الفتاوى الحديثية للإمام
ابن حَجَر الهَيْتَمِيّ المَكِّيّ
908 هـ -974 هـ
رحمه الله تعالى(1/1)
<3>
{فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}
قرآن كريم
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على سيدنا محمد الموصوف بأنه لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه ومحبيه وحزبه .
وبعد فهذه
الفتاوى الحديثية التي هي ذيل للفتاوى الفقهية للإمام الأعلم والمقتدى الأفخم إمام الوقت في الحديث ، وحائز قصب الفضل في القديم والحديث ، شيخ الإسلام والمسلمين وبركة العلماء العالمين " الشيخ أحمد شهاب الدين بن حجر الهيتمي المكي " والى الله عليه رحمته وغفرانه وأجزل عليه إحسانه آمين .
أما بعد : فهذه خاتمة المسائل المنثورة التي ليس لها تعلق بباب من الأبواب السابقة .
مطلب قراءة سورة الإخلاص .
مسألة : سئل نفع الله بعلومه المسلمين ، عن قراءة سورة الإخلاص مائة مرة فهل ورد لذلك القدر ثواب بخصوصه أم لا فقد علمنا كما أحاط به علم سيدي أن فضل {قل هو الله أحد} لا يخفى على أحد ولكن مقصود السائل هل ورد في ذلك القدر حديث
بخصوصه ؟ .
فأجاب : فسح الله في مدته بقوله : نعم ، ورد في ذلك صواب بخصوصه منه ما أخرجه ابن
عدي والبيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال : " من قرأ قل هو الله أحد مائة مرة غفر الله له خطيئة خمسين عام ما اجتنب خصالا
أربعة : الدماء ، والأموال ، والفروج ، والأشربة " . ومنها ما أخرجه الطبراني عن فيروز عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قرأ قل هو الله أحد مائة مرة في الصلاة وغيرها كتب الله له براءة من النار " . وأخرج البيهقي عن أنس مرفوعا " من قرأ قل هو الله أحد "(1/2)
< 4>في يوم مائة مرة غفر الله له ذنوب مائتي سنة " ، وابن عدي والبيهقي عن أنس مرفوعا أيضا " من قرأ في يوم قل هو الله أحد مائتي مرة كتب الله له ألفًا وخمسمائة حسنة إلا أن يكون عليه دين " . وابن نصر عن أنس مرفوعا أيضا : " من قرأ قل هو الله أحد خمسين مرة غفر الله له ذنوب خمسين سنة " . والخرائطي في فوائده عن حذيفة مرفوعا : " من قرأ قل هو الله أحد ألف مرة فقد اشترى نفسه من الله " . والله
سبحانه أعلم بالصواب . (1/3)
مطلب الأوفاق تنفع لقضاء الحوائج وهي جائزة إن استعملت في مباح
وسئل فسح الله في مدته : ما حكم علم الأوفاق ؟ .
فأجاب نفع الله بعلومه : بأن علم الأوفاق يرجع إلى مناسبات الأعداد وجعلها على شكل مخصوص ، وهذا كأن يكون بشكل من تسع بيوت مبلغ العدد من كل جهة خمسة عشرة ، وهو ينفع للحوائج وإخراج المسجون ووضع الجنين وكل ما هو من هذا المعنى وضابطه بطد زهج واح ، وكان الغزالي رحمه الله يعتني به كثيرا حتى نسب إليه ولا محظور فيه إن استعمل لمباح بخلاف ما إذا استعين به على حرام ، وعليه يحمل جعل القرافي الأوفاق من السحر . (1/4)
مطلب في الرؤيا
وسئل رضي الله عنه ما حقيقة الرؤيا ؟ .
فأجاب نفع الله بعلومه : بأن حقيقة الرؤيا عند جمهور أهل السنة خلق الله تعالى في قلب النائم أو حواسه الأشياء كما يخلقها في اليقظان وهو تعالى يفعل ما يشاء لا يمنعه عنه نوم ولا غيره ، وعليه ربما يقع ذلك في اليقظة كما رآه في المنام وربما جعل ما رآه علما على أمور (1) أخر يخلقها تعالى في الحال أو كان قد خلقها فتقع تلك كما جعل الله الغيم علامة على المطر . وأما قول من قال : إن الرؤيا خيال باطل وأن النوم يضاد الإدراك فهو باطل لا يعول إليه ولا يلتفت إليه ، كيف وقد صرحت عائشة رضي الله عنها بأن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وحي ، وقال صلى الله غليه وسلم : " رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوة " وفي التنزيل رؤيا يوسف وغيره ، ولا يمنع من ذلك قول من قال : الإدراك حالة النوم خلاف العادة لأن العادة ليست مطردة في ذلك ، ولو سلم لم يلتفت إليها مع إخبار الصادق بخلافها .
__________
(1) قوله على أمور الخ ) هكذا هو بالنسخ التي بأيدينا وفيه نوع خفاء والمقصود به الإشارة إلى الرؤية التي تؤول اهـ مصححه .(1/5)
مطلب في طول عمامة النبي صلى الله عليه وسلم وعرضها
وسئل أدام الله النفع به : كم كان طول عمامة النبي صلى الله عليه وسلم وعرضها ؟ .
فأجاب أعاد الله علينا من بركاته : أما طول عمامة النبي صلى الله عليه وسلم وعرضها فلم يثبت فيهما شيء ، ومن ثم قال جماعة من الحفاظ الجامعين بين فني الحديث وغيره : لم يتحرر لنا في ذلك شيء ، ومن ثم لما سئل عنه الحافظ عبد الغني لم يبد فيه شيء . قال بعض الحفاظ المتأخرين : ورأيت من نسب رضي الله عنها أن عمامة صلى الله عليه وسلم كانت في السفر بيضاء وفي الحضر سوداء من صوف وكانت سبعة أذرع في عرض ذراع ، وكانت العذبة في السفر من غيرها ، وفي الحضر منها ، وهذا شيء ما علمناه انتهي . فتبين
(1/6)
<5>أن هذا المنقول عن عائشة لا أصل له فلا يعول عليه وكأن ابن الحاج في
المدخل عول على ذلك حيث قال فيه : إن العمامة سبعة أذرع ونحوها منها التلخية (1) والعذبة المالكي في كتابه والباقي عمامة على ما نقله الإمام الطبري في كتابه ، والله أعلم .
__________
(1) هكذا بالنسخ ولم يظهر له معنى فليحرر اهـ مصححه .(1/7)
مطلب هل ملك الموت يقبض أرواح الحيوانات كلها .
وسئل رضي الله عنه : هل ملك الموت يقبض أرواح الحيوانات كلها ؟ أو ما يقبض إلا أرواح بني آدم فقط ، وأين مستقر الروح بعد قبضها ؟ .
فأجاب أعاد الله علينا من بركات علومه : الذي دلت عليه الأحاديث أن ملك الموت يقبض جميع أنواع الحيوانات من بني آدم وغيرهم من ذلك قوله مخاطبا لنبينا صلى الله عليه وسلم " والله يا محمد لو أني أردت أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها " قال القرطبي : وفي هذا الخبر ما يدل على أن ملك الموت هو الموكل بقبض كل ذي روح وأن تصرفه كله بأمر الله عز وجل وبخلقه واختراعه ، ومن ذلك ما في خبر الإسراء عن بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن نفسه " فقلت يا ملك الموت كيف تقدر على قبض أرواح جميع من في الأرض برها وبحرها " الحديث ، وذكر أبو نعيم عن ثابت البناني قال " الليل والنهار أربع وعشرون ساعة ليس منها ساعة تأتي على ذي روح إلا وملك الموت قائم عليها فإن أمر بقبضها قبضها وغلا ذهب " . قال القرطبي أيضا : وهذا عام في كل ذي روح ومن ثم لما سئل مالك رضي الله عنه عن البراغيث أن ملك الموت هل يقبض أرواحها أطرق مليا ثم قال ألها نفس ؟ قيل نعم : قال ملك الموت يقبض أرواحها {الله يتوفى الأنفس حين موتها} وأشار مالك رضي الله عنه بذكر الآية إلى أن المراد بقوله تعالى {الله يتوفى الأنفس} أنه تعالى : يأمر ملك الموت يتوفها كما يصرح به قوله تعالى {توفته رسلنا} . ولا ينافي ذلك قوله تعالى {خلق الموت والحياة} وقوله{يحيي ويميت} لأن ملك موت يقبض الأرواح وأعوانه يعالجون والله تعالى يزهق الروح وبهذا تجتمع الآيات والأحاديث ، وإنما أضيف التوفي لملك الموت لأنه يتولاه بالوسائط والمباشرة فأضيف إليه كما أضيف الخلق للملك في خبر مسلم عن حذيفة سمعت رسوت الله صلى الله عليه وسلم " إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملك غصورها فخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها " الحديث . وأما قول بن عطية : روى في الحديث أن البهائم كلها يتوفى الله أرواحها دون ملك الموت كأنه يعدم حياتها . قال : وكذلك الأمر في بني آدم إلا أنه شرف بتصرف ملك الموت وملائكته في قبض أرواحهم فخلق الله ملك الموت وخلق على يده قبض الأرواح وإسلالها من الأجسام وإخراجها منها ، وخلق حفدة يكونون معه يعملون عمله بأمره انتهى . فيجاب عمه بأن الالحديث الذي ذكره يتوقف الاستدلال به على ثبوته وعلى تسليمه فيمكن الحمع بينه وبين ما مر من الأحاديث بأن قوله في هذا الحديث دون ملك الموت أنه لا يعاني في قبض أرواح غير بني آدم بل غير المؤمنين منهم من الرعاية ما يعانيه في قبض أراح المؤمنين ، أو أن المراد بقوله دون ملك الموت نفي التوفي عنه حقيقة لما تقرر أن الموجد حقيقة هو الله تعالى وأن ملك الموت واسطة فقط ، فحيث أثبت التوفي إليه في حديث أو آية كان المراد إثبات تصرفه المأمور به ، وحيث نغى عنه في حديث أو آية كان المراد سلب الحقيقة لأنها لله وحده . وذكر الغزالي(1/8)
<6>في الإحياء حديث " أن ملك الموت والحياة تناظرا فقال ملك الموت أنا أميت الأحياء وقال ملك الحياة أنا أحيي الموتى ، فأوحى الله إليهما كونا في عملكما وما سخرتما له من الصنع وأنا المميت والمحيي لا يميت ولا يحيي سواى" .
والحاصل أن الله سبحانه وتعالى هو قابض لأرواح جميع الخلائق بالحقيقة وأن ملك النوت وأعوانه إنما هم وسائط وكذا القول في سائر الأسباب العادية فإنها بإحداث الله وخلقه لا يغيره تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا . (1/9)
مطلب أرواح الأنبياء في أعلى عليين وأرواح الشهداء في أجواف طيور خضر وأما غيرهم ففيه تفصيل واختلاف .
وذكر بن رجب أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم تكون أرواحهم في أعلى عليين ، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم " اللهم الرفبق الأعلى " وأكثر العلماء أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث تشاء كما في مسلم وغيره ، وأما بقية المؤمنين فنص الشافعي رضي الله عنه ورحمه على أن من لم يبلغ التكليف منهم غي الجنة حيث شاءوا فتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش وأخرجه بن أبي حاتم عن بن مسعود ، وأما أهل التكليف ففيهم خلاف كثير عن أحمد أنها في الجنة ، وعن وهب أنها في دار يقال لها البيضاء في السماء السابعة ، وعن مجاهد أنها تكون على القبور سبعة أيام من يوم دفن لا تفارقه أي ثم تفارقه بعد ذلك ، ولا ينافيه سنية السلام على القبور لأنه لا يدل على استقرار الأرواح على أفنيتها دائما لأنه يسلم على قبور الأنبياء والشهداء دائما وأرواحهم في أعلى عليين ولكن لها مع ذلك اتصال سريع بالبدن لا يعلم كنهه إلا الله تعالى ، وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك " بلغني أن الأرواح مرسلة تذهب حيث تشاء " وعن بن عمر رضي الله عنهما نحوه ، وحديث " ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام " وحديث " الجريدتين " لا يدلان على أن الروح على الفبر نظير ما مر لأن الذي دل عليه إنما هو حقيقته النفسانية المتصلة بالروح ، وقيل إنها تزور قبورها يعني على الدوام ولذا سن زيارة القبور ليلة الجمعة ويومها وبكرة السبت انتهى . ورجع بن عبد البر : أن أرواح غير الشهداء في أفنية القبور تسرح حيث شاءت . وقالت فرقة : تحتمع الأرواح بموضع من الأرض ، كما روي عن بن عمر قال : أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية وأما أرواح الكفار فتجتمع بسبخة حضرموت يقال لها برهوت ولذا ورد " أبغض بقعة في الأرض واد بحضرموت يقال لها برهوت فيه أرواح الكفار " وفيه بئر ماء يرى بالنهار أسود كأنه قيح يأوي إليها بالنهار الهوام . قال سفيان : وسأل الحضرميين فقالوا : لا يستطيع أحد أن يثبت فيه بالليل ، والله سبحانه أعلم . (1/10)
مطلب لا أثر للحياة بعد تيقن الموت .
وسئل متع الله بحياته ، مات شخص ثم أحياه الله تعالى ما الحكم في تركته وزوجاته ؟ .
فأجاب نفع الله بعلومه ووبركته : إذا مات ثم أحيا فإن تيقن موته بنحو خبر مغصوم لم لم يكن لحياته أثر لأنها وقعت خارقة للعادة وما وقع كذلك لا يدار عليه حكم على أن من هو كذلك لا يعيش غالبا كما وقع(1/11)
<7>لمن أحيا على يد عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، وإذا تقرر أنه لا أثر لحياته فتنكح زوجاته وتقسم ورثته ماله وإن ثبت فيه الحياة لأن الموت سبب وضعه الشارع لحل الأموال والزوجات فحيث وجد ذلك السبب وجد المسبب، وأما الحياة بعده فلم يجعلها الشارع سببا لعود ذلك الحل فلا يجوز لنا أن ندير عليها حينئذ حكما لأن ذلك تشريع لم يرد هو ولا نظيره بل ولا ما يقاربه وتشريع ما هو كذلك ممتنع بلا شك .
فإن قلت : ينافي بعض ما تقرر ما ذكره المفسرون في قصة قوله تعالى {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال الله لهم موتوا ثم أحياهم} .
قلت : لا منافاة لأن أكثر ما ذكره المفسرون في هذه القصة ونظيرها لم يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئ وإنما يعتمدون في ذلك على نحو أخبار إسرائيلية لا تقوم بها حجة عند النزاع ، وعلى تسليم ما ذكروه فأولئك كانوا في زمن شرع قبل شرعنا فلا يعول على ما وقع لهم لأن الصحيح أن الشرع من قبلنا ليس شرع لنا ، وإن ورد ما يوافقه فكيف بما ذكر ، وقد علم من قواعد شرعنا كما قررته أنه لا عبرة بالحياة بعد الموت المتيقن وإن لم يتيقن موته حكمنا بأنه إنما كان به غشى أو نحوه وبان لنا بقاء زوجاته في عصمته وأمواله في ملكه ، وهذا التفصيل في هذه المسألة ظاهر جلي وإن لم أرى من صرح به ، والله أعلم . (1/12)
مطلب خلود المؤمنين في الجنة والكافرين في النار على صورهم التي كانوا عليها في الدنيا وغير ذلك .
وسئل رضي الله عنه : هل خلود المؤمنين في الجنة على هذا التركيب أعني من عظم ولحم وغيرها وخلود الكافرين في النار على صورهم في الدنيا أو لا ؟ وهل يجب الغسل في الجنة كما يجب في الدنيا بوطء الزوجات ؟ وهل الملائكة يتمتعون في الجنة وبم يتمتعون ؟ وهل منكر ونكير يسألان كل ميت صغيرا وكبيرا ومسلما وكافرا ومقبور وغير مقبور ؟ وهل يسألان كل أحد بلسانه ما كانت عربية أو غيرها ؟ وهل منكر بفتح الكاف أو كسرها ؟ وهل هما الذان يسألان المؤمن أو غيرهما ؟ .
فأجاب فسح الله في مدته ونفعنا بعلومه وبركته : الذي دلت عليه الأحاديث أن خلود المؤمنين في الجنة والكاقرين في النارعلى نحو صورهم في الدنيا المشتملة على نحو العظم واللحم وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال " أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله خفاة عراة غرلا " قال الأمة : قوله " غرلا " أي غير مختونين ترد إليه الجلدة التي قطعت بالختان ، وكذلك يرد إليه كل ما غارقه في الحيلة كالشعر والظفر ليذوق نعيم الثواب وأليم العقاب والعذاب ، فأفهم ذلك أن تلك الأجزاء جميعها تكون مع الإنسان المؤمن في الجنة وغيره في النار حتى تذوق النعيم والعذاب ، ومما يدل على ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق جرير عن بن عباس رضي الله عنهما قال في حق الكاغر " السلسلة تدخل من استه ثم تخرج من فيه ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود ثم يشوى " وأخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قواه تعالى {فيؤخذ بالنواصي والأقدام}
قال " يجمع بين رأسه ورجليه ثم يقصف كما يقصف العود الحطب " وأحرجه البيهقي عن أبي صالح قال " إذا ألقي الرجل في النار لم يكن له منتهى حتى يبلغ فعرها ثم تجيش به جهنم فترفعه إلى أعلى جهنم وما على عظمه مزعة لحم فتضربه الملائكة بالمقامع فيهوى في قعرها فلا يزال كذلك " وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه(1/13)
<8>رفعه " ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاث أيام لراكب السريع " وأخرجه البيهقي بلفظ " خمسة " وأخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يعظم أهل النار في النار حتى أن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ، وإن غاظ جلده سبعون ذراعا وإن ضرسه مثل أحد " وفي رواية الترمذي وغيره " أنه ليجر لسانه الفرسخ والفرسخين يطؤه الناس " وأخرج الطبراني وأبو نعيم مرفوعا " إن جهنم لما سيق إليها أهلها تلقتهم بعنف فلفحتهم لفحة فما أبقت لحما على عظم إلا ألقته على العرقوب " . (1/14)
مطلب في أن كل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا وغير ذلك من الفوائد النفيسة .
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا " وأخرج الطبراني وابن أبي الدنيا بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين وهم على خلق آدم طوله ستون ذراعا في عرض سبعة أذرع " وفي رواية للترمذي وغيره " من مات من أهل الدنيا من صغير أو كبير يردون بني ثلاث وثلاثين سنة في الجنة لا يزيدون عليها أبدا وكذلك أهل النار " وفي رواية عند ابن أبي الدنيا ، " على طول آدم ستون ذراعا بذراع الملك وعلى حسن يوسف وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين ، وعلى لسان محمد جردا مردا مكحلين " .
واعلم أن أهل السنة أجمعوا على أن الأجساد تعاد كما كانت في الدنيا بأعبانها وألوانها وأعراضها وأوصافها ،
ولا ينافي ذلك ما في بعض حديث الصور الطويل : يخرجون منها شبابا أبناء ثلاثة وثلاثين سنة لأن هذا من حيث السن فهم مستوون فيه نعم روى بن أبي حاتم ما يؤيده عن خالد بن معدان قال " إن سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم الساعة فيبعث بن أربعين سنة " ، والذي دل عليه القرآن الطفل والسقط يحشران على قدر عمرهما وحينئذفهما مستثنيان من الحديث الأول أعني قوله " كلهم أبناء ثلاث وثلاثين " هذا كله إن صح الحديث وإلا فقضية كلامهم أن الناس في المحشر على تفاوت صفاتهم في الدنيا حتى في الأسنان ، وإنما يقع التبديل عند دخول الجنة ، وقد قال بعض المحققين والحفاظ : والصحيح بل الصواب أن الذي يعيده الله هو الأجساد الأولى لا غيرها ، ومن قال ذلك فقد أخطأ عندي لمخالفته ظاهر القرآن والحديث ، والعينان في الوجه كما كانتا في الدنيا ، وورد أنهما في الرأس ولكن ظاهر جوابه صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حيث استعظمت كشف العورات بأنلكل امريء منهم يومئذ شأنا يغنيه عن النظر إلى غيره " ففيه إشارة إلى أن العينين في الوجه والناس في الموقف يكون كل منهم على طوله الذي مات عليه ثم عنددخول الجنة يصيرون طولا واحدا . ففي الصحيح " يبعث كل عبد على ما كان عليه " وفي الحديث الصحيح في صفات الجنة ما ذكرته ويبعثون بشعورهم ثم يدخلون الجنة جردا مردا كما ثبت في الدحديث الصحيح انتهى . قال القرطبي رحمه الله : يكون الآدميون في الجنة على سن واحد(1/15)
<9>وأما الحور فأصناف مصنفة صغار وكبار على ما اشتهت أنفس أهل الجنة ، وأخرج أبو الشيخ في العظمة وابن عساكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ليس أحد يدخل الجنة إلا أجرد أمرد إلا موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام فإن لجيته تبلغ سرته في الجنة غير آدم (1) يكنى فيها بأبي محمد " وفي رواية " ليس أحد في الجنة له لحية إلا آدم له لحية سوداء إلى سرته " وذلك أنه لم يكن له لحية في الدنيا وإنما كانت اللحا بعد آدم عليه الصلاة والسلام " .
وليست الجنة دار تكليف فلا يحب فيها غسل ولا غيره بخلاف الدنيا فلا تقاس ىتلك الدار بهذه الدار ، وأخرج الطبراني عن زيد بن الأرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أي في أهل الجنة " إن البول والجنابة عرق يسيل من تحت جوانبهم إلى أقدامهم مسك " وأخرج أيضا الأصفهاني عن أبي الدرداء قال " ليس في الجنة لا مني ولا منية " أي ولا موت وأخرج أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال له " أنطأ في الجنة ؟ قال نعم ، والذي نفسي بيده دحما دحما (2) فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكر ا " وفي رواية عند أبي يعلى والطبراني والبيهقي أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل يتناكح أهل الجنة فقال " دحما دحما لا مني ولا منية " وفي رواية للترمذي وغيره " يعطى المؤمن في الجنة قوة مائة " يعني في الجماع وفي رواية " أن الرجل ليصل في الغداة الواحدة إلى مائة عذراء " وفي رواية عند عبد الله بن أحمد رحمهما الله " أن المؤمن كلما أراد زوجته وجدها عذراء " .
__________
(1) قوله غير آدم الخ) هكذا بالنسخ ولعله غير آدم ويكنى بالواو فيهما تأمل اهـ
(2) يقال دحم المرأة من بابمنع بمعنى نكحها ا هـ قاموس بالمعنى .(1/16)
مطلب اختلفوا هل يكون لأهل الجنة ولد أم لا ؟ .
وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال " المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه في ساعة كما يشتهي " وحكى الترمذي اختلاف أهل العلم في هذا ، وحكى عن طاوس ومجاهد والنخعي " أن في الجنة جماعا ولا ولد " قال : قال إسحق بن إبراهيم في هذا الحديث إذا اشتهى ولكن لا يشتهي وكذا روي في حديث لقيط إن أهل الجنة لا يكون لهم ولد انتهى ، وقال جمع بل فيها الولد إذا اشتهاهالإنسان ورجحه الأستاذ أبو سهل الصعلوكي ، ويؤيده أن أول حديث أبي سعيد عند هناد في الزهد " قلنا يا رسول الله إن الولد من قرة العين وتمام السرور فهل يولد لأهل الجنة ؟ قال : قال إذا اشتهى الخ " وأخرجه البيهقي مرفوعا بلفظ " إن الرجل يشتهي الولد في الجنة فيكون حمله ورضاعه وشبابه في ساعة واحدة " ولا ينافيه لفظه السابق فيه " غير أن لا توالد " لأن المنفي ترتب الولادة على الجماع غالبا كما هو في الدنيا والمثبت هنا حصول الولد عند اشتهائه كما يحصل الزرع عند اشتهائه ولا زرعغي الجنة في سائر الأوقات وقد ثبت أن الله ينشيء خلقا للجنة يسكنهم فضاءها ولا مانع حينئذ من إنشاء لد من أهلها .
والذي دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أن بعض الملائكة في الجنة وبعضهم في النار ومن في النار لا يحس بألمها وكلهم يتنعمون بما يفاض عليهم من قبل الحق جل وعلا .
(1/17)
<10>
(1/18)
مطلب هل الملائكة يرون الله تعالى ؟ .
ومن ذلك رؤيتهم له تعالى فإنه لا نعيم فوق ذلك ، وأما ما وقع في كلام بعض الأئمة من أن رؤية الله تعالى خاصة بمؤمن البشر وأن الملائكة لا يرونه واحتج له بقوله تعالى {لا تدر كه الأبصار} فإنه عام خص بالآية والأحاديث في المؤمنين فبقي على عمومه في الملائكة فهو مردود . وممن نص على خلافه الإمام البيهقي فقال في كتاب الرؤية : باب ما جاء في رؤية الملائكة ربهم . ثم أخرج عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال " خلق الله الملائكة لعبادته أصنافا وإن منهم ملائكة قيانا صافين من يوم خلقهم إلى يوم القيامة ، وملائكة ركوعا خشوعا من يوم خلقهم إلى يوم القيامة ، وملائكة سجودا من يوم خلقهم إلى يوم القيامة ، فإذا كان يوم القيامة تجلى لهم تبارك وتعالى ونظروا إلى وجهه الكريم قالوا سبحانك ما عبدناك حق عبادتك " .
ثم أخرج البيهقي من وجه آخر عن عدي بن أرطأة عن رجل من الصحابة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه ولم قال " إن الملائكة ترعد فرائصهم من مخافته مامنهم ملك تقطر دمعة من عينه إلا وقعت ملكا يسبح الله ، وملائكة سجودا لله منذ خلق الله السموات والأرض لم يرفعوا رؤسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة ، وصفوفا لا ينصرفون عن مصافهم إلى يوم القيامة ، فإذا كان يوم القيامة تجلى لهم ربهم فينظرون إليه قالوا سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك " . (1/19)
مطلب سؤال الملكين .
وسؤال الملكين يعم كل ميت ولو جنينا وغير مقبور كحريق وغريق وأكيل سبع كما جزم به جماعة من الأئمة ، وقول بعضهم يسألان المقبور إنما أراد به التبرك بلفظ الخبر نعم قال بعض الحفاظ والمحققين الذي يظهر اختصاص السؤال بمن يكون له تكليف وبه جزم غير واحد من أئمتنا الشافعية ومن ثم ومن ثم لم يستحبوا تلقينه ، ومن ثم خالف في ذلك القرطبي وغيره فجزموا بأن الطفل يسئل ولا يسئل الشهيد كما صحت به الأحاديث وألحق به من مات مرابطا لظاهر حديث رواه أحمد وأبو داوود وهو " كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتاني القبر " وألحق الطبري بالشهيد شهيد الآخرة فقط والصديق لأنه أعلى مرتبة من الشهيد ، ومنه يؤخذ انتفاء السؤال في حقه صلى الله عليه وسلم وفي حق سائر الأنبياء ، وبحث بعض المحققين والحفاظ أن الملك لا يسئل لأن السؤال يختص بمن شأنه أن يفتن ، وفي حديث حسنه الترمذي والبيهقي وضعفه والطحاوي " من مات ليلة الجمعة أو يومها لم يسئل " ووردت أخبار بنحوه فيمن يقرأ كل ليلة سورة تبارك وفي بعضها ضم سورة السجدة إليها ، وجزم الترمذي الحكيم بأن المعلن بكفره لا يسئت ووافقه ابن عبد البر ورواه بعض كبار التابعين لكن خالفه القرطبي وابن القيم ، واستدلاله بآية {يثبت الله الذين أمنوا بالقول الثابت} وبحديث البخاري " وأما الكافر والمنافق " بالواو (1) ورجحه شيخ الإسلام بن حجر بأن الأحاديث متفقة على ذلك وهي مرفوعة مع كثرة طرقها .
__________
(1) قوله ( بالواو ) أي لا بأو التي هي للشك ، وتمام الحديث "فيقول لا أدري " ا هـ مصححه .(1/20)
<11>
(1/21)
مطلب سؤال القبر من خواص هذه الأمة .
وجزم الترمذي الحكيم وابن عبد البر أيضا بأن الؤال من خواص هذه الأمة لحديث " إن هذه الأمة تبتلى في قبورها " وخالفهم جماعة منهم بن القيم وقال : ليس في الأحاديث ما ينفي السؤال عمن تقدم من الأمم ، وإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بكيفية امتحانهم في القبور لا أنه نفى ذلك عن ذلك وتوقف آخرون وللتوقف وجه لأن قوله " أن هذه الأمة " فيه تخصيص فتعدية السؤال لغيرهم تحتاج إلى دليل ، وعلى تسليم اختصاصه بهم فهو لزيادة درجاتهم ولخفة أحوال المحشر عليهم ففيه رفق بهم أكثر من غيرهم ، لأن المحن إذا فرقت هان أمرها بخلاف ما إذا توالت فتفريقها لهذه الأمة عند الموت وفي القبور والمحشر دليل ظاهر على تمام عناية ربهم بهم أكثر من غيرهم ، وكان اختصاصهم بالسؤال في القبر من التخفيفات التي اختصوا بها عن غيرهم لما تقرر فتأمل ذلك ، ومقتضى أحاديث سؤال الملكين أن المؤمن ولو فاسق يجيبهما كالعدل ولكن بشارته تحتمل أن تكون بحسب حاله ويوافقه قول بن يونس اسمهما على المذنب منكر : أي بفتح الكاف . وأما على المطيع مبشر وبشير . (1/22)
مطلب السائل منكر ونكير وزيد عليهمل ناكور ورومان
قال بعض المتأخرين : ولم نقف له على أصل ، ومقتضى الأحاديث استواء سائر الناس في اسمهما وهو منكر ونكير كما في حديث عند الترمذي وقال حسن غريب منكر بفتح الكاف اتفاقا ، وفي مرسل ضعيف زيادة اثنينآخرين وهما ناكور ورومان فعايه تكون الملائكة الذين يسألون أربعة وفي صفتهما الآتية إذ في حديث بن حبان والترمذي يأتيه " ملكان أسودان أزرقان " زاد الطبراني " أعينهما مثل قدور النحاس وأنيابهم مثل صياصي البقر وأصواتهما مثل الرعد " ونحوه لعبد الرزاق من مسند عمرو بن دينار وزاد " يحفران بأنيابهما ويطآن في أشعارهما معهما مرزبة لو اجتمع عليها أهل منى لم يحملوها " . (1/23)
مطلب السؤال بالعربية لكل أحد ، وقيل بالسريانية
وبما تقرر علم أن منكرا أو نكير هما الذين يسألان المؤمن وغيره ، وظاهر أحاديث سؤالهما أنهما يسألان كل أحد بالعربية ، وفي بعض طرق حديث الصور الطويل عند علي بن معبد : تخرجون منها شبانا أبناء ثلاث وثلاثين ، واللسان يومئذ بالسريانية سراعا إلى ربهم ينسلون ، فإن أريد بيومئذاختصاص تكلمهم بالسريانية بيوم النفخ لم ينافي ما مر وإن أريد بيومئذ وقت كونهم في الصور نافاه .
والحاصل الأخذ بظاهر الحديث هو أن السؤال لسئر الناس بالعربية نظير ما مر أنه لسان أهل الجنة إلا إن ثبت خلاف ذلك ولا يستبعد تكلم غير العربي بالعربية لأن ذلك الوقت تخرق فيه العادات ومن ثم ذكر القرطبي والغزالي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال ، " يا رسول الله ما أول ما يلقى الميت إذا دخل قبره قال يا بن مسعود ما سألني عمه إلا أنت فأول ما يلأتيه ملك اسمه رومان يجوس خلال المقابر فيقمل يا عبد الله اكتب عملك فيقول ما معي دواة ولا قرطاس فيقول هيهات كفنك قرطاسك ومدادك ريقاك وفامك أصبعك فيقطع له قطعة من كفنه ثم يجعل العبد يكتب وإن كان غير كاتب في الدنيا فيذكر حسناته وسيئاته كيوم واحد " الحديث بطوله ، ثم رأيت شيخ الإسلام صالحا البلقيني أفتى بأن السؤال في القبر بالسريانية لكل ميت ،(1/24)
<12>ولعله أخذه من الحديث الذي ذكرته لكنك قد علمت ما قررته أنه لا دلالة في الحديث ، ومن ثم قال تلميذه الجلال السييوطي لم أر ذلك لغيره ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .
وسئل رضي الله عنه : ما حكم علم الأوفاق ؟
فأجاب فسح الله في مدته : علم الأوفاق لا محذور فيه إن استعمل لمباح ، فقد نقل عن الغزالي وغيره الآعتناء به ، كذلك حكى لي عن شيخنا شيخ الإسلام زكريا الأنصاري سقى الله عهده أنه كان يحسنه وأن له فيه مؤلفا نفيسا أما إذا استعين به على حرام فإنه يكون حراما إذ الوسائل حكم المقاصد ؛والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب . (1/25)
مطلب على أن لا محذور في طلب زيادة شرفه صلى الله عليه وسلم
وسئل نفع الله بعلومه وبركته : في رجل قال الفاتحة في زيادة شرف النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رجل من أهل العلم : لا تعد لهذا الذي صدر منك تكفر فهل الأمر كذلك ؟ وهل يجوز هذا الإنكار والحكم على القائل بالكفر وما يلزم من المنكر ؟ .
فأجاب متع الله بحياته بقوله لم يصب هذا المنكر في إنكاره ذلك وهو دال على قلة علمه وسوء فهمه بل وعلى قبيح مجازفتهفي دين الله تعالى وتهوره بما قد يئول به إاى الكفر والعياذ بالله إذ من كفر مسلما بغير موجب لذلك الكفر على تفصيل ما ذكره الأئمة رضي الله عنهم ، فإنكاره هذا إما حرام أو كفر فالتحريم محقق والكفر مشكوك فيه إذ لم يتحقق شرطه فعلى حكم الشريعة المطهرة أن يبالغ في زجر هذا المنكر بتعزيره بما يليق به في عظيم جراءته على الشريعة المطهرة وكذبه عليها بما لم يقوله أحد من أهلها بل صرح بعض أئمتنا بخلافه بل الكتاب والسنة دالان على أن طلب الزيادة له صلى الله عليه وسلم أمر مطلوب محمود فال تعالى {وقل ربي ذدني علما} . وروى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه : " واجعل الحياة زيادة لي ف كل خير " وطلب كون الفاتحة أو يرها زيادة في شرفه طلب لزيادة علمه وترقية غي مدارج كمالاته العلية وإن كان كماله من أصله قد وصل الغاية التي لم يصل إليها كمال مخلوق ، فعلم أن كلا من الآية الشريفة والحديث الصحيح دال على أن مقامه صلى الله عليه وسلم وكماله يقبل الزيادة في العلم والثواب وسائر المراتب والدرجات ، وعلى أن غايات كماله لا حد لها ولا انتهاء بل هو دائم الترقي في تلك المقامات العلية والدرجات السنية بما لا يطلع عليه ويعلم كنهه غير الله تعالى ؛ وعلى أن كماله صلى الله عليه وسلم مع جلالته لاحتاجه إلى مزيد ترق واستمداد من فضل فيض الله وجوده وكرمه الذاتي الذي لا غاية له ولا انتهاء ، وعلى أن طلب الزيادة لا يشعر بأن ثم نقصا إذ لا شك أن علمه صلى الله عليه وسلم أكمل العلوم ومع ذلك فقد أمره الله بطلب زيادته فلنكن نحن مأمورين بطلب زيادة ذلك له صلى الله عليه وسلم ، وقد ورد أيضا أمرنا بذلك فيما يندب من الدعاء عند رؤية الكعبة المعظمة إذ فيه " وزد من شرفه وعظمه وحجه واعتمره تشريفا " إلى آخره . وهو صلى الله عليه وسلم كسائر الأنبياء الذين حجوا البيت وهم كل الأنبياء إلا فرقة قليلة منهم على الخلاف في ذلك داخل فيمن شرفه وعظمه وحجه واعتمره وإذا علم دخولهم في ذلك العموم من دلالة العام ظنية أو قطعية على الخلاف فيه علم أنا مأمورون بطلب الدعاء له صلى الله عليه وسلم واعيره من الأنبياء المذكورين بزيادى التشريف والتكريم ؛ وأن(1/26)
<13>الدعاء بزيادة ذلك له صلى الله عليه وسلم أمر مندوب مستحسن ، ويؤيده ما زواه الطبراني عن على رضي الله عنه لكن نظر في سنده بن كثير أنه كان يعلم الناس كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيها ما يصرح بطلب اليادة له صلى الله عليه وسلم في مضاعفات الخير وجزيل العطاء وبهذا الذي ذكرته وإن لم أرى من سبقني بالاستدلال في هذه المسألة بشيئ منه يظهر الرد على شيخ الإسلام صالح البلقينيفي قوله : لا ينبغي أن يقدم على ذلك إلا بدليل فيقال له وأي دليل أعلى من الكتاب والسنة ، وقد بان بما ذكرته دلالتهما على طلب الدعاء له صلى الله عليه وسلم بالزيادة في شرفه إذ الشرف العلو كما قال أهل اللغة ، والمراد به هنا علو المرتبة والمكانة وعلوها بالزيادة في العلم والخير وسائر الدرحات والمراتب ، وكل من العلم والخير قد أمرنا بطلب الزيادة له صلى الله عليه وسلم فيه بالطريق الذي قدمناه فلنكن مأمورين بزيادة الشرف له وعلى شيخ الإسلام الحافظ بن حجر في قوله هذا الدعاء مخترع من أهل العصر ، ولو استحضر ما قاله النووي لم يقل ذلك بل سبق النووي إلى نحو ذلك الامام المجتهد أبو عبد الله الحليمي من أكابر أصحابنا وقدمائهم وصاحبه الإمام البيهقي وقوله : ولا أصل له في السنة فيقال له بل له أصل في الكتاب والسنة معا كما تقرر على أن الظاهر أنه إنما قال هذا قبل اطلاعه على ما يأتي عنه ، ثم اعلم أن هذين الإمامين لم ينازعا في جواز ذلك وإنما نزعهما في هل ورد دليل يدل على طلبه فيفعل أولا فلا ينبغي فعله وقد علمت أنه ورد ما يدل على طلبه ، ومن ثم لما كان النووي رحمه الله وشكر سعيه متحليا من السنة بما لم يلحقه فيه أحد ممن جاء بعده كما صرح به بعض الحفاظ دعا بطلب الزيادة له صلى الله عليه وسلم في شرفه في خطبتي كتابيه الذين عليهما معول المذهب وهما ( الروضة والمنهاج ) فقال في خطبة كل منها صلى الله عليه وسلم وزاده فضلا وشرفا لديه ، وهذه العبارة متداولة في أيدي العلماء منذ نحو ثلثمائة سنة لا نعلم أحد ممن تكلم على الروضة أو المنهاج اعترضها بوجه من الوجوه ولعلا هذين غفلا عنها بدليل قوله الثاني هذا الدعاء مخترع من أهل العصر إذ لو استحضر ما قاله النووي لم يقل ذلك بل سبق النووي إلى نحو ذلك الامام المجتهد أبو عبد الله الحليمي من أكابر أصحابنا وقدمائهم وصاحبه الإمام البيهقي وقد ذكرت عبارتهما في إفتاء
أبسط من هذا ، ومما صرح به الأول أن إجزال أجره صلى الله عليه وسلم ومثوبنه وإبداء فضله للأولين والآخرين بالمقام المحمود وتفضيله على كافة المقربين ، وإن كان تعالى قد أوجب هذه الأمور له صلى الله عليه وسلم فإن كل شيئ منها ذو درجات ومرلتب فقد يجوز إذا صلى عليه واحد من أمته فاستجيب دعاؤه أن يزاد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الدعاء في كل شيئ مما سميناه رتبة ودرجة انتهى المقصود منه ، وهذا تصريح منه بأن طلب الزيادة في شرفه صلى الله عليه وسلم داخل في الصلاة عليه وقد أمرنا بها فلنكن مأمورين بما تضمنته كما كما صرح بهذا الإمام وناهيك به ومما صرح به الثاني في معنى السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلمك الله من المذام والنقائص . فأذا قلت : اللهم سلم على محمد ، إنما تريد اللهم اكتب له في دعوته وأمته السلامة من كل نقص ، وزد دعوته على ما ممر الأيام علوا وأمته تكاثرا وذكره ارتفاعا انتهى المقصود منه ، فتأمل قوله : من المذام والنقائص ، وقوله : من كل نقص وإن ذلك هومفهوم السلام الذي أمرنا به تجده صريحا في أمرنا بزادة الشرف له ، وإن فرض على أنه يدل على ما توهمه هذا المنكر الجاهل إذ غاية طلب الزيادة أنه يدل على عدم الكمال المطلق ونحن نلتزه إذ الكمال المطلق ليس إلا لله وحده ونبينا صلى الله عليه وسلم وإن كان أكمل المخلوقات إلا أن كماله ليس مطلقا فقبل الزيادة قد يسمى كل منها عدم كمال بالنسبة لما فوقه من كمال آخر أعلى منمه وهكذا .
(1/27)
<14>
ونقل الحافظ السخاوي عن شيخه بن حجر أنه جعل الحديث عن أبي رضي الله عنه وفي آخره " قلت أجعل لك صلاتي كلها " أي دعائي كله كما في رواية " قال إذا تكفى همك ويغفر ذنبك " أصلا عظيما لمن يدعو عقب قراءته فبقول : اجعل ثواب ذلك لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكأنه قصد بهذا الرد على شيخه شيخ الإسلام السراج البلقيني في قوله : لا ينبغي ذلك إلا بدليل وهذا هو الذي أخذ منه ولده علم الدين ما مر عنه وقد علمت ردهما ثم ذكر السخاوي عن شيخه بن حجر أيضا متا حاصله أن من يقول مثل ثواب ذلك زيادة في شرفه مع العلم بكماله في الشرف لعله لحظ أن معنى طلب الزيادة أن يتقبل له قراءته فيثيبه عليها ، وإذا أثيب أحد من الأمة على طاعة كان لمعلمه أجر وللمعام وهو الشارع صلى الله عليه وسلم نظير جميع ذلك فهذا معنى الزيادة في شرفه وإن كان شرفه مستقرا حاصلا وحينئذ اجعل مثل ثواب ذلك تقبله ليحصل مثل ثوابه للنبي صلى الله عليه وسلم .
وحاصله : أن طلب الزيادة له صلى الله عليه وسلم يكون بنحو طلب تكثير أتباعه سما العلماء : أي برفع درجاته ومراتبه العلية كما مر عن الحليمي . وقد رد شيخ الإسلام أبو عبد الله القاياتي ما مر عن العلم وأبيه فقال في الروضة : إن القارئ إذا قرأ وجعل ما حصل من الأجر للميت كان دعاء بحصول ذلك الأجر للميت فينفعه ، وفي الأذكار أن يدعو بالجعل فيقول : اللهم اجعل ثوابها واصلا لفلان . (1/28)
مطلب أجمع كيفيات الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما قال ابن الهمام اللهم صلي أبدا أفضل صلواتك على سيدنا محمد الخ
واعلم أن القدرة الإلهية مهما تعلق بشيئ يكون لا محالة ، وقد قرر في علم الكلام أن قدرته سبحانه وتعالى لا تتناهى وأيضا فخير الله لا ينفد ، والكامل المترقي في درجات الكمال هو أبدا كامل انتهى . ووافقه صاحبه شيخ الإسلام الشرف المناوي فأفتى باستحسان هذا الدعاء ، ووافقهما صاحبهما إمام الحنفية الكمال بن االهمام بل زاد عليهما بالمبالغة في رفعة شأن هذا الدعاء حيث جعل كل ما صح من الكيفيات الواردة في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم موجودا في كيفية واحدة ومن جملتها الدعاء بزيادة الشرف وهي : اللهم صل أبدا أفضل صلواتك على سيدنا محمد عبدك ونبيكورسولك محمد وآله وسلم عليه تسليما وزده تشريفا وتكريما وأنزله المنزل المقرب عندك يوم القيامة انتهى . فجعل طلب زيادة الشرف له صلى الله عليه وسلم من جملة الأسباب المقتضية لفضل هذه الكيقية ولاشتمالها على معنى ما في الكيفيات الواردة عنه صلى الله عليه وسلم ووافقهم صاحبهم شيخنا شيخ الإسلام خاتمة المحققين أبو يحيي زكريا الأنصاري فإنه سئل عن واعظ قال : لا يجوز إجماع اللقارئ القرآن والحديث أن يهدي مثل ثواب ذلك في صحائف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه أفتى المتقدمون والمتأخرون . فأجاب : بأن ما ادعاه هذا الواعظ القليل المعرفة يستحق بكذبه على الإجماع التعزير البالغ وزعمه أن لا يجوز الحق خلافه بل يجوز ، والعجب له كيف ساغ له دعوى إجماع المسلمين وإفتاء المتقدمين والمتأخرين على عدم الجواز وهل هذا مجازفة في دين الله فإن جوازه كما ترى شائع ذائع في الأعصار والأمصار .
(1/29)
<15>
(1/30)
مطلب على أن نبينا صلى الله عليه وسلم ، كان أكمل المخلوقات فهو أبدا يترقى
فإن قلت : الدعاء بالزيادة في شرفه صلى الله عليه وسلم ممتنع لأنه يقتضي أنه متصف بضدها حتى تطلب له الزيادة وهو محال في حقه .
قلت : اعلم أن نبينا صلى الله عليه وسلم وهو أشرف المخلوقات وأكملهم فهو في كمال وزيادة أبدا يترقى من كمال إلى كمال إلى ما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى فلا محال في تزايد كماله وترقيه بالنسبة إلى نفسه بعدكونه أكمل المخلوقات ، ونحن نطالب له الزيادة في الكمال إلى تلك الدرجة التي لا يعلم كنهها إلا الله تعاى ، وفائدة طلبنا له ذلك مع أنه حاصل لا محالة بوعد الله تعالى أمور .
منها : إظهار شرفه صلى الله عليه وسلم وكمال منزلته وعظم قدره ورفع ذكره وتوقيره .
ومنها : مجازته صلى الله عليه وسلم على إحسانه إلينا .
ومنها : حصول الثواب لنا ويزيد اطلاعا على ما ذكرناه ما في الحديث الصحيح " كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس "الحديث فانظر ذلك وتأمله فإنه تخصيص بعد تخصيص على سبيل الترقي ، فضل أولا جوده على الناس كلهم ، وثانيا : جوده في رمضان على جوده في سائر الأوقات ، وثالثا : جوده عند لقاء جبريل على جوده في رمضان مطلقا ففيه تزايد وتفاضل باعتبار نفسه على سبيل الترقي فاعتبر ما نحن فيه بهذا ، ونظير ما نحن فيه من طلب الزيادة اللهم زد هذا البيت تشريفا في حق بيت الله تعالى الحرام فإن الدعاء بزيادة الشرف مأمور به ولم يقل أحد أن ذلك ممتنع انتهى . فتأمل ذلك وما قبله تجد هذا المنكر قد ارتكب في انكاره هنا متن عمياء وخبط خبط عشواء وليت دينه سلم له كلا إن إنكاره المباح بل الحسن والترقي عن ذلك إلى جعله كفرا خطأ عظيم إثمه كبير جرمه فعليه عقوبة ذلك في الدنيا والآخرة على أن قول القائل الفاتحة زيادة في شرفه صلى الله عليه وسلم هل هو مبتدأ وخبر أو مفعول بتقدير اقرءوا والثاني بتقدير اجعلوا ولكل واحد من هذه التقديرات معنى مغاير للآخر ، وكان ينبغي للمنكر لو سلم له ما زعمه أن يستفصل القائل عن أحد هذه المعاني ويرتب على كل حكمه لكن الظاهر أن هذا المنكر لا يفهم تغايرا بين هذه المعاني وأنى له بدلك ، والله أعلم بالصواب .
وسئل : في رجل قال الفاتحة زيادة في شرف النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل من أهل العلم وقال للقائل كفرت ولا تعد إلى قولك هذا الذي صدر منك تكفر أيضا فهل الأمر كذلك وهل يجوز أن يقال لهذا القائل كفرت أو تكفر وماذا يلزم من قال له ذلك مع زعمه أنه من أهل العلم ؟ .
فأجاب فسح الله في مدته ونفع بعلومه وبركته : ليس هذا الرجل القائل ذلك للقائل الفاتحة الخ من أهل العلم بل كلامه وإنكاره يدل على جهله ومجازفته وأنه لا يفهم ما يقول ولا يدري ما يترتب عليه في ذلك من تجهيل العلماء له وتفسيقهم إياه وحكمهم عليه بالتهور وكيف وقد كفر مسلما لم يقل بتكفيره أحد ؟ بل قال جماعة من المتقدمين والمتأخرين باستحسانه كما سأبينه لك من كلامهم فإن قصد بتكفيره لقائل ذلك تسمية دينه كفرا فقد كفر ويضرب عنقه إن لم يتب لأنه سمى الإسلام كفرا وإن لم يقصد ذلك حرم عليه هذا الإنكار واستحق عليه الزجر والتأديب البلغ ، ووجب على حاكم الشر يعة المطهرة وفقه الله وسدده أن يبالغ في زجره وتعزيره بما يراه زاجرا له عن هذه المجازفات القبيحة والتهورات الشنيعة ، وقد بلغني أنه حكم على قائل ذلك بالكفر واسنسلمه وأمره بالشهادتين وهذا منه مبالغة في الإثم والفسوق وجراءة على الله ونبيه صلى الله عليه وسلم(1/31)
<16>وعلى الشريعة الغراء حيث أحدث فيها ما لم يسبق إليه على أنه لو سلم له ذلك لكان من الواجب عليه أن يعرف هذا العامي الحكم فإن أطاعه فظاهر وإن خالفه نهاه ، وأما مبادرته لعامي صدرت منه كلمة لا يفهم منها غاية الإجلال والتعظيم لجنابه صلى الله عليه وسلم الرفيع ، وقوله لذلك العامي بمجرد أن صدرت منه تلك الكلمة كفرت أو نحو ذلك فهي دليلة على جهله وغباونه ، وأنه لا يدري شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يكفر به الإنسان وما لا يكفر به ، وكفاك شاهدا على ذلك ما وقع له في هذه القضية التي كثر كلام العلماء فيها بما لم يحط به علم هذا الرجل ولا انتهى إليه فهمه فكان عليه الرجوع فيما لا يعرفه إلى أهله العارفين ليبينوا له حكمه وكلام العلماء فيه ، وليست هذه المسألة من مخترعات المتأخرين بل أشار إليها أكابر المتقدمين كالإمام الحليمي وصاحبه البيهقي ، وناهيك بهما إمامة وجلالة وتبعهما إمام المتأخرين محرر المذهب أبو زكريا النووي رحمه الله تعالى في روضته ومنهاجه فقال فيهما صلى الله عليه وسلم وزاده فضلا وشرفالديه وناهيك بهذين الكتابين ، وكأن هذا المنكر لم يقرأ في الفقه ولا المنهاج ومن هذا شأنه كيف يبادر بهذا الإنكار وهذا التهور ؟وإذا علمت تصريح النووي به في هذين الكتابين الذين هما عمدة المذهب علمت فساد إنكار هذا الجاهل وأن ما توهمه من أن سؤال الزيادة يقتضي أن في مقامه صلى الله عليه وسلم نقصا توهم باطل لا دليل عليه كيف وقد صرح الإمامين الجليلين الحليمي والبيهقي بما يزيفه ويبطله ، وعبارة الأول في شعب الإيمان : فإذا قلنا اللهم صلي على محمد فإنما نريد اللهم عظم محمدا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته ، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وإجزال أجره ومثوبته وإبداء فضله للأولين والآخرين بالمقام المحمود وتقديمه على كافة المقربين بالشهود . قال : وهذه الأمور وإن كان الله تعالى أوجبها للنبي صلى الله عليه وسلم وأن كل شيئ منها درجات ومراتب فقد يجوز إذا صلى عليه واحد من أمته فاستجيب دعاؤه فيه أن يزاد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الدعاء في كل شيئ مما سميناه رتبة ودرجة ، ولهذا كانت الصلاة مما يقصد بها قضاء حقه ويتقرب بأدائها إلى الله تعالى ، ويدل على أن قولنا اللهم صل على محمد صلاة منا عليه أنا لا نملك إيصال ما يعظم به أمره ويعلو به قدره إليه إنما ذلك بيد الله تعالى فصح أن صلاتنا عليه الدعاء له بذلك وابتغاؤه من الله عز وجل ثناؤه انتهىكلام الحليمي في شعبه ، فتأمل قوله أن : وإجزال أجره ومثوبته ، وقوله : أن يزاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخره تجده مصرحا بأن مقامه صلى الله عليه وسلم يقبل الزيادة في الثواب وغيره من سائر المراتب والدرجات ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم وإن كان أكمل الخلق وأفضلهم لكن لا تحصى غايات كماله العلية بل هو دائم الترقي في تلك الغايات ولا حد لها انتهاء والمقامات السنية مما لا يطلع عليه ويعلم كنهه إلا الله تعالى ، وكماله صلى الله عليه وسلم مع جلالته لا يمنع احتياجه إلى زيادة مزيد وترق واستمداد من من فضله تعالى وجوده وكرمه فإنه لا انتهاء لفضله الواسع ولا انتهاء لكماله صلى الله عليه وسلم المستمد من ذلك ، وعبارة البيهقي في تفسيره : السلام عليك أيها النبي ويحتمل أن يكون بمعنى السلامة : أي ليكن قضى الله عليك السلام ، والسلام كالمقام والمقامة : أي سلمك الله من المذام والنقائص . فإذا قلت اللهم سلم على محمد إنما تريد اللهم اكتب لمحمد في دعوته وأمته وذكره السلامة من كل نقص فتزداد دعوته على ممر الأيام علوا وأمته تكاثرا وذكره ارتفاعا انتهى . فتأمله تجده صريحا فيما أفاد كلام شيخه الحليمي مما مرت الإشارة إليه ، وإذا صرح هذان الأمثلان بذلك وتبعهما النووي فأي شبهة بقيت في هذا المحل بتشيث بها هذا المنكر الجاهل وكأنه لم يستحضر ما يقوله عند كل سنة عند رؤية الكعبة المعظمة من الدعاء الوارد حينئذ وهو : اللهم زد هذا البيت(1/32)
<17>تشريف وتكريما وزد من شرفه فإنه صريح في ذلك بالدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بالزيادة لا يقتضي ثبوت نقص وبيانه أن فيه الدعاء للكعبة المعظمة بزيادة التشريف وهي قبل هذا الدعاء لا نقص فيها حتى يطلب بهذا الدعاء جبره ، وكأن المراد بالزيادة فيه الزيادة في الكمال الذي لا غاية له وكذلك الدعاء بالزيلدة في شرف النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذا الوارد يشمله صلى الله عليه وسلم فإن قوله فيه وزد من شرفه وعظمه وحجه واعتمره الخ يشمل النبي صلى الله عليه وسلم بل وسائر الأنبياء الذين حجوا هذا البيت وهم الأنبياء كلهم إلا جماعة منهم على الخلاف في ذلك فعلمنا أنه ورد الدعاء بالزيادة في شرفه صلى الله عليه وسلم وفي شرف سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ويدل لذلك أيضا الحديث المشهور عن أبي بت كعبرضي الله عنه قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث اليل قام فقال : يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة قد جاء الموت بما فيه ، قاللا أبي فقلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي ؟ فقال ما شئت قلت الربع قال ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت صلاتي كلها قال إذا تكفى همك ويغفر ذنبك " . حسنه الترمذي وصححه الحاكم في موضعين من مستدركه ، وفي رواية " إذا ذهب ربع الليل " وفي أخرى " قال يا رسول الله أرأيت صلاتي كلها لك قال إذا يكفبك همك من أمر دنياك وآخرتك "، وفي أخرى للبزار " قال رجل يا رسول الله أجعل شطر صلاتي دعاء لك ؟ قال نعم . قال فأجعل صلاتي كلها دعاء لك ؟ قال : إذا يكفيط الله هم الدنيا والآخرة " وفي أخرى " أجعل لك نصف دعائي ؟ قال : ما شئت قال : الثلثين ؟ قال : ما شئت ، قال : أجعل دعائي كله لك ؟ قال : إذا يكفيك الله هم الدنيا وهم الآخرة " وبهذه الرواية يعلم أن المراد بالصلاة في الرواية وما بعدها الدعاء ، وأن من فسرها بالصلاة الحقيقية والمراد نفس صوابها فقد أبعد بل المعتى : أن لي زمانا أدعو فيه لنفسي فكم أصرف من ذلك الزمان للدعاء لك .
فإذا تقرر هذا فقد قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر كما نقله عنه تلميذه الحافظ السخاوي واستحسنه . وهذا الحديث أصل عظيم لمن يدعو عقب قراءته فيقول : اجعل ثواب ذلك لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وما من يقول مثل ثواب ذلك زيادة في شرفه صلى الله عليه وسلم مع العلم بكماله في الشرف فلعله لحظ أن معنى طلب الزيادة في شرفه أن يتقبل قراءته فيثيبه عليها . وإذا أثيب أحد من الأمة على فعل طاعة من الطاعات كان للذي علمه مثل أجره وللمعلم الأول وهو الشارع صلى الله عليه وسلم نظير جميع ذلك فهذا معنى الزيادة في شرفه صلى الله عليه وسلم ، وإن كان شرفه مسترقا حاصلا ، وقد ورد في القول عند رؤية الكعبة : اللهم زذ هذا البيت تشريفا وتكريما وتعظيما فإذا عرف هذا عرف أن معنى قول الداعي : اجعل مثل ثواب ذلك أي تقبل هذه القراءة ليحصل مثل ثواب ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، انتهى . وحاصله أن طلب الزيادة له صلى الله عليه وسلم يكون بنحو لب تكثير أتباعه سيما العلماء زرفع درجاته ومراتبه العلية كما مر عن الحليمي رحمه الله وبه يرد ما وقع في فتاوى شيخ الإسلام البلقيني ، فإنه سئل عمن يقول في دعائه : اجعل ثواب هذه الختمة هدية لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فأجاب بما حاصله : ثواب القراءة واصل له صلى الله علليه وسلم لأنه هو المبلغ والمبين له فلا حاجة لذكر القارئ ذلك وإن ذكره على نظير : اللهم آت سيدنا محمد الوسيلة والفضيلة الخ لم يمنتع بل اللائق ألا يقدم على شيئ من ذلك إلا بإذن ولئن جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر شيئا يتعلق بنحو ذلمك فلعلمه صلى الله عليه وسلم أن عمر رضي الله عنه يراعي الأدب في الذي يتعلق(1/33)
<18>بالنبي صلى الله عليه وسلم وإذا لم يكن الداعي يراعي الأدب فإنه لا يليق أن أن يقدم على شيء من ذلك حتى يعلم طريق الأب فيه انتهى . وأخذ من ذلك ولده شيخ الإسلام علم الدين قوله : لا ينبغي لأحد أن يقدم في دعائه على قوله : اللهم اجعل ثواب ما قرأناه زيادة في شرف سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بدليل انتهى . وأنت خبير بأنه كأبيه ليسا فائلين بامتناع ذلك وإنما هما يحاولان أنه لا ينبغي قول ذلك إلا بدليل ، ولا يندب قوله إلا بدليل يدل على استحبابه وليس في كلامهما ما يدل على أن ذلك لا يجوز على أن الظاهر أنهما غفلا عما قدمناه عن النووي وغيره ، ومن ثم خالفهما شيخ الإسلام القاياتي فقال في الروضة : إن القارئ إذا قرأ ثم جعل ما حصل من الأجر له لميت فهذا دعاء بحصول ذلك الأجر للميت فينفع الميت . وقال في ( الأذكار ) : المختار أن يدعو بالجعل فيقول : اللهم اجعل ثوابها واصلا لفلان .
واعلم أن القدرة الإلهية مهما تعلق بشيئ يكون لا محالة ، وقد قرر في علم الكلام أن قدرته سبحانه وتعالى لا تتناهى وأيضا فخير الله لا ينفد ، والكامل المترقي في درجات الكمال هو أبدا كامل انتهى . وهو غاية في التحرير والتنقيح ووافقه صاحبه شيخ الإسلام الشرف المناوي فأفتى باستحسان هذا الدعاء واستند إلى قول المنهاج وزاده فضلا وشرفا لديه ، ووافقهما صاحبهما إمام الحنفية الكمال ابن االهمام بل زاد عليهما بالمبالغة في رفعة شأنه أي شأن هذا الدعاء حيث جعل كل ما صح في الكيفيات الواردة في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم موجودا في كيفية الدعاء بزيادة الشرف ومن جملتها الدعاء وهي : اللهم صل أبدا أفضل صلواتك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك محمد وآله وسلم عليه تسليما كثيرا وزده شرفا وتكريما . وأنزله المنزل المقرب عندك يوم القيامة انتهى . فانظر كيف جعل الكيفيات الفاضلة للصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كصلاة التشهد وما اشتملت عليه من كثرة طرقها وكصلاة أخرى موجودة في تلك الكيفية المشتملة على وزده تشريفا وتكريما وجعل طلب هذه الزيادة من الأسباب المقتضية لفضل هذه الكيقية واشتمالها على معنى ما في الكيفيات الواردة عنه صلى الله عليه وسلم ، وهذا تصريح من هذا الإمام المحقق بفضل طلب الزيادة له صلى الله عليه وسلم فكيف مع هذا يتوهم أن في ذلك محظورا ، ووافقهم أيضا صاحبهم شيخنا شيخ الإسلام أبو يحيي زكريا الأنصاري فإنه سئل عن واعظ قال : لا يجوز بالإجماع لقارئ القرآن والحديث أن يهدي مثل ثواب ذلك في صحائف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبه أفتى المتقدمون والمتأخرون ، فأجاب : بأن ما ادعاه هذا الواعظ القليل المعرفة يستحق بسببه التعزير البالغ بحسب ما يراه الحاكم من نحو حبس او ضرب ويثاب زاجره ويأثم مساعده على ذلك . وها أنا أذكر ذلك مفصلا ، فأما ما ادعاه من أنه لا يجوز إهداء القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم فالحق خلافه بل يجوز ذلك ، والعجب منه كيف ساغ له دعوى إجماع المسلمين وإفتاء المتقدمين والمتأخرين على عدم الجواز وهل هذا إلا مجازفة في دين الله فإن جوازه كما ترى شائع زائع في الأعصار والأمصار .
فإن قلت : الدعاء بالزيادة في شرفه صلى الله عليه وسلم ممتنع لأنه يقتضي أنه متصف بضدها حتى تطلب له الزيادة وهو محال في حقه . قلت : اعلم يا أخي -وفقنى الله وإياك - أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أشرف المخلوقات وأكملهم فهو في كماله وزيادته أبدا مترق من كمال إلى كمال إلى ما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى ، ولا محال في تزايد كماله وترقيه بالنسبة إلى نفسه بعدكونه أكمل المخلوقات ، ونحن نطلب له الزيادة في الكمال إلى تلك الدرجة التي لا يعلم كنهها إلا الله ، وفائدة طلبنا له ذلك مع أنه حاصل لا محالة بوعد الله تعالى أمور :
(1/34)
<19>
منها : إظهار شرفه صلى الله عليه وسلم وكمال منزلته وعظيم حقه ورفع ذكره وتوقيره .
ومنها : مجازته صلى الله عليه وسلم فقد أحسن إلى جميع الناس بهدايتهم إلى الدين القويم .
ومنها : حصول الثواب لنا كسائر العبادات ويزيد اطلاعا على ما ذكرناه ما في الحديث الصحيح عن ابن عياس رضي الله عنهما " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام " فانظر على ذلك وتأمل فإنه تخصيص بعد تخصيص على سبيل الترقي ، ففضل أولا جوده على الناس كلهم ، وثانيا : جوده في رمضان على جوده في سائر الأوقات ، وثالثا : جوده عند لقاء جبريل على جوده في رمضان مطلقا ، ففيه تزايد وتفاضل باعتبار نفسه على سبيل الترقي فاعتبر ما نحن فيه بهذا ؛ ونظير ما نحن فيه في طلب الزيادة اللهم زد هذا البيت تشريفا في حق بيت الله تعالى الحرام فإن الدعاء بزيادة التشريف مأمور به ولم يقل أحد إن ذلك ممتنع انتهى . كلامه رحمه الله هو غاية في التحقيق والاتقان شكر الله سعيه فتأمله واقض به وبما قبله على هذا المعترض بالجهل والمجازفة والتهور والمبادرة بما لا يسوغ إنكاره وبالخروج عن سنن المبتدين إلى وصمات المعتدين حيث ارتقى عن إنكار المباح بل الحسن كما مر عن غير إلى جعله كفرا فهل هذا إلا مجازفة في دين الله وافتراء عليه فعليه عقوبة ذلك في الدنيا والآخرة .
وروى الطبراني بسند موقوف نظر فيه ابن كثير عن علي رضي الله عنه : أنه كان يعلم الناس الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فيقول دعاء طويل من جملته : اللهم افسح له في عدنك واجزه مضاعفات الخير من فضلك مهنئات له غير مكدرات من نول ثوابك المحلول وجزيل عطائك المعلول ، اللهم أعل على بناء الناس بناءه وأكرم مثواه لديك ونزله وتمم له نوره واجزه من انبعاثك له مقبول الشهادة مرضي المقالة ذا منطق عدل وخطة فصل وبرهان عظيم انتهى . وهو صريح في طلب الزيادة له صلى الله عليه وسلم . وعدنك جنة عدن ، وعطائك المعلول من العل وهو الشرب بعد الشرب ، يريد ان عطاءه مضاعف كأنه يعلبه أي يعطيه عطاء بعد عطاء واعل على بناء الناس أي البانين كما في رواية : بناه أي ارفع فوق أعمال العاملين عمله ، ومثواه منزله ، ونزله رزقه ، وخطة بضم الخاء المعجمة القصة ، والفصل القطع . (1/35)
مطلب الجمهور على جواز أن يقال رفع الله محمدا
وإذا جوز جمهور العلماء كما قاله القاضي عياض وغيره أن يقال : رحم الله محمدا ولم يبالوا بقول جمع : لا يجوز لأن الرحمن غالبا إنما تكون لفعل ما يلام عليه لأنه مخالف لما صح أنه صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث أصحها في التشهد : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . ومنها إقراره صلى الله عليه وسلم للأعرابي القائل : اللهم ارحمني وارحم محمدا ، وإنما أنكر قوله : ولا ترحم معنا أحد بقوله : " لقد تحجرت واسعا " . وفي حديث في سنده مجهول وبقية رجاله رجال الصحيح : " وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على غبراهيم وعلى آل إبراهيم " فلأن يجوز الدعاء بالزيادة من باب أولى لأن طلبها لا يشعر بما يشعر به طلب الرحمة .
وفي فتح الباري قال أبو العالية : معنى صلاة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ثناؤه عليه عند الملائكة ومعنى صلاة الملائكة عليه الدعاء وهذا أولى الأقوال فيكون معنى سلام الله تعالى عليه ثناؤه عليه وتعظيمه ، ومعنى صلاة الملائكة وغيرهم طلب ذلك له من الله تعالى والمراد طلب الزيادة لا أصل الصلاة انتهى . وهو(1/36)
<20>صريح في أن صلاتنا عليه طلب الزيادة له من الله تعالى وأن ذلك لا محذور فيه وكيف لا وقد طلب صلى الله عليه وسلم الزيادة في دعائه إذ في بعض حديث مسلم في دعائه " واجعل الحياة لي يادة في كل خير " وقد أمره الله تعالى بطلب الزيادة في العلم بقوله عز قائلا {وقل رب زدني علما} ولو كان طلب الزيادة يشعر بما توهمه هذا المنكر الغبي الجاهل لما دعا بها صلى الله عليه وسلم ولما أمره الله بطلبها فدل ذلك على جواز الدعاء له صلى الله عليه وسلم بالزيادة في شرفه بل على ندب ذلك واستحساته فهو الحق فاعتمده ولا تغتر بخلافه .
وأما قول شيخ الإسلام ابن حر في بعض المواضع : هذا الدعاء مخترع من بعض أهل العصر ولا أصل له في الستة فالظاهر أنه قاله قبل اطلاعه على ما مر عنه مما هو صريح في أن من السنة أصلا أصيلا ، ثم رأيت ابن تيمية سبق البلقيني إلى ما مر عنه وبالغ السبكي في رده عليه في ذلك فجزاه الله خيرا والله أعلم بالصواب . (1/37)
مطلب جواز قتل الحيات
وسئل رضي الله عنه نقتلها أو نتحول عنها : فإن قلتم ثلاثا فهل هي أيام أو ساعات ؟ وهل الحيات في ذلك سواء كالأفعاء والرواز والثعبان أم يختص التحول بنوع منها . وهل حية العمران كالبستان والبئر التي يسقى منها الزرع والأشجار حكمها حكم حية الدار أو ال ؟ وهل يكره قتل شيء منها في الموات أو في العمران ؟ وكيف الكلام الذي يقولونه إذا بدت لهم ؟ وما العهد الذي أخذه عليها نوح وسليمان صلى الله على نبينا وعليهما وسلم ؟ .
فأجاب نفع الله بعلومه : اعلم أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الحيات أمر ندب . روى البخاري والنسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " كنا مع رسول الله في غار بمنى وقد نزلت عليه سورة {والمرسلات عرفا} فنحن نأخذها من فيه رطبة إذ خرجت علينا حية فقال : اقتلوها فابتدرنا لنقتلها فسبقتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاكم الله شرها كما وقاها شركم " وعداوة الحية الإنسان معروفة إذ الذي عليه الجمهور أن الخطاب في قوله تعالى {اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو} لآدم وحواء وإبليس والحية : وفي حياة الحيوان روى قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما سلمناهن منذ عاديناهن " . وقال ابن عمر رضي الله عنهما : من تركهن فليس منا . وقالت عائشة : من ترك حية خشية من ثأرها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . وفي مسند أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم :" من قتل حية فكأنما قتل مشركا ، ومن ترك حية خوف عاقبتها فليس منا " . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الحيات مسخ الجن كما مسخت القردة من بني إسرائيل ، وأخرجه الطبراني عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك رواه ابن حبان هذا كله في غير حيات البيوت ، وأما الحيات التي مأواها البيوت فلا تقتل حتى تنذر ثلاثا .
واختلف العلماء هل المراد ثلاثة أيام أو ثلاث مرات ، وألأول عليه الجمهور أي فهو الأولى ، وقد ورد في كل منهما حديث .
أخرج مالك ومسلم وأبو داود عن أبي سعيد الخدري : " أن أبي السائب أراد أن يقتل حية بدار أبي سعيد وهو يصلي فأشار إليه أن ال تفعل ، ثم لما قضى صلاته حدثه وقد أشار له في بيت في الدار فقال : كان فيه فتى حديث عهد بعرس فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فكان ذلك الفتى يستأذن(1/38)
<21>رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار يرجع على أهله فاستأذنه يوما فقال له صلى الله عليه وسلم : خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة ، فأخذ الرجل سلاحه فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة فقالت : اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني ، فدخل لإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ، ثم خرج به فركزه في الدار فاضطربت عليه وخر الفتى ميتا ، فما يدرى أيهما كان اسرع موتا الفتى أم الحية ؟ قال : فجئنا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرناه بذلك وقلنا أدع الله تعالى له أن يحييه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : استغفروا لصاحبكم ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فاذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان " وفي لفظ " إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فاخرجوا عليه ثلاثا فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر " .
وأخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الهوام من الجن من رأى في بيته شيئا فيحرج عليه ثلاث مرات فإن عاد فليقتله فإنه شيطان " وأخذ بعض العلماء من حديث أبي سعيد الأول وهو قوله " إن بالمدينة جنا " الخ أن الإنذار ثلاثا خاص بالمدينة ، وصحح بعض أنه عام في كل بلدة لا تقتل حتى تنذر . (1/39)
مطلب إنذار الحيات منوب لا واجب وإن اقتضاه كلام بعض الحنابلة
ثم الظاهر أن ا
لإنذار بقتل الحيلت مندوب وإن إقتضى كلام بعض الحنابلة وجوبه حيث قال : قتل الحية بغير حق لا يجوز كالإنس ولو كان كافرا والجن يتصورون بصور شتى وحيلت البيوت قد تكون جنا فتؤذن ثلاثا فإن ذهبت وإلا قتلت ، فإنها إن كانت حية أصلية قتلت وإن كانت حية جنية فقد أصرت على العدوان بظهورها للإنس في صورة حية تفزعهم بذلك انتهى . نعم أفهم قوله : فقد أصرت على العدوان أن خروجها في صورة الحية عدوان وحينئذ لا يجب الإنذار ، ويؤيده ما ذكره شيخ الإسلام بن حجر في أبناء العمران عن الثوري الأنصاري الهوي المتوفى سنة إحدى وثمانمائة أنه أخرج عليه ثعبان مهول فقتله فاحتمل فورا من مكانه فأقام عند الجن إلى أن رفعوه لقاضيهم فادعى عليه ولي المقتول فأنكر ، فقال القاضي : على أي صورة كان مقتولا ؟ فقيل على صورة ثعبان فالتفت القلضي إلى من بجانبه فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من تزايلكم فاقتلوه " فأمر القاضي بإطلاقه فرجعوا به إلى منزله . (1/40)
مطلب في حكاية غريبة
ونظير ذلك ما أخرجه بن عساكر في تاريخه : أن رجل دهل بعض الخراب ليبول فيه فإذا حية فقتلها فما هو إلا أن نزل به تحت الأرض فاحتوش به جماعة قالوا هذا قتل قلان ، فقالوا نقتله ، فقال بعضهم امضوا به إلى الشيخ ، فمضوا به إليه فإذا هو شيخ حسصن الوجه كبير اللحية أبيضها فقال ما قصتكم ؟ فأخبروه فقال في أي صورة ظهر ؟ فقالوا في حية ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا ليلة الجن : س" ومن تصور منكم في صورة غير صورته فقتل فلا شيئ على قاتله" خلوه فخلوني .
(1/41)
<22>
(1/42)
مطلب هل تجوز الرواية عن الجن أم لا ؟
واعلم أن الاستدلال بهذين ينبني على جواز الرواية عن الجن وقد روى عنهم الطبراني وبن عدي وغيرهما لكن توقف في ذلك بعض الحفاظ بأن شرط الراوي العدالة والضبط ، وكذا مدعي الصحبة شرط العدالة والجن لا نعلم عدالتهم مع أنه ورد الإنذار بخروج شياطين يحدثون الناس انتهى . والتوقف متجه . وعلى كل حال فالذي ينبغي أن الإنذار ليس بواجب لأن الأصل في الصورة أنها باقية على خلقتها الأصلية ، وقد أهدر الشارح هذه الصورة أعني صورة الحية بسائر أنواعهاوجعلها من الفواسق ، وقد مر أول هذا الجواب التحريض على قتلها ، وهذا كله يقتضي أن الإنذار غير واجب لأن كونها صورة جني أمر محتمل وليس بحق ، والإحتمال المخالف للأصل لا يقتصي الوجوب لكن حديث البخاري ومسلم يقتضيه ، ولفظ الأمل عن ابن أبي ملكية : " أن بن عمر كان يقتل الحيات ثم نهى قال أن النبي صلى الله عليه وسلم هدم حائطا له فوجد فيه سلخ حية ، فقال انظروا أين هو ؟ فنظروه فقال اقتلوه فكنت أقتلها لذلك فلقيت أبا لبابة فأخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم : لا تقتلوا الحيات إلا كل أبتر ذي طفيتين فإنه يسقط الولد ويذهب البصر فاقتلوه ة " وفي لفظة عن نافع عن ابن عمر : " أنه كان يقتل الحيات فحدثه أو لبابة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل حيات البيوت فأمسك عنها " ، ولفظه عن سالم عن ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر : " اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر فإنهما يطمسان اللصر ويسقطان الحمل .قال عبد الله : فبينما أطارد حية لأقتلها فناداني أبو لبابة لا تقتلها فقلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل الحيات قال إنه نهى بعد ذلك عن ذوات البيوت وهن العوامر " ولفظ الثاني عن نافع قال : " كان عبد الله بن عمررضي الله عنهما يوما عند هدم له فرأى أبيض جان فقال اتبعوا هذا الجان فاقتلوه، فقال أبو لبابة الأنصاري : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الجان الذي سكون في البيوت إلا الأبتر وذا الطفيتين فإنهما الذان يخطفان البصر ويتبعان ما في بطون النساء " فظاهر قوله في الأول " لا تقتلوا الحيات " وقوله في الثاني "نهى " حرمة قتل الجان المذكور إلا أن يقال غير معمول بظاهره من حرمة القتل ولو بعد الإنذار ، وفيه ما فيه إذ المطلق في هذه الرواية محمول على المقيد في غيرها من قتلها بعد الإنذار مطلقا وبهذا يقيد أيضا ما أخرجه أبو داوود عن انب مسعودرضي الله عنه قال " اقتلوا الحيات إلا الجان الأبيض الذي كأنه قضيب فضة " .
واعلم أن حديث أبي سعيد الخدريرضي الله عنه يقتضي طلب تقدم الإنذار في سائر أنواع الحيات ، وحيئذ يعارض ما مر أول الجواب من إطلاق الأمر بقتلها . وقد يجاب بأن إطلاق الأمر بالقتل منسوخ كما عرف من رواية البخاري السابقة أيضا ، ويحمل هذا على ما إذا لم يذهب بالإنذار وإلا قتل جان كان أو غيره ويعارض استثناء الأبتر وذا الطفيتين إلا أن يجاب بأن استثناء هذين يقتضي أن الجني لا يتصور يصورنهما فيسن قتلهما مطلقا . ثم رأيت الزركشي نقل ذلك عن الماوردي فقال : إنما أمر بقتلهما لأن الجن لا تتمثل بهما ، وإنمكا نهى عن ذوات البيوت لأن الجني يتمثل بها وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال " اقتلوهما فإنهما يطمسان البصر ويسقطان الحبالى " قال الزهري : ويروي ذلك من سمهما ، وظاهر الأحاديث السابقة اختصاص طلب الإنذار بعامر البيوت وهو محتمل ، ويحتمل أنه إمنما خص بذلك لأنه يتأكد فيه أكثر(1/43)
<23>وإلا فالعلة المعلومة مما مر تقتضي طلب الإنذار فيما عدا الأبتر وذا الطفيتين سواء كانت عامر بيت أو بستان أو بئر أو غيرها والتعبير بذوات البيوت وهن العوامر في رواية البخاري السابقة كأنه للغالب . ولا ينافي ما مر من عدم وجوب الإنذار ما أخرجه أبو الشيخ وابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله عنها أمرت بقتل جان أو حية فقيل لها إنه ممن استمع الوحي مع النبي صلى الله عليه وسلم فتصدقت باثنى عشر ألف درهم وفي رواية :أعتقت أربعين رأسا وذلك لأنها إنما فعلت ذلك تورعا كما هو ظاهر . وبما تقرر علم أنه لا يطلب التحول من الدار لأجل ما ظهر من الحيات فيها بل تنذر ثلاثا فإن ذهبت وإلا قتلت ، وإن الثلاث ثلاث أيام عند الجمهور وثلاث ساعات عند غيرهم ، وأن سائر الحيات العوامر في ذلك سواء إلا الأبتر وذا الطفيتين لما مر فيهما وحيات البيوت كذلك لما مر فيهما ، وأن حيات البيوت لا يبعد إلحاقها بحيات البيوت ، وأن كيفية الكلام الذي يقال عند الإنذار ما أخرج أبو داود عن أبي ليلى : أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن حيات البيوت فقال : إذا رأيتم منها شيئ في مساكنكم فقولوا : أنشدكن العهد الذي أخذ عليكن نوح ، أنشدكن العهد الذي أخذ عليكن سليمان أن لا تؤذونا فإن عدن فاقتلوهن " وذكر الحديث في أسد الغابة عن أبي ليلى بلفظ " إذا ظهرت الحة في المسكن فقولوالها : إنا نسألك بعهد نوح عليه السلام وبعهد سليمان بن داود عليهما السلام لا تؤذونا فإن عادت فاقتلوها " ثم رأيت الطحاوي من أئمة الحديث والفقه على مذهب أبي حنيفة رحمهما الله صرح بما قدمته من أن الإنذار غير واجب . وعبارته لا بأس بقتل الجميع والأولى بعد الإنذار انتهت ، وهي غير صريحة فيما قدمته أيضا من أن الإنذار مندوب في الجميع وإنما استثنيت منه النوعين السابقين أخذا بالحديث والعلة كما مر ، ويؤخذ من عبارته أيضا أن ما نقل عن الحنفية من أنه لا ينبغي أن تقتل الحية البيضاء لأنها من الجان محمول على أن سبب تخصيصها بذلك أن ظن كونها من الجن أقوى من ظن كونها من بقية الحيات فخصت ليكون الإنذار وتجنب القتل منهم في حقها آكد منه في حق غيرها .
وأما تفصيل العهد الذي أخذه نوح والذي أخذه سليمان فلم أرى أحد صرح به على أنه لا حاجة للتصريح به إذ لا يترتب عليه كبير فائدة ولم أرى أحد بسط الكلام على هذه المسألة كما ذكرته ولا قريب منه ، وإنما غايتهم أن يذكروا بعض ما مر من الأحاديث وأن الإنذار ثلاث أيام أو ساعات وهل يختص بالمدينة أو لا .
وأما الكلام على الأحاديث وبيان تعارضها وما تدل عليه من وجوب الإنذار أو ندبه فأغفلوه على أنه من المهمات التي يتأكد الاعتناء بها وبذل الجهد فيها ، ولعل أن نظفر بكلام أحد من الأئمة المعتبرين يوافق ماذكرته أو يخالفه والله اعلم بالصواب .
ثم أجبت على هذا السؤال بجواب آخر وهو لا ينبغي أن تقتل حية الدار ابتداء بل أنما تقتل بعد الإنذار في المدينة الشريفة على مشرفها أفضل الصلاة والسلام وغيرها على الأصح وخبر مسلم المقتضي للتخصيص بها غير مراد به ظاهره
لأحاديث أخرى مقتضية التعميم .
واخنلف العلماء هل ينذر ثلاثة أيام أو ثلاث مراتولو في ساعة واحدة ؟ وجمهورهم على الأول ولعله لبيان الأفضل والأكمل ، وإلا فأصل طلب الإنذار يحصل بثلاث مرات كما ورد في حديث وإن كان حديث الأول أصح ، ولم أر في الأحاديث ما تقرر من أنها تنذر فإن ذهبت وإلا قتلت لأنها شيطان كما في رواية " أو كافر" كما في أخرى ، وورد في أحاديث(1/44)
<24>ما يقتضي أن جميع أنواع الحية كذلك لكن في بعضها استثناء الأبتر وذي الطفيتين ، وعلله صلى الله عليه وسلم في حديثيهما في الصحيحين بأنهما يطمسان البصر ويسقطان الجنين . قال الزهري : نرى ذلك من سمهما ، وورد في أحاديث أخر ما يقتضي اختصاص طلب الإنذار بحيات البيوت ، وظاهر كلام بعض الأئمة الأخذبهذا المقتضى وأن حيات غير البيوت تقتل مطلقا ، والذي يتجه أن التقييد بعوامر البيوت في وبقوله صلى الله عليه وسلم " من رأى في بيته " في حديث أخر إنما هو للغالب أو لمزيد التأكيد وإلا فعلة طلب الإنذار من احتمال أنها صورة الجني كما دلت عليه الأحاديث قاضية بأنه لا فرق فيطلب الإنذار في البيتوالبستان وغيرهما وبعد الإنذار يقتل حتى الأبيض الذي كالفضة ، وما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه مما يقتضي عدم قتله مطلقا يحمل على ما إذا لم ينذر وأن الإنذار يتأكد فيه لأنه أقرب إلى صورة الجن من غيره وكذلك يحمل على هذا حديث مسلم " أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الجان إلا الأبتر وذا الطفيتبن " وفي حديث مرسل عند أبي داود وغيره أن كيفية الإنذار : " أنشدكن العهد الذي أخذ عليكن نوح ، أنشدكن العهد الذي أخذ عليكن سليمان أن لا تؤذونا " ولم أرمن بين هذا العهد مع أنه لا حاجة لبيانه لأن المراد أن كلا من النبيين صلى الله عليهما وعل نبينا وسلم ألزموا الجن بأنهم لا يؤذون الإنس فمؤمنهم يراعي ذلك الإلزام إذا ذكرتهم وكافرهم لا يعبأ به فيقتل بعده لأنه أن كان جنيا فهو كافر وإن كان حية أصيلة فهو مهدر وكل منهم يقتل شرعا ، والله اعلم بالصواب . (1/45)
مطلب هل الأولياء يردون حوض النبي صلى الله عليه وسلم قبل الأنبياء ؟
وسئل فسح الله في مدته فيخطيب يقول في خطبته : إن الأولياء يردون الحوض مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الأنباء، وضرب لذلك مثلا من أحوال الدنيا وهو أن الرجل العظيم قد يصل أتباعه إلى منزله قبل من هو منهم لقربهم إليه فهل ما قاله صحيح ؟ .
فأجاب متع الله بحياته : ما ذكره الخطيب إنما ثبت أن الأنبياء يردون حوض النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم أر مل يدل لذلك بعد الفحص والاطلاع على الأحاديث الواردة في الحوض عن بضع وخمسين صحابيا ليس هذا محل بسطها بل الذي رأيته يدل لخلافه فقد صرح الترمذي عن سمرة رضي الله عنه قال : قال رسوت الله صلى الله عليه وسلم : " إن لكل نبي حوضا وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة " وأخرج الطبراني عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الأنبياء يتباهون أيهم أكثر أصحابا من أمته فأرجو أن أكون يومئذ أكثرهم كلهم واردة وإن كل نبي منهم يومئذ قائم على حوض ملآن معه عصا يدعو من عرف من أمته ولكل أمة نبي سما يعرفهم بها نبيهم " فهذان الحديثان صريحان في أن لكل نبي حوضا مستقلا ترده أمته ،وحينئذ قلا يتم لهذا الخطيب ما ذكره فيطالب بمستنده في هذه المقالة فإن بين ما يصلح مستندا لذلك فلا ملام عليه بل هو محسن مطلع وإن لم يبين ذلك أدب لمجازفته في الدين التأديب الشديد لينزجر عن الخوض في الحوض وعن هذا الأمر الصعب فإن الأمور الآخرة من المغيبات عنا فلا يجوز لنا أن نقدم على الإخبار بشيئ منها ألا إن صح سنده عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ىوأن ما لا يصح سنده لا يجوز ذكره إلا مع بيان ضعفه أو مخرجه ، وأما الجزم كما وقع من هذا الخطيب فلا يجوز إلا بما علمت صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ظاهر قوله إن الولي قد يبلغ درجة النبي صلى الله عليه وسلم(1/46)
<25>مما يؤدي إلى الكفر فإن اعتقد أن الولي يبلغ مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم فقد كفر فليحذر هذا الخطيب الخوض في نخو ذلك من المسائل المشكلة فإن من لم يتضلع من العلوم السمعية والنظرية يكون خطؤه أكثر من صوابه نسأل الله التوفيق . (1/47)
مطلب في بيان من يرد الحوض من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
وأخرج ابن أبي عاصم في مسند عن على كرم الله وجهه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أول من يرد على الحوض أهل بيتي ومن أحبني من أمتي " ، وفي حديث مسلم : " ترد على أمتي الحوض يوم القيامة آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منها ، فأقول يا رب إنه من أمتي ، فيقول إنك لا تدري ما أحدث بعدك " وفي رواية عند الطبراني " لا يشرب منه من أخفر ذمتي ولا من قتل أحد من أهل بيتي " . وروى مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجة عن ثوبانرضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " حوضي من عدن إلى عمان ماؤه أشد بياضا من اللبن أحلى من العسل ، وأكؤسه عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا أول الناس على ورودا فقراء المهاجرين، فقال عمر : من هم يا رسول الله ؟ قال : الشعث رءوسا الدنس ثيابا لا ينكحون المنعمات ولا تفتح لهم السدد " أي أبواب السلاطين . وفي رواية لمسلم وابن ماجة : " إني لأزود عنه الرجال كما يزود الرجل الإبل الغريبة عن حوضه قيل يا رسول الله أوتعرفنا ؟ قال نعم تردون علي غرا محجلين من أثر الوضوء ليست لأحد غيركم " . وأخرج أحمد حاكم : " ما أنتم بجزء من مائة ألف جزء ممن يرد على الحوض يوم القيامة " وفي هذا إشارة إلى كثرة أمته صلى الله عليه وسلم .وأخرج الماوردي وغيره : " حوضي أشرب منه يوم القيامة " وأخرج ابن حبان والطبراني : " لتزدحم هذه الأمة على الحوضازدحام الإبل إذا وردت الخمس " . وأخرج الترمذي والحاكم عن كعب بن عجرة أن الني صلى الله عليه وسلم خرج عليهم فقال : " إنه سيكون أمراء بعدي فمن دخل عليهم فصدقخم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس بوارد على الحوض ومن لم يدخل عليهم ولا يعينهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وهو وارد علي الحوض " .
( فائدة ) نقل القرطبي عن العلماء أنه يطرد عن الحوض من ارتد أو أحدث بدعة كالروافض والظلمة المسرفين في الجور والمعلن بالمعاصي ، ثم الطرد للمسلم قد يكون في حال وقد يشرب منه ذو الكبيرة ثم إذا دخل النار لا يعذب بالعطش اهملخصا ، وهذا بناء على أن الحوض قبل الصراط . والذي رجحه القاضي العياض أنه بعده وأن الشرب منه بعد الحساب والنجاة من النار ، وأيده الحافظ ابن حجر بأن ظاهر الأحاديث أن الحوض بجانب الجنة لينصب فيه الماء من النهر الذي داخلها فلو كان قبل الصراط لحالت النار لأنهم يقربون منه بحيث يرونه فيدفعون في النار قبل أن يخلصوا من بقية الصراط والله اعلم بالصواب . (1/48)
مطلب في بيان ما يقوله إذا أرلااد دخول قرية أو لا يريده وقول الإمام النووي في ذلك
وسئل أمدنا الله من مدده : في قول الإمام النووي في الأذكار : باب ما يقول إذا رأى قرية يريد دخولها أو لا يريد وذكر في ذلك حديثين مقيدين بالدخول ولم يذكر لعدم إرادة الدخول حديثا ، وقد ذكره في ترجمة الباب فهل الذكر يفهم يا سيدي من سياق الحديثين المذكورين أو من أحدهما ، عدم التقييدبإرادة الدخول أم لا ؟ ويكون عدم التقييد الذكر بالدخول فهمه النووي من غير هذين الحديثين اللذين أوردهما ،(1/49)
<26>وربما يرى الإنسان في تراجم أبواب الرياض والأذكار شيئا زائدا على الأحاديث التي يسوقها في ذلك الباب فهل ذلك لدقة فهمه من الأحاديث المذكورة على من ليس له خبرة بالحديث أو إنما زاده الإمام النووي لما قام عنده من غير الأحاديث المذكورة ؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله النعيم الأبدي في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه آمين ؟ .
فأجابرضي الله عنه : إنما ذكر النووي رحمه الله تعالى في الترجمة عدم إرادة الدخول مع التقييد بإرادته في الحديث للإشارة إلى أن التقييد بإرادة الدخول في الحديث ليس له مفهوم نظرا للمعنى الذي ندب لأجله أن يقال ذلك ، وذلك المعنى هو خيفة الإيذاء من ساكني ذلك المحل وغيرهم مما فيه من الأفاعي والجن والجمادات . وإذا تقرر أن هذا هو السبب الحامل على الإتيان بهذا الذكر اتضح أن هذا لذكر إرادة الدخولفي الحديث لا مفهوم له لأنه خرج مخرج الغالب على أنه في شرح المهذب جرى على ظاهر الحديث فقال : يستحب إذا أشرف على قرية يريد دخولها أو منزل أن يقولاللهم إني أسألك خيرها الخ لكنه في هذا التعبير أشار إلى استنباط آخر وهو أن العبير بالقرية في الحديثليس للاشتراط بل للغالب فلذا ألحق سائر المنازل بها في ندب الدعاء المذكور عند الإشراف غليه وإن لم تكن قرية . فاستفيد من مجموع كلامه في الكتابين أن التقييد بإرادة الدخول وبالقرية وبالحديث لا مفهوم له وأن المنزل كالقرية وعدم إرادة الدخول كإرادته ، والحامل له على ذلك والله اعلم ما ذكرته في أن المعنى الذي طلب لأجله هذا الدعاء موجود عند رؤية القرية والمنزل وعند إرادة الدخول وعدمها إذ النفس تخشى من محل اجتماع الناس ومنازلهم وما يتبعهم أن يلحقها من ذلك نوع ضرر فشرع لها تطمينا لها وإرشادا إلى مزيد شهود الافتقار والضعف والذلة ليكون ذلك متكفلا لها بالسلامة من كل مؤذ .
وبما تقرر علم حسن صنيع النووي ودقة فهمه للحديث وبالغ إشارته إلى حقائقه ، وهكذا يقاس بما قلناه ما يقع له من نظير ذلك أفاض الله علينا من بركات أنفاسه الطاهرة وحشرنا ىفي زمرته وعلى قدمه في الدنيا والآخرة ومن علينا برضاه في هذه الدار إلى أن نلقاه إنه هو الجواد الرحيم ، واله سبحانه أعلم بالصواب . (1/50)
مطلب هل خلقت الأرض قبل السماء ؟
وسئلرضي الله عنه : هل خلقت الأرض قبل السماء ؟
فأجاب نفع الله بعلومه وبركته: نعم كما صح في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما والقرآن ناطق به . وأجاب عن قوله تعالى {أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها} الآية ؛ بأن الأرض خلقت أولا كالخبزة وخلقت السماء بعدها ثم هيأ الأرض ودحاها ، والله أعلم . (1/51)
مطلب اختلفوا هل النهار أفضل أن الليل ؟
وسئل رضي الله عنه : هل الليل أفضل من النهار ؟
فأجاب فسح الله في مدته : قال جماعة : النهار أفضل من الليل لما فيه من االاجتماع على القرآن والذكر . وقال آخرون : بل الليل أفضل إذ ليلة القدر خير من ألف شهر ، وليس لنا يوم خيرا من ألف شهر ، ويدل له قولهم : لو قال أنت طالق في أفضل الأوقات طلقت ليلة القدر ، واختصاصه بالتجلي الأكبر وبالمعراج ، والله سبحانه أعلم .
(1/52)
<27>
(1/53)
مطلب هل العرش أفضل من الكرسي ؟
وسئلرضي الله عنه : هل العرش أفضل من الكرسي ؟
فأجاب رحمه الله بقوله : نعم كما صرح به لبن قتيبة ، وصرح أيضا بأن الكرسي أفضل من السماء ، وأن الشام أفضل من العراق ، وبأن الحجر أفضل من الركن اليماني ، وهو أفضل القواعد ، والله أعلم . (1/54)
مطلب هل اليل في السماء كالأرض ؟
وسئل نفع الله تعالى بعلومه : هل اليل في السماء كالأرض ؟
فأجابرضي الله عنه بقوله : الذي دلت عليه الآيات القرآنية أنه من خواص أهل الأرض لأن الله تعالى امتن به علينا راحة لنا لأنا نتعب ونمل بخلاف أهل السماء ؛ومعنى {يسبحون اليل والنهار لا يفترون} أنهم دائمون على ذلك فكنى عن الدوام بوقوع المعراجليلا إنما هو بالنسبة لأهل الأرض واله سبحانه أعلم . (1/55)
مطلب في أن الطبيب إذا داوى ظنا منه أنه ينفع فأضر فلا شيئ عليهغير الإثم
وسئلرضي الله عنه : في الرجل ليست له معرفة تامة بالطب ويجيئ إليه أصحاب العلل فينظر في كتب الطب فما وجده موافقا طبا لطبعه داوى به ولم يدر تشخيص العلة لصاحب العلة بل قال له افعل فمنهم من يبرأ ومنهم من لا ، فما الحكم في ذلك وما حكم المأخوذ منه بالرضا ؟ .
فأجاب نفع الله بعلومه وبركته : من يطالع كتب الطب ويذكر للناس ما فيها من غير أن يشخص العلة فقد جازف وتجرأ على إفساد أبدان الناس وإلحاق الضرر بهم لأن من لا يتشخص العلة ولا يتيقن كليات علم الطب لا يجوز له أن يفتي بشيئ من جزئياته لأن الجزئيات لا يضبطها إلا الكليات ، ومن ثم قال بعض حذاق الأطباء : كتبنا قاتلة للفقهاء أي إنهم يرون فيها أن الشيئ الفلاني دواء للعلة الفلانية فيستعملون لتلك العلة غافلين عن أن البدن علة خفية تضاد ذلك الدواء فيكون القتل حينئذ من حيث ظنوه نافعا وحينئذ فلا يصلح ذلك الدواء إلا لمن علم أنه ليس في البدن مضاد له ، ولا يحيط بذلك إلا الطبيب الماهر الذي أخذ العلم عن الصدور لا عن السطور ، ولا خصوصية لعلم الطب بذلك بل كل من أخذ العلم عن السطور كان ضالا مضلا ولذا قال النووي رحمه الله : من لاأى المسئلة في عشرة كتب مثلا لا يجوز له الإفتاء بها لاحتمال أن تلك الكتب كلها ماشية على قول أو طريق ضعيف ثم الطبيب إذا داوى ظنا منه أنه ينفع فكان مضرا فلا شيئ عليه ير الإثم الشديد والعذاب العظيم في دار الوعيد فليتق الله ويرجع عن ذلك وإلا فهو من أهل المهالك ، وأما ما يأخذه منهم فهو محرم عليه أكله لأنهم لم يسمحوا له به إلا ظنا منهم أنه يعرف ما يصفه من الأدوية وغيرها ، ولو علموا أنه معاقب آثم بما يفعله لم يعطه أحد سيئا فهو آخذ ىله بالغش والبهتان والجور والعدوان ، واله تعالى أعلم . (1/56)
مطلب في حكم كتب العزائم وتعليقها على الصبيان والدواب
وسئل رضي الله عنه ، ما حكم كتب العزائم وتعليقها على الصبيان والدواب ؟
فأجاب رضي الله عنه : وفسح في مدته : يجوز كتب العزائم التي ليس فيها شيئ من الأسماء التي لا يعرف معناها ، وكذلك يجوز تعليقها على الآدمين والدواب ، واله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .
(1/57)
<28>
(1/58)
مطلب في الأيام والليالي وسعيدها ونحسها
وسئل نفع الله بعلومه : السؤال عن النحس والسعد وعن الأيام والليالي التي تصلح لنحو السفر والانتقال ما يكون جوابه ؟ .
فأجاب رضي الله عنه : من يسأل عن النحس وما بعده من لا يجاب إلا بالإعراض عنه وتسفيه ما فعله ويبين له قبخه ، وأن ذلك من سنة اليهود لا من هدي المسلمين المتوكلين على خالقهم وبارئهم الذين لا يحسبون وعلى ربهم يتوكلون ، وما ينقل من ذلك عن الأيام المنقوطة ونحوها عن علي كرم الله وجهه باطل كذب لا أصل له فليحذر من ذلك والله أعلم . (1/59)
مطلب في رؤية المحتضر ملك الموت
وسئلت : هل كل محتضر يرى ملك الموت عليه السلام صغير وكبير وأعمى وبصير آدمي وغيره ؟
فأجبت بقولي : ورد ما يدل على معاينة المحتضر الذي لم يمت فجأة ملك الموت أو بعض أعوانه ؛ فمن ذلك حديث أبي نعيم أنه صلى الله عليه وسلم قال : " احضروا موتاكم ولقنوهم لا إله إلا الله وبشروهم بالجنة فإن الحليم من اللاجال والنساء يتحير عند ذلك المصرع ، وإن الشيطان أقرب ما يكون من ابن آدم عند ذلك المصرع ، والذي نفسي بيده لمعاينة ملك الموت أشد من ألف ضربة سيف " . فقوله " والذي نفسي بيده لمعاينة ملك الموت الخ " الذي وقع كالتعليل لما قبله من طلب التلقين وما معه لكل من حضره لموت يومئ إلى أن كل محتضر يطلب تلقينه يعاين ملك الموت وإلا لم يكن للحلف على ذلك بل ولا لذكره مناسبة اهذا المقام البتة وفي حديث " إن ملك الموت إذا سمع الصراخ يقول : يا ويلكم مما لجزع وفيم الجزع ؟ ما أذهبت لواحد رزقا ولا قربت له أجلا ولا أتيته حتى أمرت ولا قبضت روحه حتى استأمرت وإن لي قيكم عودة ثم عودة ثم عودة حتى لا أقي منكم أحد . قال صلى الله عليه وسلم : والذي نقسي بيده لو يرون مكانه أو يسمعون كلامه لذهلوا عن مينهم ولبكوا على أنفسهم " الحديث . وفي حديث أخر : " أنه صلى الله عليه وسلم نظر لملك الموت عند رجل من الأنصار فقال : ارفق بصاحبنا فإنه مؤمن ، فقال ملك الموت غليه السلام : يا محمد طب نفسا وقر عينا فإني بكل مؤمن رفيق . واعلم أن ما من أهل بيت مدر ولا شعر في بر ولابحر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات حتى لأن أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم ، والله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها " . قال القرطبي : وفي هذا الخبر ما يدل على أن ملك الموت هو الموكل بقبض كل ذي روح وأن تصرفه كله بأمر الله عز وجل وبخلقه وإرادته ولا ينافي ذلك قوله تعالى {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} وقوله {توفته رسلنا}
وقوله تعالى {إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة} وما في حديث : " إن البهائم كلها يتولى الله أروحها دون ملك الموت " وذلك لأن ملك الموت يقبض الأرواح والأعوان يعالجوه والله سبحانه وتعالى هو الذي يزهق الروح وبهذا يجمع بين الآيات والأخبار لكن لما كان ملك الموت يتولى ذلك بالوساطة والمباشرة أضيف التوفي إليه كما أضيف الخلق للملك في خبر مسلم : " إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها " . وفي حديث آخر : " إن ملك قال للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بعد كلام طويل : فإذا نفذ أجل عبد نظرت إليه فإذا نظرت إليه عرفوا أعواني من(1/60)
<29>الملائكة أنه من مقبوض غدا وانبطشوا به يعالجون نزع روحه فإذا بلغوا بالروح الحلقوم عرفت ذلك فلم يخف علي شيء من أمره مددت يدي فأنزعه من جسده وألي قبضه " . وفي خبر آخر : " إنه ينزل عليه أربعة من الملائكة ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى ، وملك يجذبها من قدمه اليسرى ، وملك يجذبها من يديه اليمنى ، وملك يجذبها من يده اليسرى " . ذكره الغزالي قال : وربما كشف للميت عن الأمر الملكوتي قبل أن يغرغر فعاين الملائكة على حسب حقيقة عمله فإن كان لسانه منطلقا حدث بوجودهم ، والله أعلم . (1/61)
مطلب من رأى في منامه أنه لبس قميص إبراهيم عليه السلام
وسئلت عمن رأى في نومه أنه ألبس لقميص النبي إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وهو مسرور ذلك ما تعبير هذه الرؤيا ؟ .
فأجت بقولي : من رأى إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم فإنه يرزق الحج ، وينصر على أعدائه ويناله هول وشدة من ملك جائر ثم ينصر ، وينال نعمة وزوجة مؤمنة ويكون خائفا ، وينال أيضا سلطانا ورياسة ، وإن قصده رئيس لسوء صرفه الله عنه ، ويستغني إن كان فقيرا وإن كان غنينا ازداد غنى ، ويولد له غلام مبارك بعد الشيخوخة واليأس من الولد مع خصب يناله في ذلك البلد وسعة ويذهب عنه همه ، فرؤيته صلى الله عليه وسلم تؤذن بذلك كله أو ببعضه ، وربما أذنت أيضا بأن الرائي يعق أباه ونحوه من أقاربه : أي يخالفه مخالفة خير ورجوع إلى الله تعالى وانتصار لدينه ، وأما القميص فإنه يؤول بالدين والتقوى والعمل والبشارة ، وهو إذا ألبسه الرجل امرأة يتزوجها ، وإذا ألبسته المرأة رجلا تتزوجه ، ويؤول أيضا بشأن الرجل في دينه ودنياه فإن كان تاما بأكمامه سابغا دل على كمال الرائي في الدين والدنيا ، وإن كان ناقصا أو قصيرا أو ضيقا دل على ضد ذلك كما دل عليه حديث البخاري : " بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك ، ومر علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره قالوا ما أولته يا رسول الله ؟ قال : الدين " .وقد قيل في وجه تعبير القميص بالدين أن القميص يستر العورة في الدنيا والدين يسترها في الآخرة ويحجبها من كل مكروه ، والأصل فيه قوله تعالى {ولباس التقوى ذلك خير} ومن ثم اتفق أهل التعبير على أن القميص يعبر بالدين ، وأن طوله يدل على بقاء آثار صاحبه من بعده .
إذا تقرر ذلك علم أن رؤية لبس قميص إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم تدل على حسن دين الرائي وكماله بحسب ذلك القميص الذي رأى أنه لابسه هذا بالنسبة للقميص ، فإذا رأى مع ذلك إبراهيم أيضا دل على ما قدمته في رؤيته صلى الله على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين ، وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا . (1/62)
مطلب في حقيقة السقمونيا
وسئلت : عن حقيقة السقمونيا ما هي ؟ .
فأجبت بقولي : السقمونيا صمغ شجر يؤتى به من أنطاكية البلد المشهورة ، وهذا هو الدواء المشهور بالمحمودة بين الناس ، وهو من مسهلات الصفراء خاصة والشربة منه مقدار قيراطين ، ولا ينبغي لأحد أن يستعمله إلا بعد مشاورة طبيب حاذق وكذا سائر ما يرى في كتب الطب ينبغي لمن يراه ألا يقدم على استعماله إلا بعد مشاورة الطبيب وإلا فتركه متعين ، ومن ثم قال بعض حذاق الأطباء : كتبنا قاتلة للفقهاء أي فإنهم يرون مفردا أو مركبا في باب وأنه يستعمل لكذا فيأخذونه ويستعملونه لما وصف له في ذلك(1/63)
<30>الباب مع غفلتهم عن كون استعماله مشروطا بشروط أخر لم يذكروها في ذلك الباب بل في غيره من الكليات أو باب آخر ، والدواء إذا استعمل مع عدم استيفاء شروط استعماله يكون مضرا ضررا عظيما حتى ربما جر إلى القتل ولا يغرن الإنسان أنه ربما هجم على استعمال شيء ولم يضره لأن ذلك كمن رأى مسبعة فخاطر ومر فيها مرة فلم يتعرض له شيء من سباعها لأمر عرض لهم فاغتر ومر فيها مرة ثانية فرأوه فافترسوه لعدم عروض تلك العوارض التي عرضت لها أولا . والحاصل أن المغتر ليس بمحمود وإن سلم . (1/64)
مطلب الفرق بين العهد والميثاق واليمين
وسئلت : ما الفرق بين العهد والميثاق واليمين ؟
فأجبت بقولي : العهد الموثق يقال عهد إليه في كذا أوصاه به ووثقه عليه ، والعهد في لسان العرب له معان منها :
الوصية ، والضمان ، والأمر ، والرؤية ، والمنزل ؛ وأما الميثاق فهو العهد المؤكد باليمين ، وأما اليمين فهو الحلف بالله تعالى أو بصصفة من صفاته على ما قرر في محله .
وقد اختلف المفسرون في المراد بالعهد في قوله تعالى {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} على أقوال .
أحدها : أنه وصية الله إلى خلقه وأمره لهم بطاعته ونهيه لهم عن معصيته في كتبه المنزلة على ألسنة أنبيائه المرسلة .
الثاني : ـنه العهد الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره في قوله تعالى {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم} الآية .
قال المتكلمون : وهذا ساقط ؛ لأنه تعالى لا يحتج على العباد بعهد وميثاق لا يشعرون به كما لا يؤاخذهم بالسهو والنسيان .
الثالث : ما أخذه عليهم في الكتي المنزلة من الإقرار بتوحيده والاعتراف بنعمه والتصديق بأنبيائه ورسله فيما جاءوا به في قوله تعالى {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيينه للناس ولا تكتمونه} الآية .
الرابع : ما أخذه الله تعالى على الأنبياء ومتبعيهم ألا يكفروا بالله ولا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأن ينصروه ويعظموه كما قال تعالى {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم} الآية .
الخامس : إيمانهم به صلى الله عليه وسلم وبرسالته قبل بعثه ، وهذا قريب مما قبله إن لم يكن عينه .
السادس : ما جعله في عقولهم من الحجة على توحيده وصدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالنظر في المعجرات الدالة على إعجاز القرآن وصدقه ، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
السابع : الأمانة المعروضة على السماوات والأرض والجبال الت جملها الإنسان .
الثامن : ما أخذه الله عليهم من أن لا يسفكوا دمائهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم .
التاسع : الإيمان والتزام الشرائع .
العاشر : نصب الأدلة على وحدانيته في السماوات والأرض وسائر المخلوقات فهو بمنزلة العهد .
الحادي عشر : ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يكتموا أمره .
واختلف المفسرون أيضا في العهدين المذكورين في قوله تعالى {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} على أقوال .
أحدها : عهده وميثاقه الذي أخذه عليهم من الإيمان به والتصديق برسله وعهدهم ما وعدهم به من الجنة .
ثانيها : عهده ما أمرهم به وعهدهم ما معدهم به .
ثالثها : عهده ما ذكره لهم في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وعهدهم ما وعدهم به من الجنة .
رابعها : عهده أداء الفرائض وعهدهم قبولها والمجازاة عليها .
خامسها : عهده(1/65)
<31>ترك الكبائر وعهدهم غفران الصغائر .
سادسها : عهده إصلاح الدين وعهدهم إصلاح آخرتهم .
سابعها : عهده مجاهدة النفوس وعهدهم الإعانة على ذلك .
ثامنها : عهده إصلاح السرائر وعهدهم إصلاح الظواهر .
تاسعها : {خذوا ما آتيناكم بقوة} .
عاشرها : {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيينه للناس ولا تكتمونه} .
حادي عاشرها : عهده الإخلاص في العبادات وعهدهم إيصالهم إلى منازل الرغبات .
ثاني عاشرها : عهده الإيمان به وطاعته وعهدهم ما وعدهم عيله من حسن الثواب على الحسنات .
ثالث عاشرها : عهده حفظ آداب الظواهر وعهدهم حفظ السرائر .
رابع عاشرها : عهد الله على لسان موسى لبني إسرائيل إني باعث من بني إسماعيل نبيا فمن تبعه وصدق بالنور الذي يأتي به غفرت له وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين .
خامس عاشرها : عهده بشروط العهودية وعهدهم بشرط الربوبية .
سادس عاشرها : أوفوا بعدي في دار محنتي على بساط خدمتي بحفظ حرمتي أوف بعدكم في دار نعمتي على بساط كرامتي بقولي ورؤيتي .
سابع عاشرها : لا تفروا من الزحف أدخلكم الجنة .
ثامن عاشرها : عهده {وإذ أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشرا نقيبا} الآية ، وعهدهم إدخالهم الجنة .
تاسع عاشرها : أوامره ونواهيه وواصاياه فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم الذي في التوراة .
عشروها : أوفوا بعهدي في التوكل أوف بعدكم في كفاية المهمات .
حادي عشريها : أوفوا بعهدي في حفظ حدودي ظاهرا وباطنا أوف بعدكم بحفظ أسراركم عن مشاهدة غيري .
ثاني عشريها : عهده حفظ المعرفة وعهدنا إيصال المعرفة .
ثالث عشريها : أوفوا بعهدي الذي قبلتم يوم الميثاق أوف بعهدكم الذي ضمنت لكم يوم التلاق .
رابع عشريها : اكتفوا مني بي أوف بعدهم أرض عنكم بكم .
فهذه أقاويل السلف في تفسير هذين العهدين . قال في البحر – بعد ذكره ذلك - : والذي يظهر – والله أعلم – أن المعنى طلب الإيفاء بما التزموه لله تعالى وترتب إنجاز ما وعدهم على ذلك الإيفاء وليس على سبيل العلية ، وسمي ما وعدهم به عهدا على سبيل المقابلة بل إبرازا لما تفضل به تعالى عليهم في صورة المشروط الملزم به .
واختلف المفسرون أيضا في الميثاق في قوله تعالى {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور} الآية ، على ستة أقوال :
ما أودعه الله تعالى العقول من الدلائل على وجوده وقدرته وحكمته وصدق أنبيائه ورسله أو المأخوذ على ذرية آدم في قوله {ألست بربكم قالوا بليى} أو إلزام الناس متابعة الأنبياء والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، أو العهد ليعملن بما في التوراة فلما جاء موسى رأوا ما فيها من التثقيل فامتنعوا من أخذها ، أو قوله {لا تعبدون إلا الله} ، فغلم بما تقرر أن كلا من الميثاق والعهد قد يطلق على الآخر ، وأن كل منهما له معان يستعمل فيها بحسب ما يليق به من ذلك الثياق وأنه لا يتقيض بمعنى مخصوص مطرد بل كل ما لاقى من معانيه مما سبق له جاز حمله عليه . (1/66)
مطلب في حكم التملق والمداراة
وسئلت : ما حقيقة التملق وما حكمه ؟ .
فأجبت : التملق والمداراة يراد بهما التواضع للغير وعدم الاعتراض عليه فيما يفعله أو يصدر عنه ، وقد ينضم إلى ذلك مدح أفعاله والانتصار لصحة أحواله وأقواله مع البشاشة له والإجلال والتعظيم ، وحكم ذلك كله أنه إن ترتب عليه إعانة على باطل أو تحسين ما قبحه الشرع أو تقبيح ما حسنه الشرع أو غير ذلك(1/67)
<32>
من المفاسد التي لا يدركها إلا العلماء الحكماء العاملون بالكتاب والسنة الآخذون أنفسهم بالحق في كل نفس ولحظة كان كل منهما حراما شديد التحريم إن تحققت المفسدة أو غلب على الظن وقوعها وإلا كان مكروها ، وإن لم يترتب عليه شيء من ذلك أبيح وإن ترتب عليه إعانة على الحق أو تألف لقبوله أو نحوهما من المصالح الخاصة والعامة كان مندوبا متأكد الندب ل قد يرتقي الحال إلى الوجوب كما قال بعض أئمتنا في القيام قال : فإن تركه الآن سار علما على القطيعة ووقوع الفتنة فيجب دفعا لذلك ، ولا شك أن القيام إذا خشي من تركه ضرر او تنافر القلوب أو نحو لك يكون من المداراة وهي في نحو ذلك إما متأكدة الندب أو الوجوب ، والكلام فيمن لا توجد فيه الصفات المقتدية لندب القيام من نحو علم أو صلاح أو قرابة أو شرف نسب أو صداقة ، فافهم هذا التفصيل المأخوذ من أفعاله صلى الله عليه وسلم وأقواله فإنه ملتبس على كثير ممن لم يحط بالسنة وكلام الأئمة فربما أفرط فمنع المداراة مطلقا ، وربما فرط فمدحها مطلقا ، وكل من هذين خطا والصواب ما فصلته وقررته . (1/68)
مطلب هل الحفظة يتأذون من أكل الأشياء الكريهة الريح الخ ؟
وسئلت : هل الحفظة يتأذون من أكل الأشاء الكريهة الريح ومن كثرة التردد إلى الخلاء والأماكن النجسة والمغصوبة وما فيها شبهة ومن الجشاء المتغير ومن نحو الصنان ؟ وإذا تأذوا فهل يدعون بموت المؤذي أو بإصلاح حاله ليستريحوا ؟ وكم هم على كل إنسان ؟ وهل يحفظون الجنين في بطن أمه ؟ وهل على الكافر حفظة ؟ وما حقيقة حفظهم إذا ما قدر الله ما لا بد منه ؟ وهل على غير الإنسان حفظة ؟ وإذا مات اغنسان إلى أين يسار بهم ؟ وهل هم غير الكاتبين الكريمين ؟ وما حقيقة كتبهما ؟ .
فأجبت : الذي في الحديث الصحيح أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ، ذكر صلى الله عليه وسلم ضلك تعليلا لنهيه عمن أكل كثوم أو بصل أو كراث أو فجل ألا يدخل المسجد : " من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو فجلا فلا يقربن مسجدنا أو المساجد فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم " . وهذا ظاهر في شموله للحفظة وفي عموم تأذيهم مما يتأذى منه الآدمي فيشمل ذلك تأذيهم بكل ذي ريح كريه سواء ريح لخلاء أو غيره إلا أنه سيأتي أن الحفظة يفارقونه حالة دخول الخلاء ، وعلى فرض تأذيهم فظاهر النصوص أنهم لا يدعون على الادمي وإنما يدعون له قال تعالى : {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم} إلى قوله {وذلك هو الفوز العظيم} والمراد بمن حوله الملائكة كما قال قتادة ، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن جميد عن قتادة في قوله تعالى {ويستغفرون للذين آمنوا} قال مطرف : وجدنا أن أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشياطين ، وأخرجا عن قتادة أيضا في قوله {فاغفر للذين تابوا} قال : تابوا عن الشرك واتبعول سبيلك : أي طاعتك ، وفي قوله تعال {وقهم السيئات} قال : العذاب ، وقال تعالى في الملائكة أيضا {ويستغفرون لمن في الأرض} فهاتان الآيتان ظاهرتان في أن الملائكة لا يدعون على أحد بموت وإن تأذوا منه وإنما يدعون له بما ذكر في الآيتين من المغفرة والوقاية من العذاب ، نعم يأتي قريبا أنهم يقولون لمن يصر على السيئة : أراحنا الله منه ، ولكن هذا دعاء لأنفسهم لا دعاء عليه .
(1/69)
<33>
(1/70)
مطلب في عدد الحفظة من الملائكة وغير ذلك
وقول السائل : وكم هم على كل إنسان ؟ جوابه : أنه ورد في ذلك أمور مختلفة . أخرج ابن المنذر وأبو شيخ عن ابن جرير قال : " لكل إنسان ملكان أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات وملك عن يساره يكتب السيئات ، والذي عن يمينه يكتب بغير شهادة من صاحبه والذي عن يساره لا يكتب إلا عن شهادة من صاحبه ، إن قعد فأحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، وإن مشى فأحدهما أمامه والآخر خلفه ، وإن رقد فأحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه " . وقال ابن المبارك : وكل به خمسة أملاك : ملكان بالليل وملكان بالنهار يجيئان ويذهبان وملك خامس لا يفارقه ليلا ولا نهارا ، وأخرج ابن جرير عن كنانة العدوي قال : دخل عثمان بن عفان رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك ؟ فقال : ملك عن يمينك على حسناتك وهو أمير على الشمال إذا عملت حسنة كتبت عشرا وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين أأكتب ؟ قال لا لعله يستغفر الله ويتوب فإذا قال ثلاثا قال نعم اكتبه أراحنا الله منه فبئس القرين ما أقل مراقبته لله وأقلى استحياءه منه يقول الله {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}
وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك ، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك وملكان على عينيك ، فهؤلاء عشر أملاك على كل بني آدم ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس بالنهار وولده بالليل . وأخرج ابن أبي الدنيا والصابوني عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وكل بالمؤمن ستون وثلثمائة ملك يدفعون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك للبصر سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل من الذباب في اليوم الصائف ، أما لو بدا لكم لرأيتموه على كل سهل وجبل وكلهم باسط يديه فاغر فاه وما لو وكل العبد فيه إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين " . وسيأتي ما يخالف ذلك في العدد أيضا ويمكن الجواب عن تخالف هذه المذكورات على تقدير صحتها كلها بأنه صلى الله عليه وسلم حيث ذكر القليل يحتمل أنه أراد حفظا خاصا وحيث ذكر الكثير يحتمل أنه أراد حفظا عاما ، ويحتمل أنه أعلم بالقليل ثم بأكثر منه ، ويحتمل أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص ؛ فمن التاس من يوكل به قليل ومنهم من يوكل به كثير .
وقول السائل : وهل يحفظون الجنين ؟ جوابه : نعم ، وقد أخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وأبو نعيم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن ابن آدم لفي غفلة عما خلق له ، إن الله إذا أراد خلقه قال لملك اكتب رزقه اكتب أثره اكتب أجله اكتب شقيا أو سعيدا ، ثم يرفع ذلك الملك ويبعث الله ملك فحفظه حتى يدرك ، ثم يرفع ذلك الملك ثم يوكل به ملكين يكتبان حسناته وسيئاته فإذا حضر الموت ارتفع ذانك الملكان وجاءه ملك الموت ليقبض روحه فإذا دخل قبره رد الروح إليه في جسده وجاءه ملكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان ، ثم إذا كانت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات وانتشطا كتابا معقودا في عنقه ثم حضر معه واحد سائق وآخر شهيد ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن قدامكم لأمر عظيم لا تقدرونه فاستعينوا بالله العظيم " .
(1/71)
<34>قوله : وهل على الكافرحفظة ؟ جوابه : نعم ، كما شمله بل صرح به قوله تعالى {كلا بل تكذبون بالدين} أي الحساب {وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " جعل الله على ابن آدم حافظين في الليل و حافظين في النهار يحفظان عمله ويكتبان أثره " . وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : " مع كل إنسان ملكان ملك عن يمينه وآخر عن شماله فأما الذي عن يمينه فكتب الخير وأما الذي عن شماله فيكتب الشر " .
