواص الألوهية . وطاغوت بأنه لا يقف عند ميزان مضبوط أيضا !
وهم لا يفعلون هذا عن جهل , ولا عن ظن . . إنما هم يعلمون يقينا ويعرفون تماما , أن هذا الطاغوت محرم التحاكم إليه: (وقد أمروا أن يكفروا به) . .
فليس في الأمر جهالة ولا ظن . بل هو العمد والقصد . ومن ثم لا يستقيم ذلك الزعم . زعم أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ! إنما هو الشيطان الذي يريد بهم الضلال الذي لا يرجى منه مآب . .
ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا . .
فهذه هي العلة الكامنة وراء إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت . وهذا هو الدافع الذي يدفعهم إلى الخروج من حد الإيمان وشرطه بإرادتهم التحاكم إلى الطاغوت !
هذا هو الدافع يكشفه لهم . لعلهم يتنبهون فيرجعوا . ويكشفه للجماعة المسلمة , لتعرف من يحرك هؤلاء ويقف وراءهم كذلك .
ويمضي السياق في وصف حالهم إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله إلى الرسول وما أنزل من قبله . . ذلك الذي يزعمون أنهم آمنوا به:
(وإذا قيل لهم:تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول , رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) .
يا سبحان الله ! إن النفاق يأبى إلا أن يكشف نفسه ! ويأبى إلا أن يناقض بديهيات المنطق الفطري . . وإلا ما كان نفاقا . . .
إن المقتضى الفطري البديهي للإيمان , أن يتحاكم الإنسان إلى ما آمن به , وإلى من آمن به . فإذا زعم أنه آمن بالله وما أنزل , وبالرسول وما أنزل إليه . ثم دعي إلى هذا الذي آمن به , ليتحاكم إلى أمره وشرعه ومنهجه ; كانت التلبيه الكاملة هي البديهية الفطرية . فأما حين يصد ويأبى فهو يخالف البديهية الفطرية . ويكشف عن النفاق . وينبى ء عن كذب الزعم الذي زعمه من الإيمان !
وإلى هذه البديهية الفطرية يحاكم الله - سبحانه - أولئك الذين يزعمون الإيمان بالله ورسوله . ثم لا يتحاكمون إلى منهج الله ورسوله . بل يصدون عن ذلك المنهج حين يدعون إليه صدودا !
ثم يعرض مظهرا من مظاهر النفاق في سلوكهم ; حين يقعون في ورطة أو كارثة بسبب عدم تلبيتهم للدعوة إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ; أو بسبب ميلهم إلى التحاكم إلى الطاغوت . ومعاذيرهم عند ذلك . وهي معاذير النفاق:
(فكيف إذا أصابتهم مصيبة - بما قدمت أيديهم - ثم جاؤوك يحلفون بالله:إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) . .
وهذه المصيبة قد تصيبهم بسبب انكشاف أمرهم في وسط الجماعة المسلمة - يومذاك - حيث يصبحون معرضين للنبذ والمقاطعة والازدراء في الوسط المسلم . فما يطيق المجتمع المسلم أن يرى من بينه ناسا يزعمون أنهم آمنوا بالله وما أنزل , وبالرسول وما أنزل إليه ; ثم يميلون إلى التحاكم لغير شريعة الله ; أو يصدون حين يدعون إلىالتحاكم إليها . . إنما يقبل مثل هذا في مجتمع لا إسلام له ولا إيمان . وكل ما له من الإيمان زعم كزعم هؤلاء ; وكل ما له من الإسلام دعوى وأسماء !
أو قد تصيبهم المصيبة من ظلم يقع بهم ; نتيجة التحاكم إلى غير نظام الله العادل ; ويعودون بالخيبة والندامة من الاحتكام إلى الطاغوت ; في قضية من قضاياهم .
أو قد تصيبهم المصيبة ابتلاء من الله لهم . لعلهم يتفكرون ويهتدون . .
وأياما ما كان سبب المصيبة ; فالنص القرآني , يسأل مستنكرا:فكيف يكون الحال حينئذ ! كيف يعودون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم:
(يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) . . .
إنها حال مخزية . . حين يعودون شاعرين بما فعلوا . .
غير قادرين على مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم بحقيقة دوافعهم . وفي الوقت ذاته يحلفون كاذبين:أنهم ما أرادوا بالتحاكم إلى الطاغوت - وقد يكون هنا هو عرف الجاهلية - إلا رغبة في الإحسان والتوفيق ! وهي دائما دعوى كل من يحيدون عن الاحتكام إلى منهج الله وشريعته:أنهم يريدون اتقاء الإشكالات والمتاعب والمصاعب , التي تنشأ من الاحتكام إلى شريعة الله !
ويريدون التوفيق بين العناصر المختلفة والاتجاهات المختلفة والعقائد المختلفة . .(2/14)
إنها حجة الذين يزعمون الإيمان - وهم غير مؤمنين - وحجة المنافقين الملتوين . . هي هي دائما وفي كل حين !
والله - سبحانه - يكشف عنهم هذا الرداء المستعار . ويخبر رسوله صلى الله عليه وسلم , أنه يعلم حقيقة ما تنطوي عليه جوانحهم . ومع هذا يوجهه إلى أخذهم بالرفق , والنصح لهم بالكف عن هذا الالتواء:
(أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم . فأعرض عنهم وعظهم , وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) . .
أولئك الذين يخفون حقيقة نواياهم وبواعثهم ; ويحتجون بهذه الحجج , ويعتذرون بهذه المعاذير . والله يعلم خبايا الضمائر ومكنونات الصدور . . ولكن السياسة التي كانت متبعة - في ذلك الوقت - مع المنافقين كانت هي الإغضاء عنهم , وأخذهم بالرفق , واطراد الموعظة والتعليم . .
والتعبير العجيب:
وقل لهم . . في أنفسهم . . قولا بليغًا .
تعبير مصور . .
كأنما القول يودع مباشرة في الأنفس , ويستقر مباشرة في القلوب .
وهو يرغبهم في العودة والتوبة والاستقامة والاطمئنان إلى كنف الله وكنف رسوله . . بعد كل ما بدا منهم من الميل إلى الإحتكام إلى الطاغوت ; ومن الصدود عن الرسول صلى الله عليه وسلم حين يدعون إلى التحاكم إلى الله والرسول . . فالتوبة بابها مفتوح , والعودة إلى الله لم يفت اوانها بعد ; واستغفارهم الله من الذنب , واستغفار الرسول لهم , فيه القبول !
ولكنه قبل هذا كله يقرر القاعدة الأساسية:وهي أن الله قد أرسل رسله ليطاعوا - بإذنه - لا ليخالف عن أمرهم . ولا ليكونوا مجرد وعاظ ! ومجرد مرشدين !
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله . ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك , فاستغفروا الله , واستغفر لهم الرسول , لوجدوا الله توابا رحيمًا . .
وهذه حقيقة لها وزنها . . إن الرسول ليس مجرد "واعظ" يلقي كلمته ويمضي . لتذهب في الهواء - بلا سلطان - كما يقول المخادعون عن طبيعة الدين وطبيعة الرسل ; أو كما يفهم الذين لا يفهمون مدلول "الدين" .
إن الدين منهج حياة . منهج حياة واقعية . بتشكيلاتها وتنظيماتها , وأوضاعها , وقيمها , وأخلاقها وآدابها . وعباداتها وشعائرها كذلك .
وهذا كله يقضي أن يكون للرسالة سلطان . سلطان يحقق المنهج , وتخضع له النفوس خضوع طاعة وتنفيذ . . والله أرسل رسله ليطاعوا - بإذنه وفي حدود شرعه - في تحقيق منهج الدين . منهج الله الذي أراده لتصريف هذه الحياة . وما من رسول إلا أرسله الله , ليطاع , بإذن الله . فتكون طاعته طاعة لله . . ولم يرسل الرسل لمجرد التأثر الوجداني , والشعائر التعبدية . . فهذا وهم في فهم الدين ; لا يستقيم مع حكمة الله من إرسال الرسل . وهي إقامة منهج معين للحياة , في واقع الحياة . .
وإلا فما أهون دنيا كل وظيفة الرسول فيها أن يقف واعظا . لا يعنيه إلا أن يقول كلمته ويمضي . يستهتر بها المستهترون , ويبتذلها المبتذلون !!!
ومن هنا كان تاريخ الإسلام كما كان . . كان دعوة وبلاغا . ونظام وحكما . وخلافة بعد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقوم بقوة الشريعة والنظام , على تنفيذ الشريعة والنظام . لتحقيق الطاعة الدائمة للرسول . وتحقيق إرادة الله من إرسال الرسول . وليست هنالك صورة أخرى يقال لها:الإسلام . أو يقال لها:الدين . إلا أن تكون طاعة للرسول , محققة في وضع وفي تنظيم . ثم تختلف أشكال هذا الوضع ما تختلف ; ويبقى أصلها الثابت . وحقيقتها التي لا توجد بغيرها . . استسلام لمنهج الله , وتحقيق لمنهج رسول الله . وتحاكم إلى شريعة الله . وطاعة للرسول فيما بلغ عن الله , وإفراد لله - سبحانه - بالألوهية [ شهادة أن لا إله إلا الله ] ومن ثم إفراده بالحاكمية التي تجعل التشريع ابتداء حقا لله , لا يشاركه فيه سواه . وعدم احتكام إلى الطاغوت . في كثير ولا قليل . والرجوع إلى الله والرسول , فيما لم يرد فيه نص من القضايا المستجدة , والأحوال الطارئه ; حين تختلف فيه العقول . .
وأمام الذين (ظلموا أنفسهم) بميلهم عن هذا المنهج , الفرصة التي دعا الله المنافقين إليها على عهد رسول الله , صلى الله عليه وسلم - ورغبهم فيها . .
ولو أنهم - إذ ظلموا أنفسهم - جاؤوك , فاستغفروا الله , واستغفر لهم الرسول , لوجدوا الله توابا رحيمًا . .
والله تواب في كل وقت على من يتوب . والله رحيم في كل وقت على من يؤوب . وهو - سبحانه - يصف نفسه بصفته . ويعد العائدين إليه , المستغفرين من الذنب , قبول التوبة وإفاضة الرحمة . .
والذين يتناولهم هذا النص ابتداء , كان لديهم فرصة استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم وقد انقضت فرصتها . وبقي باب الله مفتوحا لا يغلق . ووعده قائما لا ينقض . فمن أراد فليقدم . ومن عزم فليتقدم . .
وأخيرا يجيء ذلك الإيقاع الحاسم الجازم . إذ يقسم الله - سبحانه - بذاته العلية , أنه لا يؤمن مؤمن , حتى يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره كله . ثم يمضي راضيا بحكمه , مسلما بقضائه . ليس في صدره حرج منه , ولا في نفسه تلجلج في قبوله: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم . ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت , ويسلموا تسليمًا . .
ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحد الإسلام . يقرره الله سبحانه بنفسه . ويقسم عليه بذاته . فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام , ولا تأويل لمؤول .(2/15)
اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام . . وهي أن هذا القول مرهون بزمان , وموقوف على طائفة من الناس ! وهذا قول من لا يدرك من الإسلام شيئا ; ولا يفقه من التعبير القرآني قليلا ولا كثيرا . فهذه حقيقة كلية من حقائق الإسلام ; جاءت في صورة قسم مؤكد ; مطلقة من كل قيد . . وليس هناك مجال للوهم أو الإيهام بأن تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو تحكيم شخصه . إنما هو تحكيم شريعته ومنهجه . وإلا لم يبق لشريعة الله وسنة رسوله مكان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وذلك قول أشد المرتدين ارتدادا على عهد أبى بكر - رضي الله عنه - وهو الذي قاتلهم عليه قتال المرتدين . بل قاتلهم على ما هو دونه بكثير . وهو مجرد عدم الطاعة لله ورسوله , في حكم الزكاة ; وعدم قبول حكم رسول الله فيها , بعد الوفاة !
وإذا كان يكفي لإثبات "الإسلام" أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله . . فانه لا يكفي في "الإيمان" هذا , ما لم يصحبه الرضى النفسي , والقبول القلبي , وإسلام القلب والجنان , في اطمئنان !
هذا هو الإسلام . . وهذا هو الإيمان . . فلتنظر نفس أين هي من الإسلام ; وأين هي من الإيمان ! قبل ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان !(1)
==============
والمسلم الحق لا يتنازل عن أي جزء من دينه، لأنه من عند الله العليم الخبير وما سواه فباطل ، مهما زينه أتباعه وزركشوه !!!
وقد أكمل الله تعالى هذا الدين، فلن يعتريه بعد ذلك زيادة ولا نقصان
قال تعالى :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً )(المائدة: من الآية3)
اليوم . . الذي نزلت فيه هذه الآية في حجة الوداع . .
أكمل الله هذا الدين . فما عادت فيه زيادة لمستزيد . وأتم نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل . ورضي لهم "الإسلام" دينا ; فمن لا يرتضيه منهجا لحياته - إذن - فإنما يرفض ما ارتضاه الله للمؤمنين .
ويقف المؤمن أمام هذه الكلمات الهائلة ; فلا يكاد ينتهي من استعراض ما تحمله في ثناياها من حقائق كبيرة , وتوجيهات عميقة , ومقتضيات وتكاليف . .
إن المؤمن يقف أولا:أمام إكمال هذا الدين ; يستعرض موكب الإيمان , وموكب الرسالات , وموكب الرسل , منذ فجر البشرية , ومنذ أول رسول - آدم عليه السلام - إلى هذه الرسالة الأخيرة . رسالة النبي الأمي إلى البشر أجمعين . . فماذا يرى ? . . يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل . موكب الهدى والنور . ويرى معالم الطريق , على طول الطريق . ولكنه يجد كل رسول - قبل خاتم النبيين - إنما أرسل لقومه . ويرى كل رسالة - قبل الرسالة الأخيرة - إنما جاءت لمرحلة من الزمان . . رسالة خاصة , لمجموعة خاصة , في بيئة خاصة . . ومن ثم كانت كل تلك الرسالات محكومة بظروفها هذه ; متكيفة بهذه الظروف
كلها تدعو إلى إله واحد - فهذا هو التوحيد - وكلها تدعو إلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الدين - وكلها تدعو إلى التلقي عن هذا الإله الواحد والطاعة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الإسلام - ولكن لكل منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة وحالة البيئة وحالة الزمان والظروف . .
حتى إذا أراد الله أن يختم رسالاته إلى البشر ; أرسل إلى الناس كافة , رسولا خاتم النبيين برسالة "للإنسان" لا لمجموعة من الأناسي في بيئة خاصة , في زمان خاص , في ظروف خاصة . .
رسالة تخاطب "الإنسان" من وراء الظروف والبيئات والأزمنة ; لأنها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل ولا تتحور ولا ينالها التغيير: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) . . وفصل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة "الإنسان" من جميع أطرافها , وفي كل جوانب نشاطها ; وتضع لها المبادى الكلية والقواعد الأساسيةفيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان ; وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان . .
وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة "الإنسان" منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان ; من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات , لكي تستمر , وتنمو , وتتطور , وتتجدد ; حول هذا المحور وداخل هذا الإطار . . وقال الله - سبحانه - للذين آمنوا:
اليوم أكملت لكم دينكم . وأتممت عليكم نعمتي . ورضيت لكم الإسلام دينًا . .
فأعلن لهم إكمال العقيدة , وإكمال الشريعة معا . . فهذا هو الدين . .
ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين - بمعناه هذا - نقصا يستدعي الإكمال . ولا قصورا يستدعي الإضافة . ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير . .
وإلا فما هو بمؤمن ; وما هو بمقر بصدق الله ; وما هو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين !
إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن , هي شريعة كل زمان , لأنها - بشهادة الله - شريعة الدين الذي جاء "للإنسان" في كل زمان وفي كل مكان ; لا لجماعة من بني الإنسان , في جيل من الأجيال , في مكان من الأمكنة , كما كانت تجيء الرسل والرسالات .
الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي . والمبادى ء الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان ; دون أن تخرج عليه , إلا أن تخرج من إطار الإيمان !
والله الذي خلق "الإنسان" ويعلم من خلق ; هو الذي رضي له هذا الدين ; المحتوى على هذه الشريعة . فلا يقول:إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم , إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإنسان ; وبأطوار الإنسان !
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 99)(2/16)
ويقف المؤمن ثانيا:أمام إتمام نعمة الله على المؤمنين , بإكمال هذا الدين ; وهي النعمة التامة الضخمة الهائلة . النعمة التي تمثل مولد "الإنسان" في الحقيقة , كما تمثل نشأته واكتماله . "فالإنسان" لا وجود له قبل أن يعرف إلهه كما يعرفه هذا الدين له . وقبل أن يعرف الوجود الذي يعيش فيه كما يعرفه له هذا الدين . وقبل أن يعرف نفسه ودوره في هذا الوجود وكرامته على ربه , كما يعرف ذلك كله من دينه الذي رضيه له ربه . و"الإنسان" لا وجود له قبل أن يتحرر من عبادة العبيد بعبادة الله وحده ; وقبل أن ينال المساواة الحقيقية بأن تكون شريعته من صنع الله وبسلطانه لا من صنع أحد ولا بسلطانه .
إن معرفة "الإنسان" بهذه الحقائق الكبرى كما صورها هذا الدين هي بدء مولد "الإنسان" . . إنه بدون هذه المعرفة على هذا المستوى ; يمكن أن يكون "حيوانًا أو أن يكون "مشروع إنسان" في طريقه إلى التكوين !
ولكنه لا يكون "الإنسان" في أكمل صورة للإنسان , إلا بمعرفة هذه الحقائق الكبيرة كما صورها القرآن . .
والمسافة بعيدة بعيدة بين هذه الصورة , وسائر الصور التي اصطنعها البشر في كل زمان !
وإن تحقيق هذه الصورة في الحياة الإنسانية , لهو الذي يحقق "للإنسان" "إنسانيته" كاملة . .
يحققها له وهو يخرجه بالتصور الاعتقادي , في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر , من دائرة الحس الحيواني الذي لا يدرك إلا المحسوسات , إلى دائرة "التصور" الإنساني , الذي يدرك المحسوسات وما وراء المحسوسات .
عالم الشهادة وعالم الغيب . .
عالم المادة وعالم ما وراء المادة . .
وينقذه من ضيق الحس الحيواني المحدود !
ويحققها له وهو يخرجه بتوحيد الله , من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده , والتساوي والتحرر والاستعلاء أمام كل من عداه . فإلى الله وحده يتجه بالعبادة , ومن الله وحده يتلقى المنهج والشريعة والنظام , وعلى الله وحده يتوكل ومنه وحده يخاف . .
ويحققها له , بالمنهج الرباني , حين يرفع اهتماماته ويهذب نوازعه , ويجمع طاقته للخير والبناء والارتقاء , والاستعلاء على نوازع الحيوان , ولذائذ البهيمة وانطلاق الأنعام !
ولا يدرك حقيقة نعمة الله في هذا الدين , ولا يقدرها قدرها , من لم يعرف حقيقة الجاهلية ومن لم يذق ويلاتها - والجاهلية في كل زمان وفي كل مكان هي منهج الحياة الذي لم يشرعه الله - فهذا الذي عرف الجاهلية وذاق ويلاتها . . ويلاتها في التصور والاعتقاد , وويلاتها في واقع الحياة . .
هو الذي يحس ويشعر , ويرى ويعلم , ويدرك ويتذوق حقيقة نعمة الله في هذا الدين . .
الذي يعرف ويعاني ويلات الضلال والعمى , وويلات الحيرة والتمزق , وويلات الضياع والخواء , في معتقدات الجاهلية وتصوراتها في كل زمان وفي كل مكان . . هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الإيمان ;
والذي يعرف ويعاني ويلات الطغيان والهوى , وويلات التخبط والاضطراب , وويلات التفريط والإفراط في كل أنظمة الحياة الجاهلية , هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الحياة في ظل الإيمان بمنهج الإسلام .
ولقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة , يعرفون ويدركون ويتذوقون هذه الكلمات . لأن مدلولاتها كانت متمثلة في حياتهم , في ذات الجيل الذي خوطب بهذا القرآن . .
كانوا قد ذاقوا الجاهلية . . ذاقوا تصوراتها الاعتقادية . وذاقوا أوضاعها الاجتماعية . وذاقوا أخلاقها الفردية والجماعية . وبلوا من هذا كله ما يدركون معه حقيقة نعمة الله عليهم بهذا الدين ; وحقيقة فضل الله عليهم ومنته بالإسلام .
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية ; وسار بهم في الطريق الصاعد , إلى القمة السامقة - كما فصلنا ذلك في مستهل سورة النساء - فإذا هم على القمة ينظرون من عل إلى سائر أمم الأرض من حولهم ; نظرتهم إلى ماضيهم في جاهليتهم كذلك .
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التصورات الاعتقادية حول ربوبية الأصنام , والملائكة , والجن , والكواكب , والأسلاف ; وسائر هذه الأساطير الساذجة والخرافات السخيفة ; لينقلهم إلى أفق التوحيد . إلى أفق الإيمان بإله واحد , قادر قاهر , رحيم ودود , سميع بصير , عليم خبير . عادل كامل . قريب مجيب . لا واسطة بينه وبين أحد ; والكل له عباد , والكل له عبيد . .
ومن ثم حررهم من سلطان الكهانة , ومن سلطان الرياسة , يوم حررهم من سلطان الوهم والخرافة . .
وكان الإسلام قد التقطهم من سقح الجاهلية في الأوضاع الاجتماعية . من الفوارق الطبقية ; ومن العادات الزرية ; ومن الاستبداد الذي كان يزاوله كل من تهيأ له قدر من السلطان [ لا كما هو سائد خطأ من أن الحياة العربية كانت تمثل الديمقراطية ! ] .
"فقد كانت القدرة على الظلم قرينة بمعنى العزة والجاه في عرف السيد والمسود من أمراء الجزيرة من أقصاها في الجنوب إلى أقصاها في الشمال . وما كان الشاعر النجاشي إلا قادحا مبالغا في القدح حين استضعف مهجوه , لأن:
قبيلته لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
"وما كان حجر بن الحارث إلا ملكا عربيا حين سام بني أسد أن يستعبدهم بالعصا , وتوسل إليه شاعرهم عبيد بن الأبرص حيث يقول:
أنت المملك فيهم وهم العبيد إلى القيامه
ذلوا لسوطك مثلما ذل الأشيقر ذو الخزامه
"وكان عمر بن هند ملكا عربيا حين عود الناس أن يخاطبهم من وراء ستار ; وحين استكثر على سادة القبائل أن تأنف أمهاتهم من خدمته في داره" .
"وكان النعمان بن المنذر ملكا عربيا حين بلغ به العسف أن يتخذ لنفسه يوما للرضى يغدق فيه النعم على كل قادم إليه خبط عشواء ; ويوما للغضب يقتل فيه كل طالع عليه من الصباح إلى المساء" .(2/17)
"وقد قيل عن عزة كليب وائل:إنه سمي بذلك لأنه كان يرمي الكليب حيث يعجبه الصيد , فلا يجسر أحد على الدنو من مكان يسمع فيه نباحه . وقيل:"لا حر بوادي عوف" لأنه من عزته كان لا يأوي بواديه من يملك حرية في جواره . فكلهم أحرار في حكم العبيد . . " .
وكان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التقاليد والعادات والأخلاق والصلات الاجتماعية . .
كان قد التقطهم من سفح البنت الموءودة , والمرأة المنكودة , والخمر والقمار والعلاقات الجنسية الفوضوية , والتبرج والاختلاط مع احتقار المرأة ومهانتها , والثارات والغارات والنهب والسلب , مع تفرق الكلمة وضعف الحيلة أمام أي هجوم خارجي جدي , كالذي حدث في عام الفيل من هجوم الأحباش على الكعبة , وتخاذل وخذلان القبائل كلها , هذه القبائل التي كان بأسها بينها شديدا !
وكان الإسلام قد أنشأ منهم أمة ; تطل من القمة السامقة على البشرية كلها في السفح , في كل جانب من جوانب الحياة . في جيل واحد . عرف السفح وعرف القمة . عرف الجاهلية وعرف الإسلام . ومن ثم كانوا يتذوقون ويدركون معنى قول الله لهم:
اليوم أكملت لكم دينكم , وأتممت عليكم نعمتي , ورضيت لكم الإسلام دينًا . .
ويقف المؤمن ثالثا:أمام ارتضاء الله الإسلام دينا للذين آمنوا . . يقف أمام رعاية الله - سبحانه - وعنايته بهذه الأمة , حتى ليختار لها دينها ويرتضيه . .
وهو تعبير يشي بحب الله لهذه الأمة ورضاه عنها , حتى ليختار لها منهج حياتها
وإن هذه الكلمات الهائلة لتلقي على عاتق هذه الأمة عبئا ثقيلا , يكافى ء هذه الرعاية الجليلة . . أستغفر الله . .
فما يكافى ء هذه الرعاية الجليلة من الملك الجليل شيء تملك هذه الأمة بكل أجيالها أن تقدمه . . وإنما هو جهد الطاقة في شكر النعمة , ومعرفة المنعم . . وإنما هو إدراك الواجب ثم القيام بما يستطاع منه , وطلب المغفرة والتجاوز عن التقصير والقصور فيه .
إن ارتضاء الله الإسلام دينا لهذه الأمة , ليقتضي منها ابتداء أن تدرك قيمة هذا الاختيار . ثم تحرص على الاستقامة على هذا الدين جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار . .
وإلا فما أنكد وما أحمق من يهمل - بله أن يرفض - ما رضيه الله له , ليختار لنفسه غير ما اختاره الله ! . .
وإنها - إذن - لجريمة نكدة ; لا تذهب بغير جزاء , ولا يترك صاحبها يمضي ناجيا أبدا وقد رفض ما ارتضاه له الله . . ولقد يترك الله الذين لم يتخذوا الإسلام دينا لهم , يرتكبون ما يرتكبون ويمهلهم إلى حين . .
فأما الذين عرفوا هذا الدين ثم تركوه أو رفضوه . .
واتخذوا لأنفسهم مناهج في الحياة غير المنهج الذي ارتضاه لهم الله . . فلن يتركهم الله أبدا ولن يمهلهم أبدا , حتى يذوقوا وبال أمرهم وهم مستحقون ! (1)
وقال تعالى : ( مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:40)
"فليس لأحد من بني آدم أن ينصب نفسه ملكا على الناس ومسيطراً عليهم , يأمرهم بما يشاء وينهاهم عما يريد . ولا جرم أن استقلال فرد من أفراد البشر بالأمر والنهي من غير أن يكون له سلطان من الملك الأعلى , هو تكبر في الأرض على الله بغير الحق , وعتو عن أمره , وطموح إلى مقام الألوهية . والذين يرضون أمثال هؤلاء الطواغيت لهم ملوكاً وأمراء إنما يشركون بالله , وذلك مبعث الفساد في الأرض , ومنه تنفجر ينابيع الشر والطغيان .
"إن دعوة الإسلام إلى التوحيد , وعبادة الله الواحد , لم تكن قضية كلامية . أو عقيدة لاهوتية فحسب . شأن غيره من النحل والملل ; بل الأمر أنها كانت دعوة إلى انقلاب اجتماعي [ ] أرادت في أول ما أرادت أن تقطع دابر الذين تسنموا ذروة الألوهية ; واستعبدوا الناس بحيلهم ومكايدهم المختلفة . فمنهم من تبوأ مناصب السدنة والكهان ; ومنهم من استأثر بالملك والإمرة , وتحكم في رقاب الناس ; ومنهم من استبد بمنابع الثروة وخيرات الأرض ; وجعل الناس عالة عليهم يتكففون ولا يجدون ما يتبلغون به . . فأرادت دعوة الإسلام أن تقطع دابرهم جميعاً وتستأصل شأفتهم استئصالاً . . وهؤلاء تارة تسنموا قمة الألوهية جهراً وعلانية ; وأرادوا أن يقهروا من حولهم من الناس على أن يذعنوا لأمرهم ; وينقادوا لجبروتهم ; مستندين إلى حقوقهم التي ورثوها عن آبائهم ; أو استأثرت بها الطبقة التي ينتمون إليها ; فقالوا: (ما علمت لكم من إله غيري) . . و (وأنا ربكم الأعلى) . . و (أنا أحيي وأميت) . . و (من أشد منا قوة ?) . . إلى غيرها من كلمات الاستكبار ودعاوى الألوهية التي تفوهوا بها وتجاسروا عليها بغياً وعدواناً . وطورا استغلوا جهل الدهماء وسفههم , فاتخذوا من الأصنام والتماثيل والهياكل آلهة , يدعون الناس ويريدونهم علىأداء مظاهر العبودية أمام هذه التماثيل والهياكل متوارين بأنفسهم من ورائها , يلعبون بعقول الناس , ويستعبدونهم لأغراضهم وشهواتهم وهم لا يشعرون !
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 119)(2/18)
فيتبين من ذلك أن دعوة الإسلام إلى التوحيد , وإخلاص العبادة لله الواحد الأحد , وتنديده بالكفر والشرك بالله , واجتناب الأوثان والطواغيت . . كل ذلك يتنافى ويتعارض مع الحكومة والعاملين عليها المتصرفين في أمورها , والذين يجدون فيها سنداً لهم , وعوناً على قضاء حاجاتهم وأغراضهم . . ومن ثم ترى أنه كلما قام نبي من الأنبياء يجاهر الناس بالدعوة , وخاطبهم قائلاً: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) . . قامت في وجهه الحكومات المتمكنة في عصره , وثار عليه جميع من كانوا يستغلون خيرات البلاد ويستثمرونها ظلماً وعدواناً . . خرجت تقاومه , وتضع في سبيل الدعوة العقبات . وذلك أن هذه الدعوة لم تكن مجرد بيان لعقيدة كلامية , أو شرح لمسألة من مسائل الإلهيات وإنما كانت نداء لانقلاب اجتماعي عالمي , ما كانت بوادره لتخفى على المستأثرين بمناصب العز والجاه , المستبدين بمنابع الثراء , ممن يشمون رائحة الاضطراب السياسي قبل حدوثه بأعوام !
"إن الإسلام ليس بمجرد مجموعة من العقيدة الكلامية , وجملة من المناسك والشعائر , كما يفهم من معنى الدين في هذه الأيام . بل الحق أنه نظام شامل , يريد أن يقضي على سائر النظم الباطلة الجائرة الجارية في العالم , ويقطع دابرها , ويستبدل بها نظاماً صالحاً , ومنهاجاً معتدلاً , يرى أنه خير للإنسانية من النظم الأخرى , وأن فيه نجاة للجنس البشري من أدواء الشر والطغيان , وسعادة له وفلاحاً في العاجلة والآجلة معاً .
"ودعوته في هذه السبيل , سبيل الإصلاح والتجديد والهدم والبناء , عامة للجنس البشري كافة , لا تختص بأمة دون أمة , أو طائفة دون طائفة . فهو يدعو بني آدم جميعاً إلى كلمته ; حتى إنه يهيب بالطبقات الجائرة نفسها ممن اعتدوا حدود الله في أرضه . واستأثروا بخيرات الأرض دون سائر الناس . .
يهيب بالملوك والأمراء أنفسهم ويناديهم قائلاً:لا تطغوا في الأرض , وادخلوا في كنف حدود الله التي حدها لكم , وكفوا أيديكم عما نهاكم الله عنه وحذركم إياه . فإن أسلمتم لأمر الله , ودنتم لنظام الحق والعدل الذي أقامه للناس خيرا وبركة , فلكم الأمن والدعة والسلامة فإن الحق لا يعادي أحداً ; وإنما يعادي الحق الجور , والفساد والفحشاء , وأن يتعدى الرجل حدوده الفطرية , ويبتغي ما وراء ذلك , مما لا حظ له فيه حسب سنن الكون , وفطرة الله التي فطر الناس عليها .
على ضوء هذا البيان لطبيعة هذا الدين وحقيقته , ولطبيعة الجهاد فيه وقيمته , ولمنهج هذا الدين وخطته الحركية في الجهاد ومراحله . . نستطيع أن نمضي في تقييم غزوة بدر الكبرى , التي قال الله سبحانه عن يومها إنه "يوم الفرقان" . . وأن نمضي كذلك في التعرف إلى سورة الأنفال , التي نزلت في هذه الغزوة , على وجه الإجمال .
لم تكن غزوة بدر الكبرى هي أولى حركات الجهاد الإسلامي - كما بينا من قبل - فقد سبقتها عدة سرايا , لم يقع قتال إلا في واحدة منها , هي سرية عبد الله بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة . . وكانت كلها تمشياً مع القاعدة التي يقوم عليها الجهاد في الإسلام . والتي أسلفت الحديث عنها من قبل . .
نعم إنها كلها كانت موجهة إلى قريش التي أخرجت رسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين الكرام ; ولم تحفظ حرمة البيت الحرام المحرمة في الجاهلية وفي الإسلام !
ولكن هذا ليس الأصل في انطلاقة الجهاد الإسلامي . إنما الأصل هو إعلان الإسلام العام بتحرير الإنسان من العبودية لغير الله ; وبتقرير ألوهية الله في الأرض ; وتحطيم الطواغيت التي تعبد الناس , وإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده . .
وقريش كانت هي الطاغوت المباشر الذي يحول بين الناس في الجزيرة وبين التوجه إلى عبادة الله وحده ; والدخول في سلطانه وحده . فلم يكن بد أن يناجز الإسلام هذا الطاغوت , تمشياً مع خطته العامة ; وانتصافاً في الوقت ذاته من الظلم والطغيان اللذين وقعا بالفعل على المسلمين الكرام ; ووقاية كذلك لدار الإسلام في المدينة من الغزو والعدوان . . وإن كان ينبغي دائماً ونحن نقرر هذه الأسباب المحلية القريبة أن نتذكر - ولا ننسى - طبيعة هذا الدين نفسه وخطته التي تحتمها طبيعته هذه . وهي ألا يترك في الأرض طاغوتاً يغتصب سلطان الله ; ويعبد الناس لغير ألوهيته وشرعه بحال من الأحوال !
إن الحكم لا يكون إلا لله . فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته ; إذ الحاكمية من خصائص الألوهية . من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته ; سواء ادعى هذا الحق فرد , أو طبقة , أو حزب . أو هيئة , أو أمة , أو الناس جميعا في صورة منظمة عالمية . ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله كفرا بواحا , يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة , حتى بحكم هذا النص وحده !
وادعاء هذا الحق لا يكون بصورة واحدة هي التي تخرج المدعي من دائرة الدين القيم , وتجعله منازعا لله في أولى خصائص ألوهيته - سبحانه - فليس من الضروري أن يقول:ما علمت لكم من إله غيري ; أو يقول:أنا ربكم الأعلى , كما قالها فرعون جهرة . ولكنه يدعي هذا الحق وينازع الله فيه بمجرد أن ينحي شريعة الله عن الحاكمية ; ويستمد القوانين من مصدر آخر . وبمجرد أن يقرر أن الجهة التي تملك الحاكمية , أي التي تكون هي مصدر السلطات , جهة أخرى غير الله سبحانه . .(2/19)
ولو كان هو مجموع الأمة أو مجموع البشرية . والأمة في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم بشريعة الله ; ولكنها ليست هي مصدر الحاكمية التي تعطي القانون شرعيته . إنما مصدر الحاكمية هو الله . وكثيرون حتى من الباحثين المسلمين يخلطون بين مزاولة السلطة وبين مصدر السلطة . فالناس بجملتهم لا يملكون حق الحاكمية إنما يملكه الله وحده . والناس إنما يزاولون تطبيق ما شرعه الله بسلطانه , أما ما لم يشرعه الله فلا سلطان له ولا شرعية , وما أنزل الله به من سلطان . .
ويوسف - عليه السلام - يعلل القول بأن الحكم لله وحده . فيقول:
أمر ألا تعبدوا إلا إياه .
ولا نفهم هذا التعليل كما كان يفهمه الرجل العربي إلا حين ندرك معنى "العبادة " التي يخص بها الله وحده . .
إن معنى عبد في اللغة:دان , وخضع , وذل . . ولم يكن معناه في الاصطلاح الإسلامي في أول الأمر أداء الشعائر . . إنما كان هو معناه اللغوي نفسه . .
فعندما نزل هذا النص أول مرة لم يكن شيء من الشعائر قد فرض حتى ينطلق اللفظ إليه . إنما كان المقصود هو معناه اللغوي الذي صار هو معناه الاصطلاحي . كان المقصود به هو الدينونة لله وحده , والخضوع له وحده , واتباع أمره وحده . سواء تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية , أو تعلق بتوجيه أخلاقي , أو تعلق بشريعة قانونية . فالدينونة لله وحده في هذا كله هي مدلول العبادة التي خص الله - سبحانه - بها نفسه ; ولم يجعلها لأحد من خلقه . .
وحين نفهم معنى العبادة على هذا النحو نفهم لماذا جعل يوسف - عليه السلام - اختصاص الله بالعبادة تعليلا لاختصاصه بالحكم . فالعبادة - أي الدينونة - لا تقوم إذا كان الحكم لغيره . .
وسواء في هذا حكمه القدري القهري في حياة الناس وفي نظام الوجود , وحكمه الشرعي الإرادي في حياة الناس خاصة . فكله حكم تتحق به الدينونة .
ومرة أخرى نجد أن منازعة الله الحكم تخرج المنازع من دين الله - حكما معلوما من الدين بالضرورة - لأنها تخرجه من عبادة الله وحده . .
وهذا هو الشرك الذي يخرج أصحابه من دين الله قطعا . وكذلك الذين يقرون المنازع على ادعائه , ويدينون له بالطاعة وقلوبهم غير منكرة لاغتصابه سلطان الله وخصائصه . .
فكلهم سواء في ميزان الله .
ويقرر يوسف - عليه السلام - أن اختصاص الله - سبحانه - بالحكم - تحقيقا لاختصاصه بالعبادة - هو وحده الدين القيم: (ذلك الدين القيم) . .
وهو تعبير يفيد القصر . فلا دين قيما سوى هذا الدين , الذي يتحقق فيه اختصاص الله بالحكم , تحقيقا لاختصاصه بالعبادة . .
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون) . .
وكونهم (لا يعلمون) لا يجعلهم على دين الله القيم . فالذي لا يعلم شيئا لا يملك الاعتقاد فيه ولا تحقيقه . . فإذا وجد ناس لا يعلمون حقيقة الدين , لم يعد من الممكن عقلا وواقعا وصفهم بأنهم على هذا الدين !
ولم يقم جهلهم عذرا لهم يسبغ عليهم صفة الإسلام . ذلك أن الجهل مانع للصفة ابتداء . فاعتقاد شيء فرغ عن العلم به . . وهذا منطق العقل والواقع . . بل منطق البداهة الواضح .
لقد رسم يوسف - عليه السلام - بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة كل معالم هذا الدين , وكل مقومات هذه العقيدة ; كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزا شديدا . .
إن الطاغوت لا يقوم في الأرض إلا مدعيا أخص خصائص الألوهية , وهو الربوبية . أي حق تعبيد الناس لأمره وشرعه , ودينونتهم لفكره وقانونه . وهو إذ يزاول هذا في عالم الواقع يدعيه - ولو لم يقله بلسانه - فالعمل دليل أقوى من القول .
وإن الطاغوت لا يقوم إلا في غيبة الدين القيم والعقيدة الخالصة عن قلوب الناس . فما يمكن أن يقوم وقد استقر في اعتقاد الناس فعلا أن الحكم لله وحده , لأن العبادة لا تكون إلا لله وحده . والخضوع للحكم عبادة . بل هي أصلا مدلول العبادة .وإلى هنا يبلغ يوسف أقصى الغاية من الدرس الذي ألقاه , مرتبطا في مطلعه بالأمر الذي يشغل بال صاحبيه في السجن . ومن ثم فهو يؤول لهما الرؤيا في نهاية الدرس , ليزيدهما ثقة في قوله كله وتعلقا به:(1)
=============(2/20)
الباب الأول
نص الحديث الشريف
صحيح البخارى - (ج 11 / ص 59)
3017 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيًّا - رضى الله عنه - حَرَّقَ قَوْمًا ، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ ، لأَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ » . وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ » . طرفه 6922 - تحفة 5987
صحيح البخارى - (ج 23 / ص 20)
6922 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ أُتِىَ عَلِىٌّ - رضى الله عنه - بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْىِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ » . طرفه 3017 - تحفة 5987 - 19/9
سنن أبى داود - (ج 4 / ص 222)
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 276)(2/20)
4353 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَحْرَقَ نَاسًا ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلاَمِ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَمْ أَكُنْ لأَحْرِقَهُمْ بِالنَّارِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ ». وَكُنْتُ قَاتِلَهُمْ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ». فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ وَيْحَ ابْنَ عَبَّاسٍ.
سنن الترمذى - (ج 6 / ص 43)
1530 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّىُّ الْبَصْرِىُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِىُّ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيًّا حَرَّقَ قَوْمًا ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلاَمِ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ». وَلَمْ أَكُنْ لأُحَرِّقَهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ ». فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ صَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ حَسَنٌ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِى الْمُرْتَدِّ. وَاخْتَلَفُوا فِى الْمَرْأَةِ إِذَا ارْتَدَّتْ عَنِ الإِسْلاَمِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ تُقْتَلُ وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِىِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ تُحْبَسُ وَلاَ تُقْتَلُ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِىِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ.
سنن النسائى - (ج 13 / ص 7)
4076 - أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ».
4077 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ نَاسًا ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلاَمِ فَحَرَّقَهُمْ عَلِىٌّ بِالنَّارِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ أَحَدًا ». وَلَوْ كُنْتُ أَنَا لَقَتَلْتُهُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ».
4078 - أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ».
4079 - أَخْبَرَنِى هِلاَلُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ».
4080 - أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ». قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ عَبَّادٍ.
4081 - أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ».
4082 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَلِيًّا أُتِىَ بِنَاسٍ مِنَ الزُّطِّ يَعْبُدُونَ وَثَنًا فَأَحْرَقَهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ».
سنن ابن ماجه - (ج 8 / ص 37)
2632 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ».
مصنف عبد الرزاق مشكل - (ج 8 / ص 114)
18706-عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ حميد بن هلال عن أبي بردة قال قدم على أبي موسى الأشعري معاذ بن جبل باليمن فإذا برجل عنده قال ما هذا قال رجل كان يهوديا فأسلم ثم تهود ونحن نريده على الإسلام منذ أحسبه قال شهرين فقال معاذ والله لا أقعد حتى تضربوا عنقه فضربت عنقه ثم قال معاذ قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه أو قال من بدل دينه فاقتلوه قال معمر وسمعت قتادة يقول قال معاذ والله لا أقعد حتى تضربوا كرده(2/21)
18707-عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ بَدَّلَ عَنْ دِينِهِ ، أَوْ قَالَ : رَجَعَ ، فَاقْتُلُوهُ ، وَلا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ يَعْنِي : النَّارَ
مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 10 / ص 188)
فِي الْمُرْتَدِّ ، عَنِ الآِسْلاَمِ , مَا عَلَيْهِ ؟
28977-حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ ، عَن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فَتْحُ تَسْتُرَ وَتَسْتُرُ مِنْ أَرْضِ الْبَصْرَةِ سَأَلَهُمْ : هَلْ مِنْ مُغْرِبَةٍ , قَالُوا : رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ فَأَخَذْنَاهُ , قَالَ : مَا صَنَعْتُمْ بِهِ ؟ قَالُوا : قَتَلْنَاهُ , قَالَ : أَفَلاَ أَدْخَلْتُمُوهُ بَيْتًا وَأَغْلَقْتُمْ عَلَيْهِ بَابًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا ، ثُمَّ اسْتَتَبْتُمُوهُ ثَلاَثًا , فَإِنْ تَابَ وَإِلاَ قَتَلْتُمُوهُ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ لَمْ أَشْهَدْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي ، أَوْ قَالَ : حِينَ بَلَغَنِي.
28978-حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ ، عَنْ أَشْعَثَ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ : قَالَ عَلِيٌّ : يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلاَثًا , فَإِنْ عَادَ يُقْتَلُ.
28979-حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَن سُفْيَانَ ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَمَّنْ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلاَثًا , فَإِنْ تَابَ تُرِكَ ، وَإِنْ أَبِي قُتِلَ.
28980-حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ ، عَن سَعِيدٍ ، عَن قَتَادَةَ ، عَن حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَتَى أَبَا مُوسَى وَعَندَهُ رَجُلٌ يَهُودِيٌّ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقَالَ : هَذَا يَهُودِيٌّ أَسْلَمَ ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَقَدْ اسْتَتَابَهُ أَبُو مُوسَى شَهْرَيْنِ , قَالَ : فَقَالَ : مُعَاذٌ : لاَ أَجْلِسُ حَتَّى أَضْرِبُ ، عَنقَهُ , قَضَى اللَّهُ وَقَضَى رَسُولُهُ.
28981-حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَن حَيَّانَ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : يُدْعَى إلَى الآِسْلاَمِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ , فَإِنْ أَبَى ضُرِبَتْ ، عَنقُهُ.
28982-حَدَّثَنَا ابْنُ بَكْرٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : قَالَ عَطَاءٌ فِي الآِنْسَانِ يَكْفُرُ بَعْدَ إسْلاَمِهِ يُدْعَى إلَى الآِسْلاَمِ , فَإِنْ أَبَى قُتِلَ
28983-حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : أَخْبَرَنَي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ فِي الرَّجُلِ يَكْفُرُ بَعْدَ إيمَانِهِ قَالَ : سَمِعْت عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ : يُقْتَلُ.
28984-حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَن عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ.
مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 10 / ص 192)
28997-حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ ، عَن سِمَاكٍ ، عَن قَابُوسَ بْنِ مُخَارِقٍ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : بَعَثَ عَلِيٌّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ , فَكَتَبَ مُحَمَّدُ إلَى عَلِيٍّ يَسْأَلُهُ ، عَن زَنَادِقَةٍ مِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ غَيْرَ ذَلِكَ , وَمِنْهُمْ مَنْ يُدْعَى لِلآِسْلاَمِ , فَكَتَبَ عَلِيٌّ وَأَمَرَ بِالزَّنَادِقَةِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ يُدْعَى لِلآِسْلاَمِ , وَيُتْرَكُ سَائِرُهُمْ يَعْبُدُونَ مَا شَاءُوا
28998-حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَن عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ بَلَغَهُ ، أَنَّ عَلِيًّا أَخَذَ زَنَادِقَةً فَأَحْرَقَهُمْ , قَالَ : فَقَالَ : أَمَّا أَنَا فَلَوْ كُنْت لَمْ أُعَذِّبْهُمْ بِعَذَابِ اللهِ , وَلَوْ كُنْت أَنَا لَقَتَلْتهمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ.
فِي النَّصْرَانِيِّ يُسْلِمُ ، ثُمَّ يَرْتَدُّ
28999-حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ ، عَن شُعْبَةَ ، عَن سِمَاكٍ ، عَنِ ابْنِ عُبَيْدِ بْنِ الأَبْرَصِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ ، ثُمَّ تَنَصَّرَ , قَالَ : فَسَأَلَهُ ، عَن كَلِمَةٍ فَقَالَ لَهُ : , فَقَامَ إلَيْهِ عَلِيٌّ فَرَفَسَهُ بِرِجْلِهِ , فَقَامَ النَّاسُ إلَيْهِ فَضَرَبُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ.(2/22)
29000-حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَيَّانَ ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ قَالَ : حَدَّثَنَي أَبُو الطُّفَيْلِ قَالَ : كُنْت فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى بَنِي نَاجِيَةَ , قَالَ : فَانْتَهَيْنَا إلَيْهِمْ فَوَجَدْنَاهُمْ عَلَى ثَلاَثِ فِرَقٍ , قَالَ : فَقَالَ : أَمِيرُنَا لِفِرْقَةٍ مِنْهُمْ : مَا أَنْتُمْ ؟ قَالُوا : نَحْنُ قَوْمٌ مِنْ النَّصَارَى لَمْ نَرَ دِينًا أَفْضَلَ مِنْ دِينِنَا , فَثَبَتْنَا عَلَيْهِ , فَقَالَ : اعْتَزَلُوا ، ثُمَّ قَالَ لِفِرْقَةٍ أُخْرَى : مَا أَنْتُمْ ؟ قَالُوا : نَحْنُ قَوْمٌ كُنَّا نَصَارَى فَأَسْلَمْنَا فَثَبَتْنَا عَلَى الآِسْلاَمِ فَقَالَ : اعْتَزَلُوا ، ثُمَّ قَالَ لِلثَّالِثَةِ : مَا أَنْتُمْ ؟ فَقَالُوا : نَحْنُ قَوْمٌ كُنَّا نَصَارَى فَأَسْلَمْنَا ، ثُمَّ رَجَعَنا , فَلَمْ نَرَ دِينًا أَفْضَلَ مِنْ دِينِنَا الأَوَّلِ فَتَنَصَّرْنَا , فَقَالَ لَهُمْ : أَسْلِمُوا فَأَبَوْا , فَقَالَ : لاَِصْحَابِهِ : إذَا مَسَحْت عَلَى رَأْسِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَشُدُّوا عَلَيْهِمْ فَفَعَلُوا , فَقَتَلُوا الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَوْا الذُّرِّيَّةَ.
29001-حَدَّثَنَا شَرِيكٌ ، عَن لَيْثٍ ، عَن طَاوُوس ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لاَ تُسَاكِنُكُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى إلاَ أَنْ يُسْلِمُوا , فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ ، ثُمَّ ارْتَدَّ فَلاَ تَضْرِبُوا إلأَعَنقَهُ.
مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 12 / ص 141)
مَا قَالَوا فِي الرَّجُلِ يُسْلِمُ ، ثُمَّ يَرْتَدُّ مَا يُصْنَعُ بِهِ
32720-حَدَّثَنَا هِشَامٌ ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، قَالَ قَدِمَ نَاسٌ مِنْ عُرَيْنَةَ الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إلَى إبِلِ الصَّدَقَةِ فَتَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَفَعَلُوا وَاسْتَصْحَوْا ، قَالَ : فَمَالُوا عَلَى الرَّاعِي فَقَتَلُوهُمْ وَاسْتَاقُوا ذَوْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ , فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ فَأُتِيَ بِهِمْ فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وَتُرِكُوا بِالْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا.
32721-حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، عَنْ حُمَيْدٍ ، عَنْ أَنَسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ.
32722-حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ.
32723-حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ ، عَنْ سَعِيدٍ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَتَى أَبَا مُوسَى ، وَعَنْدَهُ رَجُلٌ يَهُودِيٌّ ، فَقَالَ : مَا هَذَا، قَالَ : هَذَا يَهُودِيٌّ أَسْلَمَ ، ثُمَّ ارْتَدَّ , وَقَدْ اسْتَتَابَهُ أَبُو مُوسَى شَهْرَيْنِ ، فَقَالَ : مُعَاذٌ : لاَ أَجْلِسُ حَتَّى أَضْرِبَ ، عَنْقَهُ , قَضَى اللَّهُ وَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم .
32724-حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ ، عَنْ زَكَرِيَّا ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ ، قَالَ : ارْتَدَّ عَلْقَمَةُ بْنُ عُلاَثَةَ ، عَنْ دِينِهِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَاتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ ، قَالَ : فَأَبَى أَنْ يَجْنَحَ لِلسَّلْمِ ، فَقَالَ : أَبُو بَكْرٍ : لاَ يُقْبَلُ مِنْك إِلاَّ سَلْمٌ مُخْزِيَةٌ ، أَوْ حَرْبٌ مُجْلِيَةٌ ، قَالَ ، فَقَالَ : وَمَا سَلْمٌ مُخْزِيَةٌ ، قَالَ : تَشْهَدُونَ عَلَى قَتْلاَنَا أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ ، وَأَنَّ قَتْلاَكُمْ فِي النَّارِ , وَتَدُونَ قَتْلاَنَا ، وَلاَ نَدِي قَتْلاَكُمْ , فَاخْتَارُوا سَلْمًا مُخْزِيَةً(2/23)
32725-حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَسْلَمَعْن طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ ، قَالَ : جَاءَ وَفْدُ بُزَاخَةَ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ إلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلُونَهُ الصُّلْحَ , فَخَيَّرَهُمْ أَبُو بَكْرٍ بَيْنَ الْحَرْبِ الْمُجْلِيَةِ ، أَوْ السَّلْمِ الْمُخْزِيَةِ ، قَالَ : فَقَالُوا : هَذَا الْحَرْبُ الْمُجْلِيَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا , فَمَا السَّلْمُ الْمُخْزِيَةُ، قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ : تُؤَدُّونَ الْحَلْقَةَ وَالْكُرَاعَ , وَتَتْرُكُونَ أَقْوَامًا تَتَّبِعُونَ أَذْنَابَ الإِبِلِ حَتَّى يَرَى اللَّهُ خَلِيفَةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ أَمْرًا يَعْذِرُونَكُمْ بِهِ , وَتَدُونَ قَتْلاَنَا ، وَلاَ نَدِي قَتْلاَكُمْ , وَقَتْلاَنَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلاَكُمْ فِي النَّارِ , وَتَرُدُّونَ مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا وَنَغْنَمُ مَا أَصَبْنَا مِنْكُمْ ، فَقَالَ : عُمَرُ ، فَقَالَ : قَدْ رَأَيْت رَأْيًا , وَسَنُشِيرُ عَلَيْك , أَمَّا أَنْ يُؤَدُّوا الْحَلْقَةَ وَالْكُرَاعَ فَنِعْمَ مَا رَأَيْت , وَأَمَّا أَنْ يَتْرُكُوا أَقْوَامًا يَتَّبِعُونَ أَذْنَابَ الإِبِلِ حَتَّى يَرَى اللَّهُ خَلِيفَةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ أَمْرًا يَعْذِرُونَهُمْ بِهِ فَنِعْمَ مَا رَأَيْت , وَأَمَّا أَنْ نَغْنَمَ مَا أَصَبْنَا مِنْهُمْ وَيَرُدُّونَ مَا أَصَابُوا مِنَّا فَنِعْمَ مَا رَأَيْت , وَأَمَّا ، أَنَّ قَتْلاَهُمْ فِي النَّارِ وَقَتْلاَنَا فِي الْجَنَّةِ فَنِعْمَ مَا رَأَيْت , وَأَمَّا أَنْ لاَ نَدِيَ قَتْلاَهُمْ فَنِعْمَ مَا رَأَيْت , وَأَمَّا أَنْ يَدُوا قَتْلاَنَا فَلاَ , قَتْلاَنَا قُتِلُوا ، عَنْ أَمْرِ اللهِ فَلاَ دِيَاتٍ لَهُمْ , فَتَتَابَعَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ.
32726-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إدْرِيسَ ، عَنْ أَشْعَثَ ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، قَالَ : ارْتَدَّ عَلْقَمَةُ بْنُ عُلاَثَةَ فَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ إلَى امْرَأَتِهِ وَوَلَدِهِ ، فَقَالَتْ : إنْ كَانَ عَلْقَمَةُ كَفَرَ فَإِنِّي لَمْ أَكْفُرْ أَنَا ، وَلاَ وَلَدِي , فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلشَّعْبِيِّ ، فَقَالَ : هَكَذَا فَعَلَ بِهِمْ ، يَعَنْي بِأَهْلِ الرِّدَّةِ.
مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 12 / ص 253)
33137-حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ ذَكَرَ نَاسًا أَحْرَقَهُمْ عَلِيٌّ ، فَقَالَ : لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أَحْرِقْهُمْ بِالنَّارِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللهِ , وَلَوْ كُنْت أَنَا لَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ.
مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 14 / ص 84)
36491-حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ .
36492-حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ : الثَّيِّبُ الزَّانِي , وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ , وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ .
36493-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إدْرِيسَ ، عَنْ هِشَامٍ ، عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ فِي الْمُرْتَدَّةِ : تُسْتَتَابُ , فَإِنْ تَابَتْ وَإِلاَ قُتِلَتْ .
36494-حَدَّثَنَا حَفْصٌ ، عَنْ عُبَيْدَةَ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ ، قَالَ : تُقْتَلُ .
36495-حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ حَمَّادٍ ، قَالَ : تُقْتَلُ
مسند أحمد - (ج 4 / ص 425)
1899- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيًّا حَرَّقَ نَاساً ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلاَمِ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَمْ أَكُنْ لأُحَرِّقَهُمْ بِالنَّارِ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ ». وَكُنْتُ قَاتِلَهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ». فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَقَالَ وَيْحَ ابْنِ أُمِّ ابْنِ عَبَّاسٍ. تحفة 5987 معتلى 3603
مسند أحمد - (ج 6 / ص 126)
2600- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيًّا أُتِىَ بِقَوْمٍ مِنْ هَؤُلاَءِ الزَّنَادِقَةِ وَمَعَهُمْ كُتُبٌ فَأَمَرَ بِنَارٍ فَأُجِّجَتْ ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ وَكُتُبَهُمْ - قَالَ عِكْرِمَةُ - فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِنَهْىِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ». وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ». تحفة 5987 معتلى 3603
مسند أحمد - (ج 6 / ص 127)(2/24)
2601- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيًّا أَخَذَ نَاساً ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلاَمِ فَحَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَحَداً ». وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ». فَبَلَغَ عَلِيًّا مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ وَيْحَ ابْنِ أُمِّ ابْنِ عَبَّاسٍ. تحفة 5987 معتلى 3603
مسند أحمد - (ج 7 / ص 48)
3022- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِى عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَلِيًّا أُتِىَ بِأُنَاسٍ مِنَ الزُّطِّ يَعْبُدُونَ وَثَناً فَأَحْرَقَهُمْ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ». {1/323} تحفة 5362 معتلى 3200
مسند أحمد - (ج 48 / ص 113)
22664- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ الْعَدَوِىِّ عَنْ أَبِى بُرْدَةَ قَالَ قَدِمَ عَلَى أَبِى مُوسَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِالْيَمَنِ فَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ قَالَ مَا هَذَا قَالَ رَجُلٌ كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ وَنَحْنُ نُرِيدُهُ عَلَى الإِسْلاَمِ مُنْذُ - قَالَ أَحْسَبُهُ - شَهْرَيْنِ. فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَقْعُدُ حَتَّى تَضْرِبُوا عُنُقَهُ. فَضَرَبْتُ عُنُقَهُ فَقَالَ قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَّ مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَاقْتُلُوهُ أَوْ قَالَ « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ». تحفة 11327 معتلى 7212
المعجم الكبير للطبراني - (ج 9 / ص 138)
10490 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بن أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بن عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أُتِيَ بناسٍ مِنَ الزُّطِّ يَعْبُدُونَ وَثَنًا، فَحَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ.
المعجم الكبير للطبراني - (ج 10 / ص 5)
11669 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بن عَلِيٍّ الْمَعْمَرِيُّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بن الْفَضْلِ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بن الْعَوَّامِ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ.
المعجم الكبير للطبراني - (ج 14 / ص 353)
16357 - حَدَّثَنَا دَاوُدُ بن مُحَمَّدِ بن صَالِحٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا حَوْثَرَةُ بن أَشْرَسَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بن سَلَمَةَ، عَنْ بَهْزِ بن حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ، لا يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَةَ عَبْدِ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلامِهِ"
المعجم الكبير للطبراني - (ج 20 / ص 3)
1208 - حَدَّثَنَا مَسْعُودُ بن مُحَمَّدٍ الرَّمْلِيُّ، نا عِمْرَانُ بن هَارُونَ، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي بُكَيْرُ بن عَبْدِ اللَّهِ بن الأَشَجِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بن يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ"، لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ بُكَيْرٍ، إلا ابْنُ لَهِيعَةَ
السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 8 / ص 195)
17270- أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ : مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِىُّ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِى تَمِيمَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : لَمَّا بَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَلِيًّا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ حَرَّقَ الْمُرْتَدِّينَ أَوِ الزَّنَادِقَةَ قَالَ : لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ». وَلَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« لاَ يَنْبَغِى لأَحَدٍ أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ ». رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ فِى الصَّحِيحِ عَنْ عَلِىِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سُفْيَانَ.(2/25)
17271- أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِى عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الأَصَمُّ حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِى مَالِكٌ وَدَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ ح وَأَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ أَبِى إِسْحَاقَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَسَنِ قَالاَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِىُّ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ ».
17272- أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ السَّمَّاكِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَارِثِىُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ ح وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَلِىٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرُّوذْبَارِىُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمُسَدَّدٌ قَالاَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ قَالَ قَالَ أَبُو مُوسَى : أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- وَمَعِى رَجُلاَنِ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِى وَالآخَرُ عَنْ يَسَارِى وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَاكُ فَكِلاَهُمَا سَأَلَ الْعَمَلَ وَالنَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- سَاكِتٌ فَقَالَ :« مَا تَقُولُ يَا أَبَا مُوسَى أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ؟ ». قُلْتُ : وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَطْلَعَانِى عَلَى مَا فِى أَنْفُسِهِمَا وَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُمَا يَطُلبَانِ الْعَمَلَ قَالَ وَكَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى سِوَاكِهِ تَحْتَ شَفَتِهِ قَلَصَتْ قَالَ :« لَنْ أَسْتَعْمِلَ أَوْ لاَ أَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ يَا أَبَا مُوسَى أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ ». فَبَعَثَهُ عَلَى الْيَمَنِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ مُعَاذٌ قَالَ انْزِلْ وَأَلْقَى لَهُ وِسَادَةً وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ قَالَ مَا هَذَا قَالَ هَذَا كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ رَاجَعَ دِينَهُ دِينَ السَّوْءِ قَالَ لاَ أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلاَثَ مِرَارٍ وَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ ثُمَّ تَذَاكَرَا قِيَامَ اللَّيْلِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ وَأَقُومُ أَوْ أَقُومُ وَأَنَامُ وَأَرْجُو فِى نَوْمَتِى مَا أَرْجُو فِى قَوْمَتِى. رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ فِى الصَّحِيحِ عَنْ مُسَدَّدٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِى قُدَامَةَ وَغَيْرِهِ عَنْ يَحْيَى.
السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 8 / ص 202)
17310- أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ ح وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ : عَلِىُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِى قَالاَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ : أَنَّ عَلِيًّا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِىَ بِقَوْمٍ مِنَ الزَّنَادِقَةِ فَحَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : أَمَّا أَنَا فَلَوْ كُنْتُ لَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- وَلَمَا حَرَقْتُهُمْ لِنَهْىِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ». وَقَالَ « لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ». لَفْظُ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ وَفِى رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بِقَوْمٍ مِنَ الزَّنَادِقَةِ أَوْ مُرْتَدِّينَ فَأَمَرَ بِهِمْ فَحُرِّقُوا. رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ فِى الصَّحِيحِ عَنْ أَبِى النُّعْمَانِ عَنْ حَمَّادٍ.
17311- وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ ح وَأَخْبَرَنَا عَلِىُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِى قَالاَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَ هَذَا وَزَادَ فِيهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : وَيْحَ ابْنِ أُمِّ الْفَضْلِ إِنَّهُ لَغَوَّاصٌ عَلَى الْهَنَاتِ.(2/26)
17312- أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِىُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ الإِسْفَرَائِينِىُّ بِهَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِى بَكْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِىِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ عَلِيًّا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِىَ بِنَاسٍ مِنَ الزُّطِّ يَعْبُدُونَ وَثَنًا فَحَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ».
17313- أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ : الْحَسَنُ بْنُ عَلِىِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ الْمَاسَرْجِسِىُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ : عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِىُّ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ : مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« لاَ يَحِلُّ دَمُ رَجُلٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ أَحَدُ ثَلاَثَةِ نَفَرٍ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِى وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ ». أَخْرَجَاهُ فِى الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الأَعْمَشِ.
17312- أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِىُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ الإِسْفَرَائِينِىُّ بِهَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِى بَكْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِىِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ عَلِيًّا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِىَ بِنَاسٍ مِنَ الزُّطِّ يَعْبُدُونَ وَثَنًا فَحَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ».
17313- أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ : الْحَسَنُ بْنُ عَلِىِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ الْمَاسَرْجِسِىُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ : عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِىُّ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ : مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« لاَ يَحِلُّ دَمُ رَجُلٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ أَحَدُ ثَلاَثَةِ نَفَرٍ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِى وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ ». أَخْرَجَاهُ فِى الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الأَعْمَشِ.
17331- اسْتِدْلاَلاً بِظَاهِرِ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الْفَقِيهُ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ». {ت} وَرُوِّينَاهُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِّينَا مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم-.
السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 9 / ص 71)
18523- أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو : مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبِسْطَامِىُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِىُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَغَوِىُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ : رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ وَأَيُّوبَ وَعَمَّارَ الدُّهْنِىَّ اجْتَمَعُوا فَتَذَاكَرُوا الَّذِينَ حَرَّقَهُمْ عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَحَدَّثَ أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ بَلَغَهُ قَالَ : لَوْ كُنْتُ أَنَا مَا حَرَّقْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ ». وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ». فَقَالَ عَمَّارٌ : لَمْ يُحَرِّقْهُمْ وَلَكِنْ حَفَرَ لَهُمْ حَفَائِرَ وَخَرَقَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ دَخَّنَ عَلَيْهِمْ حَتَّى مَاتُوا فَقَالَ عَمْرٌو قَالَ الشَّاعِرُ لِتَرْمِ بِىَ الْمَنَايَا حَيْثُ شَاءَتْ إِذَا لَمْ تَرْمِ بِى فِى الْحُفْرَتَيْنِ إِذَا مَا أَجَّجُوا حَطَبًا وَنَارًا هُنَاكَ الْمَوْتُ نَقْدًا غَيْرَ دَيْنِ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ فِى الصَّحِيحِ عَنْ عَلِىِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سُفْيَانَ دُونَ قَوْلِ عَمَّارٍ وَعَمْرٍو.
مسند البزار 1-14 - (ج 7 / ص 1)
4686- حَدَّثنا بشر بن آدم ومحمد بن يحيى القطعي قالا : حَدَّثنا عَبد الصمد ، قال : حَدَّثنا هشام عن قتادة ، عَن أنس أن عليا ، رَضِي الله عنه ، أتي بناس من الزط فأراد أن يحرقهم فقال ابن عباس : قال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم : من بدل دينه فاقتلوه.(2/27)
وهذا الحديث لا نعلم رواه إلاَّ عَبد الصمد ولا أسند أنس ، عَن ابنِ عباس إلاَّ هذا الحديث.
أبو الطفيل ، عَن ابنِ عباس
-------------------------------
خ( 2853 و2854 و و6524 ) ود( 4351-4365 ) وت ( 1458 ) وهـ ( 2535 ) وحم1/217 و282 و322 و5/231 ( 1871 و2551 و2968 و22068 ) والحميدي ( 533) وقط3/113 ( 3229 و3247 ) وك( 6295) وهق8/195 و202 و204 و9/71 ( 17270و17310 و17312 و17331 و18523 ) والمنتقى (843) والإحسان (4475و4476) ونص 7/104 و105(4059- 4067) ومجمع 6/261 وف 320 ون(3521-3530) وش(28977-29001-32720- 32782-33136-33147 -36491 -36495) وطس ( 8623) والحارث (509) وطيا (2689) وع(2533) وطب (10638 و11835 ) و17/186(497) و 19/ 419( 1013) وعب (9413)
هذا حديث متواتر
================(2/28)
الباب الثاني
شرح الحديث
قال ابن عبد البر :(1)
حديث تاسع وأربعون لزيد بن أسلم مرسل مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من غير دينه فاضربوا عنقه ( 1 ) هكذا رواه جماعة رواة الموطأ مرسلا ولا يصح فيه عن مالك غير هذا الحديث المرسل عن زيد بن أسلم وقد روى فيه عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من بدل دينه فاقتلوه وهو منكر عندي والله أعلم والحديث معروف ثابت مسند صحيح من حديث ابن عباس حدثنا أبو محمد عبدالله بن محمد قال حدثنا سعيد بن السكن قال حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري قال حدثنا أبو النعمان قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال
أتى على بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال لو كنت أنا ما أحرقتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعذبوا بعذاب الله ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه ( 1 ) وحدثنا عبدالله بن محمد بن عبد المومن قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال أخبرنا أيوب عن عكرمة أن عليا أحرق ناسا ارتدوا عن الإسلام فبلغ ذلك ابن عباس فقال لم أكن لأحرقهم بالنار لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تعذبوا بعذاب الله وكنت قاتلهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه فبلغ ذلك عليا فقال ويح أم ابن عباس ( 2 ) قال أبو عمر روي من وجوه أن عليا إنما حرقهم بالنار بعد ضرب أعناقهم وسنذكر بعض الأخبار بذلك في آخر هذا الباب إن شاء الله
وفقه هذا الحديث أن من ارتد عن دينه حل دمه وضربت عنقه والأمة مجتمعة على ذلك وإنما اختلفوا في استتابته فطائفة منهم ( قالت لا يستتاب على ظاهر هذا الحديث ويقتل ) وطائفة منهم قالت يستتاب بساعة واحدة ومرة واحدة ووقتا واحدا وقال آخرون يستتاب شهرا وقال آخرون يستتاب ثلاثا على ما روي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود ولم يستتب ابن مسعود وابن النواحة وحده لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا أنك رسول لقتلتك قال له وأنت اليوم لست برسول واستتاب غيره ( 1 ) روى مالك عن عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله بن عبد القاري عن أبيه أنه قال قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عمر عن الناس فأخبره ثم قال له عمر هل من مغربة ( 2 ) خبر قال نعم رجل كفر بعد إسلامه قال فماذا فعلتم به قال قربناه فضربنا عنقه فقال عمر فهلا حبستموه ( 3 ) ثلاثا وأطعمتموه
كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذا بلغني ( 1 ) أخبرنا خلف بن القاسم قال حدثنا ابن أبي العقيب قال حدثنا أبو زرعة قال حدثنا أحمد ابن خالد قال حدثنا محمد بن إسحاق عن عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله بن عبد القاري عن أبيه قال قدم وفد أهل البصرة على عمر فأخبروه بفتح تستر فحمد الله ثم قال هل حدث فيكم حدث فقالوا لا والله يا أمير المؤمنين إلا رجل ارتد عن دينه فقتلناه قال ويلكم أعجزتم أن تطبقوا عليه بيتا ثلاثا ثم تلقوا إليه كل يوم رغيفا فإن تاب قبلتم منه وإن أقام كنتم قد أعذرتم إليه اللهم إني لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذ بلغني ( 2 ) وروى داود بن أبي هند عن الشعبي عن أنس بن مالك أن نفرا من بكر بن وائل ارتدوا عن الإسلام يوم تستر ولحقوا بالمشركين فلما فتحت قتلوا في القتال قال فأتيت عمر بفتحها فقال ما فعل النفر من بكر بن وائل فعرضت في حديث لأشغله عن ذكرهم فقال ما فعل النفر من بكر بن وائل قلت قتلوا قال لأن أكون ( كنت ) أخذتهم سلما أحب إلي مما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء قلت وهل كان سبيلهم إلا القتل ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين قال كنت أعرض عليهم أن يدخلوا في الباب الذي خرجوا منه فإن فعلوا قبلت منهم وإلا استودعتهم السجن ( 1 ) وروى أبو معاوية عن الأعمش عن أبي عمرو الشيباني أن عليا أتى بالمستورد العجلي وقد ارتد عن الإسلام فاستتابه فأبى أن يتوب فقتله ( 2 ) وروى عبادة ( 3 )
عن العلاء أبي محمد ( 1 ) أن عليا أخذ رجلا من بكر بن وائل تنصر بعد الإسلام فعرض عليه الإسلام شهرا فأبى فأمر بقتله ( 2 ) ولا أعلم بين الصحابة خلافا في استتابة المرتد فدل ذلك على أن معنى الحديث والله أعلم من بدل دينه وأقام على تبديله فاقتلوه وأما أقاويل الفقهاء فروى ابن القاسم عن مالك قال يعرض على المرتد الإسلام ثلاثا فإن أسلم وإلا قتل قال وإن ارتد سرا قتل ولم يستتب كما تقتل الزنادقة قال وإنما يستتاب من أظهر دينه الذي ارتد إليه قال مالك ويقتل الزنادقة ولا يستتابون والقدرية يستتابون قال فقيل لمالك كيف يستتابون قال يقال لهم أتركوا ما أنتم عليه فإن فعلوا وإلا قتلوا ( وقال ابن وهب عن مالك ليس في استتابة أمر من جماعة الناس )
__________
(1) - التمهيد لابن عبد البر ج: 5 ص: 304
أخبرنا أحمد بن محمد قال حدثنا الحسن بن سلمة حدثنا عبدالله بن الجارود قال حدثنا إسحاق بن قال سمعت أحمد بن حنبل يقول المرتد يستتاب ثلاثا والمرتدة تستتاب ثلاثا والزنديق لا يستتاب قال إسحاق وقال لي إسحاق بن راهويه كما قال أحمد سواء قال أبو عمر هذا مذهب مالك سواء وقال الشافعي يستتاب المرتد ظاهرا والزنديق جميعا فمن لم يتب منهما قتل وفي الإستتابة ثلاثا قولان أحدهما حديث عمر والآخر أنه لا يؤخر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر فيه بأناة وهذا ظاهر الخبر قال الشافعي ولو شهد عليه شاهدان بالردة فأنكر قتل فإن أقر أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتبرأ من كل دين خالف الإسلام لم يكشف عن غيره والمشهور من قول أبي حنيفة وأصحابه أن المرتد لا يقتل حتى يستتاب وهو قول ابن علية قالوا ومن قتله قبل أن يستتاب فقد أساء ولا ضمان عليه وقد روى محمد بن الحسن في السير عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل فإن طلب ذلك أجل ثلاثة أيام(2/29)
والزنديق عندهم والمرتد سواء إلا أن أبا يوسف لما رأى ما يصنع الزنادقة وأنهم يعودون بعد الإستتابة قال أرى إذا أتيت بزنديق أمرت بضرب عنقه ولا أستتيبه فإن تاب قبل أن أقتله لم أقتله وخليته وقال الليث بن سعد وطائفة معه لا يستتاب من ولد في الإسلام ثم ارتد إذا شهد عليه ولكنه يقتل تاب من ذلك أو لم يتب إذا قامت البينة العادلة وقال الحسن يستتاب المرتد مائة مرة وقد روى عنه أنه يقتل دون استتابة وذكر سحنون أن عبد العزيز بن أبي سلمة كان يقول يقتل المرتد ولا يستتاب ويحتج بحديث معاذ مع أبي موسى الأشعري وقد ذكرناه في آخر هذا الباب قال أبو عمر ظاهر هذا الحديث يشهد لما ذهب إليه الليث بن سعد إلا أنه عم كل من بدل دينه سواء ولد في الإسلام أو لم يولد والحديث عندي فيه مضمر وذلك لما صنعه الصحابة رضي الله عنهم من الإستتابة لأنهم لم يكونوا يجهلون معنى الحديث فكأن معنى الحديث والله أعلم من بدل دينه فاقتلوه إن لم يتب وقال مالك رحمه الله إنما عنى بهذا الحديث من خرج من الإسلام إلى الكفر وأما من خرج من اليهودية أو النصرانية أو من كفر إلى كفر فلم يعن بهذا الحديث ( 1 ) وعلى قول مالك هذا جماعة الفقهاء إلا أن الشافعي رحمه الله قال إذا كان المبدل لدينه من أهل الذمة كان للإمام أن يخرجه من بلده ويلحقه بأرض الحرب وجاز له استحلال ماله مع أموال الحربيين إن غلب على الدار لأنه إنما جعل له الذمة على الدين الذي كان عليه في حين عقد العهد له هكذا حكاه المزني وغيره من أصحابه عنه وهو المعروف من مذهبه وحكى عنه محمد بن عبدالله بن عبد الحكم أن الذمي إذا خرج من دين إلى دين كان للإمام قتله بظاهر الحديث والمشهور عنه ما قدمنا ذكره من رواية المزني والربيع وغيرهما عنه وقالت فرقة إذا ارتد استتيب فإن تاب قبل منه ثم إن ارتد فكذلك إلى الرابعة ثم يقتل ولا يستتاب وروي عن الحسن أنه يقتل إلا أن يتوب قبل أن يرفع إلى الإمام وإن لم يتب حتى يصير إلى الإمام قتل وكانت توبته بينه وبين الله جعله حدا من الحدود ولا يسع الإمام إلا أن يقيمه واختلف الفقهاء أيضا في المرتدة فقال مالك والأوزاعي وعثمان البتي والشافعي والليث بن سعد تقتل المرتدة كما يقتل المرتد سواء وهو قول إبراهيم النخعي وحجتهم ظاهر هذا الحديث لأنه لم يخص ذكرا من أنثى ومن تصلح للواحد والاثنين والجمع والذكر والأنثى وقال لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان ( 1 ) فعم كل من كفر بعد إيمانه وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه لا تقتل المرتدة وهو قول ابن شبرمة وإليه ذهب ابن علية وقال ابن شبرمة إن تنصرت المسلمة فتزوجها نصراني جاز وحجة من قال لا تقتل المرتدة أن ابن عباس روى هذا الحديث وقال لا تقتل المرتدة ومن روى حديثا كان أعلم بتأويله وقول ابن عباس في ذلك رواه الثوري وأبو حنيفة عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس ( 2 ) وروى قتادة عن خلاص عن علي مثله ( 3 ) وهو قول الحسن وعطاء ومن حجتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والولدان ( 4 ) وأن أبا بكر رضي الله عنه سبى نساء أهل الردة وقالوا معنى قوله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه إنما هو على كل من كان حكمه إذا قدر عليه القتل على كفره والمرأة ليس حكمها القتل على كفرها وإنما حكمها السبي والإسترقاق فلا تدخل في تأويل هذا الحديث لنهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان وسيأتي القول في هذا الحديث في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله وروى ابن المبارك عن معمر عن الزهري في المرتدة قال تقتل وقال قتادة تسبى لأن أبا بكر قتل أهل الردة وسبى نساءهم قال معمر كانت دار شرك أخبرنا خلف بن القاسم حدثنا عبدالله بن جعفر بن الورد حدثنا عبدالله بن أحمد ابن عبد السلام حدثنا عبدالله بن أبي شيبة حدثنا يعقوب ابن محمد الزهري حدثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة عن مجاهد بن سعيد عن عامر الشعبي قال ارتدت بنو عامر وقتلوا من كان فيهم من عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرقوهم بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد رضي الله عنهما أن يقتل بني عامر ويحرقهم بالنار ( 1 ) ولما ارتد الفجأة واسمه إياس بن عبدالله بن عبد ياليل بعث إليه أبو بكر الصديق الزبير بن العوام في ثلاثين فارسا وبيته ليلا فأخذه فقدم به على أبي بكر فقال أبو بكر أخرجوه إلى البقيع يعني إلى المصلى فأحرقوه بالنار فأخرجوه إلى المصلى فأحرقوه وزعم بعض أهل السير أنه رفع عليه أنه كان ينكح كما تنكح المرأة ذكر ذلك كله يعقوب بن محمد الزهري في كتاب الردة قال وحدثني عبد العزيز بن أبي حازم عن داود ابن بكر عن محمد بن المنكدر أن خالدا كتب إلى أبي بكر يذكر أنه وجد في بعض نواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة فاستشار فيه أبو بكر فكان علي من أشدهم فيه قولا فقال إن هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم أرى أن تحرقوه بالنار فأجمع رأيهم على ذلك فكتب أبو بكر إلى خالد فحرقه قال وحدثني معن بن عيسى عن معاوية بن صالح عن عياض بن عبدالله قال لما استشارهم أبو بكر قالوا نرى أن ترجمه فقال علي أرى أن تحرقوه فإن العرب تأنف من المثلة ولا تأنف من الحدود فحرقوه وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب في ردة أسد وغطفان يوم بزاخة ( 1 ) قال فاقتتلوا يعني هم والمسلمون قتالا شديدا وقتل المسلمون من العدو بشرا كثيرا وأسروا منهم أسارى فأمر خالد بالحظيرة أن تبنى ثم أوقد تحتها نارا عظيمة فألقى الأسارى فيها وروى شيبان عن قتادة عن أنس قال قاتل أبو بكر أهل الردة فقتل وسبى وحرق حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا أيوب(2/30)
قال حدثنا عكرمة قال لما بلغ ابن عباس أن عليا أحرق المرتدين يعني الزنادقة قال لو كنت أنا لقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه ولم أحرقهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يعذب بعذاب الله قال سفيان فقال عمار الدهني ( 1 ) وكان في المجلس مجلس عمرو بن دينار وأيوب يحدث بهذا الحديث أن عليا لم يحرقهم بالنار إنما حفر لهم أسرابا فكان يدخن عليهم منها حتى قتلهم فقال عمرو بن دينار أما سمعت قائلهم وهو يقول
% لترم بي المنايا حيث شاءت % إذا لم ترم بي في مرتين % % إذا ما أوقدوا حطبا ونارا % فذاك الموت نقدا غير % وروى حامد بن يحيى عن سفيان عن مسعر عن عطاء بن أبي مروان أن هذا الشعر للنجاشي قاله إذ لحق بمعاوية فارا في حيث ضرب على له في الخمر مائة جلدة قال أبو عمر قد روينا من وجوه أن عليا إنما أحرقهم بعد قتلهم ذكر العقيلي قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا شبابة وذكره أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني محمد بن حاتم قال حدثنا شبابة بن سوار قال حدثنا خارجة بن مصعب عن سلام بن أبي القاسم عن عثمان بن أبي عثمان الأنصاري ( 2 ) قال جاء ناس من الشيعة إلى علي فقالوا يا أمير المؤمنين أنت هو قال من أنا قالوا أنت هو قال ويلكم من أنا قالوا أنت ربنا قال ويلكم ارجعوا فتوبوا فأبوا فضرب أعناقهم ثم قال يا قنبر ائتني بحزم الحطب فحفر لهم في الأرض اخدودا فأحرقهم بالنار ثم قال % لما رأيت الأمر أمرا منكرا % أججت ناري ودعوت قنبرا ( 1 ) % قال أبو عمر روى عثمان بن عفان وسهل بن حنيف وعبدالله بن مسعود وطلحة بن عبيدالله وعائشة وجماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس ( 2 ) فالقتل بالردة على ما ذكرنا لا خلاف بين المسلمين فيه ولا اختلفت الرواية والسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه وإنما وقع الاختلاف في الاستتابة وفيما ذكرنا من المرتدة قال أبو عمر احتج من قال يقتل المرتد إذا ارتد ثالثة أو رابعة بقول الله عز وجل !< إن الذين آمنوا ثم كفروا >! الآية والقياس أن من ولد على الفطرة أحق أن يستتاب لأنه لا يعرف غير الإسلام واحتج من لم ير استتابة المرتد
وقال يقتل على ظاهر هذا الحديث دون استتابة بحديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على اليمن ثم اتبعه معاذ بن جبل فقدم معاذ فوجد عنده رجلا مقيدا بالحديد فقال ما شأن هذا فقال هذا كان يهوديا فأسلم ثم ارتد وراجع دينه دين السوء فقال معاذ لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله فقال له أبو موسى اجلس فقال لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله قال فأمر به فقتل رواه يحيى القطان عن قرة بن خالد عن حميد بن هلال عن أبي بردة عن أبي موسى ( 1 ) وروى من وجوه عن أبي موسى إلا أن بعضهم قال فيه أنه قد كان استتيب قبل ذلك أياما ( 2 ) واحتج من رأى الاستتابة ( بهذا الحديث وهو ) ما حدثنا عبدالله بن محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن محمد المروزي قال حدثنا علي بن الحسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال كان عبدالله بن سعد يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم الفتح فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ( 1 ) وأما ميراث المرتد فقد اختلف العلماء فيه والصحيح عندنا أن ميراثه في بيت المال لا يرثه أحد من ورثته لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر ( 2 ) وسنبين ذلك ونذكر أقاويل السلف فيه عند ذكرنا حديث ابن شهاب عن علي بن حسين في كتابنا ( 3 ) هذا إن شاء الله والله المستعان
==========
وفي فتح الباري :(1)
2794 - قَوْله : ( عَنْ أَيُّوب )
صَرَّحَ الْحُمَيْدِيُّ عَنْ سُفْيَان بِتَحْدِيثِ أَيُّوب لَهُ بِهِ .
قَوْله : ( أَنَّ عَلِيًّا حَرَقَ قَوْمًا )
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 9 / ص 231)(2/31)
فِي رِوَايَة الْحُمَيْدِيِّ الْمَذْكُورَة " أَنَّ عَلِيًّا أَحْرَقَ الْمُرْتَدِّينَ " يَعْنِي الزَّنَادِقَة . وَفِي رِوَايَة اِبْن أَبِي عُمَر وَمُحَمَّد بْن عَبَّاد عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ جَمِيعًا عَنْ سُفْيَان قَالَ " رَأَيْت عَمْرو بْن دِينَار وَأَيُّوب وَعَمَّارًا الدُّهْنِيّ اِجْتَمَعُوا فَتَذَّكَّرُوا الَّذِينَ حَرَقَهُمْ عَلِيّ ، فَقَالَ أَيُّوب " فَذَكَرَ الْحَدِيث " فَقَالَ عَمَّار لَمْ يَحْرُقهُمْ ، وَلَكِنْ حَفَرَ لَهُمْ حَفَائِر وَخَرَقَ بَعْضهَا إِلَى بَعْض ثُمَّ دَخَّنَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ عَمْرو بْن دِينَار قَالَ الشَّاعِر : لِتَرْمِ بِي الْمَنَايَا حَيْثُ شَاءَتْ إِذَا لَمْ تَرْمِ بِي فِي الْحُفْرَتَيْنِ إِذَا مَا أَجَّجُوا حَطَبًا وَنَارًا هُنَاكَ الْمَوْت نَقْدًا غَيْر دَيْن اِنْتَهَى . وَكَأَنَّ عَمْرو بْن دِينَار أَرَادَ بِذَلِكَ الرَّدّ عَلَى عَمَّار الدُّهْنِيّ فِي إِنْكَاره أَصْل التَّحْرِيق . ثُمَّ وَجَدْت فِي الْجُزْء الثَّالِث مِنْ حَدِيث أَبِي طَاهِر الْمُخْلِص " حَدَّثَنَا لُوَيْنٌ حَدَّثَنَا سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ " فَذَكَرَهُ عَنْ أَيُّوب وَحْده ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ عَنْ عَمَّار وَحْده ، قَالَ اِبْن عُيَيْنَةَ : فَذَكَرْته لِعَمْرِو بْن دِينَار فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ " فَأَيْنَ قَوْله : أَوْقَدْت نَارِي وَدَعَوْت قَنْبَرًا " فَظَهَرَ بِهَذَا صِحَّة مَا كُنْت ظَنَنْته ، وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ فِي اِسْتِتَابَة الْمُرْتَدِّينَ فِي آخِر الْحُدُود مِنْ طَرِيق حَمَّاد بْن زَيْد عَنْ أَيُّوب عَنْ عِكْرِمَة قَالَ " أُتِيَ عَلِيّ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ " وَلِأَحْمَد مِنْ هَذَا الْوَجْه " أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِقَوْمٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَة وَمَعَهُمْ كُتُبٌ ، فَأَمَرَ بِنَارٍ فَأُجِّجَتْ ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ وَكُتُبَهمْ " وَرَوَى اِبْن أَبِي شَيْبَة مِنْ طَرِيق عَبْد الرَّحْمَن بْن عُبَيْد عَنْ أَبِيهِ قَالَ " كَانَ نَاس يَعْبُدُونَ الْأَصْنَام فِي السِّرّ وَيَأْخُذُونَ الْعَطَاء ، فَأَتَى بِهِمْ عَلِيٌّ فَوَضَعَهُمْ فِي السِّجْن وَاسْتَشَارَ النَّاس ، فَقَالُوا : اُقْتُلْهُمْ ، فَقَالَ : لَا بَلْ أَصْنَع بِهِمْ كَمَا صُنِعَ بِأَبِينَا إِبْرَاهِيم ، فَحَرَقَهُمْ بِالنَّارِ " .
قَوْله : ( لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّه )
هَذَا أَصْرَحُ فِي النَّهْي مِنْ الَّذِي قَبْله ، وَزَادَ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَر عَنْ أَيُّوب فِي آخِره " فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ : وَيْح اِبْن عَبَّاس " وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَى قَوْله " مَنْ بَدَّلَ دِينه فَاقْتُلُوهُ " فِي اِسْتِتَابَة الْمُرْتَدِّينَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
وقال أيضاً :(1)
6411 - قَوْله ( أَيُّوب )
هُوَ السِّخْتِيَانِيّ وَعِكْرِمَة هُوَ مَوْلَى اِبْن عَبَّاس .
قَوْله ( أُتِيَ عَلِيّ )
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 19 / ص 379)(2/32)
هُوَ اِبْن أَبِي طَالِب ، تَقَدَّمَ فِي " بَاب لَا يُعَذَّب بِعَذَابِ اللَّه " مِنْ كِتَاب الْجِهَاد مِنْ طَرِيق سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ عَنْ أَيُّوب بِهَذَا السَّنَد أَنَّ عَلِيًّا حَرَقَ قَوْمًا ، وَذَكَرْت هُنَاكَ أَنَّ الْحُمَيْدِيّ رَوَاهُ عَنْ سُفْيَان بِلَفْظِ " حَرَقَ الْمُرْتَدِّينَ " وَمِنْ وَجْه آخَر عِنْد اِبْن أَبِي شَيْبَة " كَانَ أُنَاس يَعْبُدُونَ الْأَصْنَام فِي السِّرّ " وَعِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط مِنْ طَرِيق سُوَيْد بْن غَفَلَة " أَنَّ عَلِيًّا بَلَغَهُ أَنَّ قَوْمًا اِرْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَام فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ فَأَطْعَمَهُمْ ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَام فَأَبَوْا ، فَحَفَرَ حَفِيرَة ثُمَّ أَتَى بِهِمْ فَضَرَبَ أَعْنَاقهمْ وَرَمَاهُمْ فِيهَا ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ الْحَطَب فَأَحْرَقَهُمْ ثُمَّ قَالَ : صَدَقَ اللَّه وَرَسُوله " وَزَعَمَ أَبُو الْمُظَفَّر الْإِسْفَرَايِنِيّ فِي " الْمِلَل وَالنِّحَل " أَنَّ الَّذِينَ أَحْرَقَهُمْ عَلِيّ طَائِفَة مِنْ الرَّوَافِض اِدَّعَوْا فِيهِ الْإِلَهِيَّة وَهُمْ السَّبَائِيَّة وَكَانَ كَبِيرهمْ عَبْد اللَّه بْن سَبَأ يَهُودِيًّا ثُمَّ أَظْهَرَ الْإِسْلَام وَابْتَدَعَ هَذِهِ الْمَقَالَة ، وَهَذَا يُمْكِن أَنْ يَكُون أَصْله مَا رَوَيْنَاهُ فِي الْجُزْء الثَّالِث مِنْ حَدِيث أَبِي طَاهِر الْمُخَلِّص مِنْ طَرِيق عَبْد اللَّه بْن شَرِيك الْعَامِرِيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قِيلَ لِعَلِيٍّ إِنَّ هُنَا قَوْمًا عَلَى بَاب الْمَسْجِد يَدَّعُونَ أَنَّك رَبّهمْ ، فَدَعَاهُمْ فَقَالَ لَهُمْ وَيْلكُمْ مَا تَقُولُونَ ؟ قَالُوا : أَنْتَ رَبُّنَا وَخَالِقنَا وَرَازِقنَا . فَقَالَ : وَيْلكُمْ إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مِثْلُكُمْ آكُلُ الطَّعَام كَمَا تَأْكُلُونَ وَأَشْرَبُ كَمَا تَشْرَبُونَ ، إِنْ أَطَعْت اللَّهَ أَثَابَنِي إِنْ شَاءَ وَإِنْ عَصَيْته خَشِيت أَنْ يُعَذِّبنِي ، فَاتَّقُوا اللَّه وَارْجِعُوا ، فَأَبَوْا ، فَلَمَّا كَانَ الْغَد غَدَوْا عَلَيْهِ فَجَاءَ قَنْبَر فَقَالَ : قَدْ وَاَللَّهِ رَجَعُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ الْكَلَام ، فَقَالَ أَدْخِلْهُمْ فَقَالُوا كَذَلِكَ ، فَلَمَّا كَانَ الثَّالِث قَالَ لَئِنْ قُلْتُمْ ذَلِكَ لَأَقْتُلَنَّكُمْ بِأَخْبَثِ قَتْلَة ، فَأَبَوْا إِلَّا ذَلِكَ ، فَقَالَ يَا قَنْبَر اِئْتِنِي بِفَعْلَةٍ مَعَهُمْ مَرِّرُوهُمْ فَخُذَّ لَهُمْ أُخْدُودًا بَيْن بَاب الْمَسْجِد وَالْقَصْر وَقَالَ : احْفِرُوا فَأَبْعِدُوا فِي الْأَرْض ، وَجَاءَ بِالْحَطَبِ فَطَرَحَهُ بِالنَّارِ فِي الْأُخْدُود وَقَالَ : إِنِّي طَارِحكُمْ فِيهَا أَوْ تَرْجِعُوا ، فَأَبَوْا أَنْ يَرْجِعُوا فَقَذَفَ بِهِمْ فِيهَا حَتَّى إِذَا اِحْتَرَقُوا قَالَ : إِنِّي إِذَا رَأَيْت أَمْرًا مُنْكَرًا أَوْقَدْت نَارِي وَدَعَوْت قَنْبَرَا
وَهَذَا سَنَد حَسَن ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي شَيْبَة مِنْ طَرِيق قَتَادَة " أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِنَاسٍ مِنْ الزُّطّ يَعْبُدُونَ وَثَنًا فَأَحْرَقَهُمْ " فَسَنَدُهُ مُنْقَطِع ، فَإِنْ ثَبَتَ حُمِلَ عَلَى قِصَّة أُخْرَى ، فَقَدْ أَخْرَجَ اِبْن أَبِي شَيْبَة أَيْضًا مِنْ طَرِيق أَيُّوب بْن النُّعْمَان " شَهِدْت عَلِيًّا فِي الرَّحْبَة ، فَجَاءَهُ رَجُل فَقَالَ إِنَّ هُنَا أَهْل بَيْت لَهُمْ وَثَن فِي دَار يَعْبُدُونَهُ فَقَامَ يَمْشِي إِلَى الدَّار فَأَخْرَجُوا إِلَيْهِ بِمِثَالِ رَجُل قَالَ فَأَلْهَبَ عَلَيْهِمْ عَلِيٌّ الدَّارَ " .
قَوْله ( بِزَنَادِقَة )(2/33)
بِزَايٍ وَنُون وَقَاف جَمْع زِنْدِيق بِكَسْرِ أَوَّله وَسُكُون ثَانِيه ، قَالَ أَبُو حَاتِم السِّجِسْتَانِيّ وَغَيْره : الزِّنْدِيق فَارِسِيّ مُعَرَّب أَصْله " زنده كرداي " يَقُول بِدَوَامِ الدَّهْر لِأَنَّ " زنده " الْحَيَاةُ وَ " كرد " الْعَمَلُ ، وَيُطْلَق عَلَى مَنْ يَكُون دَقِيق النَّظَر فِي الْأُمُور . وَقَالَ ثَعْلَب : لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب زِنْدِيق وَإِنَّمَا قَالُوا زَنْدَقِيّ لِمَنْ يَكُون شَدِيد التَّحَيُّل ، وَإِذَا أَرَادُوا مَا تُرِيد الْعَامَّة قَالُوا مُلْحِد وَدَهْرِيّ بِفَتْحِ الدَّال أَيْ يَقُول بِدَوَامِ الدَّهْر ، وَإِذَا قَالُوهَا بِالضَّمِّ أَرَادُوا كِبَر السِّنّ . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : الزِّنْدِيق مِنْ الثَّنَوِيَّةِ ، كَذَا قَالَ وَفَسَّرَهُ بَعْض الشُّرَّاح بِأَنَّهُ الَّذِي يَدَّعِي أَنَّ مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَر ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَلْزَم مِنْهُ أَنْ يُطْلَق عَلَى كُلّ مُشْرِك ، وَالتَّحْقِيق مَا ذَكَرَهُ مِنْ صِنْف فِي الْمِلَل أَنَّ أَصْل الزَّنَادِقَة اتِّبَاع دَيْصَان ثُمَّ مَانِّي ثُمَّ مَزْدَك الْأَوَّل بِفَتْحِ الدَّال وَسُكُون الْمُثَنَّاة التَّحْتَانِيَّة بَعْدهَا صَاد مُهْمَلَة ، وَالثَّانِي بِتَشْدِيدِ النُّون وَقَدْ تُخَفَّف وَالْيَاء خَفِيفَة ، وَالثَّالِث بِزَايٍ سَاكِنَة وَدَال مُهْمَلَة مَفْتُوحَة ثُمَّ كَاف ، وَحَاصِل مَقَالَتهمْ أَنَّ النُّور وَالظُّلْمَة قَدِيمَانِ وَأَنَّهُمَا اِمْتَزَجَا فَحَدَثَ الْعَالَم كُلُّهُ مِنْهُمَا ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الشَّرّ فَهُوَ مِنْ الظُّلْمَة وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْخَيْر فَهُوَ مِنْ النُّور . وَأَنَّهُ يَجِب السَّعْي فِي تَخْلِيص النُّور مِنْ الظُّلْمَة فَيَلْزَم إِزْهَاق كُلّ نَفْس . وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْمُتَنَبِّي حَيْثُ قَالَ فِي قَصِيدَته الْمَشْهُورَة : وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْل عِنْدك مِنْ يَد تُخَبِّر أَنَّ الْمَانَوِيَّة تَكْذِب
وَكَانَ بَهْرَام جَدُّ كِسْرَى تَحَيَّلَ عَلَى مَانِّي حَتَّى حَضَرَ عِنْده وَأَظْهَرَ لَهُ أَنَّهُ قَبِلَ مَقَالَته ثُمَّ قَتَلَهُ وَقَتَلَ أَصْحَابه وَبَقِيَتْ مِنْهُمْ بَقَايَا اِتَّبَعُوا مَزْدَك الْمَذْكُور ، وَقَامَ الْإِسْلَام وَالزِّنْدِيق يُطْلَق عَلَى مَنْ يَعْتَقِد ذَلِكَ ، وَأَظْهَرَ جَمَاعَة مِنْهُمْ الْإِسْلَام خَشْيَة الْقَتْل ، وَمِنْ ثَمَّ أُطْلِقَ الِاسْم عَلَى كُلّ مَنْ أَسَرَّ الْكُفْر وَأَظْهَرَ الْإِسْلَام حَتَّى قَالَ مَالِك الزَّنْدَقَة مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُنَافِقُونَ وَكَذَا أَطْلَقَ جَمَاعَة مِنْ الْفُقَهَاء الشَّافِعِيَّة وَغَيْرهمْ أَنَّ الزِّنْدِيق هُوَ الَّذِي يُظْهِر الْإِسْلَام وَيُخْفِي الْكُفْر ، فَإِنْ أَرَادُوا اِشْتِرَاكهمْ فِي الْحُكْم فَهُوَ كَذَلِكَ وَإِلَّا فَأَصْلهمْ مَا ذَكَرْت ، وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيّ فِي لُغَات الرَّوْضَة : الزِّنْدِيق الَّذِي لَا يَنْتَحِل دِينًا ، وَقَالَ مُحَمَّد بْن مَعْن فِي " التَّنْقِيب عَلَى الْمُهَذَّب " : الزَّنَادِقَة مِنْ الثَّنَوِيَّةِ يَقُولُونَ بِبَقَاءِ الدَّهْر وَبِالتَّنَاسُخِ ، قَالَ وَمِنْ الزَّنَادِقَة الْبَاطِنِيَّة وَهُمْ قَوْم زَعَمُوا أَنَّ اللَّه خَلَقَ شَيْئًا ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ شَيْئًا آخَر فَدَبَّرَ الْعَالَم بِأَسْرِهِ وَيُسَمُّونَهُمَا الْعَقْل وَالنَّفْس وَتَارَة الْعَقْل الْأَوَّل وَالْعَقْل الثَّانِي ، وَهُوَ مِنْ قَوْل الثَّنَوِيَّةِ فِي النُّور وَالظُّلْمَة إِلَّا أَنَّهُمْ غَيَّرُوا الِاسْمَيْنِ ، قَالَ وَلَهُمْ مَقَالَات سَخِيفَة فِي النُّبُوَّات وَتَحْرِيف الْآيَات وَفَرَائِض الْعِبَادَات ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ سَبَب تَفْسِير الْفُقَهَاء الزِّنْدِيقَ بِمَا يُفَسَّر بِهِ الْمُنَافِقُ قَوْلُ الشَّافِعِيّ فِي الْمُخْتَصَر : وَأَيّ كُفْر اِرْتَدَّ إِلَيْهِ مِمَّا يُظْهِر أَوْ يُسِرّ مِنْ الزَّنْدَقَةِ وَغَيْرهَا ثُمَّ تَابَ سَقَطَ عَنْهُ الْقَتْل ، وَهَذَا لَا يَلْزَم مِنْهُ اِتِّحَاد الزِّنْدِيق وَالْمُنَافِق بَلْ كُلّ زِنْدِيق مُنَافِق مِنْ غَيْر عَكْس وَكَانَ مَنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّة الْمُنَافِق يُظْهِر الْإِسْلَام وَيُبْطِن عِبَادَة الْوَثَن أَوْ الْيَهُودِيَّة ، وَأَمَّا الثَّنَوِيَّة فَلَا يُحْفَظ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَظْهَرَ الْإِسْلَام فِي الْعَهْد النَّبَوِيّ وَاَللَّه أَعْلَمُ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّقَلَة فِي الَّذِينَ وَقَعَ لَهُمْ مَعَ عَلِيّ مَا وَقَعَ عَلَى مَا سَأُبَيِّنُهُ ، وَاشْتَهَرَ فِي صَدْر الْإِسْلَام الْجَعْد بْن دِرْهَم فَذَبَحَهُ خَالِد الْقَسْرِيّ فِي يَوْم عِيد الْأَضْحَى ، ثُمَّ كَثُرُوا فِي دَوْلَة الْمَنْصُور وَأَظْهَرَ لَهُ بَعْضهمْ مُعْتَقَده فَأَبَادَهُمْ بِالْقَتْلِ ثُمَّ اِبْنه الْمَهْدِيّ فَأَكْثَرَ فِي تَتَبُّعهمْ وَقَتْلهمْ ، ثُمَّ خَرَجَ فِي أَيَّام الْمَأْمُون بَابَك بِمُوَحَّدَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ كَاف مُخَفَّفَة الْخُرَّمِيّ بِضَمِّ الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد الرَّاء فَغَلَبَ عَلَى بِلَاد الْجَبَل وَقَتَلَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَهَزَمَ الْجُيُوش إِلَى أَنْ ظَفِرَ بِهِ الْمُعْتَصِم فَصَلَبَهُ ، وَلَهُ أَتْبَاع يُقَال لَهُمْ الْخُرَّمِيَّة وَقِصَصهمْ فِي التَّوَارِيخ مَعْرُوفَة .
قَوْله ( فَبَلَغَ ذَلِكَ اِبْن عَبَّاس )(2/34)
لَمْ أَقِف عَلَى اِسْم مَنْ بَلَّغَهُ ، وَابْن عَبَّاس كَانَ حِينَئِذٍ أَمِيرًا عَلَى الْبَصْرَة مِنْ قِبَل عَلِيّ .
قَوْله ( لِنَهْيِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّه )
أَيْ لِنَهْيِهِ عَنْ الْقَتْل بِالنَّارِ لِقَوْلِهِ لَا تُعَذِّبُوا وَهَذَا يَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِمَّا سَمِعَهُ اِبْن عَبَّاس مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون سَمِعَهُ مِنْ بَعْض الصَّحَابَة ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " بَاب لَا يُعَذَّب بِعَذَابِ اللَّه " مِنْ كِتَاب الْجِهَاد مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَأَحْرِقُوهُمَا الْحَدِيث وَفِيهِ أَنَّ النَّار لَا يُعَذِّب بِهَا إِلَّا اللَّهُ " وَبَيَّنْت هُنَاكَ اِسْمهمَا وَمَا يَتَعَلَّق بِشَرْحِ الْحَدِيث ، وَعِنْد أَبِي دَاوُدَ عَنْ اِبْن مَسْعُود فِي قِصَّة أُخْرَى " أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّب بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّار " .
قَوْله ( وَلَقَتَلْتهمْ لِقَوْلِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بْن عُلَيَّة عِنْد أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ " فَإِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " .
قَوْله ( مَنْ بَدَّلَ دِينه فَاقْتُلُوهُ )(2/35)
زَادَ إِسْمَاعِيل بْن عُلَيَّة فِي رِوَايَته " فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ : وَيْحَ أُمِّ اِبْنِ عَبَّاس " كَذَا عِنْد أَبِي دَاوُدَ وَعِنْد الدَّارَقُطْنِيِّ بِحَذْفِ " أُمّ " وَهُوَ مُحْتَمَل أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِمَا اِعْتَرَضَ بِهِ وَرَأَى أَنَّ النَّهْي لِلتَّنْزِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَان الِاخْتِلَاف فِيهِ ، وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيث الَّذِي يَلِيه مَذْهَب مَعَاذ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الْإِمَام إِذَا رَأَى التَّغْلِيظ بِذَلِكَ فَعَلَهُ ، وَهَذَا بِنَاء عَلَى تَفْسِير " وَيْح " بِأَنَّهَا كَلِمَة رَحْمَة فَتَوَجَّعَ لَهُ لِكَوْنِهِ حَمَلَ النَّهْي عَلَى ظَاهِره فَاعْتَقَدَ التَّحْرِيم مُطْلَقًا فَأَنْكَرَ ؛ وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَالَهَا رِضًا بِمَا قَالَ ، وَأَنَّهُ حَفِظَ مَا نَسِيَهُ بِنَاء عَلَى أَحَدِ مَا قِيلَ فِي تَفْسِير وَيْح أَنَّهَا تُقَال بِمَعْنَى الْمَدْح وَالتَّعَجُّب كَمَا حَكَاهُ فِي النِّهَايَة ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْل الْخَلِيل : هِيَ فِي مَوْضِع رَأْفَة وَاسْتِمْلَاح كَقَوْلِك لِلصَّبِيِّ وَيْحه مَا أَحْسَنَهُ حَكَاهُ الْأَزْهَرِيّ ، وَقَوْله مَنْ هُوَ عَامٌّ تُخَصّ مِنْهُ مَنْ بَدَّلَهُ فِي الْبَاطِن وَلَمْ يَثْبُت عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي الظَّاهِر فَإِنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَام الظَّاهِر وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ مَنْ بَدَّلَ دِينه فِي الظَّاهِر لَكِنْ مَعَ الْإِكْرَاه كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَاب الْإِكْرَاه بَعْد هَذَا ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى قَتْل الْمُرْتَدَّة كَالْمُرْتَدِّ ، وَخَصَّهُ الْحَنَفِيَّة بِالذِّكْرِ وَتَمَسَّكُوا بِحَدِيثِ النَّهْي عَنْ قَتْل النِّسَاء وَحَمَلَ الْجُمْهُور النَّهْي عَلَى الْكَافِرَة الْأَصْلِيَّة إِذَا لَمْ تُبَاشِر الْقِتَال وَلَا الْقَتْل لِقَوْلِهِ فِي بَعْض طُرُق حَدِيث النَّهْي عَنْ قَتْل النِّسَاء لَمَّا رَأَى الْمَرْأَة مَقْتُولَة " مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ " ثُمَّ نَهَى عَنْ قَتْل النِّسَاء ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ " مَنْ " الشَّرْطِيَّةَ لَا تَعُمّ الْمُؤَنَّث ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ اِبْن عَبَّاس رَاوِي الْخَبَر قَدْ قَالَ تُقْتَل الْمُرْتَدَّة ، وَقَتَلَ أَبُو بَكْر فِي خِلَافَته اِمْرَأَة اِرْتَدَّتْ وَالصَّحَابَة مُتَوَافِرُونَ فَلَمْ يُنْكِر ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَد ، وَقَدْ أَخْرَجَ ذَلِكَ كُلّه اِبْن الْمُنْذِر ، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَثَر أَبِي بَكْر مِنْ وَجْه حَسَن ، وَأَخْرَجَ مِثْله مَرْفُوعًا فِي قَتْل الْمُرْتَدَّة لَكِنَّ سَنَده ضَعِيف ، وَاحْتَجُّوا مِنْ حَيْثُ النَّظَر بِأَنَّ الْأَصْلِيَّة تُسْتَرَقّ فَتَكُون غَنِيمَة لِلْمُجَاهِدِينَ وَالْمُرْتَدَّة لَا تُسْتَرَقّ عِنْدهمْ فَلَا غُنْم فِيهَا فَلَا يُتْرَك قَتْلهَا . وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث مَعَاذ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَن قَالَ لَهُ " أَيّمَا رَجُل اِرْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَام فَادْعُهُ فَإِنْ عَادَ وَإِلَّا فَاضْرِبْ عُنُقه ، وَأَيّمَا اِمْرَأَة اِرْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَام فَادْعُهَا فَإِنْ عَادَتْ وَإِلَّا فَاضْرِبْ عُنُقهَا " وَسَنَده حَسَن ، وَهُوَ نَصٌّ فِي مَوْضِع النِّزَاع فَيَجِب الْمَصِير إِلَيْهِ ، وَيُؤَيِّدهُ اِشْتِرَاك الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي الْحُدُود كُلّهَا الزِّنَا وَالسَّرِقَة وَشُرْب الْخَمْر وَالْقَذْف ، وَمِنْ صُوَر الزِّنَا رَجْم الْمُحْصَن حَتَّى يَمُوت فَاسْتُثْنِيَ ذَلِكَ مِنْ النَّهْي عَنْ قَتْل النِّسَاء ، فَكَذَلِكَ يُسْتَثْنَى قَتْل الْمُرْتَدَّة ، وَتَمَسَّكَ بِهِ بَعْض الشَّافِعِيَّة فِي قَتْل مَنْ اِنْتَقَلَ مِنْ دِين كُفْر إِلَى دِين كُفْر سَوَاء كَانَ مِمَّنْ يُقَرّ أَهْله عَلَيْهِ بِالْجِزْيَةِ أَوْ لَا وَأَجَابَ بَعْض الْحَنَفِيَّة بِأَنَّ الْعُمُوم فِي الْحَدِيث فِي الْمُبْدِل لَا فِي التَّبْدِيل ، فَأَمَّا التَّبْدِيل فَهُوَ مُطْلَق لَا عُمُوم فِيهِ ، وَعَلَى تَقْدِير التَّسْلِيم فَهُوَ مَتْرُوك الظَّاهِر اِتِّفَاقًا فِي الْكَافِر وَلَوْ أَسْلَمَ فَإِنَّهُ يَدْخُل فِي عُمُوم الْخَبَر وَلَيْسَ مُرَادًا ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الْكُفْر مِلَّة وَاحِدَة فَلَوْ تَنَصَّرَ الْيَهُودِيّ لَمْ يَخْرُج عَنْ دِين الْكُفْر ، وَكَذَا لَوْ تَهَوَّدَ الْوَثَنِيّ ، فَوَضَحَ أَنَّ الْمُرَاد مَنْ بَدَّلَ دِين الْإِسْلَام بِدِينٍ غَيْره لِأَنَّ الدِّين فِي الْحَقِيقَة هُوَ الْإِسْلَام قَالَ اللَّه تَعَالَى ( إِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام ) وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ بِزَعْمِ الْمُدَّعِي ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْر الْإِسْلَام دِينًا فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ ) فَقَدْ اِحْتَجَّ بِهِ بَعْض الشَّافِعِيَّة فَقَالَ : يُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُقَرّ عَلَى ذَلِكَ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ظَاهِر فِي أَنَّ مَنْ اِرْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَام لَا يُقَرّ عَلَى ذَلِكَ ، سَلَّمْنَا لَكِنْ لَا يَلْزَم مِنْ كَوْنه لَا يُقْبَل مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُقَرّ بِالْجِزْيَةِ بَلْ عَدَم الْقَبُول وَالْخُسْرَان إِنَّمَا هُوَ فِي الْآخِرَة ، سَلَّمْنَا أَنَّ عَدَم الْقَبُول يُسْتَفَاد مِنْهُ عَدَم التَّقْرِير فِي الدُّنْيَا لَكِنَّ الْمُسْتَفَاد أَنَّهُ لَا يُقَرّ عَلَيْهِ ، فَلَوْ رَجَعَ إِلَى الدِّين الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَكَانَ مَقَرًّا عَلَيْهِ بِالْجِزْيَةِ فَإِنَّهُ يُقْتَل إِنْ لَمْ يُسْلِم مَعَ(2/36)
إِمْكَان الْإِمْسَاك بِأَنَّا لَا نَقْبَل مِنْهُ وَلَا نَقْتُلهُ ، وَيُؤَيِّدُ تَخْصِيصَهُ بِالْإِسْلَامِ مَا جَاءَ فِي بَعْض طُرُقه : فَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس رَفَعَه " مَنْ خَالَفَ دِينَهُ دِينَ الْإِسْلَام فَاضْرِبُوا عُنُقه " وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى قَتْل الزِّنْدِيق مِنْ غَيْر اِسْتِتَابَة وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِي بَعْض طُرُقه كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عَلِيًّا اِسْتَتَابَهُمْ وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيّ كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى الْقَبُول مُطْلَقًا وَقَالَ يُسْتَتَاب الزِّنْدِيق كَمَا يُسْتَتَاب الْمُرْتَدّ ، وَعَنْ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَة رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا لَا يُسْتَتَاب وَالْأُخْرَى إِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ لَمْ تُقْبَل تَوْبَته ، وَهُوَ قَوْل اللَّيْث وَإِسْحَاق ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاق الْمَرْوَزِيِّ مِنْ أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة وَلَا يَثْبُت عَنْهُ بَلْ قِيلَ إِنَّهُ تَحْرِيف مِنْ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ وَالْأَوَّل هُوَ الْمَشْهُور عِنْد الْمَالِكِيَّة ، وَحَكَى عَنْ مَالِك إِنْ جَاءَ تَائِبًا يُقْبَل مِنْهُ وَإِلَّا فَلَا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُف ، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذَانِ أَبُو إِسْحَاق الْإِسْفَرَايِنِيّ وَأَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ . وَعَنْ بَقِيَّة الشَّافِعِيَّة أَوْجُه كَالْمَذَاهِبِ الْمَذْكُورَة ، وَخَامِس يُفْصَلُ بَيْن الدَّاعِيَة فَلَا يُقْبَل مِنْهُ وَتُقْبَل تَوْبَة غَيْر الدَّاعِيَة ، وَأَفْتَى اِبْن الصَّلَاح بِأَنَّ الزِّنْدِيق إِذَا تَابَ تُقْبَل تَوْبَته وَيُعَزَّر فَإِنْ عَادَ بَادَرْنَاهُ بِضَرْبِ عُنُقه وَلَمْ يُمْهَل ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا ) فَقَالَ : الزِّنْدِيق لَا يُطَّلَع عَلَى صَلَاحه لِأَنَّ الْفَسَاد إِنَّمَا أَتَى مِمَّا أَسَرَّهُ فَإِذَا اُطُّلِعَ عَلَيْهِ وَأَظْهَرَ الْإِقْلَاع عَنْهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّه لِيَغْفِر لَهُمْ ) الْآيَة ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَاد مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فَسَّرَهُ اِبْن عَبَّاس فِيمَا أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي حَاتِم وَغَيْره ، وَاسْتَدَلَّ لِمَالِك بِأَنَّ تَوْبَة الزِّنْدِيق لَا تُعْرَف ، قَالَ وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتُل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنَافِقِينَ لِلتَّأَلُّفِ وَلِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُمْ لَقَتَلَهُمْ بِعِلْمِهِ فَلَا يُؤْمَن أَنْ يَقُول قَائِل إِنَّمَا قَتَلَهُمْ لِمَعْنًى آخَر ، وَمِنْ حُجَّة مَنْ اِسْتَتَابَهُمْ قَوْله تَعَالَى ( اِتَّخَذُوا أَيْمَانهمْ جُنَّة ) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِظْهَار الْإِيمَان يُحْصِن مِنْ الْقَتْل ، وَكُلّهمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَحْكَام الدُّنْيَا عَلَى الظَّاهِر وَاَللَّه يَتَوَلَّى السَّرَائِر وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسَامَة " هَلَّا شَقَقْت عَنْ قَلْبه " وَقَالَ لِلَّذِي سَارَّهُ فِي قَتْل رَجُل " أَلَيْسَ يُصَلِّي ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : أُولَئِكَ الَّذِينَ نُهِيت عَنْ قَتْلهمْ " وَسَيَأْتِي قَرِيبًا أَنَّ فِي بَعْض طُرُق حَدِيث أَبِي سَعِيد أَنَّ خَالِد بْن الْوَلِيد لَمَّا اِسْتَأْذَنَ فِي قَتْل الَّذِي أَنْكَرَ الْقِسْمَة وَقَالَ كَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُول بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبه فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوب النَّاس " أَخْرَجَهُ مُسْلِم ، وَالْأَحَادِيث فِي ذَلِكَ كَثِيرَة .
====================
وفي عون المعبود :(1)
3787 - قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ :
( أَنَّ عَلِيًّا ): هُوَ اِبْن أَبِي طَالِب
( أَحْرَقَ نَاسًا اِرْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَام ): وَعِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ حَدِيث عِكْرِمَة أَنَّ عَلِيًّا أَتَى بِقَوْمٍ قَدْ اِرْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَام أَوْ قَالَ بِزَنَادِقَةٍ وَمَعَهُمْ كُتُب لَهُمْ فَأَمَرَ بِنَارٍ فَأُنْضِجَتْ وَرَمَاهُمْ فِيهَا
( فَبَلَغَ ذَلِكَ )
: أَيْ الْإِحْرَاق اِبْن عَبَّاس وَكَانَ حِينَئِذٍ أَمِيرًا عَلَى الْبَصْرَة مِنْ قِبَل عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . قَالَهُ الْحَافِظ
( وَكُنْت )
: عَطْف عَلَى لَمْ أَكُنْ
( قَاتِلهمْ )
: أَيْ الْمُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَام
( فَبَلَغَ ذَلِكَ )
: أَيْ قَوْل اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ
( فَقَالَ )
: أَيْ عَلِيٌّ
( وَيْح اِبْن عَبَّاس )
__________
(1) - عون المعبود - (ج 9 / ص 386)(2/37)
: وَفِي بَعْض النُّسَخ أُمّ اِبْن عَبَّاس بِزِيَادَةِ لَفْظ أُمّ ، وَفِي نُسْخَة اِبْن أُمّ عَبَّاس بِزِيَادَةِ لَفْظ أُمّ بَيْن لَفْظ اِبْن وَعَبَّاس ، وَالظَّاهِر أَنَّهُ سَهْو مِنْ الْكَاتِب . قَالَ الْحَافِظ فِي الْفَتْح : زَادَ إِسْمَاعِيل بْن عُلَيَّة فِي رِوَايَته فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ وَيْح أُمّ اِبْن عَبَّاس ، كَذَا عِنْد أَبِي دَاوُدَ ، وَعِنْد الدَّارَقُطْنِيُّ بِحَذْفِ أُمّ وَهُوَ مُحْتَمِل أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِمَا اِعْتَرَضَ بِهِ وَرَأَى أَنَّ النَّهْي لِلتَّنْزِيهِ ، وَهَذَا بِنَاء عَلَى تَفْسِير وَيْح بِأَنَّهَا كَلِمَة رَحْمَة فَتَوَجَّعَ لَهُ لِكَوْنِهِ حَمَلَ النَّهْي عَلَى ظَاهِره فَاعْتَقَدَ التَّحْرِيم مُطْلَقًا فَأَنْكَرَ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَالَهَا رِضًا بِمَا قَالَ ، وَأَنَّهُ حَفِظَ مَا نَسِيَهُ بِنَاء عَلَى أَحَد مَا قِيلَ فِي تَفْسِير وَيْح إِنَّهَا تُقَال بِمَعْنَى الْمَدْح وَالتَّعَجُّب كَمَا حَكَاهُ فِي النِّهَايَة ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْل الْخَلِيل هِيَ فِي مَوْضِع رَأْفَة وَاسْتِمْلَاح كَقَوْلِك لِلصَّبِيِّ وَيْحه مَا أَحْسَنَهُ اِنْتَهَى .
وَقَالَ الْقَارِي : وَأَكْثَر أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْل وَرَدَ مَوْرِد الْمَدْح وَالْإِعْجَاب بِقَوْلِهِ ، وَيَنْصُرهُ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى عَنْ شَرْح السُّنَّة فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ صَدَقَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ اِنْتَهَى .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : لَفْظه لَفْظ الدُّعَاء عَلَيْهِ ، وَمَعْنَاهُ الْمَدْح لَهُ وَالْإِعْجَاب بِقَوْلِهِ ، وَهَذَا كَقَوْلِ رَسُول اللَّه فِي أَبِي بَصِير : " وَيْل أُمّه مِسْعَر حَرْب " اِنْتَهَى .
وَالْحَدِيث اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى قَتْل الْمُرْتَدَّة كَالْمُرْتَدِّ ، وَخَصَّهُ الْحَنَفِيَّة بِالذَّكَرِ وَتَمَسَّكُوا بِحَدِيثِ النَّهْي عَنْ قَتْل النِّسَاء ، وَحَمَلَ الْجُمْهُور النَّهْي عَلَى الْكَافِرَة الْأَصْلِيَّة إِذَا لَمْ تُبَاشِر الْقِتَال وَلَا الْقَتْل لِقَوْلِهِ فِي بَعْض طُرُق حَدِيث النَّهْي عَنْ قَتْل النِّسَاء لَمَّا رَأَى الْمَرْأَة مَقْتُولَة مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ ثُمَّ نَهَى عَنْ قَتْل النِّسَاء وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث مُعَاذ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَن قَالَ لَهُ " أَيّمَا رَجُل اِرْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَام فَادْعُهُ فَإِنْ عَادَ وَإِلَّا فَاضْرِبْ عُنُقه ، وَأَيّمَا اِمْرَأَة اِرْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَام فَادْعُهَا فَإِنْ عَادَتْ وَإِلَّا فَاضْرِبْ عُنُقهَا " وَسَنَده حَسَن ، وَهُوَ نَصّ فِي مَوْضِع النِّزَاع فَيَجِب الْمَصِير إِلَيْهِ كَذَا فِي فَتْح الْبَارِي .
قَالَ الْمُنْذِرِيّ : وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْن مَاجَهْ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا .===============
وفي تحفة الأحوذي : (1)
1378 - قَوْلُهُ : ( إِنَّ عَلِيًّا حَرَقَ قَوْمًا اِرْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ )
رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ أَنَّ عَلِيًّا بَلَغَهُ أَنَّ قَوْمًا اِرْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ فَأَطْعَمَهُمْ ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَبَوْا فَحَفَرَ حَفِيرَةً ثُمَّ أَتَى بِهِمْ فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ وَرَمَاهُمْ فِيهَا ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ الْحَطَبَ فَأَحْرَقَهُمْ ثُمَّ قَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَزَعَمَ أَبُو الْمُظَفَّرِ الإسْفِرَايِينِيُّ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ : أَنَّ الَّذِينَ أَحْرَقَهُمْ عَلِيٌّ طَائِفَةٌ مِنْ الرَّوَافِضِ اِدَّعَوْا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ وَهُمْ السَّبَئِيَّةُ وَكَانَ كَبِيرُهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبَأٍ يَهُودِيًّا ثُمَّ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَابْتَدَعَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ كَذَا قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ رِوَايَةً تُؤَيِّدُ مَا زَعَمَهُ الإسْفِرَايِينِيُّ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ
( فَبَلَغَ ذَلِكَ اِبْنُ عَبَّاسٍ )
وَكَانَ اِبْنُ عَبَّاسٍ حِينَئِذٍ أَمِيرًا عَلَى الْبَصْرَةِ مِنْ قَبْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
( لَوْ كُنْت أَنَا )
أَنَا تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ لَوْ كُنْت أَنَا بَدَلَهُ
( مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ )
قَالَ الْحَافِظُ قَوْلُهُ ( مَنْ ) عَامٌّ يُخَصُّ مِنْهُ مَنْ بَدَّلَهُ فِي الْبَاطِنِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ ، فَإِنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الظَّاهِرِ وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ ، مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فِي الظَّاهِرِ مَعَ الْإِكْرَاهِ
( لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ )
أَيْ بِالْقَتْلِ بِالنَّارِ
( فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ صَدَقَ اِبْنُ عَبَّاسٍ )
__________
(1) - تحفة الأحوذي - (ج 4 / ص 97)(2/38)
قَالَ الْحَافِظُ وَفِي رِوَايَةِ اِبْنِ عُلَيَّةَ فَبَلَغَ عَلِيًّا فَقَالَ وَيْحَ أُمِّ اِبْنِ عَبَّاسٍ كَذَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَعِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ بِحَذْفِ أُمِّ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِمَا اِعْتَرَضَ بِهِ وَرَأَى أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ وَيْحَ بِأَنَّهَا كَلِمَةُ رَحْمَةٍ فَتَوَجَّعَ لَهُ لِكَوْنِهِ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَاعْتَقَدَ مُطْلَقًا فَأَنْكَرَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهَا رِضًا بِمَا قَالَ وَأَنَّهُ حَفِظَ مَا نَسِيَهُ بِنَاءً عَلَى أَخْذِ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ وَيْحَ أَنَّهَا تُقَالُ بِمَعْنَى الْمَدْحِ وَالتَّعَجُّبِ كَمَا حَكَاهُ فِي النِّهَايَةِ اِنْتَهَى .
قُلْت : لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ : فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ صَدَقَ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ وَيْحَ أُمِّ اِبْنِ عَبَّاسٍ الْمَدْحُ وَالتَّعَجُّبُ .
قَوْلُهُ : ( هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ )
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
قَوْلُهُ : ( وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ )
وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمُوَافِقُ لِحَدِيثِ الْبَابِ فَإِنَّ لَفْظَ ( مَنْ ) فِي قَوْلَهُ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ عَامٌّ شَامِلٌ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ
( وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ تُحْبَسُ وَلَا تُقْتَلُ )
أَيْ الْمَرْأَةُ الْمُرْتَدَّةُ
( وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ )
وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ : قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ اِسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ) ، عَلَى قَتْلِ الْمُرْتَدَّةِ كَالْمُرْتَدِّ ، وَخَصَّهُ الْحَنَفِيَّةُ بِالذِّكْرِ وَتَمَسَّكُوا بِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ ، وَحَمَلَ الْجُمْهُورُ النَّهْيَ عَلَى الْكَافِرَةِ الْأَصْلِيَّةِ إِذَا لَمْ تُبَاشِرْ الْقِتَالَ وَلَا الْقَتْلَ ، لِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ لَمَّا رَأَى الْمَرْأَةَ مَقْتُولَةً مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ ، ثُمَّ نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ مَنْ الشَّرْطِيَّةَ لَا تَعُمُّ الْمُؤَنَّثَ ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ اِبْنَ عَبَّاسٍ رَاوِيَ الْخَبَرِ قَدْ قَالَ : تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ ، وَقَتَلَ أَبُو بَكْرٍ فِي خِلَافَتِهِ اِمْرَأَةً اِرْتَدَّتْ ، وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، وَقَدْ أَخْرَجَ ذَلِكَ كُلَّهُ اِبْنُ الْمُنْذِرِ ، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَثَرَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ وَجْهٍ حَسَنٍ ، وَأَخْرَجَ مِثْلَهُ مَرْفُوعًا فِي قَتْلِ الْمُرْتَدَّةِ لَكِنْ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ : ( أَيُّمَا رَجُلٍ اِرْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَادْعُهُ فَإِنْ عَادَ وَإِلَّا فَاضْرِبْ عُنُقَهُ ، وَأَيُّمَا اِمْرَأَةٍ اِرْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ فَادْعُهَا ، فَإِنْ عَادَتْ وَإِلَّا فَاضْرِبْ عُنُقَهَا ) . وَسَنَدُهُ حَسَنٌ ، وَهُوَ نَصٌّ فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَيُؤَيِّدُهُ اِشْتِرَاكُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ ، وَمِنْ صُوَرِ الزِّنَا رَجْمُ الْمُحْصَنِ فَاسْتُثْنِيَ ذَلِكَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ فَكَذَلِكَ يُسْتَثْنَى قَتْلُ الْمُرْتَدَّةِ اِنْتَهَى .
======================
وفي شرح النسائي :(1)
3991 - حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ :
قَوْلُهُ ( مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ )عُمُومه يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ بِالذَّكَرِ لِمَا جَاءَ مِنَ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الْإِنَاث فِي الْحَرْب وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْمُخَصِّص مِنْ الضَّعْف فِي الدَّلَالَة عَلَى التَّخْصِيص فَالْعُمُوم أَقْرَبُ وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم ثُمَّ الْمُرَاد بِالدِّينِ الْحَقّ وَهَذَا ظَاهِرٌ بِالسَّوْقِ فَلَا يَشْمَلُ عُمُومه مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْكَفَرَة وَلَا مَنْ اِنْتَقَلَ مِنْهُمْ مِنْ مِلَّةٍ إِلَى مِلَّةٍ أُخْرَى مِنْ مِلَل الْكُفْرِ .
وقال أيضاً :(2)
3997 - حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ :
قَوْلُهُ ( يَعْبُدُونَ وَثَنًا ) أَيْ بَعْدَمَا أَسْلَمُوا
( فَأَحْرَقَهُمْ ) قَالُوا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَنْ رَأْي وَاجْتِهَاد لَا عَنْ تَوْقِيف وَلِهَذَا لَمَّا بَلَغَهُ قَوْل اِبْن عَبَّاس اِسْتَحْسَنَهُ وَرَجَعَ إِلَيْهِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَات .
===================
وفي حاشية السندي على ابن ماجة :(3)
2526 - قَوْله ( مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ ) الْمُرَاد بِمَنْ الْمُسْلِم أَوْ الْمُرَاد بِدِينِهِ الدِّين الْحَقّ وَهَذَا ظَاهِر بِالسَّوْقِ فَلَا يَشْمَلُ عُمُومه مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْكَفَرَة وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَوْل بِتَخْصِيصِ الْعُمُوم فَتَأَمَّلْ وَالْجُمْهُور أَخَذُوا بِعُمُومِهِ وَخَصَّهُ بَعْضٌ بِالرَّجُلِ وَيُوَافِقُهُ رِوَايَة لَا يَحِلُّ دَم رَجُل
===============
__________
(1) - شرح سنن النسائي - (ج 5 / ص 413)
(2) - شرح سنن النسائي - (ج 5 / ص 414)
(3) - حاشية السندي على ابن ماجه - (ج 5 / ص 204)(2/39)
وفي شرح موطأ محمد :(1)
868 - أخبرنا مالك، أخبرنا عبد الرحمن (1) بن محمد بن عبدٍ القاريٌّ، عن أبيه، قال: قدم رجل على عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه من قِبَل (2) أبي موسى، فسأله (3) عن الناس، فأخبره ثم قال: هل عندكم من مُغْرِبَةِ (4) خبر؟ قال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه، فقال: ماذا فعلتم به؟ قال: قرَّبناه (5) فضربنا عنقه، قال عمر رضي الله عنه: فهلاّ (6) طبقتم عليه بيتاً - ثلاثاً - وأطعمتموه كلَّ يومٍ رغيفاً، فاستبتموه لعله يتوب ويرجع إلى أمر اللّه، اللَّهم إني لم آمُر، ولم أَحْضُر، ولم أَرْضَ إذ بلغني.
قال محمد: إن شاء الإِمام (7) أخر المرتدّ ثلاثاً (8) إن طَمِع في توبته، أو سأله (9) عن ذلك المرتدُّ، وإن لم يطمع في ذلك ولم يسأله المرتد (10) فقتله فلا بأس بذلك.
-------------------------------
(1)المرتد: هو الذي يرتدُّ أي يرجع إلى الكفر من الإِسلام.
(1) قوله: عبد الرحمن (بسط شيخنا الكلام عليه في الأوجز 12/179، وقال: وما ذكره صاحب "التعليق الممجد" من ترجمته التبس عليه من ترجمة أخي جَدّه، فإنَّ عامل عمر المتوفّي سنة 88 هـ هو عبد الرحمن القاري، وولادة الإِمام مالك بعد وفاته، فكيف يروي عنه، بل عبد اللّه بن عبدٍ القاريّ أخو عبد الرحمن، وعبد الرحمن هذا كان عامل عمر رضي اللّه عنه، وجَدّ يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد اللّه بن عبد القاري، أخرج له مالك في الموطأ، وكذلك عبد الرحمن بن محمد هو الذي روى عنه مالك في هذا الحديث) بن محمد بن عبد القاريّ، هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد اللّه بن عبد كما في "موطأ يحيى" ونسبته بتشديد الياء إلى قارة بطن من العرب، وكان من أهل المدينة عامل عمر بن الخطاب على بيت المال، ثقة، روى عنه عروة، وحميد بن عبد الرحمن وابناه إبراهيم ومحمد، مات سنة 88 ثمان وثمانين، ذكره السمعاني وأبوه، قال في "التقريب": محمد بن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن عبد - بغير إضافة - القاري بغير همز، المدني، مقبول.
(2) بكسر القاف، أي من جانب أبي موسى الأشعري وجهته من اليمن.
(3) أي سأل عمر عن أحوال الناس.
(4) بضم الميم على صيغة الفاعل أي قصة مغربة وخبر غريب.
(5) بتشديد الراء أي أحضرناه فقتلناه.
(6) قوله: فهلاّ، حرف تحضيض. طبَّقتم، بتشديد الباء من التطبيق عليه، أي أغلقتم عليه بيتاً وحبستموه فيه ثلاثاً، أي ثلاث ليال وأطعمتموه كل يوم رغيفاً أي بقدر سد الرمق ليضيق عليه الأمر فيتوب، فاستبتموه أي طلبتم منه التوبة لعله يتوب من كفره، ويرجع إلى أمر اللّه أي دينه الإِسلام، ثم قال عمر: اللَّهم إني لم آمر ولم أحضر - أي هذه الوقعة - ولم أرض به إذ بلغني خبره فلا تؤاخذني به. والحاصل أن المرتد (قال ابن بطال: اختُلف في استتابة المرتد، فقيل: يُستتاب فإن تاب وإلاَّ قُتل وهو قول الجمهور، وقيل: يجب قتله في الحال، جاء ذلك عن الحسن وطاووس. وبه قال أهل الظاهر. فتح الباري 12/269) يُستمهل ثلاث ليال ويُستتاب، فإن تاب تاب وإلاَّ قُتل لحديث: "من بدل دينه فاقتلوه".
(7) هذا أولى وأحسن.
(8) هذا التحديد من قوله تعالى: (تَمَتَّعُوا في داركم ثلاثة أيام).
(9) أي طلب المرتد المهلة.
(10) أي لم يستمهله.
==============
وقال الباجي :(2)
( ص ) : ( يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ } وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا نَرَى , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ { مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ } أَنَّهُ مِنْ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَى غَيْرِهِ مِثْلَ الزَّنَادِقَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ فَإِنَّ أُولَئِكَ إذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ قُتِلُوا وَلَمْ يُسْتَتَابُوا ; لِأَنَّهُ لَا تُعْرَفُ تَوْبَتُهُمْ , وَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسُرُّونَ الْكُفْرَ وَيُعْلِنُونَ الْإِسْلَامَ فَلَا أَرَى أَنْ يُسْتَتَابَ هَؤُلَاءِ , وَلَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ قَوْلُهُمْ وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَى غَيْرِهِ وَأَظْهَرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ , وَإِلَّا قُتِلَ وَذَلِكَ لَوْ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا عَلَى ذَلِكَ رَأَيْتُ أَنْ يُدْعَوْا إلَى الْإِسْلَامِ وَيُسْتَتَابُوا فَإِنْ تَابُوا قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ , وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا قُتِلُوا وَلَمْ يَعْنِ بِذَلِكَ فِيمَا نَرَى - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَنْ خَرَجَ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ وَلَا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إلَى الْيَهُودِيَّةِ وَلَا مَنْ يُغَيِّرُ دِينَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إلَى الْإِسْلَامِ فَمَنْ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَى غَيْرِهِ , وَأَظْهَرَ ذَلِكَ فَذَلِكَ الَّذِي عُنِيَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) .
__________
(1) - موطأ محمد بشرح اللكنوي - (ج 3 / ص 160)
(2) - المنتقى - شرح الموطأ - (ج 4 / ص 23)(2/40)
1219- ( ش ) : قَوْلُهُ عَلَيْهِ الَّسلَام مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إِنَّ مَعْنَاهُ فِيمَنْ خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُسْتَتَابُ فِيهِ كَالزَّنَادِقَةِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ يَعْنِي بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ فَإِنْ تَابَ تُرِكَ فَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى الْمُرْتَدِّ الْمُظْهِرِ لِارْتِدَادِهِ . وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ انْتَقَلَ إِلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو أَنْ يُسِرَّ كُفْرَهُ أَوْ يُظْهِرَهُ ، فَإِنْ أَسَرَّهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى : مَنْ أَسَرَّ مِنْ الْكُفْرِ دِينًا خِلَافَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ أَوْ منانيه أَوْ غَيْرِهَا مِنْ صُنُوفِ الْكُفْرِ أَوْ عِبَادَةِ شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ أَوْ نُجُومٍ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَيْهِ فَلْيُقْتَلْ وَلَا تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ : وَمَنْ أَظْهَرَ كُفْرَهُ مِنْ زَنْدَقَةٍ أَوْ كُفْرٍ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ . وَرَوَى سَحْنُونٌ وَابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ يُقْتَلُ الزِّنْدِيقُ وَلَا يُسْتَتَابُ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ قَالَ سَحْنُونٌ إِنْ تَابَ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ ، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ . وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْلُهُ تَعالَى فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : الْبَأْسُ هَاهُنَا السَّيْفُ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وَاحْتَجَّ مَالِكٌ لِذَلِكَ بِأَنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُعْرَفُ وَقَالَ سَحْنُونٌ : لَمَّا كَانَ الزِّنْدِيقُ يُقْتَلُ عَلَى مَا أَسَرَّ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ ؛ لِأَنَّ مَا يُظْهِرُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يُسِرُّ ؛ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ كَانَ فَلَا عَلَامَةَ لَنَا عَلَى تَوْبَتِهِ ، وَالْمُرْتَدُّ يُقْتَلُ عَلَى مَا أَظْهَرَ فَإِذَا أَظْهَرَ تَوْبَتَهُ أَبْطَلَ بِهَا مَا أَظْهَرَ مِنْ الْكُفْرِ . قَالَ : وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ جَاهَرَ بِالْفَسَادِ وَالسَّفَهِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَصَارَ إِلَى الْعَدَالَةِ وَمَنْ شَهِدَ بِالْعَدَالَةِ وَشَهِدَ بِالزُّورِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ أَظْهَرَ الرُّجُوعَ عَمَّا ثَبَتَ عَلَيْهِ .
( مَسْأَلَةٌ ) وَإِذَا أَقَرَّ الزِّنْدِيقُ بِكُفْرِهِ قَبْلَ أَنْ يُظْهَرَ عَلَيْهِ فَهَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ أَمْ لَا قَالَ أَصْبَغُ فِي الْعُتْبِيَّةِ عَسَى أَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ ذَلِكَ .
( مَسْأَلَةٌ ) وَمَنْ تَزَنْدَقَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَفِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبِ عَنْ مَالِكٍ وَمُطَرِّفٍ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغَ لَا يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ كُفْرٍ إِلَى كُفْرٍ ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّهُ دِينٌ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : لَا أَعْلَمُ مَنْ قَالَهُ غَيْرُهُ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالزَّنْدَقَةِ هَاهُنَا الْخُرُوجَ إِلَى غَيْرِ شَرِيعَةٍ مِثْلَ التَّعْطِيلِ وَمَذَاهِبِ الدَّهْرِيَّةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الِاسْتِسْرَارَ بِمَا خَرَجَ إِلَيْهِ ، وَالْإِظْهَارَ لِمَا خَرَجَ عَنْهُ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .
( فَرْعٌ ) وَإِذَا أَسْلَمَ الْيَهُودِيُّ الَّذِي تَزَنْدَقَ فَقَدْ رَوَى أَبُو زَيْدٍ الْأَنْدَلُسِيُّ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونَ أَنَّهُ يُقْتَلُ كَالْمُسْلِمِ يَتَزَنْدَقُ ثُمَّ يَتُوبُ .
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُ مَالِكٍ وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِهِ فَأَظْهَرَ غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ ، وَإِلَّا قُتِلَ وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَرَوَى سَحْنُونٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ لَا بُدَّ أَنْ يُقْتَلَ ، وَإِنْ تَابَ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى - فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهَا مَعْصِيَةٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَدٌّ وَلَا حَقٌّ لِمَخْلُوقٍ كَسَائِرِ الْمَعَاصِي .(2/41)
( مَسْأَلَةٌ ) وَلَا عُقُوبَةَ عَلَى الْمُرْتَدِّ إِذَا تَابَ رَوَاهُ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالَى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا مُنْتَقِلٌ مِنْ كُفْرٍ إِلَى إيمَانٍ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكُفْرِ كَالنَّصْرَانِيِّ يُسْلِمُ .
( مَسْأَلَةٌ ) وَيُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ تَابَ فِيهَا ، وَإِلَّا قُتِلَ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَلَهُ قَوْلٌ ثَانٍ يُسْتَتَابُ فِي الْحَالِ فَإِنْ تَابَ ، وَإِلَّا قُتِلَ وَقَدْ رَوَاهُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ عَنْ مَالِكٍ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ ثَلَاثَ جُمَعٍ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَنْ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ عُرِضَتْ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ .
( مَسْأَلَةٌ ) وَلَيْسَ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ تَخْوِيفٌ وَلَا تَعْطِيشٌ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَقَالَ أَصْبَغُ : يُخَوَّفُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ بِالْقَتْلِ وَيُذَكَّرُ الْإِسْلَامَ وَيُعْرَضُ عَلَيْهِ . وَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ هَذَا إكْرَاهٌ بِنَوْعٍ مِنْ الْعَذَابِ فَلَمْ يُؤْخَذْ بِهِ فِي مُدَّةِ الِاسْتِتَابَةِ كَالضَّرْبِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ .
( مَسْأَلَةٌ ) وَالْعَبْدُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وَهَذَا عَامٌّ وَمِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ سَبَبٌ يُقْتَلُ بِهِ الرَّجُلُ فَجَازَ أَنْ تُقْتَلَ بِهِ الْمَرْأَةُ كَالْقَتْلِ .
( مَسْأَلَةٌ ) وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُرْتَدُّ مِمَّنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ لَمْ يُولَدْ عَلَيْهِ قَالَ مَالِكٌ هُمْ سَوَاءٌ يُسْتَتَابُونَ كُلُّهُمْ فَإِنْ تَابُوا ، وَإِلَّا قُتِلُوا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَغَيْرِهَا . وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِهِ فَكَانَ حُكْمُهُ مَا تَقَدَّمَ كَاَلَّذِي بَدَّلَهُ وَهُوَ عَلَى الْإِسْلَامِ .
( مَسْأَلَةٌ ) وَمَنْ كَانَ إسْلَامُهُ عَنْ ضِيقٍ أَوْ غُرْمٍ أَوْ خَوْفٍ ثُمَّ ارْتَدَّ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ : لَهُ فِي ذَلِكَ عُذْرٌ ، وَقَالَ أَشْهَبُ : لَا عُذْرَ لَهُ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ عَنْ ضِيقٍ وَقَالَ أَصْبَغُ قَوْلُ مَالِكٍ أَحَبُّ إلَيَّ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَهَابِ الْخَوْفِ فَهَذَا يُقْبَلُ . وَأَنْكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَنْ ضِيقٍ أَوْ غَيْرِهِ وَيُقْتَلُ إِنْ رَجَعَ قَالَهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونَ عَنْ مَالِكٍ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ فِعْلَ الْمُكْرَهِ لَا حُكْمَ لَهُ وَهَذَا لَمَّا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ كُرْهًا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُهُ . وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُ الرَّبِّ - تَعَالَى - فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ إِلَى غَفُورٌ رَحِيمٌ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ ، وَإِنْ دَخَلُوا الْإِسْلَامَ عَلَى ذَلِكَ ثَبَتَ لَهُمْ حُكْمُهُ .
( مَسْأَلَةٌ ) فَإِذَا قُلْنَا لَا يُقْتَلُ عَلَى الرِّدَّةِ مَنْ أَسْلَمَ عَنْ ضِيقِ خَرَاجٍ أَوْ جِزْيَةٍ أَوْ مَخَافَةٍ فَقَدْ قَالَ أَصْبَغُ : يُؤْمَرُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُحْبَسُ وَيُضْرَبُ فَإِنْ رَجَعَ ، وَإِلَّا تُرِكَ ، وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّا لَا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْإِسْلَامَ فَلِذَلِكَ نَدْعُوهُ إِلَيْهِ وَنُشَدِّدُ عَلَيْهِ فِي مُرَاجَعَتِهِ وَلَا يَبْلُغُ الْقَتْلَ لِمَا ثَبَتَ مِنْ ظَاهِرِ أَمْرِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .
==============
قتل من كفر بعد إسلامه(1)
( ص ) : ( مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَسَأَلَهُ عَنْ النَّاسِ فَأَخْبَرَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ هَلْ كَانَ فِيكُمْ مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ فَقَالَ نَعَمْ رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ قَالَ فَمَا فَعَلْتُمْ بِهِ قَالَ قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ فَقَالَ عُمَرُ أَفَلَا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ عُمَرُ اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي ) .
__________
(1) - المنتقى - شرح الموطأ - (ج 4 / ص 24)(2/42)
( ش ) : قَوْلُهُ : إنَّ رَجُلًا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى فَسَأَلَهُ عَنْ النَّاسِ فَأَخْبَرَهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ مِنْ السُّؤَالِ عَمَّنْ غَابَ عَنْهُ مِنْ رَعِيَّتِهِ ; لِيَعْرِفَ أَحْوَالَهُمْ وَيَسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ الْوَارِدِ وَالصَّادِرِ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ ; لِأَنَّهُ إذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالُهُمْ لَمْ يُمْكِنْهُ تَلَافِيَ مَا ضَاعَ مِنْهَا . ( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ هَلْ فِيكُمْ مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ سَأَلَهُ أَوَّلًا عَنْ الْمَعْهُودِ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ وَمَا يَعُمُّهُمْ ثُمَّ سَأَلَهُ عَمَّا عَسَى أَنْ يَطْرَأَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تُسْتَغْرَبُ وَلَيْسَتْ بِمُعْتَادَةٍ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ رَجُلًا كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ نَادِرًا عِنْدَهُمْ مِمَّا يُسْتَغْرَبُ وَلَا يَكَادُ يَسْمَعُ بِهِ وَلِذَلِكَ حَكَمَ فِيهِ أَبُو مُوسَى بِحُكْمٍ مُخَالِفٍ لِمَا يَرَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَلَوْ كَانَ أَمْرًا يَكْثُرُ وَيَتَكَرَّرُ لَكَانَ عِنْدَ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنْ الْأُمَرَاءِ مَا يَعْتَقِدُهُ فِي ذَلِكَ عُمَرُ ; لِأَنَّهُ يَظْهَرُ مُوَافَقَةُ أَصْحَابِهِ فَيَشِيعُ ذَلِكَ أَوْ يَظْهَرُ مُخَالِفَةُ مَنْ أَخْطَأَ فَيَشِيعُ ذَلِكَ .
( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُهُ فَمَا فَعَلْتُمْ بِهِ بَحْثٌ عَنْ حُكْمِهِمْ فِيهِ وَتَعَرُّفٌ لَهُ ; لِيَأْمُرَ بِاسْتِدَامَةِ الصَّوَابِ وَالْإِقْلَاعِ عَنْ الْخَطَأِ فَقَالَ قَدَّمْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ اسْتِتَابَةً وَلَا غَيْرَهَا وَقَدْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقْتَلَ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ وَإِبَايَتِهِ مِنْ الْمُرَاجَعَةِ لَكِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه فَهِمَ مِنْهُ تَرْكَ الِاسْتِتَابَةِ وَالْمُسَارَعَةِ إلَى قَتْلِهِ بِنَفْسِ كُفْرِهِ . وَقَدْ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى وُجُوبِ اسْتِتَابَتِهِ قَوْلُ عُمَرَ هَذَا , وَأَنْ لَا مُخَالِفَ لَهُ وَهَذَا لَا يَصِحُّ إلَّا بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَحْمِلَ فِعْلَ أَبِي مُوسَى عَلَى أَنَّهُ قَتَلَ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ وَلَعَلَّ النَّاقِلَ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا , وَإِنْ ثَبَتَ بَعْدَ ذَلِكَ رُجُوعُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ مِمَّنْ وَافَقَهُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه , وَإِلَّا فَأَبُو مُوسَى وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ .
( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُهُ أَفَلَا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا يَحْتَمِلُ أَنْ يَأْخُذَ الثَّلَاثَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } ; وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ قَدْ جُعِلَتْ أَصْلًا فِي الشَّرْعِ فِي اعْتِبَارِ مَعَانٍ وَاخْتِيَارُهَا فِي الْمُصَرَّاةِ وَفِي اسْتِظْهَارِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَعَهْدَةِ الرَّقِيقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي , وَإِطْعَامُهُ الرَّغِيفَ كُلَّ يَوْمٍ مَعْنَاهُ أَنْ لَا يُوَسِّعَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِنْفَاقِ تَوْسِعَةً يَكُونُ فِيهَا إحْسَانٌ إلَيْهِ , وَإِنَّمَا يُعْطَى مَا يَبْقَى بِهِ رَمَقُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَضِرُّ بِهِ وَلَا يَكُونُ مِنْهُ تَعْذِيبٌ لَهُ . وَقَدْ رُوِيَ فِي الْمُزَنِيَّة عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ فِي أَنْ يُطْعَمَ الْمُرْتَدُّ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا وَلَكِنْ يُطْعَمُ مَا يَكْفِيهِ وَيَقُوتُهُ وَلَا يَجُوعُ , وَإِنَّمَا يُطْعَمُ مِنْ مَالِهِ قَالَ ابْنُ مُزَيْنٍ : يَعْنِي فِي غَيْرِ تَوَسُّعٍ وَلَا تَفَكُّهٍ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ : يَقُوتُ مِنْ الطَّعَامِ بِمَا لَا يَضُرُّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ , وَإِنَّمَا أَرَادَ ابْنُ الْقَاسِمِ بِقَوْلِهِ لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ يُطْعَمُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا بِمَعْنَى أَنْ لَا يَجْعَلَ ذَلِكَ حَدًّا وَلَمْ يُرِدْ عُمَرُ أَنْ يَجْعَلَهُ حَدًّا , وَإِنَّمَا أَشَارَ إلَى قِلَّةِ مُؤْنَتِهِ وَيَسَارَةِ وِرَاثَتِهِ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ .(2/43)
( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُهُ وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيُرَاجِعُ أَمَرَ اللَّهِ - تَعَالَى - يُرِيدُ بِهِ الرُّجُوعَ إلَى الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ كُفْرٍ إلَى كُفْرٍ لَا يُسْتَتَابُ وَلَا يُعْرَضُ لَهُ . وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } يُرِيدُ الدِّينَ الَّذِي رَضِيَهُ اللَّهُ وَدَعَا إلَيْهِ , وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنْ مِلَّةِ الْكُفْرِ إلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يُغَيِّرْ بِذَلِكَ دِينَهُ الَّذِي شُرِعَ لَهُ قَالَ مَالِكٌ : سَوَاءٌ خَرَجَ إلَى دِينِ مَجُوسٍ أَوْ كِتَابٍ . ( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُهُ اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أَرْضَ إذَا بَلَغَنِي تَبَرُّؤٌ مِنْ الْأَمْرِ وَتَصْرِيحٌ بِخَطَأِ فَاعِلِهِ , وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِنَصٍّ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ إجْمَاعٍ بَعْدَهُ . وَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَتَابَ أَهْلَ الرِّدَّةِ . وَقَدْ رَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الصِّدِّيقَ اسْتَتَابَ أُمَّ قِرْفَةَ إذْ ارْتَدَّتْ فَقَتَلَهَا فَلَعَلَّهُ قَدْ عَلِمَ بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَفَعَلَ أَبُو مُوسَى غَيْرَ ذَلِكَ فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ عُمَرُ , وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ أَبُو مُوسَى مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَحَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا إجْمَاعَ لِغَيْرِ مَا يَرَاهُ عُمَرُ لَمْ يَبْلُغْ عُمَرُ مِنْ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدَّ وَلَوْ لَمْ يَجُزْ لِأَبِي مُوسَى ذَلِكَ لِمَا جَازَ أَنْ يُوَلِّيَهُ الْحُكْمَ حَتَّى يُطَالِعَهُ عَلَى قَضِيَّتِهِ , وَفِي هَذَا مِنْ فَسَادِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَتَوَقُّفِ الْأَحْكَامِ مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .
==============
وفي عمدة القاري :(1)
7103 - حدثنا ( علي بن عبد الله ) قال حدثنا ( سفيان ) عن ( أيوب ) عن ( عكرمة ) أن عليا رضي الله تعالى عنه حرق قوما فبلغ ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تعذبوا بعذاب الله ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه
مطابقته للترجمة في قوله لا تعذبوا بعذاب الله وعلى بن عبد الله هو ابن المديني وسفيان هو ابن عيينة وأيوب هو السختياني وعكرمة هو مولى ابن عباس
والحديث أخرجه البخاري أيضا في استتابة المرتدين عن أبي النعمان محمد بن الفضل وأخرجه أبو داود في الحدود عن أحمد بن حنبل وأخرجه الترمذي فيه عن أحمد بن عبدة الضبي وأخرجه النسائي في المحاربة عن محمد بن عبد الله المخزومي وعن عمران بن موسى وعن محمود بن غيلان وأخرجه ابن ماجه في الحدود عن محمد ابن الصباح قوله إن عليا حرق قوما وفي رواية الحميدي أن عليا أحرق المرتدين يعني الزنادقة وفي رواية ابن أبي عمر وعمر ابن عباد جميعا عن سفيان قال رأيت عمرو بن دينار وأيوب وعمار الدهني اجتمعوا فتذاكروا الذين أحرقهم علي فقال أيوب فذكر الحديث قال فقال عمار لم يحرقهم ولكن حفر لهم حفائر وحرق بعضها إلى بعض ثم دخن عليهم وقال عمرو بن دينار أراد بذلك الرد على عمار الدهني في إنكاره أصل التحريق وقال المهلب ليس نهيه عن التحريق على التحريم وإنما هو على سبيل التواضع والدليل على أنه ليس بحرام سمل الشارع أعين الرعاة بالنار وتحريق الصديق رضي الله تعالى عنه الفجاءة بالنار في مصلى المدينة بحضرة الصحابة وتحريق علي رضي الله تعالى عنه الخوارج بالنار وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون على أهلها بالنار وقول أكثرهم بتحريق المراكب وهذا كله يدل على أن معنى الحديث على الندب وممن كره رمي أهل الشرك بالنار عمرو بن عباس وابن عبد العزيز وهو قول مالك وأجازه علي وحرق خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه ناسا من أهل الردة فقال عمر للصديق إنزع هذا الذي يعذب بعذاب الله فقال الصديق لا أنزع سيفا سله الله على المشركين وأجاز الثوري رمي الحصون بالنار وقال الأوزاعي لا بأس أن يدخن عليهم في المطمورة إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة ويحرقوا ويقتلوا كل قتال ولو لقيناهم في البحر رميناهم بالنفط والقطران وأجاز ابن القاسم رمي الحصن بالنار والمراكب إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة فقط قوله لو كنت أنا خبره محذوف أي لو كنت أنا بدله وكان ذلك من علي بالرأي والاجتهاد قوله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تعذبوا بعذاب الله هذا أصرح في النهي من الذي قبله وأخرج أبو داود هذا الحديث عن أحمد بن حنبل وفي آخره فبلغ ذلك عليا فقال ويح ابن عباس ورأيت في نسخة صحيحة ويح أم ابن عباس قوله من بدل دينه فاقتلوه هذا يدل على أن كل من بدل دينه يقتل ولا يحرق بالنارد وبه احتج ابن الماجشون أن المرتد يقتل ولا يستتاب وجمهور الفقهاء على استتابته فإن تاب قبلت توبته واحتج به الشافعي أيضا في قوله من انتقل من كفر إلى كفر أنه يقتل إن لم يسلم وهذا مثل اليهدوي إذا تنصر أو النصراني إذا تهود وعند أبي حنيفة لا يقتل لأن الكفر كله ملة واحدة واحتج به الشافعي أيضا في قتل المرتدة وعند أبي حنيفة لا تقتل بل تحبس
__________
(1) - عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 16 / ص 64)(2/44)
6922 - حدثنا ( أبو النعمان محمد بن الفضل ) حدثنا ( حماد بن زيد ) عن ( أيوب ) عن ( عكرمة ) قال أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذالك ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله لا تعذبوا بعذاب الله ولقتلتهم لقول رسول الله من بدل دينه فاقتلوه
انظر الحديث 3017
مطابقته للترجمة في قوله من بدل دينه فاقتلوه والذي يبدل دينه هو المرتد وأيوب هو السختياني وعكرمة مولى عبد الله بن عباس
والحديث مضى في الجهاد عن علي بن عبد الله ومر الكلام فيه
قوله أتي على صيغة المجهول قوله بزنادقة جمع زنديق بكسر الزاي فارسي معرب وقال سيبويه الهاء في زنادقة بدل من ياء زنديق وقد تزندق والاسم الزندقة واختلف في تفسيره فقيل هو المبطن للكفر المظهر للإسلام كالمنافق وقيل قوم من الثنوية القائلين بالخالقين وقيل من لا دين له وقيل هو من تبع كتاب زردشت المسمى بالزند وقيل هم طائفة من الروافض تدعى السبائية ادعوا أن عليا رضي الله تعالى عنه إلاه وكان رئيسهم عبد الله بن سبأ بفتح السين المهملة وتخفيف الباء الموحدة وكان أصله يهوديا قوله فأحرقهم قد مضى في كتاب الجهاد في باب لا يعذب بعذاب الله من طريق سفيان بن عيينة عن أيوب بهذا السند أن عليا رضي الله عنه حرق قوما وروى الحميدي عن سفيان بلفظ حرق المرتدين وروى ابن أبي شيبة كان أناس يعبدون الأصنام في السر وروى الطبراني في الأوسط من طريق سويد بن غفلة أن عليا رضي الله تعالى عنه بلغه أن قوما ارتدوا عن الإسلام فبعث إليهم فأطعمهم ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا فحفروا حفيرة ثم أتى بهم فضرب أعناقهم ورماهم فيها ثم ألقى عليهم الحطب فأحرقهم ثم قال صدق الله ورسوله وروى الإسماعيلي حديث عكرمة ولفظه أن عليا أتي بقوم قد ارتدوا عن الإسلام أو قال بزنادقة ومعهم كتب لهم فأمر بنار فانضجت ورماهم فيها وروي عن قتادة أن عليا أتي بناس من الزط يعبدون وثنا فأحرقهم فقال ابن عباس الحديث قوله فبلغ ذلك ابن عباس أي بلغ ما فعله علي من الإحراق بالنار وكان ابن عباس حينئذ أميرا على البصرة من قبل علي رضي الله تعالى عنه قوله لنهي رسول الله لا تعذبوا بعذاب الله أي لنهيه عن القتل بالنار بقوله لا تعذبوا وهذا يحتمل أن يكون ابن عباس قد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون قد سمعه من بعض الصحابة واختلف في الزنديق هل يستتاب فقال مالك والليث وأحمد وإسحاق يقتل ولا تقبل توبته وقول أبو حنيفة وأبي يوسف مختلف فيه فمرة قالا بالاستتابة ومرة قالا لا قلت روي عن أبي حنيفة أنه قال إن أتيت بزنديق أستتيبه فإن تاب وإلا قتلته وقال الشافعي يستتاب كالمرتد وهو قول عبد الله بن الحسن وذكر ابن المنذر عن علي رضي الله تعالى عنه مثله وقيل لمالك لم تقتله ورسول الله لم يقتل المنافقين وقد عرفهم فقال لأن توبته لا تعرف وقال ابن الطلاع في أحكامه لم يقع في شيء من المصنفات المشهورة أنه قتل مرتدا ولا زنديقا وقتل الصديق امرأة يقال لها أم قرفة ارتدت بعد إسلامها
حدثنا ( مسدد ) حدثنا يحياى عن قرة بن خالد قال حدثني حميد بن هلال حدثنا أبو بردة عن أبي موسى قال أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين أحدهما عن يميني والآخر عن يساري ورسول الله يستاك فكلاهما سأل فقال يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس قال قلت والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما وما شعرت أنهما يطلبان العمل فكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته قلصت فقال لن أو لا نستعمل على عملنا من أراده ولكن اذهب أنت يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس إلى اليمن ثم اتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه ألقى له وسادة قال انزل وإذا رجل عنده موثق قال ما هاذا قال كان يهوديا فأسلم ثم تهود قال اجلس قال لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات فأمر به فقتل ثم تذاكرا قيام الليل فقال أحدهما أما أنا فأقوم وأنام وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي(1)
=============
وقال ابن بطال :(2)
قال المهلب: ليس نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التحريق بالنار على معنى التحريم، وإنما هو على سبيل التواضع لله، وأن لا يتشبه بغضبه فى تعذيب الخلق؛ إذ القتل يأتى على ما يأتى عليه الإحراق.
والدليل على أنه ليس بحرام سمل الرسول عين العرنيين بالنار فى مصلى المدينة بحضرة الصحابة. وتحريق على بن أبى طالب الخوارج بالنار، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون على أهلها بالنار، وقول أكثرهم بتحريق المراكب، وهذا كله يدل أن معنى الحديث على الحض والندب لا على الإيجاب والفرض - والله أعلم.
وممن كره رمى أهل الشرك بالنار: عمر بن الخطاب وابن عباس وعمر بن عبد العزيز، وهو قول مالك بن أنس، وأجازه على بن أبى طالب، وحرق خالد بن الوليد ناسًا من أهل الردة، فقال عمر لأبى بكر الصديق: انزع هذا الذى يعذب بعذاب الله. فقال أبو بكر: لا أشيم سيفًا سله الله على المشركين.
وأجاز الثورى رمى الحصون بالنار.
وقال الأوزاعى: لا بأس أن يدخن عليهم فى المطمورة إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة، ويحرقوا ويقتلوا بكل قتلة، ولو لقيناهم فى البحر رميناهم بالنفط والقطران.
وأجاز ابن القاسم حرق الحصن والمراكب إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة فقط.
وقال أيضاً :(3)
اختلف العلماء فى استتابة المرتد، فروى عن عمر بن الخطاب وعثمان وعلى وابن مسعود أنه يستتاب؛ فإن تاب وإلا قتل، وهو قول أكثر العلماء.
__________
(1) - عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 25 / ص 102)
(2) - شرح ابن بطال - (ج 9 / ص 226)
(3) - شرح ابن بطال - (ج 16 / ص 119)(2/45)
وقالت طائفة: لا يستتاب ويجب قتله حين يرتد فى الحال، روى ذلك عن الحسن البصرى وطاوس وذكره الطحاوى عن أبى يوسف، وبه قال أهل الظاهر، واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : « من بدل دينه فاقتلوه » قالوا: ولم يذكر فيه استتابةً، وكذلك حديث معاذ وأبى موسى قتلوا المرتد بغير استتابة.
قال الطحاوى: جعل أهل هذه المقالة حكم المرتد حكم الحربيين إذا بلغتهم الدعوة أنه يجب قتالهم دون أن يؤذنوا قال: وإنما تجب الاستتابة لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرة منه، فأما إن خرج منه عن بصيرة فإنه يقتل دون استتابة.
قال أبو يوسف: إن بدر بالتوبة، خليت سبيله ووكلت أمره إلى الله تعالى.
قال ابن القصار: والدليل على أنه يستتاب الإجماع، وذلك أن عمر بن الخطاب قال فى المرتد: هلا حبستموه ثلاثة أيام، وأطعتموه كل يوم رغيفًا لعله يتوب فيتوب الله عليه، اللهم لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغنى.
ولم يختلف الصحابة فى استتابة المرتد، فكأنهم فهموا من قوله - صلى الله عليه وسلم - : « من بدل دينه فاقتلوه » ، أن المراد بذلك إذا لم يتب، والدليل على ذلك قوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} [التوبة: 5] فهو عموم فى كل كافر.
وأما حديث معاذ وأبى موسى فلا حجة فيه لمن لم يقل بالاستتابة؛ لأنه روى أنه قد كان استتابه أبو موسى، روى أبو بكر بن أبى شيبة قال: حدثنا عباد بن العوام، عن سعيد، عن قتادة، عن حميد بن هلال: « أن معاذًا أتى أبا موسى وعنده يهودى أسلم، ثم ارتد، وقد استتابه أبو موسى شهرين فقال معاذ: لا أجلس حتى أضرب عنقه » .
واختلفوا فى استتابة المرتدة، فروى عن على بن أبى طالب أنها لا تستتاب وتسترق، وبه قال عطاء وقتادة وروى الثورى عن بعض أصحابه، عن عاصم بن بهدلة، عن أبى رزين، عن ابن عباس قال: لا تقتل النساء إذا هن ارتددن عن الإسلام، ولكن يحبسن ويجبرن عليه.
ولم يقل بهذا جمهور العلماء، وقالوا: لا فرق بين استتابة المرتد والمرتدة، وروى عن أبى بكر الصديق مثله.
وشذ أبو حنيفة وأصحابه فقالوا بما روى عن ابن عباس فى ذلك، وقالوا: إن ابن عباس روى عن الرسول: « من بدل دينه فاقتلوه » ولم ير قتل المرتدة فهو أعلم بمخرج الحديث، واحتجوا بأن الرسول نهى عن قتل النساء، قالوا: والمرتدة لا تقتل، فوجب أن لا تقتل كالحربية.
وحجة الجماعة أنها تستتاب قوله - صلى الله عليه وسلم - : « من بدل دينه فاقتلوه » ولفظ « من » يصلح للذكر والأنثى فهو عموم يدخل فيه الرجال والنساء؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخص امرأة من رجل.
قال ابن المنذر: وإذا كان الكفر من أعظم الذنوب وأجل جُرم اجترمه المسلمون من الرجال والنساء، ولله أحكام فى كتابه، وحدود دون الكفر ألزمها عباده، منها الزنا والسرقة وشرب الخمر وحد القذف والقصاص وكانت الأحكام والحدود التى هى دون الارتداد لازمة للرجال والنساء مع عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : « من بدل دينه فاقتلوه » فكيف يجوز أن يفرق أحد بين أعظم الذنوب فيطرحه عن النساء ويلزمهن ما دون ذلك؟ ! هذا غلط بَيِّن.
وأما حديث ابن عباس فإنما رواه أبو حنيفة، عن عاصم، وقد قال أحمد بن حنبل: لم يروه الثقات من أصحاب عاصم كشعبة وابن عيينة وحماد بن زيد، وإنما رواه الثورى، عن أبى حنيفة، وقد قال أبو بكر بن عياش: قلت لأبى حنيفة: هذا الذى قاله ابن عباس إنما قاله فيمن أتى بهيمة أنه لا قتل عليه، لا فى المرتدة، فتشكك فيه وتلون لم يقم به، فدل أنه خطأ.
ولو صح لكان قول ابن عباس معارضه؛ لأن أبا بكر الصديق مخالف له، وقد قال: تستتاب المرتدة. ثم يرجع إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - : « من بدل دينه فاقتلوه » الذى هو الحجة على كل أحد.
وأما قياسهم لها على الحربية فالفرق بينهما أن الحربية إنما لم تقتل إذ لم تقاتل؛ لأن الغنيمة تتوفر بترك قتلها؛ لأنها تسبى وتسترق، والمرتدة: لا تسبى ولا تسترق، فليس فى استبقائها غنم.
واختلفوا فى الزنديق هل يستتاب؟ فقال مالك والليث وأحمد وإسحاق: يقتل ولا تقبل توبته. قال مالك: والزنادقة: ما كان عليه المنافقون من إظهار الإيمان وستر الكفر.
واختلف قول أبى حنيفة وأبى يوسف؛ فمرة قالا: يستتاب، ومرة قالا: لا يستتاب.
وقال الشافعى: يستتاب الزنديق كما يستتاب المرتد. وهو قول عبيد الله بن الحسن.
وذكر ابن المنذر، عن على بن أبى طالب مثله.
وقيل لمالك: لم يقتل الزنديق ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل المنافقين وقد عرفهم؟ فقال: لأن توبته لا تعرف، وأيضًا فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو قتلهم وهم يظهرون الإيمان لكان قتلهم بعلمه، ولو قتلهم بعلمه؛ لكان ذريعة إلى أن يقول الناس قتلهم للضغائن والعداوة، ولامتنع من أراد الإسلام من الدخول فيه إذا رأى النبى - صلى الله عليه وسلم - يقتل من دخل فى الإسلام؛ لأن الناس كانوا حديث عهد بالكفر. هذا معنى قوله، وقد روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: « لئلا يقول الناس أنه يقتل أصحابه » .
واحتج الشافعى بقوله تعالى فى المنافقين: {واتخذوا أيمانهم جنة} [المجادلة: 16، المنافقون: 2] قال: وهذا يدل على أن إظهار الإيمان جنة من القتل وقد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشهادة بالأيمان تعصم الدم والمال، فدل أن من أهل القبلة من يشهد بها غير مخلص، وأنها تحقن دمه وحسابه على الله.
وقد أجمعوا أن أحكام الدين على الظاهر، وإلى الله السرائر، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لخالد بن الوليد حين قتل الذى استعاذ بالشهادة: « هلا شققت عن قلبه » فدل أنه ليس له إلا ظاهره.(2/46)
قال: وأما قولهم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل المنافقين لئلا يقولوا أنه قتلهم بعلمه وأنه يقتل أصحابه، قيل: وكذلك لم يقتلهم بالشهادة عليهم كما لم يقتلهم بعلمه، فدل أن ظاهر الإيمان جنة من القتل.
وفى سنته - صلى الله عليه وسلم - فى المنافقين دلالة على أمور: منها: أنه لا يقتل من أظهر التوبة من كفر بعد إيمان. ومنها: أنه حقن دماءهم، وقد رجعوا إلى غير يهودية ولا نصرانية ولا دين يظهرونه، إنما أظهروا الإسلام وأسروا الكفر، فأقرهم - صلى الله عليه وسلم - على أحكام المسلمين، فناكحوهم ووارثوهم، وأسهم لمن شهد الحرب منهم، وتركوا فى مساجد المسلمين، ولا أبين كفرًا ممن أخبر الله تعالى عن كفره بعد إيمانه.
============
وقال المناوي :(1)
8559 - (من بدل دينه) أي انتقل من الإسلام لغيره بقول أو فعل مكفر وأصر (فاقتلوه) أي بعد الاستتابة وجوباً كما جاء في بعض طرق الحديث عن عليّ، وهذا عام خص منه من بدل دينه في الباطن ولم يثبت عليه ذلك في الظاهر لأنه يجري على إحكام الظاهر ومن بدل دينه في الظاهر مكرهاً وعمومه يشمل الرجل وهو إجماع والمرأة وعليه الأئمة الثلاثة ويهودي تنصر وعكسه وعليه الشافعي ومالك في رواية وقال أبو حنيفة: لا تقتل المرأة ولأن من شرطية لا تعم المؤنث للنهي عن قتل النساء كما لا تقتل في الكفر الأصلي لا تقتل في الطارىء ولا في المنتقل لأن الكفر ملة واحدة.
<تنبيه> هذا الحديث مثل به أصحابنا في الأصول إلى ما ذهبوا إليه من أن مذهب الصحابي لا يخصص العام فإن الحديث من رواية ابن عباس مع قوله إن المرتدة لا تقتل.
- (حم خ 4 عن ابن عباس) قال ابن حجر: واستدركه الحاكم فوهم.
==============
وقال ملا علي القاري :(2)
باب قتل أهل الردة والسعاة بالفساد والسعاة بضم أوله جمع الساعي
الفصل الأول
عن عكرمة بكسر فسكون فكسر مولى ابن عباس أصله من البربر وهو أحد
__________
(1) - فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 13 / ص 59)
(2) - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (ج 11 / ص 112)(2/47)
فقهاء مكة وتابعيها سمع ابن عباس وغيره من الصحابة وروى عنه خلق كثير قال أتى أي جيء علي كرم الله وجهه بزنادقة أي بقوم مرتدين أو بجمع ملحدين في القاموس الزنديق بالكسر من الثنوية أو القائل بالنور والظلمة أو من لا يؤمن بالآخرة بالربوبية أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان أو هو معرب زن دين أي دين المرأة اه وسئل عن الزنديق من هو فأجاب الزنديق هو من يقول ببقاء الدهر أي لا يؤمن بالآخرة ولا بالخالق ويعتقد أن الأموال والحرم مشتركة وقال في مكان آخر هو أن لا يعتقدا لها ولا حرمة شيء من الأشياء وفي قبول توبته روايتان والذي يرجح عدم قبول توبته كذا في الفتاوى لقارىء الهداية وقال الليث زنديق معروف وزندقته أنه لا يؤمن بالآخرة ووحدانية الخالق وعن ثعلب ليس زنديق ولا فرزين من كلام العرب ومعناه على ما يقول العامة ملحد دهري فأحرقهم أي أمر علي بإحراقهم فأحرقوهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال لو كنت أنا أنا تأكيد للضمير المتصل والخبر محذوف أي لو كنت أنا بدله لم أحرقهم لنهى رسول الله لا تعذبوا بعذاب الله قال القاضي الزنديق قوم من المجوس و يقال لهم الثنوية يقولون بمبدأين أحدهما النور وهو مبدأ الخيرات والثاني الظلمة وهو مبدأ الشرور ويقال إنه معرب مأخوذ من الزند وهو كتاب بالفهلوية كان لزرادشت المجوسي ثم استعمل لكل ملحد في الدين وجمعه الزنادقة والهاء فيه بدل من الياء المحذوفة فإن أصله زناديق والمراد به قوم ارتدوا عن الإسلام لما أورد أبو داود في كتابه إن عليا رضي الله عنه أحرق ناسا ارتدوا عن الإسلام وقيل قوم من السابئة أصحاب عبد الله بن سبا أظهر الإسلام ابتغاء للفتنة وتضليلا للأمة فسعى أولا في إثارة الفتنة على عثمان حتى جرى عليه ما جرى ثم انضوى إلى الشيعة فأخذ في تضليل جهالهم حتى اعتقدوا أن عليا رضي الله عنه هو المعبود فعلم بذلك علي فأخذهم واستتابهم فلم يتوبوا فحفر لهم حفرا وأشعل النار ثم أقر بأن يرمي بهم فيها والإحراق بالنار وإن نهى عنه كما ذكره ابن عباس لكن جوز للتشديد بالكفار والمبالغة في النكاية والنكال كالمثلة ولقتلتهم لقول رسول الله من بدل دينه فاقتلوه قال الطيبي ولقتلتهم عطف على جواب ولم يؤت باللام في الثاني وعزل عن الأول لما أن الجواب منفي بلم وهي مانعة لدخولها أو لأن هذه اللام تفيد معنى التوكيد لا محالة فادخل في الثاني لأن القتل أهم وأحرى من غيره لورود النص أن النار لا يعذب بها إلا الله لأنه أشد العذاب ولذلك أوعد بها الكفار والاجتهاد يضمحل عنده ولعل عليا رضي الله عنه لم يقف عليه واجتهد حينئذ قال التوربشتي كان ذلك منه عن رأي واجتهاد لا عن توقيف ولهذا لما بلغه قول ابن عباس لو كنت أنا لم أحرقهم الحديث قال ويح أم ابن عباس وأكثر أهل العلم على أن هذا القول ورد مورد المدح والإعجاب بقوله وينصره ما جاء في رواية أخرى عن شرح السنة فبلغ ذلك عليا فقال صدق ابن عباس رواه البخاري وكذا أحمد والأربعة في الهداية وإذا ارتد المسلم عن الإسلام والعياذ بالله عرض عليه الإسلام فإن كانت له شبهة أبداها كشفت عنه لأنه عساه اعترته أي عرضت له شبهة فتزاح عنه ودفع شره بأحسن الأمرين وهما القتل والإسلام وأحسنهما الإسلام قال ابن الهمام ولما كان ظاهر كلام القدوري وجوب العرض قال إلا أن العرض على ما قالوا أي المشايخ غير واجب بل مستحب لأن الدعوة قد بلغته وعرض الإسلام هو الدعوة إليه ودعوة من بلغته الدعوة غير واجبة بل مستحبة قال صاحب الهداية ويحبس ثلاثة أيام فإن أسلم فيها وإلا فيقتل قال ابن الهمام وهذا اللفظ أيضا من القدوري يوجب وجوب الانتظار ثلاثة أيام وفي الجامع الصغير المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أبى قتل أي مكانه فإنه يفيد أن أنظاره الأيام الثلاثة ليس واجبا ولا استحبابا وإنما تعينت الثلاثة لأنها مدة ضربت لإبراء العذر بدليل حديث حيان بن منقذ في الخيار ثلاثة أيام ضربت للتأمل بدفع الفتن وقصة موسى مع العبد الصالح إن سألتك عن شيء بعدها الكهف وهي الثالثة إلى قوله قد بلغت من لدني عذرا الكهف وعن عمران رجلا أتاه من قبل أبي موسى فقال له هل من مغربة خبر فقال نعم رجل ارتد عن الإسلام فقتلناه فقال هلا حبستموه في بيت ثلاثة أيام وأطعمتموه في كل يوم رغيفا لعله يتوب ثم قال اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض أخرجه مالك في الموطأ لكن ظاهر تبري عمر يقتضي الوجوب وتأويله أنه لعله طلب التأجيل وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يستحب أن يؤجله ثلاثة أيام طلب ذلك أو لم يطلب وعن الشافعي أن على الإمام أن يؤجل ثلاثة أيام ولا يحل قتله قبلها والصحيح من قول الشافعي أنه إن تاب وإلا قتل الحديث معاذ وقوله من بدل دينه فاقتلوه من غير تقييد بإنظار وهو اختيار ابن المنذر وهذا إن أريد به عدم وجوب الأنظار فهو مذهبنا والاستدلال مشترك ومن الأدلة أيضا قوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم التوبة وهذا كافر حربي وإن كان أريد به نفي استحباب الإمهال فنقول هذه الأوامر مطلقة وهي لا تقتضي الفور فيجوز التأخير على ما عرف ولا فرق في وجوب قتل المرتد بين كون المرتد حرا أو عبدا وإن كان يتضمن قتله إبطال حق المولي بالإجماع وإطلاق الدلائل التي ذكرناها وكيفية توبته أن يتبرأ عن الأديان كلها سوى دين الإسلام لأنه لا دين له ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه لحصول المقصود والإقرار بالبعث والنشور مستحب وبه قال الأئمة الثلاثة وفي شرح الطحاوي سئل أبو يوسف عن الرجل كيف يسلم فقال يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ويقر بما جاء به من عند الله ويتبرأ عن الدين الذي انتحله ثم لو ارتد بعد إسلامه ثانيا قبلنا توبته أيضا وكذا ثالثا ورابعا إلا أن الكرخي قال فإن عاد بعد الثالثة يقتل إن(2/48)
لم يتب في الحال ولا يؤجل قال ابن الهمام قول أصحابنا جميعا إن المرتد يستتاب أبدا وأما ما ذكره الكرخي فروى في النوادر وذلك لإطلاق قوله فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم التوبة وعن ابن عمر وعلي لا تقبل توبة من كرر ردته كالزنديق وهو قول مالك وأحمد والليث لقوله تعالى إن الذين آمنوا ثم كفروا البقرة الآية قلنا رتب عدم المغفرة على شرط قوله ثم ازدادوا كفرا البقرة وفي الدراية قال في الزنديق لنا روايتان في رواية لا تقبل توبته كقول مالك وأحمد وفي رواية تقبل كقول الشافعي وهذا في حق أحكام الدنيا أما فيما بينه وبين الله جل ذكره إذا صدق قبله سبحانه وتعالى بلا خلاف وأما المرتدة فلا تقتل ولكن تحبس أبدا حتى تسلم أو تموت وتضرب خمسة وسبعين سوطا واختاره قاضيخان للفتوى وعند الأئمة الثلاثة تقتل المرتدة لما روينا من قوله عليه الصلاة والسلام من بدل دينه فاقتلوه وهو حديث في صحيح البخاري وغيره ولنا أن النبي نهى عن قتل النساء والصبيان كما في الصحيحين وهذا مطلق يعم الكافر أصليا وعارضيا فكان مخصصا لعموم ما رواه بعد أن عمومه مخصوص بمن بدل من الكفر إلى الإسلام نعم لو كانت المرتدة ذات رأي وتبع تقتل لا لردتها بل لأنها حينئذ تسعى في الأرض بالفساد وقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي رزين عن ابن عباس قال لا تقتل النساء إذا هن ارتددن عن الإسلام ولكن يحبسن ويدعين إلى الإسلام ويجبرن عليه وأما ما روى الدارقطني عن جابر أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام فأمر النبي أن يعرض عليها الإسلام فإن رجعت وإلا قتلت فضعف بعمر بن بكار ومعارض بآخر مثله وأخرج الطبراني بسند حسن عن معاذ بن جبل أن رسول الله قال له حين بعثه إلى اليمن أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن تاب فاقبل منه وإن لم يتب فاضرب عنقه وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن تابت فاقبل منها وإن أبت فاستتبها وأما ما روي عن ابن معين أنه قال كان الثوري يعيب على أبي حنيفة حديثا كان يرويه عن عاصم عن أبي رزين لم يروه غير أبي حنيفة عن عاصم عن أبي رزين فمدفوع بأنه أخرجه الدارقطني عن أبي مالك النخعي عن عاصم به فزال انفراد أبي حنيفة الذي ادعاه الثوري وأخرج الدارقطني عن علي المرتدة تستتاب ولا تقتل وضعف بخلاس وفي شرح مسلم للنووي اختلف أصحابنا في قبول توبة الزنديق وهو الذي ينكر الشرع فذكروا فيه خمسة أوجه أصحها والأصوب منها قبولها مطلقا للأحاديث الصحيحة المطلقة والثاني لا يقبل ويتحتم قتله لكنه إن صدق في توبته نفعه ذلك في الدار الآخرة فكان من أهل الجنة والثالث إن تاب مرة واحدة قبلت توبته فإن تكرر منه ذلك لم تقبل والرابع إن أسلم ابتداء من غير طلب قبل منه وإن كان تحت السيف فلا والخامس إن كان داعيا إى الضلال لم يقبل منه وإلا قبل منه والله تعالى أعلم
===============
وفي كتاب فقه الدعوة :(1)
149 - باب لا يعذب بعذاب الله
120 - [3017]- حدثنا علي بن عبد الله : حدثنا سفيان، عن أيوب، عن عكرمة : أن عليا (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حرق قومًا، فبلغ ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: « لا تعذبوا بعذاب الله » ، ولقتلتهم كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « من بدل دينه فاقتلوه » .
(2) وفي رواية: "أتي علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لنهي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. « لا تعذبوا بعذاب الله » ؛ ولقتلتهم؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « من بدل دينه فاقتلوه » .
(3)
شرح غريب الحديث:
* " الزنديق ": المشهور على ألسنة الناس أن الزنديق هو الذي لا يتمسك بشريعة، ويقول بدوام الدهر، والعرب تعبر عن هذا بقولهم: ملحد: أي طاعن في الأديان (4) وقيل: الزنديق: من الثنوية، أو القائل بالنور والظلمة، أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية، أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 78.
(2) [الحديث 3017] طرفه في: كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة، 8 / 64، برقم 6922.
(3) الطرف رقم 6922.
(4) المصباح المنير، للفيومي، كتاب الزاي، مادة: «الزنديق» 1 / 256.
(1) وقيل: الزنديق: هو كل من ليس على ملة من الملل المعروفة، ثم استعمل في كل معطل، وفي من أظهر الإسلام وأسر غيره .
(2) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الزنديق في عرف الفقهاء: هو المنافق الذي كان على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره، سواء أبطن دينًا من الأديان: كدين اليهود والنصارى، أو غيرهم، أو كان معطلًا جاحدًا للصانع والمعاد، والأعمال الصالحة" .
(3)
الدراسة الدعوية للحديث:
في هذا ا لحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1- من موضوعات الدعوة: التحذير من التعذيب بعذاب الله عَزَّ وجَلَّ .
2 - أهمية ذكر الدليل عند الفتوى لرفع الإلباس .
3 - من أصناف المدعوين: الزنادقة الملحدون .
4 - من وظائف الإمام المسلم: قتل المرتدين بعد استتابتهم .
5 - من أساليب الدعوة: الترهيب .
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولًا: من موضوعات الدعوة: التحذير من التعذيب بعذاب الله عَزَّ وجَلَّ:
_________
(1) القاموس المحيط، للفيروز آبادي، فصل الزاي، باب القاف، ص 1151.
(2) مشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الزاي مع النون، 1 / 311.
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 7 / 471.
__________
(1) - فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري - (ج 3 / ص 55)(2/49)
إن هذا الحديث فيه دلالة واضحة على أن التحذير من التعذيب بعذاب الله من موضوعات الدعوة التي ينبغي للداعية أن يحذر الناس من فعلها؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لا تعذبوا بعذاب الله » وهذا يعم تعذيب الإنسان والحيوان، أما ما فعله علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فلأنه لم يبلغه نهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التعذيب بالنار؛ قال الكرماني رحمه الله: "كان ذلك من علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بالرأي والاجتهاد" (1) والمجتهد المصيب له أجران، وغيره له أجر على اجتهاده .
(2) ثانيًا: أهمية ذكر الدليل عند الفتوى لرفع الإلباس:
إن من الأمور المهمة للداعية أن يذكر الدليل على ما يقول أو يفتي به؛ لأن الدليل يرفع الإلباس، ويقوي اليقين، ويزيل الشك؛ ولهذا قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في هذا الحديث: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: « لا تعذبوا بعذاب الله » ولقتلتهم كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « من بدل دينه فاقتلوه » .
وهذا يبين أهمية ذكر الدليل والعناية به .
(3) ثالثًا: من أصناف المدعوين: الزنادقة الملحدون:
_________
(1) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 13 / 27.
(2) انظر: الحديث رقم 94، الدرس الثاني.
(3) انظر: حديث رقم 94، الدرس الثامن.
ظهر في هذا الحديث أن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حرق الزنادقة، فدل ذلك على أنهم من أصناف المدعوين الذين يدعون إلى الله عَزَّ وجَلَّ .
فينبغي للداعية أن يسلك معهم أربعة مسالك: 1- بيان الأدلة الفطرية على وجود الله عَزَّ وجَلَّ وربوبيته؛ لأن الفطرة: الخلقة التي خلق عليها كل موجود أول خلقه (1) والخلقة التي خلق عليها المولود في بطن أمه، والدين (2) قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه » . (3) واستدل أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بعد سياقه للحديث بقوله تعالى: { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } . (4)
_________
(1) انظر: المعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية، مادة: «فطر» 2 / 694.
(2) القاموس المحيط للفيروز آبادي؛ فصل الفاء، باب الراء، ص 587.
(3) متفق عليه من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؛ وهل يعرض على الصبي الإسلام؛ 2 / 119 برقم 1358، ومسلم، في كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة: حكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، 4 / 2047 برقم 2658 .
(4) سورة الروم, الآية : 30 .
فينبغي للداعية أن يوضح للملحدين أن كل مولود يولد على نوع من الجبلة والطبع المتهيئ لقبول الدين فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يعدل عنها من يعدل لآفة من آفات البشر والتقليد، وكل مولود يولد على معرفة الله والإقرار به، فلا تجد أحدًا إلا وهو يقر بأن له صانعًا، وإن سماه بغير اسمه، أو عبد معه غيره (1) وإذا نظر العاقل ورجع إلى نفسه وعقله أدنى رجوع عرف افتقاره إلى الخالق عَزَّ وجَلَّ: في تكوينه، وبقائه، وتقلبه في أحواله (2) وإذا نظر إلى الخلائق علم فقرهم كلهم إلى الخالق في كل شيء: فقراء إليه في الخلق والإيجاد، وفي البقاء والرزق والإمداد، وفقراء إليه في جلب المنافع ودفع المضار، فانظر إلى حالة الناس إذا كربتهم الشدائد ووقعوا في المهالك، وأشرفوا على الأخطار، أو شاهدوا شيئًا من الحوادث المتجددة: كالصواعق أو الرعد، والبرق والزلازل، والبراكين المتفجرة الثائرة، والريح الشديدة، وانهمار الأمطار الغزيرة، واضطراب أمواج البحار، وفيضانات الأنهار؛ فإنهم إذا حصلت هذه المشاهد العظيمة يلجئون إلى الله، وترتفع أصواتهم بالدعاء، وقلوبهم تنظر إلى إغاثة الخالق عَزَّ وجَلَّ، ولو لم يكن إلا خلق
_________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، 3 / 457، وفتاوى ابن تيمية، 4 / 245، ودرء تعارض العقل والنقل له، 9 / 375، وفتح الباري لابن حجر، 3 / 248،.
(2) انظر: كتاب الداعي إلى الإسلام، لعبد الرحمن الأنباري ص211، ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 3 / 113.
الإنسان؛ فإنه من أعظم الآيات، فكل يعلم أنه لم يحدث نفسه، ولا أبواه أحدثاه، ولا أحد من البشر أحدثه، ويعلم أنه لا بد له من خالق خلقه، وأن هذا الخالق موجود، حي، عليم، قدير، سميع، بصير، حكيم، حفيظ (1) قال الله عَزَّ وجَلَّ: { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } . (2)
2 - بيان البراهين والأدلة العقلية؛ فإن هذه الأدلة لها التأثير البليغ في دعوة هؤلاء إلى الله عَزَّ وجَلَّ، فيقال لهؤلاء الذين ينكرون وجود الله عَزَّ وجَلَّ: الأمور الممكن تقسيمها في العقل ثلاثة لا رابع لها: (أ) إما أن توجد هذه المخلوقات بنفسها صدفة من غير محدث ولا خالق خلقها، فهذا محال ممتنع تجزم العقول ببطلانه ضرورة ويعلم يقينًا أن من ظن ذلك فهو إلى الجنون أقرب منه إلى العقل؛ لأن كل من له عقل يعرف أنه لا يمكن أن يوجد شيء من غير موجد ولا محدث، فلا بد لكل حادث من محدث ولا سبيل إلى إنكار ذلك؛ فإن وجود الشيء من غير موجد محال وباطل، بالمشاهدة والحس والفطرة السليمة .
_________
(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية 3 / 122، 129، 131، 137، 8 / 487 والرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة للسعدي، ص 251 - 252، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي، 2 / 237.
(2) سورة الذاريات, الآية : 21 .(2/50)
(ب) وإما أن تكون هذه المخلوقات الباهرة هي المحدثة الخالقة لنفسها، فهذا أيضًا محال ممتنع بضرورة العقل، وكل عاقل يجزم أن الشيء لا يحدث نفسه ولا يخلقها؛ لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقا؟! فإذا بطل هذان القسمان عقلًا وفطرة، وبان استحالتهما تعين القسم الثالث: (ج) وهو أن هذه المخلوقات بأجمعها علويها وسفليها، وهذه الحوادث لا بد لها من خالق ينتهي إليه الخلق، والملك، والتدبير، وهو الله العظيم الخالق لكل شيء المتصرف في كل شيء، المدبر للأمور كلها (1) ؛ ولهذا الدليل العقلي والبرهان القطعي قال الله عَزَّ وجَلَّ: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ }{ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ }{ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ } (2) .
وهذا يوضح أن العدم لا يخلق شيئا، والطبيعة لا تملك قدرة، والصدفة العمياء لا توجد حياة .
_________
(1) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 1 / 66، ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 3 / 113، والرياض الناضرة للسعدي ص 247، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، 7 / 195، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي، 4 / 368.
(2) سورة الطور, الآيات: 35-37 .
3 - ذكر الأدلة الحسية المشاهدة التي تدل على وجود الله، وربوبيته، وأنه الخالق لكل شيء المستحق للعبادة، وهذه الأدلة على نوعين: (أ) النوع الأول: إجابة الله عَزَّ وجَلَّ للدعوات في جميع الأوقات، فلا يحصي الخلق ما يعطيه الله للسائلين وما يجيب به أدعية الداعين، ويرفع به كرب المكروبين فتحصل المطالب الكثيرة بأسباب دعاء بعض العباد لربهم، والطمع في فضله والرجاء لرحمته، وهذا برهان مشاهد محسوس، لا ينكره إلا مكابر (1) قال الله عَزَّ وجَلَّ: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } (2) .
_________
(1) انظر: الرياض الناضرة للسعدي ص 253.
(2) سورة النمل, الآية : 62 .
(ب)- النوع الثاني: معجزات الأنبياء وهي آيات يشاهدها الناس أو يسمعونها وهي من أعظم البراهين القاطعة على وجود مرسلهم؛ لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر يجريها الله عَزَّ وجَلَّ تأييدًا لرسله ونصرًا لهم عليهم الصلاة والسلام (1) ومن ذلك قوله عْزَّ وجْلّ: { فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } (2) إلى غير ذلك من الآيات العظيمة. (3) 4 - ذكر الأدلة الشرعية: وهي طريق الهداية الكاملة، وهي ما جاء عن الله عَزَّ وجَلَّ وعن رسله عليهم الصلاة والسلام، وهي تجمع بين الأدلة العقلية والنقلية، فالكتب السماوية كلها تنطق بأن الله الخالق لكل شيء المستحق للعبادة، وما جاءت به من مصالح العباد دليل على أنها من رب حكيم عليم بمصالح خلقه، وما جاءت به من الأخبار الكونية التي شهد الواقع بصدقها دليل على أنها من رب قادر على إيجاد ما أخبر به .
(4) رابعًا: من وظائف الإمام المسلم: قتل المرتدين بعد استتابتهم:
_________
(1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسح لابن تيمية 6 / 361.
(2) سورة الشعراء, الآية : 63
(3) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 6 / 55- 481.
(4) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 1 / 172- 180، 7 / 39، ومجموع الفتاوى له، 6 / 71، وشرح أصول الإيمان لمحمد بن صالح العثيمين ص 17.
لا ريب أن من الوظائف العظيمة والأمور المهمة قتل إمام المسلمين للمرتدين عن دين الإسلام بعد استتابتهم وامتناعهم عن الرجوع إلى دين الإسلام؛ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث: « من بدل دينه فاقتلوه » وقد بين الله عَزَّ وجَلَّ عظم جريمة المرتدين فقال: { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (1) .
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: "وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتدين" (2) فإذا كان المرتد عن دين الإسلام بالغًا، عاقلًا،، دعاه الإمام أو نائبه إلى الإسلام ثلاثة أيام فإن رجع وإلا قتل .
(3) خامسًا: من أساليب الدعوة: الترهيب:
دل هذا الحديث على أسلوب الترهيب؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « من بدل دينه فاقتلوه » ؛ فإن فيه الترهيب من الردة؛ لأن من ارتد عن الإسلام قتل، وأسأل الله العفو والعافية لي ولجميع المسلمين .
(4)
_________
(1) سورة البقرة, الآية : 217 .
(2) المغني، 264 / 12.
(3) انظر: عارضة الأحوذي بشرح سنن الترمذي لابن العربي 3 / 424، والمغني لابن قدامة، 12 / 264.
(4) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر.
================(2/51)
الباب الثالث - أقوال الفقهاء
ففي الفقه على المذاهب الأربعة :(1)
*4* حكم نكاح المرتد عن دينه من الزوجين
*-إذا ارتد أحد الزوجين عن دينه، أو ارتدا معاً. فإنه يتعلق بذلك أمور: أحدها هل يفسخ عقد الزواج بينهما إذا ارتد أحدها. أو ارتدا معاً؟ ثانيها: هل ارتداد الزوج كارتداد المرأة في الفسخ، أو لا؟ ثالثها: هل يكون الفسخ طلاقاً بهدم عدد الطلقات الثلاث، أو لا؟ رابعها: هل يرث المرتد من الآخر، أو لا؟ وما حكم تصرفه في حال ردته، خامسها: ما حكم مهر المرأة وعدتها فيما إذا ارتد هو، أو هي؟ سادسها: ما عقاب المرتد منهما؟ سابعها: ما هي الأقوال، أو الأعمال التي توجب الكفر والردة؟
أما الجواب عن هذه الأسئلة فتراه مفصلاً في المذاهب تحت الخط الموضوع أمامك (1).
__________
(1) - الفقه على المذاهب الأربعة - (ج 4 / ص 105)
--------------------------
(1) (الحنفية - قالوا: أما الجواب عن الأول فإنه إذا ارتد الزوج عن دينه بانت منه زوجته في الحال لأنه لا يحل للكافر أن يستولي على المسلمة بحال من الأحول، ويفرق بينهما عاجلاً بدون قضاء، أما إذا ارتدت الزوجة وحدها فإن في ذلك أقوالاً ثلاثة.
القول الأول: أن ردتها تكون فسخاً للنكاح، وتعزر بالضرب كل ثلاثة أيام بحسب حالها وما يراه الإمام زاجراً لها، وتجبر الإسلام بالحبس إلى أن تسلم أو تموت وهي محبوسة، وإذا أسلمت تمنع من التزوج بغير زوجها، بل تجبر على تجديد النكاح بمهر يسير، رضيت، أو لم ترض، فلكل قاض أن يجدد نكاحها على زوجها، ولو نصف جنيه متى طلب الزوج ذلك، أما إذا سكت أو تركها صريحاً، فإنها تزوج بغيره حينئذ، وهذا العمل بالتعزير والإجبار على الإسلام وتجديد النكاح فإن تعذر ذلك سقط العمل به.
القول الثاني: أن ردة المرأة لا توجب فسخ النكاح مطلقاً، خصوصاً إذا تعمدت الردة لتتخلص من زوجها، وعلى ذلك فلا فسخ ولا تجديد للنكاح وهذا هو الذي أفتى به علماء بلخ، وهو الذي يجب العمل به في زماننا، فلا يصح للقاضي أن يحيد عنه.
القول الثالث: أن المرأة إذا ارتدت تصير رقيقة مملوكة للمسلمين، فيشتريها زوجها من الحاكم، وإن كان مصرفاً يستحقاً صرفها له بدون ثمن، ولا تعود حرة إلا بالعتق، فلو أسلمت ثانياً لا تعود حرة، ومتى استولى عليها الزوج بعد ذلك ملكها، فله بيعها ما لم تكن قد ولدت منه. وهذا فيه زجر شديد للمرأة عن الردة، على أن العمل به غير ممكن اللّهم إلا في البلد التي لا يزال بها الرق موجوداً، أما إذا ارتدا معاً بحيث سجدا للضم معاً في آن واحد، أو سبق أحدهما الآخر بكلمة الكفر ولكن لم يعلم السابق، فإن نكاحهما يبقى ولا يفسخ، فإذا أسلما معاً دفعة واحدة بقي النكاح بينهما كذلك، أما إذا أسلم أحدهما قبل الآخر فسد النكاح.
أما الجواب عن السؤال الثاني، فهو أن أبا حنيفة يقول: إن الفرقة بينهما لا تكون طلاقاً، بل هي فسخ لا يهدم شيئاً من عدد الطلاق فإذا ارتد الزوج ثم تاب وجدد النكاح عليها لم ينقص ذلك شيئاً مما له من الطلاق، وكذا إذا ارتد ثانياً وجدد النكاح، ثم ارتد ثالثاً، فإن له أن يجدد نكاحها بدون محلل، ولا يقال له: إنك قد طلقتها ثلاثاً بردتك ثلاث مرات، فلا تحل له حتى تنكح زوجاً آخر، وهذا بخلاف ما إذا أسلمت زوجته ثم عرض عليه الإسلام فأبى فإن إباءه الإسلام يعتبر طلاقاً عند أبي حنيفة، كما تقدم، ومحمد يرى أن لا فرق بين الحالتين، فالفسخ فيهما يكون طلاقاً، وأبو يوسف يرى أن الفسخ في الأمرين ليس بطلاق.
ووجهة نظر أبي حنيفة أن الطلاق يتضمن الزوجية، فإنه لا يقع إلا على زوجة، أما الردة فإنها تنافي الزوجية بطبيعتها، فلا يمكن أن تجعل طلاقاً يتضمن زوجية بحال، بخلاف إباء الزوج عن الإسلام، فإنه ليس فيه خروج عن دين الإسلام، فحل محل طلاق المرأة التي أسلمت.
هذا، وإذا ارتدت المرأة ثم طلقها زوجها وهي في العدة وقع الطلاق، فإذا طلقها ثلاثاً وهي في العدة فإنها لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وذلك لأن تحريمها بالردة لم يكن على التأبيد ألا ترى أنه يرتفع بالإسلام؟ فمتى كانت في العدة كانت علاقتها به قائمة، ولكن يشترط لوقوع الطلاق أن لا تلحق بدار الحرب، فإذا لحقت بدار الحرب فطلقها زوجها ثم عادت مسلمة قبل الحيض. فعنده يقع، وعندها لا يقع، أما الزوج إذا ارتد ولحق بدار الحرب وطلق فإن طلاقه لا يقع، وإذا عاد وهو مسلم ثم طلقها قبل أن تنقضي عدتها فإنه يقع.
أما الجواب عن الثالث، فإنه إذا ارتد الزوج وورثته المرأة، بشرط أن تكون في العدة بلا فرق بين أن تكون ردته في حال مرضه أو صحته، فمتى مات الزوج بعد ردته أو لحق بدار الحرب قبل انقضاء عدتها فإنها ترثه، أما إذا ارتدت في حال صحتها ثم ماتت. أو لحقت بدار الحرب قبل انقضاء عدتها فإن الزوج لا يرثها، وإذا ارتدت في حال مرضها ثم ماتت، أو لحقت بدار الحرب فإنه يرثها، والفرق بين الزوج والزوجة في ذلك أن الزوج جزاؤه على ردته أن يعدم إن لم يتب، فكأنه وهو في صحته مريض مرضاً يفضي إلى الموت لا محالة، فيكون بمنزلة الرجل الذي يطلق زوجته وهو في مرض الموت فراراً من أن ترثه، فلا يسقط طلاقها في هذه الحالة حقها من الميراث، أما المرأة فلا تجزى على الردة بإعدام إن امتنعت عن العودة إلى الإسلام كما عرفت من أن جزاءها الحبس، فلا تكون في حال صحتها فارة بالردة من ميراث الرجل.
واعلم أن أموال المرتد لا تكون مملوكة له حال ردته ملكاً تاماً بل ملكاً موقوفاً حتى إذا أسلم عاد له ملكه التام كما كان قبل الردة بلا خلاف، أما إذا لم يسلم بأن قتل أو مات أو لحق بدار الحرب فإن ملكه يزول عن أمواله زوالاً تاماً، وعلى هذا لا ينفذ تصرفه فيها بالبيع أو الشراء أو الهبة أو غير ذلك قبل إسلامه، وهذا هو الصحيح، وغيره يرى أن ملكه لا يزول عن ماله إلا بأحد الثلاث المذكورة من القتل، أو الموت، أو اللحوق، فإذا تصرف قبل ذلك في كل ما فيه مبادلة مال بمال فإن تصرفه ينفذ، كما سيأتي قريباً.(2/52)
ثم إذا مات أو قتل، أو لحق بدار الحرب انتقل ماله لورثته المسلمين، ويعتبر إسلامهم عند القتل، أو الموت، أو اللحوق بدار الحرب، فلو كان له ولد بالغ ارتد معه ولكنه أسلم في الأيام الثلاثة المضروبة مهلة للمرتد، وبقي مسلماً عند قتل والده، أو لحوقه بدار الحرب فإنه يرث، ومثل ذلك ما إذا وطئ أمة مملوكة له بعد ردته فحملت منه بولد فإن ذلك الولد يرث لأنه كان مسلماً تبعاً لأمه المسلمة، وهذا هو الأصح، وبعضهم يقول إنه يلزم أن يكون مسلماً وقت الردة، فلو ارتد معه ولده الكبير ثم أسلم قبل قتل أبيه فإنه لا يرث، ولكن هذا ضعيف. وليس لورثته حق إلا في المال الذي كسبه وهو مسلم. فيقتسمونه بينهم حسب الفريضة الشرعية، ومنهم الزوجة، بعد أن يقضوا منه الدين الذي استدانه بعد ردته، وذلك لأنه لا ملك له حال ردته، ثم إن تصرف المرتد قبل إسلامه منه ما ينفذ باتفاق. ومنه ما لا ينفذ باتفاق، ومنه ما يوقف باتفاق، ومنه ما هو مختلف في توقفه بين الإمام، وصاحبيه، فأما الذي ينفذ باتفاق فهو خمسة:
أحدها: الطلاق في العدة، لما مر قريباً. ثانيها: قبول الهبة، ثالثها: تسليم الشفعة، فإذا طالبه أحد بحقه في الشفعة وسلم فيه فإنه يصح، وهل له أن يأخذ هو شيئاً بالشفعة بعد ردته وقبل أن يسلم؟ فقال أبو حنيفة: إنه ليس له الحق ما لم يسلم ويطلب، فإذا لم يسلم ولم يطلب بطل حقه، وقال غيره إن له الحق في الشفعة. رابعها: الحجر على عبده المأذون، فلو كان له عبد أذنه بتجارة ونحوها فله حق الحجر عليه أثناء ردته. خامسها: الاستيلاء، أي ادعاء ولد الجارية، فإذا جاءت بولد حال ردته وادعاه ثبت نسبه منه، ويرث الولد مع ورثته، وتصير أمه أم ولد.
وأما الذي يبطل باتفاق، فهو خمسة أشياء أيضاً - وهي الأمور التي تتوقف على التدين بدين ولو لم يكن سماوياً، كالمجوسية وغيرها.
الأمر الأول: النكاح، فيبطل نكاح المرتد مطلقاً، لأن النكاح إما بين مسلمين. أو بين مسلم وكتابي، أو بين كتابيين، أو وثنيين، والمرتد لا دين له حتى ولو انتقل إلى دين الكتابيين لأنه لا يقر عليه، فلا يعتبر، ولا يخفى أن الوثني له دين وإن لم يكن له كتاب، فلو تزوج المرتد، أو المرتدة وقع العقد باطلاً، ثانيها: الذبح، فذبيحة المرتد لا تؤكل. ثالثها: الصيد فلو اصطاد المرتد كان صيده ميتة. رابعها: الشهادة، فلا تقبل شهادة المرتد ولا تصح. خامسها: الإرث، فلا يرث المرتد بعد ردته ولا يورث عنه مال كسبه بعد ردته أما المال الذي كسبه حال إسلامه فإنه يورث عنه، كما مر قريباً.
وأما الذي يقع موقوفاً باتفاق، فهو أمران: شركة المفاوضة. والتصرف على ولده الصغير، فإذا عقد المرتد مع المسلم عقد شركة مفاوضة في حال ردته وقع موقوفاً، فإذا أسلم نفذ، وإذا هلك بطل،وأما المختلف في توقفه، فهو كل ما كان مبادلة مال بمال، كالبيع بجميع أنواعه، ومنه الصرف، والسلم والعتق والتدبير، والكتابة، والهبة، والإجارة والوصية، فإن أسلم نفذ كل ذلك باتفاق، وإن هلك، أو لحف بدار الحرب بطل عند أبي حنيفة، ونفذ عندهما، لأن حقه في تصرفه في ملكه لا يبطل إلا عند هلاكه، كما تقدم.
وبقيت أشياء لم ينصوا عليها، وهي ما إذا أعطي الأمان لحربي، فإنه لا ينفذ، لأن أمان الذمي لا ينفذ، فمثله الحربي من باب أولى، وكذلك لا يكون من العاقلة فلا يعين في دية ولا يعان فيها، لأن ذلك معناه التناصر بين القوم والمرتد، لا تناصر بينه وبين المسلمين، فلا ينصر ولا ينصر أما إذا أودع المرتد وديعة عند أحد أو استودعه أحد وديعة فإنه يصح وكذا إذا التقط شيئاً، أو التقط أحد لقطته فإنه تجري عليه أحكامها.
فإذا لحق بدار الحرب ثم عاد مسلماً ووجد ماله باقياً مع ورثته كان له الحق في أخذه منهم بالرضا أو القضاء بشرط أن يكون ذلك المال قائماً بيد الورثة، أما إذا خرج عن ملكهم ببيع ونحوه فإنه قد ضاع عليه، فلا حق له فيه، أما الذي أخذ منه لبيت مال المسلمين، وهو الذي كسبه في حال ردته فإن لا حق له فيه على أي حال، على أنه إذا لم يكن له وارث وأخذ بيت المال ما كسبه في زمن إسلامه ثم حضر فإن له الحق فيه، لأنه لم يكن فيئاً للمسلمين، لما عرفت من أن الفيء مقصور على المال الذي كسبه في أيام ردته فقط.
وأما الجواب عن السؤال الرابع: فهو ما تقدم فإذا طلقت قبل الدخول كان لها كل المهر سواء كانت الردة من قبلها أو من قبله، لما عرفت أن المهر يتأكد بالدخول والخلوة فلا يقبل السقوط، أما قبل الدخول والخلوة فإن ارتدت هي لم يكن لها شيء، وإن ارتد هو كان لها نصف المهر إذا سمى لها مهراً، فإذا لم يسم لها مهراً كانت لها المتعة، ثم إن كان الزوج هو المرتد بعد الدخول كان لها عليه نفقة العدة، أما إن ارتدت هي فلا نفقة لها وعليها العدة، فإذا هربت إلى دار الحرب فإنه يجوز لزوجها أن يتزوج أختها بدون عدة، فإن عادت مسلمة بعد تزوجه أختها، فإن النكاح لا يفسد باتفاق وإن عادت قبل تزوجها، فقيل: لا يفسد، وقيل: يفسد.
أما الجواب عن السؤال الخامس فقد عرفت مما قدمناه لك وهو أن المرأة تجزى بالحبس إلى أن ترجع إلى الإسلام، أو تبقى مسجونة حتى تموت، وتعزر بالضرب كل ثلاثة أيام، والرجل يحبس ثلاثة أيام، فإن أسلم وتاب فذاك وإلا قتل، هذا إذا طلب مهلة، أما إذا لم يطلب قتل لساعته، وكيفية إسلامه أن ينطق بالشهادتين ويتبرأ عن الأديان لكها سوى دين الإسلام فإن عاد فعل ذلك وهكذا، ولا يقتل إلا إذا امتنع عن الإسلام على أنه إذا تكرر منه ذلك يسجن ولا يخرج من سجنه حتى يظهر من حاله التوبة وعدم التلاعب، والمحاكم في هذه الحالة أن يضربه ضرباً وجيعاً بحيث لا يبلغ به الحد.(2/53)
أما الجواب عن السؤال السادس فهو، أن كل قول، أو فعل، أو اعتقاد ينافي ما هو معلوم من الدين بالضرورة كان خروجاً عن دين الإسلام، وذلك كمن أنكر فرضية الصلاة، أو الصيام، أو الحج، أو قال: إن المسيح صلب، أو هو ابن اللّه أو اعقد أن اللّه يشبه الحوادث، أو سجد لصنم، أو أهان مصحفاً بإلقائه في قاذورة عمداً، أو سب دين الإسلام، أو حلل حراماً معلوماً من الدين بالضرورة، كشرب الخمر، و الزنا، و اللواط، ولعب الميسر، وأكل أموال الناس بالباطل، ومن ذلك السرقة، والغش، والخيانة، وتطفيف الكيل والوزن، والاعتداء على أعراض الناس ودمائهم، كالقتل، والقذف، إلى غير ذلك من الأمور التي حرمتها الشريعة الإسلامية تحريماً باتاً، فمن فعل شيئاً من ذلك وهو مستحيل له، أو قال: إنه حلال كان مرتداً عن دين الإسلام، ومثل ذلك ما إذا أنكر نبوة أحد النبيين الذين ذكرهم القرآن الكريم، وأنكر قصة من القصص التي وردت فيه، أو أنكر آية منه، فإن هذا وأمثاله هو الذي يقال إن فاعله، أو قائله مرتد.
ولكن مؤلفي الفتاوى قد ذكروا أموراً كثيرة قالوا عنها: إنها مكفرة، ولكن الواقع غير ذلك لأنها تحتمل التأويل، وكل ما كان كذلك فلا يكون مكفراً، ومن ذلك أن يقول الإنسان بخلق القرآن فقد ذكروا أنه يكفر بهذه العبارة، وهذا غير صحيح، وذلك لأن هذه العبارة تحتمل أن ألفاظ القرآن التي نقرؤها ونتعبد بها مخلوقة للّه ولا يقول عاقل أنها قديمة، وما نقل عن الإمام أحمد كان من باب الأدب والورع، وتحتمل أيضاً ما يقوله المعتزلة من أنه ليس للّه صفة زائدة على ذاته يقال لها: الكلام ولكن اللّه خلق الكلام الذي أسمعه موسى،وخلق القرآن الذي أنزله على محمد، وقد أقاموا البرهان القوي على ذلك، ولم يكفرهم أحد بل كثير من أعلام المسلمين قال: إن رأيهم في ذلك صواب، وتحتمل ما يقوله الكرامية، من أنها حادثة زائدة على الذات قائمة بذاته، وهذا لا يلزم منه الكفر إلا إذا اعتقدوا حدوث الذات لقيام الحوادث بها، أو اعتقدوا أن اللّه ليس بمتكلم قبل أن يخلق صفة الكلام الحادثة أما إذا اعتقدوا أن اللّه متكلم بذاته، ثم إذا أراد شيئاً قال: كن وقامت بذاته، ثم ترتب عليها الأثر، فإنهم لا يكفرون، فهذا كل ما يحتمله القول بخلق القرآن، ولا يخفى أنه قابل للتأويل من جميع الجهات.
ومنه ما إذا قال الشخص: أنا مؤمن إن شاء اللّه، وهذه لا يصح أن يكفر قائلها إلا إذا نطق بها على سبيل الشك بأن كان شاكاً في إيمانه، أما إذا ذكرها تبركاً، أو تفويضاً للّه في كل الأمور فإنه لا شيء فيها، نعم ينبغي للشخص أن لا يأتي بهذه الكلمة في الأعمال المطلوبة منه جزماً كي يكون في حل من عدم فعلها ويوجب شك طالبها، ومن ذلك أن يقول الإنسان لشخص لا يمرض: إن اللّه - لا يفتكره - أو هو منسي من اللّه، وهذه الكلمة وإن كانت قبيحة، ولكن صاحبها لا يكفر إلا إذا قصد معناها المتبادر منها، وهو أنه يجوز على اللّه النسيان، أما إذا كان غرضه أن اللّه لا يحب هذا الرجل الذي لا يمرض فلا يكفر ذنوبه بالمرض فإنه لا يكفر، وإن كان قائلها جاهلاً ينبغي لمن سمعه من العارفين أن يعلمه ما يقول.
فهذه أمثلة مما ذكره مؤلفو الفتاوى. فينبغي النظر فيما ذكروه على هذا الوجه.
وبالجملة فالمحققون من الحنفية صرحوا بأنه لا يجوز تكفير المسلم إلا إذا لم يمكن تأويل كلامه، فلو قال: كلمة تحتمل الإيمان من وجه. والكفر من وجوه تحتمل على الإيمان حتى قالوا: إذا قال كلمة أو عمل يستلزم ظاهره الكفر ولكن وجدت رواية ضعيفة يحمل بها على الإيمان لا يصح المبادرة بتكفيره، نعم إذا فعل ما لا يمكن حمله على الإيمان كأن مزق مصحفاً وألقاه على الأرض لغيظ أو غضب من حالة عصبية وهو مؤمن فإنه يؤاخذ به مع اعتقاده بالنسبة لزوجته، لأن بينونتها منه بذلك حق من حقوقها، ولا يمكن للقاضي أن يدخل إلى ما في نفسه، بل لا بد من معاملته بظاهر أمره في حق هذه المرأة، أما الذي يمكن تأويله فإن فاعله أو قائله يؤمر بالتوبة والاستغفار وتجديد عقد زوجته احتياطاً، فإن أبت فلا تمكن من غرضها، ولا تجبر على التجديد.
ومن سب دين مسلم فإنه يحمل على أمرين: أحدهما سب نفس الشخص وأخلاقه التي يتخلق بها، ومن أراد ذلك فإنه لا يكفر. ثانيها: سب نفس الدين وتحقيره، ومن أراد ذلك فإنه يكفر، وبذلك لا يمكن الجزم بتكفير من شتم الدين، فلا يترتب عليه أحكام المرتدين.
ومن سب النبي صلى اللّه عليه وسلم صريحاً، أو عرض بمقامه الكريم، أو سب نبياً من الأنبياء، أو سب جبريل وميكائيل، فقد اختلف فيه قولين: أحدهما أنه يقتل حداً ولا تقبل توبته، كما يقول المالكية ثانيها: أن حكمه حكم المرتد الذي سب خالقه، فإن تاب وإلا قتل، وهذا هو الذهب الذي عليه المعمول، وإن كان سب الرسول صلى اللّه وعليه وسلم من أشنع الجرائم وأقبحها وأن الذي يقدم عليه وعنده مثقال ذرة من العقل لا يرجى منه خير فإعدامه خير من بقائه.
أما السحر،فإن تعريفه الذي عرفه المالكية يجعل الحكم في أمره واضحاً، فإنه إن كان مشتملاً على عبارات أو عمال مكفرة فإن صاحبها بها بلا كلام وإلا فإن ترتب عليه ضرر كان حراماً يكفر مستحله، وإلا شيء فيه، ولا فرق بين أن تكون الآثار المترتبة عليه حقيقة أو تكون خيالاً، لأن الحكم في هذه الحالة على الأقوال والأفعال الصادرة من المكلف، وكل ما ذكر في كتب الحنفية خاصاً بالسحر لا يخرج عن هذا، وكذلك ما نقل الشافعية، وقد صرع بعض المحققين من الحنفية أنه ينبغي العمل بمذهب الشافعية في هذا الموضوع، وهو لا يخرج عن هذا.(2/54)
المالكية - قالوا: في الجواب عن الأول والثاني: إذا ارتد الزوج فرق بينه وبين زوجته، أما إذا ارتدت هي فإن قامت القرائن على أن غرضها الاحتيال على الخلاص منه فإنها لا تبين منه، بل تعامل بنقيض قصدها، فإذا ارتد الزوج ليخلص من زوجته فإنه يعامل بقصده وتبين منه، وذلك لأن بيده طلاقها، فما كان أغناه عن الردة ليخلص منها.
أما الجواب عن الثالث وهو: هل الفراق بالردة فسخ، أو طلاق؟ فإن فيه أقوالاً ثلاثة: أحدهما: أن الردة نفسها طلاق بائن. فمتى ارتد بانت منه امرأته، كما لو طلقها طلاقاً بائناً، ويجب التفريق بينهما فوراً، وهذا هو المشهور. القول الثاني. أن الردة طلاق رجعي، وعلى القول الثاني أنه إذا تاب وهي في العدة يراجعها بدون عقد جديد، أما على القول الأول فلا بد تجديد العقد. القول الثالث: أن الردة فسخ لا طلاق، والفرق بين القول الثالث والقولين الأولين، أن القول الثالث يقتضي بقاء الطلقات الثلاث بيد الزوج إن تاب ورجع لها، أما على القول فإن عدد الطلاق ينقص بالردة كما بيناه في مذهب الحنفية.
وأما الجواب عن السؤال الرابع: وهو ميراث المرتد، فهو أن المرتد لا مال له لأن الردة توجب الحجر على المرتد فبمجرد ردته يحجر عليه الإمام أو نائبه، ويحول بينه وبين ماله والتصرف فيه، ثم يطعمه منه بقدر الحاجة، ولا ينفق منه على أولاده ولا على زوجته لأنه يعتبر في هذه الحالة معسراً، ثم يستتاب، فإن تاب ورجع إلى الإسلام يرفع عنه الحجر ويخلى بينه وبين ماله على المشهور، فيتصرف فيه كما كان قبل ارتداده، أما إذا أصرع على ردته وقتل كافراً فإن ماله يصير فيئاً لبيت مال المسلمين ولا يرثه أحد.
وأما الجواب عن السؤال الخامس، فهو أنه إذا ارتد قبل دخوله بالمرأة، فلها نصف المهر على القول بأن الردة طلاق، أما على القول بأنها فسخ فلا صداق لها، كما إذا كانت الردة من قبلها. أما بعد الدخول فلها كل المهر لأنه يتأكد بالدخول ولا يسقط.
وأما الجواب عن السؤال السادس، فهو أن المرتد سواء كان رجلاً أو امرأة يجب أن يطلب منه الحاكم أن يتوب، ويمهله مدة ثلاثة أيام من غير ضرب أو معاقبة بتجويع وتعطيش، فإن تاب برجوعه إلى الإسلام فلا يقتل، وإن لم يتب حتى مضت الأيام الثلاثة بغروب اليوم الثالث قتل، ذكراً كان أو أنثى، حراً كان أو رقاً، فلا يقر على كفره بجزية، بخلاف أما إذا كان على غير دين الإسلام بحسب الأصل، فإنه يقر بالجزية، ولو ارتد أهل مدينة استتيبوا ثلاثة أيام فإن لم يتوبوا فإنهم يقتلون، ولا يسبون، ولا يرقون، ثم إن المرأة المتزوجة تستبرأ بحيضة قبل قتلها، لجواز أن تكون حاملاً. واستبراء الحرة هنا عدة لها، فعدة المرتدة حيضة واحدة، أما إذا ارتد هو وهي مسلمة فإن عدتها كغيرها، وذلك لأن الحيضة يثبت بها أنها غير حامل، وما زاد على ذلك فهو أمر تعبدي، والمرتدة ليست أهلاً للتعبد، بخلاف ما إذا كانت مسلمة والمرتد زوجها وقد علمت أن زوجة المرتد لا نفقة لها عليه لأنه لا مال في حال ردته.
وأما الجواب عن السؤال السابع: فإن المالكية قالوا: إن ما يوجب الردة ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يقول كلمة كفر صريحة كقوله: إنه كفر باللّه، أو برسول اللّه، أو بالقرآن، أو يقول: إن الإله اثنان، أو ثلاثة، أو المسيح ابن اللّه، أو عزير ابن اللّه.
الثاني: أن يقول لفظاً يستلزم الكفر استلزاماً ظاهراً، وذلك كأن ينكر شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة، كفرضية الصلاة، فإنه وإن لم يكن كفراً صريحاً ولكنه يستلزم تكذيب القرآن أو تكذيب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أو يقول: إن اللّه جسم متحيز في مكان، لأن ذلك يستلزم أن يكون الإله محتاجاً للمكان، والمحتاج حادث لا قديم، ومن ذلك ما إذا أحل حراماً معلوماً من الدين بالضرورة، كشرب الخمر، والزنا، واللواط، وأكل أموال الناس بالباطل وغير ذلك.
الثالث: أن يفعل أمراً يستلزم الكفر استلزاماً بيناً، كأن يرمي مصحفاً أو بعضه، ولو آية في شيء مستقذر تعافه النفس، ولو طاهراً، كالبصاق، والمخاط، ويلطخه به، بأن يبصق عليه، أو يراه ملطخاً بالأقذار وهو قادر على إزالتها عنه فلم يفعل وتركه استخفافاً وتحقيراً، فمدار الكفر على الاستخفاف والتحقير، ولكن يحرم أن يفعل ما في صورة التحقير وإن لم يقصده، كأن يبل أصبعه بالبصاق ليسهل به تقليب ورق المصحف، ومن الفعل المستلزم للكفر شد الزنار وهو حزام خاص به أشكال مختلفة يشد به النصارى وسطهم ليمتازوا به عن غيرهم، فإذا لبسه المسلم فإنه يكفر بشروط.
الشرط الأول: أن يلبسه محبة لدينهم وميلاً لأهله، فيكون معنى لبسه لهم خروجاً من جماعة المسلمين إلى جماعة الكافرين، فإذا لبسه لغرض آخر غير ذلك، كأن لبسه هازلاً. أو نحو ذلك. فإنه لا يكفر، ولكن يحرم عليه فعل ذلك.
الشرط الثاني: أن لا تضطره الضرورة إلى لبسه، كما إذا وجد في بلادهم لضرورة، ولم يجد لباساً سواه.
الشرط الثالث: أن ينضم إلى لبسه عمل آخر من أعمال ديانتهم، كمشي إلى الكنيسة، أو تعظيم للصليب، أو نحو ذلك فإن لبسه ولم يفعل ذلك فإنه لا يكفر على الراجح، ومثل الزنار في حكم لبس كل ما يختص بالكافر من الملابس.(2/55)
هذا، وقد ذكر المالكية وراء ذلك أموراً مكفرة: منها القول بقدم العالم بالزمان، فإن ذلك يقتضي أن يكون مكرهاً على إيجاد العالم لأنه يكون علة فيه، والعلة مكرهة على إيجاد معلولها، ووصف الإله بالإكراه نقص، ومن وصف الإله بصفة نقص فقد كفر، وظاهر كلامهم أن من قال كلمة لا يقصد بها نقصاً فإنه لا يكفر. ومنها السحر، فإنه يوجب الكفر، وقد اختلفوا في تفسيره وحكمه، فقال بعضهم: إنه كلام مؤلف يعظم به غير اللّه تعالى، وتنسب إليه مقادير الكائنات، وهو بهذا المعنى ردة ظاهرة، وذلك لأن المراد بالكلام العبارات التي يقولها الساحر تعظيماً للشياطين ويوقع في عقائد الناس أو هو يعتقد، أنها هي المؤثرة في الكائنات، ومن ذلك ما يفعله بعض فاسدي الأخلاق المدعين للسحر من وضع المصحف تحت قدمه عند قضاء حاجته، أو إهانة الملائكة بالسب، فإن ذلك من أشنع الكفر وأرذله، وقال بعضهم في تفسيره: إنه أمر خارق للعادة ينشأ عن سبب معتاد، وقوله: عن سبب معتاد أخرج به المعجزة والكرامة، لأن سببهما غير معتاد، وعلى هذا إن كان السبب هو العبارات الفاحشة التي يعظم بها الشياطين والأعمال المنكرة التي يهان بها الدين فإنه يكون ردة قبيحة بلا كلام، وإن كان بالعبارات الخالية من ذلك، كالأسماء الإلهيه ونحوها، فإنه يفصل فيه إن ترتب عليه ضرر لمظلوم غافل. أو إساءة إلى بريء في نفس، أو مال، فإنه يكون محرماً ويؤدب فاعله، وإلا فلا.
وعلى هذا يكون السحر المكفر هو العبارات، أو الأفعال الشاذة التي ذكرناها، بقطع النظر عما يترتب عليها من الآثار الضارة، فهي بطبيعتها من أقبح أنواع الكفر. كما ذكرنا، أما الأضرار التي تترتب على السحر الذي يكون بالوسائل الصحية، كالأسماء الإلهية والأعمال الخالية من سب الدين أو إهانته، فإنها توجب تأثيم فاعلها إثماً كبيراً إن ترتب عليها ضرر، وإذا ظهر أمره يؤدب، وهذا المعنى المراد للفقهاء من السحر واضح جلي لا يحتاج إلى كبير فلسفة في بيان معنى السحر ووسائله، ولعل هذا المراد بقوله تعالى: {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} فالمراد بالسحر العبارات الفاسدة، والأعمال المنكرة التي ترضي الشياطين، فتعمل من الخبائث ما هو داخل تحت قدرتها.
وأما حكم الساحر الكافر فقد اختلف فيه على قولين: أحدهما أن يقتل حداً لا كفراً، كالزنديق، ومعنى ذلك أنه لا يستتاب، وإذا تاب لا تقبل توبته، لأن الزنديق - وهو من يظهر الإسلام ويبطن الكفر - لا تقبل توبته، وميراثه لورثته المسلمين، بخلاف المرتد، كما تقدم. ثانيهما: أنه إذا أظهر السحر طلب منه التوبة والرجوع إلى الإسلام، كالمرتد، فإن أبى قتل، ولا يقتل حتى يثبت أنه قال أو فعل سحراً مكفراً، ولا يقتله إلا الإمام.
واعلم أن الزنديق الذي لا تقبل توبته هو الذي يخفي الكفر، كالمنافق، ثم يطلع عليه الشهود العدول وهو غافل، أما الذي يظهر زندقته ويجيء تائباً وحده فإن توبته تقبل، والفرق ظاهر، لأنه في الحالة الأولى لا يمكن الوثوق به إذ لعله يظهر التوبة في العلانية وهو مستمر على حاله في السر.
ومن الأمور المكفرة التي لا تقبل التوبة عند المالكية سب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، أو التعريض بمقامه الكريم، ولا ينفع فيه أن يقول: إنه لم يتعمد. أو كان غضباناً فلا يدري، أو كان متهوراً في كلامه فسبق لسانه، أو غير ذلك، فمن وقع منه شيء من ذلك قتل حداً لا كفراً، فلا يسقط عنه القتل بالتوبة والرجوع إلى الإسلام، لأن سب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم جزاؤه الإعدام حداً، والحدود لا تسقط بالتوبة، ومثل ذلك ما إذا سب معصوماً من الأنبياء والمرسلين والملائكة، وإذا سب هؤلاء اليهودي، أو النصراني فإنه يقتل أيضاً ما لم يسلم، لأن الإسلام يجب ما قبله، أما من سب من لم يجمع على نبوته، أو على كونه من الملائكة، كهاروت وماروت، ومريم، وآسية، وذي القرنين، ولقمان وخالد بن سنان، فلا يكفر ولكن يؤدب لأنه فعل محرماً.
الشافعية - قالوا: في الجواب عن الأول، والثاني: إذا ارتد الزوجان، أو أحدهما فلا يخلو إما أن تكون الردة قبل الدخول، أو بعد الدخول، فإن كانت قبل الدخول انقطع النكاح بينهما حالاً لعدم تأكيد النكاح بالدخول، وإن كانت بعد الدخول، فإن النكاح لا ينقطع حالاً فتقف الفرقة بينهما، فإن أسلما، أو أسلم المرتد منهما قبل انقضاء عدة المرأة دام النكاح بينهما وإلا انقطع النكاح من حين الردة، سواء أسلما بعد انقضاء العدة، أو أسلما في نهاية جزء منها بحيث يكون الإسلام مقارناً لانقضاء العدة، أو يسلما، ولا فرق في ذلك بين أن تكون المرتدة الزوجة، أو يكون المرتد الزوج، وليس معنى هذا أنهما يؤخران حتى تنقضي عدة الزوجية كلا، فإنك ستعلم أنهما يعاقبان على الردة فوراً، بل هذه صورة فرضية، بمعنى أنه لو فرض بقاؤهما من غير قتل، أو إسلام إلى قبل انقضاء العدة وأسلما بقي النكاح بينهما مستمراً، والمراد بالدخول هنا الوطء، سواء كان في القبل أو الدبر، أو ما يقوم مقامه، وهو إدخال مني الرجل في فرجها بغير وطء كأنبوبة ونحوها، ولا يلزم من عدم انقطاع النكاح بقاء ملك النكاح كما هو بحيث يحل وطؤها كلا، بل يحرم وذلك لتزلزل ملك النكاح بالردة، ولكن لا يحدان بالوطء في هذه الحالة لشبهة بقاء العقد، بل يعزران لارتكاب الحرام، ويحب العدة من أول هذا الوطء.
وكذلك يقف تصرف الزوج المتعلق بعقد الزواج من ظهار، أو إيلاء، أو طلاق، فإن أسلما قبل انقضاء العدة نفذ وإلا فلا، وإذا ارتدت المرأة لا يكون لها حق في نفقة العدة حتى ولو أسلمت في أثنائها، أما إذا ارتد الزوج كان لها الحق في النفقة، ولا يحل لأحد أن يتزوج المرتدة، سواء كان مسلماً، أو غيره.(2/56)
وأما الجواب عن السؤال الثالث، فهو أن الردة فسخ لا طلاق، فلا تنقص عدد الطلاق الثلاث على أي حال.
وأما الجواب عن السؤال الرابع، فهو أن المرتد لا يورث، فإذا ارتد أصبح ملكه للمال موقوفاً، فإن هلك وهو مرتد زال ملكه نهائياً، وإن أسلم لم يزل ملكه عنه، فيظهر زوال الملك بالهلاك وهو مرتد، ويظهر عدمه بالإسلام، وإذا هلك وهو مرتد أصبح ماله فيئاً لبيت مال المسلمين، لا فرق في ذلك بين أن يكون قد كسبه في زمن إسلامه، أو كسبه بعد ردته، خلافاً للحنفية، ووفاقاً للمالكية، ويقضي دينه الذي استدانه قبل الردة، ويدفع منه بدل ما أتلفه فيها، وتعطى مؤنة أولاده وأزواجه، ويطعم منه هو قبل هلاكه، أما تصرفه فإن كان في أمر لم يقبل التعليق، كالبيع، والرهن فإنه يقع باطلاً، وإن كان في أمر يقبل، كالوصية، فإنه يقع موقوفاً، فإن أسلم نفذ وإلا بطل، كما ذكرنا في طلاقه، وظهاره، وتحرم ذبيحته بخلاف ما إذا كان كافراً بحسب الأصل فإنها لا تحرم، وكما أنه لا يورث فكذلك لا يرث حتى ولو أسلم بعد الردة.
أما الجواب عن السؤال الخامس، فهو معلوم مما تقدم، وهو إن طلقها قبل الدخول وكانت الردة من قبلها فلا شيء لها وإن كانت من قبله فلها نصف المهر، وأما بعد الدخول فإن المهر لا يسقط بأي حال، وقد تقدم ذلك مفصلاً في مباحث الصداق.
وأما الجواب عن السؤال السادس، فهو أن المرتد يطلب منه أن يتوب حالاً بدون إمهال فإن لم يقول: أشهد أن لا إله إلا اللّه أشهد أن محمداً رسول اللّه، أو يقول: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فإن واو العطف تقوم مقام تكرر الشهادة، ولا يكفي أن يقول: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه.
وأما الجواب عن السؤال السابع، فهو أن كل ما ينافي الإسلام ويقطعه، سواء كان قولاً، أو فعلاً، أو نية، فإنه يكون ردة يجزى عليها فاعلها الجزاء المتقدم، لا فرق بين أن يصدر عنه ذلك استهزاءً، أو عناداً، أو اعتقاداً، فمثال القول أن يقول اللّه ثالث ثلاثة، أو يقول كلمة عيب في حث الذات العلية، أو في حق رسول اللّه، أو نحو ذلك، ومن ذلك ما إذا قال لمسلم: يا كافر وأراد رميه بالكفر حقيقة، لأن من كفر مسلماً كفر، ومثال الفعل أن يسجد لصنم، أو يلقي مصحفاً في قاذورة ولو طاهرة، ولو آية منه، وكذا إذا ألقى كتاباً شرعياً بقصد السخرية والاستهزاء، ولا يضر أن يمسح اللوح بالبصاق، كما يفعل صبية المكاتب لأن الغرض من هذا تسهيل المسح، ومثال الردة بالنية أن يعزم على الكفر بعد ساعة، أو غد، فإنه بذلك يكفر فوراً، فإن تاب عاد له إسلامه كما كان، حتى ولو كان بسبب التعريض بمقام الرسول الكريم، خلافاً للمالكية، ووفاقاً للحنفية وإذا قامت قرينة على أنه لا يقصد الاستهزاء، كما إذا كان خائفاً، أو سبق لسانه، أو كان غافلاً فإنه لا يكفر، وإذا سجد لمخلوق، فإن كان يقصد تعظيمه كتعظيم الإله فإنه يكفر، وإلا فلا، ولا شيء في التحية بالانحناء ونحوها. لأن الغرض من هذا مجرد الاحترام لا العبادة.
وأما السحر، فهو عبارة عن التكلم بعبارات، أو القيام بأعمال تنشأ عنها أمور خارقة للعادة، كما عرفه المالكية، وهو أمر حقيقي لا خيالي، فإن الواقع يؤيد ذلك، خلافاً لمن قال: إنه خيالي، فليس في العالم شيء من هذا القبيل، وعلى كل حال فالنظر إما أن يكون إلى آثاره، أو إلى العبارات والأفعال التي تترتب عليها تلك الآثار، فإن كانت هذه العبارات وتلك الأفعال مكفرة كان السحر كفراً، وإن كانت الآثار المترتبة عليها ضارة بالناس كانت حراماً وينبغي أن يكون هذا المعنى متفقاً عليه، وهو حسن.
الحنابلة - قالوا: في الجواب عن السؤال الأول، والثاني، هو أنه إذا ارتد الزوجان معاً فلم يسبق أحدهما الآخر، بأن سجدا لصنم. أو صليب في آن واحد، فإن وقع ذلك قبل الدخول انفسخ النكاح، وكذلك إذا ارتد أحدهما دون الآخر، وإن وقع ذلك بعد الدخول، وقعت الفرقة بينهما فلا ينقطع النكاح إلا إذا انقضت العدة، فإن عاد المرتد إلى الإسلام قبل انقضائها، فالنكاح باق على حاله، وإلا تبين فسخه من وقت الردة، ويمنع الزوج من وطئها لأن ههنا حالتين: حالة إباحة بعقد الزواج، وحالة حظر بالردة، فتغلب حالة الحظر على حالة الإباحة.
فإن وطئها الزوج في حال وقف النكاح فإنه لا يحد لشبهة الإباحة ولا كفارة عليه، ولكن يعذر لأنه فعل معصية لا حد لها ولا كفارة، فيكون جزاؤه التعزير، ثم إن ارتدت هي وحدها فلا نفقة لها، أما إذا ارتد هو فعليه نفقتها، ومثل ذلك ما إذا ارتدا معاً.
وأما الجواب عن الثالث، فإن الردة فسخ لا طلاق كما هو ظاهر.
وأما الجواب عن الرابع، فإن مال المرتد يقف بالردة ولكن لم يزل ملكه عنه، وإنما يحجر عليه، فلا يصح له أن يتصرف فيه ببيع، وهبة، ووقف، وإجارة، فإن هلك قبل الإسلام أصبح ماله فيئاً للمسلمين، ولكن يقضى منه دينه، فلا يرثه أحد وإن رجع إلى الإسلام رفع الحجر عنه وأصبح ماله كما كان وينفق من ماله عليه، وعلى من تلزمه نفقته في حال وقفه، وكما أن المرتد لا يورث فكذلك لا يرث من باب أولى، إذا أسلم قبل الميراث، فإنه يرث، ثم إن المرتد يصح له أن يملك في حال ردته، كما إذا وهب له أحد شيئاً كغيره، ويكون حكم ما ملكه كحكم ماله الأصلي فيوقف إلى أن يسلم.
وأما الجواب عن السؤال الخامس، فهو أن المهر قبل الدخول يسقط إن كانت الردة من قبلها بأن ارتدت وحدها. أو ارتدت مع زوجها وإن كانت الردة من قبله هو كان لها نصف المهر، أما بعد الدخول فلا يسقط شيء من المهر، سواء كانت الردة من قبلها أو من قبله، كما مر، وتطالب به إن لم تكن قد قبضته.
هذا، وإذا وطئ المرتد زوجته بعد ردته وقبل أن يسلم كان لها مهر المثل بذلك الوطء إن دام الزوج على الردة، أما إذا أسلم فلا شيء لها.(2/57)
أما الجواب عن السادس، فهو أن عقاب المرتد، سواء كان رجلاً، أو امرأة القتل إن لم يتب ويرجع إلى الإسلام، لقوله صلى اللّه عليه وسلم:
"من بدل دينه فاقتلوه" رواه الجماعة إلا مسلماً، وتطلب منه التوبة مدة ثلاثة أيام، ثم يقتل بعدها إن أبى.
أما الجواب عن السؤال الأخير، فإن الأمور المكفرة تنقسم إلى قسمين: أحدهما أقوال تقتضي الخروج من الإسلام، كأن يقول: اللّه ثالث ثلاثة. أو يقول: إنه يعبد الصنم. أو يعبد البشر، أو البقر، أو يقول: إن اللّه غير موجود، أو يقول: إن إبراهيم ليس برسول، ومثل ذلك ما إذا أنكر رسالة رسول ذكره القرآن الكريم، أو قال: إن اللّه لم ينزل توراة، ولا أنجيلاً، أما إذا قال: إن التوراة والإنجيل اللذين من عند اللّه فقدتا ولم يبق منهما شيء، فهو صحيح لا شيء فيه، أو قال: إن الإنسان لا يبعث، وأنكر شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة، كاملاً، كالصلاة والصيام، والحج، والزكاة، أو أحل حراماً، كالزنا، واللواط، فإن كل ذلك أقوال توجب الردة. ثانيتهما: أفعال كذلك، ومنها أن يسجد لصنم أو يلقي مصحفاً في قاذورة ونحو ذلك، أما لبس الزنار ونحوه من ملابسهم الخاصة فإنها حرام لا تكفر، متى كان فاعلها يقر للّه بالوحدانية ولرسوله بالرسالة، ومثل ذلك ما إذا لبس صليباً لا بقصد التعظيم.
ومن استحل حراماً وهو يتأوله فإنه لا يكفر، كالخوارج الذين استحلوا قتل علي فإنهم لا يكفرون لاعتقادهم أن ذلك يوجب الزلفى إلى اللّه ويرفع المشاكل بين المسلمين، وكذلك لا يكفر من حكم كفراً سمعه.
ولا تقبل توبة من سب اللّه تعالى، أو سب رسولاً، أو ملكاً صريحاً، بل يقتل حداً، وفاقاً للمالكية، وخلافاً للشافعية، والحنفية، وكذا لا تقبل توبة الزنديق، وهو من أظهر الإسلام وأبطن الكفر، على أن القائلين بعدم قبول توبة هؤلاء قد أجمعوا على أن التوبة تنفعهم في الآخرة إن كانوا فيها مخلصين. وكذلك لا تقبل توبة من تكررت ردته).
===============
*مبحث حكم المرتد - تعريف المرتد.
الردة - والعياذ بالله تعالى - كفر مسلم تقرر إسلامه بالشهادتين مختارا بعد الوقوف على الدعائم، والتزامه أحكام الإسلام ويكون ذلك بصريح القول كقوله: أشرك بالله، أو قول يقتضي الكفر، كقوله: إن اللّه جسم كالأجسام أو بفعل يستلزم الكفر لزماً بيناً كإلقاء مصحق، أو بعضه ولو كلمة، أو حرقه استخفافاً لا صوناً، أو علاجاً لمريض، ومثل إلقائه، وتركه في مكان قذر، ولو طاهراً كبساق أو تلطيخه به، نحو تقليب ورق بالبصاق، ومثل المصحق الحديث، وأسماء اللّه الحسنى، وكتب الحديث، وكذا كتب الفقه إذا كان علي وجه الاستخفاف بالشريعة الإسلامية، وأحكامها، أو تحقيرها، وكذا أسماء النبياء. وشد الزنار ميلا للكفر، أما لو لبسه لعباً فهو حرام. مع دخول الكنائس. أو سجوده لصنم. وكذلك يكفر بتعلم السحر، والعمل به، لأنه كلام يعظم غير اللّه تعالى، وتنسب إليه المقادير، وكذلك يكفر بقوله: إن القالم قديم، وهو ما سوى اللّه تعالى، لأنه يستلزم عدم وجود الصانع أو يقول: إن العالم باق على الدوام فلا يفنى، لأنه يستلزم إنكار القيامة، ولو أعتقد حدوثه، وهو تكذيب للقرآن الكريم، وكذلك الشك في قدم العالم، أو بقائه، أو أنكر وجود اللّه تعالى، ويكفر كذلك من قال: بتناسخ الرواح، أي أن من مات تنتقل روحه إلى غيره، لأن فيه إنكار البعث، ويكفر إذا أنكر حكما أجمعت ألامة عليه كوجوب الصلاة، أو تحريم الزنا، أو إنكار الصوم، ويكفر إذا أنكر بقوله بجواز اكتساب النبوة، وتحصيلها بسبب الرياضة، لأنه يستلزم جواز وقوعها بعد النبي، أو سب نبي أجمعت الأمة على نبوته أو سب ملكاً من الملائكة يجمع على ملكيته، ويكفر أن عرض في كلامه بسب نبي، أو ملك، بأن قال عند ذكره، أما أنا فلست بزان أو بساحر، أو ألحق بنبي، أو ملك نقصاص، ولو ببدنه، كعرج وشلل، أو طعن في وفور علمه، إذ كل نبي أعلم أهل زمانه، وسيدهم صلى اللّه عليه وسلم أعلم الخلق أجمعين، أو طعن في أخلاق نبي،او في دينه، ويكفر إذا ذكر الملائكة بالأوصاف القبيحة، أو طعن في وفور زهد نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
قال الأئمة: لا بد في إثبات الردة من شهادة رجلين عدلين، ولا بد من اتحاد المشهود به، فإذا شهدا بأنه كفر قال القاضي لهما باي شيء؟ فيقول الشاهد: يقول كذا، اويفعل كذا.
واتفق الأئمة الأربعة عليهم رحمه اللّه تعالى: على أن من ثبت ارتداده عن الإسلام والعياذ بالله وجب قتله، وأهدر دمه، وعلى أن قتل الزنديق واجب، وهو الذي يضمر الكفر ويتظاهر.
=================
استتابة المرتد
الحنفية قالوا: إذا ارتد المسلم عن الإسلام - والعياذ بالله تعالى - عرض عليه الإسلام فإن كانت له شبهة أبدها كشفت عنه، لأنه عساه اعترضته شبهة في الدين فتزاح عنه لأن فيه وقع شره بأحسن الأمرين، وهما القتل، والإسلام، إلا أن عرض الإسلام عليه مستحب، غير واجب، لأن الدعوة قد بلغته، وعرض الإسلام هو الدعوة إليه، ودعوة من بلغته الدعوة غير واجبة، بل هي مستحبة فإذا طلب الامهال، يستحب أن يؤجله القاضي ثلاثة ايام، ويحبس ثلاثة أيام فإن اسلم بعدها، وإلا قتل، لقول تعالى: {قاقتلوا المشركين} من غير قيد الامهال، وكذلك قوله صلى اللّه عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) ولم يذكر التأجيل ولأن المرتد كافر حربي لا محالة، فليس بمستأمن لأنه لم يطلب الأمان، ولا ذمي لأنه ولم يذكر التأجيل ولأن المرتد كافر حربي لا محالة، فليس بمستأمن لأنه لم يطلب الأمان، ولا ذمي لأنه لم تقبل منه الجزية، فيجب قتله في الحال من غير استمهال، ولا يجوز تأخير الواجب لأمر موهوم، لأن دلائل الإسلام ظاهرة غير خفية، فإذا استمهل، فإن الإسلام حينئذ لا يكون موهوماً فيستحب تأخيره.(2/58)
قالوا: لا قرق في وجوب قتل المرتدين كونه حراً، أو عبداً، لإطلاق الدلائل.
الشافعية - قالوا: إذا ارتد المسلم، والعياذ بالله تعالى فإنه يجب على الإمام أن يؤجله ثلاثة أيام، ولا يحل له أن يقتله قبل ذلك، لأن ارتداد المسلم عن دينه يكون عن شبهة غالباً، فلا بد من مدة يمكنه التأمل فيها ليتبين له الحق، وقدرناها بثلاثة أيام، طلب ذلك، أو لم يطلب، وقصة سيدنا موسى صلى اللّه عليه وسلم مع العبد الصالح: {إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني} فلما كانت الثالثة قال له: {قد بلغت من لدني عذراً}.
وروي عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه أن رجلاً أتاه من قبل أبي موسى الشعري، فقال له: (هل من معربة خير؟ فقال: نعم، رجل ارتد عن الإسلام فقتلناه، فقال له: هلا حبستموه في بيت ثلاثة أيام، وأطعمتموه في كل يوم رغيفاً، لعله يتوب؟ ثم قال: اللهم إني لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض) أخرجه الإمام مالك رحمه اللّهن في كتابه الموطأ فتبري سيدنا عمر من فعلهم يقتضي وجوب الإمهال ثلاثة أيام قبل موت المرتد، فإن تاب ونطق بالشهادتين أو كلمة التوحيد، خلي سبيله، وإن لم يتب وجب قتله بالسيف فوراً. ولا يؤخر كسائر الحدود، السابقة، لأن الردة أفحش الكفر وأغلظه حكماً، وهي محبطة للعمل إن اتصلت بالموت، قال تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر} الآية وإن عاد إلى الإسلام لم يجب عليه أن يعيد حجه، لأن الردة أبطلت أعماله.
المالكية قالوا: يجب على الإمام أن يمهل المرتد ثلاثة أيام بلياليها، وابتداء الثلاثة، من يوم ثبوت الردة عليه، لا من يوم الكفر، ولا من يوم الرفع إلى الحاكم، ولا يلفق الثلاثة أيام، فيلغي يوم الثبوت إن سبق بالفجر، ويطعم في أيام الحبس، ويسقى، من ماله، ولا ينفق على ولده وزوجته منه، فإن لم يكن له ماله، فينفق عليه من بيت المال، سواء وعج بالتوبة، أو لم يعد، ولا يعاقب في السجن بضرب، ولو أصر على عدم الرجوع، وإنما يستتاب المرتد وجوباً ذلك القدر، صوناً للدماء، ودرأ للحدود بالشبهات، ويعرض عليه الإسلام عدة مرات، وتزال الشبهة التي تعرش له، ويهمل للتفكير، عسى أن يرجع ويتوب في هذه المدة، فلو حكم القاضي بقتله قبل المدة، مضى حكمه، لأنه حكم بمختلف فيه، فإن تاب بعد الأيام الثلاثة تركن وإن أصر على الكفر قتل بغروب الثالث، ولا يغسل ولا يكفن ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا في مقابر الكفارن لأنه ليس منهم حيث إسلامه، وإنما يلقى حتى يكون عبرة لغيره.
الحنابلة قالوا: في إحدى روايتيهم أنه يجب الاستتابة ثلاثة أيام مثل المالكيةن والشافعية. وفي رواية أخرى عنهم: إنه لا تجب الاستتابة، بل يعرض عليه الإسلام فإن قبل ترك وإلا يتحتم قتله حالاً.
================
حكم المرأة المرتدة
الشافعية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: إن المرأة المرتدة حكمها حكم المرتد من الرجال فيجب أن تستتاب قبل قتلها ثلاثة أيام، ويعرض عليها الإسلام: لأن دمها كان محترماً بالإسلام، وربما عرضت لها شبهة من فاسق، فيسعى في إزالتها. وقد ثبت وجوب الاستتابة عن سيدنا عمر رضي اللّه عنه.
وروى الدارقطني عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما أن امرأة يقال لها أم (رومان) ارتدت فأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم (أن يعرض عليها الإسلام فإن تابت وإلا قتلت) لأنها بالردة اصبحت مثل الحربية، فيجوز قتلها حداً، بل إن ذنبها أشنع من الحربيات، حيث أنها سبق لها الإسلام. ولقوله صلى اللّه عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) وهي كلمة تعم الرجال والنساء، ولأن ردة الرجل مبيحة للقتل بالإجماع من أن الردة جناية متغلظة، فتناط بها عقوبة متغلظة، وردة المرأة تشاركها فيها، فتشاركها في موجبها، وهو القتل.
المالكية قالوا: إن المرأة المرتدة إذا كانت مرضعاً يؤخر قتلها لتمام رضاع طفلها، إن لم يوجد مرضع أو وجد، ولم يقبلها الولد، وتؤخر ذات الزوج، وكذلك المطلقة طلقة رجعية، أما البائن فإن ارتدت بعد حيض بعد طلاق فلا تؤخر، وإلا أخرت لحيضة، إن كانت من ذوات الحيض، ولو كانت عادتها في كل خمس سنين مرة، وإن كانت ممن لا تحيض لضعف وإياس مشكوك فيه استرئت ثلاثة أهر إن كانت ممن يتوقع حملها، وإن كانت ممن لا يتوقع حملها قتلت بعد الاستتابة، وإن لم يكن لها زوج لم تستبرأ.
الحنفية قالوا: إن المرأة المرتدة لا يجب قتلها، فإن قتلها رجل لم يضمن شيئاً حرة كانت أو عبدة، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن قتل النساء، ولأن الأصل تأخير الأجزية إلى دار الآخرة، إذ تعجيلها يخل بمعنى الابتلاء، وإنما عدل عنه دفعاً لسر ناجز، وهو الحراب، ولا يتوجه ذلك من النساء لعدم صلاحية البنية بخلاف الرجال، فصارت المرتدة كالأصلية، وكل جزاء شرع في الدار ماهو ألا لمصالح تعود إلينا في هذه الدنيا، كالقصاص، وحد القذف، والشرب، والزنا، والسرقة، فشرعت لحفظ النفوس، والأعراض، والعقول، والأنساب، والأموال، فكذا يجب في القتل بالردة أن يكون لدفع شر حداً به، لا جزاء على فعل الكفر، لأن جزاءه أعظم من ذلك عند اللّه تعالى، فيختص لمن يأتي منه الحراب، وهو الرجل، ولهذا نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قتل النساء، وعلله بأنها لم تكن تقاتل، على ما صح من الحديث فيما تقدم.(2/59)
وما قيل: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتل مرتدة، فقد قيل: إنه عليه الصلاة والسلام لم يقتلها بمجرد الردة، بل لأنها كانت ساحرة، شاعرة، تهجو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكان لها ثلاثون ابناً، وهي تحرضهم على قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأمر بقتلها لهذه الأسباب. ولكن يجب حبسها أبداً حتى تسلم، أو تمت، وتضرب كل يوم تسعة وثلاثين سوطاً. وهذا قتل معنى، لأن موالاة الضرب تفضي إليه، وإنما يجب حبسها لأنها امتنعت عن إيفاء حق اللّه تعالى بعد الإقرار فتجبر على إيفاء بالحبس، كما في حقوق العباد.
وفي الجامع الصير: تجبر المرأة على الإسلام حرة كانت أو أمة، والأمة يجبرها مولاها، لما فيه من الجمع بين الحقين يعني حق اللّه تعالى، وحق السيد، ولا تسترق الحرة المرتدة ما دامت في دار الإسلام، وإنما تضرب كل يوم، مبالغة في الحمل على اعتناق الإسلام، وكسبها لورثتها لأنه لا حراب منها، ويرثها زوجها المسلم.
وقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة، عن عاصيم بن أبي النجود، عن أبي رزين، عن أبن عباس رضي اللّه عنهم، قال: (لا تقتل النساء إذا هن ارتدن عن الإسلام، ولكن يحبسن. ويدعين إلى الإسلام ويجبرن عليه).
عن أبن عمر أن امرأة وجدت في بعض مغازي النبي مقتولة، فأنكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتل النساء والصبيان (وفي بلاغات محمد قال: بلغنا عن أبن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: إذا ارتدت المرأة عن الإسلام حبست) ومثل هذا لا يقال عن اجتهاد.
وروي عن معاذ بن جبل رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن: (أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه، فإن تاب فاقبل منه، وإن لم يتب فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن تابت فاقبل منها، وإن أبت فاستتبها) الخ الحديث.
وأخرج الدارقطني رحمه اللّه في صحيحه عن الإمام علي رضي اللّه تعالى عنه أنه قال: المرتدة تستتاب ولا تقتل، وهذه أدلة على مذهب الحنفية الذين قالوا: إنه لا يجب قتلها بل تحبس وتضرب.
=================
*مبحث أملاك المرتد.
الحنفية قالوا: يزول ملك المرتد عن أمواله بردته زوالاً موقوفاً، إلى أن يتبين حاله، فإن أسلم عادت أمواله على حالها الأول، لأنه حربي مقهور تحت أيدينا حتى يقتل، ولا قتل إلا بالحراب، وهذا يوجب زوال ملكه ومالكيته غير أنه مدعو إلى الإسلام بالإجبار عليه، ويرجى عوده إليه، فتوقفنا في أمره، فإن أسلم جعل العارض كأن لم يكن في حق هذا الحكم، وصار كأن لم يزل مسلماص، ولم يعمل السبب، وإن مات أو قتل على ردته، أو لحق بدار الحرب، وحكم بلحاقه، استقر كفره، فيعمل السبب عمله ويزول ملكه، والإجماع على أنه إن عاد وماله قائم كان هو أحق به، ووجب أن يعمل بهما فيقول: بالردة يزول، ثم بالعود يعود شرعاً.
وقال الصاحبان: لا يزوال ملك المرتد عن أمواله، لأنه مكلف محتاج، فإلى أن يقتل يبقى ملكه، كالمحكوم عليه بارجم، والقصاص، لأن كلاً منهم مكلف مباح الدم.
قال الإمام أبو حنيفة: وإن مات أو قتل على ردته انتقل ما اكتسبه في إسلامه إلى ورثته المسلمين، وكان ما أكتسبه في حال ردته فيئاً لجماعة المسلمين، يوضع في بيت المال.
وقال الصاحبان: كلا الكسبين، يقسم على ورثة المسلمين، لأن ملكه في الكسبين، بعد الردة باق لأنه ملكف محتاج فينتقل بالموت إلى ورثته، ويستند إلى ما قبل ردته، إذ الردة سبب الموت، فيكون توريث المسلم من المسلم، ويجعل كأنه اكتسبه في حال الإسلام.
والمرتد إذا مات أو قتل على ردته ترثه امرأته المسلمة وهي في العدة، لأنه يصير فاراً، وإن كان صحيحاً وقت الردة، لأنها سبب الموت.
المالكية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: إن ما اكتسبه المرتد في إسلامه، وما اكتسبه في حال ردته يكون فيئاً، لأنه مات كافراً، والمسلم لا يرث الكافر إجماعاً، ثم هو مال حربي لا أمان له، لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فيكون فيئاً.
الشافعية - قالوا: في زوال ملك المرتد عن ماله الحاصل قبل الردة، أو فيها بالردة أقوال: أظهرها الوقوف كبضعزوجته سواء ألحق بدرا الحرب أم لا، فإن هلك مرتداً بأن زاوله بالردة فما ملكه فيء، وما تملكه من احتطاب، ونحوه باق على الإباحة، وإن أسلم بأن أنه لم يزل، لأن بطلان أعماله تتوفق على هلاكه على الردة، فكذا زوال ملك.
وقيل: يزول ملكه عن ماله بنفس الردة لزوال العصمة بردته فماله اولى.
وقيل: لا يزول ملكه بالردة، لأن الكفر لا ينافي الملك كالكافر الأصلي.
ويتفرع على هذه الأقوال أنه يقضي من مال المرتد دين لزمه قبلها بإتلاف أو غيره، لأنا إن قلنا ببقاء ملكه أو إنه موقوف فواضح، وإن قلنا بزواله فهي لا تزيد على الموت، والدين يقدم على حق الورثة، فكذا على حق الفيء ا هـ.
=================
حكم الزنديق.(2/60)
المالكية، والحنابلة قالوا: ويجب قتل الزنديق بعد الاطلاع عليه بلا طلب توبة منه، وهو الذي يسر الكفر، ويظهر الإسلام، وهو الذي كان يسمى منافقاً في زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه رضوان اللّه عليهم أجمعين، ولا بد من قتله وإن تاب، لكن إن تاب قتل حداً، لا كفراً، فيحكم له بالإسلام ويغسل، ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، ويترك أمره إلى اللّه عز وجل، أما إذا جاء قبل الاطلاع على أمره فلا يقتل، وله أحوال خمسة، ثلاثة يكون ماله لورثته، وهي ما إذا جاء تائباً، أو تاب بعد الاطلاع عليه، أو لم تثبت زندقته إلا بعد موته، وحالان يكون ماله فيها لبيت المال، وهي ما إذا اطلعنا عليه قبل الموت، وقتلناه بغير توبة، أو مات بغير توبة ومثله الذي سب نبياً أجمعت الأمة على نبوته، فإنه بدون اسابة، ولا تقبل توبته، ثم إن تاب قتل حداً، ولا يعذر الساب بجهل لأنه لا يعذر أحد في الكفر بالجهل، ولا يعذر بسكر حرام، أو تهور، أو غيظ بل يقتل، والساب الكافر اصلاً إذا اعتنق الإسلام، ولو كان إسلامه خوفاً من القتل، فإنه لا يجب قتله، لأن الإسلام يجب ما قبله.
أما المسلم إذا ارتد بغير السب، ثم سب زمن الردة، ثم أسلم ثانية، فلا يسقط عنه قتل السب، لأنه حد من حدود اللّه تعالى وجب عليه.
وقيل: تقبل توبته إذا رجع إلى الإسلام كما هو مذهب الشافعي، حتى في سب الملائكة والأنبياء، والفرق بين سب اللّه تعالى فتقبل التوبة فيه، وبين سب الأنبياء، والملائكة فلا يقبل، أن اللّه تعالى لما كان منزهاً عن لحوق النقص له عقلاً قبل من العبد التوبة، بخلاف خواص عباده المؤنين به لأن استحاله النقص عليهم من اخبار اللّه تعالى، لا من ذواتهم فشدد فيهم، فردت توبته، ويقتل.
وأسقط الإسلام الثاني ما عليه من صلاة، وصوم، وزكاة، إن كانت عليه، فلا يطلب منه فعلها بعد رجوعه إلى الإسلام إلا أن يسلم قبل خروج وقت الصلاة، وذلك لقوله تعالى: {قل للذين كفروا أن يتنهوا يغفر لهم ما قد سلف} ويحبط ثواب عمله السابق بردته، لقوله تعالى: {لئن اشركت ليحبطن عملك} ويجب عليه الوضوء، لا الغسل إلا بموجب له، ويجب عليه إعادة الحج لبقاء وقته وهو العمر، ويسقط عنه النذر، وكفارة الايمان، وكذلك العتق والظهار، والطلاق، كأن قال لزوجته إن دخلت الدار فأنت طالق ثم دخل الدار بعد ردته أو توبته، ويبطل إحصانه، أما الطلاق الذي صدر منه قبل الردة، فإذا طلق ثلاثاً ثم ارتد، ثم رجع للإسلام، فلا تحل له إلا بعد زوج، ما لم يرتدا معاً ثم يرجع للإسلام.
الحنفية، والشافعية قالوا: إن الزنديق إذا تاب. وأظهر الإسلام تقبل توبته، ويستتاب ولا يقتل، ويلحق بالكافر الأصلي إذا اعتنق الإسلام، فإنه يقبل منه، ويترك.
وفي قول للشافعية: أنه لا يصح إسلامه إن ارتد إلى كفرخفي، أو إلى كفر باطنية، وهم القائلون بأن للقرآن باطناً، وأنه الراد منه دون الظاهر، أو ارتد إلى دين يزعم أن محمداً مبعوث إلى العرب خاصة، أو ارتد إلى دين يقول: إن رسالة محمد حق لكنه لم يظهر بعد، أو إذا جحد فرضاً، أو تحريماً، فإنه لا يصح إسلامه، ويجب قتله حداً، وكذلك الفلاسفة الذين يزعمون أن اللّه خلق شيئاً ثم خلق منه شيئاً آخر يدير العالم، وسموا الأول العقل، والثاني النفس، فإنه كفر ظاهر، وكذلك الطبائعي القائل بنسبة الحياة والموت إلى الطبيعة، ومن قذف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو سبه، أو سب واحداً من الرسل الكرام الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم، أو كذب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في دعوته فإنه يقتل حداً، ولا يسقط عنه الحد بالتوبة.
وقيل: لا يقتل بعد التوبة: بل يجلد ثمانين جلدة،ن لأن الردة ارتفعت بإسلامه، وبقي الجلد عليه.
الحنفية قالوا: كل من أبغض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقلبه كان مرتداً، فالسب بطريق أولى فيقتل حداً ولا تقبل توبته في إسقاط القتل عنه.
الحنفية، والمالكية قالوا: لا يجوز أن يسبى للبغاة ذرية، لآنهم مسلمون، ولا يقسم لهم مال لعدم الاستغنام فيها، لقول الإمام علي رضي اللّه عنه يوم الجمل: (ولا يقتل أسير، ولا يكشف ستر، ولا يؤخذ مال) وهو القدوة لنا في هذا الباب، ولأنهم مسلمون، والإسلام يعصم النفس، والمال، ولا بأس بأنيقاتلوا بسلاحهم إن احتاج المسلمون إليه، لأن الإمام علياً رضي اللّه عنه قسم السلاح فيما بين أصحابه، بالبصرة، وكانت قسمته للحاجة، لا للتملك، ولآن للإمام أن يفعل ذلك في مال الرجل العادل عند الحاجة، ففي مال الباغي أولى،ن والمعنى فيه إلحاق الضرر الأدنى، لدفع الضرر الأعلى. ولما رواه الحاكم في المستدرك، والبزاز في مسنده من حديث كوثر بن حكيم، عن نافع، عن أبن عمر، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (هل تدري يا ابن أم عبد كيف حكم اللّه فيمن بغي من هذه الأمة؟ قال: اللّه ورسوله أعلم. قال: لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يقسم فيئها).
=================
مبحث لحوق المرتد بدار الحرب.
الحنفية قالوا: إذا لحق المرتدر بدار الحرب، وحكم القاضي بلحاقه عتق مدبروه، وأمهات أولاده، وحلت الديون التي عليه، ونقل ما اكتسبه في حال الإسلام إلى ورثته من المسلمين، لأنه باللحاق صار من أهل الحرب، وهم أموات في حق أحكام الإسلام، لانقطاع ولاية الإلزام كما هي منقطعة عن الموتى، فصار كالموت إلا أنه لا يستقر لحاقه إلا بقضاء القاضي بذلك لاحتمال العود إلينا، فلا بد من القضاء، وإذا تقرر موته الحكمي ثبتت الحكام المتعلقة به، وهي ما ذكرناها من عتق مدبريه وغير ذلك كما يحصل في حالة الموت الحقيقي، ثم يعتبر كونه وارثاً عند لحاقه في قول الإمام محمد، لأن اللحاق هو السبب، والقضاء لتقرره يقطع الاحتمال.(2/61)
وقال أبو يوسف: يعتبر كونه وارثاً وقت القضاء، لأنه يصير موتاً بحكم القضاء، والمرتدة إذا لحقت بدار الحرب فهي على هذا الخلاف المذكور في المذهب.
قالوا: وتقضى الديون التي لزمته في حال الإسلام مما اكتسبه من المال في حال الاسلام، وما لزمه في حقال ردته من الديون يقضى مما اكتسبه في حال ردته.
قالوا: وتقضى الديون التي لزمته في حال الإسلام، وإن لم يف بذلك يقضى من كسب الردة، لأن المستحق بالسببن مختلف، وحصول كل واحد من الكسبين باعتبار السبب الذي وجب به الدين، فيقضى كل دين من المكسب المكتسب في تلك الحلة، ليكون الغرم بالغنم وقيل. بل يبدأ بالقضاء من كسب الردة، لأن كسب الإسلام ملكه حتى يخلفه الوارث فيه، ومن شرط هذه الخلافة الفراغ عن حق المورث، فيقدم الدين عليه، أما كسب الردة، فليس ببملوك له لبطلان أهلية الملك بالردة. فلا يقضى منه، إلا إذا تعذر قضاؤه من محل آخر فينئذ يفضى منه كالذمي إذا مات ولا وارث له يكون ماله لبيت المال ولو كان عليه دين يقضى منه كذلك ههنا، وجه الثالث أن كسب الإسلام حق الورثة وكسب الردة خالص حقه، فكان قضاء الدين منه أولى، إلا إذا تعذر بأن لم يف به فيحنئذ يقضى من كسب الإسلام تقديماً لحقه.
أبو يوسف، ومحمد قالا: تقضى ديوان المرتد إذا لحق بدار من الكسبين، لانهما جيمعاً ملكه حتى يجري الأرث فيهما، والله أعلم.
الشافعية - قالوا: إن مال المرتد إذا الحق بدار الحرب موقوف. فتقضى منه الديون التي لزمته قبل الردة بإتلاف أو غيره، لأنا إن قلنا: ببقاء مكه، أو أنه موقوف فواضح، وإن قلنا: بزواله ملكه، فالرجة لا تزيد على الموت، والدين مقدم على حق الورثة، فكذا على حق الفيء وإذا مات على الردة وعليه دين وفي ثم إن بقي من ماله شيء بعد سداد ديونه صرف لبيت مال المسلمين.
قالوا: ويصير محجوراً على المرتد بعدم التصرف بنفس الردة، وقيل: يحجر عليه بحكم القاضي. ويكون الحجر عليه كحجر الفلس، وقيل كحجر السفه، وقيل: كحجر المرض، وينفق على المرتد زمن استتابته من ماله، وتجعل حاجته للنفقة كحاجة الميت إلى التجهيز بعد زوال الملك بالموت.
والأصح في المذهب أن المرتد يلزمه غرم إتلافه مال غيره في زمن الردة، حتى لو ارتد جمع من الناس واستعصوا على الإمام، وخرجوا عن طاعته، ولم يصل غليهم إلا بقتل وجها، فما اتلفوه من المال في أثناء القتال إذا أسلموا ضمنوه على الأظهر.
والأصح أنه يلزمه نفقة زوجات وقف نكاحهن، وكذلك نفقة قريب ملزم بالإنفاق عليه، لأنها حقوق متعلقة بالمرتد فيلتزم بها لقاء ملكيته.
وقيل: لا يلزمه شيء من النفقات، لأنه لامال له. لزوال مكليته على الأموال، وعلى القول بوقوف ملكه والحجر عليه: فإن تصرفه الواقع منه في وقت ردته إن احتمل الوقف لا يضره، وأما إذا كان التصرف لا يقبل الوقف، كالبيع والهبة، والرهن، والكتابة، ونحوها، مما لا يقبل الوقف، فتكون تصرفاته فيها باطلة، بناء على بطلان وقف العقود وفي القديم: هي موقوفة بناء على صحة وفق العقود، فإن أسلم حكم بصحتها، وإلا فلا.
وبناء على هذه الأقوال: فإنه يجب أن يجعل ماله عند رجل عدل يحفظه، وتجعل أمته عند امرأة ثقة، أو عند ردل يحل له الخلوة بها من المحارم احتياطاً، لتعلق حق المسلمين به. اهـ.
المالكية قالوا: إن الردة لا تسقط إحلال محلل. فإذا ارتد المحلل للمبتوتة فلا يبطل إلاحلاله بل تحل لمن بتها، بخلاف حل المرأة، فإنه يبطله ردتها، فإذا حللها شخص ثم ارتدت، ورجعت للإسلام. لا تحل لمن بتها حتى تنكح زوجها لأنها أبطلت النكاح الذي أحلها، كما أبطلت الي صيرها محصنة.
والعتق غير المعلق بجميع أنواعه لا تبطله الردة، عاد للإسلام، أو قتل على ردته، أو التحق بدار الكفر، وكذلك الطلاق ينفذ ولا تبطله الردة، أما الهبة، والوقف، فإذا احيزا قبل الردة، فإنه ينفذ، عاد إلى الإسلام أو مات عليه، وأما إذا تأخر الحوز حتى ارتد، ومات على ردته، أو التحق بدار الكفر، فلا ينفذ، وينتظر، هل يعود إلى الإسلام، وهل يحكم بالبطلان، أو بعدمه؟
قالوا: والكافر الذي بدل دينه إلى كفر آخر، كنصراني انتقل لليهودية، أو المجوسية فأننا لا نتعرض له. وقبل عذر من اسلم من الكفار، ثم رجع للكفر، وقال: معتراً حين اراد القاضي قتله لعدم التوب: (أسلمت عن ضيق من خوف على نفس، أو مال) فإن ظهر عذره بقريته صدق وترك لأمره، وإن ظهر كذبه، فإنه يكم فيح حكم المرتد. فإن تاب ترك، وإن لم يتب قتل كافراً.
وأما من نطق بالشهادتين، ولم يلتزم أركان الإسلام، فإنه يؤدب وعزر حسب ما يراه الحاكم فإذا رجع لا يكون حكلمه حكم المرتد، لكن هذا في غير من بين أظهرنا، ويعلم أن علينا صلاة وصوماً، وكازة وإلا فهو مرتد، لأنه خالطنا وعلم أحكام ديننا، فيؤدب، فإن أنكر فرائض الإسلام حكم بردته.(2/62)
وكذلك يؤدب الساحر الذي سحر مسلماً، ولم يدخل بسحره ضرراً عليه، فإن أدخل ضرراً على مسلم كان ناقضاً للعهد، يفعل فيه الإمام القتل أو الاسترقاق ما لم يسلم، فإن أدخل ضرراً على أهل الكتاب أدب ما لم يقتل منهم أحداً، وإلا قتل، ويشدد بالضرب الشديد والسجن على من سب من لم يجمع على نبوته، كالخضر ولقمان، والسيدة مريم بغير الزنا، أو سب احداً من ذريته عليه الصلاة والسلام فإنه يشدد عليه في التأديب بالضرب إن علم أنه من آله صلى اللّه عليه وسلم، وإن لم يكن من آل بيت النبوة، وادعى صراحة، أو أحتمالا أنه من ذريته صلى اللّه عليه وسلم، كلبس عمامة خضراء ونحو ذلك. فلا يبالغ في تقريره وتأديبه، لقوله صلى اللّه عليه وسلم: (لعن اللّه الداخل فينا بغير نسب، والخارج منا بغير سبب) وقال الإمام مالك رضي اللّه هنه: من ادعى الشرف كاذباً ضرب ضرباً شديداً شهراً وميحبس مدة طويلة حتى تظهر لنا توبته، لأن ذلك استخفاف بحقه صلوات اللّه وسلامه عليه.
قالوا: ومن سب صحابياً من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإنه يعزر ويحبس، ولا يحد، ومثل السب تكفير بعضهم، ولو كان من الخلفاء الأربعة رضوان اللّه عليهم فإنه لا يكفر، ولكن يؤدب أما من كفر جميع الصحابة فإنه يكفر باتفاق، لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، وكذب اللّه ورسوله، وإذا شهد عليه عدل فقط، أو جماعة من الناس غير مقبولين بأنه سب نبياً مجمعاً على نبوته، فإنه يعزر بالضرب. أو قال: لقيت من شدة المشقة في مرضي هذا ما لو قتلت أبا بكر ما استوجبته، أما لو قصد الاعتراض على اللّه فهو مرتد بدون خلاف.
===============
*مبحث تصرفات المرتد.
الحنفية قالوا: إن تصرفات المرتد على أقسام:
1 - نافذ بالاتفاق: كالاستيلاد، والطلاق، لأنه لا يفتقر إلى حقيقة الملك وتمام الولاية، وإن كانت الفرقة تقع بين الزوجين بمجرد الارتداد.
2 - باطل بالاتفاق: كالنكاح، والذبيحة، لأن كل واحج منهما يعتمد الملة، والمرتد لا ملة له، لأنه ترك ما كان عليه، ولا يقر على ما جخل فيه، لوجوب قتله بالردة.
3 - موقوف بالاتفاق: كالمفاوضة، كأن فاوض المرتد، توفق فإن أسلم نفذت المفاوضة، وإن مات أو قتل، أو قضى بلحاقه بدار الحرب بطلت بالاتفاق، لأن المفاوضة تعتمد المساواة بين الطرفين، ولا مساواة بين المسلم والمرتد، مالم يسلم.
4 - مختلف في توقفه: وهو البيع، والشراء، والعتق، والهية، والرهن، والتصرف في أمواله في حال ردته، فأبو حنيفة رحمه اللّه قال: إن هذه التصرفات المذكورة تتوفق، فإن أسلم صحت عقوده. وإن مات أو قتل، أو لحق بدار الحرب بطلت. لأنه حربي متهور تحت أيدينا، كما قررناه في توفق الملك، وتوقف التصرفات بناء على توفق الملك، وصار كالحربي يدخل دارنا بغير أمان، فيؤخذ ويقهر، وتتوقف تصرفاته لتوقف حاله، فكذا المرتد، ولأنه يستحق القتل لبطلان سبب العصمة، فأوجب خللاً في الأهلية. بخلاف الزاني المحصن، وقاتل العمد، لأن الاستحقاق فيهما جزاء على الجناية، مع بقاء سبب العصمة، وهو الإسلام، فيبقى مالكاً حقيقة، وبخلاف المرأة المرتدة لأنها ليست حربية ولهذا لا تقتل بعد الردة أما المرتد فقد زال ملكه عن أمواله بردته، كما ذكرنا.
أبو يوسف ومحمد قالا: يجوز ما صنع المرتد، وتنفذ عقوده التي عقدها قبل الردة وبعدها، لأن الصحة تعتمد الأهلية، والنفاذ يعتمد الملك، ولا خفاء في وجود الأهلية لكونه مخاطباً، وكذلك الملك لقيامه قبل موته، وعدم زواله بالردة، لأنه مكلف محتاج ولا يتمكن من إقامة موجب التكليف إلا بالملك فيبقى ملكه إلى أن يقتل، ولهذا لو ولد له ولد بعد الردة لستة أشهر من امرأة مسلمة يرثه بعد موته.
قالوا: فإن عاد المرتد بعد الحكم بلحاقه بدار الحرب إلى دار الإسلام مسلماً، فما وجوده في يد ورثته من ماله بعينه أخذه، لأن الوارث إنما يخلف فيه لاستغنائه عنه بالموت المحكوم به، بدخوله دار الحرب. وإذا عاد مسلماً احتاج إليه فيقدم على الوارثن بخلاف ما إذا أزاله الوارث عن ملكه، وبخلاف أمها اولاده، ومدبريه لأن القضاء قد صح بدليل مصحح فلا ينقض، ولو جاء مسلماً قبل أن يقضي القاضي بذلك، فكأنه لم يزل مسلماً، فأمواله على حالها، وما كان عليه من الديون فهو إلى أجله، ويصح تصرفه.
*مبحث ردة الصبي والمجنون.
الحنفية قالوا: إن ارتداد الصبي الذي يعقل ارتداد تام، فيجري عليه أحكام المرتد، فيبطل نكاحه، ويحرم من الميراث، ويجبر على الإسلام، ولا يقتل، وإن أدرك كافراً، يحبس كالمرأة، وإسلام الصبي المميز إسلام، لأن علياً رضي اللّه عنه أسلم في صباه وهو أبن خمس سنين، وصحح النبي صلى اللّه عليه وسلم إسلامه، وافتخر سيدنا علي بذلك.
فقال:
سبقتكمو إلى الإسلام طراً * غلاماً ما بلغت أوان حلمي
ولأنه أتى بحقيقة الإسلام، وهي التصديق والإقرار معه، والتصديق الباطني يحكم به للإقرار الدال عليه، على ما عرف من تعليق الحكام المتعلقة بالباطن به، ولأن الإقرار عن طوع دليل على الاعتقاد، ولأن النبي صلى اللّه عليه وسلم عرض الإسلام على أبن صياد، وهو غلام لم يبلغ الحلم.
قيل: ومن أقبح القبائح أن لا يسمى مسلماً مع اشتغله بتعلم القرآن وتعليمه، والنطق بالشهادتين والصلاة.
قالوا: والحقائق لا ترد. وما يتعلق به سعادة أبدية، ونجاة عقبى وهي من أجل المنافع وهو الحكم الأصلي، ثم يبتنى عليه غيرها، فلا يبالى بشوبه للضررولانه تقبل صلاته وصومه ويثاب عليهما عند اللّه تعالى.(2/63)
وقالوا: إن الردة موجودة حقيقة ولا مرد للحقيقة كما قلنا في الإسلام، فإن رد الردة يكون بالعفو عنها وذلك قبيح، إلا أنه يجبر على الإسلام لما فيه من النفع له، ولا يقتل، لأنه عقوبة، والعقوبات موضوعة عن الصبيان مرحمة عليهم، وهذا في الصبي الذي يعقل ومن لا يعقل من الصبيان لا يصح ارتداده فإنه لا يدل على تغير العقيدة. وكذا لا يصح إسلامه، لأنه غير مكلف وقد رفع القلم عنه بنص الحديث الشريف.
وقال أبو يوسف: ارتداد الصبي الذي يعقل، ليس بارتداد، وإسلامه إسلام.
الشافعية - قالوا: إن ارتداد الصبي الذي يعقل ليس بارتداد، وإسلامه، كذلك ليس بإسلام لأنه تبع لأبويه في الإسلام، فلا يجعل أصلاً، ولأنه يلزمه أحكام تشوبها المضرة فلا يؤهل لها. والردة مضرة محضة، فلا تعتبر، لأنه غير مكلف وغير مختار، وكذلك المجنون لا تصح ردته، لعدم تكليفه، ولا اعتداد بقولهما، واعتقادهما، فلا يترتب عليها حكم الردة، وكذلك لا تصح ردة المكره. إذا كان قبله مطبئناً بالإيمان، كمانصف عليه القرآن الكريم، فإن رضي بقلبه عن الكفر فهو مرتد فيقتل، قال تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من اللّه. ولهم عذاب عظيم} آية 106 من سورة النحل.
وأما المجنون فإذا ارتد ولم يستتب فجن لم يقتل في جنونه، لأنه قد يعقل ويعود إلى الإسلام، فإن قتل مجنوناً لم يجب على قاتله شيء، ولكن يعزر، بخلاف ما لو ثبت بنيته أو أقر بقذف أو قصاص ثم جن فإنه يستوفى منه في ضوئه.
================
*مبحث حكم الصبي إذا بلغ مرتداً.
الحنفية رحمهم اللّه قالوا: أربع مسائل لا يقتل فيها المرتد.
الأولى: الصبي الذي كان إسلامه تبعاً لأبويه، إذا بلغ مرتداً. فلا يقتل وإنما يحبس حتى يتوب، لأن إسلامه لماكان تبعاً لغيره، صار شبهة في إسقاط القتل عنه، وبه قال الحنابلة، ويجبر على الإسلام بالضرب والحبس، لا بالقتل.
الشافعية، والمالكية - قالوا: إن الصبي يعتبر مرتداً، ولو كان تابعاً لأبويه، فإنه يستتاب فإن تاب من ردته ورجع إلى الإسلام قبل منه ويترك، وإلا فيجب قتله مثل المرتد.
الثانية: إذا أسلم الصبي في صغره، ثم بلغ مرتداً، فإن يقتل مرتداً وتطبق عليه أحكام المرتد.
الثالثة: إذا ارتد في صغره، فإنه لا يقتلز لقيام الشبهة بسبب اختلاف العلماء في صحة إسلامه في الصغر. وبه قال الشافعية وإذا قتله إنسان قبل أن يسلم لا يلزمه شيء في هذه الأحوال، ولو مات له قريب مسلم بعد ردته فلا يرث منه.
المالكية، والحنابلة - قالوا: إذا أسلم في صغره ثم بلغ مرتداص، فإنه يقتل مرتداً وتطبق عليه أحكام المرتد.
الثالثة: إذا ارتد في صغره، فإنه لا يقبل ارتداده ولا يتعتد به، ولكن يحبس ويضرب حتى يتوب لأن الإسلام أنفع له فيجبر عليه، ويشتد عليه في الضرب حتى يرجع ويتوب لأن الإسلام أنفع ه فيجبر عليه، ويشتد عليه في الضرب حتى يرجع ويتوب وتحسن توبته.
الرابعة: المكره على الإسلام إذا ارتد لا يقتل، لأن الحكم بإسلامه من حيث الظاهر، لأن قيام السيف على رأسه ظاهر في عدم الاعتقاد بقلبه، فيصير شبهة في إسقاط القتل وبه قال الشافعية، لعدم التكليف، (وما استكرهوا عليه) فقد رفع عنه المؤاخذة.
اتفق العلماء الأربعة: على أنه إذا ارتد الأبوان والعيادذ اللّه تعالى، وارتد ابنهما الصبي تبعاً لهما ثم لحقا بدرا الحرب، وحكم بلحوقهما، فإن الصبي يصح ارتداده من غير خلاف ويحكم بكفره، وإذا أسلم الصبي، فإنه يقبل، ويعتبر إسلامه في نظر الشرع بالاتفاق، فلا يرث أبويه الكافرين، ويرث أقاربه المسلمين الذين ماتوا بعد إسلامه، ولا يصح نكاح المشركة له، ويحل له زواج المرأة المسلمة، وتبطل مالية الخمر والحنزير بالنسبة له، وإذا ارتد الرجل وامرأته والعياذ اللّه تعالى ولحقا بدار الحرب فحملت المرأة في دار الحرب وولدت ولداً، وولد ولدهما ولداً، فظهر عليهم جميعاً، فالوالدان فيء، لأن المرتدة تسترق فيتبعها ولدها، ويجبر الولد الأول على الإسلام، ولا يجبر ولد الولد، لأنه لا يتبع جده، بل أباه، لقوله صلى اللّه عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه) الحديث.
================
*مبحث ردة السكران وإسلامه.
الحنفية، والمالكية، والحنابلة في إحدى روايتيهم - قالوا: السكران الذي لا يعقل شيئاً وفقد الإدراك والتمييز مثله كالمجنون مثله كالمجنون فلا تصح ردته، ولا إسلامه، لأن المجنون لا تصح ردته بالإجماع، لأن الردة تبنى على تبدل الاعتقاد، وتعلم أن السكران غير معتقد لما قال، ووقوع طلاقه، لأنه لا يغتفر إلى القصد، ولذا لزم طلاق الناسي.
وفي رواية للحنفية: أنه إذا كان سكره بسبب محظورن وباشره مختاراً بلا إكراه، فإنه تصح ردته ولا يعفى عنه.
الشافعية - قالوا: تصح ردة السكران المتعدي بسكره، كطلاقه وسائر تصرفاته، وفي صحة استتابته حال سكره وجهان، ا؛دهما أنه تصح كما تصح ردته وعليه الجمهور وهو المفتى به، لكن يندب تأخيرها إلى الإفاقة، خروجاً من خلاف من قال: بعدم صحة توبته، وهو الوجه الثاني القائل: بأن الشبهة لا تزول في تلك الحالة.
أما السكران غير المتعدي بسكره، كأن أكره على شربها، فلا يحكم عليه بالارتداد، كما في طلاقه وغيره.
والراجح من المذهب صحة إسلام السكران عن ردته، ولو ارتد صاحياً ثم أسلم معاملة لأقواله معاملة الصاحي.
والاعتداد بإسلامه في السكر أنه يحتاج إلى تجديد بعد الإفاقة، لكن قالوا: إذا فقاق عرضنا عليه الإسلام فإن وصفه كان مسلماً من حين وصف الإسلام، وإن وصف الكفر كان كافراً من الآن، لأن إسلامه صح أولاً، فإن لم يتب قتل.(2/64)
قبول الشهادة بالردة. الشافعية - قالوا: تقبل الشهادة بالردة على وجه الإطلاق، ويقضى بها من غير تفصيل، لأن الردة لخطرها لا يقدم الشاهد بها إلا عن بصيرة، ثم يقول له القاضي تلفظ بالشهادتين ولا حادة إلى السؤال عن السبب، فإن امنع كان امتناعه قربته لا يحتاج معها إلى ذكر سبب الردة.
وقيل: يجب التفصيل واستفسار الشاهد بها لاختلاف المذاهب في التكفير، والحكم بالردة عظيم فيجب أن يحتاط له. وهو المذهب الي يجب القطع به لأنه قد يتوهم ما ليس بكفر كفراً، فيسأله القاضي.
المالكية قالوا: بأنه لا تقبل توبة المرتد، فلا تقبل الشهادة إلا مفصلة.
الحنفية قالوا: تقبل الشهادة بالردة من عدلين، يشهدان على مسلم بالردة، ويسألهما القاضي عن سبب ردته، فربما قال شيئاً ليس بكفر، وهو في نظرهما كفر، ولأن إنكاره توبة ورجوع إلى الإسلام ا هـ.
*مبحث كيفية توبة المرتد.
الحنفية قالوا: أنه يتبرأ عن الأديان كلها سوى دين الإسلام، وهو أن يقول: (تبت وجعت إلى دين الإسلام، وأنا بريء من كل دين سوى دين الإسلام). والإقرار بالبعث والنشور مستحب، وإنما يقول ذلك لأنه لا دين له، ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه، لحصول المقصود.
قال الطحاوي سئل أبو يوسف عن الرجل كيف يسلم فقال يقول: أشهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً عبده ورسوله، ويقر بما جاء به من عند اللّه، ويتبرأ من الدين الذي انتحله، وإن شهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، وقال: ولم أدخل في هذا الدين قط، وأنا بريء من الدين الذي ارتد إليه، فهي توبة، وفي شرح الطحاوي: إسلام النصراني أن يقول: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً عبده ورسوله ويتبرأ من النصرانية، واليهودي كذلك يتبرأ من اليهودية، وكذا من كل ملة، وأما مجرد الشهادتين، فلا يكون مسلماً، لأنهم يقولون بذلك غير أنهم يدعون خصوص الرسالة إلى العرب هذا فيمن بين أظهرنا منهم، أما من في دار الحرب لو حمل عليه مسلم فقال: محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فهو مسلم، أو قال: دخلت في دين الإسلام. أو دخلت في دين محمد صلى اللّه عليه وسلم فهو دليل إسلامه فكيف إذا أتى بالشهادتين، لأن في ذلك الوقت ضيقاً، فيحكم بإسلامه بمجرد ذلك، ويرفع عنه القتل، ولو ارتد بعد ذلك قتله، ولو ارتد بعد إسلامه ثانياً قبلنا توبته، وكذا ثالثاً، ورابعاً، وفي كل مرة يطلب من الإمام التأجيل أجله، فإن عاد إلى الكفر رابعاً ثم طلب التأجيل فإنه لا يؤجله، فإن أسلم وإلا قتل.
وقال الكرخي في مختصره، فإن تاب بعد الرابعة ضربه ضربتاً وجيعاً، ولا يبلغ به الحد ثم يحبسه ولا يخرجه من السجن حتى يرى عليه خشوع التوبة، ويرى من حاله حال إنسان قد أخلص، فإذا فعل ذلك خلي سبيله، فإن عاد فعل به مثل ذلك أبداً ما دام يرجع إلى الإسلام، لإطلاق قوله تعالى {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن اللّه غفور رحيم} آية 5 من التوبة، وروي عن أبن عمر، وعلي رضي اللّه عنهما: لا تقبل توبة من كرر ردته كالزنديق: فيجب قتله.
المالكية، والحنابلة قالوا: لا تقبل توبة الكافر المرتد الذي تكررت ردته بل يجب قتله لقوله تعالى {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازداودا كفراً لم يكن اللّه لغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا} آية 137 من النساء، ولو قتله شخص قبل عودته إلى الإسلام فلا شيء عله من الدية والقصاص.
الشافعية - قالوا: إنه تقبل توبة الزنديق، والمرتد إذا طلب التوبة ورجع إلى الإسلام. ولو تكرر منه ذلك مراراً ما دام في كل مرة يرجع إلى الإسلام، ولا يقتل إلا أن يأبى أن يسلم.
الحنفية قالوا: قبول توبة الزنديق روايتان رواية تقول: لا تقبل توبته كمالك وأحمد. وفي رواية تقبل توبته إذا رجع كقول الشافعي، وهذا في حق أحكام الدنيا، أما فيما بينه وبين اللّه تعالى إذا صدق قبله سبحانه بلا خلاف.)
أحكام في المرتد.
الحنفية قالوا: لو أرتد أهل بلد لم تصر دار حرب حتى يجتمع فيهما ثلاثة شروط:
الأول: ظهور أحكام الكفر.
الثاني: أن لا يبقى فيهما مسلم، ولا ذمي بالأمان الأصلي.
والثالث: أن تكون متاخمة لدار الحرب. وأول من حارب المرتدين أبو بكر الصيق رضي اللّه تعالى عنه لانهم منعوا دفع الزكاة، وقالوا: لاندفع الزكاة إلا لمن صلاته سكن لهم، وهو النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأصبحوا دار حرب.
المالكية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: إذا ارتد أهل بلد لا يجوز أن تغنم ذراريهم التي حدثت منهم بعد الردة، ولا يسترقون، بل يجبون على الإسلام إلى أن يبلغوا: فإن لم يسلموا حبسوا، وضربهم الحاكم جذباً إلى الإسلام، وأما ذراريهم فيسترقون.
الشافعية قالوا: في أصح قوليهم إنهم لا يسترقون وقيل: تسترق ذراريهم وذراري ذراريهم.
الحنابلة قالوا: تسترق ذراريهم، وذراري ذراريهم، لأن الذرية تبع الآباء في الكفر.
روى البخاري عن أبن عباس رضي اللّه عنهما، لما بلغه أن علياً رضي اللّه عنه حرق قوماً بالنار، فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( لا تعذبوا بعذاب اللّه) ولقتلتهم كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) فإن الإمام علياً قاتل الزندقة الذين ارتدوا باتباع مذهب المانوية الذين يقولون بقدم النور والظلمة وأن العالم ناشئ عنهما.
================
أعمال المرتد.
الحنفية قالوا: إن الردة محبطة لثواب جميع العمال الصالحة التب عملها قبل أن يرتد عن الإسلام. فإذا تاب وعاد إلى الإسلام، إن عاد في وقت صلاة صلاها وجب عليه أداؤها ثانياً، وكذلك يجب عليه الحج ثانياً، إن كان سبق له حد، ولا يلزم من سقوط ثواب العمل سقوط العمل، بدليل أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة مسقطة للقضاء مع كونها لا ثواب فيها عند أكثر العلماء.(2/65)
الشافعية - قالوا: إن الردة محبطة للعمل إن اتصلت بالموت قال تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} الآية وقال تعالى: {ولقد أوحي إليك والى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} وقال تعالى: {ومن يكفر بالإيمان فقط حبط عمله} وغيرها من الآيات الدالة على إحباط الأعمال، وضياع ثوابها، ولهذا إن عاد إلى الإسلام وجب عليه أن يعيد حجه قبل الردة).
==========
وفي بداية المجتهد :(1)
بَابٌ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّ
وَالْمُرْتَدُّ إِذَا ظُفِرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُحَارِبَ ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ الرَّجُلُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ " وَاخْتَلَفُوا فِي قَتْلِ الْمَرْأَةِ وَهَلْ تُسْتَتَابُ قَبْلَ أَنْ تُقْتَلَ المرتدة ؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ : تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تُقْتَلُ وَشَبَّهَهَا بِالْكَافِرَةِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَالْجُمْهُورُ اعْتَمَدُوا الْعُمُومَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ ، وَشَذَّ قَوْمٌ ، فَقَالُوا : تُقْتَلُ وَإِنْ رَاجَعَتِ الْإِسْلَامَ . وَأَمَّا الِاسْتِتَابَةُ فَإِنَّ مَالِكًا شَرَطَ فِي قَتْلِهِ ذَلِكَ عَلَى مَا رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ ، وَقَالَ قَوْمٌ : لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ . وَأَمَّا إِذَا حَارَبَ الْمُرْتَدُّ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِالْحِرَابَةِ وَلَا يُسْتَتَابُ ، كَانَتْ حِرَابَتُهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَ أَنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ . وَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ الْمُحَارِبُ بَعْدَ أَنْ أُخِذَ أَوْ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ ، فَإِنَّهُ يُخْتَلَفُ فِي حُكْمِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ حِرَابَتُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ كَالْحَرْبِيِّ يُسْلِمُ لِاتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِمَّا فَعَلَ فِي حَالِ ارْتِدَادِهِ . وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ حِرَابَتُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّهُ يُسْقِطُ إِسْلَامُهُ عَنْهُ حُكْمَ الْحِرَابَةِ خَاصَّةً ، وَحُكْمُهُ فِيمَا جَنَى حُكْمُ الْمُرْتَدِّ إِذَا جَنَى فِي رِدَّتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِيهِ ، فَقَالَ : حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ مَنِ اعْتَبَرَ يَوْمَ الْجِنَايَةِ ، وَقَالَ : حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِ مَنِ اعْتَبَرَ يَوْمَ الْحُكْمِ . وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي حُكْمِ السَّاحِرِ ، فَقَالَ مَالِكٌ : يُقْتَلُ كُفْرًا ، وَقَالَ قَوْمٌ : لَا يُقْتَلُ ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُقْتَلَ إِلَّا مَعَ الْكُفْرِ .