وقوله : وما حقيقة حفظهم الخ ؟ جوابه : حقيقة ذلك تعلم مما سنذكره : أخرج أبو الشيخ عن السدي ي قوله تعالى : {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} قال : ليس من عبد إلا له معقبات من الملائكة من بين يديه ملكان يكونان معه في النهار فإذا جاء الليل اصعدا وأعقبهما ملكان فكانا معه ليلته حتى يصبح يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ولا يصيبه شيء لم كتب إذا غشيه شيء من ذلك دفعاه عنه (1) ألم تره يمر بالحائط فإذا جاز سقط فإذا جاء الكتاب خلوا بينه وبين ما كتب له ، وهم من أمر الله أمرهم أن يحفظوه . وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقرأ له معقبات من بين يديه ورقباء من خلفه من أمر الله يحفظونه . وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن علي كرم الله وجهه {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} قال : ليس من عبد إلا ومعه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط أو يتردى في بئر أو يأكله سبع أو غرق أو حرق فإذا جاء القدر خلوا بينه وبين القدر . وأخرج أبو داود في القدر وابن أبي الدنيا والن عساكر عن علي أيضا قال : " لكل عبد حفظه يحفظونه لا خر عليه حائط أو يتردى في بئر أو نصيبه دابة حتى إذا جاءه القدر الذي قدر له خلت عنه الحفظة فأصابه ما شاء الله أن يصيبه " . وفي لفظ لأبي داود : " لس من الناس أحد إلا وقد وكل به ملك فلا تريده دابة ولا شيء إلا قال : اقفه فإذا جاء القدر خلى عنه " . وأخرج ابن جرير عن أبي مجلز قال : " جاء رجل من مراده إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو يصلي فقال : احترس فإن ناسا من مرادة يريدون قتلك فقال : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه وإن الأجل جنة حصينة " وأخرج ابن جرير عن أبي أمامة قال : " ما من آدمي إلا ومعه ملك يزود عنه حتى يسلمه للذي قدر عليه " . وأخرج ابن جرير عن كعب الأحبار قال : " لو تجلى لابن كل سهل وحزن لرأى كل شيء من ذلك شياطين لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذا لتخطفنكم " . وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : " ما من عبد إلا به ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال : وراءك إلا شيئا يأذن الله فيه فيصيبه " . وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : {له معقبات} قال : ملائكة من بين يديه ومن خلفه يحفظونه فإذا جاء القدر خلوا عنه " . وأخرج أبو الشيخ عن عطاء قال : " {له معقبات من بين يديه} قال : الحفظة " . وأخرج ابن المنذر من وجه آخر عن مجاهد في " {له معقبات} قال : الملائكة تعاقب في الليل والنهار " وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يجتمعون فيكم
__________
(1) هكذا بالأصول التي بأيدينا ويتأمل في معناه ا هـ مصححه(1/72)
<35>عند صلاة العصر وعند صلاة الصبح من بين يديه ، مثل قوله تعالى {عن اليمين وعن الشمال} الحسنات من بين يديه والسيئات من خلفه الذي على يمينه يكتب الحسنات ، والذ على يساره يكتب السيئات ، والذي على يمينه يكتب بغير شهادة ، والذي على يساره لا يكتب إلا بشهادة الذي على يمينه ، فإذا مشى كان أحدهما أمامه والآخر وراءه ، وإن قعد كان أحدهما علي يمينه والآخر على يساره ، وإن رقد كان احدهما عند رأسه والآخر عند رجليه يحفظونه من أمر الله " قال : يحفظون عليه . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " {له معقبات} الآية قال : هم الملائكة تعقبه بالليل والنهار وتكتب على ابن آدم " وأخرج ابن جرير عن سعيد ابن جبير " {له معقبات} قال : الملائكة يحفظونه من أمر الله قال : حفظهم إياه من أمر الله . وأخرج ابن جرير عن مجاهد في " {له معقبات} الآية ، قال : الملائكة من أمر الله . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في " {له معقبات} الآية ، قال : الملائكة يحفظونه من أمر الله قال : بإذن الله " أي فمن في الآية بمعنى الباء . وأخرج ابن أبي حاتم في " {يحفظونه من أمر الله} قال : عن أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه " .
وقوله : وهل على غير الإنسان حفظة ؟ جوابه : ليس عليه حفظة كتابة وإحصاء وضبطا كما صرحت به الآية السابقة أعني قوله تعالى {وإن عليكم لحافظين} .
وقوله : وإذا مات الإنسان إلى أين يسار بهم ؟ جوابه : أخرج أبو الشيخ والبيهقي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله وكل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله فإذا مات قال الملكان اللذان وكلا به : قد مات فأذن لنا أن نصعد إلى السماء ، فيقول الله سبحانه : سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحونني ، فيقولان فأين ؟ فيقول : قوما على قبر عبدي فسبحاني واحمداني وكبراني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة .
وقوله : وهل هم غير الكاتبين الكريمين ؟ جوابه : أنه قد علم مما قدمناه أن ملائكة الحفظ الموكلين بالإنسان ينقسمون إلى أن منهم من هو موكل بالحفظ لا غير ، ومنهم وهما الكاتبان الكريمان من هو موكل بالحفظ والكتابة ، وورد في هذين أنهم يفارقون الإنسان ، فقد أخرج البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله ينهاكم عن التعري فاستحيوا من ملائكته الذين معكم الكرام الكاتبين الذين ال يفارقونكم إلا عند أحد ثلاث : الجنابة والغائط والغسل " . وظاهر أنه ليس المراد هنا المفارقة بالكلية بل يبعدون عنه حينئذ نوع بعد . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رض الله عنهما قال : " خرج رسول صلى الله عليه وسلم عند الظهيرة فرأى رجلا يغتسل بفلاة من الأرض فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أما بعد ، فاتقوا الله وأكرموا الكرام الكاتبين الذين معكم ليس يفارقونكم إلا عند إحدى منزلتين حيث يكون الرجل على خلائه أو يكون مع أهله لأنهم كرام كما سماهم الله ، فليستتر أحدكم عند ذلك بجنب حائط أو ببعيره فإنهم لا ينظرون .
وقوله : وما حقيقة كتبهما ؟ جوابه : حقيقته تعلم مما سنذكره : أخرج أبو نعيم والديلمي عن معاذ بن جبل : " إن الله لطف الملكين الحافظين حتى أجلسهما على الناجذين وجعل لسانه قلمهما ورقه مدادهما " واخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى " {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} قال : يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله : أكلت وشربت ذهبت جئت رأيت حتى(1/73)
<36>إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان من خير أو شر وألقى سائره فذلك قوله {يمح الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : " {ما لفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} قال : إنما يكتب الخير والشر لا يكتب : يا غلام اسرج الفرس ، ويا غلام أسقني الماء " وأخرج ابن المنذر وابن أبي شيبة ذلك عن عكرمة نفسه أيضا ، وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عباس قال : " كاتب الحسنات عن يمينه يكتب حسناته وكاتب السيئات عن يساره ، فإذا عمل حسنة كتب صاحب اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه حتى يسبح أو يستغفر فإذا كان يوم الخميس كتب ما يجري به الخير والشر ويلقي ما سوى ذلك ، ثم يعرض على أم الكتاب فيجده بجماته فيه . وأخرج ابن أبي الدنيا عن علي كرم الله وجهه قال : لسان الإنسان قلم الملك وريقه مداده . وأخرج ابن أبي الدنيا وابن المنذر عن الأحنف ابن قيس في قوله تعالى : {عن اليمين وعن الشمال قعيد} قال : صاحب اليمين يكتب الخير وهو أمين على صاحب الشمال فإن أصاب العبد خطيئة قال : أمسك وإن استغفر الله نهاه أن يكتبها وإن أبى إلا أن يصر كتبها " . (1/74)
مطلب ذكر الرجل في نفسه تكتبه الملائكة
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن حجاج بن دينار قال : قلت لأبي معشر الرجل يذكر الله في نفسه كيف تكتبه الملائكة ؟ قال : يجدون الريح . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن عمران الجويني قال : بلغنا أن الملائكة تصعد بكتابها إلى سماء الدنيا كل عشية بعد العصر ، فينادى الملك ألق تلك الصحيفة وينادى الملك الآخر ألق الصحيفة فيقولون ربنا قالوا خيرا وحفظنا عليهم ، فيقول لهم : لم يريدوا به وجهي وإن لا أقبل إلا ما أريد به وجهي ، وينادي الملك الآخر : اكتب لفلان كذا وكذا فيقول : يا رب إنه لم يعمله فيقول إنه نواه . وأخرج ابن المبارك وابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن ضمرة بن حبيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الملائكة يصعدون بعمل العبد من عباد الله تعالى فيكثرونه ويشكرونه حتى ينتهوا به حيث شاء الله من سلطانه فيوحي إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص في عمله فاجعلوه في سجين . قال : ويصعدون بعمل العبد من عباد الله تعالى فيستقلونه ويحتقرونه حتى ينتهوا به حيث شاء الله من سلطانه فيوحي الله إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه فضاعفوه له واجعلوه في عليين " . وأخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال وإذا عمل العبد حسنة كتب عشر أمثالها ، وإذا عمل سيئة وأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال صاحب اليمين : أمسك فيمسك ست ساعات أو سبع ساعات فإن استغفر الله لم يكتب عليه شيئا وإن لم يستغفر الله كتب عليه سيئة واحدة " . وأخرج أبو الشيخ عن حسان بن عطية قال : تذاكروا مجلسا فيه مكحول وابن أبي زكريا " أن العبد إذا عمل خطيئة لم تكتب عليه ثلاث ساعات فإن استغفر وإلا كتبت عليه " . وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عنه أيضا قال : " بينما رجل راكب على حمار إذ عثر به فقال : تعست فقال صاحب اليمين ما هي بحسنة فأكتبها وقال صاحب الشمال : ما هي سيئة فأكتبها فنودي صاحب الشمال : ما ترك صاحب اليمين فاقتله " وجاء من طريق عن مالك ومجاهد : " إنه يكتب كل شيء يتكلم به ابن آدم حتى أنينه في مرضه والله سبحانه وتعالى أعلم .
(1/75)
<37>
(1/76)
مطلب في ذكر المهدي وبعض علامات الساعة
وسئلت : عن طائفة يعتقدون في رجل مات منذ أربعين سنة أنه المهدي الموعود بظهوره آخر الزمان وأن من أنكر كونه المهدي المذكور فقد كفر فما يترتب عليهم ؟ .
فأجبت : بأن هذا اعتقاد باطل وضلالة قبيحة وجهالة شنيعة : أما الأول فلمخالفته لصريح الأحاديث التي كادت تتواتر بخلافه كما ستملى عليك ، وأما الثاني فلأنه يترتب عليه تكفير الأئمة المصرحين في كتبهم بما يكذب هؤلاء في زعمهم وأن هذا الميت ليس المهدي المذكور ، ومن كفر مسلما لدينه فهو كافر مرتد يضرب عنقه إن لم يتب ، وأيضا فهولاء منكرون للمهدي الموعود به آخر الزمان ، وقد ورد في حديث عند أبي بكر الإسكافي أن صلى الله عليه وسلم قال : " من كذب بالدجال فقد كفر ، ومن كذب بالمهدي فقد كفر " وهؤلاء مكذبون به صريحا فيخشى عليهم الكفر ، فعلى الإمام - أيد الله به الدين وقسم بسيف عدله رقاب الطغاة والمبتدعة والمفسدين كهؤلاء الفرقة الضالين الباغين الزنادقة المارقين – أن يطهر الأرض من أمثالهم ويريح التاس من قبائح أقولهم وأفعالهم ، وأن يبالغ في نصرة هذه الشريعة الغراء التي ليلها كنهارها ونهارها كليلها فلا يضل عنها إلا هالك بأن يشدد على هؤلاء العقوبة إلى أن يرجعوا إلى الهدى وينكفوا عن سلوك سبيل الردى ويتخلصوا من شرك الشرك الأكبر ، وينادي على قطع دابرهم إن لم يتوبوا بالله الأكبر فإن ذلك من أعظم مهمات الدين ومن أفضل ما اعتنى به فضلاء الأئمة وعظماء السلاطين ، وقد قال الغزالي رحمه الله تعالى في نحو هؤلاء الفرقة : إن قتل الواحد منهم أفضل من مائة كافر : أي لأن ضررهم بالدين أعظم وأشد إذ الكافر تجتبنه العامة لعلمهم بقبح حاله فال يقدر على غواية أحد منهم ، وأما هؤلاء فيظهرون للناس بزي الفقراء والصالحين مع انطوائهم على العقائد الفاسدة والبدع القبيحة فليس للعامة إلا ظاهرهم الذي بالغوا في تحسنه ، وأما باطنهم المملوء من تلك القبائح والخبائث فلا يحيطون به ولا يطلعون عليه بقصورهم عن إدراك المخايل الدالة عليه فيغترون بظواهرهم ويعتقدون بسببها فيهم الخير فيقبلون ما يسمعون منهم من البدع والكفر الخفي ونحوهما ، ويعتقدون ظانين أنه الحق فيكون ذلك سببا لإضلالهم وغوايتهم ، فلهذه المفسدة العظيمة قال الغزالي ما قال من أن قتل الواحد من أمثال هؤلاء أفضل من قتل مائة كافر ، لأن المفاسد والمصالح تتفاوت الأعمال بتفاوتهما وتتزايد الأجور بحسبهما .
إذا تقرر ذلك فلنمل عليك من الأحاديث المصرحة بتكذيب هؤلاء وتضليلهم وتفسيقهم ما فيه مقنع وكفاية لمن تدبره .
أخرج أبو نعيم أنه صلى الله عليه وسلم قال : " يخرج المهدي على رأسه عمامة ومعه مناد ينادي : هذا المهدي خليفة الله فاتبعوه " . وأخرج هو والخطيب رواية أخرى " يخرج المهدي على رأسه ملك ينادي إن هذا المهدي فاتبعوه " والطبراني في الأوسط : " أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بيدي علي فقال : يخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض قسطا وعدلا فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتي التميمي فإنه يقبل من قبل المشرق وهو صاحب راية المهدي " . وأخرج أحمد ونسين بن داود والحاكم وأبو نعيم أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إذا رأيتم الرايات السود قد أقبلت من خراسان فأتوها ولو حبوا على الثلج فإن فيها خليفة الله المهدي ". وأخرج الداني عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تكون وقعة بالزوراء ، قيل يا رسول الله : وما الزوراء ؟ قال : مدينة بالمشرق بين أنهار يسكنها شرار خلق الله وجبابرة من أمتي تقذف بأربعة أصناف من العذاب بالسيف وخسف وقصف ومسخ " .
(1/77)
<38>
(1/78)
مطلب في ظهور المهدي والسفياني وشعيب التميمي وأن السفياني يذبحه المهدي عند بحيرة طبرية
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا خرجت السودان طلبت العرب فيكشفون حتى يلحقوا ببدن الأرض أو قال ببطن الأردن ، فبينما هم كذلك إذ خرج السفياني في ستين وثلثمائة راكب حتى يأتي دمشق ، فلا يأتي عليه شهر حتى يتابعه من كلب ثلاثون ألفا فيبعث جيشه إلى العراق فيقتل بالزوراء مائة ألف ويخرجون إلى الكوفة فينتهبونها ، فعند ذلك تخرج راية من المشرق يقودها رجل من تميم يقال له شعيب بن صالح فيستنقذ ما بأيديهم من سبي أهل الكوفة ويقتلهم ، ويخرج جيش آخر من جيوش السفياني إلى المدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ثم يسيرون إلى مكة حتى إذا كانوا باتلبيداء بعث الله جبريل فيقول يا جبريل فيضربهم برجله ضربة يخسف الله بهم فلا يبقى منهم إلا رجلان فيقدمان على السفياني ويخبرانه بخسف الجيش غلا يهوله ، ثم إن رجالا من قريش يهربون إلى القسطنطينية ، فيبعث السفياني إلى عظيم الروم أن يبعث بهم في المجامع فيبعث بهم إليه فيضرب أعناقهم على باب المدينة بدمشق " قال حذيفة : حتى إنه يطاف بالمرأة في مسجد دمشق في اليوم على مجلس حتى تأتي فخذ السفياني فتجلس عليه وهو في المحراب قاعد ى، فيقوم مسلم من المسلمين فيقول ويحكم أكفرتم بعد إيمانكم إن هذا لا يحل فيقوم فيضرب عنقه في مسجد دمشق ويقتل كل من تابعه فعند ذلك ينادي مناد من السماء أيها الناس إن الله قد قطع عنكم الجبارين والمنافقين وأشياعهم وولاكم خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم فالحقوا بمكة فإنه المهدي واسمه أجمد بن عبد الله . قال حذيفة : فقام عمران بن الحصين فقال يارسول الله كيف بناحيتي نعرفه ؟ قال : " هو رجل من ولدي كأنه من رجال بمي إسرائيل عليه عباءتان قطوانيتان كأن وجهه الكوكب الدري في اللون في خده الأيمن خال أسود بن أربعين سنة بتخرج الأبدال من الشام وأشباهها ويخرج إليه النجباء من مصر وعصائب أهل المشرق وأشباههم حتى يأتوا مكة فيبايع له بين الركن والمقام ثم يخرج متوجها إلى الشام وجبريل على مقدمته وميكائيل على ساقيه فيفرح به أهل السماء وأهل الأرض والطير والوحش والحيتان في البحر وتزيد المياه في دولته وتمد الأنهار وتستخرج الكنوز ، فيقدم الشام فيذبح السفياني تحت الشجرة التي أغصانها إلى بحيرة طبرية ويقتل كلبا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فالخائب ما خاب يوم كلب واو بعقال . قال حذيفة : يا رسول الله كيف يحل قتالهم وهم موحدون ؟ فبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا حذيفة يومئذ على ردة يزعمون أن الخمر حلالا ولا يصلون " . وأخرج أبو نعيم بن حماد أنه صلى الله عليه وسلم قال : " يخرج المهدي من المدينة إلى مكة فيستخرجه الناس من بينهم فيبايعونه بين الركن والمقام وهو كاره " . وأخرج أبو نعيم أنه صلى الله عليه وسلم قال : " ينزل عبسى بن مريم عليه السلام فبقول أميرهم المهدي : تعال صل بنا ، فيقول ألا وإن بعضكم على بعض أمراء لكرامة هذه الأمة " وأخرج أبو عمرو الداراني في سننه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا تزال طائفة من أمتي تقاتل على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم عليه السلام عند طلوع الفجر ببيت المقدس ينزل على المهدي فيقال تقدم يانبي الله فصل بنا ، فيقول هذه الأمة أمراء بعضهم على بعض " . وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال " في المحرم ينادي مناد من السماء ألا إن صفوة الله فلان فاسمعوا له وأطيعوا " . وفي حديث " يكون في أمتي المهدي إن طال عمره أو قصر ويملك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين فيملؤها قسطا وعدلا كما ملئت جورا ، وتمطر(1/79)
<39>السماء مطرها وتخرجالأرض بركتها وتعيش أمتي في زمانه عيشا لم تعشه قبل ذلك " . وفي حديث آخر سيكون في رمضان صوت وفي شوال معمعة وفي ذي القعدة تحارب القبائل وعلامته نهب الحاج وتكون ملحمة بمنى يكثر فيها القتل وتسيل فيها الدماء حتى تسل دماؤهم على الجمرة حتى يهرب صاحبهم فيؤتى بين الركن والمقام فيبايع وهو كاره ، ويقال له إن أبيت ضربنا عنقك يرضى به ساكن لسماء وساكن الأرض " . وفي حديث آخر " المهدي طاووس أهل الجنة " وأخرج أبو نعيم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " منا المهدي يصلي عيسى بن مريم خلفه " . وأخرج ابن ماجة والروياني وابن خزيمة وأبو عوانة والحاكم وأبو نعيم واللفظ له عن أبي أمامة قال " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الدجال فقال فينفى من المدينة الخبث كما ينفى الكير خبث الحديد ، ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص . قالت أم شريك يا رسول الله فأين العرب تومئذ ؟ قال : هم يومئذ قليل وجلهم ببيت المقدس وإمامهم المهدي رجل صالح فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليه عيسى بن مريم الصبح فرجع ذلك الإمام القهقري ليقدم عيسى ، فيضع عيسى –صلى الله على نينا وعليه السلام –يده بين كتفيه فيقول له تقدم فصل فإنها لك أقيمت ، فيصلي بهم إمامهم " . وأخرج أبو نعيم عن أبي أمامة أنه صلى الله عليه وسلم قال "المهدي من ولدي بن أربعين سنة كأن وجهه كوكب في خده الأيمن خال أسود عليه عباءتان قطوانيتان كأنه من رجال بني إسرائيل يستخرج الكنوز ويفتح مدائن الشرك" . (1/80)
مطلب قوله صلى الله عليه وسلم " ملك الأرض أربعة " الخ
وأخرج ابن الجوزي أنه صلى الله عليه وسلم قال " ملك الأرض أربعة مؤمنان وكافران ، فالمؤمنان ذو القرنين وسليمان ، والكافران نمرود وبختنصر ، وسيملكها خامس من أهل بيتي " وأخرج الروياني في مسنده وأبو نعيم أنه صلى الله عليه وسلم قال " المهدي رجل من ولدي وجهه كالكوكب الدري " . وأخرجا أيضا عن حذيفة قال : قال رسوا الله صلى الله عليه وسلم " المهدي رجل من ولدي لونه لون عربي وجسمه جسم إسرائليى، على خده الأيمن خال كأنه كوكب دري يملاالأرض عدلا كما ملئت جورا ، يرضى بخلافته أهل الأرض وأهل السماء والطير في الجو " . وأخرج أبو نعيم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال " يخرج المهدي من قرية يقال لها كرعة " وأخرج الخطيب أنه صلى الله عليه وسلم قال " يحبس الروم على وال من عترتي اسمه يواطئ اسمي فيقبلون بمكان يقال له العملق فيقتتلون فتقتل من المسلمين آلاف أو نحو ذلك ، ثم يقتتلون يوما آخر فيقتل من المسلمين نحو ذلك ، ثم يقتتلون اليوم الثالث فيكون على الروم فلا يزالون حتى يفتحوا القسطنطينية فبينما هم يقتسمون فيها إذ أتاهم صارخ أن الدجال قد خلفكم في ذرايكم " وجاء من طرق أخرى عنه صلى الله عليه وسلم " أن المهدي من عترته من ولد فاطمة رضي الله عنها ابنته ، وأنه أجلى الجبهة أقنى الأنف " وفي رواية " أشم الأنف " وفي رواية أخرى " أعلى الجبهة أفرق الثانيا " وأنه يملك سبع سنين يملأ الأرض عدلا لأنه يقسم المال صحاحا بالسوية بين الناس ، ويملأ قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم غنى ويوسعهم عدله حتى أنه يأمر مناديا فينادي من له حاجة فليأت إلى فلا يأتيه رجل واحد يسأله فيأمر مناديا فيعطيه فيأمره أن يحثى فيحثى حتى لا يستطيع أن يحمل فيضع منه حتى يقدر على حمله ثم يقول لنفسه يأبى الناس كلهم وتأخذي (1) فيرجع لرسول المهدي ليرده عليه فلا يقبله منه ، وأن اسمه اسمه صلى الله
__________
(1) هكذا من غير نون في النسخ وهولغة قليلة في الأفعال الخمسة ا هـ(1/81)
<40>عليه وسلم ، واسم أبيه اسم أبيه ، وأنه يكون اختلاف عند موت خليفة فيخرج رجل من أهل المدينة هاربا إلى مكة فيأتيه من أهله فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الركن والمقام ، ويبعث إليه بعث من الشام فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة ، فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال الشام وعصائب العراق فيباعونه فينشئ رجل من قريش أخواله كلب فيبعث - أي المهدي – عليهم بعثا يقتلونهم فتقسم غنائمهم ويعمل في الناس بسنة نبيهم ، وإن مدة ملكه إن قصرت فسبع وإلا فتسع ، وأن الناس يتنعمون في منه بما لم يسمعوا بمثله قط تؤتي الرض أكلها ولا تدخر عنهم شيئا ، وأنه يخرج ناس من المشرق يوطئون للمهدي سلطانه وأنه صلى الله عليه وسلم انتبه وهو يسترجع ، فقالت له أم سلمة : مم تسترجع يا رسول الله ؟ قال : من أجل جيش يجئ من قبل العراق في طلب رجل من أهل المدينة فيمنعه الله منهم فإذا علوا بالبيداء من ذي الحليفة خسف بهم فلا يدرك أعلاهم أسفلهم ولا أسفلهم أعلاهم إلى يوم القيامة وأنه يحثو المال حثيا ولا يعده عدا ، وإن المهدي يبايع بين الركن والمقام وعدة من معه ثلثمائة وبضعة عشر ، فيأتيه عصائب من أهل العراق وأبدال أهل الشام فيغزوه جيش من اهل الشام فيخسفبهم بالبيداء " . (1/82)
مطلب السفياني من ذرية أبي سفيان
وأنه صلى الله عليه وسلم أخذ بيد علي وقال : " يخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض قسطا وعدلا فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتى التميمي فإنه يقبل من قل المشرق وهو صاحي راية المهدي ، وأن السفياني : أي وهو من ذرية أبي سفيان ، يخرج بالشام وعامة من يتبعه من كلب فيبقر بطون النساء ويقتل الصبيان ، ثم يبعث المهدي وقد خرج للحرة جيشا فيهزمهم المهدي ، فيسير إليه السفياني هو ومن معه حتى إذا صار ببيداء من الأرض خسف بهم فلا ينجو منهم إلا المخبر عنهم وأنه من عترته ، وهو الذي يؤم عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم " فهذه الجملة من الأحاديث تكذب أولئك المذكورين في السؤال وتبدعهم وتضللهم وتقضي عليهم بالجهل المفرط والحماقة العظماء .
وكذا ورد عن الصحابة والتابعين ما يرد على أولئك الحمقى أيضا فمما ورد عن علي كرم الله وجهه أنه سيكون فتنة عظيمة وأنه لا يسب أهل الشام بل ظلمتهم فإن فيهم الأبدال ، وأنه يرسل عليهم سيل من السماء فغرقهم ، ثم يبعث الله عند ذلك رجل من عترته صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا إن قلوا وخمسة عشر إن كثروا على ثلاث رايات يقاتلهم أهل سبع رايات ليس من صاحب راية إلا وهو يطمع بالملك فيقتلون وينهزمون ، ثم يظهر عليهم الهاشمي فيرد الله إلى المسلمين ألفتهم ونعمتهم فيكونون على ذلك حتى يخرج الدجال وأنه قال لعمر رضي الله عنه حين قال : لا أدري أدع خزائن البيت ، أي الكعبة ، وما فيه من المال والسلاح أو أقسمه في سبيل الله : امض يا أمير المؤمنين فلست بصاحبه إنما صاحبه منا شاب من قريش يقسمه في آخر الزمان ، وأنه قال : إن المهدي يظهر إذا نادى مناد من السماء إن الحق في آل محمد يظهر حيبئذ على أفواه الناس ويشربون حبه فلا يكون لهم ذكر غيره ، وأنه يخرج رايات سود فيقاتل السفياني فيهم شاب من بني هاشم في كفه اليسرى خال وفي مقدمته رجل من تميم يدعى بشعيب بن صالح فيهزمهم وإن السفياني إذا خرجت خيلة بعث لأهل خراسان فيخرجون إلى المهدي فليتقي هو والهاشمي برايات سود على مفدمته شعيب بن صالح فيلتقي هو والسفياني في باب إصطخر فيكون بينهم مقتلة عظيمة فتظهر الرايات السود وتهرب خيل السفياني(1/83)
<41>فعند ذلك يتمنى الناس المهدي ويطلبونه ، وأنه يخرج رجل قبل المهدي من أهل بيته بالمشرق يحمل السيف على عاتقه ثمانية عشر شهرا يقتل ويمثل ويتوجه إلى بيت المقدس فلا يبلغه حتى يموت ، وأنه يبعث جيش إلى المدينة فيأخذون من قدر من آل محمد صلى الله عليه وسلم ويقتل من بني هاشم رجال ونساء ، فعند ذلك يهرب المهدي ورجل آخر من المدينة إلى مكة فيبعث في طلبهما وقد لحق بحرم الله وأمنه ، وأنه إذا بعث السفياني على المهدي جيشا فخسف بهم بالبيداء وبلغ ذلك أهل الشام وقالوا لخليفتهم : قد خرج المهدي فبايعه وادخل في طاعته وإلا قاتلناك ، فيرسل إليه بالبيعة ، ويسير المهدي حتى ينزل بيت المقدس ، وتقبل إليه الخزائن وتدخل العرب والعجم وأهل الحرب والروم وغيرهم في طاعته من غير قتال حتى يبني المساجد بالقسطنطينية وما دونها ، وان المهدي مولده بالمدينة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، واسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ومهاجره بيت المقدس كث اللحية أكحل العينين براق الثنايا في وجهه خال ، وفي كتفه علامة النبي صلى الله عليه وسلم يخرج براية النبي صلى الله عليه وسلم من مرط معلمة بسوداء مربعة فيها حجر لم تتبين منذ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنشر حتى يخرج المهدي يمده الله بثلاثة آلاف من الملائكة يضربون وجوه من خالفهم وأدبارهم يبعث وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين ، وأنه قال : المهدي مني من قريش آدم ضرب من الرجال ، وأنه قال : إذا خرجت الرايات السود على السفياني التي فيها شعيب بن صالح تمنى الناس المهدي فيطلبونه ، فيخرج من مكة ومعه راية رسول صلى الله عليه وسلم فيصلي ركعتين بعد أن يأس الناس من خروجه لما طال عليهم من البلاء ، فإذا فرغ من صلاته انصرف فقال : يا ايها الناس يا أمة محمد يا أهل بيته خاصة قد قهرنا وبغي علينا ، وأنه قال المهدي رجل منا من ولد فاطمة وأنه يلي أمر الناس ثلاثين أو أربيعين سنة ، وينافي هذا ما مر من أن مدة ملكه سبع سنين أو تسع ، وقد يجاب إن صحا بأن السبع أو التسع فيها نهاية ملكه وما قبلها فيه بدايته فهذه الآثار كلها عن علي كرم الله وجهه تكذب أولئك الضالين المارقين .
ويرد عليهم ما قال عبد الغافر الفارسي وابن الجوزي وابن الأثير في ذكر علي أن المهدي من ولد الحسن وأنه منفرج الفخذين : أي بينهما تباعد .
ومما جاء عن الحسن رضي الله عنه أنه قال : بالري رجل ربعة أسمر من بني تميم مجزوم كوسج يقال له شعيب بن صالح في أربعة آلاف ثيابهم بيض وراياتهم سود يكون على مقدمة المهدي ولا يلقاه أحد غلا قتله وما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : المهدي منا يدفعه إلى عيسى ابن مريم ، وأن المهدي يبعث بعد إياس وحتى يقول الناس : لا مهدي ، وأنصاره أناس من أهل الشام عددهم ثلاثمائة وخمسة عشر عدد أصحاب بدر يسيرون إليه من الشام حتى يستخرجونه من بطن مكة من دار عند الصفا فيبايعونه كرها فيصلي بهم ركعتين عند المقام ثم يصعد المنبر .
ومما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه : أن الطرق إذا انقطعت وكثرت الفتن خرج سبعة نفر علماء من أفق شتى على غير ميعاد يبايع لكل رجل منهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا حتى يجتموا بمكة فتلتقي السبع فيقول بعضهم لبعض : ما جاء بكم ؟ فيقولون : جئنا في طلب هذا الرجل الذي ينبغي أن يهدأ على يديه هذه الفتن وتفتح به القسطنطينية ، قد عرفناه باسمه واسم أبيه وجنسه ، فيصيبونه بمكة فينفلت منهم إلى المدينة فيطلبونه بها فيخالفهم إلى مكة فيطلبونه بها فيخالفهم إلى مكة فيأتون إليه به فينفلت منهم إلى المدينة فيطلبونه فيخالفهم إلى مكة فيصيبونه(1/84)
<42>بها عند الركن فيقولون : إثمنا عليك ودماؤنا في عنقك إن لم تمد يدك نبايعك هذا عسكر السفياني قد توجه في طلبنا عليهم رجل من حرام ، فيجلس بين الركن والمقام فيمد يده فيبايع له فليقي الله محبته في صدور الناس فيسير مع قوم أسد بالنهار رهبان بالليل ، ويهزم الله على يديه الروم ويذهب الله على يديه الفقر وينزل الشام ، ومما جاء عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن علامة خروج المهدي أن يخسف بجيش في البيداء . (1/85)
مطلب في علامة خروج المهدي وأن القحطاني بعد المهدي
ومما جاء عن أكابر أهل البيت فيه قول محمد بن علي : لمهدينا آيتان لم يكونا منذ خلق الله السماوات والأرض : ينكسف القمر لأول ليلة من رمضان ، وتنكسف الشمس في النصف منه ، ولم يكونا منذ خلق الله السماوات والأرض . وقول محمد ابن الحنفية : تخرج رايات سود لبني العباس ثم تخرج من خراسان أخرى سود قلانسهم سود وثيابهم بيض على مقدمتهم رجل يقال له شعيب ين صالح من تميم يهزمون أصحاب السفياني حتى ينزل ببيت المقدس يوطئ للمهدي سلطانه ويمد إليه ثلاثمائة من الشام ، يكون بين خروجه وبين أن يسلم الأمر للمهدي اثنان وسبعون شهرا . وقول أبي جعفر : لا يخرج المهدي حتى يروا الظلمة ، وقوله : ينادي مناد من السماء أن الحق في آل محمد ، وينادي مناد من الأرض أن الحق في آل عيسى أو قال العباس فشك فيه ، وإنما الصوت الأسفل كلمة الشيطان والصوت الأعلى كلمة الله العليا ، وقول جعفر يقوم المهدي سنة مائتي ، وقوله : يظهر المهدي بمكة عند العشاء معه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم وقميصه وسيفه وعلامات ونور وبيان فإذا صلى العشاء خطب خطبة بأعلى صوته زذكر طولها ، ثم قال : فيظهر في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا عدد أهل بدر على غير ميعاد رهبان بالليل أسد بالنهار فيفتح الله له أرض الحجر ، وستخرج من كان في السجن من بني هاشم ، وتنزل الرايات السود بالكوفة فيبعث بالبعث إلى المهدي ؟، ويبعث المهدي جنوده إلى الآفاق ويميت الجور وأهله وتستقيم له البلدان ويفتح الله على يديه القسطنطينية .
وجاء عن محمد بن الحسين : المهدي أزج أبلج العينين يجيء حتى يستوي على منبر دمشق وعمره ثمان عشرة سنة ، ويعارضه الحديث السابق أنه ابن أربعين سنة إلا أن يجمع بينهما بأنها أوان ظهور ملكه ونهايته وجلوسه على منبر دمشق قبل ذلك ، ويؤيده ما جاء عن صباح قال : يمكث المهدي فيهم تسعا وثلاثين سنة يقول الصغير يا ليتني كبرت ، ويقول الكبير يا ليتني كنت صغيرا .
وجاء عن علي كرم الله وجهه : أنه يلي أمر الناس ثلاثين أو أربعين سنة ولا ينافيه الخبر السابق أنه يملك سبع أو تسع سنين لإمكان حمله أن ذلك مدة تزايد ظهور ملكه وقوته .
وجاء عن كعب : أن علامة خروجه ألوية تقبل من المغرب وعليها رجل أعرج من كندة ، وأنه خاشع لله كخشوع النسر بجناحه ، وأنه يبعث بقتال الروم فيستخرج تابوت السكينة من غار أنطاكية ، وإنه سمي المهدي لأنه يهدي لأمر قد خفي يستخرج التابوت من أرض يقال لها أنطاكية ، وأم قادته خير الناس وأن نصرته وبيعته من أهل كرمان واليمن وأبدال الشام ، على مقدمته جبريل وساقته ميكائيل محبوب في الخلائق يطفئ الله به الفتنة العمياء وتأمن الأرض حتى إن المرأة لتحج في خمس نسوة ما معهن رجل لا يتقين إلا الله تعطي الأرض زكاتها والسماء بركتها ، وأته قال : إني أجد المهدي مكتوبا في أسفار الأنبياء ما في عمله ظلم ولا عيب ، وإنا أول لواء يعقده ببيعته إلى الترك فيهزمهم ويأخذ منهم السبي والأموال ثم يسير إلى الشام(1/86)
<43>فيفتحها ثم يعتق كل من معه ويعطي أصحابه قيمتهم ، وأنه يكون بعد المهدي خليفة من أهل اليمن من قحطان أخو المهدي في دينه يعمل بعمله وهو الذي يفتح مدينة الروم ويصيب غنائمها ، وإن اللدجال يحاصر المؤمنين ببيت المقدس فيصيبهم جوع شديد حتى يأكلوا أوتار قسيهم من الجوع فبينما هم على ذلك إذ سمعوا صوتا في الغلس فيقولون إن هذا لصوت رجل شبعان فينظرون فإذا عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فتقام الصلاة فيرجع إمام المسلمين المهدي فيقول عيسى تقدم فلك أفيمت الصلاة فيصلى تلك الليلة ثم يكون عيسى إماما بعدها ، وإنه إذا ملك رجل الشام وآخر مصر فاقتتل الشامي والمصري ، وسبا أهل الشام قبائل من مصر فأقبل رجل من المشرق برايات سود صغار قبل صاحب الشام فهو الذي يؤدي الطاعة إلى المهدي وبقيت له علامات أخر تعرف في كتابي ( القول المختصر في علامات المهدي المنتظر ) والله تعالى أعلم بالصواب . (1/87)
مطلب في أحوال خطيب يرقى المنبر في كل جمعة ويذكر أحاديث لم يبين مخرجيها
وسئل رضي الله عنه : عن خطيب يرقى المنبر في كل جمعة ويروي أحاديث كثيرة ولم يبين مخرجيها ولا رواتها ، ومن جملة ما رواه وذكر أنه حديث " أن التجار هم الفجار إلا من قال بيده هكذا وهكذا " ومن أحوال هذا الخطيب أن له مكسا على ما يدخل بلده من البطيخ والخضر ونحو ذلك على كل حمل بطيخ بطيخة ، وله على كل قفص من الرطب عثماني ، وعلى كل نوع من أنواع الخضر شيء معين ، ويتعاطى ذلك بيده في كل يوم مدة طويلة ، ويقبض من المشتري العشرة مثلا ويدغعها للبائع تسعة ، وله أحوال أخرى تشابه ما ذكر ، وهو مع ذلك يدعي رفعة في العلم وسموا في الدين ، فما الذي يجب عليه وما الذي سلزمه إن استحل ذلك أو لم يستحله ؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله الجنة بفضله ومنه آمين .
فأجاب رضي الله عنه بقوله : ما ذكره من الأحاديث في خطبة من غير أن يبين رواتها أو من ذكرها فجائز بشرط أن يكون من أهل المعرفة في الحديث أو ينقلها من كتاب ملفه كذلك ، وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه من أهل الحديث أو في خطب ليس مؤلفها كذلك فلا يحل ذلك ومن فعله عزر عليه التعزير الشديد ، وهذا حال أكثر الخطباء فإنهم بمجرد رؤيتهم خطبة فيها أحاديث حفظوها وخطبوا بها من غير أن يعرفوا أن لتلك الأحاديث أصلا أم لا ، فيجب على حكام كل بلد أن يزجروا خطبائها عن ذلك ، وجب على حكام بلد هذا الخطيب منعه من ذلك إن ارتكبه ، وأما ذكره الحديث المذكور فصدره وارد بل صحيح كما قال الترمذي ، وهو : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال : يا معشر التجار ، فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال : إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وبر وصدف " وفي رواية صحيحة : " إن التجار هم الفجار ، قيل يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع ؟ قال : بلى ، ولكنهم يحدثون فيكذبون ويحلفون فيأثمون " وأما آخره وهو " إلا من قال بيده هكذا وهكذا " قلم يرد فيه شيء من كتب الحديث بعد البحث عنه فعلى هذا الخطيب أن يبين مستنده في روايته فإن كان مستندا صحيحا فلا اعتراض عليه وإلا صاغ الاعتراض عليه بل وجاز لولي الأمر – أيد الله به الدين وقمع بعدله المعاندين – أن يعزله من وظيفة الخطابة زجرا له عن أن يتجرأ على هذه المرتبة الثنية بغير حق ، ولو كان عند هذا الخطيب علم لعدل عن هذه الرواية التي ذكرها إلى الرواية الأولى التي ذكرناها وهي " أن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وبر وصدق "(1/88)
<44>فإن هذا الحديث صحيح ومعناه ظاهر فإن التجار على قسمين ، قسم منهم يجتنب في بيعه وشرائه وسائر معاملاته جميع المحرمات كالربا والخش والخديعة والكذب والحلف بالباطل وهو مع ذلك يخرج حق الله تعالى وحق العباد من نفسه وماله ، فأهل هذا القسم لا يبعثون يوم القيامة فجارا بنص الكتاب العزيز وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإجماع أئمة المسلمين ، بل هؤلاء يبعثون يوم القيامة سعداء في الآخرة كما كانوا سعداء في الدنيا ، بل هم أفضل من الفقراء الصابرين كما قال جماعة ويدل له : " أن فقراء الصحابة قالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور – الأموال – بالأجور فيصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويزيدون بالصدقة بفضل أموالهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لكم بكل تكبيرة صدقة وبكل تسبيحة صدقة وبكل تحميدة صدقة ، فقالوا يا رسول الله : أرأيت لو فعلوا ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " . فدل ذلك على أن الأغنياء الشاكرين وهو من سبق أفضل من الفقراء الصابرين لأنهم يفعلون ما يفعلونه من العبادات ويزيدون على الفقراء بالزكوات والصدقات ، وفي هذين من نفع المسلمين ما يربو صوابه على كثير من الأعمال القاصرة هذا هو القسم الأول وهو المرادون بقوله صلى الله عليه وسلم في الحدجيث السابق " إلا من اتقى الله وبر وصدق " وهم المرادون أيضا بالخبر الصحيح : " التاجر الصدوق الأمين يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين يوم القيامة " وورد : " التاجر الصدوق لا يحجب من أبوب الجنة ". وورد أيضا : " التاجر الصدوق تحت ظل العرش يوم القيامة " . (1/89)
مطلب على أن التجارة أفضل من الزراعة
وهذه الأحاديث يستدل على ما قاله جماعة من أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه من أن التجارة أفضل من الزراعة وأفضل من الصنعة ، ويدل له أيضا أنه صلى الله عليه وسلم اتجر مرات ولم يثبت عنه أنه زرع ولا أنه كانت له صنعة ، والله سبحانه وتعالى لا يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا الأفضل ، وقد اختار له من أصول المكاسب التي هي التجارة والزراعة والصناعة التجارة دون الزراعة والصنعة . فدل على فضلها . (1/90)
مطلب الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر
وقد استدل ابن عبد السلام على تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر بأن الله تعالى لا يختار لنبيه إلا الأفضل ، وأفضل أحواله صلى الله عليه وسلم الحالة التي توفاه الله عليها وكانت تلك الحالة على غاية من غناه صلى الله عليه وسلم فدل على فضل الغنى بشرطه على الفقر ، وروى أبو الشيخ وأبو نعيم والبيهقي حدبث : " من طلب الدنيا حلالا تقنعا عن المسألة وسعيا على عياله وتعطفا على جاره لقى الله تعالى ووجهه كالقمر ليلة البدر " . وقال لقمان لابنه : استغن بالكسب الحلال عن الفقر فإن ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال : رقة في دينه وذهاب في عقله وذهاب مروءته ، وأعظم من هذه الثلاث : استخفاف الناس به ، وسئل بعض التابعين عن التاجر الصدوق أهو أحب إليك أم المتفرغ للعبادة ؟ فقال : التاجر الصدوق أحب إلي لأنه في جهاد يأتيه الشيطان من طريق المكيال والميزان ومن قبل الأخذ والعطاء فيجاهده : أي ولا يطاوعه فيما يأمره به من المحرمات . وقيل للإمام أحمد رضي الله عنه ماتقول فيمن جلس في بيته أو مسجده وقال : لا أعمل حتى يأتيني رزقي ؟ فقال أحمد : هذا رجل لم يسمع العلم أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم(1/91)
<45>: "إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي " . وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم والقدوة بهم .
والقسم الثاني هم الذين لا يجتنبون في بيعهم ولا شرائهم ومعاملاتهم المحرمات كالربا والغش والحلف الباطل وغير ذلك من القبائح التي انظوى عليها أكثر التجار ، وهؤلاء فجار في الدنيا والآخرة وهم ممن قال الله تعالى في حقهم في كتابه العزيز {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة} أي نصيب {ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} . وفي حديث مسلم : " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة : رجل حلف على سلعته لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب " . وروى أبو يعلى أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا يزال قول لا إله إلا الله يدفع عن الخلق سخط الله ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على آخرتهم " وهل هذا القسم هم المرادون بقوله صلى الله عليه وسلم : " إن التجار هم الفجار " الحديث .
وإذا تقرر أن التجار على قسمين فلا يسوغ لهذا الخطيب أن يأتي بما يقتدي الذم لجميع التجار بل عليه أن يبين للناس الإجمال الواقع فيما يرويه أو يخطب به هذا إن كان من أهل ذلك وإلا فليراجع العلماء ويسألهم عن الأحاديث وأحكامها ثم يخطب بها ، وأما مع عدم ذلك فلا ينبغي ولا يسوغ فإن كثيرا من العوام إذا سمعوا لفظا مجملا كالرواية التي ذكرها هذا الخطيب يقولون إن جميع التجار فجار إلا من فرق ماله وهذا لا يقول به أحد من المسلمين ، وإنما الذي ورد في ذلك بل صح أحاديث .
منها : " يا معشر التجار إن الشيطان وافثم يحضران البيع فشوبوا بيعكم بالصدقة " .
وبعد أن علم ما قررته فالذي ينبغي لهذا الخطيب أن يراعي ما ذكرناه وأن يعمل بقضته وإلا رتب عليه مقتضى أفعاله .
وأما ما ذكر من أخذه المكس بتفصيله المذكور في السؤال فإن ثبت عليه ذلك فسق وردت شهادته ولم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، وكانت أفعاله هذه القبيحة أصدق شاهد على كذبه وافترائه في أن له رفعة في العلم وسموا في الدين بل هو من أجهل الجاهلين وأفسق الفاسقين ، ولا تصح إمامته عند كثيرين من العلماء ، فعلى الناس هجره واجتناب الصلاة وراءه ، فإن من يقول بصحتها يقول : لا ثواب في جماعتها ، ومتى استحل شيئا من أخذ المكس فقد كفر فتضرب عنقه إن لم يتب ، والله سبحانه وتعالى اعلم بالصواب . (1/92)
مطلب ما هو محرم من الدعاء وليس بكفر
وسئل رضي الله تعالى عنه سؤالا صورته : نقل الشيخ شهاب الدين القرافي المالكي في قواعده ما هو محرم من الدعاء وليس بكفر أن يسأل الله تعالى الاستعفاء في ذاته عن الأمراض ليسلم طول عمره من الآلام والأسقام والأنكاد والمخاوف وغير ذلك من البلايا وقد دلت العقول على استحالة جميع ذلك ؟ قال : فإذا كانت هذه الأمور مستحيلة في حقه تعالى عقلا كان طلبها من الله تعالى سوء أدب عليه لأن طلبها يعد في العادة تلاعبا وضحكا من المطلوب منه والله تعالى يجب له من الإجلال فوق ما يجب لخلقه إلى آخر ما ذكره رحمه الله تعالى ، فإذا قال الداعي : اللهم سهل لي ، أو قال : اعطني ما أحب واصرف عني ما أكره هل يكون من هذا القبيل بدليل أن الداعي يلحقه من الأمراض والشواغل نحو ذلك ، فإذا قلتم نعم فذاك وإلا فما الفرق ؟(1/93)
<46>فأجاب بقوله : ما ذكره القرافق صحيح وقد أقره عليه جماعة من أئمتنا ، وحينئذ فإذا قال الداعي : اللهم سهل لي وأعطني ما أحب واصرف عني ما أكره فإن أراد العموم الذي كككره القرافي حرم عليه ذلك ، وإن أ راد إعطاء ما ما يجب من أنواع مخصوصة جائزة وصرف ما يكره من أنواع كذلك أو أطلق فلم يرد شيئا لم يحرم عليه ذلك ، أما مسألة الإرادة فظاهر ، وأما في مسألة الإطلاق فلأن المتبادر من استعمال هذا اللفظ في العادة إنما هو سؤال الله حصول أشياء مهمة من المحبوبات ودفع أشياء كذلك من المكروهات فلم يتحقق وجه الحرمة التي علل بها القرافي فإنه علل الحرمة بأن طلب ما ذكره يعد في العادة تلاعبا وضحكا من المطلوب منه ، ونحن نعلم بالعادة أن من طلب من الله حصول ما يجب ودفع ما يكره لا يكون متلاعبا ومستهزئا إلا إذا أراد العموم بالمعنى الذي ذكره القرافي ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب . (1/94)
مطلب هل الدعاء للمؤمنين والمؤمنات بمغفرة جميع الذنوب وبعدم دخولهم النار أم لا ؟
وسئل فسح الله في مدته ، عن مسئلة وقع فيها جوابان مختلفان صورتها : هل يجوز الدعاء للمؤمنين والمؤمنات بمغفرة جميع الذنوب وبعدم دخولهم النار أم لا ؟ فأجاب الأول فقال : لا يجوز فقد ذكر الإمام ابن عبد السلام والإمام القرافي من الأئمة المالكية أنه لا يجوز لأنا نقطع بخبر الله وبخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أن منهم من يدخل النار ، وأما الدعاء بالمغفرة في قوله تبارك وتعالى حكاية عن نوح {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات} ونحو ذلك فإنه ورد بصيغة الفعل في سياق الدعاء وذلك لا يقتضي العموم لأن الأفعال نكرات ويجوز قصد معهود خاص وهو أهل زمانه مثلا انتهى . وأجاب الثاني فقال : يجوز لأمور أحدها أن الأئمة رضي الله عنهم ذكروا أنه يسن للخطيب أن يدعو للمؤمنين والمؤمنات . الأمر الثاني : أن الإمام المستغفري روى عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا " ما من دعاء أحب إلى الله من قول العبد الم اغفر لأمة محمد رحمة عامة " كذا في العجالة وغير ذلك من الأدعية التي يحيط علمكم بها . الأمر الثالث : أن الشيخ شرف الدين البرماوي سئل هل يجوز الدعاء بمغفرة جميع الذنوب وبعدم الوقوف للحساب ؟ فأجاب : بأنه لا يجوز أن يسأل الله عز وجل مغفرة جميع ذنوبه طلها ، فإن الله تعالى له أن يرضى من له حق من الناس فيتخلص الداعي من جميع حقوق الله وحقوق الناس . وأما الدعاء بعدم الوقوف بين يدي الله للحساب فطلب محال لا يجوز أن يدعو به بل يسأل الله تعالى أن يلطف به في ذلك الموقف فما الراجح عندكم من ذانيك الجوابين ؟ .
فأجاب بقوله رحمه الله تعالى : إن الدعاء بعدم دخول أحد من المؤمنين النار حرام بل كفر لما فيه من تكذيب النصوص الدالة على أن بعض العصاة من المؤمنين لابد من دخوله النار . وأما الدعاء بالمغفرة لجميعهم فإن أراد بهم مغفرة مستلزمة لعدم دخول أحد منهم النار فحكمه ما مر ، وإن أراد مغفرة تخفف عن بعضهم وزره وتمحي عن بعض آخرين منهم أو أطلق ذلك فلا منع منه أما مسألة الإرادة فواضح وأما في مسألة الإطلاق فلأن إطلاق المغفرة لا يستلزم المحو عن الجميع بالكلية لأنها تستعمل في هذا المعنى وفي التخفيف بل لو قال اللهم اغفر لجميع المؤمنين جميع ذنوبهم وأراد المحو للبعض والتخفيف للبعض جلز ، وإن أراد عدم دخول أحد منهم النار لم يجز وإن قال اغفر لجميع المسلمين حميع ذنوبهم وأطلق أو أراد عدم دخول أحد منهم حرم ، وإن أراد ما يشمل(1/95)
<47>التخفيف جلز ، والفرق بين الصورتين واضح مما قررته ، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم باستغفار للمؤمنين والمؤمنات بقوله تعالى {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} فيتعين حينئذ حمل كلام عبد السلام وتلميذه القرافي على ما قررته من التفصيل ، وذلك علم أن إطلاق المجيب الأول الحرمة والثاني عدمها غير صحيح ، واستدلاله بخير المستغفري غير صحيح أيضا لأن الرحمة العامة لا تستلزم مغفرة جميع الذنوب بالمعنى السابق فقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنهما : " إن لله رحمة على أهل النار فيها " لأنه يقدر أن يعذبهم بأشد مما هم فيه ، وقال تعالى : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} ففي إرساله صلى الله عليه وسلم رحمة حتى على أعدائه من حيث عدم معاجلتهم بالعقوبة ، والله سبحانه وتعالى أعلم صلى الله عليه وسلم . (1/96)
مطلب هل يجوز علم التنجيم
وسئل فسح الله في مدته ، سؤالا :وقع في عبارات الفقهاء ما يصرح بتحريم علم التنجيم هل المراد به حسابياته أو أحكامه ؟ فإن خصصتم الحكم بأحكامه معللين بأنه إنباء عن الغيب فما علة تحريمهم للطبيعيات مع أن الظاهر من ظاهر كلامهم اشتراك الحكمين في علة واحدة ؟ .
فأجاب بقوله : العلوم المتعلقة بالنجوم منها ما هو واجب كالاستلال بها على القبلة والأوقات واختلاف المطالع واتحادها ونحو ذلك ، ومنها ما هو جائز كالاستلال بها على منازل القمر وعروض البلاد ونحوهما ، ومنها ما هو حرام كالاستدلال بها على وقوع الأشياء المغيبة بأن يقضي بوقوع بعضها مستدلا بها عليه بخلاف ما إذا قال : إن الله سبحانه وتعالى اضطردت عادته بأن هذا النجم إذا حصل له كذا كان ذلك علامة على وقوع كذا فهذا لا منع منه لأنه لا محذور فيه . وأما البحث في الطبيعيات فإن أريد به معرفة الأشياء على ما هي عليه على طريق أهل الشرع فلا منع منه وليس مشابها للتنجيم المحرم ، وإن أريد به معرفة ما هي عليه على طريق الفلاسفة فهو حرام لأنه يؤدي إلى مفاسد كاعتقاد قدم العالم ونحوه مما لا يخفى من قبائحهم وحرمته حينئذ مشابهة لحرمة التنجيم المحرم حيث أفضى كل منهما إلى المفسدة وإن اختلفت نوعا وقبحا ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/97)
مطلب هل كتابة الأسماء التي لا يعرف معناها والتوسل بها مكروه أو حرام ؟
وسئل رضي الله عنه عن كتابة الأسماء التي لا يعرف معناها والتوسل بها هل ذلك مكروه أوحرام ؟
وهل هو مكروه في الكتابة والتوسل بتلك الأسماء التي لا يعرف معناها أو حرام في التوسل دون الكتابة ؟ فقد نقل عن الغزالي أنه لا يحل لشخص أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه ، وهل فرق في ذلك بين ما يوجد في كتب الصالحين كعبد الله بن أسعد اليافعي وغيره أم لا ؟ .
فأجاب بقوله : الذي أفتى به العز ابن عبد السلام كما ذكرته عنه في شرح العباب : أن كتب الحروف المجهولة للأمراض لا يجوز الاسترقاء بها ولا الرقى بها لأنه صلى الله عليه وسلم لما شئل عن الرقى قال :" أعرضوا علي رقاكم فعرضوها فقال : لا بأس " وإنما لم يأمر بذلك لأن من الرقى ما يكون كفرا وإذا حرم كتبها حرم التوسل بها نعم ، وإن وجدناها في كتاب من يوثق به علما ودينا فإن أمر بكتابتها أو قراءتها احتمل القول بالجواز حينئذ لأن أمره بذلك الظاهر أنه لم صدر منه إلا بعد إحاطته واطلاعه على معناها وأنه لا محذور في ذلك ، وإن ذكرها على سبيل الحكاية عن الغير الذي ليس هو كذلك أو ذكرها ولم يأمر بقراءتها ولا تعرض لمعناها فالذي يتجه بقاء التحريم بحاله ، ومجرد ذكر إمام لها لا يقتدي أنه عرف معناها فكثيرا من احوال أرباب هذه التصانيف يذكرون ما وجدوه من غير فحص عن معناه ولا تجربة لمبناه ، وإنما يذكرونه على جهة أن مستعمله(1/98)
<48>ريما انتفع به ، ولذلك تجد في ورد الإمام اليافعي أشياء كثيرة لها منافع وخواص لا يجد مستعملها منها شيئا وإن تزكت أعماله وصفت سريرته ، فعلمنا أنه لم يضع جميع ما فيه عن تجربة بل ذكر فيه ما قيل فيه شيء من المنافع والخواص كما فعل الدميري في حياة الحيوان في ذكره لخواصها ومنافعها ومع ذلك تجد المائة ما يصح منها واحد ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/99)
مطلب الذكر بالقلب أم بالقلب واللسان ؟
وسئل رضي الله عنه : عن قول النووي لطف الله به في آخر باب مجالس الذكر من شرح مسلم : ذكر اللسان مع حضور القلب أفضل من ذكر القلب انتهى . فهل يؤخذ من كلامه أنه إذا ذكر الله بقلبه دون لسانه أنه ينال الفضيلة إذا كان معذورا أم لا ؟ وهل إذا قرأ بقلبه دون لسانه من غير عذر ينال الفضيلة أم لا ؟ .
فأجاب بقوله : الذكر بالقلب لا فضيلة فيه من حيث كونه ذكرا متعبدا بلفظه وإنما فيه فضيلة من حيث استحضاره لمعناه من تنزيه الله وإجلاله بقلبه ، وبهذا يجمع بين قول النووي المذكور وقوله : ذكر القلب لا ثواب فيه فمن نفى عنه الثواب أراد من حيث لفظه ، ومن أثبت فيه ثوابا أراد من حيث حضوره بقلبه كما ذكرناه ، فتأمل ذلك فإنه مهم ولا فرق في جميع ذلك بين المعذور وغيره ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/100)
مطلب لمن تكون الزوجة في الجنة إذا كان لها الأزواج
وسئل نفع الله تعالى بعلمه عمن لها أزواج في الدنيا هل هي في الجنة لآخر أزواجها أو لأحسنهم خلقا في الدنيا ؟ وفي شرح الروض في الخصائص : ولأن المرأة لآخر أزواجها كما قاله ابن القشيري انتهى . وفي مجموع الأحباب وتذكرة أولي الألباب لمحمد بن الحسن العلاء لأبي الفرج : وروي عن أبي الدرداء وحذيفة رضي الله عنهما أن المرأة لآخر أزواجها في الدنيا ، وجاء أنها تكون لأحسنهم خلقا : قال أبو بكر نب النجار : حدثنا جعفر بن محمد ، حدثنا عبيد بن إسحاق العطار ، حدثنا سفيان بن هارون ، عن حميد ، عن أنس : " أن أم حبيبة رضي الله تعالى عنها قالت : يا رسول الله المرأة يكون لها الزوجان في الدنيا فلأيهما تكون ؟ قال : لأحسنهما خلقا كان معها في الدنيا ، ثم قال : يا أم حبيبة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة " . وروي عن أم سلمة رضي الله عنها نحو هذا انتهى . وعلى الثاني السيد معين الدين الصفوي في تفسيره جامع البيان فقال : ومن لها أزواج تخير فتختار أحسنهم خلقا ولم يعرف أن هذا كلامه أو بقية الحديث المتقدم ؟ .
فأجاب بقوله : روى الطبراني عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المرأة لزوجها الآخر " . وأخرج عبد بن حميد وسمويه والطبراني والخرائطي في مكارم الأخلاق ، وابن لال عن أنس رضي الله تعالى عنه " أن أم حبيبة قالت : يا رسول الله المرأة يكون لها في الدنيا زوجان لأيهما تكون في الجنة ؟ قال : تحير فتختار أحسنهم خلقا كان معها في الدنيا فيكون زوجها ، يا أم حبيبة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة " ، وأخرج الطبراني والخطيب عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : " يا ام سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقا ، فتقول : يا رب هذا كان أحسنهم خلقا في دار الدنيا فزوجنيه ، يا ام سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة " .
(1/101)
<49>فإن قلت : هذان الحديثان عن أم حبيبة وأم سلمة يخالفان حديث أبي الدرداء رضي الله عنهم .
قلت : لا مخالفة لإمكان الجمع بينهما بأن يحمل الأول على من ماتت في عصمة زوج وقد كانت تزوجت قبله بأزواج فهذه لآخرهم ، وكذا لو مات واستمرت بال زوج إلى أن ماتت فتكون لآخرهم لأن علقته بها لم يقطعها شيء ، وحمل الثاني على من تزوجت بأزواج ثم طلقوها كلهم فحينئذ تخير بينهم يوم القيامة فتختار أحسنهم خلقا والتخيير هنا واضح لانقطاع عصمة كل منهم ، فلم يكن لأحد منهم مرجح لاستوائهم لوقوع علقة لكل منهم بها مع انقطاعها فاتجه التخيير حينئذ لعدم المرجح ، وبما سقته من حديث أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما يعلم أن التخيير مذكور في الحديث وأنه ليس من كلام السيد المذكور في السؤال ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب كذا وجد للمؤلف .
وسئل رضي الله عنه : عمن تزوجت أزواجا لمن تكون له منهم في الآخرة ؟.
أجاب بقوله : أخرج الطبراني عن أم سلمة رضي الله عنها في صفة أهل الجنة حديثا طويلا وفيه : " قلت يا رسول الله المرأة تتزوج الزوجين والثلاثة والأربعة في الدنيا ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها من يكون زوجها منهم ؟ قال صلى الله عليه وسلم : إنها تخير فتختار أحسنهم خلقا فتقول يا رب : عن هذا كان أحسنهم خلقا في الدنيا فزوجنيه ، يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة " . وأخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق والبزار والطبراني عن أنس أن أم حبيبة رضي الله عنها قالت : " يا رسول الله المرأة يكون لها الزوجان في الدنيا تموت ويموتان فيجتمعون في الجنة لأيهما تكون ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : لأحسنهما خلقا كان عندها في الدنيا ، ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة " . ولا يعارض ذلك ما أخرجه ابن سعد عن أبي الدرداء رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " المرأة لآخر أزواجها في الآخرة " . لإمكان الجمع بأن الأول فيمن طلقوها ولم تمت في عصمة أحد منهم ، والثاني فيمن ماتت في عصمته أو مات عنها ولم تتزوج بعده ، ثم رأيت ما يؤيده وهو ما أخرجه ابن سعد في طبقاته عن أسماء بنت أبي بكر كانت تحت الزبير بن العوام وكان شديدا عليها فأتت أباها فشكت ذلك إليه ، فقال يا بنية اصبري فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح ثم مات عنها ولم تتزوج بعده جمع بينهما في الجنة ، ولا ينافيه ما أخرجه ابن وهب عن أبي بكر رضي الله عنه أيضا قال : بلغني أن الرجل إذا ابتكر المرأة تزوجها في الآخرة لإمكان حمله على ما إذا ماتت معه أو مات ولم تتزوج بعده ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/102)
مطلب هل أحد يدخل الجنة بلحيته ؟
وسئل رضي الله عنه : هل أحد يدخل الجنة بلحيته ؟
فأجاب بقوله : نعم موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام كما في حديث التذكرة . (1/103)
مطلب هل يتعارف أهل الجنة ويتزاورون ويتذاكرون ما كانوا عليه في الدنيا ؟
وسئل فسح الله في مدته : هل يتعارف أهل الجنة ويتزاورون ويتذاكرون ما كانوا عليه في الدنيا ؟
فأجاب بقوله : في ترغيب المنذري أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دخل أهل الجنة الجنة فيشتاق الإخوان بعضهم إلى بعض فيسير سرير هذا إلى سرير هذا حتى يجتمعا جميعا فيبكي(1/104)
<50>هذا ويبكي هذا ، فيقول أحدهما لصاجبه : تعلم متى غفر الله لنا ؟ فيقول صاحبه نعم ، يوم كذا في موضع كذا وكذا وكذا فدعونا الله فغفر لنا " . (1/105)
مطلب هل التعبدي أفضل أم معقول المعني ؟
وسئل رضي الله عنه : هل التعبدي أفضل أم معقول المعني ؟
فأجاب بقوله : قضية كلام العز بن عبد السلام أن التعبدي أفضل لانه لمحض الانقياد بخلاف ما ظهرت علته فإن ملابسه قد يفعله لأجل تحصيل مصلحته وفائدته وخالفه البلقيني فقال : لا شك أن معقول المعنى من حيث الجملة أفضل لأن أكثر الشريعة كذلك وبالنظر للجزئيات قد بكون التعبدي أفضل كالوضوء وغسا النجاسة فإن الوضوء أفضل وإن كان تعبديا ، وقد يكون معقول المعنى أفضل كالطواف والرمي فإن الطواف أفضل من الرمي وذلك باعتبار الأدلة والمتعلقات فال يطلق القول بأفضلية أحدهماعلى الآهر انتهى ، وكون الوضوء تعبديا رأي للإمام والأوجة خلافه وكون الطواف معقولا دون الرمي فيه نظر بل إما أن يقال : غنهما معقولا المعنى كما بينته في حاشية الإيضاح ، أو تعبديان كما ذكره بعضهم ، وقد يقال : كلام العز نب عبد السلام لا ينافي التفصيل الذي ذكره ؛ لأنه ذكر حيثية التفضيل فلا يبعد أن يكون التعبدي أفضل من تلك الحيثية وإن كان معقول المعنى أفضل من حيثية أخرى ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب . (1/106)
مطلب ما يعتقد في ابن عربي وابن الفارض
وسئل : في التصوف ما ملخص ما يقولونه في ابن عربي وابن الفارض وطائفتهما هل هم محقون أم مبطلون وما الدليل على ذلك ؟ أوضحوا لنا الجواب وأبسطوه بسطا شافيا ؟ .
فأجاب : ملخص ما نعتقده في ابن عربي وابن الفارض وتابعيهما بحق الجارين على طريقتهما من غاية اتقان علوم المعاملات والمكاشفات ، ومن غاية الزهذ والورع والتجرد والانقطاع إلى الله في الخلوات ، والدأب على العبادات ونسيان الخلق جملة واحدة ، ومعاملة الحق ومراقبته في كل نفس كما تواتر كل ذلك عن هذين الرجلين العظيمين أنهم طائفة أخيار أولياء أبرار بل مقربون ومن رق السوي أحرار لا مرية في ذلك ولا شك إلا عند من لا بصيرة له ، وكفاك حجة على ولايتهما تصريح كثيرين من الأكابر بها وبأنهما من الأخيار المقربين كالشيخ العارف الإمام الفقيه المحدث المتقن عبد الله اليافعي نزيل مكة المشرفة وعالمها ، ومن ثم قال الأسنوي في ترجمته : فاضل الأباطح وعالمها ، وقال الحمد لله الذين ابتدأ كتبنا بالشافعي وختمها باليافعي ، وكالشيخ افمام المجمع على جلالته وعلمه بمذهب مالك وغيره ، وعلى معرفته التاج ابن عطاء الله وناهيك بحكمه وتنويره دليل على ذلك حتى قالوا : كادت الحكم أن تكون قرآنا يتلى ، والشيخ افمام العلامة المحقق الشافعي الأصولي التاج السبكي ، وكشيخنا خاتمة المتأخرين وواسطة جمع المحققين زكريا الأنصاري والشيخ العلامة البرهان ابن أبي شريف ، وناهيك أيضا بهذين العالمين .
وقد حكى بعض الثقات الأثبات من الفقهاء أنه قال : جاورت بمكة وكان لي فيها صديق من أولياء الله فسألته أن يرني القطب ، فمكث مدة ثم قال لي : إذا رأيته لا تكلمه ، فمكثت مدة ثم رأيته فقبلت يده وجلست ساكنا ، ثم التفت القطب وقال : صاحب مصر رجل منكم معشر الفقهاء ، فخطر لي أن أسأله عنه فلم يمكني ذلك ، ثم بعد مدة اجتمعت به وكان عندي أني إذا اجتمعت به أسأله عن تعين ذلك الرجل ،(1/107)
<51>فالتفت إلى وقال : صاحب مصر الآن الشيخ برهان الدين بن أبي شريف ، ثم يكون بعده الشيخ زكريا ، فتأمل هذه الشهادة من القطب لهذيسن الإمامين ولقد كانا زينة مصر بل زينة الدنيا كلها ، فإنهما كانا لا يخافان في الله لومة لائم حتى أن الشيخ زكريا يسب السلطان قايتباي صريحا على المنبر وهو جالس يسمع خطبته وهو يومئذ قاضي القضاة بالديار المصرية وكان لا يهابه ولا يعبأ به ، وكيف لا وقد مد عليه نظر السادة الصوفية ورضع من ألبان معارفهم ودخل تحت لواء إشارتهم ، وتزيا معهم حتى إجتلى وتوقد وتفرد وانكشفت له حقيقة المعارف ، وكان يحكي عن شيخه البلقيني أنه كان يجتمع بالخضر كثيرا وبلغني عنه أنه في أيام خلواته بسطح الجامع الأزهر جاء ممن يعرفه وقد أصاب عينيه رمد حتى أيس منهما الكاحلون فشكا إليه ذلك فتوجه لله في أمرهما فلم يجيئ اليوم الثاني إلا وقد زال عنه جميع ما يجده وصلر بصره الذي كان أيس منه أحسن ما كان ، ولقد آذاه بعض تلامذته وكان أعطي منا1ب عظيمة في الدولة الرومية بحيث كانت في الدولة التركية لا يعطى كل واحد منها إلا لمن هو دون السلطان بدرجة أو درجتين فدعا الشيخ عليه فلم يمضي عليه إلا زمن فليل وقد سلب الله عنه حميع ما كان فيه وخرج من مصر هاربا إلى اسلامبول فصلر فيها بأرث هيئة وأسفلها كل ذلك ببركة الشيخ ، وواقعة البرهاني بن أبي شريف مع السلطان الغوري مشهورة حيث عانده وأفتى بخلاف ما لا غرض له فيه وهو قبول رجوع رجل أقر بالزنا زكان للسلطان غرض في قتله ، فأرسل يستفتي من الشيخ لنفسه بذاك موافقة لما أدخله بعض الممقوتين من الفقهاء في ذهنه من أن الشرع عدم قبول إقراره فأفتاه بخلافه فعقد لعلماء مصر مجلسا في قلعته فكامهم فلم يعلنوا بالحق كما أعلن به الشيخ برهان الدين بن شريف ، وشد عضده شيخنا زكريا نصر ما قاله وأعلن به وبأنه على الحق ، فغضب السلطان من ذلك ومن إفتائه بموافقة ذلك ، وقال في فتواه : لا يجوز قتله ومن قتله قتل به ، فغضب الغوري غضبا شديدا حتى أرسل للرجل المقر والمرأة المزني بها فصلبا على باب بيت الشيخ ، فسد الشيخ ذلك الباب وصلر يخرج من باب آخر كان له ولم يعبأ بذلك ولا تأثر به مع أنه إنما ظن أولا أنه هو المأمور بصلبه فاستعد لذلك بالطهارة وغيرها وسلم لله ولم يظهر عليه ما يخالف التسليم ومن ثم روى الشافعيرضي الله عنه وهو يقرر قوله :
إن كان عندي موضع لسواكم أعددته يوما فلا ألقاه
وهو يقول : جئنا لنسلم على إبراهيم ، ورؤي تلك الليلة أيضا وهو يقول قد قلعنا الغوري بعروقه من هذه المملكة وكان كذلك فإنه لم يمكث بعد ذلك إلا مدة قليلة وخرج على وجهه في عساكره وأجناده إلى حلب ثم إلى محل يسمى مرج دابغ ، فبينما هو سائر فالتقى بالسلظان سليم بن عثمان فأخذل الله الغوري وجنوده وانهزموا وتبددوا ولم يقدروا على الحرب ساعة واحدة ، وفقد الغوري وما يدري ما فعل الله به ، فيكفيك ما فاله هؤلاء الأئمة العارفون بالله العالمون الفقهاء الأولياء ، وما صرحوا به من أن كلا الإمامين المذكورين وطائفتهما . أي التابعين لهما بحق كما قدمته أولياء أخيار أتقياء أبرار ، فكيف يمتري غافل أو متدين بعد ما صرح به أئمة الدين الذين أماطوا عن وجهه شبة المبطلين وأبطلوا حجج المتمردين مما ذكر في ولاية هؤلاء الأئمة المذكورين . ويا عجبا كيف نأخذ بقولهم في الأحكام ونعمل بها فيما بيننا وبين الله ونعتمد عليها في التحريم والتحليل وقتل الأنفس وقطع الأيدي وغير ذلك من العظائم ، ولا نأخذ بقولهم في أئمة مسلمين تضلعوا في الكتاب والسنة وضموا إلى ذلك الفروع الاجتهادية وما يلائم ذلك من العلوم الأدبية والعربية ، ثم بعد إتقان ذلك كله اشتغلوا بصفاء قلوبهم حتى أشرقت وتنورت وصارت شفافة تحكي ما قابلته ، فكوشفوا(1/108)
<52>بإبرا العلوم وأحكامها الباطلة بل وبحكم الموجودات كالعبادات وغيرها فدونوها لأن ينتفع بها من سلك طريقهم ، وليعلم بها المحق من غيره ، وأن المحق ينطق عن وجود بما يضاهيها فلا يتقيد بها ، وأما المبطل فليس له منها إلا مجرد الحفظ باللسان ، ولو طلب منه تجقيقها فضلا عن إبداء ما ماثلخا لعجز عن ذلك .
ومما يدل على إتقانهم لتلك العلوم المذكورة ما حكاه الذهبي وكان من المنكرين على الشيخ محي الدين بن عربي : أن سلطان الغرب أمر أن لا يقيم ببلاده إلا رجل يبلغ درجة الاجتهاد بحيث لا يتقيد بمذهب أحد فأجمع رأي علماء بلاده على ستة منهم ، وكان من الستة الشيخ محيي الدين . وما قاله البقاعي ، وكان من المنكرين أو أكبرهم في كتاب الشيخ محي الدين صنفه في أسرار المعاملات هذا أجل من تصنيف لزالي ، فتأمل كيف هذا الرحل بهذه المرتبة العطيمة العديمة النظير ويظن بها سفاسف الرذائل التي لا يرضى بها أقل متدين ليس ذلك إلا محض تعصب وسعيا في تبوإ مفاوز المقت أعاذنا الله من ذلك . (1/109)
مطلب على أن من أنكر على الصوفية لا ينفع الله بعلمه
ولقد أخبرني شيخنل العارف العلامة أبو الحسن البكري ، عن الشخ العلامة جمال الدين الصابي من صرح لفظه وكان من أجل تلامذة شيخنا زكريا السابق أنه كان ينكر على الشرف بن الفارض فرأى القيامة قد قامت وعلى كتفه خرج وهو به في غاية التعب ، ثم سمع قائلا يقول : أين جماعة ابن الفارض ؟ قال : فتقدمت لأدخل معهم فقيل لي : لست منهم فارجع ، فانتبهت وأنا في غاية الخوف والأسف والحزن فتبت إلى الله من الإنكار على ابن الفارض ، وخلصت عقدي مع الله واعتقدت فيه أنه من أولياء الله تعالى ، فنمت في مثل تلك الليلة من السنة الثانية فرأيت ذلك المنام بعينه ، ثم سمعت القائل يقول : أين جماعة ابن الفارض يدخلون الجنة ؟ فتقدمت معهم فقيل لي : ادخل الآن أنت منهم ، فانظر هذه القضية من رجل فقيه ، والظاهر والله أعلم أنه إنما أري ذلك حتى رجع ببركة شيخه زكريا وإلا فكم من منكر عليهم تركوه وعماه حتى باء بالخسارة والبوار ؟ .
فإن قلت : قد أنكر عليهم أئمة أجلاء أيضا كالبلقيني وغيره وآخرهم البقاعي وتلامذته وبعضهم ممن أخذت عنه ، فلم رجحت تلك الطريقة دون هذه الطريقة ؟ .
قلت : إنمنا رجحتها لأمور :
منها : ما ذكره شيخنا في الروض نقلا عن السعد التفتازاني مححق الإسلام وفارس ميدانه ومميط حجة الظلام وكشاف شبهة عن علياء ضيائه والذي ذكره فيه ظاهر فاطلبه منه ، وحاصله ردا على ابن المقري حيث قال : من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر أن الحق أنهم أخيار أئمة ، وأن اليافعي وابن عطاء الله وغيرهما صرحوا بولاية ابن عربي وأن اللفظ المصطلح عليه حقيقة عند أهله فيما اصطلحوا عليه ، وأن العارف إذا استغرق في بحار التوحيد ربما صدرت عنه عبارات توهم الحلول والاتحاد ولا حلول ولا اتحاد .
ومنها : ما صرح به أئمتنا كالرافعي في العزيز والنووي في الروضة والمجموع وغيرهما من أن المفت إذا سئل عن لفظ يحتمل الكفر وغيره لا يقول هو مهدر الدم أو مباحة أو يقتل أو نحو ذلك بل يقول : يسئل عن مراده فإن فسره بشيء عمل به فانظر وفقك الله إلى هذه العبارات تجد المنكرين الذين يتهجمون على هذا الرجل(1/110)
<53>العظيم ويجزمون بكفره قد قد ارتكبوا متن عمياء وخبطوا خبط عشواء وإن الله أعمى بصائرهم وأصم آذانهم عن ذلك حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكان سببا لمقتهم وعدم الانتفاع بعلمهم .
ومنها : أن علمهم وزهدهم ورفضهم الدنيا والسوى جملة واحدة قاض بنزاهتهم عن هذه المقالات الشنيعة فترجح بذلك عدم الإنكار عليهم لأن عباراتهم حقيقة فيما اصطلحوا فيه فلا يجوز الإنكار عليهم إلا بعد معرفة مدلول كلامهم ثم معرفة اصطلاحهم ثم يطبق ذلك الاصطلاح على ذلك المدلول وينظر هل يطابقه أم لا ، ونحمد الله ، النكرون عليهم كلهم جاهلون بذلك إذ ليس منهم أحد أتقن علوم المكاشفات بل ولا شم لها رائحة ، ولا أحد منهم ملك زمامه لأحد منهم حتى احاط باصطلاحاتهم .
فإن قلت : لا أسلم أن اللفظ حقيقة لا مجاز فيما اصطلح عليه ، فعين لي ما هو أوضح من ذلك ؟ .
قلت : إنكار ذلك عناد ، على تقدير عدم تسليم ما ذكرنا فالصواب للمعترض أن يقول في عبارته : هذه العبارة تحتمل وجوها ويبينها ، ثم يقول : إن أراد كذا فكذا أو كذا فكذا ، ولا يقول من أول وهلة : هذا كفر هذا جهل وخروج عن دائرة النصيحة التي يزعم أنه أرادها ، ألا ترى أن ابن المقري لو كان غرضه النصيحة لما كان يبالغ ويقول : من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر، فانتقل من الحكم عليهم بالكفر إلى الحكم على من لم يتيقن كفرهم ، فانظر على هذا التعصب الذي بلغ الغاية وفارق به إجماع الأئمة ، وانتقل به إلى كفر غير المتيقن كفرهم {سبحانك هذا بهتان عظيم * إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم} وانظر أيضا إلى ما أفهمته عبارته من أنه يجب على على الكافة اعتقاد كفرهم وإلا كفروا ، وهذا لا قائل به ، بل ربما يترتب عليه محذور صرح به هو قبل في روضه تبعا لأصله حيث قال : من كفر مسلما لذنبه بلا تأويل كفر ، وهذا قد كفر مسلمين ، ولا عبرة بما يؤوله لأن ما يقوله من التأويل إنما يقبل في حق من أنكر عليهم لأن كلماتهم قد توهم ذلك في اعتقاده ، وأما من لم ير كلامهم إلا نورا بين يديه واعتقد في ولايتهم فكيف يتهاجم مسلم على تكفيره لا يتهاجم على ذلك إلا من رضي لنفسه بالكفر على احتمال ، وشاع وذاع أن من أنكر على هذه الطائفة لا ينفع الله بعلمه ، ويبتلى بأفحش الأمراض وأقبحها ، ولقد جربنا ذلك في كثير من المنكرين حتى أن البقاعي غفر الله له كان من أكابر أهل العلم ، وكان له عبادات كثيرة وذكاء مفرط ، وحفظ بارع في سائر العلوم لا سيما علم التفسير والحديث ، ولقد صنف كتبا كثيرة أبى الله أن ينفع أحدا منها بشيء ، وله كتاب في مناسبات القرآن نحوا من عشرة أجزاء لا يعرفه إلا الخوض بالسماع ، وأما غيرهم فلا يعرفونه أصلا ، ولو كان هذا الكتاب لشيخنا زكريا أو غيره ممن يعتقد لكان يكتب بالذهب لأنه في الحقيقة لم يوضع مثله لكن {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محذورا} ولقد بالغ البقاعي في الإنكار وصنف فيه مصنفات كلها صريحة في غاية التعصب والميل عن سبيل الاستقامة ، ومن ثم إزهاق روحه لولا استعان ببعض الأكابر حتى خلصه من تلك الورطة واستتيب بالصالحية بمصر وجدد إسلامه ، ولقد قيل له آخر مرة : ما الذي تنتقد على الشيخ محيي الدين ؟ قال : أنتقد عليه مواضع في فتوحاته خمسة عشر موضعا أو أدون ، فانظر إلى هذا الذي يخالف ما في مصنفاته من ذكر مواضع كثيرة من الفتوحات وغيرها والتصريح بأنها كفر وهل هذا إلا لمزيد التعصب ، ولقد كان له تلامذة أكابر أخذوا بقوله وما يعتقده(1/111)
<54>وبعضم من مشايخي ، ولكن لم يظهر لهم علم لأن بعضهم لم يتيسر له التصنيف ، وبعضهم صنف في فن الفقه تصانيف تضاهي تصانيف السعد التفتازاني وغيره من بلاغتها وحسن سبكها وجودة تراكيبها ، لكن لم يعبأ أحد بها ولم يلتفت إليها بل الناس في غاية الإعراض ، ولفد وقع لي مع هذا الرجل أني كنت أقرأ عليه فاعتراه ضيق نفس وكنت لا أعلم إنكاره على هذه الطائفة فوقع في بعض المجالس ذكر الشيخ عمر بن الفارضقدس الله سره فقيل له : ما تقول فيه ؟ فقال : شاعر مفلق فقيل له : فماذا بعد ذلك ؟ قال : كافر ، فأخذني من ذلك المقيم المقعد ثم عدت إليه لأقرأ وتوسمت توبته فرأيته مريضا بضيق النفس مرضا شديدا بحيث صار مشرفا على زهوق نفسه ، قلت له : إن اعتقدت في ابن الفارض ضمنت له أن الله يشفيك من هذا المرض ، فقال لي : هذا له معي مدة من السنين ، فقلت : وإن كان قال أفعل فخخف عنه ثم خف عنه ، فمشيت معه يوما لأحسن عقيدنه ، فقال لي : أما ذات الرجل فلا أحكم عليها بكفر ، وأما كلامه ففيه ما هو كفر ، فقلت : ظلم دون ظلم ، ثم تركت القراءة عليه ، وصار هذا المرض ملازمة لكن بخفة نسبية ، ولقد كان بعض تلامذة البقاعي أيضا وهو الشيخ العلامة نور الدين المحلي يقول : أما ذا تالرجل فلا أحكم عليها بكفره وأما كلامه ففيه ما هو كفر .
فإن قلت : من المنكرين من نفع الله بعلمه ؟ .
قلت : المنكرين على قسمين :
قسم منهم لا يقصدون بإنكارهم محض النصيحة للمسلمين بل محض تعصب ، ورأوا ذلك وغلب عليهم نوع من الحسد وحب غبداء خلاف أهل العصر قصدا لتميزهم عليهم بالأشياء الغريبة والاشتهار عنهم أنهم ينكرون المنكر وال يخافون أحدا ، ونحو ذلك من الأغراض الفاسدة التي لم يصحبها نوع إخلاص . (1/112)
مطلب في قول الغرالي ليس في الإمكان أبدع مما كان
منهم الشيخ البقاعي وعلاء الدين البخاري ومن ضاهاهما ، ولقد أدى البقاعي تعصبه على أن أنكر على حجة الإسلام الغزالي قوله : ليس في الإمكان أبدع مما كان ، وشنع بما أوغر منه الصدور حتى دخل ليسلم على بعض أهل العلم فوجده في مكان خال فأخذ ذلك الرجل تاسومته وضرب بها البقاعي حتى أشرف على التلف ، وصار زهو يضربع يوبخه ويقول له : أنت المنكر على الغزالي أنت القائل في حقه كذا وكذا حتى جاء الناس وخلصوه منه ولم ينتطح فيها شاتان . وبعد ذلك قام عليه أهل عصره وعاندوه وصنفوا في الذب عن الغزالي والرد على البقاعي كتبا عديدة .
وحاصل الجواب عن كلام الغزالي المذكور : أن إرادة الله سبحانه وتعالى لما تعلقت بإيجاد هذا العالم وأوجده وقضى ببقاء بعضه إلى غاية وببقاء بعضه الآخر إلى غاية وهو الجنة والنار كان ذلك مانعا من تعلق القدرة الإلهيم بإعدام جميع هذا العالم ؛ لأن القدرة لا تتعلق إلا بالممكن وإعدام ذلك غير ممكن لا لذاته بل لما تعلق به مما ذكرناه ، ولما كان إعدامه محالا لما قلناه كان إيجاده الأول على غاية الحكمة والاتقان وكان أبدع ما يمكن أن يوجد لأنه لا يوجد غيره لما تقرر .
والقسم الثاني : قوم قصدوا بإنكارهم مخض النصيحة للمسلمين ، وذب هؤلاء الجهلة المتصوفة الذين يشتغلون بمطالعة كتب ابن عربي وأتباعه مع خلوهم عت العلوم الرسمية والأحوال الكشفية واتصافهم بالجهل(1/113)
<55>المحض ، ويتخذونها ديدنا حتى يفهموا منها غير المراد ، وهؤلاء الكفر أقرب إليهم من الإسلام ، ولقد شاهدنا منهم جماعة يأكلون في رمضان ويخنلون في نهاره بالمرد في الحمام ، ويفعلون ما هو أقبح من ذلك ، ويقولون : نحن لا نشه إلا الله ، وهذه التحليلات والتحريمات إنما يخاطب بها المحجوبون عن الله كهؤلاء الفقهاء المنكرين ، وقوما يستبيحون أكل أموال الناس ويقولون : الأشياء كلها مملوكه لله سبحانه وتعالى ونحن من عبيده ، وقوما تلهيهم مطالعة كتبه عن الجماعة وأداء الفرائض في أوقاتها وغير ذلك ، فهؤلاء لا يمترى في سفههم وجهلهم ويجب زجرهم عن مطالعة كتب الشيخ لا لنقص فيها بل لنقص في هؤلاء ولقد شافهني بعضهم بكثير مما قدمته ، وبعضم يقول : العالم قديم والكفار لا يعذبون في جهنم ، قلت : من أين لك هذا ؟ فقال : صرح به الشيخ محيي الدين بن عربي ، فانظر كيف فهم عبارة الشيخ على ظاهرها واعتفد ذلك ، وما درى الجاهل المغرور أن المراد بها غير ذلك كما صرح به الشيخ في بعض كتبه ، ولقد قال قدس الله سره ونور ضريحه : نحن قوم تحرم المطالعة في كتبنا إلا لعارف باصطلاحنا ، فانظر كيف هذا نص صريح من الشيخ بتحريم المطالعة على هؤلاء الجهلة المغرورين المستهزئين بالدين ، فالمنكرون إن قصدوا بالإنكار المبالغة في زجر مثل هؤلاء فلا حرج عليهم وهم في أمن من الشيخ وأتباعه لأنهم ساعون في غرض الشيخ من عدم مطالعة هؤلاء كتبه ، ولقد بلغني عن بعض المنكرين أنه قيل له : أترضى أن يكون خصمك يوم القيامة الشيخ محيي الدين بن عربي وهو من أولياء الله تعالى ؟ قال : نعم ؛ لأن الشيخ لو كان محقا فهو ينكشف له أن إنكاري إنما كان لله فيفرح بذلك ، وإن كان مبطلا فالغلبة لي فأنا آمن منه على كل تقدير ، فتأمل كيف أنصف هذا مع أنه منحط عن درجة الكمال على كل تقدير إذ التسليم أسلم ، لكن أهل هذا القسم أحسن حالا من أهل القسم الأول ، ومن انتشر علمه من المنكرين علمنا أنه لم يكن من القسم الأول بل من القسم الثاني ، ويا عجبا أيضا من المنكرين كيف يقرون الغزالي ويعرفون بحقيقة ما قاله من التعصب للحلاج مع أتها صرائح لا يحتمل كثير منها التأويل القريب ، ولا يؤولون كلام الشيخ محيي الدين بن عربي ليس ذلك إلا لما لي عليهم من مزيد التعصب ، نسأل الله السلامة منه وان يحشرنا تحت مواطئ هؤلاء الأئمة الأكابر الأخيار بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وشرف وكرم . (1/114)
مطلب عدد الذين آخى النبي صلى الله عليه وسلم ينهم ؟
وسئل رضي الله عنه : كم عدد الذين آخى النبي صلى الله عليه وسلم ينهم ؟
فأجاب بقوله : آخى بين سلمان وأبي الدرداء ، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع ذكره البخاري ، وبين طلحة بن عبيد الله وأبي عبيدة ذكره مسلم ، وفي السيرة قال ابن إسحاق : وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه المهاجرن والأنصار . قال : فيما بلغنا ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل " تآخوا في الله أخوين ثم أخوين أخذ بيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه فقال : هذا أخي " وكان حمزة وزيد بن حارثة أخوين ، وجعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أخوين . قال ابن هشام : وكان جعفر يومئذ غائبا بالحبشة . قال ابن إسحاق : وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه وخارجة بن زيد بن زهير أخوين ، وعمر وعتبان بن مالك وأبو عبيدة وسعد بن معاذ وعبد الرحمن وسعد بن الربيع والزبير وسلامة أخو بني عبد الأشهل ، ويقال بل الزبير وعبد الله بن مسعود وعثمان وأوس بن ثابت وطلحة وكعب بن مالك وسعيد(1/115)
<56>ابن زيد بن عمرو بن نفيل وأبي بن كعب ومصعب بن عمير وأبو أيوب وخالد بن زيد وأبو حذيفة وعباد بن بشر وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان ، ويقال : بل ثابت بن قيس بن شماس وأبو ذر والمنذر بن عمرو وحاطب بن أبي بلتعة وعويمر بن ساعدة وسلمان الفارسي وأبو الدرداؤ وعويمر بن ثعلبة وبلال مولى أبي بكر وأبو رويحة . قال ابن إسحاق : فهؤلاء ممن سمى لنا ممن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم من الصحابة . (1/116)
مطلب هل نفث الرجل على يديه ومسح وجهه بهما بعد الصلاة على النبي في بعض الأحيان بدعة أو لا
وسئل فسح الله في مدته : عن نفث الرجل على يديه ومسح وجهه بهما بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان بدعة أو لا ؟ .
فأجاب بقوله : النفث بعد الأدعية الواردة عند النوم سنة اتباعا له صلى الله عليه وسلم كما بين ذلك النووي رحمه الله في أذكاره وغيره، ومن المجمع عليه أن الصلاة علي صلى الله عليه وسلم قبل لدعاء وعقبه سنة ، وورد ما يدل على خصوص طلب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند النوم ، فإذا تقرر لك ذلك علمت أن النفث المذكور عقب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون سنة لكنه في الحقيقة ليس للصلاة وإنما هو للذكر المطلوب عند لنوم ، والدليل لذلك أن الذكر لو انفرد يسن النفث كما ذكر وإن انفردت الصلاة لم يسن النفث فهو ليس لها في الحقيقة ، ومن فعله عقب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وقد انفردت الصلاة أو في غير ذلك من المواضع التي لا يسن النفث فيها فقد ارتكب مالا يندب فينبغي له اجتنابه . (1/117)
مطلب في حكمة استعمال كرم الله وجهه في حق علي بن أبي طالب
وسئل رضي الله عنه :عن حكمة استعمال كرم الله وجهه في حق علي بن أبي طالب رضي الله عنه دون غيره عوضا عن الترضي ، وهل يستعمل ذلك لغيره من الصحابة ؟ .
فأجاب بقوله : حكمة ذلك أن علي كرم الله وجهه ورضي عنه لم يسجد لصنم قط فناسب أن يدعى له بما هو مطابق لحاله من تكرمة الوجه ، والمراد به حقيقته أو الكناية عن الذات أي حفظه عن أن يتوجه لغير الله تعالى في عبادته ، ويشلركه في ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكرم وجههفإنه لم يسجد لصنم أيضا كما حكى فناسب أن يدعي له بذلك أيضا ، وإنما كان استعمال ذلك في حق علي أكثر لأن عدم سجوده لصنم أمر محمع عليه لأنه أسلم وهو صبي مميز وصح إسلامه حينئذ على خلاف مذهبنا لأن الأحكام وقت إسلامه كانت منوطة بالتميز ، ثم بعد ذلك الأمر وأنيطت بالبلوغ كما بينه اليهقي وغيره .
فإن قلت : كثير من الصحبة رضي الله عنهم لم يوجد منهم سجود لصنم كالعبادلة : ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وغيرهم ومع ذلك لا يقول الناس فيهم ذلك بل الترضي كغيرهم .
قلت : هؤلاء ونظراؤهم إنما ولدوا بعد اضمحلال الشرك وخمود نار الضلال والفتنة فلم يشابهوا ذنيك الإمامين في تركهما أكبر فتن الشرك من السجود لصنم مع دعاية أهله الناس لذلك ومبالغتهم في إيذاء من ترك(1/118)
<57>ذلك ، وكان في الترك حينئذ مع مخالفة الآباء وتحمل المشاق التي لا تطلق من الدلالة على الصدق ما ليس فيه بعد ظهور الإسلام وزهوق الباطل ، فناسب حالهما أن يميزا عن بقية الصحابة هذه الخصوصية العظمى رضي الله تعالى عنهما وكرم وجههما . (1/119)
مطلب المراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن من إجلال الله الخ
وسئل نفع الله بعلومه : عت قوله صلى الله عليه وسلم : " إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم ، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه ، وإكرام السلطان المقسط " . هل المراد من قوله " غير الغالي فيه " أن يبذل جهده في قراءته من غير تدبر وتفكر . ومن قوله " ولا الجافي عنه " هو أن يترك قراءته وينشغل بتفسره وتأويله ، وأما في بعض حواشي المصابيح : أن الغالي الذي يجاوز الحد في قراءة القرآن لأن مما أمر الله به القصد في الأمور وخير الأمور أوساطها – وكل طرفي قصد الأمور زميم – انتهى . فإن قلتم بهذا المعنى فهل بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم :" لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار " الحديث : تناقض أو لا وعن قوله صلى الله عليه وسلم : " من مسح رأس يتيم كان له بكل شعره تمر عليها يده حسنات " هل المراد بالمسح حقيقته أو الكناية عن الشفقة عليه والتلطف به ؟ فإن قلتم كناية فما المراد من قوله : " كان له بكل شعرة تمر عليها يده حسنات " .
فأجاب بقوله : المراد بالغالي فيه المتجاوز لما فيه من الحدود والأحكام الاعتقادية والعملية والآداب والأخلاق الظاهرة والباطنة وغير ذلك من سائر الكمالات التي حث القرآن عليها ، فمن حفظ ألفاظه وتجاوز شيئا من هذه المذكورات كان غير مستحق للإكرام والتعظيم بحسب ما ارتكبه بمعنى أنه يؤاخذ ويذم عليه من حيث ارتكابه لذلك وإن كان يستحق الإكرام والتعظيم من جهات أخر لكونه مسلما أو حافظا للقرآن أو نحو ذلك ، فليس المراد نفي التعظيم له مطلقا بل بالاعتبار الذي ذكرته فتأمله .
والمراد بالجافي عنه من لا يخضع لما فيه من الآيات الباهرة والأدلة المتكاثرة ولا يتأمل ما اشتمل عليه نظمه من بدائع المعاني وإحكام المباني بل يمره بلسانه مع قساوة قلبه وجفاوة لبه فهو كحمار الرحى وثور الحراثة والاستقاء ، ولسنا متعبدين بمجرد حفظه وإنما المقصود الأعظم بإنزاله والتعبد بحفظ ألفاظه هو هداية القلوب ورجوعها بالاستكانة والخضوع إلى علام الغيوب وتنزهها عن كل خلق ميم وعمل رميم ، فمن ظفر بذلك مع حفظه فقد ظفر بالكنز الأعظم ، ومن ظفر بالأول فقط فهو آخذ من الكمال بما يستحق بسببه أن يكرم ويعظم ، ومن قنع بحفظ الألفاظ وخلا عن تلك المعاني بأن غلا أو تجافى فهو بعيد عن الكمال غير مستحق أن يبلغ به مبالغ الكمل من الرجال فهذا والله أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه وسلم هو المراد من هذا الحديث ، ويؤيد ما ذكرته حيث أحمد وابو يعلى والطبراني والبيهقي " اقرءوا القرآن واعملوا به ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به " .
وأما ما ذكره السائل من عنده فبعيد من اللفظ والمعنى ، وما نقله عن بعض حواشي المصابيح فهو كلام يجب الإعراض عن ظاهره لمنابذته للسنة الغراء ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : " أعبد الناس أكثرهم تلاوة للقرآن " رواه الديلمي وقال : " أفضل العبادة قراءة القرآن " رواه ابن قانع وقال : " أفضل عبادة أمتي تلاوة القرآن " روله البيهقي . وروى الطبراني في الأوسط أنه صلى الله عليه وسلم قال : " القرآن ألف ألف حرف وخمسة وعشرون ألف حرف ، فمن قرأه صابرا محتسبا كان له بكل حرف زوجه من الحور العين " . وروى(1/120)
<58>النحاس والسجزي والخطيب أنه صلى الله عليه وسلم : " اقرءوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه أما إني لا أقول الم حرف ولكن ألف عشر ولام عشر وميم عشر فتلك ثلاثون " رواه الترمذي والحاكم وغيرهما . وروى أبو دادو والترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " أحب العمل إلى الله الحال المرتحل الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره ومن آخره إلى أوله كلما حل ارتحل " . وفي حديث عند أحمد والطبراني :" اقرأ القرآن في ثلاث إن استطعت " . (1/121)
مطلب فيمن كان يختم القرآن في اليوم والليلة أكثر من مرة
ولمنابذة ذلك أيضا لما هو معروف من أحوال السلف رضوان الله عليهم ، فإن أكثرهم كانوا يختمون القرآن في كل سسبع ليال مرة ، وكان كثيرون يختمون في كل يوم وليلة ختمة ، وختم جماعة في كل يوم وليلة ختمتين وآخرون في كل يوم وليلة ثلاث ختمات ، وختم بعضهم في اليوم والليلة ثمان ختمات أربعا بالليل وأربعا بالنهار ، وقال النووي بعد ذكره لذلك : وممن ختم أربع ختمات في الليل وأربعا في النهار السيد الجليل ابن الكاتب الصوفي رضي الله عنه وهذا أكثر ما بلغنا في اليوم والليلة ، وروى السيد الجليل أحمد الدورقي بإسناده عن منصور بن زاذان بن عباد من التابعين رضي الله عنهم ، أنه كان يختم القرآن فيما بين الظهر والعصر ويختمه أيضا فيما بين المغرب والعشاء ؛ وروى ابن أبي داود بإسناده الصحيح : أن مجاهدا رحمه الله كان يختم القرآن في رمضان فيما بين المغرب والعشاء .
وأما الذين ختموا القرآن في ركعة فلا يحصون لكثرتهم فمنهم عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وتميم الداري وسعيد بن جبير رضي الله عنهما والمختار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص فمن كان لا يظهر له دقيق المعاني ولطائف المعارف إلا بالقدر اليسير اقتصر عليه ، وكذا من مشغولا بما هو أهم من الاستكثار كنشر العلم ومن ليس كذلك فليكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حذ الملل والهزرمة ، وقد كره جماعة من المتقدمين الختم في كل ليلة ويوم للخبر الصحيح : " لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث " .
هذا حاصل كلام النووي رحمه الله وهو يرد ما يوهمه ما ذكر من تلك الحواشي من ذم الإكثار والإفراط من القراءة مطلقا ، وليس كما زعم إن أراد ذلك ، وغنما الذم خاص بمن يحصل له ملل أو عدم تدبر أو هزرمة بخلاف من لا يحصل له شيء من ذلك ، ولا هو مشغول بالأهم فينبغي له أن يستفرغ وسعه ويبذل جهده في الإكثار من قراءة القرآن فإنه أفضل من سائر الأذكار ما عدا التي لها وقت أو حال مخصوص . (1/122)
مطلب كان الشافعي في غير رمضان يختم كل يوم وليلة ختمة وفي رمضان يختم كل يوم ختمة وكل للة ختمة
وقد كان الشافعي رضي الله عنه مع ما هو عليه من الاشتغال بتلك العلوم الباهرة والمعالي الظاهرة والكمالات المتكاثرة يختم في غير رمضان في كل يوم وليلة ختمة ، وفي رمضان ختمة في الليل وختمة في النهار ، وهذا مع ما كان به من الأمراض الكثيرة الخطرة حتى كان يقول رضي الله عنه وأرضاه فيما بين صدري وسرتي تسعة أمراض مخوفة كل منها لو انفرد كان قاتلا ، فتأمل سيرة السلف وما كانوا عليه وأعرض عن كلمات تصدر ممن لم يختبر أخبارهم ولا ذاق معارفهم ، وإنما يتكلم بحسب رأيه القاصر وفهمه الفاتر ظنا منه أن العلوم النقلية والمعارف والأحوال الذوقية تدرك بمجرد الحدس والفكر من غير الاقتداء بآثارهم والاهتداء بمنارهم حاشا وكلا لا يظفر(1/123)
<59>بشيء من معارفهم إلا من علم آثارهم واقتفى أخبارهم وامتلأ من السنة وعظمت عليه بواسطة استغراقه في معاليهم المنة حققالله لنا حسن الاقتداء بهم ولاتباع لآرائهم إنه جواد كريم رءوف رحيم .
والمراد من المسح في الحديث الثاني حقيقة ما بينه آخر الحديث وهو : " من يمح رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعره تمر عليها يده عشر حسنات ومن ألأحسن إلى يتيمة أو يتيم كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وقرن بين أصبعيه " . وخص الرأس بذلك لأن في المسح عليها تعظيما لصاحبه وشفقة عليه ومحبة له وجبرا لخاطره ، وهذه كلها مع اليتيم تقتضي هذا الثواب الجليل ، وأما جعل ذلك كناية عن الإحسان فهو غير محتاج إليه لأن ثواب الإحسلن الذي هو أعلى وأجل قد ذكره بعد ، وأين القرب منه صلى الله عليه وسلم في الجنة حتى يكونا كالأصبعين من إعطاء حسنات بعدد شعر الرأس ، فشتان ما بين إذ الأول أكمل وأعظم وعلى التنزل وأنه أريد بذلك الكناية المذكورة فيكون قوله " كان له " الخ كناية عن عظيم الجزاء ، وأنه لعظمته لو وجد في الخارج في الخارج لكان أكثر من عدد شعر الرأس بكثير ، فيكون التجوز والكناية في الطرفين طرف الفعل وطرف الجزاء عليه والكناية وإن كانت أبلغ من الخقيقة إلا أن محل الحمل عليها حيث لم يمنع منها مانع ، وقد علمت أن آخر الحديث يعين الحمل على الحقيقة لإفادته أن ما بعده يكون تأسيسا ، وهو خير من التأكيد اللازم للحمل على الكناية فافهم ذلك وتأمله . ثم رأيث أحاديث صريحة بأن المراد بالمسح حقيقته منها حديث عند الخطيب والن عساكر وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " امسح رأس اليتيم هكذا إلى مقدم رأسه ومن له أب هكذا على مؤخر رأسه " وروى البخاري في التاريخ أنه صلى الله عليه وسلم قال : " الصبي الذي له أب يمسح رأسه إلى الخلف ، واليتيم يمسح رأسه إلى قدام " وروى البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إن إردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين وامسخ رأس اليتيم " . (1/124)
مطلب هل خلقت الملائكة دفعة واحدة أم لا الخ ؟
وسئل نفع الله بعلومه : عن الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم هل خلقوا دفعة واحدة أو يخلقون تارات لما في الروايات " أن الله يخلق بكل قطرة ملكا " ؟ وهل يولد الشيطان ويموتون كبني آدم أو يولدون ولا يموتون إلى يوم القيامة ؟ وهل الأفضل في الذكر ذكر لا إله إلا الله أو ذكر الجلالة فقط ؟ وهل الأفضل في الذكر اللسان مع حضور القلب أو الذكر الخفي فما وجهه وهل المراد به ما هو بالنفس أو ما يشمله والملفوظ باللسان من غير إسماع نفسه ؟ وما معنى ما قيل تفكر ساعة خير من عبادة سنة هل المراد بالتفكر ذكر الله أو ذكر عظمته أو في استخراج العلوم أو المراقبة أو التفكر في المعاملة التي بين العبد وربه ؟ وهل تشمل العبادة التي ذكرت في مقابلة التفكر الأذكار والصلوات كالنوافل ، وحينئذ فما وجه تقضيا الفكر عليها مع ورود الأخبار فيها ؟ وهل رفع الصوت بقراءة الأوراد بعد الصلوات أولى من إسماع نفسه سواء السالكون وغيرهم كالجماعة المنسوبين إلى السيد علي الهمذاني فإنهم يقرءون أوراده جهرا كما هو معتاد المشايخ أو يفرق بين ما إذا كان هناك مصب أو نائم أو لا ؟ وهل يجوز أخذ اليد المعهودة بين الصوفية من مشايخ متعددة سواء مات الأول أو انتفع به أو لا ؟ وهل هي التوبة أو توبة مقرونة بالتحكيم ؟ وهل هما شيء واحد أو لا ؟ فأجاب نفع الله بعلومه وبركته بقوله : ظاهر السنة أن الملائكة لم يخلقوا دفعة واحدة فقد أخرج عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال : " قلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأشياء ؟ قال : يا جابر إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك محمد صلى الله(1/125)
<60>عليه وسلم من نوره فجعل ذلك النوريدور بالقدرة حيث شاء الله ، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا إنس ولا جن ، فلما أراد الله تعالى أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء : فخلق من الجزء الأول القلم ، ومن الثاني اللوح ، ومن الثالث العرش ، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء : فخلق من الأول حملة العرش ، ومن الثاني الكرسي ، ومن الثالث باقي الملائكة ، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء : فخلق من الأول السماوات ، ومن الثاني الأرضين ، ومن الثالث الجنة والنار ، ثم قسم الرابع أربعة : فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين ، ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله ، ومن الثالث نور أنسهم وهو التوحيد لا إله إلا الله محم رسول صلى الله عليه وسلم " . الحديث ، فتأمله تجده ظاهرا أو صريحا في خلق حملة العرش قبل خلق بقية الملائكة . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن أبي العالية قال : إن الله نعالى خلق الملأ الأعلى الملائكة يوم الأربعاء ، وخلق الجن يوم الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة . وأخرج أبو الشيخ أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله تعالى في الجنة نهرا يدخله جبريل فينفض قطرا فيخلق الله من كل قطرة تقطر منه ملكا " . وأخرج أيضا عن وهب بن منبه قال : إن لله نهرا في الهواء يسع الأرضين كلها سع مرات فينزل على ذلك النهر ملك من السماء فيملئه ويسد ما بين أطرافه ثم يغتسل منه فإذا خرج منه قطر منه قطرات من نور فيخلق الله من كل قطرة منها ملكا يسبح الله بجميع تسبيح الخلائق كلهم . وأخرج أيضا عن كعب قال : لا تقطر عين ملك منهم إلا كانت ملكا يطير من خشية الله . وأخرج أيضا عن العلاء بن هارون قال : لجبريل كل يوم انغماس في الكوثر ثم ينتفض فكل قطرة يخلق منها ملك . وأخرج أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال : " ليس من خلق الله أكثر من الملائكة ما من شيء ينبت إلا وملك موكل به " . وأخرج أيضا عن الحاكم قال : بلغني أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من ولد آدم وولد إبليس يحصون كل قطرة وأين تقع ومن يرزق ذلك النبات . (1/126)
مطلب الملائكة عشرة أجزاء
وأخرج ابن المنذر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الملائكة عشرة أجزاء : تسعة أجزاء الكروبيون الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون وقد وكلوا بخزانة كل شيء وما من السماء موضع إلا فيه ملك ساجد أو ملك راكع وإن الحرم بحيال العرش ؛ وإن البيت المعمور حيال الكعبة لو سقط لسقط عليها يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه " . (1/127)
مطلب أول من خلق الله أربعة من الملائكة جبريل الخ
وأخرج أبو الشيخ والبيهقي والخطيب وابن عساكر أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله ملائكة ترعد فرائصهم من مخافته ما منهم ملك تقطر من عينه دمعه إلا وقعت ملكا قائما يسبح ، وملائكة سجود منذ خلق الله السماوات والأرض لم يرفعوا رءوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة ، وملائكة ركوعا لم يرفعوا رءوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة وصفوفا لم ينصرفوا عن مصافهم ولا ينصرفون عنها إلى يوم القيامة فإذا كان يوم القيامة تجلى لهم ربهم عز وجل فينظرون إليه وقالوا : سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك " . وأخرج أبو الشيخ عن وهب قال : هؤلاء الأربعة أملاك جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت أول من خلقهم الله تعالى من الخلق وآخر من يميتهم وأول من يحيهم هؤلاء المدبرات أمرا والمقسمات أمرا . فهذه الأحاديث والآثار كلها ظاهرة أو صريحة في أن الملائكة لم يخلقوا دفعة بل دفعات . وهنا فوائد لا بأس بالإشارة لشيء منها(1/128)
<61>فمنها : أن في منهاج الحليمي وشعب البيهقي وابتهاج القونوي حكاية قول عن الملائكة من الجن وأنهم خيارهم لقوله تعالى {وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا} أي قالوا الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وقوله تعالى {خلق الإنسان من صلصال} الآية ، فلم يذكر قسما ثالثا ، ويرد بأن الملائكة قد يسمون جنة لاستتارهم ومما يصرح بتغايرهم قوله تعالى {إلا إبليس كان من الجن} ولم يذكر في آية الرحمن لأنها لبيان ما ركب من خلق متقدم ، والملائكة ليسوا كذلك لأنهم مخترعون قال الله تعالى لهم كونوا فكانوا كما قال للأصل الذي خلق منه الجن والأصل الذي خلق منه الإنس وهو التراب والماء والنار والهواء كن فكان فالملائكة في الاختراع كأصول الإنس والجن لا كأعيانهما ، فلذا لم يذكروا معهم . قال البيهقي : وأبين من هذا كله في أن الملائكة صنف غير صنف الجن حديث مسلم : " خلقت الملائكة من نور وخلقت الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم " . قال : ففي فصله بينهما في الذكر دليل على أنه أراد نورا آخر غير نور النار ، واستدل الثلاثة المذكورن على تباينهما بقوله تعالى {ويوم نحشرهم ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانو يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن} .
ومنها : قال : هؤلاء الثلاثة أيضا الملائكة يسمون الروحانيين بضم الراء وفتحها ، فالضم لأنهم أرواح ليس معها ماء ولا نار ولا تراب ، ومن قال هذا قال : الروح جوهر ، وقد يجوز أن يؤلف الله أرواحا فيجسمها ويخلق منها خلقا ناطقا عاقلا فتكون الروح مخترعا والتجسم وضم النطق والعقل إليه حادثا من بعد ، فيجوز أن تكون أجسادهم على ما هي عليه مخترعة كما اخترع عيسى وناقة صالح . وأما الفتح بمعنى أنهم ليسوا محصورين في الأبنية والظل وإنما هم في فسحة وبساطة .
ومنها : قال الحسن وجمهور الفلاسفة وكثير من الجبريين : هم مجبورون على الإيمان ولا يتصور منهم كفر ، وقال عامة أهل السنة والجماعة : إنهم مختارون عارفون قال تعالى {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم} فلو لم تتصور منهم المخالفة لم يؤاخذوا بذلك .
ومنها : أجمع المسلمون أنهم مؤمنون فضلاء ، واتفق أئمة المسلمين أن الرسل منهم إلى الأنبياء معصومون كالأنبياء ، والأصح بل الصواب عصمة بقيتتهم . (1/129)
مطلب قصة هاروت وماروت
وأما ما وقع لهاروت وماروت كما صح عنه صلى الله عليه وسلم في شأنهما أنها كانا من الملائكة وأنهما افتتنا بالزهرة وكانت أجمل نساء زمانها حتى زنيا بها وشربا الخمر وقتلا فمسخت كوكبا لأنهما علاماها الاسم الأعظم الذي كانا يرقيان به على السماء فرقيت إليها فمسخت هذا الكوكب المضئ المعروف بذلك أمر خارق للعادة أوجده الله تعالى تأديبا للملائكة في قولهم كما صح في الحديث أيضا عند خلق آدم {أتجعل فيها من يفسد فيها} الآية ، فبين لهم تعالى أنه لو ركب فيهم ما ركب في الإنسان لأفسدو أيضال فتعجبوا فأمرهم أن يختاروا ثلاثة منهم ففعلوا فاستقال واحد منهم فأقيل ونزل هاروت وماروت فوقع لهما ما وقع تأديبا لبقية الملائكة وزجرا لهم عن أن يخوضوا فيما لا علم لهم به ، وهذا الذي ذكرته من الجواب عن هذه القصة من أنها أمر خارق للعادة ، وبهذه الحكمة التي ذكرتها يتبين به الرد على من أطال في إنكار قصتهما حتى بالغ بعضهم وقال : إن من اعتقد ذلك فيهما كفر ، وليس كما زعم لما علمت من صحة الأحاديث بها ، وأن ذلك الوقوع(1/130)
<62>لتلك الحكمة لا يخل بعصمة الملائكة من حيث هي ولا ينافيه شيء من الأدلة ولا من القواعد ، فاحفظ ما قررته وتأمله فإن الكلام قد كثر في هذا المحل ، وتعارضت فيه الآراء ولاظنون وما ذكرته فيه هو الأوفق بالسنة وغير مناف للقواعد ، وإن لم أر من سبقني إليه ، وقيل : لم يكونا ملكين بل هما جنيان وإن كانا بين الملائكة فإن صح هذا لم يحتج للجواب عن قصتهما كما أن إبليس لم يكن من الملائكة وإنما كان بينهم وهو من الجن .
ومنها : قال جماعة : من ينتقص ملكا أجمع على أنه من الملائكة أو تواتر به الخبر قتل ، كأن قال : هذا أقسى قلبا من مالك خازن النار ، أو أوحش من منكر ونكير إذا قاله في معرض النقص بالوحاشة والقساوة . (1/131)
مطلب أن النبي صلى الله عليه وسلم ايضا إلى الملائكة وأن الجماعة تحصل بهم كالآدميين
ومنها : قال جماعة : إن نبينا صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الملائكة أيضا ، وقد بسطت الكلام على ذلك وأنه الأصح في فتوى غير هذه .
ومنها : ما ذكره السبكي في حلبياته أن الجماعة تحصل بهم كالآدميين ونقله عن فتاوى الحناطي ، وبسطت الكلام فيه في شرح الإرشاد .
ومنها : قال ابن الصلاح في فتاويه : ورد أن الملائكة لم يعطوا فضيلة قراءة القرآن فهي حريصة لذلك على استماعه من الإنس ، وقد ذكرت ذلك بما فيه في شرح العباب في باب الأحداث . (1/132)
مطلب الجن تتشكل كالملائكة الخ
ومنها : سيأتي الكلام على تشكل الجني في الصور المختلفة ومثله الملك في ذلك ، وقال إمام الحرمين : مجئ جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في صفة رجل معناه أن الله تعالى أفنى الزائد من خلقه وأزاله عنه ثم يعيده إليه بعد . وقال ابن عبد السلام : إذا أتى في صورة دحية فأين روحه أفي هذا الجسد أم في الجسد الأصلي الذي له ستمائة جناح ، فإن كان في هذا فليس الآتي بروح جبريل ولا جسده ، وإن كان في الجسد الذي كدحية فهل مات جسده الأصلي كما تموت الأجساد بمفارقة الأرواح ؟ .
قلت : لا يبعد أن يكون انتقالها من الجسد الأصلي غير موجب لموته ؛ لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلا فيجوز بقاؤه حيا لا ينقص من أعماله شيء ، وانتقال روحه إلى الجسد الثاني كانتقال أرواح الشهداء إلى أجواف الطيور الخضر ، انتهى . وقال السراج البلقيني : يجوز أن يكون الآتي هو جبريل بشكله الأصلي إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل ثم يعود إلى هيئته كالقطن إذا جمع بعد أن كان منتقشا ، فإنه بالنفش تحصل له صورة كبيرة وذاته لم تتغير ، انتهى . وقال العلامة القونوي شارح الحاوي في تشكل جبريل رجلا : غي الممكن أن يخص الله بعض عباده في حياته بخاصة لنفسه الملكية القدسية وقوة لها بقدرتها على التصرف في بدنها الآخر غير بدنها المعهود مع استمرار تصرفها في الأول . وقيل : سميت الأبدال أبدالا لأنهم قد يرحلون لمكان ويخلفون في مكانهم الأول شبحا آخر شبيها بشبحهم الأصلي بدلا عنه ، وقد أثبتت الصوقية عالما متوسطا بين بين علمي الأجساد والأرواح سموه عالم المثال ، وقالوا هو ألطف من عالم الأجساد وأكثف من عالم الأرواح ، وبنوا على ذلك تجسد الأرواح وظهورها في صور مختلفة من عالم المثال ، وقد يستأنس لذلك بقوله تعالى {فتمثل لها بشرا سويا} فتكون الروح الواحدة(1/133)
<63>كروح جبريل مثلا في وقت واحد مدبرة لشبحه الأصلي ولهذا الشبح المثالي ، وينجلي بهذا ما قد اشتهر نقله عن بعض الأئمة أنه سأل بعض الأكابر عن جسم جبريل فقال : إن كان جسمه الأول الذي يسد الأفق بأجنحته لما ترآي للنبي صلى الله عليه وسلم فأين صورته الأصلية عند إتيانه إليه في صورة دحية وقد تكلف بعضهم الجواب عنه بأنه يجوز أن يقال : كان يندمج بعضه في بعض إلى أن يصغر حجمه فيصير بقدر صورة دحية ، ثم يعود وينبسط إلى أن يصير كهيئته الأولى ، وما ذكره الصوفية أحسن ، ويجوز أن يكون جسمه الأول بحاله لم يتغير وقد أقام الله له شبحا آخر وروحه متصرفه فيهما في وقت واحد انتهى . وقال بعضهم : إنما يأتي الغلط هنا من قياس الشاهد على الغائب فيعتقد أن الروح من جنس ما يعهد في الأجسام التي إذا شغلت مكانا لم يمكن أن تكون في غيره ، وهذا غلط محض ألا ترى أن الروح في الرفيق الأعلى وهي متصلة ببدن الميت بحيث إذا سلم عليه ردت السلام وهي مكانها هناك .
وقال التاج ابن عطاء : روي أن لله ملكا يملأ ثلث الكون ، وملكا يملأ ثلثي الكون ، وملكا يملأ الكون كله قال : فإذا كان هذا يملأ الكون فأين الملكان الآخران ؟ وجوابه : أن اللطائف لا تتزاحم كالكثائف ونظيره إذا دخل في البيت سراجا فإن نوره يملأ البيت فإذا دخل سراج ثان أو أكثر فإن الأنوار لا تتزاحم .
ومنها : قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره : اتفق على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون . وأما الجن فإنهم يأكلون ويشربون وينكحون ويتوالدون ، وظاهر قوله تعالى {لا يفترون} أنهم لا ينامون وهو منقول في كلام الفخر .