=============
وفي الأم :(2)
الْمُرْتَدُّ عَنْ الْإِسْلَامِ
__________
(1) - بداية المجتهد ونهاية المقتصد - (ج 1 / ص 767)
(2) - الأم للشافعي مشكل - (ج 3 / ص 363)(2/66)
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : رحمه الله تعالى وَمَنْ انْتَقَلَ عَنْ الشِّرْكِ إلَى إيمَانٍ ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْ الْإِيمَانِ إلَى الشِّرْكِ مِنْ بَالِغِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ قُبِلَ مِنْهُ , وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إنْ اسْتَطَاعُوا } إلَى { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ حَمَّادٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ , كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ , أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ , أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ } ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : لَمَّا بَلَغَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله تعالى عنه حَرَّقَ الْمُرْتَدِّينَ أَوْ الزَّنَادِقَةَ قَالَ : لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ , وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَلَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ } ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : قَالَ { مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ } ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ثَابِتٌ , وَلِمَ أَرَ أَهْلَ الْحَدِيثِ يُثْبِتُونَ الْحَدِيثَيْنِ بَعْدَ حَدِيثِ زَيْدٍ لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ , وَلَا الْحَدِيثَ قَبْلَهُ ( قَالَ ) : وَمَعْنَى حَدِيثِ عُثْمَانَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ } , وَمَعْنَى , " مَنْ بَدَّلَ قُتِلَ " مَعْنًى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ دِينَ الْحَقِّ , وَهُوَ الْإِسْلَامُ لَا مَنْ بَدَّلَ غَيْرَ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَدْيَانِ فَإِنَّمَا خَرَجَ مِنْ بَاطِلٍ إلَى بَاطِلٍ , وَلَا يُقْتَلُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ الْبَاطِلِ إنَّمَا يُقْتَلُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ الْحَقِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الدِّينِ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَعَلَى خِلَافِهِ النَّارَ إنَّمَا كَانَ عَلَى دِينٍ لَهُ النَّارُ إنْ أَقَامَ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } , وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { , وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلْ مِنْهُ } إلَى قَوْلِهِ { مِنْ الْخَاسِرِينَ } وَقَالَ , { , وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } إلَى قَوْلِهِ { مُسْلِمُونَ } ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَإِذَا قُتِلَ الْمُرْتَدُّ أَوْ الْمُرْتَدَّةُ فَأَمْوَالُهُمَا فَيْءٌ لَا يَرِثُهَا مُسْلِمٌ وَلَا ذِمِّيٌّ , وَسَوَاءٌ مَا كَسَبَا مِنْ أَمْوَالِهِمَا فِي الرِّدَّةِ أَوْ مَلَكَا قَبْلَهَا , وَلَا يُسْبَى لِلْمُرْتَدِّينَ ذُرِّيَّةٌ امْتَنَعَ الْمُرْتَدُّونَ فِي دَارِهِمْ أَوْ لَمْ يَمْتَنِعُوا أَوْ لَحِقُوا فِي الرِّدَّةِ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَقَامُوا بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْإِسْلَامِ قَدْ ثَبَتَتْ لِلذُّرِّيَّةِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي الدِّينِ وَالْحُرِّيَّةِ , وَلَا ذَنْبَ لَهُمْ فِي تَبْدِيلِ آبَائِهِمْ , ويوارثون , وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ , وَمَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ الْحِنْثَ أُمِرَ بِالْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمَ , وَإِلَّا قُتِلَ , وَلَوْ ارْتَدَّ الْمُعَاهَدُونَ فَامْتَنَعُوا أَوْ هَرَبُوا إلَى دَارِ الْكُفَّارِ , وَعِنْدَنَا ذَرَارِيُّ لَهُمْ وُلِدُوا مِنْ أَهْلِ عَهْدٍ لَمْ نَسْبِهِمْ , وَقُلْنَا لَهُمْ إذَا بَلَغُوا ذَلِكَ - إنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ الْعَهْدُ , وَإِلَّا نَبَذْنَا إلَيْكُمْ فَاخْرُجُوا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَأَنْتُمْ حَرْبٌ - , وَمِنْ وُلِدَ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَالذِّمِّيِّينَ فِي الرِّدَّةِ لَمْ يُسْبَ لِأَنَّ آبَاءَهُمْ لَا يُسْبَوْنَ , وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ شَيْءٌ مَا كَانَ حَيًّا فَإِنْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ قُتِلَ جَعَلْنَا مَالَهُ فَيْئًا , وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ فَمَالُهُ لَهُ , وَإِذَا ارْتَدَّ رَجُلٌ عَنْ الْإِسْلَامِ أَوْ امْرَأَةٌ اُسْتُتِيبَ أَيُّهُمَا ارْتَدَّ , فَظَاهِرُ الْخَبَرِ فِيهِ أَنْ يُسْتَتَابَ مَكَانَهُ فَإِنْ تَابَ , وَإِلَّا قُتِلَ , وَقَدْ يَحْتَمِلُ الْخَبَرُ أَنْ يُسْتَتَابَ مُدَّةً مِنْ الْمُدَدِ , أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِي عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ : قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَسَأَلَهُ عَنْ النَّاسِ فَأَخْبَرَهُ ثُمَّ قَالَ : هَلْ كَانَ فِيكُمْ مِنْ مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ قَالَ : فَمَا فَعَلْتُمْ بِهِ ؟ قَالَ : قَرَّبْنَاهُ(2/67)
فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ , فَقَالَ عُمَرُ : " فَهَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا , وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ , وَيُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ , وَلَمْ آمُرْ , وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي " ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَفِي حَبْسِهِ ثَلَاثًا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { يَحِلُّ الدَّمُ بِثَلَاثٍ كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ } , وَهَذَا قَدْ كَفَرَ بَعْدَ إيمَانِهِ , وَبَدَّلَ دِينَهُ دِينَ الْحَقِّ , وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ بِأَنَاةٍ مُؤَقَّتَةٍ تُتَّبَعُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَجَّلَ بَعْضَ مَنْ قَضَى بِعَذَابِهِ أَنْ يَتَمَتَّعَ فِي دَارِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ نُزُولَ نِقْمَةِ اللَّهِ بِمَنْ عَصَمَاهُ مُخَالِفٌ لِمَا يَجِبُ عَلَى الْأَئِمَّةِ أَنْ يَقُومُوا بِهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ؟ قِيلَ : دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَضَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ إمْهَالِهِ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ , وَعَصَاهُ , وَقِيلَ : أَسَلْنَاهُ مُدَدًا طَالَتْ , وَقَصُرَتْ , وَمِنْ أَخْذِهِ بَعْضَهُمْ بِعَذَابٍ مُعَجَّلٍ , وَإِمْهَالِهِ بَعْضَهُمْ إلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ الَّذِي هُوَ أَخْزَى فَأَمْضَى قَضَاءَهُ عَلَى مَا أَرَادَ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ , وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ , وَلَمْ يَجْعَلْ هَذَا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَمَا وَجَبَ مِنْ حُقُوقِهِ فَالْمُتَأَنَّى بِهِ ثَلَاثًا لِيَتُوبَ بَعْدَ ثَلَاثٍ كَهَيْئَتِهِ قَبْلَهَا إمَّا لَا يَنْقَطِعُ مِنْهُ الطَّمَعُ مَا عَاشَ لِأَنَّهُ يُئِسَ مِنْ تَوْبَتِهِ ثُمَّ يَتُوبُ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إغْرَامُهُ يَقْطَعُ الطَّمَعَ مِنْهُ فَذَلِكَ يَكُونُ فِي مَجْلِسٍ , وَهَذَا قَوْلٌ يَصِحُّ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ , وَمَنْ قَالَ : لَا يَتَأَنَّى بِهِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عُمَرَ لَوْ حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا , لَيْسَ بِثَابِتٍ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ مُتَّصِلًا , وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا كَأَنْ لَمْ يُجْعَلْ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ قَبْلَ ثَلَاثٍ شَيْئًا , وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ يُحْبَسُ ثَلَاثًا , وَمَنْ قَالَ بِهِ احْتَجَّ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَمَرَ بِهِ , وَأَنَّهُ قَدْ يَجِبُ الْحَدُّ فَيَتَأَنَّى بِهِ الْإِمَامُ بَعْضَ الْأَنَاةِ فَلَا يُعَابُ عَلَيْهِ قَالَ الرَّبِيعُ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَجُوزَ كُلُّ وَقْتِ صَلَاةٍ فَيُقَالُ لَهُ : قُمْ فَصَلِّ فَإِنْ لَمْ يُصَلِّ قُتِلَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُرْتَدِّ فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلٌ : مَنْ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ ثُمَّ ارْتَدَّ إلَى دِينٍ يُظْهِرُهُ أَوْ لَا يُظْهِرُهُ لَمْ يُسْتَتَبْ وَقُتِلَ , وَقَالَ بَعْضُهُمْ سَوَاءٌ مَنْ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ , وَمَنْ أَسْلَمَ لَمْ يُولَدْ عَلَيْهَا فَأَيُّهُمَا ارْتَدَّ فَكَانَتْ رِدَّتُهُ إلَى يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ دِينٍ يُظْهِرُهُ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ قُبِلَ مِنْهُ , وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ , وَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ إلَى دِينٍ لَا يُظْهِرُهُ مِثْلُ الزَّنْدَقَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا قُتِلَ , وَلَمْ يُنْظَرْ إلَى تَوْبَتِهِ , وَقَالَ بَعْضُهُمْ سَوَاءٌ مَنْ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ , وَمَنْ لَمْ يُولَدْ عَلَيْهَا إذَا فَأَيُّهُمَا ارْتَدَّ اُسْتُتِيبَ , فَإِنْ تَابَ قُبِلَ مِنْهُ , وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَبِهَذَا أَقُولُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لِمَ اخْتَرْتَهُ ؟ قِيلَ لَهُ : لِأَنَّ الَّذِي أَبَحْتُ بِهِ دَمَ الْمُرْتَدِّ مَا أَبَاحَ اللَّهُ بِهِ دِمَاءَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ } فَلَا يَعْدُو قَوْلُهُ أَنْ يَكُونَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ تُوجِبُ دَمَهُ كَمَا يُوجِبُهُ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ فَقُتِلَ بِمَا أَوْجَبَ دَمَهُ مِنْ كَلِمَةِ الْكُفْرِ إلَى أَيِّ كُفْرٍ رَجَعَ , وَمَوْلُودًا عَلَى الْفِطْرَةِ كَانَ أَوْ غَيْرَ مَوْلُودٍ , أَوْ يَكُونُ إنَّمَا يُوجِبُ دَمَهُ كُفْرٌ ثَبَتَ عَنْهُ إذَا سُئِلَ النُّقْلَةَ عَنْهُ امْتَنَعَ , وَهَذَا أَوْلَى الْمَعْنَيَيْنِ بِهِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَتَلَ مُرْتَدًّا رَجَعَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَأَبُو بَكْرٍ قَتَلَ الْمُرْتَدِّينَ وَعُمَرُ قَتَلَ طُلَيْحَةَ , وَعُيَيْنَةَ بْنَ بَدْرٍ , وَغَيْرَهُمَا ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَالْقَوْلَانِ اللَّذَانِ تَرَكْتُ لَيْسَا بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا وَجْهَ لِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُهُمَا , وَإِنَّمَا كُلِّفَ الْعِبَادُ الْحُكْمَ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ , وَتَوَلَّى اللَّهُ الثَّوَابَ عَلَى السَّرَائِرِ دُونَ خَلْقِهِ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم { إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا(2/68)
أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ { فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ } ( قَالَ ) : وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } مَا هُمْ بِمُخْلِصِينَ , وَفِي قَوْلِ اللَّهِ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ أَظْهَرُوا الرُّجُوعَ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ { يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ } فَحَقَنَ بِمَا أَظْهَرُوا مِنْ الْحَلِفِ مَا قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ دِمَاءَهُمْ بِمَا أَظْهَرُوا ( قَالَ ) وَقَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إظْهَارَ الْإِيمَانِ جُنَّةٌ مِنْ الْقَتْلِ , وَاَللَّهُ وَلِيُّ السَّرَائِرِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ عَنْ { الْمِقْدَادِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنْ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي فَضَرَبَ إحْدَى يَدَيَّ بِسَيْفٍ فَقَطَعَهَا ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ فَقَالَ : أَسْلَمْتُ لِلَّهِ أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَقْتُلْهُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ قَطَعَ إحْدَى يَدَيَّ ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَقْتُلْهُ فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِك قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ , وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ } قَالَ الرَّبِيعُ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِك قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ , وَإِنَّك بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ } , يَعْنِي أَنَّهُ بِمَنْزِلَتِك حَرَامُ الدَّمِ , وَأَنْتَ إنْ قَتَلْتَهُ بِمَنْزِلَتِهِ كُنْت مُبَاحَ الدَّمِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ الَّذِي قَالَ " ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُنَافِقِينَ دَلَالَةٌ عَلَى أُمُورٍ مِنْهَا , لَا يُقْتَلُ مَنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ مِنْ كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ , وَمِنْهَا أَنَّهُ حَقَنَ دِمَاءَهُمْ وَقَدْ رَجَعُوا إلَى غَيْرِ يَهُودِيَّةٍ , وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ , وَلَا مَجُوسِيَّةٍ , وَلَا دِينٍ يُظْهِرُونَهُ إنَّمَا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ , وَأَسَرُّوا الْكُفْرَ فَأَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الظَّاهِرِ عَلَى أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ فَنَاكَحُوا الْمُسْلِمِينَ وَوَارَثُوهُمْ وَأُسْهِمَ لِمَنْ شَهِدَ الْحَرْبَ مِنْهُمْ , وَتُرِكُوا فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَلَا رَجْعَ عَنْ الْإِيمَانِ أَبَدًا أَشَدُّ وَلَا أَبْيَنُ كُفْرًا مِمَّنْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ كُفْرِهِ بَعْدَ إيمَانِهِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَسْرَارِهِمْ , وَلَعَلَّهُ لَمْ يَعْلَمْهُ الْآدَمِيُّونَ فَمِنْهُمْ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ , وَمِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ بَعْدَ الشَّهَادَةِ , وَمِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ بِغَيْرِ شَهَادَةٍ , وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ , وَأَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ بِقَوْلٍ ظَاهِرٍ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { , وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ رَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا } فَكُلُّهُمْ إذَا قَالَ مَا قَالَ , وَثَبَتَ عَلَى قَوْلِهِ أَوْ جَحَدَ أَوْ أَقَرَّ , وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ تُرِكَ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُقْتَلْ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ { , وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } إلَى قَوْلِهِ { فَاسِقُونَ } فَإِنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُخَالِفَةٌ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ سِوَاهُ لِأَنَّا نَرْجُو أَنْ لَا يُصَلِّي عَلَى أَحَدٍ إلَّا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَحِمَهُ , وَقَدْ قَضَى اللَّهُ { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدْ لَهُمْ نَصِيرًا } , وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا دَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ نُهِيَ عَنْهُمْ , وَصَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرِهِ , فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ بِنَهْيِ اللَّهِ لَهُ وَلَمْ يَنْهَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا , وَلَا عَنْ مَوَارِيثِهِمْ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَإِنَّ تَرْكَ قَتْلِهِمْ جُعِلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً فَذَلِكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْأَحْكَامِ فَيُقَالُ فِيمَنْ تَرَكَ عليه السلام قَتْلَهُ أَوْ قَتَلَهُ جُعِلَ هَذَا لَهُ(2/69)
خَاصَّةً وَلَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ إلَّا بِأَنْ تَأْتِيَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَمْرًا جُعِلَ خَاصَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِلَّا فَمَا صَنَعَ عَامٌّ , عَلَى النَّاسِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي مِثْلِهِ إلَّا مَا بَيَّنَ هُوَ أَنَّهُ خَاصٌّ أَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ بِخَبَرٍ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَقَدْ عَاشَرُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ أَئِمَّةَ الْهُدَى , وَهُمْ يَعْرِفُونَ بَعْضَهُمْ فَلَمْ يَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدًا , وَلَمْ يَمْنَعُوهُ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ إذْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ , وَكَانَ عُمَرُ يَمُرُّ بِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ إذَا مَاتَ مَيِّتٌ فَإِنْ أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ اجْلِسْ جَلَسَ , وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُنَافِقٌ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مُسْلِمًا , وَإِنَّمَا يَجْلِسُ عُمَرُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْجُلُوسَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مُبَاحٌ لَهُ فِي غَيْرِ الْمُنَافِقِ إذَا كَانَ لَهُمْ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ سِوَاهُ , وَقَدْ يَرْتَدُّ الرَّجُلُ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ ثُمَّ يُظْهِرُ التَّوْبَةَ مِنْهَا وَقَدْ يُمْكِنُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ مُجَامَعَةِ النَّصَارَى وَلَا غِشْيَانِ الْكَنَائِسِ , فَلَيْسَ فِي رِدَّتِهِ إلَى دِينٍ لَا يُظْهِرُهُ إذَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ شَيْءٌ يُمَكِّنُ بِأَنْ يَقُولَ قَائِلٌ لَا أَجِدُ دَلَالَةً عَلَى تَوْبَتِهِ بِغَيْرِ قَوْلِهِ إلَّا , وَهُوَ يَدْخُلُ فِي النَّصْرَانِيَّةِ , وَكُلُّ دِينٍ يُظْهِرُهُ وَيُمْكِنُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يُظْهِرَ رِدَّتَهُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَمِلًا عَلَى الرِّدَّةِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَمْ أُكَلَّفْ هَذَا إنَّمَا كُلِّفْت مَا ظَهَرَ , وَاَللَّهُ وَلِيُّ مَا غَابَ فَأَقْبَلُ الْقَوْلَ بِالْإِيمَانِ إذَا قَالَهُ ظَاهِرًا وَأَنْسُبُهُ إلَيْهِ , وَأَعْمَلُ بِهِ إذَا عَمِلَ فَهَذَا وَاحِدٌ فِي كُلِّ أَحَدٍ سَوَاءٌ لَا يَخْتَلِفُ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُ إلَّا بِحُجَّةٍ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُ , وَلَمْ نَعْلَمْ لِلَّهِ حُكْمًا , وَلَا لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم يُفَرِّقُ بَيْنَهُ , وَأَحْكَامُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى أَحَدٍ إلَّا بِظَاهِرٍ , وَالظَّاهِرُ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوْ مَا قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ تُثْبِتُ عَلَيْهِ , فَالْحُجَّةُ فِيمَا وَصَفْنَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَفِي { الرَّجُلِ الَّذِي اسْتَفْتَى فِيهِ الْمِقْدَادُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قَطَعَ يَدَهُ عَلَى الشِّرْكِ , وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهَلَّا كَشَفْت عَنْ قَلْبِهِ ؟ } يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَك إلَّا ظَاهِرُهُ , وَفِي { قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ إنْ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلَا أَرَاهُ إلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا , وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُدَيْعِجَ جَعْدًا فَلَا أَرَاهُ إلَّا قَدْ صَدَقَ فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ أَمْرَهُ لَبَيِّنٌ لَوْلَا مَا حَكَمَ اللَّهُ } وَفِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ , وَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْ بِهِ فَإِنِّي إنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : فَفِي كُلِّ هَذَا دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا لَمْ يَقْضِ إلَّا بِالظَّاهِرِ فَالْحُكَّامُ بَعْدَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَقْضُوا إلَّا عَلَى الظَّاهِرِ , وَلَا يَعْلَمُ السَّرَائِرَ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالظُّنُونُ مُحَرَّمٌ عَلَى النَّاسِ , وَمَنْ حَكَمَ بِالظَّنِّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَإِذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ أَوْ الْمَرْأَةُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَهَرَبَ , وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ غَيْرِهَا , وَلَهُ نِسَاءٌ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادٍ , وَمُكَاتَبُونَ وَمُدَبَّرُونَ , وَمَمَالِيكُ , وَأَمْوَالٌ مَاشِيَةٌ , وَأَرْضُونَ وَدُيُونٌ لَهُ عَلَيْهِ أَمَرَ الْقَاضِي نِسَاءَهُ أَنْ يَعْتَدِدْنَ , وَأَنْفَقَ عَلَيْهِنَّ مِنْ مَالِهِ , وَإِنْ جَاءَ تَائِبًا , وَهُنَّ فِي عِدَّتِهِنَّ فَهُوَ عَلَى النِّكَاحِ , وَإِنْ لَمْ يَأْتِ تَائِبًا حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّتُهُنَّ فَقَدْ انْفَسَخْنَ مِنْهُ , وَيَنْكِحْنَ مَنْ شِئْنَ , وَوَقَفَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَمَتَى جَاءَ تَائِبًا فَهُنَّ فِي مِلْكِهِ , وَيُنْفِقُ عَلَيْهِنَّ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَتَقْنَ , وَكَانَ مُكَاتَبُوهُ عَلَى كِتَابَتِهِمْ تُؤْخَذُ نُجُومُهُمْ فَإِنْ عَجَزُوا رَجَعُوا رَقِيقًا , وَنَظَرَ فِيمَنْ بَقِيَ مِنْ رَقِيقِهِ فَإِنْ كَانَ حَبْسُهُمْ أَزْيَدَ فِي مَالِهِ حَبَسَهُمْ أَوْ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَزِيدُ فِي مَالِهِ بِخَرَاجٍ أَوْ بِصِنَاعَةٍ أَوْ كِفَايَةٍ لِضَيْعَةٍ , وَإِنْ كَانَ حَبْسُهُمْ(2/70)
يُنْقِصُ مِنْ مَالِهِ أَوْ حَبْسُ بَعْضِهِمْ بَاعَ مَنْ كَانَ حَبْسُهُ مِنْهُمْ نَاقِصًا لِمَالِهِ وَهَكَذَا يَصْنَعُ فِي مَاشِيَتِهِ , وَأَرْضِهِ , وَدُورِهِ , وَرَقِيقِهِ وَيَقْتَضِي دَيْنَهُ , وَيَقْضِي عَنْهُ مَا حَلَّ مِنْ دَيْنٍ عَلَيْهِ فَإِنْ رَجَعَ تَائِبًا سَلَّمَ إلَيْهِ مَا وَقَفَ مِنْ مَالِهِ وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ فَيْئًا .
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَإِنْ جَنَى فِي رِدَّتِهِ جِنَايَةً لَهَا أَرْشٌ أُخِذَ مِنْ مَالِهِ , وَإِنْ جُنِيَ عَلَيْهِ فَالْجِنَايَةُ هَدَرٌ لِأَنَّ دَمَهُ مُبَاحٌ فَمَا دُونَ دَمِهِ أَوْلَى أَنْ يُبَاحَ مِنْ دَمِهِ .
=============
( قَالَ ) : وَإِنْ أَعْتَقَ فِي رِدَّتِهِ أَحَدًا مِنْ رَقِيقِهِ فَالْعِتْقُ مَوْقُوفٌ وَيُسْتَغَلُّ الْعَبْدُ , وَيُوقَفُ عَلَيْهِ فَإِنْ مَاتَ فَهُوَ رَقِيقٌ ,(1)
وَغَلَّتُهُ مَعَ عُنُقِهِ فَيْءٌ , وَإِنْ رَجَعَ تَائِبًا فَهُوَ حُرٌّ , وَلَهُ مَا غَلَّ بَعْدَ الْعِتْقِ ( قَالَ ) : وَإِنْ أَقَرَّ فِي رِدَّتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ كَمَا وَصَفْتُ فِي الْعِتْقِ , وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَدَّقَ ( قَالَ ) : وَإِنْ , وَهَبَ فَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ لِأَنَّهَا لَا تَجُوزُ إلَّا مَقْبُوضَةً ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ يُعْتِقُ فَيَبْطُلُ عِتْقُهُ وَيَتَصَدَّقُ فَتَبْطُلُ صَدَقَتُهُ , وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إذَا خَرَجَ مِنْ الْوِلَايَةِ ؟ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ { , وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } فَكَانَ قَضَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تُحْبَسَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ حَتَّى يَبْلُغُوا وَيُؤْنَسَ مِنْهُمْ رُشْدٌ فَكَانَتْ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَا أَمْرَ لَهُمْ , وَأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ بِرَحْمَةِ اللَّهِ لِصَلَاحِهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ , وَلَمْ يُسَلَّطُوا عَلَى إتْلَافِهَا فِيمَا لَا يَلْزَمُهُمْ وَلَا يُصْلِحُ مَعَايِشَهُمْ فَبَطَلَ مَا أَتْلَفُوا فِي هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمْ عِتْقٌ وَلَا صَدَقَةٌ , وَلَمْ يُحْبَسْ مَالُ الْمُرْتَدِّ بِنَظَرِ مَالِهِ وَلَا بِأَنَّهُ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا , وَلَوْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ عَلَى شِرْكِهِ لَجَازَ أَمْرُهُ فِي مَالِهِ , لِأَنَّا لَا نَلِي عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَمْوَالَهُمْ فَأَجَزْنَا عَلَيْهِ مَا صَنَعَ فِيهِ إنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ , وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يُقْتَلَ كَانَ لَنَا بِمَوْتِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ مَا فِي أَيْدِينَا مِنْ مَالِهِ فَيْئًا , فَإِنْ قِيلَ أَوْ لَيْسَ مَالُهُ عَلَى حَالِهِ ؟ قِيلَ : بَلْ مَالُهُ عَلَى شَرْطٍ .
=============
الْخِلَافُ فِي الْمُرْتَدِّ(2)
__________
(1) - الأم للشافعي مشكل - (ج 3 / ص 384) والأم - (ج 1 / ص 428)
(2) - الأم للشافعي مشكل - (ج 3 / ص 386) والأم - (ج 1 / ص 435)(2/71)
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : رحمه الله تعالى قَالَ بَعْضُ النَّاسِ إذَا ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ عَنْ الْإِسْلَامِ حُبِسَتْ وَلَمْ تُقْتَلْ , فَقُلْتُ لِمَنْ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ : أَخَبَرًا قُلْتَهُ أَمْ قِيَاسًا ؟ قَالَ : بَلْ خَبَرًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ نَاحِيَتِهِ قَوْلًا فِيهِ قُلْت الَّذِي قَالَ هَذَا خَطَّاءٌ وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْطَلَهُ بِأَكْثَرَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَقُلْتُ : لَهُ قَدْ حَدَّثَ بَعْضُ مُحَدِّثِيكُمْ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَتَلَ نِسْوَةً ارْتَدَدْنَ عَنْ الْإِسْلَامِ فَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَحْتَجَّ بِهِ إذْ كَانَ ضَعِيفًا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ ( قَالَ ) فَإِنِّي أَقُولُهُ قِيَاسًا عَلَى السُّنَّةِ ( قُلْت ) : فَاذْكُرْهُ قَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ } فَإِذَا كَانَ النِّسَاءُ لَا يُقْتَلْنَ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ النِّسَاءُ اللَّاتِي ثَبَتَ لَهُنَّ حُرْمَةُ الْإِسْلَامِ أَوْلَى أَنْ لَا يُقْتَلْنَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : فَقُلْت لَهُ أَوَيُشْبِهُ حُكْمُ دَارِ الْحَرْبِ الْحُكْمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ( قَالَ ) : وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ ؟ قُلْتُ أَنْتَ تُفَرِّقُ بَيْنَهُ ( قَالَ ) : وَأَيْنَ ؟ قُلْت : أَرَأَيْت الْكَبِيرَ الْفَانِيَ , وَالرَّاهِبَ الْأَجِيرَ أَيُقْتَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَالَ : لَا ( قُلْت ) : فَإِنْ ارْتَدَّ رَجُلٌ فَتَرَهَّبَ أَوْ ارْتَدَّ أَجِيرًا نَقْتُلُهُ قَالَ : نَعَمْ ( قُلْت ) : وَلِمَ ؟ , وَهَؤُلَاءِ قَدْ ثَبَتَ لَهُمْ حُرْمَةُ الْإِسْلَامِ , وَصَارُوا كُفَّارًا فَلِمَ لَا تَحْقِنُ دِمَاءَهُمْ ؟ ( قَالَ ) : لِأَنَّ قَتْلَ هَؤُلَاءِ كَالْحَدِّ لَيْسَ لِي تَعْطِيلُهُ ( قُلْت ) : أَرَأَيْتَ مَا حَكَمْتَ بِهِ حُكْمَ الْحَدِّ أَنُسْقِطُهُ عَنْ الْمَرْأَةِ ؟ أَرَأَيْتَ الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ , وَالرَّجْمَ , وَالْجَلْدَ أَتَجِدُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ فَرْقًا ؟ قَالَ : لَا ( قُلْتُ ) فَكَيْفَ لَمْ تَقْتُلْهَا بِالْحَدِّ فِي الرِّدَّةِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَقُلْت لَهُ أَرَأَيْتَ الْمَرْأَةَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ أَتَغْنَمُ مَالَهَا , وَتَسْبِيهَا , وَتَسْتَرِقُّهَا قَالَ نَعَمْ ( قُلْت ) : فَتَصْنَعُ هَذَا بِالْمُرْتَدَّةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؟ قَالَ : لَا , قَالَ فَقُلْتُ لَهُ : فَكَيْفَ جَازَ لَك أَنْ تَقِيسَ بِالشَّيْءِ مَا لَا يُشْبِهُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ , وَإِذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقُتِلَ أَوْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ قَسَمْنَا مِيرَاثَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَقَضَيْنَا كُلَّ دَيْنٍ عَلَيْهِ إلَى أَجَلٍ وَأَعْتَقْنَا أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ , وَمُدَبَّرِيهِ فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ نَرُدَّ مِنْ الْحُكْمِ شَيْئًا إلَّا أَنْ نَجِدَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فِي يَدَيْ أَحَدٍ مِنْ وَرَثَتِهِ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَالُهُ , وَمَنْ أَتْلَفَ مِنْ وَرَثَتِهِ شَيْئًا مِمَّا قَضَيْنَا لَهُ بِهِ مِيرَاثًا لَمْ يَضْمَنْهُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : فَقُلْتُ لِأَعْلَى مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَهُمْ : أُصُولُ الْعِلْمِ عِنْدَك أَرْبَعَةُ أُصُولٍ أَوْجَبُهَا وَأَوْلَاهَا أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ فَلَا يُتْرَكُ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا أَعْلَمُك إلَّا قَدْ جَرَّدْت خِلَافَهُمَا , ثُمَّ الْقِيَاسُ , وَالْمَعْقُولُ عِنْدَك الَّذِي يُؤْخَذُ بِهِ بَعْدَ هَذَيْنِ الْإِجْمَاعُ فَقَدْ خَالَفْت الْقِيَاسَ وَالْمَعْقُولَ , وَقُلْتَ فِي هَذَا قَوْلًا مُتَنَاقِضًا ( قَالَ ) فَأَوْجِدْنِي مَا وَصَفْتَ قُلْتُ لَهُ قَالَ اللَّهُ : تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إنْ امْرُؤُ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ } مَعَ مَا ذَكَرَ مِنْ آيِ الْمَوَارِيثِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إنَّمَا مَلَّكَ الْأَحْيَاءَ بِالْمَوَارِيثِ مَا كَانَ الْمَوْتَى يَمْلِكُونَ إذَا كَانُوا أَحْيَاءً ؟ قَالَ : بَلَى ( قُلْت ) : وَالْأَحْيَاءُ خِلَافُ الْمَوْتَى ؟ قَالَ : نَعَمْ ( قُلْت ) : أَفَرَأَيْتَ الْمُرْتَدَّ بِبَعْضِ ثُغُورِنَا يَلْحَقُ بِمَسْلَحَةٍ لِأَهْلِ الْحَرْبِ يَرَاهَا فَيَكُونُ قَائِمًا بِقِتَالِنَا أَوْ مُتَرَهِّبًا أَوْ مُعْتَزِلًا لَا تُعْرَفُ حَيَاتُهُ فَكَيْفَ حَكَمْتَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْمَوْتَى وَهُوَ حَيٌّ ؟ بِخَبَرٍ قُلْتَهُ أَمْ قِيَاسًا ( قَالَ ) : مَا قُلْتُهُ خَبَرًا ( قُلْت ) : وَكَيْفَ عِبْتَ أَنْ حَكَمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ تَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ , وَلَمْ يَحْكُمَا فِي مَالِهِ فَقُلْتُ : سُبْحَانَ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ حُكْمِ الْمَوْتَى , وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ أَنَّهُ مَيِّتٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَيِّتٍ , وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ إلَّا بِيَقِينٍ , وَحَكَمْتَ أَنْتَ عَلَيْهِ فِي سَاعَةٍ مِنْ(2/72)
نَهَارٍ حُكْمَ الْمَوْتَى فِي كُلِّ شَيْءٍ بِرَأْيِك ثُمَّ قُلْتَ فِيهِ قَوْلًا مُتَنَاقِضًا ( قَالَ ) : فَقَالَ أَلَا تَرَانِي لَوْ أَخَذْتُهُ فَقَتَلْتُهُ ( قُلْت ) : وَقَدْ تَأْخُذُهُ فَلَا تَقْتُلُهُ بِأَخْذِهِ مُبَرْسَمًا أَوْ أَخْرَسَ فَلَا تَقْتُلُهُ حَتَّى يُفِيقَ فَتَسْتَتِيبَهُ قَالَ نَعَمْ ( قَالَ ) وَقُلْتُ لَهُ أَرَأَيْتَ لَوْ كُنْت إذَا أَخَذْتَهُ قَتَلْتَهُ أَكَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ عَلَيْهِ حُكْمَ الْمَوْتَى , وَأَنْتَ لَمْ تَأْخُذْهُ وَلَمْ تَقْتُلْهُ , وَقَدْ تَأْخُذُهُ , وَلَا تَقْتُلُهُ بِأَنْ يَتُوبَ بَعْدَمَا تَأْخُذُهُ , وَقَبْلَ تَغَيُّرِ حَالِهِ بِالْخَرَسِ ؟ ( قَالَ ) فَإِنِّي أَقُولُ إذَا ارْتَدَّ , وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَيِّتٍ ( قَالَ ) : فَقُلْتُ لَهُ أَفَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مَيِّتٌ يَحْيَا بِغَيْرِ خَبَرٍ ؟ فَإِنْ جَازَ هَذَا لَك جَازَ لِغَيْرِك مِثْلُهُ ثُمَّ كَانَ لِأَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَكَلَّمُوا فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ( قَالَ ) : وَمَا ذَلِكَ لَهُمْ ( قُلْت ) : وَلِمَ ؟ ( قَالَ ) : لِأَنَّ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولُوا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ أَمْرٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ أَوْ أَثَرٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ مَعْقُولٍ , وَلَا يَقُولُونَ بِمَا يَعْرِفُ النَّاسُ غَيْرَهُ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ ذَلِكَ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ أَوْ إجْمَاعٌ أَوْ أَثَرٌ , وَلَا يَجُوزُ فِي الْقِيَاسِ أَنْ يُخَالَفَ ( قُلْت ) : هَذَا سُنَّةٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ( قُلْت ) : فَقَدْ قُلْت بِخِلَافِ الْكِتَابِ , وَالْقِيَاسِ , وَالْمَعْقُولِ ( قَالَ ) : فَأَيْنَ خَالَفْتُ الْقِيَاسَ ؟ ( قُلْت ) : أَرَأَيْتَ حِينَ زَعَمْت أَنَّ عَلَيْك إذَا ارْتَدَّ , وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَنْ تَحْكُمَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْمَوْتَى , وَأَنَّك لَا تَرُدُّ الْحُكْمَ إذَا جَاءَ لِأَنَّك إذَا حَكَمْت بِهِ لَزِمَك إنْ جَاءَتْ سُنَّةٌ فَتَرَكْتَهُ لَمْ تَحْكُمْ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ عَشْرَ سِنِينَ حَتَّى جَاءَ تَائِبًا ثُمَّ طَلَبَ مِنْك مَنْ كُنْت تَحْكُمُ فِي مَالِهِ حُكْمَ الْمَوْتَى أَنْ تُسَلِّمَ ذَلِكَ إلَيْهِ , وَقَالَ قَدْ لَزِمَك أَنْ تُعْطِيَنَا هَذَا بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ ؟ قَالَ : وَلَا أُعْطِيهِمْ ذَلِكَ , وَهُوَ أَحَقُّ بِمَالِهِ ( قُلْت ) : لَهُ فَإِنْ قَالُوا إنْ كَانَ هَذَا لَزِمَك فَلَا يَحِلُّ لَك إلَّا أَنْ تُعْطِيَنَاهُ , وَإِنْ كَانَ لَمْ يَلْزَمْك إلَّا بِمَوْتِهِ فَقَدْ أَعْطَيْتنَاهُ فِي حَالٍ لَا يَحِلُّ لَك , وَلَا لَنَا مَا أَعْطَيْتنَا مِنْهُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَقُلْتُ لَهُ أَرَأَيْتَ إذْ زَعَمْتَ أَنَّك إذَا حَكَمْتَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمَوْتَى فَهَلْ يَعْدُو الْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ نَافِذًا لَا يُرَدُّ أَوْ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ يُرَدُّ إذَا جَاءَ ( قَالَ ) : مَا أَقُولُ بِهَذَا التَّحْدِيدِ ( قُلْتُ ) : أَفَتُفَرِّقُ بَيْنَهُ بِخَبَرٍ يُلْزَمُ فَنَتَّبِعُهُ ؟ ( قَالَ ) : لَا فَقُلْتُ إذَا كَانَ خِلَافَ الْقِيَاسِ , وَالْمَعْقُولِ , وَتَقُولُ بِغَيْرِ خَبَرٍ أَيَجُوزُ ؟ قَالَ : إنَّمَا فَرَّقَ أَصْحَابُكُمْ بِغَيْرِ خَبَرٍ ( قُلْت ) أَفَرَأَيْتَ ذَلِكَ مِمَّنْ فَعَلَهُ مِنْهُمْ صَوَابًا ؟ قَالَ : لَا ( قُلْت ) : أَوْ رَأَيْتَ أَيْضًا قَوْلَك إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً فَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَقَضَيْتَ صَاحِبَ الدَّيْنِ دَيْنَهُ , وَهُوَ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ , وَأَعْتَقْتَ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ , وَمُدَبَّرِيهِ , وَقَسَمْتَ مِيرَاثَهُ بَيْنَ بَنِيهِ فَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِينَارٍ فَأَتْلَفَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ , وَالْآخَرَ بِعَيْنِهِ ثُمَّ جَاءَ مُسْلِمًا مِنْ يَوْمِهِ أَوْ غَدِهِ فَقَالَ : اُرْدُدْ عَلَيَّ مَا لِي فَهُوَ هَذَا , وَهَؤُلَاءِ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي , وَمُدَبَّرِيَّ بِأَعْيَانِهِمْ , وَهَذَا صَاحِبُ دَيْنِي يَقُولُ لَك : هَذَا مَالُهُ فِي يَدَيَّ لَمْ أُغَيِّرْهُ , وَهَذَانِ ابْنَايَ مَالِي فِي يَدِ أَحَدِهِمَا أَوْ قَدْ صَادَنِي الْآخَرُ فَأَتْلَفَ مَالِي ( قَالَ ) : أَقُولُ لَهُ : قَدْ مَضَى الْحُكْمُ , وَلَا يُرَدُّ غَيْرَ أَنِّي أُعْطِيك الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِ ابْنِك الَّذِي لَمْ يُتْلِفْهُ فَقُلْتُ لَهُ فَقَالَ لَك وَلِمَ تُعْطِينِيهِ دُونَ مَالِي ( قَالَ ) : لِأَنَّهُ مَالُك بِعَيْنِهِ فَقُلْتُ لَهُ : فَمُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ , وَدَيْنُهُ الْمُؤَجَّلُ مَالُهُ بِعَيْنِهِ فَأَعْطِهِ إيَّاهُ ( قَالَ ) : لَا أُعْطِيهِ إيَّاهُ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ مَضَى بِهِ ( قُلْت ) : وَمَضَى مَا أَعْطَيْتَ ابْنَهُ قَالَ نَعَمْ ( قُلْت ) : فَحَكَمْتَ حُكْمًا , وَاحِدًا فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ إمْضَاءَهُ فَأَمْضِهِ كُلَّهُ , وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ رَدَّهُ فَرُدَّهُ كُلَّهُ ( قَالَ ) : أَرُدُّ مَا وَجَدْتُهُ بِعَيْنِهِ ( قُلْت ) : لَهُ فَارْدُدْ إلَيْهِ دَيْنَهُ الْمُؤَجَّلَ بِعَيْنِهِ وَمُدَبَّرِيهِ , وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ قَالَ : أَرُدُّ عَيْنَ مَا وَجَدْت فِي يَدِ وَارِثِهِ ( قُلْت ) : لَهُ أَفَتَرَى هَذَا جَوَابًا ؟ فَمَا زَادَ عَلَى أَنْ قَالَ فَأَيْنَ السُّنَّةُ ؟ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : فَقُلْت لَهُ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ(2/73)
أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ } ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ ( قُلْت ) أَفَيَعْدُو الْمُرْتَدُّ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا ؟ قَالَ بَلْ كَافِرٌ , وَبِذَلِكَ أَقْتُلُهُ ( قُلْت ) : أَفَمَا تُبَيِّنُ لَك السُّنَّةُ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ قَالَ فَإِنَّا قَدْ رَوَيْنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ وَرَّثَ مُرْتَدًّا قَتَلَهُ وَوَرَثَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . ( قَالَ ) : فَقُلْت أَنَا أَسْمَعُك وَغَيْرَك تَزْعُمُونَ أَنَّ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ تَوْرِيثِهِ الْمُرْتَدَّ خَطَأٌ وَأَنَّ الْحُفَّاظَ لَا يَرْوُونَهُ فِي الْحَدِيثِ ( قَالَ ) : فَقَدْ رَوَاهُ ثِقَةٌ , وَإِنَّمَا قُلْنَا خَطَأٌ بِالِاسْتِدْلَالِ , وَذَلِكَ ظَنٌّ ( قَالَ ) : فَقُلْت لَهُ : رَوَى الثَّقَفِيُّ , وَهُوَ ثِقَةٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ } فَقُلْت فَلَمْ يَذْكُرْ جَابِرًا الْحُفَّاظُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَلَطٌ أَفَرَأَيْت لَوْ احْتَجَجْنَا عَلَيْك بِمِثْلِ حُجَّتِك فَقُلْنَا : هَذَا ظَنٌّ وَالثَّقَفِيُّ ثِقَةٌ , وَأَنَّ صُنْعَ غَيْرِهِ أَوْشَكَ قَالَ فَإِذًا لَا تُنْصِفُ ( قُلْت ) : وَكَذَلِكَ لَمْ تُنْصِفْ أَنْتَ حِينَ أَخْبَرْتَنِي أَنَّ الْحُفَّاظَ رَوَوْا هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله تعالى عنه لَيْسَ فِيهِ تَوْرِيثُ مَالِهِ , وَقُلْتَ : هَذَا غَلَطٌ ثُمَّ احْتَجَجْتَ بِهِ , فَقَالَ لَوْ كَانَ ثَابِتًا , قُلْت فَأَصْلُ مَا نَذْهَبُ إلَيْهِ نَحْنُ وَأَنْتَ وَأَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ مَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَبَتَ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ وَلَوْ كَثُرُوا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ ؟ قَالَ : أَجَلْ وَلَكِنِّي أَقُولُ : قَدْ يَحْتَمِلُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ } الَّذِي لَمْ يُسْلِمْ قَطُّ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : فَقُلْت لَهُ : أَفَتَقُولُ هَذَا بِدَلَالَةٍ فِي الْحَدِيثِ ؟ قَالَ : لَا , وَلَكِنَّ عَلِيًّا رضي الله تعالى عنه أَعْلَمُ بِهِ فَقُلْتُ أَيَرْوِي عَلِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْحَدِيثَ فَنَقُولُ لَا يَدَعُ شَيْئًا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا وَقَدْ عَرَفَ مَعْنَاهُ فَيُوَجَّهُ عَلَى مَا قُلْت ؟ ( قَالَ ) : مَا عَلِمْتُهُ رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ( قُلْت ) : أَفَيُمْكِنُ فِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ سَمِعَهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : فَقُلْتُ لَهُ : أَفَتَرَى لَك فِي هَذَا حُجَّةً ؟ قَالَ : لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ يَخْفَى مِثْلُ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله تعالى عنه فَقُلْتُ : وَقَدْ وَجَدْتُكَ تُخْبِرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ بِمِثْلِ صَدَاقِ نِسَائِهَا , وَكَانَتْ نُكِحَتْ عَلَى غَيْرِ صَدَاقٍ فَقَضَى بِخِلَافِهِ , وَقَدْ سَمِعْتُهُ وَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ عَلِيٍّ ابْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَقُلْت : لَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ وَلَا فِي قَوْلِهِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقُلْت لَهُ : فَإِنْ قَالَ لَك قَائِلٌ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا قَالَ هَذَا زَيْدٌ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَلِمَ أَنَّ زَوْجَ بِرْوَعَ فَرَضَ لَهَا بَعْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ فَحَفِظَ مَعْقِلٌ أَنَّ عُقْدَةَ النِّكَاحِ بَعْدَ فَرِيضَةٍ , وَعَلِمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْفَرِيضَةَ قَدْ كَانَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ : قَالَ . لَيْسَ فِي حَدِيثِ مَعْقِلٍ , وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَرْوُوهُ فَيَكُونُونَ قَالُوهُ بِرِوَايَةٍ . وَإِنَّمَا قَالُوا عِنْدَنَا بِالرَّأْيِ حَتَّى يَدَّعُوا فِيهِ رِوَايَةً . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : فَقُلْت لِمَ لَا يَكُونُ مَا رَوَيْت عَنْ عَلِيٍّ فِي الْمُرْتَدِّ هَكَذَا ؟ ( قَالَ ) : وَقُلْت لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُوَرِّثُ الْمُسْلِمَ مِنْ الْكَافِرِ وَمُعَاوِيَةُ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَغَيْرُهُمْ , وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ : نَرِثُهُمْ وَلَا يَرِثُونَا كَمَا تَحِلُّ لَنَا نِسَاؤُهُمْ , وَلَا تَحِلُّ لَهُمْ نِسَاؤُنَا , أَفَرَأَيْت إنْ قَالَ لَك قَائِلٌ : فَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ يَحْتَمِلُ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ } مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ , لِأَنَّ أَكْثَرَ حُكْمِهِ كَانَ عَلَيْهِمْ , وَلَيْسَ يَحِلُّ نِسَاؤُهُمْ , وَلَكِنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ مِنْهُمْ , قَالَ : لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ وَالْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ كَثِيرًا مِمَّا حُمِّلَ , وَلَيْسَ مُعَاذٌ حُجَّةً , وَإِنْ قَالَ قَوْلًا وَاحْتَمَلَهُ الْحَدِيثُ(2/74)
لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِ الْحَدِيثَ ( قُلْت ) : فَنَقُولُ لَك وَمُعَاذٌ يَجْهَلُ هَذَا , وَيَرْوِيهِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَدْ يَجْهَلُ السُّنَّةَ الْمُتَقَدِّمُ الصُّحْبَةَ وَيَعْرِفُهَا قَلِيلُ الصُّحْبَةِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَقُلْت لَهُ كَيْفَ لَمْ تَقُلْ هَذَا فِي الْمُرْتَدِّ ؟ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : فَقَطَعَ الْكَلَامَ : وَقَالَ , وَلِمَ قُلْت يَكُونُ مَالُ الْمُرْتَدِّ فَيْئًا ؟ ( قُلْت ) : بِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَرَّمَ دَمَ الْمُؤْمِنِ وَمَالَهُ إلَّا بِوَاحِدَةٍ أَلْزَمَهُ إيَّاهَا , وَأَبَاحَ دَمَ الْكَافِرِ وَمَالَهُ إلَّا بِأَنْ يُؤَدِّيَ الْجِزْيَةَ أَوْ يُسْتَأْمَنَ إلَى مُدَّةٍ , فَكَانَ الَّذِي يُبَاحُ بِهِ دَمُ الْبَالِغِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ هُوَ الَّذِي يُبَاحُ بِهِ مَالُهُ , وَكَانَ الْمَالُ تَبَعًا لِلَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْمَالِ , فَلَمَّا خَرَجَ الْمُرْتَدُّ مِنْ الْإِسْلَامِ صَارَ فِي مَعْنَى مَنْ أُبِيحَ دَمُهُ بِالْكُفْرِ لَا بِغَيْرِهِ وَكَانَ مَالُهُ تَبَعًا لِدَمِهِ , وَيُبَاحُ بِاَلَّذِي أُبِيحَ بِهِ مِنْ دَمِهِ , وَلَا يَكُونُ أَنْ تَنْحَلَّ عَنْهُ عُقْدَةُ الْإِسْلَامِ فَيُبَاحَ دَمُهُ وَيُمْنَعَ مَالَهُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَقَالَ : فَإِنْ كُنْتَ شَبَّهْتَهُ بِأَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ جَمَعْتَ بَيْنَهُمْ فِي شَيْءٍ , وَفَرَّقْتَهُ فِي آخَرَ ( قُلْت ) : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ : أَنْتَ لَا تَغْنَمُ مَالَهُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ تَقْتُلَهُ , وَقَدْ يُغْنَمُ مَالُ الْحَرْبِيِّ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ وَتَقْتُلَهُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : فَقُلْت لَهُ : الْحُكْمُ فِي أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ حُكْمَانِ : فَأَمَّا مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ فَأُغِيرُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ آخُذُ مَالَهُ وَإِنْ لَمْ أَقْتُلْهُ , وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَلَا أُغِيرُ عَلَيْهِ حَتَّى أَدْعُوَهُ , وَلَا أَغْنَمُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا حَتَّى أَدْعُوَهُ فَيَمْتَنِعُ فَيَحِلُّ دَمُهُ وَمَالُهُ , فَلَمَّا كَانَ الْقَوْلُ فِي الْمُرْتَدِّ أَنْ يُدْعَى لَمْ يُغْنَمْ مَالُهُ حَتَّى يُدْعَى , فَإِذَا امْتَنَعَ قُتِلَ , وَغُنِمَ مَالُهُ .
===============
قتل من لم تقم عليه البينة(1)
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ وَجَدْت رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ؟
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَمْ } ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَمَنْ قُتِلَ مِمَّنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ بِمَا يُوجِبُ قَتْلُهُ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ وَلَوْ صَدَقَ النَّاسُ بِهَذَا أَدْخَلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مَنْزِلَهُ فَقَتَلَهُ ثُمَّ قَالَ وَجَدْتُهُ يَزْنِي بِامْرَأَتِي ( قَالَ ) وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { لَا يَحِلُّ دَمُ مُسْلِمٍ إلَّا مِنْ إحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ } وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَلَا يَعْدُو الْكَافِرُ بَعْدَ إيمَانِ الْمُبَدِّلِ دِينَهُ بِالْكُفْرِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ الْكُفْرِ وَالتَّبْدِيلِ تُوجِبُ عَلَيْهِ الْقَتْلَ وَإِنْ تَابَ كَمَا يُوجَبُ عَلَيْهِ الْقَتْلُ مِنْ الزِّنَا وَإِنْ تَابَ أَوْ يَكُونَ مَعْنَاهُمَا مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ أَوْ كَفَرَ بَعْدَ إيمَانٍ فَأَقَامَ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّبْدِيلِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَأَظْهَرَ دِينًا مَعْرُوفًا أَوْ دِينًا غَيْرَ مَعْرُوفٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هُوَ إذًا رَجَعَ عَنْ النَّصْرَانِيَّةِ فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ تَرَكَ الصَّلِيبَ وَالْكَنِيسَةَ فَقَدْ يَقْدِرُ عَلَى الْمُقَامِ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ مُسْتَخْفِيًا وَلَا يَعْلَمُ صِحَّةَ رُجُوعِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَسَوَاءٌ رَجَعَ إلَى دِينٍ يُظْهِرُهُ أَوْ دِينٍ لَا يُظْهِرُهُ وَقَدْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ مُقِيمِينَ عَلَى إظْهَارِ الْإِيمَانِ وَالِاسْتِسْرَارِ بِالْكُفْرِ فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ عَنْهُمْ فَتَوَلَّى حِسَابَهُمْ عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَى الْعِبَادِ أَنْ يَحْكُمُوا إلَّا عَلَى الظَّاهِرِ وَأَقَرَّهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُنَاكَحَةِ وَالْمُوَارَثَةِ وَأَسْهَمَ لَهُمْ سَهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ إذَا حَضَرُوا الْحَرْبَ . .
=============
بَابُ مَا يَحْرُمُ بِهِ الدَّمُ مِنْ الْإِسْلَامِ(2)
__________
(1) - الأم - (ج 6 / ص 202)
(2) -الأم - (ج 6 / ص 219)(2/75)
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم { إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنَّك لَرَسُولُهُ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } إلَى " يَفْقَهُونَ " ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَبَيَّنَ أَنَّ إظْهَارَ الْإِيمَانِ مِمَّنْ لَمْ يَزَلْ مُشْرِكًا حَتَّى أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَمِمَّنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ ثُمَّ أَشْرَكَ بَعْدَ إظْهَارِهِ ثُمَّ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ مَانِعٌ لِدَمِ مَنْ أَظْهَرَهُ فِي أَيِّ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ كَانَ وَإِلَى أَيِّ كُفْرٍ صَارَ كُفْرٌ يُسِرُّهُ أَوْ كُفْرٌ يُظْهِرُهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُنَافِقِينَ دِينٌ يُظْهَرُ كَظُهُورِ الدِّينِ الَّذِي لَهُ أَعْيَادٌ وَإِتْيَانِ كَنَائِسَ إنَّمَا كَانَ كُفْرٌ جُحِدَ وَتَعْطِيلٌ وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ الْقَتْلِ ثُمَّ أَخْبَرَ بِالْوَجْهِ الَّذِي اتَّخَذُوا بِهِ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَقَالَ { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا بَعْدَ الْإِيمَانِ كُفْرًا إذَا سُئِلُوا عَنْهُ أَنْكَرُوهُ وَأَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَأَقَرُّوا بِهِ وَأَظْهَرُوا التَّوْبَةَ مِنْهُ وَهُمْ مُقِيمُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عَلَى الْكُفْرِ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ { يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ } فَأَخْبَرَ بِكُفْرِهِمْ وَجَحْدِهِمْ الْكُفْرَ وَكَذَّبَ سَرَائِرَهُمْ بِجَحْدِهِمْ وَذَكَرَ كُفْرَهُمْ فِي غَيْرِ آيَةٍ وَسَمَّاهُمْ بِالنِّفَاقِ إذْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَكَانُوا عَلَى غَيْرِهِ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ " { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } فَأَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ الْمُنَافِقِينَ بِالْكُفْرِ وَحَكَمَ فِيهِمْ بِعِلْمِهِ مِنْ أَسْرَارِ خَلْقِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ بِأَيْمَانِهِمْ وَحَكَمَ فِيهِمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا بِأَنَّ مَا أَظْهَرُوا مِنْ الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانُوا بِهِ كَاذِبِينَ لَهُمْ جُنَّةٌ مِنْ الْقَتْلِ وَهُمْ الْمُسِرُّونَ الْكُفْرَ الْمُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَبَيَّنَ عَلَى لِسَانِهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَا أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَنَّ إظْهَارَ الْقَوْلِ بِالْإِيمَانِ جُنَّةٌ مِنْ الْقَتْلِ أَقَرَّ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالْإِيمَانِ بَعْدَ الْكُفْرِ أَوْ لَمْ يُقِرَّ إذَا أَظْهَرَ الْإِيمَانَ فَإِظْهَارُهُ مَانِعٌ مِنْ الْقَتْلِ وَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا حَقَنَ اللَّهُ تَعَالَى دِمَاءَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ بَعْدَ الْكُفْرِ أَنَّ لَهُمْ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُوَارَثَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ . فَكَانَ بَيِّنًا فِي حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ حُكْمِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى أَحَدٍ بِخِلَافِ مَا أَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إنَّمَا جَعَلَ لِلْعِبَادِ الْحُكْمَ عَلَى مَا أَظْهَرَ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يَعْلَمُ مَا غَابَ إلَّا مَا عَلِمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَوَجَبَ عَلَى مَنْ عَقَلَ عَنْ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَ الظُّنُونَ كُلَّهَا فِي الْأَحْكَامِ مُعَطَّلَةً فَلَا يَحْكُمُ عَلَى أَحَدٍ بِظَنٍّ . وَهَكَذَا دَلَالَةُ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ كَانَتْ لَا تَخْتَلِفُ . أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ { عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ لَقِيت رَجُلًا مِنْ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي فَضَرَبَ إحْدَى يَدَيْ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ فَقَالَ أَسْلَمْت لِلَّهِ أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَقْتُلْهُ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ قَطَعَ يَدِي ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَقْتُلْهُ فَإِنَّك إنْ قَتَلَتْهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِك قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ وَإِنَّك بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَهَا } ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله : فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ هَذَا بِإِظْهَارِهِ الْإِيمَانَ فِي حَالِ خَوْفِهِ عَلَى دَمِهِ وَلَمْ يُبِحْهُ بِالْأَغْلَبِ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ إلَّا مُتَعَوِّذًا مِنْ الْقَتْلِ بِالْإِسْلَامِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ )(2/76)
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ { أَنَّ رَجُلًا سَارَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ نَدْرِ مَا سَارَّهُ بِهِ حَتَّى جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ قَالَ بَلَى . وَلَا شَهَادَةَ لَهُ . قَالَ : أَلَيْسَ يُصَلِّي ؟ قَالَ بَلَى وَلَا صَلَاةَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْهُمْ } ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْتَأْذِنَ فِي قَتْلِ الْمُنَافِقِ إذَا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ أَنَّ اللَّهَ نَهَاهُ عَنْ قَتْلِهِ وَهَذَا مُوَافِقٌ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنَّ الْإِيمَانَ جُنَّةٌ وَمُوَافِقٌ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحُكْمَ أَهْلِ الدُّنْيَا . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ . أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { لَا أَزَالُ أُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله : وَهَذَا مُوَافِقٌ مَا كَتَبْنَا قَبْلَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا يَحْكُمُ عَلَى مَا ظَهَرَ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَلِيُّ مَا غَابَ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِقَوْلِهِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا ذَكَرْنَا وَفِي غَيْرِهِ فَقَالَ { مَا عَلَيْك مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه لِرَجُلٍ كَانَ يَعْرِفُهُ بِمَا شَاءَ اللَّهُ فِي دِينِهِ " أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ ؟ " قَالَ نَعَمْ قَالَ " إنِّي لِأَحْسِبك مُتَعَوِّذًا " قَالَ أَمَّا فِي الْإِيمَانِ مَا أَعَاذَنِي ؟ فَقَالَ عُمَرُ بَلَى { وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَجُلٍ هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَخَرَجَ أَحَدُهُمْ مَعَهُ حَتَّى أَثْخَنَ الَّذِي قَالَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَآذَتْهُ الْجِرَاحُ فَقَتَلَ نَفْسَهُ } . وَلَمْ يَمْنَعْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ مِنْ نِفَاقِهِ وَعُلِمَ إنْ كَانَ عَلِمَهُ مِنْ اللَّهِ فِيهِ مِنْ أَنْ حَقَنَ دَمَهُ بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ .
================
تَفْرِيعُ الْمُرْتَدِّ (1)
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله : فَأَيُّ رَجُلٍ غُمَّ لَمْ يَزَلْ مُشْرِكًا ثُمَّ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ فِي أَيِّ حَالٍ كَانَ لَا يَمْتَنِعُ فِيهَا بِقَهْرِ مَنْ لَقِيَهُ فَغَلَبَهُ لَهُ أَوْ إيسَارٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ غَيْرِهِ حَقَنَ الْإِيمَانُ دَمَهُ وَأَوْجَبَ لَهُ حُكْمَ الْإِيمَانِ وَلَمْ يُقْتَلْ بِظَنِّ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ إلَّا مُضْطَرًّا خَائِفًا وَفِي مِثْلِ حَالِهِ مِنْ أَنَّهُ يَحْقِنُ دَمَهُ وَيُوجِبُ لَهُ حُكْمَ الْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا مَنْ آمَنَ ثُمَّ كَفَرَ ثُمَّ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ فَسَوَاءٌ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ فَجَحَدَ وَأَقَرَّ بِالْإِيمَانِ أَوْ شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ بَعْدَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ فَأَقَرَّ بِالْكُفْرِ ثُمَّ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ فَمَتَى أَظْهَرَ الْإِيمَانَ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ مِنْ الْقَوْلِ بِالْكُفْرِ شَهِدَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ وَحَقَنَ دَمَهُ بِمَا أَظْهَرَ مِنْ الْإِيمَانِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله : وَسَوَاءٌ كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى يَكُونَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ أَوْ مِرَارًا أَوْ قَلَّ فِي حَقْنِ الدَّمِ وَإِيجَابُ حُكْمِ الْإِيمَانِ لَهُ فِي الظَّاهِرِ إلَّا أَنِّي أَرَى إذَا فَعَلَ هَذَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى أَنْ يُعَزَّرَ وَسَوَاءٌ كَانَ مَوْلُودًا عَلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ ارْتَدَّ بَعْدُ عَنْ الْإِسْلَامِ أَوْ كَانَ مُشْرِكًا فَأَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَسَوَاءٌ ارْتَدَّ إلَى يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ أَوْ جَحْدٍ وَتَعْطِيلٍ وَدِينٍ لَا يُظْهِرُهُ فَمَتَى أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فِي أَيِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ كَانَ وَإِلَى أَيِّ هَذِهِ الْأَدْيَانِ صَارَ حُقِنَ دَمُهُ وَحُكِمَ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ وَمَتَى أَقَامَ عَلَى الْكُفْرِ فِي أَيِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ كَانَ وَإِلَى هَذِهِ الْأَدْيَانِ صَارَ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ حُكِمَ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهَا وَأَقَامَ عَلَى الْكُفْرِ قُتِلَ مَكَانُهُ سَاعَةَ يَأْبَى إظْهَارَ الْإِيمَانِ
__________
(1) - الأم - (ج 6 / ص 221)(2/77)
وَلَوْ تُرِكَ قَتْلُهُ إذَا اُسْتُتِيبَ فَامْتَنَعَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ سِتَّةً أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ حَقَنَ ذَلِكَ دَمَهُ وَحُكِمَ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ . وَلَوْ ارْتَدَّ وَهُوَ سَكْرَانُ ثُمَّ تَابَ وَهُوَ سَكْرَانُ لَمْ يَخْلُ حَتَّى يُفِيقَ فَيَتُوبَ مُفِيقًا , وَكَذَلِكَ لَا يُقْتَلُ لَوْ أَبَى الْإِسْلَامَ سَكْرَانَ حَتَّى يُفِيقَ فَيَمْتَنِعَ مِنْ التَّوْبَةِ مُفِيقًا فَيُقْتَلَ وَإِذَا أَفَاقَ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ التَّوْبَةِ مُفِيقًا قُتِلَ , وَلَوْ ارْتَدَّ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ بِغَيْرِ السُّكْرِ لَمْ يَحْبِسْهُ الْوَالِي وَلَوْ مَاتَ بِتِلْكَ الْحَالِ لَمْ يُمْنَعْ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ مِيرَاثَهُ لِأَنَّ رِدَّتَهُ كَانَتْ فِي حَالٍ لَا يَجْرِي فِيهَا عَلَيْهِ الْقَلَمُ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلسَّكْرَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالسَّكْرَانُ لَوْ ارْتَدَّ سَكْرَانَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ كَانَ مَالُهُ فَيْئًا وَلَوْ تَابَ سَكْرَانَ ثُمَّ مَاتَ وَرِثَهُ وَرَثَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَلَوْ تَابَ سَكْرَانَ لَمْ أَعْجَلْ بِتَخْلِيَتِهِ حَتَّى يُفِيقَ فَيَتُوبَ مُفِيقًا وَأَجْعَلُ تَوْبَتَهُ تَوْبَةً أَحْكُمُ لَهُ بِهَا حُكْمَ الْإِسْلَامِ حَتَّى يُفِيقَ فَإِنْ ثَبَتَ عَلَيْهَا فَهُوَ الَّذِي أَطْلُبُ مِنْهُ وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ إلَى الْكُفْرِ وَلَمْ يَتُبْ قُتِلَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَلَوْ ارْتَدَّ مُفِيقًا ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ بُرْسِمَ أَوْ خَبِلَ بَعْدَ الرِّدَّةِ لَمْ يُقْتَلْ حَتَّى يُفِيقَ فَيُسْتَتَابَ فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ التَّوْبَةِ وَهُوَ يَعْقِلُ قُتِلَ وَلَوْ مَاتَ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ وَلَمْ يَتُبْ كَانَ مَالُهُ فَيْئًا ( قَالَ ) وَسَوَاءٌ فِي الرِّدَّةِ وَالْقَتْلِ عَلَيْهَا الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ وَالْأَمَةُ وَكُلُّ بَالِغٍ مِمَّنْ أَقَرَّ بِالْإِيمَانِ وُلِدَ عَلَى الْإِيمَانِ أَوْ الْكُفْرِ ثُمَّ أَقَرَّ بِالْإِيمَانِ
=============
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَالْإِقْرَارُ بِالْإِيمَانِ وَجْهَانِ : (1)
__________
(1) - الأم - (ج 6 / ص 221)(2/78)
فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ وَمَنْ لَا دِينَ لَهُ يَدَّعِي أَنَّهُ دِينُ نُبُوَّةٍ وَلَا كِتَابَ فَإِذَا شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْإِيمَانِ وَمَتَى رَجَعَ عَنْهُ قُتِلَ . ( قَالَ ) وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ فَهَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ دِينَ مُوسَى وَعِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا وَقَدْ بَدَّلُوا مِنْهُ وَقَدْ أَخَذَ عَلَيْهِمْ فِيهِمَا الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَفَرُوا بِتَرْكِ الْإِيمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعِ دِينِهِ مَعَ مَا كَفَرُوا بِهِ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ قَبْلَهُ فَقَدْ قِيلَ لِي إنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مُقِيمٌ عَلَى دِينِهِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَيَقُولُ لَمْ يُبْعَثْ إلَيْنَا فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أَحَدٌ هَكَذَا فَقَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُسْتَكْمِلَ الْإِقْرَارِ بِالْإِيمَانِ حَتَّى يَقُولَ وَإِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ حَقٌّ أَوْ فَرْضٌ وَأَبْرَأُ مِمَّا خَالَفَ دِينَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَوْ دِينَ الْإِسْلَامِ فَإِذَا قَالَ هَذَا فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِقْرَارَ بِالْإِيمَانِ فَإِذَا رَجَعَ عَنْهُ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ تُعْرَفُ بِأَنْ لَا تُقِرَّ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلَّا عِنْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ تَزْعُمُ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ لَزِمَهُ الْإِسْلَامُ فَشَهِدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَقَدْ اسْتَكْمَلُوا الْإِقْرَارَ بِالْإِيمَانِ فَإِنْ رَجَعُوا عَنْهُ اُسْتُتِيبُوا فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا ( قَالَ ) وَإِنَّمَا يُقْتَلُ مَنْ أَقَرَّ بِالْإِيمَانِ إذَا أَقَرَّ بِالْإِيمَانِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ ( قَالَ ) فَمَنْ أَقَرَّ بِالْإِيمَانِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا ثُمَّ ارْتَدَّ قَبْلَ الْبُلُوغِ أَوْ بَعْدَهُ ثُمَّ لَمْ يَتُبْ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَا يُقْتَلُ لِأَنَّ إيمَانَهُ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ بَالِغٌ وَيُؤْمَرُ بِالْإِيمَانِ وَيُجْهَدُ عَلَيْهِ بِلَا قَتْلٍ إنْ لَمْ يَفْعَلْهُ وَإِنْ أَقَرَّ بِالْإِيمَانِ وَهُوَ بَالِغٌ سَكْرَانُ مِنْ خَمْرٍ ثُمَّ رَجَعَ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَلَوْ كَانَ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ بِسِوَى السُّكْرِ لَمْ يُسْتَتَبْ وَلَمْ يُقْتَلْ إنْ أَبَى التَّوْبَةَ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَتَهُ أَقَرَّا بِالْإِيمَانِ ثُمَّ ارْتَدَّا فَلَمْ يُعْرَفْ مِنْ رِدَّتِهِمَا إقْرَارُهُمَا كَانَ بِالْإِيمَانِ أَوْ عُرِفَ وَتُرِكَا عَلَى الشِّرْكِ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ أَوْ بِلَادِ الشِّرْكِ ثُمَّ وُلِدَ لَهُمَا وَلَدٌ قَبْلَ الْإِقْرَارِ بِالْإِيمَانِ أَوْ بَعْدَ الرِّدَّةِ أَوْ بَعْدَمَا رَجَعَا عَنْ الرِّدَّةِ فَذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءٌ إذَا شَهِدَ عَلَى إقْرَارِهِمَا بِالْإِيمَانِ بَدِيئًا شَاهِدَانِ فَإِنْ نَشَأَ أَوْلَادُهُمَا الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا قَبْلَ إسْلَامِهِمَا عَلَى الشِّرْكِ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهُ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَبَعْدَ الْعَقْلِ أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ وَجُبِرُوا عَلَيْهِ وَلَا يُقْتَلُونَ إنْ امْتَنَعُوا مِنْهُ فَإِذَا بَلَغُوا أُعْلِمُوا أَنَّهُمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا قُتِلُوا لِأَنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُ الْإِيمَانِ فَإِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا قُتِلُوا وَهَكَذَا إذَا لَمْ يُظْهَرْ عَلَيْهِمْ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَسَوَاءٌ أَيُّ أَبَوَيْهِمْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ أَوْ وُلِدَ بَعْدَ إقْرَارِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ بِالْإِسْلَامِ وَالْمُقِرُّ بِالْإِسْلَامِ مِنْهُمَا عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ أَوْ مُرْتَدٌّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ وَهَكَذَا إذَا أَسْلَمَ قَبْلَ بُلُوغِ الْوَلَدِ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ أَوْ هُمَا ( قَالَ ) وَيُقْتَلُ الْمَرِيضُ الْمُرْتَدُّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعَبْدُ وَالْأَمَةُ وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالشَّيْخُ الْفَانِي إذَا كَانُوا يَعْقِلُونَ وَلَمْ يَتُوبُوا وَلَا تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ الْحَامِلُ حَتَّى تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ تُقْتَلَ إنْ لَمْ تَتُبْ فَإِذَا أَبَى الرَّجُلُ أَوْ الْمَرْأَةُ الْمُرْتَدَّانِ الرُّجُوعَ إلَى الْإِيمَانِ قُتِلَ مَكَانَهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَقَالَ فِيمَا يَحِلُّ الدَّمُ { كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ } كَانَتْ الْغَايَةُ الَّتِي دَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنْ يُقْتَلَ فِيهَا الْمُرْتَدُّ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَمْ يَكُنْ إذَا تُؤُنِّيَ بِهِ ثَلَاثًا أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ إلَّا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ هِيَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ قَدْ يَمْتَنِعُ مِنْ التَّوْبَةِ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ وَيَتُوبُ مَكَانَهُ قَبْلَ مَا يُؤْخَذُ وَبَعْدَمَا يُؤْخَذُ وَمَنْ كَانَ إسْلَامُهُ بِإِسْلَامِ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا فَأَبَى الْإِسْلَامَ هَكَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ قُتِلَ وَلَوْ تُؤُنِّيَ بِهِ(2/79)
سَاعَةً وَيَوْمًا كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ يَتَأَنَّى بِهِ مِنْ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ إيمَانِ نَفْسِهِ .
==============
الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ(1)
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ رَجُلًا ارْتَدَّ عَنْ الْإِيمَانِ أَوْ امْرَأَةً سُئِلَا فَإِنْ أَكْذَبَا الشَّاهِدَيْنِ قِيلَ لَهُمَا اشْهَدَا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتَبَرَّآ مِمَّا خَالَفَ الْإِسْلَامَ مِنْ الْأَدْيَانِ فَإِنْ أَقَرَّا بِهَذَا لَمْ يُكْشَفَا عَنْ أَكْثَرَ مِنْهُ وَكَانَ هَذَا تَوْبَةً مِنْهُمَا وَلَوْ أَقَرَّا وَتَابَا قُبِلَ مِنْهُمَا .
===============
مَالُ الْمُرْتَدِّ وَزَوْجَةُ الْمُرْتَدِّ (2)
__________
(1) - الأم - (ج 6 / ص 223)
(2) - الأم - (ج 6 / ص 223)(2/80)
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى وَإِذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَلَهُ زَوْجَةٌ , أَوْ امْرَأَةٌ عَنْ الْإِسْلَامِ وَلَهَا زَوْجٌ فَغَفَلَ عَنْهُ أَوْ حُبِسَ فَلَمْ يُقْتَلْ أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ هَرَبَ عَنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ فَسَوَاءٌ ذَلِكَ كُلُّهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّةُ الزَّوْجَةِ قَبْلَ يَتُوبُ وَيَرْجِعُ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَبْلَ يَتُوبُ فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا وَبَيْنُونَتُهَا مِنْهُ فَسْخٌ بِلَا طَلَاقٍ وَمَتَى ادَّعَتْ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ فِي حَالٍ يُمْكِنُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ صَادِقَةً بِحَالٍ فَهِيَ مُصَدَّقَةٌ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا إنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ قَالَتْ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ قَدْ أَسْقَطْت وَلَدًا قَدْ بَانَ خَلْقُهُ أَوْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ وَرَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ فَجَحَدَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا قَالَ الرَّبِيعُ وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهَا إذَا قَالَتْ أَسْقَطْت سِقْطًا بَانَ خَلْقُهُ أَوْ بَعْضُ خَلْقِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا إلَّا بِأَنْ تَأْتِيَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ يَشْهَدْنَ عَلَى مَا قَالَتْ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعٌ يُمْكِنُ أَنْ تَرَاهُ النِّسَاءُ فَيَشْهَدْنَ عَلَيْهِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَإِنْ قَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي بِأَنْ حِضْت ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي مُدَّةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَحِيضَ فِيهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا وَإِذَا ادَّعَتْ ذَلِكَ بَعْدَ مُدَّةٍ يُمْكِنُ أَنْ تَحِيضَ فِيهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَلَوْ مَاتَتْ وَلَمْ تَدَّعِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ لَا يَرِثُهَا لِأَنَّهَا مَاتَتْ وَهُوَ مُشْرِكٌ وَلَوْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا كَانَا عَلَى النِّكَاحِ وَلَا يُتْرَكُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْإِسْلَامِ يُصِيبُهَا حَتَّى يُسْلِمَ . وَلَوْ مَاتَتْ بَعْدَ رُجُوعِهِ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ تَذْكُرْ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ وَرِثَهَا وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةُ كَانَ الْقَوْلُ فِيمَا تَحِلُّ بِهِ وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ وَتَبِينُ مِنْهُ وَتَثْبُتُ مَعَهُ كَالْقَوْلِ لَوْ كَانَ هُوَ الْمُرْتَدُّ وَهِيَ الْمُؤْمِنَةُ لَا يَخْتَلِفُ فِي شَيْءٍ إلَّا أَنَّهَا إذَا ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِيمَانِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي مَالِهِ فِي عِدَّةٍ وَلَا غَيْرِهَا لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي حَرَّمَتْ فَرْجَهَا عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَدَّتْ إلَى نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ يَهُودِيَّةٍ لَمْ تَحْلُلْ لَهُ لِأَنَّهَا لَا تُتْرَكُ عَلَيْهَا وَإِنْ ارْتَدَّ هُوَ أَنْفَقَ عَلَيْهَا فِي عِدَّتِهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَبِنْ مِنْهُ إلَّا بِمُضِيِّ عِدَّتِهَا وَأَنَّهُ مَتَى أَسْلَمَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ كَانَتْ امْرَأَتَهُ وَإِذَا كَانَ يَلْزَمُهُ فِي الَّتِي يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا بَعْدَ طَلَاقٍ نَفَقَتَهَا لِأَنَّهُ مَتَى شَاءَ رَاجَعَهَا كَانَتْ هَكَذَا فِي مِثْلِ حَالِهَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ أَوْ أَكْثَرَ وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِالْمَرْأَةِ فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ وَالْبَيْنُونَةُ فَسْخٌ بِلَا طَلَاقٍ لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُرْتَدُّ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ لِأَنَّ الْفَسْخَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةُ فَلَا شَيْءَ لَهَا لِأَنَّ الْفَسْخَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا . وَلَوْ ارْتَدَّ وَامْرَأَتُهُ يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ كَانَتْ فِيمَا يَحِلُّ لَهُ مِنْهَا وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُهُ لَهَا كَالْمُسْلِمَةِ وَلَوْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا غَيْرَ أَنَّهَا الْمُرْتَدَّةُ وَهُوَ الْمُسْلِمُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تُسْلِمَ أَوْ تَرْجِعَ إلَى دِينِهَا الَّذِي حَلَّتْ بِهِ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ وَلَمْ تَبِنْ مِنْهُ إلَّا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَلَمْ تُقْتَلْ هِيَ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ كُفْرٍ إلَى كُفْرٍ وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْحُرُّ الْمُسْلِمُ أَوْ الْعَبْدُ وَالْحُرَّةُ الْمُسْلِمَةُ أَوْ الْأَمَةُ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ . وَلَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجُ فَطَلَّقَهَا فِي حَالِ رِدَّتِهِ أَوْ آلَى مِنْهَا أَوْ تَظَاهَرَ أَوْ قَذَفَهَا فِي عِدَّتِهَا أَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةُ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَقَفَ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْهُ فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَيْهَا وَكَانَ بَيْنَهُمَا اللِّعَانُ وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّتُهَا أَوْ تَمُوتَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهَا وَالْتَعَنَ لِيَدْرَأَ الْحَدَّ , وَهَكَذَا إذَا كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةُ وَهُوَ الْمُسْلِمُ إلَّا أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ مُرْتَدَّةً . وَلَوْ طَلَّقَهَا مُسْلِمَةً ثُمَّ ارْتَدَّ أَوْ ارْتَدَّتْ ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي عِدَّتِهَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ(2/81)
إحْدَاثُ تَحْلِيلٍ لَهُ فَإِذَا أَحْدَثَهُ فِي حَالٍ لَا يَحِلُّ لَهُ فِيهِ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهَا وَلَوْ أَسْلَمَتْ أَوْ أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ الرَّجْعَةِ لَمْ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ عَلَيْهَا وَيُحْدِثُ لَهَا بَعْدَهُ رَجْعَةً إنْ شَاءَ فَتَثْبُتُ عَلَيْهَا وَلَوْ اخْتَلَفَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَقَالَ رَجَعْت إلَى الْإِسْلَامِ أَمْسِ وَإِنَّمَا انْقَضَتْ عِدَّتُك الْيَوْمَ وَقَالَتْ رَجَعْت الْيَوْمَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ رَجَعَ أَمْسِ , وَلَوْ تَصَادَقَا أَنَّهُ رَجَعَ أَمْسِ وَقَالَتْ انْقَضَتْ قَبْلَ أَمْسِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا وَلَوْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَتْ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتِي إلَّا بَعْدَ رُجُوعِهِ ثُمَّ قَالَتْ بَعْدَهَا قَدْ كَانَتْ انْقَضَتْ عِدَّتِي كَانَتْ زَوْجَتَهُ وَلَا تُصَدَّقُ بَعْدَ إقْرَارِهَا أَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ وَلَوْ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهَا فِي ذَلِكَ شَيْءٌ قَبْلَ رُجُوعِهِ فَلَمَّا رَجَعَ قُلْت مَكَانَهَا قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا .
============
مَالُ الْمُرْتَدِّ (1)
__________
(1) - الأم - (ج 6 / ص 225)(2/82)
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى إذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ وَكَانَ حَاضِرًا بِالْبَلَدِ وَلَهُ أُمَّهَاتُ أَوْلَادٍ وَمُدَبَّرَاتٌ وَمُدَبَّرُونَ وَمُكَاتَبَاتٌ وَمُكَاتَبُونَ وَمَمَالِيكُ وَحَيَوَانٌ وَمَالٌ سِوَى ذَلِكَ وُقِفَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَنْهُ وَمُنِعَ إصَابَةَ أُمِّ وَلَدِهِ وَجَارِيَةٍ لَهُ غَيْرُهَا , وَالْوَقْفُ أَنْ يُوضَعَ مَالُهُ سِوَى إنَاثِ الرَّقِيقِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ وَرَقِيقُهُ مِنْ النِّسَاءِ عَلَى يَدَيْ عَدْلَةٍ مِنْ النِّسَاءِ وَيُؤْمَرُ مَنْ بَلَغَ مِنْ ذُكُورِ رَقِيقِهِ بِالْكَسْبِ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ كَسْبِهِ وَيُؤْخَذُ فَضْلُ كَسْبِهِ وَتُؤْمَرُ ذَوَاتُ الصَّنْعَةِ مِنْ جَوَارِيهِ وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَغَيْرِهِمْ بِذَلِكَ وَيُؤَاجِرُ مَنْ لَا صَنْعَةَ لَهُ مِنْهُنَّ مِنْ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ وَمَنْ مَرِضَ مِنْ رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ كَسْبًا أُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ حَتَّى يُفِيقَ فَيَقْوَى عَلَى الْكَسْبِ أَوْ يَبْلُغَ الْكَسْبَ ثُمَّ يُؤْمَرَ بِالْكَسْبِ كَمَا وَصَفْنَا وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ هَارِبًا إلَى دَارِ الْحَرْبِ أَوْ غَيْرِ دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مُتَغَيِّبًا لَا يَدْرِي أَيْنَ هُوَ ؟ فَسَوَاءٌ ذَلِكَ كُلُّهُ وَيُوقَفُ مَالُهُ وَيُبَاعُ عَلَيْهِ الْحَيَوَانُ كُلُّهُ إلَّا مَا لَا يُوجَدُ السَّبِيلُ إلَى بَيْعِهِ مِنْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ أَوْ مُكَاتَبِيهِ أَوْ مُرْضِعٍ لِوَلَدِهِ أَوْ خَادِمٍ يَخْدُمُ زَوْجَةً لَهُ وَيُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَصِغَارِ وَلَدِهِ وَزَمْنَاهُمْ وَمَنْ كَانَ هُوَ مَجْبُورًا عَلَى نَفَقَتِهِمْ مِنْ خِدْمَةٍ وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ مِنْ مَالِهِ وَيُؤْخَذُ كِتَابَةُ مُكَاتَبِيهِ وَيَعْتِقُونَ إذَا أَدَّوْا وَلَهُ وَلَاؤُهُمْ وَمَتَى رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ رَدَّ مَالَهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرُدَّ مَا بِيعَ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّهُ بَيْعٌ وَالْبَيْعُ نَظَرٌ لِمَنْ يَصِيرُ إلَيْهِ الْمَالُ وَفِي حَالٍ لَا سَبِيلَ لَهُ فِيهَا عَلَى الْمَالِ وَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّةُ امْرَأَتِهِ قُطِعَتْ عَنْهَا النَّفَقَةُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ إذَا رَجَعَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَلَوْ بُرْسِمَ أَوْ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ بَعْدَ الرِّدَّةِ تُرُبِّصَ بِهِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَإِنْ أَفَاقَ وَإِلَّا بِيعَ عَلَيْهِ كَمَا يُبَاعُ عَلَى الْغَائِبِ الْهَارِبِ وَمَا كُسِبَ فِي رِدَّتِهِ فَهُوَ كَمَا مُلِكَ قَبْلَ الرِّدَّةِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ فَإِذَا رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ دُفِعَ إلَيْهِ مَالُهُ كُلُّهُ وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْإِسْلَامِ خُمِّسَ مَالُهُ فَكَانَ الْخُمُسُ لِأَهْلِ الْخُمُسِ وَالْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَكَذَا نَصْرَانِيٌّ مَاتَ لَا وَارِثَ لَهُ يُخَمَّسُ مَالُهُ فَيَكُونُ الْخُمُسُ لِأَهْلِهِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَوْ قَالَ وَرَثَةُ الْمُرْتَدِّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ كُلِّفُوا الْبَيِّنَةَ فَإِذَا جَاءُوا بِهَا دُفِعَ إلَيْهِمْ مَالُهُ عَلَى مَوَارِيثِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَأْتُوا بِهَا فَهُوَ عَلَى الرِّدَّةِ حَتَّى تُعْلَمَ تَوْبَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ مِمَّنْ يَرِثُهُ لَمْ تُقْبَلْ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ فَقَالَ مَتَى مِتُّ فَلِفُلَانٍ وَفُلَانٍ كَذَا , ثُمَّ مَاتَ فَشَهِدَ الْمُوصَى لَهُمَا بِأَنَّهُ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يُقْبَلَا لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا جَوَازَ الْوَصِيَّةِ الَّتِي قَدْ أُبْطِلَتْ بِرِدَّتِهِ . وَلَوْ كَانَ تَابَ ثُمَّ مَاتَ فَقِيلَ ارْتَدَّ ثُمَّ مَاتَ مُرْتَدًّا فَهُوَ عَلَى التَّوْبَةِ حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ ارْتَدَّ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِأَنَّ مَنْ عُرِفَ بِشَيْءٍ فَهُوَ عَلَيْهِ حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِهِ . وَلَوْ قَسَمَ الْحَاكِمُ مَالَهُ فِي الْحَالَيْنِ حِينَ مَاتَ وَقَدْ عُرِفَتْ رِدَّتُهُ فَقَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى تَوْبَتِهِ رَجَعَ بِهَا الْحَاكِمُ عَلَى مَنْ دَفَعَهَا إلَيْهِ حَيْثُ كَانُوا حَتَّى يَرُدَّهَا إلَى وَرَثَتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَسَمَهَا فِي مَوْتِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى رِدَّتِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَمَوْتِهِ مُرْتَدًّا رَجَعَ الْحَاكِمُ عَلَى وَرَثَتِهِ حَيْثُ كَانُوا وَأَهْلِ وَصَايَاهُ وَأَخَذَ مِنْهُمْ مَا أَعْطَاهُمْ مِنْ مَالِهِ حَتَّى يَصِيرَ لِأَهْلِ الْخُمُسِ وَالْمُسْلِمِينَ .
==============
الْمُكْرَهُ عَلَى الرِّدَّةِ(1)
__________
(1) - الأم - (ج 6 / ص 226)(2/83)
قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَأَكْرَهَهُ عَلَى الْكُفْرِ لَمْ تَبِنْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ حُكْمِ الْمُرْتَدِّ , قَدْ أُكْرِهَ بَعْضُ مَنْ أَسْلَمَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْكُفْرِ فَقَالَهُ ثُمَّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ مَا عُذِّبَ بِهِ فَنَزَلَ فِيهِ هَذَا وَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِاجْتِنَابِ زَوْجَتِهِ وَلَا بِشَيْءٍ مِمَّا عَلَى الْمُرْتَدِّ وَلَوْ مَاتَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْكُفْرِ وَلَمْ تَظْهَرْ لَهُ تَوْبَةٌ بِبِلَادِ الْحَرْبِ وَرِثَهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ , وَلَوْ انْفَلَتَ فَرَجَعَ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ قِيلَ لَهُ أَظْهِرْ الْإِسْلَامَ فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا كَانَ مُرْتَدًّا بِامْتِنَاعِهِ مِنْ إظْهَارِ الْإِسْلَامِ يُحْكَمُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ عَلَى الْمُرْتَدِّ وَإِذَا أُسِرَ الرَّجُلُ أَوْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا بِبِلَادِ الْعَدُوِّ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَلَمْ يَشْهَدَا عَلَى نَفْسِ الرِّدَّةِ وَلَا عَلَى كَلَامٍ كُفْرٍ بَيِّنٍ ثُمَّ مَاتَ وَرِثَ مَالَهُ وَرَثَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ فَيَكُونُ مَالُهُ فَيْئًا فَإِنْ أَقَرَّ بَعْضُهُمْ بِرِدَّتِهِ وَلَمْ يُقِرَّ بِهَا بَعْضُهُمْ وَرِثَ الَّذِينَ لَمْ يُقِرُّوا نَصِيبَهُمْ مِنْ مِيرَاثِهِ وَيُوقَفُ نَصِيبُ الَّذِينَ أَقَرُّوا بِرِدَّتِهِ حَتَّى تُسْتَبَانَ رِدَّتُهُ وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يَغْنَمُ لِأَنَّهُمْ يُصَدَّقُونَ عَلَى مَا يَمْلِكُونَ وَلَا يُوقَفُ , وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا سَمِعَاهُ يَرْتَدُّ وَقَالَا ارْتَدَّ مُكْرَهًا أَوْ ارْتَدَّ مَحْدُودًا أَوْ ارْتَدَّ مَحْبُوسًا لَمْ يُغْنَمْ مَالُهُ وَوَرِثَهُ وَرَثَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ قَالَا كَانَ مَحَلِّيًّا آمِنًا حِينَ ارْتَدَّ كَانَتْ تِلْكَ رِدَّةٌ وَغُنِمَ مَالُهُ وَلَوْ ادَّعَى وَرَثَتُهُ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَلَوْ أَقَامُوا بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْهُ فِي مُدَّةٍ بَعْدَ الشَّهَادَةِ بِالرِّدَّةِ يُصَلِّي صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ قَبِلْت ذَلِكَ مِنْهُمْ وَوَرَّثْتهمْ مَالَهُ وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَالْمُرْتَدُّ لَيْسَ فِي حَالِ ضَرُورَةٍ لَمْ أَقْبَلْ هَذَا مِنْهُمْ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ الرِّدَّةِ وَلَمْ أَقْبَلْ مِنْ وَرَثَتِهِ أَنَّهُ ارْتَدَّ مَسْجُونًا وَلَا مَحْدُودًا إذَا لَمْ تَقْطَعْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ سُجِنَ وَحُدَّ لِيَرْتَدَّ .
==============
مَا أَحْدَثَ الْمُرْتَدُّ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فِي مَالِهِ(1)
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى وَإِذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُوقَفُ مَالُهُ فَمَا صَنَعَ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا يَجُوزُ لَهُ فِي مَالِهِ مَا صَنَعَ قَبْلَ الرِّدَّةِ فَإِذَا وُقِفَ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى إتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِعِوَضٍ وَلَا غَيْرِهِ مَا كَانَ مَوْقُوفًا فَإِنْ أَعْتَقَ أَوْ كَاتَبَ أَوْ دَبَّرَ أَوْ اشْتَرَى أَوْ بَاعَ فَذَلِكَ كُلُّهُ مَوْقُوفٌ لَا يَنْفُذُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ لَزِمَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ إلَّا الْبَيْعَ فَإِذَا فُسِخَ بَيْعُهُ فَقَدْ انْفَسَخَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحَوَّلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ فِي الْحَالِ الَّذِي أَحْدَثَ ذَلِكَ فِيهِ حَوْلَ الْحَجْرِ إنَّمَا كَانَ مَوْقُوفًا عَنْهُ لِيُقْتَلَ فَيَعْلَمَ أَنَّ مِلْكَهُ كَانَ زَائِلًا عَنْهُ بِالرِّدَّةِ إنْ لَمْ يَتُبْ حَتَّى يَمُوتَ فَيَصِيرَ فَيْئًا أَوْ يُسْلِمَ فَيَكُونَ عَلَى مَا كَانَ فِي مِلْكِهِ أَوَّلًا فَلَمَّا أَسْلَمَ عَلِمْنَا أَنَّ فِعْلَهُ فِيمَا يَمْلِكُ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَلَوْ كَانَ فِي رِدَّتِهِ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ يَدَّعِي أَنَّهُ مِلْكٌ لَهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِذَلِكَ الشَّيْءَ بِعَيْنِهِ لِغَيْرِهِ كَانَ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ مِنْهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الدَّيْنِ لِأَجْنَبِيٍّ وَكَذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ مَا لَزِمَ الرَّجُلَ غَيْرَ الْمُرْتَدِّ فِي مَالِهِ وَلَوْ قَالَ فِي عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ هَذَا عَبْدٌ اشْتَرَيْته أَوْ وُهِبَ لِي وَهُوَ حُرٌّ كَانَ حُرًّا وَلَمْ يُنْتَظَرْ إسْلَامُهُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ إنَّمَا أَرُدُّ مَا أَحْدَثَ إتْلَافَهُ بِلَا سَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ يُقَرِّبُهُ احْتِيَاطًا عَلَيْهِ لَا حَجْرًا عَنْهُ ( وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ ) أَنَّهُ إذَا حُجِرَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالْمَحْجُورِ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْإِسْلَامِ فَيُفَكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ .
===============
جِنَايَةُ الْمُرْتَدِّ (2)
__________
(1) - الأم - (ج 6 / ص 227)
(2) - الأم - (ج 6 / ص 227)(2/84)
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى وَإِذَا جَنَى الْمُرْتَدُّ فِي حَالِ رِدَّتِهِ عَلَى آدَمِيٍّ جِنَايَةً عَمْدًا فِي مِثْلِهَا قِصَاصٌ فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ أَوْ يَأْخُذَ قَدْرَ الْجِنَايَةِ مِنْ مَالِهِ الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ وَمَا اكْتَسَبَ بَعْدَهَا وَذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ عَمْدًا لَا قِصَاصَ فِيهَا وَكَذَلِكَ مَا أَحْرَقَ وَأَفْسَدَ لِآدَمِيٍّ كَانَ فِي مَالِهِ لَا تُسْقِطُهُ عَنْهُ الرِّدَّةُ ( قَالَ ) وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَهِيَ فِي مَالِهِ كَمَا تَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إلَى أَجَلِهَا فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حَالَّةٌ وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَنْهُ شَيْئًا جَنَاهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ نَفْسًا فَهِيَ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ فَهِيَ حَالَّةٌ . وَلَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ وَهُوَ مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَهِيَ كَجِنَايَتِهِ وَهُوَ مُرْتَدٌّ وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَهِيَ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَزِمَتْهُمْ إذْ جَنَى وَهُوَ مُسْلِمٌ . وَلَوْ ارْتَدَّ وَقَتَلَ فَأَرَادَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ الْقَتْلَ كَانَ ذَلِكَ لَهُ وَإِذَا قَتَلَهُ وَهُوَ عَلَى الرِّدَّةِ فَمَالُهُ لِمَنْ وَصَفْته مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ أَوْ جَرَحَ أَقْصَصْنَا مِنْهُ ثُمَّ قَتَلْنَاهُ عَلَى الرِّدَّةِ فَإِنْ عَجَّلَ الْإِمَامُ فَقَتَلَهُ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ مَاتَ عَلَيْهَا قَبْلَ الْقِصَاصِ فَلِوَلِيِّ الدَّمِ وَالْجَرْحِ عَمْدًا عَقْلُ النَّفْسِ وَالْجِرَاحُ فِي مَالِ الْجَانِي الْمُرْتَدِّ , وَلَوْ كَانَ الْجَانِي الْمُرْتَدُّ عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَجَنَى عَلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ الْقَوَدُ كَانَ لِوَلِيِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فِي الْقَوَدِ أَوْ أَخْذِ الْعَقْلِ فَإِنْ أَرَادَ الْقَوَدَ فَهُوَ لَهُ وَإِنْ أَرَادَ الْعَقْلَ فَهُوَ لَهُ فِي رَقَبَةِ الْجَانِي إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ سَيِّدُهُ فَإِنْ فَدَاهُ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَفْدِهِ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ إلَّا أَنْ يَتُوبَ فَيُبَاعَ وَيُعْطَى وَلِيُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ قِيمَةُ جِنَايَتِهِ وَيُرَدُّ الْفَضْلُ إنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَنْ الْجِنَايَةِ عَلَى سَيِّدِهِ وَلَوْ جَنَى وَهُوَ مُرْتَدٌّ عَبْدٌ ثُمَّ عَتِهَ فَاخْتَارَ وَلِيُّ الدَّمِ الْعَقْلَ وَلَمْ يَتَطَوَّعْ مَوْلَاهُ بِأَنْ يَفْدِيَهُ بِيعَ مُرْتَدًّا مَعْتُوهًا فَأُعْطِيَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ قِيمَةَ جِنَايَتِهِ وَرُدَّ فَضْلٌ إنْ كَانَ فِي ثَمَنِهِ عَلَى سَيِّدِهِ فَإِذَا أَفَاقَ وَلَمْ يَتُبْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ وَلَا يُبَاعُ إلَّا بِالْبَرَاءِ مِنْ الرِّدَّةِ وَالْعَتَهِ وَمَا أَحْدَثَ الْعَبْدُ مِنْ الْجِنَايَةِ فِي الرِّدَّةِ مُخَالَفَةً مَا أَحْدَثَ مِنْ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ صَبِيٍّ وَلَا مَحْجُورٍ عَلَيْهِ وَلَا عَبْدٍ لِأَنَّهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَالدَّيْنُ يَسْقُطُ عَنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَعَنْ الْعَبِيدِ مَا كَانُوا فِي الرِّقِّ لِأَنَّهُ بِإِذْنِ رَبِّ الدَّيْنِ
=============
الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ (1)
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى وَإِذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَجَنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ جِنَايَةً فَإِنْ كَانَتْ قَتْلًا فَلَا عَقْلَ وَلَا قَوَدَ وَيُعَزَّرُ لِأَنَّ الْحَاكِمَ الْوَالِيَ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ قَتْلُهُ حَتَّى يُسْتَتَابَ وَإِنْ كَانَتْ دُونَ النَّفْسِ فَكَذَلِكَ . وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ مُرْتَدًّا ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْجِنَايَةِ فَالْجِنَايَةُ هَدَرٌ لِأَنَّهَا كَانَتْ غَيْرَ مَمْنُوعَةٍ بِأَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِعَقْلٍ أَوْ قَوَدٍ وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ مُرْتَدًّا فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ تَابَ ثُمَّ قَطَعَ رِجْلَهُ كَانَ لَهُ الْقَوَدُ فِي الرَّجُلِ إنْ شَاءَ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَيْهِ مُسْلِمًا وَلَوْ مَاتَ كَانَتْ لَهُمْ نِصْفُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِنَايَتَيْنِ جِنَايَةٌ مَمْنُوعَةٌ وَجِنَايَةٌ غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ .
==============
الدَّيْنُ عَلَى الْمُرْتَدِّ (2)
__________
(1) - الأم - (ج 6 / ص 228)
(2) - الأم - (ج 6 / ص 228)(2/85)
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمُرْتَدِّ دَيْنٌ بِبَيِّنَةٍ قَبْلَ الرِّدَّةِ ثُمَّ ارْتَدَّ قُضِيَ عَنْهُ دَيْنُهُ إنْ كَانَ حَالًّا وَإِنْ كَانَ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ إلَى أَجَلِهِ إلَّا أَنْ يَمُوتَ فَيَحِلَّ بِمَوْتِهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَقَرَّ بِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ لِأَحَدٍ ( قَالَ ) وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ الدَّيْنُ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ وَلَا بِإِقْرَارٍ مِنْهُ مُتَقَدِّمٌ لِلرِّدَّةِ وَلَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِإِقْرَارٍ مِنْهُ فِي الرِّدَّةِ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ عَلَيْهِ وَمَا دَانَ فِي الرِّدَّةِ قَبْلَ وَقْفِ مَالِهِ لَزِمَهُ وَمَا دَانَ بَعْدَ وَقْفِ مَالِهِ فَإِنْ كَانَ مِنْ بَيْعٍ رُدَّ الْبَيْعُ وَإِنْ كَانَ مِنْ سَلَفٍ وُقِفَ فَإِنْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ بَطَلَ وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ لَزِمَهُ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِرُجُوعِهِ إلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ مَالَهُ لَمْ يَكُنْ خَرَجَ مِنْ يَدِهِ ( قَالَ الرَّبِيعُ ) وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ إذَا ضَرَبَهُ مُرْتَدًّا ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ أَنَّهُ يَدْرَأُ عَنْهُ الْقَوَدَ بِالشُّبْهَةِ وَيَغْرَمُ الدِّيَةَ وَلَهُ أَيْضًا قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحَقَّ قَتْلُهُ كَمَا أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَيْ رَجُلٍ فَقَطَعْنَا يَدَهُ قِصَاصًا ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْقِصَاصِ لَمْ يَكُنْ عَلَى آخِذِ الْقِصَاصِ شَيْءٌ وَالْحَقُّ قَتْلُهُ وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ إذَا جَرَحَهُ مُرْتَدٌّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ جَرَحَهُ لِأَنَّ الْجُرْحَ مِنْهُ كَانَ مُبَاحًا فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ فَالْحَقُّ قَتْلُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ جَرَحَ .
=============
الدَّيْنُ لِلْمُرْتَدِّ (1)
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى وَإِذَا كَانَ لِلْمُرْتَدِّ دَيْنٌ حَالٌّ أُخِذَ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ وَيُوقَفُ فِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ إلَى أَجَلِهِ فَإِذَا حَلَّ وُقِفَ إلَّا أَنْ يَمُوتَ الْمُرْتَدُّ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ يُقْتَلَ عَلَى رِدَّتِهِ فَيَكُونَ الدَّيْنُ إلَى أَجَلِهِ فَإِذَا قُبِضَ كَانَ فَيْئًا
( قَالَ الرَّبِيعُ ) فِي رَجُلٍ جُرِحَ مُرْتَدًّا ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ لِأَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ جَرَحَهُ وَإِنْ أَسْلَمَ فَمَاتَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الضَّرْبَةَ كَانَتْ وَهُوَ مُرْتَدٌّ فِيهَا فَالْحَقُّ الَّذِي قَتَلَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ جَرَحَهُ .
============
ذَبِيحَةُ الْمُرْتَدّ (2)
ِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى : لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ الْمُرْتَدِّ إلَى أَيِّ دِينٍ مَا ارْتَدَّ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَخَّصَ فِي ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يُقِرُّونَ عَلَى أَدْيَانِهِمْ ( قَالَ ) فَلَوْ عَدَا عَلَى شَاةٍ رَجُلٌ فَذَبَحَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ ضَمِنَ قِيمَتَهَا حَيَّةً , وَهَكَذَا كُلُّ مَا اُسْتُهْلِكَ , وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَذْبَحَهَا لَهُ وَهُوَ يَعْلَمُهُ مُرْتَدًّا أَوْ لَا يَعْلَمُهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ وَلَا يَأْكُلُهَا صَاحِبُ الشَّاةِ ( قَالَ ) وَلَوْ ذَبَحَ لِنَفْسِهِ أَوْ اسْتَهْلَكَ مَتَاعًا لِنَفْسِهِ أَوْ قَتَلَ عَبْدًا لِنَفْسِهِ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ إنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ فَكُلُّ مَالٍ وَجَدْنَاهُ لَهُ فَهُوَ فَيْءٌ , وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ عَلِمْنَا بِرُجُوعِهِ أَنَّهُ إنَّمَا جَنَى عَلَى مَالِهِ وَلَا يَضْمَنُ لِنَفْسِهِ مَالَ نَفْسِهِ .
نِكَاحُ الْمُرْتَدِّ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى : وَلَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَدِّ أَنْ يَنْكِحَ قَبْلَ الْحَجْرِ وَلَا بَعْدَهُ مُسْلِمَةً لِأَنَّهُ مُشْرِكٌ وَلَا وَثَنِيَّةً لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ إلَّا مَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا كِتَابِيَّةً لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى دِينِهِ فَإِنْ نَكَحَ فَأَصَابَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ وَلَا يَكُونُ لِلْمُرْتَدِّ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ وَلَا أَمَتَهُ وَلَا امْرَأَةً هُوَ وَلِيُّهَا مُسْلِمَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَلَا مُسْلِمًا وَلَا مُشْرِكًا وَإِذَا أَنْكَحَ فَإِنْكَاحُهُ بَاطِلٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
==============
الْخِلَافُ فِي الْمُرْتَدِّ (3)
__________
(1) - الأم - (ج 6 / ص 228)
(2) - الأم - (ج 6 / ص 228)
(3) - الأم - (ج 6 / ص 229)(2/86)
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى : فَخَالَفَنَا بَعْضُ أَهْلِ نَاحِيَتِنَا فِي الْمُرْتَدِّ بِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَائِلًا مِنْهُمْ قَالَ مَنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَارْتَدَّ قَتَلْته إلَى أَيِّ دِينٍ ارْتَدَّ وَقَتَلْته وَإِنْ تَابَ . وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ : مَنْ رَجَعَ إلَى دِينٍ يُظْهِرُهُ كَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة اسْتَتَبْته فَإِنْ تَابَ قَبِلْت مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قَتَلْته , وَإِنْ رَجَعَ إلَى دِينٍ يَسْتَخْفِي بِهِ كَالزَّنْدَقَةِ وَمَا يَسْتَخْفِي بِهِ قَتَلْته وَإِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ لَمْ أَقْبَلْهَا وَأَحْسِبُهُ سَوَّى بَيْنَ مَنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَنْ لَمْ يُولَدْ عَلَيْهِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَوَافَقَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ الْمَدَنِيِّينَ وَالْمَكِّيِّينَ وَالْمَشْرِقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنْ لَا يُقْتَلَ مَنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَفِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ مَنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَنْ لَمْ يُولَدْ عَلَيْهِ وَدَانَ دِينًا يُظْهِرُهُ أَوْ دِينًا يَسْتَخْفِي بِهِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ كُفْرٌ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَالْحُجَّةُ عَلَى مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَنْ لَمْ يُولَدْ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ حُدُودَهُ فَلَمْ نَعْلَمْ كِتَابًا نَزَلَ وَلَا سُنَّةً مَضَتْ وَلَا أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَالَفَ فِي الْحُدُودِ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وُلِدَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَحْدَثَ إسْلَامًا أَوْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْقَتْلُ عَلَى الرِّدَّةِ حَدٌّ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَطِّلَهُ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ إلَّا مَنْ فُرِضَتْ طَاعَتُهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْحُدُودِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . تَكَلُّفُ الْحُجَّةِ عَلَى قَائِلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَعَلَى مَنْ قَالَ أَقْبَلُ إظْهَارَ التَّوْبَةِ إذَا كَانَ رَجَعَ إلَى دِينٍ يُظْهِرُهُ وَلَا أَقْبَلُ ذَلِكَ إذَا رَجَعَ إلَى دِينٍ لَا يُظْهِرُهُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى : وَلَوْلَا غَفْلَةٌ فِي بَعْضِ السَّامِعِينَ الَّذِينَ لَعَلَّ مَنْ نَوَى الْأَجْرَ فِي تَبْيِينِهِمْ أَنْ يُؤْجَرَ مَا تَكَلَّفْت لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكْتَفِي فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِأَنْ يُحْكَيَا فَيُعْلَمَ أَنْ لَيْسَ فِيهِمَا مَذْهَبٌ يَجُوزُ أَنْ يُغَلِّطَ بِهِ عَالِمٌ بِحَالٍ وَأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ سُنَّةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ الْمَعْقُولَ وَالْقِيَاسَ يَدُلُّ عَلَى غَيْرِ مَا قَالَ مَنْ قَالَ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَمَنْ أَوْجَزَ مَا بَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى غَيْرِ مَا قِيلَ أَنْ يُقَالَ قَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ } فَهَلْ يُعَدُّ وَهَذَا الْقَوْلُ أَبَدًا وَاحِدًا مِنْ مَعْنَيَيْنِ ؟ أَنْ يَكُونَ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ وَأَقَامَ عَلَى تَبْدِيلِهِ ضَرَبْت عُنُقَهُ كَمَا تُضْرَبُ عِنَاقُ أَهْلِ الْحَرْبِ . أَوْ تَكُونَ كَلِمَةُ التَّبْدِيلِ تُوجِبُ الْقَتْلَ وَإِنْ تَابَ كَمَا يُوجِبُهُ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ وَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ النَّفْسِ فَلَيْسَ قَوْلُك وَاحِدًا مِنْهُمَا وَأَنْ يُقَالَ لَهُ لِمَ قَبِلْت إظْهَارَ التَّوْبَةِ مِنْ الَّذِي رَجَعَ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ وَدِينٍ أَظْهَرَهُ ؟ أَلِأَنَّك عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَنَّهُ إذَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ فَقَدْ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ أَوْ قَدْ يَكُونُ يُظْهِرُهَا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْكُفْرِ وَدِينُ النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ مُنْتَقِلٌ عَنْهُ إلَى دِينٍ يُخْفِيه ؟ وَلَمْ أُبَيِّتْ قَبُولَ مَنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَقَدْ كَانَ مُسْتَخْفِيًا بِالشِّرْكِ ؟ أَعَلَى عِلْمٍ أَنْتَ مِنْ أَنَّ هَذَا لَا يَتُوبُ تَوْبَةً صَحِيحَةً أَمْ قَدْ يَتُوبُ تَوْبَةً صَحِيحَةً ؟ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ عِلْمَ هَذَا لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ عِلْمِ هَذَا أَحَدٌ مِنْ الْآدَمِيِّينَ غَيْرَ الْمُؤْمِنِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا تَوَلَّى اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ عِلْمَ الْغَيْبِ , أَوْ رَأَيْت لَوْ قَالَ رَجُلٌ مَنْ اُسْتُسِرَّ بِالْكُفْرِ قَبِلْت تَوْبَتَهُ لِضَعْفِهِ فِي اسْتِسْرَارِهِ وَمَنْ أَعْلَنَهُ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ لِمَا انْكَشَفَ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَإِنَّ الْمُنْكَشِفَ بِالْمَعْصِيَةِ أَوْلَى أَنْ تَنْفِرَ الْقُلُوبُ مِنْهُ وَيَكَادُ أَنْ يُؤْيَسَ مِنْ صِحَّةِ تَوْبَتِهِ لِأَنَّا رَأَيْنَا مَنْ انْكَشَفَ بِالْمَعَاصِي سِوَى الشِّرْكِ كَانَ أَحْرَى أَنْ لَا يَتُوبَ مَا الْحُجَّةُ عَلَيْهِ ؟ هَلْ هِيَ إلَّا أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا قَبُولُ ظَاهِرِ الْآدَمِيِّينَ وَأَنَّهُ تَوَلَّى سَرَائِرَهُمْ وَلَمْ يَجْعَلْ لِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يَحْكُمَ إلَّا عَلَى الظَّاهِرِ وَتَوَلَّى دُونَهُمْ السَّرَائِرَ لِانْفِرَادِهِ بِعِلْمِهَا وَهَكَذَا الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ . وَأَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْأَعْرَابِ فَقَالَ { قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا(2/87)
أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } فَأَعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَنَّهُمْ أَظْهَرُوهُ وَحَقَنَ بِهِ دِمَاءَهُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ " أَسْلَمْنَا " , قَالَ أَسْلَمْنَا مَخَافَةَ الْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَأَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ فِي عَدَدِ آيٍ مِنْ كِتَابِهِ بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ وَالِاسْتِسْرَارِ بِالشِّرْكِ وَأَخْبَرَنَا بِأَنْ قَدْ جَزَاهُمْ بِعِلْمِهِ عَنْهُمْ بِالدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ فَقَالَ { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } فَأَعْلَمَ أَنَّ حُكْمَهُمْ فِي الْآخِرَةِ النَّارُ بِعِلْمِهِ أَسْرَارَهُمْ وَأَنَّ حُكْمَهُ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا إنْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ جُنَّةٌ لَهُمْ , وَأَخْبَرَ عَنْ طَائِفَةٍ غَيْرِهِمْ فَقَالَ { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا } وَهَذِهِ حِكَايَةٌ عَنْهُمْ وَعَنْ الطَّائِفَةِ مَعَهُمْ مَعَ مَا حَكَى مِنْ كُفْرِ الْمُنَافِقِينَ مُنْفَرِدًا وَحَكَى مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَ مَنْ حَكَى مِنْ الْأَعْرَابِ وَكُلَّ مَنْ حَقَنَ دَمَهُ فِي الدُّنْيَا بِمَا أَظْهَرَ مِمَّا يَعْلَمُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خِلَافَهُ مِنْ شِرْكِهِمْ لِأَنَّهُ أَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يُوَلِّ الْحُكْمَ عَلَى السَّرَائِرِ غَيْرَهُ وَأَنْ قَدْ وَلَّى نَبِيَّهُ الْحُكْمَ عَلَى الظَّاهِرِ وَعَاشَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقْتُلْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَمْ يَحْبِسْهُ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَلَمْ يَمْنَعْهُ سَهْمَهُ فِي الْإِسْلَامِ إذَا حَضَرَ الْقِتَالَ وَلَا مُنَاكَحَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَمُوَارَثَتَهُمْ وَالصَّلَاةَ عَلَى مَوْتَاهُمْ وَجَمِيعَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْأَعْرَابُ لَا يَدِينُونَ دِينًا يُظْهَرُ بَلْ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيَسْتَخْفُونَ بِالشِّرْكِ وَالتَّعْطِيلِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ } فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَلَعَلَّ مَنْ سَمَّيْت لَمْ يُظْهِرْ شِرْكًا سَمِعَهُ مِنْهُ آدَمِيٌّ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ أَسْرَارَهُمْ فَقَدْ سُمِعَ مِنْ عَدَدٍ مِنْهُمْ الشِّرْكُ وَشَهِدَ بِهِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمِنْهُمْ مَنْ جَحَدَهُ وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا أَظْهَرَ وَلَمْ يَقِفْهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ أَقَرَّ وَمِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ بِمَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ وَقَالَ تُبْت إلَى اللَّهِ وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا أَظْهَرَ . وَمِنْهُمْ مَنْ عَرَّفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ ( أَخْبَرَنَا ) سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَقَالَ شَهِدْت مِنْ نِفَاقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ { وَهُمْ كَافِرُونَ } قِيلَ فَهَذَا يُبَيِّنُ مَا قُلْنَا وَخِلَافَ مَا قَالَ مَنْ خَالَفَنَا , فَأَمَّا أَمْرُهُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ صَلَاتَهُ بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مُخَالِفَةٌ صَلَاةَ غَيْرِهِ وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَضَى إذْ أَمَرَهُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ عَلَى أَحَدٍ إلَّا غُفِرَ لَهُ وَقَضَى أَنْ لَا يَغْفِرَ لِلْمُقِيمِ عَلَى شَرٍّ فَنَهَاهُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ لَا يُغْفَرُ لَهُ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مَا دَلَّ عَلَى هَذَا ؟ قِيلَ لَمْ يَمْنَعْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ مُسْلِمًا وَلَمْ يَقْتُلْ مِنْهُمْ بَعْدَ هَذَا أَحَدًا وَتَرْكُ الصَّلَاةِ مُبَاحٌ عَلَى مَنْ قَامَتْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا كَانَ جَائِزًا أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا قَامَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ مَعْنًى يُغَيِّرُ ظَاهِرَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي الدُّنْيَا . وَقَدْ عَاشَرَهُمْ حُذَيْفَةُ فَعَرَفَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ ثُمَّ عَاشَرَهُمْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما وَهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه إذَا وُضِعَتْ جِنَازَةٌ فَرَأَى حُذَيْفَةَ فَإِنْ أَشَارَ إلَيْهِ أَنْ اجْلِسْ جَلَسَ وَإِنْ قَامَ مَعَهُ صَلَّى عَلَيْهَا عُمَرُ وَلَا يَمْنَعُ هُوَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ قَبْلَهُ وَلَا عُثْمَانُ بَعْدَهُ الْمُسْلِمِينَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ وَلَا شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُهَا مَنْ تَرَكَهَا بِمَعْنَى مَا وَصَفْت مِنْ أَنَّهَا إذَا أُبِيحَ تَرْكُهَا مِنْ مُسْلِمٍ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْإِسْلَامِ كَانَ أَجْوَزَ تَرْكُهَا مِنْ(2/88)
الْمُنَافِقِينَ . فَإِنْ قَالَ فَلَعَلَّ هَذَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً . قِيلَ فَلِمَ لَمْ يَقْتُلْ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ وَلَا عَلِيٌّ رضي الله عنهم وَلَا غَيْرُهُمْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَمْ يَمْنَعْهُ حُكْمَ الْإِسْلَامِ وَقَدْ أَعْلَمَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تُوُفِّيَ اشْرَأَبَّ النِّفَاقُ بِالْمَدِينَةِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَيُقَالُ لِأَحَدٍ إنْ قَالَ هَذَا مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ دَهْرِهِ لِلَّهِ حَدًّا بَلْ كَانَ أَقْوَمَ النَّاسِ بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ حُدُودِهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَالَ فِي امْرَأَةٍ سَرَقَتْ فَشُفِعَ لَهَا { إنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الْوَضِيعُ قَطَعُوهُ } وَقَدْ آمَنَ بَعْضُ النَّاسِ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ فَلَمْ يَقْتُلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَتَلَ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ مَنْ لَمْ يُظْهِرْ الْإِيمَانَ . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } فَأَعْلَمَ أَنَّ حُكْمَهُمْ فِي الظَّاهِرِ أَنْ تُمْنَعَ دِمَاؤُهُمْ بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ وَحِسَابُهُمْ فِي الْمَغِيبِ عَلَى اللَّهِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَوَلَّى مِنْكُمْ السَّرَائِرَ وَدَرَأَ عَنْكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَتُوبُوا إلَى اللَّهِ وَاسْتَتِرُوا بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذَنَّهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } فَأَعْلَمَ أَنَّ حُكْمَهُ كُلَّهُ عَلَى الظَّاهِرِ وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَحُكْمُ اللَّهِ عَلَى الْبَاطِنِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَوَلَّى الْبَاطِنَ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِرَجُلٍ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ كَانَ يَعْرِفُ مِنْهُ خِلَافَهُ إنِّي لَأَحْسَبُك مُتَعَوِّذًا فَقَالَ أَمَا فِي الْإِسْلَامِ مَا أَعَاذَنِي ؟ فَقَالَ أَجَلْ إنَّ فِي الْإِسْلَامِ مَا أَعَاذَ مَنْ اسْتَعَاذَ بِهِ قَالَ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ شَيْئًا مِمَّا وَصَفْنَا إلَّا أَنَّهُ وَافَقَنَا عَلَى قَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَأَنْ يُجْعَلَ مَالُهُ فَيْئًا فَكَانَ حُكْمُهُ عِنْدَهُ حُكْمَ الْمُحَارِبِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ أَصْلُ قَوْلِهِ فِي الْمُحَارَبِ أَنَّهُ إذَا أَظْهَرَ الْإِيمَانَ فِي أَيِّ حَالٍ مَا كَانَ إسَارٍ أَوْ تَحْتَ سَيْفٍ أَوْ غَيْرِهَا أَوْ عَلَى أَيِّ دِينٍ كَانَ حَقَنَ دَمَهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْ أَنْ يُقْتَلَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ بِأَيِّ حَالٍ كَانَ وَإِلَى أَيِّ دِينٍ كَانَ رَجَعَ ( قَالَ الرَّبِيعُ ) إذَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ فَهُمْ الْمَشْرِقِيُّونَ وَإِذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَوْ بَعْضُ أَهْلِ بَلَدِنَا فَهُوَ مَالِكٌ .
===============
خِلَافُ بَعْضِ النَّاسِ فِي الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ (1)
__________
(1) - الأم - (ج 6 / ص 233)(2/89)
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى وَخَالَفَنَا بَعْضُ النَّاسِ فِي غَيْرِ مَا خَالَفَنَا فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ فَقَالَ إذَا ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ عَنْ الْإِسْلَامِ حُبِسَتْ وَلَمْ تُقْتَلْ وَإِنْ ارْتَدَّتْ الْأَمَةُ تَخْدِمُ الْقَوْمَ دُفِعَتْ إلَيْهِمْ وَأُمِرُوا بِأَنْ يُجْبِرُوهَا عَلَى الْإِسْلَامِ قَالَ وَكَانَتْ حُجَّتُهُ فِي أَنْ لَا تُقْتَلَ الْمَرْأَةُ عَلَى الرِّدَّةِ شَيْئًا رَوَاهُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما فِي الْمَرْأَةِ تَرْتَدُّ عَنْ الْإِسْلَامِ تُحْبَسُ وَلَا تُقْتَلُ وَكَلَّمَنِي بَعْضُ مَنْ يَذْهَبُ هَذَا الْمَذْهَبَ وَبِحَضْرَتِنَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ فَسَأَلْنَاهُمْ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَمَا عَلِمْت وَاحِدًا مِنْهُمْ سَكَتَ عَنْ أَنْ قَالَ هَذَا خَطَأٌ وَاَلَّذِي رَوَى هَذَا لَيْسَ مِمَّنْ يُثْبِتُ أَهْلُ الْعِلْمِ حَدِيثَهُ فَقُلْت لَهُ قَدْ سَمِعْت مَا قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا شَكَّ فِي عِلْمِهِمْ بِحَدِيثِك وَقَدْ رَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَتَلَ نِسْوَةً ارْتَدَدْنَ عَنْ الْإِسْلَامِ فَكَيْف لَمْ تَصِرْ إلَيْهِ ؟ قَالَ إنِّي إنَّمَا ذَهَبْت فِي تَرْكِ قَتْلِ النِّسَاءِ إلَى الْقِيَاسِ عَلَى السُّنَّةِ لِمَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ كَانَ النِّسَاءُ مِمَّنْ ثَبَتَتْ لَهُ حُرْمَةُ الْإِسْلَامِ أَوْلَى - عِنْدِي - أَنْ لَا يُقْتَلْنَ . وَقُلْت لَهُ أَوْ جَعَلْتهنَّ قِيَاسًا عَلَى أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ الشِّرْكَ جَمَعَهُنَّ ؟ قَالَ لَا قُلْت وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا زَعَمْت عَنْ قَتْلِ الشَّيْخِ الْفَانِي وَالْأَجِيرِ مَعَ نَهْيِهِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ فَإِنْ قُلْت نَعَمْ قُلْت أَفَرَأَيْت شَيْخًا فَانِيًا وَأَجِيرًا ارْتَدَّا أَتَقْتُلُهُمَا أَمْ تَدَعْهُمَا لِعِلَّتِك بِالْقِيَاسِ عَلَى أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ ؟ فَقَالَ بَلْ أَقْتُلُهُمَا قُلْت فَرَجُلٌ ارْتَدَّ فَتَرَهَّبَ قَالَ فَأَقْتُلُهُ قُلْت وَأَنْتَ لَا تَقْتُلُ الرُّهْبَانَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ قَالَ لَا قُلْت وَتَغْنَمُ مَالَ الشَّيْخِ وَالْأَجِيرِ وَالرَّاهِبِ وَلَا تَغْنَمُ مَالَ الْمُرْتَدِّ ؟ قَالَ نَعَمْ قُلْت لِمَ ؟ أَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُشْبِهُ أَهْلَ دَارِ الْحَرْبِ قَالَ مَا يُشْبِهُهُ قُلْت أَجَلْ وَلَئِنْ كُنْت عَلِمْت أَنَّهُ لَا يُشْبِهُهُ فَأَرَدْت أَنْ تُشْبِهْ عَلَى أَهْلِ الْجَهَالَةِ لِيُشْرَعَ قَوْلُك فَإِذَا لَمْ أَقْتُلْ النِّسَاءَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ أَقْتُلُهُنَّ مِمَّنْ ثَبَتَتْ لَهُ حُرْمَةُ الْإِسْلَامِ يُسْرِعُ هَذَا إلَى قُلُوبِهِمْ بِجَهْلِهِمْ وَالْغَبَاءِ الَّذِي فِيهِمْ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَكْثَرُ مِنْ تَعَقُّلِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ قَرِيبَةٌ مِنْ الْمَأْثَمِ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَئِنْ كَانَ هَذَا اجْتِهَادًا أَنَّ مَنْ نَسَبَك إلَى الْعِلْمِ بِالْقِيَاسِ لَجَاهِلٌ بِالْقِيَاسِ أَرَأَيْت إذَا كَانَ حُكْمُ الْمُرْتَدَّةِ عِنْدَك أَنْ لَا تُقْتَلَ كَيْفَ حَبَسْتهَا وَأَنْتَ لَا تَحْبِسُ الْحَرْبِيَّةَ إنَّمَا تَسْبِيهَا وَتَأْخُذُ مَالَهَا وَأَنْتَ لَا تَسْتَأْمِنُ هَذِهِ وَلَا تَأْخُذُ مَالَهَا . أَرَأَيْت لَوْ كَانَ الْحَبْسُ حَقًّا عَلَيْهَا كَيْفَ عَطَّلْت الْحَبْسَ عَنْ الْأَمَةِ الْمُرْتَدَّةِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهَا أَهْلُهَا ؟ أَوْ رَأَيْت أَهْلَ الْأَمَةِ إذَا احْتَاجُوا إلَيْهَا وَقَدْ سَرَقَتْ أَتَقْطَعُهَا إذَا سَرَقَتْ وَتَقْتُلُهَا إذَا قَتَلَتْ وَلَا تَدْفَعُهَا إلَيْهِمْ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهَا ؟ . قَالَ نَعَمْ قُلْت لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يُعَطَّلُ عَنْ الْأَمَةِ كَمَا لَا يُعَطَّلُ عَنْ الْحُرَّةِ ؟ قَالَ نَعَمْ قُلْت فَكَيْفَ عَطَّلْت عَنْهَا الْحَبْسَ إنْ كَانَ حَقًّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ؟ أَوْ حَبَسْت الْحُرَّةَ إنْ لَمْ يَكُنْ الْحَبْسُ حَقًّا ؟ قَالَ وَقُلْت لَهُ هَلْ تَعْدُو الْحُرَّةُ أَنْ تَكُونَ فِي مَعْنَى مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } فَتَكُونُ مُبَدِّلَةً دِينَهَا فَتُقْتَلُ ؟ أَوْ يَكُونُ هَذَا عَلَى الرَّجُلِ دُونَهَا فَمَنْ أَمَرَك بِحَبْسِهَا ؟ وَهَلْ رَأَيْت حَبْسًا قَطُّ هَكَذَا ؟ إنَّمَا الْحَبْسُ لِيَبِينَ لَك الْحَدُّ فَقَدْ بَانَ لَك كُفْرُهَا فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا قَتْلٌ قَتَلَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْحَبْسُ لَهَا ظُلْمٌ قَالَ فَتَقُولُ مَاذَا ؟ . قُلْت أَقُولُ إنَّ قَتْلَهَا نَصٌّ فِي سَنَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَقَوْلُهُ { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ كَانَتْ كَافِرَةً بَعْدَ إيمَانٍ فَحَلَّ دَمُهَا كَمَا إذَا كَانَتْ زَانِيَةً بَعْدَ إحْصَانٍ أَوْ قَاتِلَةَ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ قُتِلَتْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهَا حَدٌّ وَيُعَطَّلَ الْآخَرُ وَأَقُولُ الْقِيَاسُ فِيهَا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ(2/90)
وَتَعَالَى لَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا أَنْ تَقْتُلَ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّجُلِ فِي حَدٍّ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } . وَقَالَ { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ فِي اللَّاتِي يَرْمِينَ الْمُحْصَنَاتِ يُجْلَدْنَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّجُلِ يَرْمِي إذْ رَمَتْ فَكَيْفَ فَرَّقْت بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّجُلِ فِي الْحَدِّ ؟ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) عَفَا اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْنَا لَهُ النَّصُّ عَلَيْك وَالْقِيَاسُ عَلَيْك وَأَنْتَ تَدَّعِي الْقِيَاسَ حَيْثُ تُخَالِفُهُ فَقَالَ أَمَا إنَّ أَبَا يُوسُفَ قَدْ قَالَ قَوْلَكُمْ فَزَعَمَ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُقْتَلُ فَقُلْت أَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ
================
إقْرَارُ أَحَدِ الِابْنَيْنِ بِالْأَخِ (1)
( أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ ) قَالَ : ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى وَإِذَا هَلَكَ الرَّجُلُ فَتَرَكَ ابْنَيْنِ , وَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ , وَشَهِدَ عَلَى أَبِيهِ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ ابْنُهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ , وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ لِأَنَّ إقْرَارَهُ جَمَعَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا لَهُ , وَالْآخَرُ عَلَيْهِ , فَلَمَّا بَطَلَ الَّذِي لَهُ بَطَلَ الَّذِي عَلَيْهِ , وَلَمْ يَكُنْ إقْرَارُهُ لَهُ بِدَيْنٍ , وَلَا , وَصِيَّةٍ إنَّمَا أَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ , وَنَسَبٍ فَإِذَا زَعَمْنَا أَنَّ إقْرَارَهُ فِيهِ يَبْطُلُ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ مَالًا كَمَا لَوْ مَاتَ ذَلِكَ الْمُقَرُّ لَهُ لَمْ يَرِثْهُ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ لِي عَلَيْك مِائَةُ دِينَارٍ فَقَالَ بِعْتنِي بِهَا دَارَك هَذِهِ , وَهِيَ لَك عَلَيَّ فَأَنْكَرَ الرَّجُلُ الْبَيْعَ أَوْ قَالَ بَاعَنِيهَا أَبُوك , وَأَنْتَ وَارِثُهُ فَهِيَ لَك عَلَيَّ , وَلِي الدَّارُ كَانَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ إنَّمَا يُثْبِتُ عَلَى نَفْسِهِ بِمِائَةٍ يَأْخُذُ بِهَا عِوَضًا فَلَمَّا بَطَلَ عَنْهُ الْعِوَضُ بَطَلَ عَنْهُ الْإِقْرَارُ , وَمَا قُلْت مِنْ هَذَا فَهُوَ قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ الْأُوَلِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رحمه الله تعالى مَا وَرَدَ عَلَيْنَا أَحَدٌ قَطُّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إلَّا , وَهُوَ يَقُولُ هَذَا : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رحمه الله تعالى وَأَخْبَرَنِي أَبُو يُوسُفَ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ لَمْ يَلْقَ مَدَنِيًّا قَطُّ إلَّا , وَهُوَ يَقُولُ هَذَا حَتَّى كَانَ حَدِيثًا فَقَالُوا خِلَافَهُ فَوَجَدْنَا عَلَيْهِمْ حُجَّةً , وَمَا كُنَّا نَجِدُ عَلَيْهِمْ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ حُجَّةً . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى وَلَسْنَا نَقُولُ بِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ , وَإِنَّمَا تَرَكْنَاهُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ } وَالْعُرُوقُ أَرْبَعَةٌ عِرْقَانِ ظَاهِرَانِ وَعِرْقَانِ بَاطِنَانِ فَأَمَّا الْعِرْقَانِ الْبَاطِنَانِ فَالْبِئْرُ وَالْعَيْنُ وَأَمَّا الْعِرْقَانِ الظَّاهِرَانِ فَالْغِرَاسُ وَالْبِنَاءُ فَمَنْ غَرَسَ أَرْضَ رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا غَرْسَ لَهُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ } , وَهَذَا عِرْقٌ ظَالِمٌ ( وَقَالَ ) لَا يُقْسَمُ نَضْحٌ مَعَ بَعْلٌ , وَلَا بَعْلٌ مَعَ عَيْنٍ , وَيُقْسَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَا عَلَى حِدَتِهِ ( وَقَالَ ) لَا تُضَاعَفُ الْغَرَامَةُ عَلَى أَحَدٍ , وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ مَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا , وَالضَّمَانُ عَلَى أَهْلِهَا بِقِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا قِيمَتَيْنِ ( وَقَالَ ) لَا يَدْخُلُ الْمُخَنَّثُونَ عَلَى النِّسَاءِ , وَيُنْفَوْنَ ( وَقَالَ ) الْجَدُّ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ . ( قَالَ ) وَإِذَا أَبَى الْمُرْتَدُّ التَّوْبَةَ قُتِلَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } , وَهَذَا مُبَدِّلٌ لِدِينِهِ , وَأَنَّ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ , وَامْتَنَعَ مِنْ الْإِجَابَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِلَا تَأَنٍّ , وَهَذَا لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَنْ عُمَرَ , وَلَوْ فَعَلَهُ رَجُلٌ رَجَوْت أَنْ لَا يَكُونَ بِذَلِكَ بَأْسٌ , يَعْنِي فِي حَدِيثِ عُمَرَ هَلْ كَانَ مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ , وَقَالَ عُمَرُ لَك وَلَاؤُهُ فِي اللَّقِيطِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى وَأَنَّهُ لَا وَلَاءَ لَهُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } وَهَذَا غَيْرُ مُعْتَقٍ , وَأَمَّا قَوْلُهُ : فَهُوَ حُرٌّ , فَهُوَ كَمَا قَالَ , وَأَمَّا إنْفَاقُهُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَكَذَلِكَ نَقُولُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
=============
__________
(1) - الأم - (ج 6 / ص 320)(2/91)
وفي مشكل الآثار :(1)
بَابٌ بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } )
حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُرَّةَ بْنِ أَبِي خَلِيفَةَ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ سَلَمَةَ الْأَزْدِيُّ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ شَيْبَةَ قَالَ : ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ ( ح ) وَحَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُرَادِيُّ قَالَ : ثنا أَسَدُ بْنُ مُوسَى قَالَ : ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ { أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أُتِيَ بِقَوْمٍ زَنَادِقَةٍ أَوْ ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ وَوَجَدُوا مَعَهُمْ كُتُبًا فَأَمَرَ بِنَارٍ فَأُجِّجَتْ فَأَلْقَاهُمْ وَكُتُبَهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ : لَوْ أَنِّي كُنْتُ أَنَا لَقَتَلْتُهُمْ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ أُحَرِّقْهُمْ ; لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ شَيْبَةَ قَالَ : ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ : ثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَسُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . وَحَدَّثَنَا إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ يُونُسَ قَالَ : ثنا إسْحَاقُ بْنُ أَبِي إسْرَائِيلَ قَالَ : ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَثَنَا إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ : ثنا بُنْدَارٌ قَالَ : ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ كُلُّهُمْ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ أَبِي عَقِيلٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ , عَنْ أَيُّوبَ , عَنْ عِكْرِمَةَ , قَالَ : ذُكِرَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْمٌ أَحْرَقَهُمْ عَلِيٌّ فَقَالَ لَوْ كُنْت لَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } , وَلَمْ أَكُنْ لِأُحَرِّقَهُمْ بِالنَّارِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَا يُعَذِّبْ بِعَذَابِ اللَّهِ أَحَدٌ } فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا رضي الله عنه فَكَأَنَّهُ لَمْ يَشْتَهِهِ . وَحَدَّثَنَا إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ : ثنا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ , قَالَ : أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ , عَنْ إسْمَاعِيلَ , عَنْ مَعْمَرٍ , عَنْ أَيُّوبَ , عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ قَالَ : أَبُو جَعْفَرٍ فَذَهَبَ ذَاهِبُونَ إلَى أَنَّ مَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَجَبَ قَتْلُهُ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ وَجَعَلُوا ارْتِدَادَهُ مُوجِبًا عَلَيْهِ الْقَتْلَ حَدًّا لِمَا كَانَ مِنْهُ قَالُوا كَمَا أَنَّ الزَّانِيَ لَا تَرْفَعُ عَنْهُ تَوْبَتُهُ حَدَّ الزِّنَا . وَكَمَا أَنَّ السَّارِقَ لَا تَرْفَعُ عَنْهُ تَوْبَتُهُ حَدَّ السَّرِقَةِ كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ الْمُرْتَدُّ لَا تَرْفَعُ عَنْهُ تَوْبَتُهُ حَدَّ رِدَّتِهِ وَهُوَ الْقَتْلُ فَكَانَ مِنْ حُجَّتِنَا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ لِمُخَالَفَتِهِمْ فِيهِ أَنَّا وَجَدْنَا اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَمَرَنَا بِإِقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الزَّانِي وَبِإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ عَلَى السَّارِقِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } وَقَالَ { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } فَكَانَ اسْمُ الزِّنَا غَيْرَ مُفَارِقٍ لِلزَّانِي , وَإِنْ تَرَكَ الزِّنَا , وَكَذَلِكَ اسْمُ السَّارِقِ لَازِمٌ لِلسَّارِقِ , وَإِنْ زَالَ عَنْ السَّرِقَةِ وَتَرَكَهَا . وَوَجَدْنَا الْمُرْتَدَّ قَدْ صَارَ بِرِدَّتِهِ كَافِرًا وَكَانَ إذَا زَالَ عَنْ الرِّدَّةِ إلَى الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ كَافِرٌ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِالْكُفْرِ لَمَّا كَانَ كَافِرًا فَلَمَّا خَرَجَ عَنْ الْكُفْرِ وَصَارَ مُسْلِمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ لَهُ : كَافِرًا ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُسَمَّى مُسْلِمًا فَاسْتَحَالَ أَنْ يُسَمَّى فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ كَافِرًا مُسْلِمًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا } فَأَثْبَتَ لَهُمْ عَزَّ وَجَلَّ الْإِيمَانَ بَعْدَ كُفْرِهِمْ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ ارْتِدَادٌ عَنْ الْإِيمَانِ وَلَمَّا كَانَ مَا ذَكَرْنَا كَذَلِكَ كَانَ مَعْقُولًا أَنَّ مَنْ لَزِمَهُ اسْمُ مَعْنَى مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي , وَلَمْ يَزُلْ عَنْهُ ذَلِكَ الِاسْمُ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ , وَوَجَبَ أَنْ تُقَامَ عَلَيْهِ عُقُوبَتُهُ , وَإِنَّ مَنْ
__________
(1) - مشكل الآثار للطحاوي - (ج 6 / ص 353) وبيان مشكل الآثار ـ الطحاوى - (ج 7 / ص 87)(2/92)
كَانَ مِنْ أَهْلِهَا فِي حَالٍ , فَزَالَ عَنْهُ الِاسْمُ الَّذِي يُسَمَّى بِهِ أَهْلُهَا زَالَتْ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الِاسْمِ , وَقَدْ وَجَدْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يُوجِبُ عَلَى الرَّاجِعِ مِنْ الرِّدَّةِ مِنْ الِاسْمِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ رَفْعِ الْقَتْلِ عَنْهُ بِذَلِكَ وَهُوَ مَا قَدْ حَدَّثَنَا فَهْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ ارْتَدَّ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَحِقَ بِمَكَّةَ ثُمَّ نَدِمَ فَأَرْسَلَ إلَى قَوْمِهِ سَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ ؟ قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ } إلَى قَوْلِهِ { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } فَكَتَبُوا بِهَا إلَيْهِ فَاسْتَرْجَعَ فَأَسْلَمَ } . ( قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ) فَقَالَ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الْأُولَى فَقَدْ وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا , وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ { إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاَللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ } فَأَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَرَمَهُ الْجَنَّةَ , وَلَمْ يَذْكُرْ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ رُجُوعَهُ عَنْ شِرْكِهِ يُخْرِجُهُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَعُودَ إلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ . فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِذَلِكَ الشِّرْكَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ أَهْلِهِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ : - عَزَّ وَجَلَّ - فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } الْآيَةَ فَبَيَّنَ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْوَعِيدِ الَّذِي فِيهَا مَنْ يَمُوتُ عَلَى رِدَّتِهِ لَا مَنْ يَرْجِعُ مِنْهَا إلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي كَانَ مِنْ أَهْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - { إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاَللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ } هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي يَمُوتُ عَلَيْهِ لَا الشِّرْكُ الَّذِي يَنْزِعُ عَنْهُ وَيَرْجِعُ إلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهِ , وَاَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ .
==============
وقال الجصاص :
بَابُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ السَّاحِرِ وَقَوْلِ السَّلَف فِيهِ (1)
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 1 / ص 119)(2/93)
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي , حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ الضَّبِّيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَجَاءَ قَالَ : أَخْبَرَنَا إسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ هُبَيْرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : " مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا أَوْ سَاحِرًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ عليه السلام " . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ جَارِيَةً لِحَفْصَةَ سَحَرَتْهَا فَوَجَدُوا سِحْرَهَا وَاعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ , فَأَمَرَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ فَقَتَلَهَا , فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ فَأَنْكَرَهُ , فَأَتَاهُ ابْنُ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ أَمْرَهَا ; وَكَانَ عُثْمَانُ إنَّمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهَا قُتِلَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَذَكَرَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ , أَنَّهُ سَمِعَ بَجَالَةَ يَقُولُ : كُنْت كَاتِبًا لِجُزَيِّ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَأَتَى كِتَابُ عُمَرَ أَنْ : اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ . وَرَوَى أَبُو عَاصِمٍ عَنْ الْأَشْعَثِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : " يُقْتَلُ السَّاحِرُ وَلَا يُسْتَتَابُ " وَرَوَى الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ : " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَخَذَ سَاحِرًا فَدَفَنَهُ إلَى صَدْرِهِ ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ " . وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ : كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ فَجَعَلَ يَفْشُو سِرَّهُ , فَقَالَ : مَنْ هَذَا الَّذِي يُفْشِي سِرِّي ؟ فَقَالُوا : سَاحِرٌ هَهُنَا فَدَعَاهُ , فَقَالَ لَهُ : إذَا نَشَرْت الْكِتَابَ عَلِمْنَا مَا فِيهِ , فَأَمَّا مَا دَامَ مَخْتُومًا فَلَيْسَ نَعْلَمُهُ ; فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ وَرَوَى أَبُو إسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ : قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام : " إنَّ هَؤُلَاءِ الْعَرَّافِينَ كُهَّانُ الْعَجَمِ , فَمَنْ أَتَى كَاهِنًا يُؤْمِنُ لَهُ بِمَا يَقُولُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام " . وَرَوَى مُبَارَكٌ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ جُنْدُبًا قَتَلَ سَاحِرًا وَرَوَى يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : " يُقْتَلُ سَاحِرُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُقْتَلُ سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَحَرَهُ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ أَعْصِمَ وَامْرَأَةٌ مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ فَلَمْ يَقْتُلْهُمَا " . وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ : " يُقْتَلُ السَّاحِرُ " . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ السَّلَفُ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ السَّاحِرِ , وَنَصَّ بَعْضُهُمْ عَلَى كُفْرِهِ وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي حُكْمِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ; فَرَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي السَّاحِرِ : " يُقْتَلُ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ سَاحِرٌ وَلَا يُسْتَتَابُ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ : إنِّي أَتْرُكُ السِّحْرَ وَأَتُوبُ مِنْهُ , فَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ سَاحِرٌ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ , وَإِنْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ أَنَّهُ سَاحِرٌ فَوَصَفُوا ذَلِكَ بِصِفَةٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ سِحْرٌ قُتِلَ وَلَا يُسْتَتَابُ . وَإِنَّ أَقَرَّ فَقَالَ : كُنْت أَسْحَرُ وَقَدْ تَرَكْت مُنْذُ زَمَانٍ قُبِلَ مِنْهُ وَلَمْ يُقْتَلْ , وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ مَرَّةً سَاحِرًا وَأَنَّهُ تَرَكَ مُنْذُ زَمَانٍ لَمْ يُقْتَلْ إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ السَّاعَةَ سَاحِرٌ وَأَقَرَّ بِذَلِكَ فَيُقْتَلُ , وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ وَالْحُرُّ الذِّمِّيُّ مَنْ أَقَرَّ مِنْهُمْ أَنَّهُ سَاحِرٌ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ فَيُقْتَلُ وَلَا يُقْبَلُ تَوْبَتُهُ , وَكَذَلِكَ لَوْ شُهِدَ عَلَى عَبْدٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَنَّهُ سَاحِرٌ وَوَصَفُوا ذَلِكَ بِصِفَةِ يُعْلَمُ أَنَّهُ سِحْرٌ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ وَيَقْتُل , وَإِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ أَوْ الذِّمِّيُّ أَنَّهُ كَانَ سَاحِرًا وَتَرَكَ ذَلِكَ مُنْذُ زَمَانٍ قُبِلَ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ مَرَّةً سَاحِرًا وَلَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ السَّاعَةَ سَاحِرٌ لَمْ يُقْتَلْ , وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِذَا شَهِدُوا عَلَيْهَا أَنَّهَا سَاحِرَةٌ أَوْ أَقَرَّتْ بِذَلِكَ لَمْ تُقْتَلْ وَحُبِسَتْ وَضُرِبَتْ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ لَهُمْ تَرْكُهَا لِلسِّحْرِ , وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ إذَا شَهِدُوا أَنَّهَا سَاحِرَةٌ أَوْ أَقَرَّتْ بِذَلِكَ لَمْ تُقْتَلْ وَحُبِسَتْ حَتَّى يُعْلَمَ مِنْهَا تَرْكُ ذَلِكَ كُلِّهِ " وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ ابْنُ شُجَاعٍ : فَحَكَمَ فِي السَّاحِرِ وَالسَّاحِرَةِ حُكْمَ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ ; إلَّا أَنْ يَجِيءَ فَيُقِرَّ بِالسِّحْرِ أَوْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ عَمِلَهُ , فَإِنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الثَّبَاتِ عَلَى الرِّدَّةِ وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الرَّازِيُّ قَالَ : سَأَلْت أَبَا يُوسُفَ عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي السَّاحِرِ " يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ "(2/94)
لِمَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ ؟ فَقَالَ : السَّاحِرُ قَدْ جَمَعَ مَعَ كُفْرِهِ السَّعْيَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ . وَالسَّاعِي بِالْفَسَادِ إذَا قَتَلَ قُتِلَ . قَالَ : فَقُلْت لِأَبِي يُوسُفَ : مَا السَّاحِرُ ؟ قَالَ : الَّذِي يُقْتَصُّ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مِثْلُ مَا فَعَلَتْ الْيَهُودُ بِالنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ إذَا أَصَابَ بِهِ قَتْلًا , فَإِذَا لَمْ يُصِبْ بِهِ قَتْلًا لَمْ يُقْتَلْ ; لِأَنَّ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَقْتُلْهُ ; إذْ كَانَ لَمْ يُصِبْ بِهِ قَتْلًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَيْسَ فِيمَا ذَكَرَ بَيَانُ مَعْنَى السِّحْرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الْقَتْلَ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَقَدَ فِي السِّحْرِ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَشْوُ مِنْ إيصَالِهِمْ الضَّرَرَ إلَى الْمَسْحُورِ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ وَلَا سَقْيِ دَوَاءٍ ; وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سِحْرُ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ عليه السلام عَلَى جِهَةِ إرَادَتِهِمْ التَّوَصُّلَ إلَى قَتْلِهِ بِإِطْعَامِهِ , وَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى مَا أَرَادُوا , كَمَا سَمَّتْهُ زَيْنَبُ الْيَهُودِيَّةُ فِي الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ فَأَخْبَرَتْهُ الشَّاةُ بِذَلِكَ , فَقَالَ : { إنَّ هَذِهِ الشَّاةَ لَتُخْبِرُنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ . } قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُسْلِمِ إذَا تَوَلَّى عَمَلَ السِّحْرِ قُتِلَ وَلَا يُسْتَتَابُ ; لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا ارْتَدَّ بَاطِنًا لَمْ تُعْرَفْ تَوْبَتُهُ بِإِظْهَارِهِ الْإِسْلَامَ قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ : فَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ عِنْدَ مَالِكٍ , إلَّا أَنْ يَضُرَّ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُ لِنَقْضِ الْعَهْدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا قَالَ السَّاحِرُ : أَنَا أَعْمَلُ عَمَلًا لِأَقْتُلَ فَأُخْطِئُ وَأُصِيبُ وَقَدْ مَاتَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ عَمَلِي ; فَفِيهِ الدِّيَةُ وَإِنْ قَالَ : عَمَلِي يَقْتُلُ الْمَعْمُولَ بِهِ وَقَدْ تَعَمَّدْت قَتْلَهُ ; قُتِلَ بِهِ قَوَدًا , وَإِنْ قَالَ : مَرِضَ مِنْهُ وَلَمْ يَمُتْ أَقْسَمَ أَوْلِيَاؤُهُ لَمَاتَ مِنْهُ ثُمَّ تَكُونُ الدِّيَةُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَلَمْ يَجْعَلْ الشَّافِعِيُّ السَّاحِرَ كَافِرًا بِسِحْرِهِ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ جَانِيًا كَسَائِرِ الْجُنَاةِ وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ بِاسْتِحْقَاقِ سِمَةِ السِّحْرِ , فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْهُ كَافِرًا , وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ قَوْلِ جَمِيعِهِمْ ; إذْ لَمْ يَعْتَبِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَتْلَهُ لِغَيْرِهِ بِعَمَلِهِ السِّحْرَ فِي إيجَابِ قَتْلِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مَعَانِي السِّحْرِ وَضُرُوبَهُ ; وَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ سِحْرِ أَهْلِ بَابِلَ فِي الْقَدِيمِ وَمَذَاهِبِ الصَّابِئِينَ فِيهِ , وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } فِيمَا يُرَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ , فَإِنَّ الْقَائِلَ بِهِ وَالْمُصَدِّقَ بِهِ وَالْعَامِلَ بِهِ كَافِرٌ ; وَهُوَ الَّذِي قَالَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عِنْدِي إنَّهُ لَا يُسْتَتَابُ , وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ السِّحْرِ , مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا نُطَيْرٌ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَخْنَسِ قَالَ : حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ } . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ هُوَ السِّحْرُ الَّذِي نَسَبَهُ عَامِلُوهُ إلَى النُّجُومِ , وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ سِحْرِ أَهْلِ بَابِل وَالصَّابِئِينَ ; لِأَنَّ سَائِرَ ضُرُوبِ السِّحْرِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالنُّجُومِ عِنْدَ أَصْحَابِهَا وَالثَّانِي : أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ السِّحْرِ الْمَذْمُومِ يَتَنَاوَلُ هَذَا الضَّرْبَ مِنْهُ ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَارَفَ عِنْدَ السَّلَفِ مِنْ السِّحْرِ هُوَ هَذَا الضَّرْبُ مِنْهُ وَمِمَّا يَدَّعِي فِيهِ أَصْحَابُهَا الْمُعْجِزَاتِ , وَإِنْ لَمْ يُعَلِّقُوا ذَلِكَ بِفِعْلِ النُّجُومِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا ; وَأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِقَتْلِ فَاعِلِهِ ; إذْ لَمْ يُفَرِّقُوا فِيهِ بَيْنَ عَامِلِ السِّحْرِ بِالْأَدْوِيَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالسِّعَايَةِ وَالشَّعْوَذَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَمَعْلُومٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنَّ هَذِهِ الضُّرُوبَ مِنْ السَّحَرِ لَا تُوجِبُ قَتْلَ فَاعِلهَا إذَا لَمْ يَدَّعِ فِيهِ مُعْجِزَةً لَا يُمْكِنُ الْعِبَادَ فِعْلُهَا ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إيجَابَهُمْ قَتْلَ السَّاحِرِ إنَّمَا كَانَ لِمَنْ ادَّعَى بِسِحْرِهِ مُعْجِزَاتٍ لَا يَجُوزُ وُجُودُ مِثْلِهَا(2/95)
إلَّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام دَلَالَةً عَلَى صِدْقِهِمْ وَذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا بَدَأْنَا بِذِكْرِهِ مِنْ سِحْرِ أَهْلِ بَابِل ; وَالْآخَرُ : مَا يَدَّعِيهِ الْمُعَزِّمُونَ وَأَصْحَابُ النيرنجيات مِنْ خِدْمَةِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ وَالْفَرِيقَانِ جَمِيعًا كَافِرَانِ ; أَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ فِي سِحْرِهِ تَعْظِيمَ الْكَوَاكِبِ وَاعْتِقَادَهَا آلِهَةً , وَأَمَّا الْفَرِيقُ الثَّانِي فَلِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَرِفَةً بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهَا حَيْثُ أَجَازَتْ أَنْ تُخْبِرَهَا الْجِنُّ بِالْغُيُوبِ وَتَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِ فُنُونِ الْحَيَوَانِ وَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ فَقَدْ جَوَّزَتْ وُجُودَ مِثْلِ أَعْلَامِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام مَعَ الْكَذَّابِينَ الْمُتَخَرِّصَيْنِ . وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ صِدْقَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام لِتَجْوِيزِهِ كَوْنَ مِثْلِ هَذِهِ الْأَعْلَامِ مَعَ غَيْرِهِمْ , فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَى يَدِهِ مُتَخَرِّصًا كَذَّابًا فَإِنَّمَا كُفْرُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ , وَهُوَ جَهْلُهُ بِصِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَالْأَظْهَرُ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ الَّذِي رَأَتْ الصَّحَابَةُ قَتْلَهُ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ مِنْهُمْ عَنْ حَالِهِ وَلَا بَيَانٍ لِمَعَانِي سِحْرِهِ أَنَّهُ السَّاحِرُ الْمَذْكُورُ فِي قوله تعالى : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } وَهُوَ السَّاحِرُ الَّذِي بَدَأْنَا بِذِكْرِهِ عِنْدَ ذِكْرِنَا ضُرُوبَ السِّحْرِ , وَهُوَ سِحْرُ أَهْلِ بَابِلَ فِي الْقَدِيمِ , وَعَسَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَغْلَبَ الْأَعَمَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ; وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَنْ يَتَعَاطَى سَائِرَ ضُرُوبِ السَّحَر الَّذِي ذَكَرْنَا وَكَانُوا يَجْرُونَ فِي دَعْوَاهُمْ الْإِخْبَارَ بِالْغُيُوبِ وَتَغْيِيرِ صُوَرِ الْحَيَوَانِ عَلَى مِنْهَاجِ سَحَرَةِ بَابِلَ , وَكَذَلِكَ كُهَّانُ الْعَرَبِ , يَشْمَلُ الْجَمِيعَ اسْمُ الْكُفْرِ لِظُهُورِ هَذِهِ الدَّعَاوَى مِنْهُمْ وَتَجْوِيزِهِمْ مُضَاهَاةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي مُعْجِزَاتِهِمْ وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مَعْنَى السِّحْرِ عِنْدَ السَّلَفِ فَإِنَّهُ لَمْ يُحْكَ عَنْ أَحَدٍ إيجَابُ قَتْلِ السَّاحِرِ مِنْ طَرِيقِ الْجِنَايَةِ عَلَى النُّفُوسِ , بَلْ إيجَابُ قَتْلِهِ بِاعْتِقَادِهِ عَمَلَ السِّحْرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ مِنْهُمْ لِجِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ , فَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ الْمُشَعْوِذُونَ وَأَصْحَابُ الْحَرَكَاتِ وَالْخِفَّةِ بِالْأَيْدِي , وَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ بِسَقْيِ الْأَدْوِيَةِ الْمُبَلِّدَةِ لِلْعَقْلِ أَوْ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ . وَمَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ السَّعْيِ بِالنَّمَائِمِ وَالْوِشَايَةِ وَالتَّضْرِيبِ وَالْإِفْسَادِ ; فَإِنَّهُمْ إذَا اعْتَرَفُوا بِأَنَّ ذَلِكَ حِيَلٌ وَمَخَارِيقُ , حُكْمُ مَنْ يَتَعَاطَى مِثْلَهَا مِنْ النَّاس لَمْ يَكُنْ كَافِرًا وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَدَّبَ وَيُزْجَرَ عَنْ ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ السَّاحِرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ مُسْتَحِقٌّ لِاسْمِ الْكُفْرِ قوله تعالى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } أَيْ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ , رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْمُفَسِّرِينَ وَقَوْلُهُ { لِتَتْلُوَ } مَعْنَاهُ تُخْبِرُ وَتَقْرَأُ ثُمَّ قوله تعالى { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَادَّعَتْهُ مِنْ السِّحْرِ عَلَى سُلَيْمَانَ كَانَ كُفْرًا , فَنَفَاهُ اللَّهُ عَنْ سُلَيْمَانَ وَحَكَمَ بِكُفْرِ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ تَعَاطَوْهُ وَعَمِلُوهُ , ثُمَّ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى : { وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } فَأَخْبَرَ عَنْ الْمَلَكَيْنِ أَنَّهُمَا يَقُولَانِ لِمَنْ يُعَلِّمَانِهِ ذَلِكَ : لَا تَكْفُرْ بِعَمَلِ هَذَا السِّحْرِ وَاعْتِقَادِهِ فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ إذَا عُمِلَ بِهِ وَاعْتُقِدَ ثُمَّ قَالَ : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } يَعْنِي , وَاَللَّهُ أَعْلَمْ : مِنْ اسْتَبْدَلَ السِّحْرَ بِدِينِ اللَّهِ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ , يَعْنِي مِنْ نَصِيبٍ ثُمَّ قَالَ : { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } فَجَعَلَ ضِدَّ هَذَا الْإِيمَانِ فِعْلَ السِّحْرِ ; ; لِأَنَّهُ جَعَلَ الْإِيمَانَ فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِ السِّحْرِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّاحِرَ كَافِرٌ . وَإِذَا ثَبَتَ كُفْرُهُ فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ قَدْ ظَهَرَ مِنْهُ الْإِسْلَامُ فِي وَقْتٍ فَقَدْ كَفَرَ بِفِعْلِ السِّحْرِ فَاسْتَحَقَّ الْقَتْلَ بِقَوْلِهِ عليه السلام : {(2/96)
مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا خَالَفَهُ فِيمَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ عَنْهُ : " إنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ " فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي فَرْقِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ السَّاحِرِ وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّينَ , فَإِنَّ السَّاحِرَ قَدْ جَمَعَ إلَى كُفْرِهِ السَّعْيَ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَإِنْ قَالَ قَائِلُ : فَأَنْتَ لَا تَقْتُلُ الْخُنَّاقَ وَالْمُحَارِبِينَ إلَّا إذَا قَتَلُوا , فَهَلَّا قُلْتَ مِثْلَهُ فِي السَّاحِرِ قِيلَ لَهُ : يَفْتَرِقَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَنَّاقَ وَالْمُحَارِبَ لَمْ يَكْفُرَا قَبْلَ الْقَتْلِ وَلَا بَعْدَهُ فَلَمْ يَسْتَحِقَّا الْقَتْلَ ; إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُمَا سَبَبٌ يَسْتَحِقَّانِ بِهِ الْقَتْلَ , وَأَمَّا السَّاحِرُ فَقَدْ كَفَرَ بِسِحْرِهِ قَتَلَ بِهِ أَوْ لَمْ يَقْتُلْ , فَاسْتَحَقَّ الْقَتْلَ بِكُفْرِهِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ مَعَ كُفْرِهِ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ كَانَ وُجُوبُ قَتْلِهِ حَدًّا فَلَمْ يَسْقُطْ بِالتَّوْبَةِ كَالْمُحَارِبِ إذَا اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ لَمْ يَسْقُطْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ ; فَهُوَ مُشْبِهٌ لِلْمُحَارِبِ الَّذِي قَتَلَ فِي أَنَّ قَتْلَهُ حَدًّا لَا تُزِيلُهُ عَنْهُ التَّوْبَةُ , وَيُفَارِقَ الْمُرْتَدَّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ بِإِقَامَتِهِ عَلَى الْكُفْرِ فَحَسْبُ فَمَتَى انْتَقَلَ عَنْهُ زَالَ عَنْهُ الْكُفْرُ وَالْقَتْلُ . وَلِمَا وَصَفْنَا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ السَّاحِرِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمِنْ الْمُسْلِمِينَ , كَمَا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمُحَارِبِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْإِسْلَامِ فِيمَا يَسْتَحِقُّونَهُ بِالْمُحَارَبَةِ ; وَلِذَلِكَ لَمْ تُقْتَلْ الْمَرْأَةُ السَّاحِرَةُ ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ الْمُحَارِبِينَ عِنْدَهُمْ لَا تُقْتَلُ حَدًّا وَإِنَّمَا تُقْتَلُ قَوَدًا وَوَجْهٌ آخَرُ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَرْكِ اسْتِتَابَةِ السَّاحِرِ , وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي يُوسُف فِي نَوَادِرَ ذَكَرَهَا عَنْهُ أَدْخَلَهَا فِي أَمَالِيهِ عَلَيْهِمْ قَالَ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : " اُقْتُلُوا الزِّنْدِيقَ سِرًّا فَإِنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُعْرَفُ " . وَلَمْ يَحْكِ أَبُو يُوسُف خِلَافَهُ وَيَصِحُّ بِنَاءُ مَسْأَلَةِ السَّاحِرِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ السَّاحِرَ يَكْفُرُ سِرًّا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الزِّنْدِيقِ فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْتَلَ السَّاحِرُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ; لِأَنَّ كُفْرَهُ ظَاهِرٌ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْقَتْلِ لِأَجْلِ الْكُفْرِ قِيلَ لَهُ : الْكُفْرُ الَّذِي أَقْرَرْنَاهُ عَلَيْهِ هُوَ مَا أَظْهَرَهُ لَنَا , وَأَمَّا الْكُفْرُ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ بِسِحْرِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُقَرٍّ عَلَيْهِ وَلَمْ نُعْطِهِ الذِّمَّةَ عَلَى إقْرَارِهِ عَلَيْهِ , أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَأَلَنَا إقْرَارَهُ عَلَى السِّحْرِ بِالْجِزْيَةِ لَمْ نُجِبْهُ إلَيْهِ وَلَمْ نُجِزْ إقْرَارَهُ عَلَيْهِ ؟ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّاحِرِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ وَأَيْضًا , فَلَوْ أَنَّ الذِّمِّيَّ السَّاحِرَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْقَتْلَ بِكُفْرِهِ لَاسْتَحَقَّهُ بِسَعْيِهِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ كَالْمُحَارِبِينَ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا , وَقَوْلُهُمْ فِي تَرْكِ قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ , يُوجِبُ أَنْ لَا يُسْتَتَابَ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَسَائِرُ الْمُلْحِدِينَ الَّذِينَ قَدْ عُلِمَ مِنْهُمْ اعْتِقَادُ الْكُفْرِ كَسَائِرِ الزَّنَادِقَةِ وَأَنْ يَقْتُلُوا مَعَ إظْهَارهمْ التَّوْبَةَ وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ السَّاحِرِ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ قَانِعٍ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ : { حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ } . وَقِصَّةُ جُنْدُبٍ فِي قَتْلِهِ السَّاحِرَ بِالْكُوفَةِ عِنْدَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ مَشْهُورَةٌ وَقَوْلُهُ عليه السلام : { حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ } قَدْ دَلَّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وُجُوبُ قَتْلِهِ ; وَالثَّانِي : أَنَّهُ حَدٌّ لَا يُزِيلُهُ التَّوْبَةُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ إذَا وَجَبَتْ , وَلَمَّا ذَكَرْنَا مِنْ قَتْلِهِ عَلَى وَجْهِ قَتْلِ الْمُحَارِبِ قَالُوا فِيمَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : إنَّهُ إذَا قَالَ " كُنْت سَاحِرًا وَقَدْ تُبْت " أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ , كَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ مُحَارِبًا وَجَاءَ تَائِبًا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ ; لقوله تعالى فِي شَأْنِ الْمُحَارِبِينَ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَاسْتَثْنَى التَّائِبَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْحَدَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ وَيُسْتَدَلُّ بِظَاهِرِ قوله تعالى : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ(2/97)
وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا } إلَى آخِرِ الْآيَةِ , عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ السَّاحِرِ حَدًّا ; لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ السَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ لِعَمَلِهِ السِّحْرَ وَاسْتِدْعَائِهِ النَّاسَ إلَيْهِ وَإِفْسَادِهِ إيَّاهُمْ مَعَ مَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ , وَأَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَإِنَّهُ أَجْرَى السَّاحِرَ مَجْرَى الزِّنْدِيقِ , فَلَمْ يَقْبَلْ تَوْبَتَهُ كَمَا لَا يَقْبَلُ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ , وَلَمْ يَقْتُلْ سَاحِرَ أَهْلِ الذِّمَّةِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْقَتْلِ بِكُفْرِهِ وَقَدْ أَقْرَرْنَاهُ عَلَيْهِ , فَلَا يُقْتَلُ إلَّا أَنْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ فَيَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَهُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ . فَيُقْتَلُ كَمَا يُقْتَلُ الْحَرْبِيُّ وَقَدْ بَيَّنَّا مُوَافَقَةَ السَّاحِرِ الذِّمِّيِّ لِلزِّنْدِيقِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ اسْتَحْدَثَ كُفْرًا سِرًّا , لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ بِجِزْيَةِ وَلَا غَيْرِهَا , فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّاحِرِ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ ; وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُحَارِبِ فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُنْتَحِلِي الذِّمَّةِ , وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَقَدْ بَيَّنَّا خُرُوجَهُ عَنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ ; لِأَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَعْتَبِرْ قَتْلَهُ بِسِحْرِهِ وَأَوْجَبُوا قَتْلَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِحُصُولِ الِاسْمِ لَهُ , وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ فِي ذِكْرِهِ قَتْلَ السَّاحِرِ بِغَيْرِهِ : إمَّا أَنْ يُجِيزَ عَلَى السَّاحِرِ قَتْلَ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ وَلَا اتِّصَالِ سَبَبٍ إلَيْهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَدَّعِيهِ السَّحَرَةُ , وَذَلِكَ فَظِيعٌ شَنِيعٌ وَلَا يُجِيزُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ فِعْلِ السَّحَرَةِ لِمَا وَصَفْنَا مِنْ مُضَاهَاتِهِ أَعْلَامَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام أَوْ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَجَازَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ سَقْيِ الْأَدْوِيَةِ وَنَحْوِهَا , فَإِنْ كَانَ هَذَا أَرَادَ فَإِنَّ مِنْ احْتَالَ فِي إيصَالِ دَوَاءٍ إلَى إنْسَانٍ حَتَّى شَرِبَهُ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ دِيَةٌ ; إذْ كَانَ هُوَ الشَّارِبَ لَهُ وَالْجَانِيَ عَلَى نَفْسِهِ , كَمَنْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ سَيْفًا فَقَتَلَ بِهِ نَفْسَهُ , وَإِنْ كَانَ إنَّمَا أَوْجَرَهُ إيَّاهُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لِشُرْبِهِ , فَإِنَّ هَذَا لَا يَكَادُ يَقَعُ إلَّا فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ وَالنَّوْمِ وَنَحْوِهِ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا يَسْتَوِي فِيهِ السَّاحِرُ وَغَيْرُهُ ثُمَّ قَوْلُهُ : " إذَا قَالَ السَّاحِرُ قَدْ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ وَقَدْ مَاتَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ عَمَلِي فَفِيهِ الدِّيَةُ " فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ ; لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ جَرَحَ رَجُلًا بِحَدِيدَةِ قَدْ يَمُوتُ الْمَجْرُوحُ مِنْ مِثْلِهِ وَقَدْ لَا يَمُوتُ , لَكَانَ عَلَيْهِ فِيهِ الْقِصَاصُ ; فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى قَوْلِهِ إيجَابَ الْقِصَاصِ كَمَا يَجِبُ فِي الْحَدِيدَةِ وَقَوْلُهُ : " قَدْ يَمُوتُ وَقَدْ لَا يَمُوتُ " لَيْسَ بِعِلَّةٍ فِي زَوَالِ الْقِصَاصِ لِوُجُودِهَا فِي الْجَارِحِ بِحَدِيدَةٍ بَعْدَ أَنْ يُقِرَّ السَّاحِرُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ مِنْ عَمَلِهِ . فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ وَالضَّرْبِ بِالْعَصَا وَاللَّطْمَةِ الَّتِي قَدْ تَقْتُلُ وَقَدْ لَا تَقْتُلُ قِيلَ لَهُ : وَلِمَ صَارَ بِالْقَتْلِ بِالْعَصَا وَاللَّطْمَةِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِالْحَدِيدَةِ ؟ . فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا سِلَاحٌ وَذَاكَ لَيْسَ بِسِلَاحِ , لَزِمَهُ فِي كُلِّ مَا لَيْسَ بِسِلَاحِ أَنْ لَا يُقْتَصَّ مِنْهُ , وَيَلْزَمُهُ حِينَئِذٍ اعْتِبَارُ السِّلَاحِ دُونَ غَيْرِهِ فِي إيجَابِ الْقَوَدِ . وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " وَإِنْ قَالَ مَرِضَ مِنْهُ وَلَمْ يَمُتْ أَقْسَمَ أَوْلِيَاؤُهُ لَمَاتَ مِنْهُ " مُخَالِفٌ فِي النَّظَرِ لِأَحْكَامِ الْجِنَايَاتِ ; لِأَنَّ مَنْ جَرَحَ رَجُلًا فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ , لَزِمَهُ حُكْمُ جِنَايَتِهِ وَكَانَ مَحْكُومًا بِحُدُوثِ الْمَوْتِ عِنْدَ الْجِرَاحَةِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى أَيْمَانِ الْأَوْلِيَاءِ فِي مَوْتِهِ مِنْهَا , فَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ مِثْلُهُ فِي السَّاحِرِ إذَا أَقَرَّ أَنَّ الْمَسْحُورَ مَرِضَ مِنْ سِحْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : كَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْمَرِيضِ مِنْ الْجِرَاحَةِ إذَا لَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ أَنَّهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا لَمْ يُحْكَمْ بِالْقَتْلِ حَتَّى يُقْسِمَ أَوْلِيَاءُ الْمَجْرُوحِ قِيلَ لَهُ : فَيَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ مِثْلَهُ لَوْ ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ وَوَالَى بَيْنَ الضَّرْبِ حَتَّى قَتَلَهُ مِنْ سَاعَتِهِ , فَقَالَ الْجَارِحُ : مَاتَ مِنْ عِلَّةٍ كَانَتْ بِهِ قَبْلَ الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ , أَوْ قَالَ : اخْتَرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَمُتْ مِنْ ضَرْبَتِي ; أَنْ تُقْسِمَ الْأَوْلِيَاءُ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ ; وَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا .
=============
بَابُ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ (1)
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 5 / ص 156)(2/98)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا } قَالَ قَتَادَةُ : " يَعْنِي بِهِ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ; آمَنَ الْيَهُودُ بِالتَّوْرَاةِ , ثُمَّ كَفَرُوا بِمُخَالَفَتِهَا وَكَذَلِكَ آمَنُوا بِمُوسَى عليه السلام ثُمَّ كَفَرُوا بِمُخَالَفَتِهِ , وَآمَنَ النَّصَارَى بِالْإِنْجِيلِ , ثُمَّ كَفَرُوا بِمُخَالَفَتِهِ وَكَذَلِكَ آمَنُوا بِعِيسَى عليه السلام ثُمَّ كَفَرُوا بِمُخَالَفَتِهِ , ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُخَالَفَةِ الْفُرْقَانِ وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : " هِيَ فِي الْمُنَافِقِينَ : آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا , ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا , ثُمَّ مَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ " . وَقَالَ آخَرُونَ هُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَصَدَتْ تَشْكِيكَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ , وَكَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ بِهِ وَالْكُفْرَ بِهِ , وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ فِي قَوْلِهِ : { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِاَلَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ الَّذِي تَابَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَأَنَّ تَوْبَةَ الْمُرْتَدِّ مَقْبُولَةٌ ; إذْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الزِّنْدِيقِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكُفَّارِ وَقَبُولُ تَوْبَتِهِ بَعْدَ الْكُفْرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَالْحُكْمُ بِإِيمَانِهِ مَتَى أَظْهَرَ الْإِيمَانَ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ وَالزِّنْدِيقِ , فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ : " فِي الْأَصْلِ لَا يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ حَتَّى يُسْتَتَابَ , وَمَنْ قَتَلَ مُرْتَدًّا قَبْلَ أَنْ يُسْتَتَابَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ " . وَذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الزِّنْدِيقِ الَّذِي يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : " أَسْتَتِيبُهُ كَالْمُرْتَدِّ , فَإِنْ أَسْلَمَ خَلَّيْت سَبِيلَهُ وَإِنْ أَبَى قَتَلْته " , وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ كَذَلِكَ زَمَانًا , فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُ الزَّنَادِقَةُ وَيَعُودُونَ قَالَ : " أَرَى إذَا أُتِيتُ بِزِنْدِيقٍ آمُرُ بِضَرْبِ عُنُقِهِ وَلَا أَسْتَتِيبُهُ , فَإِنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ أَقْتُلَهُ خَلَّيْته " . وَذَكَرَ سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ : " إذَا زَعَمَ الزِّنْدِيقُ أَنَّهُ قَدْ تَابَ حَبَسْته حَتَّى أَعْلَمَ تَوْبَتَهُ " . وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : " أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ مَكَانَهُ , إلَّا أَنْ يَطْلُبَ أَنْ يُؤَجَّلَ فَإِنْ طَلَبِ ذَلِكَ أُجِّلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ " وَلَمْ يَحِكْ خِلَافًا . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ : وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي نَوَادِرَ ذَكَرَهَا عَنْهُ أَدْخَلَهَا فِي أَمَالِيهِ عَلَيْهِمْ قَالَ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : " اُقْتُلْ الزِّنْدِيقَ سِرًّا فَإِنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُعْرَفُ " , وَلَمْ يَحْكِ أَبُو يُوسُفَ خِلَافَهُ . وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : " الْمُرْتَدُّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ ثَلَاثًا فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ , وَإِنَّ ارْتَدَّ سِرًّا قُتِلَ وَلَمْ يُسْتَتَبْ كَمَا يُقْتَلْ الزَّنَادِقَةُ , وَإِنَّمَا يُسْتَتَابُ مَنْ أَظْهَرَ دِينَهُ الَّذِي ارْتَدَّ إلَيْهِ " قَالَ مَالِكٌ : " يُقْتَلُ الزَّنَادِقَةُ وَلَا يُسْتَتَابُونَ , وَالْقَدَرِيَّةُ يُسْتَتَابُونَ " فَقِيلَ لِمَالِكٍ : فَكَيْفَ يُسْتَتَابُ الْقَدَرِيَّةُ ؟ قَالَ : " يُقَالُ لَهُمْ اُتْرُكُوا مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَإِنْ فَعَلُوا وَإِلَّا قُتِلُوا وَإِنَّ أَقَرَّ الْقَدَرِيَّةُ بِالْعِلْمِ لَمْ يُقْتَلُوا " . وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ } ; قَالَ مَالِكٌ : هَذَا فِيمَنْ تَرَكَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يُقِرَّ بِهِ , لَا فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ وَلَا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إلَى الْيَهُودِيَّةِ ; قَالَ مَالِكٌ : وَإِذَا رَجَعَ الْمُرْتَدُّ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَا ضَرْبَ عَلَيْهِ , وَحَسَنٌ أَنْ يُتْرَكَ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيُعْجِبُنِي . وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ : " يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ وَإِنْ تَابَ مِائَةَ مَرَّةٍ " . وَقَالَ اللَّيْثُ : " النَّاسُ لَا يَسْتَتِيبُونَ مَنْ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ إذَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ , وَلَكِنَّهُ يُقْتَلُ تَابَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَتُبْ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ " . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ظَاهِرًا وَالزِّنْدِيقُ , وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ " . وَفِي الِاسْتِتَابَةِ ثَلَاثًا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : حَدِيثُ عُمَرَ , وَالْآخَرُ أَنَّهُ لَا يُؤَخَّرُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِأَنَاةٍ ; وَهَذَا ظَاهِرُ الْخَبَرِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : رَوَى سُفْيَانُ عَنْ(2/99)
جَابِرٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : " يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثًا " ثُمَّ قَرَأَ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } الْآيَةَ ; وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ بِاسْتِتَابَتِهِ ثَلَاثًا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ اسْتِتَابَتَهُ ; إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ , وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ دُعَاءَهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَالتَّوْبَةِ لقوله تعالى : { اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } الْآيَةَ , وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي } , فَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ إلَى دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَبَيْنَ غَيْرِهِ , فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي دُعَاءَ الْمُرْتَدِّ إلَى الْإِسْلَامِ كَدُعَاءِ سَائِرِ الْكُفَّارِ , وَدُعَاؤُهُ إلَى الْإِسْلَامِ هُوَ الِاسْتِتَابَةُ ; وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } , وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الدُّعَاءَ إلَى الْإِيمَانِ ; وَيُحْتَجُّ بِذَلِكَ أَيْضًا فِي اسْتِتَابَةِ الزِّنْدِيقِ لِاقْتِضَاءِ عُمُومِ اللَّفْظِ لَهُ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } لَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ الزِّنْدِيقِ وَغَيْرِهِ , فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي قَبُولَ إسْلَامِهِ . فَإِنْ قِيلَ : قوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى زَوَالِ الْقَتْلِ عَنْهُ ; لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ ذُنُوبُهُ وَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ قَتْلُهُ كَمَا يُقْتَلُ الزَّانِي الْمُحْصَنُ وَإِنْ كَانَ تَائِبًا وَيُقْتَلُ قَاتِلُ النَّفْسِ مَعَ التَّوْبَةِ . قِيلَ لَهُ : قوله تعالى : { إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } يَقْتَضِي غُفْرَانَ ذُنُوبِهِ وَقَبُولَ تَوْبَتِهِ ; لِأَنَّ تَوْبَتَهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً لَمَا كَانَتْ ذُنُوبُهُ مَغْفُورَةً , وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ اسْتِتَابَتِهِ وَقَبُولِهَا مِنْهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ قَتْلَ الْكَافِرِ إنَّمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِإِقَامَتِهِ عَلَى الْكُفْرِ , فَإِذَا انْتَقَلَ عَنْهُ إلَى الْإِيمَانِ فَقَدْ زَالَ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وَجَبَ قَتْلُهُ وَعَادَ إلَى حَظْرِ دَمِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ ظَاهِرًا مَتَى أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ حُقِنَ دَمُهُ ؟ كَذَلِكَ الزِّنْدِيقُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُرْتَدِّ الَّذِي لَحِقَ بِمَكَّةَ وَكَتَبَ إلَى قَوْمِهِ : سَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ } إلَى قوله تعالى : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } فَكَتَبُوا بِهَا إلَيْهِ , فَرَجَعَ فَأَسْلَمَ ; فَحَكَمَ لَهُ بِالتَّوْبَةِ بِمَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِ , فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ وَالْحُكْمُ لَهُ بِمَا يَظْهَرُ مِنْهُ دُونَ مَا فِي قَلْبِهِ . وَقَوْلُهُ مَنْ قَالَ : إنِّي لَا أَعْرِفُ تَوْبَتَهُ إذَا كَفَرَ سِرًّا , فَإِنَّا لَا نُؤَاخَذُ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ اعْتِقَادِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا نَصِلُ إلَيْهِ , وَقَدْ حَظَرَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْحُكْمَ بِالظَّنِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ } , وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّهُ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ } , وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } , وَقَالَ : { إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ بِضَمَائِرِهِنَّ وَاعْتِقَادِهِنَّ , وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا ظَهَرَ مِنْ إيمَانِهِنَّ بِالْقَوْلِ وَجَعَلَ ذَلِكَ عِلْمًا , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالضَّمِيرِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ الْقَوْلِ , وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا } وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ ; { وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ الَّذِي قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , فَقَالَ : إنَّمَا قَالَهَا مُتَعَوِّذًا , قَالَ : هَلَّا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ } . وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ , أَنَّهُ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ فَقَالَ : مَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ إحْنَةٌ , وَإِنِّي مَرَرْت بِمَسْجِدِ بَنِي حَنِيفَةَ فَإِذَا هُمْ يُؤْمِنُونَ بِمُسَيْلِمَةَ ; فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ , فَجَاءَ بِهِمْ وَاسْتَتَابَهُمْ , غَيْرَ ابْنِ النَّوَّاحَةِ قَالَ لَهُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { لَوْلَا أَنَّك رَسُولٌ لَضَرَبْت عُنُقَك }(2/100)
فَأَنْتَ الْيَوْمَ لَسْت بِرَسُولٍ , أَيْنَ مَا كُنْت تُظْهِرُ مِنْ الْإِسْلَامِ ؟ قَالَ : كُنْت أَتَّقِيكُمْ بِهِ ; فَأَمَرَ بِهِ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ فَضَرَبَ عُنُقَهُ بِالسُّوقِ , ثُمَّ قَالَ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ابْنِ النَّوَّاحَةِ قَتِيلًا بِالسُّوقِ . فَهَذَا مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْتَتَابَ الْقَوْمَ وَقَدْ كَانُوا مُظْهِرِينَ لِكُفْرِهِمْ , وَأَمَّا ابْنُ النَّوَّاحَةِ فَلَمْ يَسْتَتِبْهُ ; لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ مُسِرًّا لِلْكُفْرِ مُظْهِرًا لِلْإِيمَانِ عَلَى وَجْهِ التَّقِيَّةِ ; وَقَدْ كَانَ قَتْلُهُ إيَّاهُ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ ; لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِيهِمْ . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : أُخِذَ بِالْكُوفَةِ رِجَالٌ يُؤْمِنُونَ بِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ , فَكَتَبَ فِيهِمْ إلَى عُثْمَانَ , فَكَتَبَ عُثْمَانُ : " اعْرِضْ عَلَيْهِمْ دِينَ الْحَقِّ وَشَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ قَالَهَا وَتَبَرَّأَ مِنْ دِينِ مُسَيْلِمَةَ فَلَا تَقْتُلُوهُ , وَمَنْ لَزِمَ دِينَ مُسَيْلِمَةَ فَاقْتُلْهُ " فَقَبِلَهَا رِجَالٌ مِنْهُمْ وَلَزِمَ دِينَ مُسَيْلِمَةَ رِجَالٌ فَقُتِلُوا .
=============
الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ (1)
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : " يُعَزَّرُ وَلَا يُحَدُّ " . وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ : يُرْجَمَانِ أَحْصَنَا أَوْ لَمْ يُحْصِنَا " وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ : " هُوَ بِمَنْزِلَةِ الزِّنَا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَعَطَاءٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ وَكُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ وَقَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ } , فَحَصَرَ قَتْلَ الْمُسْلِمِ إلَّا بِإِحْدَى هَذِهِ الثَّلَاثِ , وَفَاعِلُ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى زِنًا فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ وَارْجُمُوهُمَا جَمِيعًا } , وَبِمَا رَوَى الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ } قِيلَ لَهُ : عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو وَعَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو ضَعِيفَانِ لَا تَقُومُ بِرِوَايَتِهِمَا حُجَّةٌ وَلَا يَجُوزُ بِهِمَا إثْبَاتُ حَدٍّ , وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لَوْ ثَبَتَ إذَا فَعَلَاهُ مُسْتَحِلَّيْنِ لَهُ , وَكَذَلِكَ تَقُولُ فِيمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ , وَقَوْلُهُ : { فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدٍّ وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } ; لِأَنَّ حَدَّ فَاعِلِ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ قَتْلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا هُوَ الرَّجْمُ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ كَالزِّنَا إذَا كَانَ مُحْصَنًا وَعِنْدَ مَنْ لَا يَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ الزِّنَا مِمَّنْ يُوجِبُ قَتْلَهُ فَإِنَّمَا يَقْتُلُهُ رَجْمًا , فَقَتْلُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَيْسَ هُوَ قَوْلًا لِأَحَدٍ , وَلَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الزِّنَا لَفَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ , وَفِي تَرْكِهِ صلى الله عليه وسلم الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْهُ عَلَى وَجْهِ الْحَدِّ .
============
وفي الأحكام السلطانية :(2)
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَمَا عَدَا جِهَادَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قِتَالٍ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ :
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 8 / ص 23)
(2) - الأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 92)(2/101)
قِتَالُ أَهْلِ الرِّدَّةِ . وَقِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ , وَقِتَالُ الْمُحَارِبِينَ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ فَهُوَ أَنْ يَرْتَدَّ قَوْمٌ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِمْ سَوَاءٌ وُلِدُوا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَسْلَمُوا عَنْ كُفْرٍ , فَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ فِي حُكْمِ الرِّدَّةِ سَوَاءٌ , فَإِذَا ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ إلَى أَيِّ دِينٍ انْتَقَلُوا إلَيْهِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ كَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة , أَوْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ كَالزَّنْدَقَةِ وَالْوَثَنِيَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرَّ مَنْ ارْتَدَّ إلَيْهِ , لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحَقِّ يُوجِبُ الْتِزَامَ أَحْكَامِهِ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . فَإِذَا كَانُوا مِمَّنْ وَجَبَ قَتْلُهُمْ بِمَا ارْتَدُّوا عَنْهُ مِنْ دِينِ الْحَقِّ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَدْيَانِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ شُذَّاذًا وَأَفْرَادًا لَمْ يَتَحَيَّزُوا بِدَارٍ يَتَمَيَّزُونَ بِهَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى قِتَالِهِمْ لِدُخُولِهِمْ تَحْتَ الْقُدْرَةِ وَيُكْشَفُ عَنْ سَبَبِ رِدَّتِهِمْ , فَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً فِي الدِّينِ أُوضِحَتْ لَهُمْ بِالْحِجَجِ وَالْأَدِلَّةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ وَأُخِذُوا بِالتَّوْبَةِ مِمَّا دَخَلُوا فِيهِ مِنْ الْبَاطِلِ , فَإِنْ تَابُوا قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمْ مِنْ كُلِّ رِدَّةٍ وَعَادُوا إلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ كَمَا كَانُوا . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا أَقْبَلُ تَوْبَةَ مَنْ ارْتَدَّ إلَى مَا يُسْتَرُ بِهِ مِنْ الزَّنْدَقَةِ إلَّا أَنْ يَبْتَدِئَهَا مِنْ نَفْسِهِ , وَأَقْبَلُ تَوْبَةَ غَيْرِهِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ , وَعَلَيْهِمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ قَضَاءُ مَا تَرَكُوهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي زَمَانِ الرِّدَّةِ لِاعْتِرَافِهِمْ بِوُجُوبِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ كَمَنْ أَسْلَمَ عَنْ كُفْرٍ , وَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ قَدْ حَجَّ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ الرِّدَّةِ لَمْ يَبْطُلْ حَجُّهُ بِهَا وَلَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاؤُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ قَدْ بَطَلَ بِالرِّدَّةِ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ بَعْدَ التَّوْبَةِ , وَمَنْ أَقَامَ عَلَى رِدَّتِهِ وَلَمْ يَتُبْ وَجَبَ قَتْلُهُ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا أَقْتُلُ الْمَرْأَةَ بِالرِّدَّةِ : وَقَدْ { قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالرِّدَّةِ امْرَأَةً كَانَتْ تُكْنَى أُمَّ رُومَانَ } وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمُرْتَدِّ عَلَى رِدَّتِهِ بِجِزْيَةٍ وَلَا عَهْدٍ , وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ , وَلَا تُنْكَحُ مِنْهُ امْرَأَةٌ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَتْلِهِمْ هَلْ يُعَجَّلُ فِي الْحَالِ أَوْ يُؤَجَّلُونَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا تَعْجِيلُ قَتْلِهِمْ فِي الْحَالِ لِئَلَّا يُؤَخَّرَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقٌّ . وَالثَّانِي يُنْظَرُونَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَعَلَّهُمْ يَسْتَدْرِكُونَهُ بِالتَّوْبَةِ , وَقَدْ أَنْذَرَ عَلِيٌّ عليه السلام الْمُسْتَوْرِدِ الْعِجْلِيِّ بِالتَّوْبَةِ ثَلَاثَةً ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَهَا , وَقُتِلَ صَبْرًا بِالسَّيْفِ . وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يُضْرَبُ بِالْخَشَبِ حَتَّى يَمُوتَ , لِأَنَّهُ أَبْطَأُ قَتْلًا مِنْ السَّيْفِ الْمُوحِي وَرُبَّمَا اسْتَدْرَكَ بِهِ التَّوْبَةَ , وَإِذَا قُتِلَ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ . وَوُرِيَ مَقْبُورًا وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ لِخُرُوجِهِ بِالرِّدَّةِ عَنْهُمْ وَلَا فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ لِمَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنْ حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ الْمُبَايِنَةِ لَهُمْ , وَيَكُونُ مَالُهُ فَيْئًا فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَصْرُوفًا فِي أَهْلِ الْفَيْءِ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُهُ عَنْهُ وَارِثٌ مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا كَافِرٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُورَثُ عَنْهُ مَا اكْتَسَبَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ وَيَكُونُ مَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ فَيْئًا . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُورَثُ عَنْهُ مَا اكْتَسَبَ قَبْلَ الرِّدَّةِ وَبَعْدَهَا فَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ كَانَ مَالُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ , فَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ أُعِيدَ عَلَيْهِ , وَإِنْ هَلَكَ عَلَى الرِّدَّةِ صَارَ فَيْئًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَحْكُمُ بِمَوْتِهِ إذَا صَارَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَأُقَسِّمُ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ , فَإِنْ عَادَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ اسْتَرْجَعْتُ مَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ مَالِهِ وَلَمْ أُغَرِّمْهُمْ مَا اسْتَهْلَكُوهُ فَهَذَا حُكْمُ الْمُرْتَدِّينَ إذَا لَمْ يَنْحَازُوا إلَى دَارٍ وَكَانُوا شُذَّاذًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَنْحَازُوا إلَى دَارٍ يَنْفَرِدُونَ بِهَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَصِيرُوا فِيهَا مُمْتَنِعِينَ فَيَجِبُ قِتَالُهُمْ عَلَى الرِّدَّةِ بَعْدَ مُنَاظَرَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِيضَاحِ دَلَائِلِهِ , وَيَجْرِي عَلَى(2/102)
قِتَالِهِمْ بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالْإِعْذَارِ حُكْمُ قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي قِتَالِهِمْ غُرَّةً وَبَيَانًا وَمُصَافَّتِهِمْ فِي الْحَرْبِ جِهَارًا وَقِتَالِهِمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ . وَمَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ جَازَ قَتْلُهُ صَبْرًا إنْ لَمْ يَتُبْ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَرَقَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَإِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ لَمْ تُسْبَ ذَرَارِيُّهُمْ وَسَوَاءٌ مِنْ وُلِدَ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَ الرِّدَّةِ , وَقِيلَ إنَّ مَنْ وُلِدَ مِنْهُمْ بَعْدَ الرِّدَّةِ جَازَ سَبْيُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ سَبْيُ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ نِسَائِهِمْ إذَا لَحِقْنَ بِدَارِ الْحَرْبِ ; وَإِذَا غُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ لَمْ تُقَسَّمْ فِي الْغَانِمِينَ وَكَانَ مَالُ مَنْ قُتِلَ مِنْهَا فَيْئًا وَمَالُ الْأَحْيَاءِ مَوْقُوفًا , إنْ أَسْلَمُوا رُدَّ عَلَيْهِمْ , وَإِنْ هَلَكُوا عَلَى رِدَّتِهِمْ صَارَ فَيْئًا , وَمَا أَشْكَلَ أَرْبَابُهُ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمَغْنُومَةِ صَارَ فَيْئًا إذَا وَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ , وَمَا اسْتَهْلَكَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فِي نَائِرَةِ الْحَرْبِ لَمْ يُضْمَنْ إذَا أَسْلَمُوا , وَمَا اسْتَهْلَكُوا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ نَائِرَةِ الْحَرْبِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمْ . وَاخْتُلِفَ فِي ضَمَانِ مَا اسْتَهْلَكُوهُ فِي نَائِرَةِ الْحَرْبِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا يَضْمَنُونَهُ , لِأَنَّ مَعْصِيَتَهُمْ بِالرِّدَّةِ لَا تُسْقِطُ عَنْهُمْ غُرْمَ الْأَمْوَالِ الْمَضْمُونَةِ . وَالثَّانِي لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِيمَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ دَمٍ وَمَالٍ . قَدْ أَصَابَ أَهْلُ الرِّدَّةِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه نُفُوسًا وَأَمْوَالًا عُرِفَ مُسْتَهْلِكُوهَا فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه يَدُونَ قَتْلَانَا وَلَا نَدِي قَتْلَاهُمْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَدُونَ قَتْلَانَا وَلَا نَدِي قَتْلَاهُمْ فَجَرَتْ بِذَلِكَ سِيرَتُهُ وَسِيرَةُ مَنْ بَعْدَهُ . وَقَدْ أَسْلَمَ طُلَيْحَةُ بَعْدَ أَنْ سُبِيَ وَكَانَ قَدْ قَتَلَ وَسَبَى فَأَقَرَّهُ عُمَرُ رضي الله عنه بَعْدَ إسْلَامِهِ وَلَمْ يَأْخُذْهُ بِدَمٍ وَلَا مَالٍ ; وَوَفَدَ أَبُو شَجَرَةَ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَاتِ فَقَالَ أَعْطِنِي فَإِنِّي ذُو حَاجَةٍ فَقَالَ مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ أَبُو شَجَرَةَ فَقَالَ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ أَلَسْتَ تَقُولُ ( مِنْ الطَّوِيلِ ) : وَرَوَّيْتُ رُمْحِي مِنْ كَتِيبَةِ خَالِدٍ وَإِنِّي لَأَرْجُو بَعْدَهَا أَنْ أُعَمَّرَا ثُمَّ جَعَلَ يَعْلُوهُ بِالدِّرَّةِ فِي رَأْسِهِ حَتَّى وَلَّى رَاجِعًا إلَى قَوْمِهِ وَهُوَ يَقُولُ ( مِنْ الْبَسِيطِ ) : ضَنَّ عَلَيْنَا أَبُو حَفْصٍ بِنَائِلِهِ وَكُلُّ مُخْتَبِطٍ يَوْمًا لَهُ وَرَقُ مَا زَالَ يَضْرِبُنِي حَتَّى حَدَثْتُ لَهُ وَحَالَ مِنْ دُونِ بَعْضِ الْبُغْيَةِ الشَّفَقُ لَمَّا رَهِبْتُ أَبَا حَفْصٍ وَشُرْطَتَهُ وَالشَّيْخُ يُقْرَعُ أَحْيَانًا فَيَنْمَحِقُ فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ عُمَرُ رضي الله عنه بِسِوَى التَّعْزِيرِ لِاسْتِطَالَتِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ; وَلِدَارِ الرِّدَّةِ حُكْمٌ تُفَارِقُ بِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ وَدَارَ الْحَرْبِ . فَأَمَّا مَا تُفَارِقُ بِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُهَادَنُوا عَلَى الْمُوَادَعَةِ فِي دِيَارِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يُهَادَنَ أَهْلُ الْحَرْبِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى مَالٍ يُقَرُّونَ بِهِ عَلَى رِدَّتِهِمْ , وَيَجُوزُ أَنْ يُصَالَحَ أَهْلُ الْحَرْبِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ وَلَا سَبْيُ نِسَائِهِمْ , وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَرَقَّ أَهْلُ الْحَرْبِ وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْغَانِمُونَ أَمْوَالَهُمْ , وَيَمْلِكُونَ مَا غَنِمُوهُ مِنْ مَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه : قَدْ صَارَتْ دِيَارُهُمْ بِالرِّدَّةِ دَارَ حَرْبٍ وَيُسْبَوْنَ وَيُغْنَمُونَ وَتَكُونُ أَرْضُهُمْ فَيْئًا وَهُمْ عِنْدَهُ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَأَمَّا مَا تُفَارِقُ بِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : وُجُوبُ قِتَالِهِمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ كَالْمُشْرِكِينَ . وَالثَّانِي : إبَاحَةُ إمَائِهِمْ أَسْرَى وَمُمْتَنِعِينَ . وَالثَّالِثُ : تَصِيرُ أَمْوَالُهُمْ فَيْئًا لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَالرَّابِعُ : بُطْلَانُ مُنَاكَحَتِهِمْ بِمُضِيِّ الْعِدَّةِ وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى الرِّدَّةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَبْطُلُ مُنَاكَحَتُهُمْ بِارْتِدَادِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ , وَلَا تَبْطُلُ بِارْتِدَادِهِمَا مَعًا ; وَمَنْ اُدُّعِيَتْ عَلَيْهِ الرِّدَّةُ فَأَنْكَرَهَا كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا بِغَيْرِ يَمِينِهِ , وَلَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِالرِّدَّةِ لَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بِالْإِنْكَارِ حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ , وَإِذَا امْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ إلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ جُحُودًا لَهَا كَانُوا بِالْجُحُودِ مُرْتَدِّينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَلَوْ(2/103)
امْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهَا مَعَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُوبِهَا كَانُوا مِنْ بُغَاةِ الْمُسْلِمِينَ , يُقَاتَلُونَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله : لَا يُقَاتَلُونَ . وَقَدْ قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه مَانِعِي الزَّكَاةِ مَعَ تَمَسُّكِهِمْ بِالْإِسْلَامِ حَتَّى قَالُوا وَاَللَّهِ مَا كَفَرْنَا بَعْدَ إيمَانِنَا وَلَكِنْ شَحِحْنَا عَلَى أَمْوَالِنَا فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه عَلَامَ تُقَاتِلُهُمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَه إلَّا اللَّهُ , فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } . قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا مِنْ حَقِّهَا : أَرَأَيْتَ لَوْ سَأَلُوا تَرْكَ الصَّلَاةِ ؟ أَرَأَيْتَ لَوْ سَأَلُوا تَرْكَ الصِّيَامِ ؟ أَرَأَيْتَ لَوْ سَأَلُوا تَرْكَ الْحَجِّ ؟ فَإِذًا لَا تَبْقَى عُرْوَةٌ مِنْ عُرَى الْإِسْلَامِ إلَّا انْحَلَّتْ ; وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا وَعِقَالًا مِمَّا أَعْطَوْهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه فَشَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه , وَقَدْ أَبَانَ عَنْ إسْلَامِهِمْ قَوْلُ زَعِيمِهِمْ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ فِي شِعْرِهِ ( مِنْ الطَّوِيلِ ) : أَلَا فَاصْحَبِينَا قَبْلَ نَائِرَةِ الْفَجْرِ لَعَلَّ الْمَنَايَا قَرِيبٌ وَلَا نَدْرِي أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كَانَ بَيْنَنَا فَيَا عَجَبًا مَا بَالُ مُلْكِ أَبِي بَكْرِ فَإِنَّ الَّذِي سَأَلُوكُمْ فَمَنَعْتُمُو لَكَالتَّمْرِ أَوْ أَحْلَى إلَيْهِمْ مِنْ التَّمْرِ سَنَمْنَعُكُمْ مَا كَانَ فِينَا بَقِيَّةٌ كِرَامٌ عَلَى الْعَزَّاءِ فِي سَاعَةِ الْعُسْرِ
================
وفي المحلى :(1)
قَالُوا : فَمَنْ قَتَلَ أَحَدًا بِغَيْرِ السَّيْفِ ظَالِمًا عَامِدًا :
__________
(1) - المحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 10 / ص 143) والمحلى لابن حزم - (ج 6 / ص 308)(2/104)
فَبَشَرَةُ غَيْرِ الْقَاتِلِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْمُسْتَقِيدِ , وَغَيْرِهِ , إذْ قَدْ صَحَّ تَحْرِيمُهَا , وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ , وَلَا إجْمَاعٌ بِإِبَاحَتِهَا , إنَّمَا حَلَّ مِنْ بَشَرَةِ الْقَاتِلِ , وَمِنْ التَّعَدِّي عَلَيْهِ مِثْلُ مَا انْتَهَكَ هُوَ مِنْ بَشَرَةِ غَيْرِهِ , وَمِثْلُ مَا تَعَدَّى عَلَيْهِ بِهِ قَطُّ - وَمَنْ خَالَفَ هَذَا فَهُوَ كَمَنْ أَفْتَى مَنْ فُقِئَتْ عَيْنَاهُ ظُلْمًا بِأَنْ يَجْدَعَ هُوَ أَشْرَفَ أُذُنَيْ فَاقِئِ عَيْنَيْهِ - وَلَا فَرْقَ . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ أَنَا هَمَّامٌ أَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ { : أَنَّ جَارِيَةً قَدْ وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ , فَسَأَلُوهَا مَنْ صَنَعَ هَذَا بِكِ ؟ فُلَانٌ ؟ فُلَانٌ ؟ حَتَّى ذَكَرُوا لَهَا يَهُودِيًّا , فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا ؟ فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَأَقَرَّ , فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُرَضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ الْحِجَارَةِ . } وَرَوَاهُ أَيْضًا - شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ , وَمَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ : أَنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنِ الصَّبَّاحِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ - وَاللَّفْظُ لَهُ - أَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ أَنَا أَبُو رَجَاءٍ - مَوْلَى أَبِي قِلَابَةَ - حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ { : أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ - ثَمَانِيَةً - قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعُوهُ عَلَى الْإِسْلَامِ , فَاسْتَوْخَمُوا الْأَرْضَ , وَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ , فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَلَا تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِي إبِلِهِ فَتُصِيبُونَ مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا ؟ فَقَالُوا : بَلَى : فَخَرَجُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا , فَصَحُّوا , فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ , وَطَرَدُوا الْإِبِلَ , فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ فَأُدْرِكُوا , فَجِيءَ بِهِمْ , فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ , وَأَرْجُلُهُمْ , وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ , ثُمَّ نُبِذُوا فِي الشَّمْسِ حَتَّى مَاتُوا } . قَالَ مُسْلِمٌ : حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ الْأَعْرَجُ - مَرْوَزِيٌّ - أَنَا يَحْيَى بْنُ غَيْلَانَ أَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ { : إنَّمَا سَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْيُنَ أُولَئِكَ ; لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ } فَهَذَا حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمْرُهُ الَّذِي لَا يَسَعُ أَحَدًا الْخُرُوجُ عَنْهُ . وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { الْعَمْدُ قَوَدٌ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ } . وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ أَنَا أَبُو نُعَيْمٍ - هُوَ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ - أَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ - عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إمَّا أَنْ يُودَى , وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رضي الله عنه : الْقَوَدُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ : الْمُقَارَضَةُ بِمِثْلِ مَا ابْتَدَأَهُ بِهِ , لَا خِلَافَ بَيْنَ أَحَدٍ فِي أَنَّ قَطْعَ الْيَدِ بِالْيَدِ , وَالْعَيْنِ بِالْعَيْنِ , وَالْأَنْفِ بِالْأَنْفِ , وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ , كُلُّ ذَلِكَ يُسَمَّى " قَوَدًا " . فَقَدْ صَحَّ يَقِينًا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمَرَنَا بِالْقَوَدِ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَمَرَنَا بِأَنْ يُعْمَلَ بِالْمُعْتَدِي فِي الْقَتْلِ فَمَا دُونَهُ : مِثْلُ مَا عَمِلَ هُوَ سَوَاءً سَوَاءً - هَذَا أَمْرٌ تَقْتَضِيهِ الشَّرِيعَةُ وَاللُّغَةُ وَلَا بُدَّ . ثُمَّ نَظَرْنَا فِيمَا احْتَجَّتْ بِهِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى - : فَوَجَدْنَاهُمْ يُعَوِّلُونَ عَلَى مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ أَشْعَثَ , وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رضي الله عنه : هَذَا مُرْسَلٌ , وَلَا يَحِلُّ الْأَخْذُ بِمُرْسَلٍ . وَقَالُوا : الْخَبَرَانِ عَنْ أَنَسٍ فِي الَّذِينَ قَتَلُوا الرِّعَاءَ , وَفِي الَّذِي رَضَخَ رَأْسَ الْجَارِيَةِ , فَإِنَّمَا كَانَا إذْ كَانَتْ الْمُثْلَةُ مُبَاحَةً , ثُمَّ نَسَخَهَا بِتَحْرِيمِ الْمُثْلَةِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ لِذَلِكَ الْخَبَرِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِأَنْ يُرْجَمَ حَتَّى يَمُوتَ , فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ } . قَالُوا : وَالرَّجْمُ قَدْ لَا يُصِيبُ الرَّأْسَ , فَقَدْ قَتَلَهُ بِغَيْرِ مَا قَتَلَ هُوَ بِهِ(2/105)
الْجَارِيَةَ . وَقَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى أَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيُّ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ الصَّبَاحِ بْنِ عِمْرَانَ - هُوَ الْبُرْجُمِيِّ - أَنَّهُ سَمِعَ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ , وَعِمْرَانَ يَقُولَانِ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ . } وَرُوِّينَا نَحْوَهُ أَيْضًا : مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ , وَأَبِي بَكْرَةَ , وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ , وَمَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ كُلُّهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . قَالُوا { : مَا سَمِعْنَاهُ عليه الصلاة والسلام قَطُّ خَطَبَنَا إلَّا وَهُوَ يَأْمُرُ بِالصَّدَقَةِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُثْلَةِ } : أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْعُذْرِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْكِسَائِيُّ أَنَا عَلِيُّ بْنُ غَيْلَانَ الْحَرَّانِيُّ أَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَا عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ ثنا أَبُو قُرَّةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ , أَوْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ : فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ أَحَدًا } يَعْنِي بِالنَّارِ , وَنَهَى عليه الصلاة والسلام عَنْ الْمُثْلَةِ . قَالُوا : وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُثْلَةِ ثَابِتٌ مِنْ طُرُقٍ . قَالُوا : وَقَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ أَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ أَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَ حَدِيثَ الَّذِينَ قَتَلُوا الرِّعَاءَ وَقَدْ أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا . قَالَ قَتَادَةُ : فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْحُدُودِ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رضي الله عنه : لَمْ نُخَالِفْهُمْ قَطُّ فِي أَنَّ الْمُثْلَةَ لَا تَحِلُّ , لَكِنْ قُلْنَا : إنَّهُ لَا مُثْلَةَ إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَّا مَا أَمَرَ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ مُثْلَةً . لَيْتَ شِعْرِي : مَا الْفَرْقُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ , بَيْنَ مَنْ قَتَلَ عَامِدًا ظَالِمًا بِالْحِجَارَةِ فَقُتِلَ هُوَ كَذَلِكَ ؟ فَقَالُوا : هَذِهِ مُثْلَةٌ ؟ وَبَيْنَ مَنْ زَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ فَقُتِلَ بِالْحِجَارَةِ ؟ فَقَالُوا : لَيْسَ هُوَ مُثْلَةً , أَلَا يَسْتَحِي ذُو دِينٍ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ الظَّاهِرِ فَسَادُهُ ؟ فَإِنْ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِالرَّجْمِ فِي الزِّنَى , وَالْإِحْصَانِ , وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . قُلْنَا : وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمُعْتَدِي بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى بِهِ , وَبِالْمُعَاقَبَةِ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ظَالِمًا - وَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشَّدْخِ بِالْحَجَرِ مَنْ قَتَلَ ظَالِمًا كَذَلِكَ , فَهَلْ مِنْ فَرْقٍ ؟ وَلَيْتَ شِعْرِي : عَلَى مَا يَعْهَدُ النَّاسُ أَيَكُونُ مُثْلَةً أَعْظَمَ مِنْ قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ , وَفَقْءِ الْعَيْنَيْنِ , وَجَدْعِ الْأَنْفِ , وَالْأُذُنَيْنِ , وَبَرْدِ الْأَسْنَانِ , وَقَطْعِ الشَّفَتَيْنِ - وَهُمْ مُوَافِقُونَ لَنَا عَلَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَنْ يُفْعَلَ بِمَنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِهِ ظَالِمًا , فَلَوْ تَرَكُوا التَّحَكُّمَ لَكَانَ أَوْلَى ؟ وَلَقَدْ قَالُوا : إنَّ مَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ , فَإِنْ قَطَعَ بَعْدَ ذَلِكَ الطَّرِيقَ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ الثَّانِيَةُ وَلَا رِجْلُهُ . وَنَظُنُّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ مَنْ قَطَعَ يَدَ آخَرَ وَرِجْلَهُ : أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ , لَاحَ تَنَاقُضُهُمْ , وَإِنْ لَمْ يَقُولُوهُ زَادُوا فِي الْبَاطِلِ وَمَنْعِ الْحَقِّ . ؟ وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ : كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْحُدُودِ فَخَطَأٌ , وَكَلَامُ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ تِلْكَ الْمَشَاهِدَ , وَلَا ذَكَرَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ شَهِدَهَا : فَهُوَ لَا شَيْءَ . وَحَدِيثُ أَنَسٍ الَّذِي مَوَّهُوا بِهِ لَمْ يُسْمَعْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطُّ يَخْطُبُ إلَّا نَهَى عَنْ الْمُثْلَةِ أَعْظَمُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي كَذِبِهِمْ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام بِاَلَّذِينَ قَتَلُوا الرِّعَاءَ ; لِأَنَّ أَنَسًا صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَازَمَهُ خَادِمًا لَهُ مِنْ حِينِ قَدِمَ عليه السلام الْمَدِينَةِ إلَى حِينِ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم فَصَحَّ يَقِينًا قَطْعًا بِلَا شَكٍّ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسٌ خُطْبَتَهُ - عليه الصلاة والسلام - وَنَهْيَهُ عَنْ الْمُثْلَةِ قَبْلَ فِعْلِهِ - عليه الصلاة والسلام - بِاَلَّذِينَ قَتَلُوا الرِّعَاءَ - فَبَطَلَ ضَرُورَةً أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ نَاسِخًا لِلْمُتَأَخِّرِ , وَبِاَللَّهِ إنَّ ضَرْبَ الْعُنُقِ بِالسَّيْفِ لَأَعْظَمُ مُثْلَةً - وَلَقَدْ شَاهَدْنَاهُ فَرَأَيْنَاهُ مَنْظَرًا وَحْشًا , وَكَأَنَّهُ جَسَدٌ بِأَرْبَعَةِ أَفْخَاذٍ . فَظَهَرَ فَسَادُ احْتِجَاجِهِمْ بِالْمُثْلَةِ - وَصَحَّ أَنَّ(2/106)
كُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ - عليه الصلاة والسلام - فَلَيْسَ هُوَ مُثْلَةٌ , إنَّمَا الْمُثْلَةُ مِنْ فِعْلِ مَا نَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مُتَعَدِّيًا وَلَا مَزِيدَ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى مَاتَ } فَلَا شَكَّ , وَلَا خِلَافَ , فِي أَنَّ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ كُلَّهَا هِيَ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ , فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ , فِي إنْسَانٍ وَاحِدٍ , فَقَوْلُ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ { : فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ . } وَقَوْلُ شُعْبَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ { : فَأَمَرَ بِهِ فَرُضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ . } وَقَوْلُ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ { : فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُرَضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ الْحِجَارَةِ : } أَخْبَارٌ عَنْ عَمَلٍ وَاحِدٍ , وَإِذَا رُضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَقَدْ رُضَّ بِالْحِجَارَةِ , وَقَدْ رُجِمَ رَأْسُهُ حَتَّى مَاتَ . فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِ الرُّوَاةِ , إذْ كُلُّهَا مَعْنًى وَاحِدٌ - وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ - وَكُلُّهُمْ ثِقَةٌ , وَإِنَّمَا هَذَا تَعَلُّلٌ فِي مُخَالَفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْبَاطِلِ . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد أَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ { : خَصْلَتَانِ سَمِعْتُهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رضي الله عنه : وَهَذَا صَحِيحٌ , وَغَايَةُ الْإِحْسَانِ فِي الْقِتْلَةِ هُوَ أَنْ يَقْتُلَهُ بِمِثْلِ مَا قَتَلَ هُوَ - وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } وَأَمَّا مَنْ ضَرَبَ بِالسَّيْفِ عُنُقَ مَنْ قَتَلَ آخَرَ خَنْقًا , أَوْ تَغْرِيقًا , أَوْ شَدْخًا , فَمَا أَحْسَنَ الْقِتْلَةَ , بَلْ إنَّهُ أَسَاءَهَا أَشَدَّ الْإِسَاءَةِ , إذْ خَالَفَ مَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ , وَتَعَدَّى حُدُودَهُ , وَعَاقَبَ بِغَيْرِ مَا عُوقِبَ بِهِ وَلِيُّهُ , وَإِلَّا فَكُلُّهُ قَتْلٌ , وَمَا الْإِيقَافُ لِضَرْبِ الْعُنُقِ بِالسَّيْفِ بِأَهْوَنَ مِنْ الْغَمِّ , وَالْخَنْقِ , وَقَدْ لَا يَمُوتُ مِنْ عِدَّةِ ضَرَبَاتٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ أُخْرَى - هَذَا أَمْرٌ قَدْ شَاهَدْنَاهُ - وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ - فَعَادَ هَذَا الْخَبَرُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ . وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد أَنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ أَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ : أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ فَقَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رضي الله عنه : هَذَا مِنْ طَرِيفِ مَا مَوَّهُوا بِهِ - وَمَتَى خَالَفْنَاهُمْ فِي أَنَّ الْعَبَثَ بِالْبَهَائِمِ , وَبِغَيْرِ الْبَهَائِمِ لَا يَحِلُّ , إنَّمَا بِهِمْ أَنْ يُمَوِّهُوا أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ وَهُمْ لَا يَأْتُونَ إلَّا بِمَا نُهُوا عَنْهُ ؟ . وَأَمَّا بِالْبَاطِلِ - نَعَمْ , صَبْرُ الْبَهَائِمِ لَا يَحِلُّ , إلَّا حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الذَّبْحِ , وَالنَّحْرِ وَالرَّمْيِ فِيمَا شَرَدَ بِالنَّبْلِ , وَالرِّمَاحِ , وَإِرْسَالِ الْكِلَابِ , وَسِبَاعِ الطَّيْرِ عَلَيْهَا - فَهَذَا كُلُّهُ حَلَالٌ حَسَنٌ بِإِجْمَاعٍ مِنَّا وَمِنْهُمْ . وَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ الْعَبَثُ بِابْنِ آدَمَ , فَإِذَا عَبِثَ هُوَ ظَالِمًا : اُقْتُصَّ مِنْهُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ - وَكَانَ حَقًّا وَعَدْلًا ; وَالْعَجَبُ كُلُّهُ أَنَّ ضَرْبَ الْعُنُقِ صَبْرٌ بِلَا شَكٍّ , وَالصَّلْبُ أَشْنَعُ الصَّبْرِ , وَهُمْ يَرَوْنَ كُلَّ ذَلِكَ , فَلَوْ رَاجَعُوا الْحَقَّ لَكَانَ أَوْلَى بِهِمْ . وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا مَوَّهُوا بِهِ مِمَّا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ : أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ يَعْلَى قَالَ { : غَزَوْنَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَنْهَى عَنْ قَتْلِ الصَّبْرِ . } وَذَكَرُوا - مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد أَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ نا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِذَامِيُّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَمَّرَهُ عَلَى سَرِيَّةٍ وَقَالَ : إنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُحَرِّقُوهُ , فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ } . وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا - مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد أَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ : أَنَّ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ حَدَّثَهُمْ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ(2/107)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رضي الله عنه : وَهَذَا صَحِيحٌ , وَلَا يَحِلُّ أَنْ يُحْرَقَ أَحَدٌ بِالنَّارِ ابْتِدَاءً , حَتَّى إذَا فَعَلَ الْمَرْءُ مِنْ ذَلِكَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ : وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ , كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ . وَذَكَرُوا - مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ { لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا } . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا أَبُو كَامِلٍ أَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بَشِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ { مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِنَفَرٍ قَدْ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا , إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : لَعَنَ اللَّهُ مَنْ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رضي الله عنه : وَنَحْنُ نَقُولُ : لَعَنَ اللَّهُ مَنْ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا إلَّا حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْقِصَاصِ , فَمَنْ اسْتَحَقَّ لَعْنَةَ اللَّهِ لِفِعْلِهِ ذَلِكَ , وَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى هُوَ بِهِ - وَهُمْ يُوَافِقُونَنَا فِي رَمْيِ الْعَدُوِّ بِالنَّبْلِ , وَالْمَجَانِيقِ , وَاِتِّخَاذِهِمْ غَرَضًا - وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ مَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . هَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقْتَلَ شَيْءٌ مِنْ الدَّوَابِّ صَبْرًا - وَقَدْ عَلِمْنَا : أَنَّ نَحْرَ الْإِبِلِ , وَذَبْحَ الْحَيَوَانِ , وَالْقَتْلَ بِالسَّيْفِ فِي الْقِصَاصِ : كُلُّ ذَلِكَ قَتْلُ صَبْرٍ , وَكُلُّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ قَتْلِ الصَّبْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَهَكَذَا سَائِرُ وُجُوهِ الْقِصَاصِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ , وَلَا فَرْقَ . وَذَكَرُوا - مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد أَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ أَنَا هُشَيْمٌ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ هَنِيءِ بْنِ نُوَيْرَةَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { أَعَفُّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رضي الله عنه : هَذَا وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ لَفْظُهُ , فَإِنَّ فِيهِ هَنِيءَ بْنَ نُوَيْرَةَ - وَهُوَ مَجْهُولٌ - فَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ , وَلَا أَعَفُّ قِتْلَةً مِمَّنْ قَتَلَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَاعْتَدَى بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى الْمُقْتَصُّ مِنْهُ عَلَى وَلِيِّهِ ظُلْمًا , وَمَا أَعَفُّ قَطُّ فِي قِتْلَةٍ مَنْ ضَرَبَ عُنُقَ مَنْ لَمْ يَضْرِبْ عُنُقَ وَلِيِّهِ , بَلْ هُوَ مُعْتَدٍ , ظَالِمٌ , فَاعِلٌ مَا لَمْ يُبِحْهُ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ . وَمَوَّهُوا أَيْضًا - بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنَ إسْحَاقَ الْقَاضِي أَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ أَنَا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ عَلَى حَمْزَةَ رضي الله عنه حِينَ اُسْتُشْهِدَ , فَذَكَرَ كَلَامًا - وَفِيهِ : أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ : وَاَللَّهِ , مَعَ ذَلِكَ , لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ مَكَانَكَ , فَنَزَلَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفٌ بَعْدُ بِخَوَاتِيمِ سُورَةِ النَّحْلِ { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رضي الله عنه : هَذَا لَوْ صَحَّ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَرِيقِ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ , وَيَحْيَى الْحِمَّانِيُّ , وَأَمْثَالِهِمَا : لَكَانَ حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ فِيهِ : أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ أَنْ يُعَاقِبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ - وَهَذِهِ إبَاحَةُ التَّمْثِيلِ بِمَنْ مَثَّلَ بِحَمْزَةَ - رضي الله عنه - فَإِنَّمَا نَهَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَنْ يُمَثِّلَ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ لَمْ يُمَثِّلُوا بِحَمْزَةَ - وَهَذَا قَوْلُنَا لَا قَوْلُهُمْ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رضي الله عنه : وَمَوَّهُوا بِخَبَرٍ سَاقِطٍ مَوْضُوعٍ , وَهُوَ - : مَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَسَدِ بْنِ مُوسَى عَنْ سُلَيْمَانِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ يُسْتَأْنَى بِالْجِرَاحِ سَنَةً } . وَأَسَدٌ ضَعِيفٌ , وَيَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ كَذَّابٌ . ثُمَّ هُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَا الْخَبَرِ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الِاسْتِيفَاءَ بِالْجِرَاحِ سَنَةً , فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّ مُسْلِمٌ , أَوْ مَنْ لَهُ حَيَاءٌ : أَنْ يَحْتَجَّ بِشَيْءٍ هُوَ أَوَّلُ مُبْطِلٍ لَهُ , وَأَوَّلُ مَنْ لَا يَرَى الْعَمَلَ بِمَا فِيهِ ؟ وَبِحَدِيثٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { لَا يُسْتَقَادُ مِنْ الْجُرْحِ حَتَّى يَبْرَأَ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ(2/108)
رضي الله عنه : هَذَا بَاطِلٌ ; لِأَنَّ عَنْبَسَةَ هَذَا مَجْهُولٌ - وَلَيْسَ هُوَ عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ; لِأَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ لَمْ يُدْرِكْهُ , بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِلَافُ هَذَا . كَمَا أَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَسُورِ قَالَ : أَنَا وَهْبُ بْنُ مَسَرَّةَ نا ابْنُ وَضَّاحٍ أَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ { : إنَّ رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَقِيدُ ؟ فَقِيلَ لَهُ : حَتَّى تَبْرَأَ , فَأَبَى وَعَجَّلَ فَاسْتَقَادَ , فَعَنِتَتْ رِجْلُهُ وَبَرِئَتْ رِجْلُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ , فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ لَهُ : لَيْسَ لَك شَيْءٌ إنَّكَ أَبَيْتَ } . فَصَحَّ أَنَّ تَعْجِيلَ الْقَوَدِ أَوْ تَأْخِيرَهُ إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ , فَهَذَا مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ . وَاحْتَجُّوا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ بِأَنْ قَالُوا : وَجَدْنَا مَنْ قَطَعَ يَدَ آخَرَ خَطَأً أَنَّهُ إنْ بَرِئَ فَلَهُ دِيَةُ الْيَدِ , وَإِنْ مَاتَ فَلَهُ دِيَةُ النَّفْسِ وَيَسْقُطُ حُكْمُ الْيَدِ , فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَمْدُ كَذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى الْخَطَأِ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رضي الله عنه : الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ , ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى نَظِيرِهِ , لَا عَلَى خِلَافِهِ وَضِدِّهِ , وَالْعَمْدُ ضِدُّ الْخَطَأِ , فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ , فَكَيْفَ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ ؟ وَقَالُوا : يَلْزَمُكُمْ إنْ رَمَى إنْسَانٌ آخَرَ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ أَنْ تَرْمُوهُ بِسَهْمٍ , فَإِنْ لَمْ يَمُتْ فَبِآخَرَ , ثُمَّ بِآخَرَ - وَكَذَلِكَ إنْ أَجَافَهُ أَنْ يُوَالِيَ عَلَيْهِ بِالْجَوَائِفِ حَتَّى يَمُوتَ - وَهَذَا أَكْثَرُ مِمَّا فَعَلَ , وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؟ فَقُلْنَا : هَذَا تَمْوِيهٌ فَاسِدٌ , وَكَلَامٌ مُحَالٌ , بَلْ يُطْعَنُ بِسَهْمٍ مِثْلِهِ , فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَادَفَ فِيهِ سَهْمُهُ ظُلْمًا حَتَّى يَمُوتَ , وَكَذَلِكَ يُجَافِ بِجَائِفَةٍ مُوقَنٌ أَنَّهُ يَمُوتُ مِنْهَا - وَلَا فَرْقَ . ثُمَّ نَعْكِسُ عَلَيْهِمْ هَذَا السُّؤَالَ , فَنَقُولُ لَهُمْ : إنْ ضُرِبَ بِالسَّيْفِ فِي عُنُقِهِ فَلَمْ يَقْطَعْ , أَوْ قَطَعَ قَلِيلًا فَأُعِيدَ عَلَيْهِ مِرَارًا - وَهَذَا أَشَدُّ مِمَّا قُلْتُمْ وَأَمْكَنُ - فَهُوَ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ يَقَعُ كَثِيرًا جِدًّا . وَقَالُوا : أَرَأَيْتُمْ إنْ اسْتَدْبَرَهُ بِالْأَوْتَارِ ؟ فَقُلْنَا : يَسْتَدْبِرُهُ بِمِثْلِهَا , وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ . فَقَالُوا : فَإِنْ نَكَحَهُ حَتَّى يَمُوتَ ؟ قُلْنَا : يَسْتَدْبِرُهُ بِوَتَدٍ حَتَّى يَمُوتَ ; لِأَنَّ الْمِثْلَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .
=============
. 2171 - مَسْأَلَةٌ : هَلْ تَسْقُطُ الْحُدُودُ بِالتَّوْبَةِ أَمْ لَا ؟(1)
__________
(1) - المحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 11 / ص 36) والمحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 11 / ص 36) والمحلى لابن حزم - (ج 7 / ص 83)(2/109)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : قَالَ قَوْمٌ : إنَّ الْحُدُودَ كُلَّهَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ - وَهَذِهِ رِوَايَةٌ رَوَاهَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ , قَالَهَا بِالْعِرَاقِ وَرَجَعَ عَنْهَا بِمِصْرَ - وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ : بِمَا نَاهٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ : { أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : أَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ , ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَجْمِهِ , فَلَمَّا مَسَّتْهُ الْحِجَارَةُ خَرَجَ يَشْتَدُّ , وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَنَسٍ مِنْ نَادِي قَوْمِهِ بِوَظِيفِ حِمَارٍ , فَضَرَبَهُ فَصَرَعَهُ , فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثَهُ بِأَمْرِهِ فَقَالَ أَلَا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ ؟ يَا هَذَا لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ } . حَدَّثَنَا حُمَامٌ ثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ نا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ نا عَمْرُو بْنُ حَمَّادِ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عَنْ أَبِيهِ : { أَنَّ امْرَأَةً وَقَعَ عَلَيْهَا رَجُلٌ فِي سَوَادِ الصُّبْحِ وَهِيَ تَعْمِدُ إلَى الْمَسْجِدِ عَنْ كُرْهِ نَفْسِهَا , فَاسْتَغَاثَتْ بِرَجُلٍ مَرَّ عَلَيْهَا وَفَرَّ صَاحِبُهَا , ثُمَّ مَرَّ عَلَيْهَا قَوْمٌ ذَوُو عَدَدٍ , فَاسْتَغَاثَتْ بِهِمْ , فَأَدْرَكُوا الَّذِي اسْتَغَاثَتْ بِهِ , وَسَبَقَهُمْ الْآخَرُ , فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْهُ : أَنَّهُ وَقَعَ عَلَيْهَا , وَأَخْبَرَهُ الْقَوْمُ : أَنَّهُمْ أَدْرَكُوهُ يَشْتَدُّ , فَقَالَ : إنَّمَا كُنْتُ أَغَثْتُهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَأَدْرَكَنِي هَؤُلَاءِ فَأَخَذُونِي , قَالَتْ : كَذَبَ , هُوَ الَّذِي وَقَعَ عَلَيَّ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ النَّاسِ فَقَالَ : لَا تَرْجُمُوهُ وَارْجُمُونِي أَنَا الَّذِي فَعَلْتُ بِهَا الْفِعْلَ , فَاعْتَرَفَ , فَاجْتَمَعَ ثَلَاثَةٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهَا , وَاَلَّذِي أَغَاثَهَا , وَالْمَرْأَةُ , فَقَالَ أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ , وَقَالَ لِلَّذِي أَغَاثَهَا قَوْلًا حَسَنًا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَرْجُمُ الَّذِي اعْتَرَفَ بِالزِّنَى ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا , إنَّهُ قَدْ تَابَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى زَادَ ابْنُ عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ لَوْ تَابَهَا أَهْلُ مَدِينَةِ يَثْرِبَ لَقُبِلَ مِنْهُمْ } . نا أَبُو عُمَرَ أَحْمَدُ بْنُ قَاسِمٍ نا أَبِي قَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَاسِمٍ نا جَدِّي قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ نا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ نا أَبُو النَّضْرِ نا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِي مَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ الْهُذَلِيِّ عَنْ { وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنِّي أَصَبْتُ حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى , فَأَعْرَضَ عَنْهُ , ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ قَالَهَا الثَّالِثَةَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ , ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ , فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ أَتَى الرَّابِعَةَ , فَقَالَ : أَصَبْت حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَأَقِمْ فِي حَدَّ اللَّهِ قَالَ : أَلَمْ تُحْسِنْ الطُّهُورَ - أَوْ الْوُضُوءَ - ثُمَّ شَهِدْتَ الصَّلَاةَ مَعَنَا آنِفًا ؟ اذْهَبْ فَهِيَ كَفَّارَتُكَ } . وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ ثنا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ نا شَدَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ { الْبَاهِلِيِّ قَالَ كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : إنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْ عَلَيَّ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ خَرَجَ - وَمَعَهُ الرَّجُلُ - وَتَبِعْتُهُ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِمْ عَلَيَّ حَدِّي فَإِنِّي أَصَبْتُهُ , فَقَالَ : أَلَيْسَ حِينَ خَرَجْتَ مِنْ مَنْزِلِكَ تَوَضَّأْتَ فَأَحْسَنْتَ الْوُضُوءَ وَشَهِدْتَ مَعَنَا الصَّلَاةَ ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ - أَوْ حَدَّكَ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ - وَفِيهِ " إنِّي زَنَيْت " كَمَا ثنا الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ الْأَسَدِيُّ التَّمِيمِيُّ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْأَصِيلِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الصَّوَّافُ نا أَحْمَدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ رَوْحٍ الْبَرْذَنْجِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْوَاسِطِيُّ(2/110)
نا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنِّي زَنَيْتُ فَأَقِمْ عَلَيَّ الْحَدَّ , ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ , فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَفَّرَ عَنْكَ بِصَلَاتِكَ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله وَقَالُوا : قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا } الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } قَالُوا : فَصَحَّ النَّصُّ مِنْ الْقُرْآنِ وَصَحَّ الْإِجْمَاعُ بِأَنَّ حَدَّ الْمُحَارَبَةِ تُسْقِطُهُ التَّوْبَةُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ , فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْحُدُودِ مِنْ : الزِّنَى , وَالسَّرِقَةِ , وَالْقَذْفِ , وَشُرْبِ الْخَمْرِ كَذَلِكَ , لِأَنَّهَا كُلَّهَا حُدُودٌ وَقَعَتْ التَّوْبَةُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَهْلِهَا . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : هَذَا كُلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ , وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُسْقِطُ الْحُدُودَ . وَاحْتَجُّوا : بِمَا ناه حُمَامٌ نا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ نا بَكْرُ - هُوَ ابْنُ حَمَّادٍ - نا مُسَدَّدٌ نا يَحْيَى - هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ - عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ نا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ حَدَّثَهُ { أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حُبْلَى مِنْ الزِّنَا فَقَالَتْ : إنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ , فَدَعَا وَلِيَّهَا فَقَالَ أَحْسِنْ إلَيْهَا فَإِذَا وَضَعَتْ فَأْتِنِي بِهَا فَفَعَلَ فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا , فَقَالَ عُمَرُ : تُصَلِّي عَلَيْهَا وَقَدْ زَنَتْ ؟ فَقَالَ : لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ , هَلْ وَجَدْتَ شَيْئًا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا ؟ } . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى نا دَاوُد بْنُ أَبِي نَضْرَةَ { عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُ : مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إنِّي أَصَبْتُ فَاحِشَةً فَأَقِمْهُ عَلَيَّ فَرَدَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِرَارًا ثُمَّ سَأَلَ قَوْمَهُ ؟ فَقَالُوا : مَا نَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا - فَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ وَفِيهِ - فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَرْجُمَهُ , فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ : قَائِلٌ يَقُولُ : هَلَكَ , لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ , وَقَائِلٌ يَقُولُ : مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلُ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ , إنَّهُ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ فَقَالَ : اُقْتُلْنِي بِالْحِجَارَةِ , قَالَ : فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ - أَوْ ثَلَاثَةً - ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ جُلُوسٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ ؟ فَقَالُوا : غَفَرَ اللَّهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ } . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ نا بَشِيرُ بْنُ الْمُهَاجِرِ نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي قَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَزَنَيْتُ وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي , فَرَدَّهُ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ - فَجَاءَتْ الْغَامِدِيَّةُ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي , وَأَنَّهُ رَدَّهَا , فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا ؟ فَوَاَللَّهِ إنِّي لَحُبْلَى , قَالَ أَمَّا الْآنَ فَاذْهَبِي وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ - فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ - وَفِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ - فَقَالَتْ : هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ , وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ , فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ إلَى صَدْرِهَا وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا - فَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَرَمَى رَأْسَهَا فَنَضَحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ , فَسَبَّهَا , فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَّهُ إيَّاهَا , فَقَالَ : مَهْلًا يَا خَالِدُ , فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ , ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ } . قَالُوا :(2/111)
فَهَذَا مَاعِزٌ قَدْ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ قَبْلَ الرَّجْمِ بِإِخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ , وَبِأَنَّهَا مَقْبُولَةٌ - وَهَذِهِ الْغَامِدِيَّةُ , وَالْجُهَيْنِيَّةُ رضي الله عنهما - قَدْ تَابَتَا أَتَمَّ تَوْبَةٍ وَأَصَحَّهَا , مَقْبُولَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِإِخْبَارِ النَّبِيِّ عليه السلام وَلَمْ تُسْقِطْ هَذِهِ التَّوْبَةُ عَنْهُمْ الْحَدَّ . قَالُوا : وَكَذَلِكَ أَيْضًا { حَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ - رضي الله عنها ؟ } قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَلَمَّا اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ - كَمَا ذَكَرْنَا - وَجَبَ أَنْ نَنْظُرَ فِي ذَلِكَ لِنَعْلَمَ الْحَقَّ مِنْ ذَلِكَ [ فَنَتْبَعَهُ ] بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنِّهِ : فَنَظَّرْنَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ مَنْ رَأَى الْحُدُودَ سَاقِطَةً بِالتَّوْبَةِ . فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ , فَوَجَدْنَاهُ مُرْسَلًا , فَسَقَطَ التَّعَلُّقُ بِهِ . ثُمَّ نَظَرْنَا فِي حَدِيث عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ , فَوَجَدْنَاهُ لَا يَصِحُّ , لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ وَهُوَ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ , شَهِدَ بِذَلِكَ شُعْبَةُ , وَغَيْرُهُ , فَسَقَطَ . ثُمَّ نَظَرْنَا فِي حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ , فَوَجَدْنَا الْأَوَّلَ مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ , وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ . وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَاهِلِيِّ , فَوَجَدْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ , وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا . فَإِنْ قِيلَ : وَقَدْ رَوَيْتُمُوهُ بِأَنَّ فِيهِ زَيْنَبَ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ , وَفِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ رِجَالُهُ , ثُمَّ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ دُونَ عِلَّةٍ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ , لِأَنَّ فِيهِ وُجُوهًا تَمْنَعُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ : أَحَدُهَا - أَنَّ مُمْكِنًا أَنْ يَكُونَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ حَدِّ الزِّنَى ثُمَّ نَزَلَ حَدُّ الزِّنَى فَكَانَ الْحُكْمُ لِإِيجَابِ الْحَدِّ . فَإِنْ قِيلَ : وَمُمْكِنٌ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ نُزُولِ حَدِّ الزِّنَى ثُمَّ نَزَلَ حَدُّ الزِّنَى فَكَانَ الْحُكْمُ لَهُ وَيَكُونُ نَاسِخًا لِمَا فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ , وَالْغَامِدِيَّةِ وَالْجُهَيْنِيَّةِ ؟ قُلْنَا : إنَّ الْوَاجِبَ إذَا تَعَارَضَتْ الْأَخْبَارُ أَنْ يُؤْخَذَ بِالزَّائِدِ وَالزَّائِدُ : هُوَ الَّذِي جَاءَ بِحُكْمٍ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فِي مَعْهُودِ الْأَصْلِ , وَكَانَ مَعْهُودُ الْأَصْلِ بِلَا شَكٍّ : أَنْ لَا حَدَّ عَلَى أَحَدٍ - تَائِبًا كَانَ أَوْ غَيْرَ تَائِبٍ - فَجَاءَ النَّصُّ : بِإِيجَابِ الْحُدُودِ جُمْلَةً , وَكَانَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ زَائِدَةً عَلَى مَعْهُودِ الْأَصْلِ , وَجَاءَ حَدِيثُ مَاعِزٍ , وَالْغَامِدِيَّةِ , وَالْجُهَيْنِيَّةِ , فَكَانَ مَا فِيهَا مِنْ إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى التَّائِبِ زَائِدًا عَلَى مَا فِي الْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ إسْقَاطُ الْحَدِّ عَنْ التَّائِبِ - هَذَا لَوْ كَانَ فِي حَدِيثِهِمْ أَنَّ الْحَدَّ سَقَطَ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ , فَكَيْفَ وَلَيْسَ هَذَا فِيهِ ؟ وَإِنَّمَا فِيهِ إسْقَاطُ الْحَدِّ بِصَلَاتِهِ فَقَطْ , وَهَذَا مَا لَا يَقُولُونَهُ [ بَلْ هُمْ يُخَالِفُونَ لِهَذَا الْحُكْمِ ] فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ , وَبِتِلْكَ الْأَخْبَارِ جُمْلَةً - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . فَإِنْ قَالُوا : هَبْكُمْ أَنَّ حَدَّ الزِّنَى قَدْ وَجَدْتُمْ فِيهِ , وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ : إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى مَنْ تَابَ , فَمِنْ أَيْنَ لَمْ تُسْقِطُوا حَدَّ السَّرِقَةِ , وَحَدَّ الْخَمْرِ بِالتَّوْبَةِ ؟ وَلَا نَصَّ مَعَكُمْ فِي إقَامَتِهَا عَلَى التَّائِبِ مِنْهَا ؟ قُلْنَا : إنَّ النَّصَّ قَدْ وَرَدَ جُمْلَةً بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي السَّرِقَةِ , وَالْخَمْرِ , وَالزِّنَى , وَالْقَذْفِ , وَلَمْ يَسْتَثْنِ اللَّهُ تَعَالَى تَائِبًا مِنْ غَيْرِ تَائِبٍ , وَلَمْ يَصِحَّ نَصٌّ أَصْلًا بِإِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ التَّائِبِ , فَإِذَا الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ أَنْ يُخَصَّ التَّائِبُ مِنْ عُمُومِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ بِالرَّأْيِ , وَالْقِيَاسِ دُونَ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ , فَهَذِهِ عُمْدَتُنَا فِي إقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى التَّائِبِ وَغَيْرِ التَّائِبِ . وَإِنَّمَا حَدِيثُ مَاعِزٍ , وَالْغَامِدِيَّةِ , وَالْجُهَيْنِيَّةِ : مُؤَيِّدٌ لِقَوْلِنَا فِي ذَلِكَ فَقَطْ , وَلَوْ لَمْ يَأْتِ مَا احْتَجْنَا إلَيْهَا مَعَ الْأَوَامِرِ الْوَارِدَةِ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . وَقَوْلِهِ عليه السلام { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ , وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ } . وَمَعَ قوله تعالى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } . وَمَعَ قوله تعالى { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } . وَمَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ } الْحَدِيثَ . فَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ مِمَّا أَمَرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ تَائِبًا مِنْ غَيْرِهِ { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } . ثُمَّ نَظَرْنَا(2/112)
أَيْضًا فِي احْتِجَاجِهِمْ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ بِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ عَذَابَ الْآخِرَةِ - وَهُوَ الْعَذَابُ الْأَكْبَرُ - فَإِذَا أَسْقَطَتْ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ فَأَحْرَى وَأَوْجَبُ أَنْ تُسْقِطَ الْعَذَابَ الْأَقَلَّ , الَّذِي هُوَ الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا فَوَجَدْنَا هَذَا كُلَّهُ لَازِمًا لِكُلِّ مَنْ ذَكَرْنَا , لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ - بِزَعْمِهِمْ - وَلَوْ صَحَّ قِيَاسٌ يَوْمًا مَا مِنْ الدَّهْرِ لَكَانَتْ هَذِهِ الْمَقَايِيسُ أَصَحَّ قِيَاسٍ فِي الْعَالَمِ . وَأَيْنَ هَذَا مِنْ قِيَاسِهِمْ الْفَاسِدِ : الْحَدِيدُ عَلَى الذَّهَبِ فِي الرِّبَا , وَغَزْلُ الْقُطْنِ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الرِّبَا , وَقِيَاسِهِمْ فَرْجَ الزَّوْجَةِ عَلَى يَدِ السَّارِقِ , وَسَائِرِ قِيَاسَاتِهِمْ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَا تُعْقَلُ . وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا يَلْزَمُنَا هَذَا , لِأَنَّ الْقِيَاسَ كُلَّهُ بَاطِلٌ لَا يَحِلُّ الْقَوْلُ بِشَيْءٍ مِنْهُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَعَذَابُ الْآخِرَةِ غَيْرُ عَذَابِ الدُّنْيَا , وَلَيْسَ إذَا سَقَطَ أَحَدُهُمَا وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ الْآخَرُ , إذْ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ نَصُّ قُرْآنٍ , وَلَا سُنَّةٍ , وَلَا إجْمَاعٍ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَعَاصِي لَيْسَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا حَدٌّ , كَالْغَصْبِ - وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ : يَا كَافِرُ - وَكَأَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ , وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ - وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجِبِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا فِي الْآخِرَةِ عِقَابٌ , بَلْ فِيهَا أَعْظَمُ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ . فَصَحَّ أَنَّ أَحْكَامَ الدُّنْيَا غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِأَحْكَامِ الْآخِرَةِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَدْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } إلَى قوله تعالى : { غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَوَجَدْنَاهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُسْقِطْ الْحَدَّ بِالتَّوْبَةِ مُطْلَقَةً , وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ ( إلَّا الَّذِينَ تَابُوا ) وَلَمْ يَقُلْ " مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ " فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى { مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } بَيَّنَ لَنَا تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ بَعْدِ الْجَلْدِ ثَمَانِينَ , وَاسْتِحْقَاقُ اسْمِ الْفُسُوقِ , وَرَدُّ الشَّهَادَةِ , لَا قَبْلَ الْجَلْدِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ , فَإِنَّمَا سَقَطَ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ الْجَلْدِ مَا عَدَا الْجَلْدَ , لِأَنَّ الْجَلْدَ قَدْ نَفَذَ فَلَا يَسْقُطُ بَعْدَهُ بِالتَّوْبَةِ إلَّا الْفِسْقُ , وَحُكْمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ فَقَطْ . وَأَيْضًا : فَبَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ جَلَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِسْطَحَ بْنِ أُثَاثَةَ , وَحَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ , وَحَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ - فَبَطَلَ التَّعَلُّقُ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ بِالتَّوْبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ . وَصَحَّ أَنَّهُ إنَّمَا سَقَطَ بِهَا مَا عَدَا الْحَدَّ - وَهُوَ الْفِسْقُ , وَرَدُّ الشَّهَادَةِ فَقَطْ - فَبَطَلَ كُلُّ مَا شَغَبَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ بِهِ - وَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ شَيْءٌ مِنْ الْحُدُودِ , حَاشَا حَدِّ الْحِرَابَةِ الَّذِي وَرَدَ النَّصُّ بِسُقُوطِهَا بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَقَطْ - وَأَمَّا بِالتَّوْبَةِ الْكَائِنَةِ مِنْهُمْ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ , أَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ , فَلَا يَسْقُطُ بِذَلِكَ عَنْهُمْ حَدُّ الْمُحَارَبَةِ أَصْلًا , لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُسْقِطْ الْحَدَّ عَنْهُمْ إلَّا بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَقَطْ , وَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى إنْفَاذِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِيهِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . قَالَ عَلِيٌّ رحمه الله : وَالدَّلِيلُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِحَدٍّ وَلَمْ يَقُلْ مَا هُوَ ؟ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ أَصْلًا كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ قَالَ : عَلَيَّ حَدٌّ فِيهِ الْجَلْدُ فَقَطْ : لَمْ يَقُمْ أَيْضًا جَلْدٌ , لِأَنَّهُ قَدْ يُظَنُّ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ أَنَّهُ حَدٌّ يُوجِبُ جَلْدًا - وَلَيْسَ كَمَا يُظَنُّ - فَإِذْ هُوَ مُمْكِنٌ فَلَا يَحِلُّ لَنَا بَشَرَتُهُ بِإِحْلَالِهِ لَنَا إيَّاهَا , لِأَنَّ تَحْرِيمَ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا قَبْلَ إحْلَالِهِ الْفَاسِدِ . وَلَوْ أَنَّ امْرَأً قَالَ لِآخَرَ : اضْرِبْنِي فَقَدْ أَحْلَلْت لَك بَشَرَتِي ؟ لَمْ يَحِلَّ ضَرْبُهُ أَصْلًا , لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحِلَّ مِنْ نَفْسِهِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا , وَلَا أَنْ يُحَرِّمَ مِنْهَا مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَلَوْ قَالَ مَنْ صَحَّ عَلَيْهِ الْجَلْدُ فِي الْقَذْفِ , أَوْ الزِّنَى , أَوْ الْخَمْرِ : قَدْ حَرَّمْت عَلَيْكُمْ بَشَرَتِي , لَكَانَ كَلَامُهُ هَذْرًا وَلَغْوًا . وَكَذَلِكَ لَوْ أَحَلَّ لِآخَرَ قَتْلَ نَفْسِهِ أَوْ قَطْعَ يَدِهِ أَوْ أَحَلَّتْ الْمَرْأَةُ فَرْجَهَا لِأَجْنَبِيٍّ . أَوْ حَرَّمَ الرَّجُلُ فَرْجَهُ عَلَى امْرَأَتِهِ , أَوْ حَرَّمَتْ هِيَ فَرْجَهَا عَلَيْهِ , لَكَانَ(2/113)
كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلًا , وَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ رَسُولُهُ عليه السلام , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } فَإِنْ قَالَ عَلَيَّ لِلَّهِ تَعَالَى حَدٌّ يُوجِبُ : إمَّا زِنًا , وَإِمَّا قَذْفًا , وَإِمَّا شُرْبَ خَمْرٍ , فَهَذَا لَمْ يُحَقِّقْ وَلَا أَقَرَّ إقْرَارًا صَحِيحًا - وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا حَدُّ الْخَمْرِ , لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْحُدُودِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ بِيَقِينٍ . وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَزْدَادَ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِالشَّكِّ , فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْلَدَ شَيْئًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَا هُوَ الْحَدُّ الَّذِي عَلَيْهِ , وَيَصِفَهُ وَصَفًّا تَامًّا .
=============
المحاربين (1)
__________
(1) - المحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 11 / ص 533) والمحلى لابن حزم - (ج 7 / ص 256)(2/114)
حَدَّثَنَا حُمَامٌ نا ابْنُ مُفَرِّجٍ نا الْحَسَنُ بْنُ سَعْدٍ نا أَبُو يَعْقُوبِ الدَّبَرِيُّ نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ , وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ , قَالَا جَمِيعًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } قَالَ : هَذِهِ الْآيَةُ فِي اللِّصِّ الَّذِي يَقْطَعُ الطَّرِيقَ فَهُوَ مُحَارِبٌ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ : فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : حَيْثُمَا قَطَعَ الطَّرِيقَ فِي مِصْرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ مُحَارِبٌ : كَمَا كَتَبَ إلَيَّ أَبُو الْمُرَجَّى بْنُ ذَرْوَانَ الْمِصْرِيُّ نا أَبُو الْحَسَنِ الرَّحَبِيُّ نا مُسْلِمٌ الْكَاتِبُ نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُغَلِّسِ قَالَ : ذَكَرَ وَكِيعٌ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ : سَأَلْت الْحَسَنَ عَنْ رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا بِالسَّيْفِ بِالْبَصْرَةِ ؟ قَالَ : كَانُوا يَقُولُونَ : مَنْ شَهَرَ السِّلَاحَ فَهُوَ مُحَارِبٌ . حَدَّثَنَا حُمَامٌ نا ابْنُ مُفَرِّجٍ نا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ نا الدَّبَرِيُّ نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الزُّبَيْرِ قَالَ طَاوُسٌ : سَمِعْته يَقُولُ : مَنْ رَفَعَ السِّلَاحَ ثُمَّ وَضَعَهُ : مُحَارِبٌ , فَدَمُهُ هَدَرٌ - قَالَ : وَكَانَ طَاوُسٌ يَرَى هَذَا أَيْضًا . حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَمَةَ الْكِنَانِيُّ نا أَحْمَدُ بْنُ خَلِيلٍ نا خَالِدُ بْنُ سَعْدٍ نا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ نا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ بْنِ بَادِي الْعَلَّافُ - فَقِيهُ أَهْلِ مِصْرَ - نا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ نا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ ني عَلْقَمَةُ بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ أُمِّهِ : { أَنَّ غُلَامًا كَانَ لِبَانِي , فَكَانَ بَانِي يَضْرِبُهُ فِي أَشْيَاءَ يُعَاقِبُهُ فِيهَا , فَكَانَ الْغُلَامُ يُعَادِي سَيِّدَهُ , فَبَاعَهُ بَانِي , فَلَقِيَهُ الْغُلَامُ يَوْمًا وَمَعَ الْغُلَامِ سَيْفٌ يَحْمِلُهُ وَذَلِكَ فِي إمْرَةِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ - فَشَهَرَ الْغُلَامُ السَّيْفَ عَلَى بَانِي وَتَفَلَّتَ بِهِ عَلَيْهِ , فَأَمْسَكَهُ عَنْهُ النَّاسُ , فَدَخَلَ بَانِي عَلَى عَائِشَةَ فَأَخْبَرَهَا بِمَا فَعَلَ بِهِ الْعَبْدُ , فَقَالَتْ عَائِشَةُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَنْ أَشَارَ بِحَدِيدَةٍ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ قَتْلَهُ فَقَدْ وَجَبَ دَمُهُ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ , وَفِيهِ : أَنَّ الْغُلَامَ قُتِلَ . حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْعُودٍ نا أَحْمَدُ بْنُ دُحَيْمٍ نا حَمَّادُ بْنُ إبْرَاهِيمَ نا إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَدِينِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُقَدَّمٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ - جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إذَا تَسَوَّرَ عَلَيْهِمْ فِي بُيُوتِهِمْ بِالسِّلَاحِ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ . وَبِهِ - إلَى إسْمَاعِيلَ نا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ نا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : إذَا طَرَقَك اللِّصُّ بِاللَّيْلِ فَهُوَ مُحَارِبٌ . وَبِهِ إسْمَاعِيلُ نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ سَوَّارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : إذَا دَخَلَ عَلَيْك وَمَعَهُ حَدِيدَةٌ فَهُوَ مُحَارِبٌ . قَالَ إسْمَاعِيلُ : ونا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ نا حَرْبُ بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : إذَا طَرَقَك اللِّصُّ بِاللَّيْلِ فَهُوَ مُحَارِبٌ . وَبِهَذَا يَأْخُذُ الشَّافِعِيُّ , وَأَبُو سُلَيْمَانَ , وَأَصْحَابُهُمَا . وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ , فَمَرَّةً قَالَ : لَا تَكُونُ الْمُحَارَبَةُ إلَّا فِي الصَّحْرَاءِ وَمَرَّةً قَالَ : تَكُونُ الْمُحَارَبَةُ فِي الصَّحْرَاءِ , وَفِي الْأَمْصَارِ . وَقَالَ سُفْيَانُ : لَا تَكُونُ الْمُحَارَبَةُ إلَّا فِي الصَّحْرَاءِ . قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَأَصْحَابُهُ : لَا تَكُونُ الْمُحَارَبَةُ فِي مَدِينَةٍ , وَلَا فِي مِصْرٍ , وَلَا بِقُرْبِ مَدِينَةٍ , وَلَا بِقُرْبِ مِصْرٍ وَلَا بَيْنَ مَدِينَتَيْنِ , وَلَا بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ - ثُمَّ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : إذْ كَابَرُوا أَهْلَ مَدِينَةٍ لَيْلًا , كَانُوا فِي حُكْمِ الْمُحَارَبَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَنْ شَهَرَ عَلَى آخَرَ سِلَاحًا - لَيْلًا أَوْ نَهَارًا - فَقَتَلَهُ الْمَشْهُورُ عَلَيْهِ عَمْدًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ , فَإِنْ شَهَرَ عَلَيْهِ عَصًا نَهَارًا فِي مِصْرٍ فَقَتَلَهُ عَمْدًا قُتِلَ بِهِ - وَإِنْ كَانَ فِي اللَّيْلِ فِي مِصْرٍ , أَوْ فِي مَدِينَةٍ , أَوْ فِي طَرِيقٍ فِي غَيْرِ مَدِينَةٍ , فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَلَمَّا اخْتَلَفُوا كَمَا ذَكَرْنَا وَجَبَ أَنْ نَطْلُبَ الْحَقَّ مِنْ أَقْوَالِهِمْ , لِنَعْلَمَ الصَّوَابَ فَنَتَّبِعُهُ - بِمَنِّ اللَّهِ تَعَالَى - فَنَظَرْنَا فِيمَا تَحْتَجُّ بِهِ كُلُّ طَائِفَةٍ لِقَوْلِهَا : فَنَظَرْنَا فِيمَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُحَارِبَ لَا يَكُونُ إلَّا مُشْرِكًا أَوْ مُرْتَدًّا , فَوَجَدْنَاهُمْ يَذْكُرُونَ(2/115)
: مَا نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيّ , أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ : زَانٍ مُحْصَنٌ , يُرْجَمُ , أَوْ رَجُلٌ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا , فَيُقْتَلُ - أَوْ رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ الْإِسْلَامِ فَيُحَارِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ , فَيُقْتَلُ أَوْ يُصَلَّبُ أَوْ يُنْفَى مِنْ الْأَرْضِ } . وَبِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ آنِفًا مِنْ قَوْلِهِ : مَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَارَبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَشْرَكَ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَنَظَرْنَا فِيمَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ فَوَجَدْنَا الْخَبَرَ الْمَذْكُورَ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ - وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ . وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ " مَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَارَبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَشْرَكَ " فَإِنَّ مُحَارَبَةَ اللَّهِ تَعَالَى , وَمُحَارَبَةَ رَسُولِهِ - عليه السلام - تَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - مِنْ مُسْتَحِلٍّ لِذَلِكَ , فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا , لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ إلَّا مِمَّنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ - وَتَكُونُ مِنْ فَاسِقٍ عَاصٍ مُعْتَرِفٍ بِجُرْمِهِ , فَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا , لَكِنْ كَسَائِرِ الذُّنُوبِ , مِنْ الزِّنَا , وَالْقَتْلِ , وَالْغَصْبِ , وَشُرْبِ الْخَمْرِ , وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ , وَالْمَيْتَةِ , وَالدَّمِ , وَتَرْكِ الصَّلَاةِ , وَتَرْكِ الزَّكَاةِ , وَتَرْكِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ , وَتَرْكِ الْحَجِّ : فَهَذَا لَا يَكُونُ كَافِرًا , لِمَا قَدْ تَقَصَّيْنَاهُ فِي " كِتَابِ الْفَصْلِ " وَغَيْرِهِ . وَيَجْمَعُ الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ فَاعِلُ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْعَظَائِمِ كَافِرًا بِفِعْلِهِ ذَلِكَ , لَكَانَ مُرْتَدًّا بِلَا شَكٍّ , وَلَوْ كَانَ بِذَلِكَ مُرْتَدًّا لَوَجَبَ قَتْلُهُ , لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ مَنْ ارْتَدَّ , وَبَدَّلَ دِينَهُ - وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَنْ عَصَى بِغَيْرِ الْكُفْرِ لَا يَكُونُ مُحَارِبًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ عليه السلام قُلْنَا لَهُ : وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } الْآيَةَ . كَتَبَ إلَيَّ أَبُو الْمُرَجَّى بْنُ ذَرْوَانَ قَالَ : نا أَبُو الْحَسَنِ الرَّحَبِيُّ نا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَاتِبُ نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُغَلِّسِ نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ نا أَبِي نا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ الْخَيَّاطُ نا عَبْدُ الْوَاحِدِ - مَوْلَى عُرْوَةَ - عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ , قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ اسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي } . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } إلَى قَوْلِهِ { فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ } فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ عَاصٍ مُحَارِبًا , وَلَا كُلُّ مُحَارِبٍ كَافِرًا , ثُمَّ نَظَرْنَا فِي ذَلِكَ أَيْضًا , فَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ فِي الْمُحَارِبِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقَتْلِ , أَوْ الصَّلْبِ , أَوْ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مِنْ خِلَافٍ , أَوْ النَّفْيِ مِنْ الْأَرْضِ - وَإِسْقَاطُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ , فَلَوْ كَانَ الْمُحَارِبُ الْمَأْمُورُ فِيهِ بِهَذِهِ الْأَوَامِرِ كَافِرًا : لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ , لَا رَابِعَ لَهَا : إمَّا أَنْ يَكُونَ حَرْبِيًّا مُذْ كَانَ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا فَنَقَضَ الذِّمَّةَ وَحَارَبَ فَصَارَ حَرْبِيًّا . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ إلَى الْكُفْرِ . لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ ضَرُورَةً , وَلَا يُمْكِنُ - وَلَا يُوجَدُ غَيْرُهَا , فَلَوْ كَانَ حَرْبِيًّا مُذْ كَانَ , فَلَا يَخْتَلِفُ مِنْ الْأُمَّةِ اثْنَانِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ هَذَا حُكْمُ الْحَرْبِيِّينَ - وَإِنَّمَا حُكْمُ الْحَرْبِيِّينَ الْقَتْلُ فِي اللِّقَاءِ كَيْفَ أَمْكَنَ حَتَّى يُسْلِمُوا , أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ , وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ كِتَابِيًّا - فِي قَوْلِنَا وَقَوْلِ طَوَائِفَ مِنْ النَّاسِ . أَوْ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَيِّ دِينٍ كَانَ مَا لَمْ يَكُنْ عَرَبِيًّا فِي قَوْلِ غَيْرِنَا . أَوْ يُؤْسَرَ فَيَكُونُ حُكْمُهُ ضَرْبَ الْعُنُقِ فَقَطْ بِلَا خِلَافٍ , كَمَا(2/116)
قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ , وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ , وَبَنِي قُرَيْظَةَ , وَغَيْرَهُمْ , أَوْ يُسْتَرَقَّ , أَوْ يُطْلَقَ إلَى أَرْضِهِ , كَمَا أَطْلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَامَةَ بْنَ أَثَالٍ الْحَنَفِيَّ , وَأَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ وَغَيْرَهُمَا . أَوْ يُفَادَى بِهِ - كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } . أَوْ نُطْلِقَهُمْ أَحْرَارًا ذِمَّةً , كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَهْلِ خَيْبَرَ . فَهَذِهِ أَحْكَامُ الْحَرْبِيِّينَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ , وَالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ , وَالْإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ , وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ الصَّلْبُ , وَلَا قَطْعُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ , وَلَا النَّفْيُ , مِنْ أَحْكَامِهِمْ . فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُحَارِبُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ حَرْبِيًّا كَافِرًا وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَنَقَضَ الْعَهْدَ فَلِلنَّاسِ فِيهِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ لَا رَابِعَ لَهَا : أَحَدُهَا - أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إلَى حُكْمِ الْحَرْبِيِّينَ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا . وَالثَّانِي - أَنَّهُ مُحَارِبٌ حَتَّى يُقْدَرَ عَلَيْهِ فَيُرَدَّ إلَى ذِمَّتِهِ كَمَا كَانَ وَلَا بُدَّ . وَالثَّالِثُ - أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ . وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُ النَّاسِ بَيْنَ الذِّمِّيِّ يَنْقُضُ الْعَهْدَ فَيَصِيرُ حَرْبِيًّا وَبَيْنَ الذِّمِّيِّ يُحَارِبُ فَيَكُونُ لَهُ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْمُحَارِبِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ , لَا حُكْمُ الْحَرْبِيِّ فَصَحَّ بِلَا خِلَافٍ أَنَّ الذِّمِّيَّ النَّاقِضَ لِذِمَّتِهِ الْمُنْتَقِلَ إلَى حُكْمِ أَهْلِ الْحَرْبِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْمُحَارِبِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ بِلَا خِلَافٍ . وَبَيَّنَ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } إلَى قَوْلِهِ : { لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقِتَالِهِمْ إذَا نَكَثُوا عَهْدَهُمْ حَتَّى يَنْتَهُوا - وَهَذَا عُمُومٌ يُوجِبُ الِانْتِهَاءَ عَنْ كُلِّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الضَّلَالِ , وَهَذَا يَقْتَضِي - وَلَا بُدَّ - أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ وَحْدَهُ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } انْتِهَاءٌ دُونَ انْتِهَاءٍ , فَيَكُونُ فَاعِلُ ذَلِكَ قَائِلًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ , وَهَذَا حَرَامٌ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } . وَإِنْ كَانَ الْمُحَارِبُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مُرْتَدًّا عَنْ إسْلَامِهِ , فَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُكْمَ الْمُرْتَدِّ بِقَوْلِهِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . وَبَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } . فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ حُكْمَ الْمُرْتَدِّ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ , وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - عليه السلام - هُوَ غَيْرُ حُكْمِهِ تَعَالَى فِي الْمُحَارِبِ ؟ فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ الْمُحَارِبَ لَيْسَ مُرْتَدًّا . وَأَيْضًا - فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْأُمَّةِ فِي أَنَّ حُكْمَ الْمُرْتَدِّ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ لَيْسَ هُوَ الصَّلْبُ , وَلَا قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ , وَلَا النَّفْيُ مِنْ الْأَرْضِ ؟ فَصَحَّ بِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُحَارِبَ لَيْسَ كَافِرًا أَصْلًا , إذْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْكُفْرِ , وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ الْكُفَّارِ : حُكْمُ الْمُحَارِبِ . وَالرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهَا الْحَسَنُ بْنُ وَاقِدٍ - وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ - وَهُوَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا مُسْنَدًا , فَإِذْ قَدْ صَحَّ مَا ذَكَرْنَا يَقِينًا فَقَدْ ثَبَتَ بِلَا شَكٍّ أَنَّ الْمُحَارِبَ إنَّمَا هُوَ مُسْلِمٌ عَاصٍ , فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ فَالْوَاجِبُ : أَنْ نَنْظُرَ مَا الْمَعْصِيَةُ الَّتِي بِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَارِبًا ؟ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمُ الْمُحَارِبِ فَنَظَرْنَا فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي مِنْ الزِّنَا , وَالْقَذْفِ , وَالسَّرِقَةِ , وَالْغَصْبِ , وَالسِّحْرِ , وَالظُّلْمِ , وَشُرْبِ الْخَمْرِ , وَالْمُحَرَّمَاتِ , أَوْ أَكْلِهَا , وَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ , وَالزِّنَا , وَغَيْرِ ذَلِكَ - فَوَجَدْنَا جَمِيعَ هَذِهِ الْمَعَاصِي لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ جَاءَ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ فِي أَنَّهُ مُحَارِبٌ , فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ شَيْءٍ مِنْهَا مُحَارِبًا . وَأَيْضًا فَإِنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي - الَّتِي ذَكَرْنَا وَاَلَّتِي لَمْ نَذْكُرْ - لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا : إمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَصٌّ بِحَدٍّ مَحْدُودٍ أَوْ لَا يَكُونَ فِيهَا نَصٌّ بِحَدٍّ مَحْدُودٍ , فَالَّتِي فِيهَا النَّصُّ بِحَدٍّ مَحْدُودٍ فَهِيَ الرِّدَّةُ , وَالزِّنَا(2/117)
, وَالْقَذْفُ , وَالْخَمْرُ , وَالسَّرِقَةُ , وَجَحْدُ الْعَارِيَّةِ - وَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْهَا الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ فِي الْمُحَارِبِ - فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي مُحَارَبَةً وَهَذَا أَيْضًا إجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ وَأَمَّا مَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى حَدٌّ مَحْدُودٌ - لَا فِي الْقُرْآنِ وَلَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْحِقَهَا بِحَدِّ الْمُحَارَبَةِ , فَيَكُونُ شَارِعًا فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى , وَهَذَا لَا يَحِلُّ , بَلْ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ } . فَوَجَبَ يَقِينًا أَنْ لَا يُسْتَبَاحَ دَمُ أَحَدٍ , وَلَا بَشَرَتُهُ , وَلَا مَالُهُ , وَلَا عِرْضُهُ إلَّا بِنَصٍّ وَارِدٍ فِيهِ بِعَيْنِهِ , مِنْ قُرْآنٍ , أَوْ سُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ إجْمَاعٍ مُتَيَقَّنٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم - رَاجِعٍ إلَى تَوْقِيفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الْمَعَاصِي الْمَذْكُورَةِ هِيَ الْمُحَارَبَةُ , فَإِذْ لَا شَكَّ فِي هَذَا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا قَاطِعُ الطَّرِيقِ , وَالْبَاغِي , فَهُمَا جَمِيعًا مُقَاتِلَانِ , الْمُقَاتَلَةُ هِيَ الْمُحَارَبَةُ فِي اللُّغَةِ : فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ , فَوَجَدْنَا " الْبَاغِي " قَدْ وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ , بِأَنْ يُقَاتَلَ حَتَّى يَفِيءَ فَقَطْ , فَيُصْلَحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَبْغِيِّ عَلَيْهِ , فَخَرَجَ الْبَاغِي عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمُ الْمُحَارَبِينَ , فَلَمْ يَبْقَ إلَّا " قَاطِعُ الطَّرِيقِ , وَمُخِيفُ السَّبِيلِ " هَذَا مُفْسِدٌ فِي الْأَرْضِ بِيَقِينٍ , وَقَدْ قَالَ جُمْهُورُ النَّاسِ : إنَّهُ هُوَ الْمُحَارِبُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ , وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُهُ , وَقَدْ بَطَلَ - كَمَا قَدَّمْنَا - أَنْ يَكُونَ كَافِرًا , وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي : إنَّهُ الْمُحَارِبُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ , إلَّا قَاطِعُ الطَّرِيقِ الْمُخِيفِ فِيهَا , أَوْ فِي اللِّصِّ - فَصَحَّ أَنَّ مُخِيفَ السَّبِيلِ الْمُفْسِدَ فِيهَا : هُوَ الْمُحَارِبُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ بِلَا شَكٍّ . وَبَقِيَ أَمْرُ اللِّصِّ فَنَظَرْنَا فِيهِ - بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى - فَوَجَدْنَاهُ إنْ دَخَلَ مُسْتَخْفِيًا لِيَسْرِقَ , أَوْ لِيَزْنِيَ , أَوْ لِيَقْتُلَ فَفَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مُخْتَفِيًا فَإِنَّمَا هُوَ سَارِقٌ , عَلَيْهِ مَا عَلَى السَّارِقِ , لَا مَا عَلَى الْمُحَارِبِ بِلَا خِلَافٍ . أَوْ إنَّمَا هُوَ زَانٍ , فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الزَّانِي , لَا مَا عَلَى الْمُحَارِبِ بِلَا خِلَافٍ . أَوْ إنَّمَا هُوَ قَاتِلٌ , فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْقَاتِلِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ , فِيمَنْ قَتَلَ عَمْدًا - وَإِنْ كَانَ قَدْ خَالَفَ فِي هَذَا قَوْمٌ خِلَافًا لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ , فَإِنْ اُشْتُهِرَ أَمْرُهُ فَفَرَّ وَأَخَذَ , فَلَيْسَ مُحَارِبًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يُحَارِبْ أَحَدًا , وَإِنَّمَا هُوَ عَاصٍ فَقَطْ , وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ لَهُ حُكْمُ الْمُحَارَبَةِ , لَكِنْ حُكْمُ مَنْ فَعَلَ مُنْكَرًا , فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا التَّعْزِيرُ - وَإِنْ دَافَعَ وَكَابَرَ : فَهُوَ مُحَارِبٌ بِلَا شَكٍّ ; لِأَنَّهُ قَدْ حَارَبَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ , وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضَ , فَلَهُ حُكْمُ الْمُحَارِبِ كَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ , وَغَيْرُهُ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : لَا تَكُونُ الْمُحَارَبَةُ إلَّا فِي الصَّحْرَاءِ , أَوْ مَنْ قَالَ : لَا تَكُونُ الْمُحَارَبَةُ فِي الْمُدُنِ إلَّا لَيْلًا : فَقَوْلَانِ فَاسِدَانِ , وَدَعْوَتَانِ سَاقِطَتَانِ , بِلَا بُرْهَانٍ , لَا مِنْ قُرْآنٍ , وَلَا مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ , وَلَا سَقِيمَةٍ , وَلَا مِنْ إجْمَاعٍ , وَلَا مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ , وَلَا مِنْ قِيَاسٍ , وَلَا مِنْ رَأْيٍ سَدِيدٍ , وَمَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ هَانَ عِنْدَهُ الْكَذِبُ عَلَى الْأُمَّةِ كُلِّهَا , فَيَقُولُ : مَنْ حَارَبَ فِي الصَّحْرَاءِ فَقَدْ صَحَّ عَلَيْهِ اسْمُ مُحَارِبٍ وَمِنْ كِتَابِ الْمُحَارِبِينَ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَإِنْ اعْتَرَضَ مُعْتَرِضٌ فِي أَنَّ الْمُحَارِبَ لَا يَكُونُ إلَّا مَنْ شَهَرَ السِّلَاحَ : بِمَا نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ أرنا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى نا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { مَنْ شَهَرَ سَيْفَهُ ثُمَّ وَضَعَهُ فَدَمُهُ هَدَرٌ } قَالَ إسْحَاقُ : أرناه عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ , وَلَمْ يَرْفَعْهُ , يُرِيدُ , أَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ - قَالَ ابْنُ شُعَيْبٍ : وَأَنَا أَبُو دَاوُد نا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : مَنْ رَفَعَ السِّلَاحَ ثُمَّ وَضَعَهُ فَدَمُهُ هَدَرٌ . حَدَّثَنَا عَبْدُ(2/118)
اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَنَا مَالِكٌ , وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ , وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ : أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا } قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَهَذَا كُلُّهُ حَقٌّ , وَآثَارٌ صِحَاحٌ لَا يَضُرُّهَا إيقَافُ مَنْ أَوْقَفَهَا , إلَّا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهَا لِمَنْ لَمْ يَرَ الْمُحَارِبَ إلَّا مَنْ حَارَبَ بِسِلَاحٍ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا ذَكَرَ فِي هَذَيْنِ الْأَثَرَيْنِ : مَنْ وَضَعَ سَيْفَهُ وَشَهَرَ سِلَاحَهُ فَقَطْ , وَسَكَتَ عَمَّا عَدَا ذَلِكَ فِيهَا , وَلَمْ يَقُلْ - عليه السلام - أَنْ لَا مُحَارِبَ إلَّا مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ , فَوَجَبَ مِنْ هَذَيْنِ الْأَثَرَيْنِ حُكْمُ مَنْ حَمَلَ السِّلَاحَ وَبَقِيَ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَحْمِلْ السِّلَاحَ أَنْ يُطْلَبَ فِي غَيْرِهِمَا ؟ فَفَعَلْنَا , فَوَجَدْنَا : مَا نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ نا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ نا مَهْدِيٌّ ثنا ابْنُ مَيْمُونٍ عَنْ غَيْلَانِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِهِ { وَمَنْ خَرَجَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا لَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلَا يَفِي بِذِي عَهْدِهَا فَلَيْسَ مِنِّي } . فَقَدْ عَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَسْمَعُ " الضَّرْبَ " وَلَمْ يَقُلْ بِسِلَاحٍ , وَلَا غَيْرِهِ . فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ حِرَابَةٍ بِسِلَاحٍ , أَوْ بِلَا سِلَاحٍ فَسَوَاءٌ ؟ قَالَ : فَوَجَبَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُحَارِبَ : هُوَ الْمُكَابِرُ الْمُخِيفُ لِأَهْلِ الطَّرِيقِ , الْمُفْسِدُ فِي سَبِيلِ الْأَرْضِ - سَوَاءً بِسِلَاحٍ , أَوْ بِلَا سِلَاحٍ أَصْلًا - سَوَاءً لَيْلًا , أَوْ نَهَارًا - فِي مِصْرٍ , أَوْ فِي فَلَاةٍ - أَوْ فِي قَصْرِ الْخَلِيفَةِ , أَوْ الْجَامِعِ - سَوَاءً قَدَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ إمَامًا , أَوْ لَمْ يُقَدِّمُوا سِوَى الْخَلِيفَةِ نَفْسِهِ - فَعَلَ ذَلِكَ بِجُنْدِهِ أَوْ غَيْرِهِ - مُنْقَطِعِينَ فِي الصَّحْرَاءِ , أَوْ أَهْلِ قَرْيَةٍ سُكَّانًا فِي دُورِهِمْ , أَوْ أَهْلِ حِصْنٍ كَذَلِكَ , أَوْ أَهْلِ مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ , أَوْ غَيْرِ عَظِيمَةٍ كَذَلِكَ - وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ - كُلُّ مَنْ حَارَبَ الْمَارَّ , وَأَخَافَ السَّبِيلَ بِقَتْلِ نَفْسٍ , أَوْ أَخْذِ مَالٍ , أَوْ لِجِرَاحَةٍ , أَوْ لِانْتِهَاكِ فَرْجٍ : فَهُوَ مُحَارِبٌ , عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ - كَثُرُوا أَوْ قَلُّوا - حُكْمُ الْمُحَارِبِينَ الْمَنْصُوصُ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخُصَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ , إذْ عَهِدَ إلَيْنَا بِحُكْمِ الْمُحَارِبِينَ { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } . وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَمَا أَغْفَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ , وَلَا نَسِيَهُ وَلَا أَعْنَتَنَا بِتَعَمُّدِ تَرْكِ ذِكْرِهِ حَتَّى يُبَيِّنَهُ لَنَا غَيْرُهُ بِالتَّكَهُّنِ وَالظَّنِّ الْكَاذِبِ .
==============
وفي المبسوط :(1)
وَأَمَّا النَّذْرُ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ فَإِمَّا أَنْ يُضِيفَهُ إلَى مَكَان أَوْ زَمَانٍ0
__________
(1) - المبسوط - (ج 4 / ص 215)(2/119)
أَمَّا إذَا أَضَافَهُ إلَى زَمَانٍ بِأَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَجَبَ فَصَامَ شَهْرًا قَبْلَهُ أَجْزَأَهُ عَنْ الْمَنْذُورِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ , وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا يُجْزِئُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ رَجَبَ فَاعْتَكَفَ شَهْرًا قَبْلَهُ أَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ غَدًا فَصَلَّى الْيَوْمَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رحمهما الله أَنَّ مَا يُوجِبُهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ , وَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ كَصَلَاةِ الظُّهْرِ لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ , وَبِهِ فَارَقَ الصَّدَقَةَ ; لِأَنَّ بِالنَّذْرِ بِالصَّوْمِ جَعَلَ مَا هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي الْوَقْتِ نَفْلًا وَاجِبًا بِنَذْرِهِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إضَافَةُ النَّذْرِ بِالصَّوْمِ إلَى اللَّيْلِ ; لِأَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِيهِ نَفْلًا وَالْمَشْرُوعُ مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتٍ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَنَذْرُهُ تَعَلَّقَ بِالصَّوْمِ الْمَشْرُوعِ فِي الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ حَتَّى يَتَأَدَّى فِيهِ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِالنِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَوْ لَمْ يَتَعَيَّنْ صَوْمُ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِنَذْرِهِ لَمَا تَأَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا لَوْ أَطْلَقَ النَّذْرَ بِالصَّوْمِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنَّ النَّاذِرَ يَلْتَزِمُ بِنَذْرِهِ الصَّوْمَ دُونَ الْوَقْتِ ; لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الصَّوْمِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَمَلَ بِخِلَافِ هَوَى النَّفْسِ , وَإِنَّمَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ مَا هُوَ قُرْبَةٌ وَتَعْيِينُ الْوَقْتِ غَيْرُ مُفِيدٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا كَمَا فِي الصَّدَقَةِ وَلَا يُقَالُ : الصَّوْمُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ فِي الثَّوَابِ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ فِي صَوْمِ الْأَيَّامِ الْبِيضِ وَفِي صَوْمِ بَعْضِ الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ ; لِأَنَّ بِالْإِجْمَاعِ النَّذْرُ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْفَضِيلَةِ الَّتِي فِي الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ حَتَّى لَوْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَوْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَصَامَ بَعْدَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَوْمًا دُونَهُ فِي الْفَضِيلَةِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ . وَهَذَا بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ ; لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ شُهُودَ الشَّهْرِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وَمِثْلُ هَذَا لِبَيَانِ السَّبَبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ } وَكَذَلِكَ الشَّرْعُ جَعَلَ زَوَالَ الشَّمْسِ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَلَاةِ الظُّهْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } فَإِذَا أَدَّى قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ مُؤَدِّيًا قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَمَّا هُنَا النَّاذِرُ لَمْ يَجْعَلْ الْوَقْتَ بِنَذْرِهِ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعِبَادِ وِلَايَةُ نَصْبِ الْأَسْبَابِ فَيَكُونُ السَّبَبُ مُتَقَرِّرًا قَبْلَ مَجِيءِ الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ مُتَأَخِّرًا فَلِهَذَا جَازَ التَّعْجِيلُ , وَهُوَ نَظِيرُ الْمُسَافِر فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إذَا صَامَ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ وَإِنْ كَانَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ مُتَأَخِّرًا فِي حَقِّهِ إلَى عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَالْحَرْفُ الثَّانِي أَنَّهُ أَدَّى الْعِبَادَةَ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ كَفَرَ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ زُهُوقِ الرُّوحِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ أَوْ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ تُضَافُ إلَى النَّذْرِ لَا إلَى الْوَقْتِ يُقَالُ صَوْمُ النَّذْرِ وَالْوَاجِبَاتُ تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا وَالْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ نَذْرًا فِي الْحَالِ بِدَلِيلِ أَنَّ التَّعْجِيلَ فِي النَّذْرِ بِالصَّدَقَةِ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ وَمَا لَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ لَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ هُنَاكَ كَمَا لَوْ عَلَّقَ النَّذْرَ بِالشَّرْطِ وَبَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ مَالِيًّا كَانَ أَوْ بَدَنِيًّا كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَكَمَا لَوْ صَامَ الْمُسَافِرُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَجُوزُ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ فَإِذَا ثَبَتَ هُنَا أَنَّ السَّبَبَ , وَهُوَ النَّذْرُ مُتَقَرِّرٌ قُلْنَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ وَفِي جَوَازِ التَّعْجِيلِ هُنَا مَنْفَعَةٌ لِلنَّاذِرِ فَرُبَّمَا لَا(2/120)
يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ وَرُبَّمَا تَخْتَرِمُهُ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَّا أَنَّهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ قَصَدَ التَّخْفِيفَ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى لَوْ مَاتَ قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَأَعْطَيْنَاهُ مَقْصُودَهُ وَاعْتَبَرْنَا تَعْيِينَهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ وَجَوَّزْنَا التَّعْجِيلَ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ كَمَا فِي الصَّدَقَةِ إذَا عَيَّنَ الدَّرَاهِمَ فَهَلَكَتْ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِمِثْلِهَا وَأَمْسَكَهَا خَرَجَ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ وَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ التَّعْيِينِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قُلْنَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِالنِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ ; لِأَنَّ تَعْيِينَهُ مُعْتَبَرٌ فِيمَا يُرْجَعُ إلَى النَّظَرِ لَهُ وَفِي التَّأَدِّي بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ مَعْنَى النَّظَرِ لَهُ فَاعْتَبَرْنَا تَعْيِينَهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ .
==============
بَابُ عِتْقِ ذَوِي الْأَرْحَامِ (1)
__________
(1) - المبسوط - (ج 8 / ص 446)(2/121)
ذِكْر عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { قَالَ : مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ } . وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما , وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ قَرِيبَهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ فَهُوَ حُرٌّ جَزَاءً لِقَوْلِهِ مَنْ مَلَكَ مَعَ الْقَرَابَةِ , فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ حُرِّيَّةَ الْمَمْلُوكِ دُونَ الْمَالِكِ , وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ : عَتَقَ عَلَيْهِ , وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ سَبَبَ الْعِتْقِ الْمِلْكُ مَعَ الْقَرَابَةِ , فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِمَعْنَى بَيَانِ السَّبَبِ كَمَا قَالَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وَلِهَذَا قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إذَا مَلَكَ أَبَاهُ , أَوْ أُمَّهُ , أَوْ ابْنَهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ , وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتِقَهُ , وَلَكِنْ لَا يَعْتِقُ قَبْلَ إعْتَاقِهِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ : عليه الصلاة والسلام { لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ عَنْ وَالِدِهِ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ } فَفِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ عَلَيْهِ إعْتَاقَهُ , وَلَوْ عَتَقَ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ فَيُعْتِقُهُ مَعْنًى ; وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ لَا تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً فَلَا تَمْنَعُ الْبَقَاءَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى , أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمَّا مَنَعَتْ بَقَاءَ مِلْكِ النِّكَاحِ مَنَعَتْ ثُبُوتَهُ ابْتِدَاءً . ( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ قوله تعالى { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ , وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } فَقَدْ نَفَى الْبُنُوَّةَ بَيْنَهُ , وَبَيْنَ الْخَلْقِ بِإِثْبَاتِ الْعُبُودِيَّةِ فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى الْمُنَافَاةِ بَيْنَهُمَا , وَالْمُتَنَافِيَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَإِذَا كَانَتْ الْبُنُوَّةُ مُتَقَرِّرَةً انْتَفَتْ الْعُبُودِيَّةُ , وَمُرَادُهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ قَوْلِهِ فَيُعْتِقُهُ بِذَلِكَ الشِّرَاءُ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ كَمَا يُقَالُ : أَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ وَسَقَاهُ فَأَرْوَاهُ , وَضَرَبَ فَأَوْجَعَ , وَكَتَبَهُ فَقَرْمَطَ وَإِنَّمَا أَثْبَتِنَا لَهُ الْمِلْكَ ابْتِدَاءً ; لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْعُبُودِيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُ لَا يَعْتِقُ بِخِلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ ; لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ النِّكَاحِ لَهُ عَلَى ابْنَتِهِ ثُمَّ إزَالَتِهِ ; لِأَنَّهَا تَعُودُ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ , وَلِأَنَّ هَذَا الْعِتْقَ صِلَةٌ , وَمُجَازَاةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ الْمِلْكِ . فَأَمَّا انْتِفَاءُ النِّكَاحِ بِحُرْمَةِ الْمَحَلِّ , وَهُوَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الْعَقْدِ ; وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَيْسَ بِمِلْكِ الْحِلِّ فَيَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْحِلِّ , وَالْأُمُّ وَالِابْنَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ , وَلَا تَصَوُّرَ لِلْمَلِكِ بِدُونِ الْمَحَلِّ فَأَمَّا هَذَا مِلْكُ مَالٍ , وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ , فَيَثْبُتُ لَهُ نَسَبُهُ أَيْضًا إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِهِ - الِاسْتِدَامَةُ , وَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - : إذَا مَلَكَ أَخَاهُ , أَوْ أُخْتَهُ , أَوْ أَحَدًا مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ أَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ , وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى : لَا يَعْتِقُ إلَّا الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَعْضِيَّةٌ فَلَا يَعْتِقُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ كَبَنِي الْأَعْمَامِ بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ فَالْعِتْقُ هُنَاكَ لِلْبَعْضِيَّةِ , وَالْجُزْئِيَّةِ ; وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَحْكَامِ كَقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ حَتَّى تُقْبَلَ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ , وَيَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَضْعُ زَكَاةِ مَالِهِ فِي صَاحِبِهِ , وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي الطَّرَفَيْنِ , وَيَحِلُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَلِيلَةُ صَاحِبِهِ , وَلَا يَسْتَوْجِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النَّفَقَةَ عَلَى صَاحِبِهِ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ , وَلَا يَتَكَاتَبُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِخِلَافِ الْوَالِدَيْنِ , وَالْمَوْلُودَيْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُنَاكَحَةِ ; لِأَنَّ ثُبُوتَهَا بِاسْمِ الْأُخْتِيَّةِ , وَالْبِنْتِيَّةِ لَا بِمَعْنَى الْقَرَابَةِ , أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِالرَّضَاعِ , وَلَا تَثْبُتُ بِالْقَرَابَةِ بِهَا , وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِي الْحُرْمَةِ مَعْنَى قُرْبِ الْقَرَابَةِ وَبُعْدِهَا . ( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَقَالَ إنِّي وَجَدْت أَخِي يُبَاعُ فِي السُّوقِ فَاشْتَرَيْته , وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَعْتِقَهُ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام قَدْ أَعْتَقَهُ اللَّهُ } , وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُتَأَيِّدَةَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ عِلَّةُ(2/122)
الْعِتْقِ مَعَ الْمِلْكِ , كَمَا فِي الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ , وَهَذَا ; لِأَنَّ لِهَذَا الْعِتْقِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَالْقَرَابَةِ الْمُتَأَيِّدَةِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ تَأْثِيرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ ; لِأَنَّهُ يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا , وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا , أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ مِنْ الْمَلَاعِنِ لقوله تعالى { وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ } وَقَالَ : عليه الصلاة والسلام ثَلَاثٌ مُعَلَّقَاتٌ بِالْعَرْشِ , مِنْهَا الرَّحِمُ يَقُولُ : قُطِعْت , وَلَمْ تُوصَلْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ حُرْمَةَ الْمُنَاكَحَةِ تَثْبُتُ بِهَذِهِ الْقَرَابَةِ بِمَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ ذُلِّ الِاسْتِفْرَاشِ , وَالِاسْتِخْدَامِ قَهْرًا , فَمِلْكُ الْيَمِينِ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِذْلَالِ مِنْ الِاسْتِفْرَاشِ , وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا صِيَانَةً لِلْقَرَابَةِ مِنْ الْقَطِيعَةِ بِسَبَبِ الْمُنَافَرَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الضَّرَائِرِ وَمَعْنَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ فِي اسْتِدَامَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ أَكْثَرُ , وَلَا شَكَّ أَنَّ لِلْمِلْكِ تَأْثِيرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ فَيَثْبُتُ بِهَذَا التَّقْرِيرِ : أَنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ هَذَانِ الْوَصْفَانِ , وَبَعْدَ هَذَا لَا يَضُرُّ انْتِفَاءُ الْجُزْئِيَّةِ بَيْنَهُمَا , لِمَا ثَبَتَ أَنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ هَذَا دُونَ الْجُزْئِيَّةِ ; لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ , قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهُ مُسْتَقِيمٌ ; وَلِأَنَّ هَذِهِ الْقَرَابَةَ فِي مَعْنَى الْقَرَابَةِ بَيْنَ الْجَدِّ , وَالنَّافِلَةِ أَيْضًا ; لِأَنَّ اتِّصَالَ أَحَدِ الْأَخَوَيْنِ بِالْآخَرِ بِوَاسِطَةِ الْأَبِ كَمَا أَنَّ اتِّصَالَ النَّافِلَةِ بِالْجَدِّ بِوَاسِطَةِ الْأَبِ وَلِهَذَا ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ فِي الْمِيرَاثِ . وَشَبَّهَ بَعْضُهُمْ الْجَدَّ مَعَ النَّافِلَةِ بِشَجَرَةٍ انْشَعَبَ مِنْهَا غُصْنٌ وَمِنْ ذَلِكَ الْغُصْنِ غُصْنٌ وَالْأَخَوَيْنِ بِغُصْنَيْنِ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ , وَشَبَّهَ بَعْضُهُمْ الْجَدَّ مَعَ النَّافِلَةِ بِوَادٍ تَشَعَّبَ مِنْهُ نَهَرٌ , وَمِنْ النَّهَرِ جَدْوَلٌ , وَالْأَخَوَيْنِ بِنَهَرَيْنِ تَشَعَّبَا مِنْ وَادٍ فَيَكُونُ مَعْنَى الْقُرْبِ بَيْنَهُمَا أَظْهَرُ ; لِأَنَّ تَفَرُّقَهُمَا بِشِعْبٍ , وَاحِدٍ , وَالْأَوَّلُ بِشِعْبَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ قَرَابَةِ الْجَدِّ مَعَ النَّافِلَةِ , وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْعِتْقِ مَعَ الْمِلْكِ , إلَّا أَنَّ فِي حُكْمِ الْوِلَايَةِ لَمْ يُجْعَلْ الْأَخُ كَالْجَدِّ ; لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الشَّفَقَةُ مَعَ الْقَرَابَةِ , وَشَفَقَةُ الْأَخِ لَيْسَتْ كَشَفَقَةِ الْجَدِّ , وَفِي حُكْمِ الْإِرْثِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه ; لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ وِلَايَةٍ فَإِنَّهُ خِلَافَةٌ فِي الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ , وَبِهِ فَارَقَ بَنِي الْأَعْمَامِ فَالْوَاسِطَاتُ هُنَاكَ قَدْ كَثُرَتْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَكَانَتْ الْقَرَابَةُ بَعِيدَةً بَيْنَهُمَا , وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِهَا حُرْمَةُ النِّكَاحِ وَلَا حُرْمَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ . فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَا مِلْكَ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ , وَهَذِهِ الْقَرَابَةُ مَعَ الْمِلْكِ عِلَّةٌ , وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ , إلَّا أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَلَكَ أَبَاهُ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُهُ , وَإِذَا مَلَكَ أَخَاهُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه ; لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَهُ كَسْبٌ وَلَيْسَ لَهُ مِلْكٌ حَقِيقَةً , وَحَقُّ الْآبَاءِ , وَالْأَوْلَادِ يَثْبُتُ فِي الْكَسْبِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَبِيهِ إذَا كَانَ مُكْتَسِبًا , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوسِرًا . فَأَمَّا حَقُّ الْأَخِ لَا يَثْبُتُ فِي الْكَسْبِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَخِيهِ الزَّمِنَ إذَا كَانَ هُوَ مُعْسِرًا , وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَالِكُ صَغِيرًا فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ لِتَمَامِ عِلَّةِ الْعِتْقِ وَهُوَ الْمِلْكُ مَعَ الْقَرَابَةِ فَإِنَّ الصَّغِيرَ يَمْلِكُ حَقِيقَةً , أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ صِفَةُ الْغِنَى بِمِلْكِهِ حَتَّى يَحْرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ , وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَالِكُ كَافِرًا وَالْمَمْلُوكُ مُسْلِمًا , أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ مَعَ الْقَرَابَةِ يَتَحَقَّقُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ , وَبِهِمَا تَمَامُ عِلَّةِ الْعِتْقِ بِخِلَافِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ , فَإِنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ ذَلِكَ بِصِفَةِ الْوِرَاثَةِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } مَعْنَاهُ : وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ مَعْنَاهُ : وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ , وَبِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدِّينِ يَنْعَدِمُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ فَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ فَالِاسْتِحْقَاقُ هُنَاكَ بِالْوِلَادِ قَالَ تَعَالَى : { وَعَلَى(2/123)
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَبِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدِّينِ لَا يَنْعَدِمُ الْوِلَادُ , فَهَذَا بَيَانُ مَعْنَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ فَإِنْ مَلَكَهُ الرَّجُلُ مَعَ آخَرَ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهُ وَسَعَى الْعَبْدُ لَلشَّرِيكِ فِي نَصِيبِهِ , وَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي عَتَقَ مِنْ قِبَلِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى , وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا , وَيَسْعَى الْعَبْدُ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا . وَكَذَلِكَ لَوْ مَلَكَاهُ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ , أَوْ وَصِيَّةٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ , وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ الْقَرِيبَ بِالشِّرَاءِ صَارَ مُعْتِقًا لِنَصِيبِهِ ; لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ , وَلِهَذَا تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ , وَالْمُعْتِقُ ضَامِنٌ لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ إذَا كَانَ مُوسِرًا كَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَاشْتَرَى قَرِيبُ الْعَبْدِ نَصِيبَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِنْهُ يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ إنْ كَانَ مُوسِرًا , وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ ; لِأَنَّ شِرَاءَ الشَّرِيكِ مَعَهُ رِضًا مِنْهُ بِاَلَّذِي يَكُونُ بِهِ الْعِتْقُ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ ضَمَانَ الْعِتْقِ يَجِبُ بِالْإِتْلَافِ وَالْإِفْسَادِ , وَالرِّضَا بِالسَّبَبِ يَمْنَعُ وُجُوبَ مِثْلِ هَذَا الضَّمَانِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ , وَفِي إثْبَاتِ الرِّضَا هُنَا نَوْعَانِ مِنْ الْكَلَامِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمَّا سَاعَدَ شَرِيكَهُ عَلَى الْقَبُولِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ قَبُولَ شَرِيكِهِ مُوجِبٌ لِلْعِتْقِ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِعِتْقِهِ عَلَى شَرِيكِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْذَنَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ فِي أَنْ يَعْتِقَ نَصِيبَهُ فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ , وَالثَّانِي أَنَّ الْمُشْتَرِيَيْنِ صَارَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ لِاتِّحَادِ الْإِيجَابِ مِنْ الْبَائِعِ , وَلِهَذَا لَوْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ , وَلَمْ يَمْلِكْ نَصِيبَهُ بِهِ , وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَاضٍ بِالتَّمْلِيكِ فِي نَصِيبِهِ فَيَكُونُ رَاضِيًا بِالتَّمْلِيكِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ أَيْضًا لِمَا سَاعَدَهُ عَلَى الْقَبُولِ بَلْ يَصِيرُ مُشَارِكًا لَهُ فِي السَّبَبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي السَّبَبِ فَوْقَ الرِّضَا بِهِ إلَّا أَنَّ بِهَذَا السَّبَبِ تَتِمُّ عِلَّةُ الْعِتْقِ فِي الْحَقِّ الْقَرِيبِ , وَهُوَ الْمِلْكُ لَا تَتِمُّ عِلَّةُ الْعِتْقِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ فَكَانَ الْقَرِيبُ مُعْتِقًا دُونَ الْأَجْنَبِيِّ وَلَكِنْ بِمُعَاوَنَةِ الْأَجْنَبِيِّ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي تَضْمِينِهِ لَمَّا عَاوَنَهُ عَلَى السَّبَبِ , وَفِي هَذَا يَتَّضِحُ الْكَلَامُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الشِّرَاءِ فِيمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لِرَجُلٍ فَبَاعَ نِصْفَهُ مِنْ قَرِيبِهِ , فَإِنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِيهِ , وَلَا شَكَّ أَنَّ إيجَابَ الْبَائِعِ رِضًا مِنْهُ بِقَبُولِ الْمُشْتَرِي , وَمَا يَنْبَنِي عَلَى قَبُولِ الْمُشْتَرِي يُحَالُ بِهِ عَلَى إيجَابِ الْبَائِعِ , كَمَا لَوْ بَاعَ الْأَمَةَ الْمَنْكُوحَةَ مِنْ زَوْجِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ جَمِيعُ الْمَهْرِ ; لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْمَهْرُ , وَهُوَ الْبَائِعُ فَأَمَّا فِي الْهِبَةِ , وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ كِلَاهُمَا أَوْضَحُ ; لِأَنَّ قَبُولَ أَحَدِهِمَا فِي نَصِيبِهِ صَحِيحٌ بِدُونِ قَبُولِ الْآخَرِ , وَلَكِنَّ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى يَقُولُ : هُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ أَيْضًا إلَّا أَنَّ فِي الْهِبَةِ , وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ : قَبُولُ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ فِي النِّصْفِ دُونَ النِّصْفِ صَحِيحٌ . وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ قَرِيبِهِ ; لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الشَّرِيكِ الْآخَرِ مَا يَكُونُ رِضًا مِنْهُ , أَوْ مُعَاوَنَةً عَلَى السَّبَبِ وَبِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِشَرِيكِهِ إنْ ضَرَبْته الْيَوْمَ سَوْطًا فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُ سَوْطًا فَإِنَّ الْحَالِفَ يَضْمَنُ لِلضَّارِبِ إنْ كَانَ مُوسِرًا , وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : مَوْضُوعُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الشَّرِيكَ قَالَ أَيْضًا إنْ لَمْ أَضْرِبْهُ الْيَوْمَ سَوْطًا فَهُوَ حُرٌّ فَإِقْدَامُهُ عَلَى الضَّرْبِ بَعْدَ هَذَا يَكُونُ لِدَفْعِ الْعِتْقِ عَنْ نَصِيبِهِ , فَلَا يَصِيرُ بِهِ رَاضِيًا بِعِتْقِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا يَعْتِقُ نَصِيبُ الشَّرِيكِ بِقَوْلِهِ هُوَ حُرٌّ , وَذَلِكَ تَمَّ بِالْحَالِفِ مِنْ غَيْرِ رِضًا كَانَ مِنْ الضَّارِبِ فَأَمَّا الضَّرْبُ شَرْطٌ لِلْعِتْقِ , وَالرِّضَا بِالشَّرْطِ لَا يَكُونُ رِضًا بِأَصْلِ السَّبَبِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِالسَّبَبِ حِينَ شَارَكَهُ فِيهِ , وَهَذَا بِخِلَافِ حُكْمِ الْفِرَارِ , فَإِنَّ الرِّضَا بِالشَّرْطِ مِنْ الْمَرْأَةِ كَالرِّضَا بِالسَّبَبِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا عَنْ الْمِيرَاثِ ; لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ(2/124)
لَهَا قَبْلَ مَوْتِ الزَّوْجِ فِي مَالِهِ . وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْفِرَارِ دَفْعًا لِقَصْدِ الزَّوْجِ الْإِضْرَارَ بِهَا , وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالرِّضَا بِالشَّرْطِ كَمَا يَنْعَدِمُ بِالرِّضَا مِنْ السَّبَبِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ , وَلَمْ يُفَصِّلْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكُ عَالِمًا بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَعَهُ قَرِيبُ الْعَبْدِ , أَوْ لَا يَكُونَ عَالِمًا , وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمهما الله ; لِأَنَّ سَبَبَ الرِّضَا يَتَحَقَّقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَهُوَ كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ : كُلْ هَذَا الطَّعَامَ , وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ طَعَامُهُ فَأَكَلَهُ الْمُخَاطَبُ فَلَيْسَ لِلْآذِنِ أَنْ يُضَمِّنَهُ شَيْئًا , وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِشَرِيكِهِ : أَعْتِقْ هَذَا الْعَبْدَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا , وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ رِضَاهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ عَالِمًا , فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ نَصِيبَهُ بِالْعَيْبِ ; لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ رِضَاهُ , وَقَبُولُهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِأَنَّ شَرِيكَهُ مُعْتِقٌ , وَبِدُونِ تَمَامِ الْقَبُولِ لَا يَعْتِقُ نَصِيبُ الشَّرِيكِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ فِي نَصِيبِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ . وَاسْتَشْهَدَ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله بِمَا لَوْ أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الشَّرِيكِ فِي التَّضْمِينِ بِالْإِذْنِ , وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعِتْقِ عِنْدَهُ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ فَإِنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ عَلَى قَوْلِهِ , وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَسْقُطُ بِالْإِذْنِ , كَمَا لَوْ اسْتَوْلَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَةَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ , وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ سَبَبُهُ الْإِفْسَادُ , وَالْإِتْلَافُ فَسَقَطَ بِالْإِذْنِ كَضَمَانِ الْإِتْلَافِ الْحَقِيقِيِّ بَلْ أَوْلَى ; لِأَنَّ هَذَا الضَّمَانَ يَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ , وَبِخِلَافِ ضَمَانِ الْإِتْلَافِ الْحَقِيقِيِّ فَأَمَّا إذَا , وَرِثَ مَعَ قَرِيبِهِ غَيْرَهُ عَتَقَ نَصِيبُهُ , وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِشَرِيكِهِ ; لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ قَبُولِهِ , وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الصُّنْعِ مِنْ جِهَتِهِ , وَلِهَذَا لَوْ وَرِثَ قَرِيبَهُ لَمْ يُجْزِ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً بِالنِّكَاحِ , ثُمَّ وَرِثَهَا مَعَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ هُنَاكَ الْمُسْتَوْلِدَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ , وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَعْتَمِدُ الصُّنْعَ , وَلِهَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ , وَالْإِعْسَارِ هُنَاكَ وَلَوْ مَلَكَ مَحْرَمًا لَهُ بِرَضَاعٍ , أَوْ مُصَاهَرَةٍ لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا , وَالْعِتْقُ صِلَةٌ تُسْتَحَقُّ بِالْقَرَابَةِ , وَالرَّضَاعُ إنَّمَا جُعِلَ كَالنَّسَبِ فِي الْحُرْمَةِ خَاصَّةً , وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ , وَالنَّفَقَةِ , وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ الْعِتْقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ كَالْوَثَنِيَّةِ , وَالْمَجُوسِيَّةِ , وَكَذَلِكَ إنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقَرَابَةِ لَا يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا , وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُرْمَةُ الْمُنَاكَحَةِ , وَحُرْمَةُ الْجَمْعِ فِي النِّكَاحِ , وَلَوْ مَلَكَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ ; وَلِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الزَّوْجِيَّةِ يَرْتَفِعُ بِالْمِلْكِ , وَإِذَا اشْتَرَى أَمَةً , وَهِيَ حُبْلَى مِنْ أَبِيهِ عَتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا ; لِأَنَّهُ مَلَكَ أَخَاهُ , وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَمَةَ حَتَّى تَضَعَ ; لِأَنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا حُرًّا كَمَا لَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ , وَهَذَا الْوَلَدُ يَصِيرُ مُسْتَثْنَى بِالْعِتْقِ , وَلَوْ اسْتَثْنَاهُ شَرْطًا فِي الْبَيْعِ بَطَلَ الْبَيْعُ فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُسْتَثْنَى بِالْعِتْقِ , وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ الْوَضْعِ ; لِأَنَّ الْأَمَةَ مَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِلِابْنِ فَإِنَّ الْمُسْتَوْلِدَ أَبُوهُ , وَلَا يَصِيرُ الْأَبُ مُتَمَلِّكًا لَهَا عَلَى الِابْنِ ; لِأَنَّهَا مَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلِابْنِ حِينَ عَلِقَتْ مِنْ الْأَبِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانه , وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ , وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
==============
( قَالَ ) : وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفُلَ أَحَدًا مِمَّا قَدْ أَصَابَهُ إنَّمَا النَّفَلُ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ أَنْ يَقُولَ : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَقَدْ كَانَ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْإِغْرَاءِ عَلَى الْقِتَالِ 0(1)
__________
(1) - المبسوط - (ج 12 / ص 79)(2/125)
وَهَذَا الْكَلَامُ يَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ : أَحَدُهَا أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ بِالْقَتْلِ عِنْدَنَا مِنْ غَيْرِ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ , وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى : إذَا قَتَلَهُ مُقْبِلًا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَارِزَةِ اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ { : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } فَمِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِبَيَانِ السَّبَبِ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } فَظَاهِرُهُ لِنَصْبِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ لِذَلِكَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ : أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ جَوْلَةً يَوْمَ حُنَيْنٍ فَلَقِيت رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ وَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ ضَرْبَةً فَأَقْبَلَ عَلَيَّ وَضَمَّنِي إلَى نَفْسِهِ ضَمَّةً شَمَمْت مِنْهَا رَائِحَةَ الْمَوْتِ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ , فَأَرْسَلَنِي فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ { : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ , فَقُلْت : مَنْ يَشْهَدُ لِي ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ عَنِّي , فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله تعالى عنه : لَاهَا اللَّهُ أَيَعْمَدُ أَسَدٌ مِنْ أَسَدِ اللَّهِ فَيَقْتُلُ عَدُوَّ اللَّهِ ثُمَّ يُعْطِيك سَلَبَهُ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ كَانَ الْقَتْلُ مِنْهُ قَبْلَ مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَعْطَاهُ سَلَبَهُ } , فَظَهَرَ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَتْلِ لَا بِالتَّنْفِيلِ ; وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ أَظْهَرَ فَضْلَ عِنَايَةٍ عَلَى غَيْرِهِ بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ فَيَسْتَحِقُّ التَّفْضِيلَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَالْفَارِسِ مَعَ الرَّاجِلِ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاتِلَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَارِزَةِ يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ عَنَاءٍ وَمُخَاطَرَةٍ بِالنَّفْسِ وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَهُ مُدْبِرًا لَا يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ . وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى سَهْمًا مِنْ صَفِّ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَ مُشْرِكًا لَا يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ الْعَنَاءِ فَكُلُّ وَاحِدٍ يَتَجَاسَرُ عَلَى ذَلِكَ , وَأَصْحَابُنَا اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } , وَالسَّلَبُ مِنْ الْغَنِيمَةِ ; لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ مَالٌ يُصَابُ بِأَشْرَفِ الْجِهَاتِ , فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْخُمُسُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَعِنْدَكُمْ لَا يَجِبُ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : السَّلَبُ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَفِيهِ الْخُمُسُ وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بُلْقِينَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : لِمَنْ الْمَغْنَمُ ؟ قَالَ : لِلَّهِ سَهْمٌ وَلِهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ , فَقَالَ : هَلْ أَحَدٌ أَحَقُّ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ ؟ قَالَ : لَا حَتَّى لَوْ رُمِيتَ بِسَهْمٍ فِي جَنْبِك فَاسْتَخْرَجْتَهُ لَمْ تَكُنْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ أَخِيك } وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ : كُنْتُ وَاقِفًا يَوْمَ بَدْرٍ بَيْنَ شَابَّيْنِ حَدِيثِ أَسْنَانِهِمَا أَحَدُهُمَا مُعَوِّذُ ابْنُ عَفْرَاءَ وَالْآخَرُ مُعَاذُ بْنُ عُمَرَ وَابْنُ الْجَمُوحِ فَقَالَ لِي أَحَدُهُمَا : أَيْ عَمُّ أَتَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ ؟ قُلْت : وَمَا شَأْنُك بِهِ ؟ قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَاَللَّهِ لَوْ لَقِيتُهُ مَا فَارَقَ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا مَوْتًا وَعُمَرُ بِي الْآخَرُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَلَقِيتُ أَبَا جَهْلٍ فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ فَقُلْت : ذَاكَ صَاحِبُكُمَا الَّذِي تُرِيدَانِهِ فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلَاهُ وَاخْتَصَمَا فِي سَلَبِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : أَنَا قَتَلْتُهُ , وَالسَّلَبُ لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { أَمَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا ؟ فَقَالَا : لَا فَقَالَ : أَرَيَانِي سَيْفَيْكُمَا فَأَرَيَاهُ فَقَالَ : كِلَاكُمَا قَتَلَهُ ثُمَّ أَعْطَى السَّلَبَ مُعَوِّذَ ابْنَ عَفْرَاءَ } وَلَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْقَتْلِ لَمَا خَصَّ بِهِ أَحَدَهُمَا مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { كِلَاكُمَا قَتَلَهُ } . ( فَإِنْ قِيلَ ) : كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا وَالْمَشْهُورُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَتَلَهُ قُلْنَا : هُمَا أَثْخَنَاهُ وَابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : وَجَدْتُهُ صَرِيعًا فِي الْقَتْلَى وَبِهِ رَمَقٌ فَجَلَسْت عَلَى صَدْرِهِ فَفَتْحَ عَيْنَيْهِ , وَقَالَ : يَا رُوَيْعِي الْغَنَمَ لَقَدْ ارْتَقَيْت مُرْتَقًى عَظِيمًا لِمَنْ الدَّبْرَةُ قُلْت : لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : مَا تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ قُلْت : أَحُزُّ رَأْسَك قَالَ : لَسْت بِأَوَّلِ عَبْدٍ قَتَلَ سَيِّدَهُ وَلَكِنْ خُذْ سَيْفِي فَهُوَ أَمْضَى لِمَا(2/126)
تُرِيدُ وَأَقْطَعْ رَأْسِي مِنْ كَاهِلٍ لِيَكُونَ أَهْيَبَ فِي عَيْنِ النَّاظِرِ وَإِذَا لَقِيت مُحَمَّدًا فَأَخْبِرْهُ أَنِّي الْيَوْمَ أَشَدُّ بُغْضًا لَهُ مِمَّا كُنْتُ قَبْلَ هَذَا فَقَطَعْت رَأْسَهُ وَأَتَيْت بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَلْقَيْتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقُلْت : هَذَا رَأْسُ أَبِي جَهْلٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { : اللَّهُ أَكْبَرُ هَذَا كَانَ فِرْعَوْنِي وَفِرْعَوْنُ أُمَّتِي شَرُّهُ عَلَى أُمَّتِي أَكْثَرُ مِنْ شَرِّ فِرْعَوْنَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَنَفَلَنِي سَيْفَهُ } فَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّهُ أَجْهَزَ عَلَيْهِ وَأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَيْسَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ إذْ لَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ لَكَانَ الْمُسْتَحِقُّ لِلسَّيْفِ مَنْ أَثْخَنَهُ فَمَا كَانَ يَنْفُلُهُ غَيْرُهُ وَإِنَّ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَتَلَ مَرْزُبَانَ الرَّازَةِ وَأَخَذَ سَلَبَهُ مُرَصَّعًا بِاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ فَقَوَّمَ بِعِشْرِينَ أَلْفًا فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : كُنَّا لَا نُخَمِّسُ الْأَسْلَابَ وَإِنَّ سَلَبَ الْبَرَاءِ بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ وَمَا أَرَانِي إلَّا خَامِسَهُ قَالَ أَنَسٌ : فَبَعَثْنَا بِالْخُمُسِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ إلَيْهِ فَإِذَا تَبَيَّنَ وُجُوبُ الْخُمُسِ فِيهِ ثَبَتَ أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهُ مَقْسُومٌ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَمَا نُقِلَ مِنْ قَوْلِهِ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْفِيلِ مِنْهُ لَا عَلَى وَجْهِ نَصْبِ الشَّرْعِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ نَصْبَ الشَّرْعِ إذَا قَالَهُ فِي الْمَدِينَةِ فِي مَسْجِدِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ إلَّا يَوْمَ بَدْرٍ عِنْدَ الْقِتَالِ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّحْرِيضِ وَقَدْ كَانُوا أَذِلَّةً يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ وَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّحْرِيضِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْفِيلِ لَا عَلَى وَجْهِ نَصْبِ الشَّرْعِ , وَعِنْدَنَا بِالتَّنْفِيلِ يَسْتَحِقُّ . وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا تَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ وَأَخْذِ سَلَبِهِ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ كَمَا لَوْ أَخَذَ أَسِيرًا أَوْ أَصَابَ مَالًا آخَرَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَكَمَا يَكُونُ مِنْهُ فَضْلُ عَنَاءٍ فِي الْقَتْلِ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ بِأَخْذِ الْأَسِيرِ وَاسْتِلَابِ سَلَبِ الْحَيِّ ثُمَّ لَا يَخْتَصُّ بِهِ إلَّا بَعْدَ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ وَكَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ { : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } قَالَ { : مَنْ أَخَذَ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ } ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّنْفِيلِ فَكَذَلِكَ فِي السَّلَبِ , وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { : لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ }
===============
بَابُ الْمُرْتَدِّينَ (1)
__________
(1) - المبسوط - (ج 12 / ص 216)(2/127)
( قَالَ ) رضي الله عنه وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ , فَإِنْ أَسْلَمَ , وَإِلَّا قُتِلَ مَكَانَهُ إلَّا أَنْ يَطْلُبَ أَنْ يُؤَجَّلَ فَإِذَا طَلَبَ ذَلِكَ أُجِّلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّينَ قوله تعالى { أَوْ يُسْلِمُونَ } قِيلَ : الْآيَةُ فِي الْمُرْتَدِّينَ , وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } , وَقَتْلُ الْمُرْتَدِّ عَلَى رِدَّتِهِ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذٍ , وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم , وَهَذَا لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ بِمَنْزِلَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَوْ أَغْلَظُ مِنْهُمْ جِنَايَةً , فَإِنَّهُمْ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ , وَلَمْ يُرَاعُوا حَقَّ ذَلِكَ حِينَ أَشْرَكُوا , وَهَذَا الْمُرْتَدُّ كَانَ مِنْ أَهْلِ دِينِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَقَدْ عَرَفَ مَحَاسِنَ شَرِيعَتِهِ ثُمَّ لَمْ يُرَاعِ ذَلِكَ حِينَ ارْتَدَّ فَكَمَا لَا يُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إلَّا السَّيْفَ أَوْ الْإِسْلَامَ فَكَذَلِكَ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ إلَّا أَنَّهُ إذَا طَلَبَ التَّأْجِيلَ أُجِّلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ ارْتَدَّ لِأَجْلِهَا فَعَلَيْنَا إزَالَةُ تِلْكَ الشُّبْهَةِ , أَوْ هُوَ يَحْتَاجُ إلَى التَّفَكُّرِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِمُهْلَةٍ , فَإِنْ اسْتَمْهَلَ كَانَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُمْهِلَهُ , وَمُدَّةُ النَّظَرِ مُقَدَّرَةٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي الْخِيَارِ فَلِهَذَا يُمْهِلُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَزِيدُهُ عَلَى ذَلِكَ , وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ التَّأْجِيلَ يُقْتَلُ مِنْ سَاعَتِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ . وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طَلَبَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ , وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ لَهُ : هَلْ مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ . ؟ فَقَالَ : نَعَمْ , رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إيمَانِهِ فَقَالَ : مَاذَا صَنَعْتُمْ بِهِ . ؟ قَالَ : قَدَّمْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ , فَقَالَ : هَلَّا طَيَّنْتُمْ عَلَيْهِ الْبَابَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , وَرَمَيْتُمْ إلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ بِرَغِيفٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ وَيُرَاجِعَ الْحَقَّ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ , وَقَالَ اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَشْهَدْ , وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي , وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِطَرِيقٍ آخَرَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ لَوْ وُلِّيتُ مِنْهُ مِثْلَ الَّذِي وُلِّيتُمْ لَاسْتَتَبْتُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلْتُهُ , فَهَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِمْهَالُ , وَتَأْوِيلُ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَعَلَّهُ كَانَ طَلَبَ التَّأْجِيلَ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ , فَرُبَّمَا يَظْهَرُ لَهُ شُبْهَةٌ وَيَتُوبُ إذَا رُفِعَتْ شُبْهَتُهُ , فَلِهَذَا كُرِهَ تَرْكُ الْإِمْهَالِ وَالِاسْتِتَابَةِ , فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الدِّينِ , وَتَبَيَّنَ الْحَقُّ فَالْإِشْرَاكُ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ تَعَنُّتًا , وَقَدْ يَكُونُ لِشُبْهَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ , وَعَلَامَةُ ذَلِكَ طَلَبُ التَّأْجِيلِ , وَإِذَا لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَنِّتٌ فِي ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَتَابَ ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ كَافِرٍ قَدْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ , وَتَجْدِيدُ الدَّعْوَةِ فِي حَقِّ مِثْلِهِ مُسْتَحَبٌّ , وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فَهَذَا كَذَلِكَ , فَإِنْ اُسْتُتِيبَ فَتَابَ خُلِّيَ سَبِيلُهُ , وَلَكِنَّ تَوْبَتَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ , وَيَتَبَرَّأَ عَنْ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا سِوَى الْإِسْلَامِ أَوْ يَتَبَرَّى عَمَّا كَانَ انْتَقَلَ إلَيْهِ , فَإِنَّ تَمَامَ الْإِسْلَامِ مِنْ الْيَهُودِيِّ التَّبَرِّي عَنْ الْيَهُودِيَّةِ , وَمِنْ النَّصْرَانِيِّ التَّبَرِّي عَنْ النَّصْرَانِيَّةِ , وَمِنْ الْمُرْتَدِّ التَّبَرِّي عَنْ كُلِّ مِلَّةٍ سِوَى الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُرْتَدِّ مِلَّةُ مَنْفَعَةٍ , وَإِنْ تَبَرَّأَ عَمَّا انْتَقَلَ إلَيْهِ فَقَدْ حَصَلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ .
===============
فَإِنَّ ارْتَدَّ ثَانِيًا وَثَالِثًا فَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَإِذَا أَسْلَمَ خُلِّيَ سَبِيلُهُ (1)
__________
(1) - المبسوط - (ج 12 / ص 219)(2/128)
لقوله تعالى { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } , وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولَانِ إذَا ارْتَدَّ رَابِعًا لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ , وَلَكِنْ يُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ; لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ مُسْتَخِفٌّ مُسْتَهْزِئٌ , وَلَيْسَ بِتَائِبٍ , وَاسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } , وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْآيَةُ فِي حَقِّ مَنْ ازْدَادَ كُفْرًا لَا فِي حَقِّ مَنْ آمَنَ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَالْخُشُوعَ فَحَالُهُ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ كَحَالِهِ قَبْلَ ذَلِكَ , وَإِذَا أَسْلَمَ يَجِبُ قَبُولُ ذَلِكَ مِنْهُ لقوله تعالى : { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا } . وَرُوِيَ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رضي الله عنه حَمَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَتَلَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ { أَقَتَلْتَ رَجُلًا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَنْ لَكَ بِلَا إلَهٍ إلَّا اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , فَقَالَ : إنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا , فَقَالَ : هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ ؟ , فَقَالَ : لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ مَا كَانَ يَتَبَيَّنُ لِي فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : فَإِنَّمَا يُعَبِّرُ عَنْ قَلْبِهِ لِسَانُهُ } إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ إذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ يُضْرَبُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا لِجِنَايَتِهِ ثُمَّ يُحْبَسُ إلَى أَنْ يُظْهِرَ تَوْبَتَهُ وَخُشُوعَهُ , وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا يُقْتَلُ غِيلَةً , وَهُوَ أَنْ يَنْتَظِرَ فَإِذَا أَظْهَرَ كَلِمَةَ الشِّرْكِ قُتِلَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَتَابَ ; لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ مِنْهُ الِاسْتِخْفَافُ .
===============
وَقَتْلُ الْكَافِرِ الَّذِي بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ جَائِزٌ .(1)
__________
(1) - المبسوط - (ج 12 / ص 221)(2/129)
فَإِنْ أَبَى الْمُرْتَدُّ أَنْ يُسْلِمَ فَقُتِلَ كَانَ مِيرَاثُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا , وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى مَالُهُ فَيْءٌ يُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ } , وَالْمُرْتَدُّ كَافِرٌ فَلَا يَرِثُهُ الْمُسْلِمُ , وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ أَحَدًا فَلَا يَرِثُهُ أَحَدٌ كَالرَّقِيقِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَا يَرِثُهُ مَنْ يُوَاقِفُهُ فِي الْمِلَّةِ , وَالْمُوَافَقَةُ فِي الْمِلَّةِ سَبَبُ التَّوْرِيثِ , وَالْمُخَالَفَةُ فِي الْمِلَّةِ سَبَبُ الْحِرْمَانِ , فَلَمَّا لَمْ يَرِثْهُ مَنْ يُوَافِقُهُ فِي الْمِلَّةِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِ التَّوْرِيثِ فَلَأَنْ لَا يَرِثُهُ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي الْمِلَّةِ أَوْلَى , وَإِذَا انْتَفَى التَّوْرِيثُ عَنْ مَالِهِ فَهُوَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ; لِأَنَّهُ مَالُ حَرْبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ فَيَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ , وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ هُوَ مَالٌ ضَائِعٌ فَمُصِيبُهُ بَيْتُ الْمَالِ كَالذِّمِّيِّ إذَا مَاتَ , وَلَا وَارِثَ لَهُ مِنْ الْكُفَّارِ يُوضَعُ مَالُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ ظَاهِرُ قوله تعالى : { إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } وَالْمُرْتَدُّ هَالِكٌ ; لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً اسْتَحَقَّ بِهَا نَفْسَهُ فَيَكُونُ هَالِكًا { , وَلَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَالَهُ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ } , وَهُوَ كَانَ مُرْتَدًّا , وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا فَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ بِكُفْرِهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ , وَفِيهِ نَزَلَ قوله تعالى { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } , وَإِنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قَتَلَ الْمُسْتَوْرِدَ الْعِجْلِيَّ عَلَى الرِّدَّةِ , وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ , وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذٍ رضي الله تعالى عنهما , وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا مَالِكًا لِمَالِهِ فَإِذَا تَمَّ هَلَاكُهُ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي مَالِهِ كَمَا لَوْ مَاتَ الْمُسْلِمُ , وَتَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الرِّدَّةَ هَلَاكٌ , فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِهِ حَرْبًا , وَأَهْلُ الْحَرْبِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ كَالْمَوْتَى إلَّا أَنَّ تَمَامَ هَلَاكِهِ حَقِيقَةٌ بِالْقَتْلِ أَوْ الْمَوْتِ , فَإِذَا تَمَّ ذَلِكَ اسْتَنَدَ التَّوْرِيثُ إلَى أَوَّلِ الرِّدَّةِ , وَقَدْ كَانَ مُسْلِمًا عِنْدَ ذَلِكَ فَيَخْلُفُهُ وَارِثُهُ الْمُسْلِمُ فِي مَالِهِ , وَيَكُونُ هَذَا تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ , وَهَذَا لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ تَمَامِ سَبَبِهِ يَثْبُتُ مِنْ أَوَّلِ السَّبَبِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا أُجِيزَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْمَبِيعَ بِزَوَائِدِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ جَمِيعًا , فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَكُونُ فِيهِ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ . ( فَإِنْ قِيلَ : ) زَوَالُ مِلْكِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الرِّدَّةِ أَوْ مَعَهَا أَوْ بَعْدَهَا , وَالْحُكْمُ لَا يَسْبِقُ السَّبَبَ وَلَا يَقْتَرِنُ بِهِ بَلْ يَعْقُبُهُ , وَبَعْدَ الرِّدَّةِ هُوَ كَافِرٌ ( قُلْنَا ) نَعَمْ الْمُزِيلُ لِلْمِلْكِ رِدَّتُهُ كَمَا أَنَّ الْمُزِيلَ لِلْمِلْكِ مَوْتُ الْمُسْلِمِ ثُمَّ الْمَوْتُ يُزِيلُ الْمِلْكَ عَنْ الْحَيِّ لَا عَنْ الْمَيِّتِ فَكَذَلِكَ الرِّدَّةُ تُزِيلُ الْمِلْكَ عَنْ الْمُسْلِمِ , وَكَمَا أَنَّ الرِّدَّةَ تُزِيلُ مِلْكَهُ فَكَذَلِكَ تُزِيلُ عِصْمَةَ نَفْسِهِ , وَإِنَّمَا تُزِيلُ الْعِصْمَةَ عَنْ مَعْصُومٍ لَا عَنْ غَيْرِ مَعْصُومٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِهَذَا الطَّرِيقِ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ , وَلِهَذَا لَا يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْكُفَّارُ ; لِأَنَّ التَّوْرِيثَ مِنْ الْمُسْلِمِ , وَالْكَافِرُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ , وَهُوَ دَلِيلُنَا , فَإِنَّهُ كَانَ تَعَلَّقَ بِإِسْلَامِهِ حُكْمَانِ : حِرْمَانُ وَرَثَتِهِ الْكُفَّارِ , وَتَوْرِيثُ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ , ثُمَّ بَقِيَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ بَعْدَ رِدَّتِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُبْقِي عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ الْآخَرُ , وَإِنَّمَا لَا يَرِثُ الْمُرْتَدُّ أَحَدًا لِجِنَايَتِهِ , فَهُوَ كَالْقَاتِلِ لَا يَرِثُ الْمَقْتُولَ لِجِنَايَتِهِ , وَيَرِثُهُ الْمَقْتُولُ لَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ قَبْلَهُ , وَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِجَعْلِ مَالِهِ فَيْئًا , فَإِنَّ هَذَا الْمَالَ كَانَ مُحْرَزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ , وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ الْإِحْرَازُ بِرِدَّتِهِ حَتَّى لَا يَغْنَمَ فِي حَيَاتِهِ , وَالْمَالُ الْمُحْرَزُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ فَيْئًا , وَبِهَذَا تَبَيَّنَ ثُبُوتُ حَقِّ الْوَرَثَةِ فِيهِ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَغْنَمُ فِي حَيَاتِهِ لَا لِحَقِّهِ , فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ بَلْ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ , وَإِنْ قَالَ : يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِيَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ ( قُلْنَا(2/130)
) الْمُسْلِمُونَ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ , وَوَرَثَتُهُ سَاوَوْا الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِسْلَامِ , وَتُرَجَّحُوا عَلَيْهِمْ بِالْقَرَابَةِ , وَذُو السَّبَبَيْنِ مُقَدَّمٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى ذِي سَبَبٍ وَاحِدٍ , فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ أَوْلَى .
===============
ما اكتسبه المرتد حال ردته(1)
فَأَمَّا مَا اُكْتُسِبَ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى هُوَ فَيْءٌ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَعِنْدَهُمَا هُوَ مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ كَسْبَهُ يُوقَفُ عَلَى أَنْ يُسْلَمَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ فَيَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَكَسْبِ الْإِسْلَامِ , وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي بِجَمْعِ الْكَسْبَيْنِ , وَلَيْسَ فِي الرِّدَّةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ صَارَ بِهِ مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ فَيَكُونُ كَالْمَرِيضِ , وَالْمُكْتَسَبُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ كَالْمُكْتَسَبِ فِي الصِّحَّةِ فِي حُكْمِ الْإِرْثِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى يَقُولُ : الْوِرَاثَةُ خِلَافَةٌ فِي الْمِلْكِ , وَالرِّدَّةُ تُنَافِي بَقَاءَ الْمِلْكِ فَتُنَافِي ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى , فَمَا اكْتَسَبَ فِي إسْلَامِهِ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ فَيَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ إذَا تَمَّ انْقِطَاعُ حَقِّهِ عَنْهُ , وَكَسْبُ الرِّدَّةِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ لِقِيَامِ الْمُنَافِي عِنْدَ الِاكْتِسَابِ , وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ حَقُّ أَنْ يَتَمَلَّكَ أَنْ لَوْ أَسْلَمَ , وَالْوَارِثُ لَا يَخْلُفُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَقِّ فَبَقِيَ هَذَا مَالًا ضَائِعًا بَعْدَ مَوْتِهِ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ , وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ : إسْنَادُ التَّوْرِيثِ إلَى أَوَّلِ الرِّدَّةِ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ مُمْكِنٌ ; لِأَنَّ السَّبَبَ يَعْمَلُ فِي الْمَحَلِّ , وَالْمَحَلُّ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ أَوَّلِ الرِّدَّةِ , فَأَمَّا إسْنَادُ التَّوْرِيثِ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ عِنْدَ السَّبَبِ فِي هَذَا الْكَسْبِ , فَلَوْ ثَبَتَ فِيهِ حُكْمُ التَّوْرِيثِ ثَبَتَ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ , وَهُوَ كَافِرٌ بَعْدً الِاكْتِسَابِ , وَالْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ فَيَبْقَى مَوْقُوفًا عَلَى أَنْ يُسْلَمَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ . فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ بِأَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَهَذَا كَسْبُ حَرْبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ فَيَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ يُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ , ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى فِيمَنْ يَرِثُ الْمُرْتَدَّ فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ وَقْتَ رِدَّتِهِ , وَبَقِيَ إلَى مَوْتِ الْمُرْتَدِّ , فَإِنَّهُ يَرِثُهُ , وَمَنْ حَدَثَ لَهُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَرِثُهُ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ بَعْضُ قَرَابَتِهِ بَعْدَ رِدَّتِهِ , أَوْ وُلِدَ لَهُ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ رِدَّتِهِ , فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ; لِأَنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ الرِّدَّةُ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ ذَلِكَ السَّبَبِ لَمْ يَنْعَقِدْ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ , ثُمَّ تَمَامُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْمَوْتِ , فَإِنَّمَا يَتِمُّ فِي حَقِّ مَنْ انْعَقَدَ لَهُ السَّبَبُ لَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَنْعَقِدْ لَهُ السَّبَبُ , ثُمَّ فِي حَقِّ مَنْ انْعَقَدَ لَهُ السَّبَبُ يُشْتَرَطُ بَقَاؤُهُ إلَى وَقْتِ تَمَامِ الِاسْتِحْقَاقِ , فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ يَبْطُلُ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْمَوْقُوفِ يَتِمُّ الْمِلْكُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ مِنْ وَقْتِ السَّبَبِ , وَلَكِنْ بِشَرْطِ قِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ بَطَلَ السَّبَبُ , وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَارِثِ , وَقْتَ الرِّدَّةِ ثُمَّ لَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُرْتَدِّ ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ كَالْمَوْتِ , وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ قَبْلَ قِسْمَةِ مِيرَاثِهِ لَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ , وَلَكِنْ يَخْلُفُهُ , وَارِثُهُ فِيهِ فَهَذَا مِثْلُهُ , وَأَمَّا رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى , وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ حِينَ مَاتَ أَوْ قُتِلَ , سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الرِّدَّةِ أَوْ حَدَثَ بَعْدَهُ ; لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْلَ تَمَامِهِ يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي تَحْدُثُ مِنْ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ تُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فِي أَنَّهُ يَصِيرُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ , وَيَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ فَهَهُنَا أَيْضًا مَنْ يُحْدِثُ قَبْلَ انْعِقَادِ السَّبَبِ يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ , وَلَوْ تُصُوِّرَ بَعْدَ الْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ , وَلَدٌ لَهُ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ لَكِنَّا
__________
(1) - المبسوط - (ج 12 / ص 224)(2/131)
نَجْعَلُهُ كَذَلِكَ أَيْضًا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ , فَأَمَّا بَعْدَ الْهَلَاكِ بِالْحُكْمِ بِالرِّدَّةِ يُتَصَوَّرُ فَيُجْعَلُ الْحَادِثُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ , وَكَذَلِكَ إنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ قَسَّمَ الْإِمَامُ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ , وَكَانَ لِحَاقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ , وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى يَبْقَى مَالُهُ بَعْدَ لِحَاقِهِ مَوْقُوفًا كَمَا كَانَ قَبْلَ لِحَاقِهِ ; لِأَنَّ ذَهَابَهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ نَوْعُ غِيبَةٍ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ مَالِهِ , كَمَا لَوْ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَلَكِنَّا نَقُولُ : إنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا حَقِيقَةً وَحُكْمًا ; لِأَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ حَيَاةَ نَفْسِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ حِينَ عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ , وَالْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالْمَيِّتِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } , وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي النِّكَاحِ فِي مَسْأَلَةِ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ , وَلِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ يَدِ الْإِمَامِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا , وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ لِمَوْتِهِ حَقِيقَةً بِأَنْ يَقْتُلَهُ وَيُقَسِّمَ مَالَهُ , فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ عَنْ يَدِهِ مَوَّتَهُ حُكْمًا فَيُقَسِّمُ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ , وَحَكَمَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبِّرِيهِ وَبِحُلُولِ آجَالِهِ ثُمَّ قَالَ أَبُو يُوسُفَ يُعْتَبَرُ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ وَقْتَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ , وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَقْتَ لِحَاقِهِ , وَهَذَا لِأَنَّ عِنْدَهُمَا مِلْكَهُ لَا يَزُولُ بِالرِّدَّةِ , وَلِهَذَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمُرْتَدِّ عِنْدَهُمَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ , فَإِنَّمَا زَوَالُ مِلْكِهِ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ عِنْدَ لِحَاقِهِ فَيُعْتَبَرُ وَارِثُهُ عِنْدَ ذَلِكَ , وَلِحَاقُهُ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ فَهُوَ كَالْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ بِالْقَتْلِ , وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : اللِّحَاقُ فِي الْحَقِيقَةِ غِيبَةٌ , وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَوْتًا حُكْمًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَيُعْتَبَرُ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ عِنْدَ الْقَضَاءِ بِاللِّحَاقِ فِي اسْتِحْقَاقِ مَالِهِ , وَكَذَلِكَ تَرِثُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ إنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ ; لِأَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا , وَإِنْ ارْتَفَعَ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ لَكِنَّهُ فَارٌّ عَنْ مِيرَاثِهَا . وَامْرَأَةُ الْفَارِّ تَرِثُ إذَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ عِنْدَ مَوْتِهِ , وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ تَرِثُ , وَإِنْ كَانَتْ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى ; لِأَنَّ السَّبَبَ التَّوْرِيثُ كَانَ مَوْجُودًا فِي حَقِّهَا عِنْدَ رِدَّتِهِ , وَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ قِيَامُ السَّبَبِ عِنْدَ أَوَّلِ الرِّدَّةِ , وَتَبْطُلُ وَصَايَاهُ ; لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصَايَا لِحَقِّ الْمُوصِي , وَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ بَعْدَ مَا قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ , وَهَذَا بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ , فَإِنَّ حَقَّ الْعَبْدِ فِي الْعِتْقِ بِالتَّدْبِيرِ قَدْ ثَبَتَ لَلْمُدَبَّرِ فَيَكُونُ عِتْقُهُ كَعِتْقِ أُمِّ الْوَلَدِ أَوْ حَقُّهُ كَحَقِّ أَصْحَابِ الدُّيُونِ , وَفِي الْكِتَابِ يَقُولُ : رِدَّتُهُ كَرُجُوعِهِ عَنْ الْوَصِيَّةِ ; لِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ يَبْطُلُ حَقُّهُ , وَتَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ كَانَ لِحَقِّهِ فَرُجُوعُهُ يَعْمَلُ فِي إبْطَالِ وَصَايَاهُ , وَلَا يَعْمَلُ فِي إبْطَالِ تَدْبِيرِهِ فَكَذَلِكَ رِدَّتُهُ , وَهُوَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَا دَامَ الْمُرْتَدُّ مُقِيمًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَبِمَوْتِهِ بِالْقَتْلِ حَقِيقَةً إنْ لَمْ يُسْلِمْ أَوَّلًا ثُمَّ يُقَسِّمُ مَالَهُ , وَإِنَّ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ لِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ تَائِبًا قَدْ مَضَى جَمِيعُ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ شَيْئًا مِنْ مِلْكِهِ بِعَيْنِهِ فِي يَدِ وَارِثِهِ أَخَذَهُ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ , وَالْخَلْفُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ إذَا ظَهَرَ الْأَصْلُ , وَلَمَّا جَاءَ تَائِبًا فَقَدْ صَارَ حَيًّا حُكْمًا , وَإِنَّمَا كَانَتْ خِلَافَةُ الْوَارِثِ إيَّاهُ فِي هَذَا الْمِلْكِ كَمَوْتِهِ حُكْمًا , فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ ظَهَرَ حُكْمُ الْأَصْلِ , وَلِهَذَا قُلْنَا : لَوْ كَانَ الْوَارِثُ كَاتَبَ عَبْدًا يُعَادُ إلَيْهِ ذَلِكَ الْعَبْدُ مُكَاتَبًا ; لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ مُنْتَقِلًا مِنْ الْخَلْفِ إلَى الْأَصْلِ , وَتَأْثِيرُ الْكِتَابَةِ فِي مَنْعِ النَّقْلِ , وَلَكِنْ يَنْعَدِمُ الْخَلْفُ بِظُهُورِ الْأَصْلِ فَيَكُونُ الْمِلْكُ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ بِطَرِيقِ الْبَقَاءِ , وَلَا يُعَادُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا بَاعَهُ وَارِثُهُ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ وَالْخَلْفَ فِي الْحُكْمِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِهِ عِنْدَ ظُهُورِ الْأَصْلِ لِيَكُونَ عَامِلًا , وَمَا تَصَرَّفَ الْوَارِثُ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ نَافِذٌ مِنْهُ لِمُصَادِفَتِهِ مِلْكَهُ , وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَتْلَفَهُ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ(2/132)
كَانَ خَالِصًا لَهُ , وَفِعْلُهُ فِيمَا خَلَصَ حَقًّا لَهُ لَا يَكُونُ سَبَبَ الضَّمَانِ فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ الْإِمَامُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى رَجَعَ تَائِبًا فَجَمِيعُ ذَلِكَ لَهُ كَمَا كَانَ قَبْلَ رِدَّتِهِ ; لِأَنَّ اللِّحَاقَ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ الْقَضَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْغِيبَةِ فَهُوَ وَالْمُتَرَدِّدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ .
================
( قَالَ ) وَجَمِيعُ مَا فَعَلَ الْمُرْتَدُّ فِي حَالِ رِدَّتِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءِ أَوْ عِتْقٍ أَوْ تَدْبِيرٍ أَوْ كِتَابَةٍ بَاطِلٌ إنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ , وَقَسَّمَ الْإِمَامُ مَالَهُ (1)0
__________
(1) -المبسوط - (ج 12 / ص 229)(2/133)
وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ مِنْهَا نَافِذٌ بِالِاتِّفَاقِ , وَهُوَ الِاسْتِيلَادُ حَتَّى إذَا جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فَادَّعَى نَسَبَهُ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ , وَوَرِثَ هَذَا الْوَلَدُ مَعَ وَرَثَتِهِ , وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ; لِأَنَّ حَقَّهُ فِي مِلْكِهِ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْأَبِ فِي جَارِيَةِ وَلَدِهِ , وَاسْتِيلَادُ الْأَبِ صَحِيحٌ فَاسْتِيلَادُ الْمُرْتَدِّ أَوْلَى ; لِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ حَتَّى إذَا أَسْلَمَ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ , وَحَقُّهُ فِيهَا أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ , وَهُنَاكَ يَصِحُّ مِنْهُ دَعْوَةُ النَّسَبِ فَهَهُنَا أَوْلَى إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَحْتَاجُ إلَى تَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمِلْكِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ , وَهَهُنَا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَصْدِيقِ الْوَرَثَةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ مِلْكُ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْحَالِ , وَمِنْهَا مَا هُوَ بِالِاتِّفَاقِ بَاطِلٌ فِي الْحَالِ كَالنِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ ; لِأَنَّ الْحِلَّ بِهِمَا يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ , وَلَا مِلَّةَ لِلْمُرْتَدِّ فَقَدْ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ , وَهُوَ غَيْرُ مُقِرٍّ عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ , وَمِنْهَا مَا هُوَ مَوْقُوفٌ بِالِاتِّفَاقِ , وَهُوَ الْمُفَاوَضَةُ , فَإِنَّهُ إذَا شَارَكَ غَيْرَهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ تُوقَفُ صِفَةُ الْمُفَاوَضَةِ بِالِاتِّفَاقِ , وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي تَوَقُّفِ أَصْلِ الشَّرِكَةِ , وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ , وَهُوَ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى يَتَوَقَّفُ بَيْنَ أَنْ يَنْفُذَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ يَبْطُلَ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَعِنْدَهُمَا نَافِذٌ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رحمه الله تعالى يَقُولُ يَنْفُذُ كَمَا يَنْفُذُ مِنْ الصَّحِيحِ حَتَّى يُعْتَبَرَ تَبَرُّعَاتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ , وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى يَنْفُذُ كَمَا يَنْفُذُ مِنْ الْمَرِيضِ وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ لَاقَى تَصَرُّفُهُ مِلْكَهُ فَيَنْفُذُ , وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ التَّصَرُّفَ قَوْلٌ , وَالْأَهْلِيَّةُ لَهُ بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ شَرْعًا , وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِالرِّدَّةِ , وَالْمَالِكِيَّةُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ , وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِالرِّدَّةِ إنَّمَا تَأْثِيرُ رِدَّتِهِ فِي إبَاحَةِ دَمِهِ , وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْمَالِكِيَّةِ كَالْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ , وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ الرِّدَّةِ نَافِذٌ بِالِاتِّفَاقِ , وَحَالُ الْحُرِّ فِي التَّصَرُّفِ فَوْقَ حَالِ الْمُكَاتَبِ , فَإِذَا كَانَتْ الرِّدَّةُ لَا تُنَافِي مِلْكَ الْيَدِ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ تَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ , فَلَأَنْ لَا يُنَافِي مِلْكَ الْحُرِّ وَتَصَرُّفَهُ أَوْلَى إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله تعالى قَالَ : هُوَ مُشْرِفٌ عَلَى الْهَلَاكِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ فِي التَّصَرُّفِ . أَلَا تَرَى أَنَّ زَوْجَتَهُ تَرِثُهُ بِحُكْمِ الْفِرَارِ , وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْمَرِيضِ وَأَبُو يُوسُفَ رحمه الله تعالى يَقُولُ : هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِسَبَبٍ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ مَرْغُوبٍ فِيهِ فَلَا يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمَرِيضِ , كَمَنْ قَصَدَ أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ لَا يَصِيرُ بِهِ فِي حُكْمِ الْمَرِيضِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِيرُ كَالْمَرِيضِ مَا دَامَ فِي السِّجْنِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِادِّعَاءِ شُبْهَةٍ فَالْمُرْتَدُّ أَوْلَى , وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : بِالرِّدَّةِ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ الْمَالِ , وَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى الْعَوْدِ إلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ , وَتَصَرُّفُهُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ فَيَتَوَقَّفُ بِتَوَقُّفِ الْمِلْكِ , وَدَلِيلُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ , وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ الْعِصْمَةِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ عِصْمَةَ النَّفْسِ وَالْمَالِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ عِصْمَةُ نَفْسِهِ تَزُولُ بِالرِّدَّةِ حَتَّى يُقْتَلَ , فَكَذَلِكَ عِصْمَةُ مَالِهِ , وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ هَالِكٌ حُكْمًا , وَإِذَا كَانَ الْهَلَاكُ حَقِيقَةً يُنَافِي مَالِكِيَّةَ الْمَالِ , وَلَا يُنَافِي تَوَقُّفَ الْمَالِ عَلَى حَقِّهِ , كَالتَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ , فَكَذَلِكَ الْهَلَاكُ الْحُكْمِيُّ , وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الرِّدَّةِ فِي نَفْيِ الْمَالِكِيَّةِ فَوْقَ تَأْثِيرِ الرِّقِّ , فَإِنَّ الرِّقَّ يُنَافِي مَالِكِيَّةَ الْمَالِ , وَلَا يُنَافِي مَالِكِيَّةَ النِّكَاحِ , وَالرِّدَّةُ تُنَافِيهِمَا , وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ وَالرَّجْمِ , فَهُنَاكَ لَمْ يَزُلْ مَا بِهِ عِصْمَةُ الْمَالِ وَالنَّفْسِ , وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ نَفْسَهُ بِمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ تِلْكَ الْعِصْمَةِ فَيَبْقَى مَالِكًا(2/134)
حَقِيقَةً لِبَقَاءِ عِصْمَةِ مَالِهِ , وَقَدْ انْعَدَمَ هَهُنَا مَا بِهِ كَانَتْ الْعِصْمَةُ فِي حَقِّ النَّفْسِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَالِ ; لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ فِي الْعِصْمَةِ , وَبِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ بِاعْتِبَارِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ , وَالرِّدَّةِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْهَلَاكَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْكِتَابَةِ فَالْهَلَاكُ الْحُكْمِيُّ أَوْلَى , وَلِهَذَا نَفَذَ تَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ لِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ , وَهَهُنَا بِالِاتِّفَاقِ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ بَعْدَ لِحَاقِهِ بَلْ يَتَوَقَّفُ فَكَذَلِكَ قَبْلَ لِحَاقِهِ ; لِأَنَّ الْهَلَاكَ بِرِدَّتِهِ لَا بِلِحَاقِهِ , وَكَذَلِكَ التَّوْرِيثُ بِاعْتِبَارِ رِدَّتِهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا أَنَّهُ يَسْتَنِدُ التَّوْرِيثُ إلَى أَوَّلِ الرِّدَّةِ لِيَكُونَ فِيهِ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ , وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بِالرِّدَّةِ صَارَ حَرْبِيًّا , وَلِهَذَا يُقْتَلُ , وَالْحَرْبِيُّ الْمَقْهُورُ فِي أَيْدِينَا يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهُ كَالْمَأْسُورِينَ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ تَوَقُّفُ حَالِهِمْ بَيْنَ الِاسْتِرْقَاقِ وَالْقَتْلِ وَالْمَنِّ , وَهَهُنَا بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْإِسْلَامِ , ثُمَّ تَوَقُّفُ تَصَرُّفِهِمْ هُنَاكَ لِتَوَقُّفِ حَالِهِمْ فَكَذَلِكَ هَهُنَا .
================
وَإِذَا أَعْتَقَ الْمُرْتَدُّ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ ابْنُهُ أَيْضًا , وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (1)
أَمَّا عِتْقُ الْمُرْتَدِّ فَكَانَ مَوْقُوفًا فَبِمَوْتِهِ يَبْطُلُ , وَأَمَّا عِتْقُ الْوَارِثِ فَقَدْ سَبَقَ مِلْكَهُ ; لِأَنَّ قَبْلَ مَوْتِ الْمُرْتَدِّ لَا مِلْكَ لِلْوَارِثِ فِي مَالِهِ بَلْ الْمِلْكُ مَوْقُوفٌ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَدِّ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْوَارِثِ , وَهَذَا بِخِلَافِ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ إذَا أَعْتَقَ الْوَارِثُ عَبْدًا مِنْهَا ثُمَّ سَقَطَ الدَّيْنُ ; لِأَنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ هُنَاكَ قَدْ تَمَّ , وَالتَّوَقُّفُ لَحِقَ الْغُرَمَاءَ , وَالْعِتْقُ بَعْدَ تَمَامِ سَبَبِ الْمِلْكِ لَا يَتَوَقَّفُ , وَهَهُنَا أَصْلُ السَّبَبِ انْعَقَدَ بِالرِّدَّةِ , وَلَكِنْ لَا يَتِمُّ لِقِيَامِ الْأَصْلِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا , وَالْخِلَافَةُ تَكُونُ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَصْلِ فَلِهَذَا لَا تَنْفُذُ تَصَرُّفَاتٌ لِوَارِثٍ , وَإِنْ مَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ .
==============
ميراث الأب المرتد لمعتقه(2)
وَإِذَا مَاتَ الِابْنُ وَلَهُ مُعْتَقٌ وَالْأَبُ مُرْتَدٌّ , ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَلَهُ مُعْتَقٌ كَانَ مِيرَاثُ الْأَبِ لِمُعْتَقِهِ دُونَ مُعْتَقِ الِابْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ , وَإِنْ انْعَقَدَ بِالرِّدَّةِ , فَإِذَا مَاتَ الِابْنُ قَبْلَ وَقْتِ تَمَامِ السَّبَبِ بَطَلَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ بَقَاءَهُ إلَى وَقْتِ تَمَامِ السَّبَبِ شَرْطٌ , وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ , وَمَا اكْتَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى , وَهُمَا يَسْتَدِلَّانِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى بِكَسْبِ الرِّدَّةِ أَنَّهُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ حَتَّى لَوْ قَضَى دَيْنَهُ بِكَسْبِ رِدَّتِهِ أَوْ رَهْنَهُ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ كَانَ صَحِيحًا , فَكَذَلِكَ كَسْبُ الْإِسْلَامِ , وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ سَلَّمَ وَاشْتَغَلَ بِالْفَرْقِ فَقَالَ : تَصَرُّفُهُ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ كَسْبُهُ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِلْكُهُ ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُنَافِي الْمِلْكَ , فَأَمَّا فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ تَصَرُّفُهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ , وَقَدْ بَيَّنَّا تَوَقُّفَ مِلْكِهِ , وَالْأَصَحُّ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهُ فِي الْكَسْبَيْنِ جَمِيعًا , وَيَبْطُلُ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ , وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ , فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَقْضِي دُيُونَهُ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ , فَإِنْ لَمْ يَفِ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ حَقُّ وَرِيثِهِ , وَلَا حَقَّ لِوَرَثَتِهِ فِي كَسْبِ رِدَّتِهِ بَلْ هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ , فَلِهَذَا كَانَ فَيْئًا إذَا قُتِلَ فَكَانَ وَفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ أَوْلَى , فَعَلَى هَذَا نَقُولُ : عَقْدُ الرَّهْنِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ .
===============
__________
(1) - المبسوط - (ج 12 / ص 233)
(2) - المبسوط - (ج 12 / ص 234)(2/135)
وَإِذَا قَضَى دَيْنَهُ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ أَوْ رَهْنَهُ بِالدَّيْنِ فَقَدْ فَعَلَ عَيْنَ مَا كَانَ يَحِقُّ فِعْلُهُ (1); فَلِهَذَا كَانَ نَافِذًا , وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَبْدَأُ بِكَسْبِ الْإِسْلَامِ فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ , فَإِنْ لَمْ تَفِ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ ; لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ مِلْكِ الْمَدْيُونِ , وَكَسْبُ الْإِسْلَامِ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ , وَلِهَذَا يَخْلُفُهُ الْوَارِثُ فِيهِ , وَخِلَافَةُ الْوَارِثِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حَقِّهِ فَأَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ فَلَا يَقْضِي دَيْنَهُ مِنْهُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ , فَعَلَى هَذَا لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الرَّهْنِ , وَقَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ إذَا كَانَ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ وَفَاءٌ بِذَلِكَ , وَرَوَى زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ دُيُونَ إسْلَامِهِ تُقْضَى مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ , وَمَا اسْتَدَانَ فِي الرِّدَّةِ يُقْضَى مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ ; لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْكَسْبَيْنِ مُخْتَلِفٌ , وَحُصُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَسْبَيْنِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الدَّيْنُ فَيَقْضِي كُلَّ دَيْنٍ مِنْ الْكَسْبِ الْمُكْتَسَبِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِمُقَابَلَةِ الْغُنْمِ , وَبِهِ أَخَذَ زُفَرُ رحمه الله تعالى .
===============
وَإِنَّ جَنَى الْمُرْتَدُّ جِنَايَةً لَمْ يَعْقِلْهُ الْعَاقِلَةُ ;(2)
لِأَنَّ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النُّصْرَةِ , وَهُوَ أَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْجِنَايَةِ بِقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ , وَأَحَدٌ لَا يَنْصُرُ الْمُرْتَدَّ , أَوْ ذَلِكَ لِلتَّخْفِيفِ عَلَى الْجَانِي لِعُذْرِ الْخَطَأِ , وَالْمُرْتَدُّ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلتَّخْفِيفِ فَيَكُونُ الْأَرْشُ فِي مَالِهِ , وَكَذَلِكَ مَا غَصَبَ وَأَتْلَفَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ فَذَلِكَ كُلُّهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ إلَّا مَا اكْتَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِيهِ ; لِأَنَّهُ كَسْبُهُ فَيَكُونُ مَصْرُوفًا إلَى دَيْنِهِ كَكَسْبِ الْمُكَاتَبِ .
==============
وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ هَدَرٌ ;(3)
لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لِعِصْمَةِ نَفْسِهِ , وَقَدْ انْعَدَمَتْ الْعِصْمَةُ بِرِدَّتِهِ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ هَدَرًا .
===============
حكم من قطع يد مسلم ثم ارتد المقطوعة يده(4)
__________
(1) - المبسوط - (ج 12 / ص 235)
(2) - المبسوط - (ج 12 / ص 236)
(3) - المبسوط - (ج 12 / ص 237)
(4) - المبسوط - (ج 12 / ص 238)(2/136)
مُسْلِمٌ قَطَعَ يَدَ مُسْلِمٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَمَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارُ الْحَرْبِ فَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ الْيَدِ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ عَمْدًا , وَعَلَى عَاقِلَتِهِ إنْ كَانَ خَطَأً ; لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ كَانَتْ جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلضَّمَانِ , وَقَدْ انْقَطَعَتْ السِّرَايَةُ بِزَوَالِ عِصْمَةِ نَفْسِهِ بِالرِّدَّةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ انْقَطَعَ بِالْبُرْءِ فَيَلْزَمُهُ دِيَةُ الْيَدِ فَقَطْ , وَإِنَّ أَسْلَمَ قَبْلَ اللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ مَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رحمهما الله عَلَيْهِ دِيَةُ النَّفْسِ اسْتِحْسَانًا , وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رحمهما الله لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا دِيَةُ الْيَدِ قِيَاسًا ; لِأَنَّ السِّرَايَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بِزَوَالِ عِصْمَةِ نَفْسِهِ بِالرِّدَّةِ ثُمَّ بِالْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعِصْمَةَ لَمْ تَكُنْ زَائِلَةً , فَحُكْمُ السِّرَايَةِ بَعْدَ مَا انْقَطَعَ لَا يَعُودُ , وَكَانَ مَوْتُهُ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ , وَمَوْتُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ سَوَاءٌ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ ثَانِيًا فَمَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْقَاطِعِ إلَّا دِيَةُ الْيَدِ فَكَذَلِكَ قَبْلَ اللُّحُوقِ , وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ وَالسِّرَايَةِ لَحِقَهُ بَعْدَ سُقُوطِ حَقِّهِ بِالرِّدَّةِ فَيَصِيرُ هُوَ كَالْمُبْرَإِ عَنْ سِرَايَةِ تِلْكَ الْجِنَايَةِ كَمَا لَوْ قُطِعَ يَدُ عَبْدٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ أَوْ بَاعَهُ صَارَ مُبْرِئًا عَنْ السِّرَايَةِ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ , وَبَعْدَ مَا صَحَّ الْإِبْرَاءُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إعَادَةِ حَقِّهِ فِي السِّرَايَةِ فَكَانَ وُجُودُ إسْلَامِهِ فِي حُكْمِ السِّرَايَةِ كَعَدَمِهِ , وَهُمَا يَقُولَانِ حَقُّهُ تَوَقَّفَ بِالرِّدَّةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فَإِذَا أَسْلَمَ زَالَ التَّوَقُّفُ فَصَارَ مَا اعْتَرَضَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ , بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا بَاعَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ فَقَدْ تَمَّ زَوَالُ مِلْكِهِ هُنَاكَ , وَاعْتِبَارُ الْجِنَايَةِ كَانَ لِمِلْكِهِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ فِي الْمَمَالِيكِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ , وَلِهَذَا يَجِبُ الضَّمَانُ لِتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ فِي الْمَالِيَّةِ شَيْئًا فَشَيْئًا , وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ أَصْلًا , وَبِالْبَيْعِ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ , فَأَمَّا وُجُوبُ ضَمَانِ الْجُزْءِ بِاعْتِبَارِ النَّفْسِيَّةِ , وَلَا يَنْعَدِمُ بِالرِّدَّةِ , وَلَكِنَّ الْعِصْمَةَ شَرْطٌ , فَإِنَّمَا يُرَاعَى وُجُودُهُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ لِيَنْعَقِدَ مُوجِبًا , وَعِنْدَ تَقَرُّرِهِ بِالْمَوْتِ لِتَقَرُّرِ الْحُكْمِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ بَقَاءُ الْعِصْمَةِ , وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ يَعْتِقُ لِهَذَا الْمَعْنَى , فَأَمَّا إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ , فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى بِلِحَاقِهِ فَقَدْ صَارَ مَيِّتًا حُكْمًا , وَبَقَاءُ حُكْمِ الْجِنَايَةِ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ النَّفْسِيَّةِ , وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ مَوْتِهِ حُكْمًا إذْ لَا تَصَوُّرَ لِبَقَاءِ الْحُكْمِ بِدُونِ الْمَحَلِّ , وَإِذَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ , فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ سَلَّمَ وَقَالَ : بِنَفْسِ اللِّحَاقِ صَارَ حَرْبِيًّا , وَالْحَرْبِيُّ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ , وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ تُسْتَرَقُّ كَسَائِرِ الْحَرْبِيَّاتِ فَيَتِمُّ بِهِ انْقِطَاعُ حُكْمِ السِّرَايَةِ , بِخِلَافِ مَا قَبْلَ لِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ , يُوَضِّحُهُ أَنَّ الرِّدَّةَ عَارِضٌ , فَإِذَا زَالَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ كَالْعَصِيرِ الْمُشْتَرَى إذَا تَخَمَّرَ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ تَخَلَّلَ بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا , وَلَا يُعْتَبَرُ زَوَالُهُ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ كَمَا فِي الْعَصِيرِ إذَا تَخَمَّرَ , فَقَضَى الْقَاضِي بِفَسْخِ الْعَقْدِ ثُمَّ تَخَلَّلَ , وَبِاللِّحَاقِ قَدْ تَقَرَّرَ خُصُوصًا إذَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي فَلَا يُعْتَبَرُ زَوَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ اللِّحَاقِ .(2/137)
وَإِنَّ كَانَ الْقَاطِعُ هُوَ الَّذِي ارْتَدَّ فَقُتِلَ , وَمَاتَ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ مِنْ ذَلِكَ مُسْلِمًا , فَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَلَا شَيْءَ لَهُ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْعَمْدِ الْقَوَدُ , وَقَدْ فَاتَ مَحَلُّهُ حِينَ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ , وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَاطِعِ دِيَةُ النَّفْسِ ; لِأَنَّهُ عِنْدَ الْجِنَايَةِ كَانَ مُسْلِمًا , وَجِنَايَةُ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَتْ خَطَأً عَلَى عَاقِلَتِهِ , وَتَبَيَّنَ بِالسِّرَايَةِ أَنَّ جِنَايَتَهُ كَانَتْ قَتْلًا فَلِهَذَا كَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةُ النَّفْسِ , وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ كَانَتْ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ فِي مَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَعْقِلُ جِنَايَتَهُ أَحَدٌ .
==============
وَلَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ , وَلَكِنَّهَا تُحْبَسُ , وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا (1)0
__________
(1) - المبسوط - (ج 12 / ص 241)(2/138)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى تُقْتَلُ إنْ لَمْ تُسْلِمْ , وَهَكَذَا كَانَ يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله تعالى فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ رَجَعَ أَنَّهُ الْحَسَنُ , عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا تَخْرُجُ فِي كُلِّ قَلِيلٍ , وَتُعَذَّرُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ سَوْطًا ثُمَّ تُعَادُ إلَى الْحَبْسِ إلَى أَنْ تَتُوبَ أَوْ تَمُوتَ , وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } , وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } , وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْقَتْلِ تَبْدِيلُ الدِّينِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِبَيَانِ الْعِلَّةِ , وَقَدْ تَحَقَّقَ تَبْدِيلُ الدِّينِ مِنْهَا , وَفِي الْحَدِيثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ مُرْتَدَّةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ مَرْوَانَ } , وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَتَلَ مُرْتَدَّةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ فُرْقَةَ , وَلِأَنَّهَا اعْتَقَدَتْ دِينًا بَاطِلًا بَعْدَ مَا اعْتَرَفَتْ بِبُطْلَانِهِ فَتُقْتَلُ كَالرَّجُلِ , وَهَذَا لِأَنَّ الْقَتْلَ جَزَاءٌ عَلَى الرِّدَّةِ ; لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ مِنْ أَعْظَمِ الْجَرَائِمِ , وَلِهَذَا كَانَ قَتْلُ الْمُرْتَدِّ مِنْ خَالِصِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى , وَمَا يَكُونُ مِنْ خَالِصِ حَقِّ اللَّهِ فَهُوَ جَزَاءٌ , وَفِي أَجْزِيَةِ الْجَرَائِمِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ سَوَاءٌ كَحَدِّ الزِّنَا , وَالسَّرِقَةِ , وَشُرْبِ الْخَمْرِ , وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ بِالرِّدَّةِ أَغْلَظُ مِنْ الْجِنَايَةِ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ , فَإِنَّ الْإِنْكَارَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ أَغْلَظُ مِنْ الْإِصْرَارِ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى الْإِنْكَارِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ , وَبِأَنْ كَانَتْ لَا تُقْتَلُ إذَا لَمْ تَتَغَلَّظُ جِنَايَتُهَا فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْتَلُ إذَا تَغَلَّظَتْ جِنَايَتُهَا ثُمَّ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ إذَا تَغَلَّظَتْ جِنَايَتُهَا بِأَنْ كَانَتْ مُقَاتِلَةً أَوْ سَاحِرَةً أَوْ مَلِكَةً تُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ تُقْتَلُ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الرِّدَّةِ , وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا تُحْبَسُ , وَتُعَزَّرُ , وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الرِّدَّةِ , وَلَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهَا فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ , وَكَذَلِكَ الشُّيُوخُ , وَأَصْحَابُ الصَّوَامِعِ , وَالرُّهْبَانُ يُقْتَلُونَ بَعْدَ الرِّدَّةِ , وَلَا يُقْتَلُونَ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ , وَذَوُو الْأَعْذَارِ كَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ كَذَلِكَ , وَكَذَلِكَ الرِّقُّ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ يَمْنَعُ الْقَتْلَ , وَهُوَ مَا إذَا اُسْتُرِقَّ الْأَسِيرُ , وَفِي الرِّدَّةِ لَا يَمْنَعُ ثُمَّ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ لَا تَسْلَمُ لَهَا نَفْسُهَا حَتَّى تَسْتَرِقَّ لِيَنْتَفِعَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَ الرِّدَّةِ , وَبِالِاتِّفَاقِ لَا تُسْتَرَقُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَقُلْنَا أَنَّهَا تُقْتَلُ . ( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ { نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ } , وَفِيهِ حَدِيثَانِ أَحَدُهُمَا مَا رَوَاهُ رَبَاحُ بْنُ رَبِيعَةَ رضي الله تعالى عنه { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ قَوْمًا مُجْتَمَعِينَ عَلَى شَيْءٍ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا يَنْظُرُونَ إلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ فَقَالَ لِوَاحِدٍ : أَدْرِكْ خَالِدًا وَقُلْ لَهُ : لَا يَقْتُلْنَ عَسِيفًا وَلَا ذُرِّيَّةً } , وَالثَّانِي حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً فَقَالَ مَنْ قَتَلَ هَذِهِ قَالَ رَجُلٌ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْدَفْتهَا خَلْفِي فَأَهْوَتْ إلَى سَيْفِي لِتَقْتُلَنِي فَقَتَلْتُهَا , فَقَالَ : مَا شَأْنُ قَتْلِ النِّسَاءِ وَارِهَا وَلَا تَعُدْ } { وَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ امْرَأَةً مَقْتُولَةً فَقَالَ : هَا مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ } فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقَتْلِ بِعِلَّةِ الْقِتَالِ , وَأَنَّ النِّسَاءَ لَا يُقْتَلْنَ ; لِأَنَّهُنَّ لَا يُقَاتِلْنَ , وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ , وَبَيْنَ الْكُفْرِ الطَّارِئِ , وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ غَيْرُ مُجْرَى عَلَى ظَاهِرِهِ , فَالتَّبْدِيلُ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ عَامٌّ لَحِقَهُ خُصُوصٌ فَنَخُصُّهُ وَنَحْمِلُهُ عَلَى الرِّجَالِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا , وَالْمُرْتَدَّةُ الَّتِي قُتِلَتْ كَانَتْ مُقَاتِلَةً , فَإِنَّ أُمَّ مَرْوَانَ كَانَتْ تُقَاتِلُ وَتُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ , وَكَانَتْ مُطَاعَةً فِيهِمْ , وَأُمُّ فُرْقَةَ كَانَ لَهَا ثَلَاثُونَ ابْنًا , وَكَانَتْ تُحَرِّضُهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ , فَفِي قَتْلِهَا كَسْرُ شَوْكَتِهِمْ , وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه بِطَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ وَالسِّيَاسَةِ كَمَا أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ النِّسَاءِ اللَّاتِي ضَرَبْنَ الدُّفَّ لِمَوْتِ رَسُولِ(2/139)
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِظْهَارِ الشَّمَاتَةِ , وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا كَافِرَةٌ فَلَا تُقْتَلُ كَالْأَصْلِيَّةِ , وَهَذَا لِأَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ بِجَزَاءٍ عَلَى الرِّدَّةِ بَلْ هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِاعْتِبَارِ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ يَسْقُطُ لِانْعِدَامِ الْإِصْرَارِ , وَمَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا جَزَاءً لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ كَالْحُدُودِ , فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا ظَهَرَ سَبَبُهَا عِنْدَ الْإِمَامِ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ , وَحَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ بَلْ تَوْبَتُهُ بِرَدِّ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ , فَلَا يَظْهَرُ السَّبَبُ عِنْدَ الْإِمَامِ بَعْدَ ذَلِكَ يُقَرِّرُهُ أَنَّ تَبْدِيلَ الدِّينِ , وَأَصْلُ الْكُفْرِ مِنْ أَعْظَمِ الْجِنَايَاتِ , وَلَكِنَّهَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَالْجَزَاءُ عَلَيْهَا مُؤَخَّرٌ إلَى دَارِ الْجَزَاءِ , وَمَا عُجِّلَ فِي الدُّنْيَا سِيَاسَاتٌ مَشْرُوعَةٌ لِمَصَالِحَ تَعُودُ إلَى الْعِبَادِ كَالْقِصَاصِ لِصِيَانَةِ النُّفُوسِ , وَحَدِّ الزِّنَا لِصِيَانَةِ الْأَنْسَابِ وَالْفُرُشِ , وَحَدِّ السَّرِقَةِ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ , وَحَدِّ الْقَذْفِ لِصِيَانَةِ الْأَعْرَاضِ , وَحَدِّ الْخَمْرِ لِصِيَانَةِ الْعُقُولِ , وَبِالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ يَكُونُ مُحَارِبًا لِلْمُسْلِمِينَ فَيُقْتَلُ لِدَفْعِ الْمُحَارَبَةِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى الْعِلَّةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } , وَعَلَى السَّبَبِ الدَّاعِي إلَى الْعِلَّةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَهُوَ الشِّرْكُ , فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَتْلَ بِاعْتِبَارِ الْمُحَارَبَةِ , وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ لِلْمُحَارَبَةِ فَلَا تُقْتَلُ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ , وَلَا فِي الْكُفْرِ الطَّارِئِ , وَلَكِنَّهَا تُحْبَسُ فَالْحَبْسُ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهَا فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ , فَإِنَّهَا تُسْتَرَقُّ , وَالِاسْتِرْقَاقُ حَبْسُ نَفْسِهَا عَنْهَا , ثُمَّ الْحَبْسُ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ رَجَعَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْكُفْرِ , وَلَا بِاعْتِبَارِ الْمُحَارَبَةِ , وَمَا يُدَّعَى مِنْ تَغْلِيظِ الْجِنَايَةِ لَا يَقْوَى , فَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ , وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْإِنْكَارِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ فِي الْجِنَايَةِ سَوَاءٌ مَعَ أَنَّ الْجِنَايَةَ فِي الْإِصْرَارِ أَغْلَظُ مِنْ وَجْهٍ ; لِأَنَّهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ لَا يُقِرُّ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ , وَالشَّيْءُ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ يَكُونُ أَضْعَفَ مِنْهُ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ . وَلَوْ سَلَّمْنَا تَغَلُّظَ الْجِنَايَةِ , فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِمَنْ يُغَلَّظُ جِنَايَتُهَا فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ الْمُشْرِكَةُ الْعَرَبِيَّةُ , فَكَمَا لَا تُقْتَلُ تِلْكَ فَكَذَلِكَ لَا تُقْتَلُ هَذِهِ , وَإِذَا كَانَتْ مُقَاتِلَةً أَوْ مَلِكَةً أَوْ سَاحِرَةً فَقَتْلُهَا الدَّفْعُ , وَبِدُونِ الْقَتْلِ هَهُنَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ إذَا حُبِسَتْ وَأُجْبِرَتْ كَمَا بَيَّنَّا عَلَى الْإِسْلَامِ , وَأَمَّا الرِّقُّ لَا يَمْنَعُ الْقَتْلَ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ , فَإِنَّهُ تُقْتَلُ عَبِيدُهُمْ كَأَحْرَارِهِمْ , وَإِنَّمَا الِاسْتِرْقَاقُ بِمَنْزِلَةِ إعْطَاءِ الْأَمَانِ , وَبِعَقْدِ الذِّمَّةِ يَنْتَهِي الْقِتَالُ فِي حَقِّ مَنْ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ لَا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ كَمَا فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ , وَالْمُرْتَدُّونَ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ فَلِهَذَا لَا يَنْتَهِي الْقِتَالُ فِي حَقِّهِمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ , وَالشَّيْخُ إذَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ يُقْتَلُ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ , وَالرِّدَّةُ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا مِمَّنْ لَهُ رَأْيٌ , وَالتَّرَهُّبُ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ الْقِيَامَ بِنُصْرَةِ دِينِ الْحَقِّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَالَ صلى الله عليه وسلم : { لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ } وَبِدُونِ تَحَقُّقِ السَّبَبِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ , وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَوِي الْأَعْذَارِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يُقْتَلُونَ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ ; لِأَنَّ حُلُولَ الْآفَةِ كَعَقْدِ الذِّمَّةِ , فَإِنَّهُ يَنْعَدِمُ بِهِ الْقِتَالُ , فَمَنْ لَا يَسْقُطُ الْقِتَالُ عَنْهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ فَكَذَلِكَ بِحُلُولِ الْآفَةِ , فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَوُو الْأَعْذَارِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ يُقْتَلُونَ , وَقِيلَ حُلُولُ الْآفَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأُنُوثَةِ ; لِأَنَّهُ تَخْرُجُ بِهِ نِيَّتُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِلْقِتَالِ , فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يُقْتَلُونَ بَعْدَ الرِّدَّةِ كَمَا لَا يُقْتَلُونَ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ .
==============
استرقاق المرتدة إذا لحقت بدار الحرب (1)
__________
(1) - المبسوط - (ج 12 / ص 246)(2/140)
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ قُلْنَا تُسْتَرَقُّ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم , فَإِنَّ بَنِي حَنِيفَةَ لَمَّا ارْتَدُّوا اسْتَرَقَّ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه نِسَاءَهُمْ , وَأَصَابَ عَلِيٌّ رضي الله عنه جَارِيَةً مِنْ ذَلِكَ السَّبْيِ فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدَ بْنَ حَنَفِيَّةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى , وَذَكَرَ عَاصِمٌ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي النِّسَاءِ إذَا ارْتَدَدْنَ يُسْبَيْنَ وَلَا يُقْتَلْنَ , وَهَذَا لِأَنَّهَا كَالْحَرْبِيَّةِ , وَالِاسْتِرْقَاقُ مَشْرُوعٌ فِي الْحَرْبِيَّاتِ , وَمَا دَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا تُسْتَرَقُّ ; لِأَنَّ حُرِّيَّتَهَا الْمُتَأَكِّدَةَ بِالْإِحْرَازِ لَمْ تَبْطُلْ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ , وَهِيَ دَافِعَةٌ لِلِاسْتِرْقَاقِ , وَإِنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ بِدَارِ الِاسْتِرْقَاقِ , وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهَا تُسْتَرَقُّ ; لِأَنَّا لَمَّا جَعَلْنَا الْمُرْتَدَّ بِمَنْزِلَةِ حَرْبِيٍّ مَقْهُورٍ لَا أَمَانَ لَهُ فَكَذَلِكَ الْمُرْتَدَّةُ بِمَنْزِلَةِ حَرْبِيَّةٍ مَقْهُورَةٍ لَا أَمَانَ لَهَا فَتُسْتَرَقُّ , وَإِنْ كَانَتْ فِي دَارِنَا .
=============
تصرفات المرتدة المالية(1)
فَإِنْ تَصَرَّفَتْ فِي مَالِهَا بَعْدَ الرِّدَّةِ نَفَذَ تَصَرُّفُهَا مَا دَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ مِلْكِهَا , بِخِلَافِ الرَّجُلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى , وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ قَالَ : الْمَرْأَةُ لَا تُقْتَلُ , وَالرَّجُلُ يُقْتَلُ , وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ عِصْمَةَ الْمَالِ تَبَعٌ لِعِصْمَةِ النَّفْسِ , فَبِالرِّدَّةِ لَا تَزُولُ عِصْمَةُ نَفْسِهَا حَتَّى لَا تُقْتَلَ فَكَذَلِكَ عِصْمَةُ مَالِهَا بِخِلَافِ الرَّجُلِ , وَلِهَذَا اسْتَوَتْ بِالرَّجُلِ فِي التَّصَرُّفِ بَعْدَ اللُّحُوقِ ; لِأَنَّ عِصْمَةَ نَفْسِهَا تَزُولُ بِلِحَاقِهَا حَتَّى تُسْتَرَقَّ , وَالِاسْتِرْقَاقُ إتْلَافٌ حُكْمًا فَكَذَلِكَ عِصْمَةُ مَالِهَا .
فَإِنْ مَاتَتْ فِي الْحَبْسِ أَوْ لَحِقَتْ بِدَارُ الْحَرْبِ قُسِّمَ مَالُهَا بَيْنَ وَرَثَتِهَا , وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ كَسْبُ إسْلَامِهَا وَكَسْبُ رِدَّتِهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعِصْمَةَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ رِدَّتِهَا فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَسْبَيْنِ مِلْكَهَا فَيَكُونُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهَا , وَلَا مِيرَاثَ لِزَوْجِهَا مِنْهَا ; لِأَنَّهَا بِنَفْسِ الرِّدَّةِ قَدْ بَانَتْ مِنْهُ , وَلَمْ تَصِرْ مُشْرِفَةً عَلَى الْهَلَاكِ فَلَا تَكُونُ فِي حُكْمِ الْفَارَّةِ الْمَرِيضَةِ , وَلِزَوْجِهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا بَعْدَ لِحَاقِهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ; لِأَنَّهَا صَارَتْ حَرْبِيَّةً فَكَانَتْ كَالْمَيِّتَةِ فِي حَقِّهِ , وَبَعْدَ مَوْتِهَا لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا , وَلِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى الْحَرْبِيَّةِ مِنْ الْمُسْلِمِ ; لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا حَقُّ الزَّوْجِ , وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ مُنَافٍ لَهُ , فَإِنْ سُبِيَتْ أَوْ عَادَتْ مُسْلِمَةً لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ نِكَاحُ الْأُخْتِ ; لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا سَقَطَتْ الْعِدَّةُ عَنْهَا لَا تَعُودُ مُعْتَدَّةً , ثُمَّ إنْ جَاءَتْ مُسْلِمَةً فَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ مِنْ سَاعَتِهَا ; لِأَنَّهَا فَارِغَةً عَنْ النِّكَاحِ وَالْعِدَّةِ , وَإِنْ سُبِيَتْ أُجْبِرَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ كَمَا كَانَتْ تُجْبَرُ عَلَيْهِ قَبْلَ لِحَاقِهَا .
==============
ولد المرتدة بعد الردة (2)
وَإِنْ وَلَدَتْ بِأَرْضِ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَتْ , وَمَعَهَا وَلَدُهَا كَانَ وَلَدُهَا فَيْئًا مَعَهَا ; لِأَنَّ وَلَدَهَا بِمَنْزِلَتِهَا , وَهِيَ حَرْبِيَّةٌ تُسْتَرَقُّ فَكَذَلِكَ وَلَدُهَا .
=============
إذا أنكرت الردة (3)
وَإِذَا رَفَعَتْ الْمُرْتَدَّةُ إلَى الْإِمَامِ فَقَالَتْ مَا ارْتَدَدْت , وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَهَذَا تَوْبَةٌ مِنْهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَوْبَةَ الْمُرْتَدِّ بِالْإِقْرَارِ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَتَيْنِ , وَالتَّبَرِّي عَمَّا كَانَ انْتَقَلَ إلَيْهِ , وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ بِالْإِنْكَارِ يَحْصُلُ نِهَايَةُ التَّبَرِّي فَلِهَذَا كَانَ ذَلِكَ تَوْبَةً مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا .
=============
قتل المملوك المرتد(4)
__________
(1) - المبسوط - (ج 12 / ص 247)
(2) - المبسوط - (ج 12 / ص 249)
(3) - المبسوط - (ج 12 / ص 250)
(4) - المبسوط - (ج 12 / ص 251)(2/141)
وَيُقْتَلُ الْمَمْلُوكُ عَلَى الرِّدَّةِ ; لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ كَالْحُرِّ , وَكَسْبُهُ إذَا قُتِلَ لِمَوْلَاهُ ; لِأَنَّهُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِ الْكَسْبِ , وَلَا تُقْتَلُ الْمَمْلُوكَةُ وَتُحْبَسُ ; لِأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا بِنْيَةٌ صَالِحَةٌ لِلْقِتَالِ كَالْحُرَّةِ , وَإِذَا كَانَ أَهْلُهَا يَحْتَاجُونَ إلَى خِدْمَتِهَا دَفَعْتُهَا إلَيْهِمْ , وَأَمَرَتْهُمْ بِإِجْبَارِهَا عَلَى الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ فِي الْمَحَلِّ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِحَاجَةِ الْعَبْدِ , وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ مُمْكِنٌ فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي إجْبَارِهَا عَلَى الْإِسْلَامِ , وَمَوْلَاهَا يَنُوبُ فِي ذَلِكَ عَنْ الْإِمَامِ فَتُدْفَعُ إلَيْهِ لِيَسْتَخْدِمَهَا , وَيُجْبِرُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ , وَجِنَايَةُ الْأَمَةِ وَالْمُكَاتَبِ فِي الرِّدَّةِ كَجِنَايَتِهِمْ فِي غَيْرِ الرِّدَّةِ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِمْ بَاقٍ بَعْدَ الرِّدَّةِ , وَالْمُكَاتَبُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ بَعْدَ الرِّدَّةِ يَدًا وَتَصَرُّفًا كَمَا كَانَ قَبْلَهُ فَيَكُونُ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ فِي كَسْبِهِ .
==============
وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمَمَالِيكِ فِي الرِّدَّةِ هَدَرٌ(1)
أَمَّا فِي الذُّكُورِ مِنْهُمْ فَلِاسْتِحْقَاقِ قَتْلِهِمْ بِالرِّدَّةِ , وَمَنْ اسْتَوْفَى قَتْلًا مُسْتَحَقًّا يَكُونُ مُحْسِنًا لَا جَانِيًا , وَفِي الْإِنَاثِ قَتْلُ الْمَمْلُوكَةِ بَعْدَ الرِّدَّةِ كَقَتْلِ الْحُرَّةِ , وَمَنْ قَتَلَ حُرَّةً مُرْتَدَّةً لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا , وَإِنْ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحِلُّ , وَيُؤَدَّبُ عَلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْأَمَةُ قَالَ : لِأَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يَرَى عَلَيْهَا الْقَتْلَ , وَلِأَنَّهَا كَالْحَرْبِيَّةِ , وَالْحَرْبِيَّةُ لَا تُقْتَلُ , وَلَوْ قَتَلَهَا قَاتِلٌ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ الْمُرْتَدَّةُ . ( فَإِنْ قِيلَ ) فَلِمَاذَا لَا تُسْتَرَقُّ فِي دَارِنَا . ؟ قُلْنَا : لِبَقَاءِ الْإِحْرَازِ , وَمِنْ ضَرُورَةِ تَأَكُّدِ الْحُرْمَةِ بِالْإِحْرَازِ مَنْعُ الِاسْتِرْقَاقِ , وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ تَقَوُّمُ الدَّمِ كَمَا فِي الْمَقْضِيِّ عَلَيْهَا بِالرَّجْمِ , وَإِذَا كَانَ هَدَرُ الدَّمِ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الْإِحْرَازِ يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُرْتَدَّةِ فَكَانَتْ فِيهِ كَالْحَرْبِيَّةِ .
================
باع عبده المرتد أو أمته(2)
وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ الْمُرْتَدَّ أَوْ أُمَّتَهُ الْمُرْتَدَّةَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِبَقَاءِ صِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ , وَالرِّقُّ فِيهِ بَعْدَ الرِّدَّةِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) جَوَازُ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ , وَلَا مَالِيَّةَ فِيهِمَا حَتَّى لَا يَضْمَنَ قَاتِلُهُمَا .
( قُلْنَا ) لَا كَذَلِكَ بَلْ الْمَالِيَّةُ فِي الْآدَمِيِّ بِسَبَبِ الْمَمْلُوكِيَّةِ , وَهُوَ ثَابِتٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالتَّقَوُّمِ بِالْإِحْرَازِ وَهُوَ بَاقٍ فِيهِمَا , وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُتْلِفِ الضَّمَانُ لِعَارِضٍ وَهُوَ الرِّدَّةُ , أَلَا تَرَى أَنَّ غَاصِبَهُمَا يَكُونُ ضَامِنًا وَأَنَّ الرِّدَّةَ عَيْبٌ فِيهِمَا , وَالْعَيْبُ لَا يَعْدَمُ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ , وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْبَائِعُ أَعْلَمَ الْمُشْتَرِيَ فَالْبَيْعُ لَازِمٌ لِانْتِفَاءِ التَّدْلِيسِ حِينَ أَعْلَمَهُ الْعَيْبَ .
=================
المدبرة أو أم الولد إذا ارتدت ولحقت بدار الحرب (3)
مُدَبَّرَةٌ أَوْ أُمُّ وَلَدٍ ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَمَاتَ مَوْلَاهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أُخِذَتْ أَسِيرَةً فَهِيَ فَيْءٌ , بِخِلَافِ مَا لَوْ أُسِرَتْ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى فَإِنَّهَا تُرَدُّ عَلَيْهِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ , فَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى فَقَدْ عَتَقَتْ ; لِأَنَّ عِتْقَهَا كَانَ تَعَلَّقَ بِمَوْتٍ , وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ لَا يَمْنَعُ نُزُولَ الْعِتْقِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ , وَإِذَا عَتَقَتْ فَهِيَ حُرَّةٌ مُرْتَدَّةٌ أُسِرَتْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَتَكُونُ فَيْئًا .
==============
إذا ارتد العبد مع مولاه ولحقا بدار الحرب (4)
عَبْدٌ ارْتَدَّ مَعَ مَوْلَاهُ , وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَمَاتَ الْمَوْلَى هُنَاكَ وَأُسِرَ الْعَبْدُ فَهُوَ فَيْءٌ ; لِأَنَّهُ مَالُ حَرْبِيٍّ فَقَدْ أَحْرَزَهُ مَعَ نَفْسِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ , وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ ثُبُوتِ حَقِّ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ فَيَكُونُ فَيْئًا , وَيُقْتَلُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ لِرِدَّتِهِ .
===============
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا ذَهَبَ بِهِ الْمُرْتَدُّ مِنْ مَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ فَهُوَ فَيْءٌ ,(5)
__________
(1) - المبسوط - (ج 12 / ص 252)
(2) - المبسوط - (ج 12 / ص 253)
(3) -المبسوط - (ج 12 / ص 254)
(4) -المبسوط - (ج 12 / ص 255)
(5) -المبسوط - (ج 12 / ص 256)(2/142)
فَإِنْ كَانَ خَرَجَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُغِيرًا فَأَخَذَ مَالًا مِنْ مَالِهِ قَدْ قُسِّمَ بَيْنَ وَرَثَتِهِ , وَذَهَبَ بِهِ ثُمَّ قُتِلَ مُرْتَدًّا , وَأُصِيبَ ذَلِكَ الْمَالُ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ بِغَيْرِ قِيمَةِ قَبْلِ الْقِسْمَةِ , وَبِالْقِيمَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ; لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا ذَلِكَ الْمَالَ حِينَ قَسَّمَهُ الْقَاضِي بَيْنَهُمْ فَهَذَا حَرْبِيٌّ أَحْرَزَ مَالَ الْمُسْلِمِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ , وَقَدْ بَيَّنَّا الْحُكْمَ فِيهِ .
=================
وَلَوْ ارْتَدَّ الْعَبْدُ وَأَخَذَ مَالَ مَوْلَاهُ فَذَهَبَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَخَذَ مَعَ ذَلِكَ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ فَيْئًا , وَيُرَدُّ عَلَى مَوْلَاهُ ;(1)
لِأَنَّ الْعَبْدَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مُحْرِزًا نَفْسَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ , أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَبَقَ مِنْهُ غَيْرَ مُرْتَدٍّ فَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ مُحْرِزًا نَفْسَهُ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَبَقَ مُرْتَدًّا , وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُحْرِزًا لِمَا مَعَهُ مِنْ الْمَالِ فَيُرَدُّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْمَوْلَى ثُمَّ هَذَا لَا يُشْكِلُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي الْآبِقِ , وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا ; لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَمْ يَأْخُذُوهُ , وَإِنَّمَا يَزُولُ مِلْكُ الْمَوْلَى عِنْدَهُمَا بِإِحْرَازِ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُ بِالْأَخْذِ , فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بَقِيَ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ .
ارتدوا عن الإسلام وحاربوا المسلمين تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم(2)
قَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ وَحَارَبُوا الْمُسْلِمِينَ , وَغَلَبُوا عَلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِهِمْ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ , وَمَعَهُمْ نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ , فَإِنَّهُ تُقْتَلُ رِجَالُهُمْ , وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ 0
__________
(1) - المبسوط - (ج 12 / ص 257)
(2) -المبسوط - (ج 12 / ص 258)(2/143)
وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى إنَّمَا تَصِيرُ دَارُهُمْ دَارَ الْحَرْبِ بِثَلَاثِ شَرَائِطَ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً أَرْضَ التُّرْكِ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَرْضِ الْحَرْبِ دَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ , وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ آمِنٌ بِإِيمَانِهِ , وَلَا ذِمِّيٌّ آمِنٌ بِأَمَانِهِ , وَالثَّالِثُ : أَنْ يُظْهِرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ فِيهَا , وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا أَظْهَرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ فِيهَا فَقَدْ صَارَتْ دَارُهُمْ دَارَ حَرْبٍ ; لِأَنَّ الْبُقْعَةَ إنَّمَا تُنْسَبُ إلَيْنَا أَوْ إلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالْغَلَبَةِ , فَكُلُّ مَوْضِعٍ ظَهَرَ فِيهِ حُكْمُ الشِّرْكِ فَالْقُوَّةُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِلْمُشْرِكِينَ فَكَانَتْ دَارَ حَرْبٍ , وَكُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ الظَّاهِرُ فِيهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فَالْقُوَّةُ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ , وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى يَعْتَبِرُ تَمَامَ الْقَهْرِ وَالْقُوَّةِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْبَلْدَةَ كَانَتْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مُحْرَزَةً لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الْإِحْرَازُ إلَّا بِتَمَامِ الْقَهْرِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ , وَذَلِكَ بِاسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ الثَّلَاثِ ; لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُتَّصِلَةً بِالشِّرْكِ فَأَهْلُهَا مَقْهُورُونَ بِإِحَاطَةِ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ , فَكَذَلِكَ إنْ بَقِيَ فِيهَا مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ آمِنٌ فَذَلِكَ دَلِيلُ عَدَمِ تَمَامِ الْقَهْرِ مِنْهُمْ , وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَخَذُوا مَالَ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَمْلِكُونَهُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ لِعَدَمِ تَمَامِ الْقَهْرِ , ثُمَّ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ الْأَصْلِ فَالْحُكْمُ لَهُ دُونَ الْعَارِضِ كَالْمَحَلَّةِ إذَا بَقِيَ فِيهَا وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْخِطَّةِ فَالْحُكْمُ لَهُ دُونَ السُّكَّانِ وَالْمُشْتَرِينَ . وَهَذِهِ الدَّارُ كَانَتْ دَارَ إسْلَامٍ فِي الْأَصْلِ فَإِذَا بَقِيَ فِيهَا مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ فَقَدْ بَقِيَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْأَصْلِ فَيَبْقَى ذَلِكَ الْحُكْمُ , وَهَذَا أَصْلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى حَتَّى قَالَ : إذَا اشْتَدَّ الْعَصِيرُ , وَلَمْ يَقْذِفْ بِالزَّبَدِ لَا يَصِيرُ خَمْرًا لِبَقَاءِ صِفَةِ السُّكُونِ , وَكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ مَوْضِعٍ مُعْتَبَرٌ بِمَا حَوْلَهُ فَإِذَا كَانَ مَا حَوْلَ هَذِهِ الْبَلْدَةِ كُلُّهُ دَارَ إسْلَامٍ لَا يُعْطَى لَهَا حُكْمُ دَارِ الْحَرْبِ كَمَا لَوْ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الشِّرْكِ فِيهَا , وَإِنَّمَا اسْتَوْلَى الْمُرْتَدُّونَ عَلَيْهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ , ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِرْ الدَّارُ دَارَ حَرْبٍ , فَإِذَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا قَتَلُوا الرِّجَالَ , وَأَجْبَرُوا النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَلَمْ يُسَبّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ , وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ صَارَ دَارَ حَرْبٍ فَالنِّسَاءُ , وَالذَّرَارِيُّ , وَالْأَمْوَالُ فَيْءٌ فِيهِ الْخُمُسُ , وَيُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ لِرِدَّتِهِمْ فَلَا يَحِلُّ لِمَنْ وَقَعَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ فِي سَهْمِهِ أَنْ يَطَأَهَا مَا دَامَتْ مُرْتَدَّةً , وَإِنْ كَانَتْ مُتَهَوِّدَةً أَوْ مُتَنَصِّرَةً ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُنَافِي الْحِلَّ , وَإِنَّمَا يَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَنْ يَحِلُّ بِالنِّكَاحِ , فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ فَقَدْ بَطَلَ بِالسَّبْيِ ; لِأَنَّهَا صَارَتْ أَمَةً , وَمَا كَانَ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى حُرَّةٍ لَا يَبْقَى بَعْدَ أَنْ تَصِيرَ أَمَةً ; لِأَنَّ بِالرِّقِّ تَتَبَدَّلُ نَفْسُهَا , وَلِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَمْلُوكِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ وَهَذِهِ مَالِيَّةٌ حَادِثَةٌ بِالسَّبْيِ فَتَخْلُصُ لِلسَّابِي ; فَلِهَذَا لَا يَبْقَى الدَّيْنُ عَلَيْهَا .
=============
ارتداد الزوجين ولحوقهما بدار الحرب(1)
وَإِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ , وَذَهَبَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِوَلَدِهِمَا الصَّغِيرِ , ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمَا الْمُسْلِمُونَ فَالْوَلَدُ فَيْءٌ 0
__________
(1) -المبسوط - (ج 12 / ص 260)(2/144)
لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا حِينَ لَحِقَا بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ ثُبُوتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ لِلصَّغِيرِ بِاعْتِبَارِ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ وَالدَّارِ فَقَدْ انْعَدَمَ كُلُّ ذَلِكَ حِينَ ارْتَدَّا وَلَحِقَا بِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ; فَلِهَذَا كَانَ الْوَلَدُ فَيْئًا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا بَلَغَ كَمَا تُجْبَرُ الْأُمُّ عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ الْأَبُ ذَهَبَ بِهِ وَحْدَهُ , وَالْأُمُّ مُسْلِمَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ فَيْئًا ; لِأَنَّهُ بَقِيَ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأُمِّهِ . ( فَإِنْ قِيلَ ) كَيْفَ يَتْبَعُهَا بَعْدَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ ( قُلْنَا ) تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ يَمْنَعُ الِاتِّبَاعَ فِي الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً لَا فِي إبْقَاءِ مَا كَانَ ثَابِتًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَلَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِنَا بَقِيَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ حَتَّى إذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ فَيْئًا , بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِنَا وَلَهُ وَلَدٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهَهُنَا قَدْ كَانَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا فَيَبْقَى كَذَلِكَ بِبَقَاءِ الْأُمِّ مُسْلِمَةً , وَإِنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْأُمُّ مَاتَتْ مُسْلِمَةً ; لِأَنَّ إسْلَامَهَا يَتَأَكَّدُ بِمَوْتِهَا وَلَا يَبْطُلُ , وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْأُمُّ نَصْرَانِيَّةً ذِمِّيَّةً ; لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا , وَكَمَا يَتْبَعُهَا الْوَلَدُ إذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ دِينِنَا يَتْبَعُهَا إذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا تَوْفِيرًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَى الْوَلَدِ , وَلِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إحْرَازُ الْوَلَدِ بِدَارِ الْحَرْبِ ; لِأَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ الْأَبِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ حَرْبِيًّا , وَاعْتِبَارُ جَانِبِ الْأُمِّ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْجَانِبُ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ تَوْفِيرًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَى الْوَلَدِ , وَإِذَا بَقِيَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَكَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَقِيقَةً فَلَا يُسْتَرَقُّ , وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْأَبُ ذِمِّيًّا نَقَضَ الْعَهْدَ فَهُوَ كَالْمُسْلِمِ يَرْتَدُّ فِي أَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ إذَا الْتَحَقَ بِهِمْ .
==============
حكم ولد المرتد في دار الحرب(1)
وَإِذَا وُلِدَ لِلْمُرْتَدِّينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَدٌ ثُمَّ وُلِدَ لِوَلَدِهِمَا وَلَدٌ ثُمَّ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ , أُجْبِرَ وَلَدُهُمَا عَلَى الْإِسْلَامِ , وَلَمْ يُجْبَرْ وَلَدُ وَلَدِهِمَا عَلَى الْإِسْلَامِ 0
لِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ قَدْ ثَبَتَ لِوَلَدِهِمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَبَوَيْنِ كَانَا مُسْلِمَيْنِ فِي الْأَصْلِ , وَالْوَلَدُ تَابِعٌ لَهُمَا فَكَذَلِكَ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ , فَأَمَّا وَلَدُ الْوَلَدِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِأَبِيهِ فِي الدِّينِ لَا لِجَدِّهِ , وَأَبُوهُ مَا كَانَ مُسْلِمًا قَطُّ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ الْجَدُّ لَا يَصِيرُ وَلَدُ الْوَلَدِ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ فَكَذَلِكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِإِسْلَامِ جَدِّهِ , وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ إسْلَامُ جَدِّهِ فِي حَقِّ النَّافِلَةِ كَانَ الْجَدُّ الْأَعْلَى وَالْأَدْنَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ , فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ كُلُّهُمْ مُرْتَدِّينَ يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِإِسْلَامِ جَدِّهِمْ آدَمَ أَوْ نُوحٍ عليهما السلام , وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُمَا إذَا ارْتَدَّا أَوْ لَحِقَا بِوَلَدٍ صَغِيرٍ لَهُمَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَوُلِدَ لِذَلِكَ الْوَلَدُ بَعْدَمَا كَبِرَ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ فَهُوَ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى , وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله تعالى ; لِأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مَا كَانَ مُسْلِمًا بِنَفْسِهِ , وَإِنَّمَا ثَبَتَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ تَبَعًا فَهُوَ وَالْمَوْلُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ رِدَّتِهِمَا سَوَاءٌ , وَهُمَا يَقُولَانِ قَدْ كَانَ هَذَا الْوَلَدُ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ أَوْ لِدَارِ الْإِسْلَامِ , وَالْوَلَدُ يَتْبَعُ أَبَاهُ فِي الدِّينِ فَإِذَا كَانَ الْأَبُ مُسْلِمًا فِي وَقْتٍ يَثْبُتُ لِوَلَدِهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ , فَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ , بِخِلَافِ مَا إذَا وُلِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ رِدَّتِهِمَا ; لِأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا قَطُّ .
==============
نقض أهل الذمة العهد(2)
وَإِذَا نَقَضَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْعَهْدَ , وَغَلَبُوا عَلَى مَدِينَةٍ فَالْحُكْمُ فِيهَا كَالْحُكْمِ فِي الْمُرْتَدِّينَ إلَّا أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَرِقَّ رِجَالَهُمْ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّينَ 0
__________
(1) -المبسوط - (ج 12 / ص 262)
(2) -المبسوط - (ج 12 / ص 264)(2/145)
لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ فِي الْأَصْلِ , وَإِنَّمَا كَانُوا لَا يُسْتَرَقُّونَ لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا , وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ حِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ , وَصَارَتْ دَارُهُمْ دَارَ الْحَرْبِ , فَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ كَانُوا مُسْلِمِينَ فِي الْأَصْلِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا السَّيْفُ أَوْ الْإِسْلَامُ , وَكَذَلِكَ إنْ رَجَعَ الَّذِينَ كَانَ نَقَضُوا الْعَهْدَ إلَى الصُّلْحِ وَالذِّمَّةِ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّينَ ; لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ الْتَحَقُوا بِالْحَرْبِيِّينَ , وَأَهْلُ الْحَرْبِ إذَا انْقَادُوا لِلذِّمَّةِ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّينَ , وَالْأَصْلُ أَنَّ مَنْ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ جَازَ إبْقَاؤُهُ عَلَى الْكُفْرِ بِالْجِزْيَةِ ; لِأَنَّ الْقِتَالَ يَنْتَهِي بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّرِيقِينَ , وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ , ثُمَّ إذَا عَادُوا إلَى الذِّمَّةِ أَخَذُوا بِالْحُقُوقِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ نَقْضِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْ الْقِصَاصِ وَالْمَالِ لِبَقَاءِ نُفُوسِهِمْ وَذِمَمِهِمْ عَلَى مَا كَانَتْ قَبْلَ نَقْضِ الْعَهْدِ , وَنَقْضُ الْعَهْدِ كَانَ عَارِضًا , فَإِذَا انْعَدَمَ صَارَ كَأَنَّ لَمْ يَكُنْ , وَلَمْ يُؤْخَذُوا بِمَا أَصَابُوا فِي الْمُحَارَبَةِ ; لِأَنَّهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ حِينَ بَاشَرُوا السَّبَبَ , وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فِي حَالِ حَرْبِهِمْ إذَا تَرَكُوا الْمُحَارَبَةَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ الذِّمَّةِ , وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّونَ فِي هَذَا هُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ; لِأَنَّ الْقِصَاصَ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةٌ ثَابِتَةٌ لِحَقِّ الْمُسْلِمِ وَالرِّدَّةِ , وَنَقْضُ الْعَهْدِ لَا يُنَافِيهِمَا , وَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهَا لِقُصُورِ يَدِ صَاحِبِ الْحَقِّ عَمَّنْ عَلَيْهِ , وَالْمَالُ كَذَلِكَ , فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ .
وَإِذَا نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ مَعَ امْرَأَتِهِ , وَلَحِقَا بِأَرْضِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَا عَلَى الذِّمَّةِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَايَنْ بِهِمَا دِينٌ وَلَا دَارٌ , وَلَوْ ارْتَدَّ الْمُسْلِمَانِ ثُمَّ أَسْلَمَا كَانَا عَلَى نِكَاحِهِمَا فَالذِّمِّيَّانِ أَوْلَى بِذَلِكَ , وَإِنْ كَانَ خَلَّفَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ امْرَأَةً ذِمِّيَّةً بَانَتْ مِنْهُ بِتَبَايُنِ الدَّارِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا , وَاَلَّتِي بَقِيَتْ فِي دَارِنَا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا .
===============
ارتدا وبقيت زوجته في دار الإسلام(1)
وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ , وَخَلَّفَ امْرَأَتَهُ الْمُرْتَدَّةَ مَعَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ انْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا , وَإِنْ كَانَتْ مُرْتَدَّةً فَقَدْ تَبَايَنَتْ بَيْنَهُمَا الدَّارُ حَقِيقَةً , وَذَلِكَ قَاطِعٌ لِلْعِصْمَةِ بَيْنَهُمَا .
============
دار المرتدين دار كفر(2)
وَإِذَا مَنَعَ الْمُرْتَدُّونَ دَارَهُمْ وَصَارَتْ دَارَ كُفْرٍ ثُمَّ لَحِقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ فَأَصَابُوا سَبَايَا مِنْهُمْ , وَأَصَابُوا مَالًا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ ثُمَّ أَسْلَمُوا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ لَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ , وَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونُوا أَخَذُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلِ الذِّمَّةِ حُرًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فَعَلَيْهِمْ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهِمْ ; لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُمْلَكُونَ بِالْإِحْرَازِ لِتَأَكُّدِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ أَوْ حَقِّهَا فِيهِمْ بِالْإِسْلَامِ , فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ أَصَابُوا مِنْ هَؤُلَاءِ فِي حَرْبِهِمْ مَالًا أَوْ ذُرِّيَّةً فَاقْتَسَمُوهَا عَلَى الْغَنِيمَةِ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ أَصَابُوا أَمْوَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَذَرَارِيَّهُمْ , وَمَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ وَالْقِسْمَةِ فَلَا تُرَدُّ عَلَيْهِمْ , وَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَصَابُوا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ .
=============
لا يسترق المرتد (3)
__________
(1) -المبسوط - (ج 12 / ص 267)
(2) -المبسوط - (ج 12 / ص 268)
(3) -المبسوط - (ج 12 / ص 269)(2/146)
وَإِنْ طَلَبَ الْمُرْتَدُّونَ أَنْ يَجْعَلُوا ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بِهِمْ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا تُقْبَلُ الذِّمَّةُ مِمَّنْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ , وَلِأَنَّ الْمُرْتَدِّينَ كَمُشْرِكِي الْعَرَبِ , فَإِنَّ أُولَئِكَ جُنَاةٌ عَلَى قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَهَؤُلَاءِ عَلَى دِينِهِ , وَكَمَا لَا تُقْبَلُ الذِّمَّةُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { لَا يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ } فَكَذَلِكَ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ , وَإِنْ طَلَبُوا الْمُوَادَعَةَ مُدَّةً لِيَنْظُرُوا فِي أُمُورِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إنْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ , وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِمْ طَاقَةٌ ; لِأَنَّهُمْ لَمَّا ارْتَدُّوا دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّبْهَةُ , وَيَزُولُ ذَلِكَ إذَا نَظَرُوا فِي أَمْرِهِمْ , وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا طَلَبَ التَّأْجِيلَ يُؤَجَّلُ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا يُزَادُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِتَمَكُّنِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَتْلِهِ , وَهَهُنَا لَا طَاقَةَ بِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُمْهِلُوهُمْ مِقْدَارَ مَا طَلَبُوا مِنْ الْمُدَّةِ لِحِفْظِ قُوَّةِ أَنْفُسِهِمْ وَلِعَجْزِهِمْ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ , وَإِنْ كَانُوا يُطِيقُونَهُمْ , وَكَانَ الْحَرْبُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ الْمُوَادَعَةِ حَارَبُوهُمْ ; لِأَنَّ الْقِتَالَ مَعَهُمْ فَرْضٌ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } , وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ إقَامَةِ الْفَرْضِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ إقَامَتِهِ , فَإِذَا وَادَعُوهُمْ لَمْ يَأْخُذْ الْإِمَامُ مِنْهُمْ فِي الْمُوَادَعَةِ خَرَاجًا ; لِأَنَّ ذَلِكَ حِينَئِذٍ يُشْبِهُ عَقْدَ الذِّمَّةِ , وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الذِّمَّةُ فَكَذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى الْمُوَادَعَةِ خَرَاجٌ بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ , فَإِنْ أَخَذَ مِنْهُمْ مَالًا جَازَ ; لِأَنَّ الْعِصْمَةَ زَالَتْ عَنْ مَالِهِمْ , أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ كَانَتْ أَمْوَالُهُمْ غَنِيمَةً , وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذُوا شَيْئًا مِنْ مَالِهِمْ مَلَكُوا ذَلِكَ بِأَيِّ طَرِيقٍ أَخَذُوا مِنْهُمْ .
============
( قَالَ ) وَلَا يُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الصُّلْحُ وَالذِّمَّةُ (1)0
__________
(1) -المبسوط - (ج 12 / ص 271)(2/147)
وَلَكِنْ يُدْعَوْنَ إلَى الْإِسْلَامِ , فَإِنْ أَسْلَمُوا , وَإِلَّا قُوتِلُوا , وَتُسْتَرَقُّ نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ , وَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّينَ إلَّا فِي حُكْمِ الْإِجْبَارِ عَلَى الْإِسْلَامِ , فَإِنَّ نِسَاءَ الْمُرْتَدِّينَ وَذَرَارِيَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ فِي الْأَصْلِ فَيُجْبَرُونَ عَلَى الْعَوْدِ , وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مَا كَانُوا مُسْلِمِينَ فِي الْأَصْلِ فَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَلَكِنَّهُمْ يُسْتَرَقُّونَ { ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَبَى النِّسَاءَ , وَالذَّرَارِيَّ بِأَوْطَاسٍ , وَقَسَّمَهُمْ } , وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه سَبَى النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ , فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي الْمُرْتَدِّينَ فَفِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَوْلَى , وَأَمَّا الرِّجَالُ مِنْهُمْ لَا يُسْتَرَقُّونَ عِنْدَنَا , وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى يُسْتَرَقُّونَ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جَازَ الِاسْتِرْقَاقُ فِي حَقِّ سَائِرِ الْكُفَّارِ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ , وَهُوَ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِي عَمَلِهِمْ وَخِدْمَتِهِمْ , وَلِأَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ إتْلَافٌ حُكْمِيٌّ , وَمَنْ جَازَ فِي حَقِّهِ الْإِتْلَافُ الْحَقِيقِيُّ مِنْ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ يَجُوزُ الْإِتْلَافُ الْحُكْمِيُّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ; لِأَنَّ فِيهِ تَحْقِيقَ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ بِتَبْدِيلِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْمَمْلُوكِيَّةِ , وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِحَالِ كُلِّ كَافِرٍ , فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى عَاقَبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَهُمْ عَبِيدَ عَبِيدِهِ , وَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي فِي الْمُرْتَدِّينَ إلَّا أَنَّ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ عَلَى رِدَّتِهِ حَدٌّ فَقُلْنَا لَا يُتْرَكُ إقَامَةُ الْحَدِّ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَلِأَنَّ حُرِّيَّتَهُ كَانَتْ مُتَأَكِّدَةً بِالْإِسْلَامِ فَلَا يُحْتَمَلُ النَّقْضُ بِالِاسْتِرْقَاقِ , وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ ( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ قوله تعالى { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } قِيلَ مَعْنَاهُ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا , وَالْآيَةُ فِيمَنْ كَانَ يُقَاتِلُهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ فَدَلَّ أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ إنْ لَمْ يُسْلِمُوا . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { لَا رِقَّ عَلَى عَرَبِيٍّ } , وَقَالَ يَوْمَ أَوْطَاسٍ { لَوْ جَرَى رِقٌّ عَلَى عَرَبِيٍّ لَكَانَ الْيَوْمَ , وَإِنَّمَا هُوَ الْقَتْلُ أَوْ الْإِسْلَامُ } , وَظَاهِرُ قوله تعالى { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا } يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِرْقَاقِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْمُفَادَاةِ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْتِغَاءُ عَرَضِ الدُّنْيَا , وَلِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ عَقْدُ الذِّمَّةِ بِالِاتِّفَاقِ , وَالِاسْتِرْقَاقُ وَالذِّمَّةُ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَعْنَى ; لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ إبْقَاءَ الْكَافِرِ عَلَى كُفْرِهِ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ مِنْ مَالٍ أَوْ عَمَلٍ , وَفِي الْجِزْيَةِ مَعْنَى الصِّغَارِ , وَالْعُقُوبَةُ فِي حَقِّهِمْ كَمَا فِي الِاسْتِرْقَاقِ بَلْ أَظْهَرُ , وَالِاسْتِرْقَاقُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَالصِّغَارِ , وَالْجِزْيَةُ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ , فَإِذَا لَمْ يَجُزْ إبْقَاءُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ عَلَى الشِّرْكِ بِالْجِزْيَةِ فَكَذَلِكَ بِالِاسْتِرْقَاقِ , وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ فِي تَغَلُّظِ جِنَايَتِهِمْ كَالْمُرْتَدِّينَ , فَكَمَا لَا يُسْتَرَقُّ الْمُرْتَدُّونَ فَكَذَلِكَ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ , بِخِلَافِ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْعَرَبِ حُكْمُهُمْ حُكْمُ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يَجُوزَ اسْتِرْقَاقُهُمْ , وَأَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْعَرَبِ فِي الْأَصْلِ , وَإِنْ تَوَطَّنُوا فِي أَرْضِ الْعَرَبِ بَلْ هُمْ فِي الْأَصْلِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ , وَلَئِنْ كَانُوا فِي الْأَصْلِ مِنْ الْعَرَبِ فَجِنَايَتُهُمْ فِي الْغِلَظِ لَيْسَتْ كَجِنَايَةِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَدَّعُونَ التَّوْحِيدَ , وَلِهَذَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ , وَتَجُوزُ مُنَاكَحَةُ نِسَائِهِمْ بِخِلَافِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ , وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ يَهُودَ تَيْمَاءَ , وَوَادِي الْقُرَى , وَكَذَلِكَ مِنْ بَهْزٍ , وَتَنُوخِ , وَطِيء وَعُمَرُ رضي الله عنه أَرَادَ أَنْ يُوَظِّفَ الْجِزْيَةَ عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ ثُمَّ صَالَحَهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ الْمُضَعَّفَةِ , وَقَالَ هَذِهِ جِزْيَةٌ فَسَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ , وَكَانُوا مِنْ الْعَرَبِ .
============
استرقاق عبدة الأوثان(1)
__________
(1) -المبسوط - (ج 12 / ص 274)(2/148)
فَأَمَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِمْ , وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ 0
فَعِنْدَنَا يَجُوزُ ذَلِكَ , وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى لَا يَجُوزُ بِمَنْزِلَةِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِحُكْمِ الْجِزْيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْمَجُوسَ أَهْلُ كِتَابٍ أَنَّهُ فِيهِ أَثَرًا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ يَقْرَءُونَ إلَى أَنْ وَاقَعَ مَلِكُهُمْ ابْنَتَهُ فَأَصْبَحُوا وَقَدْ أَسْرَى بِكِتَابِهِمْ . حَدِيثٌ فِيهِ طُولٌ ( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الْمَجُوسِ بِالِاتِّفَاقِ , وَلَا كِتَابَ لَهُمْ , فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ } فَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ لَا كِتَابَ لَهُمْ , وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا } , وَلَوْ كَانَ لِلْمَجُوسِ كِتَابٌ لَكَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ , وَالْأَثَرُ بِخِلَافِ نَصِّ الْقُرْآنِ لَا يَكَادُ يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَثَبَتَ أَنْ لَا كِتَابَ لِلْمَجُوسِ , وَمَعَ ذَلِكَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ , وَهُمْ مُشْرِكُونَ , فَإِنَّهُمْ يَدَّعُونَ الِاثْنَيْنِ , وَإِنَّ اخْتَلَفَتْ عِبَارَتُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ أَوْ يزدان واهر مِنْ , وَلَيْسَ الشِّرْكُ إلَّا هَذَا , فَإِذَا جَازَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ فَكَذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ , وَقَدْ { أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ } , وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْآيَةِ لَيْسَ لِتَقْيِيدِ الْحُكْمِ بَلْ لِبَيَانِ جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ .
=============
من ارتد وغنم من دار الحرب ثم أسلم (1)
قَوْمٌ غَزَوْا أَرْضَ الْحَرْبِ فَارْتَدَّ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ , وَاعْتَزَلُوا عَسْكَرَهُمْ , وَحَارَبُوا , وَنَابَذُوهُمْ فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةً , وَأَصَابَ أُولَئِكَ الْمُرْتَدُّونَ غَنِيمَةً مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ ثُمَّ تَابُوا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ دَارٍ الْحَرْبِ لَمْ يُشَارِكْ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَ فِيمَا أَصَابُوا ; لِأَنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يَكُنْ رِدْءًا لِلْبَعْضِ , فَالْمُسْلِمُونَ لَا يَنْصُرُونَ الْمُرْتَدِّينَ , وَلَا يَسْتَنْصِرُونَ بِالْمُرْتَدِّينَ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ , وَإِنَّ مُصَابَ الْمُرْتَدِّينَ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ عِنْدَ الْإِصَابَةِ إعْزَازَ الدِّينِ , وَالْمُرْتَدُّونَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ كَأَهْلِ الْحَرْبِ , فَإِنَّهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَأَهْلُ الْحَرْبِ إذَا أَسْلَمُوا وَالْتَحَقُوا بِالْجَيْشِ لَمْ يُشَارِكُوهُمْ فِيمَا أَصَابُوا قَبْلَ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّونَ إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فَيُقَاتِلُوا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَحِينَئِذٍ يُشَارِكُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ; لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا دَفْعًا عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ فَكَأَنَّهُمْ أَصَابُوهُ بِهَذَا الْقِتَالِ , وَاشْتَرَكُوا فِي إحْرَازِهِ بِالدَّارِ , فَيُشَارِكُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي ذَلِكَ , ثُمَّ هَذَا فِيمَا أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ غَيْرَ مُشْكِلٍ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ , وَالْتَحَقَ بِالْجَيْشِ إذَا لَقُوا قِتَالًا فَقَاتَلَ بَعْضُهُمْ , وَمَا أَصَابَ الْمُرْتَدُّونَ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ , فَإِنَّهُ يَأْخُذُ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ بِهَذَا الْقِتَالِ كَالْمُتَلَصِّصِ إذَا أَصَابَ مَالًا ثُمَّ لَحِقَهُ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّ مُصَابَهُ يَأْخُذُ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ حَتَّى يُخَمَّسَ , وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ قَتَلَ الْمُرْتَدِّينَ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ كُفَّارٍ قَدْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ , فَإِنْ جَدَّدُوهَا فَحَسَنٌ , وَإِنَّ قَاتَلُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوهُمْ فَحَسَنٌ .
================
إِذَا ارْتَدَّ الْغُلَامُ الْمُرَاهِقُ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمْ يُقْتَلْ(2)
( قَالَ ) وَإِذَا ارْتَدَّ الْغُلَامُ الْمُرَاهِقُ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمْ يُقْتَلْ , وَهُنَا فَصْلَانِ إذَا أَسْلَمَ الْغُلَامُ الْعَاقِلُ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ فَإِسْلَامُهُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا 0
__________
(1) - المبسوط - (ج 12 / ص 276)
(2) - المبسوط - (ج 12 / ص 277)(2/149)
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا , وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ } , وَمَنْ كَانَ مَرْفُوعَ الْقَلَمِ فَلَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ فِي الدُّنْيَا عَلَى قَوْلِهِ , وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالْإِسْلَامِ مَا لَمْ يَبْلُغْ فَلَا يُحْكَمُ بِصِحَّةِ إسْلَامِهِ كَاَلَّذِي لَا يَعْقِلُ إذَا لُقِّنَ فَتَكَلَّمَ بِهِ , وَتَقْرِيرُهُ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِعَقْلِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ حَتَّى يَكُونَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فِي الدِّينِ وَالدَّارِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ , وَتَقْرِيرُ هَذَا أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ مُعْتَقِدًا لِلْكُفْرِ بِنَفْسِهِ , فَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرْ اعْتِقَادُهُ , وَمَعْرِفَتُهُ فِي إبْقَاءِ مَا كَانَ ثَابِتًا فَكَيْفَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي إثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا , وَبَيْنَ كَوْنِهِ أَصْلًا فِي حُكْمٍ , وَتَبَعًا فِيهِ بِعَيْنِهِ مُغَايِرَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَافَاةِ , وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ صَحَّ إسْلَامُهُ بِنَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ فَرْضًا لِاسْتِحَالَةِ الْقَوْلِ بِكَوْنِهِ مُسْتَقِلًّا فِي الْإِسْلَامِ , وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ فَرْضًا أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبًا بِهِ , وَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِاتِّفَاقٍ , فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهُ فَرْضًا لَمْ يَصِحَّ أَصْلًا بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ , فَإِنَّهُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ , وَبِخِلَافِ مَا إذَا جُعِلَ مُسْلِمًا تَبَعًا لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّ صِفَةَ الْفَرْضِيَّةِ فِي الْأَصْلِ تُغْنِي عَنْ اعْتِبَارِهِ فِي التَّبَعِ كَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ , وَالِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ , وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ عَقْلِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ , وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمَا لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ , فَفِيمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ لَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ عَقْلِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ , وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِفْ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَا عَقَلَ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ , وَلَوْ صَارَ عَقْلُهُ مُعْتَبَرًا فِي الدِّينِ لَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ إذَا لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يَصِفَ كَمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ , وَلِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي الدُّنْيَا تَنْبِي عَلَى قَوْلِهِ , وَقَوْلُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ إقْرَارًا أَوْ شَهَادَةً , وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الشَّرْعِ كَسَائِرِ الْأَقَارِيرِ , وَالشَّهَادَاتِ , وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ , وَبَيْنَ رَبِّهِ إذَا كَانَ مُعْتَقِدًا لِمَا يَقُولُ : فَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ لَهُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ مَا لِلْمُسْلِمِينَ . ( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } , وَقَدْ أَعْرَبَ هُنَا لِسَانُهُ شَاكِرًا شَكُورًا فَلَا نَجْعَلُهُ كَافِرًا كَفُورًا , وَأَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أَسْلَمَ وَهُوَ صَبِيٌّ , وَحَسُنَ إسْلَامُهُ حَتَّى افْتَخَرَ بِهِ فِي شِعْرِهِ قَالَ : سَبَقْتُكُمْ إلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا غُلَامًا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حُلُمِي , وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي سِنِّهِ حِينَ أَسْلَمَ , وَحِينَ مَاتَ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ : رضي الله عنهما أَسْلَمَ , وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ , وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ فِي أَوَّلِ مَبْعَثِهِ , وَمُدَّةُ الْبَعْثِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً , وَالْخِلَافَةُ بَعْدَهُ ثَلَاثُونَ انْتَهَى بِمَوْتِ عَلِيٍّ رضي الله عنه , فَإِذَا ضَمَمْتَ خَمْسًا إلَى ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ , وَقَالَ الْعُتَيْبِيُّ : أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ , وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً بِهَذَا الطَّرِيقِ أَيْضًا , وَقَالَ الْجَاحِظُ : أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ , وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ , وَهَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ , وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ , وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ كَالْبَالِغِ , وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْإِسْلَامَ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ , وَاقَرَارٌ بِاللِّسَانِ , وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاعْتِقَادِ , وَمَنْ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَقِدًا لِلتَّوْحِيدِ قَبْلَ بُلُوغِهِ , وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ اعْتِقَادِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ , وَمِنْ أَهْلِ مَعْرِفَةِ أَبَوَيْهِ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِمَا إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ , فَعَرَفْنَا ضَرُورَةَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ مَعْرِفَةِ خَالِقِهِ , وَقَدْ سَمِعْنَا إقْرَارَهُ بِعِبَارَةٍ مَفْهُومَةٍ , وَنَحْنُ نَرَى صَبِيًّا يُنَاظِرُ فِي الدِّينِ , وَيُقِيمُ الْحُجَجَ الظَّاهِرَةَ حَتَّى إذَا نَاظَرَ الْمُوَحِّدِينَ أَفْهَمَ , وَإِذَا نَاظَرَ الْمُلْحِدِينَ أَفْحَمَ , فَلَا يُظَنُّ بِعَاقِلٍ أَنْ يَقُولَ :(2/150)
إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ , وَالدَّلِيلُ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ أَنَّهُ يُجْعَلُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِغَيْرِهِ , وَبِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ , وَلِأَنَّهُ مَعَ الصِّبَا أَهْلٌ لِلرِّسَالَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } فَعُلِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْإِسْلَامِ ثُمَّ بَعْدَ وُجُودِ الشَّيْءِ حَقِيقَةً أَنَّهُ أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُهُ بِحَجْرٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يُظَنُّ ذَلِكَ هَهُنَا , وَالنَّاسُ عَنْ آخِرِهِمْ دُعُوا إلَى الْإِسْلَامِ , وَالْحَجْرُ عَنْ الْإِسْلَامِ كُفْرٌ أَوَّلًا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ لِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ , وَلَا تَصَوُّرَ لِذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ , فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فَيَكُونُ مَحْضَ مَنْفَعَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , وَإِنْ حُرِّمَ مِيرَاثُ مُوَرِّثِهِ الْكَافِرِ أَوْ بَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ الْكَافِرَةُ , فَإِنَّمَا يُحَالُ بِذَلِكَ عَلَى خُبْثِهَا لَا عَلَى إسْلَامِهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَثْبُتُ إذَا جُعِلَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ , وَالتَّبَعِيَّةُ فِيمَا يَتَمَحَّضَ مَنْفَعَةٌ لَا فِيمَا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ , وَإِنَّمَا جُعِلَ تَبَعًا لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ , وَفِي اعْتِبَارِ مَنْفَعَتِهِ مَعَ إبْقَاءِ التَّبَعِيَّةِ مَعْنَى تَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ ; لِأَنَّهُ يَنْفَتِحُ عَلَيْهِ بَابُ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ بِطَرِيقَيْنِ فَكَانَ ذَلِكَ أَنْفَعَ , وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ وَالْأَصَالَةِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مُضَادَّةٌ , فَأَمَّا إذَا تَأَيَّدَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ كَالْمَرْأَةِ إذَا سَافَرَتْ مَعَ زَوْجِهَا وَنَوَتْ السَّفَرَ فَهِيَ مُسَافِرَةٌ بِنِيَّتِهَا مَقْصُودًا , وَتَبَعًا لِزَوْجِهَا أَيْضًا , وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ اعْتِقَادُهُ عِنْدَ إسْلَامِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ اعْتِقَادِهِ إذَا أَسْلَمَ مَعَ كُفْرِهِمَا لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالْأَدَاءِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ , وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ إذَا أَدَّى بِاعْتِبَارِ أَنَّ عِنْدَ الْأَدَاءِ يُجْعَلُ الْخِطَابُ كَالسَّابِقِ لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ كَالْمُسَافِرِ لَا يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ , فَإِذَا أَدَّى يُجْعَلُ ذَلِكَ فَرْضًا مِنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ , وَهَذَا لِأَنَّ عَدَمَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ إلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ , وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ إذَا أُدْرِجَ الْخِطَابُ بِهَذَا الطَّرِيقِ بَلْ تَتَوَفَّرُ الْمَنْفَعَةُ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِوُجُودِ حَقِيقَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِصِفَتِهِ , وَإِنَّمَا لَا تَبِينُ زَوْجَتُهُ مِنْهُ إذَا لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يَصِفَ بَعْدَ مَا عَقَلَ لِبَقَاءِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ , وَلِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ , وَلَا وَجْهَ لِاعْتِبَارِ هَذَا الْقَوْلِ بِسَائِرِ الْأَقَاوِيلِ , أَلَا نَجْعَلُهُ فِيهَا كَاذِبًا أَوْ لَاغِيًا , وَإِذَا أَقَرَّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُظَنُّ بِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ أَوْ لَاغٍ بَلْ يُتَيَقَّنُ بِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ فَجَرَيْنَا الْحُكْمَ عَلَيْهِ , فَأَمَّا إذَا ارْتَدَّ هَذَا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ فَأَبُو يُوسُفَ رحمه الله تعالى يَقُولُ : لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى , وَهُوَ الْقِيَاسُ ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَضُرُّهُ , وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مَعْرِفَتُهُ , وَعَقْلُهُ فِيمَا يَنْفَعُهُ لَا فِيمَا يَضُرُّهُ . أَلَا تَرَى أَنَّ قَبُولَ الْهِبَةِ مِنْهُ صَحِيحٌ , وَالرَّدُّ بَاطِلٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا يُحْكَمُ بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ اسْتِحْسَانًا لِعِلَّتِهِ لَا لِحُكْمِهِ , فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ اعْتِبَارِ مَعْرِفَتِهِ وَالْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ بِنَاءً عَلَى عِلَّتِهِ اعْتِبَارَ رِدَّتِهِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ جَهْلٌ مِنْهُ بِخَالِقِهِ , وَجَهْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ مُعْتَبَرٌ حَتَّى لَا يُجْعَلَ عَارِفًا إذَا عُلِمَ جَهْلُهُ بِهِ فَكَذَلِكَ جَهْلُهُ بِرَبِّهِ , وَلِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ أَهْلًا لِلْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِرَفْعِهِ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَهْلًا لِعَقْدِ الْإِحْرَامِ وَالصَّلَاةِ كَانَ أَهْلًا لِلْخُرُوجِ مِنْهُمَا , وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ رَدُّ الْهِبَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْلِ الْمِلْكِ إلَى غَيْرِهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ ضَرَرَ الرِّدَّةِ يَلْحَقُهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ إذَا ارْتَدَّ أَبَوَاهُ وَلَحِقَا بِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ , وَضَرَرُ رَدِّ الْهِبَةِ لَا يَلْحَقُهُ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ , فَبِهَذَا يَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا , وَإِذَا حُكِمَ بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ , وَلَكِنَّهُ لَا يُقْبَلُ اسْتِحْسَانًا ; لِأَنَّ الْقَتْلَ عُقُوبَةٌ , وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَلْتَزِمَ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِهَا(2/151)
كَسَائِرِ الْعُقُوبَاتِ , وَلَكِنْ لَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا ; لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ رِدَّتِهِ إهْدَارُ دَمِهِ , وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ اسْتِحْقَاقُ قَتْلِهِ كَالْمَرْأَةِ إذَا ارْتَدَّتْ لَا تُقْتَلُ , وَلَوْ قَتَلَهَا قَاتِلٌ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ .
=============
الَّذِي أَسْلَمَ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ إذَا بَلَغَ مُرْتَدًّا فِي الْقِيَاسِ يُقْتَلُ(1)
وَهَذِهِ فُصُولٌ أَحَدُهَا فِي الَّذِي أَسْلَمَ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ إذَا بَلَغَ مُرْتَدًّا فِي الْقِيَاسِ يُقْتَلُ لِارْتِدَادِهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ 0
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقْتَلُ , وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُسْلِمًا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ , وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ , فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ عَنْهُ , وَإِنْ بَلَغَ مُرْتَدًّا . وَالثَّانِي : إذَا أَسْلَمَ فِي صِغَرِهِ ثُمَّ بَلَغَ مُرْتَدًّا فَهُوَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ , وَالِاسْتِحْسَانِ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ إسْلَامِهِ فِي الصِّغَرِ . وَالثَّالِثُ : إذَا ارْتَدَّ فِي صِغَرِهِ . وَالرَّابِعُ : الْمُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا ارْتَدَّ , فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ اسْتِحْسَانًا ; لِأَنَّا حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ , وَهُوَ أَنَّ الْإِسْلَامَ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ , وَلَكِنَّ قِيَامَ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ عَنْهُ , وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَلَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
=============
هل تبين زوجة المرتد السكران ؟(2)
وَإِذَا ارْتَدَّ السَّكْرَانُ فِي الْقِيَاسِ تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ ; لِأَنَّ السَّكْرَانَ كَالصَّاحِي فِي اعْتِبَارِ أَقْوَالِهِ , وَأَفْعَالِهِ حَتَّى لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بَانَتْ مِنْهُ 0
, وَلَوْ بَاعَ أَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ كَانَ صَحِيحًا مِنْهُ , وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ , وَقَالَ لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَنْبَنِي عَلَى الِاعْتِقَادِ , وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ السَّكْرَانَ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَا يَقُولُ , وَلِأَنَّهُ لَا يَنْجُو سَكْرَانُ مِنْ التَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ فِي حَالِ سُكْرِهِ عَادَةً , وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ وَاحِدًا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم سَكِرَ حِينَ كَانَ الشُّرْبُ حَلَالًا , وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ أَنْتُمْ إلَّا عَبِيدِي وَعَبِيدُ آبَائِي وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُ كُفْرًا } وَقَرَأَ سَكْرَانُ سُورَةَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَتَرَكَ اللاءات فِيهِ فَنَزَلَ فِيهِ قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ فِي حَالِ سُكْرِهِ كَمَا لَا يُحْكَمُ بِهِ فِي حَالِ جُنُونِهِ فَلَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ .
=============
هل تبين زوجة المكره على الردة ؟(3)
وَالْمُكْرَهُ عَلَى الرِّدَّةِ فِي الْقِيَاسِ تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ , وَبِهِ أَخَذَ الْحَسَنُ 0
لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ مِنْ سِرِّهِ مَا نَعْلَمُ مِنْ عَلَانِيَتِهِ , وَإِنَّمَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَى مَا نَسْمَعُ مِنْهُ , وَلِهَذَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إنْ أَسْلَمَ مُكْرَهًا , وَلَا أَثَرَ لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ , وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ ; لِأَنَّ قِيَامَ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَا يَقُولُ , وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ دَفْعَ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ , وَالرِّدَّةُ نَنْبَنِي عَلَى الِاعْتِقَادِ , وَبِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فَهُنَاكَ بِمُقَابِلَةِ هَذَا الظَّاهِرِ ظَاهِرٌ آخَرُ , وَهُوَ أَنَّ الْإِسْلَامَ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ إنْشَاءٌ سَبَبُهُ التَّكَلُّمُ , وَالْإِكْرَاهُ لَا يُنَافِي الْإِنْشَاءَ , وَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ اعْتِقَادِهِ , وَالْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيهِ فَوْزٌ أَنَّهُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالطَّلَاقِ .
==============
هل يأخذ ورثة المرتد كسبه بعد ردته ؟(4)
. وَإِذَا طَلَبَ وَرَثَةُ الْمُرْتَدِّ كَسْبَهُ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ , وَقَالُوا أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ فَعَلَيْهِمْ الْبَيِّنَةُ فِي ذَلِكَ , وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى ; لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْكَسْبَيْنِ , وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ سَبَبَ حِرْمَانِهِمْ ظَاهِرٌ , وَهُوَ رِدَّتُهُ عِنْدَ اكْتِسَابِهِ فَهُمْ يَدَّعُونَ عَارِضًا مُزِيلًا لِذَلِكَ , وَهُوَ إسْلَامُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُثْبِتُوا ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ .
=================
__________
(1) - المبسوط - (ج 12 / ص 282)
(2) - المبسوط - (ج 12 / ص 283)
(3) - المبسوط - (ج 12 / ص 284)
(4) -المبسوط - (ج 12 / ص 285)(2/152)
تركة الذي الذي يلحق بدار الحرب(1)
وَإِنْ نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ , وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ عَمِلَ فِي تَرِكَتِهِ وَرَثَتُهُ مَا يُعْمَلُ فِي تَرِكَةِ الْمُرْتَدِّ ; لِأَنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيَكُونُ كَالْمَيِّتِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ , وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
===============
إكراه النصراني على الإسلام (2)
, وَلَوْ أَكْرَهَ نَصْرَانِيًّا عَلَى الْإِسْلَامِ , فَأَسْلَمَ كَانَ مُسْلِمًا لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ مَعَ الْإِكْرَاهِ , فَإِنَّ ذَلِكَ بِالتَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ , وَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ , وَقَدْ سَمِعْنَا إقْرَارَهُ بِلِسَانِهِ , وَإِنَّمَا يُعَبِّرُ عَمَّا فِي قَلْبِهِ لِسَانُهُ , فَلِهَذَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ , وَالْأَصْلُ فِيهِ قوله تعالى { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } وَقَالَ عليه الصلاة والسلام { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } , وَقَدْ قَبِلَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَا أَظْهَرُوا مِنْ الْإِسْلَامِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ السَّيْفِ , وَهَذَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا , فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ , وَبَيْنَ رَبِّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ يَعْتَقِدُ فِيمَا يَقُولُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا , وَالذِّمِّيُّ فِي هَذَا , وَالْحَرْبِيُّ سَوَاءٌ عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ إكْرَاهَ الْحَرْبِيِّ عَلَى الْإِسْلَامِ إكْرَاهٌ بِحَقٍّ , وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ , وَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَبَيْنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الرِّدَّةِ , وَقَالَ : الرِّدَّةُ إنَّمَا تَحْصُلُ بِتَبْدِيلِ الِاعْتِقَادِ , وَالْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُبَدِّلٍ لِاعْتِقَادِهِ , فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا , فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ مَعَ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ , وَلَا طَرِيقَ لَنَا إلَى الْوُقُوفِ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ , وَقَدْ سَمِعْنَا إقْرَارَهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ , فَلِذَلِكَ حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ , فَإِنْ رَجَعَ عَنْهُ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ أُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَلَمْ يُقْتَلْ اسْتِحْسَانًا , وَفِي الْقِيَاسِ يُقْتَلُ ; لِأَنَّهُ بَدَّلَ الدِّينَ , وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ , فَاقْتُلُوهُ } , وَهَذَا ; لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْإِسْلَامِ كَانَ الْمُكْرَهِ كَالطَّائِعِ فِيهِ , وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ إسْقَاطَ الْقَتْلِ عَنْهُ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي فُعِلَتْ ; لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ سِرَّهُ حَقِيقَةً , وَالْأَدِلَّةُ قَدْ تَعَارَضَتْ , فَكَوْنُ الْإِسْلَامِ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُعْتَقِدٌ , وَالْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ بِمَا يَقُولُ , وَتَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ شُبْهَةٌ فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ , وَهَذَا نَظِيرُ الْقِيَاسِ , وَالِاسْتِحْسَانِ فِي الْمَوْلُودِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إذَا بَلَغَ مُرْتَدًّا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَلَا يُقْتَلُ اسْتِحْسَانًا , وَاَلَّذِي أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ فِي صِغَرِهِ إذَا بَلَغَ مُرْتَدًّا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَلَا يُقْتَلُ لِلشُّبْهَةِ الْمُتَمَكِّنَةِ فِيهِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ . رحمهم الله .
================
وفي شرح السير الكبير :(3)
139 - قَالَ : وَإِذَا أَعْطَى الرَّجُلُ رَجُلًا جُعْلًا عَلَى أَنْ يُسْلِمَ فَأَسْلَمَ فَهُوَ مُسْلِمٌ , لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ .
__________
(1) - المبسوط - (ج 12 / ص 286)
(2) -المبسوط - (ج 27 / ص 309)
(3) - شرح كتاب السير الكبير - (ج 1 / ص 48) ,السير الكبير - (ج 1 / ص 140) ,شرح السير الكبير - (ج 1 / ص 152)(2/153)
وَبِاشْتِرَاطِ الْجُعَلِ لَا يَتَمَكَّنُ خَلَلٌ فِي ذَلِكَ , فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ , سَلَّمَ لَهُ الْجُعَلَ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ , لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ رِضَاهُ بِدُونِ سَلَامَةِ الْجُعَلِ لَهُ : وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِسْلَامِ , كَمَنْ أَسْلَمَ مُكْرَهًا . وَلِلَّذِي شَرَطَ الْجُعَلَ أَنْ يَمْنَعَهُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ , وَإِنْ أَعْطَاهُ فَهُوَ أَفْضَلُ ; لِأَنَّهُ وَعَدَ لَهُ ذَلِكَ . وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ وَخُلْفُ الْوَعْدِ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ إلَّا أَنَّ الَّذِي أَسْلَمَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَلَا يُسْتَوْجَبُ الْجُعَلُ بِهِ عَلَى ( 43 آ ) غَيْرِهِ , لِأَنَّهُ إنَّمَا اُسْتُوْجِبَ الْجُعَلُ عَلَيْهِ عِوَضَ عَمَلِهِ لَهُ , وَالْمَالُ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ الْإِسْلَامِ , وَهُوَ لَيْسَ بِعَامِلٍ لَهُ لِيَسْتَوْجِبَ عَلَيْهِ الْعِوَضَ . فَمَا وَعَدَ لَهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ رِشْوَةً أَوْ صِلَةً لِتَزْدَادَ بِهِ رَغْبَتُهُ فِي الْإِسْلَامِ . وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ . فَإِذَا أَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْجُعَلَ فَرَجَعَ عَنْ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ , إنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْإِسْلَامِ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } , وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ اسْتِحْسَانًا ; لِأَنَّ قِيَامَ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ بِمَا أَقَرَّ بِهِ , فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً يَنْدَرِئُ بِهَا الْقَتْلُ , فَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْجُعْلِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ فَيَتِمُّ إسْلَامُهُ بِلَا شُبْهَةٍ , فَإِذَا ارْتَدَّ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ .
==================
67 - أَبْوَابُ الْأَنْفَالِ(1)
963 - الْأَنْفَالُ : الْغَنَائِمُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ . وَأَصْلُهَا نَفْلٌ . وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِي وَالْعَجَلْ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَالِ } أَيْ الْغَنَائِمِ . وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : سَاءَتْ أَخْلَاقُنَا يَوْمَ بَدْرٍ فَحُرِمْنَا . فَقِيلَ : وَكَيْفَ سَاءَتْ أَخْلَاقُكُمْ ؟ قَالَ : لَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الْعَدُوَّ افْتَرَقْنَا ثَلَاثَ فِرَقٍ : فِرْقَةٌ كَانُوا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام , يَحْرُسُونَهُ . وَفِرْقَةٌ اتَّبَعُوا الْمُنْهَزِمِينَ , وَفِرْقَةٌ جَمَعُوا الْأَمْوَالَ . ثُمَّ ادَّعَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ أَنَّهَا أَحَقُّ بِالْغَنَائِمِ , فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام وَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا , وَرَسُولُ اللَّهِ سَاكِتٌ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْحَالَةِ : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَالِ . قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } الْآيَةَ . وَالْمُرَادُ فِي اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْأَنْفَالِ فِي عِبَارَةِ الْفُقَهَاءِ مَا يَخُصُّ بِهِ الْإِمَامُ بَعْضَ الْغَانِمِينَ . فَذَلِكَ الْفِعْلُ يُسَمَّى مِنْهُ تَنْفِيلًا , وَذَلِكَ الْمَحَلُّ يُسَمَّى نَفْلًا .
__________
(1) -شرح كتاب السير الكبير - (ج 1 / ص 186) ,السير الكبير - (ج 2 / ص 593) وشرح السير الكبير - (ج 2 / ص 175)(2/154)
964 - وَلَا خِلَافَ أَنَّ التَّنْفِيلَ جَائِزٌ قَبْلَ الْإِصَابَةِ , لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ . فَإِنَّ الْإِمَامَ مَأْمُورٌ بِالتَّحْرِيضِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } فَهَذَا الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ وَلِكُلِّ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ , وَالتَّحْرِيضُ بِالتَّنْفِيلِ , فَإِنَّ الشُّجْعَانَ قَلَّ مَا يُخَاطِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ إذَا لَمْ يُخَصُّوا بِشَيْءٍ مِنْ الْمُصَابِ . فَإِذَا خَصَّهُمْ الْإِمَامُ بِذَلِكَ فَذَلِكَ يُغْرِيهِمْ عَلَى الْمُخَاطَرَةِ بِأَرْوَاحِهِمْ وَإِيقَاعِ أَنْفُسِهِمْ فِي حَلْبَةِ الْعَدُوِّ . وَصُورَةُ هَذَا التَّنْفِيلِ أَنْ يَقُولَ : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ , وَمَنْ أَخَذَ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ . كَمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُنَادِي حِينَ نَادَى يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ . أَوْ يَبْعَثُ سَرِيَّةً فَيَقُولُ : لَكُمْ الثُّلُثُ مِمَّا تُصِيبُونَ بَعْدَ الْخُمُسِ . أَوْ يُطْلِقُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ , فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَهُمْ ثُلُثُ الْمُصَابِ قَبْلَ أَنْ يُخَمَّسَ , يَخْتَصُّونَ بِهِ , وَهُمْ شُرَكَاءُ الْجَيْشِ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ مَا يُرْفَعُ مِنْهُ الْخُمُسُ , وَعِنْدَ التَّنْفِيلِ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ يُخَمَّسُ مَا أَصَابُوا , ثُمَّ يَكُونُ لَهُمْ الثُّلُثُ مِمَّا بَقِيَ يَخْتَصُّونَ بِهِ , وَهُمْ شُرَكَاءُ الْجَيْشِ فِيمَا بَقِيَ . وَلَا يَسْتَحِقُّ الْقَاتِلُ بِدُونِ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ عِنْدَنَا . وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مَنْ قَتَلَ مُشْرِكًا عَلَى وَجْهِ الْمُبَارَزَةِ وَهُوَ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ , وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ التَّنْفِيلُ مِنْ الْإِمَامِ . لِأَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام : { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } لِنَصْبِ الشَّرْعِ . وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِبَيَانِ السَّبَبِ كَقَوْلِهِ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } ( ص 199 ) .
965 - وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا لَوْ أَنْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِالْمَدِينَةِ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ , وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ قَالَ هَذَا إلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى التَّحْرِيضِ . فَإِنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ قَالَ : لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَغَازِيهِ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } إلَّا يَوْمَ حُنَيْنٍ . وَذَلِكَ بَعْدَ مَا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَحْرِيضِهِمْ لِيَكُرُّوا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } . وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ أَيْضًا . وَقَدْ كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّحْرِيضِ يَوْمَئِذٍ مَعْلُومَةً , فَإِنَّهُمْ كَانُوا كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي قَوْلِهِ : { وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } . فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّنْفِيلِ لِلتَّحْرِيضِ . لَا بِطَرِيقِ نَصْبِ الشَّرْعِ وَأَيَّدَ مَا قُلْنَا مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحَاصِرًا وَادِيَ الْقُرَى , فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ : مَا تَقُولُ فِي الْغَنَائِمِ ؟ فَقَالَ : لِلَّهِ سَهْمٌ وَلِهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ . قَالَ : فَالْغَنِيمَةُ يَغْنَمُهَا الرَّجُلُ ؟ قَالَ : إنْ رُمِيتَ فِي جَنْبِك بِسَهْمٍ فَاسْتَخْرَجْتَهُ فَلَسْتَ بِأَحَقَّ بِهِ مِنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ . } فَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ بِدُونِ التَّنْفِيلِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله : لَا نَفْلَ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَأَهْلُ الشَّامِ يُجَوِّزُونَ التَّنْفِيلَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ , وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَا قُلْنَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ . لِأَنَّ التَّنْفِيلَ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَذَلِكَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ لَا بَعْدَهَا . وَلِأَنَّ التَّنْفِيلَ لِإِثْبَاتِ الِاخْتِصَاصِ ابْتِدَاءً , لَا لِإِبْطَالِ حَقٍّ ثَابِتٍ لِلْغَانِمِينَ , أَوْ الْإِبْطَالُ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي الْخُمُسِ لِأَرْبَابِهَا وَفِي التَّنْفِيلِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ إبْطَالُ الْحَقِّ .(2/155)
966 - وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَدِيثُ الْحَسَنِ أَنَّ { رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زِمَامًا مِنْ شَعْرٍ مِنْ الْمَغْنَمِ فَقَالَ : وَيْلَك سَأَلْتنِي زِمَامًا مِنْ نَارٍ - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - وَاَللَّهِ مَا كَانَ لَك أَنْ تَسْأَلَنِيهِ , وَمَا كَانَ لِي أَنْ أُعْطِيَكَهُ } . وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ { رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ أَخَذَهُ مِنْ الْمَغْنَمِ فَقَالَ : هَبْ لِي هَذِهِ فَقَالَ : أَمَّا نَصِيبِي مِنْهَا فَلَكَ } وَعَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ عليه السلام وَمَعَهُ زِمَامٌ مِنْ شَعْرٍ . قَالَ : مُرْ لِي بِهَذَا الزِّمَامِ , فَإِنَّهُ لَيْسَ لِرَاحِلَتِي زِمَامٌ فَقَالَ سَأَلْتنِي زِمَامًا مِنْ نَارٍ . مَا لَك أَنْ تَسْأَلَنِيهِ وَمَا لِي أَنْ أُعْطِيَكَهُ فَرَمَى بِهِ فِي الْمَغْنَمِ } . وَلَوْ جَازَ التَّنْفِيلُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لَمَا حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام ذَلِكَ مَعَ صِدْقِ حَاجَتِهِ . وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَّلَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَى ذَلِكَ مِنْ الْخُمُسِ بَعْضَ الْمُحْتَاجِينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْ الْمَسَاكِينِ . أَوْ أَعْطَى ذَلِكَ مِنْ سَهْمِ نَفْسِهِ مِنْ الْخُمُسِ أَوْ الصَّفِيِّ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَى مَا قَالَ : { لَا يَحِلُّ مِنْ غَنَائِمِكُمْ إلَّا الْخُمُسَ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ } . أَوْ أَعْطَى مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَا بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ , كَأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ فَقَدْ كَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } الْآيَةَ . أَوْ أَعْطَى ذَلِكَ مِنْ غَنَائِمِ بَدْرٍ . فَقَدْ كَانَ الْأَمْرُ فِيهَا مُفَوَّضًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } الْآيَةَ .
وَذُكِرَ : 967 - عَنْ مُوسَى بْنِ سَعْدٍ بْنِ يَزِيدَ أَوْ زَيْدٍ ( ص 200 ) قَالَ : { نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ , وَمَا أَخَذُوا بِغَيْرِ قِتَالٍ , قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ عَنْ فُوَاقٍ } . يَعْنِي عَلَى سَوَاءٍ . وَهَكَذَا ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَالِ } - إلَى قَوْلِهِ - { لَكَارِهُونَ } فَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ بِالسَّوَاءِ . وَقَدْ اتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَى كُلَّ قَاتِلٍ سَلَبَ قَتِيلِهِ يَوْمَئِذٍ عَلَى مَا ذُكِرَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَتَادَةَ قَالَ : أَخَذَ عَلِيٌّ سَلَبَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ , وَأَخَذَ حَمْزَةُ سَلَبَ عُتْبَةَ , وَأَخَذَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ سَلَبَ شَيْبَةَ فَدَفَعَهُ إلَى وَرَثَتِهِ . وَكَانَ عُبَيْدَةُ قَدْ جُرِحَ فَمَاتَ فِي ذَاتِ أَجْدَالٍ بِالصَّفْرَاءِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْمَدِينَةِ . وَهُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ .(2/156)
968 - وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي قَاتِلِ أَبِي جَهْلٍ . فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ : { كُنْت : يَوْمَ بَدْرٍ بَيْنَ شَابَّيْنِ حَدِيثٍ أَسْنَانُهُمَا أَحَدُهُمَا مُعَوِّذُ ابْنُ عَفْرَاءَ وَالْآخَرُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ فَقَالَ لِي أَحَدُهُمَا : أَيْ عَمُّ أَتَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ ؟ قُلْت : وَمَا شَأْنُك بِهِ ؟ قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّهُ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَاَللَّهِ لَوْ لَقِيته لَمَا فَارَقَ سَوَادِي سَوَادَهُ , حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا مَوْتًا , وَغَمَزَنِي الْآخَرُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ . ثُمَّ لَقِيت أَبَا جَهْلٍ وَهُوَ يُسَوِّي صَفَّ الْمُشْرِكِينَ . فَقُلْت : ذَاكَ صَاحِبُكُمَا الَّذِي تُرِيدَانِهِ . فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَقَتَلَاهُ . وَجَاءَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : أَنَا قَتَلْته فَلِي سَلَبُهُ . فَقَالَ عليه السلام : أَمَسَحْتُمَا سَيْفَكُمَا ؟ فَقَالَا : لَا : أَرِيَانِي سَيْفَكُمَا . فَأَرَيَاهُ فَقَالَ : كِلَاكُمَا قَتَلَهُ . ثُمَّ أَعْطَى السَّلَبَ مُعَوِّذَ ابْنَ عَفْرَاءَ } . وَذُكِرَ فِي الْمَغَازِي أَنَّهُ إنَّمَا خَصَّهُ ; لِأَنَّهُ رَأَى أَثَرَ الطِّعَانِ عَلَى سَيْفِهِ فَعَلِمَ أَنَّهُ هُوَ الْقَاتِلُ وَأَنَّهُ أَعَانَهُ الْآخَرُ . وَرُوِيَ أَنَّهُ بَعَثَ إلَى عِكْرِمَة بْنِ أَبِي جَهْلٍ فَسَأَلَهُ : مَنْ قَتَلَ أَبَاك ؟ فَقَالَ : الَّذِي قَطَعْت أَنَا يَدَهُ . وَإِنَّمَا كَانَ قَطَعَ يَدَ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ مِنْ الْمَنْكِبِ . وَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ أَثْخَنَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ . عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : { كُنْت أُفَتِّشُ الْقَتْلَى يَوْمَ بَدْرٍ لِأُبَشِّرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْ أَرَاهُ مَقْتُولًا مِنْهُمْ . فَرَأَيْت أَبَا جَهْلٍ صَرِيعًا بِهِ رَمَقٌ . فَجَلَسْت عَلَى صَدْرِهِ , فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ : يَا رُوَيْعِيَّ الْغَنَمِ , لَقَدْ ارْتَقَيْت مُرْتَقًى عَظِيمًا . فَقُلْت : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَكَّنَنِي مِنْ ذَلِكَ . فَقَالَ : لِمَنْ الدَّبْرَةُ ؟ فَقُلْت : لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . فَقَالَ : مَاذَا تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَهُ ؟ فَقُلْت : أَحُزُّ رَأْسَك . فَقَالَ : خُذْ سَيْفِي فَهُوَ أَمْضَى لِمَا تُرِيدُ , وَاقْطَعْ رَأْسِي مِنْ كَاهِلِي لِيَكُونَ أَهْيَبَ فِي عَيْنِ النَّاظِرِ . وَإِذَا رَجَعْت إلَى مُحَمَّدٍ فَأَخْبِرْهُ أَنِّي الْيَوْمَ أَشَدُّ بُغْضًا لَهُ مِمَّا كُنْت مِنْ قَبْلُ . فَقَالَ : قَطَعْت رَأْسَهُ وَأَتَيْت بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت : هَذَا رَأْسُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبِي جَهْلٍ فَقَالَ عليه السلام : اللَّهُ أَكْبَرُ . هَذَا فِرْعَوْنِي وَفِرْعَوْنُ أُمَّتِي . كَانَ شَرُّهُ عَلَيَّ وَعَلَى أُمَّتِي أَعْظَمَ مِنْ شَرِّ فِرْعَوْنَ عَلَى مُوسَى وَأُمَّتِهِ , ثُمَّ نَفَّلَنِي سَيْفَهُ } . زَادَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ : { وَأَخْبَرْته بِمَا قَالَ , فَقَالَ : إنَّهُ كَفَرَ فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ مَوْتِهِ , وَسَيَكْفُرُ فِي النَّارِ أَيْضًا . قَالَ : وَكَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : إذَا دَخَلَ النَّارَ جَعَلَ يَنْظُرُ وَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ أَيْنَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ ؟ فَيُقَالُ لَهُ : هُمْ فِي الْجَنَّةِ . قَالَ : كَلًّا , إنَّمَا كَانَ الْيَوْمُ يَوْمَ زَحْمَةٍ ص 201 فَهَرَبُوا } . وَالرِّوَايَاتُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى ابْنَ مَسْعُودٍ سَيْفَهُ . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَيْضًا أَعْطَاهُ سَلَبَهُ . فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الَّذِي جَرَحَهُ مَا أَثْخَنَهُ , فَيَكُونُ قَاتِلُهُ مَنْ قَطَعَ رَأْسَهُ . وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ أَعْطَى سَلَبَهُ غَيْرَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ أَثْخَنَهُ وَصَيَّرَهُ بِحَالٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْقِتَالُ , فَيَكُونُ السَّلَبُ لَهُ دُونَ مَنْ قَطَعَ رَأْسَهُ . وَإِنَّمَا أَعْطَى سَيْفَهُ ابْنَ مَسْعُودٍ ; لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ كَانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا بَيَّنَّا . وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ مَنْ يُجَوِّزُ التَّنْفِيلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَإِنَّهُ يَقُولُ : أَعْطَاهُ سَيْفَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّنْفِيلِ . وَهَذَا ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لِغَيْرِهِ بِالتَّنْفِيلِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَهُ الْإِمَامُ لِغَيْرِهِ , كَيْفَ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى سَيْفِهِ فِضَّةٌ ؟ وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الشَّامِ لَا نَفْلَ فِي ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ , عَلَى مَا بَيَّنَهُ , وَإِنْ كَانَ هَذَا تَنْفِيلًا , فَهُوَ حُجَّةٌ لَنَا عَلَيْهِمْ .(2/157)
969 - وَذُكِرَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ : { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ } . وَتَمَامُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ { أَبَا قَتَادَةَ قَالَ : كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ يَوْمَ حُنَيْنٍ . فَلَقِيت رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ . فَأَتَيْته مِنْ وَرَائِهِ وَضَرَبْت عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ ضَرْبَةً , فَتَرَكَهُ وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي إلَى نَفْسِهِ ضَمَّةً شَمَمْت مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ . ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي , فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْته يَقُولُ : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا وَلَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ . فَقُلْت : مَنْ يَشْهَدُ لِي ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ , سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ عَنِّي . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ . لَاهَا اللَّهِ أَيَعْمِدُ أَسَدٌ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ ثُمَّ يُعْطِيك سَلَبَهُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : صَدَقَ أَبُو بَكْرٍ . وَأَعْطَانِي سَلَبَهُ . } 970 - وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ : لَا مَغْنَمَ حَتَّى يُخَمَّسَ , وَلَا نَفْلَ حَتَّى يُقْسَمَ جُفَّةً . أَيْ جُمْلَةً . وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا نَفْيَ التَّنْفِيلِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ , نَفَى اخْتِصَاصَ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ بِشَيْءٍ قَبْلَ الْخُمُسِ بِغَيْرِ تَنْفِيلٍ . وَهُوَ مَذْهَبُنَا . 971 - وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ : لَا نَفْلَ فِي أَوَّلِ الْغَنِيمَةِ , وَلَا بَعْدَ الْغَنِيمَةِ , وَلَا يُعْطَى مِنْ الْغَنَائِمِ إذَا اجْتَمَعَتْ إلَّا رَاعٍ أَوْ سَائِقٌ أَوْ حَارِسٌ غَيْرُ مُحَابًى . وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا نَفْلَ فِي أَوَّلِ الْغَنِيمَةِ : أَيْ بَعْدَ الْإِصَابَةِ , لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ أَحَدًا شَيْئًا قَبْلَ رَفْعِ الْخُمُسِ وَلَا بَعْدَ رَفْعِ الْخُمُسِ . وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُنَفِّلَ فِي أَوَّلِ اللِّقَاءِ قَبْلَ الْحَاجَةِ إلَى التَّحْرِيضِ ; لِأَنَّ الْجَيْشَ فِي أَوَّلِ اللِّقَاءِ يَكُونُ لَهُمْ نَشَاطٌ فِي الْقِتَالِ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّحْرِيضِ , فَأَمَّا بَعْدَ مَا طَالَ الْأَمْرُ وَقَلَّ نَشَاطُهُمْ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّحْرِيضِ , فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّنْفِيلُ عِنْدَ ذَلِكَ . فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنَفِّلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنَفِّلُ فِي الْبُدَاءَةِ الرُّبْعَ وَفِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ } . فَأَهْلُ الشَّامِ حَمَلُوا هَذَا عَلَى التَّنْفِيلِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ , وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا , بَلْ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يُنَفِّلُ أَوَّلَ السَّرَايَا الرُّبْعَ , وَآخِرَ السَّرَايَا الثُّلُثَ , لِزِيَادَةِ الْحَاجَةِ إلَى التَّحْرِيضِ . فَإِنَّ أَوَّلَ السَّرَايَا يَكُونُونَ نَاشِطِينَ فِي الْقِتَالِ ( ص 202 ) فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى الْإِمْعَانِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ , وَآخِرَ السَّرَايَا قَدْ قَلَّ نَشَاطُهُمْ وَيَحْتَاجُونَ إلَى الْإِمْعَانِ فِي الطَّلَبِ . فَلِهَذَا زَادَ فِيمَا نَفَّلَ لَهُمْ . وَأَمَّا الرَّاعِي وَالسَّائِقُ وَالْحَارِسُ فَهُمْ أُجَرَاءُ يُعْطِيهِمْ الْإِمَامُ أَجْرَهُمْ بِاعْتِبَارِ عَمَلِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ . وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ " غَيْرُ مُحَابًى " , فَإِنَّمَا يُعْطِيهِمْ الْأَجْرَ بِقَدْرِ عَمَلِهِمْ , وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ النَّفْلِ فِي شَيْءٍ .
=================
179 - بَابُ الْمُرْتَدِّينَ كَيْفَ يَحْكُمُ فِيهِمْ (1)
3881 - . قَالَ رحمه الله تعالى : الْمُرْتَدُّ يُقْتَلُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . وَهُوَ يَعُمُّ الْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ , وَلِمَوْلَى الْعَبْدِ أَنْ يَقْتُلَهُ بِنَفْسِهِ إنْ شَاءَ , فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله تعالى عنهما بِعَبْدٍ لَهُ تَنَصَّرَ , وَلِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ صَارَ كَالْحَرْبِيِّ فِي حُكْمِ الْقَتْلِ , وَلِكُلِّ مُسْلِمٍ قَتْلُ الْحَرْبِيِّ الَّذِي لَا أَمَانَ لَهُ , إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إلَى الْإِمَامِ لِيَكُونَ هُوَ الَّذِي يَقْتُلُهُ ; لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْحَدِّ . وَاسْتِيفَاءُ الْحُدُودِ إلَى الْإِمَامِ .
=================
المرتدون ليسوا من أهل الذمة (2)
4049 وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَبَ قَوْمٌ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ أَنْ يُؤَمِّنُوهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً يُؤَدُّونَ الْخَرَاجَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤَمِّنُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ 0
__________
(1) -شرح كتاب السير الكبير - (ج 2 / ص 96) وشرح السير الكبير - (ج 5 / ص 224)
(2) - شرح كتاب السير الكبير - (ج 2 / ص 120) وشرح السير الكبير - (ج 5 / ص 323)(2/158)
لِأَنَّ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ مُسْتَحِقٌّ حَدًّا , وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ إقَامَةِ الْحَدِّ وَلَا تَأْخِيرُهُ بِمَالٍ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ عَقْدِ الذِّمَّةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ لَيْسَ هُوَ الْمَالُ , بَلْ الْتِزَامُ الْحَرْبِيِّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ , فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ , وَأَحْكَامُ الْإِسْلَامِ لَازِمَةٌ عَلَى الْمُرْتَدِّ فَلَا يَكُونُ فِي إعْطَاءِ الْأَمَانِ لَهُ غَرَضٌ سِوَى إظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِي الْمَالِ , وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَإِنْ أَعْطَوْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى خَرَجُوا إلَيْنَا عُرِضَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَبَوْا قُتِلُوا , وَلَا يَجُوزُ رَدُّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ بِحَالٍ ; لِأَنَّ الْقَتْلَ مُسْتَحَقٌّ عَيْنًا عَلَى الْمُرْتَدِّ إنْ لَمْ يُسْلِمْ , قَالَ صلى الله عليه وآله وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } .
4051 وَإِنْ طَلَبُوا الْمُوَادَعَةَ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ , أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُوَادِعَهُمْ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ , بِأَنْ كَانَ لَا يَقْوَى عَلَى قِتَالِهِمْ , وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا نَأْخُذُ مِنْهُمْ جَعْلًا عَلَى الْمُوَادَعَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ الْخَرَاجَ . فَإِنْ أَخَذَهُ مِنْهُمْ جَعَلَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ ; لِأَنَّهُ مَالُ الْمُرْتَدِّ وَكُلُّ مَالِ الْمُرْتَدِّينَ هُوَ فَارِغٌ عَنْ حَقِّ وَرَثَتِهِ فَيُصِيبُهُ بَيْتُ الْمَالِ .
4052 وَهَذَا بِخِلَافِ الْخَوَارِجِ , فَإِنَّهُ إذَا أَخَذَ مِنْهُمْ عَلَى الْمُوَادَعَةِ مَالًا جَعَلَ ذَلِكَ الْمَالَ مَحْبُوسًا عِنْدَهُ , حَتَّى يَتُوبُوا ثُمَّ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ . لِأَنَّ مَالَ الْخَوَارِجِ لَا يَكُونُ غَنِيمَةً لِأَهْلِ الْعَدْلِ بِحَالٍ , بِخِلَافِ أَمْوَالِ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ مَا صَارُوا مُحَارَبِينَ . وَعَلَى هَذَا الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِنَا إذَا الْتَزَمَ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَسَأَلَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُؤَمِّنُوهُ عَلَى أَنْ يُسْلِمَ فَلَا يَأْخُذُهُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ , فَالْمُسْتَأْمَنُ فِيهِ وَالْمُرْتَدُّ سَوَاءٌ . .
==================
وفي المستصفى :(1)
الْبَابُ الرَّابِعُ : فِي تَعَارُضِ الْعُمُومَيْنِ , وَوَقْتِ جَوَازِ الْحُكْمِ بِالْعُمُومِ 0
__________
(1) - المستصفى - (ج 2 / ص 132)(2/159)
وَفِيهِ فُصُولٌ : الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي التَّعَارُضِ . اعْلَمْ أَنَّ الْمُهِمَّ الْأَوَّلَ مَعْرِفَةُ مَحَلِّ التَّعَارُضِ , فَنَقُولُ كُلُّ مَا دَلَّ الْعَقْلُ فِيهِ عَلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَلَيْسَ لِلتَّعَارُضِ فِيهِ مَجَالٌ إذْ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ يَسْتَحِيلُ نَسْخُهَا , وَتَكَاذُبُهَا , فَإِنْ وَرَدَ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ عَلَى خِلَافِ الْعَقْلِ فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُتَوَاتِرًا فَيُعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا , فَيَكُونَ مُؤَوَّلًا , وَلَا يَكُونَ مُتَعَارِضًا . وَأَمَّا نَصٌّ مُتَوَاتِرٌ لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ , وَالتَّأْوِيلَ , وَهُوَ عَلَى خِلَافِ دَلِيلِ الْعَقْلِ فَذَلِكَ مُحَالٌ ; لِأَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ لَا يَقْبَلُ النَّسْخَ , وَالْبُطْلَانَ , مِثَالُ ذَلِكَ الْمُؤَوَّلُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ قوله تعالى : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } إذْ خَرَجَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ ذَاتُ الْقَدِيمِ وَصِفَاتُهُ , وَقَوْلُهُ : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى عُمُومِهِ , وَلَا يُعَارِضُهُ قوله تعالى : { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ } إذْ مَعْنَاهُ مَا لَا يَعْلَمُ لَهُ أَصْلًا أَيْ : يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ , وَلَا يُعَارِضُهُ قوله تعالى : { حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } إذْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْمُجَاهَدَةَ كَائِنَةً , وَحَاصِلَةً , وَفِي الْأَزَلِ لَا يُوصَفُ عِلْمُهُ بِتَعَلُّقِهِ بِحُصُولِ الْمُجَاهَدَةِ قَبْلَ حُصُولِهَا . وَكَذَلِكَ قوله تعالى : { وَتَخْلُقُونَ إفْكًا } لَا يُعَارِضُ قَوْلَهُ : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } ; لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهِ الْكَذِبُ دُونَ الْإِيجَادِ , وَكَذَلِكَ قوله تعالى : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ تُقَدِّرُ وَالْخَلْقُ هُوَ التَّقْدِيرُ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } أَيْ : الْمُقَدِّرِينَ , وَهَكَذَا أَبَدًا تَأْوِيلُ مَا خَالَفَ دَلِيلَ الْعَقْلِ أَوْ خَالَفَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى عُمُومِهِ . أَمَّا الشَّرْعِيَّاتُ فَإِذَا تَعَارَضَ فِيهَا دَلِيلَانِ فَإِمَّا أَنْ يَسْتَحِيلَ الْجَمْعُ أَوْ يُمْكِنَ , فَإِنْ امْتَنَعَ الْجَمْعُ لِكَوْنِهِمَا مُتَنَاقِضَيْنِ كَقَوْلِهِ مَثَلًا { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَلَا تَقْتُلُوهُ . { لَا يَصِحُّ نِكَاحٌ بِغَيْرِ وَلِيٍّ } , " يَصِحُّ نِكَاحٌ بِغَيْرِ وَلِيٍّ " . فَمِثْلُ هَذَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا , وَالْآخَرُ مَنْسُوخًا , فَإِنْ أَشْكَلَ التَّارِيخُ فَيُطْلَبُ الْحُكْمُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ , وَيُقَدَّرُ تَدَافُعُ النَّصَّيْنِ , فَإِنْ عَجَزْنَا عَنْ دَلِيلٍ آخَرَ فَنَتَخَيَّرُ الْعَمَلَ بِأَيِّهِمَا شِئْنَا ; لِأَنَّ الْمُمْكِنَاتِ أَرْبَعَةٌ : الْعَمَلُ بِهِمَا , وَهُوَ مُتَنَاقِضٌ , أَوْ اطِّرَاحُهُمَا , وَهُوَ إخْلَاءُ الْوَاقِعَةِ عَنْ الْحُكْمِ , وَهُوَ مُتَنَاقِضٌ , أَوْ اسْتِعْمَالُ وَاحِدٍ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ , وَهُوَ تَحَكُّمٌ , فَلَا يَبْقَى إلَّا التَّخَيُّرُ الَّذِي يَجُوزُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ ابْتِدَاءً فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ كَلَّفَنَا وَاحِدًا بِعَيْنِهِ لَنَصَّبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا , وَلَجَعَلَ لَنَا إلَيْهِ سَبِيلًا , إذْ لَا يَجُوزُ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ . , وَفِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ مَزِيدُ غَوْرٍ سَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ تَخَيُّرِ الْمُجْتَهِدِ , وَتَحَيُّرِهِ . أَمَّا إذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بِوَجْهٍ مَا فَهُوَ عَلَى مَرَاتِبَ : الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى : عَامٌّ , وَخَاصٌّ , كَقَوْلِهِ عليه السلام : { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ } مَعَ قَوْلِهِ : { لَا صَدَقَةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ } فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ مَذْهَبِ الْقَاضِي أَنَّ التَّعَارُضَ وَاقِعٌ لِإِمْكَانِ كَوْنِ أَحَدِهِمَا نَسْخًا بِتَقْدِيرِ إرَادَةِ الْعُمُومِ بِالْعَامِّ , وَالْمُخْتَارُ أَنْ يُجْعَلَ بَيَانًا , وَلَا يُقَدَّرُ النَّسْخُ إلَّا لِضَرُورَةٍ فَإِنَّ فِيهِ تَقْدِيرَ دُخُولِ مَا دُونَ النِّصَابِ تَحْتَ وُجُوبِ الْعُشْرِ ثُمَّ خُرُوجِهِ مِنْهُ , وَذَلِكَ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ بِالتَّوَهُّمِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ . الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ : وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ الْأُولَى : أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْمُؤَوَّلُ قَوِيًّا فِي الظُّهُورِ بَعِيدًا عَنْ التَّأْوِيلِ لَا يَنْقَدِحُ تَأْوِيلُهُ إلَّا بِقَرِينَةٍ , فَكَلَامُ الْقَاضِي فِيهِ أَوْجَهُ , وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ : عليه السلام : { إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } كَمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ , فَإِنَّهُ كَالصَّرِيحِ فِي نَفْيِ رِبَا الْفَضْلِ , وَرِوَايَةُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي قَوْلِهِ : { الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ } صَرِيحٌ فِي إثْبَاتِ رِبَا الْفَضْلِ , فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ , وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : { إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } أَيْ : فِي مُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ , وَيَكُونُ قَدْ خَرَجَ عَلَى سُؤَالٍ خَاصٍّ عَنْ الْمُخْتَلِفَيْنِ أَوْ حَاجَةٍ خَاصَّةٍ(2/160)
حَتَّى يَنْقَدِحَ الِاحْتِمَالُ , وَالْجَمْعُ بِهَذَا التَّقْدِيرِ مُمْكِنٌ , وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ , وَإِنْ بَعُدَ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِ النَّسْخِ , وَلِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ : قَطْعُكُمْ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَيْنِ تَحَكُّمٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَاطِعٌ , وَيُخَالِفُ ظَاهِرَ اللَّفْظِ الْمُفِيدِ لِلظَّنِّ , وَالتَّحَكُّمُ بِتَقْدِيرٍ لَيْسَ يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ , وَلَا ظَنِّيٌّ لَا وَجْهَ لَهُ . قُلْنَا : يَحْمِلُنَا عَلَيْهِ ضَرُورَةُ الِاحْتِرَازِ عَنْ النَّسْخِ , فَيَقُولُ : فَمَا الْمَانِعُ مِنْ تَقْدِيرِ النَّسْخِ , وَلَيْسَ فِي إثْبَاتِهِ ارْتِكَابُ مُحَالٍ , وَلَا مُخَالَفَةُ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ , وَلَا ظَنِّيٍّ ؟ , وَفِيمَا ذَكَرْتُمْ مُخَالَفَةُ صِيغَةِ الْعُمُومِ , وَدَلَالَةِ اللَّفْظِ , وَهُوَ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ , فَمَا هُوَ الْخَوْفُ , وَالْحَذَرُ مِنْ النَّسْخِ , وَإِمْكَانُهُ كَإِمْكَانِ الْبَيَانِ فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ؟ فَإِنْ قُلْنَا : الْبَيَانُ أَغْلَبُ عَلَى عَادَةِ الرَّسُولِ عليه السلام مِنْ النَّسْخِ , وَهُوَ أَكْثَرُ وُقُوعًا فَلَهُ أَنْ يَقُولَ : وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِالِاحْتِمَالِ الْأَكْثَرِ ؟ وَإِذَا اشْتَبَهَتْ رَضِيعَةٌ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ فَالْأَكْثَرُ حَلَالٌ , وَإِذَا اشْتَبَهَ إنَاءٌ نَجِسٌ بِعَشْرِ أَوَانٍ طَاهِرَةٍ فَلَا تَرْجِيحَ لِلْأَكْثَرِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الِاجْتِهَادِ , وَالدَّلِيلِ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ وَاحِدًا , وَيُقَدِّرَ حِلَّهُ أَوْ طَهَارَتَهُ ; لِأَنَّ جِنْسَهُ أَكْثَرُ . لَكِنَّا نَقُولُ : الظَّنُّ عِبَارَةٌ عَنْ أَغْلَبِ الِاحْتِمَالَيْنِ , وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ فَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُورِثُ إلَّا غَلَبَةَ الظَّنِّ مِنْ حَيْثُ إنَّ صِدْقَ الْعَدْلِ أَكْثَرُ , وَأَغْلَبُ مِنْ كَذِبِهِ وَصِيغَةُ الْعُمُومِ تُتَّبَعُ ; لِأَنَّ إرَادَةَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ أَغْلَبُ , وَأَكْثَرُ مِنْ وُقُوعِ غَيْرِهِ , وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْعِ , وَالْأَصْلِ مُمْكِنٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِبُطْلَانِهِ فِي الْأَقْيِسَةِ الظَّنِّيَّةِ لَكِنَّ الْجَمْعَ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ , وَاتِّبَاعُ الظَّنِّ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ لَا لِكَوْنِهِ ظَنًّا لَكِنْ لِعَمَلِ الصَّحَابَةِ بِهِ , وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ , فَكَذَا نَعْلَمُ مِنْ سِيرَةِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ مَا اعْتَقَدُوا كَوْنَ غَيْرِ الْقُرْآنِ مَنْسُوخًا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ , وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ عَامٌّ لَمْ يُخَصَّصْ إلَّا قوله تعالى : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } , وَأَلْفَاظٌ نَادِرَةٌ , بَلْ قَدَّرُوا جُمْلَةَ ذَلِكَ بَيَانًا , وَوَرَدَ الْعَامُّ , وَالْخَاصُّ فِي الْأَخْبَارِ , وَلَا يَتَطَرَّقُ النَّسْخُ إلَى الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ } تَخْصِيصًا لقوله تعالى : { هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ } , وَتَخْصِيص قوله تعالى : { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } , وَ { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } , وَ { يُجْبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } , وَكَانُوا لَا يَنْسَخُونَ إلَّا بِنَصٍّ , وَضَرُورَةٍ أَمَّا بِالتَّوَهُّمِ فَلَا . وَلَعَلَّ السَّبَبَ أَنَّ فِي جَعْلِهِمَا مُتَضَادَّيْنِ إسْقَاطَهُمَا إذَا لَمْ يُظْهِرْ التَّارِيخُ , وَفِي جَعْلِهِ بَيَانًا اسْتِعْمَالَهُمَا , وَإِذَا تَخَيَّرْنَا بَيْنَ الِاسْتِعْمَالِ , وَالْإِسْقَاطِ فَالِاسْتِعْمَالُ هُوَ الْأَصْلُ , وَلَا يَجُوزُ الْإِسْقَاطُ إلَّا لِضَرُورَةٍ تَنْبِيهٌ : اعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ أَيْضًا إنَّمَا يُقَدِّرُ النَّسْخَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُظْهِرَ دَلَالَةً عَلَى إرَادَةِ الْبَيَانِ , مِثَالُهُ قَوْلُهُ : { لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ , وَلَا عَصَبٍ } عَامٌّ يُعَارِضُهُ خُصُوصُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ } ; لَكِنَّ الْقَاضِيَ يُقَدِّرُهُ نَسْخًا بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَثْبُتَ فِي اللِّسَانِ اخْتِصَاصُ اسْمِ الْإِهَابِ بِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ فَقَدْ قِيلَ : مَا لَمْ يُدْبَغْ الْجِلْدُ يُسَمَّى إهَابًا فَإِذَا دُبِغَ فَأَدِيمٌ وَصَرْمٌ , وَغَيْرُهُ , فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ . الثَّانِي : أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عليه السلام مَرَّ بِشَاةٍ لِمَيْمُونَةَ مَيِّتَةٍ فَقَالَ : { أَلَا أَخَذُوا إهَابَهَا فَدَبَغُوهُ , وَانْتَفَعُوا بِهِ } وَكَانُوا قَدْ تَرَكُوهَا لِكَوْنِهَا مَيْتَةً , ثُمَّ كَتَبَ { لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ , وَلَا عَصَبٍ } فَسَاقَ الْحَدِيثَ سِيَاقًا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ جَرَى مُتَّصِلًا , فَيَكُونُ بَيَانًا لَا نَاسِخًا ; لِأَنَّ شَرْطَ النَّسْخِ التَّرَاخِي . الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ التَّعَارُضِ : أَنْ يَتَعَارَضَ عُمُومَانِ , فَيَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ , وَيَنْقُصُ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ , مِثَالُهُ قَوْلُهُ : عليه السلام { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } فَإِنَّهُ يَعُمُّ النِّسَاءَ , مَعَ قَوْلِهِ : { نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ } فَإِنَّهُ يَعُمُّ الْمُرْتَدَّاتِ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { نُهِيتُ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ(2/161)
الْعَصْرِ } فَإِنَّهُ يَعُمُّ الْفَائِتَةَ أَيْضًا , مَعَ قَوْلِهِ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } فَإِنَّهُ يَعُمُّ الْمُسْتَيْقِظَ بَعْدَ الْعَصْرِ . , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } فَإِنَّهُ يَشْمَلُ جَمْعَ الْأُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ أَيْضًا مَعَ قَوْلِهِ : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فَإِنَّهُ يَحِلُّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِعُمُومِهِ , فَيُمْكِنُ أَنْ يُخَصَّصَ قَوْلُهُ : { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } بِجَمْعِ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْقَاضِي تَعَارُضٌ , وَتَدَافُعٌ بِتَقْدِيرِ النَّسْخِ , وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ عَلِيٍّ , وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما لَمَّا سُئِلَا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَعْنِي : جَمْعَ أُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ فَقَالَا : " حَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ , وَحَلَّلَتْهُمَا آيَةٌ " . أَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فِي حَمْلِهِ عَلَى الْبَيَانِ مَا أَمْكَنَ لَيْسَ أَيْضًا أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ مَا لَمْ يَظْهَرْ تَرْجِيحٌ , وَقَدْ ظَهَرَ , فَنَقُولُ : حِفْظُ عُمُومِ قَوْلِهِ : { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } أَوْلَى لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عُمُومٌ لَمْ يَتَطَرَّقْ إلَيْهِ تَخْصِيصٌ مُتَّفَقٌ فَهُوَ أَقْوَى مِنْ عُمُومٍ تَطَرَّقَ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ بِالِاتِّفَاقِ , إذْ قَدْ اُسْتُثْنِيَ عَنْ تَحْلِيلِ مِلْكِ الْيَمِينِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْمُسْتَبْرَأَةِ , وَالْمَجُوسِيَّةِ , وَالْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ , وَالنَّسَبِ , وَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ , أَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَحَرَامٌ عَلَى الْعُمُومِ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } سِيقَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُحَرَّمَاتِ , وَعَدِّهَا عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ إلْحَاقًا لِمُحَرَّمَاتٍ تَعُمُّ الْحَرَائِرَ , وَالْإِمَاءَ , وَقَوْلُهُ : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } مَا سِيقَ لِبَيَانِ الْمُحَلَّلَاتِ قَصْدًا بَلْ فِي مَعْرَضِ الثَّنَاءِ عَلَى أَهْلِ التَّقْوَى الْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ عَنْ غَيْرِ الزَّوْجَاتِ , وَالسَّرَارِي فَلَا يَظْهَرُ مِنْهُ قَصْدُ الْبَيَانِ . فَإِنْ قِيلَ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَارَضَ عُمُومَانِ , وَيَخْلُوَا عَنْ دَلِيلِ التَّرْجِيحِ ؟ قُلْنَا قَالَ قَوْمٌ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى التُّهْمَةِ , وَوُقُوعِ الشُّبْهَةِ لِتَنَاقُضِ الْكَلَامَيْنِ , وَهُوَ مُنَفِّرٌ عَنْ الطَّاعَةِ , وَالِاتِّبَاعِ , وَالتَّصْدِيقِ , وَهَذَا فَاسِدٌ بَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ , وَيَكُونُ ذَلِكَ مُبَيَّنًا لِأَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ , وَإِنَّمَا خَفِيَ عَلَيْنَا لِطُولِ الْمُدَّةِ , وَانْدِرَاسِ الْقَرَائِنِ , وَالْأَدِلَّةِ , وَيَكُونُ ذَلِكَ مِحْنَةً , وَتَكْلِيفًا عَلَيْنَا لِنَطْلُبَ الدَّلِيلَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِنْ تَرْجِيحٍ أَوْ نَتَخَيَّرَ , وَلَا تَكْلِيفَ فِي حَقِّنَا إلَّا بِمَا بَلَغَنَا فَلَيْسَ فِيهِ مُحَالٌ , وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّنْفِيرِ , وَالتُّهْمَةِ فَبَاطِلٌ , ; لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ نَفَّرَ طَائِفَةً مِنْ الْكُفَّارِ فِي وُرُودِ النَّسْخِ حَتَّى قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ } الْآيَةَ , ثُمَّ ذَلِكَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى اسْتِحَالَةِ النَّسْخِ .
==================
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ إثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِأَدِلَّةٍ نَقْلِيَّةٍ وَجُمْلَةُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ تَرْجِعُ إلَى أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاسْتِنْبَاطِ فَنَحْصُرُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : (1)
__________
(1) - المستصفى - (ج 2 / ص 273)(2/162)
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ إثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِأَدِلَّةٍ نَقْلِيَّةٍ : وَذَلِكَ إنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ صَرِيحِ النُّطْقِ أَوْ مِنْ الْإِيمَاءِ أَوْ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَى الْأَسْبَابِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ : الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : الصَّرِيحُ وَذَلِكَ أَنْ يَرِدَ فِيهِ لَفْظُ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ : " لِكَذَا أَوْ لِعِلَّةِ كَذَا أَوْ لِأَجْلِ كَذَا أَوْ لِكَيْ لَا يَكُونَ كَذَا وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ صِيَغِ التَّعْلِيلِ مِثْلُ قوله تعالى { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } وَ { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ } وَ { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَقَوْلِهِ عليه السلام : { إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ لِأَجْلِ الْبَصَرِ } وَ { إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِأَجْلِ الدَّافَّةِ } فَهَذِهِ صِيَغُ التَّعْلِيلِ إلَّا إذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَا قَصَدَ التَّعْلِيلَ فَيَكُونُ مَجَازًا كَمَا يُقَالُ : لِمَ فَعَلْتَ ؟ لِأَنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَفْعَلَ فَهَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فَهُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ قَالَ الْقَاضِي : قوله تعالى : { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } مِنْ هَذَا الْجِنْسِ ; لِأَنَّ هَذَا لَامُ التَّعْلِيلِ , وَالدُّلُوكُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فَمَعْنَاهُ " صَلِّ عِنْدَهُ " فَهُوَ لِلتَّوْقِيتِ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ إذْ الزَّوَالُ وَالْغُرُوبُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَنْصِبَهُ الشَّرْعُ عَلَامَةً لِلْوُجُوبِ , وَلَا مَعْنَى لِعِلَّةِ الشَّرْعِ إلَّا الْعَلَامَةُ الْمَنْصُوبَةُ , وَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ : الْأَوْقَاتُ أَسْبَابٌ ; وَلِذَلِكَ يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ بِتَكَرُّرِهَا وَلَا يَبْعُدُ تَسْمِيَةُ السَّبَبِ عِلَّةً . الضَّرْبُ الثَّانِي : التَّنْبِيهُ وَالْإِيمَاءُ عَلَى الْعِلَّةِ كَقَوْلِهِ عليه السلام لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْهِرَّةِ : { إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوْ الطَّوَّافَاتِ } فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ ; لِأَنَّهَا أَوْ لِأَجْلِ أَنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ لَكِنْ أَوْمَأَ إلَى التَّعْلِيلِ ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ وَصْفِ الطَّوَافِ مُفِيدًا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ : إنَّهَا سَوْدَاءُ أَوْ بَيْضَاءُ لَمْ يَكُنْ مَنْظُومًا إذَا لَمْ يَرِدْ التَّعْلِيلُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { : فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } وَ { إنَّهُمْ يُحْشَرُونَ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا } وَقَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ : { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ } فَإِنَّهُ بَيَانٌ لِتَعْلِيلِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ حَتَّى يَطَّرِدَ فِي كُلِّ مُسْكِرٍ وَكَذَلِكَ ذِكْرُ الصِّفَةِ قَبْلَ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ : { قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } فَهُوَ تَعْلِيلٌ حَتَّى يُفْهَمَ مِنْهُ تَحْرِيمُ الْإِتْيَانِ فِي غَيْرِ الْمَأْتَى ; لِأَنَّ الْأَذَى فِيهِ دَائِمٌ وَلَا يَجْرِي فِي الْمُسْتَحَاضَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ عَارِضٌ , وَلَيْسَ بِطَبِيعِيٍّ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ } فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَعْلِيلًا لِاسْتِعْمَالِهِ لَمَا كَانَ الْكَلَامُ وَاقِعًا فِي مَحَلِّهِ , وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَاءً نَبَذَ فِيهِ تُمَيْرَاتٍ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ الزَّبِيبُ وَغَيْرُهُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْمَرَقَةُ وَالْعَصِيدَةُ وَمَا انْقَلَبَ شَيْئًا آخَرَ بِالطَّبْخِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السلام : { أَيَنْقُصُ الرَّطْبُ إذَا يَبِسَ ؟ فَقِيلَ : نَعَمْ , فَقَالَ : فَلَا إذًا } فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِذِكْرِ هَذَا الْوَصْفِ لَوْلَا التَّعْلِيلُ بِهِ . الثَّانِي : قَوْلُهُ " إذًا " فَإِنَّهُ لِلتَّعْلِيلِ . الثَّالِثُ : " الْفَاءُ " فِي قَوْلِهِ " فَلَا إذًا " فَإِنَّهُ لِلتَّعْقِيبِ وَالتَّسْبِيبِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ بِذِكْرِ نَظِيرِهَا كَقَوْلِهِ : { أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ ؟ } { أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ ؟ } فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلتَّعْلِيلِ لَمَا كَانَ التَّعَرُّض لِغَيْرِ مَحَلِّ السُّؤَالِ مُنْتَظِمًا , وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَفْصِلَ الشَّارِعُ بَيْن قِسْمَيْنِ بِوَصْفٍ وَيَخُصُّهُ بِالْحُكْمِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ : الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ فِي الظَّاهِرِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ لِكَوْنِهِ قَاتِلًا , وَلَيْسَ هَذَا لِلْمُنَاسَبَةِ بَلْ لَوْ قَالَ : الطَّوِيلُ لَا يَرِثُ أَوْ الْأَسْوَدُ لَا يَرِثُ لَكِنَّا نَفْهَمُ مِنْهُ جَعْلَهُ الطُّولَ وَالسَّوَادَ عَلَامَةً عَلَى انْفِصَالِهِ عَنْ الْوَرَثَةِ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَكْثُرُ وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ فَوُجُوهُ التَّنْبِيهِ لَا تَنْضَبِطُ , وَقَدْ أَطْنَبْنَا فِي تَفْصِيلِهَا فِي " كِتَابِ شِفَاءِ الْعَلِيلِ " وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ هَهُنَا . الضَّرْبُ الثَّالِثُ : التَّنْبِيهُ عَلَى الْأَسْبَابِ بِتَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ وَبِالْفَاءِ الَّتِي هِيَ لِلتَّعْقِيبِ وَالتَّسْبِيبِ كَقَوْلِهِ عليه(2/163)
السلام { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ } وَ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وقوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَ { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا } وقوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } وَيَلْتَحِقُ بِهَذَا الْقِسْمِ مَا يُرَتِّبُهُ الرَّاوِي بِفَاءِ التَّرْتِيبِ كَقَوْلِهِ : زَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ , وَسَهَا النَّبِيُّ فَسَجَدَ , وَرَضَخَ يَهُودِيٌّ رَأْسَ جَارِيَةٍ فَرَضَخَ النَّبِيُّ رَأْسَهُ ; فَكُلُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْبِيبِ , وَلَيْسَ لِلْمُنَاسَبَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ { مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ } يُفْهَمُ مِنْهُ السَّبَبُ , وَإِنْ لَمْ يُنَاسِبْ بَلْ يَلْتَحِقُ بِهَذَا الْجِنْسِ كُلُّ حُكْمٍ حَدَثَ عَقِيبَ وَصْفٍ حَادِثٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَقْوَالِ كَحُدُوثِ الْمِلْكِ وَالْحِلِّ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالتَّصَرُّفَاتِ أَوْ مِنْ الْأَفْعَالِ كَاشْتِغَالِ الذِّمَّةِ عِنْدَ الْقَتْلِ وَالْإِتْلَافِ أَوْ مِنْ الصِّفَاتِ كَتَحْرِيمِ الشُّرْبِ عِنْد طَرَيَانِ الشِّدَّةِ عَلَى الْعَصِيرِ وَتَحْرِيمِ الْوَطْءِ عِنْدَ طَرَيَانِ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ يَنْقَدِحُ أَنْ يُقَالَ : لَا يَتَجَدَّدُ إلَّا بِتَجَدُّدِ سَبَبٍ وَلَمْ يَتَجَدَّدْ إلَّا هَذَا فَإِذًا هُوَ السَّبَبُ , وَإِنْ لَمْ يُنَاسِبْ فَإِنْ قِيلَ : فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ دَلَالَةً قَاطِعَةً أَوْ دَلَالَةً ظَنِّيَّةً ؟ قُلْنَا : أَمَّا مَا رُتِّبَ عَلَى غَيْرِهِ بِفَاءِ التَّرْتِيبِ وَصِيغَةِ الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَتَّبَ عَلَيْهِ مُعْتَبَرٌ فِي الْحُكْمِ لَا مَحَالَةَ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَصْلِ الِاعْتِبَارِ أَمَّا اعْتِبَارُهُ بِطَرِيقِ كَوْنِهِ عِلَّةً أَوْ سَبَبًا مُتَضَمِّنًا لِلْعِلَّةِ بِطَرِيقِ الْمُلَازَمَةِ وَالْمُجَاوَرَةِ أَوْ شَرْطًا يَظْهَرُ الْحُكْمُ عِنْدَهُ بِسَبَبٍ آخَرَ أَوْ يُفِيدُ الْحُكْمُ عَلَى تَجَرُّدِهِ حَتَّى يَعُمَّ الْحُكْمُ الْمُحَالَ أَوْ يُضَمَّ إلَيْهِ وَصْفٌ آخَرُ حَتَّى يَخْتَصَّ بِبَعْضِ الْمُحَالِ فَمُطْلَقُ الْإِضَافَةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ صَرِيحًا فِيهَا وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا مِنْ وَجْهٍ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ وَقَدْ يَكُونُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ وَجْهَيْنِ فَيَتَّبِعَ فِيهِ مُوجِبَ الْأَدِلَّةِ . وَإِنَّمَا الثَّابِتُ بِالْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ كَوْنُ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ مُعْتَبَرًا بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ مِثَالُ هَذَا قَوْلُهُ عليه السلام : { لَا يَقْضِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ } وَهُوَ تَنْبِيهٌ أَنَّ الْغَضَبَ عِلَّةٌ فِي مَنْعِ الْقَضَاءِ لَكِنْ قَدْ يَتَبَيَّنُ بِالنَّظَرِ أَنَّهُ لَيْسَ عِلَّةً لِذَاتِهِ بَلْ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ الدَّهْشَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْفِكْرِ حَتَّى يُلْحَقَ بِهِ الْجَائِعُ وَالْحَاقِنُ وَالْمُتَأَلِّمُ فَيَكُونُ الْغَضَبُ مَنَاطًا لَا لِعَيْنِهِ بَلْ لِمَعْنًى يَتَضَمَّنُهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : " سَهَا فَسَجَدَ " يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ هُوَ السَّهْوُ لِعَيْنِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ تَرْكِ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ عَمْدًا رُبَّمَا قِيلَ يَسْجُدُ أَيْضًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : " زَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ " احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ; لِأَنَّهُ زَنَى وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ الزِّنَا مِنْ إيلَاجِ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ قَطْعًا , مُشْتَهًى طَبْعًا حَتَّى يَتَعَدَّى إلَى اللِّوَاطِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { مَنْ جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ } يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِنَفْسِ الْجِمَاعِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ إفْسَادِ الصَّوْمِ حَتَّى يَتَعَدَّى إلَى الْأَكْلِ وَالظَّاهِرُ الْإِضَافَةُ إلَى الْأَصْلِ وَمَنْ صَرَفَهُ عَنْ الْأَصْلِ إلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ إفْسَادِ الصَّوْمِ حَتَّى يَتَعَدَّى إلَى الْأَكْلِ افْتَقَرَ إلَى دَلِيلٍ , وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّصَرُّفِ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ عَنْ هَذِهِ الْإِضَافَاتِ , فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْإِضَافَاتِ اللَّفْظِيَّةِ إيمَاءً كَانَ أَوْ صَرِيحًا ; أَمَّا مَا يَحْدُثُ بِحُدُوثِ وَصْفٍ كَحُدُوثِ الشِّدَّةِ فَفِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ نَظَرٌ سَيَأْتِي فِي الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ
===============
وقال ابن العربي :(1)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : تَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ; وَهِيَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِصَاصِ , وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ صَحِيحٌ وَعُمُومٌ صَرِيحٌ 0
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 1 / ص 219)(2/164)
َقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا قَوَدَ إلَّا بِحَدِيدَةٍ ; قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ , وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا قَوَدَ إلَّا بِحَدِيدَةٍ وَلَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ } . الثَّانِي : أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِكُلِّ مَا قَتَلَ , إلَّا الْخَمْرَ وَآلَةَ اللِّوَاطِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ . الثَّالِثُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُقْتَلُ بِكُلِّ مَا قَتَلَ إلَّا فِي وَجْهَيْنِ وَصِفَتَيْنِ : أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : فَالْمَعْصِيَةُ كَالْخَمْرِ وَاللِّوَاطُ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : فَالسُّمُّ وَالنَّارُ لَا يُقْتَلُ بِهِمَا . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لِأَنَّهُ مِنْ الْمِثْلِ ; وَلَسْت أَقُولُهُ ; وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ الْعَذَابِ . وَقَدْ بَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيًّا حَرَقَ نَاسًا ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ ; فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَمْ أَكُنْ لِأُحَرِّقَهُمْ بِالنَّارِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { : لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } , وَلَقَتَلْتهمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } , وَهُوَ الصَّحِيحُ . وَالسُّمُّ نَارٌ بَاطِنَةٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارَيْنِ , وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِهِ . وَأَمَّا الْوَصْفَانِ فَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ : إنْ كَانَتْ الضَّرْبَةُ بِالْحَجَرِ مُجْهِزَةً قُتِلَ بِهَا , وَإِنْ كَانَتْ ضَرَبَاتٍ فَلَا , وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا : ذَلِكَ إلَى الْوَلِيِّ . وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ يُضْرَبُ بِالْعَصَا حَتَّى يَمُوتَ , وَلَا يُطَوَّلُ عَلَيْهِ . وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ . وَقَالَ أَشْهَبُ : إنْ رُجِيَ أَنْ يَمُوتَ بِالضَّرْبِ ضُرِبَ , وَإِلَّا أُقِيدَ مِنْهُ بِالسَّيْفِ . وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : لَا يُقْتَلُ بِالنَّبْلِ وَلَا بِالرَّمْيِ بِالْحِجَارَةِ ; لِأَنَّهُ مِنْ التَّعْذِيبِ . وَاتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَفَقَأَ عَيْنَهُ قَصْدَ التَّعْذِيبَ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ , كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهِ الرِّعَاءَ حَسْبَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ , وَإِنْ كَانَ فِي مُدَافَعَةٍ وَمُضَارَبَةٍ قُتِلَ بِالسَّيْفِ . وَالصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَائِنَا أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ وَاجِبَةٌ , إلَّا أَنْ تَدْخُلَ فِي حَدِّ التَّعْذِيبِ فَلْتُتْرَكْ إلَى السَّيْفِ , وَإِلَى هَذَا يَرْجِعُ جَمِيعُ الْأَقْوَالِ . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي حَنِيفَةَ , فَهُوَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; وَلَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ , وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه فِي شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا لَا يَصِحُّ أَيْضًا . وَاَلَّذِي يَصِحُّ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ , وَغَيْرُهُ , { عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : إنِّي لَقَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذَا رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ . فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ; هَذَا قَتَلَ أَخِي . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَقَتَلْته ؟ فَقَالَ : إنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَأَقَمْت عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ . قَالَ : نَعَمْ , قَتَلْته . قَالَ : كَيْفَ قَتَلْته ؟ قَالَ : كُنْت أَنَا وَهُوَ نَحْتَطِبُ مِنْ شَجَرَةٍ فَسَبَّنِي فَأَغْضَبَنِي فَضَرَبْته بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلْته . } وَرَوَى أَبُو دَاوُد : { وَلَمْ أُرِدْ قَتْلَهُ . فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : هَلْ لَك مِنْ شَيْءٍ تُؤَدِّي عَنْ نَفْسِك ؟ فَقَالَ : مَا لِي مَالٌ إلَّا كِسَائِي وَفَأْسِي . قَالَ : فَتَرَى قَوْمَك يَشْتَرُونَك ؟ قَالَ : أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ هَذَا . قَالَ : فَرَمَى إلَيْهِ بِنِسْعَتِهِ , وَقَالَ : دُونَكَ صَاحِبَكَ , فَانْطَلَقَ بِهِ الرَّجُلُ ; فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ فَرَجَعَ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , بَلَغَنِي أَنَّك قُلْت كَذَا وَأَخَذْته بِأَمْرِك قَالَ : أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِك وَإِثْمِ صَاحِبِك ؟ قَالَ : لَعَلَّهُ . قَالَ : بَلَى . قَالَ : فَإِنَّ ذَاكَ كَذَلِكَ . قَالَ : فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ وَخَلَّى سَبِيلَهُ } . وَالْحَدِيثُ مُشْكِلٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ , وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ مَسْأَلَتِنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ , وَقَدْ قَتَلَ بِالْفَأْسِ . وَرَوَى الْأَئِمَّةُ { أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ جَارِيَةٍ عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا , فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاعْتَرَفَ فَرَضَّ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ } اعْتِمَادًا لِلْمُمَاثَلَةِ وَحُكْمًا بِهَا .
===============
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قوله تعالى : { وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ } . (1)
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 6 / ص 266)(2/165)
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا , وَيَحِقُّ أَنْ نُعِيدَهُ لِعِظَمِهِ , وَقَدْ نَادَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ اقْتَحَمَ هَذَا , وَلَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِينَا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : { وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ , حَتَّى لَوْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي أُمَّهُ عَلَانِيَةً , كَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ } . وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِيهِ { : اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ } . وَلَقَدْ كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي ذَلِكَ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ , فَكَتَبَ إلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ : عَلَيْهِ الرَّجْمُ . وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : إنَّ الْعَرَبَ تَأْنَفُ مِنْ الْعَارِ وَشُهْرَتِهِ أَنَفًا لَا تَأْنَفُهُ مِنْ الْحُدُودِ الَّتِي تَمْضِي فِي الْأَحْكَامِ , فَأَرَى أَنْ تُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : صَدَقَ أَبُو الْحَسَنِ . فَكَتَبَ إلَى خَالِدٍ أَنْ أَحْرِقْهُ بِالنَّارِ , فَفَعَلَ . فَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : لَا أَرَى خَالِدًا أَحْرَقَهُ إلَّا بَعْدَ قَتْلِهِ ; لِأَنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى . قَالَ الْقَاضِي : لَيْسَ كَمَا زَعَمَ ابْنُ وَهْبٍ , كَانَ عَلِيٌّ يَرَى الْحَرْقَ بِالنَّارِ عُقُوبَةً , وَلِذَلِكَ كَانَ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ الْبَرْقَانِيُّ الْحَافِظُ , أَخْبَرَنَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ , حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَغَوِيّ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ , حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ قَالَ : رَأَيْت عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ , وَأَيُّوبَ , وَعَمَّارًا الرَّهِينِيُّ , اجْتَمَعُوا فَتَنَاكَرُوا الَّذِينَ حَرَقَهُمْ عَلِيٌّ , فَحَدَّثَ أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ قَالَ : لَوْ كُنْت أَنَا مَا أَحْرَقْتُهُمْ ؟ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } , وَلَقَتَلْتُهُمْ " ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ تَرَكَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . فَقَالَ عَمَّارٌ : لَمْ يَكُنْ حَرَقَهُمْ , وَلَكِنَّهُ حَفَرَ لَهُمْ حَفَائِرَ , وَخَرَقَ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ , ثُمَّ دَخَنَ عَلَيْهِمْ حَتَّى مَاتُوا . فَقَالَ عَمَّارٌ : قَالَ الشَّاعِرُ : لِتَرْمِ بِي الْمَنَايَا حَيْثُ شَاءَتْ إذَا لَمْ تَرْمِ بِي فِي الْحُفْرَتَيْنِ إذَا مَا أَجَّجُوا حَطَبًا وَنَارًا هُنَاكَ الْمَوْتُ نَقْدًا غَيْرَ دَيْنِ وَمِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْر مَا يُصَدِّقُ ذَلِكَ : عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ وَجَدَ فِي ضَوَاحِي الْعَرَبِ رَجُلًا يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ كَانَ اسْمُهُ الْفُجَاءَةُ , فَاسْتَشَارَ أَبُو بَكْرٍ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ , وَكَانَ يَوْمَئِذٍ أَشَدَّ فِيهِمْ قَوْلًا , فَقَالَ عَلَيَّ : إنَّ هَذَا الذَّنْبَ لَمْ تَعْصِ بِهِ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ , إلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً , صَنَعَ اللَّهُ بِهَا مَا عَلِمْتُمْ ; أَرَى أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ . فَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ , فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إلَى خَالِدِ بْن الْوَلِيدِ أَنْ يَحْرِقَهُمْ بِالنَّارِ , فَأَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ , ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي زَمَانِهِ , ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ , ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ خَالِدُ الْقَسْرِيُّ بِالْعِرَاقِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أُتِيَ بِسَبْعَةٍ أُخِذُوا فِي لِوَاطٍ , فَسَأَلَ عَنْهُمْ , فَوُجِدُوا أَرْبَعَةً قَدْ أُحْصِنُوا , فَأَمَرَ بِهِمْ فَخَرَجَ بِهِمْ مِنْ الْحَرَمِ , ثُمَّ رُجِمُوا بِالْحِجَارَةِ , حَتَّى مَاتُوا , وَجَلَدَ الثَّلَاثَةَ حَتَّى مَاتُوا بِالْحَدِّ . قَالَ : وَعِنْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ , وَابْنُ عُمَرَ , فَلَمْ يُنْكِرَا عَلَيْهِ . وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى هَذَا , وَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهِ مَالِكٌ أَحَقُّ , وَهُوَ أَصَحُّ سَنَدًا , وَأَقْوَى مُعْتَمَدًا , حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلَ هَذَا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِّ اللِّوَاطِ , فَقَالَ : يُصْعَدُ بِهِ فِي الْجَبَلِ , ثُمَّ يُرْدَى مِنْهُ , ثُمَّ يُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ .
===================
وفي بدائع الصنائع :(1)
وَأَمَّا حُكْمُ الرِّدَّةِ
__________
(1) - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 15 / ص 421)(2/166)
فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ : إنَّ لِلرِّدَّةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْمُرْتَدِّ , وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مِلْكِهِ , وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى تَصَرُّفَاتِهِ , وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَلَدِهِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا إبَاحَةُ دَمِهِ إذَا كَانَ رَجُلًا , حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا ; لِسُقُوطِ عِصْمَتِهِ بِالرِّدَّةِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . وَكَذَا الْعَرَبُ لَمَّا ارْتَدَّتْ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم عَلَى قَتْلِهِمْ , وَمِنْهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَتَابَ وَيُعْرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُسْلِمَ , لَكِنْ لَا يَجِبُ ; لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُ فَإِنْ أَسْلَمَ فَمَرْحَبًا وَأَهْلًا بِالْإِسْلَامِ , وَإِنْ أَبَى نَظَرَ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ طَمِعَ فِي تَوْبَتِهِ , أَوْ سَأَلَ هُوَ التَّأْجِيلَ , أَجَّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ فِي تَوْبَتِهِ وَلَمْ يَسْأَلْ هُوَ التَّأْجِيلَ , قَتَلَهُ مِنْ سَاعَتِهِ . وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ , فَقَالَ : هَلْ عِنْدَكَ مِنْ مُغْرِيَةِ خَبَرٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ , رَجُلٌ كَفَرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ إسْلَامِهِ فَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي الله عنه : مَاذَا فَعَلْتُمْ بِهِ قَالَ : قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ فَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي الله عنه : هَلَّا طَيَّنْتُمْ عَلَيْهِ بَيْتًا ثَلَاثًا , وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا , وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيَرْجِعُ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ , وَلَمْ آمُرْ , وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي . وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ : يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثًا , وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا } وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ عَرَضَتْ لَهُ شُبْهَةٌ حَمَلَتْهُ عَلَى الرِّدَّةِ , فَيُؤَجَّلُ ثَلَاثًا لَعَلَّهَا تَنْكَشِفُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ , فَكَانَتْ الِاسْتِتَابَةُ ثَلَاثًا وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ - عَسَى - فَنَدَبَ إلَيْهَا فَإِنْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ , وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِزَوَالِ عِصْمَتِهِ بِالرِّدَّةِ , وَتَوْبَتِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ , وَيَبْرَأَ عَنْ الدَّيْنِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ , فَإِنْ تَابَ ثُمَّ ارْتَدَّ ثَانِيًا فَحُكْمُهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَحُكْمِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَنَّهُ إنْ تَابَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ , وَكَذَا فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ ; لِوُجُودِ الْإِيمَانِ ظَاهِرًا فِي كُلِّ كَرَّةٍ ; لِوُجُودِ رُكْنِهِ , وَهُوَ إقْرَارُ الْعَاقِلِ وَقَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } فَقَدْ أَثْبَتَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْإِيمَانَ بَعْدَ وُجُودِ الرِّدَّةِ مِنْهُ , وَالْإِيمَانُ بَعْدَ وُجُودِ الرِّدَّةِ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ , إلَّا أَنَّهُ إذَا تَابَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ يَضْرِبُهُ الْإِمَامُ وَيُخَلِّي سَبِيلَهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ إذَا تَابَ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ حَبَسَهُ الْإِمَامُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ السِّجْنِ حَتَّى يَرَى عَلَيْهِ أَثَرَ خُشُوعِ التَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يُبَاحُ دَمُهَا إذَا ارْتَدَّتْ , وَلَا تُقْتَلُ عِنْدَنَا , وَلَكِنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَإِجْبَارُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ أَنْ تُحْبَسَ وَتَخْرُجَ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَتُسْتَتَابُ وَيُعْرَضُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ , فَإِنْ أَسْلَمَتْ وَإِلَّا حُبِسَتْ ثَانِيًا , هَكَذَا إلَى أَنْ تُسْلِمَ أَوْ تَمُوتَ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رحمه الله - وَزَادَ عَلَيْهِ - تُضْرَبُ أَسْوَاطًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ تَعْزِيرًا لَهَا عَلَى مَا فَعَلَتْ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رحمه الله - تُقْتَلُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَلِأَنَّ عِلَّةَ إبَاحَةِ الدَّمِ هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ , وَلِهَذَا قُتِلَ الرَّجُلُ وَقَدْ وُجِدَ مِنْهَا ذَلِكَ , بِخِلَافِ الْحَرْبِيَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْكُفْرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ أَغْلَظُ مِنْ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ ; لِأَنَّ هَذَا رُجُوعٌ بَعْدَ الْقَبُولِ وَالْوُقُوفِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَحُجَجِهِ , وَذَلِكَ امْتِنَاعٌ مِنْ الْقَبُولِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْوُقُوفِ دُونَ حَقِيقَةِ الْوُقُوفِ , فَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِدْلَال . ( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا وَلَيَدًا } وَلِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ بِالدَّعْوَةِ إلَيْهِ(2/167)
بِأَعْلَى الطَّرِيقَيْنِ عِنْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ إجَابَتِهَا بِأَدْنَاهُمَا , وَهُوَ دَعْوَةُ اللِّسَانِ بِالِاسْتِتَابَةِ , بِإِظْهَارِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَالنِّسَاءُ أَتْبَاعُ الرِّجَالِ فِي إجَابَةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ فِي الْعَادَةِ , فَإِنَّهُنَّ فِي الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ يُسْلِمْنَ بِإِسْلَامِ أَزْوَاجِهِنَّ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ وَكَانَتْ تَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَقَعُ شَرْعُ الْقَتْلِ فِي حَقِّهَا وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ , فَلَا يُفِيدُ وَلِهَذَا لَمْ تُقْتَلْ الْحَرْبِيَّةُ بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَتْبَعُ رَأْيَ غَيْرِهِ , خُصُوصًا فِي أَمْرِ الدِّينِ بَلْ يَتْبَعُ رَأْيَ نَفْسِهِ , فَكَانَ رَجَاءُ الْإِسْلَامِ مِنْهُ ثَابِتًا , فَكَانَ شَرْعُ الْقَتْلِ مُفِيدًا , فَهُوَ الْفَرْقُ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الذُّكُورِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ , وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا ارْتَدَّتْ لَا تُقْتَلُ عِنْدَنَا , وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَلَكِنْ يُجْبِرُهَا مَوْلَاهَا إنْ احْتَاجَ إلَى خِدْمَتِهَا , وَيَحْبِسُهَا فِي بَيْتِهِ ; لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهَا بَعْدَ الرِّدَّةِ قَائِمٌ , وَهِيَ مَجْبُورَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ شَرْعًا فَكَانَ الرَّفْعُ إلَى الْمَوْلَى رِعَايَةً لِلْحَقَّيْنِ , وَلَا يَطَؤُهَا ; لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ , وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ لَا يُقْتَلُ , وَإِنْ صَحَّتْ رِدَّتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رضي الله عنهما ; لِأَنَّ قَتْلَ الْبَالِغِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ وَالدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ بِاللِّسَانِ وَإِظْهَارِ حُجَجِهِ وَإِيضَاحِ دَلَائِلِهِ لِظُهُورِ الْعِنَادِ وَوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ فَلَاحِهِ , وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الصَّبِيِّ فَكَانَ الْإِسْلَامُ مِنْهُ مَرْجُوًّا وَالرُّجُوعُ إلَى الدِّينِ مِنْهُ مَأْمُولًا , فَلَا يُقْتَلُ وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ ; لِأَنَّ الْحَبْسَ يَكْفِيهِ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ , وَعَلَى هَذَا : صَبِيٌّ أَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ حَتَّى حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ , فَبَلَغَ كَافِرًا وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ إقْرَارٌ بِاللِّسَانِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا يُقْتَلُ ; لِانْعِدَامِ الرِّدَّةِ مِنْهُ إذْ هِيَ اسْمٌ لِلتَّكْذِيبِ بَعْدَ سَابِقَةِ التَّصْدِيقِ , وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّصْدِيقُ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَصْلًا لِانْعِدَامِ دَلِيلِهِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ , حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ ثُمَّ ارْتَدَّ يُقْتَلُ لِوُجُودِ الرِّدَّةِ مِنْهُ بِوُجُودِ دَلِيلِهَا وَهُوَ الْإِقْرَارُ , فَلَمْ يَكُنْ الْمَوْجُودُ مِنْهُ رِدَّةً حَقِيقَةً فَلَا يُقْتَلُ , وَلَكِنَّهُ يُحْبَسُ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْبُلُوغِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ ؟ وَالْحُكْمُ فِي إكْسَابِهِ كَالْحُكْمِ فِي إكْسَابِ الْمُرْتَدِّ ; لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ حُكْمًا وَسَنَذْكُرُ الْكَلَامَ فِي إكْسَابِ الْمُرْتَدِّ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ - اللَّهُ تَعَالَى .
=====================
وفي المغني لابن قدامة :(1)
( 5391 ) مَسْأَلَةٌ ; قَالَ : ( وَإِذَا تَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً , فَانْتَقَلَتْ إلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ الْكُفْرِ غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ , أُجْبِرَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ , فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا , انْفَسَخَ نِكَاحُهَا )
الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ :
__________
(1) -المغني - (ج 15 / ص 153)(2/168)
( 5392 ) الْأَوَّلُ : أَنَّ الْكِتَابِيَّ إذَا انْتَقَلَ إلَى غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ , لَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ . لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا , فَإِنَّهُ إذَا انْتَقَلَ إلَى دِينٍ لَا يُقَرُّ أَهْلُهُ بِالْجِزْيَةِ , كَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِهَا , مِمَّا يَسْتَحْسِنُهُ , فَالْأَصْلِيُّ مِنْهُمْ لَا يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ , فَالْمُنْتَقِلُ إلَيْهِ أَوْلَى . وَإِنْ انْتَقَلَ إلَى الْمَجُوسِيَّةِ , لَمْ يُقَرَّ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى أَنْقَصَ مِنْ دِينِهِ , فَلَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ , كَالْمُسْلِمِ إذَا ارْتَدَّ . فَأَمَّا إنْ انْتَقَلَ إلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ , كَالْيَهُودِيِّ يَتَنَصَّرُ , أَوْ النَّصْرَانِيِّ يَتَهَوَّدُ , فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ; إحْدَاهُمَا , لَا يُقَرُّ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى دِينٍ بَاطِلٍ , قَدْ أَقَرَّ بِبُطْلَانِهِ , فَلَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ , كَالْمُرْتَدِّ . وَالثَّانِيَةُ , يُقَرُّ عَلَيْهِ . نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ . وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَاخْتِيَارُ الْخَلَّالِ وَصَاحِبِهِ , وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ , فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمُنْتَقِلِ . وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ . كَالرِّوَايَتَيْنِ . فَأَمَّا الْمَجُوسِيُّ إذَا انْتَقَلَ إلَى دِينٍ لَا يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ , لَمْ يُقَرَّ , كَأَهْلِ ذَلِكَ الدِّينِ . وَإِنْ انْتَقَلَ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ , خُرِّجَ فِيهِ الرِّوَايَتَانِ , وَسَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ ; لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام { : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . وَلِعُمُومِ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيهِمَا جَمِيعًا .
( 5393 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُنْتَقِلَ إلَى غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ , لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ . نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ . وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ . وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّ غَيْرَ الْإِسْلَامِ أَدْيَانٌ بَاطِلَةٌ . قَدْ أَقَرَّ بِبُطْلَانِهَا , فَلَمْ يُقَرَّ عَلَيْهَا كَالْمُرْتَدِّ . وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ الدِّينُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ دِينَهُ الْأَوَّلَ قَدْ أَقْرَرْنَاهُ عَلَيْهِ مَرَّةً . وَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَى خَيْرٍ مِنْهُ , فَنُقِرُّهُ عَلَيْهِ إنْ رَجَعَ إلَيْهِ , وَلِأَنَّهُ مُنْتَقِلٌ مِنْ دِينٍ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ , إلَى دِينٍ لَا يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ , فَيُقْبَلُ مِنْهُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ , كَالْمُرْتَدِّ إذَا رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ . وَعَنْ أَحْمَدَ , رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ , أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ; الْإِسْلَامُ , أَوْ الرُّجُوعُ إلَى دِينِهِ الْأَوَّلِ , أَوْ دِينٌ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ ; لِعُمُومِ قوله تعالى { : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . وَإِنْ انْتَقَلَ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَقُلْنَا : لَا يُقَرُّ . فَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ ; إحْدَاهُمَا , لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ . وَالْأُخْرَى , لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ الدِّينُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ .
( 5394 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ : فِي صِفَةِ إجْبَارِهِ عَلَى تَرْكِ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ . وَفِيهِ رِوَايَتَانِ ; إحْدَاهُمَا , أَنَّهُ يُقْتَلُ إنْ لَمْ يَرْجِعْ , رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً ; لِعُمُومِ قَوْله عليه السلام { : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . وَلِأَنَّهُ ذِمِّيٌّ نَقَضَ الْعَهْدَ , فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَقَضَهُ بِتَرْكِ الْتِزَامِ الذِّمَّةِ . وَهَلْ يُسْتَتَابُ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ ; أَحَدُهُمَا , يُسْتَتَابُ ; لِأَنَّهُ يُسْتَرْجَعُ عَنْ دِينٍ بَاطِلٍ انْتَقَلَ إلَيْهِ , فَيُسْتَتَابُ , كَالْمُرْتَدِّ . وَالثَّانِي : لَا يُسْتَتَابُ ; لِأَنَّهُ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ أُبِيحَ قَتْلُهُ , فَأَشْبَهَ الْحَرْبِيَّ . فَعَلَى هَذَا إنْ بَادَرَ وَأَسْلَمَ , أَوْ رَجَعَ إلَى مَا يُقَرُّ عَلَيْهِ , عُصِمَ دَمُهُ وَإِلَّا قُتِلَ . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ , عَنْ أَحْمَدَ قَالَ : إذَا دَخَلَ الْيَهُودِيُّ فِي النَّصْرَانِيَّةِ , رَدَدْته إلَى الْيَهُودِيَّةِ , وَلَمْ أَدَعْهُ فِيمَا انْتَقَلَ إلَيْهِ , فَقِيلَ لَهُ : أَتَقْتُلُهُ ؟ قَالَ : لَا , وَلَكِنْ يُضْرَبُ وَيُحْبَسُ . قَالَ : وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا , فَدَخَلَ فِي الْمَجُوسِيَّةِ , كَانَ أَغْلَظَ ; لِأَنَّهُ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ , وَلَا تُنْكَحُ لَهُ امْرَأَةٌ , وَلَا يُتْرَكُ حَتَّى يُرَدَّ إلَيْهَا . فَقِيلَ لَهُ : تَقْتُلُهُ إذَا لَمْ يَرْجِعْ ؟ قَالَ : إنَّهُ لَأَهْلُ ذَلِكَ . وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْكِتَابِيَّ الْمُنْتَقِلَ إلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يُقْتَلُ , بَلْ يُكْرَهُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ .(2/169)
( 5395 ) الْفَصْلُ الرَّابِعُ : أَنَّ امْرَأَةَ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّةَ , إذَا انْتَقَلَتْ إلَى دِينٍ غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ , فَهِيَ كَالْمُرْتَدَّةِ ; لِأَنَّ غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ , فَمَتَى كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ , انْفَسَخَ نِكَاحُهَا فِي الْحَالِ , وَلَا مَهْرَ لَهَا ; لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ قِبَلِهَا , وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ , وَقَفَ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ , فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ , وَالْأُخْرَى يَنْفَسِخُ فِي الْحَالِ أَيْضًا .
=================
كِتَابُ الْمُرْتَدِّ الْمُرْتَدُّ :(1)
هُوَ الرَّاجِعُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إلَى الْكُفْرِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ , وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ , وَعَلِيٍّ , وَمُعَاذٍ , وَأَبِي مُوسَى , وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَخَالِدٍ , وَغَيْرِهِمْ , وَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ , فَكَانَ إجْمَاعًا .
( 7083 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَمَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ , وَكَانَ بَالِغًا عَاقِلًا , دُعِيَ إلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , وَضُيِّقَ عَلَيْهِ , فَإِنْ رَجَعَ , وَإِلَّا قُتِلَ . فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ خَمْسَةٌ :
( 7084 ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي وُجُوبِ الْقَتْلِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ , وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما . وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ , وَالزُّهْرِيُّ , وَالنَّخَعِيُّ , وَمَكْحُولٌ , وَحَمَّادٌ , وَمَالِكٌ , وَاللَّيْثُ , وَالْأَوْزَاعِيُّ , وَالشَّافِعِيُّ , وَإِسْحَاقُ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ , وَالْحَسَنِ , وَقَتَادَةَ , أَنَّهَا تُسْتَرَقُّ لَا تُقْتَلُ ; وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَرَقَّ نِسَاءَ بَنِي حَنِيفَةَ , وَذَرَارِيَّهُمْ , وَأَعْطَى عَلِيًّا مِنْهُمْ امْرَأَةً , فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ , وَكَانَ هَذَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ , فَلَمْ يُنْكَرْ , فَكَانَ إجْمَاعًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ , وَلَا تُقْتَلُ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً } . وَلِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ , فَلَا تُقْتَلُ بِالطَّارِئِ , كَالصَّبِيِّ . وَلَنَا , قَوْلُهُ عليه السلام : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ; الثَّيِّبُ الزَّانِي , وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ , وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ } . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ , { أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا : أُمُّ مَرْوَانَ , ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ , فَبَلَغَ أَمْرُهَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . فَأَمَرَ أَنْ تُسْتَتَابَ , فَإِنْ تَابَتْ , وَإِلَّا قُتِلَتْ } . وَلِأَنَّهَا شَخْصٌ مُكَلَّفٌ بَدَّلَ دِينَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ , فَيُقْتَلُ كَالرَّجُلِ . وَأَمَّا نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ الْمَرْأَةِ , فَالْمُرَادُ بِهِ الْأَصْلِيَّةُ ; فَإِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ حِينَ رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً , وَكَانَتْ كَافِرَةً أَصْلِيَّةً , وَلِذَلِكَ نَهَى الَّذِينَ بَعَثَهُمْ إلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ , وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُرْتَدٌّ . وَيُخَالِفُ الْكُفْرُ الْأَصْلِيُّ الطَّارِئَ ; بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّجُلَ يُقَرُّ عَلَيْهِ , وَلَا يُقْتَلُ أَهْلُ الصَّوَامِعِ , وَالشُّيُوخُ وَالْمَكَافِيفُ , وَلَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى تَرْكِهِ بِضَرْبٍ وَلَا حَبْسٍ , وَالْكُفْرُ الطَّارِئُ بِخِلَافِهِ , وَالصَّبِيُّ غَيْرُ مُكَلَّفٍ ; بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ . وَأَمَّا بَنُو حَنِيفَةَ , فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ مَنْ اُسْتُرِقَّ مِنْهُمْ تَقَدَّمَ لَهُ إسْلَامٌ , وَلَمْ يَكُنْ بَنُو حَنِيفَةَ أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ , وَإِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْضُهُمْ , وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ أَسْلَمُوا كَانُوا رِجَالًا , فَمِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عَلَى إسْلَامِهِ , مِنْهُمْ ثُمَامَةُ بْنُ أَثَالٍ , وَمِنْهُمْ مَنْ ارْتَدَّ مِنْهُمْ الدَّجَّالُ الْحَنَفِيُّ .
الْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ عَاقِلٍ0
__________
(1) - المغني - (ج 19 / ص 444) فما بعدها(2/170)
فَأَمَّا مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ , كَالطِّفْلِ الَّذِي لَا عَقْلَ لَهُ , وَالْمَجْنُونِ , وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِإِغْمَاءٍ , أَوْ نَوْمٍ , أَوْ مَرَضٍ , أَوْ شُرْبِ دَوَاءٍ يُبَاحُ شُرْبُهُ , فَلَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ , وَلَا حُكْمَ لِكَلَامِهِ , بِغَيْرِ خِلَافٍ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ , عَلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ إذَا ارْتَدَّ فِي حَالِ جُنُونِهِ , أَنَّهُ مُسْلِمٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ , وَلَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ عَمْدًا , كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ , إذَا طَلَبَ أَوْلِيَاؤُهُ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ ; عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ , وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ , وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ } . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد , وَالتِّرْمِذِيُّ , وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ , فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِكَلَامِهِ , كَمَا لَوْ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ فِي إقْرَارِهِ , وَلَا طَلَاقِهِ , وَلَا إعْتَاقِهِ , وَأَمَّا السَّكْرَانُ , وَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ , فَنَذْكُرُ حُكْمَهُمَا فِيمَا بَعْدُ , إنْ شَاءَ اللَّهُ .
( 7086 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يُسْتَتَابَ ثَلَاثًا .(2/171)
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ; مِنْهُمْ عُمَرُ , وَعَلِيٌّ , وَعَطَاءٌ , وَالنَّخَعِيُّ , وَمَالِكٌ , وَالثَّوْرِيُّ , وَالْأَوْزَاعِيُّ , وَإِسْحَاقُ , وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ . وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ , رِوَايَةٌ أُخْرَى , أَنَّهُ لَا تَجِبُ اسْتِتَابَتُهُ , لَكِنْ تُسْتَحَبُّ . وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ , وَهُوَ قَوْلُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ , وَطَاوُسٍ . وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . وَلَمْ يَذْكُرْ اسْتِتَابَتَهُ . وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاذًا قَدِمَ عَلَى أَبِي مُوسَى , فَوَجَدَ عِنْدَهُ رَجُلًا مُوثَقًا , فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالَ : رَجُلٌ كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ , ثُمَّ رَاجَعَ دِينَهُ دِينَ السَّوْءِ فَتَهَوَّدَ . قَالَ : لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ , قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . قَالَ : اجْلِسْ . قَالَ : لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ , قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . ثَلَاثَ مَرَّاتٍ , فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَلَمْ يَذْكُرْ اسْتِتَابَتَهُ ; وَلِأَنَّهُ يُقْتَلُ لِكُفْرِهِ , فَلَمْ تَجِبْ اسْتِتَابَتُهُ كَالْأَصْلِيِّ ; وَلِأَنَّهُ لَوْ قُتِلَ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ , لَمْ يُضْمَنْ , وَلَوْ حَرُمَ قَتْلُهُ قَبْلَهُ ضُمِنَ . وَقَالَ عَطَاءٌ : إنْ كَانَ مُسْلِمًا أَصْلِيًّا , لَمْ يُسْتَتَبْ , وَإِنْ كَانَ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ , اُسْتُتِيبَ . وَلَنَا حَدِيثُ أُمِّ مَرْوَانَ , أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ تُسْتَتَابَ . وَرَوَى مَالِكٌ , فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي , عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى , فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : هَلْ كَانَ مِنْ مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ , فَقَالَ : مَا فَعَلْتُمْ بِهِ ؟ قَالَ : قَرَّبْنَاهُ , فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ . فَقَالَ عُمَرُ : فَهَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا , فَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا , وَاسْتَتَبْتُمُوهُ , لَعَلَّهُ يَتُوبُ , أَوْ يُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ ؟ اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ , وَلَمْ آمُرْ , وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي . وَلَوْ لَمْ تَجِبْ اسْتِتَابَتُهُ لَمَا بَرِئَ مِنْ فِعْلِهِمْ . وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ اسْتِصْلَاحُهُ , فَلَمْ يَجُزْ إتْلَافُهُ قَبْلَ اسْتِصْلَاحِهِ , كَالثَّوْبِ النَّجِسِ . وَأَمَّا الْأَمْرُ بِقَتْلِهِ , فَالْمُرَادُ بِهِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ , بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِيهِ : وَكَانَ قَدْ اُسْتُتِيبَ . وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا مُوسَى اسْتَتَابَهُ شَهْرَيْنِ قَبْلَ قُدُومِ مُعَاذٍ عَلَيْهِ , وَفِي رِوَايَةٍ : فَدَعَاهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً , أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ , فَجَاءَ مُعَاذٌ , فَدَعَاهُ وَأَبَى , فَضَرَبَ عُنُقَهُ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْقَتْلِ وُجُوبُ الضَّمَانِ , بِدَلِيلِ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَصِبْيَانِهِمْ وَشُيُوخِهِمْ . إذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الِاسْتِتَابَةِ , فَمُدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ . رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه . وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ , وَإِسْحَاقُ , وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ . وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ . وَقَالَ فِي الْآخَرِ : إنْ تَابَ فِي الْحَالِ , وَإِلَّا قُتِلَ مَكَانَهُ , وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْهِ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ ; لِحَدِيثِ أُمِّ مَرْوَانَ , وَمُعَاذٍ , وَلِأَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى كُفْرِهِ , أَشْبَهَ بَعْدَ الثَّلَاثِ . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : يُدْعَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ , فَإِنْ أَبَى , ضُرِبَتْ عُنُقُهُ . وَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ . وَقَالَ النَّخَعِيُّ : يُسْتَتَابُ أَبَدًا . وَهَذَا يُفْضِي إلَى أَنْ لَا يُقْتَلَ أَبَدًا , وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَعَنْ عَلِيٍّ , أَنَّهُ اسْتَتَابَ رَجُلًا شَهْرًا . وَلَنَا حَدِيثُ عُمَرَ , وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ إنَّمَا تَكُونُ لِشُبْهَةٍ , وَلَا تَزُولُ فِي الْحَالِ , فَوَجَبَ أَنْ يُنْتَظَرَ مُدَّةً يَرْتَئِي فِيهَا , وَأَوْلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ , لِلْأَثَرِ فِيهَا , وَإِنَّهَا مُدَّةٌ قَرِيبَةٌ . وَيَنْبَغِي أَنْ يُضَيَّقَ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الِاسْتِتَابَةِ , وَيُحْبَسَ ; لِقَوْلِ عُمَرَ : هَلَّا حَبَسْتُمُوهُ , وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا ؟ وَيُكَرِّرُ دِعَايَتَهُ , لَعَلَّهُ يَتَعَطَّفُ قَلْبُهُ , فَيُرَاجِعَ دِينَهُ .
( 7087 ) الْفَصْلُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ إنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ ; لِمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ .(2/172)
وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ , وَيُقْتَلُ بِالسَّيْفِ ; لِأَنَّهُ آلَةُ الْقَتْلِ , وَلَا يُحْرَقُ بِالنَّارِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه ; أَنَّهُ أَمَرَ بِتَحْرِيقِ الْمُرْتَدِّينَ , وَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ خَالِدٌ . وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ , وَلَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } . يَعْنِي النَّارَ . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ , وَأَبُو دَاوُد . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ , فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ . }
( 7088 ) الْفَصْلُ الْخَامِسُ : أَنَّ مَفْهُومَ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ , أَنَّهُ إذَا تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ , وَلَمْ يُقْتَلْ , أَيَّ كُفْرٍ كَانَ , وَسَوَاءٌ كَانَ زِنْدِيقًا يَسْتَسِرُّ بِالْكُفْرِ , أَوْ لَمْ يَكُنْ .(2/173)
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ , وَالْعَنْبَرِيِّ . وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ , وَابْنِ مَسْعُودٍ , وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ , وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ , وَقَالَ : إنَّهُ أَوْلَى عَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ . وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى , لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ , وَمَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ . وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ , وَاللَّيْثِ , وَإِسْحَاقَ . وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ , كَهَاتَيْنِ , وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا } . وَالزِّنْدِيقُ لَا تَظْهَرُ مِنْهُ عَلَامَةٌ تُبَيِّنُ رُجُوعَهُ وَتَوْبَتَهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ , مُسِرًّا لِلْكُفْرِ , فَإِذَا وُقِفَ عَلَى ذَلِكَ , فَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ , لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ قَبْلَهَا , وَهُوَ إظْهَارُ الْإِسْلَامِ , وَأَمَّا مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ , فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا } . وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ظَبْيَانَ بْنِ عُمَارَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي سَعْدٍ مَرَّ عَلَى مَسْجِدِ بَنِي حَنِيفَةَ , فَإِذَا هُمْ يَقْرَءُونَ بِرَجَزِ مُسَيْلِمَةَ , فَرَجَعَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ , فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ , فَبَعَثَ إلَيْهِمْ , فَأُتِيَ بِهِمْ , فَاسْتَتَابَهُمْ , فَتَابُوا , فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ , إلَّا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ ابْنُ النَّوَّاحَةِ . قَالَ : قَدْ أُتِيتُ بِكَ مَرَّةً , فَزَعَمْتَ أَنَّكَ قَدْ تُبْتَ , وَأَرَاك قَدْ عُدْتَ . فَقَتَلَهُ . وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى , قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } . وَرُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا سَارَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَدْرِ مَا سَارَّهُ بِهِ , حَتَّى جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ . قَالَ : بَلَى , وَلَا شَهَادَةَ لَهُ . قَالَ : أَلَيْسَ يُصَلِّي ؟ . قَالَ : بَلَى , وَلَا صَلَاةَ لَهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ } . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إلَّا الَّذِينَ تَابُوا } . وَرُوِيَ أَنَّ مَخْشِيَّ بْنَ حِمْيَرٍ كَانَ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } . فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَتَابَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى , فَقَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ , وَهُوَ الطَّائِفَةُ الَّتِي عَنَى اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً } فَهُوَ الَّذِي عَفَا اللَّهُ عَنْهُ , وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى , أَنْ يُقْتَلَ فِي سَبِيلِهِ , وَلَا يُعْلَمَ بِمَكَانِهِ , فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ , وَلَمْ يُعْلَمْ مَوْضِعُهُ . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَفَّ عَنْ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَظْهَرُوا مِنْ الشَّهَادَةِ , مَعَ إخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِبَاطِنِهِمْ , بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } وَغَيْرِهَا مِنْ الْآيَاتِ . وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حُجَّةٌ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ , مَعَ اسْتِسْرَارِهِمْ بِكُفْرِهِمْ . وَأَمَّا قَتْلُهُ ابْنَ النَّوَّاحَةِ , فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِظُهُورِ كَذِبِهِ فِي تَوْبَتِهِ ; لِأَنَّهُ أَظْهَرَهَا , وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا زَالَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِ . وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ حِينَ جَاءَ رَسُولًا لِمُسَيْلِمَةِ : { لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ , لَقَتَلْتُكَ } فَقَتَلَهُ تَحْقِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِذَلِكَ . وَفِي الْجُمْلَةِ , فَالْخِلَافُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ فِي الظَّاهِرِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا . مِنْ تَرْكِ قَتْلِهِمْ , وَثُبُوتِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِمْ ; وَأَمَّا قَبُولُ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا فِي الْبَاطِنِ , وَغُفْرَانُهُ لِمَنْ تَابَ وَأَقْلَعَ ظَاهِرًا أَمْ بَاطِنًا , فَلَا خِلَافَ فِيهِ , فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاَللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا }
( 7089 ) فَصْلٌ : وَقَتْلُ الْمُرْتَدِّ إلَى الْإِمَامِ , حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا .(2/174)
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ , إلَّا الشَّافِعِيَّ , فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْعَبْدِ , فَإِنَّ لِسَيِّدِهِ قَتْلَهُ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } . وَلِأَنَّ حَفْصَةَ قَتَلَتْ جَارِيَةً سَحَرَتْهَا . وَلِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى , فَمَلَكَ السَّيِّدُ إقَامَتَهُ عَلَى عَبْدِهِ , كَجَلْدِ الزَّانِي . وَلَنَا أَنَّهُ قَتْلٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى , فَكَانَ إلَى الْإِمَامِ , كَرَجْمِ الزَّانِي , وَكَقَتْلِ الْحُرِّ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَأَقِيمُوا الْحُدُودَ } . فَلَا يَتَنَاوَلُ الْقَتْلَ لِلرِّدَّةِ , فَإِنَّهُ قُتِلَ لِكُفْرِهِ , لَا حَدًّا فِي حَقِّهِ . وَأَمَّا خَبَرُ حَفْصَةَ , فَإِنَّ عُثْمَانَ تَغَيَّظَ عَلَيْهَا , وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْجَلْدُ فِي الزِّنَى , فَإِنَّهُ تَأْدِيبٌ , وَلِلسَّيِّدِ تَأْدِيبُ عَبْدِهِ , بِخِلَافِ الْقَتْلِ . فَإِنْ قَتَلَهُ غَيْرُ الْإِمَامِ , أَسَاءَ , وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مَحَلٌّ غَيْرُ مَعْصُومٍ , وَسَوَاءٌ قَتَلَهُ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ أَوْ بَعْدَهَا ; لِذَلِكَ . وَعَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ التَّعْزِيرُ ; لِإِسَاءَتِهِ وَافْتِيَاتِهِ .
( 7090 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَكَانَ مَالُهُ فَيْئًا بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ 0
وَجُمْلَتُهُ , أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا قُتِلَ , أَوْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ , فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ , وَأَرْشِ جِنَايَتِهِ , وَنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وَقَرِيبِهِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ لَا يَجُوزُ تَعْطِيلُهَا , وَأَوْلَى مَا يُوجَدُ مِنْ مَالِهِ , وَمَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ فَيْءٌ يُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَالِ . وَعَنْ أَحْمَدَ , رِوَايَةٌ أُخْرَى , تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَعَنْهُ أَنَّهُ لِقَرَابَتِهِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ . وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً فِي الْفَرَائِضِ بِمَا أَغْنَى عَنْ ذِكْرِهَا هَاهُنَا .
( 7091 ) فَصْلٌ : وَلَا يُحْكَمُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمُرْتَدِّ بِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . فَعَلَى هَذَا , إنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ , زَالَ مِلْكُهُ بِمَوْتِهِ , وَإِنْ رَاجَعَ الْإِسْلَامَ , فَمِلْكُهُ بَاقٍ لَهُ . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَزُولُ مِلْكُهُ بِرِدَّتِهِ , وَإِنْ رَاجَعَ الْإِسْلَامَ عَادَ إلَيْهِ تَمْلِيكًا مُسْتَأْنَفًا ; لِأَنَّ عِصْمَةَ نَفْسِهِ وَمَالِهِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِإِسْلَامِهِ , فَزَوَالُ إسْلَامِهِ يُزِيلُ عِصْمَتَهُمَا , كَمَا لَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ , وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَلَكُوا إرَاقَةَ دَمِهِ بِرِدَّتِهِ , فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكُوا مَالَهُ بِهَا . وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : مَالُهُ مَوْقُوفٌ ; إنْ أَسْلَمَ تَبَيَّنَّا بَقَاءَ مِلْكِهِ , وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ تَبَيَّنَّا زَوَالَهُ مِنْ حِينِ رِدَّتِهِ . قَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ : هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ . وَعَنْ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ , كَهَذِهِ الثَّلَاثَةِ . وَلَنَا , أَنَّهُ سَبَبٌ يُبِيحُ دَمَهُ , فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ , كَزِنَى الْمُحْصَنِ , وَالْقَتْلِ لِمَنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا , وَزَوَالُ الْعِصْمَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ زَوَالُ الْمِلْكِ , بِدَلِيلِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ , وَالْقَاتِلِ فِي الْمُحَارَبَةِ , وَأَهْلِ الْحَرْبِ , فَإِنَّ مِلْكَهُمْ , ثَابِتٌ مَعَ عِصْمَتِهِمْ , وَلَوْ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ , لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ , لَكِنْ يُبَاحُ قَتْلُهُ - لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ - , وَأَخْذُ مَالِهِ - لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ - , لِأَنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا , حُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْحَرْبِ , وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَدَّ جَمَاعَةٌ وَامْتَنَعُوا فِي دَارِهِمْ عَنْ طَاعَةِ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ , زَالَتْ عِصْمَتُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ; لِأَنَّ الْكُفَّارَ الْأَصْلِيِّينَ لَا عِصْمَةَ لَهُمْ فِي دَارِهِمْ , فَالْمُرْتَدُّ أَوْلَى .
( 7092 ) فَصْلٌ : وَيُؤْخَذُ مَالُ الْمُرْتَدِّ , فَيُجْعَلُ عِنْدَ ثِقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَإِنْ كَانَ لَهُ إمَاءٌ جُعِلْنَ عِنْدَ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ ; لِأَنَّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْهِ , فَلَا يُمَكَّنُ مِنْهُنَّ .(2/175)
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَقَارُهُ , وَعَبِيدُهُ , وَإِمَاؤُهُ . وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُفْعَلَ ; لِأَنَّ مُدَّةَ انْتِظَارِهِ قَرِيبَةٌ , لَيْسَ فِي انْتِظَارِهِ فِيهَا ضَرَرٌ , فَلَا يَفُوتُ عَلَيْهِ مَنَافِعُ مِلْكِهِ فِيمَا لَا يَرْضَاهُ مِنْ أَجْلِهَا , فَإِنَّهُ رُبَّمَا رَاجَعَ الْإِسْلَامَ , فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ بِإِجَارَةِ الْحَاكِمِ لَهُ . وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ , أَوْ تَعَذَّرَ قَتْلُهُ مُدَّةً طَوِيلَةً , فَعَلَ الْحَاكِمُ مَا يَرَى الْحَظَّ فِيهِ , مِنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى النَّفَقَةِ وَغَيْرِهِ , وَإِجَارَةِ مَا يَرَى إبْقَاءَهُ , وَالْمُكَاتَبُ يُؤَدِّي إلَى الْحَاكِمِ , فَإِذَا أَدَّى عَتَقَ ; لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ .
( 7093 ) فَصْلٌ : وَتَصَرُّفَاتُ الْمُرْتَدِّ فِي رِدَّتِهِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ ; إنْ أَسْلَمَ تَبَيَّنَّا أَنَّ تَصَرُّفَهُ كَانَ صَحِيحًا , وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ , كَانَ بَاطِلًا .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ , تَصَرُّفُهُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ بِرِدَّتِهِ . وَهَذَا أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ . وَقَالَ فِي الْآخَرِ : إنْ تَصَرَّفَ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ , انْبَنَى عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ , وَإِنْ تَصَرَّفَ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ , لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ كَالسَّفِيهِ . وَلَنَا , أَنَّ مِلْكَهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ , فَكَانَ تَصَرُّفُهُ مَوْقُوفًا , كَتَبَرُّعِ الْمَرِيضِ .
( 7094 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَزَوَّجَ , لَمْ يَصِحَّ تَزَوُّجُهُ ; لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى النِّكَاحِ 0
وَمَا مَنَعَ الْإِقْرَارَ عَلَى النِّكَاحِ , مَنَعَ انْعِقَادَهُ , كَنِكَاحِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ . وَإِنْ زَوَّجَ , لَمْ يَصِحَّ تَزْوِيجُهُ ; لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى مُوَلِّيَتِهِ قَدْ زَالَتْ بِرِدَّتِهِ . وَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ , لَمْ يَصِحَّ ; لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَكُونُ مَوْقُوفًا , وَلِأَنَّ النِّكَاحَ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَمَةِ فَلَا بُدَّ فِي عَقْدِهِ مِنْ وِلَايَةٍ صَحِيحَةٍ , بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُزَوِّجَ أَمَتَهَا , وَكَذَلِكَ الْفَاسِقُ , وَالْمُرْتَدُّ لَا وِلَايَةَ لَهُ , فَإِنَّهُ أَدْنَى حَالًا مِنْ الْفَاسِقِ الْكَافِرِ .
( 7095 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وُجِدَ مِنْ الْمُرْتَدِّ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْمِلْكَ , كَالصَّيْدِ , وَالِاحْتِشَاشِ , وَالِاتِّهَابِ , وَالشِّرَاءِ , وَإِيجَارِ نَفْسِهِ إجَارَةً خَاصَّةً , أَوْ مُشْتَرَكَةً , ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ ; لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْمِلْكِ , وَكَذَلِكَ تَثْبُتُ أَمْلَاكُهُ .
وَمَنْ قَالَ : إنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ لَمْ يُثْبِتْ لَهُ مِلْكًا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمِلْكِ , وَلِهَذَا زَالَتْ أَمْلَاكُهُ الثَّابِتَةُ لَهُ , فَإِنْ رَاجَعَ الْإِسْلَامَ , احْتَمَلَ أَنْ لَا يَثْبُتَ لَهُ شَيْءٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ . وَاحْتَمَلَ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ لَهُ حِينَئِذٍ ; لِأَنَّ السَّبَبَ مَوْجُودٌ , وَإِنَّمَا امْتَنَعَ ثُبُوتُ حُكْمِهِ , لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ , فَإِذَا وُجِدَتْ , تَحَقَّقَ الشَّرْطُ , فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ حِينَئِذٍ , كَمَا تَعُودُ إلَيْهِ أَمْلَاكُهُ الَّتِي زَالَتْ عَنْهُ عِنْدَ عَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ . فَعَلَى هَذَا , إنْ مَاتَ , أَوْ قُتِلَ , ثَبَتَ الْمِلْكُ لِمَنْ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ مِلْكُهُ ; لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَاهُ .
( 7096 ) فَصْلٌ : وَإِنْ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ , فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِيمَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ0
إلَّا أَنَّ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ مَالِهِ , يَصِيرُ مُبَاحًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ , كَمَا أُبِيحَ دَمُهُ , وَأَمَّا أَمْلَاكُهُ وَمَالُهُ الَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَمِلْكُهُ ثَابِتٌ فِيهِ , وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ الْحَاكِمُ بِمَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُورَثُ مَالُهُ , كَمَا لَوْ مَاتَ ; لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَوْتَى , بِدَلِيلِ حِلِّ دَمِهِ وَمَالِهِ الَّذِي مَعَهُ لِكُلِّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ . وَلَنَا أَنَّهُ حَيٌّ فَلَمْ يُورَثْ , كَالْحَرْبِيِّ الْأَصْلِيِّ , وَحِلُّ دَمِهِ لَا يُوجِبُ تَوْرِيثَ مَالِهِ , بِدَلِيلِ الْحَرْبِيِّ الْأَصْلِيِّ , وَإِنَّمَا حَلَّ مَالُهُ الَّذِي مَعَهُ ; لِأَنَّهُ زَالَ الْعَاصِمُ لَهُ , فَأَشْبَهَ مَال الْحَرْبِيِّ الَّذِي فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَأَمَّا الَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , فَهُوَ بَاقٍ عَلَى الْعِصْمَةِ , كَمَالِ الْحَرْبِيِّ الَّذِي مَعَ مُضَارِبِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , أَوْ عِنْدَ مُودَعِهِ .
( 7097 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ , دُعِيَ إلَيْهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , فَإِنْ صَلَّى , وَإِلَّا قُتِلَ , جَاحِدًا تَرْكَهَا أَوْ غَيْرَ جَاحِدٍ 0(2/176)
قَدْ سَبَقَ شَرْحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : فِي بَابٍ مُفْرَدٍ لَهَا , وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي كُفْرِ مَنْ تَرَكَهَا جَاحِدًا لِوُجُوبِهَا , إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يَجْهَلُ مِثْلُهُ ذَلِكَ , فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْوُجُوبَ , كَحَدِيثِ الْإِسْلَامِ , وَالنَّاشِئِ بِغَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ , لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ , وَعُرِّفَ ذَلِكَ , وَتُثْبَتُ لَهُ أَدِلَّةُ وُجُوبِهَا , فَإِنْ جَحَدَهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَفَرَ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْجَاحِدُ لَهَا نَاشِئًا فِي الْأَمْصَارِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ , فَإِنَّهُ يُكَفَّرُ بِمُجَرَّدِ جَحْدِهَا , وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي مَبَانِي الْإِسْلَامِ كُلِّهَا , وَهِيَ الزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ ; لِأَنَّهَا مَبَانِي الْإِسْلَامِ , وَأَدِلَّةُ وُجُوبِهَا لَا تَكَادُ تَخْفَى , إذْ كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَشْحُونَيْنِ بِأَدِلَّتِهَا , وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهَا , فَلَا يَجْحَدُهَا إلَّا مُعَانِدٌ لِلْإِسْلَامِ , يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِ الْأَحْكَامِ , غَيْرُ قَابِلٍ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا إجْمَاعِ أُمَّتِهِ .
( 7098 ) فَصْلٌ : وَمَنْ اعْتَقَدَ حِلَّ شَيْءٍ أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ , وَظَهَرَ حُكْمُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , وَزَالَتْ الشُّبْهَةُ فِيهِ لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِيهِ , كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ , وَالزِّنَى , وَأَشْبَاهِ هَذَا , مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ , كُفِّرَ 0
لِمَا ذَكَرْنَا فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ . وَإِنْ اسْتَحَلَّ قَتْلَ الْمَعْصُومِينَ , وَأَخْذَ أَمْوَالِهِمْ , بِغَيْرِ شُبْهَةٍ وَلَا تَأْوِيلٍ , فَكَذَلِكَ , وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلٍ , كَالْخَوَارِجِ , فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ لَمْ يَحْكُمُوا بِكُفْرِهِمْ مَعَ اسْتِحْلَالِهِمْ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ , وَفِعْلِهِمْ لِذَلِكَ مُتَقَرِّبِينَ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى , وَكَذَلِكَ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِ ابْنِ مُلْجَمٍ مَعَ قَتْلِهِ أَفْضَلَ الْخَلْقِ فِي زَمَنِهِ , مُتَقَرِّبًا بِذَلِكَ , وَلَا يُكَفَّرُ الْمَادِحُ لَهُ عَلَى هَذَا , الْمُتَمَنِّي مِثْلَ فِعْلِهِ , فَإِنَّ عِمْرَانَ بْنَ حِطَّانَ قَالَ فِيهِ يَمْدَحُهُ لِقَتْلِ عَلِيٍّ : يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا إلَّا لِيَبْلُغَ عِنْدَ اللَّهِ رِضْوَانَا إنِّي لَأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ أَوْفَى الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا وَقَدْ عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ تَكْفِيرُ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَمَنْ بَعْدَهُمْ , وَاسْتِحْلَالُ دِمَائِهِمْ , وَأَمْوَالِهِمْ , وَاعْتِقَادُهُمْ التَّقَرُّبَ بِقَتْلِهِمْ إلَى رَبِّهِمْ , وَمَعَ هَذَا لَمْ يَحْكُمْ الْفُقَهَاءُ بِكُفْرِهِمْ ; لِتَأْوِيلِهِمْ . وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِي كُلِّ مُحَرَّمٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلٍ مِثْلِ هَذَا . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ شَرِبَ الْخَمْرَ مُسْتَحِلًّا لَهَا , فَأَقَامَ عُمَرُ عَلَيْهِ الْحَدَّ , وَلَمْ يُكَفِّرْهُ . وَكَذَلِكَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ , وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ , شَرِبُوا الْخَمْرَ بِالشَّامِ مُسْتَحِلِّينَ لَهَا , مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الْآيَة . فَلَمْ يُكَفَّرُوا , وَعُرِّفُوا تَحْرِيمَهَا , فَتَابُوا , وَأُقِيمَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ . فَيُخَرَّجُ فِيمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ مِثْلُ حُكْمِهِمْ . وَكَذَلِكَ كُلُّ جَاهِلٍ بِشَيْءٍ يُمْكِنُ أَنْ يَجْهَلَهُ , لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى يُعَرَّفَ ذَلِكَ , وَتَزُولَ عَنْهُ الشُّبْهَةُ , وَيَسْتَحِلَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ . وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ : مَنْ قَالَ : الْخَمْرُ حَلَالٌ . فَهُوَ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ , فَإِنْ تَابَ , وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ . وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ تَحْرِيمُهُ ; لِمَا ذَكَرْنَا . فَأَمَّا إنْ أَكَلَ لَحْمَ خِنْزِيرٍ , أَوْ مَيْتَةً , أَوْ شَرِبَ خَمْرًا , لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ , سَوَاءٌ فَعَلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ , كَمَا يَفْعَلُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ .
( 7099 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَذَبِيحَةُ الْمُرْتَدِّ حَرَامٌ , وَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ0(2/177)
هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ . وَقَالَ إسْحَاقُ : إنْ تَدَيَّنَ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ , حَلَّتْ ذَبِيحَتُهُ . وَيُحْكَى ذَلِكَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ ; لِأَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قَالَ : مَنْ تَوَلَّى قَوْمًا فَهُوَ مِنْهُمْ . وَلَنَا , أَنَّهُ كَافِرٌ , لَا يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ , فَلَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ , كَالْوَثَنِيِّ ; وَلِأَنَّهُ لَا تَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ أَهْلِ الْكِتَابِ إذَا تَدَيَّنَ بَدِينِهِمْ ; فَإِنَّهُ لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ , وَلَا يُسْتَرَقُّ . وَلَا يَحِلُّ نِكَاحُ الْمُرْتَدَّةِ . وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ : فَهُوَ مِنْهُمْ . فَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ مِنْهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ , بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا , وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى حِلَّ ذَبَائِحِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ , وَلَا نِكَاحِ نِسَائِهِمْ , مَعَ تَوْلِيَتِهِمْ لِلنَّصَارَى , وَدُخُولِهِمْ فِي دِينِهِمْ , وَمَعَ إقْرَارِهِمْ بِمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ , فَلَأَنْ لَا يَعْتَقِدَ ذَلِكَ فِي الْمُرْتَدِّينَ أَوْلَى . إذَا ثَبَتَ هَذَا , فَإِنَّهُ إذَا ذَبَحَ حَيَوَانًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ , ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ حَيًّا ; لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ عَلَيْهِ , وَحَرَّمَهُ , وَإِنْ ذَبَحَهُ بِإِذْنِهِ , لَمْ يَضْمَنْهُ ; لِأَنَّهُ أَذِنَ فِي إتْلَافِهِ .
( 7100 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالصَّبِيُّ إذَا كَانَ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ , وَعَقَلَ الْإِسْلَامَ , فَأَسْلَمَ , فَهُوَ مُسْلِمٌ )(2/178)
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الصَّبِيَّ يَصِحُّ إسْلَامُهُ فِي الْجُمْلَةِ . وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَصَاحِبَاهُ , وَإِسْحَاقُ , وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ , وَأَبُو أَيُّوبَ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَزُفَرُ : لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ حَتَّى يَبْلُغَ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ ; عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ } . حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ تَثْبُتُ بِهِ الْأَحْكَامُ , فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ الصَّبِيِّ كَالْهِبَةِ ; وَلِأَنَّهُ أَحْدُ مَنْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ , فَلَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ , كَالْمَجْنُونِ , وَالنَّائِمِ , وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ , أَشْبَهَ الطِّفْلَ . وَلَنَا , عُمُومُ قَوْلِهِ عليه السلام : { مَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . دَخَلَ الْجَنَّةَ } . وَقَوْلِهِ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا , وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } . وَقَالَ عليه السلام { : كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ , فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ , أَوْ يُنَصِّرَانِهِ , حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ , إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا . } وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا الصَّبِيُّ , وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ , فَصَحَّتْ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ , كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ , وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَعَا عِبَادَهُ إلَى دَارِ السَّلَامِ , وَجَعَلَ طَرِيقَهَا الْإِسْلَامَ , وَجَعَلَ مَنْ لَمْ يُجِبْ دَعْوَتَهُ فِي الْجَحِيمِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ , فَلَا يَجُوزُ مَنْعُ الصَّبِيِّ مِنْ إجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ , مَعَ إجَابَتِهِ إلَيْهَا , وَسُلُوكِهِ طَرِيقَهَا , وَلَا إلْزَامُهُ بِعَذَابِ اللَّهِ , وَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ , وَسَدُّ طَرِيقِ النَّجَاةِ عَلَيْهِ مَعَ هَرَبِهِ مِنْهَا , وَلِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ إجْمَاعٌ , فَإِنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أَسْلَمَ صَبِيًّا , وَقَالَ : سَبَقْتُكُمْ إلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا صَبِيًّا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حِلْمِ وَلِهَذَا قِيلَ : أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الرِّجَالِ أَبُو بَكْرٍ , وَمِنْ الصِّبْيَانِ عَلِيٌّ , وَمِنْ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ , وَمِنْ الْعَبِيدِ بِلَالٌ , وَقَالَ عُرْوَةُ : أَسْلَمَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ , وَهُمَا ابْنًا ثَمَانِ سِنِينَ , وَبَايَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ابْنُ الزُّبَيْرِ لِسَبْعِ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ , وَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَحَدٍ إسْلَامَهُ , مِنْ صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ . فَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ . } فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ , فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُكْتَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ , وَالْإِسْلَامُ يُكْتَبُ لَهُ لَا عَلَيْهِ , وَيَسْعَدُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , فَهُوَ كَالصَّلَاةِ تَصِحُّ مِنْهُ وَتُكْتَبُ لَهُ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ , وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُوجِبُ الزَّكَاةَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ , وَنَفَقَةَ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ , وَيَحْرِمُهُ مِيرَاثَ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ , وَيَفْسَخُ نِكَاحَهُ . قُلْنَا : أَمَّا الزَّكَاةُ فَإِنَّهَا نَفْعٌ ; لِأَنَّهَا سَبَبُ الزِّيَادَةِ وَالنَّمَاءِ , وَتَحْصِينِ الْمَالِ وَالثَّوَابِ , وَأَمَّا الْمِيرَاثُ وَالنَّفَقَةُ , فَأَمْرٌ مُتَوَهَّمٌ , وَهُوَ مَجْبُورٌ بِمِيرَاثِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ , وَسُقُوطِ نَفَقَةِ أَقَارِبِهِ الْكُفَّارِ , ثُمَّ إنَّ هَذَا الضَّرَرَ مَغْمُورٌ فِي جَنْبِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , وَخَلَاصِهِ مِنْ شَقَاءِ الدَّارَيْنِ وَالْخُلُودِ فِي الْجَحِيمِ , فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الضَّرَرِ فِي أَكْلِ الْقُوتِ , الْمُتَضَمِّنِ قُوتَ مَا يَأْكُلُهُ , وَكُلْفَةُ تَحْرِيكِ فِيهِ لِمَا كَانَ بَقَاؤُهُ بِهِ لَمْ يُعَدَّ ضَرَرًا , وَالضَّرَرُ فِي مَسْأَلَتِنَا فِي جَنْبِ مَا يَحْصُلُ مِنْ النَّفْعِ , أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ . إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْخِرَقِيِّ اشْتَرَطَ لِصِحَّةِ إسْلَامِهِ شَرْطَيْنِ ; أَحَدُهُمَا , أَنْ يَكُونَ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِضَرْبِهِ عَلَى الصَّلَاةِ لِعَشْرٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَعْقِلَ الْإِسْلَامَ . وَمَعْنَاهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبُّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِهِ . فَإِنَّ الطِّفْلَ الَّذِي لَا يَعْقِلَ , لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ اعْتِقَادُ الْإِسْلَامِ , وَإِنَّمَا كَلَامُهُ لِقَلْقَةٍ بِلِسَانِهِ , لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْعَشْرِ , فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمُصَحِّحِينَ لِإِسْلَامِهِ , لَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ , وَلَمْ يَحُدُّوا لَهُ حَدًّا مِنْ السِّنِينَ . وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَتَى مَا حَصَلَ , لَا حَاجَةَ إلَى زِيَادَةٍ عَلَيْهِ . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ , إذَا كَانَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ فَإِسْلَامُهُ إسْلَامٌ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ(2/179)
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ , } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَدٌّ لِأَمْرِهِمْ , وَصِحَّةِ عِبَادَاتِهِمْ , فَيَكُونُ حَدًّا لِصِحَّةِ إسْلَامِهِمْ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : إذَا أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ , جُعِلَ إسْلَامُهُ إسْلَامًا . وَلَعَلَّهُ يَقُولُ إنَّ عَلِيًّا أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ ; لِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ : إنَّهُ مَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إسْلَامُهُ , وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ ; لِأَنَّ مُدَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ بُعِثَ إلَى أَنْ مَاتَ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً , وَعَاشَ عَلِيٌّ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثِينَ سَنَةً ; فَذَلِكَ ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ , فَإِذَا ضَمَمْت إلَيْهَا خَمْسًا , كَانَتْ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ . وَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ : أُجِيزُ إسْلَامَ ابْنِ ثَلَاثِ سِنِينَ , مَنْ أَصَابَ الْحَقَّ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ أَجَزْنَاهُ . وَهَذَا لَا يَكَادُ يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ , وَلَا يَدْرِي مَا يَقُولُ , وَلَا يَثْبُتُ لِقَوْلِهِ حُكْمٌ , فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ وَدَلَّتْ أَحْوَالُهُ وَأَقْوَالُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْإِسْلَامِ , وَعَقْلِهِ إيَّاهُ , صَحَّ مِنْهُ كَغَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 7101 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ رَجَعَ , وَقَالَ : لَمْ أَدْرِ مَا قُلْت . لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ , وَأُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ )
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا أَسْلَمَ , وَحَكَمْنَا بِصِحَّةِ إسْلَامِهِ , لِمَعْرِفَتِنَا بِعَقْلِهِ بِأَدِلَّتِهِ , فَرَجَعَ , وَقَالَ : لَمْ أَدْرِ مَا قُلْت . لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ , وَلَمْ يَبْطُلْ إسْلَامُهُ الْأَوَّلُ . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ , أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ , وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : هَذَا قَوْلٌ مُحْتَمَلٌ ; لِأَنَّ الصَّبِيَّ فِي مَظِنَّةِ النَّقْصِ , فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا . قَالَ : وَالْعَمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَقْلُهُ لِلْإِسْلَامِ , وَمَعْرِفَتُهُ بِهِ بِأَفْعَالِهِ أَفْعَالَ الْعُقَلَاءِ , وَتَصَرُّفَاتِهِ تَصَرُّفَاتِهِمْ , وَتَكَلُّمِهِ بِكَلَامِهِمْ , وَهَذَا يَحْصُلُ بِهِ مَعْرِفَةُ عَقْلِهِ ; وَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا رُشْدَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ بِأَفْعَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ , وَعَرَفْنَا جُنُونَ الْمَجْنُونِ وَعَقْلَ الْعَاقِلِ بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ , فَلَا يَزُولُ مَا عَرَفْنَاهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ . وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ تَلَفَّظَ بِالْإِسْلَامِ , أَوْ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِهِ , ثُمَّ أَنْكَرَ مَعْرِفَتَهُ بِمَا قَالَ , لَمْ يُقْبَلْ إنْكَارُهُ , وَكَانَ مُرْتَدًّا . نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ . إذَا ثَبَتَ هَذَا , فَإِنَّهُ إذَا ارْتَدَّ , صَحَّتْ رِدَّتُهُ . وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ وَلَا رِدَّتُهُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصِحُّ إسْلَامُهُ , وَلَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ ; لِقَوْلِهِ عليه السلام { : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ ; عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ } . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُكْتَبَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ وَلَا شَيْءٌ , وَلَوْ صَحَّتْ رِدَّتُهُ , لَكُتِبَتْ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ , إنَّمَا يُكْتَبُ لَهُ , وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ أَمْرٌ يُوجِبُ الْقَتْلَ , فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ كَالزِّنَى وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ إنَّمَا صَحَّ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ مَصْلَحَةً , فَأَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ وَالتَّدْبِيرَ , وَالرِّدَّةُ تَمَحَّضَتْ مَضَرَّةً وَمَفْسَدَةً , فَلَمْ تَلْزَمْ صِحَّتُهَا مِنْهُ . فَعَلَى هَذَا , حُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَرْتَدَّ , فَإِذَا بَلَغَ , فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ , كَانَ مُرْتَدًّا حِينَئِذٍ .
( 7102 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يُقْتَلُ حَتَّى يَبْلُغَ , وَيُجَاوِزَ بَعْدَ بُلُوغِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى كُفْرِهِ قُتِلَ )
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُقْتَلُ , سَوَاءٌ قُلْنَا بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ , أَوْ لَمْ نَقُلْ ; لِأَنَّ الْغُلَامَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ , بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ فِي سَائِر الْحُدُودِ , وَلَا يُقْتَلُ قِصَاصًا ; فَإِذَا بَلَغَ , فَثَبَتَ عَلَى رِدَّتِهِ , ثَبَتَ حُكْمُ الرِّدَّةِ حِينَئِذٍ , فَيُسْتَتَابُ ثَلَاثًا , فَإِنْ تَابَ , وَإِلَّا قُتِلَ , سَوَاءٌ قُلْنَا : إنَّهُ كَانَ مُرْتَدًّا قَبْلَ بُلُوغِهِ أَوْ لَمْ نَقُلْ , وَسَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَصْلِيًّا فَارْتَدَّ , أَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ صَبِيًّا ثُمَّ ارْتَدَّ .
( 7103 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ , وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ , لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمَا وَلَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِمَا مِمَّنْ كَانُوا قَبْلَ الرِّدَّةِ رِقٌّ )(2/180)
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرِّقَّ لَا يَجْرِي عَلَى الْمُرْتَدِّ , سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً , وَسَوَاءٌ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَقَامَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ . وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا لَحِقَتْ الْمُرْتَدَّةُ بِدَارِ الْحَرْبِ , جَازَ اسْتِرْقَاقُهَا ; لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ سَبَى بَنِي حَنِيفَةَ , وَاسْتَرَقَّ نِسَاءَهُمْ , وَأُمُّ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ سَبْيِهِمْ . وَلَنَا , قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } , وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَى كُفْرِهِ , فَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُ كَالرَّجُلِ , وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الَّذِينَ سَبَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ كَانُوا أَسْلَمُوا , وَلَا ثَبَتَ لَهُمْ حُكْمُ الرِّدَّةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُسْبَى . قُلْنَا : هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ , ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ . فَأَمَّا أَوْلَادُ الْمُرْتَدِّينَ فَإِنْ كَانُوا وُلِدُوا قَبْلَ الرِّدَّةِ , فَإِنَّهُمْ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِمْ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ , وَلَا يَتْبَعُونَهُمْ فِي الرِّدَّةِ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو , وَقَدْ تَبِعُوهُمْ فِيهِ , فَلَا يَتْبَعُونَهُمْ فِي الْكُفْرِ , فَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ صِغَارًا ; لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ , وَلَا كِبَارًا ; لِأَنَّهُمْ إنْ ثَبَتُوا عَلَى إسْلَامِهِمْ بَعْدَ كُفْرِهِمْ فَهُمْ مُسْلِمُونَ , وَإِنْ كَفَرُوا فَهُمْ مُرْتَدُّونَ , حُكْمُهُمْ حُكْمُ آبَائِهِمْ فِي الِاسْتِتَابَةِ , وَتَحْرِيمِ الِاسْتِرْقَاقِ . وَأَمَّا مَنْ حَدَثَ بَعْدَ الرِّدَّةِ , فَهُوَ مَحْكُومٌ بِكُفْرِهِ , لِأَنَّهُ وُلِدَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ , وَيَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَدٍّ . نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ . وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ . وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِرْقَاقُهُمْ ; لِأَنَّ آبَاءَهُمْ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ , وَلِأَنَّهُمْ لَا يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ , فَلَا يُقَرُّونَ بِالِاسْتِرْقَاقِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ وُلِدُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , لَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُمْ , وَإِنْ وُلِدُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ , جَازَ اسْتِرْقَاقُهُمْ . وَلَنَا , أَنَّهُمْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ , فَجَازَ اسْتِرْقَاقُهُمْ , كَوَلَدِ الْحَرْبِيَّيْنِ , بِخِلَافِ آبَائِهِمْ . فَعَلَى هَذَا , إذَا وَقَعَ فِي الْأَسْرِ بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ , وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , لَمْ يُقَرَّ بِالْجِزْيَةِ , وَكَذَلِكَ لَوْ بَذْلَ الْجِزْيَةَ بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ , لَمْ يُقَرَّ بِهَا ; لِأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى الْكُفْرِ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ . فَأَمَّا مَنْ كَانَ حَمْلًا حِينَ رِدَّتِهِ , فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ كَالْحَادِثِ بَعْدَ كُفْرِهِ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ , هُوَ كَالْمَوْلُودِ ; لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ , وَلِهَذَا يَرِثُ . وَلَنَا , أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَ الْوَضْعِ , فَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ .
( 7104 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَوْلَادِهِمَا الَّذِينَ وَصَفْتُ مِنْ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْبُلُوغِ , اُسْتُتِيبَ ثَلَاثًا , فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ ) .
قَوْلُهُ : الَّذِينَ وَصَفْتُ . يَعْنِي الَّذِينَ وُلِدُوا قَبْلَ الرِّدَّةِ , فَإِنَّهُمْ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِمْ , فَلَا يُسْتَرَقُّونَ . وَمَتَى قَدَرَ عَلَى الزَّوْجَيْنِ , أَوْ عَلَى أَوْلَادِهِمَا , اُسْتُتِيبَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا , فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ , وَمَنْ كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ انْتَظَرْنَا بُلُوغَهُ , ثُمَّ اسْتَتَبْنَاهُ , فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ , وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْبَسَ حَتَّى لَا يَهْرُبَ .
( 7105 ) فَصْلٌ : وَمَتَى ارْتَدَّ أَهْلُ بَلَدٍ , وَجَرَتْ فِيهِ أَحْكَامُهُمْ , صَارُوا دَارَ حَرْبٍ فِي اغْتِنَامِ أَمْوَالِهِمْ , وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ الْحَادِثِينَ بَعْدَ الرِّدَّةِ , وَعَلَى الْإِمَامِ قِتَالُهُمْ 0(2/181)
فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ بِجَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ , وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ , وَهَؤُلَاءِ أَحَقُّهُمْ بِالْقِتَالِ ; لِأَنَّ تَرْكَهُمْ رُبَّمَا أَغْرَى أَمْثَالَهُمْ بِالتَّشَبُّهِ بِهِمْ وَالِارْتِدَادِ مَعَهُمْ , فَيَكْثُرُ الضَّرَرُ بِهِمْ . وَإِذَا قَاتَلَهُمْ , قَتَلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ , وَيَتْبَعُ مُدْبِرَهُمْ , وَيُجْهِزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ , وَتُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ . وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ حَتَّى تُجْمَعَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ ; أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْحَرْبِ , لَا شَيْءَ بَيْنَهُمَا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ . الثَّانِي : أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ وَلَا ذِمِّيٌّ آمِنٌ . الثَّالِثُ : أَنْ تَجْرِيَ فِيهَا أَحْكَامُهُمْ . وَلَنَا , أَنَّهَا دَارُ كُفَّارٍ , فِيهَا أَحْكَامُهُمْ , فَكَانَتْ دَارَ حَرْبٍ - كَمَا لَوْ اجْتَمَعَ فِيهَا هَذِهِ الْخِصَالُ - , أَوْ دَارَ الْكَفَرَةِ الْأَصْلِيِّينَ .
( 7106 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَتَلَ الْمُرْتَدُّ مَنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا , فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ . وَالْوَلِيُّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَتْلِهِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ , فَإِنْ اخْتَارَ الْقِصَاصَ , قُدِّمَ عَلَى قَتْلِ الرِّدَّةِ , سَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ الرِّدَّةُ أَوْ تَأَخَّرَتْ ; لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ , وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ . وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً , وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ; لِأَنَّهُ لَا عَاقِلَةَ لَهُ . قَالَ الْقَاضِي : وَتُؤْخَذُ مِنْهُ الدِّيَةُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ; لِأَنَّهَا دِيَةُ الْخَطَإِ , فَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ , أُخِذَتْ مِنْ مَالِهِ فِي الْحَالِ ; لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ فِي حَقِّ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ . وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَيْهِ حَالَّةً ; لِأَنَّهَا إنَّمَا أُجِّلَتْ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ , لِأَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ عَنْ غَيْرِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ , فَأَمَّا الْجَانِي , فَتَجِبُ عَلَيْهِ حَالَّةً ; لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ مُتْلَفٍ , فَكَانَتْ حَالَّةً , كَسَائِرِ أَبْدَالِ الْمُتْلَفَاتِ .
( 7107 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : (وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ كَانَ أَوْلَادُهُ الْأَصَاغِرُ تَبَعًا لَهُ )(2/182)
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ . وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : إذَا أَسْلَمَ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا , وَأَدْرَكَ فَأَبَى الْإِسْلَامَ , أُجْبِرَ عَلَيْهِ , وَلَمْ يُقْتَلْ . وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ أَسْلَمَ الْأَبُ , تَبِعَهُ أَوْلَادُهُ , وَإِنْ أَسْلَمَتْ الْأُمُّ لَمْ يَتْبَعُوهَا ; لِأَنَّ وَلَدَ الْحَرْبِيَّيْنِ يَتْبَعُ أَبَاهُ دُونَ أُمِّهِ , بِدَلِيلِ الْمَوْلَيَيْنِ إذَا كَانَ لَهُمَا وَلَدٌ , كَانَ وَلَاؤُهُ لِمَوْلَى أَبِيهِ دُونَ مَوْلَى أُمِّهِ , وَلَوْ كَانَ الْأَبُ عَبْدًا أَوْ الْأُمُّ مَوْلَاةً , فَأُعْتِقَ الْعَبْدُ , لَجَرَّ وَلَاءَ وَلَدِهِ إلَى مَوَالِيهِ , وَلِأَنَّ الْوَلَدَ يَشْرُفُ بِشَرَفِ أَبِيهِ , وَيَنْتَسِبُ إلَى قَبِيلَتِهِ دُونَ قَبِيلَةِ أُمِّهِ , فَوَجَبَ أَنْ يَتْبَعَ أَبَاهُ فِي دِينِهِ أَيَّ دِينٍ كَانَ . وَقَالَ الثَّوْرِيُّ إذَا بَلَغَ خُيِّرَ بَيْنَ دِينِ أَبِيهِ وَدِينِ أُمِّهِ , فَأَيَّهُمَا اخْتَارَهُ كَانَ عَلَى دِينِهِ . وَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ الْغُلَامِ الَّذِي أَسْلَمَ أَبُوهُ , وَأَبَتْ أُمُّهُ أَنْ تُسْلِمَ , فَخَيَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ . وَلَنَا أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أَبَوَيْهِ فِي الدِّينِ , فَإِنْ اخْتَلَفَا , وَجَبَ أَنْ يَتْبَعَ الْمُسْلِمَ مِنْهُمَا , كَوَلَدِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكِتَابِيَّةِ , وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى , وَيَتَرَجَّحُ الْإِسْلَامُ بِأَشْيَاءَ ; مِنْهَا أَنَّهُ دِينُ اللَّهِ الَّذِي رَضِيَهُ لِعِبَادِهِ , وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ دُعَاةً لِخَلْقِهِ إلَيْهِ , وَمِنْهَا أَنَّهُ تَحْصُلُ بِهِ السَّعَادَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , وَيَتَخَلَّصُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ , وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ , وَمِنْهَا أَنَّ الدَّارَ دَارُ الْإِسْلَامِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ لَقِيطِهَا , وَمَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ فِيهَا , وَإِذَا كَانَ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ , أُجْبِرَ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَ مِنْهُ بِالْقَتْلِ , كَوَلَدِ الْمُسْلِمَيْنِ , وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فَإِذَا رَجَعَ عَنْ إسْلَامِهِ , وَجَبَ قَتْلُهُ ; لِقَوْلِهِ عليه السلام { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } , وَبِالْقِيَاسِ عَلَى غَيْرِهِ . وَلَنَا , عَلَى مَالِكٍ , أَنَّ الْأُمَّ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ , فَيَتْبَعُهَا وَلَدُهَا فِي الْإِسْلَامِ , كَالْأَبِ , بَلْ الْأُمُّ أَوْلَى بِهِ , لِأَنَّهَا أَخَصُّ بِهِ , لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْهَا حَقِيقَةً , وَتَخْتَصُّ بِحَمْلِهِ وَرَضَاعِهِ , وَيَتْبَعُهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ , وَلِأَنَّ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ يَتْبَعُ الْوَلَدُ أُمَّهُ دُونَ أَبِيهِ , وَهَذَا يُعَارِضُ مَا ذَكَرَهُ . وَأَمَّا تَخْيِيرُ الْغُلَامِ , فَهُوَ فِي الْحَضَانَةِ لَا فِي الدِّينِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ عَلَى كُفْرِهِ , قُسِمَ لَهُ الْمِيرَاثُ ; وَكَانَ مُسْلِمًا بِمَوْتِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمَا )(2/183)
يَعْنِي , إذَا مَاتَ أَحَدُ أَبَوَيْ الْوَلَدِ الْكَافِرَيْنِ , صَارَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا بِمَوْتِهِ , وَقُسِمَ لَهُ الْمِيرَاثُ . وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِمَوْتِهِمَا وَلَا مَوْتِ أَحَدِهِمَا ; لِأَنَّهُ يَثْبُتْ كُفْرُهُ تَبَعًا , وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إسْلَامٌ , وَلَا مِمَّنْ هُوَ تَابِعٌ لَهُ فَوَجَبَ إبْقَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ , وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ خُلَفَائِهِ , أَنَّهُ أَجْبَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَوْتِ أَبِيهِ , مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ زَمَنُهُمْ عَنْ مَوْتِ بَعْضِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ يَتِيمٍ . وَلَنَا , قَوْلُ النَّبِيِّ { : كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ , فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ } . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . فَجَعَلَ كُفْرَهُ بِفِعْلِ أَبَوَيْهِ , فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا , انْقَطَعْت التَّبَعِيَّةُ , فَوَجَبَ إبْقَاؤُهُ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي وُلِدَ عَلَيْهَا , وَلِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَنْ مَاتَ أَبُوهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَقَضِيَّةُ الدَّارِ الْحُكْمُ بِإِسْلَامِ أَهْلِهَا , وَلِذَلِكَ حَكَمْنَا بِإِسْلَامِ لَقِيطِهَا , وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْكُفْرُ لِلطِّفْلِ الَّذِي لَهُ أَبَوَانِ , فَإِذَا عُدِمَا أَوْ أَحَدُهُمَا , وَجَبَ إبْقَاؤُهُ عَلَى حُكْمِ الدَّارِ , لِانْقِطَاعِ تَبَعِيَّتِهِ لِمَنْ يُكَفَّرُ بِهَا , وَإِنَّمَا قُسِمَ لَهُ الْمِيرَاثُ , لِأَنَّ إسْلَامَهُ إنَّمَا ثَبَتَ بِمَوْتِ أَبِيهِ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ الْمِيرَاثَ , فَهُوَ سَبَبٌ لَهُمَا , فَلَمْ يَتَقَدَّمْ الْإِسْلَامُ الْمَانِعُ مِنْ الْمِيرَاثِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ , وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ الْمُعَلَّقَةَ بِالْمَوْتِ لَا تُوجِبُ الْمِيرَاثَ فِيمَا إذَا قَالَ سَيِّدُ الْعَبْدِ لَهُ : إذَا مَاتَ أَبُوك فَأَنْتَ حُرٌّ . فَمَاتَ أَبُوهُ , فَإِنَّهُ يَعْتِقُ وَلَا يَرِثُ , فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ الْمُعَلَّقُ بِالْمَوْتِ لَا يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ , وَهَذَا فِيمَا إذَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ مَتَى انْقَطَعَتْ تَبَعِيَّتُهُ لِأَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا , ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الدَّارِ , فَأَمَّا دَارُ الْحَرْبِ , فَلَا نَحْكُمُ بِإِسْلَامِ وَلَدِ الْكَافِرَيْنِ فِيهَا بِمَوْتِهِمَا , وَلَا مَوْتِ أَحَدِهِمَا ; لِأَنَّ الدَّارَ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ أَهْلِهَا , وَكَذَلِكَ لَمْ نَحْكُمْ بِإِسْلَامِ لَقِيطِهَا .
( 7109 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ , فَقَالَ : مَا كَفَرْت . فَإِنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , لَمْ يُكْشَفْ عَنْ شَيْءٍ )
الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ
( 7110 ) : الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : أَنَّهُ إذَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ مَنْ تَثْبُتُ الرِّدَّةُ بِشَهَادَتِهِ , فَأَنْكَرَ , لَمْ يُقْبَلْ إنْكَارُهُ وَاسْتُتِيبَ , فَإِنْ تَابَ , وَإِلَّا قُتِلَ . وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ , أَنَّ إنْكَارَهُ يَكْفِي فِي الرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ , وَلَا يَلْزَمُهُ النُّطْقُ بِالشَّهَادَةِ ; لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْكُفْرِ ثُمَّ أَنْكَرَهُ , قُبِلَ مِنْهُ , وَلَمْ يُكَلَّفْ الشَّهَادَتَيْنِ , كَذَا هَاهُنَا . وَلَنَا , مَا رَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه , أَنَّهُ أُتِيَ بَرْجَلٍ عَرَبِيٍّ قَدْ تَنَصَّرَ , فَاسْتَتَابَهُ , فَأَبَى أَنْ يَتُوبَ , فَقَتَلَهُ , وَأُتِيَ بِرَهْطٍ يُصَلُّونَ وَهُمْ زَنَادِقَةٌ , وَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الشُّهُودُ الْعُدُولُ , فَجَحَدُوا , وَقَالُوا : لَيْسَ لَنَا دِينٌ إلَّا الْإِسْلَامَ . فَقَتَلَهُمْ , وَلَمْ يَسْتَتِبْهُمْ , ثُمَّ قَالَ : أَتَدْرُونَ لِمَ اسْتَتَبْتُ النَّصْرَانِيَّ ؟ اسْتَتَبْتُهُ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ دِينَهُ , فَأَمَّا الزَّنَادِقَةُ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْبَيِّنَةُ , فَإِنَّمَا قَتَلْتُهُمْ لِأَنَّهُمْ جَحَدُوا , وَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْبَيِّنَةُ . وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ كُفْرُهُ , فَلَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ بِدُونِ الشَّهَادَتَيْنِ , كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ , وَلِأَنَّ إنْكَارَهُ تَكْذِيبٌ لِلْبَيِّنَةِ , فَلَمْ تُسْمَعْ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى . فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِالْكُفْرِ ثُمَّ أَنْكَرَ , فَيَحْتَمِلُ أَنْ نَقُولَ فِيهِ كَمَسْأَلَتِنَا , وَإِنْ سَلَّمْنَا , فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَدَّ وَجَبَ بِقَوْلِهِ , فَقُبِلَ رُجُوعُهُ عَنْهُ , وَمَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَثْبُتْ بِقَوْلِهِ , فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهُ , كَالزِّنَى , لَوْ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ فَرَجَعَ , كُفَّ عَنْهُ , وَإِنْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ , لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ .
( 7111 ) فَصْلٌ : وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الرِّدَّةِ مِنْ عَدْلَيْنِ , فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .(2/184)
وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ , وَالْأَوْزَاعِيُّ , وَالشَّافِعِيُّ , وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُمْ , إلَّا الْحَسَنَ , قَالَ : لَا يُقْبَلُ فِي الْقَتْلِ إلَّا أَرْبَعَةٌ ; لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بِمَا يُوجِبُ الْقَتْلَ , فَلَمْ يُقْبَلْ فِيهَا إلَّا أَرْبَعَةٌ , قِيَاسًا عَلَى الزِّنَى . وَلَنَا , أَنَّهَا شَهَادَةٌ فِي غَيْرِ الزِّنَى , فَقُبِلَتْ مِنْ عَدْلَيْنِ , كَالشَّهَادَةِ عَلَى السَّرِقَةِ , وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الزِّنَى , فَإِنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْأَرْبَعَةُ لِعِلَّةِ الْقَتْلِ , بِدَلِيلِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ فِي زِنَى الْبِكْرِ , وَلَا قَتْلَ فِيهِ , وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ كَوْنُهُ زِنًى , وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الرِّدَّةِ , ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَى يُوجِبُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً , بِخِلَافِ الْقَذْفِ بِالرِّدَّةِ .
( 7112 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا ثَبَتَتْ رِدَّتُهُ بِالْبَيِّنَةِ , أَوْ غَيْرِهَا فَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , لَمْ يُكْشَفْ عَنْ صِحَّةِ مَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ , وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ0(2/185)
وَلَا يُكَلَّفُ الْإِقْرَارَ بِمَا نُسِبَ إلَيْهِ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا , وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَلِأَنَّ هَذَا يَثْبُتُ بِهِ إسْلَامُ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فَكَذَلِكَ إسْلَامُ الْمُرْتَدِّ , وَلَا حَاجَةَ مَعَ ثُبُوتِ إسْلَامِهِ إلَى الْكَشْفِ عَنْ صِحَّةِ رِدَّتِهِ . وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِجَحْدِ الْوَحْدَانِيَّةِ , أَوْ جَحْدِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَوْ جَحْدِهِمَا مَعًا , فَأَمَّا مَنْ كَفَرَ بِغَيْرِ هَذَا , فَلَا يَحْصُلُ إسْلَامُهُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ بِمَا جَحَدَهُ . وَمَنْ أَقَرَّ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأَنْكَرَ كَوْنَهُ مَبْعُوثًا إلَى الْعَالَمِينَ , لَا يَثْبُتُ إسْلَامُهُ حَتَّى يَشْهَدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ , أَوْ يَتَبَرَّأَ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ كُلِّ دِينٍ يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ . وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ مَبْعُوثٍ بَعْدُ غَيْرِ هَذَا , لَزِمَهُ الْإِقْرَارُ بِأَنَّ هَذَا الْمَبْعُوثَ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ إذَا اقْتَصَرَ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ , احْتَمَلَ أَنَّهُ أَرَادَ مَا اعْتَقَدَهُ . وَإِنْ ارْتَدَّ بِجُحُودِ فَرْضٍ , لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى يُقِرَّ بِمَا جَحَدَهُ , وَيُعِيدَ الشَّهَادَتَيْنِ ; لِأَنَّهُ كَذَّبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِمَا اعْتَقَدَهُ . وَكَذَلِكَ إنْ جَحَدَ نَبِيًّا , أَوْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى , أَوْ كِتَابًا مِنْ كُتُبِهِ , أَوْ مَلَكًا مِنْ مَلَائِكَتِهِ الَّذِينَ ثَبَتَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ , أَوْ اسْتَبَاحَ مُحَرَّمًا , فَلَا بُدَّ فِي إسْلَامِهِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِمَا جَحَدَهُ . وَأَمَّا الْكَافِرُ بِجَحْدِ الدِّينِ مِنْ أَصْلِهِ , إذَا شَهِدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , وَاقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ , فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ; إحْدَاهُمَا , يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ; لِأَنَّهُ رُوِيَ { أَنَّ يَهُودِيًّا قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . ثُمَّ مَاتَ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ . } وَلِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلَّا وَهُوَ مُقِرٌّ بِمَنْ أَرْسَلَهُ , وَبِتَوْحِيدِهِ ; لِأَنَّهُ صَدَّقَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَاءَ بِهِ , وَقَدْ جَاءَ بِتَوْحِيدِهِ . وَالثَّانِيَةُ , أَنَّهُ إنْ كَانَ مُقِرًّا بِالتَّوْحِيدِ كَالْيَهُودِ , حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ; لِأَنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ , وَقَدْ ضَمَّ إلَيْهِ الْإِقْرَارَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَكَمُلَ إسْلَامُهُ , وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوَحِّدٍ , كَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَالْوَثَنِيِّينَ , لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ , حَتَّى يَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . وَبِهَذَا جَاءَتْ أَكْثَرُ الْأَخْبَارِ , وَهُوَ الصَّحِيحُ ; لِأَنَّ مَنْ جَحَدَ شَيْئَيْنِ لَا يَزُولُ جَحْدُهُمَا إلَّا بِإِقْرَارِهِ بِهِمَا جَمِيعًا . وَإِنْ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَسُولُ اللَّهِ . لَمْ نَحْكُمْ بِإِسْلَامِهِ ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ غَيْرَ نَبِيِّنَا . وَإِنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ أَوْ أَنَا مُسْلِمٌ . فَقَالَ الْقَاضِي : يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِهَذَا , وَإِنْ لَمْ يَلْفِظْ بِالشَّهَادَتَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا اسْمَانِ لِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مَعْرُوفٍ وَهُوَ الشَّهَادَتَانِ , فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا تَضَمَّنَ الشَّهَادَتَيْنِ , كَانَ مُخْبِرًا بِهِمَا . وَرَوَى الْمِقْدَادُ , أَنَّهُ قَالَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنْ الْكُفَّارِ , فَقَاتَلَنِي , فَضَرَبَ إحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ , فَقَطَعَهَا , ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ , فَقَالَ : أَسْلَمْتُ . أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا ؟ قَالَ : لَا تَقْتُلْهُ , فَإِنْ قَتَلْتَهُ , فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِك قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ , وَإِنَّك بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَهَا . } وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ . قَالَ : { أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَقِيلٍ , فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ , إنِّي مُسْلِمٌ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَوْ كُنْتَ قُلْتَ وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك , أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ } . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ . وَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا فِي الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ , أَوْ مَنْ جَحَدَ الْوَحْدَانِيَّةَ أَمَّا مَنْ كَفَرَ بِجَحْدِ نَبِيٍّ أَوْ كِتَابٍ أَوْ فَرِيضَةٍ وَنَحْوِهَا , فَلَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْإِسْلَامَ مَا هُوَ عَلَيْهِ , فَإِنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ كُلَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْمُسْلِمُونَ , وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ كَافِرٌ(2/186)
( 7113 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَتَى الْكَافِرُ بِالشَّهَادَتَيْنِ , ثُمَّ قَالَ : لَمْ أُرِدْ الْإِسْلَامَ فَقَدْ صَارَ مُرْتَدًّا , وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ . وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ , أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ , وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ , فَلَا يُرَاقُ دَمُهُ بِالشُّبْهَةِ , وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ قَدْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ , فَيُقْتَلُ إذَا رَجَعَ كَمَا لَوْ طَالَتْ مُدَّتُهُ .