ومنها : قال بعض الحنفية : يحشر ملك الموت مع الناس ولا يخافون منه لأن الله تعالى أمنهم منه بقوله : {ادخلوها بسلام آمنين} أي من الموت والزوال ، وقوله {لا يذوقون فيها الموت} وبقية الملائكة يكونون في الجنة لكن بعضهم يطوفون حول العرش يسبحون بحمد ربهم ، وبعضهم يبلغون السلام من الله على المؤمنين كما قال تعالى {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم} الآية ، وقد ذكر جكع من الحنفية أنهم لا يرون ربهم والأرجح خلافه كما يأتي . (1/134)
مطلب الملك لا يتصف بذكورة ولا أنوثة
ومنها : أخرج جماعة عن أبي مجلز في قوله تعالى {وعلى الأعراف رجال} قال : من الملائكة . قيل : إنه تعالى قال {رجال} وأنت تقول : الملائكة ؟ قال : إنهم ذكور ليسوا بإناث ، ولما حكاه الحليمي استبعده لأن الرجال اسم لذكور العقلاء ، والملائكة لا ينقسمون إلى ذكور وإناث ، وبأن إخباره تعالى عنهم أنهم يطمعون أن يدخلوا الجنة فتعين أنهم ليسوا ملائكة إذ الملائكة ال يحجبون عنها ؛ لما في الحجب عنها من نوع تعذيب ولا عذاب يومئذ على ملك ، انتهى . وتبعه القونوي في اختصاره لمنهاجه قال : والجن كالإنس في السؤال والحساب ودخول الجنة والنار ، ويحتمل أن لا يتخالطا في الجنة لما بينهما من التضاد . وأما الملائكة فالأشبه أنهم لا يكتب لهم عمل ولا يحاسبون ؛ إذ لا سيئات فهم كبشر لا سيئات لهم . قيل : ولا يثابون لرفع التكليف عنهم ؛ لأنهم ليسوا من أهل المطاعم والمشارب والمناكح حتى يوردوا موارد بني آدم من الجنة ، ويحتمل أن لهم مع ذلك نعمة أخرى أعدت لهم ولا تبلغها عقولنا فإنه تعالى يقول : " اعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " قال : وأما طي السماء فيحتمل أن يطويها الملائكة إذا وهت(1/135)
<64>وانشق طيا شديد كما يطوى السجل المكتوب فيه الحكم المبرم مبالغة في صيانته عن أن ينشر ، ولذلك قال تعالى {بيمينه} لإشعار اليمين بالقوة فضرب مثلا بشدة الطي ، وكلما طويت سماء نزلت ملائكتها إلى الأرض ويراهم الناس حينئذ كما في سورة الفرقان . (1/136)
مطلب الملائكة الحفظة لا يفارقوننا إلا عند الخلاء الخ
ومنها أن الحفظة لا يفارقوننا إلاى عند الخلاء والجماع والغسل كما هو في الحديث وفي حديث آخر " أن مجلس الحافظين من غلإنسان أقصى أضراسه " وفي أخرى " أنقوا أفواهكم بالخلال فإنهم مجلس الملكين الكريممين الحافظين وإن مدادهم الريق وقلمهنا اللسان " ومن ثم قال لسان الإنسان قلم الملك وريقه مدانه " قيل : ولم يرد خبر ولا أثر على مذا يكتبون ، وإنما قدر منكر ونكير على مخاطبة الموتى المتعددين في لوقت الواحد والأماكن المتباعدة لعظم جثتهما فيتخيل لك أن المخاطب هو دون غيره ، واختار الحليمي تعدد ملائكة السؤال وتسميتهم بذلك ويرسل لكل واحد اثنان كما في كتابة الأعمال . (1/137)
مطال من رأى الملك منفردا به لابد أن يعمى إلا الأنبياء
ومنها : ذكر الغظالي وآخرون : أن رؤية الملائكة ممكنة الآن كرامة يكرم الله بها من أوليئه من شاء ووقع ذلك لجماعة من الصحابة ، ولما رأى بن عباس جبريل قال النبي صلى الله عليه وسلم "لن يراه خق إلا عمى إلا أن يكون نبيا ، ولكن يكون ذلك آخر عمرك " رواه الحاكم وكذا رأته عائشة رضي الله عنها وزيد بت أرقم وخلق لما جاء يسأل عن الإيمان ولم يعموا لأن الظاهر من رآه منفردا به كرامة له وبالنفخ في لبصور يموتون ألا حملة العرش وجبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت ثم يموتون أثر ذلك ، قال وهب : هؤلاء الأربعة أول من خلقهم الله من الخلق وآخر من يميتهم وأول من يحييهم . قال الجلال السيوطي شكر الله سعيه : ولم أقف على شيئ أن أرواحهم بعد الموت تكون في ماذا ، والظاهر أنهم يدخلون في الشفاعة العظمى لقوله صلى الله عليه وسلم " وأخرت الثالثة ليوم ترغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم " ويكونون مع بني آدم حين القيام لرب العالمين ، وورد أنهم في الموقف بالإنس والجن وجميع الخلائق . (1/138)
مطلب على أن الملائكة لا توزن أعمالهم وعلى أن أفضلهم اسرافيل على الأقرب وغير ذلك من الفوائد الغريبة
ومر عن الحليمي أنهم لا يحاسبون ولا يكتب لهم عمل وهو يقتضي أن أعمالهم لا توزن لأن الوزن فرع من الحساب ، وعن كتابة الأعمال فإن الصحف هي التي يوضع في الميزان ، ويشفعون في عصاة بني آدم كالعلماء والصلحاء قال تعالى {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ويراهم المؤمنون في الجنة وأفضلهم جبريل وإسرافيل ، وتعارضت الأحاديث في أفضلهما وأكثرها يدل على أفضلية إسرافيل ، وأطلق الفخر الرازي بأنهم رسل الله وأجاب عن قوله تعالى {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} بأنت من للتبين لا للتبعيض ، وفي كلام جماعة غيره : أن منهم رسلا وغيرهم وأعلاهم درجة حملة العرش فالحالفون حوله فأكابرهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل فملائكة الجنة والنار فالموكلون ببني آدم بأطراف هذا العالم كذا ذكره الفخر الرازي ،(1/139)
<65>ويرد تأخر جبريل (1) ومعه ناس على أنه صرح في تفسيره الكبير بأن جبريل وميكائيل وإسرافيل أشرف الملائكة ، وأن جبريل أفضل من ميكائيل اقوله تعالى {وجبريل وميكال} ولأنه مظهر الخيرات النفسية وهي أفضل من الخيرات الجسمانية لأن جبريل صاجب الوحي إلى الأنبياء بالعلم وميكائيل صاحب الأرزاق هذا ما يتعلق بالملائكة .
__________
(1) هكذا هو بالنسخ ولعل صوابه ومن معه ممن ذكر فليتأمل اهـ مصححه(1/140)
مطلب في كلام الجن
وأما ما يتعلق بالجن فلا بأس ببسط الكلام عنه فنقول : جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : " أن الله تعالى لنا خلق أبا الجن سموما من مارج من نار قال له تمن علي قال أتمنى أن نرى ولا نرى وأن نغيب في الثرى ويصير كهانا شابا فأعطي ذلك " فهم يرون ولا يرون وأذا ماتوا غيبوا في الثرى ولا يموت كهلهم حتى يصير شابا يعني مثل الصبي ثم يرد إلى أرذل العمر ، ودل القرآن والسنة على أن أصل لجن النار وإنما أحرقتهم الشهب مه ذلك لأن إضافتهم إلى النار كاضافة الإنسان إلى التراب والطين والفخار إذ المراد أصله الطين لا إأنه طين حقيقة وكذلك الجان كان نارا في الأصل لا أنه نار حقيقة للحديث الصحيح : " عرض لي الشيطان في صلاتي فخنقته فوجدت برد ريقه على يدي " وهو من نار محرقة كيف يحس برد ريقه إذ لا ريق له أصلا فضلا عن كونه باردا ، وقد شبههم النبي صلى الله عليه وسلم بالنبط فلولا أنهم على أشكال وصور ليست نارا لما ذكر الصور وترك الإلتهاب والشرر .وقال البقلاني : لسنا ننكر مع أن أصلهم النار أن الله تعالى يكثف أجسامهم ويغلظها ويخلق لهم أعراضا تزيد على ما في النار فيخرجون عن كونهم نارا ويخلق لهم صورا وأشكالا مختلفة . وقال القاضي وأبو يعلى الفراء : الجن أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة ويجوز كونها كثيفة ورقيقة خلافا لزعم المعتزلة رقتها ولذلك لا نراها . وقال الباقلاني : إنما رآهم من رآهم لأنهم أجساد مؤلفة وجثث ، وفي حديث عند مسلم : " خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم " . وأخرج أبي الدنيا والحكيم والتمذي وأبو الشيخ وابن مردويه أنه صلى الله عليه وسلم قال " خلق الله الجن ثلاثة أصناف : صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض ، وصنف كالريح في الهواء ، وصنف عليهم الحساب والعقاب " . قال السهلي لعل الصنف لثاني هو الذي لا يأكل ولا يشرب إن صح أن الجن لا تأكل ولا تشرب . وأخرج كثيرون أنه صلى الله عليه وسلم قال " الجن ثلاثة أصضناف : فصنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء ، وصنف حيات وكلاب ، وصنف يحلون وبظعنون " قال السهيلي : هذا الأخير هم السعالي ، قال القاضي وأبو يعلى : ولا طريق للشيطان على التنقل في الصور المختلفة وكذا الملائكة إلا بأن يعلمه الله قولا أو فعلا إذا أتى به نقله من صورة إلبى أخرى لأن تصويره بنفسه محال ، لأن انتقاله من صورة إلى أخرى إنما يكون بنقض لبنية وتفريق الأجزاء وإذا انتقضت بطلت الحياة واستحال وقوع الفعل من الجماد ، وكيف تنتقل بنفسها ، وعلى هذا يحمل أن إبليس تصور في صورة سراقة وجبريل تمثل في صورة دحية ، ولما ذكر عند عمر الغيلان قال : إن أحدا لا يستطيع أن يتغير عن صورته التي خلقه الله عليها ولكن لهم سحرة كسحرتكم فإذا رأيتم من ذلك شيئ فأذنوا . وفي حديث أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الغيلان فقال " هم سحرة الجن " قال القاضي أبو يعاى : الجن يأكلون ويشربون ويتناكحون كما يفعل الإنس .
(1/141)
<66>
وظاهر العموميات أن جميع الجن كذلك وهو رأي قوم ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : أكلهم وشربهم شم واسترواح لا مضغ وبلع وهذا لا دليل عليه . وقال أكثرهم : بل مضغ وبلع ، وذهب قوم إلى أن جميع الجن لا يأكلون ولا يشربون ، وهذا قول ساقط لا دليل عليه ، وذهب قوم إلى أن صنفا منهم يأكلون ويشربون وصنفا لا يأكلون ولا يشربون . وأخرج ابن جرير عن وهب أنه قال : إنهم أجناس فأما خالصهم فهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يموتون ولا يتوالدون ، ومنهم أجناس يأكلون ويشربون ويتناكحون ويموتون وهي هذه التي منها السعالي والغول واشباه ذلك . (1/142)
مطلب مؤمنو الجن طعامهم ما ذكر اسم الله عليه من اللحم وأما كفارهم فبالعكس من ذلك
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه : " أنه صلى الله عليه وسلم لم يصحبه أحد ليلة الجن ، وإنما افتقدوه ذات ليلة فباتو بشر ليلة ، فلما أصبحوا فإذا به هو يجئ من قبل حراء ، فذكروا له ما كانوا فيه فقال : أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن ، فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد فقال : لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه " وكانوا من جن الجزيرة . ولفظ الترمذي : " لم يذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علفا لدوابكم . قال صلى الله عليه وسلم : فلا تستنجوا بها فإنهما فإنهما طعام إخانكم من الجن " وجمع بين الروايتين بأن الأولى في حق المؤمنين والثانية في حق غيرهم . قال السهيلي : وهذا قول صحيح تعضده الأحاديث . وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه : " أن وفد جن نصيبين أتوه صلى الله عليه وسلم " أي ومرة أخرى لكن بالمدينة ، وسيأتي أنهم أتوه بمكة أيضا " فسألوه الزاد فدعا الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا روث إلا وجدوا عليه طعاما " . وأخرج أبو نعيم عن ابن مسعود رضي الله عنه " أنه صلى الله عليه وسلم خرج قبل الهجرة إلى نواحي مكة . قال : فخط لي خطا وقال : لا تحدثن شيئا حتى آتيك ، ثم قال : لا يريعنك أو لا يهولنك سيئ نزل ، فتقدم شيئا ثم جلس ، فإذا رجال سود كأنهم رجال الزط ، وكانوا كما قال الله تعالى {كادوا يكو نون عليه لبدا} ثم إنهم تفرقوا عنه فسمعتهم يقولون : يا رسول الله شقتنا بعيدة ونحن منطلقون فزودنا ؟ قال : لكم الرجيع " . (1/143)
مطلب لم يبعث إلى الجن نبي قبل نبينا قطعا
ولم يبعث لهم نبي قبل نبينا قطعا على ما قاله ابن حزم : أي وإنما كانوا متطوعين بالإيمان لموسى مثلا والدخول في شريعته . وقال لسبكى : لا شك أنهم مكلفون في الأمم الماضية كهذه الملة إما بسماعهم من الرسول أو من صلدق عنه ، وكونه إنسيا أو جنيا لا قاطع به ، وظاهر القرآن يشهد للضحاك والأكثرون على خلافه انتهى . ورسالة نبينا صلى الله عليه وسلم قطعية فقد أجمع عليها المسامون ، وقد استمعوا قراءة لنبي صلى الله عليه وسلم ببببطن نخلة وكانوا تسعة كما صح عنا بن مسعود رضي الله عنه آذنته بهم شجرة وكانوا يهودا " وجاء عن عكرمة إنهم كانوا اثنى عشر أي في واقعة أخرى لأنهم جاءوا إليه صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة مرات مختلفة .
(1/144)
<67>
(1/145)
مطلب في أن عمر بن عبد العزي كفن رجل من الجن
وأخرج البيهقي أن عمر بن عبد العزيز رأى حية ميتة وهو فاصد فحفر لها وكفنها في خرقة ودفنها ، فسمع قائلا يقول رحمك الله يا سرق وأشهد لسنعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " تموت يا سرق في فلاة من الأرض فيدفنك خير أمتي " . فقال له عمر من أنت رحمك الله ؟ قال أنا رجل من الجن وهذا سرق ولم يبق ممنبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجن غيري وغيره ، وأشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " توت يا سرق بفلاة فيدفنك خير أمتي " . وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فوجدوا حية قتيلة فكفنها بعضهم ببعض ردائه ودفنها ، فلما جاء الليل رأوا امرأتين تسألان عنه وأخبرتاهم أن فسقة الجن اقتلوا مع المؤمنين فقتلوه ، وأنه من النفر لذيت استمعوا لقرآن من الني صلى الله عليه وسلم ثم ولوا إلى قومهم منذرين . وأخرج ابن أبي الدنيا : أن جماعة من الصحابة رأوا حيتين إقتتلا فقتلت إحدهما الأخرى فعجبوا من طيب ريحها وحسنها فكفنها أحدهم ثم دفنها ، فسمعوا قوما يسلمون عليهم وأخبروهم أن المقتول ممن أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله كافر منهم . وجاء أن رجلا أخبر عثمان رضي الله عنه بنحو ذلك وأنه رأى حيات ما رأت عيناه مثلها كثيرة وأنه شم من أحدها ريح المسك فكفنها ودفنها ، فسمع من يخبره بأنها حيات من الجن اقتلواوأن هذا الذي دفنه ممن سمع الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم . (1/146)
مطلب أن أبا رجاء العطاردي كفن حية ودفنها الخ
وأخرج ابن أبي لدنيا وأبو نعيم عن أبي رجاء العطاردي : أنه ضرب في بعض أسفلره حيات على ماء فرأى حية تضطرب فصب غليها الماء فسكنت ثم ماتت فكفنها ودفنها ، فسار بقية يومه وليلته حتى أصبح ونزل على الماء فسمع أكثر من ألف يسلمون عليه ويدعون له ويثنون عليه بما صنع ، وأن ذلك آخر من بقى ممن بايع لني صلى الله عليه وسلم . وأخرج أحمد والداراوردي والحاكم والطبراني وابن مردويه عن صفوان ابن المعطل : أنهم خرجوا حجاجا فلما كانوا بالعرج رأوا حية تضطرب ثم ماتت فكفنها بعضهم ودفنها ، فلما وصلوا مكة سمعوا من يسأل عن دافنها ويثني عليه ، وأخبرهم أنه آخر التسعة الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمعون القرآن موتا . وقد مر أن الجن استمعوا منه صلى الله عليه وسلم مرات وفرقا متعددة ، فلا مانع من أن كل واحد ممن مر هو آخر من بايع من فرقته . ومما يؤيد التعدد خبر الشيخين : أنهم استمعوا إليه وهو بوادي نخلة يصلي بأصحابه الفجر . وصح عن ابن مسعود " أنه انطلق مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانا بأعلى مكة خط له خط برجله وأجلسه فيه ثم افتتح صلى الله عليه وسلم القرآن فغشيه أسودة كثيرة حالوا بينهما حتى لم يسمع صوته ثم تفرقوا عنه كقطع السحاب وفرغ صلى الله عليه وسلم مع الفجر " . وأخرج ابن جرير وأبو نعيم عنه " أنه صلى الله عليه وسلم خرج ليلا وهما بالمدينة وأخذه حتى انتهيا إلى البقيع فخط بعصا خطا ثم أجلسه فيه ، ثم انطلق يمشي حتى ثارت منه العجاجوالسوداء فحالت بينهما ، ثم سمعه يقرعهم بعصاه ويقول : اجلسوا حتى كاد ينشق عمود الصبح ، ثم جاء فسأله هل رأى من شيئ ، فأخبره أنه رأى رجالا سودا عليهم ثياب بيض فقال : أولئك جن نصيبين يسألوني الزاد فمتعتهم بكل عظم حاصل أو روثة أو بعرة . قلت : وما يغني عنهم ذلك ؟ قال : إنهم لا يجدوا عظما إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان(1/147)
<68>عليه يوم أكل ولا روثة إلا وجدوا عليها حبما الذي عليها يوم أكلت " وفي رواية " وما وجدوا من روث وجدوا ثمرا فلا يستنجي أحد منكم بعظم أو روث " وأخرج الطبراني عن الزبير " أنه صلى الله عليه وسلم انطلق ومعه الزبير إلى أن غابت عنهما جبال المدينة ، فإذا رجال طوال كأنهم الرماح ، فأرعد منهم حتى كاد يسقط ، فخط له صلى الله عليه وسلم خطا في الأرض بإبهام رجله وأجلسه وسطه ، ثم ذهب وتلا قرآنا وما نفروا حتى طلع الفجر " الحديث . وجاءت روايات أخرى عن ابن مسعود " أنه انطلق معه صلى الله عليه وسلم في وقائع أخرى منها أنهم اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم وقضى بينهم في قتيل تنازعوا فيه " . وأخرج أبو نعيم عن إبراهيم لنخعي " أن نفرا من أصحاب عبد الله خرجوا (1) للحج مع رسول الله فسألوه صلى الله عليه وسلم وقالوا : زودنا ؟ فقال : لكم الرجتع ، وما أتيتم من عظم فلكم ما عليه من لحم ، وما أتيتم عليه من روث فهو لكم ثمر ، فلما ولوا قلت : من هؤلاء ؟ قال : جن نصيبين " قال الركشي في لخادم وما في الإحياء من أتهم يغتذون منه بالرائحة غفلة عن السنة كهذا الحديث وحديث مسلم السابق أي لما فيهما من التصريح بأنهم يأكلون ما عليه . وأخرج مسلم وغيره " أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله " أي حقيقة وحمله على المجاز رده ابن عبد البر بأنه لا معنى لصرفه عن حقيقته الممكنة . وأخرج مسلم وغيره " أنه صلى الله عليه وسلم مسك يدي من لم يسميا على الطعام بين يديه وقال : إن الشيطان ليستحل الطعام الذي لم يذكر اسم الله عليه ، وأنه جاء بهذين يستحل بهما فأخذت بيديهما ، والذي نفسي بيده أن يده في يدي مع أيديهما " .
__________
(1) قوله خرجوا الخ ) هكذا النسخ ولعل فيه سقطا ، فإن السائل لذلك الجن لا أصحاب عبد الله كما يعلم من الرويات السابقة ا هـ مصححه(1/148)
مطلب هل تجوز مناكحة الجن أم لا ؟
واستدلوا على مناكحة الجن فيما بينهم بقوله تعالى {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو} قهذا يدل على أنهم يتناكحون لأجل الذرية ، وقال تعالى {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان}
وهذا يدل على أنهم يتأتى منهم الطمث وهو الحماع والإفتضاض منه . وأخرج ابن أبي حاتم وأبو لشيخ في العظمة عن قتادة في قوله تعالى {أفتتخذونه وذريته} قال : هم أولاده يتوالدون كما يتوالد بني آدم وهم أكثر عددا . وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : إن الله جزأ للإنس والجن عشرة أجزاء فتسعة منهم الجن والإنس جزء واحد فلا يولد من الإنس ولد إلا ولد من الجن تسعة .وأخرج البيهقي عن ثابت قال " بلغنا أن إبليس قال يارب إنك خلقت آدم وجعلت بيني وبينه عداوة فسلطني على أولاده ؟ فقال : صدورهم مساكن لك . قال : يارب زدني ؟ قال : لا يولد لآدم ولد إلا ولد لك عشرة قال : يارب زدني ؟ قال : اجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد " . وأخرج ابن المنذر عن الشعبي أنه سئل عن إبليس هل له زوجة قال : إن ذلك العرس ما سمعت به . وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان قال : باض إبلس خمس بيضات فذريته من ذلك . قال : وبلغني أنه يجتمع على حوض واحدأكثر من ربيعة ومضر ، وأخذ من {وشاركهم في الأموال والأولاد} أنه قد يقع التناكح بين الجني والإنسية وعكسه خلافا لمن أحاله . وأخرج ان جرير وغيره عن مجاهد أنه إذا جامع الرجل أهله ولم يسم انطوى الجان على(1/149)
<69>إحليله فجامع معه فذلك قوله تعالى {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} قال بعض الحنابلة والحنفية لا غسل بوطء الجني والحق خلافه إن تحقق الإيلاج . قيل أحد أبوي بلقيس كان جنيا ، وفيه حديث رواة أبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر .
واختلف لعلماء في جواز نكاحهم شرعا وجاء عن مالك أنه أجازه ولكنه كرهه لئلا يدعي لحبالى من النا أنه من الجن ، وكذا كرهه الحكم ابن عيينة وقتادة والحسن وعقبة الأصم والحجاج ابن أرطاة : وأخرج جرير عن أحمد وإسحق أنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه ، ومن ثم كرهه إسحق لكن في الفتاوى السراجية للحنفية أنه لا تجوز المناكحة بين الإنس والجن وإنسان الماء لإختلاف الجنس ، وبه أفتى شيخ الإسلام الباري من أئمتنا ، لأن الله تعالى امتن علينا بأن خلق لنا من أنفسنا أزواجافلة جاز نكاح الجن ما حصل الإمتنان بذلك . قال المفسرن : معنى الآية أي آية النحل والروم {جعل لكم من أنفسكم} أي من جنسكم ونوعكم وعلى خلقكم ، وصوب ابن الماد قول ابن يونس في شرح لوجيز بحل نكاحهم . وصح عن الأعمش أنه قال : تزوج إلينا جن فقلت له : ما أحب الطعام إليكم . قال الأرز . قال فأتيناهم به ، فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحدا ، فقلت : فيكم من هذه الأهواء التي بيننا ؟ قال نعم ، قلت : فما لرافضة فيكم ؟ قال : شرنا . وأخرج الطبراني وأبو نعيم وأبو لشيخ أنه اختصم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن المسلمون والمشركون فأسكن المسلمين القرى والجبال والمشركين ما ين الجبال والبحار ، وفي حديث عند ابن عدي " أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في القزع " بفتح القاف الزاي والعين المهملة وهو البياض المتحلل بين الزرع وقال " إ؟نه مساكن الجن " والحق أن الجن مكلفون ، فقد حكى الفخر الرازي وغيره الإجماع عليه . قال العز بن جماعة : والملائكة مكلفون من أول الفطرة . (1/150)
مطلب الأصح أن الجن ليس فيهم نبي ولا رسول
وجمهور الخف والسلف أنه لم يكن منهم رسول ولا نبي خلافا للضحاك ومعنى {رسل منكم} أي من مجموعكم وهم الإنس والمراد بهم رسل الرسل ، ومما يدل لما قاله الضحاك ما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى{ومن الأرض مثلهن} قال : سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدمكم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى ، وذلك (1) لأن التشبيه في مطلق النذارة بمعنى أن قوما من الجن منهم في الأرض فسمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم للإنسيين ، وعادوا إلى القوم من الجن فأنذروهم للحج فرأوا حية تثنى عن الطريق أبيض ينفح منه ريح المسك ، فتخلف بعضهم عندها إلى أن مات فكفنها ودفنها ثم أدرك أصحابه ، فجائهم أربعة نسوة من جهة المغرب فقالت واحدة أيكم دفن عمر ؟ قلنا ومن عمر ؟ قالت أيكم دفن الحية ؟ قلت أنا . قالت : أما والله لقد دفنت صواما قواما يأمر بما أنزل الله ، ولقد آمن بنبيكم وسمع صفته في السماء قبل أن يبعث بأربعمائة سنة ، فحمدنا الله ثم قضينا حجنا ، ثم مررت بعمر ابن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة فانبأته بأمر الحية فقال صدقت . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لقد آمن قبل أن أبعث بأربعمائة سنة " .وأخرج ابن أبي الدنيا أن حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه رأى
__________
(1) قوله وذلك الخ ) هكذا بالنسخ التي بأيدينا ، وفيه تأمل فإنه غير مرتبط بما قبله ، ولعل فيه سقطا أو اختصارا أو جب غموضه اهـ مصححه(1/151)
<70>حية فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال " ذلك عمر بن الهوماية وافد نصيبين لقيه محصن بن جوشن النصراني فقتله " الحديث .
وجاء من عدة طرق يبلغ بها درجة الحسن " أن هامة بن هيم بن لاقيس بن إبليس جاء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه وهم قعود على حبل من جبال نهامة فأخبر أنه ليالي قتل قابيل هايل كان غلاما وأنه كان ممن آمن بنوح وأنه عاتبه على دعوته على قومه حتى بكى وأبكاه وأن له شركة ف دم هابيل فهل له توبة فأمره بأشياء يفعلها من جملتها أنه يتوضأ ويسجد سجدتين فعل لوقته ، فأخبره أن توبته نزلت من السماء فخر له ساجدا حولا ، وأنه آمن بهود وعاتبه كما وقع له مع نوح ، وأنه زار يعقوب وكان من يوسف وكان من يوسف بالمكان الأمين ، وأنه كان يلقى الناس بالأودية وتتلقاه الآن ، وأنه لقي موسى فعلمه من التوراة وأمره أن يقرأ منه السلام على عيسى بن مريم إن لقيه ، وأنه لقي عيسى فأقرأه ذلك ، وأن عيسى أمره أن يقرأ السلام على محمد صلى الله عليه وسلم إن لقيه فبكى صلى الله عليه وسلم ثم قال : وعلى عيسى السلام مادامت الدنيا وعليك السلام ياهامة بأداء الأمانة ، ثم سأله أن يعلمه من القرآن كما علمه موسى من التوراة ، فعلمه الواقعة والمرسلات وعم والكوثر وقل هو الله أحد والمعوذتين وقال : ارفع لنا حاجتك يا هامة ولا تدع زيارتك " . وفي حديث آخر " أنه في الجنة " وبين السبكي في فتاويه أنهم مكلفون بشريعته صلى الله عليه وسلم في كل شيئ خلاف الملائكة على القول بإرساله إليهم ، فإنه يحتمل أنهم كذلك وأنها في شيئ خاص . وقال ابن مفلح الحنبلي : إنهم مكلفون في الجملة كافرهم في النار ومؤمنهم في الجنة كغيرهم بقدر ثوابهم خلفا لمن قال لا يأكلون ولا يشربون فيها وأنهم في ربضها ، ونقل عن شيخه ابن تيمية أنهم مشاركون لنا في جنس الأمر والنهى والتحليل والتحريم لا على السواء قال بلا نزاع أعلمه بين العلماء ، وأطال الكلام في مناكحتهم ومعاملتهم وتوابعهما ومر أن فيهم جميع الأهواء : وجاء عن قتادة وغيره وعن السدي : أن فيهم قدرية ومرجئة ورافضة وشيعة . وأخرج البزار أنه صلى الله عليه وسلم " من صلى منكم من الليل فليجهر بقراءته فإن الملائكة تصلي وتسمع لقراءته وأن مؤمني الجن الذين يكونون في الهواء وجيرانه معه في مسكنه يصلون بصلاته ويسمعون لقراءته ، وأنه ليطرد بجهره بقراءته عن داره وعن الدور التي حوله فساق الجن ومردة الشياطين " .
وفي آثار وأخبار أخرى : أن مؤمنيهم يصلون ويصومون ويحجون ويطوفون ويقرءون القرآن ويتعلمون العلوم ويأخذونها عن الإنس وإن لم يشعروا بهم ، وكذا رواية الأحاديث . وأخرج الشيرازي : أن سليمان أوثق شياطين في البحور فإذا فإذا كان سنة خمس وثلاثين ومائة خرجوا في صور الت\ناس وأبشارهم فجالسوهم في المجالس والمساجد ونازعوهم القرآن والحديث . وأخرجه العقيلي وابن عدي بزيادة : أن تسعة أعشارهم تذهب إلى العراق وعشرهم بالشام . وأخرج البخاري عن سفيان الثوري : أخبره رجل كان يرى الجن أنه رأى قاصا يقص في مسجد الخيف فتطلبه فإذا هو شيطان ، وجاءت آثار أخرى بنحو ذلك . (1/152)
مطلب اتفق العلماء على أن كافر الجن يعذب في النار وفي ثوابه بينهم خلاف
واعلم أن العلماء اتفقوا على أن كافرهم يعذب في الآخرة . وعن أبي حنيفة وأبي الزناد وليث بن أبي سليم أن مؤمنهم لا ثواب له إلا النجاة من النار ثم يقال كونو ترابا مثل البهائم ، والصحيح الذي قاله ابن أبي ليلى والأوزعي ومالك والشافعي وأحمد وأصحابهم رضي الله عنهم : أنهم يثابون على طاعتهم . ونقل عن أبي حنيفة(1/153)
<71>وأصحابه رضي الله عنهم أنهم يدخلون الجنة ، ونقله ابن حزم عن الجمهور واستدلوابقوله تعالى {ولكل درجات ما عملوا} فإنه ذكر بعد الجن والإنس . (1/154)
مطلب على أنا نرى الجن في الجنة ولا يرونا عكس الدنيا
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس : أن الملائكة كلهم في الجنة والشياطين كلهم في النار ، والذين فيهما الإنس والجن . وذكر الحارث المحاسبى : أنا نراهم في الجنة ولا يرونا عكس الدنيا ، وذهب بعض الحنفية أنهم لا يرون الله وإليه يميل كلام بن عبد السلام لأنه صرح بمنع الرؤية للملائكة ووافقه جماعة من الحنفية ، لكن الأرجح أن الملائكة يرونه كما نص عليه إمام أهل السنة والجماعة والشيخ أبو الحسن الأشعري في كتابه ( الإبانة في أصول ال ديانة ) وتابعه الإمام البيهقي وغيره كابن القيم والحداد والجلال البلقيني : قال الجلال ، وكذلك الجن يرونه لعموم الأدلة ، ومر في الأحاديث المتعلقة بالملائكة التصريح في حديث البيهقي وأبي الشيخ والخطيب وابن عساكر بأن الملائكة يرون ربهم ، ولعل ابن عبد السم لم يطلع عليه وإلا لما خالفه . وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير عن قتادة قال : قال الحسن : الجن لا يموتون ، فقلت : قال الله تعالى {أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس} أي ففي الآية دليل على أنهم يموتون فإن أراد الحسن أنهم لا يموتون مثلنا بل ينظرون مع إبليس فإذا مات ماتوا معه . قلنا إن أراد ذلك في بعضهم كشياطين إبلس وأعوانه فهو محتمل ، وإن أراد أنهم كلهم كذلك نافاه ما قدمناه من الوقائع الكثيرة أنهم ماتوا وكفنوا ودفنوا . (1/155)
مطلب على أن الجن يموتون إلا إبليس فإنه كلما يهرم يعود ابن ثلاثين
وأخرج أبو الشيخ أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل أيموت الجن ؟ قال نعم ، غير بليس وابن شاهين عنه أن الدهر يمر على إبليس فيهرم ثم يعود ابن ثلاثين . وابن أبي الدنيا عن الربيع ابن يونس قيل له أرأيت هذا الشيطان الذي مع الإنسان لا يموت ؟ قال : وشيطان واحد هو أنه ليتبع الرجل المسلم في الفتنة مثل ربيعة ومضر وابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن عبد الله بن الحارث قال : الجن يموتون ولكن الشيطان بكر البكرين لا يموت . قال قتادة : أبوه بكر وأمه بكر وهو بكرهما ، ومر في خبر هامة ما يدل على طول أعمارهم . (1/156)
مطلب خربت الصين ثمان مرات وعمرت كذلك
وبلغ الحجاج بأن أرض الصين مكانا إذا أخطئوا فيه الطريق سمعوا صوتا يقول : هلموا الطريق فبهث ناسا وأمرهم أن يتخاطؤها عمدا فإذا كلموهم يحملون عليهم وينظرون ما هم ، فلما فعلوا حملوا عليهم فقالوا إنكم لن ترونا ، قالوا : منذ كم أنتم ههنا ؟ قالوا : لا نحصي السنين غير أن الصين خربن ثمان مرات وعمرت ثمان مرات ونحن ههنا . وأخرج ابن حرير عن ابن عباس قال : وكل ملك الموت بقبض أرواح المؤمنين والملائكة ، وملك بالجن وملك بالشياطين وملك بالطير والوحش والسباع والحيات فهم أربع أملاك .
(1/157)
<72>
(1/158)
مطلب من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن شيطانه أسلم
وأخرج مسلم " أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة مع كل إنسان شيطان وملك . قالت : أومعك يا رسول الله ؟ قال نعم ولكن الله أعانني عليه حتى أسلم " . وفي رواية لمسلم أيضا " ما منكم من أحج إلا وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة قالوا وإياك يا رسول الله ؟ قال : وإياي إلا أن الله عز وجل أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير " واسلم معناه صلر مسلما ، وهذا من خصائصه اخبر أبي نعيم " فضلت على آدم بخصلتين كان الشيطاني كافر فأعانني الله عليه حتى أسلم ، وكن أزواجي عونا لي وكان شيطان آدم كافر وزوجته عونا على خطيئته " أي إنها صورة الخطيئة لما هو مقرر أن الأنبياء معصومون فبل النبوة وبعدها من الصغائر والكبائر عمدا وسهوا ، وجميع ما روي عنهم مما يخالف ذلك فيؤل كما بينه المحققون في محاله خلافا لمن وهم فيه كجماعة من المفسرين والأخباريين ممن لم يحققوا ما يقولون ويدرون ما يترتب عليه قيجب الإعراض عن كلماتهم وترهات قصصهم الالكاذبة وحكاياتهم . وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو يعلى والبيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قال " إن الشيطان واضع خرطومه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس وإن نسي إلتقم قلبه أي نشب فيه وسوسته ويحدثه بالأفكار الرديئة لأنه يجري منه مجرى الدم كما في الحديث الصحيح ، ويدل عليه قوله تعالى {يوسوس في صدور الناس} وبه يرد على على من أنكر سلوكه في بدن الإنسان كالمعتزلة . ومن ثم قيل لأحمد رضي الله عنه : إن قوما يقولون : إن الجني لا يدخل في بدن المصروع من الإنس ؟ فقال يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه : أي فدخوله في بدنه هو مذهب أهل السنة والجماعة . وجاء من عدة طرق " أنه صلى الله عليه وسلم جيء إليه بمجنون فضرب ظهره وقال اخرج عدو الله فخرج وتفل في فم آخر وقال اخرج يا عدو الله فإني رسول الله " قال ابن تيمية : وعامة ما يقول أهل العزائم فيه شرك فليحذر . وأخرج جماعة أن ابن مسعود قرأ في أذن مسروع {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا} إلى آخر السورة فأفاق ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : " ولاذي نفسي بيده لو أن رجلا مؤمنا قرأها على جبل لزال " . وجاء من عدة طرق أن للوضوء شيطانا يقال له الولهان . قال التميمي : أول ما يبدأ الوسواس من الوضوء ، ومن ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ بالله من وسوسة الوضوء . قال طاوس : هو – أي الولهان – أشد الشياطين وأخرج مسلم عن عثمان بن أبي العاص قال : قلت يا رسول الله : إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي ، فقال : " ذلك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا " . (1/159)
مطلب على أن وسواس الرجل يخبر وسواس غيره فمن ثم يفشو الخبر
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن وسواس الرجل يخبر وسواس الرجل فمن ثم يفشو الحديث ز وجاء عن عمر أنه حدث نفسه بشيء ولم يظهره لأحد فوجده مع الناس فقال : خرج به الخناس ، ووقع لغيره أيضا ، وإنما أطلت الكلام على هذا السؤال لما فيه من الفوائد المستغربة والفرائد المستعذبة . (1/160)
مطلب ذكر لا إله إلا الله أفضل من ذكر الجلالة ؟
وذمر لا إله إلا الله أفضل من ذكر الجلالة مطلقا ، هذا بلسان أئمة الظاهر ، وأما عند أهل الباطن فالحال يختلف باختلاف أحوال السالك ، فمن هو في ابتداء أمره ومقاساته لشهود الأغيار وعدم انفكاكه عن التعلق بها وعن إرادته وشهواته وبقاءه مع نفسه يحتاج إلى إدمان الإثبات بعد النفي حتى يستولي عليه سلطان الذكر(1/161)
<73>وجواذب الحق المرتبة على ذلك ، فإذا استولت عليه تلك الجواذب حتى أخرجته عن شهواته وإرادته وحظوظه وجميع أعراض نفسه صار بعيدا عن شهود الأغيار واستولى عليه مراقبة الحق أو شهوده ، فحينئذ يكون مستغرقا في حقائق الجمع الأحدي والشهود السرمدي الفردي ، فالأنسب بحاله الإعراض عما يذكره الأغيار والاستغراق فيمايناسب حاله من ذكر الجلالة فقط ، لأن ذلك فيه تمام لذته ودوام مسرته ونعمته ومنتهى أربه ومحبته ، بل إذا وصل السالك لهذا المقام وأراد قهر نفسه إلى الرجوع وإلى شهد غيره حتى ينفيه أو يتعلق به خاطر لا تطاوعه نفسه المطمئنة لما شاهدت من الحقائق الوهبية والمعارف الذوقية والعوارف اللدنية . وقد فتحنا لك بابا تستدل بما ذكرناه في فتحه على ما وراءه فافهم مقاصد القوم السالمين من كل محذور ولوم وسلم لهم تسليما ، ولا تنتقد حقيقة من حقائقهم تندم ، بل قل فيما لم يظهر لك : الله أعلم . وكذا يقال في الذكر باللسان وبالقلب أو بالقلب فقط فبلسان أهل الظاهر ذكر اللسان والقلب أفضل مطلقا ، وعند أهل الطريق في ذلك تفصيل تفهمه مما قبله إن وعيته وتأملته فإن المستغرق قد يعرض له من الأحوال ما يلتجم به لسان ويصير في غاية من مقام الحيرة والدهش فلا يستطيع نطقا أو يتفرق بسبب نطقه ما هو متمثل به من معال تلك الأحوال وما هو مستغرق فيه من بحار العرفان والكمال .
والحاصل أن الأولى بالسالك قبل الوصول إلى هذه المعارف أن يكون مديما لما يأمره به أستاذه الجامع لطرفي الشريعة والحقيقة فإنه هو الطبيب الأعظم ، فبمقتضى معارفه الذوقية وحكمه الربانية يعطي كل بدن ونفس ما يراه هو اللائق بشفائها والمصلح لغذائها ، فإن لم يكن له أستاذ كذلك فلا يعدل عن ذكر لا إله إلا الله بلسانه وقليه بل يديم ذلك إلى أن يفتح الله له ما يعلم به خير الأمرين في الترقي إلى شهود العين حقق الله لنا ذلك بمنه وكرمه آمين . والذكر الخفي قد يطلق ويراد به ما هو بالقلب فقط وما هو بالقلب واللسان بحيث يسمع نفسه ولا يسمعه غيره ، ومنه : " خير الذكر الخفي " أي لأنه لا يتطرق إليه الرياء وأما حيث لم يسمع نفسه فلا يعتد بحركة لسانه وإنما العبرة بما في قلبه . علىأن جماعة من أئمتنا وغيرهم يقولون : لا ثواب في ذكر القلي وحده ولا مع اللسان حيث لم يسمع نفسه وينبغي حمله على أنه لا ثواب عليه من حيثالذكر المخصوص . أما اشتغالالقلب بذلك وتأمل معانيه واستغراقه في شهودها فلا شك أنه بمقتضى الأدلة يثاب عليه من هذه الحيثية الثواب الجزيل ، ويؤيده خبر البيهقي : " الذكر الذي لا تسمعه الحفظة يزيد على الذكر الذي تسمعه الحفظة سبعين ضعفا " . (1/162)
مطلب ما ورد في فضل لا إله إلا الله
هذا وورد في فضل لا إله إلا الله أحاديث كثيرة فلا بأس بالتعرض لبعضها . منها حديث التمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم " أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء أي مقدماته ومتماته " الحمد لله " وحديث البخاري " أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا مخلصا من قلبه " وحديث الديلمي " أفضل العمل لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء أستغفر الله " وحديث أبي يعلى وابن عدي " أكثروا من شهادة لا إله إلا الله قبل أن يحال بينكم وبينها ، ولقنوها موتاكم " وحديث البخاري ومسلم " إن الله قد حرم النار على من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " وحديث الطبراني " ليس من عبد يقول لا إله إلا الله مائة مرة إلا بعثه الله تعالى يوم القيامة ووجهه مالقمر ليلة البدر ولم يرفع يومئذ لأحد عمل أفضل من عمله إلا(1/163)
<74>من قال مثل قوله أو زاد " وحديث أحمد والحاكم " جددوا إيمانكم أكثروا من قول لا إله إلا الله " وحديث ابن عساكر " حدثني جبريل يقول الله تعالى : لا إله إلا الله حصني فمن دخله أمن من عذابي " وحديث ابن أبي الدنيا والبيهقي " حضر ملك الموت رجلا فشق أعضاءه فلم يجد عمل خير ففك لحييه فوجد طرف لسانه لاصقا بحنكه يقول لا إله إلا الله فغفر له بكلمة الإخلاص " وجديث أحمد والحاكم " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " وحديث ابن ماجه " لا إله إلا الله لا يسبقها عمل ولا تترك ذنبا " وحديث ابن عدي " ثمن الجنة لا إله إلا الله " وحديث أبي يعلى " عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار فأكثروا منهما فإن إبليس قال أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء وهم يحسبون أنهم مهتدون " وحديث الطبراني " كلمتان إحداهما ليس لها نهاية دون العرش والأخرى تملأ ما بين السماء والأرض لا إله إلا الله والله أكبر " وحديث الطبراني " ما قال عبد لا إله إلا الله قط مخلصا إلا فتحت له أبواب السماء حتى يفضي إلى العرش ما اجتني الكبائر .
وجاء مطلقا في أحاديث كثيرة جدا من أجمعها حديث البيهقي " أكثروا ذكر الله على كل حال فإنه ليس عمل أحب إلى الله تعالى ولا أنجى لعبده من ذكر الله في الدنيا والآخره " وحديث الديلمي " لذكر الله بالغداة والعشي خير من حطم السيوف في سبيل الله " وحديث البيهقي " إن ذكر الله شفاء ، وإن ذكر الناس داء " وحديث البيهقي والطبراني " ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها " وحديث الحاكم " من ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله حتى يصيب الأرض من دموعه لم يعذبه الله يوم القيامة " وحديث الطبراني " لا يذكرني عبد في نفسه إلا ذكرته في ملإ من ملائكتي ، ولا يذكرني في ملإ إلا ذكرته في الرفيق الأعلى " وخبر الترمذي والحاكم وابن ماجه " ألا أنبئكم بخير اعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا بلى قال : ذكر الله " وحديث أحمد وابن حبان والبيهقي " خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي " . (1/164)
مطلب فضل التفكر
وورد في أحاديث ما يبين فضل التفكر والمراد به ، فمن ذلك حديث أبي الشيخ في العظمة " تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة " وحديثه أيضا " تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله ، فإن بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور وفوق ذلك " وحديثهأيضا " تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا " وحديثه أيضا " تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق ، فإنكم لا تقدرون قدره " وحديثه كالطبراني وابن عدي والبيهقي " تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله " وحديثه كأبي نعيم " تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله "وحديث الديلمي " عودوا قلوبكم الترقب وأكثروا التفكر والاعتبار " فتأمل هذه الأحاديث تعلم أن المراد التفكر في جميع ما ذكره السائل ، وأعم منه كما أفاد حديث " تفكروا في كل شيء " الخ وحديث " تفكروا في خلق الله " ولا ينافيهما حديث " تفكروا في آلاء الله " أي نعمه لأن التفكر في النعم يؤدي على مزيد الخضوع للحق والتواضع للخلق ولارجوع إلى الله بالذلة والانكسار وإدامة التوسل إليه آناء الليل(1/165)
<75>وأطراف النهار أن ال يحرمه مزيد فضله ونعمه ولا يسلبه واسع جوده وكرمه ، فإن الإعراض عن تفكر النعم عاقبته الوخيمة وغايته المشئومة سلب النعم وإذاقة النقم والطرد عن أبواب الكريم كما أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " ما بطر أحد النعمة فعادت إليه " وإنما أمرنا بالتفكر في كل المخلوقات ومنعنا عن التفكر في ذات الحق لأن التفكر في غيرها تزيد به المعارف وتتوالى بسببه المواهب والعوارف وينصقل به القلب عن السوى ويتخلى عن كل هوى ، ويرجع إلى الله في سائر إراداته وحركاته وسكناته ، لأن من أحدق بعين بصيرته واستغرق جهده وفكرته في العالم علويه وسفلييه انكشف له الغطاء وزال عنه العماء ، وقد بين تعالى أنه لا يصلح للتفكر في خلق السماوات والأرض إلا أولو العقل الكامل واللب الفاضل كما يدل عليه آيتا البقرة وآل عمران {إن في خلق السماوات والأرض} الآيو ، وذكر في الأولى المختتمة بي {يعقلون} من الآيات الأرضية والسماوية أكثر مما ذكر في الثانية المختتمة بي {أولي الألباب} مع أن اللب أشرف من العقل ؛ لأن الأولى تناسب مقام السالكين لاحتياجهم للنظر في الايات الكثيرة ليحصل لهم بذلك مع الإدمان وتغير الدلالات والآيات مع كثرتها وعجائبها ملكة المراقبة ثم الشهود العلمي حتى لا تقدر عليهم الأغيار ولا يتشككون فيما منحوه بسبب ذلك إلى أن يرتقوا إلى مقام الأخيار ، وأما الثانية فغنها إنما تناسب مقام العارفين لأنهم إنما ارتقوا عن شهود الأسباب والوسائط إلى شهود موجدها وباريها فليس لهم كبير تعلق بها ، فلذا اختصر الأدلة في حقهم لأنهم مشغولون بذلك بالشهود الأقدس والجمع الأكمل عن النظر في البراهين باستغناءهم عنها بالوصول إلى عين اليقين فناسب أن يشار لهم بذكر ادلائل مجملة لا مفصلة إشارة إلى أنهم إنما وصلوا على الله من طريقها ومن وصل من طريق لا ينبغي له أن ينساه ، وإن استغنى عنه ، ومن ثم رؤي مع الجنيد سبحة فقيل له تحتاج إليها يا إمام ؟ فقال : طريق وصلنا على الله بسببها لا نتركها . (1/166)
مطلب في ختم آية البقرةإن في خلق السماواتالآية بيعقلونوختم آية آل عمران مثلها بأولي الألباب
فالحاصل أن آية البقرة لما ختمت بـ {يعقلون} الذي هو أدني المقامين كانت بالسالكين أنسب فناسب ذكر الدلائل الكثيرة فيها لأنها المناسبة لحالهم كما تقرر ، وأن آية آل عمران لما ختمت بـ {أولي الألباب} الذي هو الأعلى والأكمل ناسب أن يذكر فيها ما يليق بالكمل وهو ملاحظة الدلائل إجمالا لا تفصيلا لاشتغالهم عنه بما هو اهم وأولى وأكمل فتأمل ذلك لتعلم فائدة التفكر ويتضح لك أنه في ساعة أفضل من عبادة ستين سنة : أي ليس فيها تفكر ، نظير قوله تعالى {ليلة القدر خير من ألف شهر} أي ليس فيها ليلة القدر كما قاله الأئمة ؛ ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم " فكر ساعة خير من عبادة ستين سنة " أي
454يس فيها تفكر .
وسر فضله عن بقية العبادات أنه يؤدي إلى التحلي بالمراتب العالية وانكضاف الحقائق الوهبية ، وأما غيره من العبادات الخالية عنه فإنه لا ينتهي على هذه الفوائد الكاملة والمعارف الفاضلة ، ولا شك أن كل ما أدى إلى قوة الإيمان وزيادة الإيقان وصقالة القلب وخلوه عن الأغيار خير مما لم يؤد لذلك وإن قل زمنه وطال زمن غيره ، إذ روح العبادة المقصودة لأجلها إنما هو معرفة الحق وأسراره في خلقه وتجليه عليهم بمعالي أسمائه وصفاته ، والتفكر هو المحصل لذلك دون غيره لكن لا من كل أحد بل ممن تأهل له بأن كان عنده من العلوم الشرعية الاعتقادية والعملية ما يمنعه عن أن تزل قدمه أو يطغى فهمه فيحق عليه بذلك ندمه ، وهذا هو سر :(1/167)
<76>نهينا عن أن نتفكر في ذاته تعالى ، فإن ذلك يجر إلى الحيرة والضلال عن أسباب الكمال ، لأن الذات العلي جل أن يدكره وهم أو يتصوره فكر أو يحوم حول حماه لب أو عقل وإن زاد كماله لمنع الخلق جميعا عن ذلك الحمى الأقدس والمطلب الأنفس {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} . (1/168)
مطلب أوراد الصوفية التي يقرءونها بعد الصلوات لها أصل أصيل في السنة
وأورادالصوفية اليقرءونها بعد الصلوات على حسب عاداتهم في سلوكهم لها أصل أصيل ، فقد روى البيهقي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لأن أذكر الله تعالى مع قوم بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس أحب إلي من الدنيا وما فيها ، ولأن أذكر الله تعالى بعد صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس أحب إلي من الدنيا وما فيها " .وروى أبو داود عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال " لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسمعيل ، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة " وروى أبو نعيم أنه صلى الله عليه وسلم قال " مجالس الذكر تتنزل عليهم السكينة وتحف بهم الملائكة وتغشاهم الرحمة ويذكرهم الله " وروى أحمد ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال " لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده " . (1/169)
مطلب في أن الجهر بالأوراد عقب لصلاة سنة وكذا الإسرار وعلى أن االأخذ عن المشايخ قسمان
وإذ ثبت أن لما يعتاده الصوفية من اجتماعهم عن الأذكار والأوراد بعد الصبح وغيره أصلا صحيحا من السنة وهو ما ذكرنام فلا إعتراض عليهم في ذلك .ثم إن هناك من يتأذى بجهرهم كمصل أو نائم ندب لهم الإسرار ، وإلا رجعوا لما يأمرهم به أستاذهم الجامع بين الشريعة والحقيقة لما مر أنه كالطبيب فلا يأمر إلا بما يرى فيه شفاء لعلة الريض ، ولذلك تجد بعضهم يختار الجهر لدفع الوساوس الرديئة والكيفيلت النفسانية وإيقاظ القلوب الغافلة وإظهار الأعمال الكاملة ، وبعضهم يختار الإسرار بمجاهدة النفس وتعليمها طرق الإخلاص وإيثارها الخمول . وقد ورد أن عمر رضي الله عنه كان يجهر وأب بكر رضي الله عنه كان يسر فسألهما النبي صلى الله عليه وسلم فأجاب كل بنحو ما ذكرته فأقرهما .
والأخذ عن مشايخ متعددين يختلف الحال فيه بين من يريد التبرك وبين من يريد التربية والسلوك ، فالأول يأخذ عمن شاء إذ لا حجر عليه ، وأما الثاني فيتعين عليه على مصطلح القوم السالمين من المحظور واللوم حشرنا الله في زمرتهم أن لا يبتدي إلا بمن جذبه إليه حاله قهرا عليه بحيث اضمحلت نفسه لباهر حال ذلك الشيخ المحق وتخلت له عن شهواتا وإرادتها ، فحينئذ يتعين عليه الإستمساك بهديه والدخول تحت جميع أوامره ونواهيه ورسومه حتى يصير كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف شاء ، فإن ام يجذبه حال الشيخ كذلك فليتحر أورع المشايخ وأعرفهم بقوانين الشريعة والحقيقة ويدخل تحت إشارته ورسومه كذلك ، ومن ظفر بشيخ بالوصف الأول لأو الثاني فحرام عليه عندهم أن يتركه وينتقل إلى غيره ، وأن سولت لخ نفسه أن غيره أكمل فإنه قد يضجر من حق ذلك الشيخ فتريد النفس أن تنقل صاحبها إلى باطل غيره ، وإنما محل اختيار الأعععرف الأعلم الأروع الأصلح في الابتداء . وأما بعد الدخول تحت حيطة عارف أعل فلا رخصة عن الخروج عنه بل ولا رخصة عندهم للشيخ لثاني . إذا علم أن لمريد الأخذ عععنه أستاذ كاملا أن يسلكه بل يأمره بالرجوع(1/170)
<77>لأستاذه ويعلمه أن ذلك الأستاذ لولا أنه على حق ما نفرت النفس عنه ولما أحيت فراقه إلى غيره فهذا أدل دليل على كماله وحقيقة طريقته .
وكثير من النفوس التي يراد لها عدم التوفيق إن رأت من أستاذ شدة في التربية تنفر عنه وترميه بالقبائح والنقائص مما هو عنه بريء فليحذر الموفق من ذلك لأن النفس لا تريد إلا هلاك صاحبها فلا يطعمها في الإعراض عن شيخه وإن رآه على أدنى حال حيث أمكنه أن يخرج أفعاله عن تأويل صحيح ومقصد مقبول شرعا ، ومن فتح باب التأويل للمشايخ وأغضى عن أحوالهم ووكل أمورهم إلى الله وإعتنى بحال نفسه وجاهدها بحشب طاقته ، فإنه يرجى له الوصول إلى مقاصده والظفر بمراده في أسرع زمن ، ومن فتح باب الإعتراض على المشايخ والنظر في أحوالهم وأفعالهم والبحث عنها فإن ذلك علامة حرمانه وسوء عاقبته وأنه لا ينتج قط ، ومن ثم قالوا : من قال لشيخه لما ؟ لم يفلح أبدا : أي لشيخه في السلوك والتربية ، لما تقرر أن شأن السالك أن يكون بين يدي الشيخ كالميت بين يدي لغاسل حتى لو كانت له علوم أو رسوم أو أعمال فليعرض عنها ولا يلتفت إليها ، فإن نار حق الأستاذ العارف تطهر الخبث وتزيله ويبقى لطيب وتبين صفاء جوهره ونفاسة جنسه ، والمراد بالإرادة والتحكيم ونحوهما أن من أراد السلوك إلى الله على يد بعض الواصلين ويسر الله له من هو كذلك أن يلزم نفسه طاعته والدخول تحت أوامره ونواهيه . (1/171)
مطلب قيل يتعدد الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق
ثم الكيفية المحصلة لهذا الإرتباط تختلف المشاسخ فيها ؟ فمنهم من يأمر بالذكر ، ومنهم من يلبس الخرقة ، ومنهم من يفعل غير ذلك بحسب طرقهم فإنها كثيرة جدا ، حتى قيل : الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق ، وليتعين على الموفق أيضا أن لا يدخل تحت حيطة أحد إلا بعد أن يقهره حاله أو يعلم منه الإحاطة بعلمي الشريعة والحقيقة ، لما أن الكاذبين والمتلبسين قد كثروا وادعوا هذه الطريقة وهم منها بريئون وإلى النار صائرون لسوء أفعالهم وفساد أحوالهم وأقوالهم ، وتكالبهم على الدنيا الفانية وإعراضهم عن الآخرة الباقية ، إذ ليس قصدهم بادعاء هذه الطريقة العلية إلا جمع الحطام ونيل لذة أكل الحرام واستفراغ العمر من الجهالات والآثام ، فحذار حذار من أمثالهم والإغترار بأقوالهم وأفعالهم فإن كل من أتبعهم زل قدمه وطغى قلمه وحق ندمه وحرم الوصول إلى شيئ من الكمال ويأتايه من الله أعظم البوار والنكال .
وعليك إن أردت أن يظهر لك الحق وأنك تتحلى بالصدق بمطالعة إحياء الغزالي رحمه الله تعالى ، ورسالة الإمام العارف القشيري ، وعوارف المعارف للسهر وردي ، والقوت لأبي طالب المكي ، فإن هذه هي الكتب النافعة المبينة لأحوال الصادقين وتلبيسات المبطلين ، والحاملة على معاني الأخلاق وإيثار الفقر والإملاق وإدمان الطاعات وملازمة العبادات سيما الجماعات ، واإعراض عن سفاسف أقوام غلب عليهم لشيطان فسول لهم القبيح حسنا والمنكر معروفا والمذموم ممدوحا ، فاستغرقوا في بحار شهواتهم وقبيح اعتقاداتهم وإراداتهم ، وهم مع ذلك يحسبون أنهم يحسنون صنعا أو يحكمون وضعا ، وفقنا الله لمعرفة عيوب أنفسنا وأجارنا من شهواتها وأدام علينا رضاه مع السلامة من كل فتنة ومحنة في هذه الدار وإلى أن نلقاه إنه الجواد الكريم الرءوف الرحيم .
(1/172)
<78>
(1/173)
مطلب في أن السمع أفضل أم البصر ؟ والأرجح الأول وعلى أن التقديم يدل على الأفضلية إلا إذا دل الدليل على خلافه
وسئل نفع الله بعلومه سؤالا صورته : السمع والبصر ما الأفضل منهما ؟.
فأجاب بقوله الذي عليه أكثر الفقهاء أن حاسة السمع أفضل من حاسة البصر لأنه تعالى قرن بغياب السمع غياب العقل في قوله {ومنهم من يستمعون إليك أفأنت نسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون} ولا كذلك في البصر ولأن استفادة العقل من السمع أكثر من استفادته من البصر كما جزم به القاضي في تفسيره ، ولأنه تعالى قدمه في غالب الآيات القرآنية على البصر والتقديم دليل الأفضلية كما صرحوا به إلى أن يدل دليل على خلافه ولم يفم هنا دلليل على خلافه فكان تقديم السمع مقتضيا لأفضليته ، ولأن العنى وقه في حق بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أي على قول ولم يقع فيهم أصم إجماعافاستحالة الصمم عليهم لإخلاله بأداء الرسالة ، لأنه إذا لم يسمع كلام السائل تعذر عليه جوابه قيعجز عن تبليغ الشريعة ، ولأن القوة السامعة تدرك المسموعات من جميع الجهات الست في النور والظلمة والقوة والباصرة لا تدرك المرئي إلا من جهة المقابلة بواسطة شعاع أو ضياء وما عم نفعه زاد فضله ، ولأنه السبب في استفادة العلوم دون البصر لأنه تعالى قرنه بالعقل المراد بالقلب في قوله تعالى {أن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أوألقى السمع وهو شهيد} والعقل أشرف ما في الإنسان فكذا ما قرن به ، ولأنه تعالى جعله سبا في الخلاص من عذاب السعير حكاية عن أهلها بقوله عنهم {وقالوا لو كنا نسمع أونعقل ما كنا من أصحاب السعير} وما كان سبا في الخلاص من ذلك أولى من البصر الذي لا سببية له في ذلك ولأن ذلك المعنى الذي امتاز به الإنسان عن شأن الحيوانات هو النطق وإنما يدركه بالسمع ، فمتعلق السمع النطق الذي يشرف به الإنسان ، ومتعلق الإبصار إدراك الألوان والأشكال ، وذلك أمر يشترك فيه الناس وسائر الحيوانات ، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر لأن سائر الأنبياء صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم أجمعين لم تعرف نبوتهم ورسالاتهم رؤية ذواتهم وإنما حصل ذلك بسماع أقوالهم المشتملة على ما أتوه وأرسلوا به من التكليفات ، فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئي ، وحينئذ فيلزم أفضلية السمع على البصر . وقال قوم : البصر أفضل من السمع ، لقولهم في المثل ليس بعد العيان بيان ، فدل على أن أكمل وجوه الإدراك البصر ، ولأن آلة القوة الباصرة النور وآلة القوة السامعة هي الهواء والنور أشرف من لهواء ؛ فالقوة الباصرة أفضل من القوة السامعة ، لأن عجائب حكمته عالى في خلق العين المشتملة على سع طبقات وثلاث رطوبات وعلى عضلات كثيرة على صور مختلفة أكثر من عجائب خلقته في الأذن ، وكثرة العناية في تخليق الشيئ يدل على كونه أفضل من غيره ، ولأن البصر يرى الكواكب فوق سبع سموات ، والسمع لا يدرك ما بعد عنه على فرسخ ، ولأن كلام الله يسمع في الدنيا ولن يراه أحد فيها ، ولأن ذهاب البصر يذهب بماء الوجه ولا كذلك ذهاب السمع هذا حاصل أدلة الفريقين ، وهي وأن كان أكثرها لا يخلو عن المقال لكن أدلة القول الأول أقوى ، فإن حاصلها يرجع إلى أن في السمع من المنافع الدينية ما ليس في البصر ، وليس ملخص التفصيل إلا ذلك بخلاف أدلة القول الثاني فإنها لم يتحصل منها أمر ديني انفرد به البصر ، فكيف يقال بأفضليته على أن إدراك كلام الله تعالى بالسمع في الدنيا دون رؤيته البصر فيها أدل دليل على أفضلية السمع لكونه تأهل في الدنيا لهذه الخصوصية العظمى ولم يتأهل لها البصصر ، فكان الأصح هو القول الأول سيما وقد علمت(1/174)
<79>أن عليه أكثر الفقهاء وليس المرجع في التفضيل ونحوه إلا إليهم . وأما نقل الثاني عن أكثر المتكلمين فهو وإن سلم لا يقتضي أنه الأصح لتقدم الفقهاء عليهم ، لأنهمو الجتهدون والمعول عليهم دون من سواهم ، هذا لو لم تظهر أدلتهم بالنسبة إلى أدلة القائلين بالثاني ، والله سبحانه أعلم بالصواب . (1/175)
مطلب في تفسير الولولة الغطارف
وسئل تفع الله بعلومه عما صورته : ذكر بعض الفضلاء ااولولة سمعت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفسرها الغطارف ، فهل لما ذكره أصل أم لا ؟ .
فأجاب أمدنا الله بمدده ، بقوله : لا أصل لهذا التفسير ، ففي القاموس : ولو: أعولت ، وأعول : رفع صوته بالبكاء والصياح . وفيه أيضا أن الغترفة والغطرفة والتغترف والتغطرف الكبر ، فبهذا كله علم عدم صحة تفسير الولولة بما ذكر في السؤال . فإن قلت : ما حكم غطارف النساء وهي ما يظهر من أفواههن وعلى ألسنتهن عند حدوث سرور ولو في المساجد ؟ .
قلت : حكمه حكم بقية صوتها الغفل المجرد عن لحروف وتقطيعها . والصحيح عندنا أنه ليس عورة ويبعد أن في مثل ذلك فتنة ، ويؤيده قولهم : يسن للمرأة إذا أرادت أن نجيب من دق على بابها لحاجة أن تجعل ظهر دها على فهما وتجيبه حينئذ لا يظهر له حقيقته ، والفطرفة كذلك وأبشع ، نعم هي حينئذ في المسجد مكروهة بلا شك لأنها من جملة الألفاظ التي يتأكد تنزيه المسجد عنها ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/176)
مطلب في قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلتأتى أمر الله
وسئل نفع الله به عما صورته : روى تفسير أنه لما نزل {أتى أمر الله} وثب النبي صلى الله عليه وسلم وسمعنا من أفواه بعض الناس قال النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فهل يسن لنا أن نقوم أم لا ؟ فإن قلتم نعم فهل يختص بالقاريء أو يشمل المستمع ، وإن قلتم لا فهل يمنع من ذلك أولا ؟ .
فأجاب فسح الله في مدته بقوله : الذي ذكره الواحدي في أسباب النزول أن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما أنزل الله {اقتربت الساعة وانشق القمر} قال بعض الكفار : إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم نعملون حتى تنظروا ما هو كائن ، فلما رأوا أنه لا ينزل شيئ قالوا ما نرى . قال : فأنزل الله تعالى {اقترب لناس حسابهم وهم في غفلة معرضون} فأشفقوا ينتظرون قرب الساعة . فلما امتدت الأيام قالوا : يامحمد ما نرى شيئ مما تخوفنا به ، فأنزل الله تعالى {أتى أمر الله} فوثب النبي صلى الله عليه وسلم ورفع التاس رؤسهم فنزل {لا تستعجلوه} فاطمأنوا ، فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بعثت أنا والساعة كهتين وأشار بأصبعيه إن كادت تسبقني " . وقال آخرون : الأمر هنا هو العذاب بالسيف وهو جواب للمنتظرين الحادث حين قالوا {الهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} الآية ، يستعجل العذاب فأنزل الله هذه الآية اهـ ما ذكره الواحدي رحمه الله . وإذا تأملته علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يثب إلا فزعا من سماع قوله تعالى {أتى أمر الله} وأنه لم يثب تشريعا لأمته ليفعلوا مثل فعله . وإذا تقرر أن ذلك الوثوب إنما كان لذلك الفزع ، ولذلك رفع الصحابة رضي الله(1/177)
<80>عنهم رؤسهم فزعا ؛ وأن ذلك السبب الذي هو الفزع زال بنزول {فلا تستعجلوه} ظهر لك أن الوقوف بعد قرأة الآية غير سنة ، ولأجل ذلك لم ينقل غنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه وقوف عند قرأة الآية بعد ذلك فدل على أن فعلخ صلى الله عليه وسلم وأفعالهم إنما كان لسبب وقد زال ، وحينئذ ففعل ذلك الآن بدعة لا ينبغي ارتكابها لإيهام العامة ندبها . (1/178)
مطلب في أن القيام أثناء مولده الشريف بدعة لا ينبغي فعلها
ونظير ذلك فعل كثير عند مولده صلى الله عليه وسلم ووضع أمه له من القيام وهو أيصا بدعة لم يرد فيه شيئ على أن الناس إنما يفعلون ذلك تعظيما له صلى الله عليه وسلم فالعوام معذرون لذلك بخلاف الخاصة واله سبحانه وتعالى أعلم بالصوا . (1/179)
مطلب في إنشاد لشعر
وسئل نفع الله به : عما تفعله طوائف اليمن وغيرهم من اجتماعهم وإنشاد أشعارهم والمدائح مع ذكر مسجع هل هو ذكر أو لا ؟ وهل يفرق بينه وبين الأشعار والمدائح الغزالية ؟ وهل منعه أحد من العلماء فإن كان فما سبب منعه ؟ .
فأجاب نفع الله بعلومه بقوله : إنشاد لشعر وسماعه أن كان فيه حث على خير أو نهي عن شر أو تشويق إلى التأسي بأحوال الصالحين ، والخروج عن النفس ورعونتها وحظوظها ، والتأدب الجد في التحلي بالمراقبة للحق في كل نفس ثم الإنتقال إلى شهوده في كل ذرة من ذرات الوجود والعبادات كما أشار إليه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بقوله : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " فكل من الإنشاد والإستماع سنة ، والذي نسمعه عن اليمنية وغيرهم أنهم لا ينشدون في مجالس ذكرهم إلا بما فيه شيئ مما ذكرناه ، والمنشدون والسامعون مأجورون مثابون إن صلحت نياتهم وصفت سرائرهم ، وأما إن كانوا بخلاف ذلك فيفهمون من كلام الصالحين غير المراد به مما يليق بأغراضهم الفاسدة وشهواتهم المحرمة فهؤلاء عاصون آثمون {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} وقد وقع لبعضهم أن ينشد كلام لفسقة من الشعراء المشتمل على المرد والخمور ونحوها من المعاصي فينبغي النهي عنه ما أمكن فإنشاده وإستماعه حرام كما صرح به النووي في شرح المذهب ، وهو ظاهر لأنه يحمل لقوم سيما الفسقة منهم على محبة ذلك أو يزيد الاسترسال فيه فيهم من الشر ولفساد ما لا تحصى كثرته ولا تنقضي نهايته . وأما الذكر المسحع فإن وقع السجع فيه عن تكلف كان مكروها لأنه ينافي الخشوع وإن وقع لا عن تكلف فلا بأس به أخذا مما ذكروه من هذا التفضيل في الدعاء ، تعم يق5ع لبعضهم أنه عند السجع صغر اسمه تعالى أو وصفه كالله ملي وهذا عند تعمده حرام شديد التحريم بل ربما يكون كفرا بل أطلق بعضهم أنه كفر فليحذر ذلك .
وقول السائل : وهل يفرق بين الالأشعار لغزلية والمدائح ونحوها ؟ فحينئذ جوابه : أنه لا فرق بينهما فيما سبق من أن ما اشتمل على سخف أو هظؤ أو مدح معصية أو محرم فحرام ، وما خلا عن ذلك فمباح(1/180)
<81>والحاصل أن العبرة بالمقصود والنيات وما اشتملت عليه القلوب وأكنته الضمائر فرب سامع قبيحا صرفه إلى الحسن وعكسه فيعامل كل أحد بحسب نيته وقصده . (1/181)
مطلب إياك أن تنتقد على السادة الصوفية
وينبغي للإنسان حيث أمكنه عدم الانتقاد على السادة الصوفية نفعنا الله بمعارفهم وأفاض علينا بواسطة محبتنا لهم ما أفاض على خواصهم ونظمنا في سلك أتباعهم ومن علينا بسوابغ عوارفهم ، أن يسلم لهم أحوالهم ما وجد لهم محملا صحيحا يخرجهم عن إرتكاب المحرم ، وقد شاهدنا من بالغ في الإنتقاد عليهم مع نوع تعصب فابتلاه الله بالانحطاط عن مرتبته وأزال عنه عوائد لطفه وأسرار حضرته ، ثم أذاقه الهوان والذلة ورده إلى أسفل السافلين وابتلاه بكل علة ومحنة ، فنعوذ بك الهم من هذه القواسم المرهفات والبواتر المهلكات ، ونسألك أن تنظمنا في سلكهم القوي المتين ، وأن تمن علينا بما مننت عليهم حتى حتى نكون من العارفين والأئمة المجتهدين إنك على كل شيئ قدير وبالإجابة جدير . (1/182)
مطلب ما المراد بالكراع
وسئل نفع الله به : ما المراد بالكراع في قوله صلى الله عليه وسلم " لو دعيت إلى كراع لأجبت " ؟ فأجاب بقوله : الأرجح أنه كراع الدابة ، وقيل المراد منه مكان بالحرة ، ورده النقاد على من رواه إلى كراع الغنم وقالوا أنه تحريف ، والله أعلم . (1/183)
مطلب حديث " لا تظهر الشماتة لأخيك " الخ
وسئل نفع الله به : بما لفظه : " لا تظهر الشماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : رواه أبو يعلى بسند جيد . (1/184)
مطلب هل ترجيحات العباب معتمدة أم المعتمد ما رجحه الشيخان ؟
وسئل أدام الله النفع بعلومه : هل ترجيحات العباب معتمدة أم المعتمد ما رجحه الشيخان ؟
فأجاب بقوله : صاحب العباب رحمه الله لم يرجح شيئا وإنما تبع بعض المتأخرين في اعتراضه على الشيخين بالنص وكلام الأكثرين ظنا منه أن الترجيح لا يعول فيه إلا على ذلك ، وليس كما ظن وما جرى عليه مخالفا لهما غير معتمد في أكثره كما بينت ذلك بأدلته إجمالا في شرح خطبته وتفصيلا في شرحه عند كل محل فيه خلافا للشيخين ونحوه ، ولقد سألني بالمدينة لشريفة عل مشرفها أفضل الصلاة والسلم سنة مجاورتي بها سنة خمسين وتسعمائة بعض أفاضلها رحمه الله عن عن سبب اتباع الناس للشيخين في ترجيحهما دون غيرهما في سؤال طويل فيه كثير من المشكلات والتشكيكات ، فأجبته عن ذلك بجواب طويل يصلح مؤلفا في المسئلة مشتمل على تحقبقات تشفي العليل وتبرد الغليل وهو مسطر في الفتاوى فلينظره من أحب الوقوف عليه ، والله سبحانه وتعالى الموفق وهو أعلم بالصواب .
(1/185)
<82>
وسئل رضي الله عنه من مصنف ضياء الحلوم في اللغة ؟ .
فأجاب بقوله : هو محمد ابن نشوان بن سعيد التميمي القاضي ، كان والده عالما بالة والفرائض ، وصنف في اللغة كتابا حافلا في ثمانية أسفار وسماه ( شمس العلوم وشفاء كلام العرب من الكلوم ) سلك فيه مسلكا غريبا يذكر الكلمة في اللغة فإن كان لها نفع من جهة الطب ذكره ، فجاء ولده المذكور واختصره في جزءين وسماه ( ضياء الحلوم ) مات نشوان في حدود ثمانين وخمسمائة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب . (1/186)
مطلب فيما يقول الشخص عند طلوع الشمس والقمر وغروبهما
وسئل أدام الله النفع بعلومه : ما يستحب من الذكر عند رؤية الشمس والقمر هل هو لمن رآهما أو لمن علم بهما ولم يراهما ، وهل هو مطلوب عند كل رؤية كل رؤية أو مخصوص بالطلوع والغروب ، وهل الاستواء كذلك وما حكمة خصوصيتها ؟ .
فأجاب بقوله : أخرج ابن السني بسند ضعيف عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلعت الشمس قال : " الحمد لله الذي جللنا اليوم عافيته وجاء بالشمس من مطلعها ، اللهم إني أصبحت أشهد بكل ما شهدت به على نفسك وشهدت به ملائكتك وحملة عرشك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت القائم بالقسط لا إله إلا أنت العي الحكيم اكتب شهادتي بعد شهادة ملائكتك وأولي العلم ومن لم يشهد بمثل ما شهدت به فاكتب شهادتي مكان شهادته ، اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك السلام أسألك يا ذا الجلال والإكرام أن تستجيب لما دعوتنا وأن تعطينا رغبتنا وأن تغنينا عمن أغنيته عنا من خلقك ، اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي معيشتي وأصلح لي آخرتي التي إليها منقابي " . وأخرج ابن السني عن المهدي عن واصل عن أبي وائل أن عبد الله قال : يا جارية انظري هل طلعت الشمس ؟ قالت لا ، ثم قال واصل ، فسبح ثم قال لها ثانية : انظري هل طاعت الشمس ؟ قالت لا ثم قال لها ثالثة طلعت الشمس ؟ فقالت نعم ، فقال : الحمد لله الذي وهب لنا هذا اليوم وأقالنا فيه عثراتنا . قال المهدي : وأحسبه قال : ولم يعذبنا بالنار . وأخرج ابن أبي شيبة عن كعب الأحبار صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أفطر الصائم يعني دخل الليل استقبل القبلة وقال : اللهم خلصني من كل مصيبة نزلت من السماء ثلاثا ، وإذا طلع حجاب الشمس قال : الهم اجعل لي بيتهما في كل مصيبة نزلت الليلة من السماءإلى الأرض حسنة ثلاثا ، فقيل له ، فقال : دعوة داود على نبينا وعليه أفضل لصلاة والسلام ،فلينوا بها ألسنتكم واستقروها قلوبكم ، وكأن بعضهم أخذ منه قوله : إنه يقال عند غروب الشمس يوم الجمعة : اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وادفع عنا البلاء المبرم من السماء إنك على كل شيئ قدير ، يقول ذلك سبعا . وأخرج ابن السني عن عمرو بن عنبسة السلمي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما تستقل الشمس فيبقى شيئ من خلق الله إلا سبح الله عز وجل وحمده إلا ما كان من الشيطان وأغنياء بني آدم ، قسألت عن أغنياء بني آدم فقال : أشرار الخلق " أو قال : " شرار خلق الله " . وأخرج ابن السني عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لأن أجلس مع قوم يذكرون الله عز وخل من صلاة العصر حتى تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسمعيل " . قال لون : كان أنس إذا حدث بهذا الحديث أقبل علي وقال : والله ما هو بالذي تصنع أنت وأصحابك ولكنهم قوم(1/187)
<83>يتحلقون بالحلق : أي لطلب العلم وإقرانه. وأخرج ابن السني أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت : " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فإذا القمر حين طلع قال : تعوذي بالله من شر هذا الغلسق إذا وقب " أي غاب . وأخرج أبو الشيخ وحبان أنه يقرأيس عند طلوع الشمس . وأخرج الطبراني في الأوسط أنه يقال عند غروب الشمس : أوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، وأخرج الديلمي عن مسند الفردوس أنه عند غروب الشمس يسبح سبعين مة ويستغفر سبعين مرة .
إذا تقرر ذلك فالظاهر ويدل عليه ما مر عن ابن عمر من أمره للجارية بمراقبة الشمس حتى تطلع فتخبره أن المراد العلم بطلوعها وغروبها وأن لم يرهما ، وأن الأذكار السايقة خاصة بالطلوع والغروب دون كل رؤية وعند استقلال الشمس وهو قريب من استوائها . وحكمه تخصيص هذه الأحوال الثلاثة بتلك الأذكار السابفة أن الطلوع فيه أول ظهورها في هذا العالم ، فناسب إظهار الخضوع والذلة لله تعالى والثناء عليهبهذه النعمة العظمى التي أوجدها في هذا العالم ، إذ لو غابت الشمس عنهم دائما لتعطلت معايشهم وفسدت أقواتهم ، وسؤال الإستعاذة من العذاب الذي استوجبه عابدهما بسجوده لهما عند طلوعهما والشهادة لله باستحقاقه لكل صفة كمال وتنزيه عن كل سمة نقص بل عن كل ما لا كمال فيه ولا نقص ردا على عابدي الشمس وإظهار لفساد عقولهم وسخافة آرائهم ، وأما الاستواء فهو وقت تسعر جهنم وكان وقت غضب فناسب التسبيح والتنزيه والثناء على الله تعالى بجميل صفاته وعظيم آياته والاعتراف بأنه ما من شيئ إلا وهو مسبح حامد لله تعالى إلا إبليس وجنده والذين استحقوا ذلك الإبعاد للنار حينئذ حتى يشتد عليهم الغضب إذا دخلوها يوم القيامة فكان في الذكر الذي عند الاستواء غاية المناسبة له ، وأما عند الغروب غهو وقت إشرافها على الزوال وذهابها إلى السجود تحت العرش كما ورد فناسب أن يطلب من الإنسان الانشغال بالذكر بل ومن حين دنوها إليه وذلك من وقت العصر ، والاستعاذة بالله من كل شيئ حتى الشيطان الذي حمل أقواما بعظيم خداعه على أن يسجدوا للشمس حين غروبها أيضا ، وأنه يسبح الله وينزهه من ذلك ومن غيره حيئذ ، وأن يستغفره من عظيم ما قدم كيلا تزل قدمه كما زلت أقدام أولئك هذا ما ظهر لي في ذلك كله ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/188)
مطلب فيما يجب على المكلف اعتقاده وجوب عين
وسئل أدام الله النفع بعلومه : ما الذي يجب علينا تعلمه واعتقاده بينوا لنا بيانا شافيا لا يحتاج معه إلى مراجعة مصنف ولكم الثواب الجزيل من الله الجليل ؟ .
فأجاب بقوله : مما يجب على كل مكلف وجوبا عينيا لا رخصة في تركه أن يتعلم ظواهر الاعتقادالت الواردة في الكتاب والسنة مع تنزيه الله تعالى عما هو محال عليه مما يقتضي جسما أو جهة كالاستواء على العرش والآيات والأحاديث التي فيها ذكر الوجه واليد ، فهذه ونحوها فيها مذهبان مذهب السلف وهو الأسلم أن يفوض علم حقائقها إلىالله تعالى من التنزيه عما دلت عليه ظواهرها مما هو مستحيل على الله ، ومذهب الخلف وهو أن يخرج تلك النصوص عن ظواهرها وتحمل على محامل تليق به تعالى كحمل الاستواء على الإستيلاء ، والوجه على الذات ، والعين على تمات الرعاية ، والكلأ على الحفظ واليد على النعمة والقدرة ، والرجل على القوم والجماعة يقال رجل الجراد أي جماعته ، والقدم على الجماعة المقدمين ، وغير ذلك مما هو مبسوط في محاله من كتب العقائد وغيرها ، فالمذهبان متفقان على التنزيه عن ظواهر تلك النصوص المشكلة ،ة وإنما اختلفوا(1/189)
<84>هل يفوض علمها إلى الله تعالى ولا يتعرض لتأويلها وهو مذهب السلف ، أو يتعرض لتأويلها صونا لها عن خوض المبطلين وزيغ الملحدينوهو مذهب الخلف .
وأما بقية نصوص الكتاب والسنة مما دل على التوحيد والتقديس وسائر صفات الكمال كالعلم والقدرة والإرادة والسمعوالبصر والكلام والبقاء ، وسائر صفات السلب كليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا متحيز ولا في مكان ولا يحده زمان ولا يتصوره وهم {ليس كمثله شيئ وهو السميع البصير} فهذه كلها يجب على كل أحد أن يتعلم ظواهرها ، وكذلك يجب ذلك في نحوها ككون العبد لا يخلق أفعال نفسه خيرها وشرها وإنما لخالق لذلك والموجد له هو الله وحده لا شريك له ، وككونه تعالى يرى في الآخرة ، وككون عذاب القبر وسؤال الملكين والصراط والحوض الميزان والحساب حقا ، وأن الجنة والنار مخلوقتان اليوم وسائر ما يتعلق بالمعاش والمعاد .
ومما يجب تعلمه عينا أيضا أركان الصلاة وشروطها ومبطلاتها أي ظواهر ذلك بعد وجوبها وكذا قبله إن لم يتمكن بعده من التعلم وإدراك الفرض في وقته وكذا الصوم وكذا الزكاة إن كان له مال ، وكذا الحج إن أراد فعله أو تضيق لنحو خوف موت أو غضب أو تلف مال ، وكذا البيع إن أراده ومثله سائر المعاملات كالنكاح وكالقسم لمن معه أكثر من زوجة فهذه كلها بعد الوجوب أو إرادة الفعل ، ويجب علينا تعلم ظواهر شروطها وأركانها ومبطلاتها ، وكذلك يجب علينا تعلم ظواهر حدود أمراض القلب أسبابها وعلاجها كالحسد والعجب والرياء والسمعة والحقد والبغض نعم من خلق سايما منها أو أمكنه إزالتها من غير تعلم لا يلزمه تعلم ما ذكر من الحدود وما بعدها إذ لا حاجة به إليه والله سبحنه وتعالى أعلم . (1/190)
مطلب ماذا يقدم الداخل والخارج من رجليه
وسئل أدام الله النفع بعلومه ورضي الله عنه : الداخل إلى داره والخارج منها ما يقدم من رجليه ؟ .
فأجاب بقوله : الذي يتجه أنه يقدم اليمين في الدخول واليسرى في الخروج لأن ذلك من باب التكريم فهو كما صرح به من تقديم اليمين في لبس الثوب والخف والنعل والسراويل والاكتحال وتقليم الأظفار وفص الشارب ونتف الإبط وحلق نحو الرأس والسواك والأخذ والعطاء وغير ذلك ومن تقديم اليسار في خلع الثوب أو الخف أو النعل أو السراويل أو في دخول السوق ، ويؤيد ذلك قول ابن عبد السلام : الأصل في كل قربة يصح فعلها باليمين واليسار أن لا تفعل إلا باليمين ؛ وقد صرح الرافعي رحمه الله أن كل ما كان لازالة الأذى فهو باليسار وما كان لغيره فهو باليمين ، وأخذ منه الزركشي أن ما لا تكرمة فيه ولا إهانة يكون باليمين فعليه لو فرضنا أن دخول الدار لا تكرمة فيه ولا إهانة يفعله باليمين ، وهذا ظاهر في الدخول لأنه إما من باب التكريم وهو الظاهر قياسا على ما مر في اللبس ونحوه ، وإما من باب ما لا تكرمة فيه ولا إهانة ، وقد علمت أنه يدخل باليمتن عند الزركشي أخذا من قول الرافعي ، وأما الخروج فإن جعلناه إهانة لما يحصل من عدم الترك من العار والمشقة فهو نظير خلع السراويل لما يحصل فيه من ذلك فظاهر أنه يفعل باليسار وليس مما لا تكرمة فيه ولا إهانة حتى يأتي فيه ما تقرر عن الزركشي لما علمت أنه نظير خلع نحو الثوب فيما ذكروه فيه ، فالأوجه أن الدخول من باب التكريم وأن الخروج من باب الإهانة بالاعتبار الذي قررته أخذا من كلامهم في لبس لثوب وخلعه إذا المعنى الذي لحظوه في اللبس موجود في دخول الدار ، والذي لحظوه في الخلع موجود في الخروج كما هو ظاهر للمتأمل ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
(1/191)
<85>
(1/192)
يكره تعليم النساء الكتابة الخ
وسئل رحمه الله تعالى : ما حكم تعليم النساء الكتابة ففي وسيط الواحدي أول سورة النور ما يدل على عدم الاستجباب هل هو صحيح أو ضعيف ؟ .
فأجاب بقوله : هو صحيح ، فقد روى الحاكم وصححه عن البيهقي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تنزلوهن في الغرف ولا تعلموهن الكتابة " يعني النساء " وعلموهن الغزل وسورة النور " أي لما فيها من الأحكام الكثيرة المتعلقة بهن المؤدي حفظها وعلمها إلى غاية حفظهن عن كل فتنة وريبة كما هو ظاهر لمن تدبرها . وروى الحكيم الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهن الكتابة " . وأخرج الترمذي الحكيم عن ابن مسعود أيضا رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " مر لقمان على جارية في الكتاب فقال لمن يصقل هذا السيف " أي حتى يذبح به ، وحينئذ فيكون فيه إشارة إلى علة النهي عن الكتابة ، وهي أن المرأة إذا تعلمتها توصلت بها إلى أغراض فاسدة ، وأمكن توصل الفسقة إليها على وجه أسرع وأبلغ وأخدع من توصلهم إليها بدون ذلك ؛ لأن الإنسان يبلغ بكتابته في إلى غير ما لم يبلغه برسوله ؛ ولأن الكتابة أخفى من الرسول فكانت أبلغ في الحيلة وأسرع في الخداع والمكر ، فلأجل ذلك صارت المرأة بعد الكتابة كالسيف الصقيل الذي لا يمر على شيء إلا قطعه بسرعة ، فكذلك هي بعد الكتابة تصير لا يطلب منها شيء إلا كان فيها قابلية إلى إجابته إليه على أبلغ وجه وأسرعه ، ثم ما مر من الأحاديث يخصص حديث ابن النجار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن حق الولد على والده أن يعلمه الكتاب – أي الكتابة – وأن يحسن اسمه وأن يزوجه إذا بلغ " فقوله " أن يعلمه الكتاب " أي الكتابة خاص بالولد الذكر .
واعلم أن النهي عن تعليم النساء للكتابة لا ينافي طلب تعليمهن القرآن والعلوم والآداب ؛ لأن في هذه مصالح عامة من غير خشية مفاسدة تتولد عليها بخلاف الكتابة فإنه وإن كان فيعا مصالح إلا أن فيها خشية مفسدة ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح . وأخرج أبو نصر عبد الكريم الشيرازي في فوائده والديلمي وابن النجار عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أدبوا أولادكم على ثلاث خصال : حب نبيكم ، وحب أهل بيته ، وقراءة القرآن ، فإن حملة القرآن في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله مع أنبيائه وأصفيائه " .
فإن قلت : أخرج أبو داود عن الشفاء بنت عبد الله قالت : دخل عَلَيَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة فقال لي : " علميها رقية النملة كما علمتيها الكتابة " وهذا يدل على تعليم النساء الكتابة .
قلت : ليس فيه دلالة على طلب تعليمهن الكتابة ، وإنما فيه دليل على جواز تعليمهن الكتابة ونحن نقول به وإنما غاية الأمر فيه أن النهي عنه تنزيها لما تقرر من المفاسد المترتبة عليه ، والله سبحانه أعلم . (1/193)
مطلب فيمن قال صاحب العباب حاطب ليل هل يكفر ؟
وسئل : فيمن قال : صاحب العباب حاطب ليل ، هل يكفر إذ يفهم منه أنه مستهزئ به ؟ .
فأجاب بقوله : لا كفر بذلك إلا إن قصد الاستهزاء بالعلم من حيث كونه علما ، فإن ذلك حينئذ كفر(1/194)
<86>
كما صرحوا به في قولهم : لو قال : قصعة ثريد خير من العلم كفر ، وأما إذا لم يقصد فلا كفر يلحقه ، وإنما الذي يلحقه الذم الشديد والوصف المشعر بأنه جبار عنيد أو شيطان مريد ، فإن صدور هذه المقالة الشنيعة منه يدل إما على جهله بمقدار الكتاب وما حواه من نصوص الشافعي رضي الله عنه والأصحاب التي لا توجد في غيره كجمعها فيه ، ولا يعلم بمقدار صنيعه وحسنه وجميله إلا من أحاط بقوادمه وخوافيه وإما على حسده ، والكتاب حقيق بذلك فإنه لا يحسد إلا كامل ، ولا تشمئز نفوس القاصرين الخبيثة إلا من ذوي المعالي والفضائل وقد قيل :
ولا خلاك الدهر من حاسد *** فإن خير الناس من يحسد
وهذا الكتاب من خير الكتب لاشتماله على الجمع الكثير مع التنقيح والتحرير فرحم الله مؤلفه رحمة واسعة وأدام على نزله هواطل رضاه الهامعة آمين ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/195)
مطلب حديث " إن عيسى أخي ليس بيني وبينه نبي
وسئل نفع الله بعلومه : عن قوله صلى الله عليه وسلم " إن عيسى أخي ليس بيني وبينه نبي " أو كما قال كما في الشفاء عن مسلم ، ونقل البيضاوي في تفسيره أنه كان بينه وبين عيسى عليهما الصلاة والسلام فما الجمع بينهما ؟ .
فأجاب بقوله : خبر مسلم أصح من هذا القول ؛ فليقدم عليه وعلى التنزل فيجمع بحمل النفي فيه على أنه لم يكن بينهما نبي مشهور يعرفه كل أحد ، ولا خصوصية لمسلم بذلك فقد روى البخاري أيضا وأحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن صلى الله عليه وسلم قال : " أنا أولى الناس بعيس ابن مريم في الدنيا وليس بيني وبينه نبي والأنبياء أولاد علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد " أي فروع شرائعهم مختلفة وأصولها متحدة ، وبالله التوفيق والله أعلم . (1/196)
مطلب في حديث " وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته "
وسئل نفعنا الله بعلومه بما صورته : في الحديث الذي رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وذكره النووي في أربعينه ومجموعه وفي غيرهما : " و وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " هل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم " وليرح أو فليرح " أو فيه روايتان إحداهما بالواو والأخرى بالفاء ، وهل وجود الفاء في نسخة أو نسختين يقضي بأنه رواة يعتمد عليها حتى تنظر في أي الروايتين أظهر معنى أم لا يقضي بذلك فيحرم جعله رواية ، أو يجب الانكفاف عن قراءتها ولا يخطئ الراد على قارئها ، وإذا قلتم إن الفاء ثابته في الرواية فهل هي سببة أو لا وهل جعلها سببية أظهر معنى من رواية الواو أو لا ، وإذا لم يثبت أن الفاء ليست في الرواية فهل يجوز قراءتها في الحديث بناء على أنها أكمل معنى من الواو على ما زعمه بعض الطلبة أو لا يجوز ذلك مطلقا ، أفيدونا أثابكم الله الجنة فالمسألة واقعة حال والقصد العلم بالوارد ليرتفع الإشكال ويتضح الحال ونرجع إلى الحق فالحق أحق أن يتبع ؟ .
فأجاب نفعنا الله بعلومه : قد كشفت عن هذا الحديث في كتب فقهائنا وغيرهم مع كثرتهم كثرة مفرطة جدا ، وكتب متون الأحاديث سيما المستخرجات على مسلم وكتب شروحها مع كثرتهم كثرة كذلك فرأيت(1/197)
<87>الكل مطبقين على كل كتابة الواو في " وليرح ذبيحته " بعد نقلهم الحديث عن مسلم وحده تاره ومع غيره أخرى ، ولم نرى أحدا منهم عول على غير الواو في كتابه ولا روايته إلا سعيد بن منصور في سننه فإنه ذكره بلفظ " ثم ليرح ذبيحته " . (1/198)
مطلب في أن ابن الصلاح صرح بأن كثرة النسخ تارة تنزل منزلة التواتر وتارة منزلة الاستفاضة
وقد صرح ابن الصلاح وغيره بأن كثرة النسخ تنزل تارة منزلة التواتر وتارة منزلة الاستفاضة ، ومن المعلوم أن التواتر ولو معنويا يفيد العلم الضروري ، وأن الأصوليين اختلفوا في أي عدد يفيد التواتر وجملة ما رأيناه من الكتب التب بالواو في ذلك يقرب من أعلى ما قيل في حد التواتر ، إذا تقرر ذلك علم أن رواية الواو هي الأمر المتيقن الضروري الذي لا شك فيه ولا مرية فال يحتاج بعد ذلك إلى البحث عنه وأما الفاء فلم أر من ذكرها صريحا ولا إشارة ، ولكن السائل ذكر أنها في نسخة أو نسختين ومن المعلوم أن وجودها فيما ذكر من غير أن يوجد فيها وصف المتعين المعلوم مما يأتي لا يسوغ اعتقاد كونها رواية بالاجماع كما حكاه غير واحد من الأئمة : .
منهم الزين العراقي حيث قال : نقل الإنسان ما ليس له به رواية غير سائغ بالإجماع عند أهل الدراية . (1/199)
مطلب في أن الإنسان لا يصح له أن يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون ذلك القول عنده مرويا الخ
ومنهم الحافظ ابن حبر الإشبيلي المالكي خال الحافط السهيلي صاحب الروض فإنه قال : اتفق العلماء على أنه لا يصح لمسلم أن يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا حتى يكون عنده ذلك القول مرويا ولو على أقل وجوه الروايات ، ويوافق ذلك ويشرحه قول بعض الألفاظ إن المحدثين لا يلتفتون على صحة النسخة إلا أن يقول الراوي أنا أروي أي ما فيها بسندب المتصل . قال بعض الحفاظ بعد حكايته ذلك : وأهل الحديث في هذا الباب هم أهل الفن على الحقيقة انتهى .
وقد ظفرت عن إمام الأئمة مالك رضي الله عنه بما يؤيد ذلك ، فقد حكى جماعة من أئمة النقل عن ابن عبد الحكم عن أشهب : قال سألت مالكا أيؤخذ العلم عمن لا يحفظ وهو ثقة صحيح ؟ قال : لا ، قلت له أن يخرج كتابه ويقول هو سماعي ؟ قال : أما أنا فلا أرى أن يحمل عنه فإني لا آمن أن يكتب في كتابه ما ليس منه بالليل وهو لا يدري .
ووافه على ذلك بعض الشافعبة ، لكن المعتمد عند الجمهور جواز على الأصل لامسموع المحفوظ وإن لم تتعد أصوله التي قوبل عليها كما يأتي عن النووي وابن الصلاح رحمهما الله ، وإنما سقت مع ذلك كلام مالك لأنه صريح في المنع في مسألتنا والتشديد على من اعتمد مجرد الوجود في نسختين مثلا ويوافق ذلك ولعل الأصل فيما قاله مالك رضي الله عنه ما أخرجه الخطيب عن ابن عبد الرحمن السلمي أن عمر رضي الله عنه قال : إذا وجد أحدكم كتابا فيه علم لم يسمعه عن عالم فيدع بإناء وماء فلينقعه فيه حتى يختلط سواده في بياضه ، هذا كله فيما إذا اعتمد في كون ذلك رواية على مجرد وجوده في نسخة مثلا فلا يجوز ذلك لأن الرواية لا تثبت بذلك كما يأتي التصريح به أيضا عن غير واحد أما إذا ذكر ذلك لا على جهة الرواية ولا على جهة الجزم بل على جهة الوجادة(1/200)
<88>فإن ذلك يجوز كما صرحوا به حيث قالوا : ما وجد في نسخة من تصنيف فإن وثق بصحة النسخة بأن قابلها المصتف أو ثقة غيره بالأصل أو بفرع مقابل بالأصل وهكذا جاز الجزم بنسبتها إلى صاحب ذلك الكتاب وإن لم يوثق بصحة تلك النسخة لم يجزم بنسبتها إليهم بل يقال : بلغني عن فلان أنه ذكر كذا أو وجد في نسخة من الكتاب الفلاني كذا ، وما أشبه ذلك من العبارات التي لا تقتضي الجزم ، نعم يجوز ذلك للعالم الفطن الذي لا يخفى عليه في الغالب مواضع الإسقاط والسقط وما أحيل عن جهته . وقالوا أيضا : إن نسخ صحيح الترمذي كثيرة الخلاف في الحكم على الحديث ففي بعضها : حسن صحيح ، وفي أخرى : صحيح عريب ، وغذا أريد نسبة شيء منها للترمذي لم يجز الجزم بنسبتها إليه إلا إذا رأى في نسخة صحيحة مقابلة على أصل معتبر . وفي شرح المهذب ما ملخصه : لا يجوز الاعتماد على كتاب إلا إذا وثق بصحته فإن وجد منه نسخة غير معتمده فلستظهر بنسخ منه متفقة وإن لم يوجد غير تلك النسخة الغير المعتمدة . قال ابن الصلاح : فإن أراد حكايته عن قائله فلا يقل : قال فلان كذا وليقل : وجدت عن فلان كذا وبلغني عنه ونحو ذلك ، هذا إن كان أهلا للتخريج وإلا لم يجز له ذلك فإن سبيله النقل المحض ، ولم يحصل له ما يجوز له ذلك ، نعم إن ذكره مفصحا بحالته فقال : وجدته في نسخة من الكتاب الفلاني ونحو ذلك جاز انتهى . قال ابن الصلاح أيضا : وقد تسامح كثيرون بإطلاق اللفظ الجازم في ذلك من غير تحر ولا تثبت فيطالع أحدهم كتابا منسوبا إلى مصنف معين وينفل عنه من غير أن يثق بصحة النسخة قائلا : عن فلان كذا ونحو ذلك ، والصواب ان ذلك لا يجوز انتهى . قال بعض الحفاظ : ويلتحق بذلك ما يوجد في حواشي الكتب من الفوائد والتقييدات ونحوها ، فإن كانت بخط معروف فلا بأس بنقلها وعزوها إلى من هي له وإلا فلا يجوز اعتمادها إلا لعالم متقن . وقال ابن الصلاح أيضا ما ملخصه : لا يجوز لأحد أخذ حديث من كتاب معتمد لعمل أو احتجاج إلا بعد مقابلته على اصول متعددة وقد تكثر تلك الأصول المقابل بها كثرة تنزل منزلة التواتر أة الاستفاضة ، وخالفه النووي فقال : لا يشترط تعدد الأصول بل يكفي المقابلة على أصل واحد لكن بشرط أن يكون صحيحا معتمدا أي بأن يقابل على أصل صحيح وهكذا إلى المؤلف . (1/201)
مطلب أن ابن الصلاح موافق للنووي في عدم اشتراط تعدد الأصل المقابل عليه إذا كان النقل للرواية
وكلام ابن الصلاح موافق له على عدم اشتراط تعدد الأصل المقابل عليه إذا كان النقل منه للرواية والفرق أن العمل والاحتجاج يحتاط لهما أكثر ، وقال ابن برهان : ذهب الفقهاء كافة إلى أنه لا يتوقف العمل بالحديث على سماعه بل إذا صحت عنده النسخة من الصحيحين مثلا أو من السنن جاز له العمل بها وإن لم يسمع ، ومن هذا زما قبله تعين حمل اشتراط ابن الصلاح للتعدد على الاستحباب كما قاله جماعة .
فإن قلت : حكاية ابن برهان إجملع الفقهاء تخالف حكاية الإجماع السابق أو لا .
قلت : لا منافاة لأن ما هنا في مجرد الاستنباط من الحديث فلا يشترط فيه سماع بل صحة الأصل المنفول عنه ، وما مر فيمن أراد روايته بمجرد وجوده في كتاب من مسموعاته من غير أن يصح أصول سماعه به ولا يتيقن أنه سمعه من شيخه فهذا هو محمل إطلاقهم السابق عدم الجواز ، هذا ما يتعلق بحكم الواو والفاء من حيث النقل .
وحاصله : أن الواو ضرورية الثبوت رواية وعملا واحتجاجا وأن الفاء إن صحت النسخة التي وجدت(1/202)
<89>فيها بأن قابلها خبير ثقة على أصل معتد بأن صححه حافظ ثقة جاز الاعتماد عليها عملا وكذا رواية إن رآها في أصله المحفوظ عنده المقابل كما ذكره أو سمعها من لفظ شيخ له خبرة بالحديث وإسناد ، فإن فقد بعض هذه الشروط لم تجز قراءتها على أنها من الحديث ولا الجزم بأنها في كتاب مسلم ، وإنما الذي يجوز في ذلك أن يقول : رأيت أو وجدت في بعض نسخ مسلم كذا بالفاء . إذا تقرر ذلك فمعنى الواو واضح جلي لقوله صلى الله عليه وسلم " وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة " أو " الذبح " وهذا يشمل الإحسان بالحد والإحسان بالإراحة والإحسان بغيرهما كالتوجيه للقبلة والتسمية ونية التقرب بذبحها إلى الله والاعتراف لله تعالى بالمنة والشكر على هذه النعمة وهي إجلاله وتخسيره تعالى لنا ما لو شاء حرمه وسلطه علينا ، فلما شمل المر بالإحسان جميع ما ذكر وغيره كما صرحوا به عطف عليه بعض ما شمله وهو الأمر بالحد والأمر بالإراحة لبيان أنهما من أهم وجوه الإحسان . وأما العطف بالفاء فـ " فليرح " فلا يصح صناعة لما علم مما قررته أن عطف " ليحد ، وليرح " على " فأحسنوا " عطف خاص على عام ، وقد صرحوا في عطف الخاص على العام وعكسه بأنه لا يجوز إلا بالواو وكذا حتى في الأول ، وأيضا " ليرح " ليس معطوفا على " ليحد " بل على " أجسنوا " لأن العطف إنما هو على الأول ، وإذا كان معطوفا على " أحسنوا " كان بالواو نظير ما قبله وهو " وليحد " . وأما عطف أحدهما بالفاء والآخر بالواو مع ان كل منهما نسبة واحدة بالنسبة للمعطوف علبه فهو بعيد من الصناعة فضلا عن البلاغة . على أن في عطف " فليرح " على " وليحد " إيهام خلاف المقصود من ذلك االسياق ، وهو – أعني ذلك الإيهام - أن الأمر بالإراحة ليس متسببا إلا عن الأمر بالحد وهذا غير مراد ، وإنما الأمر بالإراحة المتسببة عن الحد وغير المتسببة عنه كالسابقة عليه بأن ال يفعله بمقابلتها وأن لا يسوقها إلى المذبح بعنف وأن يسقيها عند الذبح وأن لا يسلخها حتى تبرد وغير ذلك ، فهذا كله من الإراحة التي تتفرع على الحد ، ولكنه من الإراحة التي هي من جملة إحسان الذبح ، فتعين عطف " وليرح " بالواو على " فأحسنوا " ليفيد ذلك صريحا بعد استفادته من أحسنوا ضمنا ، وامتنع عطفه بالفاء صناعة كما مر وكذا معنى كما قررته .
فإن قلت : هل يصح العطف بالفاء على أنها لمجرد العطف بدليل رواية سعيد بن منصور في سننه إذ فيها العطف بثم .
قلت : فرق ظاهر بين الروايتين ، فإن رواية سعيد بن منصور ليس فيها أمر بالإحسان العام حتى يكون عطف الأمر بالحد والأمر بالإراحة من عطف الخاص على العام فيها ، وإنما فيها الابيتداء بالأمر بالحد ثم بالإراحة فالعطف ثم حينئذ لا امتناع فيه لأنه ليس من عطف خاص على عام بخلافه في رواية مسلم فإن فيها الأمر بالإحسان أو لا وهو عام ثم عطف عليه بعض اجزائه وهو الأمر بالحد والإراحة ، فامتنعت الفاء فيه لما تقرر أن عطف الخاص على العام لا يكون إلا بالواو وحتى ولا يجوز أن يكون بغيرهما فتأمل ذلك فإنه مهم .
فإن قلت : هل يمكن للفاء وجه لو جاءت رواية ؟ .
قلت : الآن نحن على ظن قوي أو يقين أنها ليست رواية ، فإن فرض أمكن تخريجها على أنها أجريت مجرى الواو مجازا وعليه خرج قوله :
بين الدخول فحومل
وإن كان الوجه خلافه .
فإن قلت : هل يصح ما في رواية مسلم أن يكون من عطف المفصل على المجمل نحو : توضأ فغسل وجهه الخ ؟(1/203)
<90>قلت : لا ، لأن شرط هذا أن يستوعب التفصيل أجزاء المجمل والأمر بالإحسان أعم مما بعده كما تقرر فلا يصح أن يكون ما بعده تفصيلا له ، ومعنى " إذا ذبحتم " في الحديث إذا أردتم الذبح والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/204)
مطلب في أن عطف الخاص على العام وعكسه ال يختص بالمفردات وأن العام عند النحاة أعم من عند الأصوليين
ولما بلغ بعض المنازعين هذا الجواب اعترضه بأن عطف العام على الخاص المقتدي لتعيين الواو خاص بعطف المفردات فرفع هذا السؤال لسيدنا العلامة المجيب عن السؤال آنفا وهو :
ما قولكم رضي الله عنكم : في عطف الخاص على العام وعكسه هل يختص بالمفردات أو لا بينوا مثل ذلك مع البسط أثابكم الله الجنة ؟ .
فأجاب - زاده الله نورا - بقوله : لا يختص كلا منهما بالمفردات بل يأتي فيها وفي الجمل كما صرح به أئمة من النحاة والأصوليين والمفسريين والفقهاء كالفراء وأبي حيان والبيضاوي وشراح البخاري وغيرهم ، فمن الأول قوله تعالى {ولتكن منه أمة بدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} قال البيضاوي : والدعاء إلى الخير يعم الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي وعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه – أي على الدعاء للخير – عطف الخاص على العام للإيذان بفضله ، وقوله تعالى {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة} الآية ، قال البيضاوي : عطفها على ما يعمها لإفاقتها على سائر الأعمال الصالحة ، وقوله تعالى {يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} هو من ذلك أيضا كما أشار إليه الفراء وأقره أبو حيان . قال : وزعم أن هذه الواو هنا زائدة بحذفها في آية البقرة ضعيف ، وقوله تعالى {ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} هو من ذلك أيضا كما أشار إليه البيضاوي وقوله تعالى {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} هو من ذلك أيضا كما أشار إليه أبو حيان بجعله السفك من بعض أنواع الفساد . وقوله : إن "يفسد " لا عموم فيه ، إنما أراد به توجيه الاحتياج إلى ذكر سفك الدماء ، ولا يمنع ذلك من عطف الخاص على العام بدليل تصريحه به في غير ذلك، ولأن النحاة لا يريدون بالعام والخاص المبحوث عنهما في فن الأصول ، بل ان الثاني داخل في الأول ولو بطرق البدل لا الشمول ، فالعام عندهم يشمل المطلق عند الأصوليين ، وتفسي الفساد في الآية بالشرك غير مشهور فلا يعول عليه ، وقوله تعالى {إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} من ذلك أيضا كما صرح به قول أبي حيان وآثر الفعل في قوله {وأعلم} لتكون جملة معلقة مقصودة بالعامل فلا يكون معمولا لها مندرجا تحت الجملة الأولى وهو يدل على الاهتمام بالإخبار أو جعل (1) مفردا بعامل غير العامل الأول ، ويؤيده تفسير جمع لغيب السماوات بأنه ما قضاه من أمور خلقه ولغيب الأرض بأنه ما فعلوه فيها بعد القضاء وما أبدوه وما كتموه من جملة ذلك ، وقوله تعالى {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} كما أشار إليه أبو حيان أيضا بقوله : يحتمل أن يراد به ركوع الصلاة وأمروا بذلك ، وإن كان الركوع مندرجا في الصلاة
__________
(1) قوله : أو جعل الخ لعل أو بمعنى حتى تأمل اهـ مصححه )(1/205)
<90>التي أمروا بإقامتها لأن صلاتهم لا ركوع فيها أي على أحد القولين فنبه بالأمر على أن ذلك في صلاة المسلمين .قال : ويحتمل أن يراد بالركوع الإنقياد والخضوع أي فيكون من عطف العام على الخاص ، وقوله تعالى {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسطون في الأرض} أشار البيضاوي إلى أن الأخير من عطف العام على الخاص لأنه فسر ماقبله بما يعمه وغيره ، وخالفه أبي حيان فجعل ذلك من عطف العام على الخاص حيث قال : وترتيب هذه الصلات في نهاية من الحسن لأنه بدأ أولا بنقض العهد وهو أخص هذه الثلاثة ثم بمن يقطع ما أمر به أن يوصل وهو أعم ثم أتى ثالثا بالفساد الذي هو أعم من القطع ، وقوله تعالى {اصبروا وصابروا}جعله البيضامي من ذلك حيث قال : ف {اصبروا} على مشاق الطاعات وما يصيبكم الشدائد {وصابروا} أي غالبوا أعداء الله بالصبر على شدائد الحرب ، ثم قال : وتخصيصه بعد الأمر بالصبر مطلقا لشدته ، وقوله تاعلى {فليتقوا الله وليقول قولا سديدا} ، والثاني من جملة الأول الذي هو التقوى ، وقوله تعالى {نزل عليك الكتاب بالحق} إلى قوله : {وأنزل الفرقان} جعله البيضاوي من عطف العام على الخاص فقال : ذكر ذلك بعد ذكر الكتب الثلاثة ليعم ما عداها كأنه قال وأنزل سائر ما يفرق به بين الحق والباطل ، وروى البخاري في حديث جبريل قال" فأخبرني عن الإسلام قال : أن تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان " قال العيني في شرحه : وتقيم الصلاة إلى آخره من عطف الخاص على العام أي ومثله حديث الشيخين " أن رجلا قال يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الصلاة المفروضة ، وتصوم رمضان " الحديث ، وروى البخاري وغيره في خصال المنافق " إذا اؤتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر " قال العينيي إذا عاهد غدر داخل في قوله : إذا اؤتمن خان ، وإذا خاصم فجر داخل في قوله إذا حدث كذب . وروى الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال " صلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأطيعوا ما أمركم به تدخلوا جنة ربكم " وهذا من عطف العام على الخاص والأمثلة في لبقسمين كثيرة جدا ، وفي الذي تيسر الآن كفاية ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/206)
مطلب في أن بعضهم جميع ما في الصحيحين مما سلم من التعقيب ضروري النسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ثم كتب إليه بعضهم ما صورته : لو قال قائل : قد ذكر مولنا في جوابه ما نصه : وقد صرح ابن الصلاح وغيره بأن كثرة النسخ تنزل منزلة التواتر تارة وتارة آخرى منزلة الاستفاضة ، ومن المعلوم أن التواتر ولو معنويا يفيد العلم الضروري ، وأن الأصوليين اختلفوا في أي عدد يفيد التواتر ، وجملة ما رأيناه في الكتب التي بالواوقي ذلك تقرب من أعلى ما قيل في حد التواتر. إذا تقرر ذلك علم أن رواية الواو هي الأمر المتيقن الضروري الذي لا شك فيه ولا مرية فلا يحتاج بعد ذلك إلى البحث عنها انتهى كلام مولنا . ومن المعلوم أن التواتر الذي يفيد العلم الضروري هو ما كان متواترا في كل طبقة ، وأنه لا يكفي احتمال تواتره ولا ظنه إذ اللمشكوك والمظنون لا ينتج القطع ، فقول ابن الصلاح : إن كثرة النسخ تنزل منزلة التواتر ، يجب حمله على كثرة النسخ في سائر الطبقات أو كلامه فيما إذا لم تكن إلا طبقة واحدة وإلا فلو تعددت الطبقات وفقدت الكثرة في بعض الطبقات فلا وجه لتنزيلها منزلة التواتر في إفادة العلم الضروري مع أن المتواتر نفسه إذا فقد في بعض(1/207)
<92>الطبقات لا يفيد العلم لضروري ، ومن المعلوم أن جملة المروية بالواو المشار إليها ليست في جميع الطبقات ، وأنه لا يلزم من كثرتها كثرة بقية الطبقات لجواز أن تكون بعض الطبقات التي هي قبل هذه لم تبلغ من الكثرة بحيث تنزل منزلة التواتر ، ومجرد الاحتمال والظن لو فرض لا يكفي فلابد من إثبات الكثرة في بقية الطبقات أو إثبات أن جميع الكتب أخذت من مسلم ، ولا يكفي مجرد دعوى ذلك ولا دعوى أنه حصل لنا العلم الضروري وهو آية حصول ذلك لأن العلم الضروري الحاصل بواسطة الكثرة لا يختص مع أنه على هذا يكون حصول العلم الضروري دليل التواتر ، والمذكور في الجواب العكس على أن دعوى ذلك لاتسري إلا على الخصم المانع ، فقول مولانا إذا تقرر ذلك علم أن رواية الواو هي الأمر المتيقن الضروري الذي لا شك فيه ولا مرية فلا يحتاج بعد ذلك إلى البحث عنها ممنوع فما يكون جوابا لهذا القائل ؟ .
فأجاب أيضا نفعنا الله بنوره ، بقوله : إن المحدثين أثبتوا أن هذه الكتب نقلت عن أصحابها تواترا وأن ذلك التواتر مستمر في حميع الطبقات إلى وقتنا هذا ، ونحن لم ندع العلم في في نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل في نسبتها لمسلم وذلك مما لا مرية فيه ، فإن ما رأيناه من الكتب معها كثرة تامة في الطبقة التي بعد مسلم وكثرة كذلك فيمن بعدها وهكذا ، ونسخة مسلم بمنزلة نسخة الأم أو المنهاج مثلا فلا يسع أحدا أن يقول إن نسبة ذلك لمؤلفيه ظني ، بل لو جرى جمع من المحدثين على أن كل ما في الصحيحين مما سلم من التعقيب المعتد به ضروري النسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووجهوه بما أحوج إلى تكلف في الجواب عنه ، ومما صرحوا به أن التواتر يحصل لقوم دون قوم فنحن قد نحصل لنا العلم الضروري بذلك ولا يلزم منه حصوله لغيرنا الذي لم يبحث كما بحثنا ولو بحث أحد كذلك لحصل له ذلك العلم ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .
ثم كتب إليه ذلك البعض أيضا ما لفظه : تحيط العلوم الكريمة أدام الله التمتع بها آمين بأنه لم يكن النزاع إلا في صحة الفاء لا في الترجيح بينها وبين الواو ، غاية الأمر أن الفقير لما ادعى صحة الفاء قال له المستفتي فيها تكلف / فقال له الفقير لا نسلم التكلف بين وجهه ، فقال بديهي ، فقال له باطل ، هذا غاية ما وقع في المجلس بشهادات العدول الثقات ، ثم لا يخفى أن الفقير مجيب قيكفيه الاحتمال وينفعه المنع بخلاف ما مدعى بطلان الفاء فإنه مستدل فيحتاج إلى الدليل الحسم المانع لصحة الاحتمال كما تقرر ذلك في محله ، فحاصل ما يقوله القير : لا نسلم عدم صحة الفاء هنا ، ولا نسلم أن العطف ههنا يتعين أن يكون عطف الخاص على العام ، وإنما يكون من ذلك لو كان المراد الإحسان ، وكان المراد بالإرراحة مفهوما متناولا لبعض تلك الأمور فقط ، وكان قوله " وليحد " وما بعده معطوفا على قوله " أحسنوا " ولا نسلم أن شيئا من ذلك متعين لم لا يجوز وجوه أخر مخلصة من هذا المجذور :
منها أن يكون العطف على أحسنوا لكن يراد بإحسان الذبح على الوجه الحسن المتناول لإيقاعه مع تعجيل إمرارها إلى آخره ، وتجعل الإراحة عبارة عن تحديد السكين وتعجيل إمرارها وغير ذلك ، ولا شك أن الإحسان بهذا المعنى والإراحة بهذا المعنى متباينان إذ الإيقاع المذكور لا يتناول التحديد ولا تعجيل الإمرار مثلا وإن حصل به ، وكذا لو جعلت الإراحة بمعنى جعل الذبيحة في راحة من التعذيب أأو نحو ذلك يكون مباينا للإحسان بالمعنى المذكور .
(1/208)
<93>
والحاصل أنه يتم حمل الإحسان على المذكور والإراحة على المعنى المذكور وبذلك يتباينان فيصح عطف أحدهما على الآخر بالفاء ولا يكون من عطف الخاص على العام ، وإمكان حملهما على معنى يقتضى أن يكون بينهما عموم وخصوص لا يوجب الحكم بفساد الفاء مع إمكان الحمل على غير ذلك المعنى ، ولا يكفي الاستدلال على الفساد أن بعضهم فسرها بمعنى يقتضي العموم والخصوص ، لأن تفسيره بذلك لا يوجب فساد التفسير بغيره مع قبول اللفظ واحتماله ونحن في مقام المنع فلا يكفي الاستدلال بتفسير الغير بل لابد من الدليل على إمكان هذا المعنى وعدم صحة حمل اللفظ عليه .
ومنها أن تجعل الواو ف " وليحد " للاستئنافكما قيل بذلك في قوله تعالى {لنبين لكم ونقر في الأرحام} وقوله " فليرح " عطف على " ليحد" لكن لاتفسر بنفس التحديد وتعجيل الإمراروغير ذلك حتى يكون من عطف العام على الخاص وهو ممتنع أيضا بل بمعنى يتحقق بهذه الأمور كجعلها في راحة ، وحينئذ لا يكون من عطف الخاص على العام ولا من عطف العام على الخاص إذ جعلها في راحة مثلا ليس صادق على لتحديد وإن تحققبه ، فإن ادعى أن الاستئناف إنما يكون في الإخبار فلا يكون في الإنشاء فلابد من الدليل أنهم أطلقوا أن الواو تكون للاستئناف فصرفه ظاهره لا يسوغ لغير دليل .
ومنها : أن الفاء في " فلبرح " للاستئناف فإنها ترد له كما قاله جماعة ، وجعلوا منه قوله تعالى {كن فيكون} وقوله * ألم تسأل الربع القواء فينطق * وإن قال في المعنى : إن التحقيق في ذلك أن الفاء للعطف وأن المعتمد بالعطف الجملة لا الفعل وحده لأن ذلك لا يمنع المسألة من أصلها .
ومنها أن قوله " فليرح " جواب شرط محذوف ومثل ذلك شائع ذائع .
ومنها : أن قوله " وليحد " ليس معطوفا على " أحسنوا " على محموع الشرطية مهي " إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة " بناء على أن الكلام منجموع الشرطية وأن مضمونها الحكم بلزوم الجزاء للشرطية ، وهو ما صوبه السيد وغيره وهو مذهب المنطقيين أيضا ، ويوافقه قول ابن هشام وغيره إن الكلام قد يتركب من جملتين ومثل بالشرطية ، وأما ما وقع للشيخ سعد الدين من أن الكلام هو الجزاء فقط والشرط قيد له خارج عنه فرده السيد ، وإذا كان العطف على مجموع الشرطية لم يكن من عطف الخاص على العام لأن مضمون الشرطية لا يتناول المعطوفات المذكورة كما هو ظاهر . غاية ما في الباب أنه يرد حينئذ أنه يلزم عطف الإنشاء على الخبر والجواب أن ذلك لا يمنع الصحة لأن عطف الإنشاء على الإخبار أجازه كثيزون وصوبه أبو حيان وغيره ، وفي حاشية الكشاف للتفتازاني عطف الإنشاء على الخبر كثير واقع في كلامهم ، ولا ينافيه ما ذكره في المطول بقوله ( وهو حسبي ونعم الوكيل ) لأنه لم يرد به الإعتراض بل تحقيق المقام كما صرح به في حاشية له على هامش المطول ، ولهذا ردوا على السيد حيث حمل كلامه على الإعنراض فاعترض بأنه حمل الكلام على خلاف مراد قائله من غير ضرورة أو أن ذلك من باب عطف القصة على القصة كما قيل بذلك في : وهو حسبي ونعم الوكيل وأن نوزع بأن شرط ذلك تعدد الحمل في المعطوف والمعطوف عليه لأن هذه المنازعة على تسليمها لا تجري هنا ، ويا سبحان الله نراهم يواحهون الصحة في مواضع لا تحصى مما هو أدنى من ذلك بمراتب عديدة .
وعين الرضا من كل عيب كليلة ولكن عن السخط تبدي المساويا
ثم رأين في جواب مولانا ما نصه :(1/209)
<94>
فإن قلت : هل يصح العطف بالفاء على أنها لمجرد العطف بدليل رواية سعيد ابن منصور في سننه إذ فيها العطف بثم .
قلت : فرق ظاهر بين الروايين ، فإن رواية سعيد ابن منصور ليس فيها أمر بالإحسان العام حتى يكون فيه عطف الأمر بالحدوالأمر بالراحة من عطف الخاص على العام ، وإنما فيها الإبتداء بالأمر بالحد ثم بالإراحة ، فالعطف بثم حيئنذ لا امتناع فيه لأنه ليس من عطف خاص على عام بخلافه في رواية مسلم فإن فيها الأمر بالإحسان أولا وهو عام ثم عطف عليه بعض أجزائه وهو الأمر بالحدوالإراحة فإمتنعت الفاء فيه لما تقرر أن عطف الخاص على العام لا يكون إلا بالواو وحتى ولا يجوز أن يكون بغيرهما فتأمل هذا فإنه مهم نفيس انتهى كلام مولانا وفيه أمران :
أحدهما : أن ما ذكره في السؤال يدل على عطف الخاص على العام بالفاء إذا كان لمجرد العطف . على أنهم اطلقوا أن الفاء لا تجوز في عطف الخاص على العام ، فإن كان في كلامهم تقييد لامتناع الفاء في عطف الخاص على العام فلا بأس بإفادته .
وثانيهما : أن رواية سعيد ابن منصور وإن لم يكن فيها أمر بالإحسان العام بل الإبتداء بالأمر بالحد ثم بالإراحة إلا أن الإراحة أعم من الحد فيلزم عطف العام على الخاص وهو ممتنع كعكسه بل هو من خصائص الواو ، فقوله فالعطف بثم حينئذ لاامتناع فيه لأنه ليس من عطف خاص على عام يقال عليه لكنه من عطف عام على خاص وهما سواء في الامتناع بثم الفاء . فإن ادعى مولانا أن الإراحة ليست عامة للتحديد بل يفسرها بوجه لا يتناوله كان ذلك لنا لا علينا . فنقول : الواو في " وليحد " للاستئناف ،وقوله " فليرح" عطف على " وليحد " ولا محذور لأنه ليس من عطف الخاص على العام ولا من عكسه ، بل يجوز لنا على قياس هذا أن نفسر الإحسان بوجه لا يتناول الإراحة ، فلا يكون متناولا لها فيصح عطفها عليه ، من غير لزوم عطف الخاص على العام .