( 7114 ) فَصْلٌ : وَإِذَا صَلَّى الْكَافِرُ , حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ , سَوَاءٌ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ صَلَّى جَمَاعَةً أَوْ فُرَادَى .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ صَلَّى فِي دَارِ الْحَرْبِ , حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ , وَإِنْ صَلَّى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّى رِيَاءً وَتَقِيَّةً . وَلَنَا أَنَّ مَا كَانَ إسْلَامًا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ إسْلَامًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , كَالشَّهَادَتَيْنِ , وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ رُكْنٌ يَخْتَصُّ بِهِ الْإِسْلَامُ , فَحُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بِهِ كَالشَّهَادَتَيْنِ . وَاحْتِمَالُ التَّقِيَّةِ وَالرِّيَاءِ , يَبْطُلُ بِالشَّهَادَتَيْنِ . وَسَوَاءٌ كَانَ أَصْلِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا . وَأَمَّا سَائِرُ الْأَرْكَانِ , مِنْ الزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ , فَلَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِهِ , فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَحُجُّونَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى مَنَعَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : { لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ . } وَالزَّكَاةُ صَدَقَةٌ , وَهُمْ يَتَصَدَّقُونَ . وَقَدْ فَرَضَ عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ مِنْ الزَّكَاةِ مِثْلَيْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَلَمْ يَصِيرُوا بِذَلِكَ مُسْلِمِينَ , وَأَمَّا الصِّيَامُ فَلِكُلِّ أَهْلِ دِينٍ صِيَامٌ , وَلِأَنَّ الصِّيَامَ لَيْسَ بِفِعْلٍ , إنَّمَا هُوَ إمْسَاكٌ عَنْ أَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ , وَقَدْ يَتَّفِقُ هَذَا مِنْ الْكَافِرِ , كَاتِّفَاقِهِ مِنْ الْمُسْلِمِ , وَلَا عِبْرَةَ بِنِيَّةِ الصِّيَامِ ; لِأَنَّهَا أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ , بِخِلَافِ الصَّلَاةِ , فَإِنَّهَا أَفْعَالٌ تَتَمَيَّزُ عَنْ أَفْعَالِ الْكُفَّارِ , وَيَخْتَصُّ بِهَا أَهْلُ الْإِسْلَامِ , وَلَا يَثْبُتُ الْإِسْلَامُ حَتَّى يَأْتِيَ بِصَلَاةٍ يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ صَلَاةِ الْكُفَّارِ , مِنْ اسْتِقْبَالِ قِبْلَتِنَا , وَالرُّكُوعِ , وَالسُّجُودِ , وَلَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ ; لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ فِي صَلَاتِهِمْ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْمُرْتَدِّ فِي هَذَا ; لِأَنَّ مَا حَصَلَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِي الْأَصْلِيِّ , حَصَلَ بِهِ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ كَالشَّهَادَتَيْنِ . فَعَلَى هَذَا , لَوْ مَاتَ الْمُرْتَدُّ فَأَقَامَ وَرَثَتُهُ بَيِّنَةً أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ رِدَّتِهِ , حُكِمَ لَهُمْ بِالْمِيرَاثِ , إلَّا أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهُ ارْتَدَّ بَعْدَ صَلَاتِهِ أَوْ تَكُونَ رِدَّتُهُ بِجَحْدِ فَرِيضَةٍ , أَوْ كِتَابٍ , أَوْ نَبِيٍّ , أَوْ مَلَكٍ , أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي يَنْتَسِبُ أَهْلُهَا إلَى الْإِسْلَامِ , فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِصَلَاتِهِ ; لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ , وَيَفْعَلُهَا مَعَ كُفْرِهِ , فَأَشْبَهَ فِعْلَهُ غَيْرَهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 7115 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ , كَالذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ , فَأَسْلَمَ , لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ , حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إسْلَامِهِ طَوْعًا , مِثْلُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ .(2/187)
فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ , فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكُفَّارِ . وَإِنْ رَجَعَ إلَى دِينِ الْكُفْرِ , لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ وَلَا إكْرَاهُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ . وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيُّ , وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : يَصِيرُ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ , وَإِنْ رَجَعَ عَنْهُ قُتِلَ إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْإِسْلَامِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ { : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . فَإِذَا قَالُوهَا , عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا . } وَلِأَنَّهُ أَتَى بِقَوْلِ الْحَقِّ , فَلَزِمَهُ حُكْمُهُ كَالْحَرْبِيِّ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ . وَلَنَا , أَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ عَلَيْهِ , فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ , كَالْمُسْلِمِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ , وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ الْإِكْرَاهِ قوله تعالى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } . وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ - إذَا أَقَامَ عَلَى مَا عُوهِدَ عَلَيْهِ - , وَالْمُسْتَأْمَنَ لَا يَجُوزُ نَقْضُ عَهْدِهِ , وَلَا إكْرَاهُهُ عَلَى مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ . وَلِأَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ عَلَيْهِ , فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ , كَالْإِقْرَارِ وَالْعِتْقِ . وَفَارَقَ الْحَرْبِيَّ وَالْمُرْتَدَّ ; فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُمَا , وَإِكْرَاهُهُمَا عَلَى الْإِسْلَامِ , بِأَنْ يَقُولَ : إنْ أَسْلَمْتَ وَإِلَّا قَتَلْنَاك . فَمَتَى أَسْلَمَ , حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ظَاهِرًا . وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ , فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُ أُكْرِهَ بِحَقٍّ , فَحُكِمَ بِصِحَّةِ مَا يَأْتِي بِهِ , كَمَا لَوْ أُكْرِهَ الْمُسْلِمُ عَلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّى , وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ , فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ , فَإِنَّ مَنْ اعْتَقَدَ الْإِسْلَامَ بِقَلْبِهِ , وَأَسْلَمَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى , فَهُوَ مُسْلِمٌ عِنْدَ اللَّهِ , مَوْعُودٌ بِمَا وُعِدَ بِهِ مَنْ أَسْلَمَ طَائِعًا , وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ الْإِسْلَامَ بِقَلْبِهِ , فَهُوَ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ , لَا حَظَّ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ , سَوَاءٌ فِي هَذَا مَنْ يَجُوزُ إكْرَاهُهُ , وَمَنْ لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ , فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ اعْتِقَادِهِ مِنْ الْعَاقِلِ , بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ , وَيَقُومُونَ بِفَرَائِضِهِ , وَلَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ .
( 7116 ) فَصْلٌ : وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ , فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ , لَمْ يَصِرْ كَافِرًا .(2/188)
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ , وَأَبُو حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيُّ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : هُوَ كَافِرٌ فِي الظَّاهِرِ , تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ , وَلَا يَرِثُهُ الْمُسْلِمُونَ إنْ مَاتَ , وَلَا يُغَسَّلُ , وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ , وَهُوَ مُسْلِمٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ , فَأَشْبَهَ الْمُخْتَارَ . وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ . } وَرُوِيَ { أَنَّ عَمَّارًا أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ , فَضَرَبُوهُ حَتَّى تَكَلَّمَ بِمَا طَلَبُوا مِنْهُ , ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم , وَهُوَ يَبْكِي , فَأَخْبَرَهُ , فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : إنْ عَادُوا فَعُدْ } . وَرُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُعَذِّبُونَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا أَجَابَهُمْ , إلَّا بِلَالٌ , فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ : أَحَدٌ . أَحَدٌ . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { : عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ , وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ . } وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ , فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ , كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ , وَفَارَقَ مَا إذَا أُكْرِهَ بِحَقٍّ , فَإِنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ يَلْزَمُهُ أَحَدُهُمَا , فَأَيَّهُمَا اخْتَارَهُ ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَكْفُرْ , فَمَتَى زَالَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ , أُمِرَ بِإِظْهَارِ إسْلَامِهِ , فَإِنْ أَظْهَرَهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إسْلَامِهِ , وَإِنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ حُكِمَ أَنَّهُ كَفَرَ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ ; لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بِالْكُفْرِ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ , مُخْتَارًا لَهُ . وَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ , وَكَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَ الْكُفَّارِ , وَمُقَيَّدًا عِنْدَهُمْ فِي حَالَةِ خَوْفٍ , لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الْإِكْرَاهِ . وَإِنْ شَهِدَتْ أَنَّهُ كَانَ آمِنًا حَالَ نُطْقِهِ بِهِ , حُكِمَ بِرِدَّتِهِ . فَإِنْ ادَّعَى وَرَثَتُهُ رُجُوعَهُ إلَى الْإِسْلَامِ , لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ . وَإِنْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِأَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ , لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَأْكُلُهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ , كَمَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهَا . وَإِنْ قَالَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ : أَكَلَهُ مُسْتَحِلًّا لَهُ . أَوْ أَقَرَّ بِرِدَّتِهِ , حُرِمَ مِيرَاثَهُ ; لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ , وَيُدْفَعُ إلَى مُدَّعِي إسْلَامِهِ قَدْرُ مِيرَاثِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْهُ , وَيُدْفَعُ الْبَاقِي إلَى بَيْتِ الْمَالِ ; لِعَدَمِ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ , فَإِنْ كَانَ فِي الْوَرَثَةِ صَغِيرٌ أَوْ مَجْنُونٌ , دُفِعَ إلَيْهِ نَصِيبُهُ , وَنَصِيبُ الْمُقِرِّ بِرِدَّةِ الْمَوْرُوثِ ; لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ رِدَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ .
( 7117 ) فَصْلٌ : وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ , فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَصْبِرَ وَلَا يَقُولَهَا , وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ 0(2/189)
لِمَا رَوَى خَبَّابٌ , عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ قَبْلِكُمْ لَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ , فَيُجْعَلُ فِيهَا , فَيُجَاءُ بِمِنْشَارٍ , فَيُوضَعُ عَلَى شِقِّ رَأْسِهِ , وَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ , مَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ , وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ , مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ . } وَجَاءَ تَفْسِيرُ قوله تعالى : { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } أَنَّ بَعْضَ مُلُوكِ الْكُفَّارِ , أَخَذَ قَوْمًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , فَخَدَّ لَهُمْ أُخْدُودًا فِي الْأَرْضِ , وَأَوْقَدَ فِيهِ نَارًا , ثُمَّ قَالَ : مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَلْقُوهُ فِي النَّارِ . فَجَعَلُوا يُلْقُونَهُمْ فِيهَا , حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ عَلَى كَتِفِهَا صَبِيٌّ لَهَا , فَتَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِ الصَّبِيِّ , فَقَالَ الصَّبِيُّ : يَا أُمَّهْ اصْبِرِي , فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ . فَذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَرَوَى الْأَثْرَمُ , عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ , أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُؤْسَرُ , فَيُعْرَضُ عَلَى الْكُفْرِ , وَيُكْرَهُ عَلَيْهِ , أَلَهُ أَنْ يَرْتَدَّ ؟ فَكَرِهَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً , وَقَالَ مَا يُشْبِهُ هَذَا عِنْدِي الَّذِينَ أُنْزِلَتْ فِيهِمْ الْآيَةُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُولَئِكَ كَانُوا يُرَادُونَ عَلَى الْكَلِمَةِ ثُمَّ يُتْرَكُونَ يَعْمَلُونَ مَا شَاءُوا , وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَهُمْ عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ , وَتَرْكِ دِينِهِمْ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يُكْرَهُ عَلَى كَلِمَةٍ يَقُولُهَا ثُمَّ يُخَلَّى , لَا ضَرَرَ فِيهَا , وَهَذَا الْمُقِيمُ بَيْنَهُمْ , يَلْتَزِمُ بِإِجَابَتِهِمْ إلَى الْكُفْرِ الْمُقَامِ عَلَيْهِ , وَاسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ , وَتَرْكِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ , وَفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ , وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً تَزَوَّجُوهَا , وَاسْتَوْلَدُوهَا أَوْلَادًا كُفَّارًا , وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ , وَظَاهِرُ حَالِهِمْ الْمَصِيرُ إلَى الْكُفْرِ الْحَقِيقِيِّ , وَالِانْسِلَاخُ مِنْ الدِّينِ الْحَنِيفِيِّ .
( 7118 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ ارْتَدَّ وَهُوَ سَكْرَانُ , لَمْ يُقْتَلُ حَتَّى يُفِيقَ , وَيَتِمَّ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ وَقْتِ رِدَّتِهِ , فَإِنْ مَاتَ فِي سُكْرِهِ , مَاتَ كَافِرًا )(2/190)
اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ , فِي رِدَّةِ السَّكْرَانِ ; فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا تَصِحُّ . قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَعَنْهُ , لَا يَصِحُّ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ وَالْقَصْدِ , وَالسَّكْرَانُ لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ وَلَا قَصْدُهُ , فَأَشْبَهَ الْمَعْتُوهَ , وَلِأَنَّهُ زَائِلُ الْعَقْلِ , فَلَمْ تَصِحَّ رِدَّتُهُ كَالنَّائِمِ , وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ , فَلَمْ تَصِحَّ رِدَّتُهُ كَالْمَجْنُونِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ , أَنَّ الْعَقْلَ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ , وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي حَقِّهِ , وَلِهَذَا لَمْ تَصِحَّ اسْتِتَابَتُهُ . وَلَنَا , أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم , قَالُوا فِي السَّكْرَانِ : إذَا سَكِرَ هَذَى , وَإِذَا هَذَى افْتَرَى , فَحَدُّوهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي . فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ حَدَّ الْفِرْيَةِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا فِي سُكْرِهِ , وَأَقَامُوا مَظِنَّتَهَا مُقَامَهَا , وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ , فَصَحَّتْ رِدَّتُهُ كَالصَّاحِي . وَقَوْلُهُمْ " لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ " مَمْنُوعٌ فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ , وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ , وَيَأْثَمُ بِفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ . وَهَذَا مَعْنَى التَّكْلِيفِ , وَلِأَنَّ السَّكْرَانَ لَا يَزُولُ عَقْلُهُ بِالْكُلِّيَّةِ , وَلِهَذَا يَتَّقِي الْمَحْذُورَاتِ , وَيَفْرَحُ بِمَا يَسُرُّهُ , وَيُسَاءُ بِمَا يَضُرُّهُ , وَيَزُولُ سُكْرُهُ عَنْ قُرْبٍ مِنْ الزَّمَانِ , فَأَشْبَهَ النَّاعِسَ , بِخِلَافِ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ , وَأَمَّا اسْتِتَابَتُهُ فَتُؤَخَّرُ إلَى حِينِ صَحْوِهِ , لِيَكْمُلَ عَقْلُهُ , وَيَفْهَمَ مَا يُقَالُ لَهُ , وَتُزَالَ شُبْهَتُهُ إنْ كَانَ قَدْ قَالَ الْكُفْرَ مُعْتَقِدًا لَهُ , كَمَا تُؤَخَّرُ اسْتِتَابَتُهُ إلَى حِينِ زَوَالِ شِدَّةِ عَطَشِهِ وَجُوعِهِ , وَيُؤَخَّرُ الصَّبِيُّ إلَى حِينِ بُلُوغِهِ وَكَمَالِ عَقْلِهِ , وَلِأَنَّ الْقَتْلَ جُعِلَ لِلزَّجْرِ , وَلَا يَحْصُلُ الزَّجْرُ فِي حَالِ سُكْرِهِ . وَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ فِي حَالِ سُكْرِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ ; لِأَنَّ عِصْمَتَهُ زَالَتْ بِرِدَّتِهِ . وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ , لَمْ يَرِثْهُ وَرَثَتُهُ , وَلَا يَقْتُلُهُ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ , ابْتِدَاؤُهَا مِنْ حِينِ ارْتَدَّ , فَإِنْ اسْتَمَرَّ سُكْرُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ , لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَصْحُوَ , ثُمَّ يُسْتَتَابَ عَقِيبَ صَحْوِهِ , فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ فِي الْحَالِ . وَإِنْ أَسْلَمَ فِي سُكْرِهِ صَحَّ إسْلَامُهُ , ثُمَّ يُسْأَلُ بَعْدَ صَحْوِهِ , فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى إسْلَامِهِ , فَهُوَ مُسْلِمٌ مِنْ حِينِ أَسْلَمَ ; لِأَنَّ إسْلَامَهُ صَحِيحٌ , وَإِنْ كَفَرَ فَهُوَ كَافِرٌ مِنْ الْآنَ ; لِأَنَّ إسْلَامَهُ صَحَّ , وَإِنَّمَا يُسْأَلُ اسْتِظْهَارًا , وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إسْلَامِهِ فِي سُكْرِهِ , مَاتَ مُسْلِمًا .
( 7119 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ إسْلَامُ السَّكْرَانِ فِي سُكْرِهِ ;
سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَصْلِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا ; لِأَنَّهُ إذَا صَحَّتْ رِدَّتُهُ مَعَ أَنَّهَا مَحْضُ مَضَرَّةٍ , وَقَوْلُ بَاطِلٍ , فَلَأَنْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ , الَّذِي هُوَ قَوْلُ حَقٍّ , وَمَحْضُ مَصْلَحَةٍ , أَوْلَى . فَإِنْ رَجَعَ عَنْ إسْلَامِهِ , وَقَالَ : لَمْ أَدْرِ مَا قُلْت . لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى مَقَالَتِهِ , وَأُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ , فَإِنْ أَسْلَمَ , وَإِلَّا قُتِلَ وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَصِحَّ إسْلَامُهُ , بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ رِدَّتَهُ لَا تَصِحُّ , فَإِنَّ مَنْ لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ , لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ , كَالطِّفْلِ وَالْمَعْتُوهِ .
( 7120 ) فَصْلٌ : وَلَا تَصِحُّ رِدَّةُ الْمَجْنُونِ وَلَا إسْلَامُهُ ;
لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لَهُ . وَإِنْ ارْتَدَّ فِي صِحَّتِهِ , ثُمَّ جُنَّ , لَمْ يُقْتَلْ فِي حَالِ جُنُونِهِ ; لِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الرِّدَّةِ , وَالْمَجْنُونُ لَا يُوصَفُ بِالْإِصْرَارِ , وَلَا يُمْكِنُ اسْتِتَابَتُهُ . وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَجُنَّ قُتِلَ ; لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ , وَهَا هُنَا يَسْقُطُ بِرُجُوعِهِ , وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا يَسْقُطُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ , فَنَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا أَنْ يُجَنَّ الْمُسْتَحِقُّ لِلْقِصَاصِ , فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي حَالَ جُنُونِهِ .
( 7121 ) فَصْلٌ : وَمَنْ أَصَابَ حَدًّا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ , أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّهُ .(2/191)
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ , سَوَاءٌ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فِي رِدَّتِهِ , أَوْ لَمْ يَلْحَقْ بِهَا . وَقَالَ قَتَادَةُ , فِي مُسْلِمٍ أَحْدَثَ حَدَثًا , ثُمَّ لَحِقَ بِالرُّومِ , ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِ : إنْ كَانَ ارْتَدَّ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ارْتَدَّ , أُقِيمَ عَلَيْهِ . وَنَحْوَ هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَالثَّوْرِيُّ , إلَّا حُقُوقَ النَّاسِ ; لِأَنَّ رِدَّتَهُ أَحْبَطَتْ عَمَلَهُ , فَأَسْقَطَتْ مَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى , كَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَالِ شِرْكِهِ , وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ . وَلَنَا , أَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ , فَلَمْ يَسْقُطْ بِرِدَّتِهِ , كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . وَفَارَقَ مَا فَعَلَهُ فِي شِرْكِهِ , فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ } . فَالْمُرَادُ بِهِ مَا فَعَلَهُ فِي كُفْرِهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ مَا قَبْلَ رِدَّتِهِ , أَفْضَى إلَى كَوْنِ الرِّدَّةِ - الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ - مُكَفِّرَةً لِلذُّنُوبِ , وَأَنَّ مَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ وَلَزِمَتْهُ حُدُودٌ يَكْفُرُ ثُمَّ يُسْلِمُ فَتُكَفَّرُ ذُنُوبُهُ , وَتَسْقُطُ حُدُودُهُ .
تصرفات المرتد
( 7122 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا فَعَلَهُ فِي رِدَّتِهِ , فَقَدْ نَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ , قَالَ : سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَطَعَ الطَّرِيقَ , وَقَتَلَ النَّفْسَ , ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ , فَأَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ . فَقَالَ : تُقَامُ فِيهِ الْحُدُودُ وَيُقْتَصُّ مِنْهُ . وَسَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ ارْتَدَّ فَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ , فَقَتَلَ بِهَا مُسْلِمًا , ثُمَّ رَجَعَ تَائِبًا , وَقَدْ أَسْلَمَ , فَأَخَذَهُ وَلِيُّهُ , يَكُونُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ؟ فَقَالَ : قَدْ زَالَ عَنْهُ الْحُكْمُ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا قَتَلَ وَهُوَ مُشْرِكٌ , وَكَذَلِكَ إنْ سَرَقَ وَهُوَ مُشْرِكٌ . ثُمَّ تَوَقَّفَ بَعْدَ ذَلِكَ . وَقَالَ : لَا أَقُولُ فِي هَذَا شَيْئًا . وَقَالَ الْقَاضِي : مَا أَصَابَ فِي رِدَّتِهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ جُرْحٍ , فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي مَنَعَةٍ وَجَمَاعَةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ ; لِأَنَّهُ الْتَزَمَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ بِإِقْرَارِهِ , فَلَمْ يَسْقُطْ بِجَحْدِهِ , كَمَا لَا يَسْقُطُ مَا الْتَزَمَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِجَحْدِهِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ كَوْنِهِ فِي جَمَاعَةٍ مُمْتَنِعَةٍ , لَا يَضْمَنُهُ ; لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا , وَمَا فَعَلَهُ قَبْلَ هَذَا , أُخِذَ بِهِ , إذَا كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ , كَالْجِنَايَةِ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ ; لِأَنَّهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , فَلَزِمَهُ حُكْمُ جِنَايَتِهِ , كَالذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ . وَأَمَّا إنْ ارْتَكَبَ حَدًّا خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى , كَالزِّنَى , وَشُرْبِ الْخَمْرِ , وَالسَّرِقَةِ , فَإِنَّهُ إنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ , سَقَطَ مَا سِوَى الْقَتْلِ مِنْ الْحُدُودِ ; لِأَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ مَعَ الْقَتْلِ حَدٌّ , اُكْتُفِيَ بِالْقَتْلِ , وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ , أُخِذَ بِحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ , فَأُخِذَ بِهِمَا , كَالذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ . وَأَمَّا حَدُّ الْخَمْرِ , فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَافِرٌ , فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْخَمْرِ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ ; لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ رِدَّتِهِ , وَهَذَا مِنْ أَحْكَامِهِ , فَلَمْ يَسْقُطْ بِجَحْدِهِ بَعْدَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 7123 ) فَصْلٌ : وَمَنْ ادَّعَى النُّبُوَّةَ , أَوْ صَدَّقَ مَنْ ادَّعَاهُ , فَقَدْ ارْتَدَّ ;
لِأَنَّ مُسَيْلِمَةَ لَمَّا ادَّعَى النُّبُوَّةَ , فَصَدَّقَهُ قَوْمُهُ , صَارُوا بِذَلِكَ مُرْتَدِّينَ , وَكَذَلِكَ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ وَمُصَدِّقُوهُ . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { : لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ كَذَّابُونَ , كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ . }
( 7124 ) فَصْلٌ : وَمَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى , كَفَرَ , سَوَاءٌ كَانَ مَازِحًا أَوْ جَادًّا . وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَهْزَأَ بِاَللَّهِ تَعَالَى , أَوْ بِآيَاتِهِ أَوْ بِرُسُلِهِ , أَوْ كُتُبِهِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } . وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْتَفَى مِنْ الْهَازِئِ بِذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ , حَتَّى يُؤَدَّبَ أَدَبًا يَزْجُرُهُ عَنْ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُكْتَفَ مِمَّنْ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالتَّوْبَةِ فَمِمَّنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْلَى .
( 7125 ) فَصْلٌ : فِي(حكم) السِّحْرِ :(2/192)
وَهُوَ عُقَدٌ وَرُقًى وَكَلَامٌ يَتَكَلَّمُ بِهِ , أَوْ يَكْتُبُهُ , أَوْ يَعْمَلُ شَيْئًا فِي بَدَنِ الْمَسْحُورِ أَوْ قَلْبِهِ , أَوْ عَقْلِهِ , مِنْ غَيْر مُبَاشَرَةٍ لَهُ . وَلَهُ حَقِيقَةٌ , فَمِنْهُ مَا يَقْتُلُ , وَمَا يُمْرِضُ , وَيَأْخُذُ الرَّجُلَ عَنْ امْرَأَتِهِ فَيَمْنَعُهُ وَطْأَهَا , وَمِنْهُ مَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ , وَمَا يُبَغِّضُ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ , أَوْ يُحَبِّبُ بَيْنَ اثْنَيْنِ . وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ . وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إلَى أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ , إنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } . وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : إنْ كَانَ شَيْئًا يَصِلُ إلَى بَدَنِ الْمَسْحُورِ , كَدُخَانٍ وَنَحْوِهِ , جَازَ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ ذَلِكَ , فَأَمَّا أَنْ يَحْصُلَ الْمَرَضُ وَالْمَوْتُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِلَ إلَى بَدَنِهِ شَيْءٌ , فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ , لَبَطَلَتْ مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْرِقُ الْعَادَاتِ , فَإِذَا جَازَ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ , بَطَلَتْ مُعْجِزَاتُهُمْ وَأَدِلَّتُهُمْ . وَلَنَا , قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } يَعْنِي السَّوَاحِرَ اللَّاتِي يَعْقِدْنَ فِي سِحْرِهِنَّ , وَيَنْفُثْنَ عَلَيْهِ , وَلَوْلَا أَنَّ السِّحْرَ لَهُ حَقِيقَةٌ , لَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } . إلَى قَوْلِهِ : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } . وَرَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُحِرَ , حَتَّى إنَّهُ لَيُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا ذَاتَ يَوْمٍ : أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ ؟ أَنَّهُ أَتَانِي مَلَكَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي , وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ , فَقَالَ : مَا وَجَعُ الرَّجُلِ ؟ قَالَ : مَطْبُوبٌ قَالَ : مَنْ طَبَّهُ ؟ قَالَ : لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ , فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ , فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانِ . } ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ , وَغَيْرُهُ . جُفُّ الطَّلْعَةِ : وِعَاؤُهَا . وَالْمُشَاطَةُ : الشَّعَرُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ شَعَرِ الرَّأْسِ أَوْ غَيْرِهِ إذَا مُشِطَ . فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُمْ سِحْرًا . وَقَدْ اُشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ وُجُودُ عَقْدِ الرَّجُلِ عَنْ امْرَأَتِهِ حِينَ يَتَزَوَّجُهَا فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إتْيَانِهَا , وَحَلُّ عَقْدِهِ , فَيَقْدِرُ عَلَيْهَا بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْهَا , حَتَّى صَارَ مُتَوَاتِرًا لَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ . وَرُوِيَ مِنْ أَخْبَارِ السَّحَرَةِ مَا لَا يَكَادُ يُمْكِنُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ فِيهِ . وَأَمَّا إبْطَالُ الْمُعْجِزَاتِ , فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا ; لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ مَا يَأْتِي بِهِ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام , وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى أَنْ تَسْعَى الْعِصِيُّ وَالْحِبَالُ . إذَا ثَبَتَ هَذَا , فَإِنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ وَتَعْلِيمَهُ حَرَامٌ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ . قَالَ أَصْحَابُنَا : وَيُكَفَّرُ السَّاحِرُ بِتَعَلُّمِهِ وَفِعْلِهِ , سَوَاءٌ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ أَوْ إبَاحَتَهُ . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ , فَإِنَّ حَنْبَلًا رُوِيَ عَنْهُ , قَالَ : قَالَ عَمِّي فِي الْعَرَّافِ وَالْكَاهِنِ وَالسَّاحِرِ : أَرَى أَنْ يُسْتَتَابَ مِنْ هَذِهِ الْأَفَاعِيلِ كُلِّهَا , فَإِنَّهُ عِنْدِي فِي مَعْنَى الْمُرْتَدِّ , فَإِنْ تَابَ وَرَاجَعَ يَعْنِي يُخَلَّى سَبِيلُهُ . قُلْت لَهُ : يُقْتَلُ ؟ قَالَ : لَا , يُحْبَسُ , لَعَلَّهُ يَرْجِعُ . قُلْت لَهُ : لِمَ لَا تَقْتُلُهُ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ يُصَلِّي , لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيَرْجِعُ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُكَفِّرْهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَفَّرَهُ لَقَتَلَهُ . وَقَوْلُهُ فِي مَعْنَى الْمُرْتَدِّ . يَعْنِي الِاسْتِتَابَةَ . وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : إنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَفْعَلُ لَهُ مَا يَشَاءُ , كُفِّرَ , وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ تَخْيِيلٌ لَمْ يُكَفَّرْ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ اعْتَقَدَ مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ , مِثْلَ التَّقَرُّبِ إلَى الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ , وَأَنَّهَا تَفْعَلُ مَا يَلْتَمِسُ , أَوْ اعْتَقَدَ حِلَّ السِّحْرِ , كُفِّرَ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَطَقَ بِتَحْرِيمِهِ , وَثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ , وَإِلَّا فُسِّقَ وَلَمْ يُكَفَّرْ ; لِأَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها بَاعَتْ مُدَبَّرَةً لَهَا سَحَرَتْهَا , بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَلَوْ كُفِّرَتْ لَصَارَتْ مُرْتَدَّةً يَجِبُ قَتْلُهَا , وَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهَا , وَلِأَنَّهُ شَيْءٌ يَضُرُّ بِالنَّاسِ , فَلَمْ يُكَفَّرْ بِمُجَرَّدِهِ(2/193)
كَأَذَاهُمْ . وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } . إلَى قَوْلِهِ : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } . أَيْ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ , أَيْ وَمَا كَانَ سَاحِرًا كَفَرَ بِسِحْرِهِ . وَقَوْلُهُمَا : إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ . أَيْ لَا تَتَعَلَّمْهُ فَتَكْفُرَ بِذَلِكَ , وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ , عَنْ عَائِشَةَ , أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْهَا , فَجَعَلَتْ تَبْكِي بُكَاءً شَدِيدًا , وَقَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ , إنَّ عَجُوزًا ذَهَبَتْ بِي إلَى هَارُوتَ وَمَارُوتَ . فَقُلْت : عَلِّمَانِي السِّحْرَ . فَقَالَا : اتَّقِي اللَّهَ وَلَا تَكْفُرِي , فَإِنَّكِ عَلَى رَأْسِ أَمْرِكِ . فَقُلْت : عَلِّمَانِي السِّحْرَ . فَقَالَا : اذْهَبِي إلَى ذَلِكَ التَّنُّورِ , فَبُولِي فِيهِ . فَفَعَلْتُ , فَرَأَيْتُ كَأَنَّ فَارِسًا مُقَنَّعًا فِي الْحَدِيدِ خَرَجَ مِنِّي حَتَّى طَارَ , فَغَابَ فِي السَّمَاءِ , فَرَجَعْتُ إلَيْهِمَا , فَأَخْبَرْتُهُمَا , فَقَالَا : ذَلِكَ إيمَانُكِ . فَذَكَرَتْ بَاقِيَ الْقِصَّةِ إلَى أَنْ قَالَتْ : وَاَللَّهِ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا صَنَعْتُ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا , وَلَا أَصْنَعُهُ أَبَدًا فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ : وَرَأَيْتهَا تَبْكِي بُكَاءً شَدِيدًا , فَطَافَتْ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ - تَسْأَلُهُمْ , هَلْ لَهَا مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَمَا أَفْتَاهَا أَحَدٌ , إلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهَا : إنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَبَوَيْكِ حَيًّا , فَبِرِّيهِ , وَأَكْثِرِي مِنْ عَمَلِ الْبِرِّ مَا اسْتَطَعْتِ . وَقَوْلُ عَائِشَةَ قَدْ خَالَفَهَا فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه السَّاحِرُ كَافِرٌ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُدَبَّرَةَ تَابَتْ فَسَقَطَ عَنْهَا الْقَتْلُ وَالْكُفْرُ بِتَوْبَتِهَا . وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا سَحَرَتْهَا , بِمَعْنَى أَنَّهَا ذَهَبَتْ إلَى سَاحِرٍ سَحَرَ لَهَا .
( 7126 ) فَصْلٌ : وَحَدُّ السَّاحِرِ الْقَتْلُ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ , وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ , وَابْنِ عُمَرَ , وَحَفْصَةَ , وَجُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , وَجُنْدُبِ بْنِ كَعْبٍ وَقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ , وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَلَمْ يَرَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الْقَتْلَ بِمُجَرَّدِ السِّحْرِ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ , وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ , وَوَجْهُ ذَلِكَ , أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها , بَاعَتْ مُدَبَّرَةً سَحَرَتْهَا , وَلَوْ وَجَبَ قَتْلُهَا لَمَا حَلَّ بَيْعُهَا , وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ; كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ أَوْ زِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ , أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ } . وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ , فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحِلَّ دَمُهُ . وَلَنَا , مَا رَوَى جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { : حَدُّ السَّاحِرِ , ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ . } قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : رَوَاهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ , وَهُوَ ضَعِيفٌ . , وَرَوَى سَعِيدٌ , وَأَبُو دَاوُد فِي " كِتَابَيْهِمَا " , عَنْ بَجَالَةَ قَالَ : كُنْت كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ , إذْ جَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ : اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ . فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ فِي يَوْمٍ , وَهَذَا اُشْتُهِرَ فَلَمْ يُنْكَرْ , فَكَانَ إجْمَاعًا , وَقَتَلَتْ حَفْصَةُ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا . وَقَتَلَ جُنْدُبُ بْنُ كَعْبٍ سَاحِرًا كَانَ يَسْحَرُ بَيْنَ يَدَيْ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ . وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ فَيُقْتَلُ ; لِلْخَبَرِ الَّذِي رَوَوْهُ .
( 7127 ) فَصْلٌ : وَهَلْ يُسْتَتَابُ السَّاحِرُ ؟(2/194)
فِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا , لَا يُسْتَتَابُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ , فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ اسْتَتَابَ سَاحِرًا , وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ , عَنْ عَائِشَةَ , أَنَّ السَّاحِرَةَ سَأَلَتْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ , هَلْ لَهَا مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَمَا أَفْتَاهَا أَحَدٌ . وَلِأَنَّ السِّحْرَ مَعْنًى فِي قَلْبِهِ , لَا يَزُولُ بِالتَّوْبَةِ , فَيُشْبِهُ مَنْ لَمْ يَتُبْ , وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ , يُسْتَتَابُ , فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَعْظَمَ مِنْ الشِّرْكِ , وَالْمُشْرِكُ يُسْتَتَابُ , وَمَعْرِفَتُهُ السِّحْرَ لَا تَمْنَعُ قَبُولَ تَوْبَتِهِ , فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبِلَ تَوْبَةَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ وَجَعَلَهُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فِي سَاعَةٍ , وَلِأَنَّ السَّاحِرَ لَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ صَحَّ إسْلَامُهُ وَتَوْبَتُهُ , فَإِذَا صَحَّتْ التَّوْبَةُ مِنْهُمَا صَحَّتْ مِنْ أَحَدِهِمَا , كَالْكُفْرِ , وَلِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْقَتْلَ إنَّمَا هُوَ بِعَمَلِهِ بِالسِّحْرِ , لَا بِعِلْمِهِ , بِدَلِيلِ السَّاحِرِ إذَا أَسْلَمَ , وَالْعَمَلُ بِهِ يُمْكِنُ التَّوْبَةُ مِنْهُ , وَكَذَلِكَ اعْتِقَادُ مَا يَكْفُرُ بِاعْتِقَادِهِ , يُمْكِنُ التَّوْبَةُ مِنْهُ كَالشِّرْكِ , وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ التَّوْبَةِ فِي الدُّنْيَا , مِنْ سُقُوطِ الْقَتْلِ وَنَحْوِهِ , فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى , وَسُقُوطِ عُقُوبَةِ الدَّارِ الْآخِرَةِ عَنْهُ , فَتَصِحُّ , فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَسُدَّ بَابَ التَّوْبَةِ عَنْ أَحَدٍ , مِنْ خَلْقِهِ , وَمَنْ تَابَ إلَى اللَّهِ قَبِلَ تَوْبَتَهُ , لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
( 7128 ) فَصْلٌ : وَالسِّحْرُ الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمَهُ . هُوَ الَّذِي يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ سِحْرًا , مِثْلُ فِعْلِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ , حِينَ سَحَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ .
وَرَوَيْنَا فِي مَغَازِي الْأُمَوِيِّ أَنَّ النَّجَاشِيَّ دَعَا السَّوَاحِرَ , فَنَفَخْنَ فِي إحْلِيلِ عُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ , فَهَامَ مَعَ الْوَحْشِ , فَلَمْ يَزَلْ مَعَهَا إلَى إمَارَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَأَمْسَكَهُ إنْسَانٌ , فَقَالَ : خَلِّنِي وَإِلَّا مِتُّ , فَلَمْ يُخَلِّهِ , فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ . وَبَلَغَنَا أَنَّ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ أَخَذَ سَاحِرَةً , فَجَاءَ زَوْجُهَا كَأَنَّهُ مُحْتَرِقٌ , فَقَالَ : قُولُوا لَهَا تَحُلُّ عَنِّي . فَقَالَتْ : ائْتُونِي بِخُيُوطٍ وَبَابٍ . فَأَتَوْهَا بِهِ , فَجَلَسَتْ عَلَى الْبَابِ , حِينَ أَتَوْهَا بِهِ وَجَعَلَتْ تَعْقِدُ , وَطَارَ بِهَا الْبَابُ , فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا . فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ , مِثْلُ أَنْ يَعْقِدَ الرَّجُلَ الْمُتَزَوِّجَ , فَلَا يُطِيقَ وَطْءَ زَوْجَتِهِ , هُوَ السِّحْرُ الْمُخْتَلَفُ فِي حُكْمِ صَاحِبِهِ , فَأَمَّا الَّذِي يُعَزِّمُ عَلَى الْمَصْرُوعِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَجْمَعُ الْجِنَّ , وَيَأْمُرُهَا فَتُطِيعُهُ , فَهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ ظَاهِرًا . وَذَكَرَهُ الْقَاضِي , وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي جُمْلَةِ السَّحَرَةِ . وَأَمَّا مَنْ يَحُلُّ السِّحْرَ , فَإِنْ كَانَ بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ , أَوْ شَيْءٍ مِنْ الذِّكْرِ وَالْإِقْسَامِ وَالْكَلَامِ الَّذِي لَا بَأْسَ بِهِ , فَلَا بَأْسَ بِهِ , وَإِنْ كَانَ بِشَيْءٍ مِنْ السِّحْرِ , فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْهُ . قَالَ الْأَثْرَمُ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَحُلُّ السِّحْرَ , فَقَالَ : قَدْ رَخَّصَ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ . قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : إنَّهُ يَجْعَلُ الطِّنْجِيرَ مَاءً , وَيَغِيبُ فِيهِ , وَيَعْمَلُ كَذَا , فَنَفَضَ يَدَهُ كَالْمُنْكِرِ , وَقَالَ : مَا أَدْرِي مَا هَذَا ؟ قِيلَ لَهُ : فَتَرَى أَنْ يُؤْتَى مِثْلُ هَذَا يَحُلُّ السِّحْرَ ؟ فَقَالَ : مَا أَدْرِي مَا هَذَا ؟ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ , أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ يُعَذِّبُهَا السَّحَرَةُ , فَقَالَ رَجُلٌ : أَخُطُّ خَطًّا عَلَيْهَا , وَأَغْرِزُ السِّكِّينَ عِنْدَ مَجْمَعِ الْخَطِّ , وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ . فَقَالَ مُحَمَّدُ : مَا أَعْلَمُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَأْسًا عَلَى حَالٍ , وَلَا أَدْرِي مَا الْخَطُّ وَالسِّكِّينُ ؟ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الرَّجُلِ يُؤْخَذُ عَنْ امْرَأَتِهِ , فَيَلْتَمِسُ مَنْ يُدَاوِيهِ , فَقَالَ : إنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَمَّا يَضُرُّ , وَلَمْ يَنْهَ عَمَّا يَنْفَعُ . وَقَالَ أَيْضًا : إنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَنْفَعَ أَخَاك فَافْعَلْ . فَهَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعَزِّمَ وَنَحْوَهُ , لَمْ يَدْخُلُوا فِي حُكْمِ السَّحَرَةِ ; وَلِأَنَّهُمْ لَا يُسَمَّوْنَ بِهِ , وَهُوَ مِمَّا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ .(2/195)
( 7129 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْكَاهِنُ الَّذِي لَهُ رَئِيٌّ مِنْ الْجِنِّ , تَأْتِيه بِالْأَخْبَارِ , وَالْعَرَّافُ الَّذِي يَحْدُسُ وَيَتَخَرَّصُ , فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ , فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ , فِي الْعَرَّافِ وَالْكَاهِنِ وَالسَّاحِرِ : أَرَى أَنْ يُسْتَتَابَ مِنْ هَذِهِ الْأَفَاعِيلِ . قِيلَ لَهُ يُقْتَلُ ؟ قَالَ : لَا , يُحْبَسُ , لَعَلَّهُ يَرْجِعُ . قَالَ : وَالْعِرَافَةُ طَرَفٌ مِنْ السِّحْرِ , وَالسَّاحِرُ أَخْبَثُ , لِأَنَّ السِّحْرَ شُعْبَةٌ مِنْ الْكُفْرِ . وَقَالَ : السَّاحِرُ وَالْكَاهِنُ حُكْمُهُمَا الْقَتْلُ , أَوْ الْحَبْسُ حَتَّى يَتُوبَا ; لِأَنَّهُمَا يَلْبِسَانِ أَمْرَهُمَا , وَحَدِيثُ عُمَرَ اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَكَاهِنٍ . وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ رِوَايَتَانِ ; إحْدَاهُمَا , أَنَّهُ يُقْتَلُ إذَا لَمْ يَتُبْ . وَالثَّانِيَةُ , لَا يَقْتُلُ ; لِأَنَّ حُكْمَهُ أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ السَّاحِرِ , وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ , فَهَذَا بِدَرْءِ الْقَتْلِ عَنْهُ أَوْلَى .
( 7130 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ , فَلَا يُقْتَلُ لِسِحْرِهِ , إلَّا أَنْ يَقْتُلَ بِهِ
- وَهُوَ مِمَّا يُقْتَلُ بِهِ غَالِبًا - فَيُقْتَلَ قِصَاصًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُقْتَلُ ; لِعُمُومِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَخْبَارِ , وَلِأَنَّهُ جِنَايَةٌ أَوْجَبَتْ قَتْلَ الْمُسْلِمِ , فَأَوْجَبَتْ قَتْلَ الذِّمِّيِّ كَالْقَتْلِ . وَلَنَا , { أَنَّ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ سَحَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَقْتُلْهُ } . وَلِأَنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ مِنْ سِحْرِهِ , وَلَا يُقْتَلُ بِهِ , وَالْأَخْبَارُ وَرَدَتْ فِي سَاحِرِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُ يَكْفُرُ بِسِحْرِهِ , وَهَذَا كَافِرٌ أَصْلِيٌّ . وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِاعْتِقَادِ الْكُفْرِ , وَالْمُتَكَلِّمِ بِهِ , وَيَنْتَقِضُ بِالزِّنَى مِنْ الْمُحْصَنِ ; فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ الذِّمِّيُّ عِنْدَهُمْ , وَيُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
======================
رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
انقسام المسلمين إلى مسلم طائع ومسلم فاسق ومنافق(1)
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 149)(2/196)
وَبِتَحَقُّقِ " هَذَا الْمَقَامِ " يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَيُعْلَمُ أَنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ قِسْمًا لَيْسَ هُوَ مُنَافِقًا مَحْضًا فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . وَلَا مِنْ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } فَلَا هُمْ مُنَافِقُونَ وَلَا هُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الصَّادِقِينَ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَلَا مِنْ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا عِقَابٍ . بَلْ لَهُ طَاعَاتٌ وَمَعَاصٍ وَحَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ وَمَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَا يَخْلُدُ مَعَهُ فِي النَّارِ وَلَهُ مِنْ الْكَبَائِرِ مَا يَسْتَوْجِبُ دُخُولَ النَّارِ . وَهَذَا الْقِسْمُ قَدْ يُسَمِّيه بَعْضُ النَّاسِ : الْفَاسِقُ الملي وَهَذَا مِمَّا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي اسْمِهِ وَحُكْمِهِ . وَالْخِلَافُ فِيهِ أَوَّلُ خِلَافٍ ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ فِي مَسَائِلِ " أُصُولِ الدِّينِ " . فَنَقُولُ : لَمَّا قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عفان وَسَارَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى الْعِرَاقِ وَحَصَلَ بَيْنَ الْأُمَّةِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ ثُمَّ يَوْمَ صفين مَا هُوَ مَشْهُورٌ : خَرَجَتْ ( الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدّ أَخْبَرَ بِهِمْ وَذَكَرَ حُكْمَهُمْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ وَهَذِهِ الْعَشَرَةُ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مُوَافَقَةً لِأَحْمَدَ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْهَا عِدَّةَ أَوْجُهٍ وَرَوَى أَحَادِيثَهُمْ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ . وَمِنْ أَصَحِّ حَدِيثِهِمْ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري فَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ : إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَوَاَللَّهِ لَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ وَإِنْ حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةِ فِي أَدَمٍ مَقْرُوضٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا فَقَالَ : فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كُنَّا أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلَاءِ قَالَ : فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً قَالَ : فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاشِزُ الْجَبْهَةِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ مُشَمِّرُ الْإِزَارِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ فَقَالَ : وَيْلَك أَوَلَسْت أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ قَالَ : ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ ؟ فَقَالَ : لَا : لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي قَالَ خَالِدٌ : وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي لَمْ أومر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ ؛ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ قَالَ ثُمَّ نَظَرَ إلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ فَقَالَ : إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضئضئ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ قَالَ : أَظُنُّهُ قَالَ : لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنهُمْ قَتْلَ عَادٍ } . اللَّفْظُ لِمُسْلِمِ . وَلِمُسْلِمِ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ قَوْمًا يَكُونُونَ فِي أُمَّتِهِ يَخْرُجُونَ فِي فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ ثُمَّ قَالَ شَرُّ الْخَلْقِ أَوْ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ } قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ وَفِي لَفْظٍ لَهُ : { تَقْتُلُهُمْ أَقْرَبُ الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ } وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ أَبِي(2/197)
بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ : إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } فَبَيَّنَ أَنَّ كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ كَانَتْ مُؤْمِنَةً وَأَنَّ اصْطِلَاحَ الطَّائِفَتَيْنِ كَمَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ كَانَ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اقْتِتَالِهِمَا وَأَنَّ اقْتِتَالَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ فَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُهُ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَنَّ قِتَالَ الْخَوَارِجِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ . وَهَؤُلَاءِ الْخَوَارِجُ لَهُمْ أَسْمَاءٌ يُقَالُ لَهُمْ : " الحرورية " لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا بِمَكَانِ يُقَالُ لَهُ حَرُورَاءُ وَيُقَالُ لَهُمْ ( أَهْلُ النهروان : لِأَنَّ عَلِيًّا قَاتَلَهُمْ هُنَاكَ وَمِنْ أَصْنَافِهِمْ " الإباضية " أَتْبَاعُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إبَاضٍ و " الأزارقة " أَتْبَاعُ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ و " النَّجَدَاتُ " أَصْحَابُ نَجْدَةَ الحروري . وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ كَفَّرَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِالذُّنُوبِ بَلْ بِمَا يَرَوْنَهُ هُمْ مِنْ الذُّنُوبِ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَلِكَ فَكَانُوا كَمَا نَعَتَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ " وَكَفَّرُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانَ بْنَ عفان وَمَنْ وَالَاهُمَا وَقَتَلُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مُسْتَحِلِّينَ لِقَتْلِهِ قَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ المرادي مِنْهُمْ وَكَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْخَوَارِجِ مُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ لَكِنْ كَانُوا جُهَّالًا فَارَقُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ ؛ فَقَالَ هَؤُلَاءِ : مَا النَّاسُ إلَّا مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ ؛ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ فَعَلَ جَمِيعَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرَكَ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ ؛ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ ؛ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ . ثُمَّ جَعَلُوا كُلَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ كَذَلِكَ فَقَالُوا : إنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَنَحْوَهُمَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَظَلَمُوا فَصَارُوا كُفَّارًا . وَمَذْهَبُ هَؤُلَاءِ بَاطِلٌ بِدَلَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ دُونَ قَتْلِهِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا لَوَجَبَ قَتْلُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . وَقَالَ { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : كُفْرٍ بَعْدَ إسْلَامٍ وَزِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ يُقْتَلُ بِهَا } وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجْلَدَ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ لَأَمَرَ بِقَتْلِهِمَا ، وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُجْلَدَ قَاذِفُ الْمُحْصَنَةِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَوْ كَانَ كَافِرًا لَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِدُ شَارِبَ الْخَمْرِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ : { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَكَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ إلَيْهِ جَلَدَهُ فَأُتِيَ بِهِ إلَيْهِ مَرَّةً فَلَعَنَهُ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } فَنَهَى عَنْ لَعْنِهِ بِعَيْنِهِ وَشَهِدَ لَهُ بِحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ لَعَنَ شَارِبَ الْخَمْرِ عُمُومًا . وَهَذَا مِنْ أَجْوَدِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِقَتْلِ الشَّارِبِ فِي " الثَّالِثَةِ " و " الرَّابِعَةِ " مَنْسُوخٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَتَى بِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَقَدْ أَعْيَا الْأَئِمَّةَ الْكِبَارَ جَوَابُ هَذَا الْحَدِيثِ ؛ وَلَكِنَّ نَسْخَ الْوُجُوبِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : يَجُوزُ قَتْلُهُ إذَا رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ مَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ إلَى الثَّمَانِينَ لَيْسَ حَدًّا مُقَدَّرًا فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ بَلْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ إلَى الثَّمَانِينَ تَرْجِعُ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فَيَفْعَلُهَا عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ وَكَذَلِكَ صِفَةُ الضَّرْبِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ جَلْدُ الشَّارِبِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ بِخِلَافِ الزَّانِي وَالْقَاذِفِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : قَتْلُهُ فِي الرَّابِعَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ . و " أَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَالَ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ(2/198)
إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } . فَقَدْ وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْأُخُوَّةِ وَأَمَرَنَا بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ . فَلَمَّا شَاعَ فِي الْأُمَّةِ أَمْرُ " الْخَوَارِجِ " تَكَلَّمَتْ الصَّحَابَةُ فِيهِمْ وَرَوَوْا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحَادِيثَ فِيهِمْ وَبَيَّنُوا مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَظَهَرَتْ بِدْعَتُهُمْ فِي الْعَامَّةِ ؛
============
إذا عرف تفسير القرآن والسنة من قبل الشارع لا يجوز العدول عنه(1)
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 146)(2/199)
فَصْلٌ وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ إذَا عُرِفَ تَفْسِيرُهُ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحْتَجْ فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَإِنَّهُ قَدْ عُرِفَ تَفْسِيرُهُ وَمَا أُرِيدَ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحْتَجْ فِي ذَلِكَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَقْوَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ " الْأَسْمَاءُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " نَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِاللُّغَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالْعُرْفِ كَلَفْظِ الْقَبْضِ وَلَفْظِ الْمَعْرُوفِ فِي قَوْلِهِ { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ اعْتِصَامُهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَكَانَ مِنْ الْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ قَطُّ أَنْ يُعَارِضَ الْقُرْآنَ لَا بِرَأْيِهِ وَلَا ذَوْقِهِ وَلَا مَعْقُولِهِ وَلَا قِيَاسِهِ وَلَا وَجْدِهِ فَإِنَّهُمْ ثَبَتَ عَنْهُمْ بِالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّاتِ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَأَنَّ الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ : فِيهِ نَبَأُ مَنْ قَبْلَهُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَهُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَهُمْ هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسُنُ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُزِيغَهُ إلَى هَوَاهُ وَلَا يُحَرِّفَ بِهِ لِسَانَهُ وَلَا يَخْلَقَ عَنْ كَثْرَةِ التَّرْدَادِ فَإِذَا رُدِّدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَمْ يَخْلَقْ وَلَمْ يُمَلَّ كَغَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا تَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ وَمَنْ دَعَا إلَيْهِ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . فَكَانَ الْقُرْآنُ هُوَ الْإِمَامَ الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ عَارَضَ الْقُرْآنَ بِعَقْلِ وَرَأْيٍ وَقِيَاسٍ وَلَا بِذَوْقِ وَوَجْدٍ وَمُكَاشَفَةٍ وَلَا قَالَ قَطُّ قَدْ تَعَارَضَ فِي هَذَا الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ : فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ . وَالنَّقْلُ - يَعْنِي الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - إمَّا أَنْ يُفَوَّضَ وَإِمَّا أَنْ يُؤَوَّلَ . وَلَا فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ لَهُ ذَوْقًا أَوْ وَجْدًا أَوْ مُخَاطَبَةً أَوْ مُكَاشَفَةً تُخَالِفُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ حَيْثُ يَأْخُذُ الْمَلَكُ الَّذِي يَأْتِي الرَّسُولَ وَأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْدِنِ عِلْمَ التَّوْحِيدِ وَالْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ يَأْخُذُونَ عَنْ مِشْكَاتِهِ . أَوْ يَقُولَ : الْوَلِيُّ أَفْضَلُ مِنْ النَّبِيِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ مَقَالَاتِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ لَمْ تَكُنْ حَدَثَتْ بَعْدُ فِي الْمُسْلِمِينَ . وَإِنَّمَا يُعْرَفُ مِثْلُ هَذِهِ إمَّا عَنْ مَلَاحِدَةِ الْيَهُودِ أَوْ النَّصَارَى فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يُجَوِّزُ أَنَّ غَيْرَ النَّبِيِّ أَفْضَلُ مِنْ النَّبِيِّ كَمَا قَدْ يَقُولُهُ فِي الْحَوَارِيِّينَ فَإِنَّهُمْ عِنْدَهُمْ رُسُلٌ وَهُمْ يَقُولُونَ : أَفْضَلُ مِنْ داود وَسُلَيْمَانَ ؛ بَلْ وَمِنْ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَإِنْ سَمَّوْهُمْ أَنْبِيَاءَ إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ . وَلَمْ يَكُنْ السَّلَفُ يَقْبَلُونَ مُعَارَضَةَ الْآيَةِ إلَّا بِآيَةِ أُخْرَى تُفَسِّرُهَا وَتَنْسَخُهَا ؛ أَوْ بِسُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُفَسِّرُهَا . فَإِنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُبَيِّنُ الْقُرْآنَ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ وَكَانُوا يُسَمُّونَ مَا عَارَضَ الْآيَةَ نَاسِخًا لَهَا فَالنَّسْخُ عِنْدَهُمْ اسْمٌ عَامٌّ لِكُلِّ مَا يَرْفَعُ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى مَعْنًى بَاطِلٍ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَمْ يُرَدْ بِهَا وَإِنْ كَانَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ ؛ بَلْ قَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهَا وَقَدْ فَهِمَهُ مِنْهَا قَوْمٌ فَيُسَمُّونَ مَا رَفَعَ ذَلِكَ الْإِبْهَامَ وَالْإِفْهَامَ نَسْخًا [ و ] هَذِهِ التَّسْمِيَةُ لَا تُؤْخَذُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ . وَأَصْلُ ذَلِكَ [ مِنْ إلْقَاءِ ] الشَّيْطَانِ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ فَمَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ فِي الْأَذْهَانِ مِنْ ظَنِّ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى مَعْنًى لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ سَمَّى هَؤُلَاءِ مَا يَرْفَعُ ذَلِكَ الظَّنَّ نَسْخًا كَمَا سَمَّوْا قَوْلَهُ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } نَاسِخًا لِقَوْلِهِ : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } وَقَوْلَهُ : { لَا(2/200)
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } نَاسِخًا لِقَوْلِهِ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ . إذْ الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُعَارِضُهُ إلَّا قُرْآنٌ لَا رَأْيٌ وَمَعْقُولٌ وَقِيَاسٌ وَلَا ذَوْقٌ وَوَجْدٌ وَإِلْهَامٌ وَمُكَاشَفَةٌ . وَكَانَتْ الْبِدَعُ الْأُولَى مِثْلُ " بِدْعَة الْخَوَارِجِ " إنَّمَا هِيَ مِنْ سُوءِ فَهْمِهِمْ لِلْقُرْآنِ لَمْ يَقْصِدُوا مُعَارَضَتَهُ لَكِنْ فَهِمُوا مِنْهُ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ فَظَنُّوا أَنَّهُ يُوجِبُ تَكْفِيرَ أَرْبَابِ الذُّنُوبِ ؛ إذْ كَانَ الْمُؤْمِنُ هُوَ الْبَرَّ التَّقِيَّ . قَالُوا : فَمَنْ لَمْ يَكُنْ بَرًّا تَقِيًّا فَهُوَ كَافِرٌ وَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ . ثُمَّ قَالُوا : وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَمَنْ وَالَاهُمَا لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَكَانَتْ بِدْعَتُهُمْ لَهَا مُقَدِّمَتَانِ . " الْوَاحِدَةُ " أَنَّ مَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ بِعَمَلِ أَوْ بِرَأْيٍ أَخْطَأَ فِيهِ فَهُوَ كَافِرٌ . " وَالثَّانِيَةُ " أَنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَمَنْ وَالَاهُمَا كَانُوا كَذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ مِنْ تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا فَإِنَّهُ أَوَّلُ بِدْعَةٍ ظَهَرَتْ فِي الْإِسْلَامِ فَكَفَّرَ أَهْلُهَا الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي ذَمِّهِمْ وَالْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَحَّ فِيهِمْ الْحَدِيثُ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ ؛ وَلِهَذَا قَدْ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَفْرَدَ الْبُخَارِيُّ قِطْعَةً مِنْهَا وَهُمْ مَعَ هَذَا الذَّمِّ إنَّمَا قَصَدُوا اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ فَكَيْفَ بِمَنْ تَكُونُ بِدْعَتُهُ مُعَارَضَةَ الْقُرْآنِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُكَفِّرُ الْمُسْلِمِينَ كالجهمية ثُمَّ " الشِّيعَةُ " لَمَّا حَدَثُوا لَمْ يَكُنْ الَّذِي ابْتَدَعَ التَّشَيُّعَ قَصْدُهُ الدِّينُ ؛ بَلْ كَانَ غَرَضُهُ فَاسِدًا وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا فَأَصْلُ بِدْعَتِهِمْ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْذِيبِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ مِنْ الْكَذِبِ أَكْثَرُ مِمَّا يُوجَدُ فِيهِمْ بِخِلَافِ الْخَوَارِجِ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِيهِمْ مَنْ يَكْذِبُ . ( وَالشِّيعَةُ لَا يَكَادُ يُوثَقُ بِرِوَايَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ مِنْ شُيُوخِهِمْ لِكَثْرَةِ الْكَذِبِ فِيهِمْ ؛ وَلِهَذَا أَعْرَضَ عَنْهُمْ أَهْلُ الصَّحِيحِ فَلَا يَرْوِي الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَحَادِيثَ عَلِيٍّ إلَّا عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كَأَوْلَادِهِ مِثْلِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَمِثْلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَكَاتِبِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ أَوْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ مِثْلِ عُبَيْدَةَ السلماني وَالْحَارِثِ التيمي وَقَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ وَأَمْثَالِهِمْ ؛ إذْ هَؤُلَاءِ صَادِقُونَ فِيمَا يَرْوُونَهُ عَنْ عَلِيٍّ ؛ فَلِهَذَا أَخْرَجَ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ حَدِيثَهُمْ . وَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ " الْخَوَارِجُ وَالشِّيعَةُ " حَدَثُوا بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنْ وِلَايَتِهِ مُتَّفِقِينَ لَا تَنَازُعَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ حَدَثَ فِي أَوَاخِرِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ أُمُورٌ أَوْجَبَتْ نَوْعًا مِنْ التَّفَرُّقِ وَقَامَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَالظُّلْمِ فَقَتَلُوا عُثْمَانَ فَتَفَرَّقَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ وَلَمَّا اقْتَتَلَ الْمُسْلِمُونَ بصفين وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْكِيمِ حَكَمَيْنِ خَرَجَتْ الْخَوَارِجُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَفَارَقُوهُ وَفَارَقُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ إلَى مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ حَرُورَاءُ فَكَفَّ عَنْهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَ : لَكُمْ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَمْنَعَكُمْ حَقَّكُمْ مِنْ الْفَيْءِ وَلَا نَمْنَعَكُمْ الْمَسَاجِدَ إلَى أَنْ اسْتَحَلُّوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ فَقَتَلُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خباب وَأَغَارُوا عَلَى سَرْحِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَعَلِمَ عَلِيٌّ أَنَّهُمْ الطَّائِفَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ آيَتُهُمْ فِيهِمْ رَجُلٌ مُخْدَجُ الْيَدِ عَلَيْهَا بَضْعَةٌ عَلَيْهَا شَعَرَاتٌ } وَفِي رِوَايَةٍ : { يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ } فَخَطَبَ النَّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا(2/201)
سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : هُمْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَأَغَارُوا عَلَى سَرْحِ النَّاسِ فَقَاتَلَهُمْ وَوَجَدَ الْعَلَامَةَ بَعْدَ أَنْ كَادَ لَا يُوجَدُ فَسَجَدَ لِلَّهِ شُكْرًا . وَحَدَثَ فِي أَيَّامِهِ الشِّيعَةُ لَكِنْ كَانُوا مُخْتَفِينَ بِقَوْلِهِمْ لَا يُظْهِرُونَهُ لِعَلِيِّ وَشِيعَتِهِ ؛ بَلْ كَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ : " طَائِفَةٌ " تَقُولُ : إنَّهُ إلَهٌ وَهَؤُلَاءِ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ وَخَدَّ لَهُمْ أَخَادِيدَ عِنْدَ بَابِ مَسْجِدِ بَنِي كِنْدَةَ وَقِيلَ إنَّهُ أَنْشَدَ : لَمَّا رَأَيْت الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا أَجَّجْت نَارِي وَدَعَوْت قنبرا وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أُتِيَ عَلِيٌّ بِزَنَادِقَةِ فَحَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ وَلَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَذَّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَلَضَرَبْت أَعْنَاقَهُمْ لِقَوْلِهِ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أَجَّلَهُمْ ثَلَاثًا . وَالثَّانِيَةُ " السَّابَّةُ " وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ عَنْ أَبِي السَّوْدَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَطَلَبَهُ . قِيلَ : إنَّهُ طَلَبَهُ لِيَقْتُلَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ . وَالثَّالِثَةُ " الْمُفَضِّلَةُ " الَّذِينَ يُفَضِّلُونَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَتَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ وَرَوَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَاهُ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : أَبُو بَكْرٍ . قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : عُمَرُ . وَكَانَتْ الشِّيعَةُ الْأُولَى لَا يَتَنَازَعُونَ فِي تَفْضِيلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَإِنَّمَا كَانَ النِّزَاعُ فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : إنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ . فَقِيلَ لَهُ تَقُولُ هَذَا وَأَنْتَ مِنْ الشِّيعَةِ ؟ فَقَالَ : كُلُّ الشِّيعَةِ كَانُوا عَلَى هَذَا . وَهُوَ الَّذِي قَالَ هَذَا عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ أَفَنُكَذِّبُهُ فِيمَا قَالَ ؟ وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : مَنْ فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . وَمَا أَرَى يَصْعَدُ لَهُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَمَلٌ وَهُوَ كَذَلِكَ . رَوَاهُ أَبُو داود فِي سُنَنِهِ وَكَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حيي فَإِنَّ الزَّيْدِيَّةَ الصَّالِحَةَ وَهُمْ أَصْلَحُ طَوَائِفِ الزَّيْدِيَّةِ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ . وَلَكِنَّ الشِّيعَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ جَمَاعَةٌ وَلَا إمَامٌ وَلَا دَارٌ وَلَا سَيْفٌ يُقَاتِلُونَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا لِلْخَوَارِجِ تَمَيَّزُوا بِالْإِمَامِ وَالْجَمَاعَةِ وَالدَّارِ وَسَمَّوْا دَارَهُمْ دَارَ الْهِجْرَةِ وَجَعَلُوا دَارَ الْمُسْلِمِينَ دَارَ كُفْرٍ وَحَرْبٍ . وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ تَطْعَنُ بَلْ تُكَفِّرُ وُلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورُ الْخَوَارِجِ يُكَفِّرُونَ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَمَنْ تَوَلَّاهُمَا وَالرَّافِضَةُ يَلْعَنُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ تَوَلَّاهُمْ وَلَكِنَّ الْفَسَادَ الظَّاهِرَ كَانَ فِي الْخَوَارِجِ : مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَالْخُرُوجِ بِالسَّيْفِ ؛ فَلِهَذَا جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِقِتَالِهِمْ وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَمِّهِمْ وَالْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِثْلَ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ وَأَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ . وَقَدْ رُوِيَتْ أَحَادِيثُ فِي ذَمِّ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ : رَوَى بَعْضَهَا أَهْلُ السُّنَنِ كَأَبِي داود وَابْنِ ماجه وَبَعْضُ النَّاسِ يُثْبِتُهَا وَيُقَوِّيهَا وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ طَعَنَ فِيهَا وَضَعَّفَهَا وَلَكِنَّ الَّذِي ثَبَتَ فِي ذَمِّ الْقَدَرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ هُوَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ . وَأَمَّا لَفْظُ ( الرَّافِضَة فَهَذَا اللَّفْظُ أَوَّلَ مَا ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ لَمَّا خَرَجَ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ فِي خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَاتَّبَعَهُ الشِّيعَةُ فَسُئِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَتَوَلَّاهُمَا وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِمَا فَرَفَضَهُ قَوْمٌ فَقَالَ : رَفَضْتُمُونِي رَفَضْتُمُونِي فَسُمُّوا الرَّافِضَةَ فَالرَّافِضَةُ تَتَوَلَّى أَخَاهُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ وَالزَّيْدِيَّةُ يَتَوَلَّوْنَ زَيْدًا وَيُنْسَبُونَ إلَيْهِ . وَمِنْ حِينَئِذٍ انْقَسَمَتْ الشِّيعَةُ إلَى زَيْدِيَّةٍ وَرَافِضَةٍ إمَامِيَّةٍ . ثُمَّ فِي آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ حَدَثَتْ " الْقَدَرِيَّةُ "(2/202)
وَأَصْلُ بِدْعَتِهِمْ كَانَتْ مِنْ عَجْزِ عُقُولِهِمْ عَنْ الْإِيمَانِ بِقَدَرِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَكَانُوا قَدْ آمَنُوا بِدِينِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَظَنُّوا أَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَ قَبْلَ الْأَمْرِ مَنْ يُطِيعُ وَمَنْ يَعْصِي ؛ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ مَنْ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ لَمْ يَحْسُنْ مِنْهُ أَنْ يَأْمُرَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَأْمُورَ يَعْصِيهِ وَلَا يُطِيعُهُ وَظَنُّوا أَيْضًا أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ لَمْ يُحْسَنْ أَنْ يَخْلُقَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُفْسِدُ فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلُهُمْ بِإِنْكَارِ الْقَدَرِ السَّابِقِ الصَّحَابَةَ أَنْكَرُوا إنْكَارًا عَظِيمًا وَتَبَرَّءُوا مِنْهُمْ حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : أَخْبِرْ أُولَئِكَ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ مِنِّي بُرَآءُ وَاَلَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أَحَدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَذَكَرَ عَنْ أَبِيهِ حَدِيثَ جِبْرِيلَ وَهَذَا أَوَّلُ حَدِيثٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا مُخْتَصَرًا .
===============
لِلنَّاسِ فِي " الْإِسْلَامِ " و " الْإِيمَانِ " مِنْ الْكَلَامِ الْكَثِيرِ(1)
وَقَالَ الشَّيْخُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الْوَرِعُ النَّاسِكُ ؛ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَقِيَّةُ السَّلَفِ الْكِرَامِ " أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الشَّامِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
( فَصْلٌ ) : تَضَمَّنَ حَدِيثُ سُؤَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ " الْإِسْلَامِ " و " الْإِيمَانِ " و " الْإِحْسَانِ " ؛ وَجَوَابُهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ : { هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ } . فَجَعَلَ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الدِّينِ .
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 461) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 145)(2/203)
وَلِلنَّاسِ فِي " الْإِسْلَامِ " و " الْإِيمَانِ " مِنْ الْكَلَامِ الْكَثِيرِ : مُخْتَلِفِينَ تَارَةً وَمُتَّفِقِينَ أُخْرَى . مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ مَعَهُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ ؛ وَهَذَا يَكُونُ بِأَنْ تُبَيَّنَ الْأُصُولُ الْمَعْلُومَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا . ثُمَّ بِذَلِكَ يُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا ؛ فَنَقُولُ : مَا عُلِمَ [ بـ ] الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَهُوَ مِنْ الْمَنْقُولِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هُوَ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ - دِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ النَّاسَ كَانُوا عَلَى عَهْدِهِ بِالْمَدِينَةِ " ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ " : مُؤْمِنٌ ، وَكَافِرٌ مُظْهِرٌ لِلْكُفْرِ ، وَمُنَافِقٌ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ كَافِرٌ . وَلِهَذَا التَّقْسِيمِ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ذِكْرَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ فَأَنْزَلَ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ . وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ . فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَوْلُهُ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } الْآيَتَيْنِ : فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ كُفَّارًا . وَقَوْلُهُ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } . الْآيَاتُ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ ؛ إلَى أَنْ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلَيْنِ : أَحَدُهُمَا بِالنَّارِ ، وَالْآخَرُ بِالْمَاءِ ؛ كَمَا ضَرَبَ الْمَثَلَ بِهَذَيْنِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْله تَعَالَى { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } الْآيَةَ . وَأَمَّا قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَلَمْ يَكُنْ النَّاسُ إلَّا مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُنَافِقٌ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ فَكَانَ مَنْ آمَنَ آمَنَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ فَهُوَ كَافِرٌ . فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ وَصَارَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهَا عِزٌّ وَأَنْصَارٌ وَدَخَلَ جُمْهُورُ أَهْلِهَا فِي الْإِسْلَامِ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا : كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ أَقَارِبِهِمْ وَمِنْ غَيْرِ أَقَارِبِهِمْ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مُوَافَقَةً رَهْبَةً أَوْ رَغْبَةً وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ كَافِرٌ . وَكَانَ رَأْسُ هَؤُلَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي ابْنُ سلول وَقَدْ نَزَلَ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ آيَاتٌ . وَالْقُرْآنُ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَا ذَكَرَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَسُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَالْأَحْزَابِ . وَكَانَ هَؤُلَاءِ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَادِيَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } .(2/204)
وَكَانَ فِي الْمُنَافِقِينَ مَنْ هُوَ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ فِي الْأَصْلِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَسُورَةِ الْفَتْحِ وَالْقِتَالِ وَالْحَدِيدِ وَالْمُجَادَلَةِ وَالْحَشْرِ وَالْمُنَافِقِينَ . بَلْ عَامَّةُ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ : يَذْكُرُ فِيهَا الْمُنَافِقِينَ . قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا } إلَى قَوْلِهِ : { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا } الْآيَاتِ . وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ } إلَى قَوْلِهِ : { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } إلَى قَوْلِهِ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا } { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } { إلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } الْآيَاتِ . وَقَالَ : { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } { الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } { مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ } { وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي(2/205)
الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } إلَى قَوْلِهِ : { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } . وَأَمَّا سُورَةُ " بَرَاءَةٌ " فَأَكْثَرُهَا فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ وَذَمِّهِمْ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ : الْفَاضِحَةُ وَالْمُبَعْثِرَةُ وَهِيَ نَزَلَتْ عَامَ تَبُوكَ . وَكَانَتْ تَبُوكُ سَنَةَ تِسْعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَكَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ آخِرَ مَغَازِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي غَزَاهَا بِنَفْسِهِ . وَتَمَيَّزَ فِيهَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ تَمَيَّزَ . فَذَكَرَ اللَّهُ مِنْ صِفَاتِهِمْ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النُّورِ : { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الْآيَاتِ . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } { وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } وَذَكَرَ فِيهِ شَأْنَهُمْ فِي الْأَحْزَابِ . وَذَكَرَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَجُبْنِهِمْ وَهَلَعِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا } إلَى قَوْلِهِ { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلَّا قَلِيلًا } { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } { يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إلَّا قَلِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } { مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا } إلَى قَوْلِهِ : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقِتَالِ : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } إلَى مَا فِي السُّورَةِ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفَتْحِ : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا } { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ(2/206)
الْعَظِيمُ } { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } { فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ } . وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } . إلَى قَوْلِهِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ . وَقَوْلُهُ : { مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ } كَقَوْلِهِ : { مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إلَى هَؤُلَاءِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تُعِيرُ إلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } { لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ } { لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ } الْآيَةَ . وَقَدْ ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ : { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ . و ( الْمَقْصُودُ بَيَانُ كَثْرَةِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَأَوْصَافِهِمْ . و " الْمُنَافِقُونَ " هُمْ فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمُونَ وَقَدْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةَ لَا سِيَّمَا فِي آخِرِ الْأَمْرِ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ؛ لِعِزِّ الْإِسْلَامِ وَظُهُورِهِ إذْ ذَاكَ بِالْحُجَّةِ وَالسَّيْفِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } وَلِهَذَا قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ : - وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ الصَّحَابَةِ بِصِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَأَعْيَانِهِمْ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَسَرَّ إلَيْهِ عَامَ تَبُوكَ أَسْمَاءَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ بِأَعْيَانِهِمْ فَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ : هُوَ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ . وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ ؛ لِئَلَّا يَكُونَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ . قَالَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النِّفَاقُ الْيَوْمَ أَكْثَرُ مِنْهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي رِوَايَةٍ : كَانُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسِرُّونَهُ وَالْيَوْمَ يُظْهِرُونَهُ - وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْن أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ } { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } وَقَدْ كَانُوا يَشْهَدُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَغَازِيَهُ(2/207)
كَمَا شَهِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي ابْنُ سلول وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ " الْغَزْوَةَ " الَّتِي قَالَ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي : { لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } . وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَهُ قَوْمٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ بِتَصْدِيقِهِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّاسَ يَنْقَسِمُونَ فِي الْحَقِيقَةِ إلَى : " مُؤْمِنٍ " و " مُنَافِقٍ " كَافِرٍ فِي الْبَاطِنِ مَعَ كَوْنِهِ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ وَإِلَى كَافِرٍ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . وَلَمَّا كَثُرَتْ الْأَعَاجِمُ فِي الْمُسْلِمِينَ تَكَلَّمُوا بِلَفْظِ " الزِّنْدِيقِ " وَشَاعَتْ فِي لِسَانِ الْفُقَهَاءِ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي الزِّنْدِيقِ : هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ ؟ فِي الظَّاهِرِ : إذَا عُرِفَ بِالزَّنْدَقَةِ وَدُفِعَ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ قَبْلَ تَوْبَتِهِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُقْبَلُ . وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : قَبُولُهَا كَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ " الزِّنْدِيقَ " فِي عُرْفِ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ هُوَ الْمُنَافِقُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنَ غَيْرَهُ سَوَاءٌ أَبْطَنَ دِينًا مِنْ الْأَدْيَانِ : كَدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْ غَيْرِهِمْ . أَوْ كَانَ مُعَطِّلًا جَاحِدًا لِلصَّانِعِ وَالْمَعَادِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : " الزِّنْدِيقُ " هُوَ الْجَاحِدُ الْمُعَطِّلُ . وَهَذَا يُسَمَّى الزِّنْدِيقَ فِي اصْطِلَاحِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْعَامَّةِ وَنَقَلَةِ مَقَالَاتِ النَّاسِ ؛ وَلَكِنَّ الزِّنْدِيقَ الَّذِي تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ : هُوَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ هُوَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْكَافِرِ وَغَيْرِ الْكَافِرِ وَالْمُرْتَدِّ وَغَيْرِ الْمُرْتَدِّ وَمَنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ أَوْ أَسَرَّهُ . وَهَذَا الْحُكْمُ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْكُفَّارِ وَالْمُرْتَدِّينَ وَإِنْ تَفَاوَتَتْ دَرَجَاتُهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِزِيَادَةِ الْكُفْرِ كَمَا أَخْبَرَ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ : { إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } وَتَارِكُ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَرْكَانِ أَوْ مُرْتَكِبِي الْكَبَائِرِ كَمَا أَخْبَرَ بِزِيَادَةِ عَذَابِ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ } . فَهَذَا " أَصْلٌ " يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ فِي هَذَا الْبَابِ . فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي " مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ " - لِتَكْفِيرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ - لَمْ يَلْحَظُوا هَذَا الْبَابَ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْحُكْمِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ثَابِتٌ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ ؛ بَلْ هُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا عَلِمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ : قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا مُخْطِئًا جَاهِلًا ضَالًّا عَنْ بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ يَكُونُ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ . وَهُنَا " أَصْلٌ آخَرُ " وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّة وَصْفُ أَقْوَامٍ بِالْإِسْلَامِ دُونَ الْإِيمَانِ . فَقَالَ تَعَالَى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ : { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَاحِدٌ . وَعَارَضُوا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ تُوَافِقُ الْآيَةَ الْأُولَى لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَخْرَجَ مَنْ كَانَ فِيهَا مُؤْمِنًا وَأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ إلَّا أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَذَلِكَ لِأَنَّ امْرَأَةَ لُوطٍ كانت فِي أَهْلِ الْبَيْتِ الْمَوْجُودِينَ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ الْمُخْرَجِينَ الَّذِينَ نَجَوْا ؛ بَلْ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ وَكَانَتْ فِي الظَّاهِرِ مَعَ زَوْجِهَا عَلَى دِينِهِ وَفِي الْبَاطِنِ مَعَ قَوْمِهَا عَلَى دِينِهِمْ خَائِنَةً لِزَوْجِهَا تَدُلُّ قَوْمَهَا(2/208)
عَلَى أَضْيَافِهِ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا } . وَكَانَتْ خِيَانَتُهُمَا لَهُمَا فِي الدِّينِ لَا فِي الْفِرَاشِ . فَإِنَّهُ مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ ؛ إذْ " نِكَاحُ الْكَافِرَةِ " قَدْ يَجُوزُ فِي بَعْضِ الشَّرَائِعِ وَيَجُوزُ فِي شَرِيعَتِنَا نِكَاحُ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ وَهُنَّ الْكِتَابِيَّاتُ وَأَمَّا " نِكَاحُ الْبَغِيِّ " فَهُوَ : دِيَاثَةٌ . وَقَدْ صَانَ اللَّهُ النَّبِيَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ دَيُّوثًا . وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْبَغِيِّ حَتَّى تَتُوبَ .(2/209)
و ( الْمَقْصُودُ أَنَّ امْرَأَةَ لُوطٍ لَمْ تَكُنْ مُؤْمِنَةً وَلَمْ تَكُنْ مِنْ النَّاجِينَ الْمُخْرَجِينَ فَلَمْ تَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ : { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } وَكَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الْمُسْلِمِينَ وَمِمَّنْ وُجِدَ فِيهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } . وَبِهَذَا تَظْهَرُ حِكْمَةُ الْقُرْآنِ حَيْثُ ذَكَرَ الْإِيمَانَ لَمَّا أَخْبَرَ بِالْإِخْرَاجِ وَذَكَرَ الْإِسْلَامَ لَمَّا أَخْبَرَ بِالْوُجُودِ . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } فَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا . فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ فِي الْقُرْآنِ . و " أَيْضًا " فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالًا وَلَمْ يُعْطِ رَجُلًا . فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْت فُلَانًا وَتَرَكْت فُلَانًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ . فَقَالَ : أو مُسْلِمٌ ؟ قَالَ : ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْت فُلَانًا وَفُلَانًا وَتَرَكْت فُلَانًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَقَالَ أو مُسْلِمٌ ؟ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَذَكَرَ فِي تَمَامِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُعْطِي رِجَالًا وَيَدَعُ مَنْ هُوَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْهُمْ ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُمْ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ } . قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ فَأَجَابَ سَعْدًا بِجَوَابَيْنِ " أَحَدُهُمَا " : أَنَّ هَذَا الَّذِي شَهِدَتْ لَهُ بِالْإِيمَانِ قَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا . " الثَّانِي " : إنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ أُولَئِكَ فَأَنَا قَدْ أُعْطِي مَنْ هُوَ أَضْعَفُ إيمَانًا ؛ لِئَلَّا يَحْمِلَهُ الْحِرْمَانُ عَلَى الرِّدَّةِ فَيُكِبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ . وَهَذَا مِنْ إعْطَاء الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ . وَحِينَئِذٍ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَثْبَتَ لَهُمْ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الْإِسْلَامَ ؛ دُونَ الْإِيمَانِ هَلْ هُمْ الْمُنَافِقُونَ الْكُفَّارُ فِي الْبَاطِنِ ؟ أَمْ يَدْخُلُ فِيهِمْ قَوْمٌ فِيهِمْ بَعْضُ الْإِيمَانِ ؟ هَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ : بَلْ هُمْ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ اسْتَسْلَمُوا وَانْقَادُوا فِي الظَّاهِرِ وَلَمْ يَدْخُلْ إلَى قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ . وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ قَدْ يَقُولُونَ الْإِسْلَامُ الْمَقْبُولُ هُوَ الْإِيمَانُ ؛ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَسْلَمُوا ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا فَلَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ فِي الْبَاطِنِ وَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ . وَقَالُوا : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } . بَيَانُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ فَمَا لَيْسَ مِنْ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ مَقْبُولًا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَان مِنْهُ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَكُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ إذَا كَانَ مُسْلِمًا فِي الْبَاطِنِ . وَأَمَّا الْكَافِرُ الْمُنَافِقُ فِي الْبَاطِنِ فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا يُسَمَّوْنَ بِمُؤْمِنِينَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ . إلَّا عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَهُمْ الكرامية الَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ فِي الظَّاهِرِ . فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ : كَانَ مُؤْمِنًا وَإِنْ كَانَ مُكَذِّبًا فِي الْبَاطِنِ وَسَلَّمُوا أَنَّهُ مُعَذَّبٌ مُخَلَّدٌ فِي الْآخِرَةِ . فَنَازَعُوا فِي اسْمِهِ لَا فِي حُكْمِهِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْكِي عَنْهُمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِمْ . وَمَعَ هَذَا فَتَسْمِيَتُهُمْ لَهُ مُؤْمِنًا : بِدْعَةٌ ابْتَدَعُوهَا مُخَالَفَةً لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الشَّنْعَاءُ هِيَ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الكرامية دُون سَائِرِ مَقَالَاتِهِمْ . قَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : بَلْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وُصِفُوا بِالْإِسْلَامِ دُونَ الْإِيمَانِ قَدْ لَا يَكُونُونَ كُفَّارًا فِي الْبَاطِنِ بَلْ مَعَهُمْ بَعْضُ الْإِسْلَامِ الْمَقْبُولِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : الْإِسْلَامُ أَوْسَعُ مِنْ الْإِيمَانِ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا . وَيَقُولُونَ : فِي { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ - حِينَ يَسْرِقُ - وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ - حِينَ يَشْرَبُهَا - وَهُوَ مُؤْمِنٌ } إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَدَوَّرُوا لِلْإِسْلَامِ دَارَةً وَدَوَّرُوا لِلْإِيمَانِ دَارَةً أَصْغَرَ مِنْهَا فِي جَوْفِهَا وَقَالُوا : إذَا زَنَى(2/210)
خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَى الْكُفْرِ . وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } . فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } وَهَذَا الْحَرْفُ - أَيْ ( لَمَّا - يُنْفَى بِهِ مَا قَرُبَ وُجُودُهُ وَانْتُظِرَ وُجُودُهُ وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدُ . فَيَقُولُ لِمَنْ يَنْتَظِرُ غَائِبًا أَيْ " لَمَّا " . وَيَقُولُ قَدْ جَاءَ لَمَّا يَجِئْ بَعْدُ . فَلَمَّا قَالُوا : { آمَنَّا } قِيلَ : { لَمْ تُؤْمِنُوا } بَعْدُ بَلْ الْإِيمَانُ مَرْجُوٌّ مُنْتَظَرٌ مِنْهُمْ . ثُمَّ قَالَ : { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ } أَيْ : لَا يُنْقِصْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ الْمُثْبَتَةِ ( شَيْئًا أَيْ : فِي هَذِهِ الْحَالِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَعْدَ دُخُولِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ فَائِدَةٌ لَهُمْ وَلَا لِغَيْرِهِمْ ؛ إذْ كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُثَابُونَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِهِ . فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : الْمُطَاعُ يُثَابُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَعْرِفُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ . و " أَيْضًا " فَالْخِطَابُ لِهَؤُلَاءِ الْمُخَاطَبِينَ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ : لَمَّا يَدْخُلْ فِي قُلُوبِهِمْ وَقِيلَ لَهُمْ : { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ مُثَابِينَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَكَانَ خِلَافَ مَدْلُولِ الْخِطَابِ فَبَيَّنَ ذَلِكَ أَنَّهُ وَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَخْرَجَ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ فَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَهَذَا نَعْتُ مُحَقِّقِ الْإِيمَانِ ؛ لَا نَعْتُ مَنْ مَعَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وقَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَدَلَّ الْبَيَانُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَنْفِيَّ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ : هُوَ هَذَا الْإِيمَانُ الَّذِي نُفِيَ عَنْ فُسَّاقِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الَّذِينَ لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعَ أَحَدِهِمْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَنَفْيُ هَذَا الْإِيمَانِ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْكُفْرِ الَّذِي يُخَلِّدُ صَاحِبَهُ فِي النَّارِ .(2/211)
وَبِتَحَقُّقِ " هَذَا الْمَقَامِ " يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَيُعْلَمُ أَنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ قِسْمًا لَيْسَ هُوَ مُنَافِقًا مَحْضًا فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . وَلَا مِنْ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } فَلَا هُمْ مُنَافِقُونَ وَلَا هُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الصَّادِقِينَ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَلَا مِنْ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا عِقَابٍ . بَلْ لَهُ طَاعَاتٌ وَمَعَاصٍ وَحَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ وَمَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَا يَخْلُدُ مَعَهُ فِي النَّارِ وَلَهُ مِنْ الْكَبَائِرِ مَا يَسْتَوْجِبُ دُخُولَ النَّارِ . وَهَذَا الْقِسْمُ قَدْ يُسَمِّيه بَعْضُ النَّاسِ : الْفَاسِقُ الملي وَهَذَا مِمَّا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي اسْمِهِ وَحُكْمِهِ . وَالْخِلَافُ فِيهِ أَوَّلُ خِلَافٍ ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ فِي مَسَائِلِ " أُصُولِ الدِّينِ " . فَنَقُولُ : لَمَّا قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عفان وَسَارَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى الْعِرَاقِ وَحَصَلَ بَيْنَ الْأُمَّةِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ ثُمَّ يَوْمَ صفين مَا هُوَ مَشْهُورٌ : خَرَجَتْ ( الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدّ أَخْبَرَ بِهِمْ وَذَكَرَ حُكْمَهُمْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ وَهَذِهِ الْعَشَرَةُ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مُوَافَقَةً لِأَحْمَدَ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْهَا عِدَّةَ أَوْجُهٍ وَرَوَى أَحَادِيثَهُمْ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ . وَمِنْ أَصَحِّ حَدِيثِهِمْ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري فَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ : إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَوَاَللَّهِ لَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ وَإِنْ حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةِ فِي أَدَمٍ مَقْرُوضٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا فَقَالَ : فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كُنَّا أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلَاءِ قَالَ : فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً قَالَ : فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاشِزُ الْجَبْهَةِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ مُشَمِّرُ الْإِزَارِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ فَقَالَ : وَيْلَك أَوَلَسْت أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ قَالَ : ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ ؟ فَقَالَ : لَا : لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي قَالَ خَالِدٌ : وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي لَمْ أومر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ ؛ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ قَالَ ثُمَّ نَظَرَ إلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ فَقَالَ : إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضئضئ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ قَالَ : أَظُنُّهُ قَالَ : لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنهُمْ قَتْلَ عَادٍ } . اللَّفْظُ لِمُسْلِمِ . وَلِمُسْلِمِ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ قَوْمًا يَكُونُونَ فِي أُمَّتِهِ يَخْرُجُونَ فِي فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ ثُمَّ قَالَ شَرُّ الْخَلْقِ أَوْ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ } قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ وَفِي لَفْظٍ لَهُ : { تَقْتُلُهُمْ أَقْرَبُ الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ } وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ أَبِي(2/212)
بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ : إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } فَبَيَّنَ أَنَّ كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ كَانَتْ مُؤْمِنَةً وَأَنَّ اصْطِلَاحَ الطَّائِفَتَيْنِ كَمَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ كَانَ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اقْتِتَالِهِمَا وَأَنَّ اقْتِتَالَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ فَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُهُ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَنَّ قِتَالَ الْخَوَارِجِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ . وَهَؤُلَاءِ الْخَوَارِجُ لَهُمْ أَسْمَاءٌ يُقَالُ لَهُمْ : " الحرورية " لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا بِمَكَانِ يُقَالُ لَهُ حَرُورَاءُ وَيُقَالُ لَهُمْ ( أَهْلُ النهروان : لِأَنَّ عَلِيًّا قَاتَلَهُمْ هُنَاكَ وَمِنْ أَصْنَافِهِمْ " الإباضية " أَتْبَاعُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إبَاضٍ و " الأزارقة " أَتْبَاعُ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ و " النَّجَدَاتُ " أَصْحَابُ نَجْدَةَ الحروري . وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ كَفَّرَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِالذُّنُوبِ بَلْ بِمَا يَرَوْنَهُ هُمْ مِنْ الذُّنُوبِ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَلِكَ فَكَانُوا كَمَا نَعَتَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ " وَكَفَّرُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانَ بْنَ عفان وَمَنْ وَالَاهُمَا وَقَتَلُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مُسْتَحِلِّينَ لِقَتْلِهِ قَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ المرادي مِنْهُمْ وَكَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْخَوَارِجِ مُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ لَكِنْ كَانُوا جُهَّالًا فَارَقُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ ؛ فَقَالَ هَؤُلَاءِ : مَا النَّاسُ إلَّا مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ ؛ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ فَعَلَ جَمِيعَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرَكَ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ ؛ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ ؛ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ . ثُمَّ جَعَلُوا كُلَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ كَذَلِكَ فَقَالُوا : إنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَنَحْوَهُمَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَظَلَمُوا فَصَارُوا كُفَّارًا . وَمَذْهَبُ هَؤُلَاءِ بَاطِلٌ بِدَلَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ دُونَ قَتْلِهِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا لَوَجَبَ قَتْلُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . وَقَالَ { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : كُفْرٍ بَعْدَ إسْلَامٍ وَزِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ يُقْتَلُ بِهَا } وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجْلَدَ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ لَأَمَرَ بِقَتْلِهِمَا ، وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُجْلَدَ قَاذِفُ الْمُحْصَنَةِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَوْ كَانَ كَافِرًا لَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِدُ شَارِبَ الْخَمْرِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ : { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَكَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ إلَيْهِ جَلَدَهُ فَأُتِيَ بِهِ إلَيْهِ مَرَّةً فَلَعَنَهُ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } فَنَهَى عَنْ لَعْنِهِ بِعَيْنِهِ وَشَهِدَ لَهُ بِحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ لَعَنَ شَارِبَ الْخَمْرِ عُمُومًا . وَهَذَا مِنْ أَجْوَدِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِقَتْلِ الشَّارِبِ فِي " الثَّالِثَةِ " و " الرَّابِعَةِ " مَنْسُوخٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَتَى بِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَقَدْ أَعْيَا الْأَئِمَّةَ الْكِبَارَ جَوَابُ هَذَا الْحَدِيثِ ؛ وَلَكِنَّ نَسْخَ الْوُجُوبِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : يَجُوزُ قَتْلُهُ إذَا رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ مَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ إلَى الثَّمَانِينَ لَيْسَ حَدًّا مُقَدَّرًا فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ بَلْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ إلَى الثَّمَانِينَ تَرْجِعُ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فَيَفْعَلُهَا عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ وَكَذَلِكَ صِفَةُ الضَّرْبِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ جَلْدُ الشَّارِبِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ بِخِلَافِ الزَّانِي وَالْقَاذِفِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : قَتْلُهُ فِي الرَّابِعَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ . و " أَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَالَ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ(2/213)
إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } . فَقَدْ وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْأُخُوَّةِ وَأَمَرَنَا بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ . فَلَمَّا شَاعَ فِي الْأُمَّةِ أَمْرُ " الْخَوَارِجِ " تَكَلَّمَتْ الصَّحَابَةُ فِيهِمْ وَرَوَوْا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحَادِيثَ فِيهِمْ وَبَيَّنُوا مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَظَهَرَتْ بِدْعَتُهُمْ فِي الْعَامَّةِ ؛(2/214)
فَجَاءَتْ بَعْدَهُمْ " الْمُعْتَزِلَةُ " - الَّذِينَ اعْتَزَلُوا الْجَمَاعَةَ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَهُمْ : عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ ، وَوَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ الْغَزَالُ وَأَتْبَاعُهُمَا - فَقَالُوا : أَهْلُ الْكَبَائِرِ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ كَمَا قَالَتْ الْخَوَارِجُ وَلَا نُسَمِّيهِمْ لَا مُؤْمِنِينَ وَلَا كُفَّارًا ؛ بَلْ فُسَّاقٌ نُنْزِلُهُمْ مَنْزِلَةً بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ . وَأَنْكَرُوا شَفَاعَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَهَا . قَالُوا : مَا النَّاسُ إلَّا رَجُلَانِ : سَعِيدٌ لَا يُعَذَّبُ أَوْ شَقِيٌّ لَا يُنَعَّمُ ، وَالشَّقِيُّ نَوْعَانِ : كَافِرٌ وَفَاسِقٌ وَلَمْ يُوَافِقُوا الْخَوَارِجَ عَلَى تَسْمِيَتِهِمْ كُفَّارًا . وَهَؤُلَاءِ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ مَا رَدُّوا بِهِ عَلَى الْخَوَارِجِ . فَيُقَالُ لَهُمْ كَمَا أَنَّهُمْ قَسَّمُوا النَّاسَ إلَى مُؤْمِنٍ لَا ذَنْبَ لَهُ وَكَافِرٍ لَا حَسَنَةَ لَهُ قَسَّمْتُمْ النَّاسَ إلَى مُؤْمِنٍ لَا ذَنْبَ لَهُ وَإِلَى كَافِرٍ وَفَاسِقٍ لَا حَسَنَةَ لَهُ فَلَوْ كَانَتْ حَسَنَاتُ هَذَا كُلُّهَا مُحْبَطَةً وَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ لَاسْتَحَقَّ الْمُعَادَاةَ الْمَحْضَةَ بِالْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ كَمَا يَسْتَحِقُّهَا الْمُرْتَدُّ ؛ فَإِنَّ هَذَا قَدْ أَظْهَرَ دِينَهُ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فَجَعَلَ مَا دُونَ ذَلِكَ الشِّرْكِ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى التَّائِبِ ؛ فَإِنَّ التَّائِبَ لَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ . كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } فَهُنَا عَمَّمَ وَأَطْلَقَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّائِبُ وَهُنَاكَ خُصَّ وَعَلَّقَ . وَقَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } { الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } . فَقَدْ قَسَّمَ سُبْحَانَهُ الْأُمَّةَ الَّتِي أَوْرَثَهَا الْكِتَابَ وَاصْطَفَاهَا " ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ " : ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمُقْتَصِدٌ وَسَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ ينطبقون عَلَى الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ : " الْإِسْلَامُ " و " الْإِيمَانُ " و " الْإِحْسَانُ " . كَمَا سَنَذْكُرُهُ " إنْ شَاءَ اللَّهُ " . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ إنْ أُرِيدَ بِهِ مَنْ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ وَالتَّائِبُ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ فَذَلِكَ مُقْتَصِدٌ أَوْ سَابِقٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ يَخْلُو عَنْ ذَنْبٍ ؛ لَكِنْ مَنْ تَابَ كَانَ مُقْتَصِدًا أَوْ سَابِقًا ؛ كَذَلِكَ مَنْ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ كُفِّرَتْ عَنْهُ السَّيِّئَاتُ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مَوْعُودٌ بِالْجَنَّةِ وَلَوْ بَعْدَ عَذَابٍ يُطَهِّرُ مِنْ الْخَطَايَا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ : أَنَّ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْمَصَائِبِ مِمَّا يُجْزِئُ بِهِ وَيُكَفَّرُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا غَمٍّ وَلَا أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةُ يشاكها إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ } وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ { لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ جَاءَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْت تَنْصَبُ ؟ أَلَسْت تَحْزَنُ ؟ أَلَسْت تُصِيبُك اللَّأْوَاءُ ؟ فَذَلِكَ مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ } . و " أَيْضًا " فَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنَّهُ يَخْرُجُ أَقْوَامٌ مِنْ النَّارِ بَعْدَ مَا دَخَلُوهَا وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ فِي أَقْوَامٍ دَخَلُوا النَّارِ . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ : " الوعيدية " الَّذِينَ يَقُولُونَ : مَنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا وَعَلَى " الْمُرْجِئَةِ(2/215)
الْوَاقِفَةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَا نَدْرِي هَلْ يَدْخُلُ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ النَّارَ أَحَدٌ أَمْ لَا كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الشِّيعَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةُ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ .
وَأَمَّا مَا يُذْكَرُ عَنْ " غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ " أَنَّهُمْ قَالُوا : لَنْ يَدْخُلَ النَّارَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ فَلَا نَعْرِفُ قَائِلًا مَشْهُورًا مِنْ الْمَنْسُوبِينَ إلَى الْعِلْمِ يُذْكَرُ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ . و " أَيْضًا " فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدّ شَهِدَ لِشَارِبِ الْخَمْرِ الْمَجْلُودِ مَرَّاتٍ بِأَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنَهَى عَنْ لَعْنَتِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ فِيهِمْ مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ لَمَّا حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يَصِلَهُ : { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } . وَإِنْ قِيلَ : إنَّ مِسْطَحًا وَأَمْثَالَهُ تَابُوا لَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَشْرُطْ فِي الْأَمْرِ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَالصَّفْحِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ التَّوْبَةَ . وَكَذَلِكَ { حَاطِبُ بْنُ أَبِي بلتعة كَاتَبَ الْمُشْرِكِينَ بِأَخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَرَادَ عُمَرُ قَتْلَهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْل بَدْرٍ فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ ؟ } . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَقْتَضِي : أَنَّ السَّيِّئَاتِ مَغْفُورَةٌ بِتِلْكَ الْحَسَنَاتِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ مَعَ ذَلِكَ تَوْبَةً ؛ وَإِلَّا فَلَا اخْتِصَاصَ لِأُولَئِكَ بِهَذَا ؛ وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي الْمَغْفِرَةَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ . وَإِذَا قِيلَ : إنَّ هَذَا لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أُولَئِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا صَغَائِرُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ أَيْضًا . وَأَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ تَجْوِيزَ الْكَبِيرَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَغْفُورِ لَهُمْ و " أَيْضًا " قَدْ دَلَّتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ الذُّنُوبِ تَزُولُ عَنْ الْعَبْدِ بِنَحْوِ عَشَرَةِ أَسْبَابٍ . " أَحَدُهَا " التَّوْبَةُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ " السَّبَبُ الثَّانِي " الِاسْتِغْفَارُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ : أَيْ رَبِّ أَذْنَبْت ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي فَقَالَ : عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ قَدْ غَفَرْت لِعَبْدِي ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ أَذْنَبْت ذَنْبًا آخَرَ . فَاغْفِرْهُ لِي فَقَالَ رَبُّهُ : عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ قَدْ غَفَرْت لِعَبْدِي فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ قَالَ ذَلِكَ : فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمِ يُذْنِبُونَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ } . وَقَدْ يُقَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الِاسْتِغْفَارُ هُوَ مَعَ التَّوْبَةِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ { مَا أَصَرَّ مَنْ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ } وَقَدْ يُقَالُ : بَلْ الِاسْتِغْفَارُ بِدُونِ التَّوْبَةِ مُمْكِنٌ وَاقِعٌ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِغْفَارَ إذَا كَانَ مَعَ التَّوْبَةِ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ عَامٌّ فِي كُلِّ تَائِبٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ التَّوْبَةِ فَيَكُونُ فِي حَقِّ بَعْضِ الْمُسْتَغْفِرِينَ الَّذِينَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ عِنْدَ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ الْخَشْيَةِ وَالْإِنَابَةِ مَا يَمْحُو الذُّنُوبَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ بِأَنَّ قَوْلَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ثَقُلَتْ بِتِلْكَ السَّيِّئَاتِ ؛ لَمَّا قَالَهَا بِنَوْعِ مِنْ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ الَّذِي يَمْحُو السَّيِّئَاتِ وَكَمَا غَفَرَ لِلْبَغِيِّ بِسَقْيِ الْكَلْبِ لِمَا حَصَلَ فِي قَلْبِهَا إذْ ذَاكَ مِنْ الْإِيمَانِ(2/216)
وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ . " السَّبَبُ الثَّالِثُ " : الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ } وَقَالَ : { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَقَالَ : { مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَقَالَ { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } وَقَالَ : { فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ . } وَقَالَ : { مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ } وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا فِي الصِّحَاحِ . وَقَالَ : { الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ وَالْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ } . وَسُؤَالُهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَقُولُوا الْحَسَنَاتُ إنَّمَا تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ فَقَطْ فَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَلَا تُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ كَمَا قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ : " مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ " فَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِوُجُوهِ . أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ جَاءَ فِي الْفَرَائِضِ . كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } فَالْفَرَائِضُ مَعَ تَرْكِ الْكَبَائِرِ مُقْتَضِيَةٌ لِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الزَّائِدَةُ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا ثَوَابٌ آخَرُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } . ( الثَّانِي ) : أَنَّهُ قَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ قَدْ تَكُونُ مَعَ الْكَبَائِرِ كَمَا فِي { قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ } وَفِي السُّنَنِ { أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ . فَقَالَ : أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقْ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ . } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي { حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ . } . ( الثَّالِثُ ) : أَنَّ { قَوْلَهُ لِأَهْلِ بَدْرٍ وَنَحْوِهِمْ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ } إنْ حُمِلَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَوْ عَلَى الْمَغْفِرَةِ مَعَ التَّوْبَةِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ . فَكَمَا لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى الْكُفْرِ لِمَا قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكُفْرَ لَا يُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مُجَرَّدِ الصَّغَائِرِ الْمُكَفَّرَةِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ . ( الرَّابِعُ ) : أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ { حَدِيثٍ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ فَإِنْ أَكْمَلَهَا وَإِلَّا قِيلَ : اُنْظُرُوا هَلْ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتْ بِهِ الْفَرِيضَةُ ثُمَّ يُصْنَعُ بِسَائِرِ أَعْمَالِهِ كَذَلِكَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ النَّقْصَ الْمُكَمِّلَ لَا يَكُونُ لِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ ؛ فَإِنَّ تَرْكَ الْمُسْتَحَبِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى جبران وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ الْمُسْتَحَبِّ الْمَتْرُوكِ وَالْمَفْعُولِ فَعُلِمَ أَنَّهُ يَكْمُلُ نَقْصُ الْفَرَائِضِ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ . وَهَذَا لَا يُنَافِي مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ النَّافِلَةَ حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ مَعَ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مُعَارِضًا لِلْأَوَّلِ لَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ وَأَشْهَرُ وَهَذَا غَرِيبٌ رَفْعُهُ وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ فِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْر لِعُمَرِ ؛ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَحْمَد فِي " رِسَالَتِهِ فِي الصَّلَاةِ " . وَذَلِكَ لِأَنَّ قَبُولَ النَّافِلَةِ يُرَادُ بِهِ الثَّوَابُ عَلَيْهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى النَّافِلَةِ حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ النَّافِلَةَ مَعَ نَقْصِ الْفَرِيضَةِ كَانَتْ جَبْرًا لَهَا وَإِكْمَالًا لَهَا . فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا ثَوَابُ نَافِلَةٍ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : النَّافِلَةُ لَا تَكُونُ إلَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَغَيْرُهُ يَحْتَاجُ إلَى الْمَغْفِرَةِ . وَتَأَوَّلَ عَلَى(2/217)
هَذَا قَوْلُهُ : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ } وَلَيْسَ إذَا فَعَلَ نَافِلَةً وَضَيَّعَ فَرِيضَةً تَقُومُ النَّافِلَةُ مَقَامَ الْفَرِيضَةِ مُطْلَقًا بَلْ قَدْ تَكُونُ عُقُوبَتُهُ عَلَى تَرْكِ الْفَرِيضَةِ أَعْظَمَ مِنْ ثَوَابِ النَّافِلَةِ . فَإِنْ قِيلَ : الْعَبْدُ إذَا نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . فَلَوْ كَانَ لَهَا بَدَلٌ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ لَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ . قِيلَ : هَذَا خَطَأٌ فَإِنْ قِيلَ هَذَا يُقَالُ فِي جَمِيعِ مُسْقِطَاتِ الْعِقَابِ . فَيُقَالُ : إذَا كَانَ الْعَبْدُ يُمْكِنُهُ رَفْعُ الْعُقُوبَةِ بِالتَّوْبَةِ لَمْ يَنْهَ عَنْ الْفِعْلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَبْدَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ ؛ لِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِذَلِكَ سَبَبٌ لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَإِنْ جَازَ مَعَ إخْلَالِهِ أَنْ يَرْتَفِعَ الْعِقَابُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَمِيَ مِنْ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ وَإِنْ كَانَ مَعَ تَنَاوُلِهِ لَهَا يُمْكِنُ رَفْعُ ضَرَرِهَا بِأَسْبَابِ مِنْ الْأَدْوِيَةِ . وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ - أَمَرَهُمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يُفْسِدُهُمْ ثُمَّ إذَا وَقَعُوا فِي أَسْبَابِ الْهَلَاكِ لَمْ يؤيسهم مِنْ رَحْمَتِهِ بَلْ جَعَلَ لَهُمْ أَسْبَابًا يَتَوَصَّلُونَ بِهَا إلَى رَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّ الْفَقِيهَ كُلُّ الْفَقِيهِ الَّذِي لَا يُؤَيِّسُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ . وَلِهَذَا يُؤْمَرُ الْعَبْدُ بِالتَّوْبَةِ كُلَّمَا أَذْنَبَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِشَيْخِهِ : إنِّي أُذْنِبُ قَالَ : تُبْ قَالَ : ثُمَّ أَعُودُ ، قَالَ : تُبْ قَالَ : ثُمَّ أَعُودُ ، قَالَ : تُبْ قَالَ : إلَى مَتَى قَالَ : إلَى أَنْ تُحْزِنَ الشَّيْطَانَ . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ } . وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَصَلَاتُهُ إذَا اسْتَيْقَظَ أَوْ ذَكَرَهَا كَفَّارَةً لَهَا تَبْرَأُ بِهَا الذِّمَّةُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ وَيَرْتَفِعُ عَنْهُ الذَّمُّ وَالْعِقَابُ وَيَسْتَوْجِبُ بِذَلِكَ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ فَلَا نَعْلَمُ الْقَدْرَ الَّذِي يَقُومُ ثَوَابُهُ مَقَامَ ذَلِكَ وَلَوْ عُلِمَ فَقَدْ لَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ مَعَ سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ ثُمَّ إذَا قَدَّرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ صَارَ وَاجِبًا فَلَا يَكُونُ تَطَوُّعًا وَالتَّطَوُّعَاتُ شُرِعَتْ لِمَزِيدِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى . فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ } الْحَدِيثَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ قَدْ أَدَّى الْفَرَائِضَ كَمَا أُمِرَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَقْصُودُ النَّوَافِلِ وَلَا يَظْلِمُهُ اللَّهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ بَلْ يُقِيمُهَا مَقَامَ نَظِيرِهَا مِنْ الْفَرَائِضِ كَمَنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ لِأُنَاسِ يُرِيدُ أَنْ يَتَطَوَّعَ لَهُمْ بِأَشْيَاءَ : فَإِنْ وَفَّاهُمْ وَتَطَوَّعَ لَهُمْ كَانَ عَادِلًا مُحْسِنًا . وَإِنْ وَفَّاهُمْ وَلَمْ يَتَطَوَّعْ كَانَ عَادِلًا ، وَإِنْ أَعْطَاهُمْ مَا يَقُومُ مَقَامَ دِينِهِمْ وَجَعَلَ ذَلِكَ تَطَوُّعًا كَانَ غالطا فِي جَعْلِهِ ؛ بَلْ يَكُونُ مِنْ الْوَاجِبِ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ . وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ " الْمُعْتَزِلَةَ " يَفْتَخِرُونَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ " التَّوْحِيدِ " وَ " الْعَدْلِ " وَهُمْ فِي تَوْحِيدِهِمْ نَفَوْا الصِّفَاتِ نَفْيًا يَسْتَلْزِمُ التَّعْطِيلَ وَالْإِشْرَاكَ . وَأَمَّا " الْعَدْلُ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ " فَهُوَ أَنْ لَا يَظْلِمَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَأَنَّهُ : مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وَهُمْ يَجْعَلُونَ جَمِيعَ حَسَنَاتِ الْعَبْدِ وَإِيمَانِهِ حَابِطًا بِذَنْبِ وَاحِدٍ مِنْ الْكَبَائِرِ وَهَذَا مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ فَكَانَ وَصْفُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْعَدْلِ الَّذِي وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْلَى مِنْ جَعْلِ الْعَدْلِ هُوَ التَّكْذِيبُ بِقَدَرِ اللَّهِ . ( الْخَامِسُ ) : أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شَيْئًا يُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ إلَّا الْكُفْرَ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ شَيْئًا يُحْبِطُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةَ . وَ " الْمُعْتَزِلَةُ مَعَ الْخَوَارِجِ " يَجْعَلُونَ الْكَبَائِرَ مُحْبِطَةً لِجَمِيعِ الْحَسَنَاتِ حَتَّى الْإِيمَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } فَعَلَّقَ الْحُبُوطَ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَافِرِ وَالْمُعَلَّقُ(2/218)
بِشَرْطِ يَعْدَمُ عِنْدَ عَدَمِهِ . وَقَالَ تَعَالَى { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } وَقَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْأَنْبِيَاءَ : { وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَقَالَ : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } . فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ إذَا لَمْ يُغْفَرْ وَأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ حُبُوطُ حَسَنَاتِ صَاحِبِهِ ، وَلَمَّا ذَكَرَ سَائِرَ الذُّنُوبِ غَيْرَ الْكُفْرِ لَمْ يُعَلِّقْ بِهَا حُبُوطَ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ ، وَقَوْلُهُ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } . لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ ، وقَوْله تَعَالَى { لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَتَضَمَّنُ الْكُفْرَ فَيَقْتَضِي الْحُبُوطَ وَصَاحِبُهُ لَا يَدْرِي كَرَاهِيَةَ أَنْ يُحْبَطَ أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يُحْبَطَ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْكُفْرِ الْمُقْتَضِي لِلْحُبُوطِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلْكُفْرِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ ؛ فَيَنْهَى عَنْهَا خَشْيَةَ أَنْ تُفْضِيَ إلَى الْكُفْرِ الْمُحْبِطِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } - وَهِيَ الْكُفْرُ - { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَإِبْلِيسُ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ فَصَارَ كَافِرًا ؛ وَغَيْرُهُ أَصَابَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَقَدْ احْتَجَّتْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } قَالُوا : فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ مِنْ الْمُتَّقِينَ فَلَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْهُ عَمَلًا فَلَا يَكُونُ لَهُ حَسَنَةٌ وَأَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ الْإِيمَانُ فَلَا يَكُونُ مَعَهُ إيمَانٌ فَيَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَقَدْ أَجَابَتْهُمْ الْمُرْجِئَةُ : بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَّقِينَ مَنْ يَتَّقِي الْكُفْرَ فَقَالُوا لَهُمْ : اسْمُ الْمُتَّقِينَ فِي الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } وَأَيْضًا فَابْنَا آدَمَ حِينَ قَرَّبَا قُرْبَانًا لَمْ يَكُنْ الْمُقَرِّبُ الْمَرْدُودُ قُرْبَانُهُ حِينَئِذٍ كَافِرًا وَإِنَّمَا كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ إذْ لَوْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَتَقَرَّبْ وَأَيْضًا فَمَا زَالَ السَّلَفُ يَخَافُونَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَوْ أُرِيدَ بِهَا مَنْ يَتَّقِي الْكُفْرَ لَمْ يَخَافُوا وَأَيْضًا فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُتَّقِينَ وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَيْسَ بِكَافِرِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي خِطَابِ الشَّارِعِ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ . وَ " الْجَوَابُ الصَّحِيحُ " : أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ كَمَا قَالَ الفضيل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قِيلَ : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ فَمَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ - كَأَهْلِ الرِّيَاءِ - لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَهُ } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ } وَقَالَ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارِ } وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } أَيْ فَهُوَ مَرْدُودٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ . فَمَنْ اتَّقَى الْكُفْرَ وَعَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُتَّقِيًا فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ مُتَّقِيًا لِلشِّرْكِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } وَفِي حَدِيثِ { عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ : يَا(2/219)
رَسُولَ اللَّهِ أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَخَافُ أَنْ يُعَذَّبُ ؟ قَالَ : لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ } . وَخَوْفُ مَنْ خَافَ مِنْ السَّلَفِ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ لِخَوْفِهِ أَنْ لَا يَكُونَ أَتَى بِالْعَمَلِ عَلَى وَجْهِهِ الْمَأْمُورِ : وَهَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ فِي اسْتِثْنَاءِ مَنْ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَفِي أَعْمَالِ الْإِيمَانِ كَقَوْلِ أَحَدِهِمْ : أَنَا مُؤْمِنٌ " إنْ شَاءَ اللَّهُ " - وَصَلَّيْت - إنْ شَاءَ اللَّهُ - لِخَوْفِ أَنْ لَا يَكُونَ آتَى بِالْوَاجِبِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا عَلَى جِهَةِ الشَّكِّ فِيمَا بِقَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْآيَةِ : إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ الْعَمَلَ إلَّا مِمَّنْ يَتَّقِي الذُّنُوبَ كُلَّهَا لِأَنَّ الْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ لَيْسَ مُتَّقِيًا فَإِنْ كَانَ قَبُولُ الْعَمَلِ مَشْرُوطًا بِكَوْنِ الْفَاعِلِ حِينَ فِعْلِهِ لَا ذَنْبَ لَهُ امْتَنَعَ قَبُولُ التَّوْبَةِ . بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَطَ التَّقْوَى فِي الْعَمَلِ فَإِنَّ التَّائِبَ حِينَ يَتُوبُ يَأْتِي بِالتَّوْبَةِ الْوَاجِبَةِ وَهُوَ حِينَ شُرُوعِهِ فِي التَّوْبَةِ مُنْتَقِلٌ مِنْ الشَّرِّ إلَى الْخَيْرِ لَمْ يَخْلُصْ مِنْ الذَّنْبِ بَلْ هُوَ مُتَّقٍ فِي حَالِ تَخَلُّصِهِ مِنْهُ . وَ " أَيْضًا " فَلَوْ أَتَى الْإِنْسَانُ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى كَبِيرَةٍ ثُمَّ تَابَ لَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ سَيِّئَاتُهُ بِالتَّوْبَةِ وَتُقْبَلُ مِنْهُ تِلْكَ الْحَسَنَاتُ وَهُوَ حِينَ أَتَى بِهَا كَانَ فَاسِقًا . وَ " أَيْضًا " فَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ لِلنَّاسِ مَظَالِمُ مِنْ قَتْلٍ وَغَصْبٍ وَقَذْفٍ - وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا أَسْلَمَ - قَبْلَ إسْلَامِهِ مَعَ بَقَاءِ مَظَالِمِ الْعِبَادِ عَلَيْهِ ؛ فَلَوْ كَانَ الْعَمَلُ لَا يُقْبَلُ إلَّا مِمَّنْ لَا كَبِيرَةَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُ الذِّمِّيِّ حَتَّى يَتُوبَ مِنْ الْفَوَاحِشِ وَالْمَظَالِمِ ؛ بَلْ يَكُونُ مَعَ إسْلَامِهِ مُخَلَّدًا وَقَدْ كَانَ النَّاسُ مُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهُمْ ذُنُوبٌ مَعْرُوفَةٌ وَعَلَيْهِمْ تَبِعَاتٌ فَيُقْبَلُ إسْلَامُهُمْ وَيَتُوبُونَ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ التَّبِعَاتِ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ لَمَّا أَسْلَمَ وَكَانَ قَدْ رَافَقَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَغَدَرَ بِهِمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَجَاءَ فَأَسْلَمَ فَلَمَّا جَاءَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْمُغِيرَةُ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ دَفَعَهُ الْمُغِيرَةُ بِالسَّيْفِ فَقَالَ : مَنْ هَذَا فَقَالُوا : ابْنُ أُخْتِك الْمُغِيرَةُ فَقَالَ يَا غدر أَلَسْت أَسْعَى فِي غُدْرَتِكَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُهُ وَأَمَّا الْمَالُ فَلَسْت مِنْهُ فِي شَيْءٍ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } وَقَالُوا لِنُوحِ : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } { قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { إنْ حِسَابُهُمْ إلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ } . وَلَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ جَاءَهُ ذِمِّيٌّ يُسْلِمُ فَقَالَ لَهُ لَا يَصِحُّ إسْلَامُك حَتَّى لَا يَكُونَ عَلَيْك ذَنْبٌ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَعْمَالِ الْبِرِّ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ .(2/220)
( السَّبَبُ الرَّابِعُ الدَّافِعُ لِلْعِقَابِ ) : دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُؤْمِنِ مِثْلُ صَلَاتِهِمْ عَلَى جِنَازَتِهِ فَعَنْ عَائِشَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ } . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جِنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا شَفَّعَهُمْ اللَّهُ فِيهِ } رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ . وَهَذَا دُعَاءٌ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ الْمَغْفِرَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ الَّذِي اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ وَكُفِّرَتْ عَنْهُ الصَّغَائِرُ وَحْدَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مَغْفُورٌ لَهُ عِنْدَ الْمُتَنَازِعِينَ . فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ لِلْمَيِّتِ . ( السَّبَبُ الْخَامِسُ ) : مَا يُعْمَلُ لِلْمَيِّتِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ؟ كَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ هَذَا يَنْتَفِعُ بِهِ بِنُصُوصِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ وَالْحَجُّ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } وَثَبَتَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ صَوْمِ النَّذْرِ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى وَلَا يَجُوزُ أَنَّ يُعَارَضَ هَذَا بِقَوْلِهِ : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } لِوَجْهَيْنِ . ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْتَفِعُ بِمَا لَيْسَ مِنْ سَعْيِهِ كَدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَاسْتِغْفَارِهِمْ لَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } الْآيَةَ . وَدُعَاءُ النَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِغْفَارُهُمْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ } وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } كَدُعَاءِ الْمُصَلِّينَ لِلْمَيِّتِ وَلِمَنْ زَارُوا قَبْرَهُ - مِنْ الْمُؤْمِنِينَ - . ( الثَّانِي ) : أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِي ظَاهِرِهَا إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا سَعْيُهُ وَهَذَا حَقٌّ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ وَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا سَعْيَ نَفْسِهِ وَأَمَّا سَعْيُ غَيْرِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ ؛ لَكِنْ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْفَعَهُ اللَّهُ وَيَرْحَمُهُ بِهِ ؛ كَمَا أَنَّهُ دَائِمًا يَرْحَمُ عِبَادَهُ بِأَسْبَابِ خَارِجَةٍ عَنْ مَقْدُورِهِمْ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ يَرْحَمُ الْعِبَادَ بِأَسْبَابِ يَفْعَلُهَا الْعِبَادُ لِيُثِيبَ أُولَئِكَ عَلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ فَيَرْحَمُ الْجَمِيعَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِدَعْوَةِ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ : آمِينَ وَلَك بِمِثْلِ } وَكَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ ؛ وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ ؛ أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ } فَهُوَ قَدْ يَرْحَمُ الْمُصَلِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ بِدُعَائِهِ لَهُ وَيَرْحَمُ الْمَيِّتَ أَيْضًا بِدُعَاءِ هَذَا الْحَيِّ لَهُ .(2/221)
( السَّبَبُ السَّادِسُ ) : شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُهُ فِي أَهْلِ الذُّنُوبِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَدْ تَوَاتَرَتْ عَنْهُ أَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي } . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُيِّرْت بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ ؛ وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ فَاخْتَرْت الشَّفَاعَةَ لِأَنَّهَا أَعَمُّ وَأَكْثَرُ ؛ أَتَرَوْنَهَا لِلْمُتَّقِينَ ؟ لَا . وَلَكِنَّهَا لِلْمُذْنِبِينَ المتلوثين الْخَطَّائِينَ } . ( السَّبَبُ السَّابِعُ ) : الْمَصَائِبُ الَّتِي يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا الْخَطَايَا فِي الدُّنْيَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ ؛ وَلَا نَصَبٍ ؛ وَلَا هَمٍّ ؛ وَلَا حَزَنٍ ؛ وَلَا غَمٍّ ؛ وَلَا أَذًى - حَتَّى الشَّوْكَةُ يَشَاكُهَا - إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ } ( السَّبَبُ الثَّامِنُ ) : مَا يَحْصُلُ فِي الْقَبْرِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالضَّغْطَةِ وَالرَّوْعَةِ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُكَفَّرُ بِهِ الْخَطَايَا . ( السَّبَبُ التَّاسِعُ ) : أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَرْبُهَا وَشَدَائِدُهَا . ( السَّبَبُ الْعَاشِرُ ) : رَحْمَةُ اللَّهِ وَعَفْوُهُ وَمَغْفِرَتُهُ بِلَا سَبَبٍ مِنْ الْعِبَادِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ قَدْ يُدْفَعُ عَنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الْعَشَرَةِ كَانَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ عُقُوبَاتِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ .
===============
قتل من كفر بعد لإسلامه(1)
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 4 / ص 113)(2/222)
فَصْلٌ لَفْظَةُ " إنَّمَا " لِلْحَصْرِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ كَمَا تَعْرِفُ مَعَانِيَ حُرُوفِ النَّفْيِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَكِنْ تَنَازَعَ النَّاسُ : هَلْ دَلَالَتُهَا عَلَى الْحَصْرِ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ أَوْ الْمَفْهُومِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ قَوْلُ بَعْضِ مُثْبِتِي الْمَفْهُومِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَبَعْضِ الْغُلَاةِ مِنْ نفاته وَهَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّهَا تُفِيدُ الْحَصْرَ وَاحْتَجُّوا بِمِثْلِ قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } . وَقَدْ احْتَجَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّهَا لِلْحَصْرِ بِأَنَّ حَرْفَ " إنْ " لِلْإِثْبَاتِ وَحَرْفَ " مَا " لِلنَّفْيِ فَإِذَا اجْتَمَعَا حَصَلَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ جَمِيعًا وَهَذَا خَطَأٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالْعَرَبِيَّةِ ؛ فَإِنَّ " مَا " هُنَا هِيَ مَا الْكَافَّةُ لَيْسَتْ مَا النَّافِيَةُ وَهَذِهِ الْكَافَّةُ تَدْخُلُ عَلَى أَنَّ وَأَخَوَاتِهَا فَتَكُفُّهَا عَنْ الْعَمَلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُرُوفَ الْعَامِلَةَ أَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ لِلِاخْتِصَاصِ ؛ فَإِذَا اخْتَصَّتْ بِالِاسْمِ أَوْ بِالْفِعْلِ وَلَمْ تَكُنْ كَالْجُزْءِ مِنْهُ عَمِلَتْ فِيهِ فَأَنَّ وَأَخَوَاتِهَا اخْتَصَّتْ بِالِاسْمِ فَعَمِلَتْ فِيهِ وَتُسَمَّى الْحُرُوفُ الْمُشْبِهَةُ لِلْأَفْعَالِ ؛ لِأَنَّهَا عَمِلَتْ نَصْبًا وَرَفْعًا وَكَثُرَتْ حُرُوفُهَا وَحُرُوفُ الْجَرِّ اخْتَصَّتْ بِالِاسْمِ فَعَمِلَتْ فِيهِ وَحُرُوفُ الشَّرْطِ اخْتَصَّتْ بِالْفِعْلِ فَعَمِلَتْ فِيهِ بِخِلَافِ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ فَإِنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ وَلَمْ تَعْمَلْ وَكَذَلِكَ مَا الْمَصْدَرِيَّةُ . وَلِهَذَا الْقِيَاسِ فِي مَا النَّافِيَةُ أَنْ لَا تَعْمَلَ أَيْضًا عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ وَلَكِنْ تَعْمَلُ عَلَى اللُّغَةِ الْحِجَازِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ . فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } و { مَا هَذَا بَشَرًا } اسْتِحْسَانًا لِمُشَابَهَتِهَا " لَيْسَ " هُنَا لَمَّا دَخَلَتْ مَا الْكَافَّةُ عَلَى إنْ أَزَالَتْ اخْتِصَاصَهَا فَصَارَتْ تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ فَبَطَلَ عَمَلُهَا كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ } وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } . وَقَدْ تَكُونُ مَا الَّتِي بَعْدَ أَنَّ اسْمًا لَا حَرْفًا كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ } بِالرَّفْعِ أَيْ : أَنَّ الَّذِي صَنَعُوهُ كَيْدُ سَاحِرٍ خِلَافَ قَوْلِهِ : { إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ بِالنَّصْبِ لَا تَسْتَقِيمُ إذَا كَانَتْ مَا بِمَعْنَى الَّذِي وَفِي كُلِّ الْمَعْنَيَيْنِ الْحَصْرُ مَوْجُودٌ لَكِنْ إذَا كَانَتْ مَا بِمَعْنَى الَّذِي فَالْحَصْرُ جَاءَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَعَارِفَ هِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ إمَّا مَعَارِفُ وَإِمَّا نَكِرَاتٌ وَالْمَعَارِفُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ وَالنَّكِرَةُ فِي غَيْرِ الْمُوجِبِ كَالنَّفْيِ وَغَيْرِهِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَقَوْلُهُ : { إنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ } تَقْدِيرُهُ : أَنَّ الَّذِي صَنَعُوهُ كَيْدُ سَاحِرٍ . وَأَمَّا الْحَصْرُ فِي " إنَّمَا " فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْحَصْرِ بِالنَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا أَنْتَ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا } { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ } . وَالْحَصْرُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَوَّلَ مَحْصُورٌ فِي الثَّانِي وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعَكْسِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ الثَّانِيَ أَثْبَتَهُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ غَيْرُهُ مِمَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ ثَابِتٌ لَهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ إنَّك تَنْفِي عَنْ الْأَوَّلِ كُلَّ مَا سِوَى الثَّانِي فَقَوْلُهُ : { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ } أَيْ : إنَّك لَسْت رَبًّا لَهُمْ ؛ وَلَا مُحَاسِبًا ؛ وَلَا مُجَازِيًا ؛ وَلَا وَكِيلًا عَلَيْهِمْ ؛ كَمَا قَالَ : { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } وَكَمَا قَالَ : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ } { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } لَيْسَ هُوَ إلَهًا وَلَا أُمُّهُ إلَهَةً بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا كَمَا غَايَةُ مُحَمَّدٍ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا وَغَايَةُ مَرْيَمَ أَنْ تَكُونَ صِدِّيقَةً . وَهَذَا مِمَّا اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ : أَنَّهَا نَبِيَّةٌ وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ نُبُوَّةِ أَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَالْأُسْتَاذُ أَبُو الْمَعَالِي الجويني وَغَيْرُهُمْ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } أَيْ : لَيْسَ مُخَلَّدًا فِي الدُّنْيَا لَا يَمُوتُ وَلَا يُقْتَلُ بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا جَازَ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى(2/223)
أَعْقَابِكُمْ } نَزَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ لَمَّا قِيلَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ وَتَلَاهَا الصِّدِّيقُ يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَسْمَعُوهَا حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَكَانَ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ إلَّا يَتْلُوهَا . فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الْآيَةَ فَهَذِهِ الْآيَةُ أَثْبَتَ فِيهَا الْإِيمَانَ لِهَؤُلَاءِ وَنَفَاهُ عَنْ غَيْرِهِمْ كَمَا نَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ نَفَاهُ عَنْهُ فِي الْأَحَادِيثِ مِثْلَ قَوْلِهِ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاكُمْ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ } وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } الْآيَةَ . وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ } الْآيَةَ . وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي نَفْيِهَا وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمْ : أَنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ لِانْتِفَاءِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ فِيهِ وَالشَّارِعُ دَائِمًا لَا يَنْفِي الْمُسَمَّى الشَّرْعِيَّ إلَّا لِانْتِفَاءِ وَاجِبٍ فِيهِ وَإِذَا قِيلَ : الْمُرَادُ بِذَلِكَ نَفْيُ الْكَمَالِ فَالْكَمَالُ نَوْعَانِ وَاجِبٌ وَمُسْتَحَبٌّ فَالْمُسْتَحَبُّ كَقَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ : الْغُسْلُ يَنْقَسِمُ إلَى كَامِلٍ وَمُجْزِئٍ أَيْ : كَامِلُ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَلَيْسَ هَذَا الْكَمَالُ هُوَ الْمَنْفِيَّ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ بَلْ الْمَنْفِيُّ هُوَ الْكَمَالُ الْوَاجِبُ وَإِلَّا فَالشَّارِعُ لَمْ يَنْفِ الْإِيمَانَ وَلَا الصَّلَاةَ وَلَا الصِّيَامَ وَلَا الطَّهَارَةَ وَلَا نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لِانْتِفَاءِ بَعْضِ مُسْتَحَبَّاتِهَا ؛ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَانْتَفَى الْإِيمَانُ عَنْ جَمَاهِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ إنَّمَا نَفَاهُ لِانْتِفَاءِ الْوَاجِبَاتِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ النِّيَّةَ } وَ { لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } . وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْهُ أَلْفَاظٌ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي ثُبُوتِهَا عَنْهُ مِثْلَ قَوْلِهِ : { لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ } { وَلَا صَلَاةَ إلَّا بِوُضُوءِ وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } { لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ } مَنْ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ بِمُوجِبِهَا فَيُوجِبُ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ : التَّبْيِيتِ ؛ وَذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ ؛ وَإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ . ثُمَّ إذَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ بَعْضَ وَاجِبَاتِ الْعِبَادَةِ : هَلْ يُقَالُ : بَطَلَتْ كُلُّهَا فَلَا ثَوَابَ لَهُ عَلَيْهَا ؟ أَمْ يُقَالُ : يُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَيُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكَهُ ؟ وَهَلْ عَلَيْهِ إعَادَةُ ذَلِكَ ؟ هَذَا يَكُونُ بِحَسَبِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَمِنْ الْوَاجِبَاتِ فِي الْعِبَادَةِ مَا لَا تَبْطُلُ الْعِبَادَةُ بِتَرْكِهِ وَلَا إعَادَةَ عَلَى تَارِكِهِ بَلْ يُجْبِرُ الْمَتْرُوكَ ؛ كَالْوَاجِبَاتِ فِي الْحَجِّ الَّتِي لَيْسَتْ أَرْكَانًا مِثْلَ رَمْيِ الْجِمَارِ وَأَنْ يَحْرِمَ مِنْ غَيْرِ الْمِيقَاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَالِكِ ؛ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِيهَا وَاجِبٌ لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ عِنْدَهُمْ كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْفَاتِحَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ . وَكَمَا يَقُولُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ ؛ لَكِنْ مَالِكٌ وَأَحْمَد يَقُولَانِ : مَا تَرَكَهُ مِنْ هَذَا سَهْوًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ وَأَمَّا إذَا تَرَكَهُ عَمْدًا فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ كَمَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ عَمْدًا فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبَيْهِمَا لَكِنْ أَصْحَابُ مَالِكٍ يُسَمَّوْنَ هَذَا سُنَّةً مُؤَكَّدَةً وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الْوَاجِبِ عِنْدَهُمْ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَقُولُ : مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ الَّذِي لَيْسَ بِفَرْضِ عَمْدًا أَسَاءَ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ : لَا نَعْهَدُ فِي الْعِبَادَةِ وَاجِبًا فِيمَا يَتْرُكُهُ الْإِنْسَانُ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُوبِ الْبَدَلِ لِلْإِعَادَةِ . وَلَكِنْ مَعَ هَذَا اتَّفَقَتْ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا فِي الْحَجِّ لَيْسَ بِرُكْنِ وَلَمْ يَجْبُرْهُ بِالدَّمِ الَّذِي عَلَيْهِ(2/224)
لَمْ يَبْطُلْ حَجُّهُ وَلَا تَجِبُ إعَادَتُهُ فَهَكَذَا يَقُولُ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ : أَنَّ مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الْإِيمَانِ الَّذِي لَا يُنَاقِضُ أُصُولَ الْإِيمَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْبُرَ إيمَانَهُ إمَّا بِالتَّوْبَةِ ؛ وَإِمَّا بِالْحَسَنَاتِ الْمُكَفِّرَةِ . فَالْكَبَائِرُ يَتُوبُ مِنْهَا وَالصَّغَائِرُ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَحْبَطْ إيمَانُهُ جُمْلَةً . وَأَصْلُهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَبَعَّضُ فَيَذْهَبُ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } وَلِهَذَا مَذْهَبُهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَفَاضَلُ وَيَتَبَعَّضُ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَأَمَّا الَّذِينَ أَنْكَرُوا تَبَعُّضَهُ وَتَفَاضُلَهُ كَأَنَّهُمْ قَالُوا : مَتَى ذَهَبَ بَعْضُهُ ذَهَبَ سَائِرُهُ ثُمَّ انْقَسَمُوا قِسْمَيْنِ : فَقَالَتْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ : فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْإِيمَانِ فَإِذَا ذَهَبَ بَعْضُ ذَلِكَ ذَهَبَ الْإِيمَانُ كُلُّهُ فَلَا يَكُونُ مَعَ الْفَاسِقِ إيمَانٌ أَصْلًا بِحَالِ . ثُمَّ قَالَتْ الْخَوَارِجُ : هُوَ كَافِرٌ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ : لَيْسَ بِكَافِرِ وَلَا مُؤْمِنٍ . بَلْ هُوَ فَاسِقٌ نُنْزِلُهُ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ فَخَالَفُوا الْخَوَارِجَ فِي الِاسْمِ وَوَافَقُوهُمْ فِي الْحُكْمِ وَقَالُوا : إنَّهُ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا . وَالْحِزْبُ الثَّانِي وَافَقُوا أَهْلَ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ وُجُودِ كَمَالِ الْإِيمَانِ ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَبَعَّضُ فَقَالُوا : كُلُّ فَاسِقٍ فَهُوَ كَامِلُ الْإِيمَانِ وَإِيمَانُ الْخَلْقِ مُتَمَاثِلٌ لَا مُتَفَاضِلٌ وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ فِي غَيْرِ الْإِيمَانِ مِنْ الْأَعْمَالِ وَقَالُوا : الْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ لِأَنَّ اللَّهَ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ فِي كِتَابِهِ . ثُمَّ قَالَ الْفُقَهَاءُ الْمُعْتَبِرُونَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ : إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَقَوْلُ اللِّسَانِ وَهَذَا الْمَنْقُولُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَمَنْ وَافَقَهُ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَقَالَ جَهْمٌ وَالصَّالِحِيَّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَأَبِي الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ : إنَّهُ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ . وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْبَابِ : أَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ قَدْ يُذْكَرُ مُجَرَّدًا ؛ وَقَدْ يُذْكَرُ مَقْرُونًا بِالْعَمَلِ أَوْ بِالْإِسْلَامِ . فَإِذَا ذُكِرَ مُجَرَّدًا تَنَاوَلَ الْأَعْمَالَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ : { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ } وَفِيهِمَا أَنَّهُ قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ : { آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ } وَإِذَا ذَكَرَ مَعَ الْإِسْلَامِ - كَمَا فِي حَدِيثِ { جِبْرِيلَ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ - فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } إلَى آخِرِهِ . . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ } فَلَمَّا ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا ذَكَرَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي الْقَلْبِ وَالْإِسْلَامِ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْأَعْمَالِ . وَإِذَا أَفْرَدَ الْإِيمَانَ أَدْخَلَ فِيهِ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ لِأَنَّهَا لَوَازِمُ مَا فِي الْقَلْبِ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ وَالتَّصْدِيقُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَجَبَ حُصُولُ مُقْتَضِي ذَلِكَ ضَرُورَةً ؛ فَإِنَّهُ مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إلَّا أَبْدَاهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ فَإِذَا ثَبَتَ التَّصْدِيقُ فِي الْقَلْبِ لَمْ يَتَخَلَّفْ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ أَلْبَتَّةَ فَلَا تَسْتَقِرُّ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ وَمَحَبَّةٌ صَحِيحَةٌ وَلَا يَكُونُ لَهَا أَثَرٌ فِي الظَّاهِرِ . وَلِهَذَا يَنْفِي اللَّهُ الْإِيمَانَ عَمَّنْ انْتَفَتْ عَنْهُ لَوَازِمُهُ ؛ فَإِنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ } وَقَوْلِهِ : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ(2/225)
حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الْآيَةَ وَنَحْوَهَا فَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ مُتَلَازِمَانِ لَا يَكُونُ الظَّاهِرُ مُسْتَقِيمًا إلَّا مَعَ اسْتِقَامَةِ الْبَاطِنِ وَإِذَا اسْتَقَامَ الْبَاطِنُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَقِيمَ الظَّاهِرُ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } وَقَالَ عُمَرُ لِمَنْ رَآهُ يَعْبَثُ فِي صَلَاتِهِ : لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ وَفِي الْحَدِيثِ : { لَا يَسْتَقِيمُ إيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ لِسَانُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ } . وَلِهَذَا كَانَ الظَّاهِرُ لَازِمًا لِلْبَاطِنِ مِنْ وَجْهٍ وَمَلْزُومًا لَهُ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَلْزُومًا لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ لَازِمًا ؛ فَإِنَّ الدَّلِيلَ مَلْزُومُ الْمَدْلُولِ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الدَّلِيلِ وُجُودُ الْمَدْلُولِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الشَّيْءِ وُجُودُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَالدَّلِيلُ يَطَّرِدُ وَلَا يَنْعَكِسُ بِخِلَافِ الْحَدِّ فَإِنَّهُ يَطَّرِدُ وَيَنْعَكِسُ . وَتَنَازَعُوا فِي الْعِلَّةِ هَلْ يَجِبُ طَرْدُهَا بِحَيْثُ تَبْطُلُ بِالتَّخْصِيصِ وَالِانْتِقَاضِ ؟ وَالصَّوَابُ أَنَّ لَفْظَ الْعِلَّةِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ وَهُوَ مَجْمُوعُ مَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ فَهَذِهِ يَجِبُ طَرْدُهَا وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ اقْتِضَاؤُهُ عَلَى ثُبُوتِ الشُّرُوطِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ فَهَذِهِ إذَا تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ بَطَلَتْ . وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي انْعِكَاسِهَا وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْحُكْمِ عَدَمُهَا ؟ فَقِيلَ : لَا يَجِبُ انْعِكَاسُهَا ؛ لِجَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ . وَقِيلَ : يَجِبُ الِانْعِكَاسُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَتَى ثَبَتَ مَعَ عَدَمِهَا لَمْ تَكُنْ مُؤَثِّرَةً فِيهِ بَلْ كَانَ غَنِيًّا عَنْهَا وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ مُبْطِلٌ لِلْعِلَّةِ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُ بِأَنَّ عَدَمَ التَّأْثِيرِ يُبْطِلُ الْعِلَّةَ وَيَقُولُ بِأَنَّ الْعَكْسَ لَيْسَ بِشَرْطِ فِيهَا وَآخَرُونَ يَقُولُونَ : هَذَا تَنَاقُضٌ . وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا : أَنَّ الْعِلَّةَ إذَا عُدِمَتْ عُدِمَ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا بِعَيْنِهِ كَمَنْ يُجَوِّزُ وُجُودَ مِثْلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِعِلَّةِ أُخْرَى فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِدُونِ عِلَّةٍ أُخْرَى عُلِمَ أَنَّهَا عَدِيمَةُ التَّأْثِيرِ وَبَطَلَتْ وَأَمَّا إذَا وُجِدَ نَظِيرُ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِعِلَّةِ أُخْرَى كَانَ نَوْعُ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِعِلَّتَيْنِ وَهَذَا جَائِزٌ كَمَا إذَا قِيلَ فِي الْمَرْأَةِ الْمُرْتَدَّةِ : كَفَرَتْ بَعْدَ إسْلَامِهَا فَتُقْتَلُ قِيَاسًا عَلَى الرَّجُلِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ أَوْ زَنَى بَعْدَ إحْصَانِهِ ؛ أَوْ قَتَلَ نَفْسًا فَقُتِلَ بِهَا } . فَإِذَا قِيلَ لَهُ : لَا تَأْثِيرَ لِقَوْلِك : كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَإِنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِمُجَرَّدِ الْكُفْرِ وَحِينَئِذٍ فَالْمَرْأَةُ لَا تُقْتَلُ بِمُجَرَّدِ الْكُفْرِ ؛ فَيَقُولُ : هَذِهِ عِلَّةٌ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ وَبِقَوْلِهِ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَأَمَّا الرَّجُلُ فَمَا قَتَلْته لِمُجَرَّدِ كُفْرِهِ بَلْ لِكُفْرِهِ وَجَرَاءَتِهِ وَلِهَذَا لَا أَقْتُلُ مَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْقِتَالِ كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ وَنَحْوِهِ . وَأَمَّا الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَعِلَّةٌ أُخْرَى مُبِيحَةٌ لِلدَّمِ ؛ وَلِهَذَا قُتِلَ بِالرِّدَّةِ مَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْقِتَالِ كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ . وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْكُفْرِ يُبِيحُ الْقِتَالَ كَالشَّافِعِيِّ ؛ قَالَ : الْكُفْرُ وَحْدَهُ عِلَّةٌ ؛ وَالْكُفْرُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ عِلَّةٌ أُخْرَى . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَإِنَّمَا نُنَبِّهُ عَلَيْهَا . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهُ بِالْإِطْلَاقِ وَالِاقْتِرَانِ فَإِذَا ذُكِرَ مَعَ الْعَمَلِ أُرِيدَ بِهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ الْمُقْتَضِي لِلْعَمَلِ وَإِذَا ذُكِرَ وَحْدَهُ دَخَلَ فِيهِ لَوَازِمُ ذَلِكَ الْأَصْلِ . وَكَذَلِكَ إذَا ذُكِرَ بِدُونِ الْإِسْلَامِ كَانَ الْإِسْلَامُ جُزْءًا مِنْهُ وَكَانَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا فَإِذَا ذَكَرَ لَفْظَ الْإِسْلَامِ مَعَ الْإِيمَانِ تَمَيَّزَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَلَفْظِ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَفِي قَوْلِهِ : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } يَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْمَعْرُوفِ(2/226)
كُلُّ مَأْمُورٍ بِهِ وَفِي لَفْظِ الْمُنْكَرِ كُلُّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَفِي قَوْله تَعَالَى { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } جَعَلَ الْفَحْشَاءَ غَيْرَ الْمُنْكَرِ وَقَوْلِهِ : { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } جَعَلَ الْفَحْشَاءَ وَالْبَغْيَ غَيْرَ الْمُنْكَرِ . وَإِذَا قِيلَ : هَذَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ فَلِلنَّاسِ هُنَا قَوْلَانِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْخَاصُّ دَخَلَ فِي الْعَامِّ وَخُصَّ بِالذِّكْرِ فَقَدْ ذُكِرَ مَرَّتَيْنِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَامِّ وَقَدْ يَعْطِفُ الْخَاصَّ عَلَى الْعَامِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } وَقَوْلِهِ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ } الْآيَةَ وَقَدْ يَعْطِفُ الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا } . وَأَصْلُ الشُّبْهَةِ فِي الْإِيمَانِ أَنَّ الْقَائِلِينَ : أَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ قَالُوا : إنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُرَكَّبَةَ مِنْ أُمُورٍ مَتَى ذَهَبَ بَعْضُ أَجْزَائِهَا انْتَفَتْ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ كَالْعَشَرَةِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ آحَادٍ فَلَوْ قُلْنَا : إنَّهُ يَتَبَعَّضُ لَزِمَ زَوَالُ بَعْضِ الْحَقِيقَةِ مَعَ بَقَاءِ بَعْضِهَا فَيُقَالُ لَهُمْ . : إذَا زَالَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْمُرَكَّبِ تَزُولُ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ الْحَاصِلَةُ بِالتَّرْكِيبِ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَزُولَ سَائِرُ الْأَجْزَاءِ وَالْإِيمَانُ الْمُؤَلَّفُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْوَاجِبَةِ وَالْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ هُوَ الْمَجْمُوعُ الْوَاجِبُ الْكَامِلُ وَهَذِهِ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ تَزُولُ بِزَوَالِ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ وَهَذِهِ هِيَ الْمَنْفِيَّةُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي } إلَخْ وَعَلَى ذَلِكَ جَاءَ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } الْآيَاتِ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَزُولَ سَائِرُ الْأَجْزَاءِ ؛ وَلَا أَنَّ سَائِرَ الْأَجْزَاءِ الْبَاقِيَةِ لَا تَكُونُ مِنْ الْإِيمَانِ بَعْدَ زَوَالِ بَعْضِهِ . كَمَا أَنَّ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ مِنْ الْحَجِّ الْوَاجِبِ الْكَامِلِ وَإِذَا زَالَتْ زَالَ هَذَا الْكَمَالُ وَلَمْ يَزَلْ سَائِرُ الْحَجِّ . وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ الْكَامِلُ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّاهُ أَعْضَاؤُهُ كُلُّهَا ثُمَّ لَوْ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ اسْمِ الْإِنْسَانِ وَإِنْ كَانَ قَدْ زَالَ مِنْهُ بَعْضُ مَا يَدْخُلُ [ فِي ] الِاسْمِ الْكَامِلِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الشَّجَرَةِ وَالْبَابِ وَالْبَيْتِ وَالْحَائِطِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْمُسَمَّى فِي حَالِ كَمَالِ أَجْزَائِهِ بَعْدَ ذَهَابِ بَعْضِ أَجْزَائِهِ . وَبِهَذَا تَزُولُ الشُّبْهَةُ الَّتِي أَوْرَدَهَا الرَّازِيَّ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كالأصبهاني وَغَيْرِهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ فِي ذَلِكَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسَّلَفِ وَقَدْ اعْتَرَضَ هَؤُلَاءِ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ الْفَاسِدَةِ عَلَى السَّلَفِ . وَالْإِيمَانُ يَتَفَاضَلُ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ فَلَيْسَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كُلَّ عَبْدٍ هُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ غَيْرَهُ وَلَا الْإِيمَانُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ بَلْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا كَامِلَ الْإِيمَانِ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ إذَا فَعَلَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَسُولُهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ التَّصْدِيقُ الْمُفَضَّلُ بِمَا لَمْ يَنْزِلْ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَصُمْ رَمَضَانَ وَلَمْ يَحُجَّ الْبَيْتَ كَمَا أَنَّ مَنْ آمَنَ فِي زَمَنِنَا هَذَا إيمَانًا تَامًّا وَمَاتَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ صَلَاةٍ عَلَيْهِ مَاتَ مُسْتَكْمِلًا لِلْإِيمَانِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلثَّوَابِ عَلَى إيمَانِهِ ذَلِكَ . وَأَمَّا بَعْدَ نُزُولِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِيجَابِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَتَمَكَّنَ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ بِمُجَرَّدِ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّ بِهِ الثَّوَابَ قَبْلَ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ يَقُولُ هَؤُلَاءِ : لَمْ يَكُنْ هَذَا مُؤْمِنًا بِمَا كَانَ بِهِ مُؤْمِنًا قَبْلَ ذَلِكَ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي شُرِعَ لِهَذَا أَعْظَمُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي شُرِعَ لِهَذَا وَكَذَلِكَ الْمُسْتَطِيعُ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهُ وَصَاحِبُ الْمَالِ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ . وَأَمَّا تَفَاصِيلُهُ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ فَتَارَةً يَقُومُ هَذَا مِنْ الْإِقْرَارِ وَالْعَمَلِ بِأَعْظَمَ مِمَّا يَقُومُ بِهِ هَذَا . وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْأُمُورِ يَتَفَاضَلُ حَتَّى إنَّ الْإِنْسَانَ(2/227)
يَجِدُ نَفْسَهُ أَحْيَانًا أَعْظَمَ حُبًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةً لِلَّهِ وَرَجَاءً لِرَحْمَتِهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ ؛ وَإِخْلَاصًا مِنْهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ . وَكَذَلِكَ الْمَعْرِفَةُ وَالتَّصْدِيقُ تَتَفَاضَلُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَهَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعُمَرِ بْنِ حَبِيبٍ الخطمي وَغَيْرِهِ : الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَإِذَا ذَكَرْنَا اللَّهَ وَحَمِدْنَاهُ وَسَبَّحْنَاهُ فَتِلْكَ زِيَادَتُهُ وَإِذَا غَفَلْنَا وَنَسِينَا وَضَيَّعْنَا فَذَلِكَ نُقْصَانُهُ . وَلِهَذَا سُنَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ اسْتَثْنَوْا فِي الْإِيمَانِ وَآخَرُونَ أَنْكَرُوا الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ وَقَالُوا : هَذَا شَكٌّ . وَاَلَّذِينَ اسْتَثْنَوْا فِيهِ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ بَلْ جَوَّزَ تَرْكَهُ بِاعْتِبَارِ حَالَتَيْنِ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَمَنْ اسْتَثْنَى لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ قَائِمٍ بِالْوَاجِبَاتِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَقَدْ أَحْسَنَ وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَثْنَى لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْعَاقِبَةِ وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَثْنَى تَعْلِيقًا لِلْأَمْرِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا شَكًّا وَمَنْ جَزَمَ بِمَا هُوَ فِي نَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَمَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَجَزَمَ بِمَا هُوَ مُتَيَقِّنٌ حُصُولَهُ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ مُحْسِنٌ فِي ذَلِكَ . وَكَثِيرٌ مِنْ مُنَازَعَاتِ النَّاسِ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَمَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ هِيَ مُنَازَعَاتٌ لَفْظِيَّةٌ فَإِذَا فُصِلَ الْخِطَابُ زَالَ الِارْتِيَابُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
==============
رأي علي رضي الله عنه بمن قدسه(1)
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 9 / ص 224)(2/228)
وَلَيْسَ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُ كَذِبًا وَاخْتِلَافًا مِنْ " الرَّافِضَةِ " مِنْ حِينِ نَبَغُوا . فَأَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَ الرَّفْضَ كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا يُقَالُ لَهُ " عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَأٍ " فَأَرَادَ بِذَلِكَ إفْسَادَ دِينِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَ " بولص " صَاحِبُ الرَّسَائِلِ الَّتِي بِأَيْدِي النَّصَارَى حَيْثُ ابْتَدَعَ لَهُمْ بِدَعًا أَفْسَدَ بِهَا دِينَهُمْ وَكَانَ يَهُودِيًّا فَأَظْهَرَ النَّصْرَانِيَّةَ نِفَاقًا فَقَصَدَ إفْسَادَهَا وَكَذَلِكَ كَانَ " ابْنُ سَبَأٍ " يَهُودِيًّا فَقَصَدَ ذَلِكَ وَسَعَى فِي الْفِتْنَةِ لِقَصْدِ إفْسَادِ الْمِلَّةِ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ حَصَلَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ تَحْرِيشٌ وَفِتْنَةٌ قُتِلَ فِيهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَرَى مَا جَرَى مِنْ الْفِتْنَةِ وَلَمْ يَجْمَعْ اللَّهُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى ضَلَالَةٍ ؛ بَلْ لَا يَزَالُ فِيهَا طَائِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْحَقِّ لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا وَلَا مَنْ خَذَلَهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ؛ كَمَا شَهِدَتْ بِذَلِكَ النُّصُوصُ الْمُسْتَفِيضَةُ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَمَّا أُحْدِثَتْ الْبِدَعُ الشِّيعِيَّةُ فِي خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَدَّهَا . وَكَانَتْ " ثَلَاثَةَ طَوَائِفَ " غَالِيَةٌ ؛ وَسَبَّابَةٌ وَمُفَضِّلَةٌ فَأَمَّا " الْغَالِيَةُ " فَإِنَّهُ حَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ فَإِنَّهُ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ بَابِ كِنْدَةَ فَسَجَدَ لَهُ أَقْوَامٌ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا : أَنْتَ هُوَ اللَّهُ . فَاسْتَتَابَهُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يَرْجِعُوا فَأَمَرَ فِي الثَّالِثِ بِأَخَادِيدَ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ فِيهَا النَّارَ ثُمَّ قَذَفَهُمْ فِيهَا وَقَالَ : لَمَّا رَأَيْت الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا أَجَّجْت نَارِي وَدَعَوْت قنبرا وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عَلِيًّا أَتَى بِزَنَادِقَتِهِمْ فَحَرَّقَهُمْ وَبَلَغَ ذَلِكَ { ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ : أَمَّا أَنَا فَلَوْ كُنْت لَمْ أُحَرِّقْهُمْ ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَذَّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَلَضَرَبْت أَعْنَاقَهُمْ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَأَمَّا " السَّبَّابَةُ " فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ طَلَبَ قَتْلَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ إلَى قرقيسيا ؛ وَكَلَّمَهُ فِيهِ وَكَانَ عَلِيٌّ يُدَارِي أُمَرَاءَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا وَلَمْ يَكُونُوا يُطِيعُونَهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ . وَأَمَّا " الْمُفَضِّلَةُ " فَقَالَ : لَا أوتى بِأَحَدِ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِينَ وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ وَجْهًا أَنَّهُ قَالَ : خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ : يَا أَبَتِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ يَا بُنَيَّ ؟ أَوَمَا تَعْرِفُ قَالَ : لَا . قَالَ : أَبُو بَكْرٍ ؛ قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : عُمَرُ . وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ عَلِيًّا رَوَى هَذَا التَّفْضِيلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . " وَالْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّهُ قَدْ كُذِبَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ الَّذِي لَا يَجُوزُ نِسْبَتُهَا إلَى أَقَلِّ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى أَضَافَتْ إلَيْهِ الْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ والخرمية والمزدكية والإسماعيلية والنصيرية مَذَاهِبَهَا الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْسَدِ مَذَاهِبِ الْعَالَمِينَ وَادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ الْمَوْرُوثَةِ عَنْهُ . وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا أَحْدَثَهُ الْمُنَافِقُونَ الزَّنَادِقَةُ الَّذِينَ قَصَدُوا إظْهَارَ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ يُبْطِنُونَ خِلَافَ ذَلِكَ وَاسْتَتْبَعُوا الطَّوَائِفَ الْخَارِجَةَ عَنْ الشَّرَائِعِ ؛ وَكَانَ لَهُمْ دُوَلٌ ؛ وَجَرَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فِتَنٌ حَتَّى قَالَ " ابْنُ سِينَا " : إنَّمَا اشْتَغَلْت فِي عُلُومِ الْفَلَاسِفَةِ لِأَنَّ أَبِي كَانَ مِنْ أَهْلِ دَعْوَةِ الْمِصْرِيِّينَ . يَعْنِي مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ الرَّافِضَةِ الْقَرَامِطَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَحِلُونَ هَذِهِ الْعُلُومَ الْفَلْسَفِيَّةَ ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ الرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْبُعْدِ عَنْ مَعْرِفَةِ النُّبُوَّاتِ اتِّصَالٌ وَانْضِمَامَاتٌ يَجْمَعُهُمْ فِيهِ الْجَهْلُ الصَّمِيمُ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ؛ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ . فَإِذَا كَانَ فِي الزَّمَانِ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ مِنْ سَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ قَدْ كُذِبَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ وَأُضِيفَ إلَيْهِمْ مِنْ مَذَاهِبِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ مَا يَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ بَرَاءَتَهُمْ مِنْهُ وَنَفَقَ ذَلِكَ(2/229)
عَلَى طَوَائِفَ كَثِيرَةٍ مُنْتَسِبَةٍ إلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ مَعَ وُجُودِ مَنْ يُبَيِّنُ كَذِبَ هَؤُلَاءِ وَيَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَيَذُبُّ عَنْ الْمِلَّةِ بِالْقَلْبِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ فَكَيْفَ الظَّنُّ بِمَا يُضَافُ إلَى " إدْرِيسَ " وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أُمُورِ النُّجُومِ وَالْفَلْسَفَةِ مَعَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَتَنَوُّعِ الْحَدَثَانِ وَاخْتِلَافِ الْمُلْكِ وَالْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ وَعَدَمِ مَنْ يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ مِنْ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ وَاشْتِمَالِ ذَلِكَ عَلَى مَا لَا يُحْصَى مِنْ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ .
==============
قتل المرتد بعد استتابته ثلاثا(1)
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 123)(2/230)
وَاَلَّذِينَ يَنْفُونَ عَنْ الْفَاسِقِ اسْمَ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ . فَلَيْسَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ نِزَاعٌ فِي أَصْحَابِ الذُّنُوبِ إذَا كَانُوا مُقِرِّينَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَأَنَّهُ يَدْخُلُ النَّارَ مِنْهُمْ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِدُخُولِهِ إلَيْهَا وَلَا يُخَلَّدُ مِنْهُمْ فِيهَا أَحَدٌ وَلَا يَكُونُونَ مُرْتَدِّينَ مُبَاحِي الدِّمَاءِ وَلَكِنَّ " الْأَقْوَالَ الْمُنْحَرِفَةَ " قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ كَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ . وَقَوْلُ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : مَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَدْخُلُ النَّارَ ؛ بَلْ نَقِفُ فِي هَذَا كُلِّهِ . وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الْجَزْمُ بِالنَّفْيِ الْعَامِّ . وَيُقَالُ لِلْخَوَارِجِ : الَّذِي نَفَى عَنْ السَّارِقِ وَالزَّانِي وَالشَّارِبِ وَغَيْرِهِمْ الْإِيمَانَ ؛ هُوَ لَمْ يَجْعَلْهُمْ مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ عَاقَبَ هَذَا بِالْجَلْدِ وَهَذَا بِالْقَطْعِ وَلَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا إلَّا الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ وَلَمْ يَقْتُلْهُ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ ؛ فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ وَهَذَا يُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ بِلَا اسْتِتَابَةٍ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ فَلَيْسُوا عِنْدَهُ مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ مَعَ ظُهُورِ ذُنُوبِهِمْ وَلَيْسُوا كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ فَأُولَئِكَ لَمْ يُعَاقِبْهُمْ إلَّا عَلَى ذَنْبٍ ظَاهِرٍ . وَبِسَبَبِ الْكَلَامِ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " تَنَازَعَ النَّاسُ هَلْ فِي اللُّغَةِ أَسْمَاءٌ شَرْعِيَّةٌ نَقَلَهَا الشَّارِعُ عَنْ مُسَمَّاهَا فِي اللُّغَةِ أَوْ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ لَكِنَّ الشَّارِعَ زَادَ فِي أَحْكَامِهَا لَا فِي مَعْنَى الْأَسْمَاءِ ؟ . وَهَكَذَا قَالُوا فِي اسْمِ " الصَّلَاةِ " وَ " الزَّكَاةِ " وَ " الصِّيَامِ " " وَالْحَجِّ " إنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ لَكِنْ زَادَ فِي أَحْكَامِهَا . وَمَقْصُودُهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ . وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ إلَى أَنَّ الشَّارِعَ تَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفَ أَهْلِ الْعُرْفِ فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ مَجَازٌ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى عُرْفِ الشَّارِعِ حَقِيقَةٌ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَنْقُلْهَا وَلَمْ يُغَيِّرْهَا وَلَكِنْ اسْتَعْمَلَهَا مُقَيَّدَةً لَا مُطْلَقَةً كَمَا يَسْتَعْمِلُ نَظَائِرَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } فَذَكَرَ حَجًّا خَاصًّا وَهُوَ حَجُّ الْبَيْتِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ } فَلَمْ يَكُنْ لَفْظُ الْحَجِّ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ قَصْدٍ بَلْ لِقَصْدِ مَخْصُوصٍ دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ نَفْسُهُ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ اللُّغَةِ وَالشَّاعِرُ إذَا قَالَ : وَاشْهَدْ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً يَحُجُّونَ سَبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا كَانَ مُتَكَلِّمًا بِاللُّغَةِ وَقَدْ قَيَّدَ : لَفْظَهُ : بِحَجِّ سَبِّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ الْحَجَّ الْمَخْصُوصَ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ فَكَذَلِكَ الْحَجُّ الْمَخْصُوصُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ أَوْ التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ : فَإِذَا قِيلَ : الْحَجُّ فَرْضٌ عَلَيْك كَانَتْ لَامُ الْعَهْدِ تُبَيِّنُ أَنَّهُ حِجُّ الْبَيْتِ وَكَذَلِكَ " الزَّكَاةُ " هِيَ اسْمٌ لِمَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ ؛ وَزَكَاةُ النَّفْسِ زِيَادَةُ خَيْرِهَا وَذَهَابُ شَرِّهَا وَالْإِحْسَانُ إلَى النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ مَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْفَوَاحِشِ مِمَّا تَزْكُو بِهِ . قَالَ تَعَالَى . { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } وَأَصْلُ زَكَاتِهَا بِالتَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ ؛ قَالَ تَعَالَى : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } وَهِيَ عِنْدُ الْمُفَسِّرِينَ التَّوْحِيدُ . وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ وَسَمَّاهَا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ؛ فَصَارَ لَفْظُ الزَّكَاةِ إذَا عُرِّفَ بِاللَّامِ يَنْصَرِفُ إلَيْهَا لِأَجْلِ الْعَهْدِ وَمِنْ الْأَسْمَاءِ مَا يَكُونُ أَهْلُ الْعُرْفِ نَقَلُوهُ وَيَنْسُبُونَ ذَلِكَ إلَى الشَّارِعِ مِثْلَ لَفْظِ " التَّيَمُّمِ " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } فَلَفْظُ " التَّيَمُّمِ " اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِتَيَمُّمِ الصَّعِيدِ ثُمَّ(2/231)
أَمَرَ بِمَسْحِ الْوُجُوهِ وَالْأَيْدِي مِنْهُ ؛ فَصَارَ لَفْظُ التَّيَمُّمِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا الْمَسْحُ ؛ وَلَيْسَ هُوَ لُغَةُ الشَّارِعِ بَلْ الشَّارِعُ فَرَّقَ بَيْنَ تَيَمُّمِ الصَّعِيدِ وَبَيْنَ الْمَسْحِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَهُ وَلَفْظُ " الْإِيمَانِ " أَمَرَ بِهِ مُقَيَّدًا بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْإِسْلَامِ " بِالِاسْتِسْلَامِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؛ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْكُفْرِ " مُقَيَّدًا ؛ وَلَكِنْ لَفْظُ " النِّفَاقِ " قَدْ قِيلَ : إنَّهُ لَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تَكَلَّمَتْ بِهِ لَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِهِمْ فَإِنَّ نَفَقَ يُشْبِهُ خَرَجَ وَمِنْهُ نَفَقَتْ الدَّابَّةُ إذَا مَاتَتْ : وَمِنْهُ نَافِقَاءُ الْيَرْبُوعِ وَالنَّفَقُ فِي الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ } فَالْمُنَافِقُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ بَاطِنًا بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهِ ظَاهِرًا ؛ وَقَيَّدَ النِّفَاقَ بِأَنَّهُ نِفَاقٌ مِنْ الْإِيمَانِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي مَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْمَلِكِ مُنَافِقًا عَلَيْهِ ؛ لَكِنَّ النِّفَاقَ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ هُوَ النِّفَاقُ عَلَى الرَّسُولِ . فَخِطَابُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلنَّاسِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ كَخِطَابِ النَّاسِ بِغَيْرِهَا ؛ وَهُوَ خِطَابٌ مُقَيَّدٌ خَاصٌّ لَا مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ أَنْوَاعًا . وَقَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ تِلْكَ الْخَصَائِصَ ؛ وَالِاسْمُ دَلَّ عَلَيْهَا ؛ فَلَا يُقَالُ : إنَّهَا مَنْقُولَةٌ وَلَا إنَّهُ زِيدَ فِي الْحُكْمِ دُونَ الِاسْمِ ؛ بَلْ الِاسْمُ إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ عَلَى وَجْهٍ يَخْتَصُّ بِمُرَادِ الشَّارِعِ ؛ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مُطْلَقًا وَهُوَ إنَّمَا قَالَ : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } بَعْدَ أَنْ عَرَّفَهُمْ الصَّلَاةَ الْمَأْمُورَ بِهَا ؛ فَكَانَ التَّعْرِيفُ مُنْصَرِفًا إلَى الصَّلَاةِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا ؛ لَمْ يَرِدْ لَفْظُ الصَّلَاةِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ . وَلِهَذَا كُلُّ مَنْ قَالَ فِي لَفْظِ الصَّلَاةِ : إنَّهُ عَامٌّ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ ؛ أَوْ إنَّهُ مُجْمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَأَقْوَالُهُمْ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا وَرَدَ خَبَرًا أَوْ أَمْرًا فَالْخَبَرُ كَقَوْلِهِ : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى } { عَبْدًا إذَا صَلَّى } وَسُورَةُ { اقْرَأْ } مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ { وَكَانَ بَعْضُ الْكُفَّارِ إمَّا أَبُو جَهْلٍ أَوْ غَيْرُهُ قَدْ نَهَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ وَقَالَ : لَئِنْ رَأَيْته يُصَلِّي لَأَطَأَنَّ عُنُقَهُ . فَلَمَّا رَآهُ سَاجِدًا رَأَى مِنْ الْهَوْلِ مَا أَوْجَبَ نُكُوصَهُ عَلَى عَقِبَيْهِ } فَإِذَا قِيلَ : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى } { عَبْدًا إذَا صَلَّى } فَقَدْ عَلِمْت تِلْكَ الصَّلَاةَ الْوَاقِعَةَ بِلَا إجْمَالٍ فِي اللَّفْظِ وَلَا عُمُومٍ . ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا فُرِضَتْ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ الصَّلَوَاتِ بِمَوَاقِيتِهَا صَبِيحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَانَ جبرائيل يَؤُمُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمُسْلِمُونَ يَأْتَمُّونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } عَرَفُوا أَنَّهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ وَقِيلَ : إنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَتْ لَهُ صَلَاتَانِ طَرَفَيْ النَّهَارِ فَكَانَتْ أَيْضًا مَعْرُوفَةً فَلَمْ يُخَاطَبُوا بِاسْمِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إلَّا وَمُسَمَّاهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ . فَلَا إجْمَالَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُسَمَّى حَجًّا وَدُعَاءً وَصَوْمًا فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُطْلَقًا وَذَلِكَ لَمْ يَرِدْ . وَكَذَلِكَ " الْإِيمَانُ " وَ " الْإِسْلَامُ " وَقَدْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَظْهَرِ الْأُمُورِ وَإِنَّمَا سَأَلَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَهُمْ يَسْمَعُونَ وَقَالَ : { هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ } لِيُبَيِّنَ لَهُمْ كَمَالَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَحَقَائِقَهَا الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُقْصَدَ لِئَلَّا يَقْتَصِرُوا عَلَى أَدْنَى مُسَمَّيَاتِهَا وَهَذَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ الْمِسْكِينُ هَذَا الطَّوَّافَ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إلْحَافًا } فَهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمِسْكِينَ وَأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ وَكَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ فِيمَنْ يُظْهِرُ حَاجَتَهُ بِالسُّؤَالِ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِي يُظْهِرُ حَاجَتَهُ بِالسُّؤَالِ وَالنَّاسُ يُعْطُونَهُ تَزُولُ مَسْكَنَتُهُ بِإِعْطَاءِ النَّاسِ لَهُ وَالسُّؤَالُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحِرْفَةِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِسْكِينًا(2/232)
يَسْتَحِقُّ مِنْ الزَّكَاةِ إذَا لَمْ يُعْطَ مَنْ غَيْرِهَا كِفَايَتُهُ فَهُوَ إذَا وَجَدَ مَنْ يُعْطِيهِ كِفَايَتَهُ لَمْ يَبْقَ مِسْكِينًا وَإِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُحْتَاجُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَلَا يُعْرَفُ فَيُعْطَى . فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ فِي الْعَطَاءِ فَإِنَّهُ مِسْكِينٌ قَطْعًا وَذَاكَ مَسْكَنَتُهُ تَنْدَفِعُ بِعَطَاءِ مَنْ يَسْأَلُهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : " الْإِسْلَامُ هُوَ الْخَمْسُ " يُرِيدُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ وَاجِبٌ دَاخِلٌ فِي الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكْتَفِيَ بِالْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ ؛ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمُفَصَّلِ لَا يَكْتَفِي فِيهِ بِالْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ وَلِهَذَا وَصَفَ الْإِسْلَامَ بِهَذَا . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَهُوَ كَافِرٌ وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْأَرْبَعَةُ فَاخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ تَارِكِهَا وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا : أَهْلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِالذَّنْبِ فَإِنَّمَا نُرِيدُ بِهِ الْمَعَاصِيَ كَالزِّنَا وَالشُّرْبِ وَأَمَّا هَذِهِ الْمَبَانِي فَفِي تَكْفِيرِ تَارِكِهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . وَعَنْ أَحْمَد : فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ : إنَّهُ يَكْفُرُ مَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهَا وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ كَابْنِ حَبِيبٍ . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ : لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَقَطْ وَرِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ : لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ إذَا قَاتَلَ الْإِمَامَ عَلَيْهَا وَرَابِعَةٌ : لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ . وَخَامِسَةٌ : لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْهُنَّ . وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ لِلسَّلَفِ . قَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ : مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ . وَمَنْ تَرَكَ الْحَجَّ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ . وَمَنْ تَرَكَ صَوْمَ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ . وَمَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ مُتَعَمَّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ . وَمَنْ تَرَكَ صَوْمَ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : لَا تُرْفَعُ الصَّلَاةُ إلَّا بِالزَّكَاةِ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُؤْتِ الزَّكَاةَ فَلَا صَلَاةَ لَهُ . رَوَاهُنَّ أَسَدُ بْنُ مُوسَى . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو : مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُمْسِيًا أَصْبَحَ مُشْرِكًا وَمَنْ شَرِبَهُ مُصْبِحًا أَمْسَى مُشْرِكًا فَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ النخعي : كَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : لِأَنَّهُ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَخْنَسُ فِي كِتَابِهِ : مَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ كَانَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ وَالْحَجُّ إنَّمَا فُرِضَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ . وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ قَبْلَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ النَّاسَ بِالْإِيمَانِ . وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ مَعْنَاهُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ بَلْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَصْلَ مَعْنَاهُ وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ . وَ ( الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَنْ نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ اسْمَ " الْإِيمَانِ " أَوْ " الْإِسْلَامِ " فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ فِيهِ وَإِنْ بَقِيَ بَعْضُهَا وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَكُونُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ . قَالَ أَبُو داود السجستاني : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي الْمِقْدَامِ عَنْ أَبِي يَحْيَى قَالَ : سُئِلَ حُذَيْفَةُ عَنْ الْمُنَافِقِ . قَالَ : الَّذِي يَعْرِفُ الْإِسْلَامَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ . وَقَالَ أَبُو داود : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي البختري عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ : قَلْبٌ أَغْلَفُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ وَقَلْبٌ مُصَفَّحٌ وَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ وَقَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ ؛ وَقَلْبٌ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ ؛ فَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ يَمُدُّهَا مَاءٌ طَيِّبٌ ؛ وَمَثَلُ النِّفَاقِ مَثَلُ قُرْحَةٍ يَمُدُّهَا قَيْحٌ وَدَمٌ ؛ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ عَلَيْهِ غَلَبَ . وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا ؛ وَهُوَ فِي " الْمُسْنَدِ " مَرْفُوعًا . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حُذَيْفَةُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُمْ لِلْكُفْرِ(2/233)
يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ } فَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِيهِمْ نِفَاقٌ مَغْلُوبٌ فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ غَلَبَ نِفَاقُهُمْ فَصَارُوا إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبَ . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : إنَّ الْإِيمَانَ يَبْدُو لُمْظَةً بَيْضَاءَ فِي الْقَلْبِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ إيمَانًا ازْدَادَ الْقَلْبُ بَيَاضًا حَتَّى إذَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ ابْيَضَّ الْقَلْبُ كُلُّهُ . وَإِنَّ النِّفَاقَ يَبْدُو لُمْظَةً سَوْدَاءَ فِي الْقَلْبِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ نِفَاقًا ازْدَادَ الْقَلْبُ سَوَادًا حَتَّى إذَا اسْتَكْمَلَ الْعَبْدُ النِّفَاقَ اسْوَدَّ الْقَلْبُ وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ شَقَقْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ لَوَجَدْتُمُوهُ أَبْيَضَ وَلَوْ شَقَقْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ لَوَجَدْتُمُوهُ أَسْوَدَ . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ . رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ السَّلَفِ يُبَيِّنُونَ أَنَّ الْقَلْبَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ شُعَبَ الْإِيمَانِ وَذَكَرَ شُعَبَ النِّفَاقِ وَقَالَ : { مَنْ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا } وَتِلْكَ الشُّعْبَةُ قَدْ يَكُونُ مَعَهَا كَثِيرٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَلِهَذَا قَالَ : { وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ أَقَلُّ الْقَلِيلِ لَمْ يَخْلُدْ فِي النَّارِ وَأَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنْ النِّفَاقِ فَهُوَ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ عَلَى قَدْرِ مَا مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ . وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ لِلْأَعْرَابِ : { لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } نَفَى حَقِيقَةَ دُخُولِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ شُعْبَةٌ مِنْهُ كَمَا نَفَاهُ عَنْ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَمَنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَمَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِمَّنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ لِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ . وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ : مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : أَسْلَمْنَا أَيْ اسْتَسْلَمْنَا خَوْفَ السَّيْفِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : هُوَ الْإِسْلَامُ . الْجَمِيعُ صَحِيحٌ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ الَّذِي قَلْبُهُ كُلُّهُ أَسْوَدُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَخْشَوْنَ النِّفَاقَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَخَافُوا التَّكْذِيبَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَقِينًا وَهَذَا مُسْتَنَدُ مَنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا يَعْلَمُهُ مَنْ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ وَلَكِنْ الْإِيمَانُ لَيْسَ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَعْمَالٍ قَلْبِيَّةٍ تَسْتَلْزِمُ أَعْمَالًا ظَاهِرَةً كَمَا تَقَدَّمَ فَحُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَحُبُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَبُغْضُ مَا نَهَى عَنْهُ هَذَا مِنْ أَخَصِّ الْأُمُورِ بِالْإِيمَانِ وَلِهَذَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ أَنَّ : { مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ } فَهَذَا يُحِبُّ الْحَسَنَةَ وَيَفْرَحُ بِهَا وَيُبْغِضُ السَّيِّئَةَ وَيَسُوءُهُ فِعْلُهَا وَإِنْ فَعَلَهَا بِشَهْوَةِ غَالِبَةٍ وَهَذَا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ مِنْ خَصَائِصِ الْإِيمَانِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزَّانِيَ حِينَ يَزْنِي إنَّمَا يَزْنِي لِحُبِّ نَفْسِهِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَوْ قَامَ بِقَلْبِهِ خَشْيَةُ اللَّهِ الَّتِي تَقْهَرُ الشَّهْوَةَ أَوْ حُبُّ اللَّهِ الَّذِي يَغْلِبُهَا ؛ لَمْ يَزْنِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فَمَنْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ حَقَّ الْإِخْلَاصِ لَمْ يَزْنِ وَإِنَّمَا يَزْنِي لِخُلُوِّهِ عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي يُنْزَعُ مِنْهُ لَمْ يُنْزَعْ مِنْهُ نَفْسُ التَّصْدِيقِ وَلِهَذَا قِيلَ : هُوَ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَحِقَّ لِلثَّوَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا وَإِلَّا كَانَ(2/234)
مُنَافِقًا ؛ لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ صَدَقَ قَامَ بِقَلْبِهِ مِنْ الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الْوَاجِبَةِ مِثْلُ كَمَالِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمِثْلُ خَشْيَةِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الْأَعْمَالِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ بَلْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُصَدِّقًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُرَائِي بِأَعْمَالِهِ وَيَكُونُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَقَدْ خُوطِبَ بِهَذَا الْمُؤْمِنُونَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٌ " فَقِيلَ لَهُمْ : { إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَكْثَرَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ؛ وَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ مَنْ لَمْ يَرْتَبْ وَجَاهَدَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ تَقُمْ بِقَلْبِهِ الْأَحْوَالُ الْوَاجِبَةُ فِي الْإِيمَانِ فَهُوَ الَّذِي نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّصْدِيقُ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ التَّصْدِيقِ شَيْءٌ مِنْ حُبِّ اللَّهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَإِلَّا فَالتَّصْدِيقُ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ إيمَانًا أَلْبَتَّةَ بَلْ هُوَ كَتَصْدِيقِ فِرْعَوْنَ وَالْيَهُودِ وَإِبْلِيسَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ السَّلَفُ عَلَى الجهمية . قَالَ الحميدي : سَمِعْت وَكِيعًا يَقُولُ : أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ . والجهمية يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ الْمَعْرِفَةُ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ : وَهَذَا كُفْرٌ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الكلابي : سَمِعْت وَكِيعًا يَقُولُ : الجهمية شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ قَالَ : وَقَالَ وَكِيعٌ : الْمُرْجِئَةُ : الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْإِقْرَارُ يُجْزِئُ عَنْ الْعَمَلِ ؛ وَمَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ هَلَكَ ؛ وَمَنْ قَالَ : النِّيَّةُ تُجْزِئُ عَنْ الْعَمَلِ فَهُوَ كُفْرٌ وَهُوَ قَوْلُ جَهْمٍ وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ . وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ : إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ شَعَائِرِ السُّنَّةِ وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي " الْأُمِّ " : وَكَانَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَنْ أَدْرَكْنَاهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ لَا يُجْزِئُ وَاحِدٌ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَّا بِالْآخَرِ ؛ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ - فِي " مَنَاقِبِهِ " - : سَمِعْت حَرْمَلَةَ يَقُولُ : اجْتَمَعَ حَفْصٌ الْفَرْدُ وَمَصْلَانِ الإباضي عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي دَارِ الجروي فَتَنَاظَرَا مَعَهُ فِي الْإِيمَانِ فَاحْتَجَّ مَصْلَانِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَخَالَفَهُ حَفْصٌ الْفَرْدُ فَحَمِيَ الشَّافِعِيُّ وَتَقَلَّدَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَطَحَنَ حَفْصًا الْفَرْدَ وَقَطَعَهُ . وَرَوَى أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي بِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوفِ عَنْ مُوسَى بْنِ هَارُونَ الْحَمَّالِ قَالَ : أَمْلَى عَلَيْنَا إسْحَاقُ بْنُ راهويه أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ لَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ كَمَا وَصَفْنَا وَإِنَّمَا عَقَلْنَا هَذَا بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالْآثَارِ الْعَامَّةِ الْمُحْكَمَةِ ؛ وَآحَادِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ وَهَلُمَّ جَرًّا عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ بَعْدَ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَكَذَلِكَ فِي عَهْدِ الأوزاعي بِالشَّامِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِالْعِرَاقِ ؛ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ بِالْحِجَازِ وَمَعْمَرٍ بِالْيَمَنِ عَلَى مَا فَسَّرْنَا وَبَيَّنَّا أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . وَقَالَ إسْحَاقُ : مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا حَتَّى ذَهَبَ وَقْتُ الظُّهْرِ إلَى الْمَغْرِبِ وَالْمَغْرِبِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ وَقَالَ تَرْكُهَا لَا يَكُونُ كُفْرًا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ - يَعْنِي تَارِكَهَا . وَقَالَ ذَلِكَ - وَأَمَّا إذَا صَلَّى وَقَالَ ذَلِكَ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ قَالَ : وَاتَّبَعَهُمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ عَصْرِنَا هَذَا أَهْلُ الْعِلْمِ إلَّا مَنْ بَايَنَ الْجَمَاعَةَ وَاتَّبَعَ الْأَهْوَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ فَأُولَئِكَ قَوْمٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِمْ لَمَّا(2/235)
بَايَنُوا الْجَمَاعَةَ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ الْإِمَامُ - وَلَهُ كِتَابٌ مُصَنَّفٌ فِي الْإِيمَانِ قَالَ - : هَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ كَانَ يَقُولُ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ : عُبَيْدُ بْن عُمَيْرٍ الليثي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرِ وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ؛ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ؛ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ؛ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ جَرِيحٍ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ داود بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ . وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ : مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ الزَّهْرِيُّ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو حَازِمٍ الْأَعْرَجُ سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمْرِيُّ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي ذِئْبٍ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الماجشون - عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ . وَمِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ : طَاوُوسٌ الْيَمَانِيُّ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ . وَمِنْ أَهْل مِصْرَ وَالشَّامِ : مَكْحُولٌ الأوزاعي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأيلي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ يَزِيدُ بْنُ شريح سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ حيوة ابْنُ شريح عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ . وَمَنْ سَكَنَ الْعَوَاصِمَ وَغَيْرَهَا مِنْ الْجَزِيرَةِ : مَيْمُونُ بْنُ مهران يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الرقي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَالِكٍ المعافي بْنُ عِمْرَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الحراني أَبُو إسْحَاقَ الفزاري مخلد بْنُ الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ بكار يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ . وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ : عَلْقَمَةُ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ أَبُو وَائِلٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الرَّبِيعُ بْنُ خيثم عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ إبْرَاهِيمُ النخعي الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ سَلَمَةُ بْنُ كهيل مُغِيرَةُ الضبي عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ أَبُو حَيَّانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ سُلَيْمَانُ بْنُ مهران الْأَعْمَشُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ سُفْيَانُ بْنُ عيينة الفضيل بْنُ عِيَاضٍ أَبُو الْمِقْدَامِ ثَابِتُ بْنُ الْعَجْلَانِ ابْنُ شبرمة ابْنُ أَبِي لَيْلَى زُهَيْرٌ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ أَبُو الْأَحْوَصِ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ أَبُو أُسَامَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ زَيْدُ بْنُ الحباب الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الجعفي مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ العبدي يَحْيَى بْنُ آدَمَ وَمُحَمَّدٌ وَيَعْلَى وَعَمْرُو بَنُو عُبَيْدٍ . وَمِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ : الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ سيرين قتادة ابْنُ دِعَامَةَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المزني أَيُّوبُ السختياني يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ سُلَيْمَانُ التيمي هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ الدستوائي شُعْبَةُ ابْنُ الْحَجَّاجِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَبُو الْأَشْهَبِ يَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَبُو عَوَانَةَ وهيب بْنُ خَالِدٍ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التيمي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ يَزِيدُ بْنُ زريع الْمُؤَمِّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي . وَمِنْ أَهْلِ وَاسِطٍ : هشيم بْنُ بَشِيرٍ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ صَالِحُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ . وَمِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ : الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ أَبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ النَّضْرُ بْنُ شميل جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الضبي . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : هَؤُلَاءِ جَمِيعًا يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَعْمُولُ بِهِ عِنْدَنَا . قُلْت : ذَكَرَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ الْإِرْجَاءَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ كَانَ أَوَّلًا فِيهِمْ أَكْثَرَ وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَالَهُ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فَاحْتَاجَ عُلَمَاؤُهَا أَنْ يُظْهِرُوا إنْكَارَ ذَلِكَ فَكَثُرَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ ؛ كَمَا أَنَّ التَّجَهُّمَ وَتَعْطِيلَ الصِّفَاتِ لَمَّا كَانَ ابْتِدَاءَ حُدُوثِهِ مِنْ خُرَاسَانَ كَثُرَ مِنْ عُلَمَاءِ خُرَاسَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ مِنْ الْإِنْكَارِ عَلَى الجهمية مَا(2/236)
لَمْ يُوجَدْ قَطُّ لِمَنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ فِي بَلَدِهِ وَلَا سَمِعَ بِهَا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ : { إنَّ لِلَّهِ عِنْدَ كُلِّ بِدْعَةٍ يَكَادُ بِهَا الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِعَلَامَاتِ الْإِسْلَامِ ؛ فَاغْتَنِمُوا تِلْكَ الْمَجَالِسَ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عَلَى أَهْلِهَا } أَوْ كَمَا قَالَ . وَإِذَا كَانَ مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ : إنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ : إنَّهُ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَكُفْرٌ لَيْسَ هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قَالُوا : كَفَرُوا كُفْرًا لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَقَدْ اتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ . قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ المروزي فِي كِتَابِ " الصَّلَاةِ " : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ حَدِيثِ جبرائيل هَذَا فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ } وَمَا ذَكَرَ مَعَهُ كَلَامٌ جَامِعٌ مُخْتَصَرٌ لَهُ غَوْرٌ وَقَدْ وَهَمَتْ الْمُرْجِئَةُ فِي تَفْسِيرِهِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ قِلَّةٌ مَعْرِفَةً مِنْهُمْ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَغَوْرُ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَفَوَاتِحَهُ وَاخْتُصِرَ لَهُ الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا . أَمَّا قَوْلُهُ : { الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ } فَأَنْ تُوَحِّدَهُ وَتُصَدِّقَ بِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَتَخْضَعَ لَهُ وَلِأَمْرِهِ بِإِعْطَاءِ الْعَزْمِ لِلْأَدَاءِ لِمَا أَمَرَ مُجَانِبًا لِلِاسْتِنْكَافِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَالْمُعَانَدَةِ فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ لَزِمْت مُحَابَّهُ وَاجْتَنَبْت مساخطه . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَمَلَائِكَتِهِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِمَنْ سَمَّى اللَّهُ لَك مِنْهُمْ فِي كِتَابِهِ وَتُؤْمِنَ بِأَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سِوَاهُمْ لَا يَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ وَعَدَدَهُمْ إلَّا الَّذِي خَلَقَهُمْ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَكُتُبِهِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِمَا سَمَّى اللَّهُ مِنْ كُتُبِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ خَاصَّةً ؛ وَتُؤْمِنَ بِأَنَّ لِلَّهِ سِوَى ذَلِكَ كُتُبًا أَنْزَلَهَا عَلَى أَنْبِيَائِهِ لَا يَعْرِفُ أَسْمَاءَهَا وَعَدَدَهَا إلَّا الَّذِي أَنْزَلَهَا وَتُؤْمِنَ بِالْفُرْقَانِ وَإِيمَانُك بِهِ غَيْرُ إيمَانِك بِسَائِرِ الْكُتُبِ . إيمَانُك بِغَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ إقْرَارُك بِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَإِيمَانُك بِالْفُرْقَانِ إقْرَارُك بِهِ وَاتِّبَاعُك مَا فِيهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَرُسُلِهِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِمَا سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ رُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِأَنَّ اللَّهَ سَوَّاهُمْ رُسُلًا وَأَنْبِيَاءَ لَا يَعْلَمُ أَسْمَاءَهُمْ إلَّا الَّذِي أَرْسَلَهُمْ وَتُؤْمِنَ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيمَانُك بِهِ غَيْرُ إيمَانِك بِسَائِرِ الرُّسُلِ . إيمَانُك بِسَائِرِ الرُّسُلِ إقْرَارُك بِهِمْ وَإِيمَانُك بِمُحَمَّدِ إقْرَارُك بِهِ وَتَصْدِيقُك إيَّاهُ دَائِبًا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَإِذَا اتَّبَعْت مَا جَاءَ بِهِ أَدَّيْت الْفَرَائِضَ وَأَحْلَلْت الْحَلَالَ وَحَرَّمْت الْحَرَامَ وَوَقَفْت عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وَسَارَعْت فِي الْخَيْرَاتِ وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَالْيَوْمِ الْآخِرِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَبِكُلِّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ } فَأَنْ تُؤْمِنَ بِأَنَّ مَا أَصَابَك لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَك وَأَنَّ مَا أَخْطَأَك لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَك وَلَا تَقُلْ : لَوْ كَانَ كَذَا لَمْ يَكُنْ كَذَا وَلَوْلَا كَذَا وَكَذَا لَمْ يَكُنْ كَذَا وَكَذَا . قَالَ : فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ .
==============
قتل المرتد لا ينافي القدر(1)
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 225)(2/237)
( فَصْلٌ ) إذَا عُرِفَ هَذَا . فَنَقُولُ : الصَّوَابُ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَمُوسَى أَنَّ مُوسَى لَمْ يَلُمْ آدَمَ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُ وَذُرِّيَّتَهُ بِمَا فَعَلَ لَا لِأَجْلِ أَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ مُذْنِبٌ عَاصٍ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ ؟ لَمْ يَقُلْ : لِمَاذَا خَالَفْت الْأَمْرَ وَلِمَاذَا عَصَيْت ؟ وَالنَّاسُ مَأْمُورُونَ عِنْدَ الْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُهُمْ بِأَفْعَالِ النَّاسِ أَوْ بِغَيْرِ أَفْعَالِهِمْ بِالتَّسْلِيمِ لِلْقَدَرِ وَشُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَوْ غَيْرُهُ : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ : لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ : قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ } . فَأَمَرَهُ بِالْحِرْصِ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَيْسَ لِلْعِبَادِ أَنْفَعُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَمْرِهِ إذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ مُقَدَّرَةٌ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى الْقَدَرِ وَلَا يَتَحَسَّرَ بِتَقْدِيرِ لَا يُفِيدُ وَيَقُولَ : قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ وَلَا يَقُولَ : لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا فَيُقَدِّرُ مَا لَمْ يَقَعْ يَتَمَنَّى أَنْ لَوْ كَانَ وَقَعَ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُورِثُ حَسْرَةً وَحُزْنًا لَا يُفِيدُ وَالتَّسْلِيمُ لِلْقَدَرِ هُوَ الَّذِي يَنْفَعُهُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : الْأَمْرُ أَمْرَانِ أَمْرٌ فِيهِ حِيلَةٌ فَلَا تَعْجِزُ عَنْهُ . وَأَمْرٌ لَا حِيلَةَ فِيهِ فَلَا تَجْزَعْ مِنْهُ . وَمَا زَالَ أَئِمَّةُ الْهُدَى مِنْ الشُّيُوخِ وَغَيْرِهِمْ يُوصُونَ الْإِنْسَانَ بِأَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ وَيَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُصِيبَةُ بِسَبَبِ فِعْلِ آدَمِيٍّ . فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَنْفَقَ مَالَهُ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يُخْلِفْ لِوَلَدِهِ مَالًا أَوْ ظَلَمَ النَّاسَ بِظُلْمِ صَارُوا لِأَجْلِهِ يُبْغِضُونَ أَوْلَادَهُ وَيَحْرِمُونَهُمْ مَا يُعْطُونَهُ لِأَمْثَالِهِمْ لَكَانَ هَذَا مُصِيبَةً فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ حَصَلَتْ بِسَبَبِ فِعْلِ الْأَبِ فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ لِأَبِيهِ : أَنْتَ فَعَلْت بِنَا هَذَا قِيلَ لِلِابْنِ هَذَا كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ مَأْمُورُونَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يُصِيبُكُمْ وَالْأَبُ عَاصٍ لِلَّهِ فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَالتَّبْذِيرِ مَلُومٌ عَلَى ذَلِكَ لَا يَرْتَفِعُ عَنْهُ ذَمُّ اللَّهِ وَعِقَابُهُ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ قَدْ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَغَفَرَ لَهُ لَمْ يَجُزْ ذَمُّهُ وَلَا لَوْمُهُ بِحَالِ لَا مِنْ جِهَةِ حَقِّ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لِغَيْرِهِ بِفِعْلِهِ إذْ لَمْ يَكُنْ هُوَ ظَالِمًا لِأُولَئِكَ فَإِنَّ تِلْكَ كَانَتْ مُقَدَّرَةً عَلَيْهِمْ . وَهَذَا مِثَالُ " قِصَّةِ آدَمَ " : فَإِنَّ آدَمَ لَمْ يَظْلِمْ أَوْلَادَهُ بَلْ إنَّمَا وُلِدُوا بَعْدَ هُبُوطِهِ مِنْ الْجَنَّةِ وَإِنَّمَا هَبَطَ آدَمَ وَحَوَّاءُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا وَلَدٌ حَتَّى يُقَالَ : إنَّ ذَنْبَهُمَا تَعَدَّى إلَى وَلَدِهِمَا ثُمَّ بَعْدَ هُبُوطِهِمَا إلَى الْأَرْضِ جَاءَتْ الْأَوْلَادُ فَلَمْ يَكُنْ آدَمَ قَدْ ظَلَمَ أَوْلَادَهُ ظُلْمًا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ مَلَامَهُ وَكَوْنُهُمْ صَارُوا فِي الدُّنْيَا دُونَ الْجَنَّةِ أَمْرٌ كَانَ مُقَدَّرًا عَلَيْهِمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ لَوْمَ آدَمَ وَذَنَبُ آدَمَ كَانَ قَدْ تَابَ مِنْهُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } وَقَالَ : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } فَلَمْ يَبْقَ مُسْتَحِقًّا لِذَمِّ وَلَا عِقَابٍ . وَمُوسَى كَانَ أَعْلَمَ مِنْ أَنْ يَلُومَهُ لِحَقِّ اللَّهِ عَلَى ذَنَبٍ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ تَابَ مِنْهُ فَمُوسَى أَيْضًا قَدْ تَابَ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ وَقَدْ قَالَ مُوسَى : { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } . وَآدَمُ أَعْلَمُ مِنْ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا مَلَامَ عَلَيْهِ فَكَيْفَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ إبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ بِسَبَبِ ذَنْبِهِ ؛ وَهُوَ أَيْضًا كَانَ مُقَدَّرًا عَلَيْهِ وَآدَمُ قَدْ تَابَ مِنْ الذَّنْبِ وَاسْتَغْفَرَ فَلَوْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ نَافِعًا لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ لَاحْتَجَّ وَلَمْ يَتُبْ وَيَسْتَغْفِرْ . وَقَدْ رُوِيَ فِي الإسرائيليات أَنَّهُ احْتَجَّ بِهِ وَهَذَا مِمَّا لَا يُصَدَّقُ بِهِ لَوْ كَانَ مُحْتَمَلًا فَكَيْفَ إذَا خَالَفَ أُصُولَ الْإِسْلَامِ بَلْ(2/238)
أُصُولَ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ . نَعَمْ إنْ كَانَ ذَكَرَ الْقَدَرَ مَعَ التَّوْبَةِ فَهَذَا مُمْكِنٌ ؛ لَكِنْ لَيْسَ فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ آدَمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا وَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ فِي الدِّينِ بالإسرائيليات إلَّا مَا ثَبَتَ نَقْلُهُ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : { إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ } . وَ ( أَيْضًا فَلَوْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ نَافِعًا لَهُ فَلِمَاذَا أُخْرِجَ مِنْ الْجَنَّةِ وَأُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ . فَإِنْ قِيلَ : وَهُوَ قَدْ تَابَ فَلِمَاذَا بَعْدَ التَّوْبَةِ أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ ؟ . قِيلَ : التَّوْبَةُ قَدْ يَكُونُ مِنْ تَمَامِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ يَعْمَلُهُ فَيُبْتَلَى بَعْدَ التَّوْبَةِ لِيَنْظُرَ دَوَامَ طَاعَتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فِي التَّائِبِ مِنْ الرِّدَّةِ وَقَالَ فِي كَاتِمِ الْعِلْمِ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } وَقَالَ : { أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ فِي الْقَذْفِ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ : { إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } { وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ مَتَابًا } وَقَالَ : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } . { وَلَمَّا تَابَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَصَاحِبَاهُ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ بِهَجْرِهِمْ - حَتَّى نِسَائِهِمْ - ثَمَانِينَ لَيْلَةً } . { وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الغامدية لَمَّا رَجَمَهَا ؟ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ وَهَلْ وَجَدْتَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ } . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ تَوْبَتِهِ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ حَيْثُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى : { يَا قَوْمِ إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } . وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ يَبْتَلِي الْعَبْدَ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ بِمَا يَحْصُلُ مَعَهُ شُكْرُهُ وَصَبْرُهُ أَمْ كُفْرُهُ وَجَزَعُهُ وَطَاعَتُهُ أَمْ مَعْصِيَتُهُ فَالتَّائِبُ أَحَقُّ بِالِابْتِلَاءِ فَآدَمُ أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ ابْتِلَاءً لَهُ وَوَفَّقَهُ اللَّهُ فِي هُبُوطِهِ لِطَاعَتِهِ فَكَانَ حَالُهُ بَعْدَ الْهُبُوطِ خَيْرًا مِنْ حَالِهِ قَبْلَ الْهُبُوطِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ نَافِعًا لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ مَلَامٌ أَلْبَتَّةَ ؛ وَلَا هُنَاكَ تَوْبَةٌ تَقْتَضِي أَنْ يُبْتَلَى صَاحِبُهَا بِبَلَاءِ . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ بِعُقُوبَاتِ الْكُفَّارِ : مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مَا يُعْرَفُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْوَقَائِعِ أَنْ لَا حُجَّةَ لِأَحَدِ فِي الْقَدَرِ ؛ وَأَيْضًا فَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُحَارِبِينَ مِنْ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْقِبْلَةِ وَقَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَعُقُوبَةِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَالشَّارِبِ مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ .
=============
الرد على المعتزلة حول مرتكب الكبيرة(1)
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 424)(2/239)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ . أَحْمَد بْنُ تيمية - رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ فِي " تَزْكِيَةِ النَّفْسِ " وَكَيْفَ تَزْكُو بِتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ مَعَ فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ . قَالَ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } و { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } . قَالَ قتادة وَابْنُ عيينة وَغَيْرُهُمَا : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ : قَدْ أَفْلَحَتْ نَفْسٌ زَكَّاهَا اللَّهُ وَقَدْ خَابَتْ نَفْسٌ دَسَّاهَا اللَّهُ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الوالبي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ . وَ [ لَيْسَ ] هُوَ مُرَادَ الْآيَةِ ؛ بَلْ الْمُرَادُ بِهَا الْأَوَّلُ قَطْعًا لَفْظًا وَمَعْنًى . أَمَّا " اللَّفْظُ " فَقَوْلُهُ : مَنْ زَكَّاهَا اسْمٌ مَوْصُولٌ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَائِدٍ عَلَى ( مَنْ فَإِذَا قِيلَ : قَدْ أَفْلَحَ الشَّخْصُ الَّذِي زَكَّاهَا كَانَ ضَمِيرُ الشَّخْصِ فِي زَكَّاهَا يَعُودُ عَلَى ( مَنْ ) هَذَا وَجْهُ الْكَلَامِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي صِحَّتِهِ كَمَا يُقَالُ : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَطَاعَ رَبَّهُ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَعْنَى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهُ اللَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْجُمْلَةِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى ( مَنْ فَإِنَّ الضَّمِيرَ عَلَى هَذَا يَعُودُ عَلَى اللَّهِ وَلَيْسَ هُوَ ( مَنْ ) وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ يَعُودُ عَلَى النَّفْسِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَا يَعُودُ عَلَى ( مَنْ ) لَا ضَمِيرُ الْفَاعِلِ وَلَا الْمَفْعُولِ . فَتَخْلُو الصِّلَةُ مِنْ عَائِدٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ . نَعَمْ لَوْ قِيلَ : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى اللَّهُ نَفْسَهُ أَوْ مَنْ زَكَّاهَا اللَّهُ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ صَحَّ الْكَلَامُ وَخَفَاءُ هَذَا عَلَى مَنْ قَالَ بِهِ مِنْ النُّحَاةِ عَجَبٌ . وَهُوَ لَمْ يَقُلْ : قَدْ أَفْلَحَتْ نَفْسٌ زَكَّاهَا . فَإِنَّهُ هنا كانت تَكُونُ زَكَّاهَا صِفَةً لِنَفْسِ لَا صِلَةً ؛ بَلْ قَالَ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } فَالْجُمْلَةُ صِلَةٌ لِ ( مَنْ لَا صِفَةَ لَهَا . وَلَا قَالَ أَيْضًا : قَدْ أَفْلَحَتْ النَّفْسُ الَّتِي زَكَّاهَا ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ ذَلِكَ وَجُعِلَ فِي ( زَكَّاهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ صَحَّ فَإِذَا تَكَلَّفُوا وَقَالُوا : التَّقْدِيرُ { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } هِيَ النَّفْسُ الَّتِي زَكَّاهَا . وَقَالُوا : فِي زَكَّى ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ يَعُودُ عَلَى ( مَنْ وَهِيَ تَصْلُحُ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْوَاحِدُ وَالْعَدَدُ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَاهَا الْمُؤَنَّثِ وَتَأْنِيثُهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ وَلِهَذَا قِيلَ : { قَدْ أَفْلَحَ } وَلَمْ يَقُلْ قَدْ أَفْلَحَتْ قِيلَ لَهُمْ : هَذَا مَعَ أَنَّهُ خُرُوجٌ مِنْ اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ فَإِنَّمَا يَصِحُّ إذَا دَلَّ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مِثْلِ وَمَنْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَنَا وَكَذَا قَوْلُهُ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ } وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَأَمَّا هُنَا فَلَيْسَ فِي لَفْظِ ( مَنْ وَمَا بَعْدَهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّفْسُ الْمُؤَنَّثَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكَلَامِ مَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إرَادَتِهِ ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا مِمَّا يُصَانُ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ فَلَوْ قُدِّرَ احْتِمَالُ عَوْدِ ضَمِيرِ ( زَكَّاهَا إلَى نَفْسٍ وَإِلَى ( مَنْ مَعَ أَنَّ لَفْظَ ( مَنْ لَا دَلِيلَ يُوجِبُ عَوْدَهُ عَلَيْهِ لَكَانَ إعَادَتُهُ إلَى الْمُؤَنَّثِ أَوْلَى مِنْ إعَادَتِهِ إلَى مَا يَحْتَمِلُ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ وَهُوَ فِي التَّذْكِيرِ أَظْهَرَ لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى التَّأْنِيثِ فَإِنَّ الْكَلَامَ إذَا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَظْهَرِهِمَا وَمَنْ تَكَلَّفَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفِ وَالْقُرْآنُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَالْعُدُولُ عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكَلَامِ إلَى مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِلَا دَلِيلٍ لَا يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ فَكَيْفَ إذَا كَانَ نَصًّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُلْهِمُ التَّقْوَى وَالْفُجُورَ . وَلِبَسْطِ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ . وَ ( الْمَقْصُودُ هُنَا أَمْرُ النَّاسِ بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ تَدْسِيَتِهَا كَقَوْلِهِ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمَعْنَى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى اللَّهُ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَمْرٌ لَهُمْ وَلَا نَهْيٌ ؛ وَلَا تَرْغِيبٌ وَلَا تَرْهِيبٌ . وَالْقُرْآنُ إذَا أَمَرَ أَوْ نَهَى لَا يَذْكُرُ مُجَرَّدَ " الْقَدَرِ " فَلَا يَقُولُ : مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ مُؤْمِنًا . بَلْ يَقُولُ : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } إذْ ذِكْرُ مُجَرَّدِ الْقَدَرِ فِي هَذَا يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ وَلَا يَلِيقُ هَذَا بِأَضْعَفِ النَّاسِ عَقْلًا فَكَيْفَ بِكَلَامِ اللَّهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي مَقَامِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ يَذْكُرُ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَإِنَّمَا يَذْكُرُ الْقَدْرَ عِنْدَ بَيَانِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ : إمَّا بِمَا(2/240)
لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَإِمَّا بِإِنْعَامِهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَيَذْكُرُهُ فِي سِيَاقِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَأَمَّا فِي مَعْرِضِ الْأَمْرِ فَلَا يَذْكُرُهُ إلَّا عِنْدَ النِّعَمِ . كَقَوْلِهِ : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا } الْآيَةَ فَهَذَا مُنَاسِبٌ . وَقَوْلُهُ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جِنْسِ الثَّانِيَةِ لَا الْأُولَى . وَالْمَقْصُودُ " ذِكْرُ التَّزْكِيَةِ " قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا } الْآيَةَ . وَقَالَ : { فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } وَقَالَ : { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } وَقَالَ : { وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى } وَأَصْلُ " الزَّكَاةِ " الزِّيَادَةُ فِي الْخَيْرِ . وَمِنْهُ يُقَالُ : زَكَا الزَّرْعُ وَزَكَا الْمَالُ إذَا نَمَا . وَلَنْ يَنْمُوَ الْخَيْرُ إلَّا بِتَرْكِ الشَّرِّ وَالزَّرْعُ لَا يَزْكُو حَتَّى يُزَالَ عَنْهُ الدَّغَلُ فَكَذَلِكَ النَّفْسُ وَالْأَعْمَالُ لَا تَزْكُوَا حَتَّى يُزَالَ عَنْهَا مَا يُنَاقِضُهَا وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُتَزَكِّيًا إلَّا مَعَ تَرْكِ الشَّرِّ ؛ فَإِنَّهُ يُدَنِّسُ النَّفْسَ وَيُدَسِّيهَا . قَالَ الزَّجَّاجُ : ( دَسَّاهَا جَعَلَهَا ذَلِيلَةً حَقِيرَةً خَسِيسَةً وَقَالَ الْفَرَّاءُ : دَسَّاهَا ؛ لِأَنَّ الْبَخِيلَ يُخْفِي نَفْسَهُ وَمَنْزِلَهُ وَمَالَهُ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : أَيْ أَخْفَاهَا بِالْفُجُورِ وَالْمَعْصِيَةِ فَالْفَاجِرُ دَسَّ نَفْسَهُ ؛ أَيْ قَمَعَهَا وَخَبَّاهَا وَصَانِعُ الْمَعْرُوفِ شَهَرَ نَفْسَهُ وَرَفَعَهَا وَكَانَتْ أَجْوَادُ الْعَرَبِ تَنْزِلُ الرُّبَى لِتُشْهِرَ أَنْفُسَهَا وَاللِّئَامُ تَنْزِلُ الْأَطْرَافَ وَالْوُدْيَانَ فَالْبِرُّ وَالتَّقْوَى يَبْسُطُ النَّفْسَ وَيَشْرَحُ الصَّدْرَ بِحَيْثُ يَجِدُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ اتِّسَاعًا وَبَسْطًا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا اتَّسَعَ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ بَسَطَهُ اللَّهُ وَشَرَحَ صَدْرَهُ . وَالْفُجُورُ وَالْبُخْلُ يَقْمَعُ النَّفْسَ وَيَضَعُهَا وَيُهِينُهَا بِحَيْثُ يَجِدُ الْبَخِيلُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ ضَيِّقٌ . وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَقَالَ : { مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ اُضْطُرَّتْ أَيْدِيهمَا إلَى تَرَاقِيهِمَا . فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةِ اتَّسَعَتْ وَانْبَسَطَتْ عَنْهُ حَتَّى تَغْشَى أَنَامِلَهُ . وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةِ قلصت وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ بِمَكَانِهَا وَأَنَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بِإِصْبَعِهِ فِي جَيْبِهِ فَلَوْ رَأَيْتهَا يُوَسِّعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ } أَخْرَجَاهُ . وَإِخْفَاءُ الْمَنْزِلِ وَإِظْهَارُهُ تَبَعًا لِذَلِكَ . قَالَ تَعَالَى : { يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ } الْآيَةَ . فَهَكَذَا النَّفْسُ الْبَخِيلَةُ الْفَاجِرَةُ قَدْ دَسَّهَا صَاحِبُهَا فِي بَدَنِهِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ وَلِهَذَا وَقْتَ الْمَوْتِ تُنْزَعُ مِنْ بَدَنِهِ كَمَا يُنْزَعُ السَّفُّودُ مِنْ الصُّوفِ الْمُبْتَلِّ وَالنَّفْسُ الْبَرَّةُ التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ الَّتِي قَدْ زَكَّاهَا صَاحِبُهَا فَارْتَفَعَتْ وَاتَّسَعَتْ وَمَجَّدَتْ وَنَبُلَتْ فَوَقْتَ الْمَوْتِ تَخْرُجُ مِنْ الْبَدَنِ تَسِيلُ كَالْقَطْرَةِ مِنْ فِي السِّقَاءِ وَكَالشَّعْرَةِ مِنْ الْعَجِينِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " إنَّ لِلْحَسَنَةِ لَنُورًا فِي الْقَلْبِ وَضِيَاءً فِي الْوَجْهِ وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ لَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ وَسَوَادًا فِي الْوَجْهِ وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ وَضِيقًا فِي الرِّزْقِ وبغضة فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ " قَالَ تَعَالَى : { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ } الْآيَةَ . وَهَذَا مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ . قَالَ : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ } الْآيَةَ . وَقَالَ : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا } الْآيَةَ . وَقَالَ لَهُ فِي سِيَاقِ الرَّمْيِ بِالْفَاحِشَةِ وَذَمِّ مَنْ أَحَبّ إظْهَارَهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُتَكَلِّمِ بِمَا لَا يَعْلَمُ : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } الْآيَةَ . فَبَيَّنَ أَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَحْصُلُ بِتَرْكِ الْفَاحِشَةِ وَلِهَذَا قَالَ : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } الْآيَةَ . وَذَلِكَ أَنَّ تَرْكَ السَّيِّئَاتِ هُوَ مِنْ أَعْمَالِ النَّفْسِ فَإِنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ مَذْمُومَةٌ وَمَكْرُوهٌ فِعْلُهَا وَيُجَاهِدُ نَفْسَهُ إذَا دَعَتْهُ إلَيْهَا إنْ كَانَ مُصَدِّقًا لِكِتَابِ رَبِّهِ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ وَالْكَرَاهَةِ وَجِهَادِ النَّفْسِ أَعْمَالٌ تَعْمَلُهَا النَّفْسُ الْمُزَكَّاةُ فَتَزْكُو بِذَلِكَ أَيْضًا ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا عَمِلَتْ السَّيِّئَاتِ فَإِنَّهَا(2/241)
تَتَدَنَّسُ وَتَنْدَسُّ وَتَنْقَمِعُ كَالزَّرْعِ إذَا نَبَتَ مَعَهُ الدَّغَلُ . وَالثَّوَابُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى عَمَلٍ مَوْجُودٍ وَكَذَلِكَ الْعِقَابُ . فَأَمَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ فَلَا ثَوَابَ فِيهِ وَلَا عِقَابَ لَكِنْ فِيهِ عَدَمُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِالْخَيْرِ وَنَهَى عَنْ الشَّرِّ وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالْأَمْرِ فِعْلٌ مَوْجُودٌ وَاخْتَلَفُوا فِي النَّهْيِ هَلْ الْمَطْلُوبُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَمْ عَدَمِيٌّ فَقِيلَ : وُجُودِيٌّ وَهُوَ التَّرْكُ وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ . وَقِيلَ : الْمَطْلُوبُ عَدَمُ الشَّرِّ وَهُوَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ . وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا نَهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَلَا بُدَّ أَلَّا يَقْرَبَهُ وَيَعْزِمَ عَلَى تَرْكِهِ وَيُكْرَهَ فِعْلُهُ وَهَذَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ بِلَا رَيْبٍ ؛ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ وُجُودِيٌّ لَكِنْ قَدْ لَا يَكُونُ مُرِيدًا لَهُ كَمَا يُكْرَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ طَبْعًا وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ اعْتِقَادِ التَّحْرِيمِ وَالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِهِ لِطَاعَةِ الشَّارِعِ وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى كَرَاهَةِ الطَّبْعِ وَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يُثَابُ عَلَيْهِ ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ كَثَوَابِ مَنْ كَفَّ نَفْسَهُ وَجَاهَدَهَا عَنْ طَلَبِ الْمُحَرَّمِ وَمَنْ كَانَتْ كَرَاهَتُهُ لِلْمُحَرَّمَاتِ كَرَاهَةَ إيمَانٍ وَقَدْ غَمَرَ إيمَانُهُ حُكْمَ طَبْعِهِ فَهَذَا أَعْلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَهَذَا صَاحِبُ النَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ وَهُوَ أَرْفَعُ مِنْ صَاحِبِ اللَّوَّامَةِ الَّتِي تَفْعَلُ الذَّنْبَ وَتَلُومُ صَاحِبَهَا عَلَيْهِ وَتَتَلَوَّمُ وَتَتَرَدَّدُ هَلْ تَفْعَلُهُ أَمْ لَا وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ وَلَا هُوَ مُرِيدٌ لَهُ ؛ بَلْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَهَذَا لَا يُعَاقَبُ . وَلَا يُثَابُ إذْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يُثَابُ عَلَيْهِ أَوْ يُعَاقَبُ فَمَنْ قَالَ : الْمَطْلُوبُ أَلَّا يَفْعَلَ إنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا الْمَطْلُوبَ يَكْفِي فِي عَدَمِ الْعِقَابِ فَقَدْ صَدَقَ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى هَذَا الْعَدَمِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ . وَالْكَافِرُ إذَا لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَلَا بُدَّ لِنَفْسِهِ مِنْ أَعْمَالٍ يَشْتَغِلُ بِهَا عَنْ الْإِيمَانِ وَتَرْكُ الْأَعْمَالِ كُفْرٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا . وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ عُقُوبَةَ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ ذَكَرَ أُمُورًا وُجُودِيَّةً وَتِلْكَ تَدُسُّ النَّفْسَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ أَعْظَمَ مَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ وَكَانَ الشِّرْكُ أَعْظَمَ مَا يُدَسِّيهَا وَتَتَزَكَّى بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالصَّدَقَةِ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا ذَكَرَهُ السَّلَفُ . قَالُوا : فِي { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } تَطَهَّرَ مِنْ الشِّرْكِ وَمِنْ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْبَةِ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَطَاءٍ وقتادة : صَدَقَةُ الْفِطْرِ . وَلَمْ يُرِيدُوا أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ إلَّا هِيَ بَلْ مَقْصُودُهُمْ : أَنَّ مَنْ أَعْطَى صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَصَلَّى صَلَاةَ الْعِيدِ فَقَدْ تَنَاوَلَتْهُ وَمَا بَعْدَهَا وَلِهَذَا كَانَ يَزِيدُ بْنُ حَبِيبٍ كُلَّمَا خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ خَرَجَ بِصَدَقَةِ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا بَصَلًا . قَالَ الْحَسَنُ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } مَنْ كَانَ عَمَلُهُ زَاكِيًا وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ : زَكَاةُ الْأُمُورِ كُلِّهَا وَقَالَ الزَّجَّاجُ : تَزَكَّى بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَعْنَى الزَّاكِي النَّامِي الْكَثِيرُ . وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ : لَا يُزَكُّونَ أَعْمَالَهُمْ أَيْ لَيْسَتْ زَاكِيَةً وَقِيلَ لَا يُطَهِّرُونَهَا بِالْإِخْلَاصِ كَأَنَّهُ أَرَادَ - وَاَللَّهُ أَعْلَم - أَهْلَ الرِّيَاءِ فَإِنَّهُ شِرْكٌ . وَعَنْ الْحَسَنِ : لَا يُؤْمِنُونَ بِالزَّكَاةِ وَلَا يُقِرُّونَ بِهَا . وَعَنْ الضَّحَّاكِ : لَا يَتَصَدَّقُونَ وَلَا يُنْفِقُونَ فِي الطَّاعَةِ وَعَنْ ابْنِ السَّائِبِ : لَا يُعْطُونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ . قَالَ : كَانُوا يَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ وَلَا يُزَكُّونَ . وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَتَزَكَّى بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ . كَقَوْلِهِ : { هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى } وَقَوْلُهُ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } وَالصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ لَمْ تَكُنْ فُرِضَتْ عِنْدَ نُزُولِهَا . فَإِنْ قِيلَ : ( يُؤْتَى فِعْلٌ مُتَعَدٍّ . قِيلَ : هَذَا كَقَوْلِهِ : { ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا } وَتَقَدَّمَ قَبْلَهَا أَنَّ الرَّسُولَ دَعَاهُمْ وَهُوَ طَلَبٌ مِنْهُ فَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ مُتَضَمِّنًا قِيَامَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ وَالرُّسُلُ إنَّمَا يَدْعُونَهُمْ لِمَا تَزْكُو بِهِ أَنْفُسُهُمْ . وَمِمَّا يَلِيقُ : أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْتَلْزِمُ الطَّهَارَةَ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا مَعْنَى(2/242)
الطَّهَارَةِ . قَوْلُهُ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } مِنْ الشَّرِّ { وَتُزَكِّيهِمْ } بِالْخَيْرِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالْمَاءِ وَالْبَرَدِ وَالثَّلْجِ } كَانَ يَدْعُو بِهِ فِي الِاسْتِفْتَاحِ وَفِي الِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالْغُسْلِ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ تُوجِبُ تَبْرِيدَ الْمَغْسُولِ بِهَا وَ " الْبَرَدُ " يُعْطِي قُوَّةً وَصَلَابَةً وَمَا يَسُرُّ يُوصَفُ بِالْبَرَدِ وَقُرَّةِ الْعَيْنِ وَلِهَذَا كَانَ دَمْعُ السُّرُورِ بَارِدًا وَدَمْعُ الْحُزْنِ حَارًّا ؛ لِأَنَّ مَا يَسُوءُ النَّفْسَ يُوجِبُ حُزْنَهَا وَغَمَّهَا وَمَا يَسُرُّهَا يُوجِبُ فَرَحَهَا وَسُرُورَهَا وَذَلِكَ مِمَّا يُبَرِّدُ الْبَاطِنَ . فَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْسِلَ الذُّنُوبَ عَلَى وَجْهٍ يُبَرِّدُ الْقُلُوبَ أَعْظَمَ بَرْدٍ يَكُونُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ الَّذِي أَزَالَ عَنْهُ مَا يَسُوءُ النَّفْسَ مِنْ الذُّنُوبِ . وَقَوْلُهُ : " بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ " تَمْثِيلٌ بِمَا فِيهِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَإِلَّا فَنَفْسُ الذُّنُوبِ لَا تُغْسَلُ بِذَلِكَ كَمَا يُقَالُ : أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِك وَحَلَاوَةَ مَغْفِرَتِكَ . { وَلَمَّا قَضَى أَبُو قتادة دَيْنَ الْمَدِينِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآنَ بَرَّدْت جِلْدَتَهُ } وَيُقَالُ : بَرْدُ الْيَقِينِ وَحَرَارَةُ الشَّكِّ . وَيُقَالُ : هَذَا الْأَمْرُ يُثْلَجُ لَهُ الصَّدْرُ إذَا كَانَ حَقًّا يَعْرِفُهُ الْقَلْبُ وَيَفْرَحُ بِهِ حَتَّى يَصِيرَ فِي مِثْلِ بَرْدِ الثَّلْجِ . وَمَرَضُ النَّفْسِ : إمَّا شُبْهَةٌ وَإِمَّا شَهْوَةٌ أَوْ غَضَبٌ وَالثَّلَاثَةُ تُوجِبُ السُّخُونَةَ . وَيُقَالُ لِمَنْ نَالَ مَطْلُوبَهُ : بَرَدَ قَلْبُهُ . فَإِنَّ الطَّالِبَ فِيهِ حَرَارَةُ الطَّلَبِ . وَقَوْلُهُ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَمَلَ الْحَسَنَاتِ يُطَهِّرُ النَّفْسَ وَيُزَكِّيهَا مِنْ الذُّنُوبِ السَّالِفَةِ فَإِنَّهُ قَالَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا } الْآيَةَ . فَالتَّوْبَةُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَحْصُلُ بِهِمَا التَّطْهِيرُ وَالتَّزْكِيَةُ وَلِهَذَا قَالَ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ . { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا } الْآيَاتِ . { وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ } الْآيَةَ . فَأَمَرَهُمْ جَمِيعًا بِالتَّوْبَةِ فِي سِيَاقِ مَا ذَكَرَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . كَمَا فِي الصَّحِيحِ : { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا } الْحَدِيثَ . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ إنَّ قَوْلَهُ : { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } نَزَلَتْ بِسَبَبِ رَجُلٍ نَالَ مِنْ امْرَأَةٍ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْجِمَاعَ ثُمَّ نَدِمَ فَنَزَلَتْ } وَيَحْتَاجُ الْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ إلَى أَنْ يَخَافَ اللَّهَ وَيَنْهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى وَنَفْسُ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ تَهْوَى وَهُوَ يَنْهَاهَا كَانَ نَهْيُهُ عِبَادَةً لِلَّهِ وَعَمَلًا صَالِحًا . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ } فَيُؤْمَرُ بِجِهَادِهَا كَمَا يُؤْمَرُ بِجِهَادِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعَاصِي وَيَدْعُو إلَيْهَا وَهُوَ إلَى جِهَادِ نَفْسِهِ أَحْوَجُ فَإِنَّ هَذَا فَرْضُ عَيْنٍ وَذَاكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالصَّبْرُ فِي هَذَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ هَذَا الْجِهَادَ حَقِيقَةُ ذَلِكَ الْجِهَادِ فَمَنْ صَبَرَ عَلَيْهِ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ الْجِهَادِ . كَمَا قَالَ : { وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ } . ثُمَّ هَذَا لَا يَكُونُ مَحْمُودًا فِيهِ إلَّا إذَا غَلَبَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ مَنْ يُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ } إلَخْ " وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْإِنْسَانَ أَنْ يَنْهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى وَأَنْ يَخَافَ مَقَامَ رَبِّهِ فَحَصَلَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُعِينُهُ عَلَى الْجِهَادِ فَإِذَا غَلَبَ كَانَ لِضَعْفِ إيمَانِهِ فَيَكُونُ مُفَرِّطًا بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ ؛ بِخِلَافِ الْعَدُوِّ الْكَافِرِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَدَنُهُ أَقْوَى فَالذُّنُوبُ إنَّمَا تَقَعُ إذَا كَانَتْ النَّفْسُ غَيْرَ مُمْتَثِلَةٍ لِمَا أُمِرَتْ بِهِ وَمَعَ امْتِثَالِ الْمَأْمُورِ لَا تَفْعَلُ الْمَحْظُورَ فَإِنَّهُمَا ضِدَّانِ . قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ } الْآيَةَ . وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } فَعِبَادُ اللَّهِ الْمُخْلِصُونَ لَا يُغْوِيهِمْ الشَّيْطَانُ وَ " الْغَيُّ " خِلَافُ الرُّشْدِ وَهُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى . فَمَنْ مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى مُحَرَّمٍ فَلْيَأْتِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ فَإِنَّ ذَلِكَ يَصْرِفُ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ خَشْيَةً وَمَحَبَّةً وَالْعِبَادَةُ لَهُ وَحْدَهُ وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ السَّيِّئَاتِ . فَإِذَا كَانَ تَائِبًا(2/243)
فَإِنْ كَانَ نَاقِصًا فَوَقَعَتْ السَّيِّئَاتُ مِنْ صَاحِبِهِ كَانَ مَاحِيًا لَهَا بَعْدَ الْوُقُوعِ فَهُوَ كَالتِّرْيَاقِ الَّذِي يَدْفَعُ أَثَرَ السُّمِّ وَيَرْفَعُهُ بَعْدَ حُصُولِهِ وَكَالْغِذَاءِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وكالاستمتاع بِالْحَلَالِ الَّذِي يَمْنَعُ النَّفْسَ عَنْ طَلَبِ الْحَرَامِ فَإِذَا حَصَلَ لَهُ طَلَبَ إزَالَتَهُ وَكَالْعِلْمِ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ الشَّكِّ وَيَرْفَعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَكَالطِّبِّ الَّذِي يَحْفَظُ الصِّحَّةَ وَيَدْفَعُ الْمَرَضَ وَكَذَلِكَ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ يَحْفَظُ بِأَشْبَاهِهِ مِمَّا يَقُومُ بِهِ . وَإِذَا حَصَلَ مِنْهُ مَرَضٌ مِنْ الشُّبُهَات وَالشَّهَوَاتِ أُزِيلَ بِهَذِهِ وَلَا يَحْصُلُ الْمَرَضُ إلَّا لِنَقْصِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ كَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا يَمْرَضُ إلَّا لِنَقْصِ إيمَانِهِ . وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرَانُ مُتَضَادَّانِ فَكُلُّ ضِدَّيْنِ : فَأَحَدُهُمَا يَمْنَعُ الْآخَرَ تَارَةً ؟ وَيَرْفَعُهُ أُخْرَى كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ حَصَلَ مَوْضِعُهُ وَيَرْفَعُهُ إذَا كَانَ حَاصِلًا كَذَلِكَ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ وَالْإِحْبَاطُ وَالْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ تُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ حَتَّى الْإِيمَانَ وَأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ الْجُبَّائِيَّ وَابْنُهُ بِالْمُوَازَنَةِ . لَكِنْ قَالُوا : مَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ خُلِّدَ فِي النَّارِ وَالْمُوَازَنَةُ بِلَا تَخْلِيدٍ قَوْلُ الْإِحْبَاط مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ وَهُوَ حُبُوطُ الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا بِالْكُفْرِ كَمَا قَالَ : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } الْآيَةَ . وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } الْآيَةَ وَقَالَ : { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . وَقَالَ : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } الْآيَةَ . وَمَا ادَّعَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ السَّلَفِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ حَدَّ الزَّانِي وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ كُفَّارًا حَابِطِي الْأَعْمَالِ وَلَا أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ كَمَا أَمَرَ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّينَ وَالْمُنَافِقُونَ لَمْ يَكُونُوا يُظْهِرُونَ كُفْرَهُمْ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْغَالِّ وَعَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ وَلَوْ كَانُوا كُفَّارًا وَمُنَافِقِينَ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ . فَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُحْبَطْ إيمَانُهُمْ كُلُّهُ . { وَقَالَ عَمَّنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَذَلِكَ الْحُبُّ مِنْ أَعْظَمِ شُعَبِ الْإِيمَانِ . فَعُلِمَ أَنَّ إدْمَانَهُ لَا يُذْهِبُ الشُّعَبَ كُلَّهَا . وَثَبَتَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ : { يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } وَلَوْ حَبِطَ لَمْ يَكُنْ فِي قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنْهُ . وَقَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ } الْآيَةَ . فَجُعِلَ مِنْ الْمُصْطَفَيْنَ . فَإِذَا كَانَتْ السَّيِّئَاتُ لَا تُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ فَهَلْ تُحْبَطُ بِقَدْرِهَا وَهَلْ يُحْبَطُ بَعْضُ الْحَسَنَاتِ بِذَنْبِ دُونَ الْكُفْرِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ . مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ . مِثْلُ قَوْلِهِ : { لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } الْآيَةَ . دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السَّيِّئَةَ تُبْطِلُ الصَّدَقَةَ وَضَرَبَ مَثَلَهُ بِالْمُرَائِي وَقَالَتْ عَائِشَةُ " أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّ جِهَادَهُ بَطَلَ " الْحَدِيثَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } وَحَدِيثُ صَلَاةِ الْعَصْرِ فَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } قَالَ الْحَسَنُ : بِالْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ وَعَنْ عَطَاءٍ : بِالشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَعَنْ ابْنِ السَّائِبِ : بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَعَنْ مُقَاتِلٍ : بِالْمَنِّ . وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا مَنُّوا بِإِسْلَامِهِمْ فَمَا ذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ وَالْكَبَائِرَ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ . فَإِنْ قِيلَ : لَمْ يُرِدْ إلَّا إبْطَالَهَا بِالْكُفْرِ . قِيلَ : ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي نَفْسِهِ وَمُوجِبٌ لِلْخُلُودِ الدَّائِمِ فَالنَّهْيُ عَنْهُ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِهَذَا بَلْ يَذْكُرُهُ عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيظِ . كَقَوْلِهِ : { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } وَنَحْوِهَا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ وَفِي آيَةِ الْمَنِّ سَمَّاهَا إبْطَالًا وَلَمْ يُسَمِّهِ إحْبَاطًا ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْدَهَا الْكُفْرَ بِقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ } الْآيَةَ . فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ إذَا دَخَلْتُمْ فِيهَا فَأَتِمُّوهَا وَبِهَا احْتَجَّ مَنْ قَالَ : يَلْزَمُ التَّطَوُّعُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ . قِيلَ : لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ إبْطَالِ بَعْضِ الْعَمَلِ فَإِبْطَالُهُ كُلُّهُ أَوْلَى بِدُخُولِهِ فِيهَا فَكَيْفَ وَذَلِكَ قَبْلَ فَرَاغِهِ لَا يُسَمَّى صَلَاةً وَلَا صَوْمًا ثُمَّ يُقَالُ :(2/244)
الْإِبْطَالُ يُوجَدُ قَبْلَ الْفَرَاغِ أَوْ بَعْدَهُ وَمَا ذَكَرُوهُ أَمْرٌ بِالْإِتْمَامِ وَالْإِبْطَالِ هُوَ إبْطَالُ الثَّوَابِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُتِمّ الْعِبَادَةَ يَبْطُلُ جَمِيعُ ثَوَابِهِ بَلْ يُقَالُ : إنَّهُ يُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ . وَفِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ الْمُفْلِسِ " الَّذِي يَأْتِي بِحَسَنَاتِ أَمْثَالِ الْجِبَالِ " .
=============
السنة النبوية وأهل البدع (1)
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 149)(2/245)
وَتَنَازَعَ النَّاسُ فِي " الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " أَيْ فِي أَسْمَاءِ الدِّينِ مِثْلَ مُسْلِمٍ وَمُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَفَاسِقٍ وَفِي أَحْكَامِ هَؤُلَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَالْمُعْتَزِلَةُ وَافَقُوا الْخَوَارِجَ عَلَى حُكْمِهِمْ فِي الْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا فَلَمْ يَسْتَحِلُّوا مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مَا اسْتَحَلَّتْهُ الْخَوَارِجُ وَفِي الْأَسْمَاءِ أَحْدَثُوا الْمَنْزِلَةَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَهَذِهِ خَاصَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ الَّتِي انْفَرَدُوا بِهَا وَسَائِرُ أَقْوَالِهِمْ قَدْ شَارَكَهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ . وَحَدَثَتْ " الْمُرْجِئَةُ " وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَلَمْ يَكُنْ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَلَا إبْرَاهِيمُ النخعي وَأَمْثَالُهُ فَصَارُوا نَقِيضَ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فَقَالُوا : إنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ أَخَفَّ الْبِدَعِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النِّزَاعِ فِيهَا نِزَاعٌ فِي الِاسْمِ وَاللَّفْظِ دُونَ الْحُكْمِ ؛ إذْ كَانَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يُضَافُ إلَيْهِمْ هَذَا الْقَوْلُ مِثْلَ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا هُمْ مَعَ سَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ مَنْ يُعَذِّبُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ بِالنَّارِ ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ بِالشَّفَاعَةِ كَمَا جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِذَلِكَ وَعَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ . وَعَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الْمَفْرُوضَةَ وَاجِبَةٌ وَتَارِكُهَا مُسْتَحِقٌّ لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ فَكَانَ فِي الْأَعْمَالِ هَلْ هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَامَّتُهُ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ إذَا أُطْلِقَ دَخَلَتْ فِيهِ الْأَعْمَالُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً - أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً - أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ } وَإِذَا عُطِفَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ كَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فَقَدْ ذُكِرَ مُقَيَّدًا بِالْعَطْفِ فَهُنَا قَدْ يُقَالُ : الْأَعْمَالُ دَخَلَتْ فِيهِ وَعُطِفَتْ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَقَدْ يُقَالُ : لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ وَلَكِنْ مَعَ الْعَطْفِ كَمَا فِي اسْمِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ - إذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا تَنَاوَلَ الْآخَرَ وَإِذَا عُطِفَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَهُمَا صِنْفَانِ كَمَا فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } وَكَمَا فِي آيَةِ الْكَفَّارَةِ كَقَوْلِهِ : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } فَالْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ شَيْءٌ وَاحِدٌ . وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِي الْإِيمَانِ هُوَ كَذَلِكَ فِي لَفْظِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْمَعْرُوفِ وَفِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَالْمُنْكَرِ تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهَا فِي الْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ لِمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا بَسْطًا كَبِيرًا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْإِيمَانِ وَشَرْحِ حَدِيثِ جِبْرِيلَ الَّذِي فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْإِيمَانَ أَصْلُهُ فِي الْقَلْبِ ؛ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ } وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ فَقَدْ صَلَحَ الْقَلْبُ فَيَجِبُ أَنْ يَصْلُحَ سَائِرُ الْجَسَدِ ؛ فَلِذَلِكَ هُوَ ثَمَرَةُ مَا فِي الْقَلْبِ ؛ فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ الْأَعْمَالُ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ . وَصِحَّتُهُ لِمَا كَانَتْ لَازِمَةً لِصَلَاحِ الْقَلْبِ دَخَلَتْ فِي الِاسْمِ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَفِي " الْجُمْلَةِ " الَّذِينَ رُمُوا بِالْإِرْجَاءِ مِنْ الْأَكَابِرِ مِثْلِ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ وَإِبْرَاهِيمَ التيمي وَنَحْوِهِمَا : كَانَ إرْجَاؤُهُمْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَكَانُوا أَيْضًا لَا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ وَكَانُوا يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ هُوَ الْإِيمَانُ الْمَوْجُودُ فِينَا وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّا مُصَدِّقُونَ وَيَرَوْنَ الِاسْتِثْنَاءَ شَكًّا وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ يَسْتَثْنُونَ وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ لَمَّا قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ مُعَاذٍ مَا قَالَ ؛ لَكِنَّ أَحْمَد أَنْكَرَ هَذَا وَضَعَّفَ هَذَا الْحَدِيثَ وَصَارَ النَّاسُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : قَوْلٌ أَنَّهُ يَجِبُ الِاسْتِثْنَاءُ وَمَنْ لَمْ(2/246)
يَسْتَثْنِ كَانَ مُبْتَدِعًا . وَقَوْلٌ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَحْظُورٌ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الشَّكَّ فِي الْإِيمَانِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَوْسَطُهَا وَأَعْدَلُهَا أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ بِاعْتِبَارِ وَتَرْكُهُ بِاعْتِبَارِ ؛ فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنِّي لَا أَعْلَمُ أَنِّي قَائِمٌ بِكُلِّ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيَّ وَأَنَّهُ يَقْبَلُ أَعْمَالِي لَيْسَ مَقْصُودُهُ الشَّكَّ فِيمَا فِي قَلْبِهِ فَهَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ حَسَنٌ وَقَصْدُهُ أَنْ لَا يُزَكِّيَ نَفْسَهُ وَأَنْ لَا يَقْطَعَ بِأَنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا كَمَا أُمِرَ فَقُبِلَ مِنْهُ وَالذُّنُوبُ كَثِيرَةٌ وَالنِّفَاقُ مَخُوفٌ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ . قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ : أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَقُولُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إنَّ إيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وميكائيل وَالْبُخَارِيُّ فِي أَوَّلِ صَحِيحِهِ بَوَّبَ أَبْوَابًا فِي " الْإِيمَانِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ " وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ : وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ كَرِهُوا أَنْ يَقُولُ الرَّجُلُ : إيمَانِي كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وميكائيل - قَالَ مُحَمَّدٌ : لِأَنَّهُمْ أَفْضَلُ يَقِينًا - أَوْ إيمَانِي كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ أَوْ إيمَانِي كَإِيمَانِ أَبِي بَكْرٍ أَوْ كَإِيمَانِ هَذَا وَلَكِنْ يَقُولُ آمَنْت بِمَا آمَنَ بِهِ جِبْرِيلُ وَأَبُو بَكْرٍ . وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ لَا يُجَوِّزُونَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِيمَانِ بِكَوْنِ الْأَعْمَالِ مِنْهُ وَيَذُمُّونَ الْمُرْجِئَةَ وَالْمُرْجِئَةُ عِنْدَهُمْ الَّذِينَ لَا يُوجِبُونَ الْفَرَائِضَ وَلَا اجْتِنَابَ الْمَحَارِمِ ؛ بَلْ يَكْتَفُونَ بِالْإِيمَانِ وَقَدْ عُلِّلَ تَحْرِيمُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الشَّرْطِ لَا يُوجَدُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِهِ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ . فَإِذَا عُلِّقَ الْإِيمَانُ بِالشَّرْطِ كَسَائِرِ الْمُعَلَّقَاتِ بِالشَّرْطِ لَا يَحْصُلُ إلَّا عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ . قَالُوا : وَشَرْطُ الْمَشِيئَةِ الَّذِي يَتَرَجَّاهُ الْقَائِلُ لَا يَتَحَقَّقُ حُصُولُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِذَا عَلَّقَ الْعَزْمَ بِالْفِعْلِ عَلَى التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ فَقَدْ ظَهَرَتْ الْمَشِيئَةُ وَصَحَّ الْعَقْدُ فَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِثْنَاءِ ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَقِيبَ الْكَلَامِ يَرْفَعُ الْكَلَامَ فَلَا يُبْقَى الْإِقْرَارُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَقْدِ مُؤْمِنًا وَرُبَّمَا يَتَوَهَّمُ هَذَا الْقَائِلُ الْقَارِنُ بِالِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ بَقَاءَ التَّصْدِيقِ وَذَلِكَ يُزِيلُهُ . " قُلْت " : فَتَعْلِيلُهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ فِيمَنْ يُعَلِّقُ إنْشَاءَ الْإِيمَانِ عَلَى الْمَشِيئَةِ كَاَلَّذِي يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ فَيُقَالُ لَهُ : آمِنْ . فَيَقُولُ : أَنَا أُومِنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ آمَنْت إنْ شَاءَ أَوْ أَسْلَمْت إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ أَشْهَدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ اسْتَثْنَوْا مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لَمْ يَقْصِدُوا فِي الْإِنْشَاءِ وَإِنَّمَا كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُمْ فِي إخْبَارِهِ عَمَّا قَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ فَاسْتَثْنَوْا إمَّا أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي دُخُولَ الْجَنَّةِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْخَاتِمَةَ كَأَنَّهُ إذَا قِيلَ لِلرَّجُلِ : أَنْتَ مُؤْمِنٌ . قِيلَ لَهُ : أَنْتَ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ : أَنَا كَذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ . أَوْ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِكَمَالِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ . وَلِهَذَا كَانَ مِنْ جَوَابِ بَعْضِهِمْ إذَا قِيلَ لَهُ أَنْتَ مُؤْمِنٌ : آمَنْت بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ فَيَجْزِمُ بِهَذَا وَلَا يُعَلِّقُهُ أَوْ يَقُولُ : إنْ كُنْت تُرِيدُ الْإِيمَانَ الَّذِي يَعْصِمُ دَمِي وَمَالِي فَأَنَا مُؤْمِنٌ وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ قَوْلَهُ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وَقَوْلَهُ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } فَأَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَمَّا الْإِنْشَاءُ فَلَمْ يَسْتَثْنِ فِيهِ أَحَدٌ وَلَا شُرِعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ آمَنَ وَأَسْلَمَ آمَنَ وَأَسْلَمَ جَزْمًا بِلَا تَعْلِيقٍ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ النِّزَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَدْ يَكُونُ لَفْظِيًّا فَإِنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ هَؤُلَاءِ غَيْرُ الَّذِي اسْتَحْسَنَهُ وَأَمَرَ بِهِ أُولَئِكَ وَمَنْ جَزَمَ جَزَمَ بِمَا فِي(2/247)
قَلْبِهِ مِنْ الْحَالِ وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَافِي تَعْلِيقَ الْكَمَالِ وَالْعَاقِبَةِ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ الْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ فَصَارَ الْإِيمَانُ هُوَ الْإِسْلَامَ عِنْدَ أُولَئِكَ . وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُسْتَثْنَى فِي الْإِسْلَامِ . وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي شَرْحِ حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ مِنْ نُصُوصِ الْإِيمَانِ الَّتِي فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ : فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَقَدْ رَجَّحْنَا التَّفْصِيلَ ؛ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ يُرَادُ بِهِ إيقَاعُ الطَّلَاقِ تَارَةً وَيُرَادُ بِهِ مَنْعُ إيقَاعٍ تَارَةً فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنْتِ طَالِقٌ بِهَذَا اللَّفْظِ . فَقَوْلُهُ : إنْ شَاءَ اللَّهُ مِثْلُ قَوْلِهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَدْ شَاءَ اللَّهُ الطَّلَاقَ حِينَ أَتَى بِالتَّطْلِيقِ فَيَقَعُ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلَّقَ لِئَلَّا يَقَعَ أَوْ عَلَّقَهُ عَلَى مَشِيئَةٍ تُوجَدُ بَعْدَ هَذَا لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ بَعْدَ هَذَا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ شَاءَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ الْمَشِيئَةُ تُنْجِزُهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ نَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إلَّا إذَا طَلُقَتْ الْمَرْأَةُ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا الزَّوْجُ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ وَكِيلٍ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ تَطْلِيقٌ لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ قَطُّ فَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَصَدَ حَقِيقَةَ التَّعْلِيقِ لَمْ يَقَعْ إلَّا بِتَطْلِيقِ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا قَصَدَ تَعْلِيقَهُ لِئَلَّا يَقَعَ الْآنَ . وَأَمَّا إنْ قَصَدَ إيقَاعَهُ الْآنَ وَعَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ تَوْكِيدًا وَتَحْقِيقًا فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ . وَمَا أَعْرِفُ أَحَدًا أَنْشَأَ الْإِيمَانَ فَعَلَّقَهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ فَإِذَا عَلَّقَهُ فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَا أُومِنُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهَذَا لَمْ يَصِرْ مُؤْمِنًا مِثْلَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ : هَلْ تَصِيرُ مِنْ أَهْلِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ أَصِيرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَهَذَا لَمْ يُسْلِمْ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى الْكُفْرِ . وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ أَنِّي قَدْ آمَنْت وَإِيمَانِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ صَارَ مُؤْمِنًا لَكِنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ يَحْتَمِلُ هَذَا وَهَذَا فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْإِنْشَاءِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ إنَّمَا يُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ مَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا فَأَمَّا الْمَاضِي وَالْحَاضِرُ فَلَا يُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ وَاَلَّذِينَ اسْتَثْنَوْا لَمْ يَسْتَثْنُوا فِي الْإِنْشَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ كَيْفَ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا : { آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ } وَقَالَ تَعَالَى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ آمَنُوا فَوَقَعَ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ قَطْعًا بِلَا اسْتِثْنَاءٍ . وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ : آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَا اُسْتُثْنِيَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ قَطُّ فِي مِثْلِ هَذَا وَإِنَّمَا الْكَلَامُ إذَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ كَمَا يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ بَرٌّ تَقِيٌّ فَقَوْلُ الْقَائِلِ لَهُ : أَنْتَ مُؤْمِنٌ هُوَ عِنْدَهُمْ كَقَوْلِهِ : هَلْ أَنْتَ بَرٌّ تَقِيٌّ ؟ فَإِذَا قَالَ : أَنَا بَرٌّ تَقِيٌّ فَقَدْ زَكَّى نَفْسَهُ . فَيَقُولُ : إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ كَذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ التَّامَّ يَتَعَقَّبُهُ قَبُولُ اللَّهِ لَهُ وَجَزَاؤُهُ عَلَيْهِ وَكِتَابَةُ الْمُلْكِ لَهُ فَالِاسْتِثْنَاءُ يَعُودُ إلَى ذَلِكَ لَا إلَى مَا عَلِمَهُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ وَحَصَلَ وَاسْتَقَرَّ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالْمَشِيئَةِ ؛ بَلْ يُقَالُ : هَذَا حَاصِلٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَقَوْلُهُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ بِمَعْنَى إذْ شَاءَ اللَّهُ وَذَلِكَ تَحْقِيقٌ لَا تَعْلِيقٌ . وَالرَّجُلُ قَدْ يَقُولُ : وَاَللَّهِ لَيَكُونَن كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهُوَ جَازِمٌ بِأَنَّهُ يَكُونُ فَالْمُعَلَّقُ هُوَ الْفِعْلُ كَقَوْلِهِ : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ } وَاَللَّهُ عَالِمٌ بِأَنَّهُمْ سَيَدْخُلُونَهُ وَقَدْ يَقُولُ الْآدَمِيُّ لَأَفْعَلَن كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهُوَ لَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ يَقَعُ لَكِنْ يَرْجُوهُ فَيَقُولُ : يَكُونُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ عَزْمُهُ عَلَيْهِ قَدْ يَكُونُ جَازِمًا وَلَكِنْ لَا يَجْزِمُ بِوُقُوعِ الْمَعْزُومِ عَلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ الْعَزْمُ مُتَرَدِّدًا مُعَلَّقًا بِالْمَشِيئَةِ أَيْضًا وَلَكِنْ مَتَى كَانَ(2/248)
الْمَعْزُومُ عَلَيْهِ مُعَلَّقًا لَزِمَ تَعْلِيقُ بَقَاءِ الْعَزْمِ فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ أَنَّ تَعْلِيقَ الْعَزْمِ ابْتِدَاءً أَوْ دَوَامًا فِي مِثْلِ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَحْنَثْ الْمُطَلِّقُ الْمُعَلِّقُ وَحَرْفُ " إنْ " لَا يُبْقِي الْعَزْمَ فَلَا بُدَّ إذَا دَخَلَ عَلَى الْمَاضِي صَارَ مُسْتَقْبَلًا تَقُولُ : إنْ جَاءَ زَيْدٌ كَانَ كَذَلِكَ { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } وَإِذَا أُرِيدَ الْمَاضِي دَخَلَ حَرْفُ " إنْ " كَقَوْلِهِ : { إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي } فَيُفَرِّقُ بَيْنَ قَوْلِهِ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إنْ كَانَ اللَّهُ شَاءَ إيمَانِي . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنِّي لَا أَعْلَمُ بِمَاذَا يُخْتَمُ لِي كَمَا قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ : إنَّ فُلَانًا يَشْهَدُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ . قَالَ : فَلْيَشْهَدْ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَهَذَا مُرَادُهُ إذَا شَهِدَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ يَمُوتُ عَلَى الْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّ إيمَانِي حَاصِلٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ . وَمَنْ لَمْ يَسْتَثْنِ قَالَ أَنَا لَا أَشُكُّ فِي إيمَانِ قَلْبِي فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُزَكِّ نَفْسَهُ وَيَقْطَعْ بِأَنَّهُ عَامِلٌ كَمَا أُمِرَ وَقَدْ تَقَبَّلَ اللَّهُ عَمَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ إنَّ إيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُرْجِئَةِ كَمَا كَانَ مِسْعَرُ بْنُ كدام يَقُولُ أَنَا لَا أَشُكُّ فِي إيمَانِي قَالَ أَحْمَد : وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُرْجِئَةِ فَإِنَّ الْمُرْجِئَةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُوَ كَانَ يَقُولُ : هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ لَكِنْ أَنَا لَا أَشُكُّ فِي إيمَانِي . وَكَانَ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ لِسُفْيَانَ بْنِ عيينة : أَلَا تَنْهَاهُ عَنْ هَذَا فَإِنَّهُمْ مِنْ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ النِّزَاعَ فِي هَذَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ جِنْسِ الْمُنَازَعَةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَكُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ . " وَأَمَّا جَهْمٌ " فَكَانَ يَقُولُ : إنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا ؛ بَلْ أَحْمَد وَوَكِيعٌ وَغَيْرُهُمَا كَفَّرُوا مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَلَكِنْ هُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْأَشْعَرِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ ؛ وَلَكِنْ قَالُوا مَعَ ذَلِكَ إنَّ كُلَّ مَنْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِكُفْرِهِ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ وَاسْتَدْلَلْنَا بِتَكْفِيرِ الشَّارِعِ لَهُ عَلَى خُلُوِّ قَلْبِهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِ غَيْرِهِمْ فِي " الْإِيمَانِ " . وَالْأَصْلُ الَّذِي مِنْهُ نَشَأَ النِّزَاعُ اعْتِقَادُ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَظَنُّ بَعْضِهِمْ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ كَمَا ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ فَهَذَا كَانَ أَصْلَ الْإِرْجَاءِ كَمَا كَانَ " أَصْلُ الْقَدَرِ " عَجْزَهُمْ عَنْ الْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَالْقَدَرِ جَمِيعًا فَلَمَّا كَانَ هَذَا أَصْلَهُمْ صَارُوا حِزْبَيْنِ . قَالَتْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ قَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ تَرَكَ بَعْضَ الْإِيمَانِ وَإِذَا زَالَ بَعْضُهُ زَالَ جَمِيعُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَكُونُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ فَيَكُونُ أَصْحَابُ الذُّنُوبِ مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ إذْ كَانَ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ . وَقَالَتْ " الْمُرْجِئَةُ " - مُقْتَصِدَتُهُمْ وَغُلَاتُهُمْ كالجهمية - قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَهْلَ الذُّنُوبِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ ؛ بَلْ يَخْرُجُونَ مِنْهَا كَمَا تَوَاتَرَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ . وَعَلِمْنَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا كُفَّارًا مُرْتَدِّينَ ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ قَدْ أَمَرَ بِقَطْعِ السَّارِقِ لَا بِقَتْلِهِ وَجَاءَتْ السُّنَّةُ بِجَلْدِ الشَّارِبِ لَا بِقَتْلِهِ فَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ كُفَّارًا مُرْتَدِّينَ لَوَجَبَ قَتْلُهُمْ ؛ وَبِهَذَا ظَهَرَ لِلْمُعْتَزِلَةِ ضِعْفُ قَوْلِ الْخَوَارِجِ فَخَالَفُوهُمْ فِي أَحْكَامِهِمْ فِي الدُّنْيَا . و " الْخَوَارِجُ " لَا يَتَمَسَّكُونَ مِنْ السُّنَّةِ إلَّا بِمَا فَسَّرَ مُجْمَلَهَا دُونَ مَا خَالَفَ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ فَلَا يَرْجُمُونَ الزَّانِيَ وَلَا يَرَوْنَ لِلسَّرِقَةِ نِصَابًا وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يَقُولُونَ : لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ قَتْلُ الْمُرْتَدِّ فَقَدْ يَكُونُ الْمُرْتَدُّ عِنْدَهُمْ نَوْعَيْنِ . و " أَقْوَالُ الْخَوَارِجِ " إنَّمَا عَرَفْنَاهَا مِنْ نَقْلِ النَّاسِ عَنْهُمْ لَمْ نَقِفْ لَهُمْ عَلَى كِتَابٍ مُصَنَّفٍ كَمَا وَقَفْنَا عَلَى كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ(2/249)
وَالزَّيْدِيَّةِ وَالْكَرَامِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ والسالمية وَأَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَمَذَاهِبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالصُّوفِيَّةِ وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
==============
قتل من ترك فرائض الإسلام(1)
الْوَجْهُ السَّادِسُ أَنَّ مَبَانِيَ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَ الْمَأْمُورَ بِهَا وَإِنْ كَانَ ضَرَرُ تَرْكِهَا لَا يَتَعَدَّى صَاحِبَهَا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِهَا فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَيَكْفُرُ أَيْضًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَأَمَّا فِعْلُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الَّذِي لَا يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ صَاحِبَهُ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَلَا يَكْفُرُ بِهِ إلَّا إذَا نَاقَضَ الْإِيمَانَ لِفَوَاتِ الْإِيمَانِ وَكَوْنِهِ مُرْتَدًّا أَوْ زِنْدِيقًا . وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ الْأَئِمَّةِ مَنْ يَقْتُلُهُ وَيُكَفِّرُهُ بِتَرْكِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْخَمْسِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ بُنِيَ عَلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْتُلُهُ وَلَا يُكَفِّرُهُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَهِيَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَد كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي بَرَاءَةٌ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَلِأَنَّهُمَا مُنْتَظِمَانِ لِحَقِّ الْحَقِّ وَحَقِّ الْخَلْقِ كَانْتِظَامِ الشَّهَادَتَيْنِ لِلرُّبُوبِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَلَا بَدَلَ لَهُمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمَا بِخِلَافِ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتُلُهُ بِهِمَا وَيُكَفِّرُهُ بِالصَّلَاةِ وَبِالزَّكَاةِ إذَا قَاتَلَ الْإِمَامَ عَلَيْهَا كَرِوَايَةِ عَنْ أَحْمَد . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتُلُهُ بِهِمَا وَلَا يُكَفِّرُهُ إلَّا بِالصَّلَاةِ كَرِوَايَةِ عَنْ أَحْمَد . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتُلُهُ بِهِمَا وَلَا يُكَفِّرُهُ كَرِوَايَةِ عَنْ أَحْمَد . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْتُلُهُ إلَّا بِالصَّلَاةِ وَلَا يُكَفِّرُهُ كَالْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ . وَتَكْفِيرُ تَارِكِ الصَّلَاةِ هُوَ الْمَشْهُورُ الْمَأْثُورُ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . وَمَوْرِدُ النِّزَاعِ هُوَ فِيمَنْ أَقَرَّ بِوُجُوبِهَا وَالْتَزَمَ فِعْلَهَا وَلَمْ يَفْعَلْهَا وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِوُجُوبِهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِهِمْ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ : أَنَّهُ إنْ جَحَدَ وُجُوبَهَا كَفَرَ وَإِنْ لَمْ يَجْحَدْ وُجُوبَهَا فَهُوَ مَوْرِدُ النِّزَاعِ بَلْ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : إنْ جَحَدَ وُجُوبَهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِالِاتِّفَاقِ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَجْحَدَ وُجُوبَهَا لَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ الْتِزَامِ فِعْلِهَا كِبْرًا أَوْ حَسَدًا أَوْ بُغْضًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَيَقُولُ : اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالرَّسُولَ صَادِقٌ فِي تَبْلِيغِ الْقُرْآنِ وَلَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ عَنْ الْتِزَامِ الْفِعْلِ اسْتِكْبَارًا أَوْ حَسَدًا لِلرَّسُولِ أَوْ عَصَبِيَّةً لِدِينِهِ أَوْ بُغْضًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَهَذَا أَيْضًا كَافِرٌ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ إبْلِيسَ لَمَّا تَرَكَ السُّجُودَ الْمَأْمُورَ بِهِ لَمْ يَكُنْ جَاحِدًا لِلْإِيجَابِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَاشَرَهُ بِالْخِطَابِ وَإِنَّمَا أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ . وَكَذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ كَانَ مُصَدِّقًا لِلرَّسُولِ فِيمَا بَلَّغَهُ لَكِنَّهُ تَرَكَ اتِّبَاعَهُ حَمِيَّةً لِدِينِهِ وَخَوْفًا مِنْ عَارِ الِانْقِيَادِ وَاسْتِكْبَارًا عَنْ أَنْ تَعْلُوَ أَسْتُهُ رَأْسَهُ فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَفَطَّنَ لَهُ وَمَنْ أَطْلَقَ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ إلَّا مَنْ يَجْحَدُ وُجُوبَهَا فَيَكُونُ الْجَحْدُ عِنْدَهُ مُتَنَاوِلًا لِلتَّكْذِيبِ بِالْإِيجَابِ وَمُتَنَاوِلًا لِلِامْتِنَاعِ عَنْ الْإِقْرَارِ وَالِالْتِزَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } وَإِلَّا فَمَتَى لَمْ يُقِرَّ وَيَلْتَزِمْ فِعْلَهَا قُتِلَ وَكَفَرَ بِالِاتِّفَاقِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا مُلْتَزِمًا ؛ لَكِنْ تَرَكَهَا كَسَلًا وَتَهَاوُنًا ؛ أَوْ اشْتِغَالًا بِأَغْرَاضِ لَهُ عَنْهَا فَهَذَا مَوْرِدُ النِّزَاعِ كَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ مُقِرٌّ بِوُجُوبِهِ مُلْتَزِمٌ لِأَدَائِهِ لَكِنَّهُ يَمْطُلُ بُخْلًا أَوْ تَهَاوُنًا . وَهُنَا قِسْمٌ رَابِعٌ وَهُوَ : أَنْ يَتْرُكَهَا وَلَا يُقِرَّ بِوُجُوبِهَا ؛ وَلَا يَجْحَدَ وُجُوبَهَا ؛ لَكِنَّهُ مُقِرٌّ بِالْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَهَلْ هَذَا مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ ؛ أَوْ مِنْ مَوَارِدِ الْإِجْمَاعِ ؟
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 4 / ص 252)(2/250)
وَلَعَلَّ كَلَامَ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ مُتَنَاوِلٌ لِهَذَا وَهُوَ الْمُعْرِضُ عَنْهَا لَا مُقِرًّا وَلَا مُنْكِرًا . وَإِنَّمَا هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِالْإِسْلَامِ فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ فَإِنْ قُلْنَا . يَكْفُرُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ فَيَكُونُ اعْتِقَادُ وُجُوبِ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى التَّعْيِينِ مِنْ الْإِيمَانِ لَا يَكْفِي فِيهَا الِاعْتِقَادُ الْعَامُّ ؛ كَمَا فِي الْخَبَرِيَّاتِ مِنْ أَحْوَالِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَأْمُورَ بِهَا الْمَطْلُوبُ فِيهَا الْفِعْلُ لَا يَكْفِي فِيهَا الِاعْتِقَادُ الْعَامُّ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِقَادٍ خَاصٍّ ؛ بِخِلَافِ الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ الْمُجْمَلَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ وَأَمْرِ الْمُعَادِ يَكْفِي فِيهِ مَا لَمْ يَنْقُضْ الْجُمْلَةَ بِالتَّفْصِيلِ وَلِهَذَا اكْتَفَوْا فِي هَذِهِ الْعَقَائِدِ بِالْجُمَلِ وَكَرِهُوا فِيهَا التَّفْصِيلَ الْمُفْضِيَ إلَى الْقِتَالِ وَالْفِتْنَةِ بِخِلَافِ الشَّرَائِعِ الْمَأْمُورِ بِهَا ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكْتَفِي فِيهَا بِالْجُمَلِ ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلِهَا عِلْمًا وَعَمَلًا . وَأَمَّا الْقَاتِلُ وَالزَّانِي وَالْمُحَارِبُ فَهَؤُلَاءِ إنَّمَا يُقْتَلُونَ لِعُدْوَانِهِمْ عَلَى الْخَلْقِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ الْمُتَعَدِّي وَمَنْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ اللَّهِ وَلَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ . وَأَيْضًا فَالْمُرْتَدُّ يُقْتَلُ لِكُفْرِهِ بَعْدَ إيمَانِهِ : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَارِبًا . فَثَبَتَ أَنَّ الْكُفْرَ وَالْقَتْلَ لِتَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمُ مِنْهُ لِفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ . وَهَذَا الْوَجْهُ قَوِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الثَّلَاثَةِ : مَالِكٍ ؛ وَالشَّافِعِيِّ ؛ وَأَحْمَد وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَدَلَائِلُهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَنَوِّعَةٌ وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَدْ يُعَارَضُ بِمَا قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ لَا يُوجِبُ قَتْلَ أَحَدٍ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَصْلًا حَتَّى الْإِيمَانِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْتُلُ إلَّا الْمُحَارِبَ لِوُجُودِ الْحِرَابِ مِنْهُ وَهُوَ فِعْلُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَيُسَوِّي بَيْنَ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ وَالطَّارِئِ فَلَا يَقْتُلُ الْمُرْتَدَّ لِعَدَمِ الْحِرَابِ مِنْهُ وَلَا يَقْتُلُ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ أَوْ الزَّكَاةَ إلَّا إذَا كَانَ فِي طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ فَيُقَاتِلُهُمْ لِوُجُودِ الْحِرَابِ كَمَا يُقَاتِلُ الْبُغَاةَ وَأَمَّا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَيَقْتُلُ الْقَاتِلَ وَالزَّانِيَ الْمُحْصَنَ وَالْمُحَارِبَ إذَا قَتَلَ فَيَكُونُ الْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَ النِّزَاعِ بِالرَّدِّ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَالٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ إذَا كَانَ أَعْمَى أَوْ زَمِنًا أَوْ رَاهِبًا وَالْأَسِيرُ يَجُوزُ قَتْلُهُ بَعْدَ أَسْرِهِ وَإِنْ كَانَ حِرَابُهُ قَدْ انْقَضَى . الثَّانِي : أَنَّ مَا وَجَبَ فِيهِ الْقَتْلُ إنَّمَا وَجَبَ عَلَى سَبِيلِ الْقِصَاصِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ؛ كَمَا تَجِبُ الْمُقَاصَّةُ فِي الْأَمْوَالِ ؛ فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَبْشَارِ ؛ لَكِنْ إنْ لَمْ يَضُرَّ إلَّا الْمَقْتُولَ كَانَ قَتْلُهُ صَائِرًا إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ كَحَقِّ الْمَظْلُومِ فِي الْمَالِ وَإِنْ قَتَلَهُ لِأَخْذِ الْمَالِ كَانَ قَتْلُهُ وَاجِبًا ؛ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ حَدُّ اللَّهِ كَمَا يَجِبُ قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ لِأَجْلِ حِفْظِ الْأَمْوَالِ ؛ وَرَدُّ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ حَقٌّ لِصَاحِبِهِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ فَخَرَجَتْ هَذِهِ الصُّوَرُ عَنْ النَّقْضِ لَمْ يَبْقَ مَا يُوجِبُ الْقَتْلَ عِنْدَهُ بِلَا مُمَاثَلَةٍ إلَّا الزِّنَا وَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْعُدْوَانِ أَيْضًا وَوُقُوعُ الْقَتْلِ بِهِ نَادِرٌ ؛ لِخَفَائِهِ وَصُعُوبَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ . الثَّالِثُ : أَنَّ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا لَا تَدُلُّ عَلَى كِبَرِ الذَّنْبِ وَصِغَرِهِ ؛ فَإِنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ دَارَ الْجَزَاءِ وَإِنَّمَا دَارُ الْجَزَاءِ هِيَ الْآخِرَةُ وَلَكِنْ شُرِعَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ فِي الدُّنْيَا مَا يَمْنَعُ الْفَسَادَ وَالْعُدْوَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } . فَهَذَانِ السَّبَبَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَتْهُمَا الْمَلَائِكَةُ هُمَا اللَّذَانِ كَتَبَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ الْقَتْلَ بِهِمَا ؛ وَلِهَذَا يُقِرُّ كُفَّارُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْجِزْيَةِ مَعَ أَنَّ ذَنْبَهُمْ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ أَعْظَمُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَنْبِ مَنْ نَقْتُلُهُ مِنْ زَانٍ وَقَاتِلٍ . فَأَبُو حَنِيفَةَ رَأَى أَنَّ الْكُفْرَ مُطْلَقًا(2/251)
إنَّمَا يُقَاتَلُ صَاحِبُهُ لِمُحَارَبَتِهِ فَمَنْ لَا حِرَابَ فِيهِ لَا يُقَاتَلُ وَلِهَذَا يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ وَإِنْ كَانُوا وَثَنِيِّينَ . وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَمَعَ هَذَا يَجُوزُ الْقَتْلُ تَعْزِيرًا وَسِيَاسَةً فِي مَوَاضِعَ . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَعِنْدَهُ نَفْسُ الْكُفْرِ هُوَ الْمُبِيحُ لِلدَّمِ إلَّا أَنَّ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ تُرِكُوا لِكَوْنِهِمْ مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ فَيُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ لِوُجُودِ الْكُفْرِ وَامْتِنَاعِ سَبَبِهَا عِنْدَهُ مِنْ الْكُفْرِ بِلَا مَنْفَعَةٍ . وَأَمَّا أَحْمَد فَالْمُبِيحُ عِنْدَهُ أَنْوَاعٌ أَمَّا الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ فَالْمُبِيحُ عِنْدَهُ هُوَ وُجُودُ الضَّرَرِ مِنْهُ أَوْ عَدَمُ النَّفْعِ فِيهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُحَارَبَةُ بِيَدِ أَوْ لِسَانٍ فَلَا يُقْتَلُ مَنْ لَا مُحَارَبَةَ فِيهِ بِحَالِ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ؛ وَالرُّهْبَانِ وَالْعُمْيَانِ ؛ وَالزَّمْنَى وَنَحْوِهِمْ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ . وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَالْمُبِيحُ عِنْدَهُ هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَهُوَ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ الْكُفْرِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ ذَلِكَ لَكَانَ الدَّاخِلُ فِي الدِّينِ يَخْرُجُ مِنْهُ فَقَتْلُهُ حِفْظٌ لِأَهْلِ الدِّينِ وَلِلدِّينِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ النَّقْصِ وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْهُ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ كِتَابِيًّا أَوْ مُشْبِهًا لَهُ فَقَدْ وُجِدَ إحْدَى غَايَتَيْ الْقِتَالِ فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ وَثَنِيًّا : فَإِنْ أُخِذَتْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ فَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ فَفِي جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِ نِزَاعٌ فَمَتَى جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ كَانَ ذَلِكَ كَأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُ وَمَتَى لَمْ يُمْكِنْ اسْتِرْقَاقُهُ وَلَا أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ بَقِيَ كَافِرًا لَا مَنْفَعَةَ فِي حَيَاتِهِ لِنَفْسِهِ - لِأَنَّهُ يَزْدَادُ إثْمًا - وَلَا لِلْمُؤْمِنِينَ ؛ فَيَكُونُ قَتْلُهُ خَيْرًا مِنْ إبْقَائِهِ . وَأَمَّا تَارِكُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ : فَإِذَا قُتِلَ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ قِسْمِ الْمُرْتَدِّينَ لِأَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ مُلْتَزِمٌ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْهَا فَقَدْ تَرَكَ مَا الْتَزَمَهُ أَوْ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ مِنْ الْغَايَةِ الَّتِي يَمْتَدُّ الْقِتَالُ إلَيْهَا كَالشَّهَادَتَيْنِ فَإِنَّهُ لَوْ تَكَلَّمَ بِإِحْدَاهُمَا وَتَرَكَ الْأُخْرَى لَقُتِلَ لَكِنْ قَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَأَمَّا إذَا لَمْ وَيُفَرَّقُ فِي الْمُرْتَدِّ بَيْنَ الرِّدَّةِ الْمُجَرَّدَةِ فَيُقْتَلُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ وَبَيْنَ الرِّدَّةِ الْمُغَلَّظَةِ فَيُقْتَلُ بِلَا اسْتِتَابَةٍ . فَهَذِهِ مَآخِذُ فِقْهِيَّةٌ نَبَّهْنَا بِهَا عَلَى بَعْضِ أَسْبَابِ الْقَتْلِ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَتَنَازَعُونَ أَنَّ تَرْكَ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمُ وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ ذَكَرْنَا مَا تَقَدَّمَ .
============
حكم الوقف المخالف للشرع(1)
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 7 / ص 469)(2/252)
وَبِالْجُمْلَةِ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى صَلَاةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ جِهَادٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ وَقْفُهُ : بَلْ هُوَ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَعَنْ الْبَذْلِ فِيهِ وَالْخِلَافُ الَّذِي بَيْنَهُمْ فِي الْمُبَاحَاتِ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ هُنَا لِأَنَّ اتِّخَاذَ الشَّيْءِ عِبَادَةً وَاعْتِقَادَ كَوْنِهِ عِبَادَةً وَعَمَلَهُ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ : لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ - وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا فِي الشَّرِيعَةِ - كَانَ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ عِبَادَةً وَالرَّغْبَةُ فِيهِ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ وَمَحَبَّتُهُ وَعَمَلُهُ مَشْرُوعًا . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ فَلَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَا أَنَّهُ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَلَا يَتَّخِذُهُ دِينًا وَلَا يُرَغِّبُ فِيهِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ عِبَادَةً . وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الدِّيَانَاتِ وَهُوَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُبَاحِ الَّذِي يُفْعَلُ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ وَبَيْنَ مَا يُتَّخَذُ دِينًا وَعِبَادَةً وَطَاعَةً وَقُرْبَةً وَاعْتِقَادًا وَرَغْبَةً وَعَمَلًا . فَمَنْ جَعَلَ مَا لَيْسَ مَشْرُوعًا وَلَا هُوَ دِينًا وَلَا طَاعَةً وَلَا قُرْبَةً جَعَلَهُ دُنْيَا وَطَاعَةً وَقُرْبَةً : كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . لَكِنْ قَدْ يَتَنَازَعُ الْعُلَمَاءُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ : هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْقُرَبِ وَالْعِبَادَاتِ ؟ أَمْ لَا ؟ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ الْقَوْلِيَّةِ أَوْ مِنْ بَابِ الْإِرَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ حَتَّى قَدْ يَرَى أَحَدُهُمْ وَاجِبًا مَا يَرَاهُ الْآخَرُ حَرَامًا ؛ كَمَا يَرَى بَعْضُهُمْ وُجُوبَ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ ؛ وَيَرَى آخَرُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ ؛ وَيَرَى أَحَدُهُمْ وُجُوبَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ السَّكْرَانِ وَامْرَأَتِهِ إذَا طَلَّقَهَا فِي سُكْرِهِ وَيَرَى الْآخَرُ تَحْرِيمَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا ؛ وَكَمَا يَرَى أَحَدُهُمْ وُجُوبَ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْمَأْمُومِ وَيَرَى الْآخَرُ كَرَاهَةَ قِرَاءَتِهِ : إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا إذَا سَمِعَ جَهْرَ الْإِمَامِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ . كَمَا أَنَّ اعْتِقَادَهَا وَعَمَلَهَا مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ فَبَذْلُ الْمَالِ عَلَيْهَا هُوَ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ أَيْضًا وَهُوَ الِاجْتِهَادِيَّةُ . وَأَمَّا كُلُّ عَمَلٍ يَعْلَمُ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ بِدْعَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا ؛ فَإِنَّ الْعَالِمَ بِذَلِكَ لَا يُجَوِّزُ الْوَقْفَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَشْرُطُ بَعْضُهُمْ بَعْضَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ الشَّرِيعَةَ أَوْ مَنْ هُوَ يُقَلِّدُ فِي ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إلَى السُّنَّةِ . وَلِمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ الْعَادِلِ إذَا خَالَفَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا لَمْ يَعْلَمْهُ فَهُوَ مَنْقُوضٌ فَكَيْفَ بِتَصَرُّفِ مَنْ لَيْسَ يَعْلَمُ هَذَا الْبَابَ مِنْ وَاقِفٍ لَا يَعْلَمُ حُكْمَ الشَّرِيعَةِ ؛ وَمَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ لَهُ مِنْ وُكَلَائِهِ . وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ بِصُورَةِ ذَلِكَ وَلُزُومِهِ فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا عَادِلًا فَلَا : يُنَفِّذُ مَا خَالَفَ فِيهِ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَالشُّرُوطُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْأَمْرِ بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَالنَّهْيِ عَنْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُخَالَفَةٌ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ فَإِنَّ طَاعَتَهُ فِيهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . فَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ هِيَ الْكَلِمَاتُ الْجَامِعَةُ ؛ وَالْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَيْهَا هَذِهِ الْمَسَائِلُ ؛ وَنَحْوُهَا . وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا نُكَتًا جَامِعَةً بِحَسَبِ مَا تَحْتَمِلُهُ الْوَرَقَةُ يَعْرِفُهَا الْمُتَدَرِّبُ فِي فِقْهِ الدِّينِ . وَبَعْدَ هَذَا يُنْظَرُ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ وَغَيْرِهَا بِنَظَرِهِ . فَمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ أُلْغِيَ ؛ وَمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ شَرْطٌ مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَمِلَ بِهِ ؛ وَمَا اشْتَبَهَ أَمْرُهُ أَوْ كَانَ فِيهِ نِزَاعٌ فَلَهُ حُكْمُ نَظَائِرِهِ . وَمِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ الْبَاطِلَةِ مَا يَحْتَاجُ تَغْيِيرُهُ إلَى هِمَّةٍ قَوِيَّةٍ ؛ وَقُدْرَةٍ نَافِذَةٍ . وَيُؤَيِّدُهَا اللَّهُ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ . وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ قِيَامِ الشَّخْصِ فِي هَوَى(2/253)
نَفْسِهِ لِجَلْبِ دُنْيَا أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ دُنْيَوِيَّةٍ إذَا أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لَا يَكَادُ يَنْجَحُ سَعْيُهُ . وَإِنْ كَانَ مُتَظَلِّمًا طَالِبًا مَنْ يُعِينُهُ فَإِنْ أَعَانَهُ اللَّهُ بِمَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِذَلِكَ أَوْ بِمَا يُقَدِّرُهُ لَهُ مِنْ جِهَةٍ تُعِينُهُ حَصَلَ مَقْصُودُهُ . وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .
==============
وفي كشف الأسرار :(1)
بَابُ شَرْطِ نَقْلِ الْمُتُونِ :
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَا رُخْصَةَ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَظُنُّهُ اخْتِيَارَ ثَعْلَبٍ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ قَالُوا لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنِّي مَقَالَةً فَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا } وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَخْصُوصٌ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ سَابِقٌ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ فَلَا يُؤْمَنُ فِي النَّقْلِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ , وَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ رُخْصَةً لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى قَوْلِهِمْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام بِكَذَا وَنَهَانَا عَنْ كَذَا , وَمَعْرُوفٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام كَذَا أَوْ نَحْوًا مِنْهُ قَرِيبًا مِنْهُ , وَفِي تَفْصِيلِ الرُّخْصَةِ جَوَابٌ عَمَّا قَالَ وَهَذَا لِأَنَّ النَّظْمَ مِنْ السُّنَّةِ غَيْرُ مُعْجِزٍ وَإِنَّمَا النَّظْمُ لِمَعْنَاهُ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ , وَالسُّنَّةُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْوَاعٌ : مَا يَكُونُ مُحْكَمًا لَا يَشْتَبِهُ مَعْنَاهُ وَلَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا وُضِعَ لَهُ , وَظَاهِرٌ يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا ظَهَرَ مِنْ مَعْنَاهُ مِنْ عَامٍّ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ أَوْ حَقِيقَةً يَحْتَمِلُ الْمَجَازَ , وَمُشْكِلٌ أَوْ مُشْتَرَكٌ لَا يُعْمَلُ بِهِ إلَّا بِتَأْوِيلٍ , وَمُجْمَلٌ أَوْ مُتَشَابِهٌ , وَقَدْ يَكُونُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام قَالَ عليه السلام فِيمَا يَحْكِي مِنْ اخْتِصَاصِهِ { وَأُوتِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ } فَهِيَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ : أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا بَأْسَ لِمَنْ لَهُ بَصَرٌ بِوُجُوهِ اللُّغَةِ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُحْكَمًا مُفَسَّرًا أُمِنَ فِيهِ الْغَلَطُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِوُجُوهِ اللُّغَةِ فَثَبَتَ النَّقْلُ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا , وَقَدْ ثَبَتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ضَرْبٌ مِنْ الرُّخْصَةِ مَعَ أَنَّ النَّظْمَ مُعْجِزٌ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ } وَإِنَّمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَرَكَةِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ عليه السلام غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ وَهَذِهِ رُخْصَةُ تَخْفِيفٍ وَتَيْسِيرٍ مَعَ قِيَامِ الْأَصْلِ عَلَى نَحْوِ مَا مَرَّ تَقْسِيمُهُ فِي بَابِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَلَا رُخْصَةَ فِيهِ إلَّا لِمَنْ حَوَى إلَى عِلْمِ اللُّغَةِ فِقْهَ الشَّرِيعَةِ ( كَشْفٌ ) وَالْعِلْمَ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ; لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ( ثَالِثٌ ) كَذَلِكَ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ مَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ الْمَنْقُولُ مِنْ خُصُوصٍ أَوْ مَجَازٍ وَلَعَلَّ الْمُحْتَمَلَ هُوَ الْمُرَادُ وَلَعَلَّهُ يَزِيدُهُ عُمُومًا فَيُخِلُّ بِمَعَانِيهِ فِقْهًا وَشَرِيعَةً . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَلَا يُخِلُّ فِيهِ النَّقْلُ ; لِأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ إلَّا بِتَأْوِيلٍ وَتَأْوِيلُهُ عَلَى غَيْرِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ . وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ النَّقْلُ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْمُجْمَلَ مَا لَا يُفْهَمُ مُرَادُهُ إلَّا بِالتَّفْسِيرِ وَالْمُتَشَابِهَ مَا انْسَدَّ عَلَيْنَا بَابُ دَرْكِهِ وَابْتُلِينَا بِالْكَفِّ عَنْهُ . وَأَمَّا الْخَامِسُ فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ الْغَلَطُ لِإِحَاطَةِ الْجَوَامِعِ بِمَعَانٍ قَدْ يَقْصُرُ عَنْهَا عُقُولُ ذَوِي الْأَلْبَابِ , وَكُلُّ مُكَلَّفٍ بِمَا فِي وُسْعِهِ , وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ النَّبِيِّ عليه السلام { وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى وَيُعَدَّ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْجَوَامِعِ وَغَيْرِهَا لَكِنَّ هَذَا أَحْوَطُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
__________
(1) - كشف الأسرار - (ج 5 / ص 123)(2/254)
( بَابُ شَرْطِ نَقْلِ الْمُتُونِ ) : الْمُتُونُ جَمْعُ مَتْنٍ وَهُوَ مَا دُونَ الرِّيشِ مِنْ السَّهْمِ إلَى وَسَطِهِ وَاسْتُعِيرَ هَاهُنَا لِنَفْسِ الْحَدِيثِ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا سَمِعَ مِنْ أَحَدٍ شِعْرًا مَثَلًا ثُمَّ أَنْشَدَهُ كَمَا سَمِعَهُ يُقَالُ هَذَا شِعْرُ فُلَانٍ وَإِنْ كَانَ مَا يَقْرَؤُهُ لَفْظُهُ حَقِيقَةً لِكَوْنِهِ مُحَاكِيًا وَمُطَابِقًا لِلَّفْظِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ إذَا كَانَ لَفْظُ الرَّاوِي مُحَاكِيًا لِلَفْظِ الرَّسُولِ عليه السلام يُقَالُ هَذَا حَدِيثُ النَّبِيِّ عليه السلام وَنَقَلَهُ بِلَفْظِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَفْظُ الرَّاوِي حَقِيقَةً , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَفْظُهُ مُحَاكِيًا لِلَفْظِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بَلْ كَانَ مُطَابِقًا لِمَعْنَاهُ يُقَالُ نَقَلَهُ بِالْمَعْنَى وَعَلَى هَذَا الْحُكْمُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كُلِّ كَلَامٍ . ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ نَقْلَ الْحَدِيثِ بِلَفْظِهِ أَوْلَى فَأَمَّا نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ إلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ عَارِفًا بِدَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ وَاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا مَعَ شَرَائِطَ أُخَرَ سَنُبَيِّنُهَا , وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى بِحَالٍ وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَتَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا } حَثَّ عَلَى الْأَدَاءِ كَمَا سَمِعَ وَذَلِكَ بِمُرَاعَاةِ اللَّفْظِ الْمَسْمُوعِ , وَمَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً } حَسَّنَ وَجْهَهُ مِنْ حَدٍّ دَخَلَ وَزَادَ فِي جَاهِهِ وَقَدَّرَهُ بَيْنَ خَلْقِهِ , وَيُرْوَى نَضَّرَ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ نَعَّمَهُ وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّ النَّقْلَ بِالْمَعْنَى رُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى اخْتِلَالِ مَعْنَى الْحَدِيثِ فَإِنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي إدْرَاكِ مَعْنَى اللَّفْظِ الْوَاحِدِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ { فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ } وَلِهَذَا يَحْمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ عَلَى مَعْنًى لَا يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ , وَقَدْ صَادَفْنَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ يَتَنَبَّهُ فِي آيَةٍ أَوْ خَبَرٍ لِفَوَائِدَ لَمْ يَتَنَبَّهْ لَهَا أَهْلُ الْأَعْصَارِ السَّالِفَةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَقِفَ السَّامِعُ عَلَى جَمِيعِ فَوَائِدِ اللَّفْظِ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ فَقِيهًا ذَكِيًّا مَعَ أَنَّهُ عليه السلام قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَكَانَ أَفْصَحَ الْعَرَبِ لِسَانًا وَأَحْسَنَهَا بَيَانًا فَلَوْ جَوَّزْنَا النَّقْلَ بِالْمَعْنَى رُبَّمَا حَصَلَ التَّفَاوُتُ الْعَظِيمُ مَعَ أَنَّ الرَّاوِيَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ تَبْدِيلُ لَفْظِهِ عليه السلام بِلَفْظٍ آخَرَ لَجَازَ تَبْدِيلُ لَفْظِ الرَّاوِي أَيْضًا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ; لِأَنَّ التَّغْيِيرَ فِي لَفْظِ غَيْرِ الشَّارِعِ أَيْسَرُ مِنْهُ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ وَلَجَازَ ذَلِكَ فِي الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى سُقُوطِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ اجْتَهَدَ فِي تَطْبِيقِ التَّرْجَمَةِ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ تَفَاوُتٍ وَإِنْ قَلَّ , فَإِذَا تَوَالَتْ هَذِهِ التَّفَاوُتَاتُ كَانَ التَّفَاوُتُ الْآخِرُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا بِحَيْثُ لَا يَبْقَى بَيْنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَبَيْنَ الْآخِرِ مُنَاسَبَةٌ . وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ يَحْيَى ثَعْلَبٍ أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ هَذَا الْمَذْهَبَ وَيَقُولُ إنَّ عَامَّةَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَهَا نَظَائِرُ فِي اللُّغَةِ إذَا تَحَقَّقْتَهَا وَجَدْت كُلَّ لَفْظَةٍ مِنْهَا مُخْتَصَّةً بِشَيْءٍ لَا يُشَارِكُهَا صَاحِبَتُهَا فِيهِ فَمَنْ جَوَّزَ الْعِبَارَةَ بِبَعْضِهَا عَنْ الْبَعْضِ لَمْ يَسْلَمْ عَنْ الزَّيْغِ عَنْ الْمُرَادِ وَالذَّهَابِ عَنْهُ , وَمَعْنَى تَخْصِيصِ الشَّيْخِ إيَّاهُ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ وَأَظُنُّهُ أَيْ أَظُنُّ هَذَا الْقَوْلَ اخْتِيَارَ ثَعْلَبٍ أَنَّهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِاسْتِخْرَاجِ هَذَا الدَّلِيلِ , وَالتَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ فِي قَوْلِهِ فَلَا يُؤْمَنُ فِي النَّقْلِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ التَّغْيِيرُ , وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ فِي تَجْوِيزِهِ فِي الْجُمْلَةِ أَيْ فِي تَجْوِيزِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عَلَى الْخُصُوصِ لَا فِي تَجْوِيزِهِ عَلَى الْعُمُومِ مِمَّا رَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ اللَّيْثِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ { أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا لَهُ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا يَا(2/255)
رَسُولَ اللَّهِ إنَّا لَنَسْمَعُ مِنْك الْحَدِيثَ وَلَا نَقْدِرُ عَلَى تَأْدِيَتِهِ كَمَا سَمِعْنَاهُ مِنْك قَالَ صلى الله عليه وسلم إذَا لَمْ تُحِلُّوا حَرَامًا وَلَا تُحَرِّمُوا حَلَالًا وَأَصَبْتُمْ الْمَعْنَى فَلَا بَأْسَ } كَذَا رَأَيْت بِخَطِّ الْإِمَامِ الْحَافِظِ أَبِي الرَّشِيدِ الْأَصْبَهَانِيِّ وَأَوْرَدَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ الْكِفَايَةِ فِي مَعْرِفَةِ أُصُولِ عِلْمِ الرِّوَايَةِ , وَبِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى رِوَايَتِهِمْ بَعْضَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِأَلْفَاظِهِمْ مِثْلِ مَا رَوَى صَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ الْمُرَادِيُّ أَنَّ { النَّبِيَّ عليه السلام كَانَ يَأْمُرُنَا إذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا } الْحَدِيثَ . وَمَا رَوَى { أَبُو مَحْذُورَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ عليه السلام أَمَرَهُ بِالتَّرْجِيعِ } وَمَا رَوَى عَامِرُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { أَمَرَ النَّبِيُّ عليه السلام بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا } وَمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه أَنَّهُ عليه السلام { نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا } وَمَا رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه أَنَّهُ عليه السلام { نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ } وَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم { نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً } وَمَا رَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ أَوْ غَيْرُهُ أَنَّهُ عليه السلام { نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ } فِي شَوَاهِدَ لَهَا كَثِيرَةٍ لَا تُحْصَى فَحَكَوْا مَعَانِيَ خِطَابِهِ عليه السلام مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَى لَفْظِهِ إذْ لَمْ يَقُولُوا قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام افْعَلُوا كَذَا أَوْ لَا تَفْعَلُوا كَذَا , وَكَانُوا يَنْقُلُونَ أَيْضًا الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ الَّذِي جَرَى فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فِي وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ , مِثْلَ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ { الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ وَدَعَا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَقَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ بَعْدَنَا أَحَدًا أَنَّهُ عليه السلام قَالَ لَهُ لَقَدْ تَحَجَّرْت وَاسِعًا } وَرُوِيَ لَقَدْ ضَيَّقْت وَاسِعًا لَقَدْ مَنَعْتَ وَاسِعًا وَمِثْلَ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ رحمه الله رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً , مَكَانَ نَضَّرَ اللَّهُ وَرُوِيَ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ مَكَانَ غَيْرَ فَقِيهٍ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ فِي جَمِيعِ مَا قُلْنَا فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى الْجَوَازِ . وَبِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ عِنْدَ الرِّوَايَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ نَحْوًا مِنْهُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ وَلَا دَفَعَهُمْ دَافِعٌ فَكَانَ إجْمَاعًا عَلَى الْجَوَازِ أَيْضًا , وَبِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ رَوَوْا هَذِهِ الْأَخْبَارَ مَا كَانُوا يَكْتُبُونَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَمَا كَانُوا يُكَرِّرُونَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ بَلْ كَمَا سَمِعُوهَا تَرَكُوهَا وَمَا ذَكَرُوهَا إلَّا بَعْدَ الْأَعْصَارِ وَالسِّنِينَ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِتَعَدُّدِ رِوَايَتِهَا عَلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ , وَبِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى جَوَازِ شَرْحِ الشَّرْعِ لِلْعَجَمِ بِلِسَانِهِمْ , وَإِذَا جَازَ إبْدَالُ الْعَرَبِيَّةِ بِالْعَجَمِيَّةِ فَلَأَنْ يَجُوزَ إبْدَالُهَا بِعَرَبِيَّةٍ أُخْرَى أَوْلَى إذْ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْعَرَبِيَّةِ وَتَرْجَمَتِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ أَقَلُّ مِمَّا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَجَمِيَّةِ , فَإِنْ قِيلَ لَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ تَفْسِيرِهِ بِالْعَجَمِيَّةِ أَوْ بِالْعَرَبِيَّةِ إنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُنْقَلْ بِلَفْظِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَلَوْ قُلْتُمْ بِأَنَّهُ بَعْدَ التَّعْبِيرِ بِلَفْظٍ آخَرَ عَرَبِيٍّ أَوْ عَجَمِيٍّ يَبْقَى حُجَّةً قُلْنَا لِأَنَّ سُفَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يُبَلِّغُونَ أَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهُ إلَى الْبِلَادِ بِلُغَتِهِمْ وَيُعَلِّمُونَهُمْ الشَّرْعَ بِأَلْسِنَتِهِمْ , وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ حُجَّةً بِالِاتِّفَاقِ , وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ جَوَازُ التَّفْسِيرِ بِلُغَةٍ أُخْرَى لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّقْلِ بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّ فِي التَّفْسِيرِ ضَرُورَةً إذْ الْعَجَمِيُّ لَا يَفْهَمُ اللَّفْظَ الْعَرَبِيَّ إلَّا بِالتَّفْسِيرِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي النَّقْلِ بِالْمَعْنَى أَلَا تَرَى أَنَّ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ جَائِزٌ وَلَمْ يَجُزْ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى بِالِاتِّفَاقِ فَثَبَتَ أَنَّ اعْتِبَارَ النَّقْلِ بِالتَّفْسِيرِ لَا يَصِحُّ , وَبِأَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي بَابِ الْحَدِيثِ كَالشَّهَادَةِ . وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام يَذْكُرُ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ بَلْ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَعْنَى وَهُوَ حَاصِلٌ فَلَا(2/256)
يُلْتَفَتُ إلَى اخْتِلَافِ اللَّفْظِ كَالشَّهَادَةِ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ فِيهَا الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ صَحَّ أَدَاؤُهَا بِالْمَعْنَى وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشُّهُودِ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ وَالْأَذَانِ وَالتَّشَهُّدِ وَسَائِرِ مَا تُعُبِّدَ فِيهِ بِاللَّفْظِ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ فِيهَا مَقْصُودٌ كَالْمَعْنَى حَتَّى تَعَلَّقَ جَوَازُ الصَّلَاةِ وَحُرْمَةُ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ بِالْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ فَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ بِالْمَعْنَى وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ وَهَذَا لِأَنَّ النَّظْمَ مِنْ السُّنَّةِ غَيْرُ مُعْجِزٍ إلَى آخِرِهِ أَيْ إذَا لَمْ يَكُنْ مُعْجِزًا لَا يَكُونُ مَقْصُودًا . قَوْلُهُ ( وَالسُّنَّةُ فِي هَذَا الْبَابِ ) أَيْ فِي النَّقْلِ بِالْمَعْنَى . مَا يَكُونُ مُحْكَمًا لَا يَشْتَبِهُ مَعْنَاهُ وَلَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا وَضَعَ لَهُ إنَّمَا فَسَّرَهُ بِهِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمُحْكَمَ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ فِي ذَاتِهِ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمُحْكَمَ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ عليه السلام { مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ } كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ قَالَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله إنَّمَا جَازَ النَّقْلُ بِالْمَعْنَى عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ إذَا كَانَ ظَاهِرًا مُفَسَّرًا بِأَنْ قَالَ قَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ مَكَانَ مَا رُوِيَ عَنْهُ جَلَسَ , أَوْ أَقَامَ لَفْظَ الْعِلْمِ مَقَامَ الْمَعْرِفَةِ أَوْ الِاسْتِطَاعَةَ مَكَانَ الْقُدْرَةِ أَوْ الْحَظْرَ مَقَامَ التَّحْرِيمِ وَنَحْوِهَا . جَوَامِعُ الْكَلِمِ هِيَ الْأَلْفَاظُ الْيَسِيرَةُ الَّتِي تَجْمَعُ الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ وَالْأَحْكَامَ الْمُخْتَلِفَةَ وَاخْتَصَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ { فُضِّلْت بِسِتٍّ أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنُصِرْت بِالرُّعْبِ . وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ } وَإِنَّمَا ثَبَتَ ذَلِكَ أَيْ التَّرَخُّصُ بِبَرَكَةِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ عليه السلام أَيْ دُعَائِهِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ لِأُبَيٍّ رضي الله عنه يَا أُبَيَّ أُرْسِلَ إلَيَّ أَنْ اقْرَأْ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إلَيَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْت أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إلَيَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ } وَتَمَامُ الْحَدِيثِ فِي الْمَصَابِيحِ . غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ أَيْ التَّرَخُّصَ الَّذِي ثَبَتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى رُخْصَةُ إسْقَاطٍ أَيْ رُخْصَةٌ لَازِمَةٌ وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَبْقَ الْعَزِيمَةُ فِيهَا مَشْرُوعَةٌ مِثْلُ رُخْصَةِ الْقَصْرِ لِلْمُسَافِرِ وَرُخْصَةِ الْمَسْحِ لِلَابِسِ الْخُفِّ فَلَمْ يَبْقَ لُزُومُ رِعَايَةِ النَّظْمِ الْمُنَزَّلِ أَوَّلًا مَشْرُوعًا وَلَمْ تَبْقَ لَهُ أَوْلَوِيَّةٌ بَلْ سَاوَى الْأَحْرُفَ الْبَاقِيَةَ فِي الْقُرْآنِيَّةِ وَإِحْرَازِ الثَّوَابِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ لَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَحْرُفِ أَصْلًا وَالْبَاقِي رُخْصَةً . وَهَذِهِ أَيْ الرُّخْصَةُ الثَّابِتَةُ فِي نَقْلِ الْحَدِيثِ رُخْصَةُ تَيْسِيرٍ وَتَخْفِيفٍ حَتَّى كَانَ الْعَمَلُ بِالْعَزِيمَةِ وَهُوَ النَّقْلُ بِاللَّفْظِ الْمَسْمُوعِ أَوْلَى مِنْ النَّقْلِ بِالْمَعْنَى بِالِاتِّفَاقِ كَأَوْلَوِيَّةِ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ مِنْ الْإِفْطَارِ وَأَوْلَوِيَّةِ الصَّبْرِ عَلَى الْقَتْلِ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ مَا كَانَ ظَاهِرًا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا ظَهَرَ مِنْ مَعْنَاهُ فَلَا رُخْصَةَ فِيهِ أَيْ لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى إلَّا لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمَيْنِ اللُّغَةِ وَالْفِقْهِ ( مِنْ خُصُوصٍ أَوْ مَجَازٍ ) بَيَانٌ لِمَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا رُبَّمَا يَنْقُلُهُ إلَى عِبَارَةٍ لَا تَكُونُ فِي احْتِمَالِ الْخُصُوصِ وَالْمَجَازِ مِثْلِ الْعِبَارَةِ الْأُولَى بِأَنْ يَضُمَّ إلَيْهَا مِنْ الْمُؤَكِّدَاتِ مَا يَقْطَعُ احْتِمَالَ الْخُصُوصِ إنْ كَانَتْ عَامَّةً وَالْمَجَازِ إنْ كَانَتْ حَقِيقَةً وَلَعَلَّ الْمُحْتَمَلَ هُوَ الْمُرَادُ فَيَفْسُدُ الْمَعْنَى وَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ , مِثَالُهُ قَوْلُهُ عليه السلام { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } فَمُوجِبُهُ الْعُمُومُ ; لِأَنَّ كَلِمَةَ مَنْ تَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ لَكِنْ الْمُرَادُ مِنْهُ مُحْتَمَلُهُ وَهُوَ الْخُصُوصُ إذْ الْأُنْثَى وَالصَّغِيرُ لَيْسَا بِمُرَادَيْنِ مِنْهُ لِمَا عُرِفَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاقِلِ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ رُبَّمَا يَنْقُلُهُ بِلَفْظٍ لَمْ يَبْقَ فِيهِ احْتِمَالُ الْخُصُوصِ بِأَنْ قَالَ مَثَلًا كُلُّ مَنْ ارْتَدَّ فَاقْتُلُوهُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَحِينَئِذٍ يَفْسُدُ الْمَعْنَى . وَقَوْلُهُ عليه السلام { لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ }(2/257)