فأجاب أدام الله النفع بعلومه : لسنا بصدد ما وقع ولا لنا التفات إليه وإنما نحن الآن بصدد بيان الحق في هذه الواقعة مع السلامة بحمد الله عما أشير إليه بإنشاد : وعين الرضا الخ مما كان الأولى حمل الأمر فيه على السداد ، وذلك الحق هو أن الواقع دعوتان متعارضتان دعوى البطلان وهي السابقة كما قاله القاريء ودعوى الصحة مهي المتأخرة كما برهن عليها بما قيل عنه تكلف ، وأنت في الحقيقة المستدل وغيرك ادعى أولا ولم يستدل لمدعاه فكل منكما مدع . على أن التأخر مع الاستدلال فيه شبه غصب للمنثب كما لايخفى فنتج أنك مستدل لا مجيب وأنه لا يكفيك المنع ، وعلى كل فمثلا هذه المباحث لا يفيد فيها الاصطلاح كما طفحت به نصوص الأئمة واستدلالاتهم ، وإنما ذلك في العقليات ونحوها ، ولو سمعنا في الأدلة الشرعية مجرد المنع لأفضى ذلك إلى خرق كبير إذ لا ينتهي الأمر فيها إلى ما يقطع بفساد المانع بخلاف العقليات ثم قولك لما لا تجوز وجوه أخرى إلى آخره يقال عليه إنما يحتاج لتكلف تلك الأمور لو صحت رواية الفاء فكان تجويز تلك متعينا للاضطرار إليه ، أما تجويز ورودها والتمحل له بتلك التكلفات غلا حاجة إليه ، والمنازعة في شيئ مع ظهور المراد منه ليس من أدب المحصلين . على أنه يلزم من ذلك لتجويز محظور مناف لما أصلوه قرروه هو أنه لا يتحقق لنا عطف خاص على عام ولا عكسه لأنه ما من عام وخاص إلا ويمكن أن يحمل العام فيه على بعض(1/210)
<95>الأفراد المخالفة لذلك الخاص فيحصل التباين فعلمنا أن ذلك الحمل غير سائغ وأن المراد بالعامم والخاص باعتبار مدلولهما المتبادر منتهما لغة في كلام أهل اللغة أو شرعا في كلام أهل لشرع ، وما نحن فيه إنما من كلام الشارع صلى الله عليه وسلم فليس لنا خمله على معنى لغوي أو عرفي أو عقلي وإنما يحمل على المعنى الشعي ، وهو في إحسان الذبح يشمل مقدماته وذاته ولواحقه كما صرح به أهل الشرع ، والمعول ي هذا ليس إلا عليهم فتعين على كل أحد قبوله . وإذا كان الإحسان بهذا المعنى الشرعي المتبادر منه عند أئمة الشرع ظهر أنه من عطف الخاص على العام ، وأن تلك التجويزات لا تجدي هنا شيئا لما تقرر مما لم يعول فيه على محض تفسير البعض بل على ذلك وما معه مما يستقل بالحجة في منع تلك التجويزات هنا ، وقولك المتناول لإيقاعه مع التحديد يستلزم أن التحديد مأمور به وإلا لم تكن لتلك المعية فائدة ، وحينئذ فيكون " وليحد " عطف خاص على عام وهو المدعي ، وقولك وتجعل الإراحة الخ يازم عليه " وليرح " عطف عام على خاص بالنسبة لقوله "وليحد " وهو تتعين فيه الواو أيضا فما أريد الفرار منه حصل الوقوع فيه ، ولو تمسكنا بقول الأئمة تعليلا في ندب التحديد والإراحة لأنه من إحسان الذبح المأمور به لكان ذلك كافيا وشاهد صدق لا يقبل المنع على أم ما في الحديث من عطف الخاص على العام ، وكونك في مقام المنع بأن الواقع خلافه وأن مقامك الاستدلال على أنه لا يليق بك أن تقول إن تفسير أئمة الشرع مما يوجب العموم والخصوص ليس دليلا علي ، ثم رأيت دليلا من السنة واضحا لا يقبل النزاع على أن ذلك من عطف الخاص على العام وهو حديث مسند لدارمي ولفظه : " حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتين قال : إن الله كتب الإحسان على كل شيئ ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته ثم ليرح ذبيحته " فقوله " اثنتين " صريح في أن " وليحد ، وليرح " داخلان في إحسان الذلحة الذي هو الخصلة الثانية ، والأواى هي إحسان القتلة في القود والدود فظهر إدخال " وليحد وليرح " في العدد وإنما ألغيا وعد ما شملهما وهو إحسان الذبح وهذا صريح في عدم مباينتهما الإحسان ، وإلا لبطل قول الصحابي اثنتان مع أنه يرجع إليه لأنه من أهل للسان والشرع فيما هو أخفى من ذلك فتأمل ذلك فإنه نفيس ، وتجويز أن الواو في " وليحد " للاستئناف صحيح في حد ذاته لا همنا لأنه يلزم عليه أن الأمر بالإحداد لا بقيد إرادة الذبح ولا قائل به فيما نعلم فتعين بمقتضى شهادة السياق وغرض تعليمهم ما يتعلق بإحسان الذبحأن العطف على " أحسنوا " حتى يكون الأمر بالإحداد مقيدا بإرادة الذبح وإنما صح الاستئناف في " نقر" وفي فيكون لأن ما قبلها ليس شرطا في مفادها فليس نظير ما نحن فيه ، وهذا الذي قرته بعينه هوالمانع لصحة كون الفاء في " فليرح " لو وردت للاستئناف أنه يلزم عليه الأمر بالإراحة لا بقيد الذبح فلا تمتهن في عمل ما ولو بما لا يتعبها ولا قائل به أيضا ، وهو المانع أيضا لصحة عطف " وليحد " على مجموع جملة الشرط والجزاء على ما فيه ، وبيانه واضح مما تقرر أنه يلزم عليه الأمر بمطلق إحداد الشفرة ومطلق الإراحة ولا قائل به فاندفع هذا وما رتب عليه كالذي قبله ، ولم يحتج إلى منع تصويب السيد وغيره عطف الإنشاء على الخبر كما عليه الجمهور ، وقولك نراهم الخ صحيح ولو وردت الفاء تكلفنا لها أدنى من هذه التكلفات كما يعلم مما يأتي ، فإذا لم ترد فلا حاجة إلى ذلك التكلف على أنه يلزم عليه إيهامات تنافي الحكم المقرر وكلام الأئمة كما تقدم فلم نقل بصحة الفاء .
فإن قلت : لا نظر إلى تلك الإيهامات لأنها معلومة من أدلة أخرى خارجية .
(1/211)
<96>
فلت : لا عذر في إخراج دليل عل ظاهره لغير موجب وإن لم يترتب عليه إيهام فكيف بهذا الذي يترتب عليه تلك الإيهامات ، وقولك : وعين الرضا عن كل عيب ، ويدفعه أن الله هو المطلع على الفلوب والعالم بحقائق ما انطوت عليه يعامل كل قلب بما انطوى عليه ويقصم من أراد غير واضح الحق بحسب ما أدى إليه إجتهاده وترويه ، وما ذكر في السؤال لا يدل على ذلك صريحا لأنه على التنزل على أن مرادنا بمجرد العطف أن الفاء في عطف الخاص على العام وعكسه إذا جعلنها بمعنى الواو تجوز أنها قد تأتي بمعنها ، وهذا القدر كاف لك في ادعاء صحة الفاء لو وردت ، وقولك : إلا أن الإراحة أعم من الحد ممنوع لأن هذه الرواية لما جاءت بثم لزم أن تفسر الإراحة بأمر يترتب على الحد بما لا يشمل الحد ، ولو وردت الفاء لكنا فعلنا فيها نظير ذلك كما أشرنا إليه ، فما ذكرناه في السؤال والجواب لا غبار عليه على أني رأيت بعدج ذلك في رواية الدرامي التي قدمتها آنفا العطف بثم مع ذكر الأمر بالإحسان ، وأخذت من ذلك أن قولهم بتعين الواو في عطف الخاص على العان وعكسه إنما هو أغلبي ولو وردت الفاء لجعلنها بمعنى الواو كما مر أو من غير الغالب كما جعلنا ثم كذلك . وقد يقال لا يلزم من تجويزهم ثم لما دلت عليه رواية الدارمي تجويز الفاء كما تقرر فتأمل ذلككه والله أعلم ويهدي منيشاء إلى صراط مستقيم ، وكتب ذلك على عجل ونحن بالمسجد فإن أشكل فيه شيئ فلا بأس بالمراجعة ، فإن القصد بشهادة الع تعالى وكفى به شهيدا ، إظهار الحق لا غير وفقنا الله جميعا لطاعته آمين .
ثم كتب إليه ماصورته : أطال الله بقاء مولانا وقفنا على جوابه الشريف وإذنه في مراجعته فيما أشكل علينا منه ، ومنه يؤخذ الإذن في مراجعته فيما أشكل من غير هذا الجواب أيضا ، وقد أشكل على الفقير لقصوره وتقصيره أشياء من هذا الجواب ومن غيره ، فأما ما أشكل من غيره فهو أن مولانا استدل على أن الواو أمر متيقن ضروري لا شك فيه بكثرة النسخ ، فإنها قد تنزل منزلة المتواتر كما قاله ابن الصلاح وغيره ، وقد عرضنا على مولانا ما أشكل علينا من ذلك في ورقة صغيرة وهي معروضة عليه أيضا مع هذه الورقة .
فأحاب فيها : بأن المحدثين أثبتوا أن هذه الكتب نقلت عن أصحابها تواترا وأن ذلك التواتر مستمر في جميع الطبقات إلى وقتنا هذا إلى آخر ما أفاده مولانا ، وهذا الجواب قد أشكل علينا أيضا لأن الذي أثبتوا تواتره إلى الآن هو إجمالات هذه الكتب بمعنى أن الجملة المخصوصة المسماه بصحيح مسلم ثبت بالتواتر أن مصنفها وجامعها هو مسلم الإمام المعروف لا تفصيلاتها بمعنى أن الكل لفظة من نسخ تلك الكتب بخصوصها ـ وثبت بالتواتر أنها لفظة صاحب لكتاب بعينها ، ومسألتنا من الثاني لا من الأول فإن كان هناك نقل بأن التفصيلات بالمعنى المذكور متواترة بالنسبة لنا أيضا فلمولانا على إفادته الثواب الجزيل ؛ وكذا على بيان أن أي تفصيل متواتر النسبة فإن ألفاظ النسخ متفاوتة تفاوتا عظيما ، ويختلف العلماء فيها اختلافا كثيرا ، ولا يمكن أن يكون محل الألفاظ المختلفة متواتر النسبة وإلا دخلت الفاء فيما نحن فيه فلابد من بيان القدر الذي نحكم عليه بالتواتر بالنقل لتعظم الفائدة ، وأما ما أشكل علينا من هذا الجواب فأمور :
منها : قول مولانا : وذلك الحق هو أن الواقع دعوتان متعارضتان ، إلى قوله : وغيرك ادعى أولا ولم يستدل لمدعاه . ووجه أشكال ذلك أن مولانا استدل على أن الفقير هو المستدل بتأخر دعواه مع استدلاله عليها ، وتقدم دعوى غيره مع عدم استدلاله عليها مع أن ذلك لا ينتج كون الفقير مدعيا فضلا عن كونه هو(1/212)
<97>المستدل لأن دعواه الصحة منع أورده بصورة الدعوى مبالغة وهم يفعلون مثل ذلك ويصرحون به ، وما ذكره في صورة الدليل ليس دليلا بل سندا لمنع فلا استدلال ، وظهر من هذا أن الإعتراض على ما ذكره الفقير لا يفيد لأن إبطال السند الغير مساوي لا يفيد فضلا عن مجرد الإعتارض عليه من غير إبطال نعم يرد على الفقير شيئ آخر وهو أنهم قرروا أن الدعوى لا تمنع فحيث اقتصر مدعى البطلان على الدعوى من غير استدلال لم يجز الإعتراض عليه بالمنع . والجواب أن ذلك جائز ، وإن كان تسميته منعا مجازا والمقصود طلب الدليل كما صرحوا بذلك أيضا ، قال العضد في مقدمته في ذلك : ولا يمنع النقل إلا مجازا ، قال في قوله : والمدعي إلا مجازا : أي لا يمنع المدعي أيضا ؛ ثم قال : لكن جواز منع المدعي مجازا على طريق إطلاق الكل أعني طلب الدليل على مقدمته ، وإرادة الجزاء أعني طلب الدليل خال من التعسف الذي قلنا في النقل انتهى .
ومنها : قول مولانا : فكل منكما مدع على أن التأخر مع الاستدلال فيه عصب لمنصب كما لا يخفى ، ووجه الإشكال أنه ظهر أن الفقير مانع لا مدع وأن مدعي البطلان ما لم يستدل عليه لا يكون مستدلا ، فلا يكون منصب الاستدلال له حتى يكون استدلال مدعي لصحة لو فرض أنه مستدل غصبا للمنصب كيف والغصب هو منع مقدمة من مقدمات الدليل مع الاستدلال على انتفاء تلك المقدمة الممنوعة وذلك غير موجود ههنا ، على أنه كما علم ليس ما أورده الفقير دليلا بل سندا للمنع ، ولم يقل أحد إن المنع مع السند غصب فلا غصب أيضا على فرض أن المدعي البطلان مستدل ، وبهذا يظهر وجه إشكال قول مولانا فنتج الخ .
ومنها : قوله : ومثل هذه المباحث لا يعتبر فيها ذلك الاصطلاح الخ ، والذي عند الفقير أن المشايخ الأئمة الجامعين بين المنقول المعقول حتى في اعتقاد مولانا يقدرون عمومها ويستعملونها في مثل هذه المباحث وهو المفهوم من كتب ذلك الفن أيضا والتخصيص يحتاج لدليل واضح .
ومنها : قول مولانا : ولو سمعنا في الأدلة الشرعية الخ ، ووجه إشكاله أن استعمال ذلك الإصطلاح واقع في كتب الفقه وغيرها فكم في المحلي وكتب شيخ الإسلام ونحوها من قوله . وأجيب بالمنع وجوابه المنع ونحو ذلك ، وكم في أجوبتهم عن اعتراضات البلقيني وغيره على الشيخين بالنصوص من مثل ذلك قيقولون لا نسلم أن مراد الشافعي رضي الله عنه كذا لم لا يجوز أن يكون مراده كذا إلى غير ذلك ، على أن ما نحن فيه ليس أمرا شرعيا ، فإن النزاع في صحة الفاء وعدمها وهذا ليس أمرا شرعيا ولا يختلف الحكم الشرعي بذلك فإن إحسان الذبح والتحديد والإراحة أمور مطلوبة متحقق طابها سواء صحت الفاء أم لا وسواء ثبت العموم والخصوص أو التباين .
ومنها : قوله : ثم قولك لم لا يجوز وجوه أخرى الخ يقال عليه إنما يحتج ل تكلف تلك الأمور الخ ، ووجه إشكاله أن الفقير لم يدع الاحتياج لذلك بل مجرد الصحة والصحة لا تتوقف على صحة رواية الفاء ، وفرق بين دعوى الاحتياج ودعوى مجرد الصحة ، وأن نسبة هذه الأمور إلى تكلف تحتاج لدليل واضح مع أن هذا الكلام يتضمن الاعتراف بالصحة مع التكلف وهو بعض المطلوب فإن الصحة من المطلوب .
ومنها : قوله : أما تجويز ورودها الى آخره ، ووجه إشكاله أن الفقير لم يدع الاحتياج إلى تجويز الورود حتى يقال فلا حاجة إليه مع أن مجرد التجويز لا يمكن إبطاله فإنه لم يقم برهان على عدم الورود بل الأمر على الاحتمال ، وأن نسبة ذلك إلى التمحل تحتاج إلى الدليل الواضح على أثبات كونه تمحلا .
(1/213)
<98>ومنها : قوله : والمنازعة في شيئ الخ ، ووجه إشكاله أن مدعي البطلان المستفتي أحرى بأن يقال له ذلك .
ومنها : قوله : على أنه يلزم من ذلك التجويز الخ ، ووجه إشكاله أما أولا فهو أنه ليس اللام أنه لا يتحقق لنا عطف خاص على عام مطلقا ، بل إنه لا يتحقق لنا عطف خاص على عام لا يمكن تأويله بما يخرجه عن كونه عطف خاص على عام ، وحينئذ فنقول : لا محذور في هذا اللازم فإن لذلك نظائر في كلامهم .
منها: أنهم قرروا أنه لا يجوز عطف الإنشاء على الإخبار ،ة ولما اعترض على قوله ( هو حسبي ونعم الوكيل ) بأنه من عطف الإنشاء على الإخبار أجابوا بأجوبة كثيرة جدا تجري كلها أو بعضها في سائر المواضع ، ولم يمنعهم من الجواب بها لزوم ما ذكر من تلك الأجوبة أن قوله ( ونعم الوكيل ) بتقدير وهو مقول فيه نعم الوكيل فهو عطف إخبار على إخبار .
ومنها : قوله : ( وهو حسبي ونعم الوكيل ) لإنشاء إظهار الكفاية فهو عطف إنشاء على إنشاء . ومنها أن واو ونعم الوكيل للاستئناف . ومنها : غير ذلك . وأما ثانيا فهو أن هذا اللزوم ممنوع لأنه ليس في كلام أهل الشرع نص على أن حقيقة معنى الإحسان في الحديث هو نفس تلك الأمور ، ولأن تكون عبارة عما يحصل بتلك الأمور بل رأيت في بعض شروح الأربعين تقسير الإحسان بما حاصله عدم التعذيب ونحوه ، وتفسير الإراحة بنفس التحديد ونخوه فحاصل الكلام لا نسلم أن معاني هذه المتعاطفات هي المعاني الفلانية التي يلزم أن يكون بينها العموم والخصوص ، ولكن نؤولها بحيث يخرجها عن العموم والخصوص ، وأما إذا كان للمتعاطفات معان مقررة معلومة من الخارج بحيث يكون منها العموم والخصوص فلا تخرج عن تلك المعاني بلا ضرورة ، وأيضا فيجوز أن يكون من أفراد عطف الخاص على العام ما لا يمكن تأويله فمن ادعى أن كل فرد يمكن تأويله فعليه الإثبات بالدليل ولا دليل له إلا الاستقراء التام .
ومنها : قوله : وقولك المتناول لإيقاعه مع التحديد يستلزم أن التحديد مأمور به وإلا لم تكن لتلك المعية فائدة ، وحينئذ فيكون " وليحد " عطف خاص على عام وهو المدعي ، ووجه إشكاله واضح وهو أنه لا يلزم من كونه مأمور به أن يكون عطف خاص على عام ، فما وجه هذه الملازمة ومن أين جاءت فإنه على هذا التقدير يكون المعطوف الأمر بالتحديد وغيره وهما متباينا قطعا .
ومنها : قوله : وقولك : وتجعل الإراحة الخ يلزم عليه أن " وليرح " عطف عان على خاص بالنسبة إلى قوله " وليحد " وهو يتعين فيه الواو أيضا الخ ، وجه إشكاله أن وليرح ليس معطوفا على وليحد بل على أحسنوا ، والنظر إلى العموم والخصوص إنما هو بين المعطوف والمعطوف عليه فمن ادعى أن النظر إلى ذلك بين المعطوف وغير المعطوف عليه من المتعاطفات أيضا فعليه إثباته بالنقل وحينئذ يجاب بجواب آخر فلم يحصل الوقوع فيما أريد الفرار منه .
وقوله : ولو تمكنا الخ ، قول لا يقبل المنع ، ووجه إشكاله أنه لا يخفى أن معنى إحسان الذبح بحسب الوضع ليس نفس التحديد وغيره بل ما يحصل بالتحديد وغيره فيجوز أن يكون هذا التعبير منهم على التجوز(1/214)
<99>ويكون المراد بإحسان الذبح في هذا التعبير أسباب الإحسلن مجازا من إطلاق اسم المسبب على السب وقرينة هذا المجاز ومرجحه أن المجاز خير من النقل ثم لا يلم من تجويزهم هنا تجويزهم في تفسير الحديث .
ومنها : قوله : وإن مقامك الاستدلال ، ووجه إشكاله أنه بان خلافه .
ومنها : قوله : على أنه لا يليق بكل الخ ، ووجه إشكاله أن الفقير لم يدع ذلك ، وصورة لفظه ، ولا يكفي الاستدلال على الفساد أن بعضهم فسرها بمعنى يقتضي العموم والخصوص ، لأن تفسيره بذلك لا يوجب فساد التفسير بغيره مع قبول اللفظ واحتماله ونحن في مقام المنع فلا يكفي الاستدلال بتفسير الغير بل لابد من الدليل على إمكان هذا المعنى ، وعدم صحة حمل اللفظ عليه انتهى .
وحاصله : أن كلام الأئمة ليس نصا في أن معنى إحسان الذبح نفس تلك الأمور ، بل محتمل وقابل لأن يكون معناه ما يحصل بتلك الأمور ، فإن فرض أن أحدا منهم وقع في كلامه إطلاقه على نفس تلك الأمور صريحا لم يصر لأن تفسيره بذلك لا يمنع صحة تفسيره بغيره ، بل ولو فسره الأئمة بذلك لم يلزم أنهم يمنعون تفسيره بغيره وإلافالفقير أحقر وأذل من أن يخطر له ما ذكر فضلا عن أن يتفوه به وعن أن يشلفه مولانا به ولولا طمعه في مزيد حلم مولانا ومحبته ما جسر أن يتحرك والله بكل شيئ عليم .
ومنها : قوله : ثم رأيت الخ ، ووجه إشكاله منع الصراحة المذكورة ، ومنع الملازمة في قوله : وإلا لبطل . أما أو لا فيجوز أن يكون أحد الشيءين مجموع أحسنوا وما عطف عليه فإن عد الأمور شيئا واحدا للمناسبة والارتباط بينها وقع كثيرا بل كثيرا ما يقع في لفظ النبوة عد الأشياء تزيد على ما ذكر من العدد ويقولون : إنه جعل كذا وكذا شيئا واحدا وحيث كنا في مقام المنع لا يرد أن يقال لا حاجة إلى ذلك ، وأما ثانيا فإنه يجوز أن يكون المعدود اثنين هو المقصود من إحسان القتل وإحسان الذبح ، ولا ينافي ذلك عطفه على أحدهما ما يتحقق به على غير بثم ليرح وثم لا تكون بين الخاص والعام كالفاء فيحتاج لتفسير الإراحة بما يباين الإحسان ، وحينءذ تتحقق الزيادة على الثنتين على كلامكم أيضا ؛ ثم إن قولف ، إن الله كتب الإحسان على كل شيئ أعم من إحسان القتل إحسان الذبح ، ففيه الزيادة على الثنتين ولم يمنع من العدد ثنتين .
ومنها : قوله : وتجويز أن الواو إلى قوله : لأنه يلزم عليه الأمر بالإحداد لا بقيد إرادة الذبح ، ووجه إشكاله منع هذه الملازمة بل اللازم أن لا يكون في الكلام لفظ يدل على ذلك القيد ، ولا محذور في ذلك اكتفاء بقرينة السياق والمقام فانها قرينة أي قرينة وكم أوامر مطلقة اللفظ لا يقيدها إلا قرينة السياق والمقام ، وقرينة السياق أمر شائع عند العرب ، وقد صح الاستئناف في قوله تعالى {كن فيكون} ولا يقال يلزم أن يكون الإخبار عن الكينونة لا بقيد كونها ناشئة عن قول كن مع المراد ذلك ، وهذا مجه إشكال قوله أيضا : لأنه لا يلزم عليه الأمر بالإراحة لا بقيد الذبح ، وقوله أيضا : وهو المانع أيضا لصحة عطف قوله " وليحد " على مجموع جملة الشرط والجزاء .
ومنها : قوله : وإنما صح الاستئناف في نقر وفي فيكون لأن ما قبلهما ليس شرطا في مفادها الخ ، ولم يتضح ما أراد مولانا بكون ما قبلهما ليس شرطا في مفادهما فإن أراد أن لا يكون مضمونها يتوقف تحققه ووجوده على تحقق ما قبلهما ووجوده ، فوجه إشكاله أما أو لا فهو أن هذا الحصر منوع ولابد من إثبات أن علة الاستئناف فيما ذكر ذلك دون غيره حتى يتحقق هنا الحصر ، ومن إثبات أنه يشترط الاستئناف أن يكون(1/215)
<100>ما قبل المستأنف ليس شرطا في مفاده فإن النحاة لم يشترطوا في جواز الاستئناف شيئا من ذلك فلا يقيد كلامهم إلا بدليل منه ، بل جوزوا حتى الإبتدائية والإبتداء نظير الاستئناف ، بل هو استئناف مع كونهم اشترطوا في حتى المذكورة أن يكون ما بعدها متسببا عما قبلها ، وأما ثانيا فهو أن مضمون قوله تعالى {فيكون} يتوقف تحقق وجوده على تحقق ما قبله ، ووجوده وهو قوله {كن} مع صحة الاستئناف ، وأما ثالثا فلا بد من بيان جريلن ذلك قيما نحن فيه فإن طلب التحديد (1) لايتوقف تحققه على تحقق طلب الإحسلن أو يجوز أن يطلب التحديد ولا يتصور الإحسان وطلب الشيئ فرع عن تصوره .
ومنها : قوله : وعين الرضا الخ ،يدفعه الله الخ ، ووجه إشكاله أن مولانا حمل مراد الفقير على أمر صعب جدا ومعاذ الله أراد ذلك بل أمر آخر لا محذور فيه .
ومنها : قوله : وقولك إن الإراحة أعم من الحد ممنوع لأن هذه الرواية الخ ، ووجه إشكاله أن وجه أعميتها لازم لدعوى العموم والخصوص الذي قرره مولانا ولم يذكر خلافه مع أن الفقير لم يحتم أعميتها ، بل ردد بأنها إن كانت أعم لزم الإشكال وإلا لزم صحة الفاء بجعل " فليرح " عطف على " وليحد " وجعل واو وليحد للاستئناف والحكم بصحة الشيئ لا يتوقف على الجزم بوروده ، بل ولا على وروده فيجوز أن يقال تصح الفاء هنا مع القطع بعد الورود فالورود لا مدخل له في الحكم بالصحة .
ومنها : فوله : إنما هو أمر أغلبي ، وفوله ، فهي واردة عليهم ، ووجه إشكاله أن هذا يتوقف على أن النحاة يسلمون العموم والخصوص هنا ويسلمون أن واو " وليحد " للعطف على أن هذا لا يضرنا بل ينفعنا لأن مدعنا الصحة وهذا إن لم يثبتها ما منعها والله أعلم .
فأجاب نفعنا الله بعلومه في الدنيا والآخرة : أما قولك ، لا تفصيلاتها بمعنى أن كل لفظة من نسخ تلك الكتب بخصوصها ثبت بالتواتر أنها لفظة صاحب ذلك الكتاب بعينها ومسألتنا من الثاني الخ ، فإنما يتوجه لو ادعى أن التفصيلات بالمعنى المذكور متواترة ولم يقع هنا ادعاء ذلك ، بل ولا ما يوهمه وكيف يعقل ادعاء ذلك ، والنووي في شرحه لمسلم ينقل اختلاف نسخه كثيرا ، وإن نسخ بلادهم في كذا يخالف نسخ غيرهم ويصوب ويوجه بحسب ما يقتضيه الكلام ، وكذا من قبل النووي ومن بعده فعدم تناول التفصيلات بالمعنى المذكور أمر ظاهر لايخفى ، ولا يلزم منه أن بعض التفصيلات لا يوجد فيه تواتر .
والحاثل أن تواتر الجملة واقع وعدم تواتر التفصيلات غير واقع ، وبعض تلك التفصيلات قد يوجد فيها التواتر وقد لا ، ومسألتنا إنما هي من هذا الثالث لا من الثاني الذي ذكرت ، ووجه كونها منه أننا بحثنا عن الناقلين لهذا الكتاب عنه من الطبقة التي في زمن مسلم إلى وقتنا فوجدناها بحسب ما في نسخهم متفقين على الواو فحينئذ أثبتنا من هذا تواتر الواو، ولا يلزم من ذلك بل ولا يتوهم أن غير الواو مما لم يوجد فيه ذلك مثلها ، ولقد وقع للجمال ابن مالك في البخاري أنه أجاز إعرابات فيها تغيير حركات ك " ترجعون بعدي كفارا " يضرب بسكون الباء ؛ وتلك فيها تكلف تارة وعدو تكاف أخرى ؛ وأنهم ردوا عليه بأن هذا خلاف الصواب لأن الروايات صحت بخلاف ذلك فلا يسمع ذلك التجويز ، وكذا نقول : إذا
__________
(1) هكذا هو بلا في النسخ والمناسب للاحقه حذفها لكن يتأمل بعد ذلك في مناسبته لأصل الإيراد ا هـ مصححه(1/216)
<101>
ثبت صحة الرواية بالواو فلا يسمع تجويز الفاء هذا ما يتعلق بالواو ، وأما غيرها من بقية تلك التفصيلات فإن وجد فيها ما وجدناه فيها حكمنا بتواتره وإلا فاتضح حكم التفصيلات في التواتر وعدمه .
وقولك : لأن دعوى الصحة منع أورده الخ ، تأويل كما شهدت به العبارة والاعتراض إنما يتوجه لظاهر العبارة وإن أمكن تأويلها .
وقولك : نعم يرد الخ هو الذي أشرت إليه بقولي دعوتان متعارضتان أي فالدعوى المتأخرة صدرت منعا للدعوى السابقة فمنعت الدعوى وهو ير سائغ : وما نقلت من جوابه لا يمنع ا لاعتراض عليه لأنه إنما يتوجه لحقيقة اللفظ لا لمجازه فادعاء ذلك المجاز يبين أن لمانع الدعوى إذا أراد ذلك التجويز نوع عذر لا أنه يمنع الاعتراض عليه قبل تبين مراده أخذا بظاهر عبارته والاستفسار قبل الاعتراض إنما هو نحو المشتركات لا في الحقيقة والمجاز لاسيما ، وهذا المجاز هنا فيه ما فيه وإن ظاهر كلام الأصوليين أن الدعوى لا تمنع ولا مجاز لكن تسامح فيه ألئك المحققون توسعا لطلاق النظر .
وقولك : والغضب الخ لك فيه العذر بحسب ما رأيت ، والذي في خطي شبه غصب للمنصب ، وهذه العبارة لا اعتراض عليها إذ الجامع بينهما أن كلا فيه إيراد الدليل قبل وقته هنا على ما تقرر أن ما ذكرت فيه منع للدعوى واستدلال لذلك المنع وإن بان بإرادتك التجوز السابق خلاف ذلك ، ثم إن تعريفك الغصب بما ذكرت غير مانع لأنه يدخل في تعريفك النقض التفصيلي وهو خلاف الغصب إذ الغصب هو المنع لمقدمه مع الاحتياج لانتفائها قبل تمام الدليل وإن كان بعد تمامه لمعينة فهو ذلك النقض فأسقطت التقييد بقبل التمتم فورد عليك النقض فسار الحد غير مانع ، إذا تقرر ما سبقاتضح قولنا فنتج الخ ، وقولك التخصيص يحتاج لدليل واضح جوابه أنه غير واضح لأن النزاع هنا في أمر صناعي ويترتب على صحته وعدمها هذا الحكم أعني أن الإراحة والتحديد عند خصوص الذبح أخذا من هذا الحديث الخاص كما قاله الأئمة أو من دليل آخر أحوج إلى ادعئه تجويز يفيد في هذا الحديث ، ومثل ذلك لا دخل لتلك المباحث فيه أن الحكم المتفق عليه وإنما الاختلاف في محصله فنحن ندعي أن محصله الأمر بالإحسان كما دل عليه ظاهر الخبر وغيرنا يجوز ادعاءه خلاف ذلك فلا تزاع حقيقة إلا في أمر سهل جدا ، وتلك المباحث لا تجري في مثل ذلك كما هو ظاهر جلي من واقع كلامهم .
وقولك : استعمال ذلك الاصطلاح واقع في كتب الفقه الخ . جوابه : نعم ، لكن في غير ما بينته مما نحن فيه كما علم آنفا .
وقولك : لم يدع الاحتياج لذلك الخ . جوابه : أنه إنما ذكر الاحتياج إرشاد إلى أن الاشتغال بما هو أهم من ذلك أولى على أنه ظهر في المباحثة فيه على سهولته من الفوائد سالم يظهره غير ترداد الأنظار وإعمال الأفكار ، ولقد قال بعض من خلص من داء الحسد خيمه وسلم من الكبر وآفاته أديمه : لم يقع عندي لذة من اللذات وإن عظمت موقع مساجلة من تعوض دلاؤه على استقصاء جواهر الفرائد واستنتاج عويصات الفوائد .
وقولك : فرق الخ ، هو ظاهر لكن قد علم أن العدول إلى الجواب النير النطابق قصدا هو أدب البلغاة .
قولك : يحتاج إلى دليل واضح جوابه هذا مرجعه إلأى الذوق وليعرض على أهله ، وكفى بالدليل الواضح عليه ما يأتي لك من ادعاء التجوز وغيره .
(1/217)
<102>
وقولك : وهو بعض المطلوب لا يكفي بل لابد من وجود المطلوب كله وهو قيام دليل على صحة الفاء من غير تكلف والادعاء تجوز في الدليل على أن اللائق بالخوض في الأدلة كما أشار إليه الإمام أن لا يخرج عن مفاهيهما المتبادرة المتعارفة منها إلا عند الحاجة الماسة لذلك ، وأما حيث لا حاجة لذلك فمجرد التجويز غير لائق ألا ترى إلى ردهم تجويزات ابن مالك ، وناهيك بها لعدم ورودها وإن خلت عن التكلف ، بل قال بعض المحققين عقب تجويز له وتوجيه منه له الصواب وخلافه واستدل له .
وقولك : مع أن مجرد التجويز الخ . جوابه : إنما نتكلم فب إبطال يليق بما يناسب مما درج عليه الأئمة من الجري في الأدلة على معانيها المتبادرة منها لا في مطلق الإبطال إلا إذا نظرنا إلى ما يتوهم من الفاء مما قدمناه ، ويأتي تحريره أيضا .
وقولك : أحق الخ . جوابه : إنما يكون أحق لو أثبتنا له رتبة التحصيل ، ومعاذ الله أن يثبت له ما هو أدنى من ذلك فلا جامع فضلا عن أحق .
وقولك : ليس اللازم الخ مبني على أنك من تحقق غير معناه المراد الموضمع هو له وهو الثبوت الذي دل عليه تعليلي له بقولي : لأنه ما من عام وخاص الخ ، وإذا جوزنا في العام تخصيصه ببعض مدلوله من غير دليل بل بمجرد الادعاء لزم ما ذكرناه من أنه ما من عام إلا ويمكن أن يطرقه ذلك التجويز ، وحينئذ فلا ينتج للنحويين عام وخاص ممتنع عند النزاع العطف بينهما بغير واو أصلا لأن ذلك التجويز يطرق كل عام وخاص ، وليس الإنشاء والخبر من نظائر الخاص والعام لأن النسبة بين الأولين التباين من كل الوجوه وبين الآخرين الاتحاد في بعض الوجوه ، وما أجابوا به عن العطف لا يلزم عليه نظير ما يلزم في مسألتنا لأن التجويز هنا لأدلة ، وثم لمجرد الإدعاء على أن الذي ورد على القاعدة هنا نص احتيج لأجله إلى الجواب عن تلك القاعدة . والذي في مسألتنا تجويز شيئ يخرج الدليل عن القاعدة فلم تؤول القاعدة لأجل ذلك التجويز بما يوهم أن كل عام خاص يجوز فيه نظير ذلك التجويز فتبقى قاعدتهم تعين الواو في عطف الخاص على العام .
وقولك : أما ثانيا الخ . جوابه : أننا لا نلتفت بعد ما قدمناه من أن الإراحة والتحديد من إحسلن الذبح المأمور به إلى احتمال تفسير الإحسان بما يباينهما لأن ذلك صريح في الخصوص والعموم ، وأن هذا هو معنى الإحسان الشرعي ، ولفظ الشارع إنما ينصرف إلى المعنى الشرعي فحينئذ ما نحن فيه مما للمتعاطفين فيه معنى مقرر فلا يخرج عنه بلا ضرورة ، وإذا اعترفت بهذا وأحطت بأن إطلاق الشارع إنما ينصرف للمعهود الشرعي ، وأن أهل الشرع أفادوا أن الإحسلن الشرعي يشمل الأربعة والتحديد ، فقد سهل الأمر واتضح المراد بما حاصله : أن من حمل الإحسان علىمعناه الشرعي لزمه أن هذا من العموم والخصوص اللازم فيه المعنى اللغوي أو العرفي بحسب ما يجوزه وينقله عن اللغة أو العرف ويبينه بدليله أنه غير الإراحة والتحديد لا بمجرد التجويز والادعاء لا يلزمه أنه من عطف الخاص على العام ؛ وبهذا ينفصل الكلام ويرفع الولام .
وقولك : أيضا ، فيجوز الخ . جوابه : إن أردت بلا يمكن فيه التجويز الذي لا يتوقف القول به على دليل كما هو جلي من غير توقف له على استقراء ولا غيره .
(1/218)
<103>
وقولك : ما وجه هذه الملازمة الخ . جوابه : أن وجهها واضح عند تأمل معنى العبارة ، وهو أن المراد يستلزم أن التحديد مأمور به : أي من حيث كونه إحسانا كما مر التصريح به ، وإذا كان الاستلزام من هذه الحيثية اتضح أن وليحد عطف خاص على عام ، وإمنا يتباينان قطعا كما ذكرت إن ثبت أن الأمر بالتحديد ليس كمن الأمر بالإحسان ، وأن الأمر بالإيقاع وغيره هو أمر بالإحسان .
وقولك : " وليرح " ليس معطوفا على " وليحد " الخ . جوابه : أن ما ذكرته أنت في تفسير الإحسان فيما مر والإراحة هنا لا يحضرني تحقيقه إذ ليس خطك الآن عندي ، وإنما الذي في المخيلة الآن منه أن تفسيرك الإراحة أعم من تفسيرك للإحسان والتحديد وحينئذ لزم عطف العام على الخاص فقولي بالنسبة لقوله " وليحد " أي وما عطف عليه .
والحاصل أن تحرير هذا الموق+++يتوقف على مراجعة ما ذكرته أنت في تفسير الإراحة والإحسان .
وقولك : بحسب الوضع الخ إن أردت أن ذلك معناه بحسب الوضع الشرعي فممنوع بما حررناه وبيناه عن الأئمة أنه بحسب الوضع الشرع يشملها ،وإن أردت أنه بحسب وضع اللغة أو العرف فعليك بيان ذلك ونقله عن أهلهما ، على أنه لا يفيد لما سبق الأدلة الشرعية إنما تحمل على المعنى الشرعي ، وحينئذ فاتضح أن تجويز حمل تفسيرهم على التجوز الخ فيه غاية التكلف والتمحل فأي داع لذلك .
وقولك : ويرجحه أن المجاز خير من النقل عجيب فمن ذا الذي ادعى أن في الحديث نقلا حتى يقابل بأن المجاز خيرا منه ،ونحن لا ندعي إلا أن هذا حقيقة شرعية ، ىوأن كلام الشارح إنما يحمل على الحقائق الشرعية ؛ فادعاء أن ما في الحديث حقيقة لغوية يحتاج أن يثبته من كلام أئمة اللغة ، والذي ظهر لي أن الإحسان في الذبح لا ضابط له عندهم ، فالظاهر أن هذا من الحقائق التي لم تعرف إلا من الشارع ، وحينئذ فاندفع ادعاء أن تفسير الأئمة بما مر مجاز على أنه يحتاج لصارف يصرفه عما هو المتبادر منه أن هذا هو حقيقة الإحسان الشرعية .
وقولك : ثم لا يلزم الخ . جوابه : كيف هذا مع قولهم إنهما من إحسان الذبحة المأمور به ، فقولهم المأمور به صريح في أتهم فهموا وفسروا الإحسان في الحديث بما يشمل التحديد والإراحة .فاندفع قولك ليس نصا في أن معنى إحسان الذبح الخ ، ووجه اندفاعه قولهم المذكور أنهما من جملة الإحسان المأمور به فأي صراحة تطلب بوقد سبق منا ما يدل على أنهم مع ذلك لا يمنعون تقسيره بغيره إلا بالنسبة لمن جرى على قاعدتهم أن لفظ الشارع يحمل على معهوده الشرعي سيما إن لم يكن له معهود غيره .
وقولك : مجموع أحسنوا وما عطف عليه الخ . جوابه : أن من الواضح أن البليغ لا يعد الخصال الثلاثة واحدة إلا إن كان بينها اتحاد ، وهو حاصل ادعاء العموم والخصوص الذي ذكرناه ، وأما مع التباين بين الثلاث الذي ذكرته أنت فكيف يحسن ببليغ بل بأبلغ البلغاء عدا ثلاثة أشياء متباينة شيئا واحدا فجمل كلام الشارع على ذلك بعيد جدا فلا يلتفت إليه ، وتوجيهه بأن الثلاثة مسوقة لغرض واحد فساغ جعلها شيئا واحدا يرد بأن ذلك الغرض إن كان هو إحسان الذبح فهو ما قلناه أو غيره فهي أغراض كثيرة فلا يحسن عدها شيئا واحدا .
وقولك : هو المقصود من إحسان الذبح وإحسان القتل نحن نقول به .
(1/219)
<104>
وقولك : ولا ينافي الخ . جوابه : إن أردت مما يتحقق به أنه مع ذلك مباين للإحسان فينافي البلاغة إغفاله عن العد أو غير مباين لم ينافها ، وكان حجة لما قلناه .
وقولك : على أنه عبر بثم قد ذكرنا جوابه ، وسيأتي ما له به تعلق .
وقولك : ثم إن قوله الخ . جوابه : أنه لا زيادة فيه بالنسبة للمقصود منه وهو ذكر تينك الثنتين وما قبلهما إنما ذكر توطئة وتمهيدا لهما للأمر بهما وله موقع نافع عند المخاطب فلما ذكره للنمهيد والتأكيد لم يحسن عده .
وقوله اكتفاء بقرينة سياق ومقام مع تقدير العطف على فإذا الخ لأنه حينئذ يكون من عطف المتباينات ، وإذا كان منها أفهم الأمر بالتحديد والإراحة لا بقيد إرادة الذبح بحسب ما دل عليه اللفظ ، وادعاء فهم ذلك القيد من دليل خارجي فيه غاية التكاف والتمحل لأنه إخراج للفظ الحديث عن ظاهره الذي لا إيهام فيه ، وتأويله بما يقتضي الإيهام حتى يجاب عنه لأن ذلك علم من دليل آخر ، وهذا ليس من شأن المتكلمين على الأدلة ، وإنما دأبهم وشأتهم حمل اللفظ على ظاهره المتبادر منه سيما إن لزم على حمله على غيره مخالفة أو خفاء أو نحوهما .
وقولك : وكم أوامر مطلقة الخ هو مسلم لكن لا على عين هذا التجوز الذي سلكته أنت في هذا الحديث من أن شيئا واحدا يدل عليه ظاهره ويفيده التقييد بما هو المجمع عليه فيحمل الظاهر على غير معناه المتبادر منه ، ثم إذا أورد عليه أنه الآن صار موهما يقال له يدفع ذلك الإيهام بدليل آخر .
وقولك : ولا يقال يلزم الخ . جوابه : أن هذا ليس نظير ما نحن فيه فإن القيد لم يشهد به العقل فلا يضر حذفه ، وما نحن فيه ليس كذلك فإن الأحكام الشرعية وقيودها لا تعرف إلا منه صلى الله عليه وسلم ، قإذا جاء عنه ما يفهمها بقيودها لا يسوغ لنا أن نصرفه عن ظاهره إلى ما يحوجنا إلى حذف القيد والاستدلال له بدليل خارجي . إذا تقرر ذلك فلا إشكال في قولنا أيضا لأنه يلزم عليه الأمر بالإراحة الخ .
وقولك : ولم يتضح الخ . جوابه : إن تأمل ما قبله فيه غاية الإيضاح له إذ مفاده الفرق بين الاثنين والحديث بأن تقرير الاستئناف فيهما لا يلزم عليه محذور ولا إيهام البتة ، وتقريره في الحديث يلزمه الإيهام السابق فافترقا ولم يحسن تخريج هذا عليهما ، فالمراد بقولنا ليس شرطا في مفادهما أنه لو قطع النظر عما قبلهما لم يترتب عليه فساد ىولا إيهام في مدلولهما خلاف ما نحن غيه فإنه لو قطع النظر عما قبله من خصوص إحسان الذبح ترتب عليه ذلك الإيهام ، وحينئذ اندفع ما ذكرته أولا وثانيا وثالثا .
وقولك : لازم لدعوى العموم والخصوص الخ . جزابه : أنه يلزم ذلك لأن الذي ذكرناه إنما هو العموم من أحسنوا الذبح والخصوص في " وليحد وليرح " فهما خاصان بعد عام فأي أعمية في الإراحة لازمة لذلك ، وما قدمته من أعميتها إنما هو إلزام بمقتضى تفسيرك أنت كما مر بسطه .
وقولك : والحكم بصحة الشيئ الخ . جوابه : أن استدلالنا بالرواية الأخرى إنما هو لتأيد أن ما ذكرنام هو اللائق بالكلام على الأحاديث ومؤيد للإعراض عما لا حاجة إليه من التجويزات فيها .
وقولك : على أن النحاة الخ . جوابه : أن الظاهر من حالهم بحسب اعتقادنا أنهم لو عرض عليهم ذلك وأجروه على القواعد الأصولية لقبلوه لأنه مفاد اللفظ ومدلوله الذي لا غبار عليه ، وفقنا الله لمرضاته وأجزل(1/220)
<105>علينا أجمعين سوابغ هباته ، وحملنا من كل فتنة ومحنة ، وحبانا بكل خير ومنة ، وختم لنا بالحسنى أجمعين ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/221)
مطلب في قوله تعالىوالله خلقكم ثم رزقكم
وسئل رضي الله عنه : عن قوله تعالى {والله خلقكم ثم رزقكم} هل هذا الرق هو الذي تقام به البنية أو الذي قسم في الأزل سواء كان أكثر مما تقوم به البنية أو أقل أو هو الذي يملكه الإنسان ؟ .
فأجاب رحمه الله تعالى : أن الرزق في اللغة لحظ والنصيب ، ومنه قوله تعالى {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} أي وتجعلون حظكم ورزقكم من سماع القرآن تكذيبكم به وبمن أنزل عليه ، وأما في عرف الشرع فهو أخص من ذلك إذ هو ما تخصص الحيوان به وتمكن من الإنتفاع به ، وقد يطلق على ما يعم من النعم الظاهرة والباطنة ، ومن ثم قال جماعة من المفسرين وغيرهم في قوله تعالى {ومما رزقناهم ينفقون} يحتمل أن المراد الإنفاق من جميع ما منحهم الله تعالى به من الن
عم الظاهرة والباطنة وأن لا يختص بما يتبادر منه من الإنفاق من النعم الظاهرة إذ الإنفاق كما يكون من هذه كذلك يكون من النعم الباطنة أيضا كالعلم والجاه ، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن أبي شيبة " إن علما لا يقال – أي يتحدث به – ككنز لا ينفق " وقد روى الطبراني مرفوعا " مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يتحدث به كمثل الذي يكنز الكنز ثم لا ينفق منه " وقد نحا بعض الغارفين إلى ما أشرنا إليه حيث قال : ومعنى الآية وما خصصناهم به من أنواع المعرفة يفيضون .إذا تقرر ذلك فقوله تعالى {ثم رزقكم} يجتمل أن يراد به ما تفضل الحق به على عباده من نعمه الظاهرة وهو الأنسب بسياق الآية ، وما تفضل به تعالى من النعم الباطنة أيضا وهو الأبلغ في الإمتنان الذي يصح أن يكون من المقاصد التي سيقت الآية له أيضا .
وأما قول السائل : هو هو الخ . فجوابه : أنه ليس المراد الأول ولا الآخر بل يصح أن يراد الثاني ، ومن ثم كان أهل السنة على ما أن تناوله الإنسان من الحرام يسمى رزقا كما دلت عليه الآيات والأحاديث . (1/222)
مطلب سؤال عمرو بن فهر رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومنها : حديث ابن ماجه وغيره عن صفوان ابن أمية قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء عمرو بن فهر فقال : يا رسول الله إن الله كتب الشقاوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي فاذن لي في الغناء من غير فاحشة ؟ فقال : لا آذن لك ولا كرامة كذبت أي عدو الله لقد رزقك الله حلالا طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله " وعمرو هذا ذكره غير واحد في الصحابة رضي الله عنهم ، وفي رواية بعد : " ولا كرامة " " ولا نعمة ابتغ على نقسك وعيالك حلالا فإن ذلك جهاد في سبيل الله ، واعلم أن عون الله تعالى مع صالح التجار " رواه أبو نعيم وفيه متروكان . (1/223)
مطلب في ترك التوكل هل هو كبيرة أم لا ؟ وفي تعريف التوكل
وسئل رضي الله عنه أيضا : عن ترك التوكل هل هو كيرة أم لا ، وعن طول الأمل في هذه الدار هل هو كبيرة أم لا ؟(1/224)
<106>فأجاب : التوكل يطلق ويراد به الرضا بجميع ما يفعله الله بخلقه كما أشار إليه بشر الحافي ، أو قطع الرجا من جميع المخلوقين ، أو أن لا يظهر فيك انزعاج بالأسباب مع شدة فاقتك إليها ، ولا نزول عن حقيقة السكون إلى الحق مع وقوفك عليها ، أو طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية والطمأنينة إلى الكفاية فإذا أعطي شكر وإن منع صبر أو ترك تدبير النفس والانخلاع عن الحول والقوة ، وإنما يتم ذلك لمن يكون دائم الشهوة والاستحضار لكون الله تعالى يعلم ويرى ما هو فيه أو رد عيشك إلى وقتك الحاضر وإسقاط هم غد والاسترسال مع الله تعالى على ما يريد ، أو أن لا يرى مع الله غير الله ، أو خلع الأرباب وقطع الأسباب ، وذلك بإلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية والتعلق بالله في كل حال بأن يترك كل سبب يوصله إلى سبب حتى يكون الحق هو المتولي لذلك ، أو أن يستوى عندك الإكثار والإقلال والاستسلام بجريان القضاء والأحكام ، أو الاكتفاء بالله مع الاعتماد عليه ، وأن لا تأكل وفي البلد من هو أحق منك ، أو العيش مع الله تعالى بلا عاقة ، أو السكون إلى الوعد فإن صحبه الاكتفاء بعلم الله فهو التسليم وإن صحبه الرضا بجكمه فهو التفويض ، أو قطع النظر عن الوسطاء هذا جماع ما قيل في التوكل وبعضه فيه ذكر حقيقته وبعضه فيه ذكر علاماته . قيل : ومن أحسن حدوده أنه مباشرة الأسباب مع شهود مسببها . وعلى كل تقدير فترك خصوصيات هذه الكمالات التي أشار إليها العارفون في جوامع أقوالهم هذه لا إثم فيه فضلا عن كونه حراما فضلا عن كونه كبيرة . وأما ترك أصل الرضا بقضاء الله وقدره فهو كبيرة كما يعلم من كلامهم ، فبالأولى أن نحو لطم الخد وشق الجيب عند المصيبة كبيرة بل ربما يكون ترك ذلك الرضا كفر والعياذ بالله .
وأما طول الأمل ويراد به الغفلة عن ذكر الموت وتقدير حصوله في كل لحظة . ومن ذلك ما جاء في حديث : " أن أسامة ابن زيد رضي الله عنهما حب رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى شيئا نسيئة إلى شهر فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنك طويل الأمل " . وترك هذا ال إثم فيه فضلا عن كونه حراكا فضلا عن كونه كبيرة . وقد يطلق ويراد به التسويف بالتوبة عما وقع فيه من المعاصي مؤملا طول حياته ، وأنه إذا قضى شهوته واستوفى لذته تاب ورجع إلى الله تعالى عن مخالفاته وهذا – أعني ترك التوبة من كبيرة – فعلها كبيرة . وقد يطلق ويراد به استرسال النفس في جمع الأموال فإن كان من وجه حل فلا إثم فيه إلا إن أراد به التفاخر والتكاثر فهو حينئذ حرام بل كبيرة ، وإن كان من وجه محظور فهو حرام أو كبيرة كما لا يخفى كل ذلك من قواعد الشرع وأدلته .
وبالجملة فلا يطلق على طول الأمل أنه حرام فضلا عن كونه كبيرة ، بل لا بد فيه من التفصيل الذي ذكرته وأشرت به إلى بقية أقسامه التي تفرق التاس في أوديتها فمنهم المقل ومنهم المكثر ومنهم السكران ومنهم الصاحي ومنهم المحق ومنهم المبطل ، والله تعالى يوفقتنا ويلهمنا ويولينا أولى الأخلاق والأعمال والآداب والأحوال بمنه وكرمه آمين . (1/225)
مطلب أطفال المسلمين هل هم في الجنة خدم لأهلها وأطفال المشركين هل هم في الجنة أم في النار ؟
وسئل نفع الله به ، بما لفظه : ما محصل اختلاف الناس في الأطفال هل هم في الجنة خدم لأهلها ذكورا وإناثا وهل تتفاضل درجاتهم في الجنة ؟ فأجاب بقوله : أما أطفال المسلمين ففي الجنة قطعا بل إجماعا والخلاف فه شاذ بل غلط ، وأما أطفال الكفار ففيهم أربعة أقوال :
(1/226)
<107>
أحدها : أنهم في الجنة وعليه المحققون لقوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وقوله {ولا تذر وازرة وزر أخرى} وأخرج البخارى وكفى به جة : " أنه صلى الله عليه وسلم رأى أطفال المسلمين والكفار حول إبراهيم الخليل صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم في الجنة ورؤيا الأنبياء وحي إجماعا ، وفي أحادث أخر التصريح بأنهم في الجنة ، ولا يضرنا قول المحدثين إنها ضعيفة اكتفاء بخبر البخاري المذكور مع ظاهر القرآن وفي حديث " إنهم خدم أهل الجنة " فإن صح احتمل أن يكون المراد أنه كناية عن نزول مراتبهم عن مراتب أطفال المسلمين لأنهم مع آبائهم كما نصت عليه آية الطور ، وأولئك لا آباء لهم يكونون في منزلتهم ، وكون الدرجات في الجنة بحسب الأعمال كما ورد في حديث الظاهر أنه في المكلفين ، على أن تلك الآية تقتضي إلحاق الآباء بالأبناء وعكسه ، ولو في الدرجات العلية وإن لم يعملوا ما يوصله إليها وفضل الله واسع ، فليحمل ذلك الحديث عن صح على أنه فيمن لم يلحق بغيره في مرتبته ، ولا فرق بين ذكرهم في ذلك وإناثهم .
الثاني : أنهم في النار تبعا لآبائهم ونسبه النووي للأكثرين ولكنه نوزع واستدل له بالحديث الصحيح " أن رجلا قال يا رسول الله إن أممنا وأدت أختا لنا لم تبلغ الحنث فقال صلى الله عليه وسلم " الوائدة والموءودة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فيغفر الله لها " . والجواب عنه من جهة الأولين أنه يحتمل أن ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم " هم من آبائهم " قبل علمه بأنهم في الجنة ، وهذا أحسن من الجواب بأن التكليف كان إذ ذاك منوطا بالتمييز لقول جمع : إنه إنما أنيط بالبلوغ بعد الخندق .
والثالث : الوقف ويعبر عنه بأنهم في المشيئة فمن علم منه تعالى أنه إن لغ آمن أدخله الجنة ، ونسبه ابن عبد البر للأكثرين ، واستدل له بقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عنهم : " والله أعلم بما كانوا عاملين " .
الرابع : أنهم يجمعون يوم القيامة وتؤجج لهم نار ويقال : ادخلوها فيدخلها من كان في علم الله شقيا ، ويمسك عنها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ، فيقول الله عز وجل " لو عصيتم فكيف برسلي لو لاقوكم " ورده الحليمي رحمه الله بأن الحديث في ذلك ليس ثابتا ، وبان الآخرة ليست دار امتحان لأن المعرفة بالله فيها ضرورية ، وبأن الدلائل استقرت على أن التخليد في النار لا يكون إلا بالشرك . واجيب عن الثاني بمنع عدم الامتحان في الآخرة بدليل الامتحان بالسجود وأن المنافق يريده فلا يستطيع . قال المعترض : على أن ما قاله الحليمي هو الظاهر وإن كنا لا نقطع به إذ لا دليل عقلي ولا سمعي على استحالة ذلك . قال ابن تيمية : والقول بأنهم في الأعراف لا أعرفه عن خبر ولا أثر ، ولا يعارض ما مر قوله تعال : {ولايلدوا إلا فاجرا كفارا} لأنه مختص بمن عاش منهم إلى أن بلغ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد على الفطرة ، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " . (1/227)
مطلب في كرامات الأولياء رضي الله عنهم
وسئل رضي الله عنه ، بما لفظه : كرامات الأولياء حق فهل تنتهي على إلى إحياء الموتى وغيره من معجزات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، ومن أحيي كرامة لولي هل له حكم الأحياء أو الأموات ؟ .
فأجاب رضي الله عنه ، بقوله : كرامات الأولياء حق عند أهل السنة والجماعة خلافا للمخاذيل المعتزلة والزيدية ، وقول الفخر الرازي : إن أبا إسحاق الإسفرايني أنكرها أيضا مردود بأنه إنما أنكر منها(1/228)
<108>ما كان معجزة لنبي كإحياء الموتى لئلا تختلط الكرامة بالمعجزة ، وغلطه النووي كابن الصلاح بأنه ليس في كرماتهم معارضة للنبوة لأن الولي إنما اعطي ذلك ببركة اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ، فلا تظهر حقيقة الكرامة عليه إلا إذا كان داعيا لاتباع الني صلى الله عليه وسلم بريئا من كل بدعة وانحراف عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم ، فببركة اتباعه صلى الله عليه وسلم يؤيده الله تعالى بملائكته وروح منه ويقذف في قلبه من أنواره .
والحاصل أن كرامة الولي من بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم لكن لعظم اتباعه له أظهر الله بعض خواص النبي على يدي وارثه ومتبعه في سائر حركاته وسكناته .
وقد تنزلت الملائكة لاستماع قراءة أسيد بن حضير الكندي وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلون في صحفة فسحت الصحفة وما فيها ، ثم الصحيح أنهم ينتهون إلى إحياء الموتى خلافا لأبي القاسم القشيري ، ومن ثم قال الزركشي ما قاله مذهب ضعيف ، والجمهور على خلافه ، وقد أنكروه عليه حتى ولده أبو نصر في كتابه (المرشد) فقال عقب تلك المقالة : والصحيح تجويز جملة خوارق العادات كرامة للأولياء وكذا في إرشاد إمام الحرمين . وفي شرح مسلم للنووي تجوز الكرامات بخوارق العادات على اختلاف أنواعها ، وخصها بعضهم بإيجاب الدعوة ونحوها وهذا غلط من قائله وإنكار للحس ، بل الصواب جريانها بانقلاب الأعيان ونحوه انتهى .
(حكايات لطيفة) وقد مات فرس بعض السلف في الغزو فسأل الله إحيائه حتى يصل بيته فأحياه الله ، فلما وصل بيته قال لولده : خذ سرجه فإنه عارية عندنا ، فأخذه فخر ميتا . وقال اليافعي رضي الله عنه : صح بالسند المتصل على الشيخ القطب عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى أن أم شاب عنده دخلت عليه وهو يأكل في دجاجة فأنكرت أكله الدجاجة وإطعامه ابنها أرذل الطعام ، فقال لها : إذا صار ابنك بحيث يقول بمثل هذه الدجاجة : قومي بإذن الله فقامت وله أجنحة وطات بها حق لها أن يأكل الدجاج .
ولا ينافي إحياء الميت الواقع كرامة أن الأجل محتوم لا يزيد ولاينقص لأن ما أحيي كرامة مات أولا بأجله وحياته وقعت كرامة ، وكون الميت لا يحيا إلا للبعث هذا عند عدم الكرامة ، أما عندها فهو كإحيائه في القبر للسؤال كما صح به الخبر .
وقد وقع لعزير وحماره وللذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم .
إذا تقرر ذلك فمن أحيي كرامة فتارة يتيقن موتهتيقنا ضروريا بنحو قطع رأسه وإبانة جثته فهذا إحياؤه لا يعيد له شيئا من زوجاته ولا مما اقتسمته ورثته من أمواله لما تقرر أن هذا كالإحياء الذي في القبر ، وتارة لا يتيقن كذلك فيتبين أنه لم يزل شيء عن استحقاقه فيعود له .
والحاصل : أن الإحياء بعد الموت المراد به الإحياء للبعث لا للكرامة أو سؤال الملكين . (1/229)
مطلب ما أفضل آية وما أفضل سورة الخ ؟
سئل نفع الله به : ما أفضل سورة وما أفضل آية حتى يبر الحالف ليقر أن أفضل سورة أو آية ، وهل الأعظم بمعنى الأفضل ، وما أفضل الأذكار ، وهل بين التسبيح والتحميد والتهليل مفاضلة وهل هذه أفضل من الصلاة على صلى الله عليه وسلم أو عكسه ؟ .
فأجاب بقوله : الذي صح في الأحاديث أن أعظم سورة الفاتحة ، وأعظم آية آية الكرسي ، فأم القرآن أفضل السور أي أكثرها ثوايا كما أشار إليه شيخ الإسلام في فتح الباري وظاهر كلامه التلازم بين الأعظمية(1/230)
<109>والأفضلية فقراءة الفاتحة أكثر ثوابا من قراءة سورة غيرها وإن طالت عليها . ولا يرد على ذلك أن كل حرف بعشرة لما قالوه في الخبر الصحيح " إن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن أي قراءة قدر حروف الثلث بلا مضاعفة كذلك قالوه مع أنه يلم عليه أن تلاوتها ثلاث مرات تعدل القرآن بالمضاعفة ، بأن قياس ما تقرر أن من قرأها ثلاثا كتب له ثواب القرآن كله ، كل حرف بعشرة فيلزم عليه تفضيل العمل القليل على الكثير ، ولا بدعة فيه لأن الله تعالى له خصوصيات يمن بها على من يشاء من خلقه ، ألا ترى إلى ما صح أن هذه الأمة مع قصر أعمارها أكثر ثوابا من غيرهم من بقية الأمم مع طول أعمارهم وكثرة عباداتهم ، فعلمنا أن تفضيل العمل الكثير على القليل إنما هو أمر أغلبي فقط ، وحينئذ فلا يحتاج إلى الجواب عن كون {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن بأن المراد تعدله بلا مضاعفة لما بينته مما يلزم عليه أن ما فروا منه بذلك الجواب وقعوا فيه وهو أنه لزم على قولهم : إن قراءتها ثلاث مرات تعدل القرآن بالمضاعفة فوقعوا حينئذ في تفضيل العمل القليل على الكثير ، فلا مفر إلا بما ذكرته أن تلك القاعدة أغلبية فبعض الأعمال القليلة أفضل من بعضها الكثير .
وبعد أن تمهد ذلك زظهر فلا يشكل كون قراءة الفاتحة أفضل من قراءة سورة أخرى أطول منها ، وقد ذكر الرافعي أن قراءة سورة كاملة في الصلاة أفضل من قراءة بعض سورة وإن طال ذلك البعض . ووجهه أن فضيلة الاتباع في قراءة السورة تربو على فضيلة المضاعفة في قراءة ذلك البعض الطويل ، ومن ثم قال السبكي : صلاة ظهر النحر بمنى أفضل منها بالمسجد الحرام ، وإن قلنا إن المضاعفة تختص بالمسجد لأن فضيلة الاتباع تربو على فضيلة المضاعفة . وأيضا فالسورة اشتملت على مبدأ ومقطع كاملين بخلاف بعض السورة ، فلم يبعد أن يقال : إن السورة القصيرة أفضل من البعض الطويل لذلك ، وبهذا يعلم أنه لا تناقض بين تعبير الرافعي بقوله أفضل من بعض طويلة وإن طال ، وقول النووي أفضل من قدرها من طويلة لأن الأول نظر إلى الأمر الخارجي وهو الاتباع والاشتمال المذكوران فأثبتا الأفضلية للسورة القصيرة على البعض الطويل ، والثاني نظر إلى ذات السورة والبعض والسورة من هذه الحيثية إنما هي أفضل من البعض الذي هو قدها لا أكثر فتأمل ذلك يندفع به عنك ما وقع فيه كثيرون من فهمهم التناقض بين عبارتي الشيخين المذكورين .
ومما يدل على ترادف الأعظم والأفضل قول الغزالي رحمه الله تعالى : الأعظمية والأفضلية في أسماء الله تعالى ترجع إلى أمر واحد هو أن ما كان من الأسماء والآيات أصرح في التوحيد وأدخل في التقديس والتعظيم والتمجيد فهو أفضل من غيره من الأسماء والآيات ، وإن زادت حروف غيره بأضعاف مضاعفة ؤلما فيه من زيادة الثناء بالجميل على الوجه الأكمل اللائق فلذلك فضل أكثر منه وإن كثرت حروفه . (1/231)
مطلب في بيان أفضل الأذكار
وأفضل الأذكار التي لم يخصها الشارع بحال أو زمن القرآن وبعده التهليل لخبر " أفضل الذكر لا إله إلا الله " وقيل التحميد لخبر " إن لا إله إلا الله بعشرة والحمد لله بثلاثين " ووجه بعضهم بأنه أجمع أنواع الذكر أي لأنه يفيد النص على غثبات سائر صفات الكمال لله تعالى ، وعلى نفي سائر سمات النقص عنه ، وما جمع نوعين أفضل مما جمع نوعا واحدا كسبحان الله وبحمده أفضل من مجرد التسبيح والتهليل ، وصح في الحديث " أجب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده " أي بعد لا إله إلا الله كما قالوه ، وصح أيضا " أحب الكلام إلى الله سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " فلا يبعد أن جملة هذه الأربعة أفضل من بقية الأذكار(1/232)
<110>المطلقة ، ويؤد ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره حصروا الباقيات الصالحات المنصوص في الآيات على أنها خير عند الله تعالى من تلك الأربعة .
وأما الاستغفار فإن أريد به مجرد طلب المغفرة فتلك الأذكار أفضل منه وإن كان هو الاستغفار المسنون المقترن بالتوبة فهو أفضل منه ، كذا قاله بعضهم ويحتاج لسند ، وقد يؤيده أن الاستغفار مع التوبة الصحيحة قيل بوجوبه وما قيل بوجوبه أفضل مما لم يقل بوجوبه وأفتى ذلك البعض أيضا بأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الاستغفارلأنها جامعة بين حق الله بامتثال أمره وحق رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو بعض مكافآته على ما أوصله إلينا مما لم يقع مثله من نبي لأمته صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم . (1/233)
مطلب هل يجوز أن يقال الله في السماء ؟
وسئل نفع الله به : هل يجوز أن يقال الله تعالى في السماء تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ، وما حكم من يقول ذلك ، ويستدل عليه بحديث السوداء ، وما حكم الله في ذلك مع بسط القول والجواب لمسيس الحاجة إليه ؟ .
فأجاب بقوله : هذه المسألة كما قال القاضي عياض – وإن تساهل في الكلام فيها بعض الشيوخ المعتبرين – هي من عويصات مسائل التوحيد ، واللائق بالزمان عدم ذكرها ، وإن كان ولا بد فالحاصل من الكلام فيها أن المسليمن قاطبة أجمعوا على استحالة التجسيم والحلول والاستقرار على الله تعالى وحكم بذلك صريح العقل . وأجمعوا أيضا على استحالة إرادة الحقيقة فيما ورد من ظواهر الآي والأخبار مما يوهم ذلك .
واختلفوا بعد ذلك في مسألة منها ، وهي هل صح إطلاق جهة الفوقية والعلو من غير تكييف ولا تحديد عليه تعالى ؟ فمذهب جميع المتكلمين وفحول العلماء وأهل أصول الديانات إلى استحالة ذلك كما نص عليه أبو المعالى إمام الحرمين في الإرشاد وغيره من المتكلمين والفقهاء ، وقالوا : إن ذلك ملزوم للتجسيم والحلول والتحيز والمماسة والمباينة والمحاذاة ، وهذه كلها حادثة ، وما لا يعرى من الحوادث أو يفتقر للحوادث فهو حادث، والله سبحانه وتعالى يستحيل عليه الحدوث شرعا وعقلا كما هو مبين في كتب الأصول .
واختلف هؤلاء فيما ورد من ظواهر الآيات والأحاديث الصحيحة مما يوهم ذلك ، فذهب بعض السلف كالشعبي وابن المسيب وسفيان إلى الوقف عنها ، وقالوا : يجب الإيمان بها كما وردت ولا نتعدى إلى تفسيرها ، وضعف هذا القول بما مر من الإجماع على عدم إرادة حقيقتها في عرف اللسان ، فقد تكلموا فيها بصرفها عن ظواهرها فالسكوت عنها موهم للعوام وتنبيه للجهلة ، وذهب الجمهور على ما نقل إلى الكلام عليها وصرفها عن ظواهرها بحملهت على محامل قريبة المأخذ منها بينة تليق بها من جهة الشرع والعقل ولسان العرب وتقتضي تنزيه الرب جل وعلا عما يوهم ظاهرها ، وقد نص هلى هذا الإمام أبو المعالي إمام الحرمين وغيره من حذاق المتكلمين . وذهب القاضي الباقلاني وغيره في بعضها إلى أنها دالة على صفة زائدة تليق بجلاله تعالى من غير تكييف ولا تحديد ، ولكل فريق تأويلات ومآخذ تليق بجلاله تعالى تطول ، ومن أرادها فلينظرها في كتب التفسير ومشكل الأحاديث كابن فورك وغيره ، مع أن البارزي حكى عن القادسي أنه كان يدعو على ابن فورك من أجل أنه أدخل في كتابه أحاديث مشكلة ، ويكلف الجواب عنها مع ضعفها فكان في عدم ذكرها غناء عن ذكرها انتهى . وليس هذا الدعاء في محله بل هو من بعض التعصب وكيف(1/234)
<111>وابن فورك إمام المسليمن والذاب عن حمى حومة الدين وإنما تكلف الجواب عنها مع ضعفها لأنه ربما تشبث بها بعض من لا علم له بصحيح الأحاديث من ضعيفها فطلب الجواب عنها بفرض صحتها إذ الصحة والضعف عند أئمة الحديث ليسا من الأمور القطعية بل الظنية ، والضعيف يمكن أن يكون صحيحا فبهذا الغرض يحتاج إلى الجواب عنه فما فعله ابن فورك هو الصواب فجرزاه الله عن المسليمن خيرا .
والمذهب الثاني : جواز إطلاق فوق من غير تكيف ولا تحديد نقله لأبو المعالي إمام الحرمين في الإرشاد عن الكرامية وبعض الحشوية ، ونقله القاضي عياض عن الفقهاء والمحدثين وبعض المتكلمين من الأشعرية قال الإمام البرزلي المالكي : وأنكر عليه شيخنا الإمام نقله عن بعض الأشعرية إنكارا شديدا ، وقال : لم يقله أحد منهم فيما علمته واستقريته من كتبهم ، وسمعته يقول القاضي ضعيف في علم الأصول ويعرف ذلك من تأليفه وكان عالما بالأحاديث ورجالها وضبطها ولغتها مقدما في ذلك فلا يلتفت لنقله عن أهل الأصول في هذه المسألة ، وكلامه في الشفاء يدل على علمه في هذا الفن وغيره وتضلعه ولم ينقله فيه عن بعض الأشعرية وحكاه ابن بزيزة في شرح الإرشاد عن القلانسي من مشايخ الأشعرية وعن البخاري وغيره غير أن هذا محدث ، واختار هذا المذهب ابن عبد البر في الاستذكار واشتد نكير شيخنا المذكور عليه وقال : ولم تزل فقهاء المذهب ينكرونه عليه بحمل ما ورد على ظاهره ولتدافع مذهبه في نفسه عند تحقيقه وهو ظاهر كلام السيخ أبي محمد ابن أبي زيدفي رسالته .
وفي أسئلة الشيخ عز الدين : ما تقول في قول ابن أبي زيد ، وأنه فوق عرشه المجيد بذاته ، وأنه في كل مكان بعلمه هل يفهم منه القول بالجهة وهل يكفر معتقدها أم لا ؟ .
فأجاب الشيخ عز الدين : بأن ظاهره ما ذكر من القول بالجهة لأنه فرق بين كونه على العرش وكونه مع خلقه بعلمه ، والأصح أن معتقد الجهة لا يكفر لأن علماء المسلمين لم يخرجوهم عن الإسلام ، بل حكموا لهم بالإرث من المسلمين ، وتحريم دمائهم وأمالهم وإيجاب الصلاة عليهم ، وكذا سائر أصحاب البدع لم يزل الناس يجرون عليهم أحكام الإسلام ولا مبالاة بمن كفرهم لمراغمته لما عليه الناس انتهى كلام عز الدين .
وقال بعض من ينسب إلى الطلب : هذا كلام كفر والقائل به كافر لأن من اعتقد الجة في حق الله جل وعلا فهو كافر بالإجماع ، ومن توقف في كفره فهو كافر ، فعورض هذا الطالب في ذلك بما وقع بين الأئمة من اختلاف في تكفير أهل الأهواء ، وبما قال القاضي في الشفاء وغيره من جريان الخلاف في المشبهة وغيرهم ، وبما ذكره ابن التلمساني في عين المسألة من الخلاف فلم يقبل شيئا من هذا ، واستدل لنقله الإجماع في المسألة بالحلولية وجعلها هي عين جواب عز الدين وأن الحلولية كفار بالإجماع .
وأجاب بعض المفتين عن كلام هذا الطالب بما نصه : الصحيح قول الشيخ عز الدين ولا إجماع في المسئلة والخلاف فيها على وجه آخر وهو أن المشبهة هل عرفوا أم لا ؟ واحتجاج هذا الرجل بمسئلة الحلولية من أدل دليل على أنه لا يعرف الحلولية ولا المشبهة ، وأن الإجماع على تكفير القائل بالحلول يلزم منه الإجماع على تكفير القائل بالتشبيه كلام غير محصل . والحق أنه يلزم من صحة الملزوم صحة اللازم ومن بطلان اللازم بطلان الملزوم لا أنه يلزم من الإجماع على قضية الإجماع على لازمها ، ولا من الإجماع على بطلان لازم قضية(1/235)
<112>الإجماع على بطلان ملزومها فإن الإجماع طريقة النقل لا العقل ، ويبعد ممن له أدنى مسكة من عقل أن يحكم للأمة التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان ، وأن يتجاسر على الشهادة عليها بالكفر ، فكيف بحكاية الإجماع على ذلك ، ومسئلة التكفير بالحلول شهيرة ، ولو قال مبتدع : إن الله غير عالم أو غير قادر كفر إجماعا مع أنه ينفي صفة العلم والقدرة وغيرها ويلزمه قطعا أن يكون الباري غير عالم ولا قادر مع شهرة الخلاف في تكفيره وأنه غير كافر ، وقد جمع الخوارج من الأقوال الفاسدة والآراء الباطلة ما لم يحفظ لغيرهم . وقال سخنون : إنه يخاف على من كفرهم بمقالتهم أن يسلك مسلكهم في التكفير بالذنوب أو كلاما هذا معناه ، فقد حصل من حكاية هذا السؤال أنهم ليسوا بكفار مع حكاية الخلاف فيهم ، وأنه جاز على الخلاف في لازم القول هل هو كالقول أم لا ؟ ومذهب ابن رشد وغيره أنه ليس كالقول وأنه لا يلزم من الإجماع على قضية الإجماع على لازمها ، ولا من الإجماع على بطلان لازم قضية الإجماع على بطلان ملزومها .
إذا تقرر هذا فقائل هذه المقالة التي هي القول بالجهة فوق إن كان يعتقد الحلول وااستقرار والظرفية أو التحيز فهو كافر يسلك به مسلك المرتدين إن كان مظهرا لذلك ، وإن كان إعتقاده مثل أهل المذهب الثاني فقد تقرر الخلاف فيه ، فعلى القول التفكير يرجع لما قبله وعلى الصحيح ينظر فيه فإن دعا الناس لما هو عليه وأشاعه وأظهره فيصنع به ما قاله مالك رضي الله عنه فيمن يدعو إلى بدعته ونص على ذلك في آخر الجهاد من المدونة وتأليف ابن يونس ، وإن لم يدع إلى ذلك وكان يظهره فعلى من ولاه الله أمر المسلمين ردعه وزجره عن هذا الإعتقاد والتشديد عليه حتى ينصرف عن هذه لبدعة ، فإن فتح هذا الباب لعوام وسلوك طريق التأويل فيه إفساد لإعتقادهم وإلقاء تشكيكات عظيمة في دينهم وتهيج لفتنتهم ، وأرى هذا مثل الرجل الذي سأل مالكا عن معنى قوله عز وجل {الرحمن على العرش استوى} فقال مالك : الاستواء معلوم أو معقول والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عن هذا بدعة وأراك رجل سوء أخرجوه عني ، وزاد بعضهم في الحكاية : فأدبر الرجل وهو يقول يا أبا عبد الله لقد سألت عنها أهل الشام وأهل العراق فما وفق أحد فيها توفيقك ، وأنت ترى مالكا كيف أدب هذا الرجل وزجره الزجر التام وهو لم يصدر منه إلا السؤال عن بعض النتشابه فما ظنك بمن صرح بما صرح به . وقضية عمر رضي الله عنه مع ضبيع وضربه إياه المرة بعد المرة لسؤاله عن المتشاه مشهورة حتى قال له : إن كنت تريد قتلي فاقتلني وإلا فقد أخذت أربي .
واختلف في تأويل قول مالك المذكور فصرفه ابن عبد البر إلىمذهبه ، وظاهر حكاية غيره أنه وقف عن الكلام فيها كمذهب الواقفية ، ومنهم من نحا به مذهب المتكلمين ، وأشار ابن التلمساني في شرح المعلم فقال : يعني أن محامل الاستواء في الغة معلومة بعد القطع بأن الاستقرار غير مراد بل لبمراد به القهر والاستيلاء أو القصد إلى التناهي في صفات الكمال ، وقوله والكيف مجهول : يعني أن تعيين محمل من المححامل الائقة مجهول لنا ، وقوله الإيمان به واحب : أي التصديق بأن محملا يصح واجب ، وقوله والسؤال عنه بدعة أي تعينه بالطرق الظنية فإنه تصرف في أسماء الله نعالى وصفاته بزع الظنون وما لم يعهد زمن الصحابة رضي الله عنهم فهو بدعة انتهى ، وهو يشير إلى ما قدمناه من الخلاف فيما ورد من مثل هذه الظواهر هل يتكلم فيها أم لا ؟ .
(1/236)
<113>
واختلف تأويل حديث السوداء المذكور في السؤال ، فقال المازري : أراد صلى الله عليه وسلم أن يطلب دليلا على أنها موحدة فخاطبها بما يفهم من قصدها لأن علامة الموحدين التوجه إلى السماء عند الدعاء وطلب الحوائج ، فإن من كان عبد الأصنام يطلب حوائجه منها ومن يعبد النار يطلب حوائجه منها أيضا ، فأراد صلى الله عليه وسلم الكشف عن معتقدها أهي مؤمنة أم لا ؟ فأشارت إلى الجهة التي يقصدها الموحدون وقيل وقع السؤال لها بأين لأجل أنه أراد السؤال عما تعتقده من جلالة الباري وعظمته جل وعلا ، فأشارت إلى السماع إخبارا عن جلالته سبحانه في نفسها لأنها قبلة الداعين كما أن الكعبة قبلة المصلين ، وكذلك غختلف في تأويل ما ذكره ابلن أبي زيد في رسالته وقد مر آنفا على أنه ذكره في المختصر على وجه لا بشكل والله أعلم . (1/237)
مطلب هل استحضار الذكر تفصيلا أولى أو الإجمال أولى للذاكر ؟
وسئل رضي الله عنه : هل الأولى لذاكر استحضار معاني ذكره التفصيلية كأن يستحضر النقائص التي تنزه الله تعالى عنها ، ثم في كل مرة من مرات التسبيح يستحضر واحد من تلك الأمور وكأن يستحضر الكمالات التي يحمد عليها ، ثم يجعل بإزائه كل مرة سهود واحد من تلك الكمالات وهكذا إجمالية ؟ .
فأحاب بقوله : الأولى مرعاة الإجمال لأنه أتم وأكمل ، لأن من يراعي في كل تسبيحة مثلا تنزه الله تعالى عن جميع النقائص أتم وأكمل ممن يراعي شيئا مخصوصا بكل مرة وأيضا فتلك النقائص أحقر من أن تستحضر تفاصيلها مع الرب في القلب وإنما تستحضر على وجه كلي لضرورة التسبيح عنها وقد لا يحتاج لاستحضارها لاستغراق القلب في عظمة الرب وتعاليه وجلاله فلا يلتفت إلى تلك النقائص التة وانظر إلى السنة لما فعلت في قوله سبحان الله عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته كيف نصت على المطالب الأربعة الإجمالية وهي كثرة أفراده إذ عدد الخلق فيما كان وما يكون لا يتناهى كبر مقداره إذ العرش أكبر المخلوقات ، وإذا أخذ بما فيه من المخلوقات ، التي كانت وستكون لا يتناهى نوعه حتى رضاء الله تعالى ودوامه بلا نفاد لأن كلمات الله تعالى أي أقضيته لا نفاد لها ، وأعرضت عن النقائص التي يسبح عنها استحقارا لها عن أن تمر بحضرة الجلال أو بحضرة شهود الكمال ، وأكثر تسبيحات القرآن مطلقة عن ملاحظة المسبح عنه فينبغي لنا أن نتأسى بها . (1/238)
مطلب من قلد غير إمامه
وسئل رضي الله عنه : هل لمقلد الشافعي رضي الله عنه مثلا أن يقلد غيره بعد العمل وقبله مع تبع الرخص أولا، وقد صرح الآمدي ابن الحاجب بامتناعه بعد العمل اتفاقا ؟ .
فأجاب بقوله : لمقلد غير إمامه أحوالا ذكرها السبكي أخذا من كلامهم .
أحدها : أن يعتقد رجحان مذهب الغير في هذه المسئلة فيجوز اتباعا للراجح في ظنه .
الثانية : أن يعتقد رجحان مذهب إمامه أو لا يعتقد رجحان واحد منها فيجوز أيضا سواء قصد الاحتياط لدينه مثلا كالحيلة إذا قصد بها التخلص من الربا كبيع الجمع بالدراهم وشراء البيث بها ،ولا كراهة حينءذ بخلاف الحيلة على غير هذا الوجه فإنها مكروهة .
(1/239)
<114>
الثالثة أن يقصد بتقليده الرخصة فيما دعت حاجته إليه فيجوز أيضا إلا أن يكون يعتقد رجحان مذهب إمامه وأنه يجب تقليد الأعلم .
الرابعة : أن يقصد مجرد الترخص من غير أن يغلب على ظنه رجحاته فيمتنع كما قاله السبكي . قال : لأنه حين إذن متبع لهواه لا لدين .
الخامسة : أن يكثر منه ذلك بحيث يصير متتبعا للرخص بأن يأخذ من كل مذهب بالأسهل منه ، فيمتنع أيضا لأنه يشعر بانحلال ربقة التكليف .
السادسة : أن يجتمع من ذلك حقيقة مركبة ممتنعة بالإجماع فيمتنع كأن يقلد شافعي مالكا في طهارة الكلب ويمسح بعض رأسه لأن صلاته حينئذ لا يقول بها مالك لعدم مسح كل الرأس ولا الشافعي لنجاسة الكلب ، وزعم الكمال ابن الهمام جواز ذلك ضعيف وإن برهن عليه .
السابعة : أن يعمل بتقليده الأول ويستمر على آثاره ثم ير أن يقلد غير إمامه مع بقاء تلك الآثار كحنفي أخذ بشفعة الجوار عملا بمذهبه ثم تستحق عليه فيريد العمل بمذهب الشافعي فلا يجوز لتحقق خطئه إما في الأول أو الثاني مع أنه شخص واحد مكلف . (1/240)
مطلب يجوز التقليد بعد العمل
وما ذكر عن الآمدي وابن الحاجب نظر فيه السبكي فقال : في دعوى الاتفاق نظر ، وفي كلام غبرهما ما يشعر بإثبات الخلاف بعد العمل أيضا وكيف يمتنع إذا اعتقد صحته ، ولكن وجه ما قالاه أنه بالتزامه مذهب إمامه لكف به ما لم يظهر له غيره والعامي لا يظعر له شيئ ، هذاى وجه ما قالاه ولا بأس به ، ولكني أرى تنزيله على صورة الحنفي المذكورة وهي وإن كانت غير منقولة فالمنقول وتحقيقه قد يشهد لها ومما تبي ذلك أن التقليد بعد العمل إن كان من وجوب لإباحة لتترك كحنفي قلد في رسنية الوتر أو من حظر الإباحة لتفعل كشافعي يقلد في نكاح بلا ولي فالمتقدم منه في الوير هو الفعل وفي النكاح هو الترك وكلاهما لا ينافي الإباحة ، واعتقاد الوجوب أو التحريم خارج عن العمل وحاصل قبله فلا معنى للقول بأن العمل فيهما مانع من التقليد وإن كان العكس بأن كان يعتقد الإباحة فقلد في الوجوب أو التحريم فالقول بالمنع أبعد وليس في المانع ولا هذه الأقسام ، نعم المفتي على هذا إذا أفتى بحكم ليس له أن يقلد غيره ويفتي بخلافه لأنه محض تشبه إلا إن قصد مصلحة دينية دعته إلى ذلك ، كما روى عن ابن القاسم أنه أفتى ولده في نذر اللجاج بمذهب الليث ، وهو أنه يتخلص عنه بكفارة يمين ، وقال له : إن عدت لم أفتيك إلا بقول مالك أنه يتعين ما التزمه ، والله أعلم . (1/241)
مطلب اعتراض ابن تيمية على متأخري الصوفية وله خوارق الخ
وسئل نفع الله به بما لفظه : لابن تيمية اعتراض على متأخري الصوفية ، وله خوارق في الفقه والأصول فما محصل ذلك .؟ .
فأجاب بقوله : ابن تيمية عبد خذله الله وأضله وأعماه وأصمه وأذله ، وبذلك صرح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذب أقواله ، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد أبي حسن البكي وولد التاج والشيخ الإمام العز ابن جماعة وأهل عصرهم من الشافعية(1/242)
<115>والمالكية والحنفية ، ولم يقتصر اعتراضه على متأخري الصوفية على مثل عمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب رضي الله عنهما كما يأتي .
والحاصل أن لا يقام لكلامه وزن بل يرمى في كل وعر وحزن ويعتقد فيه أنه مبتدع ضال ومضل جاهل غال عامله الله بعدله وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله آمين .
وحاصل ما أشير إليه في السؤال أنه قال في بعض كلامه : إن في كتب الصوفية ما هو مبني على أصول الفلاسفة المخالفين لدين المسلمين فيتلقى ذلك بالقبول من يطالع فيها من غير أن يعرف حقيقتها كدعوى أحدهم أنه مطلع على اللوح المحفوظ فإنه عند الفلاسفة كابن سينا وأتباعه النفس الفلكية ، ويزعم أن نفوس البشر تتصل بالنفس الفلكية أو بالعقل الفعال يقظة أو مناما ، وهم يدعون أن ما يحصل من المكاشفة يقظة أو مناما هو بسبب إتصالها بالنفس الفلكية عندهم وهي سبب حدوث الحوادث في العالم فإذا إتصلت بها نفس البشر استنقش فيها ما كان في النفس الفلكية ، وهذه الأمور لم يذكرها قدماء الفلاسفة وإنما ذكرها ابن سينا ومن يتلقى عنه ، ويوجد من ذلك في بعض كلام أبي حامد وكلام ابن عربي وابن سنعين وأمثال هؤلاء تكلموا في التصوف ، والحقيقة على قاعدة الفلاسفة لا على أصول المسلمين ، ولقد خرجوا بذلك إلى الإلحاد كإلحاد الشيعة والإسماعيلية والقرامطة والباطنية بخلاف عباد أهل السنة والحديث كالفضل وسائر رجال الرسالة ، وهؤلاء أعظم الناس إنكارا لطرق من هم خيرا من الفلاسفة كالمعتزلة والكرامية فكيف بالفلاسفة . وأهل التصوف ثلاثة أصناف : قوم على مذهب أهل الحديث والسنة كهؤلاء المذكورين ، وقوم على طريقة بعض أهل الكلام من الكرامية وغيرهم : وقوم خرجوا إلى طريق الفلسفة مثل مسلك من سلك رسائل إخوان الصفا وقطعة توجد في كلام أبي حيان التوحيدي ، وأما ابن عربي وابن سبعين ونحوهما فجاءوا بقطع فلسفية غيروا عباراتها وأخرجوها في قالب التصوف ، وابن سينا تكلم في آخر الإشارات على مفام العارفين بحسب ما يليق بحاله ، وكذا معظم من لم يعرف الحقائق الإيمانية . (1/243)
مطلب على أن أبا بكر ابن العربي من أصحاب الغزالي وفيما جرى من ابن تيمية الخ
والغزالي ذكر شيئا من ذلك في بعض كتبه لاسيما في الكتاب المضنون به على غير أهله ومشكاة الأنوار نحو ذلك حتى ادعى صاحبه أبو بكر ابن العربي فقال : شيخنا دخل في نظر الفلاسفة وأراد أن يخرج منهم بما قدر أ لكن أبو حامد يكفر الفلاسفة في غير موضع وبين فساد طريقتهم وأنها لا تحصل المقصود واشتغل كل آخر عمره بالبخاري ومات على ذلك ، وقيل إنه رجع عن تلك الكتب ، ومنهم من يقول إنها مكذوبة عليه ، وكثر كلام الناس فيه لأجلها كالمازري والطرطوشي وابن الجوزي وابن عقيل وغيرهم انتهى حاصل كلام ابن تيمية ، وهو يناسب ما كان عليه من سوء الاعتقاد حتى في أكابر الصحابة ومن بعدهم إلى أهل عصره وربما أداه اعتقاده ذلك إلى تبديع كثير منهم .
ومن جملة من تتبعهم الولي القطب العارف أبو الحسن الشاذلي نفعنا الله بعلومه ومعارفه في حزبه الكبير وحزب البحر وقطعة من كلامه كما تتبع ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين ، وتتبع أيضا الحلاج الحسين ابن منصور ولا زال يتبع الأكابر حتى تمالأعليه أهل عصره ففسقوه وبدعوه بل كفره كثير منهم ، وقد كتب(1/244)
<116>إليه بعض أجلاء أهل عصره علما ومعرفة سنة خمس وسبعمائة من فلان إلى الشيخ الكبير العالم إمام أهل عصره بزعمه ، أما بعد فإن أحببناك في الله زمانا وأعرضنا عما يقال فيك إعراض الفضل إحسانا إلى أن ظهر لنا خلاف موجبات المحبة بحكم ما يقتضيه العقل والحس وهل يشك في الليل عاقل إذا غربت الشمس ، وأظهرت أنك قائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والله أعلم بقصدك ونيتك ، ولكن الإخلاص مع العمل ينتج ظهور القبول ، وما رأينا آل أمرك إلى هتك الأستار والأعراض باتباع من لا يوثق بقوله من أهل الأهواء والأغراض ، فهو سائر زمانه يسب الأوصاف والذوات ولم يقنع بسب الأحياء حتى حكم بتفكير الأموات ولم يكفه التعرض على من تأخر من صالحي السلف حتى تعدى إلى الصدر الأول ومن له أعلى المراتب في الفضل فيا ويح منهؤلاء خصمه يوم القيامة وهيهات أن لا يناله غضب ، وأنى له بالسلامة وكنت ممن سمعه وهو على منبر جامع الحبل بالصالحية وقد ذكر عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فقال : إن عمر له غلطات وبليات وأي بليات . وأخبر عنه بعض السلف أنه ذكر علي ابن أبي طالب رضي الله عنه في مجلس آخر فقال : إن علي أخطأفي أكثر من ثلاثمائة مكان ، فياليت شعري من أين يحصل لك الثواب إذا أخطأعلي بزعمك كرم لالله وجهه وعمربن الخطاب ، والآن قد بلغ هذا الأمر إلى منتهاه والحال إلى مقتضاه ، ولا ينفعني إلا القيام في أمرك ودفع شرك لأنك قد أصرفت في الغي ووصل أذاك إلى كل ميت وحي ، وتلمني الغيرة شرعا لله ولرسوله ويلزم ذلك جميع المؤمنين وسائر عباد الله المسلمين بحكم ما يقوله العلماء ، وهم أهل الشرع وأرباب السيف الذين بهم الوصل والقطع إلى أن يحصل منك الكف عن أعراض الصالحين رضي الله عنهم أجمعين ا هـ .
واعلم أنه خالف الناس في مسائل نبه عليها التاج السبكي وغيره ، فمما خرق فيه الإجماع قوله في علي الطلاق أنه لا يقع عليه بل يقع عليه كفارة يمين ، ولم يقل بالكفارة أحد من المسلمين قبله ، وأن طلاق الحائض لا يقع وكذا الطلاق في طهر جامع فيه وأن الصلاة إذا تركت عمدا لا يجب قضاؤها ، وأن الحائض يباح لها الطواف بالبيت ولا كفارة عليها ، وأن الطلاق الثلاث يرد إلى واحدة وكان هو قبل ادعائه ذلك نقل إجماع المسلمين على خلافه وأن المكوس حلال لمن أقطعها وأنها إذا أخذت إذا أخذت من التجار أجزأتهم عن الزكاة وإن لم تكن باسم الزكاة ولا رسمها ، وأن المائعات لا تنجس بموت حيوان فيها كالفأرة ، وإن الجنب يصلي تطوعه بالليل ولا يؤخره إلى أن يغتسل قبل الفجر وأن كان بالبلد ، وأن شرط الواقف غير معتبر ، بل لو وقف على الشافعية صرف إلى الحنفية وبالعكس وعلى القضاة صرف إلى الصوفية في أمثال ذلك من مسائل الأصول مسئلة الحسن والفبح التزم كل ما يرد عليها ، وإن مخالف الإجماع لا يكفر ولا يفسق ، وأن ربنا سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا محل الحوادث تعالى الله عن ذلك وتقدس وأنه مركب تفتقر ذاته افتقار الجزء لكل تعالى الله عن ذلك وتفدس ، وأن القرآن محدث في ذات الله تعالى الله عن ذلك وتقدس وأن العالم قديم بالنوع ولم يزل مع الله مخلوقا دائما فجعله موجبا بالذات لا فاعلا بالإختيار تعالى الله عن ذلك وقوله بالجسمية والجهة والإنتقال وأنه بقدر العرش لا أصغر ولا أكبر تعالى الله عن هذا الافتراء الشنيع الفبيح والكفر البراح الصريح وخذل متبعيه وشت شمل معتقديه ، وقال : إن النار تفنى ، وأن الأنبياء غير معصومين ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا جاه له ولا يتوسل به ، وأن إنشاء السفر إليه بسبب الزيارة معصية لا تقصر الصلاة فيه وسيحرم ذلك يوم الحاجة الماسة إلى شفاعته ، وأن التوراة والإنجيل لم تبدل ألفاطهما وإنما بدلت معانيهما اهـ .
(1/245)
<117>
وقال بعضهم : ومن ينظر إلى كتبه لم ينسب إليه أكثر هذه المسائل غير أنه قائل بالجهة وله في إثباتها جزء ، ويلزم أهل هذا المذهب الجسمية والمحاذاة والاستقرار : أي فلعله في بعض الأحيان كان يصرح بتلك اللوازم فنسبت إليه سيما ومن نسب إليه ذلك من أئمة الإسلام المتفق على جلالته وإمامته وديانته وأنه الثقة العدل المرتضى المحقق المدقق ، فلا يقول شيئا إلا عن تثبت وتحقق ومزيد احتياط وتحر سيما إلى مسلم ما يقتضي كفره وردته وضلاله وإهدار دمه ، فإن صح عنه مكفر أو مبدع يعامله الله بعدله وإلا يفر لنا وله . (1/246)
مطلب ما حكم علم الرمل
وسئل نفع الله بما لفظه : ما حكم علم الرمل وفعله ، وهل يصح أخذ الأجرة عليه من حديث ابن عناس رضي الله عنهما أنه سأل الر سول صلى الله عليه وسلم عن الخط فقال " كان نبي من أنبياء الله يخط فمن وافق خطه علم " ، وفي رواية " فمن وفق فهو الخط " ويقال أن ذلك هو النبي إدريس صلى الله على نبينا وعليه وسلم ، ويقال إبراهيم من قوله تعالى {فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم} أي الخطوط وفي رواية " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخط في التراب فقال : علنه نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فمن وافق علمه علم " ؟ .
فأجاب بقوله : تعلم الرنل ووتعليمه حرام شديد التحريم وكذا فعله لما فيه من إيهام العوام أن فاعله يشارك الله في غيبه وما استأثر بمعرفته ، ولم يطلع عليه أنبيلؤه ورسله بواسطة نحو تنجيم أو زجر أو خط أو بغير واسطة ، وقد أكذب له مدعي علم الغي وأخبر في كتابه العزيز بأنه المستبد بعلم ما كان وما يكون في غير ما آية وقال {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول} على أنه قيل إن الاستثناء منقطع فلا يقع الإخبار ولا لرسول ولكن المراد حينئذ الإخبار بجميع المغيبات جملها أو تفصيلها فهذا لم يعلم به رسول ولا غيره وقال {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} وقال عن عيسى عليه الصلاة والسلام {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون} الآية ، فجعل ذلك من دلائل النبوة ، فلو أمكن الإطلاع عليه بحو خط من غير نبي لما كان دليلا لأنه لم يكن معجزا ، فعلم أن ادعاء معرفة ما يسره الناس أو ينطوون عليه أو ما يقع من غلاء الأسعار ورخصها ونزول المطر ووقوع القتل والفتن وغير ذلك من المغيبات فيه إبطال لدلائل النبوة وتكذيب للقرآن العزيز ، وفي الحديث المشهور " من صدق كاهنا أو عرافا " وفي بعضها " أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد " وقال صلى الله عليه وسلم أيضا حاكيا عن الله تعالى " أصبح من عبادي مؤمنا وكافرا " الحديث ، وفيه " أن من قال مطرنا بنوء كذا فهو كافر بي مؤمن بالكواكب " ومن المحال أن يصح لغير النبي صلى الله عليه وسلم توالي الإخبارات بالمغيبات من غير أن يقع منه غلط أو كذب ، بل ما يقع منه صدق إنما هو مصادفة لا قصد على أنه إنما يكون في الأمر الإجمالي لا التفصيلي ، لكن المتعاطون له تغترون بذلك ويعتذرون عما سواه ، ولا ينفعهم ذلك إذ لو فاتشنهم لم تجد لهم سبيلا إلى علم ذلك إلا مجرد الحزر والتخمين وهذا يشاركهم فيه سائر الناس ، وقد خبأ النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد الكاهن قوله تعالى {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} فقال هو الدخ ، فقال صلى الله عليه وسلم " اخسأ فلن تعدو قدرك " أي لا يمكنك الإخبار بالأشياء على تفاصيلها كخبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ومن ذلك نظر هرقل في النجوم فرأى أن ملك الختان قد ظهر فلم يخبر بأمر تفصيلي وإنما أخبربأمر إجمالي أهمه(1/247)
<118>وكدر حاله ، ولم يظهر له بنظره في النجوم شيئ من أحواله صلى الله عليه وسلم وما انطوت عليه بعثته من التفصيل والحديث المذكور في مسلم لكن يتعين تأويله على ما يطابق القرآن وما اتفق عليه إجماع أهل السنة ، وذلك بأن يحمل كما قاله الخطابي وغيره قوله " فمن وافق خطه " على الإنكار لا الإخبار لأن الحديث خرج على سؤال من كان يعتقد علم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بالمغيبات من جهة الخط على ما اعتقد العرب فأجابه صلى الله عليه وسلم بأن ذلك من خواص الأنبياء بما يقتضي إنكار أن يتشبه بهم أحد إذ هو من خواصهم ومعجزاتهم الدالة على النبوة فهو كلام ظاهره الخبر والمراد به الإنكار ، ومثله في القرآن والسنة كثير كقوله تعالى {فاعبدوا ما شئتم من دونه} وكقوله صلى الله عليه وسلم " نحن أحق بالشك من إبراهيم " فظاهره تحقيق الشك في المعتقدات ، والمراد نفي الشك عن إبراهيم أو يحمل على أنه علق الحل بالموافقة بخط ذلك النبي ، وهي غير واقعة في ظن الفاعل إذ لا دليل عليها إلا بخبر معصوم وذلك لم يوجد فبقي النهي على حاله لأنه علق الحل بشرط ولم يوجد وهذا أولى من الأول ، ثم رأيت القاضي عياضا قال : والأظهر خلاف الأول لكن من أين تعلم الموافقة والشرع منع التعرض وادعاء الغيب جملة ، ومعناه عندي فمن وافق خطه فذاك الذي تجدون إصابته لا أنه يريد إباحة ذلك لفاعله على تأوله بعضهم ، وعليه يدل ظاهر كلام ساقه عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ومما يدل على ذلك ما جاء في بعض الطرق لذلك الحديث " وإن وافق خطه علن النبي صلى الله عليه وسلم علم " وفي بعضها " أن نبيا من الأنبياء كان يأتيه أمره في الخط فمن وافق خطه علم النبي علم " وهذا يدل على أنه ليس على ظاهره وإلا لوجب لمن وافق خطه أن يعلم عين المغيبات التي كان يعلمها ذلك النبي وأمر بها في خطه من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم . وحينئذ فيلزم مساواته له في النبوة ، فلما بطل حمله له على ظاهره لزم تأويله على ما مر ، وعلم الله تعالى خص ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بالخط وجعله علامة لما يأمره به وينهاه عنه مثل ما جعل لنوح صلى الله على نبينا وعليه وسلم من فور التنور علامة الغرق لقومه ، وفقد الحوت علامة لموسى على لقاء الخضر صلى الله على نبينا وعليهما وسلم ، ومنع زكريا تكليم الناس ثلاثة أيام علامة على حمل زوجته ، وما في سورة الفتح علامة لنبينا صلى الله عليه وسلم على حضور أجله ومثله كثير ، ومن خواص الأنبياء ومعجزاتهم ما روي في قوله تعالى {أو أثارة من علم} أنه الخط فغير متعين في الآية ، وبفرضه فتأويله أن العرب كانوا أهل كهانة وزجر وعيافة فقال تعالى {قل أررأيتم ما تدعون من دون الله} الآيات أي ائتوني بكتاب يشهد بما ادعيتموه بلفظه أو أثارة من علم وهو الخط على زعمكم أنكم تدينون به فلا تقدرون على إقامة حجة لعبادة الآلهة وللمفسرين في هذه الأثار أقاويل أخر غير ما ذكر وتفسير النجوم بالخطوط الواقع في السؤال لم نره لأحد المفسرين . (1/248)
مطلب على أنه يوجد في الملاحم كثيرا ما يصح
( تنبيه ) : يوجد كثير من الملاحم ما يصح فقيل سبه أن نبينا صلى الله عليه وسلم تكلم بكلمات من الغيب فانفرد بحفظها بعض الصحابة ولم تظهر ، ورد بأنه لو كان كذلك لظهرت كيفية ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم وقيل إنه عمل دانيال لأنه كان نبيا يوحى إليه ، وقيل عمل الكهان قديما قبل وجوده صلى الله عليه وسلم وقيل إنها مبينة على النجوم : قال المازري : وهو الأقرب . …
( حكاية غريبة ) لكن الآجري حكى أن هند أم معاوية رضي الله عنهما دخل عليها وهي في خيمتها نائمة مجللة(1/249)
<119>بشعرها صديق لزوجها لظنه أنه رجع من الشفر ، فأحست به ففزعت فقال : أنا فلان ظننت أن زوجك قدم ، وخرج فرآه أهل الحي فلم يشكوا أنه زنى بها ، فلما قدم زوجها بلغه الخبر فعزم على قتلها فمنه أبوها حتى كاد حياهما أن يقتتلوا فاصطلحوا على أن يمضوا لكاهن الشام ليخبرهم بصحة ما كان ، ثم دخل عليها أبوها وقال : يا بنتي إن كان حقا ما يقولون فدعيني أستر عيبي وعيبك بالسيف ونقاتل القوم لئلا نذهب إلى الكاهن فبفضحنا ويفضحك وإن كنت برية سرنا إلى الكاهن ، وفحافت له وأكدت أنها برية ، فخرج الجميع إلى الشام ، فلما قربوا من الكاهن اضطربت هند وتغيرت فقال لها أبوها : ما شأنك أليس قد حذرتك الفضيحة بالكاهن ؟ فقالت : والله ما أنا إلا برية وما جزعت إلا أنا نمضي لبشر مثلنا وقد يغلط ويؤتي عليه فإن قال زنت نشبت ىالمعرة فينا وصدقه جميع العرب ، فقال لها : حقا ما قلت ، فقال لهم : نحن نمضي إلى بشر مثلنا قد يصيب وقد يخطئ ، ولكن نخبأله خبأحتى نختبره فساعدوه على ذلك وجعلوا له قمحة في ذكر مهر وربطوه بشعرة ، فلما دخلوا عليه قالوا له : إن إمرأة هذا قد اتهمت بزنا فأخبرنا عن صدق ذلك أو كذبه ؟ فقال أبوها إنا أخبأنا لك خبأ ما هو ؟ فقال : أخبأتم ثمرة في كمرة ، وفي رواية : حبة بر في إحليل مهر ، فأتوه بها فلمس على ظهرها فقال : هند ليست بزانية وستلد ملكا اسمه معاوية ،فكبر القوم وخرجوا عنه وفرحوا فأخذ بعلها بيدها رجاء أن يكون الولد منه ، فنثرت يدها منه وقالت : والله لا تقربني أبدا ولا تراني أبدا ، وقال أبوها وأهلها : والله ما رأيتها أبدا ومنعوها بالسيف ، فخطبها أبو سفيان وعبد الله ابن جدعان ، فعرض عليها أبوها فقالت : أما أبو سفيان فصعلوك لكنه ينجب ، وأما عبد الله فحسن الصورة لكنه لا ينجب أنكحني أبا سفيلن ، فولدت منه معاوية رضي الله عنه ونكح عبد الله غيرها فولدت له ولدا فطاف به يوما فرأى جملا شاه ، فقال له : يا أبت هذه ابنة هذا ، أراد الشاه بنت البعير ، فقال له في الحال : نعمت المرأة هند التي قالت إني لا أنجب .
وبهذه الحكاية تعلم أن ما مر من المغيبات لا تعلم إلا جملة ولا يعرف تفصيلها إنما هو باعتبار أكثر الأحوال وأما في بعضها فتعلم تفصيلا ؛ لكن الصواب أنه يكون من علوم الأنبياء التي حفظت ودزنت ولم تبدل ، وكذا ما أخبره به شق وسطيح من أخبار الزمن الذي وقع بعدهما ، فيحمل على أنه وصل إليهم من علم الأنبياء صلى الله على نبنا وعليهم وسلم . (1/250)
مطلب هل من السحر ما يفعله أهل الحلق الذين في الطرقات
وسئال نفع الله به : هل من السحر ما يفعله أهل الحلق الذين في الطرقات ، ولهم فيها أشياء غريبة كقطع رأس الإنسان وإعادتها وندائهم له بعد قطعها وقبل إعادتها فيجيبهم ، وجعل نحو دراهم من التراب وغير ذلك مما هو مشهور عنهم ، وكذا كتابة المحبة والقبول وإخراج الجان ونحو ذلك .
فأجاب بقوله : هؤلاء في معنى السحرة إن لم يكون سحرة فلا يجوز لهم هذه الأفعال ، ولا يجوز لأحد أن يقف عليهم لأن في ذلك إغراء لهم على الاستمرار في هذه المعاصي والقبائح الشنيعة ، وإفسادهم قطعي وفسادهم حقيقي فيجب على كل من قدر منعهم من ذلك ومنع الناس من الوقوف عليهم ، وإذا كان كثير من أئمتنا أفتوا بحرمة المرور بالزينة على أن أكثر أهلها مكرهون على التزيين بخصوص الحرير ورأوا أن التفرج عليها فيه إغراء على فعلها وللحاكم على الأمر بها فما ظنك بالفرجة على هؤلاء المارقين والجهلة المفسدين(1/251)
<120>وفي الموازية من كتب المالكية الذي يقطع يد الرجل أو يدخل لسكين في جوف نفسه إن كان ساحا قتل وإلا عوقب ، وسئل ابن أبي زيد من أئمتهم عن نحو ما في السؤال فقال : إن لم يكن في أفعالهم تلك كفر فلا شيئ عليهم وإنما هو خفة يد ، وتعقيه المرزاني فقال : هذا خلاف ما إختاره شيخنا الإمام أنهم سحرة وأن الوقوف عليهم لا يجوز ، وهو يشبه ظاهر الرواية لابن عبد البر روى ابن نلفع في المبسوطة قي امرأة أقرت أنها عقدت زوجها عن نفسها أو غيرها أنها تنكل ولا تقتل ولو سحر نفسه لم يقتل بذلك ؛ قال شيخنا الإمام : والأظهر أن فعل المرأة سحر ؛ وإن كان فعل ينشأ عنه حادث في أمر منفصل عن محل الفعل فإنه سحر . وعن ابن أبي زيد من يعرف الجن وعنده كتب فيها جلب الجن وأمراؤهم فيصرع المصروع ويأمر بزجر مردة الجن عن الصرعة ويحل من عقد عن امرأته ؛ ويكتب كتاب عطف الرجل على المرأة . ويزعم أنه يقتل الجن أفي هذا بأس إذا كان لا يؤذي أحدا أو ينهيأن يتعلمه . (1/252)
مطلب على أن الذي ضل الحاكم العبيدي لعنه الله التقرب إلى الروحانيات وخدمة الج
قلت : هذا نحو مما أنكره شيخنا من عقد المرأة زوجها ، والصواب أن التقرب إلى الروحانية وخدمة ملوك الجان من السحر ، وهو الذي أضل الحاكم العبيدي لعنه الله حتى ادعى الألوهية ولعبت به الشياطين حتى طلب المحال وهو مجبول على النقص وفعل أفاعيل من لم يؤمن بالآخرة . وعن ابن أبي زيد أيضا : لا يجوز الجعل على إخراج الجان من الإنسان لأنه يعرف حقيقته ولا يوقف عليه ، ولا ينبغي لأهل الورع فعله ولا لغيرهم وكذا الجعل على حل المربوط والمسحور .
وسئل أيضا عمن يكتب كتاب عطف لامرأة أعرض عنها زوجها ليقبل عليها وتكتفي شره ؟ قأجاب : أما بين الزوجين فأرجو أن يكون حقيقيا بكتب القرآن وغيره مما لا يستنكر ولا يشترط في جعله .
قلت : وهذا خلاف ما تقدم له إلا أن يقال إن هذا بالرقى الظاهرة الحسن كرقى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه سيد الحي الملدوغ بالفاتحة انتهى . (1/253)
مطلب على أن كتابة ما لا يعرف والعزيمة به حرام
ومذهبنا في ذلك أن كل عزيمة مقروءة أو مكتوبة إن كان فيها اسم لايعرف معناه فهي محرمة الكتابة والقراءة سواء في ذلك المصروع وغيره ، وإن كانت العزيمة أو الرقيا مشتملة على أسماء الله تعالى وآياته والإقسام به وبأنبائه وملائكته جازت قراءتها على المصروع وغيره وكتابتها كلك ، وما عدا ذلك من التبخيرات والتدخينات ونحوهما مما اعتاده السحرة الفجرة الحرام الصرف بل الكبيرة بل الكفر بتفصيله المشهور عندنا ومطلقا عند مالك وغيره .
وسئل ابن أبي زيد المالكي عن أجران يكتب فيها بنحو اسم الله الذي أضاء به كل ظلمة وكسر به كل قوة وجعله على النار فأوقدت وعلى الجنة فتزينت فأقام به عرشه وكرسيه وبه يبعث خلقه ، وما أشبه هذا مع قرآن تقدمه فهل بهذا بأس . فقال : لم يأت هذا في الأحاديث الصحاح وغير هذا من القرآن والسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلينا أن يدعي به ، وذكر في أثناء كلامه أن ذلك لا يجوز إلا ببعد التأويل انتهى .
(1/254)
<121>
وممن صرح بتحريم الرقيا بالاسم الأعجمي الذي لا يعرف معناه ابن رشد المالكي والعز ابن عبد السلام الشافعي وجماعة من أئمتنا وغيرهم ، وقيل : وعن ابن المسيب ما قتضي الجواز لقوله صلى الله عليه وسلم :" من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه " ولا دليل فيه لأنه لم يقل لهم ذلك إلا بعد أن سألوه أن عندهم رقيا يرقون بها فقال لهم صلى الله عليه وسلم " أعرضوا علي رقاكم فعرضوها عليه ، فقال صلى الله عليه وسلم : لا بأس ، ثم قال : من استطاع منكم " الخ ، فلم يقل ذلك إلا بعد أن عرف رقاهم ، وأنه لا محظور فيها ، وذكر بعض أئمة المالكية أن من أمر الغير بعمل السحر لا يقتل بالأمر بل يؤدب أديا شديدا كما في المدونة . (1/255)
مطلب الكتابة للحمى والرقى الخ
وشئل بعضهم عن رجل صالح يكتب ويرقي ويعمل النشر ويعالج أصحاب الصرع والجنون بأسماء الله والخواتم والعزائم ، وينتفع بذلك كله من عمله ولا يأخذ على ذلك الأجور فهل له بذلك أجر ؟ فأجاب : أما الكتب للحمى والرقى وعمل النشر بالقرآن وبالمعروف من ذكر الله تعالى فلا بأس به ، وأما معالجة المصروع بالجنون بالخواتم والعزائم ففعل المبطلين فإنه من المنكر والباطل الذي لا يفعله ولا يشتغل به من فيه خير أو دين ، فإن كان هذا الرجل جاهلا بما عليه في هذا فينبغي أن ينهى عنه ويبصر فيما عليه فيه حتى لا يعود إلى الاشتغال به . (1/256)
مطلب هل الموت وجودي أم عدمي
وسئل نفع الله تعالى به : عن الموت هل هو وجودي أو عدمي ، وكم يموت الإنسان ويحيا ، وفي الآية {ربنا أمتنا اثنتين وأمتنا اثنتين} ؟ فأجاب نفعنا الله بعلومنا بقوله : قد حررت الحق في ذلك في شرح العباب فلينظر منه ، والذي حضرني هنا أن الموت مفارقة الروح الجسد ، واختلفوا هل هي صفة وجودية أو معقول عدمي فقيل هو معنى يخلقه الله في الجسم مضاد للحياة لقوله تعالى {خلق الموت والحياة} والعدم غير مخلوق ، وقيل هو عدم صرف والخلق في الآية بمعنى التقدير وهو يطلق عليهما ، واتفقوا أنه ليس بجسم ولا جوهر ، وحديث " يؤتى بالموت في صورة كبش " الخ من باب التمثيل ، والأصح أنه أمر وجودي يقترن بحدوثه قبول الانحلال والانتقال من دار إلى ، واتفق المسلمون على أن الأرواح باقية غير فانية إما في نعيم مقيم وإما في عذاب أليم ، وإذا كان الموت أمرا وجوديا فهو مضاد للإدراكات الدنيوية والأخروية ، وقيل الدنيوية فقط ، ورد بأن معقول الإدراك لا يختلف ، وإذا ثبتت المضادة الأولى كانت سالبة للحياة وسائر الإدراكات المنوطة بها ، ويجوز أن ترجع في حال آخر وأمر ثان وبعودها يرجع الميت حيا وهو المعبر عنه بحياة القبر عنه بحياة القبر عند إتيان الملكين للسؤال ، فإذا ردت إليه الحيلة للجسم والروح تبعتها الإدراكات المشروطة بها فيتوجه حينئذ على الميت السؤال ويتصور منه الجواب ، وروي في حديث عن علي أو غيره رضي الله عنه " أنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر فتنة منكر ونكير قال : يا رسول الله إن يكن معي عقلي فلا أبالي من هما " وفي إرشاد إمام الحرمين المرضي عندنا أن السؤال على أجزاء يعلمها الله من القلب أو غيره يحيها الرب سبحانه وتعالى ويوجه السؤال عليها ، وذلك غير مستحيل عقلا ولا شرعا ، وقيل : يجوز أن يكون السؤال للروح وتكون بإيذاء الجسم انتهى . والسنة ترد هذا القول ، وإن قال بعض المتأخرين : المعتقد أن السؤال واجب والمسئول الروح ومحلها محتمل .
(1/257)
<122>
(1/258)
مطلب في أن الإماتة والإحياء للآدمي ستة أقسام
ونقل أن الشارع أخبر أن الملائكة والبهائم والآدمي تتطور في الإحياء والإماتة مرات كثيرة فالآدمي يتطور في الإحياءات والإماتات ستة :
الأولى : توم ألست بربكم حين استخرجوا من ظهر آدم كالذر ، ويقال إنه كان مرتين وقيل كانت أرواحا بلا أجسام ، والحق عند أهل السنة أنها كانت مركبة في الأجسام ، وأنكر هذا طوائف وعجيب من البيضاوي وغيره أنه وافقهم ، وقد قال بعض الأئمة : إنكاره إلحاد في الدين .
الثانية : الإحياء الدنيوي المشهور لكل أحد .
الثالثة : إحياء القبر عند مجيئالملكين للسؤال .
الرابعة : الإحياء الإبراهيمي حين نادى إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم عند بناء البيت " ألا إن ربكم قد بنى لكم بيتا فحجوه " الحديث .
الخامسة : الإحياء المحمدي ذكر القشيري التحبير عند ذكره الوهاب أن موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم قال : إني أرى في التوراة أمة أناجيلهم في صدورهم من هم ؟ قال : تلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأخذ يعدد فيهم الصفات الجميلة حتى اشتاق موسى إلى لقائهم ، فقال له : لا تلقاهم ولكن إن شئت أسمعتك أصواتهم فنادى سبحانه أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهم في أصلاب أبائهم ، فقالوا لبيك يا ربنا ، فقال تعالى : أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ،وذكر ذلك القشيري واستدل به .
السادسة : الإحياء الأبدي في الآخرة حين يذبح الموت ويقال يا أهل الجنة خلود بلا موت ،ويا أهل النار خلود بلا موت وهو رجوع الأجسام كما كانت على وجه أكمل وأفضل .
وللملائكة حيتان وموتان . الأولى : الدنوية والموت بعدها (1) . والثانية الأخروية .
وللبهائم حياتان وموتتان : الدنيوية ثم الموت بعدها ثم الحياة للقصاص كما جاء في الصحيح ثم يقال لها : كوني ترابا فتموت وترجع ترابا ، وحينئذ يكون الكافر يا ليتني كنت ترابا فليست هذه الإحياءات مضادة لقوله تعالى {ربنا أمتنا اثنتين وأحيتنا اثنتين} لأن هذا من قول الكافر ، ولو سلمنا صحته فليس فيه حصر أن هذا لا يكون غلا كذا فيجوز أكثر ، سلمناأن فيه حصرا فهو باعتبار المشهور الذي يعرفه كل أحد .
__________
(1) الظاهر أن للملائكة موتا واحدا وحياتين كما يعلم من كلامه اهـ مصححه .(1/259)
مطلب هل مؤمنو الجن يدخلون الجنة أم لا ؟
وسئل نفع الله به : عن قوله تعالى {يا قومنا أجيبوا داعي الله} الآية هل مقتضاه أن مؤمني الجن يدخلون الجنة أم لا ، وهل منهم رسل ، وهل هم أولاد إبليس ، وما حكم من أنكر وجودهم ، وما يتعلق بذلك من إعادة الحيوانات وغير ذلك ؟ .
فأجاب بقوله : كل الحيوانات يموتون وكذلك سائر العالم لقوله تعالى {كل من عليها فان} مع قوله {كل شيء هالك إلا وجهه} لكن لنا قول : أنه يستثنى من ذلك من خلق للبقاء كحور الجنة وولدانها فمعنى(1/260)
<123>هالك إلا وجهه قابل للهلاك وفي مقابله أنهم يعدمون كالجنة والنار وسائر الموجودات لحظة ليصدق عموم الآية ثم يعودون .
واختلفوا في إعادة الحيوان والأصح إعادته لقوله تعالى {وإذا الوحوش حشرت} ولدحيث الصحيحين في الاقتصاص للحيوان بعضه من بعض ، وقيل لا يعاد شيء منها ، وحشرت معناه ماتت ، والاقتصاص كناية عن العدل وهو خلاف ظاهر الآية والحديث فمن ثم كان الأصح الأول .
وأما الآدميون فالمكلفون منهم يعودون إجماعا ، وكذلك لاصغار العقلاء يعودون ويكونون في الجنة مع آبائهم المؤمنين إجماعا أيضا ولا نظر لمن شذ في ذلك كما بينته في شرح العباب في باب الاستسقاء ومثلهم من بلغ مجنونا ، وتوقف الباقلاني في الصغار وتردد غيره في المجانين لا يعول عليه .
وأما الجان فأهل السنة يؤمنون بوجودهم ، وإنكار المعتزلة لوجودهم فيه مخالفة للكتاب والسنة والإجماع ، بل ألزموا به كفرا لأن فيه تكذيب النصوص القطعية لوجودهم ، ومن ثم قال بعض المالكية : الصواب كفر من أنكر وجودهم لأنه جحد نص القرآن والسنن المتواترة والإجماع الضروري وهم مكلفون قطعا ، ومن ثم وعدوا بمغفرة الذنوب والإجارة منعذاب أليم في الآية التي في السؤال وتوعدوا بالعقاب {ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا} ولا ينذر بالإعادة للحساب إلا مكلف . قال الضحاك : وفي هذه الآية دليل على أن فيهم رسل منهم . وخالفه الجمهور وقالوا المراد بالرسل منهم رسل الأنبياء أو منكم للتغليب على حد {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} وهما لا يخرجان إلا من الملح .
واختلفوا هل هم أولاد إبليس أو أولاد جان وفي أن إبليس هل هو من الجن أو الملائكة وفي أن المطيع منهم هل يدخل الجنة أو ينجى من النار ؟ وبعضهم ذكر الخلاف على غير هذا الوجه فقال : من قال هم من ولد إبليس فله في دخولهم الجنة قولان : وجه الأول طاعتهم ووجه الثاني تابعيتهم لآبيهم ، ومن قال إنهم من أولاد الجان فالمطيع منهم يدخل الجنة بغير خلاف من أصحاب هذا المذهب وظواهر الآي تقتضي دخولهم كقوله تعالى {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} {من عمل صالحا من ذكر او أنثى وهو مؤمن} إلى قوله {بغير حساب} فعلى القول بالأخذ بالعموم في النصوص ما لم يرد مخصص وهو مذهب أكثر الفقهاء تكون هذه النصوص مقتضية لدخولهم الجنة ، واستدل له أبو حنيفة رحمة الله بقوله تعالى {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} فلولا إنهم يدخلون الجنة لما نفى طمثهن كالإنس للأبكار ، ولأيضا فقد اتفقنا على تكليفهم فيكون الواجب عليهم كالواجب علينا وهو ما فيه ثواب ولا ثواب في الآخرة إلا الجنة ، ومكث أهل الأعراف بها إنما هو عقاب يعقبه دخول الجنة كما أشير إليه بقوله تعالى {لم يدخلوها وهم يطمعون} ولأجل ذلك قال بعض السلف : ما أطمعهم إلا ليدخلهم ، وقيل بالوقف وهو إذ لا موجب له مع شهادة النصوص بدخلوهم الجنة ، ومن أنكر هذا لا يكفر لأنه لم يقم بخصوصه قاطع بخلاف منكر رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إليهم فإنه يكفر لأنه أجمع عليه المسلمون قاطبة وعلم من الدين بالضرورة وقد تساهل من قال : رسالته صلى الله عليه وسلم إليهم اشتهرت اشتهار قريبا من الضروري بآيات القرآن ، وشهرة عموم رسالته تدل على ذلك كمنكر الإجماع ، وفي كفره خلاف مذكور في الأصول ، وكذا كونه مبعوثا إلى يأجوج ومأجوج فمنكره كذلك لأنهم من الناس وقوله تعالى {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا} وذكر بعض العلماء أنه صلى الله عليه وسلم مر بهم ليلة الإسراء(1/261)
<124>فدعاهم فلم يجيبوا وبفرض أن هذا لم يثبت يكونون كمن بأطراف الأرض ممن لم تبلغه دعوته صلى الله عليه وسلم والأصح أنهم غير مكلفين . (1/262)
مطلب في تعريف الجن والشياطين والملائكة
وفي إرشاد إمام الحرمين : الجن والشياطين أجسام لطيفة نارية غائبة عن إدراك العيون . قال : وعن بعض التابعين أن من الجن صنفا روحانيا لا يأكل ولا يشرب ومنهم من يأكل ويشرب ، والله أعلم بكيفية ذلك ، ومن مستفيض الأخبار أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الزاد فأباح لهم كل عظم لم يذكر اسم الله تعالى عليه يجدونه أوفر ما كان لحما ، وقيل أنهم يعيشون بالشم لا بالأكل ، وورد أن أرواث دوابنا علف دوابهم .
ويجب اعتقاد وجود الملائكة أيضا ، وهم جواهر نوارنية قيل بسيطة وقيل مركبة من العناصر الأربعة كالجان لكن غلبهم النور كما غلب على الجان النار ، ولذلك لم يريا لأنهم – أعني الملائكة – قدسية منزهة عن ظلمات الشهوات طعامهم التسبيح وشرابهم التقديس أنسهم بذكر الله وفرحهم بطاعة الله قال الله تعالى {كل آمن بالله وملائكته وكتبه} والبشر أفضل منهم على تفصيل فيه خلافا لقول المعتزلة أنهم أفضل مطلقا حتى من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
واختلف هل يثابون على أعمالهم ؟ فقال بعض المحقيين : إنهم يثابون لعموم الآيات السابقة في الجن والأخبار وأجمع المسلمون على إثابتهم وشذت طائفة فلم يثوبوا إلا الملكين الكاتبين ، ولا يبعد أنهم يلزمهم كفر نظير ما مر في إنكار الجن . (1/263)
مطلب هل يوصف إبيلس بأنه كان عارفا بالله ثم سلب ذلك أم لا ؟
وسئل رضي الله عنه : هل يوصف إبليس لعنه الله بأنه كان عارفا بالله ثم سلب ذلك وما جاء من خطابه في القرآن هل هو بواسطة ، وجميع طوائف الكفر هل يوصفون بمعرفة الله تعالى المستلزمة لمعرفة رسوله صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء وسلم ، وإسناد معرفة الله لهم هل تستلزم إثبات الإيمان ؟ .
فأجاب بقوله : سئل المازري المالكي عن ذلك فقال : هذه المسألة تفتقر إلى مقدمتين : إحداهما : ما يورده في هذا من الأخبار كثير من المفسرين فلا طائل تحته لأن المسألة علمية والعمل بخبر الآحاد إنما هو من العمليات خاصة لأنها مبنية على غلية الظن بخلاف هذه ، وهذا مما لا اختلاف فيه وإن رأيت العلماء اختلفوا في فروعه فذلك إنما هو لاختلاف آراءهم كاختلافهم في تسمية الله تعالى بما ورد في أخبار الآحاد إلى غير ذلك ، وأما ما نقل بعض المفسرين من الخبر الصحيح أو السقيم فلا فائدة فيه بل أصل المسألة مما لا يلزم البحث عنه ، وكان شيخنا عبد الحكيد يذكرها في ميعاده ذكرا يتردد وينكر عن شيخه فيها رأيا لا أحفظه الآن فليفهم الإياس على ما يقطع به فيها .
والمقدمة الثانية : وهي عظيمة الموقع زهي ان تعلم أن الله خلق في قلوب الحيوان علوما ناطقها وغير ناطقها لا يجلبه فكر ولا يميزه بحث وهي علوم ضرورية وطبيعيه في الحيوان البهيمي ومنها ما لا يدرك إلا بالفكر البحث وهو خاص بالحيوان الناطق ، ومنها ما لا يدركها الناطق ، لا بالضرورة ولا بالبحث وإن أمكن من ناحية النظر أن يكون في قلوب عباده فهو من ناحية التجويز مثل رتبة الإنسان يلحق بها فلك القمر فهو يمكن عقلا ولا يطمع فيه إلا أهل الوساوس ، وطائفة من الأوائل يمنعون هذا(1/264)
<125>وأصغى إليهم بعض أهل العصر لأنه خارج عن الطبيعة فلذا لم يدركه العقل ، كما أنه لا يعلم السب في خصوصية جذب المغناطيس للحديد دون غيره ، وما لا يمكن إدراكه فلا مورد فيه ولا تصور ، ومن لا يميز بين الفكر المحصل علما أو ظنا يورد الكلام إيراد قاطع كأنه يراه كالنور الساطع ، وبهذا يتميز المستبحر في العلوم من غيره فإذا أكثر النظر في هذه المسأله المستبحر فهو كما قال المتنبي :
ومن تفكر في الدنيا وبهجتها *** أقامه العجز في فكر وفي تعب
لكن من لا تخفى عليه خافية أرسل الوحي إلى رسله بعلم مكنون ما في غيبه فاطلعوا عليه وعلموه للناس . (1/265)
مطلب في أن العلوم ثلاث طبقات
والعلوم ثلاث طبقات منها ما لا يعلم بالعقل وإنما يعلم بالسمع كجواز رؤية الله تعالى ومن ذلك علم إبليس فهو لا يعرف إلا بالسمع أما تكبره فمقطوع به لقوله تعالى {فاستكبر وكان من الكافرين} ولفظ الكفر وإن استعمل للستر فهو موضوع شرعا لمن لا يعرف الله ويؤيده قوله تعالى {رب بما أغويتني} وقوله {لأملأن جهنم منك وممن تبعك} الآية ، وغير ذلك مما يدل على كفره . وأما كون كفره حدث بعد إيمان أو لم يزل كافرا فلا قاطع فيه من نص قرآن ولا خرب متواتر ولا إجماع .
واختلف الناس هل هو من الملائكة أو من الجن واحتج الأولون باستثنائه منهم في السجود ، واحتج الآخرون بقوله {كان من الجن} وأجابوا عن الاستثناء بأنه منقطع ، وأجاب الأولون عن كونه من الجن بأنه منهم في التمرد والفساد والاستكبار والعناد ، ومن الواضح أن دلالة {كان من الجن} لأن كونه منهم أظهر من دلالة الاستثناء على كونه من الملائكة لأنه يأتي منقطعا كثيرا قال تعالى {ما لهم من علم إلا اتباع الظن} وتأويل كان من الجن بما ذكر بعيد جدا . على أنه يمكن أن يقال : إن الجن من جنس الملائكة من حيث لطافة الجسم وعدم رؤيته للبشر لكل فيكون الاستثناء متصلا مع كون إبليس من عنصر الجن حقيقة ، وقوله {خلقتني من نار وخلقته من طين} دليل ظاهر على أنه من الجن حقيقة . وليس من الملائكة ، وقال بعضهم : خلق الله العناصر الأربعة : الماء والهواء والتراب والنار ، وركب منها العالم بأسره نباته وحيوانه ومعدنه ، فهو كله أجسام مركبة من أجسام بسيطة وهي العناصر . وخلق أجساما روحانية منها الملائكة والجن ولاطاهر منها المطيع {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} وتسمى ملائكة ، والشرير الخبيث جان كما أنا الآدمي على قسمين صالح وخبيث فاسق أو كافر ، وكون إبليس سمع كلام الله أو لا يرجع فيه إلى قاطع وليس بموجود نظير ما مر ، وإنما فيه ظواهر وهي لا تعتبر في هذا بل في الظنيات العمليات ، وقوله {ما منعك أن تسجد} ظاهر في عدم الوساطة ومحتمل لوجودها .
وكون الكفار هل يعرفون الله أو لا ؟ جوابه أنه يمكن معرفتهم بالله دون رسله ولا يتصور عكسه إذ الرسول لا تتحق معرفته إلا بنسبته إلى الله ، وأما معرفة الله فيمكن أن تتحق بدون رسله لأنه تعالى نصب عليها أدلة من مصنوعاته لا يفتقر الاستدلال بها إلى مجيء رسول بها ، ومن ثم قال بعض الأئمة : تجب معرفة الله بالعقل لأنها لا تتوقف على الشرع ، ولاذين ينون الوجوب قبل الشرع ليس هو لعدم إمكانها بل لعدم التكليف بها حينئذ لأنه لا يعرف إلا من الشرع . وزعم بعضهم التلازم بين معرفة الله ورسله من الجانبين ، وكأنه أراد المعرفة المعتد بها شرعا ، وإلا فواضح أنه لا تلازم كذلك كما تقرر .
(1/266)
<126>
وسئل نفع الله بعلومه ، بما لفظه : أتكر بعضهم الدعاء ب " اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي " محتجا بحديث " فرغ ربك من ثلاث رزقك وأجلك وشقي أم سعيد " فهل هو كذلك ؟ .
فأجاب بقوله ليس الأمر كما زعم هذا المنكر ، ويلزمه إبطال الدعاء من أصله ، لأن كل ما سيقع لك قد فرغ منه : وبذلك قال بعض المبتدعة فأبطلوا الدعاء من أصله ، وقالوا لا فائدة له لأنه إن سبق وصول المدعو به للداعي فالدعاء بوصوله له عبث ,إلا فهو عبث أيضا . ورد عليهم أهل السنة بأن المطلوب من الدعاء التذلل والخضوع ، ولذا ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " من لم يسأل الله يغضب عليه " وفي بعض الآثار أن الله قال لموسى عليه الصلاة والسلام : يا موسى إسألني كل شيئ حتى ملح عجينك ، على أن له فائدة ، وهي أن تلك المقدرات على قسمين : منها ما أبرموهو المعبر عنه في أم الكتاب الذي لا يقبل تغييرا ولا تبديلا . ومها ما علق على فعل ِشيئ وهو المعبر عنه باللوح المحفوظ القابل لتغييروالتبديل ، وأصل ذلك قوله تعالى {يمح الله ما يشاء وعنده أم الكتاب} فمن ذلك حديث " إن زيارة الرحم تزيد في العمر " مرادا على أن المراد بالزيارة فيه حقيقتها لا مجازها الذي هو البركة بأن يتيسر له في العمر القصير ما لا يتيسر لغيره في العمر الطويل وإن قال بهذا جمع ، وكذلك الدعاء قد يكون المدعو به معلقا على الدعاء فكان لدعاء فائدة أي فائدة . على أن العاء لا يخيب أبدا لأنه إن كان بما علق على الدعاء فواضح وجود الفائدة فيه وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم " لا يرد القضاء إلا الدعاء " وإن كان بما لم يعلق على ذلك ففائدته الثواب لأن الدعاء من العبادة بل من أنها كما قال صلى الله عليه وسلم " الدعاء مخ العبادة " وأيضا قيبدل الله الداعي بدل ما دعى به بما لم يقدر له بما هو مثل ذلك أو أفضل منه كما يليق كما يليق بجوده وكرمه وسعة فضله وحلمه ، ومن ثم أطلق الله سبحانه وتعالى الإستجابة للدعاء ولم يقيدها بشيئ فقال عز وجل {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} وقال {أجيب دعوة الداعي إذا دعان} والفعل وإن كان في خير الإثبات فلا عموم له لكنه في مقام الإمتنان للعموم كما قالوا به في النكرة في سياق الإمتنان إذ الفعل والنكرة المثبتة من واد واحد عموما وعدمه قتأمل ذلك كله فإنه ظهر لي بجمد الله ولا مزيد على حسنه وتحقيقه ، ثم رأيت بعضهم أشار لبعض ذلك فقال : لا ينكر الدعاء إلا كافر مكذب بالقرآن لأن الله تعالى تعبد عبادة به في غير ما آية ووعدهم بالإستجابة على ما سبق في علمه من أحد ثلاثة أشياء على ما ورد في الحديث استجابة أوة إدخار أو تكفير عنه . وقال آخر : منكر ذلك إما جاهل فينهى عنه أشد النهي وإن تمادى بعد العلم فقد كذب القرآن فهو مرتد ، وقال عليه الصلاة والسلام " لايرد القضاء إلا الدعاء " فقد يكون في علم الله القضاء
يعلق بذلك الدعاء ، ولا يكون إلا هو كقوله صلى الله عليه وسلم " اعملوا مكل ميسر لما خلق له " الحديث انتهى . (1/267)
مطلب من رغب عن السنة
وسئل نفع الله بعلومه : هل يسوغ لأحد وأن يأنف من الدعاء باللهم اجعلني ممن ينال شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ .
فأجاب : لا يأنف من ذلك مترفعا عنه إلا كافر بالله ورسوله غلب داء الكبر على قلبه حتى أخرجه من دين الإسلام إلى الكفر الحقيقي ، وقد صرح أئمتنا بأنه لو قيل لإنسان قص أظفارك فقال لا أفعل رغبة عن السنة كفر ، فإذا كان هذا حكمهم على هذا فكيف بمن أنف أن يكون من أهل شفاعته صلى الله عليه وسلم(1/268)
<127>
وليست شفاعته صلى الله عليه وسلم خاصة بالمذنبين إذ هي على أنواع سبعة أو أكثر كما بيتنتها في لاخصائص من شرح الإرشاد حتى إن السبعين ألفا الذين صح دخولهم الجنة بغير حساب لا يخلون من شفاعته ومدده ، وكيف يمكن عاقلا أن يتوهم أنه ينفك عن ملاحظته صلى الله عليه وسلم في يوم يحتاج إليه فيه الخلق بأسرهم أنبياؤهم ورسلهم وملائكتهم ولم يجسر على تلك لاشفاعة العظمى فيه إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وجزاه عنا وعن المسليمن خيرا أفضل ما جزى نبيا عن أمته ورسولا عن قومه وأنالنا شفاعته وجعلنا من أمته بمنه وكرمه .
فإن قلت : قد انكر المبتدعة الشفاعة ولم تكفروهم بذلك .
قلت : هم لم ينكروها أنفة واستكبارا بل اعتقادهم زعما منهم أن الأدلة التي قامت عند عقولهم الكاذبة الضالة أحالتها ، وشتان ما بين هؤلاء ومنكرها أنفة واستكبارا ، وعجيب من بعض أئمة المالكية حيث لم يستحضر هذا لاتفصيل والفرق اللذين ذكرتهما ، فقال جوابا عما في السؤال : لا يحل لمسلم أن يأنف من ذلك بل يجب عليه التضرع إلى الله تعالى جاهرا بشفاعته صلى الله عليه وسلم لأنها تنال المحسنين والمذنبين هي قوله " أريد أن أخبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة " وجميع العلماء على أن المقام المحمود الذي وعده الله هو شفاعته لأمته فتنال عموم أمته في موقفين : الإراحة من الموقف والزيادة في الكرامة والترفيع ، والمذنبون منهم من ينال شفاعته في التجاوز عنه ، ومنهم من ينالها في الخروج من النار ولا يحرم من شفاعته إلا الكفار ولعلها لا تنال من يكذب بها من المبتدعة فمعنى دعاء الرجل ألا يحرم من شفاعته موته على الإسلام غير زائغ ولا مبتدع فواجب دعاؤه جهده ولا يدعو بإخراجه من النار بشفاعته لأنه دعاء يستلزم لاذنب الموجب للنار انتهى .
وسئل نفع الله به ، عن شخص قال : يمكن أن يوجد من هو أفضل من كذا (1) فهل يكفر بذلك ؟ فأجاب بقوله : إن أراد مجرد إمكان ذلك شرعا أو أن النبوة مكتسبة فهو كافر أو أنه يمكن من حيث العقل لا بالنظر للشرع فلا يكفر .
وسئل رضي الله عنه بما لفظه: رأى بعض الطلبة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة بخط غلق لا يقرأ إلا بصعوبة فقال هذه سيرة رديئة فهل يكفر ؟
فأجاب بقوله : إن أراد مجرد الخط لم يكفر ، وكذا لو أطلق لأن القرينة تصرف ذلك الخط وللمالكية في ذلك تشديد يليق بمذهبهم .
__________
(1) قوله من كذا) هكذا هو بالنسخ ، ولعله كناية عن النبوة استبشاعا للتصريح بذلك اهـ مصححه .(1/269)
مطلب ليس أحد من بناته صلى الله عليه وسلم على الشرك قبل النبوة ؟
وسئل نفع الله به : هل أحد من بناته صلى الله عليه وسلم كزينب رضي الله عنهن كان على الشرك قبل النبوة ؟ .
فأجاب بقوله : معاذ الله أن يكون أحد منهن على ذلك بل هن على ما كان عليه أبوهن وسيدهن بل سيد الخلق كلهم ، فإنه صلى الله عليه وسلم بعثه الله وهو على الإيمان الكامل والناس على فترة من الرسل وقد درست الشرائع وعم الكفر والضلال ، فتولاه وحفظه من كل قبيح كان عليه قومه ، وحبب إليه الخلاء فكان يخلو يتعبد في غار حراء ، قال بعض الأئمة : ولا شك في تمسك بناته قبل مبعثه بهديه وسيرته .
(1/270)
<128>
وسئل نفعنا الله بعلومه بما لفظه : عن صاحب رسائل إخوان الصفا وما ترجمته وما حال كتابته ؟
فأجاب بقوله : نسبها كثير إلى جعفر الصادق رضي الله عنه وهو باطل ، وإنما الصواب أن مؤلفها مسلمة بن أحمد بن قاسم بن عبد الله المخريطي ويقال المرخيطي . ومخريط من قرى الأندلس ويكنى أبا القاسم كان جامعا لعلوم الحكمة من الإلهيات والطبيعيات والهندسة والتنجيم وعلوم الكيمياء وطبائع الأحجار وخواص النباتات وإليه انتهى علم الحكمة بالأندلس وعنه أخذ حكماء ذلك الإقليم وتوفي بها أواخر جمادى الآخرة سسنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وهو ابن ستين ، وممن ذكرة ابن بشكوال وغيره وكتابه فيه أشياء حكمية وفلسفية وشرعية وممن شدد لانكير عليه ابن تيمية لكنه يفرط في كلامه فلا يغتر بجميع ما يقوله . (1/271)
مطلب " ما تخذ الله من ولي جاهل " ، الحديث
وسئل نفع الله به عن معنى قولهم : " ما اتخذ الله من ولي جاهل ولو اتخذه لعلمه " ؟
فأجاب عنه بقوله : معنى ذلك أن الله تعالى يفيض على أوليائه الذين أتقنوا الأحكام الظاهرة والأعمال الخالصة من مواقع الإلهام والتوفيق والأحوال والتحقيق ما يفوقون به على ما عداهم ، فمن ثبتت له الولاية التي لا ينشأ كمالها إلا عما ذكرنا فتثبتت له تلك العلوم والمعارف فما اتخذ الله وليا جاهلا بذلك ، ولو فرض أنه اتخذه : أي أهله إلى أن يسير من أوليائه لعلمه أي لألهمه من المعارف ما يلحق به غيره فالمراد الجاهل بالعلوم الوهبية والأحوال الخفية لا الجاهل بمبادئ العلوم الظاهرة مما يجب عليه تعلمه فإن هذا لا يكون وليا ولا يراد للولاية ما دام على جهله بذلك ، بل إذا أراد الله ولايته ألهمه تعلم ما يجب عليه لأنه لا يمكن الإلهام فيه فإذا تعلمه وأتقن عباداته أفاض عليه تعالى من علوم غيبه ما لا يدرك بكسب ولا اجتهاد . وبما تقرر علم أن علم الشرائع لا يدرك إلا بالتعليم الحسي ألا ترى إلى ما وقع في قصة موسى والخضر عليهما الصلاة والسلام ، لكن معنى قول الخضر عليه السلام لموسى عليه الصلاة والسلام : إنك على علم لا اعلمه أنا أي لا أعلم خصوص شرعك أو كماله وإلا فالخضر كان له شرع آخر بناء على الأصح أنع نبي ، ويلزم مع كونه تبيا أن له شرعا غير شرع موسى ، ومعنى قوله : وأنا على علم لا تعلمه أنت أي لا تعلم خصوص ما أوتيته فلا ينافي أن موسى علم من المعارف والإلهامات والأحوال والخصوصيات ما لم يحط به الخضر . (1/272)
مطلب في أن العلوم الشرعية لا تدرك إلا بالتعليم
ومما يؤيد ما قدمته ما حكاه الإمام المحقق ابن عرفة المالكي حكى أن الإجماع على أن علم الشرائع لا يكون إلا بقصد التعليم ، وأما الذي يعلمه لأوليائه فهو الإلهامات والأنوار والمعارف التي لا يمكن أن تحصل بسبب بل بمحض فضل الله ومنته والله أعلم . (1/273)
مطلب في أن العارف بما يجب لله من أوصاف الجمال والكمال أفضل من العرف بمجرد الأحكام
وسئل نفع الله به عن معنى قول الإحياء لما ذكر معرفة الله تعالى والعلم به قال : والرتبة العليا في ذلك للأنبياء ثم الأولياء العارفين ثم العلماء الراسخين ثم الصالحين ، فقدم الأولياء وفضلهم على العلماء ، وبه صرح القشيري في أول رسالته ، فما وجه ذلك مع أن العلم أفضل من العمل لأن ذاك متعد وهذا قاصر .
(1/274)
<129>
فأجاب بقوله : ما قاله هذان الإمامان الجليلان صحيح لا مرية فيه إذ لا يشك عاقل أن العارف بما يجب لله تعالى من أوصاف الجلال ونعوت الكمال ، وبما يستحيل عليه من الاتصاف بكل صفة لم تبلغ غاية النهاية من الكمال المطلق أفضل من العارف بمجرد الأحكام . قال ابن عبد السلام : بل العارفون بالله أفضل من العارفين بالأصول والفروع لأنالعلم يشرف بشرف معلومه وثمراته ، والعلم بالله وبصفاته أفضل من العلم بكل معلوم من جهة أن متعلقه أفضل وأشرف المعلومات وأكملها وثمراته أفضل الثمرات وأجلها إذ معرفة كل صفة من الصفات توجب حالا عليه ، وعنها تنشأ ملابسة كل خلق سني والتجرد عن كل خلق دنئ ، فمن عرف سعة الرحمة أثمرت معرفته سعة الرجاء ، ومن عرف شدة النقمة أثمرت معرفته شدة الخوف ، وأثمر خوفه الكف عن كل معصية مع البكاء والخوف والورع وحسن الاتقياد والإذعان ، ومن شهد أن جميع النعم منه تعالى أحبه وأثمرت المحبة أثارها المحمودة المعروفة ، وكذلك من شهد تفرده بالنفع والضر لم يعتمد إلا عليه ولم يفوض أمره إلا إليه ، ومن شهد تفرده بالعظمة والجلال هابه وعامله بعظيم الانقياد والتذلل وغيرهما ، فهذه بعض آثار شهود الصفات ، ولا شك أن معرفة مجرد الأحكام لا توجب شيئا من هذه الأحوال والأعمال والأقوال ، والحس يدل على ذلك إذ كثير من علماء الظاهر على غاية من الفسق ومجانبة الاستقامة بل منهم من ادمن النظر في نحو كلام الفلاسفة حتى خرج من الدين والعياذ بالله ، ومنهم من يشكك فهم في ريبة يترددون ، والفرق بين علماء الكلام والعارفين أن المتكم تغيب عنه علومه بالذات والصفات في أكثر الأوقات فلا تدوم له تلك الأحوال ، ولو دامت لكان من العارفين لأنه يشاركهم في العرفان الموجب للأحوال الموجبة للاستقامة ، وكيف يساوي بين العارفين والفقهاء والعارفون أفضل الخلق وأتقاهم لله تعالى والله سبحانه وتعالى يقول {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ومدحه تعالى في كتابه للمتقين أكثر من مدحه للعالمين ، والعارفون هم المرادون في قوله عز قائلا {لإنما يخشى الله من عباده العلماء} دون العلماء بمجرد الأحكام لأن الغالب عليهم عدم الخشية ، وخبر الله تعالى صدق فلا يحمل إلا على من عرفه وخشيه ، وقد روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنه وهو ترجمان القرآن . ثم علماء الأحكام منهم من يتعلم ويعلم لغير الله فهذا علمه وبال عليه ، وكذا من تعلم وعلم لغير الله ، وعكسه ممن خلط عملا صالحا وآخر سيئا ، ومن تعلم وعلم لله فإن لم يعمل بعلمه فهو شقي مثل أولئك وإن عمل به فإن كان عالما بالله وبأحكامه فهو من السعداء ، وإن كان من أهل الأحوال العارفين بالله فهو من أفضل العارفين إذ حاز ما حازوا وزاد عليهم بمعرفة الأحكام وتعليم أهل الإسلام . (1/275)
مطلب في أن العلم المتعدي ليس أفضل من العلم القاصر مطلقا
قال : من يقول أن العلم المتعدي أفضل من القاصر جاهل بأحكام الله تعالى بل للقاصر أحوال .
أحدها : أن يكون أفضل من المتعدي التوحيد والإسلام والإيمان ، وكذلك الدعائم الخمس إلا الزكاة وكذلك التسبيح بعد الصلوات فإنه صلى الله عليه وسلم قدمه على التصدق بفضول الأموال وهو متعد وقال " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" وقال " خير أعمالكم الصلاة " وسئل صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل ؟ قال " إيمان بالله ، قيل ثم ماذا ؟ قال : جهاد في سبيل الله . قيل ثم ماذا ؟ قال : حج مبرور " فهذه كلها أعمال قاصرة وردت الشريعة بتفضيلها .
ثانيها: أن يكون النتعدي أفضل كبر الوالدين فإنه صلى الله عليه وسلم قيل له : أي الأعمال أفضل ؟ قال(1/276)
<130>" بر الوالدين " وليست الصلاة أفضل من كل عمل متعدي فلو رأى مصلي غريقا يقدر على إنقاذه أو وقوع قتل أو زنى أو لواط وقدر على غزالته لزمه قطعها لذلك وإن ضاق الوقت لأن رتبته عند الله أفضل من رتبة الصلاة غذ لا يمكن تداركه بخلافها ، وهذان القسمان مبنيان على رجحان مصالح الأعمال فما كانت مصلحته فيها أرجح كان أفضل ، وكذا ما نص صلى الله عليه وسلم على تفضيله يكون أرجح وإن لم يدرك سبب رجحانه فإن لم نجد مصلحة تقتضي الرجحان ولا نصا به وجب علينا التوقف حتى نعلم دليلا شرعيا على الأفضل فنصرح به حينئذ ، وإلا لم يجز لنا أن نقول على الله ما لم يقم لنا عليه دليل ، ولو تساوى اثنان مثلا في الأعمال لم يترجح أحدهما إلا بتوالى عرفانه واستمراره لأنه شرف أي شرف وبه يزداد صلاح الأعمال واستقامتها ، فالمعارف رتب في الفضل والشرف بها تتفاضل الأحوال الناشئة عنها كما مر أول الجواب ، فالمحب أفضل من المتوكل وهو من الخائف وهو مت الراجي فهذه نبذة من أوصاف العارفين بالله تعالى .
ومما يدل على فضلهم على الفقهاء ما تكرم الله به عليهم من الكرامات الخارقة للعادة ولا يجري شيء من على أيدي الفقهاء إلا إن سلكوا طريق العارفين واتصفوا بأوصافهم ، وما سبقكم أبو بكر بصوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره ، ومن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فضل غيره بالأعمال الشاقة فقد أبعد بل فضل بتكليم الله إياه تارة على لسان جبريل وتاره من غير واسطة ، وكذلك فضل بالعلوم والمعارف والأحوال التي اختص بها ولذلك قال " إني لأرجو أن أكون أعلمكم بالله وأشدكم له خشية " ولذلك لما تقلل بعضهم قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم على قيامه وصلاته على صلاته أنكر صلى الله عليه وسلم عليه ذلك ، ثم ذكر أن تفضيله عليهم إنما كان بمعرفته لله تعالى فهذه جهات تفضيله صلى الله عليه وسلم ولا مشقة فيها ، ولما لا والله تعالى يقول لموسى عليه الصلاة والسلام {إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} زمثل هذا الزعم لا يصدر إلا من قلب منافق وهو صلى الله عليه وسلم افضل الأنبياء كلهم عليه وعليهم أفضل الصلام والسلام ، وكثير منهم كنوح صلى الله عليه وسلم عمل وأوذي وصبر أكثر من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على أن ذلك الزعم بما ينبي أن النبوة مكتسبة وهو ضلال وكفر ، بل هي من مواهب محض فضله تعالى خص بها أنبيائه صلى الله عليهم وسلم ، تقصر العقول عن إدراك أدني شيء مما أوتوه من المعارف والأنوار والقرب من الله تعالى والآيات العظيمة الظاهرة على أيديهم تشهد بذلك ، ولهذا لما شم الأولياء من هذه الرائحة طرفا حصل لهم من العرفان بقدر ما شمكل طالب منهم ، وظهرت لهم كرامات من ذلك القدر الذي حصل ، وزاد الأنبياء أيضا أنهم قادة الخلق إلى الله تعالى ، ومعلوموهم كيفية الوصول إليه فاتبعهم العامة بحكم العلوم الظاهرة والخاصة بجكم العلوم الباطنة ، وحصل بعض تلك الأمور بخلوص الاتباع وما رام زيادة واعتقد قوة لم يصل إليها ، ولد خرجت أقوام قوم من أهلا لطرق استغرقوا فوقعوا في الاعتراض عليهم كالجلاج ، وذكر منهم ابن الجوزي كثيرين في تلبيس إبليس ، ولقد أشار القشيري إلى أنه لا يتقتدي بكل أشياخ رسالته بل بعضهم وبينهم . (1/277)
مطلب في تأويل قول أبي يزيد خضنا بحرا وقف الأنبياء على ساحله
زمن ذلك ما نقل عن ابن أبي يزيد : خضنا بحرا وقف الأنبياء على ساحله ، ومعنى هذا أن الأنبياء وقفوا بسواحل بحار الشهوات والإرادات ونحوهما ينقذون أتباعهم من الغرق في البحار فهو غاية في مدحهم والثناء(1/278)
<131>عليهم ، وليس فيه شيء من الاعتراض إلا ما يتبادر من ظاهره على ما زعمه المعترض على المتكلمين بهذه الكلمة حيث زعم أنهم يفضلون الأولياء على الأنبياء ، ومعاذ الله أنيصدر ذلك من أحد منهم لأتهم أعرف بالله وبأحكامه وبالأنبياء ومراتبهم من غيرهم .
وأجاب بعضهم عن تلك الكلمة بما يقرب مما قدمته فقال : معناها أنهم وقفوا بساحل السلامة ليتبعهم فيها عموم الناس لكونه ظاهرا مبلغا محل السلامة من غير تعمق ، وخاض الخواض في غوامضه وأدركوا منه أشياء من المعارف والأحوال لم يدركها من وقف من أولئك العامة بالساحل .
وأجاب بعضهم : بأن المراد أن الأنبياء خاضوا بحر المعارف وقطعوه واحاطوا بجميع أسراره ، ولم يبق عليهم منه شيء ، وأما الأولياء فإنهم خاضوا شيئا قليلا منها بل أكثرهم غرق فيه وتاه ولم ينج منهم إلا القليل ممن سبقت لهم السلامة في علم الله تعالى والبقية امتحنوا لعدم ضبط ظواهرهم ، ومن ثم زاغ كثير من الصوفية الذين لم يتأدبوا بآداب الشريعة إذ الخير كله في اتباعه صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهديه ، فمن قيد نفسه بأحكام الشريعو الظاهرة ، وعمر باطنه بالخشية ونحوها مما مر فقد اندرج في سلك القوم السالمين من اللوم ألحقنا الله بهم ، ونظمنا في سلكهم آمين . (1/279)
مطلب فيمن سمي محمدا قبل نبينا صلى الله عليه وسلم
وسئل نفع الله به : عن عدد من سمي محمدا قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ؟ .
قأجاب بقوله : قال ابن قتيبة : من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم أنه لم يسم أحد قبله باسمه محمد صيانة من الله تعالى لهذا الاسم كما فعل بيحيى صلى الله عليه وسلم إذ لم يجعل له من قبل سميا ، وذلك أنه تعالى سماه في الكتب المتقدمة وبشر به الأنبياء ، فلو جعل اسمه مشتركا فيه لوقعت الشبهة ، إلا أنه قرب زمنه وبشر أهل الكتاب بقربه سمى قوم أولادهم بهذا الاسم رجاء ان يكون هو هو ، والله أعلم حيث يجعل رسالته . قال القاضي عياض : وهم ستة لا سابع لهم ، ورد بذلك قول ابن خالويه : هم ثلاثة لا غير ، وسها عنه السهيلي فتبع مع تأخره عن القاضي ابن خالويه على ما ذكره على أن ما ذكره القاضي متعقب ، فقد قال الشيخ شيخ الحافظ أبو الفضل ابن حجر : إنه جمع أسماء من تسمى بذلك في جزء مفرد فبلغوا نحو العشرين لكن مع تكرير في بعضهم ووهم في بعض ، فتلخص منهم خمسة عشر نفسا وأشهرهم محمد بن عدي ن ربيعة التميمي السعدي ، وفي سياق خبره ما يشعر بأنه أدرك الإسلام ، ومحمد بن البراء بن طريف بن عتوارة بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة البكري العتواري وهذا أدرك الإسلام وهو صحابي جزما رضي الله عنه ، والبقية لم يدركوا الإسلام . (1/280)
مطلب عدد أولاد النبي صلى الله عليه وسلم
وسئل رضي الله عنه : عن عدد أولاد نبينا الكرام عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام ؟ .
فأجاب بقوله : المتفق عليه منهم ستة ذكران القاسم وغبراهيم ، وأربع بنات زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة ، وهؤلاء الأربع هاجرن معه صلى الله عليه وسلم ، واختلف فيما سوى هؤلاء الستة فضم إليهم ابن إسحاق : الطيب والطاهر فتكون ثمانية أربعة ذكور وأربع إناث ، والزبير بن بكار : عبد الله مات صغيرا بمكة قال : وهذا يقال له الطيب والطاهر عند أكثر أهل النسب ، قال الدراقطني : وهو لا يثبت وسمي بهما لأنه ولد(1/281)
<132>بعد النبوة فعلى هذا هم سبعة ثلاثة ذكور وأربع إناث ، وقيل هو غيرهما فجملتهم تسعة ، خمسة ذكور وأربع إناث . (1/282)
مطلب في ذكر أشياء محرمة كالغيبة وغيرها
وسئل نفع الله به ، بما لفظه : ذكر الجلال السيوطي في أذكار الأذكار الذي اختصره من أذكار النووي – لطف الله به – أشياء محرمة كالغيبة وهي ذكر الإنسان بما يكره بما هو فيه ولو في نحو عمامته وإن كانت بإشارة أو رمزة نحو عين واستماعها ، والنميمة وهي نقل كلام بعض الناس إلى بعض للإفساد بينهم ، والنياحة والطعن في الأنساب وحتقار المسلمين والسخرية بهم وسبهم ، والدعاء بالمغفرة للكافر ، وإفشاء السو وإن كان فيه ضرر وإلا كره ، والمن على من أحسن إليه ، ولعن معين وإن كان كافرا لم يعلم موته على الكفر ، وانتهار الوالدين ، والكذب إلا لعذر كإصلاح أو على زوجة أو ظالم أراد أخذ وديعة عنده ، والتسمية بنحو شاه شاه أو ملك الملوك وفي أقضي القضاة وقاضي القضاة وحاكم الحكام خلاف ، وممن حرمه القاضي أبو الطيب ، وحرم الحليمي الطيب قال : فإن الطيب هو الله ، والسلام على الكافر فهل الحكم ما ذكره ؟
فأجاب بقوله : نعم الحكم ما ذكره ، وقد بينت المعتمد في أقضى القضاة وما بعده في شرح العباب فليراجعه من أراد الوقوف على ذلك . (1/283)
مطلب في الأذكار التي لها أصل في السنة كأذكار النووي وغيرها
وسئل رضي الله عنه : عما في أذكار النووي من أنه يسن أن يقرأ في كل يوم يس والواقعة والدخان والسجدة وإذا زلزلت ، فهل بقي سور وآيات أخر ورد فيها نظير ذلك ؟ .
فأجاب بقوله نعم " كل يوم قراءة الإخلاص مائتي مرة " رواه الترمذي " وآل عمران يو الجمعة " رواه الطبراني " والكهف يومها " رواه الحاكم " وليلتها " رواه الدارمي " و {إنما أنا بشر مثلكم يوحى} على آخر السورة كل ليلة " رواه ابن راهويه في مسنده " ويس عن المحتصر " رواه أبو داود وغيره " والرعد أيضا " كما في الروضة عن بعض التابعين ، وصرح به من أصحابنا البندنجي وغيره " والدخان ليلة الجمعة " رواه النرمذي وغيره " وق في الحطبة " رواه مسلم " والفجر في عشر ذي الحجة " رواه الثعلبي " والقدر بعد الوضوء " كما نقله ابن الصلاح في رحلته ، فينبغي ندب هذه التي وردت بها تلك الأحاديث على كيفية ورودها وإن لم أر من صرح بذلك ، ولا يضر أن في بعض أحاديثها ضعفا ، لأن الحديث الضعيف والمرسل والمعضل والمنقطع يعمل به في فضائل الأعمال اتفاقا بل إجماعا على ما فيه . (1/284)
مطلب في الإغلاظ لولده وخادمه وتلميذه على جهة التأديب والتهنئة بالعيد
وسئل رضي الله عنه بما صورته : ذكر الجلال في مختصره من أذكار النووي رحمه الله أنه لا بأس بالإغلاظ لولده ولخادمه وتلميذه للتأديب ولا بالتحية بكرة وبعد الحمام ، ولا بالتهنئة بالعيد والشهر والسنة فله أصل في السنة ولا بالمدح إذا لم يكذب ولم يخف افتتان الممدوح ، ولا يمدح نفسه لإظهار النعمة أو النصح ليقبل قوله ، كلا تجد مرشدا مثلي ، ولا بقوله : جعلني الله فداك ، وفداك أبي وأمي ، ولا بتكنية كافر أو فاسق أو مبتدع لعذر كخوف فتنة لو تركها أو كونه لا يعرف إلا بها ، ولا بتعداد الكنى للشخص الواحد ، ولا بتكنية بابنته كأبي ليلى(1/285)
<133>ولا بالذكر في الطريق ومع الحدث الأكبر ، ولا بالدعاء على من ظلمه أو غيره ، ولا بقوله لذمي : جملك الله أو نحوه إذا فعل به خيرا ، ولا بالمزاح اللطيف ما لم يفحش ويداوم أو يؤذي به أحد ، ولا بالتعجب بسبحان الله ونحوه ولا بالتعريض والتورية لمصلحة شرعية ولا بقوله : افعل كذا على اسم الله ، واجمع بيننا في مستقر رحمتك ، وتسمية الطواف شوطا ، وصمنا رمضان ، ولا بقول سورة البقرة أو النساء مثلا ، ولا بقول : إن الله تعالى يقول كذا ، وقيل تكره هذه الستة الأخيرة فهل ما قاله صحيح ؟ .
فأجاب بقوله : نعم ما قاله صحيح ، وأدلة ذلك كله والتصريح بأسماء المخالفين فيه مبسوط في الأصل أعني أذكار النووي رحمه الله تعالى ، وقد سب أبو بكر ولده عبد الرحمن رضي الله عنهما لما خالف أمره في القصة المشهورة . (1/286)
مطلب على أنه تكره التحية بصباح الخير بخلاف صبحك الله بالخير
ومحل عدم كراهة التحية بكرة النهار حيث لم تكن بألفاظ اليهود المشهورة كصباح الخير بخلاف نحو صبحك الله بالخير ، وكذا تكره التحية بعد الحمام بنحو أطال الله بقاءك بخلاف أدام الله لك النعيم ، وقول الجلال : ولا بالتهنئة الخ لو أبدله بقوله بل لا يبعد ندبه إذ له أصل في السنة لكان أولى ، ولا كراهة في جعلني الله فداك ولو لغير عالم وصالح ، ولا في الذكر في الطريق ومحله إن لم يلته وإلا كره ، وقوله على من ظلمه أو غيره الظاهر أن أو غيره تحريف إذ من الواضح حرمة الدعاء على الغير الذي لم يقع منه ظلم للداعي فكيف ينفي عنه عدم الكراهة ، وقوله يداوم أو يؤذي توهم ، والصواب أو يدوام بأو فإن الفحش وحده والمداومة وحدها كل منهما يقتضي الكراهة ولا يشترط فيها اجتماعهما خلافا لما يوهمه عطفه المداومة ومع بعدها بأو ، والعجب بسبحان الله عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة شهيرة ومستقر الرحمة الجنة ، والشوط أصله الهلاك فالكراهة في تسمية الطواف به عليها جماعة من الأئمة لما فيها من التفاؤل بالقبيح ، فهو نظير كراهته صلى الله عليه وسلم للإنسان أن يقول : حبثت نفسي ، بل تلك أولى لأن لفظ الهلاك أقبح من لفظ الخبث ، لكن صح عن ابن عباس رضي الله عنهما التعبير بالأشواط . وحديث " عن رمضان بأسماء الله " ضعيف فلا دليل فيه لمن كره ذكر رمضان وحده من غير إضافة ، وقد ذكره صلى الله عليه وسلم مجردا عنه في أحاديث كثيرة صحيحة ك" إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة " . وزعم بعض السلف أن السورة التي تذكر فيها البقرة لا كراهة فيه بخلاف سورة البقرة في غاية الضعف إذ لا فرق بينهما في الحقيقة ، وإيهام الثاني أن السورة للبقرة لا يتوهمه أحد ألبتة ، وقد نطق صلى الله عليه وسلم بذلك في أحاديث صحيحة . والمراد بيقول في أن الله يقول : ليس حقيقة المستقبل إذ لا يتعقل من له أدني مسكة ذلك منه قال تعالى {والله يقول الحق} وصح عنه صلى الله عليه وسلم التصريح به في أحاديث كثيرة ، وروى مسلم في القصر " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " وصح في الأحاديث التصريح بإعتاق الله من شاء من خلقه من النار ، وبأن من فعل كذا حلت له شفاعته صلى الله عليه وسلم ، وزعم أنه لا تكون إلا للمذنبين خطأ صريح بل قد تكون في نحو رفع الدرجات على أنهم أجمعوا على ندب الدعاء بالمغفرة المستدعية لوقوع الذنب وطلب العفو عنه بقوله صلى الله عليه وسلم " اذبحوا على اسم الله " أي قائلين ذلك ، وزعم أن يكره أن يقول : ارحمنا برحمتك ، كاجمع بيننا في مستقر رحمتك يردهما أنه لا دليل له بوجه ، إذ المراد اجمع يننا في الجنة التي هي دار القرار ، ولا تنال إلا بالرحمة .
(1/287)
<134>
(1/288)
مطلب في تعدد المكروهات الخ
وسئل أدام الله النفع به بما لفظه : في مختصر أذكار النووي لجلال السيوطي رحمها الله تعالى مسائل خفية لا سيما إن طابق ما فيه ما في أصله ، فالمسئول بيانها وإيضاحها دليلا وتوجهيا ومطابقة لما في أصله الذي هو أذكار النووي قدس سره وغيرها ، فإن الابتلاء بها عم واضطر الناس على إيضاح حكمها ، وهي : يكره أن يقال : خبثت نفسي بل لقست ، وأن يقال : كسلت وزرعت بل حرثت ، وللعنب الكرم ، وهلك الناس ، ما شاء الله وشاء فلان ، وهذا لله ولوجهه ، إن فعل كذا وكذا فهة يهودي ، ولمسلم يا كافر ، واللهم اسلبه الإيمان ، وللإمام خليفة الله بل خليفة النبي صلى الله عليه وسلم أو أمير المؤمنين ، وعبدي وأمتي بل فتاي وغلامي أو فتاتي وجاريتي ، ولسيده ربي لا الرب معرفا باللام فيحرم كالمولى والسيد على قول ، والأظهر جوازه مطلقا لعالم أو صالح ويكلاه لغيرهما ، وسب الريح والحمى والديك ، وتسمية المحرم صفرا ، ولخصمه يا حمار يا تيس يا كلب ، وأنعم الله بك علينا ، وأنعم صباحا ، وقول الصائم : وحق الخاتم الذي على فمي ، وللمتزوج : بالرفاء والبنين ، وأن يقال لغضبان : اذكر الله أو صل على النبي صلى الله عليه وسلم خوفا من كفره ، وأن يقال إذا تورع عن الحلف الله يعلم ، وأن يقال : اللهم اغفر لي إن شئت ، والحلف بغير الله ، وكثرة الحلف في البيع ، وقوس قزح بل قوس الله ، وأن يحدث بما عمله من المعاصي ، وغرمت للمنفق في خير بل أنفقت ، وحق السلطان للمكس أو نحوه ، وأن يسأل بوجه الله غير الجنة ، ومنع من يسأل بالله ، وأطال الله بقاءك ، والمراء وهو الطعن في كلام لإظهار خلله ولا غرض سوى تحقير قائله ، والخصومة وهي لجاج في الكلام ليستوفي به مقصوده ، والجدال بغير حة ، وكثرة الكلام والتعقيد فيه بالتشدق وتكلف لاسجع والفصاحة ووحشي اللغة وتحسين الخطب في المواعظ مستثنى ، وسؤال الرجل فيما ضرب امرأته من غير حاجة ، والتجرد للشعر والاقتصار عليه ، والفحش والبذاءة وهو التعبير عن الأمور المستقبحة بصريح العبارة ، والتحدث بكل ما سمع ، والمبالغة كجئتك مائة مرة ، والذكر أو القراءة مع تنجس الفم ، وقيل القراءة حينئذ حرام وفي حالة النعاس ، وفي حالة الخطبة والجماع ، ونسيت آية كذا بل أنسيت ، وسب ميت كان معلنا بالفسق ، وإلا فهو حرام ، وتسمية الغلام بنحو يسار أو كليب ، ونداء والده أو شيخه اسمه ، وتطويل الخطبة والموعظة والدرس بحيث يسأم منه السامعون ، وتحديث العوام والمبنذلين بما لا يفهمونه ، وعيب الطعام ، والدعاء على ولده ونفسه وخادمه وماله ، والسلام على فاسق ومبتدع وقاضي حاجة ردا أو ابتداء ونائم وناعس ومصل ومؤذن ومقيم وذي حمام ، وأكل حال الخطية ، ومشتغل بدعاء وملب ، ولا بأس بردهم ، ويقول المصلي : عليه السلام بلفظ الغيبة ، والكلام حال الأذان لقول الصفي الأبجي : إنه سبب لسوء الخاتمة وهذا حاصل ما في الكتاب المذكور والمسئول بيانه وإيضاحه مع ما يتعلق به ؟ .
فأجاب رضي الله عنه : أما المسألة الأولى وهي كراهة : خبثت نفسي أو كسلت أو زرعت فدليلها خبر الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال " لا يقولن أحدكم : خبثت نفسي ولكن ليقولن لقست نفسي " وصح في رواية " لا يقولن أحدكم جاشت نفسي ولكن ليقل : لقست نفسي " والألفاظ الثلاثة بمعنى واحد وهو غثت ، وإنما كره الأول ومثله أخذا من الرواية الأخرى ، الثاني لما فيه من لفظ الخبث ونحوه . قال الخطابي : وإنما كرهه لبشاعته وليعلمهم الأدب في استعمال الحسن وهجر القبيح ، وجاشت بجيم معجمة ولقست بلام مفتوحة فقاق مكسورة فمهملة ، ويوجه بنظير ما ذكر في كراهة كسلت ، وأما كراهة زرعت دون حرثت(1/289)
<135>فيوجه ذلك بأن الزرع الذي هو الإنبات والإثمار من محض صنع الله تعالى وليس للعبيد دخل فيه ألبتة ، وإنما دخله سببه العادي من وضع النبت في الأرض وحرثها ، فكره له أن يأتي بالأول لأنه موهم بخلاف الثاني .
وأما الثانية : وهي كراهية الكرم للعنب فدليلها خبر الصحيحين " ولا تقولوا الكرم إنما الكرم قلب المؤمن " وفي رواية لمسلم " لا تسموا العنب الكرم إنما الكرم قلب المؤمن " وفي أخرى " فإنما الكرم قلب المؤمن " ، وفي أخرى له " ولا تقولوا الكرم ولكن قولوا العنب " والحبلة أي بفتح المهملة وفتح أو سكون الموحدة واستفيد من ذلك النهي عن تسمية العنب كرما خلافا لما كان عليه في الجاهلية . قال العلماء : وحكمته خوفه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم حسن اسمها إلى شرب الخمر المتخذة من ثمرتها فسلبها هذا الاسم .
وأما الثالثة : فدليلها خبر مسلم " إذا قال الرجل : هلك الناس فهو أهلكهم " بفتح الكاف وضمها وهو أشهر : أي أشدهم هلاكا ، ويؤيد الضم رواية " فهو من أهلكهم " أي إذا قاله على سبيل الازدراء بهم والاحتقار لهم وتفضيل نفسه عليهم لأنه لا يدري سر الله تعالى في خلقه . وقال الخطابي : معناه لا يزال الرجل يسب الناس ويذكر مساويهم ويقول : فسدوا وهلكوا ونحو ذلك وحينئذ فهو من أهلكهم أي اسوأ حالا فيما يلحقه من الاثم في غيبتهم والوقيعة فيهم ، وربما أداه ذلك على العجب بنفسه ، وؤيته أنه له فضل عليهم وأنه خير منهم فيهلك انتعى .
وقال مالك : إن قاله تحزنا لما يرى فيهم : أي من أمر دينهم فلا بأس ، أو عجبا بنفسه وتصاغرا لهم فهو المكروه المنهي عنه . قال النووي : وهذا أحسن ما قيل في معناه وأوجزه .
وأما الرابعة فدليلها الخبر الصحيح " لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شا فلان " قال الخطابي وغيره : هذا إرشاد للأدب غذ الواو لمطلق الجمع ، وثم للترتيب والتراخي فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى تقديم مشيئة الله على مشيئة من سواه ، ومن ثم كره النخعي : أعوذ بالله وبك دون ثم بك . قالوا : ولا يقول : لولا الله ثم فلان لفعلت كذا وليقل : لولا الله وفلان . (1/290)
مطلب إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام
وأما الخامسة : فما اقتضاه ظاهر كلام الجلال فيها من الكراهة غير مراد كيف ، وعبارة النووي في الأذكار : يجرم ان يقال : عن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو نحو ذلك ، فإن قاله وأراد به حقيقة تعليق خروجه من الإسلام بذلك الفعل صار كافرا في الحال ، وجرت عليه أحكام المرتدين ، وإن لم يرد ذلك لم يكفر ، ولكن ارتكب محرما فتجب عليه التوبة ، وهو أن يقلع في الحال عن معصيته ويندم على ما فعل ويعزم على أن لا يعود إليه أبدا ، ويستغفر الله تعالى ويقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله انتهت . وبه يتبين أن ما وقع لجلال من كراهة هذا إما سهو أو غلط من الناسخ .
فإن قلت : الجلال إنما عبر بقوله : فهو فمسألته غير مسألة النووي لأنه عبر فيها بقوله فأنا .
قلت : المعنى واحد فيهما ولكن الجلال تبع ما قاله غير واحد من الشراح من أن الأولى في نحو ذلك أن يؤتى بضمير الغائب لا المتكلم مباعدة من النطق بهذا اللفظ القبيخ ما أمكن .
(1/291)
<136>
////////////(1/292)
مطلب فيمن قال لمسلم يا كافر أو يا عدو الله الخ
وأما السادسة : أعني قوله لمسلم يا كافر أو اللهم أسلبه الإيمان ، فالكراهة التى أوهمها بل صرح بها كلام الجلال رجمه الله غير مرادة أيضا ، وعبارة النووي في الأذكار أيضا يحرم عليه تحريما مغلظا أن يقول لمسلم يا كافر ، وروينا في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه " . وفي لفظ مسلم " من دعا رجل بالكفر أو قال يا عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه " أي رجع . ولو دعا مسلم على مسلم فقال : اللهم اسلبه الإيمان عصى بذلك ، وهل يكفر هذا ىالداعي بمجرد هذا الدعاء ؟ فيه وجهان لأصحابنا أصحهما لا يكفر لقوله تعالى إخبارا عن موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم {ربنا اطمس على أموالهم واشددعلى قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} الآية ، وفي هذا الاستدلال نظر ، وإن قلنا أن شرع ما قبلنا شرع لنا انتهت .وبه يعلم أن ما وقع لجلال من كراهة هذين إما سهو أو غلط من ناسخ نظير ما قررته في الرابعة ووجه النظر الذي ذكره أن محل كون شرع من قبلنا شرعا لنا على القول الضعيف القائل بذلك ما إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه ، وقواعد شرعنا طافحة بتحريم الدعاء بذلك ، وبتسليم أنه لم يرد في شرعنا ما يخالفه يحتمل أن موسى عليه السلام إنما دعا عليهم لأن الله أعلمه باليأس من إيمانهم فدعا عليهم بزيادة تشديد العذاب في الدنيا بالطمس على الأموال ، وفي الأخرة بالإشداد على القلوب النستلزم لمزيد العناد والكفر والتوغل فيه فتأمله فإنه مهم ، وقد توهم عبارة الأذكار أن أصحابنا لم يختلفوا في كفر من قال لمسلم يا كافر وليس مرادا ، بل المعتمد أنه لو قال ذلك لدينه كفر لأنه سمى الإسلام كفرا فتفطن لذلك ، وبهذا الذي هو مصرح به في الروضة ومختصراتها وغيرها يزداد التعجب مما وقع لجلال من كراهته ، وتأويل عبارته بما يوافق ذلك بعيد جدا إذ في سوابقها ولواحقها ما يبطل هذا التأويل بأدنى تأمل .
وأما السابعة : أعني كراهة تسمية الإمام خليفة الله فهو مأخوذ من قول النووي رضي الله عنه في الأذكار : ينبعي أن لا بقال للقائم بأمر المسلمين خليفة الله بل الخليفة أو خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين ، ثم نقل عن البعوي أنه لا بأس بتسميته بالخليفة وأمير المؤمنين وإن كان مخالفا للسيرة أئمة العدل لقيامه بأمر المؤمنين ، وسمي خليفة لأنه خاف الماضي قبله وقام مقامه ، وأنه لا يسمى أحد خليفة الله بعد آدم وداود على نبينا وعليهما أفضل الصلاة والسلام ، وقال رجل لأبي بكر : يا خليفة الله ، فقال : أنا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا راض بذلك . وقاله آخر لعمرابن عبد العزيز فقال : ويلك لقد تناولت متناولا بعيدا ، ثم أشار بأنه يكفي تسميتهم له بأمير المؤمنين .
ونقل عن الأحكام السلطانية للماوردي أن الإمام يسمى خليفة لأنه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته فجاز أن يقال الخليفة على الإطلاق وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : واختلفوا في قولنا خليفة الله فجوزه بعضهم لقيانه بحقوقه في خلقه لقوله نعالى {هو الذي جعلكم خلائف الأرض}
وامتنع جمهور العلماء من ذلك ونسبوا قائله إلى الفجور هذا كلام الماوردي انتهى كلامه في الأذكار .
(1/293)
<137>
وظاهر كلام الماوردي أن تسمية خلبفة الله محرمة وإن كان عادلا لأن قوله ولمتنع جمهور العلماء من ذلك أي الجواز الذي جعله محل الخلاف ، ونقله عنهم أنهم ينسبون القائل بالجواز إلى الفجور ظاهر بل صريح في أن الجمهور على التحريم إذ لو كانوا موافقين على الجواز ، وإنما اختلافهم في الكراهة ؛ لم يسعهم نسبة القائل بعدمها إلى الفجور فنسبتهم إياه إلى ذلك تدجل على خلافهم إنما هو التحريم ، وأن الإباحة لذلك فيها مجاوزة للحد فاستحق التغليظ عليه بنسبتهم له إلى الفجور لكن ظاهر قول النووي غقب ذلك كلام الماوردي أنه متبرئ منه . (1/294)
مطلب استعمال ينبغي بمعنى يجب قليلا
وأن المعتمد ما دل عليه قوله أولا وينبغي أن لا يقال ذلك من أنه خلاف الأولى أو مكروه ، وكون ينبغي قد يستعمل بمعنى يجب قليلا ، وكأن هذا الذي ذكرته هو الحامل للجلال على التصريح بكراهته وإن كان كلام الماوردي ظاهرا في الحرمة كما تقرر . وقال النووي الإجماع على أن أول من سمي أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه . قال : وزعم ذلك لمسيلمة جهل قبيح .
وأما الثامنة : أعني كراهة عبدي وأمتي فيقال فتاي وفتاتي وجاريتي وغلامي وغلامتي فهي مصرح بها في الأذكار كذلك روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال " لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وقتاتي وغلامي " ، وفي رواية لمسلم " لايقولن أحدكم عبدي وأمتي كلكم عبيد الله ونسائكم إماء الله ولكن ليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي " ويؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم في هذه " كلكم غبيد الله " الخ الإيماء إلى كراهة عبدي وأمتي بأنه موهم وجود حقيقة العبودية والأمتية لغير الله ، وهو كذب بل كفر صريح فنهى عن ذلك اللفظ الموهم لذلك ، وإن كان غير مراد بخلاف الفتاتية والغلامية والاجارية لا يوهم ذلك الإيهام ولا قريبا منه فلا يكره .
وأما التاسعة : أعني قوله : ولسيده إلى قوله لغيرهما فهو حاصل ما في الأذكار ، وهو لفظ السيد يطلق على من يفوق قومه قدرا وشرفا ، وعلى الزعيم والفاضل والحليم الذي لا يستفزه غضبه ، وعلى الكريم والمالك والزوج وفي أحاديث كثيرة صحيحة إطلاقه على أهل الفضل كقوله صلى الله عليه وسلم وهو علبى المنبر ومعه الحسن رضي الله عنه " إن ابني هذا سيد " وكقوله للأنصار لما قدم سعد ابن معاذ رضي الله عنه في حصار بني قريظة ليجكم فيهم إذ لم يرضوا إلا بالنزول على حكمه " قوموا لسيدكم أو خيركم " وفي رواية " سيدكم من غير شك " وفي رواية لمسلم " أنه صلى الله عليه وسلم قال في قول سعد ابن عبادة : أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجل أيقتله " الحديث " انظروا ما يقول سيدكم " وصح خبر " لا تقولوا للمنافق سيد فإنه إن يكن سيدا فقد أسخطتم ربكم عز وجل " قال النووي كالخطابي والجمع بين هذه الأحاديث أنه لا بأس بإطلاق فلان سيد ويا سيدي ونحو ذلك إذا كان المسود فاضلا خيرا لعلم أو صلاح أو غيرهما وإن كان نحو فاسق أو متهم في دينه كره أن يقال له سيد . قال : ويكره أن يقول المملوك لمالكه ربي بل سيدي أو مولاي ، روى الشيخان " لا يقل أحدكم أطعم ربك ارض ربك اسق ربك وليقل سيدي ومولاي " الحديث وفي رواية لمسلم " ولا يقل أحدكم زبي وليقل سيدي ومولاي " قال العلماء : لا يطلق الرب بالألف والام إلا على الله تعالى خاصة فأما مع الإضافة فيقال رب المال ورب الدار وغير ذلك ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في ضالة الإبل " دعها حتى يلقاها ربها " وفي الحديث الصحيح " حتى يهم رب المال من يقبل صدقته " ونظائره في الحديث(1/295)
<138>كثيرة مشهورة ، وأما استعمال حملة الشرع ذلك فأمر معروف ومشهور . قال العلماء : وإنما كره للمملوكم أن يقول لمالكه ربي لأن في لفظه مشاركة لله تعالى في الربوبية ، وأما حديث حتى يلقاها ربها " ونحوه كالدار والمال فلا شك أنه لا كراهة في قول رب المال ورب الدار ، وأما قول يوسف عليه الصلاة والسلام {اذكرني عند ربك} ففيه جوابان : أحدهما : أنه خاطبه بمكا يعرفه وجاز هذا الاستعمال للضرورة كما قال موسى صلى الله عليه وسلم للسامري {وانظر إلى إلهك} ثانيهما : إن هذا شرع لمن قبلنا فلا يكون شرعا لنا إذا ورد شرعنا بخلافه وهذا لا خلاف فيه وإنما محل الخلاف حيث لم يرد شرعنا بموافقته أو خالفته . قال أبو جعفر النحاس : لا نعلم خلافا بين العلماء أنه لا ينبغي أن يقال لأحد من المخلوقين مولاي . قلت : مر جواز إطلاق مولاي ولا مخالفة بينه وبين هذا فإن النحاس تكلم في المولى بالألف والام ، ولذا قال النحاس يقال سيد بغير الفاسق ولا يقال السيد بالألف والام لغير الله تعالى ، والأظهر أنه لا بأس بقول السيد بالألف وللام بشرطه السابق انتهى حاصل كلام الأذكار ، وبها يعلم أن قول الجلال لعالم أو صالح غير قيد فالنسيب مذي الولاية المنصوبان ونحوهما كذلك .
وأما العاشرة : فدليلها الخبر الحسن أنه صلى الله عليه وسلم قال " الريح من روح الله – أي رحمته – تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسئلوا الله خيرها واستعيذوا به من شرها " والخبر الصحيح " لا تسبوا الريح فإن رأيتم ما تكرهون فقولوا : اللهم نسألك من خير هذه الريح مخير ما فيها وخير ما أمرت به ، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به " وروى مسلم " أنه صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب أو أم المسيب فقال : مالك تزفزفين ؟ قالت : الحمى لابارك الله فيها ، فقال : لا تسبي الحمى فإنها تذهب بخطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد " وتزفزف بالفوقية المضمومة وبالفاء والزاي المكررة وهو الأشهر أو الراء المكررة ، وقيل بالقاف والراء تتحرك شديد وترتعد ، وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال " لا تسبوا الديك فإنه يوقظ لصلاة " .
وأما الحادية عشرة : فهي كذلم فب الأذكار وعللها أنها من دعوى الجاهلية .
وأما الثانية عشرة : فما ذكر فيها من كراهة نحو يا حمار عجيب ، وليست الكراهة مصرح بها في الأذكار بل لو فرض أنه صرح بها فيه يتعين على كل من له أدنى إلمام بقواعد أئمتنا أن يحملها على كراهة التحريم فكيف وعبارته ظاهرة بل صريحة في التحريم فيعدل عن ظاهرها أو صريحها المذكور إلى التعبير بالكراهة فخالف بذلك كلام أصله بل كلام الأئمة ، ومثل هذا لايصدر من مثل هذا الرجل فالوجه حمل ذلك على السهو أو أنه من غلط الناسخ وهو الأقرب ، وعبارة أذكار النووي : ومن الألفاظ المذمومة المستعملة في العادة قوله لمن يخاصمه يا حمار يا تيس يا كلب ونحو ذلك فهذا قبيح لوجهين ، أحدهما : أنه كذب والآخر أنه إيذاء وهذا بخلاف قوله يا ظالم ونحوه ، فإن ذلك يتسامح به لضرورة المخاصمة مع أنه يصدق غالبا فما من إنسان إلا وهو ظالم لنفسه ولعيرها انتهت فتأمل حكمه على تلك الألفاظ بالفبح وتعليل ذلك بأنها كذب وإيداء وكل من هذين محرم إجماعا فلزم أنت تلك الألفاظ محرمة إذ لا يتصور أن يعلل المكروه بمحرم ، وقد صرح الجلال نفسه بحرمة احتقار المسلم وحرمة سبه ، وهذا منهما فكيف يتعقل مع ذلك كراهته ، وقد ذكر فيه من فبل ذلك من غير غاصل قوله : يحرم سب المسلم من غير سبب شرعي يوجيز ذلك واستدل بخبر الصحيحين " سباب المؤمن فسوق " انتهى . ولا شك أن نحو يا كلب من أقبح السب عرفا بل وشرعا .
(1/296)
<139>
وأما الثالثة عشرة : فما قاله فيها من الكراهة عجيب أيضا ، والذي في الأذكار أي في خبر لأبي داود عن عمران ابن حصين رضي الله عنه قال " كنا نقول في الجاهلية أتعم الله بك علينا وأنعم صاحا فلما جاء الإسلام نهينا عن ذلك " ولا حجة فيه لأنه في سنده مجهولا يحتمل أن يكون عنه ، ومثل هذا قال أهل العلم لا يحكم عليه بالصحة فلا يثبت به حكم شرعي . قال النووي : بعد ذكره ذلك . ولكن الإحتياط لإنسان تاجتناب هذا اللفظ لاحتمال صحته ، ولأن بعض العلماء يحتج بالمجهول وبذلك كله يعلم ظهور ما ذكرته من التعجب ؛ ىوأن الصواب أنه لا كراهة في ذلك وإنما الاحتياط اجتنابه أما أنعم الله عينيك وأنعم صباحك فلا كراهة فيهما اتفاقا .
فأن قلت : صرح معمر راوي الحديث بكراهة أنعم الله بك علينا .
قلت : معمر مجتهد فلا يقضى بما قاله على قواعد مذهبنا المخالفة لقوله .
فإن قلت هل يمكن توجيه الكراهة بتقدير النهي المذكور ؟ .
قلت : يمكن أن يقال إنعام العين حقيقي إنما يكون برؤية الله تعالى فوضعه لغير ذلك يوهم محذورا فنهي عنه حذرا من هذا الإيهام ، ويقال هو من تحية الجاهلية وهي مكروهة كصباح الخير ، وبهذا دون الأول يقرب إلحاق أنعم صباحا بأنعم الله بك علينا .
وأما الرابعة عشرة : فما فاله فيها تبع غيه بعض السلف وعبارة الأذكار حكى النحاس عن بعض السلف أنه يكزه أن يقول الصائم : وحق هذا لخاتم الذي على فمي . أي وحذف الجلال هذا من هذه العبارة كأنه لبيان أنه ليس بشرط في الكراهة ، واحتج له بأنه إنما يختم على أفواه الكفار ، وفي هذا الإحتجاج نظر ، وإتما حجته بأنه حاف بغير الله تعالى وسيأتي النهي عنه ، وهذا مكروه لما ذكره ولما فيه من إظهار صومه لغير حاجة انتهت ، ويءخذ من توجيهه له بأنه حلف بغير الله أنه كان الأولى بالجلال أن يحذف هذه للعلم بها من قوله ويكره الحلف بغير الله .
فإن قلت : توجيهه الثاني يقتضي أن للكراهة سبب آخر فلا بغني ذلك عن هذه .
قلت : هو كذلك إلا أن قضية النظر إليه وحده أنه لا يكره ذلك لصائم رمضان فاقتضى ذلك أن المعتمد في التعليل هو الأول .
وأما الخامسة عشرة : فالحكمن كما ذكر فيها لأنه من ألفاظ الجاهلية والرفاء بكسر الالراء والمد والإجتماع ، وإنما السنة أن يقال للزوج بعد عقد النكاح : بارك الله لك أو بارك عليك وجمع بينكما في خير ، ويستحب أن بقال لكل واحد من الزوجين بارك الله لكل واحد منكما في صاحبه وجمع بينكما في خير وللاتباع كما جاء في الأحاديث الصحيحة روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن ابن عوف حين تزوج " بارك الله لك " وصح أنه صلى الله عليه وسلم قاله لجابر .
وأما السادسة عشرة : فتقل الكراهة فيها في الأذكار فقال : روى النحاس عن أبي بكر محمد ابن يحيى وكان أحد العلماء الفقهاء الأدباء : قال يكره أن يقال لأحد عند الضب اذكر الله تعالى خوفا من أن يحمله الغضب على الكفر . قال : وكذا لا يقال له صل على محمد صلى الله عليه وسلم خوفا من هذا انتهى . واستشكله(1/297)
<140>الجلال بما في الصحيحين " أنه استب رجلان عنده صلى الله عليه وسلم أمر أن يقال له تعوذ بالله من الشيطان الرجيم " ويجاب بأن هذا ليس مثل ذاك فيه الاقتصار على اسم الله فربما خملته قوة الغضب على على فرطه لذلك الاسم عند سماعه له وحده ، وأما هذا ففيه ذكر الشيطان أيضا فحينئذ إن صدرت بادرة تكون للشيطان إذ ينصرف له غلا يخشى حينئذ كفر على أن في سماعه لذكر الشيطان أكبر زاجر له وأبلغ إرشاد إلى أن ما حصل له من ذلك الغضب إتما هو بواسطة الشيطان فاتضح فرقان ما بين الصورتين ، وأن إحداهما لا تشكل على الآخرى ، بل يستفاد من الحديث أن السنة تذكير الغضبان بأن غضبه المخرج له غالبا من حيز العقلاء إتما هو من عدوه اللعين ليخمله على الخروج عن الصراط المستقيم ، ومن له أدنى مسكة إذا سمع ذلك رجع إلى الاعتدال خوفا من العقاب والنكال . (1/298)
مطلب في مسألة أن من أقبح الألفاظ المذمومة أن يقول الله أعلم ما كان وهو كذا الخ
وأما السابعة عشرة : فما ذكره فيها الجلال من الكراهة بإطلاقها لم يصرح به النووي في الأذكار ، بل الذي دلت عيه عبارته أنها كفر أو حرام أو مباحة ، وعبارته أن من أقبح الألفاظ المذمومة مل يعتاده كثير من الناس إذا أراد أن يحلف على شيئ واحد فيتورع عن قوله والله كراهة الحنث أو إجلاله الله تعالى أو صونا عن الحلف ، ثم يقول : الله أعلم ما كان وهو كذا ولقد كان كذا ونحوه فهذه العبارة فيها خطر ، فإن كان صاحبعها متيقنا الأمر كما كان فلا بأس بها ، وإن شك في ذلك فهو من أقبح القبائح لأنه تعرض للكذب على الله تعالى فإنه أخبر أن الله تعالى يعلم شيئا لا يتيقن كيف هو ، وفيه دقيقة أخرى أقبح من هذا وهو أنه تعرض1 إلى وصفه تعالى بأنه يعلم الأمر على خلاف ما هو وذاك لو تحقق كان كفرا ، وينبغي للإنسان اجتناب هذه والعبارات انتهت غبارة الأذكار ، وبها يعلم ما ذكرته عن أنها تكون كفرا وذلك إذا تيقن الكذب ونسبه إلى علم الله بأن قال : الله يغلم أني ما فعلت كذا وهو عالم بأنه فعله ، وهذا كفر كما صرح به النووي هنا ، وسبقه إليه الرافعي فصرح في العزيز بالألفاظ التي ذكرها فيه بالعجمية في باب الردة بأن ذلك كفر ، لأنه نسب إلى الله تعالى الجهل بنسبته إليه العلم على خلاف ما في الواقع ، وذلك من أقبح الكفروالجهل بالله أعاذنا الله من ذلك ، وتكون مباحة ، وذلك إذا نسب إلى علم الله ما هو مطابق للواقع يقينا كأن علم وقوع فعله لأمر فقال : الله تعلم أني فعلته ، فهذا لا محذور فيه بوجه فيكون مباحا مستحبا إذا علم من منكر فعله أنه لا يصدقه في يمينه لو حلف لإيهامه بتورية أو غيرها ، ويصدقه إذا قال : الله يغلم أني فعلته ، وأخذت الاستحباب في هذا منت قولهم : تستحب اليمين في نحو ذلك ، وبقيت الحالة الثالثة وهي ما إذا شك في وقوع أمر كفعله شيئ وعدم وقوعه ، فقال وهو شاك الله يعلم أني فعلته ، والذي دلت عليه عبارة النووي في هذه الحالة أن ذلك حرام ، لأنه جعله من أقبح الألفاظ المذمومة تارة ومن أقبح القبائح أخرى ، وجعل فيه خطرا ؛ وذلك الخطر هو الكفر والكذب على الله تعالى بتقدير عدم الصدق ، وهذا كله ظاهر في حرمة هذا اللفظ في هذه الحالة إذ لا يقال في المكروه أنه من أفبح القبائح المذمومات إلا على تجوز بعيد ، ويبعد في المكروه أن يكون فيه خطر الكفروالكذب بمعنى أنه يحتمله وغيره على السواء ، وإذا تقرر ذلك ظهر واتضح أن جزم الجلال بالكراهة في هذا مما ليس في محله نظرا للحالتين الأولين وهو ظاهر ، وكذا بالنظر للحالة الثالثة لما ذكرته فيها فتأمل ذلك فإنه مهم .
(1/299)
<141>وأما الثامنة عشرة : فدليلها خبر الصحيحين " لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت وليعزم المسألة فإنه لا مكروه له " وفي رواية لمسلم " ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيئ أعطاه " . (1/300)
مطلب كراهة الحلف بغير أسماء الله تعالى وصفاته
وأما التاسعة عشرة : فهي كذلك في الأذكار . وحاصل عبارته : يكره الحلف بغير أسماء الله تعالى وصفاته كالنبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والكعبة والحياة ، وكذا الأمانة فهي من أشدها كراهة . وروى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال " إن الله تعالى نهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " وفي رواية صحيحة " فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت " وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال " من حلف بالأمانة فليس منا " انتهى . قال الجلال : وينبغي أن يحرم الحلف بحياة أحد المخلوقين أو رأسه لأن ذلك خص الله به النبي صلى الله عليه وسلم تكرمة له حيث قال {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} اتنهى ، وفي أخذه الحرمة من ذلك نظر ظاهر إذ الذ1ي اختص به صلى الله عليه وسلم وظهرت كرامته به هو حلف الله تعالى بحياته وتأكيده ذلك بالام وغيرها ، ولم يفعل تعالى ذلك لغيره صلى الله عليه وسلم قهذه هي الخصوصية العظمى والكرامة التي لا منتهى لها ، وإنما كان يتم للجلال ما ذكره أن لو أذن تعالى للناس في الحلف بحياة نبيه صلى الله عليه وسلم دون غيره ولم يقع ذلك ، بل نهى الناس كلهم عن الحلف به صلى الله عليه وسلم وبغيره من الخلق على حد واحد فكان الحلف بذلك كله مكروها بأي صيغة كان لا حراما ومحله إن لم يعتقد في المحلوف به أن يعطم بالحلف به كما يعظم الله فإن اعتقد ذلك كفر .
وأما المسألة العشرون : فدليلها خبر مسلم " إياكم وكثرة الحلف فإنه ينفق ثم يمحق " والكلام في الإكثار مع الصدق وإلا حرام لما فيه من الغش والكذب ، ولا ينافيه قول الأذكار يكره إكثار الحلف في البيع والشراء ونحوه وإن كان صادقا انتهى . فإن الإكثار من حيث هو إكثار مكروه في حالتي االصدق والكذب ، والحرمة في حالة الكذب إنما جاءت من أمر آخر ، وكأن الجلال حذف قول الأذكار وإن كان صادقا لظنه إيهاما . وقد بان بما قررته أنها مشيرة إلى تدقيق حسن وهو أنه لا يلزم من الحرمة العرضية خروج الإكثار عن حكمه وهو الكراهة من حيث هو إكثار كما تقرر فافهمه . (1/301)
مطلب يكره أن يقال قوس قزح بل يقال قوس الله
وأما المسألة الحادية والعشرون : فدليلها خبر أبي نعيم أنه صلى الله عليه وسلم قال " لا تقولوا قوس قزح لأن قزح شيطان ، ولكن قولوا قوس الله عز وجل فهو أمان لأهل الأرض " وقزح بضم القاف وفتح الزاي غير منصرف وقول العامة له بالدال تصحيف . (1/302)
مطلب نهي من إبتلى بمعصية أو غيرها أن يخبر بها غيره
وأما المسألة الثانية والعشرون : فهي كذلك في الأذكار لكن بقيد حذفه الجلال . وحاصل عبارة الأذكار : يكره لمن إبتلى بمعصية أو غيرها أن يخبر غيره بها إلا نحو شيخه ممن يرجو بإخباره أن يعلمه مخرجا منها أو من مثلها أو سببها أو يدعو له أو نحو ذلك فى بأس به بل هو حسن ، وإنما يكره إذا انتفت هذه المصلحة(1/303)
<142>روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال " كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستر الله تعالى عليه فيقول : يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه وهو يصبح يكشف ستر الله عليه " انتهى ، فأفاد أن محل الكراهة إذا انتفت تلك المصلحة فكان يتعين على الجلال أن يقول : وأن يحدث بما عمله من المعاصي إلا المصلحة ، وفاته أيضا قول الأذكار أو نحوها المفيدة أن نحو المعاصي مثلها فيما ذكر ، والظاهر أن مراده بنحوها كل ما تقتضي العادة كتمه ويعد أهلها ذكره خرما للمروءة كجماع الحليلة ونحوها من غير ذكر تفصيله وإلا حرم بل هو كبيرة لورود الشرع بالوعيد الشديد فيه ، وفاتهما أعني الجلال والنووي أن محل الكراهة إذا لم يتحدث على جهة التفكه بها واستحلاء ذكرها وإلا حرم عليه . (1/304)
مطلب حرمة استعمال ألفاظ في غير محلها
وأما المسألة الثالثة والعشرون : فالتصريح بالكراهة فيها لم يقع في الأذكار . وحاصل عبارته : ينبغي أن يقال في الكمال المخرج في الطاعة كالحج والختان والنكاح أنفقت ونحوه ولا يقول ما اعتاده العوام : غرمت وخسرت وضيعت ، لأن هذه الثلاثة إنما تستعمل في المعاصي والمكروهات انتهى ، وكأن الجلال أخذ كراهة غرمت أي ونحوه للمنفق في خبر من قول النووي ولا يقال الخ وهو محتمل ، وعليه فالمراد بالكراهة في ذلك خلاف الأولى والأدب في التعبير بما لا يستقبح . (1/305)
نحذير الناس من قولهم في المكوس هذا حق السلطان ونحوه
وأما المسألة الرابعة والعشرون : فالتصريح بالكراهة فيها من تصرف الجلال وعبارة الأذكار مما يتأكد النهي عنه والتحذير منه ما يقول العوام وأشباههم في هذه المكوس التي تؤخذ ممن يبيع ميشتري ونحوهما : هذا حق السلطان أو عليك حق السلطان ونحو ذلك من العبارات المشتملة على تسميته حقا أو لازما ونحو ذلك ، وهذا من أشد المنكرات وأشنع المحدثات حتى قال بعض العلماء : من سمى هذا حقا فقد كفر وخرج عن ملة الإسلام ، والصحيح أنه لا يكفر إلا إذا اعتقد حقا مع علمه بأنه ظلم ، والصواب أن يقال فيه : المكس أو ضريبة السلطان أو نحو ذلك من العبارات انتهى ، وبها يعلم أن هذه الكلمة إما كفر بقيده المذكور وهو ظلاهر ، وإما حرام كما دل عليه صريح قوله : وهذا من أشد المنكرات ، وقوله : ومما يتأكد النهي عنه والتحذير منه . ويوجه بأن تسميته حقا مع عدم اعتقاد حقيته كذب صريح فحرم لذلك ، وأما الكراهة فلا وجه لها فتصريحه أعني الحلال بها مما يتعجب منه فاعلمه . (1/306)
مطلب لا يسأل بوجه الله تعالى إلا الجنة
وأما المسأبلة الخامسة والعشرون : فدليلها خبر أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم قال " لا يسئل بوجه الله إلا الجنة " وألحق بالجنة كل خير أخروي .
وأما السادسة والعشرون : فدليلها الخبر الصحيح " من استعاذ باله فأعيذوه ، ومن سأل بالله فأعطوه ، ومن دعاكم فأجيبوه ، ومن صنع إليكم معروفا ىفكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه " . وفي أخذ الكراهة من هذا النظر إلا أن يراد بها خلاف الأولى .
(1/307)
<143>
(1/308)
مطلب يكره قول أطال الله بقائك
وأما المسألة السابعة العشرون : فما ذكره من الكراهة فهو الصحيح خلافا لمن أباحه بلا كراهة ، وإن كان أول من كتبه الزنادقة ، ومكاتبة السلف إنما كانت : من فلان إلى فلان ، أما بعد سلام الله عليك ، أما بعد : فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، وأسأله أن يصلي ويسلم على محمد وعلى آل محمد . ثم أحدثت الزنادقة المكاتبات التي أولها أطال الله بقائك . (1/309)
مطلب في الفرق بين الجدل والمراء الخ
وأما المسألة الثامنة والعشرون : فالكراهة التي ذكرها الجلال في الجدل والمراء والخصومة لم يصرح بها النووي في الأذكار بل مقتضى عبارته الحرمة . وحاصلهلاا : أن هذه الثلاثة مما يذم به من الألفاظ ، وأن الغزالي فسر المراء بأنه طعنك وفي كلام الغير بإظهار خلل فيه لغير غرض سوى تحقير قائله أو إظهار مرتبتك عليه ، والجدال بأنه عبارة عن أمر يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها ، والخصومة بأنها لجاج في الكلام يستوفى به مقصوده من مال وغيره ابتداءا واعتراضا ، والمراء لا يكون إلا اعتراضا هذا كلام الغزالي . واعلم أن الجدال قد يكون بحق أو يكون بباطل {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} {وجادلهم بالتي عي أحسن} فإن كان الجدال للوقوف على الحق حمد أو في مدافعة حق أو بغير حق ذم ، وعلى هذا التفصيل تتنزل النصوص الواردة في مدحه وذمه ، ولا ينافي ما ذكره في الخصومة اضطرار الإنسان إليها رستيفاء حقه لأن الذم المتأكد إنما هو لمن خاصم بالباطل أو بغير علم كوكميل القاضي فإنه يتوكل في الخصومة قبل أن يعرف أن الخق في أي جانب هو فيخاصم بغير علم فيدخل في الذم أيضا من يطلب حقه ، لكنه لا يقتصر على قدر الحاجة بل يظهر الكذب للإيذاء أو التسلط على خصمه ، وكذلك من خاط في الخصومة كلمات تؤذي وليس له إليها حاجة في تحصيل حقه ، وكذلك من يحمله على الخصومة محض العناد لقهر الخصم وكسره فهذا هو المذموم ، وأما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء ففعله هذا ليس حراما ، ولكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلا ، لأن ضبط الخصومة في على حد الاعتدال متعذر ، والخصومة توغر الصدر وتهيج الغضب وإذا حصل الغضب حصل الحقد بينهما حتى يفرح كل واحد بمساءة صاحبه ويحزن بمسرته ويطلق اللسان في عرضه ، فمن خاصم فقد تعرض لهذه الآفات وأقل ما فيها اشتغال الفلب بها عن العبادات وهي مبدأ الشر ، وكذا الجدال والمراء فينبغي أن لا يفتح فيه باب الخصومة إلا لضرورة لا بد منها وعند ذلك يحفظ نفسه وقلبه عن آفاتها ، وروى الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال " كفى بك اثما أن لا تزال مخاصما " انتهى كلام الأذكار . وإذا تأملتها تعجبت من إطلاق الجلال الكراهة في هذه الثرثة ، وعلمت أن حرمة الثلاثة بقيودها الآتية هي التي دلت عليها عبارة النووي لاسيما قوله في الخصومة : وأما المظلوم الذي ينصر حجته إلى قوله فهذا ليس بحرام ، الظاهر أوالصريح في تحريم ما قبله وما خرج عنه بالقيود التي جعلها فيه شرطا بعدم حرمته كما يأتيب ، وكيف ساغ للجلال أن يجزم بكراهة المراء مع تفسيره له بما مر عن الغزالي مما أفاد أنه ليس الغرض منه إلا تحقير قائله وتحقير الغير حرام إجماعا فالصواب أنه حينئذ حرام غليظ التحريم ، وكيف ساغ له أيضا أن يجزم بكراهة الجدال لغير حجة النووي له بأنه الجدال في مدافعة الحق أو بغير الحق ، وكل من هذين تحريمه ظاهر لا يخفى(1/310)
<144>على من له أدنى مسكة لما علم مما فرره النووي أن الجدال أمر لا يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها ، وحينئذ فمن أظهر مذهبه بالاستدلال له مع علمه ببطلانه أو احتج له بما يعلم أنه باطل فقد جادل بغير حجة وارتكب محرما شديدا لنصرته لباطل أو ترويجه له على السامع ، وكيف ساغ له أيضا أن يجزم بكراهة الخصومة من غير قيد مع اشتراط النووي لعدم تحريمها أن ينصر حجته بطريق الشرع مع عدم مع عدم الدد والإسراف وعدم اللجاج على الحاجة وعدم قصد عناد ولا إيذاء بفعله . فأفهم هذا أنه متى وجد شيئ مما نفاه حرمت الخصومة ، أما حرمتها فيما إذا نصر حجته بغير طريق الشرع فظاهرة واضحة ، وأما حرمتها فيما إذا نصرها بالشرع لكن مع لدد أو إسراف أو زيادة لجاج على قدر الحاجة أو فصد عناد أو إيذاء بفعله فظاهرة أيضا في الحالة الأخيرة أعني قصد الإيذاء بفعله أي لغير حاجة مجوزة لذلك ، وأما فيما قبلها من بقية تلك الحالات فتحمل الحرمة فيها على إذا ما أدى فيها ذلك اللدد أو ما بعده إلى محظور شرعي يقينا ككذب أو تمويه باطل ضمهما أو أحدهما إلى حجته الشرعية .
وأما التاسعة والعشرون : أعني قوله : وكثرة الكلام إلى قوله مستثنى ، فما ذكره فيه هو حاصل كلام الأذكار وهو يكره التقعر ، وفي نسخة : التقعير في الكلام بالتشدق وتكاف السجع والفصاحة والتصنع بالمقدمات التي يعتادها المتفاصحون وزخارف الأقوال وكل ذلك من التكلف المذموم ، وكذا تكلف السجع والتحري في دقائق الإعراب ووحشي اللغة في حال مخاطبة العوام ، بل ينبغي أن يقصد في مخاطبته لفظا يفهمه صاحبه فهما جليا ولا يستثقله ، وروى أبو داود والترمذي وحسنه أنه صلى الله عليه وسلم قال " إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما يتخلل البقر " وروى مسلم خبر " هلك المتنطعون . قالها ثلاثا " وفسرها العلماء : بالمبالغين في الأمور ، وفي خبر الترمذي الذي حسنه أيضا " وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة : الثرثارون : أي المكثرون للكلام . والمتشدقون : أي المتطاولون على الناس في الكلام . والمتفيقهمن ، وفسرهم صلى الله عليه وسلم بأنهم المتكبرون " ولا يدخل في الذم تحسين ألفاظ الخطب والمواعظ إذا لم يكن فيها إفراط وإغراب أن المقصود منها تهييج القلوب إلى طاعة الله ولحسن اللفظ في هذا أثر ظاهر انتهى .
وأما الثلاثون : فدليلها خبر أصحاب السنن الأربعة أنه صلى الله عليه وسلم قال " لا يسئل الرجل فيم ضرب زوجته " مع الحديث المتفق على صحنه " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " والأحاديث الصحيحة في السكوت عما لا تظهر فيه مصلحة كثيرة جدا . (1/311)
مطلب على أن الاشتغال بأشعار العرب مطلوب
وأما الحادية والثلاثون : فعبارة الأذكار فيها . أما الشعر ففي الحديث الحسن أنه صلى الله عليه وسلم سئل عنه فقال " هو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح " أي إن الشعر كالنثر فب أن حسنه كحسنه وقبيحه كقبيحه ، إلا أن التجرد له والإقتصار عليه مذموم ، وقد صح في الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم سمع الشعر وأمر به حسان وقال " إن من الشعر لحكمة " وقال " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يراه خير له من أن يمتلئ شعرا " وكل ذلك على حسب ما ذكرناه انتهت . وذكر الجلال زيادة على ذلك وهي : ذكر في شرح المهذب أن الاشتغال بأشعار العرب مطلوب ، وقد ورد الأمربه لأن به تعرف معاني القرآن والحديث ويحفظ الشرع(1/312)
<145>وفي الروضة تكره أشعار المولدين المشتملة على التغزل والبطالة ويباح منه ما ليس فيه سخف ولا شيئ مما يكره ولا يؤدي إلى الشر ، ولي فيه بحث من جهة أن أشعارهم يستشهد بها في المعاني والبيان والبديع كما صرحوا به وهو من العلوم الواجبة التي يطلع بها على غرائب القرآن ويدرك إعجازه فينبغي أن تكون في رتبة أشعار العرب من هذه الحيثية ، وأما إنشاءه فمباح ما لم يكن في هجو غير كافر أو فاسق فحرام وإن صدق فيه فهو كالغيبة تحريما وإباحة ، ويباح التشبيب في غير معين وهو في معين غلام أو امرأة فسق وفي حليلته خارم للمروءة إن كان بما ينبغي خفاؤه ، ولا يلحق بالكذب المبالغة في المدح والإطراء على الصحيح أن الكاذب يوهم أن الكذب صدق بخلاف الشاعر وبالجملة إنشاد الشعر وإنشاؤه مباح لأنه صلى الله عليه وسلم كان يستنشده ويسمعه انتهى . (1/313)
مطلب على أنه يكره التعبير عن الأمور المستقبحة بصريح العبارة مالم تدع إليه ضرورة
وأما الثانية والثلاثون : ففيها قيد في الأذكار لابد منه ، وحاصل عبارته : ومما ينهى عنه الفحش وبذاءة اللسان والأحاديث الصحيحة فيه كثيرة معروفة ، ومعناه التعبير عن الأمور المستقبحة بعبارة صريحة وإن صحت وصدق المتكلم بها ويقع ذلك كثيرا في نحو ألفاظ الوقاع ، وينبغي أن يكنى عنه بالرفث أو الإفضاء والمس كما في القرآن والسنة ، ولا يصرح بنحو النيك والجماع ، وكذا يكنى عن نحو البول والتغوط بنحو قضاء الحاجة والخلاء ، وكذا عن نحو البضع بعبارة جميلة يفهم منها الغرض هذا كله إن لم تدع الحاجة إلى التصريح لغباوة السامع وعدم فهمه المراد لو كنى له فحينئذ لا كراهة في التصريح لحاجة إليه ، وعلى هذا يحمل ما جاء في الأحاديث من التصريح بمثل ذلك إذ تحصيل الإفهام في ذلك أولى من مرعاة مجرد الأدب في اللفظ انتهى . وبه يعلم أنه كان يتعين على الحلال أن يقول لغير الحلجة ، وفي الحديث الحسن " ليس المؤمن بالطعان – أي في الأنساب – ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذي " وفي الحديث الحسن أيضا " ما كان الفحش في شيئ إلا شلنه ، زما كان الحياء في شيئ إلا زانه " ثم رأيت عبارة الجلال وهي مصرحة بذلك القيد وهي : ويكره الفحش والبذاء وهو التعبير عن الأمور المستقبحة بصريح العبارة ، بل يكنى فعن الجماع بالإفضاء والمباشرة ونحو ذلك ما لم تدع إليه الضرورة كخوف فهم المخاطب المجاز انتهى . (1/314)
مطلب الحث على التثبت فيما يحكيه الإنسان الخ
وأما الثالثة والثلا ثون : فالكراهة فيها مذكورة من كلام الأذكار ، وحاصله : باب الحث على التثبت فيما يحكيه الإنسان والنهي عن التحدث بكل ما يسمع إذا لم يظن صحته قال تعالى {ولا يقف ما ليس لك به علم إنى السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} والآيات في ذلك كثيرة وكذا الأحاديث كخبر مسلم " كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع " وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال " بئس مطية الرجل زعموا " . قال الخطابي : أصل هذا أن الرجل إذا أراد سفرا لبلد ركب مطية إليه حتى يبلغ حاجته ، فشبه صلى الله عليه وسلم ما تقدم من أمر الرجل إذا أراد أن يتوصل بكلامه إلى المطلوبه فشيه زعموا في الكلام للتوصل به إلى حاجته بالمطية ، وإنما يقال زعموا في حديث لا يثبت إنما هو شيئ يحكيه على سبيل البلاغ فقد ذم صلى الله عليه وسلم من الحديث ما هو سبيله ، وأمر بالتثبت فيما يحكيه لئلا يصير إلى شيئ لا يجكى انتهى كلام الخطابي .
(1/315)
<146>
(1/316)
مطلب في التعريض والتورية
وأما الرابعة والثلاثون ،: فإطلاق الكرهة فيها عجيب مع أن فيها تفصيلا في الأذكار ، وحاصل عبارته : باب التعريض والتورية اعلم أن هذا الباب من أهم ما يعتنى به لأنه ومما تعم به البلوى ، فينبغي لكل أحد أن يعتني بتحقيقه وتأمله والعمل به فإنه طريق إلى السلامة من عظيم إثم الكذب وخطره ، والتعريض والتورية إطلاق لفظ ظاهر في معنى وخفي في آخر مع إرادة خفية وهو ضرب من الغرروالخداع . قال العلماء : فإن دعتنا إليه مصلحة شرعية راجحة على خداع المخاطب أو حاجة لا مندوحة عنها بالكذب فلا بأس بالتعريض وإن لم تدع إليه مصلحة كذلكم كره إلا أن يتوصل به إلى أخذ باطل أو رفع حق فيحرم ، وقد جاء من اآثار ما يبح ذلك وما لا يبيحه وهي محمولة على هذا التفصيل ، فمما جاء في المنع خبر أبي داود بسند فيه ضعف لكنه لم يضعفه هو فيكون عنده حسنا على القاعدة فيما سكت عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال " كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق وأنت به كاذب " . وقال ابن سرين رضي الله عنه : الكلام أوسع من أن يكذب ظريف فيه . (1/317)
مطلب التورية تنفع إذا كان المحلف غير قاضي
مثال التعريض المباح ما قاله النخعي رضي الله عنه : إذا بلغ الرجل عنك شيئ قلته فقل اللهم تعلم ما قلت من شيئ فتوهم بما أنها نافية وتقصد الموصولة ، وقال لا تقل لابنك إشتري لي سكرا ولكن قل له أرأيت لو اشتريت لك سكرا ، وكان إذا طلبه أحد قال لأمته : قولي له اطلبه في المسجد أو خرج : أي في وقت غير هذا . وكان الشعبي يخط دائرة ويقول لأمته : ضعي أصبعك فيها وقولي ما هو هنا ، ومثل هذا قال بعضهم إذا دعي لطعام أنه على نية أي نية عدم الأكل موهما أنه صائم ، وتمنع التورية أيضا الحنث وإثم اليمين الغمس ما لم يكن المحلف القاضي بعد دعوى صححه وبغير نحو إطلاق . قال الغزالي رحمه الله تعالى : وليس من الكذب الموجب للفسق ما اعتيد من نحو قلت لك أو جئتك مائة مرة فإنه لا يراد به تفهيم المرات بل تفهيم المبالغة ، فإن لم يكن طلبه إلا مرة واحدة كان كاذبا ، وإن طلبه مرات لا يعتاد مثلها في الكثرة لم يأثم ، وإن لم يبلغ مائة مرة وبينهما درجات يتعرض المبالغ للكذب فيها .
قلت : ودليل جواز المبالغة وأنه لا يعد كاذبا خبر الصحيحين " أما أبو جهم لا يضع العصا عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له " ومعلوم أنه كان له ثوب يلبسه وأنه كان يضع العصا في وقت النوم وغيره ا هـ حاصل كلام الأذكار . وكأن الجلال اعتمد في إطلاقه الكراهة على قول النووي رحمه الله .
قلت : ودليل جواز المبالغة الخ وظاهر عند أدنى تأمل للعبارة أن هذا لا ينافي تفصيل الغزالي الذي ذكره بل هو دليل له لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبالغ إلا بأمر غلب على صاحبه فعله أي أن أبا جهم غلب عليه الضرب المكني عنه بعدم وضع العصا عن عاتقه ، ومعاوية غلب عليه الفقر فأطلق على الأول أنه لا يضع عصاه عن عاتقه وعلى الثاني أنه صعلوك مبالغة ، وهذا بعينه دليل لما يقوله الغزالي : بأن المبالغة لا تسوغ إلا في أمر غلب وأما إذا جاءه مرة وقال : إني جئتك مائة مرة فهذا لا مبالغة فيه وإنما هو محض كذب فاتضح تفصيل الغزالي ، وأن كلام النووي عقبه دليل له وأن إطلاق الجلال كراهة المبالغة ليس في محله فتأمل ذلك فإنه مهم .
(1/318)
<147>
وأما المسألة الخامسة والثلاثون : إلى قوله : أنسيت ، فهو صحيح لكنه قيد في الأذكار كراهة ذلك حال الخطبة بما إذا كان يسمع الخطيب أي ويفهم ما يقول كما هو ظاهر ، وبه صرح أصحابنا حيث قالوا : يسن لمن لا يسمع الخطبة الإنشغال بالقراءة والذكر أما بقية المسائل فواضحة إلا الأخيرة أعني كراهة الكلام حين الأذان حيث لم يمنع استماعه ولا الإجابة المطلوبة منه ، والظاهر أن مرادج القائل بالكراهة خلاف الأولى والأكمل وهو الإصغاء إليه لأنه يحمل على تذكر ظهور الإسلام وإتمام النعمة به علينا ، وأما ما عدى هذه فقد ذكر النووي من أدلته أشياء منها ما روى الشيخان " لا يقولن أحدكم نسيت آية كذا وكذا بل أنسى " ورويا أيضا " " بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل أنسى " ورويا أيضا أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجل يقرأ فقال " رحمه الله لقد أذكرني آية كنت أسقطتها " وفي رواية صحيحة " أنسيتها " وروى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال " لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " وفي خبر ضعيف " اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم " قال العلماء : يحرم سب ميت مسلم لم يكن معلنا بفسقه ، وأما الكافر والمسلم المعلن بفسقه أو بدعته ففيه خلاف للسلف لتعارض النصوص فهو كالنهي المذكور ، وسبه صلى الله عليه وسلم لنحو عمرو ابن لحي وإقراره لمن أثنوا شرا على جنازة مرت به والأصح جواز ذكر مساوي الكفار وكذا نحو معلن بفسقه أو مبتدع إذا كان فيه مصلحة للتحذير من شرهم وإلا لم يجز . ورويا أيضا " ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط فإن اشتهاه أكله وإن كرهه تركه " وفي رواية لمسلم " وإت لم يشته سكت " وروى أبو داود والترمذي وابن ماجة " أن رجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم إن من الطعام طعاما ما أتحرج منه ؟ قال : لا يتحلجن – أي بمهملة أو معجمة فلام فجيم – في صدرك شيئ " أي لا تقع في ريبة منه ، وأصل الحاج بالمهملة الحركة " ضارعت به فيه النصارى " أي شبهتهم في تركهم الطعام بمجرد التخيل الفاسد ، ويجوز أن يقول لا أشتهي هذا أو ما اعتدت أكله أو نحو ذلك لحاجة ، روى الشيخان " أن الضب شوى وقدم لرسول الله ى صلى الله عليه وسلم فعند ما هوى بيده إليه أعلموه فرفع يده الشريفة ، فقيل أحرام هو ؟ فقال : لا ، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه " والأصل في مدح الآكل ما يأكل منه خبر مسلم " أنه صلى الله عليه وسلم سأل أهله الأدام ؟ فقالوا : ما عندنا إلا خل ، فدعا به وجعل يأكل منه ويقول : نعم الأدام الخل " وروى ابن السني " أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معه غلام ، فقال للغلام : من هذا ؟ فقال أبي ، فقال صلى الله عليه وسلم لا تمشي أمامه ولا تستب له – أي لا تفعل قبيحا تتعرض به لسبه إياك – ولا تجلس قبله ، ولا تدعه باسمه وذكر بعض السلف المتفق على صلاحه أنه قال " من العقوق أن تسمي أباك باسمه ، وأن تمشي أمامه في طريق " وروى البخاري عن علي رضي الله عنه قال : " حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله " وروى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين طول الصلاة بالجماعة " أفتان أنت يا معاذ " وروى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا تسمين غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجاحا ولا أفلح فإنك أثم هو فلا يكون فيقول لا " الحديث . وفي رواية لأبي داود " النهي عن تسميته بركة " ومسائل السلام المذكورة مبسوطة في كتب الفقه بأدلتها فلا نطيل بذكرها . والله أعلم بالصواب . (1/319)
مطلب في رؤية الله تعالى في الدنيا
وسئل نفع الله بعلومه : عن شخص اعتقد أنه رأى ربه تعالى في الدنيا ؛ وأن الرؤية وقعت منه في الدنيا بالعين في اليقظة فهل يجوز ذلك ؟ كما قال جماعة . إن المختار جواز رؤيته في الدنيا في اليقظة بالعين وفي المنام(1/320)
<148>بالقلب وإن لم يقع ذلك على المختار ؛ فذلك بقتضي حلا لغير نبينا صلى الله عليه وسلم على ما فيه . أي في الوقوع له عليه الصلاة والسلام من الكلام : أي الإختلاف الكثير الشهير ، أو يحرم ذلك عليه لأنه إذا لم يقع إلا النبي صلى الله عليه وسلم على ما فيه فكيف يقع لغيره ، أو يكفر باعتقاده ذلك كما قاله الكواشي في تفسير سورة النجم حيث قال بعد أن ذكر الخلاف في أنه وقع ذلك أي الرؤية بالعين في اليقظة : فمعتقد رؤيته تعالى هنا بالعين غير مسلم ، فهل كلامه في ذلك مقرر أم لا ؟ .
فأجاب الكلام هنا في مقامين .
الأول : في إمكانها عقلا ، والذي عليه أهل السنة أتها ممكنة عقلا وشرعا في الدنيا ، واستدلوا لذلك بأمور عقلية وأمور نقلية، لكن أدلتهم العقلية لا تخلو من دخل وخفاء ، فالمعول عليه في إمكانها إنما هو الأدلة النقلية ، فمنها أن موسى صلى الله على نبينا عليه وسلم قد سالها بقوله {ربي أرني أنظر إليك} فلو لم تكن الرؤية ممكنة جائزة الوقوع في الخارج لكان طلب موسى لها جهل منه ، بما يجوز على الله وما لا يجوز أو سفها أو عبثا أو طلبا لمحال ، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين منزهون عن كل فرد فرد من ذلك إجماعا ، بل من جوز واحدا من هذه على واحد منهم فهو كافر مراق الدم ، وأيضا فاللع تعالى قد علة الرؤية باستقرار الجبل ، وهو أمر ممكن في نفسه فوجبكون المعلق به كذلك إذ المحال لا يعلق بممكن أصلا ، وأول المعتزلة الآية بتأويلات تخالف ظاهرها حتى يخرجوها عنه إلى ما يوافق اعتقادهم الفاسد ، أنها من قسم المحال العقلي الذي لا يمكن وقوعه في الدنيا كالآخرة ، ومحل بسطها وردها كتب التفسير والأصول .
الثاني : في وقوعها وهذا غير الأول كما هو واضح لكن وقع في كلام السائل نفع الله به ما يقتضي اتحادهما وهو قوله : فهل يجوز ذلك كما قاله جماعة الخ إذ الذي قاله أولئك إنما هو الجواز بمعنى الإمكان العقلي والشرعي ، والذي سأل عنه إنما هو الوقوع وشتان ما بين المقامين كما تقرر ، ومما يوضحه أن بحرا من زئبق ينبت الأجسام الجامدة +واللطيفة والحساسة والمتحركة بالإرادة ممكن الوجود عقلا لكن لم يقع ذلك ولم يبرز إلى حيز هذا الوجود ، فكذلك الرؤية وإن كانت ممكنة عقلا وشرعا عند أهل السنة لكنها لم تقع في هذه الدار لغير نبينا صلى الله عليه وسلم ، وكذا له على قول عليه بعض الصحابة رضي الله عنهم ، لكن جمهور أهل لاسنة على وقوعها له صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج بالعين . إذا تقرر ذلك علم منه أنه لا يجوز لأحد أن يدعي أنه رأى الله بعين رأسه ومن زعم ذلك فهو كافر مراق الدم ، كما صرح به من أئمتنا صاحب الأنوار ونقله عنه جماعة وأقروه . وحاصل عبارته : أن من قال أنه يرى الله عيانا في الدنيا ويكلمه شفاها فهو كافر ، ولما نقلت عنه ذلك في كتاب (الإعلام بما يقطع الإسلام) وهو كتاب نفيس لم يترك من المكفرات المتفق عليها والمختلف فيها شيئا إلا أحصاه .
قلت : والوجه أنه لا بشترط في كفر من زعم أنه يرى الله عيانا في الدنيا ويكلمه شفاها اجتماع هذين خلافا لما توهمه عبارة الأنوار بل يكفر زاعم أحدهما انتهى ، وسيأتي في الآيات والأحاديث ما يدل لذلك لكن يتعين حمله على عالم أو جاهل مقصر بجهله ، وقد ضم إلى زعمه الرؤية بعينه زعمه اعتقاد وجود جسم ، ولازمه من الحدوث أو ما يستلزمه كالصورة واللون ونحوهما فهذا هو الذي يتجه الحكم بكفره ، لأنه حينئذ لم يعتقد قدم الحق ولا كماله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
وأما من اعتقد رؤية عين منزهة عن انضمام ذلك إليها فلا يظهر الحكم بكفره بمجرد ذلك ، لأن المنقول(1/321)
<149>المعتمد عندنا عدم كفر الجهوية والمجسمة إلا أن اعتقدوا الحدوث أو ما يستلزمه ولا نظر إلى لازم مذهبهم لأن الأصح في الأصول أن لازم المذهب ليس بمذهب لجوالز أن يعتقد الملزوم دون اللازم ، ومن ثم قلنا : لو صرح باعتقاد لازم الجسمية كان كافرا ، وقال الأذرعي وغيره : المشهور عدم تكفير المجسمة ، وإن قالوا جسم كالأجسام أي لأنهم مع ذلك قد لا يعتقدون لوازم الأجسام . وإذا تقرر هذا في الجهوية والمجسمة فكذا يقال به في زاعم رؤية العين . (1/322)
مطلب على أنه لا خلاف بين السلف والخلف في أنه لا بد من التأويل الإجمالي في النصوص الموهمة
فإن قلت : الفرق بينهما واضح فإن تينك الفرقتين قد ورد في الكتاب والسنة ما يصرح بقولهما لولا ما امتن الله به على الأمة من توفيق سلفها وخلفها إلى صرف تلك النصوص عن ظواهرها ، وإنما الخلاف بين السلف والخلف في التأويل التفصيلي ، فالسلف يرجحون أولوية الإمساك عنه لعدم احتياجهم إليه لصلاح زمنهم ، والخلف يرجحون أولويته بل وجوب الخوض فيه لفساد زمنه وكثرة مبتدعته وقوة شوكتهم وتمويه شبههم .
وأما راعم الرؤية بالعين فقد ورد من الأدلة القطعية ما يشدد النكير على سائلها واقترن به ما يقوي استنكار ذلك واستعظانه كقوله تعالى {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك ختى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون} وقوله تعالى {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم} وقوله سبحانه وتعالى {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا} وصح في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال " واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا " وحينئذ فينبغي كفر زاعم الرؤية بالعين في الدنيا مطلقا بخلاف المجسمة .
قلت : بعد أن قرر الأئمة وعلماء الأمة وحفاظ الملة تلك الآيات والأحاديث وصرفوها عن ظواهرها كما تقررلم يبق لأحد عذر في اعتقاد ظاهرها ، فمن فعل ذلك فقيل : يكفر مطلقا ، قيل : إن قال جسم كالأجسام كفر وإلا فلا ، وعليه جرى النووي رحمه الله في موضع ، وقيل : لا يكفر مطلقا وهو المشهور من مذهبنا ما لم يضم لذلك اعتقاد بعض تلك اللوازم كما مر ، حينئذ فينبغي أن يجري نظير هذا الخلاف كله في مدعي الرؤية بالعبن فيكون الأصح عدم كفره ، إلا إن ضم لذلك اعتقاد حدوث أو ما يؤدي مؤداه ، لأن ملحظ التفكير وعدمه في المجسمة ونحوهم ليس العذر وعدمه لأن الكلام في العالم وإنما الملحظ اعتقاد النقص وملزومه ، ولا شك أن هذين يجريان في زاعم الرؤية بالعين في ذار الدنيا فكما جرى ذلك الخلاف كذلك يجري هنا إذ لا فارق يعتد هنا به كيف والإمام الراني المترجم بشيخ الكل في الكل أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى يجزم بأنه ال يجوز وقوعها في الدنيا لأحد غير نبينا صلى الله عليه وسلم ، ولا على وجه الكرامة وادعى أن الأمة اجتمعت على ذلك ، فإذا أجمعوا على امتناع وقوعها كان زاعمه لنفسه مخالفا للإجماع مدعيا ما قد يترتب عليه نقص ، فمن ثم قالوا بكفره وقيدته بما مر .
فإن قلت : حكي عن الأشعري قول بوقوعها فكيف الإجماع حينئذ ؟(1/323)
<150>قلت : إن صح اإجماع فواضح أنه لا ينظر إليه وأن قائله إنما قاله لظنه أن لا إجماع ، وإن لم يصح كان هذا القول في غاية الشذوذ ولا ينظر إليه أيضا ، ولا يمنع وجوده التفكير لزاعم ما قدمته بشرطه . (1/324)
مطلب الاجتماع للموالد والأذكار وصلام التراويح مطلوب ما لم يترتب عليه شر وإلا فيمنع منه
وسئل نفع الله به عن حكم الموالد والأذكار التي يفعلها كثير من الناس في هذا الزمان هل هي سنة أم فضيلة أم بدعة ؟ فإن قلتم : غنها فضيلة فهل ورد في فضلها أثر عن السلف أو شيء من الأخبار ، وهل الاجتماع للبدعة المباح جائز أم لا ، وهل إذا كان يحصل بسببها أو سبب صلاة التروايح اختلاط واجتماع بين النساء والرجال ، ويحصل مع ذلك مؤانسة ومحادثة ومعاطاة غير مرضية شرعا ، وقاعدة الشرع مهما رجحت المفسدة حرمت المصلحة ، وصلان التراويح سنة ويحصل بسببها هذه الأسباب المذكورة فهل يمنع الناس من فعلها أم لا يضر ذلك ؟ .
فأجاب بقوله : الموالد والأذكار التي تفعل غندنا أكثرها مشتمل على خير كصدقة وذكر وصلاة وسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحه ، وعلى شر بل شرور لو لم يكن منها إلا رؤية النساء للرجال الأجانب ، وبعضها ليس فيه شر لكنه قليل نادر، ولا شك أن القسم الأول ممنوع للقاعدة المشهورة المقررة أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، فمن علم وقوع شيء من الشر فيما يفعله من ذلك فهو عاص آثم ، وبفرض أنه عمل في ذلك خير ربما خيره لا يساوي شره ألا ترى أن الشارع صلى الله عليه وسلم اكتفى من الخير بما تيسر وفطم عن جميع أنواع الشر حيث قال : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " فتأمله تعلم ما قررته من أن الشر وإن قل لا يرخص في شيء منه ، والخير يكتفى منه بما تيسر . والقسم الثاني سنة تشمله الأحاديث الواردة في الأذكار المخصوصة والعامة كقوله صلى الله عليه وسلم " لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حافتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله تعالى فيمن عنده " رواه مسلم ،وروى أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال لقوم جلوس يذكرون الله تعالى ويحمدونه على أن هداهم للإسلام " أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبرني أن الله تعالى يباهي بكم الملائكة " وفي الحديثين أوضح دليل على فضل الاجتماع على الخير والجلوس له وأن الجالسين على خير كذلك يباهي الله بهم الملائكة وتنزل عليهم السكينة ، وتغشاهم الرحمة ويذكرهم الله تعالى بالثناء عليهم بين الملائكة فأي فضائل أجل من هذه . (1/325)
مطلب في تفريق البدعة وأنها تعتريها الأحكام الخمسة
وقول السائل نفع الله به : وهل الاجتماع للبدع المباحة جائز ؟ جوابه : نعم هو جائز . قال العز الن عبد السلام رحمه الله تعالى : البدعة فعل ما لم يعهد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وتنقسم إلى خمسة أحكام يعني الوجوب والندب الخ ، وطريق معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشرع فأي حكم دخلت فيه فهي منه ، غمن البدع الواجبة تعلم النحو الذي يفهم به القرآن والسنة ، ومن البدع المحرمة مذهب نحو القدرية ، ومن البدع المندوبة إحداث نحو المدارس والاجتماع لصلاة التراويح ، ومن البدع المباحة المصافحة بعد الصلاة(1/326)
<151>ومن البدع المكروهة زخرفة المساجد والمصاحف أي بغير الذهب وإلا فهي محرمة ، وفي الحديث " كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار " وهو محمول على المحرمة لا غير ، وحيث حصل في ذلك الاجتماع لذكر أو صلاة التراويح أو نحوها محرم وجب على كل ذي قدرة النهي عن ذلك وعلى غيره الامتناع من حضور ذلك ، وإلا صار شريكا لهم ، ومن ثم صرح الشيخان بأن من المعاصي الجلوس مع الفساق إيناسا لهم . (1/327)
مطلب في تفضيله صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء
وسئل نفه الله به : هل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضل الرسل خصوصا فهل يفضلهم عموما أم لا ، وهل الولاية المخصوصة في مرتبة النبوة أولا ، وهل ولاية النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من نبوته أم نبوته أفضل أم الرتبتان متساويتان أم كيف الحال ، وهل كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم متعبدا بشرع أحد الأنبياء قبل البعثة وبعدها أم لا ، وهل أرسل إلى الخلق كافة حتى إلى الملائكة كما نقل ذلك بعضهم أم على الثقلين فقط ، وهل الأفضلية بين الخلفاء الأربعة قطعية أم اجتهادية إذ لا شاهد من العقل يقطع بأفضلية بعض الأئمة على بعض ، والأخبار الواردة في فضائلهم متعارضة ، وهل الإنسان الكامل الذي كمل له الإيمان بالله قبل اليعثة يدخل الجنة أم لا ، وأيضا هل القائل بأن العبد خالق لافعاله مشرك أم لا ، وهل يجوز العقل إثابة الكافر وعقوبة المؤمن أم لا ؟ .
فأجاب بقوله : لا يخفى على من له أدنى ممارسة بتأمل الكتاب والسنة أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يفضل جميع الأنبياء والمرسلين خصوصا وعموما لقوله تعالى {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله} أي موسي {ورفع بعضهم درجات} أي محمدا صلى الله عليه وسلم رفعه الله تعالى على سائر الأنبياء والمرسلين من ثلاثة أوجه : بالمعراج بذاته ، وبالسيادة على جميع البشر ، وبالمعجزات التي لا تحصر ولا تفنى ، وكفى بالقرآن معجزة باقية مستمرة إلى قرب قيام الساعة ، وفيه من المعجزات والفضائل لنبينا صلى الله عليه وسلم على غيره ما لا يحصى . قال الزمخشري : وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى لما فيه من الشهادة على أنه العلم الي لا يشتبه والمتميز الذي لا يلتبس ، ومن هذه الآية قوله تعالى {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} رد العلماء على المعتزلة قبحهم الله تعالى في قولهم : إنه لا فضل لبعض الأنبياء على بعض ، والنهي في أحاديث عن التفضيل بين الأنبياءمحمول عند العلماء على تفضيل يؤدي على تنقيص بعضهم ، ومن زعم أن آدم أفضل بحق الأبوة ، فإن أراد أن فضله من حيث كونه أبا لا من حيث النبوة والمعجزات والخصائص فله وجه ، وإلا فلا وجه لما زعمه مع خبر التمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما من نبي آدم فمن سواه إلا تحت لوائي يوم القيامة " فبين صلى الله عليه وسلم بقوله " آدم فمن سواه " أنه أفضل الكل ، وقوله " ولد آدم " للتأدب مع الأبوة ، وقوله " ولا فخر " المراد به ولا فخر أعظم من هذا ، أو لا أقول ذلك على جهة الفخر بل على جهة الإخبار بالواقع ، وقوله " يوم القيامة " خصه بالذكر لأنه يظهر له صلى الله عليه وسلم فيه من السؤدد والتمييز على سائر الأنبياء ما ال يظهر لغيره لا سيما المقام المحمود الذي يؤتاه ذلك اليوم وهو الشفاعة العظمى في فصل القضاء حين يذهب الناس إلى أولى العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى فكل يذكر لنفسه ويقول : نفسي نفسي إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه يقول " أنا لها أنا لها " الحديث ، وفي حديث أبي هريرة(1/328)
<152>رضي الله عنه مرفوعا عن البخاري " أنا سيد الناس يوم القيامة " وهذا صريح في أفضليته صلى الله عليه وسلم على آدم وعلى جميع أولاده من الأنبياء والمرسلين ، وفي حديث عند البيهث " أنا سيد العالمين " وهم الإنس والجن والملائكة ففيه التصريح بأنه أفضل الخلق كلهم ويؤيده حديث مسلم الآتي " وأرسلت إلى الخلق كافة " ومن شأن الرسول أن يكون أفضل من المرسل إليهم ، واستدل الفخر الرازي على افضليته صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء بقوله تعالى بعد ذكرهم {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} وذلك لأنه تعالى وصفهم بالأوصاف الحميدة ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بجميعهم فيكون إتيانه بذلك واجبا وإلا كان تاركا لمقتضى الأمر ، وإذا أتى بجميع ما تلبسوا به من الخصال الحميد فقد اجتمع فيه ما كان مفرقا فيهم فيكون أفضل منهم ، واحتج السعد التفتازامي بقوله تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس} قال : لأنه لا شك أن الخيرية للأمة إنما هو حسسب كمالها في الدين وذلك تابع لكمال نبيهم الذي يتبعونه : أي فلولا أنه خير الأنبياء لم تكن أمته خير الأمم ، وقد ثبت بنص الآية أنهم خير الأمم فيكون نبيهم خير الأنبياء لما علمت ما بينهما من الملازمة الظاهرة .
وقول السائل نفع الله به : وهل الولاية المخصوصة في مرتبة النبوة ؟ كلام مجمل يجتاج لبيان فإن أراد بالولاية المخصوصة ولايات الأولياء غير الأنبياء فالصواب أنه لا يمكن شرعا أن وليا يصل لدرجة نبي ، ومن اعتقد ذلك فهو كافر مراق الدم إلا أن يتوب ، وإن أراد أن السبب الذي اقتضى أفضليته صلى الله عليه وسلم أفضل من مطلق النبوة فهذا لا يحتاج إليه ، لأنا قد علمنا مما تقرر وغيره أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من سائر الأنبياء في كل وصف من لوصاف الكمال ، ومن ثم خاطب الله تعالى الأنبياء بأسمائهم ، ولم يخاطبه إلا بنحو (يا أيها النبي – يا أيها الرسول – يا أيها المدثر – يا ايها المزمل) وأوجب الله تعالى عليهم إن بعث وهم أحياء أن يؤمنوا به ويتبعوه وينصروه كما قال الله تعالى {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما ىتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه} الآية ، ووقع لابن عبد السلام رحمه الله فيها ما لا ينبغي فاجتنبه .
وقول لاسائل : وهل ولاية النبي الخ ، كأن مراده بهذا أيضا المسألة المشهورة عن ابن عبد السلام وهي قوله : إن نبوة النبي أفضل من رسالته لأن النبوة هي الطرف المتعلق بالحق ، والرسالة هي الطرف المتعلق بالخلق ، وما تعلق بالحق أفضل مما تعلق بالخلق وهو ضعيف جدا ومن ثم ضعفه غير واحد من المتأخرين ، ويان ضعفه أن الرسالة ليس لها طرف من جهة الخلق فقط بل لها طرفان لأن الرسول هو المبلغ عن الله تعالى الأحكام للناس فهو متلق من جهة الحق وملق على الخلق ، فكانت رسالته التي تأهل بها على الخلافة عن الله تعالى أفضل من مجرد نبوته لأنه لم يتأهل بها إلى المرتبة العلية ، والكلام في نبوة الرسول ورسالته أما الرسول فهو أفضل من النبي إجماعا ، وحمل بعضهم النهي عن التفضيل بين الأنبياء السابق على النهي عن التفضيل بينهم في ذات النبوة والرسالة فإنهم في ذلك على حد سواء لا تفاضل بينهم ، وإنما التفاضل في زيادة الأحوال وخصوص الكرامات والرتب ، فذات النبوة لا تفاضل فيها وإنما التفاضل في أمور زائدة عليها ومن ثم كان مبهما .
(1/329)
<153>
(1/330)
مطلب في أن العلماء اختلفوا هل كان نبينا صلى الله عليه وسلم متعبدا بشرع من قبله أم لا ؟
وقول السائل : هل كان نبينا صلى الله عليه وسلم متعبدا الخ ؟ جوابه : أن الهلماء اختلفوا هل كان صلى الله عليه وسلم قبل بعثته متعبدا بشرع من قبله أو لا ؟ فقال الجمهور : لم يكن متعبدا بشيء واحتجوا بأن ذلك لو وقع لنقل ، ولما أمكن كتمه ولا ستره في العادة ولأفتخر به أهل تلك الشريعة عليه صلى الله عليه وسلم ، واحتجوا به عليه فلما لم يقع شيء من ذلك علمناأنه لم يكن متعبدا شرع نبي قبله ، وذهب طائفة إلى امتناع ذلك عقلا قالوا : لأنه يبعد أن يكون متبوعا وقد عرف تابعا . وذهب آخرون إلى الوقف في أمره صلى الله عليه وسلم وترك قطع الحكم عليه بشيء في ذلك ، لأنه لا قاطع من الجانبين ، وإلى هذا ذهب إمام الحرمين . زقال آخرون : كان عاملا بشرع من قبله . ثم اختلفوا فوقف بعضعم عن التعيين وأحجم وجسر عليه بعضهم . ثم اختلف المعينون فقيل نوح وقيل إبراهيم وقيل موسى وقيل عيسى وقيل آدم ، فهذه جملة المذاهب في هذه المسألة وأظهرها الأول وهو الذي عليه الجمهور وأبعدها مذهب المعينين إذ لو كان شيء لنقل كما مر . (1/331)
مطلب في أنه لم يكن لأحد من الأنبياء دعوة عامة إلا نبينا ن ومن ثم أرسل للجن دون غيره
ولا حة لمن زعم أن عيسى آخر الأنبياء صلى الله عليه وسلم فلزمت شريعته صلى الله عليه وسلم من جاء بعده لأنه لم يثبت عموم دعوة عيسى بل الصحيح أنه لم يكن لنبي دعوة عامة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم ، ومن ثم لم يرسل للجن غيره صلى الله عليه وسلم ، وإيمان الجن بالتوراة كما يدل عليه أواخر سورة الأحقاف كان تبرعا كإيمان بعض العرب من قريش وغيرهم الإنجيل إذ لم يثبت إن موسى أرسل لغير بني إسرائيل والقبط ولا أن عيسى أرسل لغير بني إسرائيل ، وزعم بعض من لا تحقيق عنده ولا اطلاع على حقائق الكتاب والسنة أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان على شريعة إبراهيم صلى الله عليه وسلم وليس له شرع منفرد به ، وإنما المقصود من بعثه إحياء شرع إبراهيم ؛ تمسكا بظاره قوله تعالى {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} وهذا القول – أي أن الشريعة شريعة غبراهيم – بالغلط بل بالخراف أشبه ، ومن ثم قالوا : إن مثله لا يصدر إلا من سخيف العقل كثيف الطبع ، وإنما المراد هذه الآية الاتباع في التوحيد الخاص بمقام الخلة الذي هو مقام إبراهيم المشار إليه صيغة {حنيفا وما كان من المشركين} والمتسبب عن تفويضة المطلق لما أن ألقي في النار وجاء إليه جبيريل عليهما السلام قائلا له " ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا " ، فوصل غاية من التفويض لم يصل غليها أحد قبله ولا بعده إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه وصل إليها وارتقى عنها بغايات لا يعلمها إلا خالقه وبارئه المنعم عليه بما لم يؤته لغيره ، ومن ثم يقول إبراهيم عند مجئ الناس إليه في ذلك الموقف العظيم للشفاعة العظمى في فصل القضاء قائلين له : إن الله اصطفاك بالخلة : إنما كنت خليلا من وراء وراء ، فأعلمهم أنه وإن كان خليلا لكنه متأخر الرتبة عن غير المنحصر في نبينا صلى الله عليه وسلم ، ونظير تلك الآية السابقة {أولئك الذين هدى الله فهداهم اقتده} فالمراد الأمر بالاقتداء في التوحيد وما يليق به من المقامات العالية التي ترجع إلى الأصول ال إلى الفروع إذ كان منهم من ليس رسولا أصلا كيوسف صلى الله وعلى نبينا عليه(1/332)
<154>وسلم على قول ، والباقون كانت فروع شرائعهم مختلفة فاستحال حمل الأمر على الاقتداء بهم على ذلك . لا يقال : التوحيد إنما ينشا عن الأدلة القطعية فكبف يتأتى الاتباع فيه لأنا قد أشرنا إلى رد ذلك بقولنا : وما يليق به من المقامات العلية الخ . ومنها كيفية الدعوى إلى التوحيد وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق ولاسهولة وإيراد الأدلة الواضحة الظاهرة المرة بعد المرة على أنواع مترتبة متمايزة تأخذ بالقلب وتدهش اللب كما هو الطرق المألوفة في القرآن ، وقال شيخ الإسلام السراج البلقيني في شرح البخاري : ولم يجئ في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده صلى الله عليه وسلم قبل البعث ، لكن روى ابن إسحاق وغيره " أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج على حراء في كل عام شهرا من السنة يتنسك فيه " وكان من نسك قريش في الجاهلية أن يطعم الرجل من جاءه من المساكين حتى إذا انصرف من بيته لم يدخل حتى يطوف بالكعبة ، وحمل بعدهم التعبد على التفكر . قال : وعندي أن هذا التعبد يشتمل على أنوا ع : وهي الاعتزال عن الناس كما صنع إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم باعتزال قومه والانقطاع إلى الله تعالى ، فإن انتظار الفرج عباده كما رواه علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – مرفوعا وينضم إلى ذلمكالتفكر ، ومن ثم قال بعضهم : كانت عبادته صلى الله عليه وسلم في حراء التفكر . (1/333)
مطلب في إرساله صلى الله عليه وسلم إلى الخلق كافة
وقول السائل نفع الله به : وهل أرسل إلى الخلق كافة الخ . جوابه : أنه كثر استفتاء الناس لي عن ذلك وكثر الكلام مني فيه مبسوطا ومختصرا ، وخلاصة المعتمد في ذلك أن في إرساله صلى الله عليه وسلم إلى الملائكة قولين للعلماء ، والذي رجحه شيخ الإسلام التقي السبكي وجماعته من محققي المتأخرين وردوا ما وقع في تفسير الرازي مما وقع بخلاف ذلك وأطالوا في رده ورد ما وقع للبيهقي والحليمي مما يخالف ذلك أنه أرسل إليهم ، ويدل له ظاهر قوله تعالى {ليكون للعالمين نذيرا} وهم الإنس والجن والكلائكة ن ومن زعم أن صلى الله عليه وسلم أرسل لإلى بعض الملائكة دون بعض فقد تحكم من غير دليل كما أن من ادعى خروج الملائكة كلهم من الاية يعجز عن دليل يدل على ذلك ولا ينافي ذلك الإنذار الذب هو التخويف بالعذاب لأنهم وإن كانوا معصومين إلا أن المراد بالإرسال تكليفهم بالإيمان به والاعتراف بسؤدده ورفعته ولاخضوع له ،وعدهم من أتباعه زياده في شرفه وكل هذا لا ينافي عصمتهم ، ثم ذلك الإنذار إما وقع كله في ليلة الإسراء أو بعضه فيها وبعضه في غيرها ، ولا يلزم من الإنذار والرسالة إليهم في شيء خاص أن يكون بالشريعة كلها ، وفي قول ك أن الملائكة من الجن وأنهم مؤمنوا لاجن السماوية ، فإذا ركب هذا مع القول الذي أجمع عليه لامسلمون وهو عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للجن لزم عموم الرسالة للملائكة كذا قيل وهذا لا يحتاج إليه ، وكفى بالأخذ ظاهر الآية دليلا لا سيما وخبر مسلم الذي لا نزاع في صحته صريح في ذلك ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم " وأرسلت إلى الخلق كافة " فتأمل قوله " الخلق " وقوله " كافة " ومن ثم أخذ من هذا شيخ الإسلام الجمال البارزي أنه صلى الله عليه وسلم أرسل على جميع المخلوقات حتى الجمادات بأن ركب فيها فهم وعقل مخصوص حتى عرفته وآمنت به واعترفت بفضله وقد أخبر عنها صلى الله عليه وسلم بالشهادة للمؤذن ونحوه في قوله " فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن شجر ولا حجر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة " وقال تعالى {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله} وقال تعالى {وإن من شيء غلا يسبح بحمده} فإذا كانت هذه الجمادات لها هذه الإدراكات لم يستنكر ما قاله البارزي لا سيما وحدبث مسلم مصرح به كما علمت .
(1/334)
<155>
فإن قلت : فسر الجمهور العالمين في الآية بالجن والإنس .
قلت : لا يلزم من ذلك خروج الملائكة عن مطلق الإرسال بل عن الإرسال إلى الجن والإنس المتضمن للتكليف بسائر فروع الشريعة وللتكليف بكل ما فيه كلفة والمستلزم لإباء المرسل إليهم إلا بعصام نواميس المعجزات والتخويف والتهديد فتخصيص العالمين بالجن والإنس لذلك فحسب .
والحاصل أنه لا قاطع من أحد الجانبين وأن كلا من القولين إنما هو أمر ظني بحسب ما دل عليه ظاهر استند إليه كلا من القائلين بأحد ذينك القولين . (1/335)
مطلب في الأفضلية بين الخلفاء الأربعة أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم
وقول السائل : وهل الأفضلية بين الخلفاء الأربعة الخ ؟ جوابه : إن أفضلية أبي بكر رضي الله عنه على الثلاثة ثم عمر على الإثنين مجمع عليه عند أهل السنة لا خلاف بينهم في ذلك والإجماع يفيد القطع ، وأما أفضلية عثممان على علي رضي الله عنهما فظنية لأن بعض أكابر أهل السنة كسفيان الثوري فضل علي على عثمان وما وقع فيه خلاف بين أهل السنة ظني ، وأما الأحاديث في ذلك فمتعارضة جدا بل علي كرم الله وجهه ورد فيه من الأحاديث المشعرة بفضله ما لم يرد في الثلاثة . وأجاب عنه بعض الأئمة أن سبب ذلك أنه عاش إلى زمن الفتن وكثرت أعدائه وقدحهم فيه وحطهم عليه وغمصهم لحقه بباطلهم ، فبادر حفاظ الصحابة رضوان الله عليهم وأخرجوا ما عندهم في حقه ردعا لأولئك الفسقة المارقين والخوارج المخذولين ، وأما بقية الثلاثة فلم يقع لهم ما يدعو الناس إلى الإتيان بمثل ذلك الاستيعاب .(1/336)
مطلب الأصح أن أهل الفترة ناجون في الجنة
وقوله : وهل الإنسان الخ ؟ جوابه : أن الأصح نعم ، بل الأصح في أهل الفترة وهم من لم يرسل إليهم رسول أنهم في الجنة عملا بقوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وحمل على ما قبل البعثة ، وزعم قائله أن كل من لم يؤمن بعد بعثه آدم أو نوح بناء على أن أول الرسل آدم أو نوح فهو في النار زعم مخالف لظاهر الآية فلا يعول عليه .
وقوله : وهل القائل بخلق الخ ؟ جوابه : أن القائل بالخلق الحقيقي لغير الله في شيئ من الأشياء كافر مراق الدم كما هو جلي ، والقائل بخلق العبد لأفعاله بالمعنى الذي يقوله المعتزلة مبتدع ذال فاسق وأما إسلامه ففيه خلاف والأصح أنه مسلم .
وقوله : وهل يجوز العقل الخ ؟ جوابه : نعم يجوز العقل ذلك في المؤمنين ، بل ذلك مما يتعين علينا اعتقاده ، لأن الله تبارك وتعالى لايجب عليه شيئ لأحد من عباده وأنبيائه ورسله مطلقا لقوله نعاى {قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرؤض جميعا} وإنما إثابة الطائع من محض فضله تعالى ، ويجوز أن يعاقبه لكنه لا يقع بمقتضى وعده وأنه لا يخلف الميعاد وعقاب العاصي من محض عدله ، ويجوز أن يخلفه لأن خلف الإيعاد من سعة الفضل والكرم بخلاف إخلاف الوعد ، وقد أشارت الآية إلى ذلك فإنها إنما نصت على أنه تعالى لا يخلف الميعاد ،وهو لا يكون إلا في الخير فاقتضت أنه يخلف(1/337)
<156>الإيعاد الذي لا يكون لا في مقابلة ذلك . وأما الكافر فبعد أن يعلم قوله {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فلا يجوز العقل ذلك فيه ، ومن ثم أجمعوا على كفر من قال : إن الله يثيب الكافر . (1/338)
مطلب " يقال لصاحب القرآن إقرأ وارق ورتل " الخ
وسئل نفع الله به عن قوله صلى الله عليه وسلم : " يقال لصاحب القرآن يوم القيامة إقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية " من المخصوص بهذه الفضيلة هل هم من يحفظ القرآن في الدنيا عن ظهر قلب ومات كذلك ، أم أم ما يستوي فيه هو من يقرأ في المصحف وعن قول صاحب العباب : وورد أن الملائكة لم يعطوا فضيلة حفظ القرآن فهم حريصون على استماعه من الإنس ، وسبقه إلى ذلك ابن الصلاح ، والقصد تبين الطريق التي ورد منها هل هو حديث نبوي أو غير ذلك ؟ .
فأجاب رضي الله عنه بقوله : الخبر المذكور خاص بمن يحفظه عن ظهر قلب لا بمن يقرأفي المصحف لأن مجرد القراءة في الخط لا يختلف الناس فيها ولا يتفاوتون قلة وكثرة ، وإنما الذي يتفاوتون فيه كذلك هو الحفظ عن ظهر قلب ، فلهذا تفاوتت منازلهم في الجنة بحسب تفاوت حفظهم ، ومما يؤيد ذلك أيضا أن حفظ القرآن عن ظهر قلب فرض كغاية على الأمة ، ومجرد القراءة في المصحف من غير حفظ لا يسقط بها الطلب فليس لها كبير فضل كفضل الحفظ فتعين أنه أعنى الحفظ عن ظهر قلب وهو المراد في الخبر وهذا ظاهر من لفظ الخبر بأدنى تأمل ، وقول الملائكة له " اقرأ وارق " صريح في حفظه عن ظهر قلب كما لا يخفى ، وقول ابن الصلاح ، وورد أن الملائكة لم يعطوا فضيلة حفظ القرآن فهم حريصون الخ ، فأما كونهم لم يعطوا ذلك فكأنه أخذه من أحلديث تشير إليه ، لكن اعترضه غير واحد وساقوا من القرآن والسنة ما يعارضه ، ومن ثم صرح غير واحد بخلافه ، لكنني في شرح العباب أجبت عما أوردوه عليه ، وأما حرصهم على استماعه من الإنس فهو صريح الأحاديث الصحيحة . (1/339)
مطلب في حكم إفراد الصلاة عن السلام وبالعكس
وسئل نفع الله به ، عما صورته : ذكر الأئمة رضي الله عنهم أنه يكره إفراد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عن السلام وعكسه . قال بعضهم : لكن ليس المراد بالجمع بينهما أن يكونا مقرونين بل أن لايخلو الكلام أو المجلس عنهما كما في التشهد فهل هو كذلك ؟ فإن قلتم نعم ، فهل ذلك في غير المخصوص أما هو كقوله صلى الله عليه وسلم " من قال يوم الجمعة ثمانين مرة اللهم صل على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي غفر الله له ذنوب ثمانين سنة " الخ فلا كراهة فيه للنص عليه فهل هو كذلك أم لا ؟ .
فأجاب بقوله رحمه الله تعالى : إني لما نقلت تلك المقالة في شرح العباب تعقبتها وعبارته : وقيد بعض فقهاء اليمن كراهة الإفراد بما إذا لم يجمعهما مجلس أو كتاب . قال : وإلا فلا إفراد انتهى ، وهو غير بعيد وإن كان ظاهر كلام غيره قد ينازع فيه انتهت ، ووجهة تلك المنازعة أن النووي رحمه اللع تعالى لما نقل عن العلماء كراهة الإفراد اعترضوه بأن ذلك وقع في أماكن كثيرة من الأم وغيرها ، وأجيب عنه بأن من أفرؤدها من العلماء إما جمع بلسانه أو ترك السلام ذهولا ، ووجه رد كلام ذلك الفقيه بالنسبة لقوله أو كتاب أن تلك الكتب فيها الصلاة مع السلام ، ومع ذلك جعلوا خلوها في بعض المواضع عنهما واردا ، فلو اكتفى في الجميع بوجوده(1/340)
<157>أحدهما في أول الكتاب ووجود الآخر في آخره مثلا لما ورد ذلك ، فعلمنا أن كلام المستشكين والمجيبين راد لقول ذلك الفقيه أو كتاب ، وأيضا فإنما يتمشى مع ما بحثه ذلك الفقيه بناء على أن الإفراد يكره خطا حتى يرد الجمع في أول الكتاب وهو ما جرى عليه الزين العراقي وجزم به غيره تبعا له ، لكني نظرت فيه في الشرح المذكور واستدللت لهذا النظر بالجواب السابق الذي قاله بعض المحققين : إن من أفرد جمع بينهما بلسانه إذ هذا صريح في أنه لا يكره الإفراد خطا وإلا لم يتأت ذلك الجواب ، وعلى أنه لا كراهة خطا فلا يصح ذلك التقييد بما لم يجمعهما كتاب ، وأما التقييد بما لم يجمعهما مجلس فهو متجه لكن يتعين تقييد ذلك بما إذا لم يطل الفصل عرفا بحيث ينقطع نسبة أحدهما عن الآخر وإلا لم يفد إتحاد المجلس حينئذ ، وقول الأئمة إنما أفردت الصلاة في التشهد اكتفاء بالسلام الذي فيه ظاهر في اعتبار القرب الذي ذكرته ، ويؤخذ من قولهم هذا أن كراهة الإفراد حاصلة فيما ورد فيه اففراد أيضا كالصلاة التي في السؤال لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم كيفية الصلاة مفردة عن السلام ، ومع ذلك احتاج الأئمة للجواب عن ذلك بأن السلام سبق في التشهد فلة كان مجرد وجود الإفراد مانعا لكراهته لم يحتاجوا للجواب المذكور فلما احتاجوا إليه علمنا أن ذلك الورود غير كاف .
فإن قلت : ذكروا فيما إذا حلف ليصلين أفضل الصلاة أنه يبر بصلاة التشهد كذا على الخلاف فيها ولم يذكروا في واحدة لفظ السلام ؟ .
قلت : هذا لا ينافي ما نحن فيه لأن المكروه هو الإفراد لا نفس الصلاة وإن أفردت ، ونظير ما حرره بعض المحققين في كراهة الإيتار بركعة أن المراد كراهة الاقتصار عليها لا نفس الصلاة ، بل هي مع ذلك من الوتر الذي هو أفضل الرواتب .
فإن قلت : قال الحافظ السخاوي في كتابه ( البديع ) استدل بحديث كعب ابن عجرة وغيره على أن إفراد الصلاة عن السلام لا يكره وكذلك العكس لأن تعليم التليم تقدم على تعليم الصلاة فأفردوا التسليم مدة في التشهد قبل الصلاة عليه ، وصرح النووي رحمه الله في الأذكار وغيره بالكراهة واستدل بورود الأمر بهما معا في الآية . قال : والظاهر أن محل ذلك فيما لم يرد الاقتصار على الصلاة فيه على أن شيخانا : أي الحافظ ابن حجر توقف في إطلاق الكراهة انتهى .
فلت : أما التوقف في ذلك فغير مسموع مع كون النووي نقل الكراهة عن العلماء ، وأما التقييد الذي ذكره السخاوي بقوله : والظاهر الخ . فغفلة كما علم مما مر من كون الأئمة أجابوا عن الإفراد في حديث كعب ابن عجرة وغيره بأن السلام تقدم في التشهد إذ هذا تصريح منهم بعموم الكراهة لما ورد فيه الإفراد أيضا وأما الا ستدلال بأن تعليم التسليم تقدم قبل تعليم الصلاة فأفردوا التسليم مدة التشهد ، يجاب عنه بأن الذي قاله العلماء من الكراهة الإفراد إنما هو بعد استقرار الحكم ، وأما تعليم السلام قبل الصلاة فلا يدل على عدم كراهة الإفراد لأن تأخر تعليم الصلاة عن السلام كان قبل مشروعيتها في الصلاة لتوقف الخطاب بها فيها على علم الكيفية ، فقبل علمهم بكيفيتهل لم يخاطبوا بها فيها فالإفراد لذلك فحسب ، وحيث كان الإفراد في التشهد قبل مشروعية الصلاة فيه انتفى الاستدلال بذلك الإفراد على عدم الكراهة على أن الجواب الذي أجابوا به عن إفراد نحو الشافعي يجاب به عن إفراد الرواة .
(1/341)
<158>
والحاصل أن قول العلماء بالكراهة إجماع منهم عليها ، والإجماع لا يدفع ولا يخص بالأمور المحتملة فليتأمل ذلك فإنه مهم . (1/342)
مطلب في أن سليمان صلى الله على نبينا وعليه وسلم كان له أربعمائة امرأة وستمائة سرية
وسئل نفع الله بعلومه : عن الجمع بين الروايات في حديث قول سليمان صلى الله على نبينا وعليه وسلم " لأطوفن الليلة على سبعين امرأة " الحديث ؟ .
فأجاب بقوله : محصل الرويات في ذلك ستون وسبعون وتسع وسبعون وتسعون ومائة ، وجمع بينهما بأن الستين كن حرائر وما زاد عليهن كن سرارى وبالعكس ، أو السبعبين للمبالغة والتسعين وإنما كن دون المائة وفوق السبعين ، فمن قال تسعين ألغى الكسر ، ومن قال مائة حبره وفيه نظر ، ففي رواية ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه " أنه كان له أربعمائة امرأة وستمائة سرية فقال يوما لأطوفن الليلة على ألف امرأة " الحديث ، فالأولى الجمع بأنه قال ذلك مرات متعددة اقتصر في كل منها على من كن معه حينئذ ، ولا يبعد أنه قال ذلك متكررا ونسى قول إن شاء الله تعالى فلا يلدن له من ذكر . (1/343)
مطلب ما الأفضل لا إله إلا الله ، أو الحمد لله الخ ؟
وسئل نفع الله بعلومه : ما الأفضل لا إله إلا الله ، أو الحمد لله رب العالمين ؟ .
فأجاب بقوله : ظاهر كلام الأئمة وصريحة أن الأول أفضل ، واستدل له بخبر " أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله " دل بمنطوقه على أن كلا من الكلمتين أفضل نوعه وبمفهومه على أن الأولى أفضل لأن نوع الذكر أفضل من نوع الدعاء ، وبالخبر الضعيف " التوحيد ثمن الجنة والحمد ثمن كل نعمة " لأن الجنة أفضل من كل النعم الدنيوية فيكون ثمنها أفضل .
فإن قلت : ورد " أن لا إله إلا الله بعشر حسنات والحمد لله بثلاثين حسنة " .
قلت : قد يكون في المفضول مزية ليست في الفاضل .
فإن قلت : محل ذلك في غير زيادة الثواب وأما هي فصريحة في التفضيل ؟ .
قلت : إنما تكون صريحة إن صح سندها دون معارض . (1/344)
مطلب هل ورد أول ما خلق الله القلم أم لا ؟
وسئل نفع الله به : " أول ما خلق الله القلم " هل ورد ؟ .
فأجاب : نعم ورد بل صح من طرق ، وفي رواية " أن الله خلق العرش فاستوى عليه – أي استواء يليق بجلال ذلك – ثم خلق القلم فأمره أن يجري بإذنه ، فقال : يا رب بما أجري ؟ قال : بما أنا خالق وكائن في خلقي من قطر أونبات أو نفس أو أثر أو رزق أو أجل فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة " ورجالها ثقات إلا الضحاك ابن مزاحم فوثقه ابن حبان وقال : لم يسمع من ابن عباس وضعفه جماعة : وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا عليه أن أول شيئ خلقه الله القلم فأمره أن يكتب كل شيئ ورجاله ثقات ،(1/345)
<159>وفي رواية لابن عساكر مرفوعة : " إن أول شيئ خلقه الله القلم ثم خلق النون – وهي الدواة – ثم قال له اكتب ما يكون أو ما هو كائن " الحديث ، وروى ابن جرير أنه صلى الله عليه وسلم قال " {ن والقلم وما يسطرون} قال لوح من نور وقلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة . (1/346)
مطلب في الأحاديث الشائعة
وسئل رضي الله عنه عن الأحاديث الشائعة : لآية من كتاب الله خير من محمد وآل محمد . وأحبوا البنين فإن البنات يحببن في أنفسهن . وأنا جد كل تقي . من جلس فوق عالم بغير إذنه فكأنما حلس على المصحف . من بش في وجه ذمي فكأنما لكزني في جنبي . اطلع صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج على النار فرأى رجل عليه حلل خضر ويروح وعليه بمراوح ، فقال يا جبريل من هذا ؟ قال حاتم الطائي . إن شجرة كانت في بستان فقطعت نصفين فجعل نصف منها في القبلة والآخر في مرحاض فشكا إلى ربه فأوحى إليه إن لم تنته لأجعلنك في مجلس قاض لا يعرف من الشرع أيش هو ما الذي يخفى قال ما لا يكون إن آدم والطبقة الأولى من أولاده كانوا ستين ذراعا والثانية أربعين والثالثة عشرين والرابعة سبعة أذرع " .
فأجاب بقوله : قال الحافظ السيوطي في الأول لم أقف عليه ،وفي الثاني : هذا لا يعرف ولم أقف عليه في شيئ من كتب الحديث ، وفي الثالث : لا أعرفه ، وفي الرابع والخامس : لا أصل لهما ، وفي السادس والسابع والثامن : باطلة ، وفي التاسع : هذا العدد لمخصوص في الطبقات لم يرد ، وإنما ورد " أن طول آدم كان ستون ذراعا وإن من بعده تناقص ولم يزل الناس يتناقصون " .
وسئل : رضي الله عنه عن حديث " الخلق عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله " هل ورد ؟ .
فأجاب : نعم ورد من طرق كثيرة ، لكنها ضعيفة ، ولفظ بعضها " الخلق كلهم عيال الله وتحت كنفه فأحب الخلق إلى الله من أحسن لعياله وأبغض الخلق إلى الله من ضيق على عياله " . (1/347)
مطلب " كما تكونوا يول عليكم "
وسئل نفع الله به : عن حديث " كما تكونوا يول عليكم " من رواه
فأجاب : رواه ابن جميع في معجمه ، وذكر ابن الأنباري أن الرواية " كما تكونوا " بحذف النون .
وسئل نفع الله به : عن حديث " إن نبيا من الأنبياء شكا الضعف فأمره الله بأكل البيض " هل ورد ؟
فأجاب : نعم ورد عند البيهقي لكنه ضعيف جدا . (1/348)
مطلب هل لبس السراويل صلى الله عليه وسلم ؟
وسئل نفع الله به : هل لبس صلى الله عليه وسلم السراويل ؟ .
فأجاب بقوله : قال السبكي في فتاويه : أنه صلى الله عليه وسلم اشتراه وما لبسه ثم صار حسنا للستر .
وسئل رضي الله عنه : هل ورد أن صلى الله عليه وسلم لبس السراويل ؟ .
فأجاب بقوله : قال السنكي : اشتراة صلى الله عليه وسلم ولم يلبسه ، ونقله التقي الشمني في حاشية الشفاء عن غيره أيضا حيث قال : قالوا لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم لبس السراويل ولكنه اشتراه ولم يلبسها .
(1/349)
<160>وفي المهدي لابن قيم الجوزية أنه لبسها ، قالوا : وهو سبق قلم انتهى . لكن روى أبو يعلى في مسنده والطبراني في معجمه الأوسط بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال " دخلت يوما السوق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إلى البزازين فاشترى سراويل بأربعة دراهم ، وكان لأهل السوق وزان فقال له صلى الله عليه وسلم : اتزن وأرجح ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السراويل فذهبت لأحملها عنه فقال : صاحب الشيئ أحق بشيئه أن يحمله إلا أن يكون ضعيفا يعجز عنه فيعينه أخوه المسلم . قلت : يا رسول الله وإنك لتلبس السراويل ؟ قال : أجل في الحضر والسفر وبالليل والنهار ، فإني أمرت بالستر فلم أجد شيئ أستر منه " .
وسئل نفع الله به : عن المراد بأخوات هود في حديث " شيبتنى هود وأخواتها " ؟ .
فأجاب بقوله : المراد بهن " الواقعة والمرسلات وعم والتكوير " رواه الترمذي والحاكم ، والطبراني " والحاقة " وابن مردويه " وهل أتاك " وابن سعد " والقارعة وسأل سائل واقتربت الساعة " .
وسئل نفع الله به بما لفظه : أخذ ابن حبان من حديث " إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني " بطلان حديث " أنه صلى الله عليه وسلم كان يضع الحجر على بطنه من الجوع " لأنه إذا أطعم وسقي مع المواصلة فكيف يترك جائعا مع عدمها . قال : الصواب أنه الحجز بالزاي وهو طرف الإيزار فتصحف بالراء صحيح أم لا ؟ .
فأجاب بقوله : ليس ما قاله صحيح إذ لا منافاة بين الحديثين ، وأي جامع بين حالة الوصال وغيرها حتى يستدل بتلك على هذه إذ للصائم تكرمات على غيره ، ولا مانع من حصول الجوع له في بغض الأحيان على قضية الإبتلاء الذي يحصل للأنبياء تعظيما لهم كما قال في الحديث الآخر " أجوع يوما وأشبع يوما " وكما قال جابر في حديثه لامرأته : سمعت صوت رسول الله ضعيفا أعرف فيه الجوع . (1/350)
مطلب هل يجوز قراءة سيرة البكري ؟
وسئل نفع الله به : هل يجوز قراءة سيرة البكري ؟ .
فأجاب بقوله : لا يجوز قراءتها لأن أغلبها باطل وكذب ، وقد اختلط فحرم الكل حيث لا مميز . (1/351)
مطلب هل ورد " لو كان بعدي نبي لكان عمر ابن الخطاب "
وسئل رضي الله عنه : هل ورد " لو كان بعدي نبي لكان عمر ابن الخطاب " ؟
فأجاب بقوله : نعم ، رواه الترمذي الطبراني .
وسئل رضي الله عنه : هل ورد " أن الأحجار سلمت عليه صلى الله عليه وسلم حتى البلور " وأنها إذا سمعت الصلاة عليه تصلي عليه . وأن من كتب اسمه الشريف في رق بالصلاة عليه تصلي عليه تلك الأحرف " .
فأجاب بقوله : الأول ثبت من طرق صحيحة بخلاف ما ذكر في البلور وما بعده مما ذكر فإنه لم يرد فيه شيئ ، نعم ورد " أن من صلي عليه صلى الله عليه وسلم في كتاب لم تزل الملائكة تصلي عليه – أي على المصلي – ما دام اسمه الشريف في هذا الكتاب " .
(1/352)
<161>
(1/353)
مطلب ما الجمع بين خبر خلق الأرواح قبل الأجساد الخ
وسئل رضي الله عنه بما لفظه : ما الجمع بين خبر " خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام " وقال ابن عناس رضي الله عنهما : بأربعة آلاف سنة ، وخلق الأرواح قبل الأرزاق بأربعة آلف سنة .
فأجاب بقوله : ما ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما باطل لا أصل له ، والأول ضعيف جدا فلا يعول عليه ، نعم صح " أن ىالله قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة " وذلك شامل الأرزاق .
وسئل نفع الله به : عن بحيرا المبشر به صلى الله عليه وسلم هل كان ذلك قبل البعثة وهل مات مسلما ؟ .
فأجاب بقوله : نعم كان قبل البعثة بدهر طويل ؛ ففي طبقات ابن سعد ودلائل أبي نعيم : أن سنه صلى الله عليه وسلم إذ ذاك كان اثنتى عشرة سنة . وفي رواية لابن منده : وسنه عشرون سنة . وفي الإصابة ما أدري هل أدرك البعثة أم لا ؟ وقد ذكره ابن منده وأبو نعيم في الصحابة ، وبالجملة فقد مات على دين حق وهو إن لم يكن أدرك البعثة فقد أدرك دين النصرانية قبل نسخه بالبعثة المحمدية . (1/354)
مطلب هل ورد " أنه صلى الله عليه وسلم شمتته الملائكة عند ولادته لعطاسه حينئذ "
وسئل نفع الله به : هل ورد " أنه صلى الله عليه وسلم شمتته الملائكة عند ولادته لعطاسه حينئذ " .
فأجاب بقوله : الوارد في ذلك حديث أبي نعيم عن الشفاء أم عبد الجمن ابن عوف رضي الله عنهما " أنه صلى الله عليه وسلم لما ولد وقع على يدها فاستهل فسمعت قائلا يقول : رحمك الله أو رحمك ربك " الحديث ، والإستهلال صياح المولود أول ما يولد ، فإن أريد به العطاس فمحتمل ، وحمل القائل المذكور على الملك ظاهر .
وسئل نفع الله به : هل ورد " الحمى بريد الموت " مع أن كل حمى ليست كذلك .
فأجاب بقوله الحديث ضغيف : أي رسوله الذي يتقدمه كما يتقدم الرائد قومه ، ولا ينافي ذلك عدم استلزامها له ، لأن الأمراض كلها من حيث هي مقدمات للموت ومنذرات به ، وإن أفضت إلى سلامة جعلها الله تذكرة لابن آدم يتذكر بها الموت .
وسئل نفع الله به : عن لذعة النار التي قد تكون شفاء كما ذكر في الحديث بالذال المعجمة والغين كذلك أو بالمهملة أو المعجمة .
فأجاب بقوله : هي بمعجمة فمهملة الخفيف من حرق النار لا بمهملة فمعجمة كما ينطق العوام .
وسئل نفع الله به : عن حديث " زينوا مجالسكم بالصلاة على فإن صلاتكم تبلغني وتعرض علي " هل ورد ؟ .
فأجاب بقوله : هو حديث ضعيف لكن بلفظ " فإن صلاتكم علي نور يوم القيامة " وأما " فإن صلاتكم تعرض علي أو تبلغني " فقطعه من حديث آخر ثابت قوي .
(1/355)
<162>
(1/356)
مطلب هل ورد في الغزل شيئ ؟
وسئل نفع الله به : هل ورد في الغزل شيئ ؟ .
فأجاب بقوله : أخرج ابن عساكر عن زياد ابن عبد الله القرشي قال : دخلت على هند بنت المهلب ابن أبيصفرة وهي امرأة الحجاج ابن يوسف فرأيت في يدها مغزلا تغزل به فقلت أتغزلين وأنت غمرأة أمير . قالت : سمعت أبي يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أطولكن طاقة أعظمكن أجرا وهو يطرد الشيطان ويذهب بحديث النفس " . وأخرج أيضا بسند فيه متروك حديث " عمل الأبرار من الرجال الخياطة وعمل الأبرار من النساء الغزل " وأخرج أيضا عن الباز ابن أبي السكن قال : دخلت على أم سامة وبيدها مغزل تغزل به فقلت : كلما أتيتك وجدت في يدك مغزلا فقالت إنه يطرد الشيطان ويذهب بحديث النفس ،
وإنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن أعظمكن أجرا أطولكن طاقة " . وروى " زينوا مجالس نسائكم بالمغزل " وفي سنده من هو متروك الحديث كذاب .
وسئل نفع الله بعلومه : لم رجع صلى الله عليه وسلم القهقري في قضيته مع عمه حمزة رضي الله عنه لما دخل عليه فوجده سكران .
فأجاب بقوله : كان حمزة رضي الله عنه ثملا قبل تحريم الخمر فخشي إن ولاه ظهره الشريف أن يثب عليه ، أو قصد أن يلحظ منه ما يصنعه بعد ، أو كان هذا قبل النهي عن الارتجاع القهقري / أو كنى الراوي بذلك عن الرجوع للبيت لا بالظهر ، كذا قيل وهو بعيد .
وسئل رضي الله عنه ، عن حديث " الهم من أحبته أقلل ماله وولده " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله أخرجه ابن ماجة في سننه والطبراني ولفظه " اللهم من آمن بي وصدقني وعلم أن ما جئت به هو الحق من عندك فأقلل ماله وولده وحبب إليه لقاءك وعجل له القضاء ، ومن لم يؤمن بي ولم يصدقني ولم يعلم ما جئت به هو الحق من عندك فأكثر ماله وولده وأطل عمره " وسنده صحيح إلا أن راويه اختلف في صحبته . وأخرج سعيد ابن منصور " اللهم من أبغضني وعصاني فأكثر له من المال والولد ، اللهم من أحبني وأطاعني فارزقه الكفاف ، اللهم ارزق آل محمد الكفاف اللهم ارزق يوما بيوم " . (1/357)
مطلب من لم يكن عنده صدقة فليلعن اليهود
وسئل نفع الله به بما لفظه : " من لم يكن عنده صدقة فليلعن اليهود " هل ورد ؟ .
فأجاب بقوله : نعم رواه السلفي والديلمي وابن عدي .
وسئل رضي الله عنه : ما معنى حديث " حياتي خيرلكم وموتي خير لكم " ؟ .
فأجاب بقوله : الإشكال إنما يأتي على تقدير خير أفعل تفضيل وليس كذلك ، وإنما هي للتفضيل لا للأفضلية نحو {أفمن يلقى في النار خير} {خير مستقرا} ففي كل من حيلته وموته صلى الله عليه وسلم خير إلا أن أحدهما أخير من الآخر ، وخير يراد به كل من الأمرين ، فإن أريد بها مجرد التفضيل فضدها الشر ولا حذف فيها وتأنيثها خيرة وجمعها خيرات وهي الفضلات من كل شيئ ، وإن أريد بعا الأفضلية وصلت بمن وكان أصلها أخير حذفت همزتها تخفيفا ويقابلها شر التي أصلها شر ، ولا تؤنث ولا تثنى ولا تجمع .
(1/358)
<163>
(1/359)
مطلب عن كتابة الحافظين بماذا ؟
وسئل نفع الله به : عن كتابة الحافظين بماذا ؟ .
فأجاب بقوله : ورد أن مدادهما الريق وأقلامهما ألسنة الخلق ، ولم يرد تعيين البطاقة التي يكتبون فيها . (1/360)
مطلب في وقود الشمع
وسئل رضي الله عنه : عن الشمع هل كان موجودا في حياته صلى الله عليه وسلم ؟ .
فأجاب بقوله : قال الحافظ السيوطي : إنه كان موجودا قبل البعثة كما ذكره العسكري في الأوائل : أن أول من أوقد له الشمع جذيمة ابن مالك الأبرش ، بل ورد في حديث " إنه أوقد للنبي صلى الله عليه وسلم عند دفنه عبد الله ذا النجادين " . (1/361)
مطلب هل تموت الحور والولدان وزبانية النار ؟
وسئل نفع الله بعلومه : هل تموت الحور والولدان وزبانية النار ؟ .
فأجاب بقوله لا يموتون وهم ممن دخل ىفي قوله تعالى {إلا من شاء الله} وأما الملائكة فيموتون بالنصوص والإجماع ، ويتولى قبض أرواحهم ملك الموت ، ويموت ملك الموت بلا ملك موت . (1/362)
مطلب في الطاعون
وسئل رضي الله عنه : هل هل ورد في حديث " الطاعون وخز إخوانكم " وهل استعاذ صلى الله عليه وسلم منه ،وهل ورد " ما أنه لا يؤلف تحت الأرض" ؟ .
فأجاب بقوله : المحفوظ " وخز أعدائكم " ولم يرد إخوانكم كما قاله الحافظ ولم ترد استعاذته صلى الله عليه وسلم منه بل دعا به وطلبه لأمته في حديث أبي يعلى؛ وأخرج أحمد عن معاذ " إن الطاعون شهادة ورحمة ودعوة نبيكم " قال أبو قلابة : فعرفت الشهادة ولم أدري ما دعوة نبيكم حتى أنبئت أن الرسول صلى الله عليه وسلم بينما هو " ذات ليلة يصلي إذ قال في دعائه : فحمى إذا أو طاعون ثلاث مرات ، فلما أصبح قال له إنسان من أهله : يا رسول الله قد سمعتك الليلة تدعو بدعاء . قال : وسمعته ؟ قال : نعم ، قال : إني س هل تموت الحور والولدان وزبانية النار ؟ت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة فأعطينيها ، وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا غيرهم فأعطانيها وسألته أن لا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض فأبى علي فقلت فحمى إذا أو طاعونا ثلاث مرات " . وأخرج أحمد وغيره حديث " اللهم اجعل فناء أمتي قتلا في سبيلك بالطعن أو الطاعون " . (1/363)
مطلب في أن جبريل يحضر الموتى
وسئل رضي الله عنه : عن لدرة الفاخرة هل هي موضوعة على الغزالي ، وما فيها من أن الشياطين يأتون المحتضر على صفة أبويه في زي يهود ونصارى حتى يعرضوا عليه كل ملة ليضلوه وهل يحضر جبريل المؤمن عند موته ؟ .
فأجاب بقوله : ليست موضوعة عليه فقد نسبها إليه الأكابر . نعم النسخ الموجودة منها الآن مشتملة على ألفاظ ركيكة وأشياء غير مستقيمة الإعراب ، والظاهر أن ذلك من تغير النساخ لكثرة تداول أيدي العوام(1/364)
<164>عليها ، وقد نقل الحافظ ابن حجر عنها ما ليس فيها فدل على تحريفها . قال الحافظ السيوطي : لم يرد ذلك بل ما يقرب منه وهو حديث أبي نعيم " أحضروا موتاكم ولقنوهم لا إله إلا الله وبشروهم بالجنة ، فإن الحليم من الرجال والنساء يتحير عند ذلك المصرع ، وإن الشيطان أقرب ما يكون من ابن آدم عند ذلك المصرع " . وفي مرسل جيد غلإسناد " أقرب ما يكون عدو الله من الإنسان ساعة طلوع روحه " . وأخرج الطبراني عن ميمونة بنت سعد قالت : " قلت يا رسول الله أينام الجنب ؟ قال : ما أحب أن ينام الجنب حتى يتوضأ إني أخاف أن يموت فلا يحضره جبريل " فدل هذا الحديث بمفهوهه على أن جبريل عليه الصلاة والسلام يحضر الموتى ، وعلى أن الجنابة مانعة احضوره دون الحدث الأصغر ، وفي حديث ضعيف جدا " أن جبريل قال لنبي صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته : هذا آخر وطأتي في الأرض " ولو صح لم يعارض نزوله بعد لأن المنفي نزوله بالوحي ، فقد صحت الأحاديث أنه ينزل ليلة القدر ، وعلى أنه ينزل على عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم به كما إقتضاه خبرمسلم .
وسئل نفع الله بعلومه : عن الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم " اللهم إني إتخذت عندك عهدا لا تخافينه فإنما أنا بشر فأي المؤمنين آذيته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له صلاة وزكتة و0قربة تقربه بها إليك يوم القيامة " وصح " أنه صلى الله عليه وسلم دفع إلى حفظة رجلا وقال : احتفظي به ، فغفلت عنه ومضى فقال لها صلى الله عليه وسلم : قطع الله يدك ففزعت ، فقال : إني سألت ربي تبارك وتعالى أيما إنسان من أمتي دعوت الله عليه أن أن يجعلها له مغفرة " وبين قوله " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فشق عليهم فاشقق اللهم عليه " فإنه بالنظر إلى الحديثين الأولين دعاء له فينافي المراد ؟ .
فأجاب بقوله : لا منافاة لأن الأولين في الدعاء بغير سبب والأخير دعاء بسبب . وأيضا فالأولان في دعاء على معين والأخير دعاء على مبهم ، وقد صرح ابن القاضي وإمام الحرمين بأن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يجوز له الدعاء على من شاء بغير سبب ، ويكون فيه من الفوائد ما أشار إليه في الحديثين الأولين .
وسئل نفع الله به : عن حديث " أذيبوا طعامكم بذكر الله والصلاة ، ولا تنام عليه تغفل قلوبكم " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : رواه الطبراني في الأوسط وابن السني .
وسئل نفع الله بعلومه : عن معنى قول الشيخ نجم الدين الكبير : إن الذكر يقطع لقيمات الحرام ؟ .
فأجاب بقوله : هو محمول على لقيمات يسيره كما أفاده التصغير ، يأكلها الإنسان في وقت غلبة الحرام على أهل الدنيا كما في زماننا هذا فإن ذلك يباح له شرعا ، وقد قال ابن عبد السلام وغيره : لو عم الحرام الدنيا جاز للمسلم أن يأكل منه قدر القوت كما يباح للمضطر أكل الميتة ، وفي معناه قيل : لو كانت الدنيا دما عبيطا لكان قزت الؤمن منها حلالا ، ومع إباحته شرعا لا يخلو عن إظلامه للقلب فالذكر ينوره بمحو تلك الظلمة ، كما أن الدواء يذهب الأخلاط المتولدة من الغذاء المذموم ويقطعها {إن الحسنات يذهبن السيئات} .
(1/365)
<165>
(1/366)
مطلب في قوله تعالىومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن
وسئل نفع الله به بما لفظه : روى البيهقي عن أبي الضحى عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن} قال : سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدمكم ونوح كنوحكم وإبرلااهيم كإبراهيمكم وعيسى كعيسكم ، ثم صحح سنده إلا أن أبا الضحى تفرد به عن ابن عباس وحينئذ فهل هؤلاء إنس أو غيرهم متعبد بمثل ما شرع لمثله ومقارن له في زمنه ؟ .
فأجاب بقوله : صححه الحاكم أيضا لكن ذكر البيهقي في الشعب أنه شاذ المتن بالمرة . قال الحافظ السيوطي : وهذا الكلام في غاية الحسن فإنهن لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن لاحتمال صحة الاسناد ويكون في المتن شذوذ أو علة تمنع صحته ، وإذا تبين ضعف الحديث أغنى ذلك عن تأويل لأن مثل هذا المقام لا تقبل فيه الأحاديث الضعيفة ، ويمكن أن يؤول على أن المراد بهم النذر الذين كانوا يبلغون الجن عن أنبياء البشر ، ولا يبعد أن يسمى كل منهم باسم النبي الذي بلغ عنه والله أعلم . (1/367)
مطلب ما الحكمة في خصوص أولاد فاطمة بالشرف دون غيرهم من بناته صلى الله عليه وسلم ؟
وسئل نفع الله بعلومه ، بما لفظه : أصلح الله السادة الأعلام القائمين بشريعة سيد الأنام صلى الله عليه وعلى آله الكرام نفعنا الله بهم وبسلفهم وبمشايخهم على الدوام آمين يا رب العالمين : ما الحكمة في خصوصية الشرف من ذرية سيدنا علي وفاطمة رضي الله عنهما دون سائر بنات النبي صلى الله عليه وسلم ؟ أجيبونا جوابا شافيا مفيدا مبسوطا يستفيد منه البليد ويتملى منه المستفيد ولكم على الله جزيل الثواب وحسن المآب لا عدمكم المسلمون ، ومما يتعلق بهذا السؤال إذا ادعى مدع أنه من عض فروع هذه الشجرة وأنه من العطرة المطهرة وليست له قرائن تدل على ذلك ، ولا دليل يدل على ما هنالك ، ومعنى القرائن المذكورة لزوم الآداب المرضية والأخلاق النبوية والأعراق الزكية والصفات المحمدية والتخلق بكل خلق حسن والتحلي بكل فعل جميل مدى الزمن ، والتحبب إلى جميع الخلق بما أمكن ، فهذه الصفات المحمودة في جميع العترة الطاهرة موجودة فإذا لم يوجد شيء من هذه الصفات وما ظهر إلا غيرها من العكوسات والوقوف مع الترهات والوقوع في أعراض أهل العلم وحملة القرآن والخوض فيما لا يجوز لكل إنسان ، والمعاندة لكل سالك ، والحسد المؤدي بصاحبه إلى المهالك ، والسعي بالكلام المزور بين الأحباب في الله بما لا يكون ولا يتصور ، وغير ذلك مما ليس يمكن ذكره ولا يحصر فهل يصدق المذكور وهذه صفاته أم كيف تتصور هذه النسبة وقد ظهرت مخالفاته ، وهل تسلم له هذه الدعوى ولم يقم لها سند ضعيف ولا قوي ؟ فبينوا لنا الجواب أعانكم الله على البر والتقوى فإن هذه البلوى في هذا الزمن قد عمت قطر اليمن وخبط فيها الناس خبط عشواء واتبعوا فيها الأهواء ولكم من الله الكريم جزيل ثوابه العظيم وحسن مآبه الجسيم ووابل عطائه العميم إته جواد كريم غفور رحيم ؟ .
فأجاب بقوله : الحكمة في ذلك والله أعلم ما اختصت به فاطمة رضوان الله عليها من المزايا الكثيرة على أخواتها : منها ما ورد أن الله زوجها لعلي كرم الله وجهه في السماء قبل أن يتزوجها في الأرض . ومنها تمييزها عليهن بأنها سيدة سناء أهل الجنة ، ومنها تمييزها عليهن بتسميتها بالزهراء إما لعدم كونها لا تحيض من غير علة فكانت كنساء الجنة وإمت كونها على ألوان نساء الجنة أو لغير ذلك ، فهذه المذكورات ونحوها مما امتازت(1/368)
<166>به من الفضائل لا يبعد أن تكون هي الحكمة من بقاء نسلها في العالم أمنا له من عموم الفتن والمحن كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بذلك بأنهم في ذلك كالقرآن بقوله " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي لن تضلوا ما استمسكتم بهما أبدا " وأما الشرف الناشئ عما فيهم من البضعة الكريمة فلا يختص بأولاد فاطمة ، فقد صرح المحققون أنه لو عاش نسل زينب من أبي العاص ، أو رقية وأم كلثوم من عثمان رضي الله عنهم لكان لهم من الشرف والسيادة كما لنسل فاطمة رضي الله عنها . ثم إذا تقرر ذلك فمن علمت نسبتهم إلى آل اللبيت النبوي والسرالعلي لا يخرجه عن ذ1لك عظيم جنايته ولا عدم ديانته وصيانته ، ومن ثم قال بعض المحققين : ما مثال الشريف الزاني أو الشارب أو السارق مثلا إذا أقمنا عليه الحد إلا كأمير أو سلطان تلطخت رجلاه بقذر فغسله عنهما بعض خدمته ، ولقد بر في هذ1ا المثال وحقق ، وليتأمل قول الناس في أمثالهم الولد العاق لا يحرم الميراث ، نعم الكفر إذا فرض وقوعه لأحد من أهل البيت والعياذ بالله هو الذي يقطع النسبة بين من وقع منه وبين شرفه صلى الله عليه وسلم ، وإنما قلت إن فرض لأنني أكاد أن أجزم حقيقة الكفر لا تقع ممن علم اتصال نسبه الصحيح بتلك البضعة الكريمة حاشاهم الله من ذلك ، وقد أحال بعضهم وقوع نحو الزنا والزاط ممن علم شرفه فما ظنك بالكفر هذا كله فيمن علم شؤرفه كما تقرر ، وأما من يشك في شرفه فإن ثبت نسبه بوجه شرعي وجب على كل أحد تعظيمه بما فيه من الشرف والإنكار على ما فيه من الخلال التي تنكر شرعا لما تقرر أنه لا يلزم من الشرف عدم الفسق ، وإن لم يثبت نسبه شرعا وادعاه ولم يعلم كذبه تعين التوقف عن تكذيبه لأن الناس مأمونون على أنسابهم فليسلم له حاله ، ولا ينبغي للإنسان أن يتحسى سما وهو قادر على السلامة ، وإذا كان المنسوبون لرجل صالح يتوقاهم الناس ويعظمونهم لأجل ذلك فما بالك بالمنسوبون لسيد الخلق كلهم صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وحشرنا في زمرة محبيه ومحبي آله وأصحابه آمين . (1/369)
مطلب هل تنام الملائكة وهل ورد " اللهم إني أسألك بنور وجهك " وهل يدفع الذكر البلاء كالصدقة
وسئل نفع الله به : هل تنام الملائكة ؟ .
فأجاب بقوله : ظاهر قوله تعالى {لايفترون} أنهم لا ينامون بالفعل ، وقد أخرج ابن عساكر أنه صلى الله عليه وسلم قال " إن الملائكة قالوا ربنا خلقتنا وخلقت بني آدم فجعلتهم يأكلون الطعام ويشربون الشراب ويلبسون الثياب ويأتون النساء ويركبون الدواب وينامون ويستريحون ، ولم تجعل لنا من ذلك شيئا فاجعل اللهم لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ فقال عز وجل : لا أجعل من خلقت بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان " وهذا الحديث من الأدلة الصحيحة على تفضيل جنس البشر على جنس الملك كما هو مذهب أهل السنة .
وسئل نفع الله به : هل ورد " اللهم إني أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض أن تجعلني في حرزك وحفظك وجوارك وتحت كنفك " ؟ .
فأجاب بقوله : أخرجه الطبراني عن ابن عناس رضي الله عنهما موقوفا عليه .
(1/370)
<167>
وسئل نفه الله به : هل يدفع الذكر البلاء كالصدقة ؟ .
فأجاب بقوله : نعم كما صرحت به الأحاديث التي لا تحصى في أذكار مخصوصة ، من قالها عصم من البلاء ومن الشيطان ومن الضرر ومن السم ومن لدغة العقرب ومن أن يصيبه شيئ يكرهه كما في أذكار النووي رحمه الله وغيره . (1/371)
مطلب على أن لا حول ولا قوة إلا بالله تدفع سبعين بابا من الضرر
وصح في " لا حول ولا قوة إلا بالله أنها تدفع سبعين بابا من الضرر أدناها الفقر " وفي رواية " أدناها الهم " وصح " لا يرد القدر إلا الدعاء . الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة " وأخرج أبو داود وغبره أنه صلى الله عليه وسلم قال " من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه الله من حيث لا يحتسب " .
وسئل نفع الله به : عن حديث " من قال أنا عالم فهو جاهل " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : هذا إنما يعرف على ضعف في سنده من كلام بعض صغار التابعين وهو يحيى ابن كثير ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . قال الحافظ : وهم على أن رافعه لم يجزم برفعه وأنه ضعيف مختلط فلا حجة في حديثه كما بينه الحافظ وأطالوا القول فيه ، فحديثه هذا في حكم الموضوع غير أنه لم يتعمد وضعه وإنما كان غلطا . (1/372)
مطلب " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار "
والحاصل أن الموضوع إما أن يتعمد وهذا شأن الكاذبين وإما لغير تعمد وهذا شأن المتهمين والمضطرين في الحديث كما حكم الحافظ بالوضع على حديث في سنن ابن ماجة " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " فإنهم أطبقوا على أنه موضوع ، وقد ثبت عن كثير من الصحابة ومن لا يحصى ممن بعدهم قول كلا منهم أنا عالم وما كانوا ليقعوا في شيئ ذمه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبلغ من ذلك قول نبي الله يوسف {إني حفيظ عليم} كما حكاه الله عنه . (1/373)
مطلب هل أولاد زينب بنت فاطمة الزهراء من ابن عمها عبد الله ابن جعفر يثبت لهم حكم أولاد أخويها الحسن والحسين
وسئل فسح الله في مدته : عن أولاد زينب بنت فاطمة الزهراء من ابن عمها عبد الله ابن جعفر رضي الله عنهم موجودون بكثرة ، فهل يثبت لهم حكم أولاد أخويها الحسن والحسين رضي الله عنهما ، وما الفرق مع أن من حصوصياته صلى الله عليه وسلم أن أولاد بناته ينسبون إليه ؟ .
فأجاب بقوله : من الواضح أن يثبت لهم حكمهم من كونهم آل البيت ومن ذريته صلى الله عليه وسلم وأولاده إجماعا ، ومع ذلك لا ينسبون إليه أخذا من فرق الفقهاء بين ولد الرجل ومن ينسب إليه في نحو وققت على أولادي فيدخل ولد البنت لأنه يسمى ولدا ، ونحو وقفت على من ينسب إلي فلا يدخل(1/374)
<168>لأنه لا ينسب لجده بل ينسب لأبيه ، والذي ذكروه أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن أولاد بناته ينسبون إليه ولم يذكروا ذلك في أولاد بنات بناته فالخصوصية للطبقة العليا فقط فأولاد فاطمة الأربع أم كلثوم زوجة عمر ولدت منه زيدا ورقية ثم تزوجت بعدهخ ولد عمها ابن جعفر فولدت له ثلاثة عون فمحمد فعبد الله ولم يلد لأحد منهم ، وزينب التي الكلام فيها والحسن والحسين فهؤلاء الأربعة ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأولاد الحسن والحسين ينسبون إليهما فينسبون إليه بخلاف أولاد زينب وأم كلثوم فإنهم إنما ينسبون إلى أبويهم عمر وعبد الله لا إلى الأم ولا إلى جدها عملا بقاعدة الشرع إن الولد يتبع أباه في النسب لا أمه ، وإنما خرج أولاد فاطمة وحدها خصوصية لهم وذلك مقصور على ذرية الحسن والحسين كما يدل له حديث الحاكم " لكل بني أم عصبة إلا بني قاطمة فأنا وليهما وعصبتهما " فخص الانتساب والتعصيب بهما دون أختيهما ولهذا جرى الخلف كالسلف على أن ابن الشريفة من غير شريف غير شريف ولو عمت الخصوصية أن كل ابن شريفة شريف تحرم عليه الصدقة وليس كذلك ، ولا يختص ذلك بالحسن والحسين إلا نحصار الأمر فيهما وإلا لو فرض إدخال زينب وأهقبت ذكرا كان مثلها وإن لم يكن أبوه شريفا هاشميا لأن الشرف لم يأت إليهما إلا من جهته صلى الله عليه وسلم لا غيره .
واعلم أن اسم الشريف كان يطلق في الصدر الأول ععلى من كان من أهل البيت ولو عباسيا أو عقيليا ، زمنه قول المؤرخ الشريف العباسي والشريف الزينبي ؛ فلما ولي الفاطميون بمصر قصروا الشرف على ذرية الحسن والحسين فقط واستمر ذلك إلى الآن . (1/375)
مطلب في أن العلامة الخضراء للأشراف حدثت سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة فلا يؤمر بها الشربف ولا ينهى عنها غيره
وأما العلامة الخضراء فلا أصل لها وإنما حدثت سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بأمر الملك شعبان ابن حسن ، وقال فيها الشعراء ما يطول ذكره ، ومنه قول ابن جابر الأندلسي شارح الألفية المشهور بالأعمى والبصير :
جعلوا لأبناء الرسول علامة إن العلامة شأن من لم يشهر
نور النبوة في وسيم وجوههم يغني الشريف عن الطراز الأخضر
فإذا كانت حادثة فلا يؤمر بها الشريف ولا ينهى عنها غيره على ما قاله الجلال السيوطي . قال : لأن الناس مضبوطون بأنسابهم وليس العلامة مما ورد بها الشرع فينبغي إباحة وضعها أقصى ما في الباب أنه حدث التمييز بها لهؤلاء وقد يستأنس لها لقوله تعالى {يهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} وقد استدل بها بعض العلماء على تخصيص أهل العلم بلباس يختصون به من تطويل الأكمام وإدارة الطيلسان ونحو ذلك ليعرفوا فيبجلوا تكريما للعلم ، وهذا وجه حسن انتهى . (1/376)
مطلب لا يدخل في الوقف على الأشراف غير أولاد الحسن والحسين
ولا يدخل غير ذرية الحسن والحسين في الوقف على الأشراف والوصية لهم لأن الوقف والوصة منوطان بعرف البلد وعرف مصر ونخوها اختصاصهم بذرية الحسن والحسين لا غير .
(1/377)
<169>
(1/378)
مطلب من تبسم في وجه غريب ضحك الله في وجهه
وسئل نفع الله به : عن حديث " من تبسم في وجه غريب ضحك الله في وجهه يوم القيامة " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : رواه الديلمي ، وروى أيضا " الغريب إذا مرض حين ينظر عن يمينه وعن شماله وعن أمامه وعن خلفه فلا يرى أحدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه " ورواه ان النجار ، وأخرجه الطبراني بزيادة " أن له بكل نفس تنفس يمحو الله عنه ألفي ألف سيئة ويكتب له ألفي ألف حسنة " لكن سنده متروك . (1/379)
مطلب " أن الإسلام بدا غريبا وسيعود كما بدا "
وسئل نفع الله بعلومه : أن الإسلام بدا غريبا وسيعود كما بدا إلا لا غربة على مؤمن ، ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {فما بكت عليهم السماء والأرض} وأعرض ، ثم قال : إنهما لا يبكيان على كافر " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله رواه ابن جرير ، وابن أبي الدنيا . (1/380)
مطلب التوكؤ على العصا من أخلاق الأنبياء
وسئل رضي الله عنه : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : التوكؤ على العصا من أخلاق الأنبياء ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوكأ عليها . من رواه ؟ .
فأجاب بقوله رواه ابن عدي ورواه الديلمي بسنده حديث " حمل العصا علامة المؤمن وسنة الأنبياء " وروى أيضا حديث " كانت الأنبياء يفتخرون بها تواضعا له عز وجل " وأخرج البزار والطبراني بسند ضعيف حديث " أنما أتخذ العصا فقد إتخذها أبي إبراهيم " وأخرج ابن ماجة : " خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوكئ على عصاه " . (1/381)
مطلب " ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ولا الآخرة للدنيا "
وسئل نفع الله به : عن حديث " ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ولا الآخرة للدنيا ولكن خيركم من أخذ من هذه لهذه " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : رواه ابن عساكر والديلي بلفظ " ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه حتى يصيب منها جميعا فإن الدنيا بلاغ إلى الآخرة ولا تكونوا كلا على الناس " وأخرجه الخطيب في تاريخه ، والديلمي من وجه آخر وأبو نعيم في الحلية . (1/382)
مطلب في اللوطية قبحهم الله
وسئل نفع الله به : عن حديث " من مات من أمتي وهو يعمل عمل قوم لوط نقله الله تعالى إليهم حتى يحشر معهم " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : رواه الخطيب في تاريخه وفيه رجل منكر الحديث ، لكن له شاهد أخرجه ابن عسادر عن وكيع قال : سمعنا حديث " من مات وهو يعمل عمل قوم لوط سار به قبره حتى يصير معهم ويحشر يوم القيامة معهم " .
(1/383)
<170>
وسئل نفع الله به : عن حديث " يمسخ اللوطي في قبره خنزيرا " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : رواه أبو الفتح الأزدي في كتاب ( الضعفاء ) وابن الجوزي من طريق بسند وا هـ .
وسئل رضي الله عنه : عن حديث " أطعمني جبريل الهريسة أشد بها ظهري لقيام الليل " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : رواه ابن السني وأبو نعيم والخطيب بسند فيه كذاب ، ومن ثم أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات . (1/384)
مطلب فيما ورد في الزبيب
وسئل عفا الله عنه : عن حديث " نعم الطعام الزبيب يشد العصب ويذهب الوصب ويطفئ الغضب ويذهب البلغم ويصفي اللون ويطيب النكهة " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : أخرجه ابن السني وأبو نعيم وابن خبان في الضعفاء والخطيب في سنده متروك ، قال ابن حبان : لا أدري البلية منه أو من أبيه أو من جده ؟ . (1/385)
مطلب في حديث " ما للنفساء عندي شفاء مثل الرطب ولا للمريض مثل العسل "
وسئل نفع الله به وبعلومه : عن حديث " ما للنفساء عندي شفاء مثل الرطب ولا للمريض مثل العسل " من أخرجه ؟ .
فأجاب : أخرجه أبو نعيم بسند فيه متروك .
وسئل نفع الله به : عن حديث أطعموا نسائكم في نفاسهن التمر فإن من كان طعامها في نفاها التمر كان ولدها حليما " من رواه ؟ . فأجاب بقوله : رواه ابن عبد الله ابن منذر بسند فيه كذاب ، ومن ثم أورده ابن الجوزي في الموضوعات .
وسئل نفع الله به : عن حديث " أطعما حبلاكم اللبان فإن يكن في بطنها ذكر يكن ذكي القلب وإن تكن أنثى حسن خلقها وتعظم عجيزتها " من أخرجه ؟ .
فأجاب بقوله : أخرجه أبو نعيم في الطب . (1/386)
مطلب في السفرجل
وسئل نفع الله به : عن حديث أبي طلحة " دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده سفرجلة ، فرمى بها إلى وقال : دونكها أبا محمد فإنها تجم الفؤاد " وفي لفظ " فإنها تشد القلب وتطيب النفس وتذهب بطخاء البدن " من أخرجه ؟ .
فأجاب بقوله : أخرجه الطبراني والحاكم وأبو نعيم ، وأخرج ابن السني وأبو نعيم " أهديت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم سفرجلة من الطائف فأكلها وقال : كلوه فإنه يجلو عن الفؤاد ويذهب طخاء الصدر " وفي رواية " فإنه على الريق يذهب وغر الصدر " .
وسئل نفع الله به : عن حديث " في المخضوب أنه لا يسئل لأن نور الإسلام عليه " من رواه ؟ .
(1/387)
<171>فأجاب بقوله : هو موضوع .
وسئل نفع الله به : عن حديث " إن الرجل ليكون من أهل الصلاة والصيام ولا يجزى إلا على قدر عقله " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : رواه جماعة بسند ضعيف . (1/388)
مطلب في حديث " من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار "
وسئل نفع الله به : عن حديث " من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار "من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : رواه كثيرون وصححه الضياء في المختارة ، وفي رواية " يصب عليه العذاب " وفي أخرى " يصوب رأسه في النار " وفي أخرى " من قطع السدر إلا من زرع يصب عليه العذاب صبا " وفي أخرى " خرج فأذن في الناس من الله لا من رسوله لعن الله قاطع السدر " وفي رواية " أن ذلك كان في مرضه صلى الله عليه وسلم الذي مات فيه " والأحاديث في ذلك كثيرة وهي مؤولة عند العلماء لإجماعهم على جواز قطعه . ++ قال بعض السلف : محلها سدر الحرم ، وقال أبو داود في قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السيل والبهائم عبثا وظلما بغير حق له فيها ، ويؤيده أن الشافعي رضي الله عنه سءئل عن قطعه فقال : لا بأس به ، وأن عروة ابن الزبير راوي الحديث كان يقطعه من أرضه ، وحمله آخرون على سدر يتيم أو نحوه مما قطع ظلما أو عدوانا ورجح التأويل الأول أعني حمله على سدر الحرم بأنه وقع في رواية الطبراني . (1/389)
مطلب في جيب النبي صلى الله عليه وسلم كان على أي كيفية
وسئل نفع الله به : عن جيب قميص انبي صلى الله عليه وسلم كان عاى أي كيفية هل هو على صورته المعتادة بمصر ونحوها أو على كتفيه كما يفعله المغاربة ورجح بأنه السنة وأن الأول شعار اليهود .
فأجاب بقوله : الذي صرح به في فتح الباري وتبعه الجلال السيوطي هو الأول فإن البخاري قال : باب جيب القميص من عند الصدر وغيره ، وأورد فيه حديث الجيبين في مثل المتصدق والبخيل ، وفيه يقول بإصبعه هكذا في جيبه . قال في فتح الباري : الظاهر أنه كان لابس قميص وكان في طوقه فتحة في صدره ، قال : بل استدل به ابن بطال على أن الجيب في ثياب السلف كان عند الصدر . قال : وموضع الدلالة منه أن البخيل إذا أراد أن يخرج يده ضاقعليها وهو الثدي والتراقي وذلك في الصدر قال فبان أن جيبه كان في صدره لأنه لو كان في غيره لم تضطر يداه إلى ثديه وتراقيه . قال الحافظ ابن حجر : وفي حديث قرة ابن إياس وسنده صحيح لما بايع صلى الله عليه وسلم قال : فأدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم ، ما يقتضي أن جيبه كان في صدره لأن في أول الحديث أنه رآه مطلق القميص أو غير مزرر انتهى .وفي حدبيث الطبراني " أنه نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا إزاره محلولة فزرها صلى الله عليه وسلم بيده ثم قال اجمع عطفي ردائك على نحرك "وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن سعيد ابن جبير في قوله تعالى {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} يعني على النحر والصدر فلا يرى منه شيئ ، وهذان يدلان على ما مر أيضا ، ويدل له أيضا الحديث الصحيح عن سلمة ابن الأكوع قال " يا رسول أصيد فأصلي في ثوب واحد . قال : نعم ، وأزرره ولو بشوكة " وزعم أن ذلك شعار اليهود ليس في محله ، وقد قال الجلال السيوطي : لم أقف في كلام أحد من العلماء على ذلك .
(1/390)
<172>
وسئل رضي الله عنه :عن حديث " يا علي سألت الله أن يقدمك أبى إلا أبا بكر " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : رواه جماعة بسند ضعيف . (1/391)
مطلب في حديث " مر رجل فقالوا مجنون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم المجنون المقيم على معصيته "
وسئل نفع الله به : عن حديث " مر رجل فقالوا مجنون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم المجنون المقيم على معصيته ولكن قولوا مصاب من " من أخرجه ؟ .
فأجاب أخرجه عامر في فوائده ، وأبو بكر الشافعي في الغيلانيات .
وسئل رضي الله عنه : عن حديث " إن الله يوكل بآكل الخل ملكين يستغفران له حتى يفرغ " من أخرحه ؟ .
فأجاب : أخرجه ابن عساكر والديلمي وفيه مدلس . (1/392)
مطلب " وعليكم بالبياض فإن الله خلق الجنة بيضاء "
وسئل نفع الله بعلومه : بما لفظه " استوصوا بالمعز خيرا فإنها مال رقيق وهي في الجنة ، وأحب المال إلى الله الضأن ، وعليكم بالبياض فإن الله خلق الجنة بيضاء فليلبسه خياركم وكفنوا فيه موتاكم ، وإن دم الشاة البيضاء أعظم عند الله من دم السوداء " من رواه .
فأجاب بقوله رواه الطبراني . (1/393)
مطلب في حديث " من عمل في فرقة بين امأة وزوجها كان في غضب الله ولعنته "
وسئل نفع الله به : عن حديث "" من عمل في فرقة بين امأة وزوجها كان في غضب الله ولعنته في الدنيا والآخرة ، وكان حقا على الله أن يضربه بصخرة من نار جهنم إلا أن يتوب " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : رواه الدارقطني في الإفراد . (1/394)
مطلب في حديث " أنا مدينة العلم وعلي بابها "
وسئل نفع الله به : عن حديث " أنا مدينة العلم وعلي بابها " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : رواه جماعة ، وصححه الحاكم ، وحسنه الحافظان العلائي وابن حجر . (1/395)
مطلب في جملة من الأحاديث الموضوعة المكذوبة
وسئل نفع الله به : عن حديث " إن الله لينظر إلى الغريب كل يوم ألف نظرة " وحديث " ارحموا اليتامى وأكرموا الغرباء فإني كنت في الصغر يتيما وفي الكبر غريبا " وحديث " مسئلة الناس من الفواحش " وحديث " اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلقك " وحديث " من خرج في سفر ومعه عصا أمنه الله من كل سبع ضار الخ ، ومن بلغ أربعين سنة عد له ذلك من الكبر والعجب " وحديث " يؤتى يوم القيامة بأطفال ليس لهم رءوس ، فيقول الله تعالى لهم : من أنتم ؟ فيقولون : نحن المظلومون ، فيقول : من ظلمكم ؟ فيقولون :(1/396)
<173>أباؤنا كانوا يأتون الذكران من العالمين فألقونا في الأدبار ، فبقول الله : سوقوهم إلى النار ، واكتبوا على جباههم آيسين من رحمة الله " وحديث " من مشى في تزويج امرأة حلالا يجمع بينهما رزقه الله تعالى امرأة من الحور العين " الحديث بطوله ، وحديث " إذا غسلت المرأة ثياب زوجها كتب الله لها ألفي حسنة ، وغفر لها ألفي سيئة ، واستغفر لها كل شيئ طلعت عليه الشمس ، ورفع لها ألفي درجة . وقالت عائشة رضي الله عنها : " ضرس مغزل امرأة يعدل التكبير في سبيل الله والتكبير في سبيل أثقل من السموات والأرض ، وأيما امرأة كست زوجها من غزلها كان لها بكل سدي ولحمة مائة ألف حسنة " وحديث " من اشترى لعياله شيئا ثم حمله بيده إليهم حط الله عنه ذنب سبعين سنة " وحديث " من فرح أنثى فكأنما بكى من خشية الله " وحديث " البيت الذي فيه بنات ينزل فيه كل يوم اثنتا عشرة رحمة من السماء ولا تقطع زيارة الملائكة من ذلك البيت يكتبون لأبويها كل يوم وليلة عبادة سنة " وحديث " عليكم بأكل التلس فإنه يقطع عرق الجذام ألا وهو التين " وحديث " سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم إبليس عن ضجيعه فقال السكران ، وعن جليسه فقال الذي يؤخر الصلاة عن وقتها ، وعن صفيه فقال السارق ، وعن أنيسه فقال الشاعر الخ " وحديث جبريل " أن اللع لما خلق آدم وأدخل الروح في جسده أمرني أن أن آخذ تفاحة وأعصرها في حلقه فعصرتها فخلقك الله يا محمد من القطرة الأولى وخاق من الثاتية أبا بكر الخ وحديث أول من جذع من الشيب إبراهيم حين رآه في عارضه فقال : يا رب ما هذه الشوهة التي شوهت خليلك : فأوحى الله تعالى إليه : هذا سربال الوقار ونور الإسلام ، وعزتي جلالي ما ألبسته أحدا من خلقي يشهد أن لا أله إلا أنا وحدي لا شرؤيك لي إلا استحيت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا وأنشر له ديوانا وأعذبه في النار ، فقال : يارب زدني وقارا فأصبح ورأسه مث الغمامة البيضاء " وحديث " اختضبوا فإن الملائكة يستبشرون بخضاب المؤمن " وحديث " من أمر المشط على حاجبه عوفي من البلاء " وحديث " عليكم بالمشط فإنه يذهب الفقر ، ومن سرح لحيته حين يصبح كانت له أمانا حتى يمسي لأن اللحية زينة الرجال وجمال الوجه " وحديث " لكل شيئ آلة وآلة المؤمن العقل ولكل شيئ دعامة ودعامة المؤمن العقل ولكل قوم غاية وغاية العباد العقل الخ " وحديث " من أكل اليقطين بالعدس رق قلبه " وحديث " إن لله مدينة تحت العرش من مسك أذفر على بابها ملك ينادي كل يوم ألا من زار عالما فقد زار الرب ومن زار الرب فله الجنة " وحديث " من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين الخ " وحديث " من خاض في العلم يوم الجمعة فكأنما أعتق سيعين ألف رقبة وتصدق بألف دينار وكأنما حج أربعين ألف حجة " وحديث العباس " أنه أحدق النظر إلى رسول اللع صلى الله عليه وسلم فقال هل من حاجة ؟ فقال لما أرضعتك حليمة وأنت ابن أربعين يوما رأيتك تخاطب القمر ويخاطبك بلغة لم أفهمها " الحديث بطوله ، وأحاديث الورد الأحمر ، وحديث " كل شيئ أخرجته الأرض فيه شفاء وداء إلا الأرز فإنه شفاء لا داء فيه " وحديث " ما صب الله في صدري شيئا إلا صببته في صدر أبي بكر " وحديث " أطعم صلى الله عليه وسلم أصحابه لقمة لقمة وقال سيد القوم خادمهم " وحديث " رأيت حمزة وجعفر ابن أبي طالب في المنام وكان في أيديهما طبق فيه نبق كالزبرجد الخ " وحديث مروره صلى الله عليه وسلم بعزرائيل وقوله " إن الله أمرني بقبض أرواح الخق ما خلا روحك وروح ابن عمك علي " وحديث " ألقى طائر لوزة خضراء مكتوبا عليها بالأصفر لا إله إلا الله محمد رسول الله نصرته بعلي " وحديث " يا علي تختم بالعقيق الأحمر فإنه جبل أقر لله بالوحدانية ولي بالنبوة ولك بالوصية ولأولادك بالإمامة ولمحبك بالجنة "
(1/397)
<174>
وحديث " نزول جبريل بطبق تفاح وأنه صلى الله عليه وسلم فرقه على أصحابه ومكتوب على كل اسم من يعطى له " وحديث " تزويج علي بفاطمة رضي الله عنهما بكيفيات من غجتماع الملائكة ونثر شجرة طوبى عليهم الدر والياقوت وتزخرف الجنان وتزين الحور ونزول الملائكة ورقص الحور وغناء الطيور " .
فأجاب بقوله : هذه الأحاديث كلها كذب وموضوعة لا يحمل رواية شيئ منها إلا لبيان أنها كذب مفترى على انبي صلى الله عليه وسلم كما أفاد ذلك الحافظ السيوطي شكر الله سعيه . (1/398)
مطلب في أن الزامر يأتي يوم القيامة بمزماره والسكران يأتي بقدحه وأن المؤذن يأتي يؤذن الخ
وسئل رضي الله عنه : هل جاء أن الزامر يأتي يوم القيامة بمزماره والسكران يأتي بقدحه وأن المؤذن يأتي يؤذن ، هكذا كل من مات على شيئ يأتي عليه ؟ .
فأجاب بقوله : نعم ورد ما يقتضي ذلك ، وورد التصريح به بأفراد منه ونص عليه العلماء ، وأخرج مسلم " يبعث كل عبد على ما مات عليه " والبيهقي " من مات على مرتبة منمن هذه المراتب بعث عليها يوم القيامة " وعليه حمل العلماء خبر " يبعث الميت في ثيابه التي مات فيها " أي في أعماله التي يموت عليها من خير أو شر ، وصح " إن المجروح في سبيل الله يأتي يوم القيامة وجرحه يشغب دما ، وإن الميت محرما يبعث ملبيا " وورد بسند ضعيف لكن له شواهد " أن الملبين والمؤذنين يخرجون من قبورهم يؤذن المؤذن ويلبي الملبي " وبسند واهـ " من فارق الدنيا وهو سكران دخل قبره سكران وبعث من قبره سكران " وفي ( كشف علوم الآخرة ) للغزالي : يبعث السكران سكران يوم القيامة ، والزامر زامر ، وشارب الخمر والكوز معلق في عنقه ، وكل أحد على الحال الذي صده في الدنيا عن سبيل الله . قال الحافظ السيوطي عد ذكره جميع ما مر : وفي هذا الكلام إشارة إلى تخصيص الحديث السابق بأن الحالة التي يأتي عليها في الآخرة مما كان عليه في الدنيا المراد بها حالة الطاعة أو المعصية بخلاف المباحات فلا يأتي النجار بآلته والبناء ونحو ذلك إلا إن استعملوها فيما لا يجوز شرعا ، والله أعلم . (1/399)
مطلب في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالىحور عين
وسئل نفع الله به : ما معنى حديث الطبراني عن أم سلمة رضي الله عنها " قلت : يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى {حور عين} ؟ قال : حور بيض ضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر " .
فأجاب بقوله : الشفر بالفاء مضاف للحوراء وهو هدب العين مشبه بجناح النسر في الطول المناسب ذلك لضخامة العيون ، ويؤيده رواية ابن أبي الدنيا " سفر المرأة من الحور العين أطول من جناح النسر وصحف ذلك بعضهم فقال : إنه بالقاف والحوراء بالرفع وزعم أنه استعارة يعني أن الحوراء بمنزلة جناح النسر في السرعة والطيران والخفة ، وهو مع كونه تصحيفا لا يلائم المقام .
(1/400)
<175>
(1/401)
مطلب ما معنى ذبح الموت الخ
وسئل نفع الله به : ما معنى " ذبح الموت إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار " مع أنه عرض عندنا أو عدم محض عند المعتزلة وعليهما فهو لا يمكن أن يكون جسما ؟ .
فأجاب بقوله : نظر لذلك طائفة ضعفاء العقول فأنكروا لذلك الحديث ، وأجاب المحققون على ذلك بأن هذا من باب التمثيل البليغ ، وبأنه يجوز أن يخلق اللهخ تعالى هذا الجسم ثم يذبح ثم يجعل مثالا لأن الموت لا يطرأعلى أهل الجنة . قال القرطبي : يجوز أن الله يخلق كبشا يسميه الموت ويلقي في قلوب الفريقين أن هذا الموت يكون ذبحه دليلا على الخلود في الدارين . وقال غيره : لا مانع أن ينشئ الله من الأعراض أجساما يجعلها مادة لها كما ثبت في حديث مسلم " إن البقرة وآل عمران تجيئان كأنهما غمامتان " ونحو ذلك من الأحاديث ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/402)
مطلب في فرح أهل الجنة بذبح الموت
وسئل نفع الله به : عم معنى " فرح أهل الجنة بذبح الموت " مع علمهم من أنبيائهم وكتبهم أنهم لا يموتون ؟ .
فأجاب بقوله : ورد في بعض طرق الحديث عند ابن حبان أنهم يطلعون خائفين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه ، وفسر بأنه خوف توهم لا يستقر ، ولا ينافي ذلك تقدم علمهم بأنه لا موت في الآخرة لأن التوهمات تطرأ على المعلومات ثم لا تستقر فكان بذلك فرحهم . وأجيب أيضا بأن عين اليقين أقوى من علم اليقين فمشاهدتهم ذبح الموت أقوى وأشد في انتفائه من تقدم علمهم إذ العيان أقوى من الخبر . (1/403)
مطلب هل معمر المغربي ورتن الهندي من الصحابة أم لا ؟
وسئل نفع الله بغعلومه : عن معمر المغربي ورتن الهندي المدعيين أنهما من الصحابة هل لذلك صحة ؟ .
فأجاب قوله : لا صحة لذلك كما بينته أئمة الحديث منهم الذهبي في الميزان وشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في الإصابة وأفتى به غير مرة ، وقد ذكر أهل الحديث وغيرهم أن من ادعي الصحبة بعد مضي مائة سنة من وفاته صلى الله عليه وسلم فهو كاذب ، وأن آخر الصحابة موتا كما في مسلم واتفق عليه العلماء أبو طفيل مات سنة عشرة ومائة من الهجرة . (1/404)
مطلب ما ورد في حق إبراهيم ابن نبينا صلى الله عليه وسلم
وسئل نفع الله به وبعلومه : عما وقع في تهذيب النووي : وأما ما روي عن بعض المتقدمين لو عاش إبراهيم لكان نبيا فباطل ، وجسارة على الكلام على المغيبات ، ومجازفة وهجوم على عظيم فهل ما قاله صحيح ؟ .
فأجاب بقوله : قد تعجب منا شيخ الإسلام في الإصابة وقال : إنه ورد عن ثلاث من الصحابة ولا يظن بالصحابي أنه هجم على مثل هذا بظنه ، وبين الحافظ السيوطي أنه صح عن أنس رضي الله عنه " أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ابنه إبراهيم قال : لا أدري رحمة الله على إبراهيم لو عاش لكان(1/405)
<176>صديقا نبيا " وفي رواية عن أنس أنه رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ورواه ابن منده والبيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ورواخ ابن عساكر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأخرج أيضا وقال فيه من ليس بالقوى عن علي ابن أبي طالب " لما توفى إبراهيم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلي أمه مارية فجاءته وغسلته وكفنته وخرج به وخرج الناس معه فدفنه ، وأدخل النبي صلى الله عليه وسلم يده في قبره فقال : أما واله إنه انبي ابن نبي وبكى وبكى المسلمون حوله ختى ارتفع الصوت ، ثم قال صلى الله عليه وسلم تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يغضب الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون " ، وروى أبو داود " أنه مات وعمره ثمانية عشر شهرا فلم يصل عليه صلى الله عليه وسلم " صححه ابن حزم . قال الزركشي : اعتل من سلم ترك الصلاة عليه بعلل : منها : أنه استغنى بفضيلة أبيه عن الصلاة كما استغنى الشهيد بفضيلة الشهادة ، ومنها أنه لا يصلي نبي على نبي ، وقد جاء " لو عاش كان نبي ابن نبي " انتهى . ولا بعد في إثبات النبوة له مع صغره لأنه كعيسى القائل يوم ولد {إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا} وكيحيى الذي قال تعالى فيه {وآتيناه الحكم صبيا} قال المفسرون نبي وعمره ثلاث سنين واحتمال نزول جبريل بوحي لعبسى أو يحيى يجري في إبراهيم ، ويرجحه أنه صلى الله عليه وسلم صومه يوم عاشوراء وعمره ثمانية أشهر ، وذكر السبكي في حديث " كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد " إن الإشارة بذلك إلى روحه لأن الأرواح خلقت قبل الأجساد أو إلى حقيقته والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها ، ثم إن تلك الحقائق يؤتي الله كل حقيقة منها ما يشاء في الوقت الذي يشاء ، فحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم قد تكون من قبل آدم آتاها الله ذلك بأن يكون خلفها الله مهيئة له وأفاضه عليها من ذلك الوقت فصار نبيا اهـ . وبه يعلم تحقيق نبوة سيدنا إبراهيم في حال صغره . (1/406)
مطلب في أن الحسن البصري سمع من علي عللاى الصحيح
وسئل نفع الله بعلوه : هل سمع الحسن البصريمن كلام علي كرم الله وجهه حتى يتم السادة الصوفية سند خرقتهم وتلقينهم الذكر المروي عنه عن علي كرم الله وجهه ؟ .
فأجاب بقوله : اختلف الناس فيه فأنكره الأكثرون وأثبته جماعة . قال الحافظ السيوطي : وهو الراجح عندي كالحافظ ضياء الدين المقدسي في المختارة ، والحافظ شيخ الإسلام ابن حجر في أطراف المختارة لوجوه : الأول : أن المثبت مقدم على المنفي . الثاني : أنه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر وميز لسبع وأمربالصلاة فكان يحضر الجماعة ويصلي خلف عثمان إلى أن قتل وعلي إذ ذاك بالمدينة يحضر الجماعة كل فرض ولم يخرج منها إلابعد قتل عثمان وسن الحسن إذ ذاك أربع عشرة سنة فكيف ينكر سماعه منه مع ذلك وهو يجتمع معه كل يوم بالمسجد خمس مرات مدة سبع سنين ، ومن ثم قال علي ابن المديني : رأى الحسن عليا بالمدينة وهو غلام ، وزيادة على ذلك أن عليا كان يزور أمهات المؤمنين ومنهن أم سلمة والحسن في بيتها هو وأمه حبر إذ هي مولاة لها ، وكانت أم سلمة رضي الله عنها تخرجه إلى الصحابة يباركون عليه ، وأخرجته إلى عمر رضي الله عنه فدعا له : اللهم فقه في الدين وعلمه وحببه إلى الناس ذكره المزي وأسنده العسكري . وقد أورد المزي في التهذيب من طريق أبي نعيم أنه سئل عن قوله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدركه ، فقال كل شيئ قلته فيه فهو عن علي غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر عليا : أي زمان الحجاج ، ثم ذكر الحافظ أحاديث كثيرة وقعت له من رواية الحسن عن علي كرم الله وجهه ، وفي بعضها ورجاله ثقات قول الحسن سمعت عليا يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثل أمتي مثل المطر " الحديث .
(1/407)
<177>
(1/408)
مطلب في " أنه لما حفر الخندق ظهرت صخرة عجز الصحابة عن كسرها فضريها النبي صلى الله عليه وسلم فلانت وتفتت "
وسئل نفع الله به : هل ورد " أنه صلى الله عليه وسلم أنه لما حفر الخندق ظهرت صخرة عجزوا عن كسرها فضريها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلانت وتفتت ، وأن سيدنا إبراهيم أثرت قدماه في مقامه الموجود الآن ؟ .
فأجاب بقوله الأول ورد من طرق صحيحة ،والثاني صح عن ابن سلام موقوفا عليه .
وسئل نفع الله به ورصي عنه : هل ورد " أنه صلى الله عليه وسلم لان له الصخر وأثرت قدماه فيه وأنه كان إذا مشى على التراب لا يؤثر قدمه الشريف فيه ، وأنه لما صعد صخرة بيت المقدس ليلة المعراج اضطربت تحته ولانت فأمسكتها الملائكة وأن الأثر الموحود الآن بها أثر قدمه صلى الله عليه وسلم ، وأنه لم يعطى نبي معجزة إلا وقد أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم مثلها أو واحد من أمته ، وأنه لما جاء إلى بيت أبي بكر بمكة ووقف ينتظره ألصق منكبه ومرفقه فغاص المرفق في الحجر وأثر فيه وبه سمي الزقاق في مكة زقاق المرفق وأن الصخر لان له وأثر قدمه فيه " ؟ .
فأجاب بقوله : قال الحافظ السيوطي : لما سئل عن ذلك كله قال : لم أقف له على أصل ولا سند ولا رأيت من خرجه في كتب الحديث انتهى . نعم صح أنه صلى الله عليه وسلم قال " إني لأعرف حجر كان يسلم علي بمكة "وقد تطابق السلف والخلف على أنه الحجر البارز ىلآن بالزقاق المذكور . والتحقيق أنه لم يعطى نبي معجزة إلا أعطى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثلها أو أعظم منها . (1/409)
مطلب خصوصية هذه الأمة بوصفهم بالإسلام
وسئل نفع الله به بما لفظه : اختاف العلماء هل يطلق الإسلام على سائر الملل السابقة حين حقيقتها أو يختص بهذه الأمة فما الراجح في ذلك ؟ .
فأجاب بقوله : رجح ابن الصلاح الأول ، وسيأتي ما يصرح به من لفظ القرآن ، ورجح غيره الثاني وهو أنه لا يوصف به أحد من الأمم السلبقة سوى الأنبياء فقط ، وشرفت هذه الأمة بأن وصفت بما يوصف به الأنبياء تشريفا لها وتكريما ، واستدل الحافظ السيوطي على رجحان الثاني بأمرر مبسوطة حاصل الأمثل منها أمور :
منها قوله تعالى {هو سماكم المسلمين} واختلف في ضمير هو هل هو لله أو لإبراهيم على قولين ، وقوله {سماكم المسلمين} لو لم يكن خاص بهم كالذي ذكر قبله لم يكن لتخصيصه بالذكر ولا لاقترانه بما قبله معنى وهذا هو الذي عليه السلف من الأئمة ، فقد صح عن ابن زيد أحد أئمة السلف في التفسير ومن أتباع التابعين أنه قال : لم يذكر اللع بالإسلام غير هذه الأمة ولم يسمع بأمة ذكرت بالإسلام غيرها . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {هو سماكم المسلمين من قبل} قال الله عز وجل {هو سماكم المسلمين من قبل}وأخرجا عن مجاهد وقتادة مثله ، وأخرجه عبد ابن حميد وابن المنذر عن سفيان ابن عيينة ، وأخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان .
(1/410)
<178>
وحاصل هذه الأثار عن هؤلاء الذين هم أئمة الدين والسلف المفسرين من الصحابة والتابعين وأتباعهم أن الله سمى هذه الأمة مسلمين في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ وفي التوراة والإتجيل وسائر كتبه المنزلة وفي القرآن ، وأنه اختصهم بهذا الإسم من دون سائر الأمم ، ويصح رجوع ضمير هو لإبراهيم كما قاله ابن أبي زيد لقوله {ربنا واجعلنا مسلمين لك من ذريتنا أمة مسلمة لك} دعا بذلك لنفسه ولولده وهما نبيان ثم دعا لأمة من ذريته وهي هذه الأمة ولهذا عقبه ب{ربنا وابعث فيهم رسولا منهم} الخ مهو نبينا إجماعا فأجاب الله دعاءه بالأأمرين ببعث محمد صلى الله عليه وسلم منهم وبتسميتهم مسلمين ، ولهذا أشار تعالى إلى أن إبراهيم هو السبب في ذلك بقوله {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين} .
ومنها فقوله تعالى {ورضيت لكم الإسام دينا} هو ظاهر في الإختصاص بهم لأن تقديمه يستلزمه ، ويفيد أنه لم يرضه لغيرهم كما يقتضيه كلام أهل البيان .
ومنها : ما في حديث إسحق ابن رهويه وابن أبي شيبة " أنه صلى الله عليه وسلم قال ليهودي حاف والله ما اصطفى الله محمدا على البشر ، : بل يا يهودي تسمى الله باسمين سمى بهما أمتي هو السلام وسمى أمتي بها المسلمين " الحديث ، وهو صريح في اختصاص أمته بوصف الإسلام وإلا لقال اليهودي ونحن أيضا كذلك ، وفي حديث النسائي وغيره " من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من خبء جهنم . قال رجل يارسول الله وإن صام وصلى ؟ قال نعم ، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين ، والمؤمنين عباد الله " . (1/411)
مطلب في أنه يجوز المكث في المسجد مع الجنابة لجماعة مخصوصين
وأخرج أبو نعيم عن وهب قال : أوحى الله إلى شعيب إني باعث نبيا أميا مولده مولده بمكة إلى أن قال والإسلام ملته وأحمد اسمه ، ولا يعارض ذلك قوله تعالى {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} لما مر أن وصف الإسلام يطلق على الأنبياء أيضا والبيت المذكور بيت لوط صلى الله على نبينا وعليه وسلم ولم يكن فيه مسلم إلا هو وبناته فأطلق عليه أصالة وعليهن تغليبا أو تبعا تشريفا لهم ، إذ قد يختص أولاد الأنبياء بأشياء لا يشاركهم فيهل بقية الأمم ، كما اختص سيدنا إبراهيم ابن نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه لو عاش كان نبيا ، وكما اختصت فاطمة بأنها لا يتزوج عليها وبأنها تمكث في المسجد مع الحيض والجنابة وكذلك أمنهات المؤمنين ، وكذا علي والحسن والحسين رضي الله عنهم اختصوا بجواز المكث في المسجد معالجنابة كل ذلك تبع له صلى الله عليه وسلم ، وكذلك قوله تعالى عنم أولاىد يعقوب {ونحن له مسلمون} إما على سبيل التبعية إن لم يكونوا أنبياء وإلا فواضح ، وكذلك قوله تعالى {وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم باله فعليه توكاوا إن كنتم مسلمين} إما أن يكون على التغليب فإن فيهم هرون ويوشع وهما نبيان فأدرج بقية القوم في الوصف تغليبا ، أو يحمل على أن المراد إن كنتم منقادين لي فيما آمركم به ، وكذلك قوله تعالى {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} فهو من قول إبراهيم لبنيه ويعقوب لبنيه وفي بني كل الأنبياء فوقع تغليبا وكذلك قوله تعالى {وإذ أوحيت إلى الحوارين أن أمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} فإن الحواريين فيهم الأنبياء الثلاثة المذكورون في قوله تعالى {إذ حاءهم المرسلون} الآية ، نص العلماء على أنهم من حواري عيسى وأحد قولي العلماء أن الثلاثة أنبياء ويرشحه ذكر الوحي إليهم ، ولا يؤيد(1/412)
<179>القول المرجوح آية {سرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} الخ ،خلافا لمن وهم فيه لأن المراد استواء الشرائع كلها في أصل التوحيد ، وليس الإسلام اسما للتوحيد فقط بل لمجموع الشريعة بفروعها وأعمالها ، على أن محل النزاع إنما هو في أمر لفظي هو أن تلك الشرائع هل تسمى إسلام أو لا ؟ والراجح لا ، بناء على أن الإطلاق يتوقف على الورود ولم يرد في شيئ من الشرائع تسميته إسلاما من غير تغليب أو تبعية لنبي ، فلا يطلق عليه كما لا يطلق على شيئ من الكتب أنه قرآن ، ولا على شيئ من أواخر آي القرآن أنه سجع بل فواصل وقوفا مع ما ورد كما قال النووي . لا يقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم عز وجل وإن كان عزيزا جليلا ، وعلى الراجح فوجه الاختصاص بهذا الاسم هو أن الإسلام اسم للشريعة المشتملة على فواضل العبادات المختصة بهذه الأمة من الصلوات الخمس وصوم رمضان والغسل من الجنابة والجهاد ونحوها كما أفاده حديث جبريل قال : " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤتي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت " وفي رواية : " وتغتسل من الجنابة " وذلك خاص بهذه الأمة كما تقرر لم يكتب على غيرها من الأمم ، وإنما كتب على الأنبياء فقط كما جاء في أثر وهب " وأعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء ، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل " فلذلك سميت هذه الأمة مسلمين كما سمي بذلك الأنبياء والمرسلون ولم يسم غيرها من الأمم ، ويؤيد هذا المعنى حديث أبي يعلى " الإسلام ثمانية أسهم : شهادة أن لا إله إلا الله ، والصلاة ، والزكاة ، والحج والجهاد ، وصوم رمضان ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " وأخرج الجاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما : " سهامالإسيلام ثلاثون سهما لم يتمها إلا إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم " .
( تنبيه ) قوله تعالى {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا مسلمين} ظاهر في الدلالة للمرجوح . وأجاب عنه الجلال السيوطي بما فيه تكلف وضعف ، ومنه أن الوصف في المسلمين اسم فاعل مراد به الاستقبال كما هو فيه لا الحال ولا الماضي الذي هو مجاز والتمسك بالحقيقة هو الأصل . وتقدير الآية : إنا كنا من قبل مجيئه عازمين على الإسلام به إذا جاء لما كنا نجده في كتبنا من نعته ووصفه ، ويرشحه أن السياق يرشد إلى أن قصدهم الإخبار بحقية القرآن وإنهم كانوا على قصد الإسلام به إذا جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لما كان عندهم من صفاته وظهر لهم من قرب زمانه واقتراب بعثته ، وليس قصدهم الثناء على أنفسهم في حد ذاتهم بأنهم كانوا بصفة الإسلام أولا فإن ذلك ينبو عنه المقام . (1/413)
مطلب هل الأفضل العقل أم الحادث ؟
وسئل نفع الله به : ما الأفضل العقل أم الحادث ؟ .
فأجاب بقوله رضي الله عنه : اختلف العلماء في ذلك . والراجح عند أكثرهم تفضيل العلم ، لأن الباري تعالى يوصف بالعلم القديم ولا يوصف بالعقل أصلا وما كان من جنس ما وصف به أفضل ، مما يدل لفضل العلم أيضا أن متعلقه أشرف ، وأنه ورد بل صح في فضله أحاديث لا تحصى ولم يرد في فضل العقل حديث بل كل ما روي فيه موضوع وكذب . وقال بعض المحققين : العلم أفضل باعتبار أنه أقرب إلى الإفضاء إلى معرفة الله وصفاته ، والعقل أفضل باعتبار أنه منبع للعلم وأصل له . وحاصله أن فضيلة العلم بالذات وفضيلة العقل بالوسيلة إلى العلم .
(1/414)
<180>
(1/415)
مطلب في عدد الأنبياء والرسل
وسئل نفع الله به : كم عدد الأنبياء والرسل ؟ .
فأجاب بقوله : روى الطبراني بسند رجاله رجال الصحيح " أن رجلا قال : يا رسول الله أنبي آدم قال نعم . قال كم بينه وبين نوح ؟ قال عشرة قرون . قال كم بين نوح وإبراهيم ؟ قال عشرة قرون . قال : يا رسول الله كم كانت الرسل ؟ قال ثلاثمائة وخمسة عشر " وأخرج ابن حبان في صحيحه والجاكم عن أبي ذر " قلت يا رسول الله كم الأنبياء ؟ قال مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفا . قلت يا رسول الله كم الرسل منهم ؟ قال ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير " ولا ينافي ذلك قوله تعالى {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} لأن هذا إخبار عمن قص عليه أو أنه قص عليه الكل بعد نزول تلك الآية ، وبه يجاب أيضا عن التخالف بين الروايتين فيحمل أنه قص عليه أولا ثلاثمائة وثلاثة عشر ثم ثانيا ثلاثمائة وخمسة عشر فأخبر عن كل بحسب ما قص عليه وقت الإخبار به . (1/416)
مطلب هل الخضر عليه السلام ني وكذا إلياس ؟
وسئل نفع الله به : ما المعتمد في الخضر هل هو نبي حي وكذا إلياس ؟ .
فأجاب بقوله : المعتمد حياتهما ونبوتهما ، وأنهما خصا بذلك في الأرض كما خص إبليس وعيسى صلى الله عليهما وسلم قائهما حايين في السماء . (1/417)
مطلب في المدة التي بين موسى وعيسى ، وبين عيسى ونبينا صلى الله عليه وسلم
وسئل نفع الله به كم بين موسى وعيسى ، وبين عيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؟ .
فأجاب بقوله : الأول ألف وبضع وتسعمائة سنة ، والثاني نحو ستمائة سنة على الأشهر . (1/418)
مطلب في حكم عيسى بشرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إما بالاستنباط من الكتب أو لاجتماعه بنينا مرات
وسئل نفع الله به : عن نزول عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم ، أيحكم بشريعتنا أو بشريعة أخرى ؟ .
فأجاب بقوله : الذي نص عليه العلماء ، بل أجمعوا عليه أنه يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى ملته ، وفي رواية سندها جيد " مصدقا بمحمد وعلى ملته إماما مهديا وحكما عدلا " وفي رواية لابن عساكر " فيصلي الصلوات ويجمع الجمع " ومجموع الخمس وصلاة الجمعة لم يكن في غير هذه الملة .
وسئل نفع الله به بما لفظه : أجمعوا على أن عيسى يحكم بشريعتنا فما كيفية حكمه ذلك بمذهب أحد من المجنهدين أم باجتهاده ؟ .
فأجاب بقوله : عيسى صلى الله عليه وسلم منزه عنأن يقلد غيره من بقية المجتهدين بل هو أولى بالاجتهاد ثم علمه بأحكام شرعنا إما بعلمنا من القرآن فقط إذ لم يفرط فيه من شيء ، وإنما احتجنا إلى غيره لصورنا ، وقد كانت أحكام نبينا كلها مأخوذة من القرآن ، ومن ثم قال الشافعي رضي الله عنه : كل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن ، فلا يبعد ان عيسى صلى الله عليه وسلم يكون كذلك أو برواية(1/419)
<181>
السنة عن نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه اجتمع به في حياته مرات ومن ثم عد من الصحابة . أخرج ابن عدي عن أنس رضي الله عنه " بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رأينا بردا ويدا فقلنا يا رسول الله : ما هذا البرد الذي رأينا واليد ؟ قال : قد رأيتموه ؟ قلنا نعم . قال : ذلك عيسى ابن مريم سلم علي " وفي رواية ابن عساكر عنه " كنت أطوف مع النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة إذ رأيته صافح شيئا ولم أره ، قلنا يا رسول الله رأيناك صافحت شيئا ولا نراه ، قال : ذلك أخي عيسى ابن مريم انتظرته حتى قضى طوافه فسلمت عليه " وحينئذ فلا مانع أنه حينئذ تلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحكام شريعته المخالفة لشريعة الإنجيل لعلمه أنه سينزل وأنه يحتاج لذلك فأخذها منه بلا واسطة ، وفي حديث ابن عساكر " ألا إن ابن مريم ليس بيني وبينه نبي ولا رسول ألا إنه خليفتي في أمتي من بعدي " وقد صرح السبكي بأنه يحكم شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسنة إما بكونه يتلقاها من نبينا صلى الله عليه وسلم شفاها بعد نزوله من قبره ، ويؤيده حديث أبي يعلى " والذي نفسي بيده لينزلن عيسى ابن مريم ثم لئن قام على قبري وقال يا محمد لأجيبنه " . وإما بكونه تعالى أوحاها إليه في كتابه الإنجيل أو غيره ، لأن جميع الأنبياء كانوا يعلمون في زمانهم بجميع شرائع من قبلهم ومن بعدهم بالوحي من الله على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام ، وبالتنبيه على ذلك في كتبهم المنزلة عليهم كمادل على ذلك أحاديث وآثار ، ولا بعد فيما يفهم من هذا أن جميع ما في القرآن مضمن في الكتب السابقة لقوله تعالى {مصدقا لما بين يديه من الكتاب} أي كتب من قبله {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} {وإنه لفي زبر الأولين} أي كتبهم . (1/420)
مطلب في مأخذ أبي حنيفة جواز قراءة القرآن بغير العربية ؟
وقد أخذ أبو حنيفة رضي الله عنه قوله بجواز قراءة القرآن بغير العربية من هذه الآية قال : لأن القرآن مضمن في الكتب السابقة وهي بغير العربية .
وسئل نفع الله به : عمن روى حديث " يوشك أن يملأ الله أيديكم من العجم فيأكلون فيكم ؟ " .
فأجاب بقوله : رواه أحمد والبزار والطبراني . (1/421)
مطلب هل ثبت أن عيسى عليه السلام بعد نزوله يأتيه الوحي ؟
وسئل نفع الله : هل ثبت أن عيسى صلى الله عليه وسلم بعد نزوله يأتيه الوحي ؟ .
فأجاب بقوله : نعم يوحى إليه وحي حقيقي كما في حديث مسلم وغيره عن النواس بن سمعان ؛ وفي رواية صحيحة " فبينما هو كذلك إذ أوحي إليه : يا عيسى إني قد أخرجت عبادا لي لا يد لأحد بقتالهم حول عبادي إلى الطور " وذلك الوحي على لسان جبريل إذ هو السفير بين الله وأنبيائه لا يعرف ذلك لغيره ، وعيسى نبي كريم باقي على نبوته ورسالته ، لا كما زعمه من لا يعتد به أنه واحد من هذه الأمة ، لأن كونه واحد منهم يحكم بشريعتهم لا ينافي بقاءه على نبوته ورسالته .
(1/422)
<182>
(1/423)
مطلب خبر لا وحي بعدي باطل
وخبر " لا وحي بعدي " باطل ، نعم إنما يتلقى جبلايل الوحي عن الله بواسطة إسرافيل كما دلت عليه الأحاديث ، وما اشتهر أن جبريل عليه السلام لا ينزل إلى الأرض بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو لا أصل له . ويرده خبر الطبراني " ما أحب أن يرقد الجنب حتى يتوضأ ، فإني أخاف أن يتوفى وما يحضره جبريل " فدل على أن جبريل ينزل إلى الأرض ويحضر موت كل مؤمن توفاه الله وهو على طهاره ، وفي حديث الطبراني وغيره " أن ميكائيل عليه السلام يمنع الدجال مكه ، وجبريل عليه السلام يمنعه من المدينة " ولا ينافي ما تقرر أن جبريل عليه السلام هو السفير نزول إسرافيل على نبينا صلى الله عليه وسلم فقد صح عن الشعبي أنه قال : أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة ، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث لأن هذا أثر مرسل أو معضل فلا ينافي الثابت في أحاديث الصحيحين وغيرهما أن صاحب الوحي هو جبريل ، على أن المراد بالسفير أنه المرصد لذلك فلا ينافي ذلك مجيء غيره من الملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأخبار، إذ كم من ملك غير إسرافيل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قضايا متعددة كما هو في كثير من الأحاديث . ومما ينازع في أثر الشعبي قول جماعة من العلماء في خبر مسلم وغيره " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضا من السماء من فوق فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال يا محمد : هذا ملك قد نزل لم ينزل إلى الأرض قط .قال : فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه " الحديث ، أن هذا الملك إسرافيل . وأخرج الطبراني حديث " لقد هبط علي ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي ولا يهبط على أحد بعدي وهو إسرافيل ، فقال : أنا رسول ربك إليك أمرني أن أخيرك إن شئت نبيا عبدا وإن شئت نبيا ملكا " الحديث ، وهذا كالذي قبلع بعد اتداء الوحي سنين كما يعرف من سائر طرق الحاديث وهما ظاهران في أن إسرافيل لم ينزل إليه قبل ذلك ، فكيف يصح قول الشعبي أنه أتاه في ابتداء الوحي . (1/424)
مطلب هل يمر الكافر على الصراط ؟
وسئل نفع الله به : هل يمر الكافر على الصراط ؟ .
فأجاب بقوله : في أحاديث ما يقتضي أنهم يمرون ، وفي أحاديث ما يقتضي خلافه ، وجمع بجمل الأول على المنافقين . (1/425)
مطلب في أن فى الآخرة صراطين
وقد صرح القرطبي بأن في الآخرة صراطين صراط لعموم الخلق إلا من يدخل الجنة بغير حساب ، ومن يلتقطهم عنق النار . وصراط للمؤمنين خاصة وبه يعلم أن من يلتقطهم عنق النار وهم طوائف مخصوصة من الكفار وهم لا يمرون على الصراط أصلا ، وكذلك بعث النار الذي يخرق من الخلق إليها قل نصب الصراط ، وهم طوائف من الكفار أيضا قيل : الظاهر أنه لا يمر عليه إلا المنافقون واليهود والنصارى فقد ورد في الحديث أنهم يحملون عليه ثم يسقطون في النار ، وكذلك من لم ينصب له ميزان من الكفار ، وهم طائفة مخصوصة منه يمرون عليه(1/426)
<183>(1/427)
مطلب هل يحشر أحد غير عار ؟
وسئل نفع الله به : هل يحشر أحد غير عار ؟ .
فأجاب بقوله : نعم بعض الناس : أي وهم الشهداء يحشرون في أكفانهم كما قاله البيهقي ، وحمل على ذلك الحديث الصحيح " يبعث الميت في ثيابه التي يموت فيها " ، وجاء عن عمر ومعاذ رضي الله عنهما " حسنوا أكفان موتاكم فإن الناس يحضرون في أكفانهم " ، وهذا منهما له حكم المرفوع . وأخرج الدينوري عن الحسن " أن أهل الزهد كالشهداء " ، وهو في حكم المرسل المرفوع ، وإذا ثت ذلك لهؤلاء فالأنبياء أولى ، وصح حديث " إن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج : فوج طاعمين كاسين راكبين ، وفوج يمشون ويسعون ، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم " .
وسئل نفع الله به : هل يوزن الإيمان مع الحسنات ؟ فأجاب بقوله : حكى القرطبي عن الحكيم الترمذي أنه لا يوزن لأنه لا يقابل إذ لا يمكن كون الإنسان يجمع إيمانا وكفرا ، وفي الأحاديث ما يقتضي وزنه مؤول بأن المراد الزيادة فيه على أصله الواجب . (1/428)
مطلب في أن الطفل يتنعم في الآخرة ويتزوج
وسئل رضي الله عنه هل يحشر الطفل على صورته ؟ وهل يتزوج من الحور العين ؟ وهل الولدان من جنس الحور ؟ .
فأجاب بقوله : الطفل يكون في الحشر على خلقته ، ثم عند دخول الجنة يزاد فيها حتى يكون كالبالغ ثم يتزوج من نساء الدنيا ومن الحور ، وهن والولدان جنس واحد . (1/429)
مطلب في دخول أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين
وسئل رحمه الله عمن روى حديث " يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين على خلق آدم سبعون ذراعا في عرض سبعة " من رواه ؟ .
رواه أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني في الأوسط . (1/430)
مطلب في ألغاز التاج السبكي
وسئل نفع الله به ، بما لفظه : ما معنى قول التاج السبكي في ألغازه :
من باتفاق جميع الخلق أفضل من *** شيخ الصحاب أبي بكر ومن عمر
ومن علي ومن عثمان وهو فتى *** من أمة المصطفى المبعوث من مدر
من أبصرت في دمشق عينه صنما *** مصورا وهو منحوت من الحجر
إن جاع يأكل وإن يعطش تضلع من *** ماء زلال ثم غير منهمر
من قال إن الونى والشرب مصلحة *** ولم يقل هو ذنب غير مغتفر
ومن قال إن نكاح الأم يقرب من *** تقوى الإله مقالا غير منتكر
من قال سفك دماء المسلمين على الص *** لاة أوجه الرحمن في الزبر
(1/431)
<184>
فأجاب بقوله رحمه الله : من الأولى والثانية وما بعدها استفهام نفي أو إنكار : أي لم يقل ذلك أحد كذا حله الناظم ، وجوز فيمن قال " إن الزنى " أن من مبتدأ خبره غير مغتفر : أي لا يغتفر له هذا القول ، وفسر غيره : " الفتى " بعيسى ، وأبقى " من " على حالها ، لكن بالغ في إنكار تسمية عيسى فتى ، فلو عبر بشخص تم له ذلك ، وقوله : من أبصرت الخ أراد به ما رواه الحاكم في تاريخ نيسابور بسنده إلى أبي عبد الله البوشنجي عن عبد الله بن يزيد الدمشقي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال : رأيت ببغداد صنما من نحاس إذا عطش نزل شرب . قال البوشنجي : ربما تكلم العلماء على قدر فهم الحاضرين تأدبيا وامتحانا فهذا الرجل ابن جابر أحد علماء الشام ، ومعنى كلامه : أن الصنم لا يعطش ، ولو عطش نزل فشرب ، فنفى عنه النزول والعطش ، والحاصل أن القضية الشرطية لا يلزم إمكانها . (1/432)
مطلب في أن ثلاثة من الحيوان ما خرجت من فرج أنثى الخ
وسئل نفع الله به عن ثلاثة من الحيوان لم يخرجوا من فرج أنثى ؟ .
فأجاب بقوله : هو آدم وحواء وناقة صالح . (1/433)
مطلب حديث " الخير في وفي أمتي "
وسئل نفع الله ه عن حديث : " الخير في وفي أمتي على يوم القيامة " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : لم يرد بهذا اللفظ ، وإنما يدل على معناه الخبر المشهور " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهو على ذلك " وفسر ذلك الأمر بريح لينة يرسلها الله قيض أرواح المؤمنين ثم لا يبقى على وجه الأرض إلا شرار أهلها فتقوم الساعة عليهم كما في حديث : " لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول الله الله " . (1/434)
مطلب ليس لأحد في الجنة لحية إلا آدم
وسئل نفع الله بعلومه : هل في الجنة من هو بلحية غير آدم ؟ .
فأجاب بقوله : ليس فيها بلحية غيره ، وحديث " إن هارون كذلك " موضوع كما قاله الذهبي .
وسئل نفع الله به بما لفظه : ما قيل إن في الجنة جمالا ترعى وتشرب من أنهارها هل جاء فيه شيء له أصل ؟ .
فأجاب بقوله : قال الحافظ السيوطي : لم أر في ذلك شيء . (1/435)
مطلب في أن الأفضل المشرق أم المغرب ؟
وسئل نفع الله به : أيهما أفضل المشرق أم المغرب ؟ فأجاب : فيه خلاف :
احتج القائلون تفضيل المشرق بوجوه :
الأول : أن الله تعالى لم يذكرهما إلا قدم المشرق .
الثاني : أن الضوء أول ما يطلع منه .
الثالث : أن الأئمة الأربعة منهم .
(1/436)
<185>
الرابع : أن فيه الأرض التي بورك فيها بالنص ، وهي أرض مصر والشام وأرض الجزيرة .
لأن الناس اتفقوا على أن مصر حد ما بين المشرق والمغرب ، فما كان من مصر إلى جهة مطلع الشمس فهو مشرق فيتناول الحجاز والشام واليمن والعراق وما بعدها . والمصر لغة الحد ولذا سميت مصر بمصر ، وزاد عليه أن فيه مكة والكعبة والمسجد الحرام والحرم وشعار الحج والعمرة وما يتعلق بهما والمدينة النبوية على مشرفها أفضل الصلاة والسلام والثبر المكرم والمسجد والحرم وما بتلك الديار من عظيم تلك الآثار ، وهذه فضائل ومزايا لا يوجد في المغرب نظير لواحد منها .
واحتج المغاربة بأن الله تعالى بدأ بذكر المغرب في قصة ذي القرنين ، ويرده توعده في هذه القضة لأهل المغرب دون أهل المشرق ، وبأن حديث " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين " فيه رواية : " لا يزال أهل المغرب ظاهرين " ورد بأن الثابت وهم الشام على أن الشام غربي المدينة ، وأيضا أهل المغرب هم أهل الدلو التي يستقى بها وأكثرهم بالمدينة واليمن ونحوهمت ، وبظهور الأهلة منه ، ورد بطلوع الشمس من المشرق وبأن باب التوبة سعته أربعين ذراعا ثم إنه يغلق بالمغرب . ويرده أن ذلك ذم له حيث ابتدأ غلق التوبة منه كما أن طلوع الشمس منه ذم له أيضا لأن ظهور انحلال الشريعة بأسرها منه وبأن المهدي يظهر منه ، ورد بأن المضهور ظهوره بمكة اليمن أو العراق وبأن سائر الفتن إنما تظهر من المشرق . ويرده أن أعظم منها كلها فتنة طلوع الشمس من مغربها وغلق باب التوبة اللذان لم يبق بعدهما خير قط ، بخلاف تلك الفتن فإن معالم الخير موجودة معها ، وبأن المعروف في أكثر الرسل أنهم بعثوا بالمشرق ولم يعرف أن نبيا يعث من المغرب ، فاتضح تفضيل المشرق وأنه لا غبار على ذلك ، والله أعلم . (1/437)
مطلب في أي الأرضين السبع أفضل
وسئل نفع الله به : أيما أفضل الأرضين السبع ؟ .
فأجاب بقوله : أعلاها كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما ؛ لأنها مدفن الأنبياء ومهبط الوحي ومستقر بني آدم الأفضل من غيرهم . (1/438)
مطلب في أيما أفضل السماء أو الأرض
وسئل نفع الله به : ايما أفضل السماء أو الأرض ؟ .
فأجاب بقوله : الصح عند أئمتنا ونقلوه عن الأكثرين السماء لأنه لم يعص الله فيه ، ومعصية إبليس لم تكن فيها أو وقعت نادرا فلم يلتفت إليها . وقيل الأرض ، ونقل عن الأكثرين أيضا لأنها مستقر الأنبياء ومدفنهم . (1/439)
مطلب في محل الفردوس من الجنة
وسئل نفع الله به : ما محل الفردوس من الجنة ؟ .
فأجاب بقوله : في حديث الشيخين " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة " . وفي رواية لابن أبي حاتم حديث " الفردوس مقصورة الرحمن فيها خيار الأنهار والأشجار " والله أعلم .
(1/440)
<186>
(1/441)
مطلب في حكم طمس الشمس والقمر
وسئل نفع الله به : ما حكمة طمس نور الشمس والقمر وإلقائهما في جهنم ؟ .
فأجاب بقوله : حكمته كالكسوف والخسوف في الدنيا تقبيح عابديهما بإظهار عجزهما عن الدفع أنفسهما . (1/442)
مطلب في السواد الذي في القمر
وسئل نفع الله به : عن السواد الذي في القمر؟ .
فأجاب بقوله : قيل إن علي كرن الله وجهه سئل عن ذلك فقال " هو أثر مسح جناح جبريل ، لأن الله تعالى خلق نور القمر سبعين جزءا كنور الشمس ، فمسحه جبريل بجناحه فمحى منه تسعة وستين جزءا حولها إلى الشمس فأذهب منه الالضوء وأبقى فيه النور ، فذلك قوله تعالى {فمحونا آية اليل وجعلنا آية النهار مبصرة} الآية ، وقال بعضهم : إنه حروف وهي " جميل " انتهى . ويؤيد الأول ما أخرجه البيهقي عن عبد الله ابن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه ، فقال " كانا شمسين " وقال تعالى {فمحونا آية الليل} الآية ، فالذي رأيت هو المحو " وفي رواية بسند واهـ بسط ذلك بأطول مما ذكر ، وأخرج عبا الرزاق أن معاوية سأل أي مكان صليت فيه فظننت أنك لم تصل إلى قبلة ؟ وأي مكان لم تطلع عليه الشمس إلا مرة ؟ وما سواد القمر ؟ فأرسل إلى ابن عباس الذي فسر له الأول بظهر الكعبة ، والثاني بقعر البحر الذي انفلق لموسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم ، والثالث بالمحو . (1/443)
مطلب في بيان المحل الذي تكون فيه الشمس بعد الغروب
وسئل نفع الله به : إذا غابت الشمس أين تذهب ؟ .
فأجاب بقوله : في حديث البخاري " أنها تذهب حتى تسجد تحت العرش " زاد النسائي " ثم تستأذن فيؤذن لها " ويوشك أن تستأذن فلا يؤذن لها ، وتؤمر بالطلوع من محل غروبها " ولا يخالف هذا قوله تعالى {تغرب في عين حمئة} لأن المراد به نهاية إدراك البصر لها حال الغروب ، وسجودها تحت العرش إنما هو بعد الغروب . وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس " إنها بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء بفلكها ، وإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت العرش حتى تطلع من مشرقها وكذلك القمر " وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة أنها إذا غربت دخلت نهرا تحت العرش فتسبح ربها حتى إذا أصبحت استعفت ربها عن الخروج . قال : ولم ؟ قالت إني إذا خرجت عبدت من دونك ، وقيل يبتلعها حوت ، وقيل تغيب في عين حمئة كما ورد في الآية ، والحمأة بالهمزة ذات الطين الأسود وقرئ " حامية " بالياء أي حارة ساخنة ، وقيل تطلع من سماء إلى سماء حتى تسجد تحت العرش وتقول : يارب إن قوما يعصونك ،/ فيقول لها ارجعي من حيث جئت فتنزل من سماء إلى سماء حتى تطلع من المشرق ، وبنزولها إلى السماء الدنيا يطلع الفجر ، قال إمام الحرمين وغيره : لا خلاف أنها تغرب عند قوم وتطلع عند قوم آخرين ، والليل يطول عند قوم ويقصر عند آخرين إلا عند خط الإستواء فيستويان أبدا ، وفي بلاد بلغار بموحدة مضمومة ثم معجمة لا تغيب الشمس عندهم إلا بمقدار ما بين المغرب والعشاء ثم تطلع .
(1/444)
<187>
(1/445)
مطلب في خروج المهددي
وسئل نفع الله به : من أين يخرج المهدي ؟ .
فأجاب بقوله : ثبت في أحاديث أنه يخرج من قبل المشرق ، وأنه يبايع له بمكة بين الركن والمقام ويسكن بيت المقدس . (1/446)
مطلب في أي محل ينزل عيسى عليه السلام ؟
وسئل نفع الله به : في أي محل ينزل عيسى عليه السلام ؟ .
فأجاب بقوله : الأشهر ما صح في مسلم أنه ينزل عند المنارة البيضاء شرق دمشق ، وفي رواية بالأردن وفي أخرى بعسكر المسلمين ، ولا تنافي الآن عسكرهم بالأردن ودمشق وبيت المقدس من ذلك . (1/447)
مطلب هل الأفضل طور سيناء أم أحد ؟
وسئل رضي الله عنه : أيما الأفضل طور سيناء أم أحد ؟ .
فأجاب بقوله : أحد للخبر الصحيح " أحد يحبنا ونحبه " وورد أنه على باب من أبواب الجنة ولأنه من جملة أرض المدينة التى هي أفضل من البقاع مطلقا أو بعد مكة . (1/448)
مطلب الأفضل طور سيناء أم أحد ؟
وسئل نفع الله به الأفضل طور سيناء أم أحد ؟ .
فأجاب بقوله : قال الجلال السيوطي : مقتضى الأدلة أن اللبن أفضل ، لأن الله تعالى جعله غذاء للطفل دون غيره وأنه يجزئ عن الطعام ولا كذلك العسل ،وفي الحديث " من سقاه الله لبنا قليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه " وأنه ليس شيئ يجزئ عن الطعام والشراب غير اللبن ،وأنه لا يغص به أحد كما في الحديث +قال تعالى {سائغا للشاربين}وأنه اختاره في ليلة الإسراء على العسل والخمر فقيل له " هذه الفطرة فأنت عليها وأمتك " رواه الشيخان ، وفي الحديث " أمر من أكل غير اللبن أن يقول اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه . وأمر من أكل اللبن أن يقول اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه " وهو يدل على أنه لا خير منه . (1/449)
مطلب في أن الليل أفضل من النهار ؟
وسئل نفع ىالله به : أيما الليل أفضل من النهار ؟ .
فأجاب بقوله : الليل أفضل لأن فيه راحة وهي من الجنة والنهار تعب وهو من النار ، ولأن ليلة القدر خيرا من ألف شهر ولا يوجد نهار كذلك ، ولأنه أنزلت سصورة مسماة سورة الليل ، ولأنه مقدم الذكر على النهار في أكثر الآيات ، وأن خلقه سابق على خلق النهار و"لا" في {ولا الليل سابق النهار} زائدة ، وليالي الشهر سابقة على أيامه ، وأن في كل ليل ساعة إجابة بل ساعات ، وليس شيئ من ساعاته تكره فيه الصلاة وفيه التهجد والاستغفار بالأسحار وهما أفضل من نفل النهار واستغفاره ، ووقوع الإسراء فيه وكون ناشئته أشد وطأ وأقوم قيلا كما في الآية . وقال أهل العلم : فيه تنقطع الأشغال وتحتد الأذهان ويصح النظر ويوقف(1/450)
<188>الحكم وتدر الخوادر وتنبع مجالي القلب . وقيل النهار أفضل ، والتقديم لا يدل على الأفضلية ، فقد قدم الله الموت على الحياة والجن على الإنس والأعمى والأصم على السميع والبصير . ويرد بأن الغالب إفادة التقديم الأفضلية وتقديم المفضول في هذه الحكم تعرف بالتأمل وبأن النور قبل الظلمة وبأن الشعراء مازالوا يذمون الليل ، وبه تدب الهوام وتثور السباع وتنتشر اللصوص وتتوفر المعاصي ، وشبه به الله تعالى وجوه أعدائه فقال {كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما} والفاسق يرقب الليل إذا أظلم ، ونهى صلى الله عليه وسلم عن جداد الليل وصرامه وأمر بغلق الأبواب وكف الصبيان لإنتشار الشياطيت فيه ، والأيام مسماه دون الليل وإنما تعرف بالإضافة إلى النهار والأيام الفاضلة كثيرة كيوم الجمعة ويوم عرفة ويوم عاشوراء والأيام المعلومات والمعدودات ،ة وليس في الليلي إلا ليلة القدر وليلة النصف من شعبان . وإذا تأملت هذه الحجج وجدت أن أكثرها لا يقتضي تفضيلا لأنها أمور عادية لا شرعية والشرعي من ذلك النهى عن الصوم والجداد ليلا ، وسره أن فيه منع افقراء لأنه لخصوص الليل وانتشار الشياطين ونحو السباع إنما هو لما فيه من الخلو الذي يقتضي تفضيله لصفاء العبادة فيه أكثر من النهار ، وأحسن ما يفضل به النهار أن فيه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات والصوم الذي قال الله في حقه " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به " . (1/451)
مطلب في كم يقيم عيسى عليه السلام بعد نزوله ؟
وسئل نفع الله به : كم يقيم عيسى عليه السلام صلى الله عليه وسلم بعد نزوله ؟ .
فأجاب بقوله : يقيم سبع سنين كما صح في حديث مسلم . ولا ينافيه حديث الطيالسي أنه يفيم أربعين سنة لأن المراد مجموع لبسه في الأرض قبل الرفع وبعده فإنه رفع مسنه ثلاث وثلاثون سنة . (1/452)
مطلب في قصة عوج بن عتق
وسئل نفع الله به وبعلومه بما لفظه : ما محصل كلام الناس في عوج بن عنق ، وما حكاه المفسرون فيه مما يطول بسطه ويعطم استقراؤه ؟ .
فأجاب بقوله : قال الحافظ العماد ابن كثير : قصة عوج نب غنق وجميع ما يحكونه عنه هذيان لا أصل له وهو من مخالفات زنادقة أهل الكتاب ، ولم يكن قط على عهد نوح ولم يسلم من الغرق من الكفار أحد . وقال ابن القيم : من الأمور التي يعرف بها كون الحديث موضوعا أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه كحديث عوج بن عنق الذي قصد واضعه الطعن به في أخبار الأنبياء ، ثم قال بعد ذكر شيئ مما حكي من غرائبه : وليس العجب من جراءة هذا الكذاب على الله إنما العجب ممن يدخل هذا الحديث في كتب العلم من تفسير وغيره ، ولا يبين أمره ثم قال : ولا ريب أن هذا وأمثاله من وضع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء والسخرية بالرسل وأتباعهم انتهى . وأورد فيه ابن المنذر عن ابن عمر من قصته شيئا . قال بعض النصفين : هذا مما يسشتحي الشخص نسبته إلى ابن عمر رضي الله عنهما وذكره عنه ، ومشى في القاموس على شيئ من أخباره الموضوعة . وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن خبان في كتاب ( العظمة ) فيه آثار . قال الحافظ في أطولها المشتملة على غرائب من أحواله : إنه باطل كذب . قال الحافظ السيوطي : والأقرب في خبر عوج بن عنق أنه كان من بقية عاد ، وأنه كان له طول في الجملة مائة ذراع أو شبه ذلك ، وأن موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم قتله بعصاه هذل هو القدر الذي يحتمل قبوله انتهى .
(1/453)
<189>
(1/454)
مطلب في حماعة يصلون على النبي الخ
وسئل نفع الله به وبعلومه : عن جماعة يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم في الجامع الأزهر وفي مكة وغيرهما ليلة الإثتنين والجمعة ، ومن جملة صلاتهم : اللهم صل أفضل صلاتك على أفضل مخلوقاتك سيدنا محمد الخ ، فاعترض عليهم بعض المنتسبين للعلم وشنع وقال : ولم يدل على ذلك دليل فيتعين الإمساك عنه فهل هو مصيب أم مخطئ ؟ .
فأجاب بقوله رضي الله عنه : هو مخطئ في ذلك أشد الخطأ ، وكأنه سرى إليه ذلك من قول بعض من لا علم عنده اعتراضا على قول بعض المادحين : لولاه ما كان لا ملك ولا ملك ، مثل هذا يحتاج إلى دليل ولم يرد في كتاب ولا سنة ما يدل عليه انتهى . وعلى قول أشرف الخلق لا خلق يماثله الذي أخبرنا به عن نفسه صلى الله عليه وسلم " أنا سيد ولد لآدم " ومسئلة تفضيل صالحي البشر على الملائكة أجاب فيه أبو حنيفة وغيره بلا أدري ، وهذا هو الجواب الصحيح ، قال الله تعالى {ولقدج كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} ولم يقلا على الخلق ورسول الله صلى الله عليه وسلم من بنتي آدم وليس ذلك مما كلفنا بمعرفته والبحث عنه والكلام فيه فضول والسكوت عنه هو الجواب انتهى كلام المعترض أيضا ، وكأن ذاك المعترض المذكور في السؤال قلد هذا المعترض وكل منهما مخطئ مجازفا قد صير نفسه هدفا لنصال العلماء المصيبة وغرضا لهفوات الشياطين المريبة . ومما هو واضح جلي في بطلان الاعتراض الأول بل والثاني لمن تأمل قوله " لأحب الخلق إلي " في حديث الحاكم الذي صححه أنه صلى الله عليه وسلم قال " قال آدم أسألم بحق محمد صلى الله عليه وسلم لما غفرت لي ؟ فقال الله تعالى : يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه ؟ قال : لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك زفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنك لم تضف لاسمك إلا أحب الخلق إليك قال الله : يا آدم إنه لأحب الخلق إلي ، وإذ سألتني بحق محمد فقد غفرت لك ولولا محمد ما غفرت لك " وفي سند واهقال ابن عدي : فيه أحاديث حسان وهو ممن احتمله الناس وممن يكتب حديثه وتضعيف غيره له قليل ومجبور ، ومما صح عند الحاكم أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام يا عيسى آمن بمحمد ومر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به فلولا محمد ما خلقت آدم ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن " ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي فإذا صح عن مثل ابن عباس يكون في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما قرره أئمة الحديث والأصول والفقه ، وحينئذ فما في الأول من ضعف لو سلم لقائله يكون مجبورا بهذا لأن هذا وحده كاف في الحجية فضم الأول إليه يزيده قوة أي قوة ، وفي حدجيث رواه صاحب شفاء الصدور وغيره " قال الله يا محمد وعزتي وجلالي لولاك ما خلقت أرضي ولا سمائي ولا رفعت هذه الخضراء ولا سويت هذه الغبراء " وفي رواية " من أجلك أسطح البطحاء وأموج الماء وأرفع السماء وأجعل الثواب والعقاب و الجنة والنار " وفي أخرى ذكرها عياض في الشفاء " فقال آدم لما خلقتني بيدك رفعت رأسي إلى العرش فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنه ليس أحد أعهظم عندك ممن وضعت اسمه مع اسمك ، فأوحى الله تعالى إليه وعزتي وجلالي إنه لآخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك " وبهذا كله اتضح بطلان ذلك الاعتراض ، وأن قائله زل عن درك الصواب فطغى قلبه وزل قدمه .
(1/455)
<190>
(1/456)
مطلب في أن الأدلة المعتبرة قامت على تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على جميع خلقه الملائكة والنبيين وغيرهم
ومما يبطل الاعتراض الثاني وهو أشنع وأقبح من الأول بكثير أن الأدلة المعتبرة قامت على تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على جميع خلقه الله الملائكة والنبيين وغيرهموصرح بذلك العلماء من الصحابة ومن بعدهم ؛ فمن الأحاديث الدالة على ذلك الحديث الذي ذكره المعترض نفسه إذ لفظه " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي " فهو صريح في أفضلية نبينا على آدم صلى الله عليهما وسلم ، وفضيلة آدم على الملائكة يصرح بها قوله تعالى للملائكة {اسجدوا لآدم} وقوله {إن الله اصطفى آدم وإبراهيم وآت نوحا وآل عمران على العالمين} والملائكة من جملة العالمين اتفاقا ، وإذا ثبت بالأدلة الصحيحة أن نبينا أفضل من آدم ومن سائر النبيين كما يصرح به قوله في الحديث المذكور " وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي " وثبت بالآيتين المذكورتين أن النبيين المذكورين فيهما آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران أفضل من الملائكة ثبت أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من الملائكة بل نبيينا صلى الله عليه وسلم من جملة آل إبراهيم فشملته الآية نصا ، وفي الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال " أنا سيد الناس يوم القيامة " ومما يدل أيضا على أفضليته على جميع الخلق قوله تعالى {ورفعنا لك ذكرك} وسياق الآية قاض بأن المراد رفع عظيم ، ومن ثم فسروه بأن المراد لا أذكر إلا وتذكر معي وبأن ذلك الرفع العظيم على جميع الخلق لأنه لم يذكر المرفوع عليهم والأأصل عدم التخصيص ، ويدل على رفعة قدره على كل مخلوق قوله تعالى {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} وفسره صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن بالشفاعة العظمى في فصل القضاء أنه يحمده فيه الأولون والآخرون ويتقدم فيه على جميع خلق الله تعالى من الأنبياء والملائكة ، ومما يصرح بتلك الأفضلية أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " فتأمله فإنه واضح في تلك الأفضلية ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " أنا أول من تشق عنه الأرض فألبس الحلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الملائكة أن يقوم هذا المقام غيري " وقوله في الحديث الحسن ولا نظر لقول الترمذي فيه إنه ريب أنه كما بينه شيخ الإسلام السراج البلقيني " أنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر وأنا أول من يحؤرك حلق الجنة فيفتح الله لي ومعي فقراء المؤمنين ، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر " فقوله " ليس أحد من الملائكة أن يقوم هذا المقام غيري " وقوله " وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر " الشامل للملائكة والنبيين وغيرهم صريحان في أفضليته على سائر الخلق كما هو جلي ، وسبق أن قوله تعالى في قصة آدم السابقة في الحديث الصحيح " لأحب الخلق إلي " صريح في ذلك أيضا ، ويوافقه ما نقله الإمام البلقيني عن بعض المحدثين وقال لا يضر عدم ذكره لسندها لأنه من الأئمة المحدثين الذين اطلعوا على جملة من كثرة الأحاديث على أنها إنما سيقت شواهد لما تقرر . فمن جملة ما نقله ذلك المحدث أنه قال : عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله تعالى أنه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم " وقد مننت عليك بسبعة أشياء أولها أني لم أخلق في السموات والأرض أكوم منك " وعنه صلى الله عليه وسلم قال " قال لي جبريل عليه السلام أبشر فإنك خير خلقه وصفوته من البشر حباك الله بما لم يحب به(1/457)
<191>أحدا من خلقه لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ، ولقد قربك الرحمن إليه من قرب عرشه مكانا لن يصل إليه أحد من أهل السموات ولا من أهل اللأرض فهناك الله بكرامته وما حباك به " قال وفي الحديث المعلوم " أن النبي صلى الله عليه وسلم تقدم وأوقف جبريل في مقامه وأن ملكا آخر تلقى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له تقدم يا محمد فقلت لا بل تقدم أنت فقال يا محمد تقدم أنت فأنت أكرم على الله مني " وفي حديث سوادج المشهور " يا خير مرسل " وهو يعم الملائكة ؟ لأنهم رسل الله أيضا ، وصح في خبر بحيراء المشهور : هذا سيد المرسلين . وصح عند الحاكم عن بشر ابن سعاف قال : كنا جلوسا عند عبد الله ابن سلام يوم الجمعة ، فقال عبد الله ابن سلام : إن أعظم أيام الدنيا يوم الجمعة فيه خلق الله آدم وفيع تقوم الساعة ، وإن ؟أكرم خليقة الله على الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم . قال : قلت رحمك الله فأين الملائكة ؟ فال : فنظر إلي وضحك وقال بيا ابن أخي هل تدري ما الملائكة إنما الملائكة خلق كخلق السموات والأرض وخلق الرياح وخلق السحاب وخلق الجبال وسائر الخلق التي لا يعظم على الله منها شيئ ، وإن أكمرم الخلق على الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم ومثل هذا لا يكون من قبل الرأي فإذا صدر من ابن سلام وهو من أكابر الصحابة وصح عنه صار كأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كما مر عن الأئمة ، ولا نظر إلى احتمال أنه قال عن التوراة لأنه كان من أحبار اليهود لأن الحجة قائمة بهذا الغرض أيضا لأن ابن سلام من أكابر الصحابة ومؤمني أهل الكتاب ، فإذا نقل ذلك عن التوراة كان الحجة فيه لأنه يعلم مبدلها من غيره كما صح عنه في قصة رجم الزانيين وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم له ىبقوله " إن ذلك في التوراة " قال البلقيني : وقد جاء عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم ذلك ولا يعرف خلاف بين الصحابة في ذلك ولا بين التابعين ، وبشر ابن سعاف إنما قال فأين الملائكة يستفهم ويستثبت إظهار مقتضى العموم في ذلك ولا نعرف أحد من الأئمة خالفه في أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق .
والذي ذكر عن المعتزلة والبقلاني والحليمي من تفضيل الملائكة العلوية على الأنبياء يمكن حمله علىى غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أي كما نقله المتأخرون عن بعض أكابر المتقدمين واعتمدوه ، ولا نظر لجراءة الزمخشري وتصريحه في سورة التكوير بأفضلية جبريل عليه . ويمكن حمل كلام البقلاني والالحليمي على التفضيل في نوع خاص كاستمرارهم في التسبيح ونحوه ، وأما التفضيل المطلق بالنسبة إلى جميع أنواع العبادات فإنه للأنبياء على غيرهم ثم لنبينا عليهم ، ونظير ذلك " أقرؤكم أبي . أمين هذه الأمة عبيدة . ما أقلت ىالغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر " . فالتفضيل في هذه الأنواع الخاصة لا يعارض أفضلية الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم في سائر الأنواع على أولئك وغيرهم .
وأما قول ذلك المعترض : ومسألة تفضيل صالحي البشر على الملائكة . أجاب عنها أبو حنيفة وغيره بلا أدري . فيقال عليه هذة رواية عنه ، وله رواية أخرى بتفضيل الأنبياء على الملائكة ، والمعتمد عند علماء الحنفية أن خواص بني آد
قوله تعالى {إنه لقول رسول كريم}
سسسسسسسم وهم المرسلون أفضل من جملة الملائكة ، والأنبياء غير المرسلين أفضل من غير خواص الملائكة ، والخواص من الملائكة أفضل من غير المرسلين ، وعلى هذه الرواية فنبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من الملائكة ولا يظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمينت أنه يتوقف في تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على الملائكة . و
قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب ( الرسالة ) : وكان خيرته المصطفى لوحيه المنتخب لرسالته المفضل على جميع خلقه بفتح رحمته وختم نبوته وعم ما أرسل به مرسل قبله ، المرفوع(1/458)
<192>ذكره مع ذكره في الأولى الشافع المشفع في الأخرى ، أفضل خلقه نفسا وأجمعهم لكل خلق رضيه في دين ودنيا وخيرهم نسبا ودارا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ، وعرفنا فضل نعمته الخاصة والعامة والنفع في الدنيا والدين انتهى . وما صرح به الشافعي رضي الله عنه من تفضيل نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق هو الذي عليه العلماء كافة .
وقول ذلك المعترض : إن ىالقول بلا أدري هو الجواب الصحيح : غلط منه ، بل الجواب الصحيح هو ما عليه العلماء من تفضيل نبينا على جميع الخلق من الأنبياء والملائكة ، وتفضيل الأنبياء كلهم على الملائكة كلهم ، وقوله تعالى {ولقد كرمنا بني آدم} ظاهر في تفضيلهم إلا ما خرج لدليل ، وأما قوله تعالى {وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا
}{&} فقد قيل إن التفضيل من جهة الغلبة الاستيلاء ، وقيل بالثواب والجزاء يوم القيامة وعلى هذا فلا تعرض في الآية للخلاف في التفضيل بين بني آدم والملائكة ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ليس أفضل من الملك فإن صح حمل فإن صح حمل على غير الأنبياء لاسيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما صح عنه كما مر أن نبينا أفضل الخلق .
وأما قول المعترض ليس ذلك مما كلفنا بمعرفته : فغلط منه ، كيف وهذه المسألة من مسائل أصول الدين ، ونحن مكلفون بأن نعظم نبينا ونوقره وأن نأخذ بالأدلة التي جاءت ببيان مرتبته وقربه من ربه .
وأما قول ذلك المعترض : والكلام فيه فضول : ففيه جراءة عظيمة على من تكلم من الصحابة وعلماء الأمة بل الكلام فيه مطلوب واعتقاده واجب انتهى حاصل كلام البلقيني مع زيادة عليه .
وإذا تقرر ذلك فما أعلن به المصلون على النبي صلى الله عليه وسلم في المساحد وغيرها من تلك الصلوات حق واضح لا غبار عليه ولا اعتراض يتطرق إليه ، ومن اعترض ذلك فقد أصابته نزغة اعتزالية أو مسة شيطانية فليتب إلى الله ويستغفره ويتنصل مما وقع منه ، فإن الخوض فيذلك ربما جر إلى فساد كبير لصاحبه والعياذ بالله ، والله سبحانه الموفق للصواب تم ذلك الجواب . (1/459)
مطلب ما معنى ذبح الموت ؟
وسئل رضي الله عنه وفسخح في مدته : : ما معنى ذبح الموت ؟ .
فأجاب بقوله : إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار جعل الله الموت في صورة كبش ثم يأمر بذبحه بين الجنة والنار زيادة في بشارة أهل الجنة وأن خلودهم فيها خلود بلا موت .
فإن قلت : الموت معنى فكيف يكون كبشا يذبح ؟ .
قلت :ة هذا من باب تجسم المعاني : أي إبرازها في صورة محسوسة من حيث تسميتها بالشاهد ويحتاط بها ونظيره وزن الأعمال بناء على أنها هي الموزونة فتجسم في صورة ثم توزن لاستحالة وزنها بدون تجسم ، والله تعالى أعلم .
(1/460)
<193>
باب المعاني والبيان(1/461)
مطلب في الفرق بين الشبيه والمثيل والنظير
وسئل نفع الله به : عن الفرق بين الشبيه والمثيل والنظير .
فأجاب بقوله : الثلاثة متحدة لغة . وأما اصطلاحا فظاهر قول شرح العقائد عن الأشعرية المماثلة إنما تثبت عندهم بالاشترك في حميع الأوصاف إن المثيل أخصها لأن المماثلة تستلزم المشابهة وزيادة ، والشبيه أعم من المثيل وأخص من النظير ، والنظير أعم من الشبيه ، إذ المشابهة لا تستلزم المماثلة فقد يكون شبه الشيئ غير مماثل له ، والنظير قد لا يكون مشابها .
والحاصل أن المماثلة تقتضي المساواة من كل وجه ، والمشابهة تقتضي ذلك في الأكثر ، والمناظرة تكفي في وجه .
باب في النحو(1/462)
مطلب في الراجح في إعراب الجنة في حديث " من شهد أن لا إله إلا الله الخ "
وسئل نفع الله به : عن حديث " من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدج رسول الله وأن االجنة حق " هل الجنة منصوبة أو مرفوعة .
فأجاب بقوله : منصوبة . ولا يصح الرفع لفساد المعنى هنا إذ يخرجه عن المراد من دخوله في المشهود به .
وسئل نفع الله به : عن قول الفقهاء : ولا يمكن الوارث أخذها ونحوه ، هل الفاعل أخذ أو الوارث ؟ .
فأجاب بقوله : الصواب الأول للقاعدة المقررة إذا اشتبه عليك الفاعل من المفعول فرد الاسم إلى الضمير ، فما رجع إلى ضمير المتكلم المرفوع هو الفاعل ، وما رجع إلى ضميره المنصوب هو المفعول .
قال ابن هشام : تقول أمكن المسافر السفر لأنك تقول أمكنني السفر ، ولا تقول أمكنت السفر ومن ذلك {أعجب الكفار نباته}(1/463)
مطلب على إعراب أكمل في الحمد لله أكمل الحمد
وسئل نفع الله به : عن الحمد لله أكمل الحمد ، بنصب أكمل أو جره .
فأجاب بقوله : جوز الكافيجي الجر بل ورجحه واستدل له وألف فيه ، وعين جلال السيوطي النصب وأطال في رد ما قاله شيخه الكافيجي وهوالحق ، لأن أكمل صفة لمصدر محذوف تقديره حمدا أكمل لا لله كما هو بديهي خلافا لما زعمه الشيخ . (1/464)
مطلب في توجيه حديث " كما تكونوا يولى عليكم "
وسئل نفع الله به : عن حديث " كما تكونوا يولى عليكم " المروي هكذا في شعب الإيمان للبيهقي وغيره ما وجهه ؟ .
فأجاب بقوله : أنه على لغة من يحذف النون دون ناصب وجازم ، ومثله حديث " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا " أو على رأي الكوفيين الذين ينصبون بكما ، أو أنه من تغيير الرواة لكن هذا بعيد جدا .
(1/465)
<194>
وسئللا نفع الله به : ما إعراب حديث مسلم " والذي نفس محمد بيده لا يسمع عني أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " ونحو ما جاءني زيد إلا أكرمته .
فأجاب بقوله : قال في التسيل : في تقرير هذه القاعدة التي من أفرادها هذا الحديث ويليها أي إلا في النفي فعل المضارع بلا شرط وماض مسبوق بفعل أو مقرون بقد ، ومثل في شرح التسهيل في للأول بمثل ما كان زيد إلا يفعل كذا وللثاني {ما يأتيهم رسول إلا كانوا به يستهزون} والثالث بقول الشاعر
وما المجد إللالا قد تبين أنه نداء وحكم لا يزال مؤثلا
قال : وأغنى إقتران الماضي بقد عن تقدم فعل لأن قد تقربه من الحال فيكون بذلك شبيه بالمضارع ولم يشترط في المضارع شيئ لشبهه بالاسم لأن اقترانه بالنفي يجعل الكلام بمهعنى كلما كان ؛ فلو قلت ما زيد إلا قام لم يجز لأنه مما ذكر والمستثنى لا يكون إلا اسما أو مؤولا بالاسم ، والماضي المجرد من قد بعيد من شبه الاسم ، وأنشدك بالله إلا فعلت في معنى النفي كقولهم : شر أهر ذاناب : أي ما أسألاك إلا فعلك انتهى . وقال أبو البقاء في قوله {ما يأتيهم من رسول إلا كانوا} الخ إن الجملة حال من ضمير المفعول في {يأتيهم} وهي حال مقدرة ويجوز أن تكون صفة لرسول على اللفظ أو الموضع انتهى .فعلم منه تخريج الحديث على الوجهين والأرجح الحالية لأن وقوع ما بعد إلا وصفا لما قبلها وجه ضعيف بل لايعرف لبصري ولا كوفي فإن الزمخشري تفرد بذلك ، وإن ما أوهم ذلك محمول على الحال وأبو البقاء تابع للزمخشري . وأيضا فالحالية تطرد في جميع الأمثلة ، والوصف يخنص بما إذا كان الاسم السابق نكرة كالحديث ؛ أما نحو ما جاءني زيد إلا أكرمته فلا يمكن فيه الوصفية فترجحت فيه الحالية وأنها مقدرة كما صرح به أبو البقاء . وما أورده السائل على ذلك من عدم الملازمة وجواز تخلف متعلق الإرادة الحادثة عنها لا يقدح في التخريج إذ لوصح ذلك لم يكن يصح لنا حال مقدرة ، والقواعد العقلية لا تؤثر في القواعد النحوية . على أن الترتيب الذي في الحديث شرعي لا عادي ، والذي في ما جاءني زيد إلا أكرمته عادي ، ومثل ذلك تكتفي به الحال المقدرة على أن ما ذكره في وجه الترتيب تقسير معنى وما ذكره في تقرير الحال تفسير إعراب وهم يفرقون بين تفسير المعنى وتفسير الإعراب ولا يلتزمون توافقهما كما وقع ذلك كثيرا لسيبويه رضي الله عنه والزمخشري وغيرهما ، ثم الجملة في الحديث ليست مستقلة حتى يقال هل يرجع الاستثناء إلى كل منها أو إلى بعضها بل جملة ثم يموت ولا يؤمنمرتبطة بالجملة الأولى قيد فيها وثم واقعة موقع الفاء فإنها لمجرد الربط لا للتراخي . (1/466)
مطلب ما وجه النصب في قوله وزنة عرشه
وسئل نفع الله به : ما وجه النصب في " سبحان الله وبحمده زنة عرشه " الخ ؟ .
فأجاب بقوله : نصبها بتقدير ظرف : أي قدر زنة عرشه كما بينه الخطابي وغيره وكذا البواقي ، ومعنى قوله ( ومداد كلماته ) قدر ما يوازنها في العدد والكثرة . وعبارة النهاية أي مثل عدد كلماته ، وقيل قدر ما يوازنه في الكثرة عددا أو وزنا وهذا التمثل يراد به التقريب انتهى أشار بمثل إلى المصدر أو الوصف ، وبقوله وقيل قدر إلى الظرف ، ومعنى قدر رضا نفسه : أي قدر ما يرضيه من قائله فلما حذف الظرف قام(1/467)
<195>ابلمضاف إليه مقامه في الإعراب ، وقد صرح العلماء بأن قدر ومثل ومقدار تنصب على الظرفية ، ومن قال إنها منصوبة على المصدر : أي عدد تسبيحه وتحميده بعدد خلقه ومقدار ما يرضيه خالصا وثقل عرشه ومقداره ومقدار كلماته ، أو سبحته تسبيحا يساوي خلقه في العدد وزنة عرشه في الثقل ومداد كلماته في المقدار ويوجب رضا نفسه فقد أبعد كما بينه الجلال السيوطي ، لأنه غير مصدر للتسبيح بل الفعل من الزنة : أي سبحان الله أزنه زنة عرشه وهو فاسد إذ ليس المراد إنشاء وزن التسبيح بل إنشاء قوله : أي أقول سبحان الله قولا كثيرا مقدار زنة عرشه في الكثرة والعظمة ، ثم إذا قدر في الأخرى وأعده عدد خلقه على أن ذلك قد يتعذر في رضا نفسه وتقديره أرضيه رضا نفسه فاسد لعود ضميره على غير التسبيح وهو وهو في زنة وعدد التسبيح فيختل التناسق في الكلمات وبفرض عدم التعذر في هذا هو متعذر في مداد كلماته ، ومما يفسد مصدرية عدد أنه يلزمها عدم فكة لأنه مصدر على فعل بسكون العين فيجب أن يقال عد بالإدغام قال الله تعالى {إنما نعدهم عدا} وأنه أدخل في تقديره الباء على عدد وما بعده فاقتضى أنه منصوب بنزع الخافض أو الظرفية لا المصدر إذ الباء لا تدخل عليه قبل التقدير بعدد كعدد خلقه وبمقدار زنة عرشه ورضا نفسه : أي غير منقطع ، فأشار إلى أن الأول مصدر والثاني ظرف والثالث حال وتقدير قدر المستلزم ليتساوى كل إعرابا أولى . قال في الإرتشاف : وفرق سيبويه بين زنة الجبل ووزن الجبل ؛ فمعنى وزنه ناحية توازنه : أي تقابله قربت أو بعدت ، وزنته حذاؤه : أي متصلة به وكلاهما مبهم يصل إليه الفعل وينتصب ظرفا ، وفي بعض شروح المصابيح : زنة عرشه ما يوازنه في المقدار ، يقال هو زنة الجبل أي حذاؤه في الثقل والموازنة ، وفيه إيماء إلى تخريج الحديث على الظرفية وجواز نصب عدد على أنه صفة للمصدر . ورد بأنه صفة للمذكور وهو سبحان الله ، ويعكر عليه الفصل بينه وبين موصوفه بقوله وبحمده وهو ضعيف أو ممنوع . على أن سبحان الله علم للتسبيح لم يتصرفوا فيه بشيئ ففي جواز وصفه وقفه وإما صفة لمقدر : أي سبحان الله تسبيحا عدد خلقه وهو غير محتاج إليه لأن سبحان الله مصرح به لفظا فلا حاجة لتقدير مصدر آخر لأجل صحة ما ادعى من أنه وصف للمصدر لأن المصدر المذكور منصوب بفعل مقدر فإذا قدر مصدر آخر لزم منه ثلاثة تقادير فعل المصدر الظاهر والمصدر المقدر وفعل له إذ الفعل الواحد لا ينصب مصدرين ,. وأيضا فصحة الكلام تتوقف على تقدير شيئ آخر لأن التسبيح ليس نفس العدد ولا الزنة مثلا فيقدر مثل : أي مثله في المقدار فرجع للظرفية ، خصوصا وقوله رضا نفسه لا يصح فيه تقدير المثل ولا يصح النصب هنا على الحال لأن التقدير أسبح : أي أقول سبحان الله عادا لخلقه وموزونا لكلماته ، فإن جعل حالا من الفاعل نفاه أن عدد ما بعده جار على سبحان الله أو من المفعول نفاه أن المفعول عهنا مطلق والمعهود مجيئ الحال من المفعول به ، ويتعذر كونه حالا من المضاف إليه ، ولا يطرد التقدير بالمستر في مداد كلماته فبطلت الحالية .
وسئل نفع الله به بما لفظه : في الحديث " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا مريض الخ " ما وجه الرفع فيه مع أنه استثناء من كلام تام موجب ؟ .
فأجاب بقوله : أجيب بأنه نمصوب ولكن حذقت الألف فيه نظير قول شرح مسلم في حديث " وأرى مالك خازن النار " في رواية لفظة " مالك " منصوبة وأسقطت الألف في الكتابة ؟ وهذا يفعله المحدثون كثير ا فيكتبون سمعت أنس بغير الألف ويقرءونه بالنصب وهذا أحسن ما يقال انتهى . وقال ذلك في رواية " ولأهل(1/468)
<196>نجد قرن " بلا ألف مع أنه مصروف لأنه اسم جبل وكذا قال القرطبي " وكان صداقه لأزواجه يسيرا اثنى عشرة أوقية " وقوله يسير معرب منون غير أنه وقع هنا يسير على لغة من يقف على المنون بالسكون بغير الألف . (1/469)
مطلب في أي كامة تكون اسما وحرفا وفعلا
وسئل نفع الله به : أي كامة تكون اسما وحرفا وفعلا ؟ .
فأجاب بقوله : على اسم بمعنى فوق وفعل من العلووحرف جر ومن حرف جر وفعل أمر من مان يمين واسم كما في الكشاف في {فأخرج به من الثمرات رزقا لكم} إذا كانت من للتبعيض فهي في موضع المفعول به ورزقا مفعول من أجله ولكم مفعول به لرزقا لأنه حينئذ مصدر . وفي حاشية الطيبي إذا قدرت من مفعولا كانت اسما كعن في من عن يميني ، وفي حرف جر واسم بمعنى الفم في حالة الجر وفعل أمر من الوفاء باشباع .
وسئل نفع الله به : عن الوضع في أسماء الإشارة للمعنى العام أو لخصوصيات المشتركة . فإن قيل بالأول ورد أنه لا يجوز إطلاقها عليه إذ لا تطلق إلا على الخصوصيات فلا يقال هذا والمراد أحد مما يشار إليه بخلاف رجل وإن إطلاقها على الخصوصيات مجازا ولا قائل به ، أو بالثاني لزم أن يكون مشتركا لفظا ولا قائل بمنع أن يشار به إلى أمر كلي مذكور وذلك ينافي وضعه الخاص .
فأجاب بقوله : القرافي ذكر السؤال في ذلك ، وجوابه لكن في المضمر فقال : اختلف الفضلاء في مسمى المضمر حيث وجد هل هو جزئي أو كلي ؟ فقال الأكثرون مسماه جزئي لاتفاقهم على أنه معرفة ولو كان مسماه كليا كان نكرة ، وبأنه لو كان كليا كان دالا على من هو أعم من الشخص المعين . والقاعدة العقلية أن الدال على الأعم غير الدال على الأخص فيلزم أنه لا يدل المضمر على شخص خاص ألبتة وليس كذلك وهذا معنى قول السائل . فإن قيل بالأول ورد الخ . ثم قال القرافي : وذهب الأقلون وهو الذي أجزم بصحته إلى أن مسماه كلي والدليل عليه أنه لو كان مسماه جزئيا لا يصدق على شخص آخر كالأعلام ، فإنه لما كالن مسماه جزئيا لم تصدق على غير من وضعت له إلا بلوضع ثان ، فإذا قال قائل أنا فإن اللفظ موضوعا بإيزاء خصوصيته من حيث هوهو وخصوصه ليس موجودا في غيره فيلزم أنه لا يصدق على غيره إلا بوضع آخر ، وإن كان موضوعا لمفهوم المتكلم بها وهو قدر مشترك بينه وبين غيره والمشترك كلي فيكون لفظ أنا حقيقة في كل من قال أنا لأنه ومتكلم بهذا الذي هو مسمى اللفظ فينطبق ذلك على الواقع . قال : الجواب عما احتج به الأولون أن دلالة اللفظ على الشخص المعين لها سببان . أحدهما : وضع اللفظ بإزاء خصوصيته فيفهم الشخص الموضوع بإزاء الخصوص وهذا كالعلم . والثاني : أن يوضع اللفظ بإزززاء معنى عام ، ويدل الواقع على أن مسمى اللفظ محصورفي شخص معين فيدل اللفظ عليه لانحصار مسماه فيه لا للوضع بإزائه ، ومن ذلك المضمرات وضعت العرب لفظة أنا مثلا لمفهوم تالمتكلم بها ، فإذا قالقائل أنا فهم هو لأن الواقع أنه لم يقل هذه اللفظة الآن إلا هو ففهمناه لانحصار المسمى فيه لا لوضع بإزائه وكذلك بقية المضمرات . قال : وبهذا يحصل الجواب عن القاعدة العقلية لأن اللفظ الموضوع لمعنى أعم لا يدل على ما هو أخص منه فإن الدلالة لم تأت من اللفظ وإنما أتت من جهة حصر الواقع المسمى في ذلك الأخص انتهى كلام القرافي ملخصا . وما قاله في المضمرات يأتي بعينه في اسم الإشارة . وجواب الترديد الذي في السؤال أنه ليس من باب المشترك ولا من باب المجاز بل من باب الوضع للقدر المشترك وهو غيرهما ، فهذا مثلا وضع لمشار إليه مفرد ذكر(1/470)
<197>خاص أو ما في حكمه وهو مفهوم كلي وانحصاره في خاص ليس للوضع بإزائه بل لأن المتكلم لم يشر به الآن إلا لزيد مثلا ، وهذا معنى قول بعض محققي النحاة أن المضمر واسم الإشارة كلي وضعا جزئي استعمالا ، ونظيره قول بعض الأصوليين إن الأمر موضوع للقدر المشترك بين الوجوب والندب وهو الطلب حذرا من المجاز والاشتراك لأن الوضع حينئذ ليس لكل منهما ولا لأحدهما لاحتمال أن يستعمل في غيره وإنما هو بمعنى صادق على كل منهما وهو الطلب ، وهكذا يقال في اسم الإشارة والمضمر ليس الوضع فيهما لواحد فقط بحيث يستعمل في غيره مجازا ولا لكل واحد بحيث يكون مشتركا بل لمفهوم صادق على كل فرد ، وهو في اسم الإشارة المشار إليه مفرد ذكر حاضر وفي المضمر مفرد متكلم أو غيره .
باب في أصول الدين(1/471)
مطلب أصول الدين
وسئل رضي الله عنه : فير الإيمان هل يكفي فيه التصديق الإجمالي أم لا ؟ فإن قلتم بالأول فما معنى تفسيرهم وتحديدهم الإيمان الشرعي بأنه التصديق بما علم من دين محمدج بالضرورة ؟ فإذا صح ذلك فما هو القدر المعلوم من الدين بالضرورة ؟ فإن صح أن هذا حقيقة الإيمان فهل يضر الجهل به أو ببعضه ويختل الإيمان لأن الماهية تختل بإختلال جزء منها وهذا مشكل ، والمراد بالشؤال عن هذا ما يخلص الإنسان فيما بينه وبين الله كما قال {وحسابهم على الله} لا بحسب الغير لأن دماءهم وأموالهم وتكفيرهم معصوم بالشهادتين ، بينوا لنا بيانا شافيا واضحا لأن الله جعلكم رحمة للعالمين ؟ .
فأجاب بقوله : في حقيقة الإيمان مذاهب ثمانية ذكرها صاحب المواقف وتبعه شارحها فقالا : هو عندنا يعني أتباع الشيخ أبي الحسن ، وعليه أكثر الئمة كالقاضي والأستاذ التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة تفصيلا فيما علم تفصيلا وإجمالا فيما علم إجمالا ، ثم حكيا عن قوم أنه المعرفة بالله فقط وعن آخرين أنه المعرفة باله وما جاءت به الرسل إجمالا . وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه التصديق مع كلمتي الشهادة , وعن السلف أي بعضهم والمحدثين كلهم أنه مجموع التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان ، ومعنى قوله تفصيلا فيما علم تفصيلا وإجمالا فيما علم إجمالا أن الواجب أولا وبالذات هو التصديق الإجمالي وإذا وجد اكتفى به في الأحكام الدنيوية والأخروية إن مات عقب ذلك التصديق وقبل علمه بشيئ من التفاصيل لاالآتية . وأما إذا لم يمت فإنا نخاطبه ونطالبه بالتصديق بتلك التفاصيل المعلومة من الدين بالضرورة سواء المتعلقة بالاعتقاد والعمل كما يأتي ، والدليل على ما ذكرته أمور :
منها : المواقف في أدلة زيادة الإيمان أو نقصه مما هو بحسب التعلق التفصيلي في أفراد ما علم مجيئه أي الشارع به جزء من الإيمان يثاب عليه ثوابه على تصديقه بالإجمالي . قال الشارح : يعني أن أفراد ما جاء به متعددة وداخلة في التصديق الإجمالي فإذا علم واحد منها بخصوصه أو صدق به كان هذا تصديقا مغايرا لذلك التصديق المجمل وجزاءا من الإيمان ، ولا شك أن التصديقات التفصيلية تقبل ذلك الإجمال انتهى . وهو صريح في أن الإيمان يوجد ويتحقق بالتصديق الإجمالي وإن لم يوجد التصديق التفصيلي ، ومحل ما ذكرته من أنه يتحقق بالإجمالي أولا وبالذات دون ما بعد ذلك في الأثناء فإنه لابد أن ينضم إليه بعد علمه بالتفاصيل الضرورية التصديق بها إن علم جميعها وإلا فما علمه منها .
(1/472)
<198>
ومنها ى: فول المواقف وشرحها أيضا في أدلة المذهب : الصحيح الذي عليه الشافعي وأبو حنيفة وغيرهم رضي الله عنهم من أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بما حاصله أن المسائل المختلف فيها نحو كون الله عالما أو موجدا لأفعال العبد أو غير متحيز ولا في جهة لم يبحث النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة رضوان الله عنهم ولا التابعون عن اعتقاد من حكموا بإسلامه ، فيلزم أن الخطأ فيعا غير قادح في حقيقة الإسلام ، ولا يقال لعله صلى الله عليه وسلم عرف منهم أنهم عالمون بها إجمالا فلم يبحث عنها كما لم يبحث عن علمهم بعلمه تعالى وقدرته مع وجوب اعتقادهما ، لأنما نعلم أنهم لم يكونوا كلهم عالمين بأنه تعالى عالم بالعلم لا بالذات وأنه يرى في الآ خرة وأنه ليس بجسم ولا في مكان وجهة ، وأنه قادر على أفعال العباد كلها ، وأنه موجد لها بأسرها فقولهم بعلمهم بها مما علم فساده بالضرورة ، وأما العلم والقدرة فهما مما يتوقف عليه ثبوت النبوة لدلالة المعجزة عليها فكان العلم بالنيوة دليلا للعلم بهما ولو إجمالا فلذلك لم يبحث عنهما انتهى . فتأمل قوله وكان العلم بالنبوة الخ تجده صريحا فيما ذكرته من أن الشرط في إبتداء الإيمان إنما هو الاتصديق بجميع العلوم بالضرورة إجملا فيكفي ذلك ولا يشترط التصديق بالأمور التفصيلية الضرورية إلا لمن علمها تفصيلا فيكلف بالتصديق والإذعان بها فإن صدق وأذعن استمر على إيمانه وإلا كفر من حينئذ .
ومنها : قول أئمتنا في الفروع : ويشترط لنفع الإيمان في الآخرة مع النطق بالشهادتين تصديق القلب بوحدانية الله تعالى وكتبه ورسله واليوم الآخر انتهى . فأفهم ذلك أنه يكفي التصديق بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك إجمالا ولا يشترط التفصيل إلا إن لوحظ تفصيلا كما يأتي .
ومنها : قول المحقق الكمال بن أي شريف في شرحه مسايرة شيخهة الكمال ابن الهمام : جمهور الأشاعرة ، وبه قال الماتريدي إن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط أي قبوله وإذعانه لما علم بالضرورة من دين محمد صلى الله عليه وسلم بحيث تعلمه العامة من غير نظر واستدلال كالوحدانية والنبوة والبعث والجزاء ووجوب الصلاة والزكاة والحج وحرمة الخمر ونحوها ، ويكفي الإجمال فيما يلاحظ إجمالا كالإيمان بالملائكة والكتب السماوية والرسل . ويشترط التفصيل فيما يلاحظ تفصيلا كجبريل وميكائيل وموسى وعيسى والتوراة والإنجيل حتى من لم يصدق بواحد منها كفر انتهى ، فأفهم هذا أن ما علم من الدين بالضرورة إن شعر به من جهله اشترط تصديقه به إجمالا إن شعر به إجمالا كالملائكة والكتب والرسل ، وتفصيلا إن شعر به تفصيلا كجبريل وموسى والتوراة ، وأنه لا يشترط في صحة الإيمان أن يصدق بالأشياء المفصلة إلا إذا شعر بها مفصلة .
ومنها : قولهما ما حاصله : إن الذي يجب الإيمان به هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل فيجب التصديق بكل ما جاء به من اعتقادي وعملي ؛ ومعنى التصديق بالعملي اعتقاد حقية العمل ، وتفاصيل هذين كثيرة جدا إذ حاصل ما في الكتب الكلامية هوالاعتقادات ، وما في دواوين السنة هو الاعتقادات والأعمال فاكتفى بالإجمال وهو أن يقر بأن لا إله إلا الله محمد رسول الله بشرط مطابقة قلبه واستسلامه بلسانه ، وأما التفاصيل في يعقله المكلف فيها لزمه إعطاؤه حقه . ثم إن نفي جحوده استسلام كالمواظبة على ترك سنة استخفافا بها وقتل نبي ونحوها مما ذكره الحنفية في كتبهم وتبعهم على أكثرها أئمتنا في الفروع أو وجب تكذيب نبينا صلى الله عليه وسلم كجحد المعلوم من الدين بالضرورة كان جحده كفرا وإن لم ينف جحده ذلك كان جحده فسقا وضلالا ، ثم الشاهد للحضرة النبوية وغيره قد يتفقان في الكفر بالإنكار وقد يختلفان فيتفقان في الكفر بإنكار الضروري كالإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به(1/473)
<199>من وجود ذات الله المقدسة سبحانه ، وانفراده تعالى باستحقاق العبودية على العالمين فلا شريك له لتفرده بالألوهية المستلزم لقدمه وانفراده بالخلق المستلزم لكونه تعالى حيا عليما قادرا مريدا ، ومن أن القرآن كلام الله وما يتضمنه القرآنمن الإيمان بأنمه تعالى متكلم سميع مرسل لرسل قصهم علينا ورسل لم يقصهم علينا ومنزل للكتب وله عباد مكرمون وهم الملائكة ، ومن أنه فرض الصلاة والزكاة والصوم والحج ، ومن أنه يحيي الموتى وأن الساعة آتية لاريب فيها ومن أنه حرم الزنا والخمور والقمار فإنكار شيئ من هذا كفر في حق الفريقين ، ويختلفان فيما نقل آحاد كسؤال الملكين ووجوب زكاة الفطر فلا يكفر بإنكاره إلا الشاهد فقط ما لم يدع نحو نسخ لأنه علم بالضرورة مجئ النبي صلى الله عليه وسلم لسماعه منه ، وقيل إنكار سؤالهما كفر ولو في حق الغائب لتواتره معنى ، ومحله إن أنكره بعد تواتره عنده بخلاف قبله لأنه لا تكذيب فيه حينئذ للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما فيه تكذيب أو تغليط للرواية أو نحوهما ، ومن ثم لو علم منه أنه رده استخفافا لأجل التصريح به في السنة دون القرآن كفر ، ولا يكفر بإنكار قطعي غير ضروري كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب ، وظاهر كلام الحنفية كفره ويجب حمله أي بناء على قواعدهم على منكر علم أنه قطعي وإلا فلا يكفر إلا إذا ذكر له أهل العلم أنه من الدين وأنه قطعي فتمادى فيما هو عليه عنادا فيكفر لظهور التكذيب منه حينئذ كما دل عليه كلام إمام الحرمين . وأما التبري من كل دين يخالف دين الإسلام فإنما شرطه جمهور الشافعية في حق من يخص رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالعرب لإجراء أحكام الإسلام عليه لا لثبزت إيمانه واتصافه به فيما بينه وبين الله تعالى فإنه لو اعتقد عموم الرسالة وأتى بالشهادتين فقط كان مؤمنا عند ذلك وهو معنى التبري المذكور ، وقيل : لا يشترط التبري مطلقا لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكتفي بالشهادتين فقط من أهل الكتاب مطلقا ، ويجاب بأن من كان بحضرته صلى الله عليه وسلم وسمع منه ادعاء عموم الرسالة فإذا شهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لزم تصديقه إجمالا في كل ما يدعيه وتفصيلا فيما علمه من ذلك تفصيلا ، بخلاف من لم يسمع ادعاء عمومها لجواز أن يجهل تواتر ذلك فاحتيج لتلفظه بالتبري السابق ، وبعض التفاصيل المذكورة المندرجة تحت الشهادتين اختلف فيها هل التصديق بها داخل في مسمى الإيمان فيكفر منكرها أو لا فلا ، فمن ذلك اختلاف أهل السنة في تكفير المخالف في بعض العقائد بعد اتفاقهم على كفر المخالف في بعض الأصول المعلوم ضرورة كالقول بقدم العالم ونفي حشر الأجساد ونفي علمه تعالى بالجزئيات ونفي فعله بالاختيار ، بخلاف ما ليس كذلك كنفي مبادئ الصفات مع إثباتها كقول المعتزلي : عالم بلا علم وكنفي عموم الإرادة للخير والشر كالقول بخلق القرآن فقال جماعة : هو كفر . والصحيح عند جمهور المتكلمين والفقهاء والأشعري خلافه ، انتهى ملخصا .
وهو مشتمل على صرائح متعددة فيما ذكرته أولا من الاكتفاء بالتصديق الإجمالي في ابتداء الإيمان بخلاف دوامه وبخلاف ملاحظة التفاصيل ، فإنه لا بد فيهما من التصديق التفصيلي ، فمن تلك الصرائح قوله : فاكتفى بالإجمال الخ ، وقوله : محله إن أنكره بعد تواتره عنده الخ ، وقوله : ويجب حمله ، وقوله : فإنه لو اعتقد عموم الرسالة وأتى بالشهادتين فقط كان مؤمنا عند الله ، وقوله : فإذا شهد أنه رسول الله لزم تصديقه إجمالا الخ ، فتأمل ذلك يتضح لك ما ذكرته .
إذا تقرر ذلك فقول السائل : هل يكفي فيه التصديق الإجمالي ؟ جوابه : نعم بشرطه السابق ، وهو أنه يكتفي منه بذلك ابتداء عند عدم ملاحظة التفصيلي وإلا لم يكف بل لا بد من التصديق التفصيلي ، وقوله : فإن قلتم بالأول الخ . جوابه : أن التصديق بذلك له جهتان : إجمالي : وهو مندرج في التصديق بالوحدانية(1/474)
<200>ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا يكفي ممن لم يخطر بباله شسء من التفاصيل المعلومة من الدين بالضرورة ، تفصيلي : وهو شرط فيمن لحظ شيئا بتلك التفاصيل ، فلا يكون مؤمنا حتى يصدق بما لحظه أو عرفه منه . وقوله : فما القدر المعلوم من الدين بالضرورة ؟ جوابه : أنه قد صدق ضابطه وهو أن يكون قطعيا مشهورا بحيث لا يخفى على العامة المخالطين للعلماء بأن يعرفوه بداهة من غير افتقار إلى نظر واستدلال ، ولذلك مثل منه في الاعتقادي وحدانية الله تعالى وتفرده بالألوهية وتنزهه عن الشريك ، وسمات الحادثات كالألوان وتفرده باستحقاق العبودية على العالمين وبإيجاد الخلق وحياته وعلمه وقدرته وإرادته وإنزاله الكتب وإرساله للرسل ، وأن له عبادا مكرمين وهم الملائكة ، وأنه يحيي الموتى ويحشرهم إلى دار الثواب والعقاب ، وأن المؤمنين مخلدون في الجنة والكافرون مخلدون في الكتاب ، وأن العالم حادث وأنه تعالى محيط بالجزئيات كالكليات ، وغير ذلك من كل خير نص عليه القرآن والسنة المتواترة نصا لا يحتمل التأويل أو اجتمعت الأمة على أن ذلك هو معناه ، وعلم من الدين بالضرورة .
ومنها : في العملي وجوب الوضوء والغسل من الجنابة ، والتيمم وانتقاض الطهارة بنحو البول وحصول الجنابة بنحو الجماع والحيض ، ووجوب الصلوات الخمس وعدد ركعاتها ، ووجوب نحو الركوع والسجود فيها وبطلانها بتعمد نحو الحدث ووجوبا لجمعة بشروطها ، ووجوب الزكاة في الأنعام والزرع والنقود دون التجارة ، وكذا الفطرة إن راعينا خلاف ابن اللبان ، ثم رأيت ابن سمنج قال : لا يكفر جاحدها وقدر نصبها المجمع عليه ، ووجوب صوم رمضان والحج والعمرة على من استطاعهما ، وحل البيع والمؤاخذة بالإقرار وحل الأخذ بالشفعة ، وحل الإجارة والاعتداد بالوقف والهبة والصدقة والهدية وحصول التوارث بين الأقارب ، وأقدار الأتصباء المذكورة في القرآن لذوي الفروض ، وحل النكاح ووقوع الطلاق ، وجريان القود أو الدية ، وحل قتل المرتد ورجم الزاني المحصن وجلد غيره ، وقطع السارق ، وحل الجهاد وأخذ الجزية والحلف بالله سبحانه وتعالى ، وتولي الإمامة العظمى ، والعتاق ونفوذه ، وتحريم تعمد الوطء في الحيض والنفاس ، والصلاة بنجو غير وضوء والجماع في نهار رمضان بخلافه في الحج ، وتحريم الربا والغصب والمكس ، ونكاح المحارم بالنسب أو الرضاع أو المصاهرة ، والجمع بين نحو الأم وابنتها والأختين في النكاح ، وتحريم المطلقة ثلاثا وقتل النفس بغير الحق ، والزنا واللواط ولو في مملوكه ، وإن قيل لا حد به ، لأن مأخذه غير مأخذ الحرمة والسرقة وشرب الخمر والقمار وأكل الميته في حال الاختيار ، وشهادة الزور والغيبة والنميمة وإيذاء المسلمين ونحو ذلك ، فالاعتقادي بأقسامه السابقة والعملي بأقسامه الثلاثة ؛ يعني ما قلنا إنه واجب أو حلال أو حرام معلوم من الدين بالضرورة من حيث أصل كل منه ، وإن وقع خلاف في بعض تفاصيل صور من العملي ، فمن أنكر واحدا منها بالكلية أو اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع كصلاة سادسة اعتقد أن وجوبها كوجوب الخمس فخرج نحو الوتر أو أنكر مشرعية السنن الراتبة أو صلاة العيدين أو أنكر بقية الصلاة زاعما أنها لم ترد إلا مجملة كفر . وضابط الاعتقادي أن من نفى أو أثبت ما هو صريح في النقص كفر ، أو ما هو ملزوم للنقص لم يكفر لأن الأصح أن لازم المذهب ليس بمذهب .
فإن قلت : يشكل على بعض تلك المثل التي ذكرتها أخذا من تعريفهم لما علم ضرورة بما مرإنكار نكاح المعتدة فإنه لا يكون كفرا .
(1/475)
<201>قلت : قد بينت في شرح (الإرشاد) ما في ذلك مع رد قول البلقيني : إنه كفر لأنه معلوم من الدين بالضرورة فعليه لا إشكال . هذا ومن أراد تحقيق هذا المبحث وغيره من المكفرات فعليه بكتاب (الإعلام في قواطع الإسلام) فإني ذكرت فيه أكثر المكفرات على المذاهب الأربعة مع بيان ما يوافق قواعد مذهبنا مما نص عليه غير أئمتنا فحسبك الحنفية فإنهم أوسع الناس في هذا الباب ، وكذا القاضي في (الشفاء) وغيره .
واعلم أن التردد في المعلوم من الدين بالضرورة كالإنكار ، وأن الكلام في مخالط للمسلمين بخلاف غير المخالط لهم فإنه ال يكفر بإنكاره ذلك ، ولا بالتردد فيه ما دام لم يتواتر عنده كما صرح به بعض أئمتنا ، وبه يعلم أنه لا يكفي في الكفر بالإنكار أن يقول له شخص أو أشخاص لم يبلغوا عدد التواتر : هذا واجب أو حلال أو حرام بل لا بد أن يتواتر عنده ذلك ، فإذا تواتر عنده كفر بالشك أو الإنكار لأنه مكذب للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا أدل دليل على أن تفاصيل المعلوم من الدين بالضرورة غير شرط في صحة الإيمان ابتداء كما قدمته ، وخرج بقولهم المعلوم من الدين إنكار المعلوم بالضرورة لكنه من غير الدين ، بأن لم يرجع إنكاره إلى إنكار شريعة ، كإنكار غزوة تبوك أو وجود عمر وقتل عثمان رضي الله عنهما وغير ذلك إذ ليس فيه أكثر من الكذب والعناد كإنكار هشام وعباد وقعة الجمل ، ومحاربة علي من خالفه ، نعم إن اقترن بذلك اتهامه للناقلين - وهم المسلمون – أجمع كفر لسريانه إلى إبطال الشريعة ، ومثله إنكار مكة والكعبة لاستلزامه ترك الحج ووجوب الاستقبال وغيرهما من الشرائع المتعلقة بذلك .
وقول السائل : فإن صح أن هذا حقيقة الإيمان الخ ؟ جوابه : ما علم مما مر أن التصديق بالمعلوم من الدين بالضرورة لا يشترط التصديق به أو ببعضه تفضيلا إلا ممن علمه تفصيلا بأن تواتر عنده ، فلا بد من التصديق به وإلا كان كافرا ، وأما من لم يتولتر شيء منه فيكفيه التصديق الإجمالي لما علمت من أن إنكاره قبل التواتر غير كفر ، وبهذا علم الجواب عن بقية السؤال . ثم رأيت السبكيفي فتاويه ذكر في هذه المسألة كلاما حسنا مؤيدا لما قدمته فأحبت ذكر حاصله ، وإن كان فيه بعض طول ، فإنه لما نقل الإجماع على أنه صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الجن وأن ذلك أمر مقطوع به قال : وأما وجوب الإيمان بذلك فصحيح بمعنى تصديق ما دل عليه من الكتاب والسنة والإجماع بعد الإحاطة بها وليس معناه أنه يجب ، ويشترط في الإيمان اعتقاد ذلك ولا يكون مؤمنا إلا به حتى يلزم تحصيل سببه ، فإن العمي لو أقام ظهره لا يعتقد ذلك ولم يخطر باله ولا عرف شيئا من الأدلة الدالة عليه غير أنه يعلم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله كان مؤمنا وليس بعاص بتأخيره تعلمه لذلك أو تركه إذا قام غيره به ، وقول من قال من المحققين بوجوب الإيمان بذلك محمولا على ما قلناه ، فإن الشؤيعة كلها وجميع ما ورد فيها يجب الإيمان به إجمالا ، وأما تفصيلا فمنه ما يجب على كل أحد وهو ما يعم جميع المكلفين كالصلاة ونحوها ، ومنها ما ليس كذلك فلا يجب إلا على من احتاج إليه أو من علم بدليله ، وما نحن فيه من هذا القسم ، ثم قال بعد كلام طويل : الناس على أقسام :
منهم : عامي لم تخطر بباله هذه المسألة أو خطرت بباله وكا اعتقد فيها شيئا لجهله فهذا لا شيء عليه لأنه لم يكلف بذلك ، لكن يشترط أن يطلق شهادته بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولا يخصصها ن فمتى خصصها فقال إلى الإنس خاصة فيتكلم عليه .
ومنهم : عامي اعتقد خلاف الحق لشهبة أو تقليد جاهل ، فهذا اعتقاده هذا خطأ يلزمه النزوع عنه وأن(1/476)
<202>وأن يسأل أو يبحث ليظهر له الثواب وهو بإصراره على هذا الاعتقاد الخاطئ عاص لأنه من أصول الدين الذي لا يعذر بالخطأ فيه ، والفيه إذا اعتقد في هذه المسألة خلاف الحق بشبهة أو تقليد جاهل عاص أيضا كالعامي بل هو عامي فيها ، ومحل الحكم فيهما بالعصيان فقط ، وصحة الإيمان إذا أطلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فإن خصاها فقالا إلى الإنس فقط فأخشى عليهما الكفر ؛ لأن الإسلام الذي بينه الشارع بالشهادة المطلقة . (1/477)
مطلب في إيمان المقلد
ومنهم من اعتقد التعميم في ذلك من عامي أو فقيه لا عن دليل بل تقليد محض فيكفيه ذلك وليس بعاص لأنه لم يقم دليل على إيجاب اليقين في أمثال هذه المسألة ولا هو شرط في الإيمان ، فإذا لم يكن للشخص علم بأدلة هذه المسألة واقتصر على التقليد فيها كفاه ، ولا فرق بين أن يكون اعتقاده على جهة التقليد جازما أو غير جازم فإن التقليد لفظ مشترك بين الاعتقاد الجازم المطابق لا لموجب وبين قبول الغير بغير حجة سواء كان الجزم به أم لا ، فهذا الثاني كافي هنا ولا يكفي فيما يجب الإيمان به من الوحدانية ونحوها ، والأول يكفي بأن إيمان المقلد صحيح عند جمهور العلماء خلاا لأبي هاشم من المعتزلة ، وكثير من الناس يغلطون ويعتقدون أن إيمان المقلد لا يصح ، وقد بينت هذا في فتواي وقلت : إن الناس ثلاث طبقات : عليا وهم أهل المعرفة والاستلال التقصيلي وهو العلماء . وأهل الاستلال الإجمالي وهم كثيرون من العوام فلا خلاف في صحة إيمانهم ، ووسطى وهم أهل العقدة المصممون على غير ذلك ، ولم يقل بتكفيرهم إلا أبو هاشم ، ودنيا وهم المقلدون من غير تصميم ، ولم يقل بصحة إيمانهم إلا شذوذ منهم من كان غائبا وقد وصلت إليه هذه الأدلة ، وله تمكن من النظر فيها ، فهذا المطلوب منه العلم بها وبأدلتها ويلزمه الإيمان به قطعا لعلمه فصار بمنزلة من سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فيلزمه تصديقه فيه قطعا ، وأما الإيمان الإجمالي فواجب على كل أحد بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فلا بد منه في هذه المسألة وغيرها ، ويكتفى به في هذه المسألة بالنسبة إلى غير العالم ، ولا يكتفى به في حق العالم وفرض ذلك عسر ، لأن العالم متى أحاط علمه بهذه الأدلة ووجه دلالتها حصل له العلم ، ولا يمكن تحلف العلم عنه بعد ذلك ، نعم لو كان الشخص له قوة على النظر وتمكن من الأدلة والوقوف عليها والنظر ، ولم يفعل من اقتصر على محض التقليد فالذي يظهر أنه لا يعصي بذلك ويكفيه التقليد ، أما إذا لم يقلد ولكن توقف ولم يعتقد منها شيئا مع تمكنه من إدراك ذلك فهو محل نظر ، ويترجح أيضا أنه غير مأثوم لعدم قيام الدليل على وجوب ذلك ، بخلاف ما إذا اعتقد غير الحق فإن ذلك يكون كتقصيره والإقدام بغير دليل خطأ بخلاف التوقف فيما لا يجب كما يأتي في الفروع .
أقول : من أقدم على فعل بغير علم يحكمه يكون مأثوما ومن توقف عنه لايكون مأثوما ، ثم قال بعد كلام طويل أيضا : كلام إمام الحرمين يقتضي أن إرساله صلى الله عليه وسلم إلى الجن معلوم بالضرورة ، وما قاله الإمام صحيح إذ هو القدوة في ذلك ؛ لأنا نفهم قطعا من نقل المتواتر المفيد بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم ادعى الرسالة مطلقا ولم يقديها بقيلة ولا طائفة ولا إنس ولا جن فهي عامة . ثم المعلوم بالضرورة من الشرع قسمان أحدهما ما يعرفه الخاصة والعامة . والثاني ما قد يخفى على بعض العوام ، ولا ينافي هذا قولنا : أنه معلوم بالضرورة لأن المراد من مارس الشريعة علم منها ما يحصل به العلم الضروري بذلك ، وهذا يحصل لبعض الناس دون بعض بحسب الممارسة(1/478)
<203>وكثرتها أو قلتها أو عدمها .
فالقسم الأول : من أنكره من العوام والخواص فقد كفر لأنه كالمكذب للنبي صلى الله عليه وسلم في خبره ، ومن هذا القسم إنكار وجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج ونحوها ، وتخصيص رسالته صلى الله عليه وسلم ببعض الإنس فمن قال ذلك فلا شك في كفره وإن اعترف بأنه رسول الله لأن عموم رسالته إلى جميع الإنس مما يعلمه الخواص والعوام بالضرورة من الدين .
القسم الثاني : من أنكره من العوام الذين لم يحصل عندهم من ممارسة الشرع ما يحصل به العلم الضروري لم يكفر وإن كانت كثرة الممارسة توجب للعلماء العلم الضروري به ، ومن هذا القسم عموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الجن فإنا نعلم بالضرورة ذلك لكثرة ممارستنا لأدلة الكتاب والسنة وأخبار الأمم ، وأما العامي الذي لم يحصل له ذلك العلم إذا أنكر ذلك فإن قيد الشهادة بالرسالة إلى الإنس خاضة خشيت عليه الكفر كما قدمت ، وإن أطلق الشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ن ولم يتبنه إلى أن إنكاره لعموم الرسالة للجن يخالف ذلك فلا أرى الحكم بكفره ، ولكن يؤدب على كلامه في الدين والجهل ، ويؤمر بأن يتعلم الحق في ذلك ، لتزول عنه الشبهة التي أوجبت له الإنكار ، وإذا لم منه إنكار ولا تكلم في ذلك ولا خطر بباله شيء منه فلا لوم عليه ، ولا يؤمر بتعلم ذلك ؛ لأنه ليس بفرض عين ، وإن خطر بباله ذلك لزمه السؤال واعتقاد الحق وصرف نفسه عن اعتقاد الباطل ويشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة فعلم أن العمي لا يكلف بالعلم بذلك قطعا ولا ظنا وأن العالم المطلوب منه العلم ، وأن هذه المسألة وإن كانت قطعية لكن في نفسها إذ القطع فيها ير لازم للعامي فهي بالنسبة إليه كسائر الفروع ، فيكتفى فيها بالإجماع عنده على أنه صلى الله عليه وسلم مرسل للثقلين متواتر مقطوع به كسائر الفروع الثابتة بالتواتر كما تضمنه كلام إمام الحرمين ، انتهى كلام السكبي رحمه الله وشكر سعيه . وهو موافق لكثير مما قدمته ، ومشتمل على فوائد ينبغي إمعان النظر فيها ومزيد تأملها لخفائها على أكثر المحصلين ، واعتقاده فيها خلاف الصواب . (1/479)
مطلب في عقيدة الإمام أحمد رضي الله عنه وأرضاه
وسئل رضي الله عنه ونفعنا به : في عقائد الحنابلة ما لا يخفى على شريف علمكم ، هل عقيدة الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه كعقائدهم ؟ .
فأجاب بقوله : عقيدة إمام السنة أحمد بن حنل رضي الله عنه وأرضاه وجعل جنان المعارف متقلبه ومأواه وأقاض علينا وعليه من سوابغ امتنانه وبوأه الفردوس الأعلى من جنانه موافقة لعقيدة أهل السنة والجماعة من المبالغة التامة في تنزيه الله تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا من الجهة والجسمية وغيرهما من سائر سمات النقص ، بل وعن كل وصف ليس فيه كمال مطلق ، وما اشتهر به جهلة المنسوبين إلى هذا الإمام الأعظم المجتهد من أنه قائل بشيء من الجهة أو نحوها فكذب وبهتان وافتراء عليه ، فلعن الله من نسب ذلك إليه أو رماه بشيء من هذه المثالب التي برأه الله منها ، وقد بين الحافظ الحجة القدوة الإمام أبو الفرج ابن الجوزي من أئمة مذهبه المبرئين من هذه الوصمة القبيحة الشنيعة أن كل ما نسب إليه من ذلك كذب عليه وافتراء وبهتان ، وأن نصوصه صريحة في بطلان ذلك وتنزيه الله تعالى عنه ، فاعلم ذلك فإنه مهم .
وإياك أن تصغي إلى ما في كتب ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وغيرهما ممن اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم ، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله ، وكيف تجاوز هؤلاء الملحدون الحدود وتعدوا الرسوم وخرقوا سياج الشريعة والحقيقة فظنوا بذلك أنهم على هذى من ربهم وليسوا كذلك(1/480)
<204>بل هم على أسوإ الضلال وأقبح الخصال وأبلغ المقت والخسران وأنهى الكذب والبهتان فخذل الله متبعه وطهر الأرض من أمثالهم .(1/481)
مطلب أن ما في
الغينية للشيخ عبد القادر قدس سراه أشياء مدسوسة عليه من بعض الممقوتين
وإياك أن تغتر أيضا بما قع في ( الغينية ) لإمام العارفين وقطب الإسلام والمسلمين الأستاذ عبد القادر الجيلاني ، فإنه دسه عليه فيها من سينتقم الله منه وإلا فهو بريء من ذلك وكيف تروج عليه هذه المسئلة الواهية مع تضلعه من الكتاب والسنة وفقه الشافعية والحنابلة حتى كان يفتي على المذهبين ، هذا مع ما انضم لذلك من أن الله من عليه من المعارف والخوارق الظاهرة والباطنة وما أنبأ عنه وما أظهر وتواتر من أحواله ، ومنه ما حكاه اليافعي رحمه الله وقال " مما علمناه بالسند الصحيح النتصل أن الشيخ عبد القادر الجيلاني أكل دجاجة ثم لما لم يبقى غير العظم توجه إلى الله في إحيائها فأحياها الله إليه وقامت تجري بين يديه كما كانت قبل ذبحها وطبخها ، فمن إمتن الله علي بمثل هذه الكرمات الباهرة يتصور أو يتوهم أنه قائل بتلك القبائح التي لا يصدر مثلها إلا عن اليهود وأمثالهم ممن استحكم فيه الجهل بالله وصفاته وما يجب له ويجوز وما يستحيل {سبحانك هذا بهتان عظيم} {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين} {ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم} . ومما يقطع به كل عاقل أن الشيخ عبد القادر لم يكن غافلا عما في ( رسالة القشيري ) التي سارت بها الركبان وإشتهرت بين سائر المسلمين سيما أهل التحقيق والعرفان ، وإذا لم يجهل ذلك فكيف يتوهم فيه هذه القبيحة الشنيعة ، وفيها عن بعض رجالها أئمة القوم السالمين عن كل محذور ولوم أنه قال : كان في نفسي شيئ من حديث الجهلة فلما زال ذلك عني كتبت إلى أصحابنا إني قد أسلمت الآن ، فتأمل ذلك واعتن به لعلك نوفق للحق إن شاء الله تعالى وتجري على سنن الإستقامة ، ولم نعلم أحد من فقهاء الشافعية ابنلى بهذا الاعتقاد الفاسد القبيح الذي ربما أدى إلى الكفر والعياذ بالله إلا ما نقل عن العمراني صاحب البيان ولعله كذب عليه ، أو أنه تاب منه قبل موته بدليل أن الله تعالى نفع بكتبه شرقا وغربا ، ومن على ذلك الاعتقاد لاينفع الله بشيئ من آثاره غالبا . (1/482)
مطلب في مطالعة العقائد
وسئلت : عن مطالعة كتب العقائد ؟ .
فأجبت بقولي : لا ينبغي للإنسان الذي لم يحط بمقدمات العلوم الإلهية والبراهين القطعية أن يشتغل بمطاعة شيئ من كتب العقائد المشكلة ، فإنها مزلة الأقدانم للعوام وجالبة لوقوعهم في ورطة الحيرة والأوهام ، بل ربما أدى بهم ذلك إلى الكفر الصريح والابتداع القبيح ، فليترك العاقل ذلك إذا أراد سلامة دينه كان لابد فاعلا فليلزم شيخا عالما بفن الكلام وغيره نصوحا سليم العقيدة فليقرأعليه في ذلك مبتدئا فيه إلى أن يحيط بشيئ عنه بقدر ما يصحح به عقيدته ثم يترك التوغل في ذلك فإنه الضلال الأكبر كما أشار إليه إمامه الشافعي صلى الله عليه وسلم وأرضاه وجعل الفردوس متقلبه ومثواه آمين .
(1/483)
<205>
(1/484)
مطلب في من طعن على إبي الحسن وأبي اسحق الأشعريين وخلافهم
وسئل نفع الله به ، بما لفظه : طعن بعض الناس في أبي الحسن وأبي إسحق الأشعريين والبقلاني وابن فورك وأبي المعالي إمام الحرمين والباجي وغيرهم ممن تكلم في الأصول ورد على أهل الأهواء بل ربما بالغ بعض الماحدة فادعى كفرهم فهل هؤلاء كما قال ذلك الطاعن أو لا ؟ .
فأجاب بقوله : ليسوا كما قال ذلك الخارق المارق المحارف المخارف الضال الغال الجاهل المائل ، بل هم الدين وفحول علماء المسلمين فيجب الإقتداء بهم لقيامهم بنصرة الشريعة وإيضاح المشكلات ورد شبة أهل الزيغ وما يحب في الإعتقادات والديانات لعلمهم بالله وما يجب له وما يستحيل عليه وما يجوز في حقه ولا يعرف الوصول إلا بعد معرفة الأصول ، ومن ثم فضل أقوام علوم القرآن والحديث وقدموها على حفظ المسائل الفقهية حتى أدى ذلك بعض ملوكهم إلى أن توعد الفقهاء وأخافهم ، وبعضهم حبس الناس على اشتغالهم بالمدونة وأحرقها حتى اجتمع القاضي ابن زرقون في حضرة بعض أمرائهم فقال : هل بقي أحد مما ينتحل هذا المذهب فقال بعض الظاهرية : لم يبق منهم إلا القليل ، فقال : إنهم يحكمون في دين الله بغير دليل يقولون في المصلي بنجاسشة يعيد في الوقت لأن النجاسة إن كان غسلها واجب أعاد أبدا وإلا فلا إعادة عليه فالإعادة في الوقت ما قام عليها دليل . فأجابه ابن زرقون فقال له : الأصل في ذلك حديث الأعرابي " ارجع فصل فإنك لم تصل " ولم يأت في طرق الحديث أنه أمره بإعادة ما مضى فاستكان وعند ذلك الأمير وقال : دعوا الناس على مذاهبهم ، والواجب الإعتراف بفضل ألئك الأئمة المذكورين في السؤال وسابقيهم ، وأنهم من جملة المرادين بقوله صلى الله عليه وسلم " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله " ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين فلا يعتقد ضلالتهم إلا أحمق جاهل مبتدع زائغ عن الحق ولا يسبهم إلا فاسق ، فينبغي تبصير الجاهل وتأديب الفاسق واستتابة المبتدع ، وإلا فقال بعض أئمة المالكية : يضرب إلى أن يموت كما فعل سيدنا عمر رضي الله عنه بضبيع المشهور المتهم ، وورد أنه لما أكثر ضربه قال له : إن كنت تريد دوائي فقد بلغ موضع الداء ، وإن كنت تريد قتلي فعجل علي فخلى سبيله . (1/485)
مطلب عما يقول بعض الأصوليين إنه لا يكمل الدين إلا بمعرفة أصول الدين ، ويتعين على كل أحد الاشتغال به
وسئل رضي الله عنه : : عما يقول بعض الأصوليين : إنه لا يكمل الدين إلا بمعرفة أصول الدين وتحقيقه ، ويتعين على كل أحد الاشتغال به وتقديمه على تعلم سائر الفروع ، ومن خالف في ذلك ربما ضللوه وكفره هل هو صحيح أو لا ؟ .
فأجاب بقوله : ليس ما قالوه صحيح بإطلاقه كما شنع الشافعي رضي الله عنه وغيره من الأئمة على أهل الكلام وبدعوهم وضللوهم بما هو مبسوط في غير هذا المحل ، ومن ثم لم يقل من الأئمة الأشعرية بنلك المفالة المحكية في السؤال ولا يتأولها عليهم إلا كل غبي جاهل ، إذ لو كان الإسلام لايتم إلا على القوانين العقلية التي رتبها الأصوليون لبينها صلى الله عليه وسلم للناس وبلغها إليهم كما أمر في قوله تعالى {بلغ ما أنزل إليك من ربك}الآية ، فلما تيقنا أنه لم يدعوا الناس لذلك ولا تكلم به أحد من الصحابة بكلمة واحدة فما فوقها من هذا النمط من طريق تواتر ولا آحاد من طريق صحيح ولا سقيم علم أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه عدلوا(1/486)
<206>إلى ما هو أبين للفهم ليستبقوا إليه بأوائل العقل وهو ما أمر الله به من الاعتبار بمخلوقاته من غير ما آية ، ولم يمت صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الناس وبين ما أنزل إليهم وما أمر بتبليغه في خطبته في حجة الوداع وغيرها من مقاماته بحضرة العامة وقوله " هل بلغت " وما أمر به هو كمال الدين وتمامه بقوله تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} فلا حجة في إثبات التوحيد وما يجب له تعالى وما يجوز وما يستحيل بما سوى ما أنزله في كتابه وبينه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وما نبه عليه من الاعتبار فقال {ليس كمثله شيئ وهو السميع البصير} كما ذكر في كتابه العزيز ، فإذا نظر في نفسه وما ركب فيه من الجواهر المدركة والجوارح المباشرة للقبض والبسط والأعضاء المعدة للأفعال كالأضراس المعدة للطحن عند فراغ الرضاع والحاجة للطعام والمعدة لنضج الطعام وإنعامه لمجاري الأعضاء والعروق ، وغير ذلك مما في البدن من البدائع التي لا يعقلها إلا العالمون ، ولا يفهم حقيقة ما وضعت له إلا العارفون ، وقوله تعالى {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} {إن في خلق السموات والأرض لآيات} {أفرأيتم ما تمنون} الآيات . وشبه ذلك من المجادلة الواضحة التي يدركها العقلاء وعامة المخاطبين وهي أكثر من أن تحصى فيتيقن بها وجوده ثم يتيقن وحدانيته وعلمه وقدرته بما يشاهد من كثرة أفعاله على الحكمة وإيرادها وجريها على طرقها ، فمن أيقن هذا علم سائر صفاته توفيقا على كتابه المنزل ، وعلم صدق نبيه المرسل وما ظهر عليه من المعجزات فالاستدلال بهذا أصح وأوضح في التوصل إلى المقصود ، وعليه عول سلف الأمة لأنه نظر عقلي بديهي مركب على مقدمات من العقل والعلم والتوصل إليه بطريق الأشاعرة فهو وإن صح إلا أنه لا يؤمن على صاحبه الفتنة ، ولهذا تركها السلف لا لعجزهم عنها فهم أعقل وأفهم ممن بعدهم ولم يأت آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أوائلها . (1/487)
مطلب يتعين على ولاة الأمور منع من يشهر علم الكلام بين العامة
فيتعين على ولاة الأمور منع من يشهر علم الكلام بين العامة لقصور أفهامهم عنه ولأنه يؤدي بهم إلى الزيغ والضلال ، وأمر الناس بفهم الأدلة على ما نطق به القرآن ونبه عليه إذ هو بين واضح يدرك ببداهة العقل كما مر ، ثم بتعلم أحكام العبادات والعقود التي كلفوها على ماهو مبين في الفروع . وأما من جد في الطلب وله حظ وافر من الفهم فعليه أن يقرأ علم الكلام إذا وجد إماما يفتح له مقفله ويوضح له مشكله فيزداد بقراءته والوقوف على حقائقه بصيرة في دينه ويعرف فساد مذاهب المخالفين والمبتدعة والعالين ورد شبههم ويجوز الكمال في العلم حتى يدخل تحت عموم حديث " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله " وتكفير من فعل ما ذكرناه هو كفر أو يجر إليه لأن من اشتغل بعلم الكلام ومقدماته قبل اشتغاله بمعرفة ما كلف به من العبادات وغيرها يجلس مدة ذلك وهو لم يصل ولم يصم ولا حج ، وقد لا يتم له تعلم الكلام ومقدماته إلا بعد الزمن الطويل فيمرق من الدين ويخرج من جملة المسلمين ، أعاذنا الله من الشيطان الرجيم ولا نكب بنا عن المنهج الستقيم برحمته إنه منعم كريم ، وأدام علينا الاستمساك بما جرى عليه السلف وانتهجه صالحوا الخلف آمين .
( فائدة ) زعم بعضهم أنه يقرب مما حكى عن البعض المذكور في السؤال قول الإمام في ( الإرشاد ) :(1/488)
<207>أول ما يجب على البالغ العاقل باستكماله سن البلوغ أو الحلم شرعا القصد إلى الانظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم انتهى وليس ذلك الزعم في محله ، إذ ما قاله لا خلاف فيه فلم يحصره في تعلم القوانين الكلامية التي الكلام فيها . نعم الذي يقرب من ذلك هو قول البقلاني يلزم ذكر حدوث العالم وأدلة إثبات الأعراض وامتناع خلو الجواهر عنها وإبطال حوادث لا أول لها ، وأدلة العلم بالصانع وما يجب له تعالى وما يستحيل عليه وما يجوز له ، وأدلة المعجزة وصحة الرسالة ، ثم الطرق التي وصلنا بها إلى التكليف انتهى . ولقربه من ذلك قيل عليه هفوة من القاضي . قال المازري : أردت إتباعه فرأيت في نومي كأني أخوض بحرا من ظلام ، فقلت هذه مزلة البقلاني . قال لاالبرزلي : سألت شيخنا عن قول المازري هل أراد الانتقاد عليه أو الأخذ به ؟ فقال الأول وهو يستلزم الثاني لأنه خوض فيما لا يعني ، ويحتمل أن تكون هذه واجبة مع الإمكان فليست بشرط في وجوب الأحكام فلا يمنع وجوبها مع فقدها ما ذكر انتهى .
والذي صرح به أئمتنا أنه يجب على كل أحد وجوبا عينيا أن يعرف صحيح الاعتقاد من فاسده ، ولا يشترط فيه علممه بقوانين أهل الكلام لأن المدار على الاعتقاد الجازم ولو بالتقليد على الأصح . وأما تعليم الحجج الكلامية والقيام بها للرد على المخالفين فهو فرض كفاية ، اللهم إلا إن وقعت حادثة وتوقف دفع المخالف فيها على تعلم ما يتعلق بها من علم الكلام أو آلاته فيجب عينا على من تأهل لذلك تعلمه للرد على المخالفين .
فإن قلت : كيف هذا مع قول جويز ابن منداد كتب الكلام لا يجوز تملكها والإيجارة فيها باطلة ، ومتى وجدت وجب إتلافها بالغسل والحرق ومثلخ كتب الأغاني واللهو وشعر السخفاء من المتأخرين وكتب الفلاسفة والعزائم ثم عدى ذلك إلى كتب اللغة والنحو ، وبيت ما فيها من خوض أهلها فيها في أمور لا يعلمون صحتها . ثم قال : وكتب الكلام فيها الضلالة والبدع والإلحاد في أسماء الله وصفاته ، والكفر بتأويل القرآن وتحريفه عن موضعه فلا يجوز بقائها في ديار المسلمين لئلا تضل الجاهل . فإن قيل : بعضها حق لأنكم لابد لاحقون ببعض أقسام أهل الكلام ؟ فجوابه : إن هذا خطأ علينا لأنا لا ننسب إلى الكلام ولا إلى أهله ونحن منهم برآء ، ولو تشاغل سني بالكلام لكان مبتدعا ، والسني هو المنتسب للسلف الصالح ، وكلهم زجروا عن الخوض في مثل هذا ، والخائضون في هذا من سائر أهل البدع ، ويكفي في الخروج إلى البدعة مسئلة واحدة فكيف وقد أقروا ظهورهم وأجمعوا نفوسهم انتهى كلام ابن خويز منداد .
قلت : قال ابن برزة شارح إرشاد إمام الحرمين : هذا النقل عنه باطل فإن صح عنه فالحق حجة عليه ، وإذا تصفحت قواعد الأشعرية ومذاهبهم ومبادلتهم وجدتها راجعة لعلم الكلام بل من أنكر علم التوحيد أنكر القرآن وذلك عين الكفران والخسران ، وكيف يرجع لابن خويز منداد ويترك أقاويل أفاضل الأمة وعلماء الملة من الصحابة ومن بعدهم كالأشعري والباهلي والقلانسي والمحاسبي وابن فورك والاسفرينيوالبقلاني وغيرهم من أهل السنة ،وأنشدوا في تفضيله :
أيها المقتدي ليطلب علما كل علم عبد لعلم الكلام
وقيل للقاضي أبو الطيب : إن قوما يذمون علم الكلام ، فأنشد :
عاب الكلام أناس لا خلاق لهم وما عليه إذا عابوه من ضرر
ما عاب شمس الضحى في الأفق طالعة أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر
(1/489)
<208>
وما قيل إنه بدعة لأنه لم ينظر فيه السلف مع أنه يورث المراء والجدال والشبهات رد بأنه نظر فيه السلف قطعا منهم عمر وابنه وعلي وابن عباس رضي الله عنهم ، ومن التابعين عمر ابن عبد العزيز وربيعة وابن هرمز ومالك والشافعي رضي الله عنهم ، وألف مالك رضي الله عنه رسالة فيه قبل أن يولد الشافعي رضي الله عنه ، وإنما نسب للأشعري لأنه بين مناهج الأولين ولخص موارد البراهين ولم يحدث فيه بعد السلف إلا مجرد الألقاب والاصطلاحات ، وقد حدث مثل ذلك في كل فن من فنون العلم ، والقول بأن السلف نهوا عن النظر فيه باطل ، وإنما الذي نهوا عنه علم الجهمية والقدرية وغيرهم من أهل البدع وهم الذين ذمهم الشافعي وغيره من السلف .
واعلم أن المذهب الكلامي أن يورد مع الحكم ردا لمنكره حجة مسلمة الاستلزام . وينقسم إلى منطقي وجدلي ؛ فالأول ما كان برهان يقيني التأليف قطعي الاستلزام ، والثاني ما كانت حجته أمارة ظنية لا يفيد إلا الرجحان . وزعم الجاحظ أنه ليس في القرآن من ذلك شيئ يعني من المنطقي ، أما الجدلي فهو كثير فيه كقوله {وهو أهون عليه} أي والأهون أدخل في الإمكان من بدء الخلق ، ونمنه {ما اتخذ الله من ولد} الآية ، وقول إبراهيم {أتحاجوني في الله وقد هدان} ومنه ىأيضا عند بعض المحققين {لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا} والقول بأن هذا كفر مردود كما هو مبسوط في محله من مبادئ كتب الكلام قال بعض المحققين : وطذب الجاحظ فيما ادعى بل أكثر حجج أهل الكلام مستنبطة من القرآن العظيم ، وفقنا الله لفهم ذلك آمين . (1/490)
مطلب تعلق المعتزلة في خلق الأعمال ووجه الرد عليهم
وسئل نفع الله به ، بما لفظه : ما وجه تعلق المعتزلة في خلق الأعمال بقوله تعالى {إنا كل شيئ خلقناه بقدر} وما وجه الرد عليهم ؟ .
فأجاب بقوله : الذي تمسكوا به على ذلك رفع كل وهو قراءة شاذة وأن ط خلقنا " في موضع جر صفة لشيئ ولا تعلق لهم فيها بوجه ، بل هو بنصب كل الذي هو القراءة المتواترة دليل أهل السنة على خلق الله لأعمال العباد ، وعلى قراءة الرفع لا دليل فيها لأحد المذهبين إن سلم أن جملة خلقناه صفة لشيئ وبقدر هو الخبر ؛ أما إذا جعل خبرا وبقدر حال فهو يفيد ما أفاده النصب من عموم الخلق لكل شيئ مخلوق من الأقوال والأفعال والجواهر والأعراض ، وتقدير النصب إنا كل شيئ خلقناه ، والرفع أن كل شيئ مخلوق لنا حال كونه متلبسا بقدرتنا عليه ، أو مخلوق بقدرتنا بناء على أن بقدر صفة للمخلوق أو خبر بعد خبر فحكم على كل ما صح أن يطلق عليه لفظ الشيئ بأنه مخلوق لله تعالى إذ خلقناه خبر وأي دليل على تعيين وصفيتها ، وإنما قلنا مخلوق لئلا تدخل صفات الباري فهي خارجة من العموم بالدليل العقلي فيبقى ما عداها على حاله من أنه محكوم عليه بأنه مخلوق لله تعالى .
فإن قلت : احتمال وصفية خلقنا يمنع استدلالكم بالآية .
قلت : لما كانت القراءة المتواترة التي هي قراءة النصب نصا في مدعانا أخذنا بها ، وأما قراءة الرفع فهي محتملة غلا دليل فيها لهم كما لا دليل انا فبطل استدلالهم بها وبقى استدلالنا بقراءة النصب ، فتأمل .
(1/491)
<209>
(1/492)
مطلب معنى كلام الله لموسى صلى الله عليه وسلم
وسئل نفع الله به : عن معنى كلام الله تعالى لموسى صلى الله عليه وسلم وغيره ، وهل يمكن سماع غير موسى له ؟ .
فأجاب بقوله : كلام الله وإن لم يكن من جنس كلام المخلوقين يسمعه من أكرمه الله من رسله وملائكته بواسطة أو غيرها كما قال تعالى {وما كان لبشر أن يكامه الله إلا وحيا} الآية ، وقال تعالى {وكلم الله موسى تكليما} قال بعض المالكية : من أنكر أن الله تعالى كلم موسى استتيب ، فإن تاب وإلا قتل . قال بعض المتأخرين : والكلام على الحقيقة كله لله وإضافته إلى غيره مجاز ، لأنه إن كان قديما فهو صفته ، وإن كان حادثا فهو فعله لأنه خلقه وإرادته ، ومن ثم اتفقت الأمة على أنه سبحانه متكلم ؛ فعند الأشعرية الكلام قائم بذاته العلية ويعبر عنه بالكلام النفسي . وأنكر المعتزلة ذلك وقالوا : معنى أنه متكلما أنه خالق الكلام . والإجماع على أنه كلم موسى للآيات المصرحة بذلك يرد عليهم إذ الأصل عدم المجاز .
واختلفوا في صفة سماعه للكلام النفسي . فأهل الظاهر قالوا : تؤمن به ولا نتكلم قصدا منهم إلى أنه متشابه ، وقالت الباطنية : خلق الله لموسى فهما في قلبه والم يخلق له سمعا . ومذهب أهل السنة أن الله خلق له فهما قلبه وسمعا في أذنيه وسائر بدنه سمع به كلاام الله من غير صوت ولا حرف بغير واسطة . وزعم المعتزلة جريا على مذهبهم الفاسد في إنكارهم الكلام النفسي أن الله تعالى خلق له فهما في قلبه وصوتا في الشجرو سمعه . (1/493)
مطلب في تقدير الخبر في لا إله إلا الله
وسئل نفع الله به : عن لا إله إلا الله لو يقدر الخبر ممكن لا يلزم وجود الباري لأته لا يلزم من إثبات الإمكان إثبات وجود الله فالإمكان لا يستلزم الوجود ، وبتقديره موجود لا يلزم نفي الإمكان عن غير الله لأنه لا يلزم من نفي الوجود نفي المكان فلا يلزم التوحيد الكامل .
فأجاب بقوله : لا شك أن المراد تقدير وجود لا مطلقا بل مع ملاحظة وجوب اتصاف وجوده بأنه واجب لذاته أي لا موجود وجوده واجب لذاته إلا الله وهذا لا يرد عليه شيئ ، وبفرض الغفلة عن هذا والاقتصار على تقدير موجود فقط يمكن توجيهه بأن يقال : إن الممكن يسمى موجود بالقوة فإذا قدر موجودا انتفى وجود الألوهية بسائر اعتباراته عن غير الله تعالى وإثباته بسائر اعتباراته لله تعالى ، وحينئذ فتقديره لا ينافي التوحيد الكامل بل يثبته كما هو جلي والله أعلم .
فإن قلت : يلزم على ذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز للوجود ؟ .
قلت : لا محذور فيه .
فإن قلت : هذا السؤال والجواب إنما يأتي على من يقول بوجوب التوحيد بالعقل وأكثر العلماء على خلافه .
قلت : هو ممنوع بل يأتي على من يوجبه بالشرع أيضا فتأمله ، واله سبحانه وتعالى أعلم .
(1/494)
<210>
(1/495)
مطلب أن شخصا أنكر أن القرآن الذي بالمصاحف كلام الله وإنما هي ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم
وسئل نفع الله به : عن شخص قال : ليس القرآن الموجود في مصاحف المسلمين كلام الله وليست الألفاظ الموجودة فيها هي التي جاء بها جبريل عليه السلام ، وإنما هذه الألفاظ هي ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما كلام الله تعالى الأحاديث القدسية فقط ، فما حكم الله في هذا القائل ؟ أفتونا مأجورين وبينوا الحكم في هذه المسئلة بيانا شافيا مع ما تيسر من أدلتها وأقوال العلماء فيها ، أثابكم الله الجنة ؟ .
فأجاب بقوله : قد اشتمل هذا الكلام على أمرين فاسدين :
أولهما : نفيه كلام الله عن ألفاظ القرآن وليس كما زعم ، إذ التحقيق عند أئمة الأصول أن كلام الله تعالى اسم مشترك بين الكلام النفسي القديم ، ومعنى إضافة الكلام له تعالى على هذا كونه صفة له وبين اللفظ المؤلف الحادث من السور والآيات أي سواء قلنا أن ذلك اللفظ المؤلف هو لفظ جبريل أو لفظ النبي صلى الله عليه وسلم كما صرح به في شرح المقاصد ؛ ومعنى إضافة الكلام إلى الله تعالى على هذا أنه مخلوق له ليس من تأليف المخلوقين ، وقد أجمع أهل السنة وغيرهم على أنه لا يصح نفي كلام الله تعالى عن ذلك اللفظ المؤلف كيف والإعجاز والتحدي المشتمل هو عليهما إنما يكونان في كلام الله دون كلام غيره ، فنفي ذلك القائل عنه كلام الله جهل قبيح وخطأ صريح فليؤدب على ذلك إن لم يرجع ، وما وقع في كلام بعضهم : أن تسمية هذا النظم كلام الله مجاز مؤول ، فإنه ليس معناه أنه غير موضوع للنظم المؤلفبل إن الكلام في التحقيق وبالذات اسم للمعنى القديم القائم بالنفس ، وتسمية اللفظ به ووضعه لذلك اللفظ وضعا اشتراكيا إنما هو باعتبار دلالته على المعنى القديم فلا نزاع لهم في الوضع والتسمية .
ثا نيها : فرقه بين ألفاظ القرآن وألفاظ اللأحادجيث القدسية وهو تحكم صرف ينبني على عدم تحصيله وفسلد تصوره إذ لا فرق بينهما كما سيتضح من بسط ما للعلماء في ذلك . (1/496)
مطلب على أن في القرآن ثلاثة أقوال
وحاصله أن بعض آي القرآن وهو قوله تعالى {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} ظاهر في أن ألفاظ القرآن مرقومة في اللوح المحفوظ ، وبعضها وهو قوله تعالى {نزل به الروح الأمين على فلبك} ظاهر في أن اللفظ منه صلى الله عليه وسلم إذ المنزل على القلب هو المعنى دون اللفظ ، وبعضها وهو قوله تعالى {إنه لقول رسول كريم} ظاهر في أنه لفظ الملك ، فلأجل ذلك اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال متكافئة ببادئ الرأي ، ومن ثم حكاها المحقق السعد في شرح مقاصده ولم يرجح منها شيئا حيث قال : المرضي عندنا أن له ؟أي ذلك اللفظ المؤلف اختصاصا آخر بالله تعالى ، وهو أنه اخترعه بأن أوجد أو لا الإشكال في اللوح المحفوظ لقوله تعالى {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} والأصوات في لسان الملك قوله تعالى {إنه لقول رسول كريم} أو لسان النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى {نزل به الروح الأمين على فلبك} والمنزل على القلب هو المعنى دون اللفظ انتهى . وكذلك تردد الأصفهاني فقال : اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام الله منزل واختلفوا في معنى الإنزال ؟ فمنهم من قال : إظهار القرآن ، ومنهم من قال : ألهمه جبريل ثم أداه(1/497)
<211>لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي التنزيل طريقان : أحدهما أنه صلى الله عليه وسلم انخلع عن صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه عن جبريل . والثاني : أن الملك انخلع عن صورة الملكية حنى يأخذ عنه الرسول والأول أصعب الحالين انتهى . (1/498)
مطلب في إنزال القرآن وفي حكمة امتناع قراءة القرآن بالمعنى دون النة
والذي يتعين ترجيحه بحسب الأدلة أن المنزل عليه صلى الله عليه وسلم اللفظ والمعنى ، وأن ذلك اللفظ ليس من اختراع جبريل وإنما أخذه بالتلقي الروحاني أو من اللوح المحفوظ ، ومن جرى على ذلك الإمام البيهقي فقال في قوله تعالى {إن أنزلناه في ليلة القدر} يريد والله أعلم إنا أسمعناه الملك وأفهمناه إياه وأنزلناه كما سمع فيكون الملك مستقلا به من علو إلى سفل ، والإمام أبو محمد الجويني قال : كلام الله المنزل فسمان : قسم قال الله لجبريل : قل للرسول الذي أنت مرسل إليه إن الله تعالى يقول افعل كذا وكذا أو أمر بكذا وكذا ففهم جبريل ما قاله قاله ربه ثم نزل بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ما قاله ربه ، ولم تكن العبارة تلك العبارة كما يقول الملك لمن يثق به قل لفلان يقول لك الملك اجتهد في الخدمة واجمع جندك للقتال فإن قال الرسول يقول لك الملك لا تتهاون في خدمتي ولا تترك الجند يتفرق وحثهم على مقاتلة العدو لا ينسب إلى كذب ولا تقصير في أداء الرسالة . وقسم آخر قال الله لجبريل : اقرأ على النبي هذا الكتاب فنزل جبريل بكلمة الله من غير تغيير كما يكتب الملك كتابا ويسلمه إلى أمير ويقول اقرأه على فلان فهو لا يغير منه كلمة ولا حرف . قال غيره القرآن هو القسم الثاني والقسم الأول هو السنة كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن ؛ ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى أي حنى في الأحاديث القدسية لأن جبريل أداه بالمعنى ولم تجز القراءة بالمعنى لأن جبريل أداه باللفظ ولم يبح له أداؤه بالمعنى . والسر في ذلك أن المقصود من القرآن التعبد بلفظه والإعجاز به فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه ، وأن تحت كل حرف منه معانى لا يحاط بها كثرة فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه والخفيف على الأمة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين : قسم يرويه بلفظه الموحى به وقسم يرويه بالمعنى ، ولو جعل كله مما يروى باللفظ لشق أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف . (1/499)
مطلب في معنى الإنزال
وقد رأيت عنة الزهري ما يعضد كلام الجويني . وفي هذا لمن تأمله أبلغ رد على ذلك المتحكم المذكور عنه ذلك السؤال من أن القرآن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف الأحاديث القدسية فتأمله . والطيبي فقال : لعل نزوله أي القرآن عليه صلى الله عليه وسلم أن يتلقفه الملك عن الله تلقفا روحانيا أو يحفظه عن اللوح المحفوظ فينزل به إليه ويلقيه عليه . والقطب الرازي في حاشية الكشاف فقال : الإنزال لغة الأداء بمعنى تحريك الشيئ من علو إلى سفل وكلاهما لا يتحققان في الكلام فهو مستعمل فيه في معنى مجازي ؛ فمن قال القرآن معنى قائم بذات الله تعالى فإنزاله أن يوجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ ، وهذا المعنى مناسب لكونه منقولا عن الأول من المعنيين اللغويين . ويمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الإثبات في اللوح المحفوظ ، وهذا مناسب للمعنى الثاني ، والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تعالى تلقفا روحانيا أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيها عليهم انتهى .
والدليل على أن جبريل تلقفه سماعا من الله تعالى حديث الطبراني " إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة(1/500)
<212>شديدة من خوف الله تعالى فإذا سمع بذلك أهل السماء صعقوا وخروا سجدا قيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد فينتهي به على الملائكة كاما مر بسماء سأله أهلها ماذا قال ربنا قال الحق فينتهي به إلى حيث أمر " ويوافقه حديث ابن مردويه " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة فيفزعون ويرون أنه من أمر الساعة " وأصل الحديث في الصحيح ، وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما من طرق " أنزل القرآن ليلة القدر جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء ثم نزل بعد ذلك بعشرين سنة " وفي رواية صحيحة عنه " فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم " وفي رواية للطبراني والبزار عنه " أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة من السماء الدنيا وينزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم بجواب كلام العباد وأعمالهم " وفي رواية لابن أبي شيبة عنه " دفع القرآن إلى جبريل في ليلة القدر جملة فوضعه في بيت العزة ثم جعل ينزله تنزيلا " وهذه كلها صريحة فيما مر أن اللفظ ليس لجريل ولا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولهذا كان الأصح من الخلاف في كيفية إنزاله من اللوح المحفوظ أنه نزل منه إلى سماء الدنيا في رمضان ليلة القدر جملة واحدة ثم بعد ذ1لك نزل مفرقا عشرين سنة أو ثلاثا وعشرون سنة أو خمسا وعشرين على حسب الخلاف في مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النعثة . وحكى القرطبي على هذا القول . (1/501)
مطلب في أنه لم ينزل وحي إلا بالعرية ثم ترجمه كل نبي لقومه
ومما يؤيده أيضا خبر لحاكم والبيهقي " أنزل القرآن بالتنجيم " وبينه أحد رواته بقوله : كهيئة عذرا نذرا أي في زي الصديقين {ألا له الخلق والأمر} وأشباه هذا ، وقول سفيان الثوري رضي الله عنه كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم " لم ينزل وحي إلا بالعربية ثم ترجم كل نبي لقومه " لكن فيه نظر لخر " أول من فتق لسانه بالعرية إسمعيل " وأخرج أحمد في تاريخه عن الشعي قال : نزل على الني صلى الله عليه وسلم النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته اسرافيل ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيئ ولم ينزل عليه القرآن على لسانه ، فلما مضت ثلاث سنوات قرن بنبوته جبريل فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة، والله سبحانه وتعالى الموفق للصوا ب . (1/502)
مطلب في قول أهل السنة للعبد في فعله نوع إختيار هل تعارضه الآية لشريفة ؟
وسئل نفع الله به : عن قول أهل السنة للعبد في فعله نوع إختيار هل هل يعارض قوله تعالى {وربك يخلق ما يشاء ويختار} ؟ .
فأجاب بقوله : لا يعارضه ؛ فإن الاختيار إما بمعنى القدرة والإرادة وهو ما في الآية ، وإما بمعنى قصد الفعل والميل إليه وهذا هو الذي في كلام أهل السنة .
والحاصل أن الله تعالىخلق للعبد قدرة بها يميل ويفعل فالخلق من الله والميل والفعل من العبد صادران عن تقدير الله له ذلك فهما أثر الخلق والقدرة ، فالاختيار المنسوب للعد المفسر بما ذكر هو أثر الاختيار المنسوب إلى الله تعالى فافترقا ولا إنكار في ذلك ولا معارضة للآ ية ، وبهذا يتميز أهل السنة عن فرقتي لبقدرية والجبرية . وقال الألآصفهاني في تفسيره عند قوله تعالى {ونذرهم في طغيانهم يعمهون} : اعلم أن كل فعل صدر من العبد بالاختيار فله اعتباران إن نظرت إلى وجوده وحدوثه وما هو عليه من وجوه التخصيص(1/503)
<213>فانسب ذلك إلى قدرة الله تعالى وإرادته لا شريك له ، وإن نظرت إلى تمييزه عن القسري الضروري فانسبه من هذه الجهة إلى العبد وهي النسبة المعبر عنها شرعا بالكسب في قوله تعالى {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} وقوله {فبما كسبت أيديكم} وهي المحققة أيضا ، إذا فرضت في ذهنك الحركتين الاضطرارية كالرعشة والاختيارية فإنك تميز بينهما لا محالة بتلك النسبة . فإذا تقرر تعداد الاعتبار فمذهبهم في الطغيان مخلوق لله تعالى فإضافته إليهم من حيث كونه واقعا منهم على وحه الاختيار المعبر عنه بالكسب إضافة إليهم انتهى . (1/504)
مطلب في بعثه صلى الله عليه وسلم على الملائكة
وسئل نفع الله به : ما محصل الكلام في بعثه صلى الله عليه وسلم إلى الملائكة ودليل كل مع الجواب عنه أولا؟ .
فأجاب بقوله : للعلماء في ذلك قولان . أحدهما : أنه لم يبعث إليهم، وبه جزم الحليمي والبيهقي من أئمتنا ومحمود ابن حمزة الكرماني من الحنفية . ونقل الرازي والنسفي في تفسيريهما الإجماع عليه لكن بصيغة محتملة لأن يكون المراد به إجماع الخصمين على أنهما ليسا ممن يعتمد عليهما في نقل الإجماع كما بينه بعض المحققين ، وجزم به من المتأخرين الحافظ الزين العراقي والجلال المحلي . والثاني : أنه مبعوث إليهم ورجحه التقي السبكي وزاد : أنه صلى الله عليه وسلم مرسل إلى جميع الأنياء والأمم السابقة ، وأن قوله " بعثت إلى الناس كافة " شامل لهم من لدن آدم إلى قيام الساعة ورجحه أيضا البارزي وزاد أنه مرسل إلى جميع الحيوانات والجمادات ، واستدل بشهادة الضب له بالرسالة وشهادة الشجر والحجر له . قال الجلال السيوطي : وأنا أزيد على ذلك أنه مرسل لنفسه ، واستدل الجلال للقول الثاني مع أنه تناقض كلامه في كتبه فتبع في بعضها القاءل بالأول وفي عضها القائلين بالثاني بأمور لا يخلو أكثرها عن نظر واضح .
منها : قوله وتعالى {ليكن للعالمين نذيرا} والعالمين شامل للملائكة ، فإخراجهم منه يحتاج إلى دليل ولم يوجد ودعوى الإجماع مردودة .
ومنها : قوله تعالى {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم} المراد الملائكة كما قاله أئمة التفسير ، وحينئذ فهذه الآية إنذار لهم على لسانه صلى الله عليه وسلم في القرآن الذي أنزل عليه ، وقد قال تعالى {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} وقد بلغ الملائكة فثبت بذلك إرساله إليهم وحكمة إرساله إليهم واضحة لأن غالب المعاصي راجعة للبطن والفرج وذلك ممتنع عليهم من حيث الخلقة فاستغنى عن إنذارهم فيه ، ولما وقع من إبليس لعنه الله وكا مهم أو فيهم نظير هذه المعصية أنذروا فيها . (1/505)
مطلب صلاة الملائكة في الأرض
ومنها : أن كثيرا من الآثار والأحاديث الصحيحة وغيرها تدل على أن الملائكة منهم من يصلي في السماء بصلاتنا ويؤذن بأذاننا ، ومنهم من ينزل ويحضر صلاة الفجر والعصر ويصليهما معنا في مساجدنا .
(1/506)
<214>
(1/507)
مطلب في أن من صلى في فضاء بأذان وإقامة وكان منفردا ثم حلف أنه صلى جماعة لا يحنث على ما أفتى به الحناطي رحمه الله
ومنها : ما أخرجه سعيد بن منثور وابن أبي شيبة والبيهقي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه موقوفا ، والبيهقي من وجه آخر عن سلمان مرفوعا قال : " إذا كان الرجل في أرض فأقام الصلاة صلى خلفه ملكان فإذا أذن وأقام صلى خلفه من الملائكة ما لا يرى طرفاه ، يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده ويؤمنون على دعائه " وفي رواية عن ابن المسيب " صلى خلفه من الملائكة أمثال الجبال " فكونهم يصلون خلف صلاتنا دليل على أنهم مكلفون شرعا كذا قال الجلال ، ثم قال : ويرشحه ما ذكره السبكي في الحلبيات : أن الجماعة تحصل بالملائكة كما تحصل بالآدميين ، ثم استدل بافتاء الحناطي فيمن صلى في فضاء من الأرض بأذان وإقامة وكان منفردا ثم حلف أنه صلى جماعة لم يحنث للحديث المذكور ، وما ذكره الأصحاب أنه يستحب للمصلي إذا سلم أن ينوي السلام على من على يمينه من الملائكة ومؤمني الإنس والجن .
قلت : في دلالة ذلك كله على المدعي نظر واضح إذ هذه الموافقة من الملائكة لا تقتضي إرسالا ولا عدمه كما هو واضح .
ومنها : ما أخرجه البزار عن علي كرم الله وجهه قال : " لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يعلم رسوله صلى الله عليه وسلم الأذان أتاه جبريل بدابة يقال لها البراق " فذكر الحديث إلى أن قال " خرج ملك من الحاب فقال : الله أكبر الله أكبر " إلى أن قال " وأشهد أن محمدا رسول الله " إلى أن قال " فأخذ بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقدمه وأمر أهل السماوات أن يأتموا به فحينئذ أكمل الله لمحمد الشرف على أهل السماوات والأرض " وأخرج أبو نعيم عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه مثله ، وفيه " فقال الملك : حي على الصلاة ، فيقول الله : صدق عبدي دعا إلى فريضتي " ففي شهادة الملك له بالرسالة مطلقا ، وقوله " دعا إلى فريضتي " الدال على أنها فرضت على أهل السماء كما فرضت على أهل الأرض ، وإقامته لأهل السماء وصلاة الملائكة بأسرهم خلفه وكمال الشرف له على أهل السماء دليل بعثته لهم ، وأن الصلاة فرضت عليهم كما فرضت على أهل الأرض ، وعلى أن الملائكة من جملة أتباعه إذ من جملة كمال الشرف له بعثته إليهم ، كما أن من جملة شرفه على أهل الأرض إرساله إليهم أجمعين . وأخرج ابن مردويه قوله صلى الله عليه وسلم " لما أسري بي إلى السماء أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم فقدمني فصليت بالملائكة " .
ومنها : حديث أبي نعيم " نزل آدم بأرض الهند فاستوحش فنزل جبريل فنادى بالأذان ، ومن جملته أشهد أن محمدا رسول الله مرتين " فهذه شهادة من جبريل برسالة محمد صلى الله عليه وسلم مرتين وعلمها لآدم عليه الصلاة والسلام فدل على إرساله للأنبياء والملائكة معا ، وجاء عن سبعة صحابة " أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه مكتوب على العرش وعلى كل سماء وعلى باب الجنة وأوراقها : لا إله إلا الله محمد رسول الله " فكتابة اسمه في الملكوت الأعلى دون أسماء سائر الأنبياء إنما هو لتشهد به الملائكة ويكون مرسلا إليهم . وأخرج ابن عساكر عن كعب " أن آدم أوصى ابنه شيثا عليهما الصلاة والسلام فقال : كلما ذكرت الله فاذكر إلى جنبه اسم محمد فإني رأيت اسمه مكتوبا على ساق العرش وأنا بين الروح والطين ، ثم إني طوفت فلم أر في السماء موضعا إلا رأيت محمدا مكتوبا عليه ، ولم أر في الجنة قصرا وال غرفة إلا ورأيت اسم محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبا(1/508)
<215>عليه ، ولقد رأيت اسم محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبا على نحور العين ، وعلى قضبان آجام الجنة ، وعلى ورق شجرة طوبى ، وعلى ورق سدرة المنتهى ، وعلى أطراف الحجب ، وبين أعين الملائكة ، فأطثر ذكره فإن الملائكة تذكره في كل ساعاتها " فهذا يدل على أنه نبي للملائكة حيث لم تغفل عن ذكره . وفي هذا الأثر فائدة لطيفة هي أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الحور وإلى الولدان ، وصح كذلك أنه لم يدخل أحد الجنة ولم يستقر بها ممن خلق فيها إلا من آمن به صلى الله عليه وسلم ، ولعل من فوائد الإسراء ودخوله الجنة تبليغ جميع من في السماوات ومن في الجنان من الحور العين والولدان ، ومن في البرزخ من الأنبياء رسالته ليؤمنوا به ويصدقوه في زمنه مشافهة بعد أن كانوا به قبل وجوده .
ومنها : أن السبكي رحمه الله قد بين في تأليف له أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الأنبياء آدم فمن بعده ، واستدل بخبر " كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد " وبخبر " بعثت إلى الناس كافة " ولهذا أخذ الله المواثيق على الأنبياء {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة} . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال : " لم يبعث الله نبيا قط من لدن نوح إلى أخذ الله ميثاقه ليؤمنن بمحمد " . قال السبكي : عرفنا بالخبر الصحيح حصول الكمال من قبل خلق آدم لنبينا صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه ، وأنه أعطاه النبوة من ذلك الوقت ، ثم أخذ له المواثيق على الأنبياء ليعلموا أنه المقدم عليهم ، وأنه نبيهم ورسولهم فهو صلى الله عليه وسلم نبي الأنبياء ، ولهذا كانوا قي الآخرة تحت لواءه وفي الدنيا كذلك ليلة الإسراء ، ولو اتفق مجيئه في زمنهم لزمهم وأممهم الإيمان به ونصرته كما أخذ الله عليهم الميثاق بذلك مع بقائهم على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم فنبوته إليه ورسالته إليهم معنى حاصل له ، وإنما أمره يتوقف على اجتماعهم معهم فتأخر ذلك الأمر راجع على وجودهم لا لعدم اتصافه بما يقتضيه ، فنبوته ورسالته أعم وأعظم وشريعته موافقة لشريعتهم في الأصول لأنها لا تختلف ، وتقدم شريعته فيما عساه يقع الاختلاف فيه من الفروع إما على سبيل التخصيص أو النسخ أولا ولا ، بل تكون شريعته في تلك الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم ما جاءت به أنبيائهم ، وفي هذا الوقت بالنسبة إلى هذه الأمة هذه الشريعة والأحكام تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات ، انتهى حاصل كلام السبكي .
وإذا تقرر أنه نبي الأنبياء ورسول إليهم وقد قامت الأدلة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة لزم أن يكون مرسلا للملائكة وأم يكونوا من جملة أتباعه طريق الأولى .
ومنها : اخنصاصه على سائر الأنبياء بأمور من الملائكة كقتالهم معه ومشيهم خلف ظهره إذا مشى الدال على أنهم من جملة أتباعه وداخلون في شرعه وتأييده كما في الحديث . بأربعة وزراء اثنين من أهل السما واثنين من أهل الأرض ، فاللذان من أهل السماء جبريل وميكائيل ، واللذان من أهل الأرض أبو بكر وعمر رضي الله عنهما . والوزير من أتباع الملك ضرورة فجبريل وميكائيل رؤساء أهل ملته من الملائكة كما أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما رؤساء ملته من بني آدم ، وصلاتهم عليه بعد موته بأسرهم ولم يتخلف منهم أحد وحضورهم لأمته إذا قاتلوا في سبيل الله لنصرة دينه إلى يوم القيامة ، وحضور جبريل موت أمته ليطرد عنهم الشيطان حينئذ ، ونزولهم كل ليلة قدر عليهم ، وسلامهم عليهم وإعطائهم قراءة سورة الفاتحة من كتابه مع حرصهم على سماع بقية القرآن من الإنس ولم يرد ذلك بشيء من الكتب ، ونزول إسرافيل عليه الصلاة والسلام ولم ينزل إلى الأرض قبل ذلك ولا بعده ، واستئذان ملك الموت عليه دون غيره ، وقيام ملك على قومه مكرم ليبلغه صلاة المصلين عليه ، وأنه ينزل على قبره الشريف كل يوم سبعون ألف ملك يحفون به ويضربونه(1/509)
<216>بأجنحتهم ويستغفرون له ويصلون عليه إلى أن يمسوا ، فإذا أمسوا عرجوا وهبط سبعون ألف ملك كذلك حتى يصبحوا إلى يوم القيامة ، فإذا كان يوم القيامة خرج صلى الله عليه وسلم في سبعين ألف ملك . أخرجه ابن المبارك عن كعب . (1/510)
مطلب هل النساء يرين الله في الموقف كالرجال ؟
وسئل نفع الله به : عن النساء يرين الله في الموقف كالرجال ؟ .
فأجاب بقوله : نعم بل قال جمع من أهل السنة : إنها تحصل للمنافقين في الموقف ، وجمع أنها تحصل للكافرين ثم يحجبون عنها . وأما الرؤية في الجنة فأجمع أهل السنة أنها حاصلة للأنبياء والرسل والصديقين من كل أمة ورجال المؤمنين من البشر من هذه الأمة ، واختلف في نساء هذه الأمة فقيل : لا يرين لأنهن مقصورات في الخيام ، ولم يرد تصريح برؤيتهن ، وقيل : يرين لعموم النص ، وقيل يرين في مثل أيام الأعياد التي كانت في الدنيا كيوم الجمعة فإن التجلي فيها عام . وأخرج الدارقطني حديث : " إذا كان يوم القيامة رأى المؤمنون ربهم عز وجل " وفيه " ويراه المؤمنات يوم الفطر والأضحى " . (1/511)
مطلب هل الملائكة يرون الله ؟
وسئل نفع الله : هل الملائكة يرون الله تعالى ؟ .
فأجاب بقوله : ذكر الشيخ عز الدين ين عبد السلام أنهم لا يرونه وأطال في ذلك الاستدلال له ، وتبعه جماعة ، ورد بنص إمام أهل السنة الشيخ أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه على أنهم يرونه ذكره في كتابه (الإبانة في أصول الديانة) وتبعه البيهقي وأخرجه بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعن صحابي غيره ، وجرى عليه ابن القيم والجلال البلقيني ، وفي حديث صححه الحاكم أن جبريل ما رأى ربه قط قبل سجود النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي ربه في الموقف ، ولا يلزم منه عدم رؤيته بعد ذلك ولا عدم رؤية غيره من قية الملائكة ، والقول بتخصيص رؤية جبريل ساقط . قال الجلال البلقيني : وإذا قال ابن عبد السلام : إن الملائكة لا يرون فالجن أولى . وقد يتوقف في الأولوية لأن الإيمان في عرف الشرع يشمل مؤمني الثقلين ثم كرر ثبوت الرؤية للملائكة ، ثم قال : وعلى مقتضى استدلال الأئمة ثبوت الرؤية لمؤمني الجن . (1/512)
مطلب هل مؤمنو الأمم السابقة يورن الله كهذه الأمة ؟
وسئل نفع الله به : عن مؤمني الأمم السابقة هل يرون الله كهذه الأمة أو لا ؟ .
فأجاب بقوله : فيه احتمالان لابن أبي حمرة المالكي وقال : الأظهر مساواتهم لهذه الأمة في الرؤية ، ومما يؤيد ذلك الحديث الصحيح خلافا لمن وهم فيه " أن الله يتجلى للخلائق عامة " ، وفي رواية " للناس ويتجلى لأبي بكر رضي الله عنه خاصة " وفي رواية " الخلائق " تأييد للراجح أن الملائكة يرون وكذا الجن والنساء إلا أن تكون الرؤية في الموقف فإنها شاملة لكل أحد ، ولا كلام فيها فحينئذ لا دلالة فيه على رؤية من ذكر في الجنة .
(1/513)
<217>
(1/514)
مطلب هل تجوز رؤية الملائكة ؟
وسئل رضي الله عنه : هل تجوز رؤية الملائكة ؟ .
فأجاب بقوله : نعم كما جاء في أحاديث منها حديث أحمد وغيره عن أنصاري " أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه رجل يكلمه فأطال ، فلما انصرف سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك الرجل ؟ فقال : أوقد رأيته ؟ قال : نعم ، قال : أتدري من هو ؟ قلت : لا ـ قال : ذاك جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ، ثم قال : أما إنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام " وحديث أبي موسى المديني عن تميم بن سلمة " أنه رأى رجلا منصرفا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم معتما بعمامة أرسلها من ورائه فقال يا رسول الله : من هذا ؟ قال : هذا جبريل " وحديث أحمد والطبراني والبيهقي عن حارثة بن النعمان " أنه مر ومع النبي صلى الله عليه وسلم جبريل فسلم ثم قال له صلى الله عليه وسلم : هل رأيت من كان معي ؟ قال : نعم ، قال : فإنه جبريل وقد رد عليك السلام " وحديث أحمد والبيهقي أن ابن عباس رضي الله عنهما رآه كذلك ، وفي رواية عنه : " رأيت جبريل مرتين " وحديث أبي بكر بن أبي داود " كان أبو بكر يسمع مناجاة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم " وحديث الطبراني والبيهقي عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه : " أنه مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو واضع خده على خد رجل فلم يسلم ، فلما رجع قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما منعك أن تسلم ؟ قال : قلت يا رسول الله رأيتك فعلت بهذا الرجل شيئا لم تفعله بأحد من الناس فكرهت أن أقطع عليك حديثك ، فمن كان يا رسول الله ؟ قال : جبريل " وحديث الحاكم عن عائشة رضي الله عنها : " أنها رأت جبريل واقعا بحرتها ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناجيه " وفي حديث الشيخين في قضية أسيد بن حضير رضي الله عنه : " لما قرأ القرآن فخالجت فرسه فسكت فسكتت فعاد فعادت فرفع رأسه فرأى مثل الظلة فيها مثل المصابيح عرجت إلى السماء ، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ؟ فقال : تلك الملائكة وثبت لصوتك ، ولو رأت الناس تنظر إليها لا تتوارى عنهم " وجاء في عدة طرق : " أن كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم رأوا الملائكة الذين قاتلوا يوم بدر " . وأخرج ابن سعد والبيهقي : " أن حمزة قال : يا رسول الله أرني جبريل في صورته ؟ قال : اقعد ، فنزل جبريل على خشبة كانت في الكعبة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ارفع طرفك وانظر فرفع طرفه ، فرأى قدميه مثل الزبرجد الأخضر " . (1/515)
مطلب في حكمة كون الله سبحنه لا يرى في الدنيا
وسئل نفع الله به : لما وقعت رؤية الله في الآخرة لا في الدنيا ؟ .
فأجاب بقوله : سبب ذلك كما أفاده الإمام مالك رضي الله عنه ضعف قوى أهل الدنيا عن ذلك بخلافهم في الآخرة ، فإنهم خلقوا للبقاء ، وخص نبنا صلى الله عليه وسلم بالرؤية ليلة الإسراء بعين بصره على الأصح كرامة له . (1/516)
مطلب هل يرى النساء الله في الجنة ؟
وسئل نفع الله به : عن النساء أبضا هل يرين ربهن ؟ .
فأجاب بقوله : لا يرين لعدم دليل خاص فيهن ، وقيل يرين لدخولهم في العموم ، وقيل يرين(1/517)
<218>في الأعياد خاصة ، ولا يرين مع الرجال في أعياد الجمع ، ورجح لحديث فيه وبه جزم ابن رجب ، واستثنى الجلال السيوطي سائر الصديقات فقال : إنهن يرين مع الرجال كرامة لهن . (1/518)
مطلب هل الأنبياء والملائكة والعشرة المبشرون بالجنة يخافون ولا يأمنون المكر أو لا يخافون ويأمنون المكر الخ
وسئل نفع الله به : عن الأنبياء والملائكة والعشرة المبشرون بالجنة هل يخافون ولا يأمنون المكر أو لا يخافون ويأمنون المكر ؟ فإن قلتم : يخافون ولا يأمنون فماذا يلزم من قال : إنهم لا يخافون ويأمنون ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم آمن غير خائف ، وكذلك العشرة المبشرة بالجنة بعد إخباره بأن ذلك لا يجوز أن ينسب إليهم ؟ .
فأجاب بقوله : زعم نفي الخوف وإثبات الأمن لإطلاقهما عمن ذكر باطل مصادم للنصوص ، وربما أفضى بصاحبه سيما إن قلنا : لازم المذهب لازم إلى كبير محظور واحظر غرور ، فلا يلتفت لزاعم ذلك ولا يعول عليه ، وكأنه لم يذكر قط دعاء التشهد الآتي ، لم يفهم حقيقة الخوف ولا أحاط علما بكلام الأئمة عليه ، وإنما اغتر بمجرد مخيلة زينت له سوء عمله فرآه حسنا ، وبيان بطلان مقالته من وجوه :
الأول : أن حقيقة الخوف كما في الإحياء : تألم القلب واحتراقه بحسب توقع مكروه في المستقبل ، ثم قسم ذلك المكروه إلى أقسام .
منها : خوف ضعف القوة عت الوفاء بتمام حقوق الله أي على ما ينبغي له ويليق بمقام ذلك الخائف ، والخوف بهذا لامعنى يتحقق قطعا في الأنبياء ، بل كماله لنبينا صلى الله عليه وسلم لا ينكر لك إلا من لم يشم للإسلام رائحة ، ويلزم من تحقق الأنبياء بهذه المرتبة تحققهم بعدم الأمن من المكر إذ من جملة أقسامه كما هو واضح أضعاف القوة عن ذلك . (1/519)
مطلب في أن الأصح أن إبليس كان من الملائكة
ولا شك عند من له أدنى مسكة من فهم أن كل كامل نبي أو غيره غير آمن من مكر الله تعالى أن يضعفه وينزله عن كمال مرتبته إذ لا قاطع بل ولا ظني يستند إليه في الأمن من ذلك ، وإنما المأمون الانسلاخ عن النبوة أو الملكية أو الإيمان في العشرة المذكورين ، على أن الأمن من الانسلاخ عت الملكية غير واقع لأنه عهد انسلاخ الملائكة عنها بل عن الإيمان كما وقع لإبليس اللعين بناء على الأصح كما قاله النبي انه من الملائكة أنه من الملائكة كما هو ظاهر من القرآن ، وأول كونه من الجن بتأويلات :
منها : أن نوعا من الملائكة يسمون بذلك .
الثاني : أنه في الإحياء لازم بين العلم والخوف والتقوى حيث جعل الخوف ثمرة العلم والتقوى ثمرة الخوف ، ولا شك أن كمال العلم والتقوى للأنبياء فمن دونهم ، فكذا كمال الخوف . وأيضا الرجاء والخوف متلازمان فإن كل من رجا محبوبا فلا بد وأن يخاف قوته وإلا فهو لا يحبه ، فاستحال انفكاك أحدهما عن الآخر ، وإن أمكن غفلة القلب عن استشعار أحدهما .
فإن قلت : ذكر فيه أيضا أن من شرط الرجاء والخوف تعلقهما بما هو مشكوك فيه إذ المعلوم لا يرجى ولا يخاف ، وهذا فيه تأييد لذلك الزعم ، لأن أولئك الكمل على بينة من ربهم ويقين من أمرهم ؟(1/520)
<219>قلت : لا تأييد فيه لذلك الزعم بوجه بل هو حجة عليه أن المعنى السابق الذي مر أن حقيقة الخوف أمر مشكوك فيه لم يقم قاطع على ثبوت غايته ولا حد بخصوصه ولا على انتفائهما عنه ، وإنما وظيفة الكمل وإن بلغ كمالهم الغاية أنهم يرجون ذلك ويخافون من عدمه ، والذي هم فيه على يقين هو أصل الكمال ، على أنه قد يعتري قلوبهم من استشعار قدرته واستغنائه عن خلقه ، وأنه لا يسأل عما يفعل ولا يجب عليه لأحد شيء ، وأما ما وعدهم أو أخبرهم به فمشروط بما انطوى علمه عنهم ، وهذا يوجب لهم الخوف حتى من سلب أصل كمالهم ، وكلام الغزالي الآتي صريح في هذا .
الثالث : أن زيد بن أسلم قال للشافعي رضي الله عنه – وكان من العالمين بالقرآن - : جعل الملائكة داخلين في قوله {فلا يأمن مكر الله} الآية . أخرج ابن أبي حاتم عنه : " أن الله تبارك وتعالى قال للملائكة : ما هذا الخوف الذي بلغ بكم وقد أنزلتكم المنزلة التي لم أنزلها غيركم ؟ قالوا : ربنا لم يأمن مكرك إلا القوم الخاسرون " .
الرابع : أنه صرح في (الإحياء) تصريحا لا يقبل تأويلا بأن الأنبياء يخافون ولا يأمنون المكر حيث قال : إنما كان خوف الأنبياء مما فاض عليهم من النعم لأنهم لم يأمنوا مكر الله ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ، حتى روي أن النبي صلى الله عليه وسلم وجبرل عليه السلام بكيا خوفا من الله عز وجل ، فأوحى إليهما : لما تبكيان وقد أمنتكما ؟ فقالا : ومن يأمن مكرك " وكأنهما إذا علما أن الله علام الغيوب وأنهما لا وقوف لهما على غاية الأمور لم يأمنا أن يكون قوله : " أمنتكما " ابتلاء وامتحانا ومكرا بهما ، حتى إن سكن خوفهما بان أنهما قد أمنا من المكر وموافيا بقولهما ، ثم قال : وهذا كما أخبر عن موسى صلى الله عليه وسلم حيث قال : {إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} ، وقال تعالى {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} ومه هذا لما القى السحرة سحرهم {أوجس في نفسه خيفة موسى} إذ لم يأمن مكر الله والتباس الأمر عليه حتى جدد عليه الأمن ، وقيل له : {لا تخف إنك أنت الأعلى} ولما ضعفت شوكة المسلمين يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم إن تهلك هذه العصابة لم يبق على وجه الأرض أحد يعبدك فقال أبو بكر رضي الله عنه : دع مناشدتك ربك غنه واف لك بما وعدك " فكان مقام الصديق مقام الثقة بوعد الله ، وكان مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقام الخوف من مكر الله ، وهو لا يصدر إلا عن كمال المعرفة بأسرار الله وخفايا أفعاله ومعاني صفاته التي يعبر عن بعض ما يصدر عنها بالمكر ، وما لأحد من البشر الوقوف على كنه صفات الله تعالى ن ومن عرف حقيقة المعرفة قصر معرفته عن الإحاطة بكل الأمور وعظم خوفه المحالة ، ولذا قال عيسى صلى الله عليه وسلم : {إن كنت قلته فقد علمته} الخ ففوض المر إلى المشيئة وأخرج نفسه بالكلية من البين لعلمه بأنه ليس له من الأمر شيء ، وأن الأمور مرتبطة بلامشيئة ارتباط يخرج عن حد المعقولات والمألوفات فلا يمكن الحكم عليها بقياس ولا حدس وحسبان فضلا عن التحقيق الاستيقان ، وهذا هو الذي قطع قلوب العارفين ، انتهى كلام الإحياء فتأمله ن لا سيما ما حكاه عن نبينا صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام فإنه وإن لم يثبت من جهة السنة إذ هو حديث ضعيف فهو مقرر لمعنى الصحيح فيما قدمناه وكذا ما حكاه عن موسى فإنه خاف مع قوله تعالى {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} وتقريره لذلك .
والحاصل أنه لا شبهة ، بل ولا تمسك لذلك الزعم المذكور أول الجواب أعاذنا الله منه بمنه وكرمه ، وإنما لم نستدل لمدعانا قوله تعالى {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} وقوله رضي الله عنه في الحديث الصحيح " والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم " لذهاب جماعة كابن عباس رضي الله عنهما كما أخرجه عنه(1/521)
<220>أئمة حفاظ كأبي داود وابن جرير وابن المنر وابن أبي حاتم وابن مردويه إلى أن ذلك قبل علمه ما يفعل به من نصره على جميع من ناوأه بقوله عز قائلا {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} الآية ، وما يفعل بهم بقوله {ليدخل المؤمنين} الآية ، وبقوله {وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا} .
فإن قلت : يؤيد ذلك الزعم ما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوف زمانا فلما نزلت {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} الآية اجتهد فقيل : تجهد نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : أفلا أكون عبدا شكورا " وما أخرجه ابن جرير عن الحسن أيضا في قوله : " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " قال : أما في الآخرة فمعاذ الله قد درى أنه في الجنة حين أخذ الله ميثاقه في الرسل ، ولكن " ما أدري ما يفعل بي ولا بكم " في الدنيا ثم أخبره الله بما صنع به أنه ينصره ، ويظهر دينه على الأديان كلها ، ويؤمنه ألا يستأصل أمته بعذاب وهو فيهم ؟ .
قلت : لا تأييد فيه لذلك بوجه ؛ أما كلامه الأول فأن معنى قوله : عمل في الخوف زمانا أي في خوفه على نفسه في الدنيا أيخرج كما أخرجت الأنبياء قبله أو يقتل كما قتلت الأنبياء قبله ؟ وعلى أمته أنهم يكذبونه أو يرمون بحجارة من السماء أو خسف بهم كالأمم قبلهم ؟ وبهذا صرح الحسن نفسه في الرواية الثابتة عنه تفسيرا لقوله في الدنيا ثم لما آمنه الله من ذلك غلب عليه شهود الشكر لربه ، وهذا قوله لا ينافي الخوف بالمعنى السابق الذي ذكرناه أول الجواب ؛ وأما كلامه الثاني فلأن علمه أنه في الجنة لا ينافي الخوف بالمعنى الذي قدمناه وحررناه كما لا يذهب على ذي مسكة .
الخامس : أخرج الشيخان : " والله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية " وفي حديث البخاري : " والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له " وأخرج اليهقي - وقال غريب - أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لو يؤاخذني الله بما فعلته هؤلاء لأوثقني " يشير إلى يديه الشريفتين . وأخرج أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال : " قلت لجبريل يا جبريل : ما لي أرى إسرافيل لا يضحك ، ولا يأتيني أحد من الملائكة إلا رأيته ضحك ؟ قال جبريل : ما رأينا ذلك الملك ضاحكا منذ خلقت النار " وأخرج أحمد عنه بسند جيد لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : " ما لي أرى ميكائيل لا يضحك ، فقال : ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار " وأخرج ايضا أنه صلى الله عليه وسلم قال : " جاءني جبريل وهو يبكي فقلت : ما يبكيك ؟ قال : ما جفت لي عين منذ خلق الله جهنم مخافة أن اعصيه فيلقيني فيها " وأخرج أبو الشيخ في كتاب (العظمة) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " إن جبريل عليه السلام يوم القيامة لقائم بين يدي الجبار تبارك وتعالى ترعد فرائصه خوفا من عذاب الله " الحديث . وأخرج الديلمي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لما كان ليلة أسري بي مررت بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى " وأخرج أبو نعيم في (الحلية) أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لو يؤاخذنا ربنا أنا وعيسى ابن مريم بما جنت هاتان – يعني إصبعيه – لعذبنا ولا يظلمنا شيئا " وأخرج الدراقطني في الإفراد بلفظ : " لو أن الله عز وجل يؤاخذنا أنا وعيسى ابن مريم بذنوبنا لعذبنا ولا يظلمنا شيئا " .
ومن المعلوم المقرر أن النوب الواردة في القرآن والسنة في حق الأنبياء صلى الله على نبينا وعليهم وسلم المراد بها خلاف الأولى اللائق بعلي كمالهم لا حقيقة الذنب وحينئذ فهذه الأحاديث صريحة في المدعي أن الأنبياء والملائكة يخافون ربهك ولا يأمنون ، ومما يصرح بذلك أيضا قوله تعالى في حق الملائكة {يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} .
(1/522)
<221>
السادس : قال الدميري في (حيلة الحيوان ) تبعا للغزالي في الإحياء : وفي الخبر " أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام : يا داود خفني كما تخاف السبع الضاري " قال مخرج أحاديث ( الإحياء ) الزين العراقي : لم أجد له أصلا ولعل المصنف قصد بإيراده لأنه من الإسرائيليات ، وبهذا يعلم أنه مقرر لمعناه . قال الدميري : ومعناه خفني لأوصلفي المخوفة من العزة والعظمة والكبرياء والجبروت والقهر وشدة البطش ونفوذ الأمر كما تخاف السبع الضاري لشدة يديه وعبوس وجهه وجراءة قلبه وسرعة غضبه انتهى . وفيه تصريح بإثبات الخوف الحقيقي للأنبياء صلى الله على نبينا وعليهم وسلم . (1/523)
مطلب في خوفه صلى الله عليه وسلم وتعوذه في أدعيته
السابع : الأحاديث الصحيجة المشهورة في أدعيته صلى الله عليه وسلم في سجوده وتشهده وغيرهما صريحة في المدعى لا تقبل تأويلا منها قوله صلى الله عليه وسلم " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك " الحديث ، وقوله صلى الله عليه وسلم " اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء " ومنها قوله صلى الله عليه وسلم " اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المحيا والممات " وصح عند الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده " هذه يدي وما جنيت بها على نفسي " وفي رواية البزار " هذه يداي وما جنيت على نفسي " .
فإن قلت : لا حجة في ذلك كله لأنه تشريع منه صلى الله عليه وسلم لأمته أن يقولوه .
قلت : ممنوع لأنه لو كان مجرد تشريع فقط لقال قولوا كذا ، فأما إذا أسنده إلى نفسه متكررا فلا يحمل على التشريع فقط بل الواجب حمله عليه وعلى التعبد به منه لربه كما هو محقق في مبحثه ، وإذا كان من جملة لمقصود به التعبد به لله تعالى لزم من ذلك وجود الخوف وعدم أمن المكر وإلا لكان طلب محال وهو لا يجوز كما صرحوا به فثبت أن هذه الأحاديث صريحة في المدعى لا تقبل تأويلا كما تقرر ، وحديث الطبراني " اللهم إني أعوذ بنور وجهك الكريم أن يحل علي غضبك أو ينزل علي سخطك " وفي أخرى عنده أيضا " اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم واسمك العظيم من الكفر والفقر " وفي أخرى عند البيهقي " اللهم عافني غي قدرتك وأدخلني في رحمتك واقض أجلي في طاعتك واختم لي بخير عمل واحعل لي ثوابه الجنة " وصح حديث رواه الجماعة " وأسألك خشيتك في الغيب " وروى أبو داود " اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار ومن عذاب النا " وصح عند الحاكم " اللهم إني أسألك عيشة هنية وميتة سوية ومردا غير مخز ولا فاضح " ونحو ذلك في السنة كثير وفيما ذكرناه كفاية لمن وفق في قبول الحق ، وحقق الله لنا ذلك بمنه وكرمه .
وسئل نفع الله به : فيمن قال في عقيدة وفي بقاء الله نظر فماذا يلزمه ؟ .
فأجاب بقوله : إن أراد التشكيك أو الشك في دوام بقاء الله إلى ما لا نهاية له فهو كافر مراق الدم ، فإنت تاب وإلا ضربت عنقه ، ولعل هذا الرجل هو الجبرتي الذي في السلف (1) من الخلف فإنه أرسل إلي في هذه السنة مؤلفا ذكر فيه تضليل الأشعرية بكلام سفاسف يدل على جهله وانحلال عقيدته جدا وأنه لا مسكة له ولا دين ، وأنه اغتر بكلام لبعض الملحدة والزنادقة فذكره في مؤلفه معتقدا له فضل أو كفر ، وأصل كثيرين لكونه يرى التنسك والتقشف فاعنقده العامة وما دروا أنه زنديق ملحد ضال يجب على القاضي
__________
(1) قوله في السلف ) لعل السلف بلدة قطرها الحاوي لها يسمى الخلف كما يظهر بالتأمل في اآتي من كلامه ا هـ مصححه(1/524)
<222>السلف وبقية قضاة الخلف أن يعزروه التعزير البليغ ويشددوا عليه العقوبة بالضرب والحبس إلى أن يغسل ذلك المؤلف جميعه أو يحرقه ، فإن النسخة الواصلة إلي منه كتبت له عليها في كل ورقة منها ما أعدمها وعطل النفع بها كما هو الواجب علي وعلى كل من اطلع على ذلك الكتاب من أهل العلم ، لكن أخشى أن هذا الملحد المارق الزنديق المنافق يكون عنده منه نسخة أخرى فيخرجها للعوام المنتقدين له فيضلهم بها من غير أن يشعروا فأهلكه الله وأباده حتى تندفع ضرورته عن المسلمين وأيقظ له من يقيم عليه نواميس الشريعة لينزجر هو وأمثاله عن الخوض فيما لا يتأهلون للخوض فيه .
باب أصول الفقه(1/525)
مطلب هل فرق بين الفرض والواجب وبين المحظور والحرام الخ
وسئل شيخنا أمدنا الله بمدده ونفعنا بعلومه وبركته : هل فرق بين الفرض والواجب ، وبين الحرام والمحظور ، وبين يسن ويشرع ، ويستحب ويندب ومحبوب ؟ .
فأجاب رضي الله عنه بقوله : الفرض والواجب مترافان عندنا خلافا لأبي حنيفة رضي الله عنه حيث رفق بينهما بأن الفعل المطلوب طلبا جازما إن ثبت بدليل قطعي كالقرآن فهو الفرض كقراءة القرآن في الصلاة الثابتة بقوله تعالى {فاقراءوا ما تيسر من القرآن} أو بدليل ظني كخبر الواحد فهو الواجب كقراءة الفاتحة في الصلاة الثابتة بحديث الصحيحين بقوله : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " فيأثم بتركها ولا تفسد به الصلاة بخلاف ترك القراءة هذا تفصيل مذهبه ، وأما عندنا فكل من القسمين يسمى فرضا وواجبا وتبطل الصلاة مثلا بتركه ، أخذا من فرض الشيء قدره ، ووجب الشيء وجوبا ثبت ، وكل من المقدر والثابت أعم من أن يثبت بقطعي أو ظني ، ومأخذنا هذا أكثر استعمالا من مأخذهم المقرر في محله ، على أن الخلاف لفظي كما قرر في محله أيضا مع ما فيه من إشكال وجواب . والحرام والمحظور مترادفان أيضا ، وكذلك المسنون والمشروع والمحبوب والمرغب فيه والمندوب والحسن والمستحب والتطوع كلها معناها واحد وهو المطلوب طلبا غير جازم ، وخالف في ذلك القاضي حسين وغيره ، فنفوا ترادفها وقالوا : هذا الفعل إن واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم فهو السنة ، وإن لم يواظب عليه كأن فعله مرة أو مرتين فهو المستحب ، أو لم يفعله وهو ما ينشئه الإنسان باختياره من الأوراد فهو التطوع ، ولم يتعرض للمندوب لعمومه الأقسام الثلاثة بلا شك ، ويقاس به البقية ، ولاخلاف هنا لفظي أيضا كما قرره في محله ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب . (1/526)
مطلب ما معنى قولهم شكر المنعم واجب الخ
وسئل نفع الله به سؤالا صورته : ما معنى قولهم شكر المنعم واجب ، وما الذي يؤدى وما حده وما ضابطه ؟ .
فأجاب بقوله : قال بعضهم : تحرير الجواب عن ذلك متوقف على معنى الشكر لاذي هو موضوع المسألة الخلافية بيننا وبين المعتزلة وهي أن شكر المنعم واجب شرعا عندنا وعقلا عندهم ، فالشكر الذي هو موضوع هذه المسألة فسره الصفي الهندي وغيره بالمعنى اللغوي للشكر فقال : هو اعتقاد القلب أن ما بالعبد من نعمة فمن الله سبحانه هو المنعم بذلك فضلا من غير وجوب ، والتحدث باللسان بالمنعم والخضوع بالجوارح والأول واجب وجوب الاعتقاديات بمعنى وجوب جزم العقيدة به ، واستصحاب هذا الجزم حكما بحيث(1/527)
<223>لا يطرأ ما ينافيه ، وسيأتي الكلام في الثاني والثالث ، والمشهور تفسيره بالمعنى العرفي ، وعلى مقتضاه جرى الغزالي في (الإحياء) وغيره ممن تكلموا باصطلاح أرباب القلوب ، وهو أن الشكر صوف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله ؛ فالسمع خلق ليصرف إلى تلقي ما يرد عليه من الأوامر والنواهي الإلهية والمواعظ وما ينتظم في سلكها وإلى ما يدل بها على متعلقها ليرتكب ويجتنب ونحو ذلك ، والبصر ليصرف إلى رؤية المصنوعات فيستدل بها على وجوب وجود الصانع واتصافه بصفات الكمال وتعاليه عن أضدادها ونحو ذلك ، واللسان ليصرف إلى الذكر والتذكير والدراسة والتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبه لك ، وعلى هذا المنوال جميع القوى والمدارك والجوارح ، وفي (الإحياء) للإمام الغزالي تفصيل لذلك حسن . والشكر بهذا المهنى أعم منه بالمعنى الأول كما لا يخفى على من تأمل ، وعلى كل من التفسيرين فهو ينقسم إإلى واجب ومندوب ؛ لأن جميع الطاعات مندرجة فيه على التفسير الثاني ، وهي منقسمة إلى واجب ومندوب . وعلى التفسير الأول مندرج ف يه سجود الشكر ؛ لأنه خضوع في مقابلة النعمة وهو مندوب ، ومن هذا يتحرر أن المراد في المسألة الخلافية أن وجوب شكر المنعم حيث وجب فهو بالشرع لا بالعقل خلافا للمعتزلة ، فالاعتقاد منه واجب وجوب الاعتقاديات غيلا مؤقت بيوم ولا شهر ولا سنة ولا موصوف بمرة ولا تكرار إذ المقصود دوامه وعدم اختلاله . وأما أعمال الجوارح فمنها ما يجب في اليوم مرات وهي المكتوبات ، ومنها ما يجب في الإسبوع مرة بشرط وهو الجمعة ، ومنها ما يجب في العام مرة وهو الصوم ، ومنها ما لا يجب إلا على بعض الناس كالزكاة والحج . وأما الثناء باللسان فهو يتكرر في اليوم مرات كقراءة المصلي {الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم} فإنه ثناء على الله سبحانه وتعالى بربوبيته دون موجود سواه المشتمل معناها على الإنعام بإيجاد النوع الإنساني وتربيته بالتنقل في الأطوار من طور النطفة إلى طور العلقة فالمضغة فالعظام المكسوة لحما فالحيوانية ثم كمال الخلقة ثم الإخراج من ضيق الرحم وظلمته إلى نور الفضاء وسعته وتسخير الأبوين وتقوية الحواس والقوى وحفظها ، وكذلك العقلي إلى غير ذلك من صنوف النعم وثناء عليه سبحانه بصفة الرحمة وهي شاملة باعتبار متعلقها لأنواع الإحسان في الدارين ، انتهى . (1/528)
مطلب إطلاق العام وإرادة الخاص أحقيقة أم مجاز ؟
وسئل نفع الله به : عن إطلاق العام وإرادة الخاص أحقية أم مجاز ؟ إن قيل لزم أنه استعمال اللفظ في غير ما وضع له فكيف يكون حقيقة ، أو بالثاني ورد ما ذكره بعض المحققين أنه قد يكون في هذه الحالة حقيقة ؟ .
فأجاب بقوله : هو مجاز قطعا كما ذكره جمع أصوليون ، والمراد ببعض المحققين في السؤال التقي السبكي رحمه الله ، فإنه بحث كونه قد يكون حقيقة من عنده بعد حكايته الإجماع على خلافه ، وفرعه على القول بأن دلالة العام على كل فرد من أفراده دلالة مطابقة ؛ لأنه حينئذ ليس استعمالا للفظ في غير موضوعه ، ولا في عض موضوعه بل هو كاستعمال المشترك في أحد معنييه ، وهو استعمال حقيقي ، انتهي . ويرد قياسه بأن استعماله في البعض مقصورا عليه سيره مجازا إذ ليس هذا الاستعمال يقيد هذا القصر عن موضوعه الحقيقي فتأمله .
وسئل نفع الله به : عن الإنسان بالنسبة للأب والابن مشكك أو متواطئ ؟ .
فأجاب بقوله : هو متواطئ متاويهما فيه والاختلاف بينهما لا يرجع للمسمى كالبياض بالنسبة لأفراده بل الخارج عنه كالذكورة والأنوثة .
(1/529)
<224>
وسئل نفع الله به : هل ينطبق على مجاز الزيادة والنقص تعريف المجاز ؟ .
فأجاب بقوله : ذهب جمع إلى أنهما ليسا من قبيل المجاز حينئذ فلا إشكال . وذهب آخرون إلى إنهما منه . واعترضوا بأنه لا يصدق عليهما حده ، وقيل : إن غير الإعراب فمجاز وإلا فلا ، وقال القرافي : الحذف أقسام لا مجاز إلا في واحد منها ، وهو ما يتوقف عليه صحة اللفظ ومعناه من حيث الإسناد نحو {واسأل القرية} وقيل إنما يكون الحذف مجاز إذا تغير حكمه ، وإلا كحذف خبر المبتدأ المعطوف على جملة فلا .
وسئل نفع الله به عن المشاكلة هل هي من أنواع المجاز وما العلاقة فيها نحو {وجزاء سيئة سيئة مثلها} .
فأجاب بقوله : زعم بعض أرباب البيان أنها واسطة ليست بحقيقة لعدم استعمال اللفظ فيما وضع له زلا مجاز لعدم العلاقة . ورد بأنه مجاو قطعا والعلاقو فيه الشكل والشبه الصوري كما يطلف الإنسان والفرس على الصورة المصورة ، وكذلك الجزاء أطلق عليه سيئة لكونه مثل السيئة المبتدئ بها في الصورة ، والله أعلم .
باب الأحكام المتعلقة بالقرآن من التفسير والقراءات وغيرهما من علوم القرآن المكرم . (1/530)
مطلب التكبير من الضحى إلى سورة الناس في لاصلاة وغيرها
وسئل نفع الله بعلومه وأمدنا بمدده : هل ورد حديث صحيح في مشروعية التكبير في أواخر قصار المفصل ؟ فإن قلتم : نعم فهل هو خاص في حق غير المصلي ؟ فإن قلتم : نعم فهل نقل ندبه في حق المصلي عن أحد من الأئمة ؟ فإن قلتم بسنيته فما ابتداؤه وانتهاؤه ، وهل يندب معه زباده لا إله إلا الله كما هو المعمول ؟ .
فأجاب نفع الله به وأعاد علينا وعلى المسلمين من بركاته بقوله : حديث التكبير ورد من طرق كثيرة عن أحمد بن محمد بن أبي بزة البزي قال : سمعت عكرمة بن سليمان يقول : قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين فلما بلغت {والضحى} قال لي : كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم ، وأخره أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك ، وأخبره مجاهد أن ابن عباس رضي الله عنهما أمره بذلك ، وأخبره ابن عباس بأن أبي بن كعب أمره بذلك ، وأخبر أبي بن كعب بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك ، وقد أخرجه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه المستدك عن البزي ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجه البخاري ولا مسلم ، انتهي . وقد يعارضه تضعيف أبي حاتم العقيلي للبزي . ويجاب بأن هذا التضعيف غير مقبول ، فقد رواه عن البزي الأئمة الثقات ، وكفاه فخرا وتوثيقا قول إمامنا الشافعي رضي الله عنه : إن تركت التكبير تركت سنة ، وفي رواية : يا أبا الحسن والله لئن تركت التكبير فقد تركت سنة من سنن نبيك ، وقال الحافظ العماد ابن كثير : وهذا من الشافعي يقتضي تصحيحه لهذا الحديث . ومما يقتضي صحته أيضا أن أحمد بن حنبل رواه عن أبي بكر الأعين عن البزي . وكان أحمد يجتنب المنكرات فلو كان منكرا ما رواه ، وقد صح عند أهل مكة فقائهم وعمائهم ومن روى عنهم ، وصحته استفاضت وانتشرت حتى بلغت حد التواتر ، وصحت أيضا عن أبي عمرو من رواية السوسي ، ووردت أيضا عن سائر القراء ، وصار عليه العمل عند أهل الأمصار في سائر الأعصار .
واختلفوا في ابتدائه ، فقيل من أول سورة الضحى ، والجمهور على أنه من أول سورة ألم نشرح ، وفي انتهائه ؛ فجمهور المغاربة والمشارقة وغيرهم على أنه إلى آحر الناس ، وجمهور المشارقة على أنه أولها ولا يكبر(1/531)
<225>آخرها ، والوجهان مبنيان على انه هل هو لأول السورة أو لآخرها ؟ وفي ذلك خلاف طويل بين القراء ، والراجح منه الظاهر من النصوص أنه من آخر الضحى إلى آخر الناس . ولا فرق في ندب التكبير بين المصلي وغيره ، فقد نقل أبو الحسن السخاوي بسنده عن أبي يزيد القشري قال : صبيت بالناس خلف المقام بالمسجد الحرام في التراويح في شهر رمضان فلما كانت ليلة الجمعة كبرت من خاتمة الضحى إلى آخر القرآن في الصلاة ، فلما سلمت التفت فإذا بأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه فقال : أحسنت أصبت السنة . ورواه الحافظ ابو عمرو الداني عن ابن جريج عن مجاهد . قال ابن جريج : فأولى أن يفعله الرجل إماما كان أو غير إمام ، وأمر ابن جريج غير واحد من الأئمة بفعله . ونقل سفيان بن عيينة ، عن صدقة بن عبد الله بن كثير أنه كان يؤم الناس من أكثر من سبعين ، وكان إذا ختم القرآن كبر ، فثبت بما كرناه عن الشافعي رضي الله عنه وبعض مشايخه وغيرهم أنه سنة في الصلاة ، ومن ثم جرى عليه من أئمتنا المتأخرين الإمام المجتهد أبو شامة رحمه الله ، ولقد بالغ التاج الفزاري في الثناء عليه حتى قال : عجبت له كيف قلد الشافعي رحمه الله ، والإمامان أبو الحسن السخاوي وأبو إسحاق الجعبري . وممن أفتى به وعمل في التراويح شيخ الشافعية في عصره أبو الثناء محمود بن محمد بن جملة ، الإمام والخطيب بالجامع الأموي بدمشق . قال الإمام الحافظ المتقن شيخ القراء في عصره أبو الخير محمد بن محمد الجزري الشافعي : ورأيت أن غير واحد من شيوخنا يعمل به ويأمر من يعمل به في صلاة التراويح وفي الإحياء في ليالي رمضان ، حتى كان بعضهم إذا وصل في الإحياء إلى الضحى قام بما بقي من القرآن في ركعة واحدة يكبر في كل سورة ، فإذا انتهى إلى {قل أعوذ برب الناس} كبر في آخرها ، ثم يكبر للركوع ، وإذا قام في الركعة الثانية قرأ الفاتحة وما تيسر من سورة البقرة ، وفعلت أنا لك مرات لما كنت أقوم بالإحياء إماما دمشق ومصر ، انتهى . ثم إن قلنا : التكبير لآخر السورة كان بين آخرها وبين الركوع ، وإن قلنا لأولها كان بين تكبير القيام ولابسملة أول السورة ، ووقع لبعض الشافعية من المتأخرين الإنكار على من كبر في الصلاة فرد ذلك عليه غير واحد ، وشنعوا عليه في هذا الإنكار . قال ابن الجوزي : ولم أر للحنفية ولا للمالكية نقلا بعد التتبع ، وأما الحنابلة ففي فروعهم لابن مفلح : وهل يكبر لختمه من الضحى أو ألم نشرح آخر كل سورة فيه روايتان ، ولم يستحبه الحنابلة القراء غير ابن كثير ، وقيل : ويهلل ، انتهى .
وأما صيغته فلم يختلف مثبتوه أنها : الله أكبر ، وهي التي رواها الجمهور عن البزي ، وروى عنه آخرون التهليل قبلها ، فتصير : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وهي ثابته عند البزي فلتعمل ، ومن ثمة قال شيخ الإسلام عبد الرحمن الرازي الشافعي رحمه الله في وسطه في العشر : وقد رأيت المشايخ يؤثرون ذلك في الصلاة فرقا بينها وبين تكبير الركوع ، ونقل عن البزي أيضا زيادة : ولله الحمد بعد أكبر ، وروى جمع عن قنبل ، وروى عنه آخرون التهليل أيضا وقطع ه غير واحد . قال الداني : الوجهان يعني : التهليل مع التكبير والتكبير وحده عن البزي وقنبل صحيحان مشهوران مستعملان جيدان ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/532)
مطلب التكبير عند ختم القرآن أواخر السور هل هو سنة ؟
وسئل رضي الله عنه : التكبير عند ختم القرآن أواخر السور في الصلاة هل هو سنة ؟
فأجاب بقوله : نعم هو سنة في الصلاة كما نص عليه الشافعي وشيخه سفيان بن عيينة ، وابن جريج وغيرهم ، ونقله جماعة من أئمتنا المتأخرين كأبي شامة والسخاوي وابن جملة خطيب دمشق وغيرهم وعمل به جماعة منهم(1/533)
<226>وأفتوا به من يعمل به في صلاة التراويح وردوا على من أنكر ذلك ، ومن ثمة قال ابن الجزري في أواخر النشر لما أن بسط الكلام في ذلك : والعجب ممن ينكر التكبير بعد ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين وغيرهم ، ويجيز في صلوات غير ثابتة ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/534)
مطلب هل قراءة الصبي الجنب القرآن بقصد كونه قرآنا ومكثه في المسجد جائز أم لا ؟
وسئل نفع الله به : في الصبي الجنب هل قراءته القرآن بقصد كونه قرآنا جائزة ، وكذلك مكثه في المسجد فلا يمنع منهما ولا حرج على وليه وتمكينه حينذ ، فإذا قلتم بعدم الجواز فهل نسبة بعضهم الجواز لخادم الزركشي صحيحة ، وإن كانت صحيحة فهل وافقه أحد أم خالفه ظن وعلى تقدير عدم صحتها فهل قال أحد بالجواز من أئمة المذاهب أم لا ؟ .
فأجا بقوله : هو أن الذي أفتى به النووي وجزم به ابن السبكي في معيد النعم أنه يجوز تمكين الصبي المميز الجنب من مس المصحف لحاجة تعلمه منه ، فقول الإسنوي في المهمات : لم أجد تصريحا بتمكين المميز في حال الجنابة ، والقياس المنع لأنخا نادرة وحكمها أغلظ ، انتهى . يرد وإن تبعه شيخنا زكريا وأفتى به فقهاء اليمن بأنه يكفي تصريح النووي وغيره بذلك ، لكن الظاهر أن الإسنوي ومن تبعه لم يطلع على ذلك ، وأما قول الخادم بعد أن ذكر إفتاء النووي : وفيه نظر لأن الجنابة لا تتكرر فلا يشق ، وعلى قياسه يجوز تمكينه من المكث في المسجد وهو بعيد إذ لا ضرورة فيرد بأن تنظيره إنما يأتي إذا قلنا إن العلة عظم المشقة في تكليف الصبيان استصحاب الطهارة ، وهو ما صرح به الشيخان . أما إذا قلنا بما في التهذيب من أن العلة أن طهارة الصبي ناقصة فلا معنى لاشتراطها ، فكلام النووي حينئذ واضح لا غبار عليه على أن الذي ينبغي أن العلة مركبة ، وعليه فكلام النووي واضح أيضا ، ويرد قياسه بإمكان الفرق بينهما بأن احتياجه إلى القرآن ومس المصحف لأجل تعلمه منه أكثر من احتياجه إلى المسجد فلم تكن ضرورة إلى إباحة دخوله ، على أن قضية علة التهذيب السابقة أنه يجوز له المكث في المسجد جنبا أيضا وجزم به بعض المتأخرين والله أعلم . (1/535)
مطلب هل يجوز لأحد أن يفسر شيئا من القرآن من تفسير الواحدي وغيره ؟
وسئل رضي الله عنه : عن رجل فسر آية من آيات القرآن المبين بتفسير أبي الحسن الواحدي وابن عباس والزجاج وعطاء وغيرهم من العلماء المجتهدين المعتبرين كما فسر في تفسيرهم ، هل يجوز له ذلك أم لا ؟ .
فأجاب بقوله : إنه لا حرج على من ذكر تفاسير الأئمة على وجهها من غير أن يتصرف فيها بزيادة أو نقص بل هو مأجور مثاب على ذلك ، لكن ينبغي له إن كان يذكر ذلك التفسير للعامة أن يتحرى لهم الأليق بحالهم مما تحتمله عقولهم فلا يذكر لهم شيئا من غرائب التفسير ومشكلاته التي لا تحتملها عقولهم ؛ لأن ذلك يكون فتنة لهم وضلالا بينا ، ومن ثمة يجب على الحاكم أصلحه الله منع من يفعل ذلك من جهة الوعاظ لأنهم يضلون ويضلون ، وكذلك يجب عليه أيضا أن يمنع من ينقل التفاسير الباطلة كتفسير من يتكلم في التفسير برأيه مع عدم أهليته لذلك ، ومن يتكلم في التفسير بما قاله الأئمة لكن لا يفهمه على وجهه لعدم الآلات عنده ، فإن التفسير علم نفيس خطير لا يليق بكل أحد أن يتكلم فيه ولا أن يخوض فيه إلا إذا أتقن آلاته التي يحتاج(1/536)
<227>إليها كعلم السنة والفقه واللغة والنحو والمعاني والبيان وغيرها من العلوم المتعلقة بلسان العرب ، فمن أتقن ذلك يساغ له الكلام فيه ومن لم يتقن لك اقتصر على مجرد نقل ما قاله أئمة التفسير بما كره الأئمة المتأخرون عنهم كالواحدي والبغوي والقرطبي والإمام الفخر الرازي والبيضاوي وغيرهم ، ولا يذكر من كلام هؤلاء الأئمة إلا ما يليق بمن يذكره لهم من غير أن يتصرف فيه بشيء .
والحاصل أن هذا مسلك خطر وطريق وعر فينبغي التحري في سلوكه حذرا من الضلال والإضلال ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/537)
مطلب في معنى قوله تعالىيوم يفر المرء من أخيهالخ
وسئل نفع الله به : عن قول الله تعالى {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} هل هذه الآية خاصة أو عامة ، وما معنى لفظ المرء في هذه الآية هل يشمل الكافر والمسلم ، والفرار يوم القيامة هل يكون من المسلم والكافر أو من الكافر خاصة ؟ .
فأجاب بقوله : إن الآية عامة كما يدل عليه سياقها ونظمها ، ويدل لذلك حديث الترمذي بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تحشرون حفاة عراة غرلا غير مختونين فقالت امراءة أويبصر أويرى بعضهم عورة بعض ؟ قال يا فلانة {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} ويدل لذلك أيضا ما رواه المفسرون في الآية : أن معنى الفرارمن هؤ لاء التباعد عنهم وعدم الالتفات إلى واحد منهم اشتغالا عنهم بما هو فيه مما لا يطيق حمله ، وخوفا أنهم يطالبونه بحقوقهم كمواساة الأخ وبر الوالدين وتتوفية الصاحبة ما وجب لها ، والتقصير في حق البنين بعدم التعليم والإرشاد ، ولذلك قيل أول من يفر من أخيه هابيل ، ومن أبيه إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، ومن صاحبته نوح عليه الصلاة والسلام ، ومن ولده نوح عليه الصلام والصلام ، وقيل إن المرء يفر من موالاة هؤلاء ونصرتهم لأنهم الذين كان يفر إليهم في الدنيا ويعتز ويتقوى بهم فلم ينفعوه في الآخره بل تباعد عنهم ثم ، ولم يرج فيهم نفعا بقربه إليهم بل خشى منهم ضررا عظيما حمله على التباعد الشديد المعبر عنه بالفرار عنهم ، ولهذا يظهر للعاقل أن ذلك اليوم لا ينفع فيه شيء من الصور المجبوبة في الدنيا وإنما تنفع فيه الأعمال الصالحة ، بل تنقلب تلك الصور المحبوبة أعداء ينفر عنها ولا يتقرب إليها ، ومن ثم قال تعالى {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} وقال {إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحروهم} فحذر الله منهم في الدنيا قبل أن يفر منهم في الآخرة ، وهذا الفرار قبيل دخول الجنة أما فيها فلا يكون فيها إلا الاجتماع والمشاهد . (1/538)
مطلب في ان الذرية قد تطلق على الآباء فقط وقد تطلق على ما يشملهم والأبناء
{والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} ولاذرية هنا تشمل الآباء كالأبناء ، ونظيره {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون} أي آباءهم فاستفيد منه إطلاق الذرية على الآباء وحدهم وعلى ما يشملهم مع الأبناء ، ثم ما ذكر في الآية من باب الترقي لأن الأبوين أقرب من الإخوة وتعلق القلب والالتصاق بالصاحبة أشد منه لهما وذلك بالابن أشد منه بها ، فكأنه قيل من أخيه بل من أبويه مع مزيد(1/539)
<228>قربهما بل من صاحبته مع مزيد تعلقه بها بل من الابن الذي هو الغاية في التعلق به وعدم مساواة أحد له في هذه المرتبة ، وذلك ينبئك عن عظيم شدة الهول الذي تعين في ذلك اليوم حتى يجمل على الفرار من مثل هؤلاء نسأل الله اللطف في ذلك والمسامحة إنه أكرم وأقرب مجيب ، والله تعالى أعلم .
وسئل نفع الله به : عما لو شك في شيء من القرآن حال التلاوة أهو بالياء أو هو بالتاء أو هو وقال أو فقال هل له أن يقرأه من غير تيقن حقيقة ذلك أم لا ؟ .
فأجاب بقوله : إنه لا يجوز له القراءة مع الشك المذكور حتى يغلب على ظنه الصواب . (1/540)
مطلب في أن الوعظ بقيده لا يتوقف على إذن الإمام
وسئل نفعنا الله به : عن شخص يعظ المسلمين بتفسير القرآن والحديث وهو لا يعرف علم الصرف ووجه الإعراب من علم النحو ولا وجه اللغة ولا علم المعاني والبيان ، هل يجوز له الوعظ بهما أو لا ؟ وإن وعظ بذلك برأيه فهل عليه حد مضبوط أو تعزير أو لا شيء عليه ؟ وهل يجوز له الوعظ بغير إذن الحاكم أو يعلق إذنه عليه وإذا منعه منه فوعظ ، فهل عليه التعزير ، وإن قلتم ينبغي التعزيز فما حده ؟ .
فأجاب رضي الله عنه بقوله : بأنه إن كان وعظه بآيات الترهيب والترغيب ونحوهما وبالأحاديث المتعلقة بذلك وفسر ذلك بما قاله الأئمة جاز له ذلك وإن لم يعلم من علم النحو وغيره ؛ لأنه ناقل لكلام العلماء والناقل كلامهم إلى الناس لا يشترط فيه إلا العدالة وألا يتصرف فيه بشيء من رأيه وفهمه ، وأما إذا كان يتصرف فيه أو فهمه ولا أهلية فيه لذلك بأن لم يتقن العلوم المتعلقة بذلك فإنه يجب على أئمة المسلمين وولاتهم وكل من له قدرة منعه من ذلك وزجره عن الخوض فيه فإن لم يمتنع رفع إلى بعض قضاة المسليمن ليعزره التعزير الشديد البالغ الزاجر له ولأمثاله من الجهال عن الخوض في مثل هذه الأمور الصعبة لما يترتب على ذلك من المفاسد والقبائح الكثيرة الشنيعة ، ومن أتقن طريق الوعظ وما يحتاج إليه من العلوم فإنها درجة سنية ومنصب شريف لا يستهزئ به ويتجاسر عليه إلا كل جاهل مجازف في الدين لا يخاف الله ولا يخشى سوط عذابه الأقرب إليه من حبل الوريد ، فمن أتقنه كما ذكرنا جاز له فعله من غير إذن الإمام ، لكن قياس ما قاله أئمتنا في التدريس أنه لا يجوز فعله في المساجد العظام إلا بإذن الإمام إن اعتيد استئذانه في مثل ذلك ، وحيث منع الإمام منه شخصا فخالفه وفعل عزر التعزير الشديد لأن مخالفة أمر الإمام الذي ليس بمعصية حرام موجب للتعزير السديد ، وكيفية التعزير لا ضابط لها لأنه يختلف باختلاف المعزرين والمعصية التي وجب التعزير لها وبسببها ، ومن ثم قالوا : إن الأمر فيه منوط برأي الإمام فمتى رأى مرتبة كافية في الزجر لم يجز له الارتقاء إلى ما فوقها ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/541)
مطلب يحرم جعل شيء من القرآن أو الأسماء المعظمة غشاء للكتب أو في جلدها
وسئل نفع الله به : إذا استعمل من ورق الكتب أغشية لها وفي تجليدها هل يجب نقضه وبله ؟ .
فأجاب بقوله : يحرم جعل الأوراق التي فيها شيء من القرآن أو من الأسماء المعظمة غشاء مثلا أخذا مما أفتى به الحناطي من حرمة جعل النقد في كاغد فيه بسم الله الرحمن الرحيم ، وفرق ابن العماد بينه وبين كراهية لبس الثوب المطرز بلاقرآن بأن المكتوب هنا قصد به الدراسة ومقتضاه أنه لا يحرم جعل ذلك فيما كتب(1/542)
<229>لا للدراسة ، وفيه وقفة ، والذي ينبغي في الفرق أن يقال : ليس من شأن الثوب أن يكتب عليه قرآن بخلاف الكاغد فلم يحرم لبس ذلك وحرم جعل شيء في هذا ، لأن لبس ذلك لا يعد امتهانا لما كتب عليه بخلاف جعله نحو نقد في هذا فإنه يعد انتهاكا لما كتب فيه ، لأن الكتابة فيه تقطع عنه كونه يجعله ظرفا لغيره لكونه موضوعا لها ، والكتابة على الثوب لا تقطع كونه ملبوسا لكونه ليس موضوعا له .
وإذا تقرر ذلك اتجه حرمة جعل النقد أو غيره في كاغد كتب فيه من القرآن سواء أقصد بها الدراسة أم غيرها . ويعلم من هذا ما قدمته من أنه يلحق بالقرآن كل اسم معظم كاسم الله واسم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وأما الأوراق التي فيها علم محرم وليس فيها اسم معظم فطاهر كلامهم أنه لا يحرم جعلها غشاء ، وحينئ فلا يجب نقض الأغشية المعمولة منها .
فإن قلت : بل ينبغي حرمة ذلك قياسا على حرمة توسد كتب العلم المحترم .
قلت : القياس له نوع اتجاه إلا أنه يمكن الفرق بأن التوسد فيه من المباشرة بالامتهان والاستعمال ما ليس في جعله أغشية : وواضح أن الكلام في كتب علم بالية تعطل النفع بها ولم يكن في جعلها أغشية إضاعة مال ولا تعطيل لذلك العلم المحترم ، فإن وجد شيء من ذلك اتجه القول بالحرمة حينئذ كما لا يخفى على من له أدنى بصيرة ، وإذا حرم وجب نقضها وإعادتها على حالها إن أمكن ذلك بعد النقض ، والله أعلم . (1/543)
مطلب فيما إذا وجد في المصحف أو كتب العلم غلطا الخ
وسئلت : عمن وجد في مصحف غلطا هل له أن يصلحه بغير إذن مالكه وكذلك في الكتب ، وهل للقارئ بالمصحف الكريم إذا انتهى إلى آخر حزبه إذا انتهى إلى آخر حزبه أن يضع فيه ورقة أو نحوها ليعرف حزبه فيها ، وهل يجوز وضع مصحف على مصحف آخر ، وهل يجوز أن يكتب في مصحف الزقف أنه وقف على كذا ، وأن فلانا وقف ، وهل يجوز أن يحشى المصحف الكريم من التفسير كما يحشى الكتب من الشروح ، وما حكم كتابة الأحاديث في فضل السور قبل البسملة ، وهل يجوز وضع المصحف في كوة طاهر ة من غير فرش ، وهل يحرم مد الرجل إليه وإن بعد عنه ، وهل يجوز وضعه على ثوب فيه كثير ونيم نحو ذباب ، وما الذي يلزم معلمي الصبيان أن يعلموهم من احترام المصحف وهل في التكبير عند آخر كل سورة من الضحى على آخر القرآن أثر ، وما حكم قراءة القرآن العظيم في الطرق المتيقن نجاستها وفي الحمام ، وقول العباب : يحرم جعل دراهم مثلا في ورقة كتب فيها قرآن ، هل الورقة التي فيها علم وورق المكاتبات لها هذا الحكم ، وهل ثبت أن مؤمني الجن يقرءون القرآن ويعلمون ويتعلمون أحكام الشرع ، ويكتبون كما نكتب ، ويصلون الصلوات الخمس ويتطهرون لها ، وما يجب على الآدمي المتزوج منهم لزوجته من المؤن عند من يصحح نكاحهم ؟ .
فأجبت بقولي : نقل الزركشي وغيره عن العبادي أن من استعار كتابا فوجد فيه غلطا لم يجز إصلاحه وإن كان مصحفا وجب ، وقيده البدر ابن جماعة والسراج البلقني بالمملوك قالا : أما الموقوف فيجوز إصلاحه ، وظاهر أن محله إذا كان خطه مستصلحا أي بحيث لا يتعيب به المصحف والكتاب المصلح ، هذا واعلم أن شيخ الإسلام الدر ابن جماعة عقد بابا للآداب مع الكتب / وما يتعلق بتصحيحها وضبطها وحملها ووضعها وشرائها وعاريتها ونسخها وغير ذلك ، وقد قصدت تلخيصه هنا لتعلم منه أجوبة بعض الأسئلة ، قال ما حاصله مع الزيادة فيه : ينبغي لطالب العلم أن يعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها ما أمكنه بشراء وإلا فبإجارة أو عارية ولا يشتغل بنسخ شيء منها إلا ما يتعذر تحصيله بغير النسخ ، ولتكن همته بالتصحيح أكثر من التحسين(1/544)
<230>وتسن إعارتها حيث لا ضرر ، وقيل تكره ولا وجه له ، كيف وفيها من الإعانة على العلم والخير ما ال يخفى ، وللوسائل حكم المقاصد ، وقد كتب الشافعي رحمه الله لمحمد ن الحسن رضي الله عنه : إن العلم ينهى أهله أو يأبى أهله أن يمنعوه أهله . (1/545)
مطلب لا ينسح الشخص من كتاب غيره إلا بإذنه في النسخ بأن يقول انتفع به
وينبغي للمستعير أن يشكر للمعير ذلك ويجزيه خيرا ولو بالدعاء ، وليرد الكتاب بعد فراغ حاجته أو عند طلب مالكه ، ولا يجوز أن يصلحه بغير إذن صاحبه أي بقيده السابق ، ولا يحشيه شيئا في مغاضن فواتحه وخواتمه إلا إذا علم رضا صاحبه ، ولا يسوده ولا يعيره غيره ولا يودعه لغير ضرورة حيث يجوز شرعا ، ولا ينسخ منه بغير إذن صاحبه إذ مطلق الاستعارة لا تتناول النسخ إلا إذا قال له المالك لتنتفع ه كيف شئت ، ولا بأس بالنسخ من موقوف على من ينتفع به غير معين ، ولا بإصلاحه ممن هو أهل لذلك وحسن أن يستأذن ناظره ولا ينسخ منه والقرطاس بباطنه وعلى كتابته ولا يضع المجبرة عليه ، ولا يمر بالقلم الممدود من الحبر فوق كتابته ، وإذا نسخ منه أو طالع فيه فلا يضعه في الأرض مفروشا منشورا بل يجعله ين شيئين أو على كرسي لئلا ينقطع حبكه . (1/546)
مطلب في بيان كيفية وضع الكتب
وإذا وضعها بمكان فليجعل بينها وبين الأرض حائلا ، ويراعي الأدب في وضعها باعتبار شرفها وجلالة مصنفها ، فيضع الأشرف أعلاها والمصحف أعلى الكل ، ووجعله بمسمار معلق بنحو وتدفى حائط نظيف في صدرر المجلس أولى ، ثم كتب الحديث الصحيح الصرف كصيحيح مسلم أي لكن ينبغي تقديم البخاري عليه لأنه مع كونه أصح أكثر قرآنا ، وسياتي أن الأكثر قرآنا من المستويين في علم يقدم ثم تفسير القرآن ثم شرح الحديث فأصول الدين فأصول الفقه فالفقه فالنحو فالصرف وعلوم المعاني والبيان والبديع ونحوها وأشعار العرب فالعروض ، وعند استواء كتابين في فن يعلى الأكثر قرآنا فحديثا فجلالة المصنف فتقدمه فأكثرهما وقوعا في أيدي العلماء والصالحين فأصحهما ، والأولى في وضع الكتب أن يكون أوله المفتتح بنحو البسملة إلى فوق ، وأن لا يجلعه خزانة لنحو كراريس ، ويحرم جعله مخدة إلا عند الخوف عليه ، وظاهر أن مثله جعله متكئا أو مسندا لا مروحة لقلة الامتهان فيه بالنسبة لما قبله ، ويحرم توسد المصحف ، ولو خاف سرقته بخلاف ما لو خاف عليه نجسا أو كافرا فيجوز توسده بل يجب . وليعلم بنحو ورقة لا عود وطي حاشية وورقة ويتفقد ما استعاره عن الأخذ والرد ويتحرى في نظر علامة الصحة فيما يريد أن يشتريه ، ومنها ما أشار إليه الشافعي رضي الله عنه بقوله : إذا رأيت الكتاب فيه إشهاد أو إصلاح فاشهد له بالصحة ، وقال غيره : لا يضيئ الكتاب حتى يظلم يريد إصلاحه .
وينبغي لكاتب العلم الطهارة والاستقبال وابتداء الكتاب بالبسملة والحمدلة ولاصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ويختمه بذلك ، ويكتب عند تمامه تم كتاب كذا ففيه فوائد ، وليعظم اسم الله إذا كتبه بأن يكتب عقبه تعالى أو تقدس أو عز وجل أو نحو ذلك وكذا اسم رسوله بأن يكتب عقبه صلى الله عليه وسلم فقد جرت به عادة الخلف والسلف ، ولا يختصر كتابتها بنحو صلعم فإنه عادة المحرومين ، ويترضى على الأكابر كالمجتهدين ، ويترحم عمن دونهم ، ويتجنب دقيق الخط فإنه لا ينتفع به عند الكبر ، ورعاية(1/547)
<231>الانتفاع به حينئذ أولى من رعاية خفة الحمل أو توفر مؤنة الكتابة أو الورق ، وآداب براية القلم مبسوطة عند الكتاب وإذا صح الكتاب بمقابلته باصل صحيح أو بقراءته على شيخ فلينقط المشكل ويذكر ضبطه في الحاشية ، ويكتب على ما صححه أو ضبطه صح صغيرة زما يراه خطأ فيكتب فوقه كذا صغيرة وفيا لحاشية صوابه كذا إن تحققه ، والضرب على الزيادة أولى من نحو الحك نعم الحك أولى في إزالة نحو نقطة أو مشكلة ، والأولى نحو الضرب على الثاني من المكرر إلا إن كان الأول آخر سطر ولم يكن مضافا لما بعده ، فالضرب عليه أولى صيانة لأوله ، ويخرج لما في الحاشية بمنعطف إلى جهته ولايمين أولى ثم يكتب المخرج صاعدا لأعلى الورقة لا نازلا لاحتمال تخريج آخر بعده ، ويجعل رءوس الحروف إلى جهة اليمين سواء كان لجهة الكتابة أم يسارها ، ويدع مقدار جبك آخر الورقة مرارا فلا يوصل الكتابة به لزوالها عند حبك المجلد له ، ويكتب آخر التخريج صح ، ولا بأس بكتابة الحواشي والفوائد والتنبيهات المهمة على حواشي الكتب التي يملكها ، وليكن متعلقة بما فيه من غير إكثار لئلا يظلمه ، وترك الكتابة بين الأسطر أولى مطلقا ، ولا يكتب آخره صح فرقا بينه وبن التخريج بل نحو حاشية أو فائدة أوله أو آخره ، ولا بأس بكتابة الترجمة أو المتن بالحمرة أو بالرمز بها على نحو أسماء أم مذاهب مع بيان اصطلاحه أول الكتاب ، ويفصل بين كل كلامين بدائرة مثلا لما في تركه من عسر استخراج المقصود انتهى . (1/548)
مطلب حكم مد الرجل للمصحف أو كتب العلم
قال الزركشي : ويحرم مد الرجل إلى شيء من القرآن أو كتب العلم انتهى .
وفي إطلاق الحرمة وقفة بل الأوجه عدمهاإذ لم يقصد بذلك ما ينافس تعظمه ، وبحث أيضا كتابته بقلم غير العربي وفيه نظر أضا ، ويفرق بينه وبين حرمة قراءته بغير العربية بأن هذا يذهب إعجازه بخلاف الثاني . قال البيهقي كالحليمي : والأولى أن لا يجعل فوق المصحف غير مثله من نحو كتاب أو ثوب وألحق به الحليمي جوامع السنن أيضا ، وبحث ابن العماد أنه يحرم أن يضع عليه نعلا جديدا أو يضعه فيه لأن فيه نوع امتهان وقلة احترام ، والأولى ألا يستدبره ولا يتخطاه ولا يرميه بالأرض بالوضع ولا حاجة تدعو لذلك ، بل لو قيل بكراهة الأخير لم يبعد . (1/549)
مطلب في أنه يكره أخذ الفأل من المصحف
ورد النهي عن تصغير لفظه كالمسجد فينبغي اجتنابه . قال الزركشي : ويسن تطييبه وجعله على كرسي وتقبيله ، انتهى . ويكره أخذ الفأل منه ، وقال جمع من المالكية بتحريمه .
إذا تقرر لك علم الجواب عما ذكره السائل ، وهو أنه يجوز له إصلاح الغلط في ملكه ، وما علم رضا مالكه أو الموقوف عليه المعين بذلك بل يجب في المصحف ويجوز في غيره إذا لم يعبه خطه . ويجوز وضع ورقه ليعرف حزبه بها وهو أولى من وضع عود ونحوه . ويجوز وضع مصحف على مصحف ، وظاهر أنه يجوز أن يكتب على الموقوف أنه وقف على كذا وأن فلانا وقفه لما فيه من المصلحة العامة ، وعليه الإجماع الفعلي ، وأنه يجوز أن يحشى المصحف من التفسير والقراءات كما تحشى الكتب لكن ينبغي أخذا مما مر في تحشية الكتب ألا يكتب إلا المهم المتعلق بلفظ القرآن دون نحو القصص والأعاريب الغريبة . قال الحليمي : ومن الآداب ألا يخلط به ما ليس بقرآن كعدد الآي والوقوف واختلاف القراءات ومعاني(1/550)
<232>الآيات وأسماء السور والأعشار . قال البيهقي : لأنه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان لم يفعلوا شيئا من ذلك ، وكتب الأحاديث المتعلقة بفضائل السور لا بأس به لممن علم لتلك الأحاديث أصلا . كون الفاتحة تعدل ثلثي القرآن والإخلاص ثلث القرآن ظت والكافرون وما بعدها ربعه ، وإذا زلزلت والعاديات نصفه ، وكون آية الكرسي أعظم آية في القرآن وكون يس قلب القرآن أو تعدله عشر مرات ، ونحو ذلك مما له أصل . وأما الأحاديث التي لا أصل لها كالمذكورة في تفسير الواحدي والزمخشري والبيضاوي وغيره فلا يجوز روايتها ولا كتابتها لأنها كذب موضوعة مختلقة ، بل الأحاديث التي لا يعلم أن مخرجها ممن يعتمد عليه في أن الحديث له أصل لا يجوز روايتها ولا كتابتها . ويجوز وضع المصحف في كوة طاهرة من غير فرش لكن الأولى بفرش ، وأولى منه وأفضل كما مر تعلقيه ، ومر أيضا تفصيل في مد الرجل إليه فاستحضره ، وإذا قلنا بحرمة المد فمحله كما هو ظاهر حث قرب منه بأن كان ينسب المد إليه ويعد مخلا بتعظيمه ، ويجوز وضعه على متنجس معفو عنه ، أخذا بقول النووي في مجموعه وتبيانه : يحرم كتب القرآن أو اسم الله تعالى أو اسم رسوله صلى الله عليه وسلم أو كل اسم معظم كما هو ظاهر بنجس أو متنجس لم يعف عنه ، أو وضعه على نجس أو متنجس كذلك ، ومسه بلا حائل وإن كتب بنحو جدار ، ومن ذلك ما أفتى به ابن الصلاح من حرمة كتابة بعض القرآن وأسماء الله على بعض الأكفان لتنجسها بالصديد ، ومسه بطاهر من بدن تنجس باقيه خلاف الأولى ، وقيل يحرم ورد بأنه خرق للإجماع ، ويحرم بلع قرطاس كتب فيه نحو قرآن مما مر لا شرب غسالته .
ويجب على معلم الصبيان أن يمنع غير المميز من مس المصحف وحمله لئلا ينتهك حرمته ، وله أن يمكن المميز من حمله لحاجة تعلمه منه أو ما يتوقف عليه التعليم كالذهاب به إلى المكتب أو البيت وإن كان محدثا بل أوجبنا على المتعمد ، ولا يجوز له تمكين المحدث من حمله أو مسه بغير ذلك ، وما عدا ذلك من الآداب إن استأجر المعلم لشيء منه معين لزمه فعله وإلا فلا .
ويسن التكبير من الضحى إلى آخر القرآن وهي قراءة المكيين ، اخرج البيهقي في الشعب وابن خريمة من طريق ابن أبي بزة سمعت عكرمة بن سليمان قال : قرأت على إسماعيل بن عبد الله المكي فلما بلغت الضحى قال لي : كبر حتى تختم فإني قرأت على عبد الله بن كثير فأمرني بذلك وقال : قرأت على مجاهد فأمرني بذلك ، وأخبر مجاهد أنه قرأ عاى ابن عباس رضي الله عنهما فأمره بذلك " أخرجاه موقوفا ثم أخرجه البيهقي من وجه آخر عن ابن أبي بزة مرفوعا ، وأخرجه من هذا الوجه – أعني المرفوع – الحاكم في مستدركه وصححه وله طرق كثيرة عن ابن البزي قال : قال لي محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه : إن تركت التكبير فقد تركت سنة من سنن نبيك . قال الحافظ العماد ابن كثير : وهذا يقتضي تصحيحه للحديث ، وروى أبو العلاء الهمداني عن البزي ان الأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم انقطع عنه الوحي فقال المشركون : قلى محمدا ربه ، فنزلت سورة لاضحى فكبر النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن كثير : ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف . وقال الحليمي : نكتة التكبير تشبيه القرآن بصوم رمضان إذا تمت عدته يكبر فكذا هنا يكبر إذا أكمل عدة السور . قال : وصفته ان يقف بعد كل سورة وقفة ويقول : الله أكبر ، وكذا قال سليمان الرازي عن أصحابنا في تفسيره : يكبر بين كل سورتين تكبيرة ولا يصل آخر السورة بالتكبير بل يفصل بينهما بسكتة . قال : من لم يكبر من القراء فحجتهم في ذلك سد الذريعة عن الزيادة في القرآن بأن يداوم عليها ويتوهم أنها منه ، وفي النشر اختلف(1/551)
<233>القراء في ابتدائه هل هو من أول الضحى أو من آخرها ، وفي انتهائه هل هو أول سورة الناس أو آخرها ، وفي وصله بأولها وآخرها ، والخلاف في الكل مبني على أصل هو أنه هل هو لأول السورة أو لآخرها ، وفي لفظه فقيل : الله أكبر ، وقيل : لا إله إلا الله والله أكبر ، سواء في التكبير الصلاة وخارجها صرح به السخاوي وأبو شامة . (1/552)
مطلب يجوز تكرير سورة الإخلاص خلافا للإمام أحمد
(فائدة) : منع الإمام أحمد من تكرير سورة الإخلاص عند الختم ولكن عمل الناس على خلافه ، وحكمته أن فيه جبرا لما لعله حصل في القراءة من خلل . قال بعض المحققين : وكما قاس الحليمي التكبير عند الختم على التكبير عند إكمال رمضان فينبغي أن يقاس تكرير سورة الإخلاص على إتباع رمضان بستة من شوال انتهى . وقيل حكمة التكرير ما ورد أنها تعدل ثلث القرآن فتحصل ختمة ، واعترض بأنه كان حينئذ ينبغي أن تقرأ أربعا ليحصل ختمتان : أي الختمة المقرءوة تحقيقا والمقروءة تقديرا بالثلاثة الباقية ، ورد بما تقرر أولا من انه ليس القصد ذلك ، بل جبر الخلل كما مر ، وهو يحصل بتكريرها ثلاثا وإن كانت واحدة منهما تكملة للختمة المقروءة ، وتكره القراءة في محمل النجاسة حتى في الخلاء ، وقيل تحرم واختارة الأزرعي ، وفي الطريق للنهي عنها وإن لم تكن فيه نجاسة ، وفي بيت الرحى وهي تدور ولا تكره بحمام أي بمحل نظيف منه عن النجاسة لكنها فيه خلاف الأولى قاله النووي وهو ظاهر ، وإن اعترض بأن الجمهور على الكراهة كما بينته في شرح العباب ، ولا فرق في ذلك بين السر والجهر ولا بين من له ورد وغيره وفارقت كراهة الصلاة فيه بأن الصلاة يحتاط لها أكثر لأنها لعظم فضيلتها يتسلط الشيطان فيها والحمام مأوى الشياطين . وأما القراءة فليست كذلك على أنها قد تكون سببا لطرده وإيذائه كما صح ذلك في آية الكرسي .
وقول السائل : وقول العباب : ويحرم الخ يعلم جوابه من قولي في شرحه : ويحرم جعل دراهم مثلا في ورقة كتب فيها قرآن ومنه البسملة كما أفتى به الحناطي ونقله السبكي عن الفقهاء ، وفرق ابن العماد في حل لبس الثوب المطرز بالقرآن بأن المكتوب هنا قصد به الدراسة ومقتضاه أنه لا يحرم جعل ذلك فيما كتب لا للدراسة وفيه نظر ، والذي يتجه الفرق بأن لبس الثوب المذكور ليس فيه امتهان بطريق الذات بل بطريق التبع بخلاف وضع النقد في تلك الورقة فإنه متضمن للامتهان بطريق الذات ، ويظهر انه يلحق بالقرآن كل اسم معظم ، وكالنقد فيما ذكر نحو الأكحال والأدوية بل أولى خلافا لما يوهمه كلام البارزي ، وينبغي أن يلحق بذلك ما يبطن به جلود المصاحف وغيرها من الأوراق التي فيها اسم معظم ، فيحرم كجعل نحو النقد فيها بجامع ما في كل من الامتهان بخلاف ما ليس فيه اسم معظم وإن كان من العلوم الشرعية ، ثم رأيت ابن الحاج المالكي في مدخله صرح بذلك فحرمه بما فيه قرآن أو حديث أو اسم من أسماء الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام . قال : حرمة له وتعظيما لقدره بخلاف ما فيه أسماء العلماء والسلف الصالح أو شيء من العلوم الشرعية فإته يكره ولا يحرم انتهى . وهو ظاهر موافق لقواعدنا انتهت عبارة شرح العباب ، ومنها يعلم أن الورقة التي فيها علم شرعي ليست كالتي فيها قرآن أو اسم معظم ، وإن وضع نحو النقد في تلك مكروه وفي هذه حرام . وسئل ابن الصلاح عمن يقول : الشيطان يقدر على أن يقرأ القرآن ويصلي هو وجنوده ؟ فأجاب بقوله : ظاهر النقول ينفي قراءتهم القرآن وقوعا ويلزم من ذلك انتفاء الصلاة منهم إذ منها قراءة القرآن ، وقد ورد أن الملائكة لم يعطوا فضيلة حفظه فهم حريصون(1/553)
<234>على استماعه من الإنس ، فإن قراءة القرآن كرامة أكرم الله بها الإنس غير أن المؤمنين من الجن بلغنا أنهم يقرءونه ، وما ذكره في الملائكة . قال الكمال الدميري : قد يتوقف فيه من جهة جبرل وهو النازل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وقال تعالى في وصف الملائكة {فالتاليات ذكرا} أي تتلو القرآن انتهى . وقد يجاب بأن ذلك خصوصية لجبريل وتفسير الآية بخصوص كونها تتلو القرآن هو محل النزاع فلا دليل فيه ، وما ذكره من مؤمني الجن يؤيده ما أخرجه الخطيب في رواية مالك عن جابر رضي الله عنه قال : " بينما نحن نسير مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت حية سوداء ثعبان ذكر فوضعت رأسها في أذن النبي صلى الله عليه وسلم ووضع النبي صلى الله عليه وسلم فمه في أذنها فناجاها ثم ذهبت ، وكأنما الأرض قد ابتلعتها فقلنا : يا رسول الله لقد أشفقنا عليك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا وفد الجن نسوا سورة فأرسلوه إلي ففتحت عليهم القرآن " وفي هذا تصريح بأنهم يقرءون القرآن . (1/554)
مطلب في أن هامة بن إبليس أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به
وفي حديث ورد من طرق كثيرة يبلغ بها درجة الحسن كما قال بعض المحققين " أن هامة بن إبليس جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وذكر أنه حضر قتل هابيل بن آدم وأنه اجتمع بنوح فمن بعدهم وآمن بهم ثم طلب من النبي صلى الله عليه وسلم - بعد أن آمن به وبلغه السلام من عيسى عليه الصلاة والسلام فرد عليه السلام – أن يعلمه شيئا من القرآن فعلمه الواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت وقل هو الله أحد والمعوذتين " ثم ما أفهمه التلازم بين القراءة والصلاة الذي مر عن ابن الصلاح من أن مؤمني الجن يصلون ، يدل له ما رواه سفيان الثوري في تفسيره عن إسماعيل البجلي عن سعيد بن جبير قال : قالت الجن للنبي صلى الله عليه وسلم كيف لنا بمسجدك أن نشهد الصلاة معك ونحن ناءون عنك فنزلت {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} وفي نهاية ابن الأثير في الحديث : " لا تحدثوا في القزع فإنه مصلى الخائفين " والقزع بالتحريك أن يكون في الأرض ذات الكلأ مواضع لا نبات فيها ، والخائفون هم الجن . (1/555)
مطلب على أن أبا البقاء العكبري الحنبلي أفتى بصحة الصلاة خلف الجن
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود في قصته ليلة جن نصيبين " لما خرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة ورجع النبي صلى الله عليه وسلم من عندهم أدركه شخصان منهم فقالا له يا رسول الله : إنا نحب أن تؤمنا في صلاتنا " قال ابن مسعود رضي الله عنه : " فصليا خلفه ثن صلى بنا ثم انصرف ، فقلت له من هؤلاء يا رسول الله ؟ فقال : هؤلاء جن نصيبين " الحديث ، وأفتى به أبو البقاء العكبري الحنبلي بصحة الصلاة خلف الجن لأنهم مكلفون ، والنبي صلى الله عليه وسلم مرسل إليهم أي إجماعا ، وذكر ابن الصبر في الحنبلية أيضا أن الجمعة تنعقد بهم وقضية مذهبنا ذلك إن تحقق وجود شروط الإمامة والجمعة في العين منهم الذي يراد الائتمام به أو جسبانه من الأربعين ، ويؤيد ذلك إفتاء السبكي بأنهم مكلفون بشريعته صلى الله عليه وسلم في كل شيء لأنه إذا ثبت إرساله إليهم كإرساله لنا والدعوة عامة والشريعة عامة لزمهم كل تكليف وجد سببه فيهم إلا أن يدل دليل على التخصيص . قال : فنقول تلزمهم الصلاة والزكاة بشرطها والصوم والحج وغيرها من الواجبات ويحرم عليهم كل حرام ولا نلتزم ذلك في الملائكة وإن قلنا بعموم الرسالة لهم أي وهو الأصح عند جمع محققين ، ويدل له حديث مسلم " وأرسلت إلى الخلق كافة " وقد ورد في آثار كثيرة عن السلف أن جمعا من الجن كانوا يقرءون القرآن عليهم ويتعلمون العلم ، وبالجملة التكليف شرطه العلم فما علموه لزمهم وما لا فلا انتهى كلام السبكي .
(1/556)
<235>وفي فروع الحنابلة أنهم مكلفون في الجملة وأن كافرهم في النار ومؤمنهم في الجنة أي وهو ما ذهب إليه جمهور العلماء حتى أبو حنيفة رضي الله عنه خلافا لما نقل عنه أنهم لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ثم يكونون ثوابا انتهى وإن ثواب مؤمنهم في الجنة كثوابنا ثم أطال الكلام في كثير من فروع فقهية وغيرها تتعلق بهم وبه كالذي مر عن السبكي يعلم الجواب عن قول السائل يعلمون ويتعلمون أحكام الشرع ويكتبون ويصلون ويتطهرون . (1/557)
مطلب في حكاية تتعلق بنكاح الجنية
وقوله : وما الذي يجب على الآدمي المتزوج منهم الخ ؟ وجوابه : إذا ثبت أنهم مكلفون كتكليفنا جرت عليهم الأحكام الجارية علينا في العبادات والمعاملات والنفقة على الزوجات ، وعلينا لهم إذا صححنا النكاح منهم على القول الضعيف إذ الأصح أنه لا يصح نكاح آدمي جنية كعكسه لأنهم غير جنسنا فهم بمثابة بقية الحيوانات ؛ وقد وقع لنا في ابتداء الطلب أن بعض مشايخنا ممن جمع بين العلم والصلاح قرر صحة أنكحتهم فتوقفنا فيه وبحثنا معه في ذلك ثم جاءنا في يوم فقال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم البارحة في النوم فسألته عن ذلك فقال لي : أيحل نكاح البقرة ؟ أي فلا يحل نكاحهم لانهم من غير الجنس ، ويؤيد ذلك قوله تعالى ممتنا علينا {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا} فلو جاز التزوج منهم لفات ذلك الامتنان فعلم أن الآية دالة أيضا على عدم صحة نكاحنا منهم .
وسئل نفع الله به عن قوله تعالى {والقمر إذا اتسق} ما هو اتساقه فإنا أحيانا ما نرى الهلال حتى يمضي من الشهر ثلاث ليال ونحوها ؛ وفي أواسط الشهر يحصل الصحو أحيانا فإذا عرفنا اتساقه متى يكون عرفنا دخوله إذا حصل الغيم في زمن الربيع فبينوا لنا بيانا واضحا ؟ .
فأجاب بقوله : معنى قوله تعالى {والقمر إذا اتسق} استوى واجتمع وتكامل ومن ثم قال الفراء : اتساقه امتلاؤه ، واجتماعه واتساقه ليلة ثلاث عشرة وأربعة عشرة إلى ست عشرة ، وإذا كان هذا معنى الاتساق لم يتوجه قول السائل : فإنا أحيانا الخ . (1/558)
مطلب في تفسير قوله تعالىإنا أنشأناهن إنشاءالخ
وسئل نفع الله به بما لفظه : في التفسيرفي قوله تعالى {إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين} حكاية عن الحديث لأنهن اللاتي قبضن عجائز خلقهن الله بعد الكير عذارى فجعلها عذارى متعشقات على ميلاد واحد أفضل من الحور العين كفضل الظاهرة على الباطنة وأنهن لأصحاب اليمين موافقا لظاهر الآية ، هل هن مختصات بأصحاب اليمين والحور العين بالمقربين أو الاعتبار بالأكثرية ؟ .
فأجاب بقوله : لفظ هذا الحديث لم أره ، وإنما الذي رأيته ما أخرجه كثيرون منهم عبد بن حميد والترمذي والبيهقي عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {إنا أنشأناهن إنشاء} قال " إنا هذه المنشآت التي كنا في الدنيا عجائز عمشا عمصا " وما أخرجه آخرون منهم الطيالسي والطبراني والبيهقي عن مرثد الجعفي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى {إنا أنشأناهن إنشاء} قال : " الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا " . وما أخرجه آخرون منهم عبد بن حميد والترمذي في الشمائل والبيهقي عن الحسن قال : أتت عجوز للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ادعو الله لي أن(1/559)
<236>يدخلني الجنة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز ، فولت تبكي ، فقال أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله يقول {إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكار} وفي رواية عند البيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت : " دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي عجوز فقال : من هذه ؟ فقلت : إحدى خالاتي فقال : أما إنه لا تدخل الجنة العجوز ، فداخل العجوز من تلك ما شاء الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا أنشأناهن خلقا آخر " . وفي رواية عند الطبراني عنها " أنه صلى الله عليه وسلم أتته عجوز من الأنصار فقالت : يا رسول الله ادعو الله أن يدخلني الجنة ؟ فقال : إن الجنة لا تدخلها عجوز فذهب يصلي ثم رجع ، فقالت عائشة رضي الله عنها : لقد لقيت من كلمتك مشقة ، فقامل : إن ذلك كذلك إن الله إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارا " . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : خلقهن غير خلقهن الأول . وقال قتادة : الضمير لأزواج القوم . والحسن : الضمير للنساء . وسعيد بن جبير : معناه خلقناهن خلقا جديدا . وأخرج ابن مردويه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " {إنا أنشأناهن} أنشأهن " . وأخرج الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكار " . وجاء عن ابن عباس وغيره روايات حاصلها " أن العرب العواشق المتعشقات لأزواجهن المتحببات المقودات إليهم الغنجات المتغنجات الحسنات الكلام الغلمات " أي القويات الشهوة ، وأصل العربة الناقة التي تشتهي الفحل ، والمرأة الحسنة للبعل ، وورد بسند ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم قال : خير نساءكم العفيفة الغلمة " وأخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم " عربا : كلامهن عربي ، وإن الأتراب المستويات في السن وهو ثلاث وثلاثون سنة " . (1/560)
مطلب يشترك جميع أهل الجنة في الحور ونساء الدنيا
إذا تقرر ذلك فأنشأناهن إن كان معناه بدأنا خلقهن فلاضمير فيه راجع للحور العين وهو بعيد خلافا لمن قال به ، وكفى هذه الحاديث السابقة في رده وعليه فلا إشكال لإفادته أن الحور العين للسابقين ولأصحاب اليمين ، وإن كان أعدنا خلقهن فالضمير راجع لنساء الدنيا كما دل عليه بعض تلك الأحاديث ، أما إرجاعا له على معلوم لم يذكر على حد {حتى توارت بالحجاب} ، أو على مذكور بالقوة لأن الفرش المرفوعة تستلزمهن نظرا للكمال ، أو بالفعل لأن الفرش يعبر بها عن النساء كاللباس ، وعلى كل فظاهر الآية أفاد أن الحورالعين للسابقين ، ونساء الدنيا لأصحاب اليمين ، وهو مشكل لتصريح حديث الطبراني بأن فضل نساء الدنيا على الحو المنشآت كفضل الظاهرة على الباطنة بصلاتهن وصومهن وعبادتهن لله تعالى فيكون الأعلى للمفضول والأدون للفاضل ، ويجاب عنه بأنه ورد أن أسفل أهل الجنة يفضي في الغداة الواحدة إلى مائة عذراء ويقوم على رأسه عشرة آلاف خادم ، وإن للرجل زوجتين من نساء الدنيا وبذلك يعلم اشتراك اهل الجنة جميعهم في الحور ونساء الدنيا ، والذي في آية الواقعة إنما هو تمايز السابقين وأهل اليمين بمجموع المذكورات لا بكل ، ولا شك أن من تأمل ما أعطيه السابقون من مجموع تلك المذكورات لهم وجدها أفضل مما أعطيه أصحاب اليمين .
واما كون بعض ما ذكر لأصحاب اليمين أفضل منم بعض ما ذكر للسابقين فلا يضر لأنه علم من السنة اشتراكهما في الحور العين ونساء الدنيا ، ويصح أن يراد بأصحاب اليمين المذكور بعد {أترابا} أصحاب مجموع(1/561)
<237>الفريقين السابقين وأصحاب اليمين فحينئ فيفيد النص على اشتراك الفريقين في ذلك وحكمته أنه لما ذكر ما يخص كلا ختم بما يشتركان فيه كما دلت عليه السنة ، وحينئذ فلا إشكال ويكون الضمير راجعا إلى مطلق نساء الجنة التي من جملتهن نساء الدنيا كما دل عليه الحديث الأول " أن من المنشآت " الخ ، ويدل له التصريح في حديث آخر بأن الحور منشآت أيضا هذا ما ظهر في الآية وإن لم أر من ذكره ، والله تعالى أعلم بأسرار كتابه أذاقنا الله حلاوة فهمه بمنه وكرمه . (1/562)
مطلب ما سبب جعل جواب الشرط خرقها في قولهإذا ركبا في السفينةالخ
وسئل نفع الله به : عن جعل جواب الشرط خرقها في قوله تعالى {إذا ركبا في السفينة خرقها} دون قال المسب عنه ، وفي الآخرة {استطعما أهلها} دون قال بعدها المسبب عنه أيضا ، وفي المتوسطة بينهما جعل جواب الشرط قال دون سببه الذي هو قتل الغلام ما حكمة ذلك ؟ .
فاجاب بقوله : جعل السبب هو الجواب في الأولى والآخرة هو الأصل لأنه محط فائدة فلا يسأل عن حكمته والمسئول عنه إنما الآية الوسطى تغير الأسلوب فيها وحكمته والله أعلم أن القول فيها وقع على شدة من الغلظة والإنكار والمبالغة في التوبيخ ولم يوجد نظير ذلك في الأولى والآخرة ، ولأجل هذا زاد الخضر في الجواب "لك " في {ألم أقل لك} إشعارا لموسى صلى الله عليه وسلم بأنه في هذا الحديث خالف العهد الذي التزمه معه في عدم الإنكار عليه مخالفة ظاهرة ، والقول بأن الأمر أبلغ من النكر والإغلاظ في الأولى أبلغ منه في الثانية لأن خشية قتل كثيرين ليست كقتل واحد ضعيف جدا ، بل الصواب ما قررته من أن ما في الثانية أبلغ وأشد في الإنكار ، وتحقق قتل نفس زكية أقبح من خشية قتل جمع لم يقع .
وإذا تقرر أن ما في الثانية أبلغ وآكد في الإنكار مما في الأولى والآخرة اتضح أنه لا بد فيها من الإشارة لذلك فغير الإسلوب فيها وجعل الجواب ، والقول بأن الأغرب الذي يكون الجواب له أوقع في النفس من السبب الذي علم منه سبق نظيره وهو الخرق ، وفيه حكمة أخرى وهي زيادة الاستغراق في السبب وقرنه بالفاء لما قطعه عن الجواب الدال على وقوع القتل عقب اللقى مع زكاء تلك النفس ظاهرا ، وجعله جوابا يفوت هذه الإشارة .
والحاصل أن المتوسطة غير فيها أسلوب الأولين لداع اقتضاه ، وهو ما أشرنا إليه أنه لولا ذلك التغيير لما تنبه له وسأل عن حكمته ، ونظير ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام {قل لا أقول لكم عندي حزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك} فكرر أقول في الأولى والآخرة دون المتوسطة لحكمة ظاهرة في أن انتفاء الخزائن والملائكة عنه معلوم بالضرورة فسلط النفي على قولهما الذي يتقوله بعض الكاذبين لا علهما لما تقرر من العلم بانتفائهما ، وأما انتفاء علم الغيب عنه فغير ضروري بل ثبوته له من جملة المعجزات التي يجوز وقوعها للأنبياء فيحتاج إلى تسليط النفي عليه لا على قوله مبالغة في التبري من ادعائه وإفادة الاختصاص بالله من حيث العموم للجزئيات والكليات وممنوح لبعض الخواص إنما هو جزيئات منه لا غير فتأمله ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
(1/563)
<238>
(1/564)
مطلب نزول القرآن كان في ليلة الرابع والعشرين من رمضان وكانت تلك الليلة ليلة القدر
وسئل نفع الله بعلومه : عن نزول القرآن في أي ليلة من رمضان ؟ .
فأجاب بقوله : أنزل ليلة أربعة وعشرين منه وكانت تلك الليلة هي ليلة القدر في تلك السنة ، فمن ثم حكم تعالى بأنه نزل في رمضان وفي ليلة القدر ، وأصل هذا ما رواه أحمد واليهقي عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن انبي صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، والإنجيل لثلاث عشرة خلت منه والزبور لثمان عشرة خلت منه ، والقرآن لأربع وعشرين خلت منه " وفي رواية " وصحف إبراهيم لأول ليلة " . قال في فتح الباري : وهذا الحديث مطابق لقوله تعالى {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} ولقوله {إنا أنزلناه في ليلة القدر} فيحتمل أن تكون ليلة القدر في تلك السنة كانت تلك الليلة فأنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين إلى الأرض أول {اقرأ باسم ربك الذي خلق} انتهى .
وقوله : فيحتمل الخ إنما يأتي على انتقالها الذي اختاره النووي وغيره لا على المذهب أنها تلزم ليلة بعينها فعليه يجاب بأن هذا الحديث مع انضمام الآية إليه يدل على أنها ليلة أربع وعشرين وعليه كثيرون ، وأطال بعضهم النفس في الاستدلال له .
وقوله : إن أول اقرأ نزل يوم الرابع والعشرين مشكل بما اشتهر من أنه صلى الله عليه وسلم بعث في شهر ربيع الأول . وأجيب عن هذا بما ذكروه أنه نبي أولا بالرؤيا في شهر مولده ثم كانت مدتها ستة أشهر ثم أوحى الله إليه في اليقظة ذكره البيهقي وغيره ، وجاء عن أبي قلابة أن الكتب أنزلت ليلة أربع وعشرين من رمضان ، وقدموا الأول عليه لأنه أثبت منه . واستشهد إنزاله جملة ليلة القدر إلى بيت العزة بأن من جملته {إنا أنزلناه في ليلة القدر} فإن لم تكن منه فما نزل جملة وإن كانت منه فما وجه صحة هذه العبارة ، وأجيب بأن معناه أن حكمنا بإنزاله في ليلة القدر : وقضيناه وقدرناه في الأزل . وأنزل بمعنى ننزله في ليلة القدر كـ {أتى أمر الله} .
وسئل نفع الله به : هل ورد أن اللاحن في القرآن له ثواب ؟ .
فأجاب بقوله : أخرج البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ القرآن فأعربه كله فله بكل حرف أربعون حسنة ، فإن أعرب في بعضه ولحن في بعضه فله بكل حرف عشرون حسنة ، وإن لم يعرب شيئا له بكل حرف عشر حسنات " وإسناده ضعيف منقطع بل فيه كذاب وضاع . قال الحافظ السيوطي : والظاهر أن الحديث مما صنعت يداه وقد عده الذهبي من مناكيره ، ورواه الطبراني على كيفية أخرى ، وقال تفرد به فلان وهو متروك ، والبيهقي بلفظ " من قرأ القرآن فأعرب في قراءته كان له بكل حرف عشرون حسنة ، ومن قراءه بغير إعراب كان له بكل حرف عشر حسنات " وإسناده ال يصح أيضا فإن روايه بقية وقد عنعنه وهو مدلس ، وبفرض صحته فيحمل على لاحن لم يتعمد اللحن ولم يقصر في التعلم .
وسئل نفع الله به : من النازل فيه قوله تعالى {ومنهم من عاهد الله} الآية ؟ .
فأجاب بقوله : ذكر جمع أنه ثعلبة بن حاطب البدري : قال في الإصابة : ولا أظن الخبر يصح وإن صح ففي كونه هو البدري نظر ، وقد ذكر ابن الكلبي أن البدري قتل بأحد ، فبان أنه غير هذا لأن هذا عاش إلى خلافة عثمان رضي الله عنه ويؤيد ذلك تسميته في تفسير ابن مردويه ثعلبة بن حاطب ، والبدري اسمه ثعلبه بن حاطب(1/565)
<239>اتفاقا وكيف يتوهم أنه البدري مع ما صح " لا يدخل النار أحدا شهد بدرا " ونظير هذا الاشتباه ما وقع في نزول {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا} من أنه قول طلحة : يتزوج محمد بنات عمنا ويحجبهن عنا لئن مات لأتزوجن عائشة من بعده ، فقيل أنه طلحة أحد العشرة ، وليس كذلك بل هو طلحة آخر شاركه في اسمه واسم أبيه ونسبه .
وسئل نفع الله به : ما قدر الذرة ؟ .
فأجاب بقوله : قال النيسابوري : سبعون ذرة تزن جناح بعوضة ، وسبعون جناج عوضة تزن حبة .
وسئل نفع الله به : ما معنى الاشتراء في قوله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم} الآية ، ومع من كان الاشتراء ومتى وقع ؟ .
فأجاب بقوله : وقع ذلك في الأزل بالعلم وعند نزول الآية بالفعل ، وهذا شأن صفات الأفعال .
وسئل نفع الله به : ما المراد بالأرض التي باركنا فيها ؟ .
فأجاب بقوله : قال أبي ابن كعب وقتادة : هي الشام لأنها أرض المحشر وبها ينزل عيسى عليه الصلاة والسلام ويهلك الدجال . وأبو العالية : هي الأرض المقدسة لأن كل ما غذب في الأرض هو منها يحرج من أصل صخرة بيت المقدس ، يهبط من السماء إلى الصخرة ثم يتفرق في الأرض ، وابن عباس : هي مكة لأن بها البيت الذي هو مبارك وهدى للعالمين .
وسئل رضي الله عنه : عن قول البيضاوي في قوله تعالى {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} إن "أن" يجوز أن تكون مهملة والضمير للذكور والنون نون الرفع فهل هو صحيح ؟ .
فأجاب بقوله : هو صحيح من حيث الصناعة على قلة أو شذوذ فيه ، وأما كونه يصح أن يكون مرادا في الآية فهو متوقف على أنه هل قرئ "يعفوا" في "أو يعفو" وبغير فتح الواو ، فإن كان قرئ به صح ما قاله البيضاوي في الآية ؛ لأن رفع يعفو المعطفوف يدل على إهمال أن ، وإن لم يقرأ به لم يصح ما قاله بوجه لأن "أن" لا يمكن أن تكون مهملة بالنسبة "ليعفون" وغير مهملة بالنسبة "ليعفو" المعطوف ، وعلى تسليم ما ذكره في الآية ينتج من ذلك إشكال على مذهبنا لأن الواو حينئذ في "يعفون" إن عادت على الأزواج ، وإن كان السياق يرده ، لزم أن الذي بيده عقده النكاح هو الولي ، وإن عادت على الأولياء ، وأن الذي بيده عقدة النطاح هو الزوج ، لزم أن للأولياء العفو ، والشافعي رضي الله عنه لا يقول به مع أنه لا محيص عنه في الآية كما تقرر ، وأولى ما يجاب به منع أن ما ذكره البيضاوي مراد في الآية بدليل نصب " يعفو" المعطوف فإن رفع في قراءة ولو شاذة اتجه الإشكال كما قدمته لكن فحصت عن ذلك فلم أجد أحدا حكاه قراءة .
وسئل نفع الله به : عن قوله تعالى {ولا تسوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم} هل يدل على تحريم ذكر آلهة الكفار بسوء إذا علم أنه يترتب على ذلك ذكر الله بسوء أولا ، وهل في كلام الفقهاء ما يدل على ذلك ؟ .
فأجاب بقوله : قضية الآية التحريم إذ الأصل في النهي ذلك فيحتمل أن يقال به كذلك ، ويحتمل أن يقال بخلافه أخذا من قولهم : يسن لمن أحدث في صلاته أن يجعل يده على أنفه خشية من وقوع الناس فيه ، فجعلوا خشية الوقيعة المحرمة مقتضية لندب ما يكون سببا لتركها لا لوجوبه ، وقياس الآية الوجوب ولم يقولوا(1/566)
<240>به فيكون النهي فيه للتنزيه أخذا من كلامهم المذكور جامع أن عيب الآلهة فيما ذكر يترتب عليه أمر محرم من الغير ، وترك جعل اليد على الأنف يترتب عليه ذلك أيضا فكما لا يجب السعي في إزالة فعل الغير المحرم المترتب على فعله كذلك لا يجب عدم كر الآلهة بسوء ، وإن علم أنه يترتب عليه ما مر ويحتمل أن يقال بالفرق ، وهو أن ما يترتب هنا من سب الله سبحانه أفحش فاختص بتحريم ما هو سبب أو وسيلة إليه بخلاف غيره ، وعليه فلو ترتب على مدحه الإنسان وقيعة سامعه فيه لم يحرم عليه مدحه ، وإن علم ترتب ذلك . (1/567)
مطلب في أن قولهم للوسائل حكم المقاصد قاعدة أكثرية او محمول على ما إذا صدرا من واحد
فإت قلت : يشكل على ذلك القاعدة المشهورة : وهي أن للوسائل حكم المقاصد ؟ .
قلت : يجاب عن ذلك بأنت يقال : القاعدة أكثرية أو أن موحلها في وسيلة ومقصد كلاهما من فعل شخص واحد فحينئذ يكون للوسيلة حكم المقصد لاتحاد الفاعل على أنه قد يمنع هنا كون ذلك وسيلة لأن السب إنما ينشأ عن البغض الكامن عند السامع لا عن المدح فالمدح ليس وسيلة محققة للسب ، فلم يعط حكمه .
وسئل أيضا رضي الله عنه : عن قوله تعالى {والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا} هل التقييد بالقواعد شرط فيما بعده ، وكيف ذها مع قوله تعالى قبل ذلك {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} وهل الآية الأولى أو الثانية موافقة للمذهب أولا أوضحوا الجواب ؟ .
فأجاب بقوله : قضية الآية الأولى وجوب الضرب بالخمر على الجيوب بأن يسترن الرءوس والأعناق والصدور بالمقانع ونحوها وهو كذلك لأنه يجب عليهن ستر ما عدا الوجه والكفين ، لكن قضية الآية الثانية أن المرأة الكبيرة التي قعدت عن الحيض والنفاس والولد بكبرها مستثناة من الحكم السابق فلا يجب عليها ستر ما ذكر وكلام أصحابنا لا يوافق ذلك لشمول وجوب الستر المذكور في كلامهم للمراة مطلقا ، وإن كبرت ولم تشتهي ، وحينئذ فالآية الثانية يشكل ظاهرها على ذلك ، وقد يقال : لا استثناء أصلا لأن ما دلت عليه الآية الأولى غير ما دلت عليه الثانية إذ المأمور به في الأولى الضرب بالخمر فوق الجيوب وهذا يشمل المرأة بسائر أنواعها والذي جوز لهن في الآية الثانية هو طرح الثياب التي فوق الخمر ، أخذا من قول بعض المفسرين : المراد بالثياب الجلباب والرداء والقناع فوق الخمار ، وقضية الآية اختصاص جواز هذا بالمرأة الكبيرة التي لا تشتهي بخلاف غيرها ، إلا أن يقال : ألحق غيرها بها في ذلك لأن المدارعلى ستر ما عدا الوجه والكفين ، وهو حاصل سواء وضعنا الثياب المذكورة أو لا .
فإن قلت : ما الحكمة حينئذ بالتقييد بالكبر ؟ قلت : للإشعار بأن المرأة مأمورة بالمبالغة في الستر ما أمكنها ، فلا يحسن التصريح بالجواز إلا للكبيرة التي لا تشتهي ، وطوي ذكر غيرها قصدا لهذه النكتة .
(1/568)
<241>
(1/569)
مطلب في جواب ما تقتضيه آية السجن في قولهقال رب السجن أحب إلي
وسئل أيضا رضي الله عنه :عن قوله تعالى {قال رب السجن أحب الي مما يدعونني إليه} يقتضي ثبوت محبته الزنا وهو غير جائز على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فأجاب بقوله : أشار البيضاوي إلى أن جواب ذلك بأن الزنا مما تشتهيه النفس طبعا ولا مؤاخذة فيه ولاسجن مما تكره كذلك ، ومع ذلك فآثره عليه ، وقيل لما سبق منها الوعيد : إن لم يفعل كا إكراها ، وقد يكون في شرعهم يبيح الزنا ، فأصل الحب إنما ثبت لمباح ، أو أن ذلك قبل النبوة أخذا من رسالة الزركشي في قوله تعالى {ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما} وعندي في جميع ذلك وقفة . أما في الأول فلأن نفوس الأنبياء مطهرة عن جميع الخبائث الطبيعية والعارضة ولو قال البيضاوي : إن حب الوطء مع قطع النظر عن كونه زنى طبيعي لكان أولى وإلا فالإشكال باق ، وأما في الثاني فلأن التحقيق أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من جميع الكبائر والصغائر قبل النبوة وبعدها ، والذي يتجه لي أنه إنما أتى بصيغة أفعل على ما ذكر تواضعا وإظهارا في مقام الذلة والخضوع لعيوبه حظرا من تزكية نفسه في مقام الخطاب .
وسئل نفع الله به : هل على من فضل بين القراءات ملام ؟ .
فأجاب بقوله : إن كان من حيث أن إحدى القراءتين أو القراءات أبين أو أوضح أو أوفق لعلم النحو أو البيان أو نحو ذلك فلا ملام فيه وكتب التفسير مشحونة من ذلك وإن كان لا من تلك الحيثية بل بما ينجر ذلك من قائله إلى ما فيه ملام فملام وأي ملام . (1/570)
مطلب في حكم ما إذا أنكر تواتر القراءات السبع
وسئل نفع الله به : هل القراءة ذات السبع متواترة مطلقا أو عند القراء فقط وهل إنكار تواترها كفرا أم لا ؟ .
فأجاب بقوله : هي متواترة عند القراء وغيرهم ، واختار بعض أئمة المالكية أنها متواترة عند القراء لا عموما ، وإنكار تواترها صرح بعضهم بأنه كفر ، واعترضه بعض أئمتهم فقال : لا يخفى على من اتقى الله وفهم ما قلناه عن الأئمة الثقات من اختلافهم في تواترها ، وطالع كلام القاضي عياش من أئمة الدين أنه قول غير صحيح هذه مسألة البسملة اتفقوا على عدم التكفير بالخلاف في إثباتها ونفيها والخلاف في تواتر وجوب القراءة مثله أو أيسر منه ، وبتسليم تواترها عموما وخصوصا ليس لك معلوما من الدين بالضرورة ، والاستحلال والتكفير إنما يكون بإنكار المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة ، والاستدلال على الكفر بأن إنكار تواترها يؤدي إلى عدم تواتر القرآن جملة مردود من ثلاثة أوجه :
الأول : منع كونه يؤدي إلى ذلك والمنع كاف ؛ لأنه لم يأت على كونه يدل على ذلك بدليل وليس علم ذلك واضحا بحيث لا يفتقر على دليل .
الثاني : لو سلمنا عدم التمسك بمجرد المنع لنا الدليل قائم على عدم تأديته لذلك ، وهو أن يقال : كلما حكم بثبوت المنقول بنقل عدد مختلف لفظ ناقليه مع اتفاقه في المعنى لحكم ذلك العدد المتفق لفظ ناقليه لم يكن عدم تواتر وجوه القراءات السبعة مؤديا لعدم تواترها فالملزوم حق واللازم باطل ، بيان حقيقته : أن ثبوت شهادة(1/571)
<242>أربعة في الزنا أو اثنين في غيره مع اختلاف كلماتهم أو غيرها مع اتفاقهم في المعنى المشهور به كثبوتها متفا ألفاظها ولا أعلم في ذلك خلافا ، وبيان الملازمة أن المطلوب في القراءات السبع مصحف عثمان رضي الله عنه تواترا واختلافا ألفاظ السبعة في تعبيرهم عن تلك الكلمات بالروم والترقيق والتسهيل وأضداد ذلك ، والإعراب الموافق للمعنى كاختلاف ألفاظ الشهود في إثبات الزنى ، بل اختلاف ألفاظ القراء بذلك أخف ، لأن اختلافهم راجع للاختلاف في صفة الحروف أو في بعض حروف الكلمة الواحدة ، واختلاف الشهود راجع للاختلاف في الكلام على الكلمة بكمالها فكما أجمعنا على أن اختلاف تلك الألفاظ غير مانع من ثبوت الحكم اتفاقا وهو الظن بثبوت الأمر الموجب للحد ، فكذا اختلاف ألفاظ السبعة فيما ذكر غير مانع من ثبوت الحكم اتفاقا ، وهو ثبوت العلم بها كثبوت المحكوم له بالتواتر .
الوجه الثالث : أنا لو سلمنا عدم نهوض هذين الوجهين فيما ذكرناه كان أقل حالهما أنهما شبهتان يمنعان من العلم بأن عدم تواتر وجوه القراءات يوجب كون عدم تواتر القرآن جملة ضروريا من الدين وجهل ما ليس ضروريا من الدين ليس كفرا بحال .
وسئل نفع الله به : هل تفسير ابن عطية اعتزال ؟ .
فأجاب بقوله : نعم فيه شيء كثير حتى قال الإمام المحقق ابن عرفة المالكي : يخشى على المبتدئ منه أكثر مما يخاف عليه من كشاف الزمخشري ؛ لأن الزمخشري ، لما علمت الناس منه أنه مبتدع تخوفوا منه واشتهر أمره بين الناس مما فيه من الاعتزال ومخالفة الصواب وأكثروا من تبديعه وتضليله وتقبيحه وتجهيله ، وابن عطية سني لكن لا يزال يدخل من كلام بعض المعتزلة ما هو من اعتزاله في التفسير ثم يقره ولا ينبه عليه ، ويعتقد أنه من أهل السنة ، وأن ما ذكره من مذهبهم الجاري على أصولهم وليس الأمر كذلك ، فكان ضرر تفسير ابن عطية أشد وأعظم على الناس من ضرر الكشاف . (1/572)
مطلب ما معنى ما جاء من حفظ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة ؟
وسئل نفع الله به بما لفظه : ما معنى ما جاء " من جفظ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة ؟ " .
فأجاب رضي الله عنه بقوله : حمل على أن معناه : أعطي علم ثلث النبوة على حد {واسأل القرية} أي أهلها ، وقوله صلى الله عليه وسلم عن أحد : " هذا جبل يحبنا ونحبه " أي يحبنا أهله ونحن نحب أهله ، وقد أنزل القرآن تبيانا لكل شيء ، فمن حفظه وعلم احكامه من خاصه وعامه ومجمله وناسخه ومنسوخه ولحنه وفحواه ومعناه والاستنباط من هفقد أوتي علم النبوة وقليل ما هم ، وهذا هو المراد بخبر " من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه ، إلا إنه لا يوحى إليه ، ومن حفظ بعضه أوتي بقدره " حقق الله لنا حفظه كله بالمعنى المذكور بمنه وكرمه آمين . (1/573)
مطلب فيمن يجمع آيات من القرآن ثم يقرأها كما تقرأ السور هل يكره ؟
وسئل نغعنا الله به : عمن يجمع آيات من القرآن ثم يقرأها كما تقرأ السورة هل يكره ؟ .
فأجاب بقوله : أفتى العز بن عبد السلام في جمع آيات التهليل كذلك بأنه إن قصد بها القرآن ورتبها على السور لم يكره ، وإن نكسها كره ، بل كان التنكيس في آيات سورة واحدة حرم ، وإن وقع التنكيس في سورة في الصلاة أو غيرها كره ما يقصد الذكر المجرد عن القراءة لكنه من إحداث العوام ، وإنما حرم تنكيث(1/574)
<243>آيات السورة الواحدة ، وحكى عضهم الإجماع عليه لإجماعهم على أن ترتيب آيات كل سورة معجزة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الفاعل له بخلاف ترتيب السور ، فإنه مختلففيه أهو فعله صلى الله عليه وسلم أو فعل لاصحابه بعده باجتهادهم والأصح الأول لكن لشبهة الخلاف لم نقل بحرمته ، وحكي القاضي عياض : أنه ال خلاف في جوازه . قال بعضهم : وظاهر هذا أنه لو قرأ القرآن على ترتيبه الأول فالأول لم يكره وإن لم يوال بين السور كما في المصحف ، وقد ذكر ذلك أبو طالب المكي في (قوت القلوب) والغزالي في (الإحياء) وهو أن قرأ حزبا من القرآن في كل يوم عند السحر ثم يقرأ سورة يس ثم الدخان ثم الواقعة ثم الجشر ثم تبارك الملك ثم المسبعات ، وذكر فيها فضلا كثيرا ومنها الفاتحة والمعوذتان والإخلاص والكافرون سع مرات ، وكذلك أذكار وأدعية تطلب من الكاتبين اهـ .
وسئل رضي الله عنه : عن قوله تعالى حكاية عن موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم {وإن قلتم يا موسى لن نصثبر على طعام واحد فاعدوا لنا ربك} إاى قوله {أتستبدلون} قد يقال فإن الجواب غير مطابق للسؤال لأنهم طلبوا من موسى صلى الله عليه وسلم أن يس؟أل لهم الله أن يخرج لهم ما هو مذكور في الآية مع احتمال بقاء ما كانوا يتناولونه أولا من المن والسلوى ، والتعبير بالاستبدال نقتض لأنهم سألوا رفع ذلك بالكلية وذلك خلاف ما حكي عنهم من ذلك الاحتمال وعن قوله تعالى في سورة الجمعة {يا أيها الذين أمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} ما الحكمة في الإتيان بها بهذا البيان مع الإكتفاء عنه بّا نودي لصلاة الجمعة فالقصد بيان ذلك بيانا شاقيا ؟ .
فأجاب نفعنا الله بعلومه بقوله : أما الجواب عن الأول فهو أن الجواب مطابق للسؤال ولو مع ذلك الاحتمال كما هو ظاهر بأدنى دليل بيانه أنه لما كان ينزل عليهم المن والسلوى وحدهما لم يكونوا يتناولون شيئا غيرهما فملوا من ذلك بحسب الطبع البشري وتفننوا على اختلاف مراتبهم فسألوا أن يستبدلوا عنها البقل وما بعده ، وهذا السؤال صادق بأن يكونوا سألوا رفع ذينيك بالكلية وبأن يكونوا قد سألوا إبقاءهما وضم نحو البقل إليهما ، وفي كل من هذين الاحتمالين استبدال أما الأول فواضح أما الثاني فلأنهم قبل السؤال كانوا مضطرين إلى تناول المن والسلوى فلما سألوا وأجيبوا لم يضطروا إليهما وحينئذ فهما كانا ينزلان ولا يتناولونهما أو يتناولون معهما تلك الأمور الأخرى ، وعلى كل تقدير استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير لأنهم كانوا يتناولون الذي هو خير وحده وصاروا يتناولون غيره معه أو يعرذون عنه أو يشركون ، وبهذا الذي ذكرته اندفع قول السائل : والتعبير بالاستبدال مقتض الخ ، ووجه اندفاعه ظاهر لأنه لا يقتضي إلا الإعراض عن أكله مع نزوله أو إشراك غيره معه ، وأما زعم إقتضائه أنهم سألوا رفعه بالكلية المبني عيله توهم عدم المطابقة فلا وجه له على أن فيع سوء تعبير يجانب مثله في القرآن ما أمكن : وقد وقع نظيره للكشاف في مواضع وهو معدود من هفواته ، وكان الصواب للسائل أن يقول : لم تفهم المطابقة بين السؤال والجواب فما وجهها مع احتممال كذا ؟ .
ثم رأيت عن بعض المحققين التصريح بما ذكرته وعبارته :
فإن قلت : الاستبدال يقتضي ترك المبدل منه وهم لم يطلبوا ذلك وإنما طلبوا الزيادة عليه فكيف يناسب الجواب ؟ .
(1/575)
<244>
قلت : العادة تقتضي أن من بين يديه طعام واحد أكل منه حتى يشبع فإذا كان بين يديه طعامان ترك موضعا للطعام الثاني انتهى . فجعل المشاركة مقتضية للاستبدال وهو عين ما قدمته بزيادة وأما الجواب عن الثاني فهو أن لذلك البيان غير ما أفاده موقعه من نكتة الإجماع الذي في إذا ، والبيان الذي في يوم الجمعة ، فوائد أخر يترتب عليها أحكام شرعية جعلها أصحابنا مستنبطة من الآية ومدلولا عليها بها ، وذلك أن لفظ اليوم أضيف في ذلك اليان للجمعة فاقتضى أنها مضافة إليه فهي المقصودة منه وأنه من أوله منسوب إليها ولذلك حرموا السفر المفوت لها من الفجر وأوجبوا السعي إليها منه أيضا على بعيد الدار ، وحكموا بدخول الغسل لها والتبكير لها بالفجر فهه الأحكام الكثيرة التي هي محل خلاف منتشر بيننا وبينالأئمة استفادت من هذا البيان ، ولو حذف وقيل لصلاة الجمعة لم يستفد منها شيئ من ذلك فوقع البيان بذلك على أبلغ وجه وأجمله وأفوده كما هو شأن القرآن العظيم .
وسئل نفع الله به : عن قوله تعالى في قصة ذي القرنين {ووجد عندها قوما} الآية ، هل أسلم هؤلاء القوم أولا ، وماذا فعل بغير تخييره بين الأمرين ؟ .
فأجاب بقولهع : آمن بعضهم وكفر بعضهم فعذبه حتى يرجع إليه كما ذكر ذلك البغوي عن وهب ابن منبه حيث قال عنه : إن ذا القرنين كان رجلا من الروم ابن عجوز ، فلما بلغ كان عبدا صالحا فقال له الله : إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم منهم إثنتان بينها طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها ناسكة والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك ، فقال ذو القرنين : بأي قوم أكابرهم وبأي جمع أكاثرهم أو بأي لسان أناطقهم ؟ قال الله تعالى : إني سأطوقك وألبسك الهيبة فلا يردعك شيئ ، وأسخر لك النور والظلمة وأجعاهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحفظك الظلمة من ورائك ، فانطلق حتى أتى مغرب الشمس فوجد جمعا وعددا لا يحصيهم إلا اللع تعالى وكاثرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد فدعاهم إلى الله فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه ، فعمد إلى الذين تولوا عنه فأدخل عليهم الظلمة مدخلت في أجوافهم وبيونهم فدخلوا في دعوته ، فجند من أهل المغرب جندا عظيما فانطلق يقودهم والظلمة تسوقهم حتى أتى مطلع الشمس فعمل فيها مثل ما عمل في المغرب انتهى ملخصا . فقوله : فمنهم من آمن به الخ فيه جواب السؤال ، والله سبحانه يجزينا على ما عهدنا من غاية الإفضال ونهاية النوال إنه أكرم كريم وأرحم رحيم .
وسئل نفع الله بعلومه : عن معنى قول العلامة الحافظ عمدة المحدثين والقراء الشمس ابن الجزري رحمه الله في مقدمته وطيبته ونشر : يتحتم أن يراعى في القرآن العظيم قواعد لغة العرب من ترقيق المرقق وتفخيم المفخم وإدغام المدغم وإظهار المظهر وإخفاء المخفي وقلب المقلوب ومد الممدود وقصر المقصور ، حتى لا يكرر القارئ راء ولا يطنن نونا ولا يشدد ملينا ولا يلين مشدودا ولا يترك بيان غنة ولا يشوه الحروف فيفسدها بذهاب حسنها ورونقها وطلاوتها من حيث أنه يجري مجرى الأرت والألثغ ، بل يأتي بمخارج الحروف بصفاتها وكيفيتها فإن حسن الأداء وجب على الصحيح ، بل الصواب وإن كان ما في حيز 7 حتى يسمى لحنا خفيا لأنه لا يدركه إلا مشايخ الأداء فهو لازم فتاركه مضل عما فبله فضلا عن تحريف الإعراب والبناء المفضي إلى تغيير المعنى فإنهما من اللحن الجلي آثم فاسق مرتكب لحرام معاقب على فعله عادل بالقرآن عن نهجه القوبم ، وقد قال تعالى {قرآنا عربيا غير ذي عوج} فلا يعذر إلا لتعذر الإتيان به على الوجه المذكور منه فحينئذ لابد من التجويد المشار إليه بقوله تعالى {وريل القرآن ترتيلا} وهو يعم التحقيق(1/576)
<245>والتدوير والحدر ، ولا يختص بالأول الأفضل كما يتوهمه من لا طبع له سليم ولا ذوق عنده مستقيم ، هذا وينبغي تحسين الصوت بالقرلآن كما قال :
ويقرأ القرآن بالتحقيق مع حدر وتدوير وكل متبع
مع حسن صوت بلحون العرب مرتلا مجودا بالعرب
والأخذ بالتجويد ختما لازم من لم يجود القرآن آثم
لأنه به الإله أنزلا وهكذا منه إلينا وصلا
قال : فمن يلزم ذلك الذي هو سليقة العرب لا يحسنون غيره بغير لغته فلا يكون قارئا بل هازئا ، وهو غاش لكتابه تعالى من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا داخل في خبر " رب قارئ والقرآن يلعنه " فهل الحكم كما ذكر أو هنا تفضيل بين الجلي والخفي إذ الخفي الذي لا يغير المعنى والجلي المغير للمعنى ، والجلي والخفي ضدان كما سبق إلى بعض الأذهان أخذا من كلام بعضهم على المقدمة بينوا لنا ذلك فالبلوى قد عمت بالتسامح في ذلك ؟ .
فأجاب رضي الله عنه بقوله : قد اختلف المتكلمون على كلام هذا الخبر فقال بعضهم : حمل الوجوب ونحوه من الألفاظ الواقعة في كلامه المذكور عنه في السؤال على الوجوب الصناعي لا الشرعي ، وبعضهم أجرى كلامه على ظاهره ولم يؤوله بما ذكر ، والحق في ذلك تفصيل وإن كان ممن جرى على الإطلاق الأول شيخنا خاتمة المتآخرين أبو يحيى زكريا الأنصاري سقى الله ثراه صيب الرحمة والرضوان وأعلى درجته في الجنان آمين فقد دل كلام الأصحاب رضي الله عنهم وشكر سعيهم على ذلك التفصيل فلم يسع العدول عنه . (1/577)
مطلب قيل لو جاز أن يبعث الله في هذه الأمة نبيا لكان أبا محمد الجويني قدس ثراه
وبيان ذلك أن النوي رحمه الله قال في شرح المهذب نقلا عن الشيخ الإمام المجمع على جلالته وصلاحه وإمامته أبي محمد الجويني الذي قيل في ترجمته لو جاز أن يبعث الله في هذه الأمة نبيا لكان أبا محمد الجوينياعلم أن من الناس من بالغ في الترتيل فجعل الكلمة كلمتين قاصدا بذلك إظهار الحروف كقوله {نستعين} ويقفون بين السين والتاء وقفة لطيفة فيقطع الحرف عن الحرف والكلمة عن الكلمة ، وهذا يجو لأن الكلمة الواحدة لا تحتمل القطع والفصل والوقف على أثنائها ، وإنما القدر الجائز من التنزيل أن يخرج الحرف من مخرجه ثم ينقل إلى الذي بعده متصلا بلا وقفة من الترتيل وصل الحروف والكلنمات على ضرب من التأني وليس منها فصلها ولا الوقوف في غير محله ، ومن تمام التلاوة إشمال الحركة الواقعة على الموقوف عليخ اختلاسا لا إشباعا انتهى ، وأقره النووي رحمه الله على ذلك ، وبه إن تأملته تعلم أنه لابد من ذلك التفصيل ، وهو أنه يجب وجوبا شرعيا على القارئ أن يراعي في قراءته الفاتحة وغيرها ما أجمع القراء على وحوبه دون ما اختلفوا فيه ، وذلك أن ما وقع الإتفاق عليه يعلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يقأ بغيره ومدار القراءة إنما هو على الاتباع إذ لا مجال للرأي فيها بوجه فمن قرأ بخلاف ما وقع الإجماع عليه يكون مبتدعا شيئا في كلام الله تعالى ، وابتدع ما لم يرد في القرآن لا يشك من له أدنى مسكة أنه محرم شديد التحريم بخلاف ما وقع الاختلاف فيه فإنه ليس كذلك ، فمن ثم لم يكن على القارئ به حرج ألا ترى أن البسملة لما وقع الاختلاف في إثباتها ولفظه من في {تجري من تحتها الأنهار} في سورة براءة ونظائر ذلك لم يكن على مثبتها وعلى مسقطها حرج ، لأن كل من الإثبات والنفي وارد(1/578)
<246>ليس بممتنع فكذا ما وقع الاختلاف فيه من وجوه الأداء ، إذ نافيه يقول إنه أمر لغوي لم يرد عنه اتباع حتم يخالفه فلذا لم يثبته ، وحينئذ فلا مقتضي لا يجاب مراعاته شرعا فبان واتضح ما ذكرته من التفصيل وظهر ما لكل من شقيه من التعليل فاشدد باعتماده يديك لتعود فائدة ذلك عليك .
ومما يؤيد ذلك قول شارح المهذب : من أخرج بعض الحروف من غير مخره إذا أمكنه التعلم بطلت صلاته وإلا فلا انتهى . ومن لازم بطلان الصلاة حرمة القراءة فكما حرمت مع تبديل المخرج تحرم كذلك مع تبديل وجوه الأداء المجمع عليه ىيؤيد ذلك أيضا إجماعهم كما قاله النووي رحمه الله خلافا لمن وهم فيه على حرمة القراءة بالقراءة الشاذة وإن لم يكن فيها تغيير معنى ولا زيادة ولا نقص في الصلاة وخارجها ، وليس ملحظ ذلك إلا أنه لم يتواترقراءة مثبتها لأن القراءة سنة متبعة لا يجوز مخالفتها ، وهذا كله موجود بتمامه في ترك ما أجمع عليه من وجوه الأداء كما لا يخفى ، ويؤيده أيضا قول شرح المهذب من التبصرة في تكبير التحريم لا يجوز المد إلا على التي بين اللاه والهاء ولا يخرجها به عن حد الارقتصار إلى الإفراط انتهى . إذ ظاهره أن إفراط المد هنا حرام فإذا حرم هنا ففي القرآن أولى فإنه لا يقول به أحد من القراء ، ومن ثم ضبطت في شرح العباب وغيره الإفراط هنا بأن يطيله إلى حد لا يراه أحد من القراء ، وبهذا الذي قررته وأوضحته وحررته تعلم ضعف ما في الخادم كالتوسط عن بعض المتأخربن مما يقتضي أن الواجب ما تعلق بالمخارج الظاهرة دون نحو الإخفاء والإقلاب والهمس والاسترخاء والاستعلاء انتهى . ووجه ضعفه ما قدمته من أن المدار في القرآن ووجوه أدائه أنما هو الاتباع فهو سنة متبعة ، وحيث لم يرد في السنة في نحو الإخفاء مما ذكر إهماله تعين الإتيان به ولم يجز تركه سواء كان من الأمور الظاهرة أم من الخفية ، وبهذا يتعين أيضا اعتماد ما ذكراه أعني الزركشي والأذرعي فعبر عن ذلك الإمام بأنه لو قيل أن القراءة من غير تصحيح الأداء والمخارج لا تجوز لم يكن بعيدا انتهى . وأما زعمه أن في ذلك حرجا على الناس فممنوع ، وأي حرج في تعلم المجمع عليه إذ هو الذي يجب تعلمه كما مر ، وبفرض أنه فيه حرج لا ينظر إليه لأن الأمور المجمع عليها لا يراعى فيها حرج ولا غيره .
فإن قلت : ينافي ما تقدم عن المجموع عن الجويني ما فيه عنه أيضا أن المبالغة في التشديد لا تضر .
قلت : لا منافاة إذا أراد بلا تضر لا تبطا الصلاة لأنه قد يسئ في الأداء وتصح صلاته وكذا إن أراد لا تحرم لأن القصد به المحافظة على الإتيان بالمتفق عليه لا الزيادة على الوارد فهو كتكرير الراء الآتي .
فإن قات : ينافيه قول الماوردي وغيره لو شدد مخففا جاز وإن أساء ولا شك أن تشديد المخفف مخالف لما أجمعوا عليه ود صرح هؤلاء بالجواز .
قلت : أجبت عن ذلك في شرح العبا بقولي : واضح مما يأتي في اللحن الذي لا يغير المعنى أنه مع التعمد حرام فليحمل الجواز على الصحة لاالحل ، ولا ينافيه ما مر في المبالغة أي في التشديد لأتها زيادة وصف وما هنا زيادة حرف وبه يندفع تنظير القمولي انتهى .
فإن قلت : قد صرح جمع من الأصحاب وتبعهم ابن الرفعة بأنه لو نطق بحرف بين حرفين كقاب العرب أجزأه وكره ، وهذا مناف لما قدمته لأن هذا النطق بخلاف المجمع عليه ، وقد صرحوا فيه بالكراهة المتبادر إطلاقها على الجواز .
قلت : أجبت عنه أيضا بقولي بعد نقل ما ذكر من الإجزاء والكراهة لكن نظر فيه المجموع(1/579)
<247>وجرى على مقتضاه المحب الطبري فمال إلى البطلان . قال الأذرعي وهو الظاهر المنقول ، وقال ابن العماد : لا يتجه غيره لأن في الإتيان بها كذلم إسقاط حرف من لغة العرب إذ هي ليست من الثمانية والعشرين حرفا التي تركب منها كلام العرب ، ومن لازم إسقاط حرف من الفاتحة بطلان الصلاة انتهى ، فعلم أن القول بالكراهة ضعيف إن أراد قائله القول بها ولو مع قدرته على إخراجها من مخرجها الحقيقي ، وقد مر عن شرح المهذب أن إخراج الحرف من غير مخرجه حرام .
فإن قلت : ينافي ذلك أيضا إطلاق بعض أصحابنا أن تعمد اللحن الغير المغير للمعنى مكروه .
قلت : هذا إطلاق ضعيف أيضا ، والصواب ما في شرح المهذب والتحقيق من حرمة تعمد ذلك حينئذ ففيه تأييد لما قدمته من التفصيل إذ الجامع أنه في كل من المسألتين نطق بما ليس بالقرآن فكما حرم تعمد هذا يحرم تعمد ذاك ، ولا يقال أن هذا أقبح لأنه بفرض تسليمه لا ينافي القياس الدون الذي هو حجة يكتفى فيه بوجود أصل العلة .
فإن قلت : ينافي ذلك أيضا قولك في شرح العباب ما حاصله جزم في الجواهر كابن رزين بأن تشديد الراء من أكبر في تحريم الصلاة مبطل لها ، ورده ابن العماد وغيره أن الذي تقتضيه اللغة خلافه لأن الراء حرف تكرير فزيادته لا تغير المعنى وهو متجه انتهى . فقولك هو متجه مناف لما في السؤال عن ابن الجزري في تكرير الراء من أنه حرام .
قلت : هذا لا ينافي ما قدمته لأن الكلام هنا بين الأئمة ليس في الحرمة وعدمها إذ لا قرآن بالحرمة ولا تنظر في حرمة مخالفة ما أجمعوا عليه من وجوه الأداء إلى تغيير معنى ولا إلى عدمه إلا إلى كونه مخالفا للقراءة الواردة عنه صلى الله عليه وسلم يقينا والقراءة سنة متبعة .
فإن قلت ما مرادك بالإجماع الذي ذكرته هل هو إحماع القراء السبعة فقط أو مع بقية العشرة أو مع بقية الأربعة عشرة .
قلت : هذا ينبني على المراد بالشاذ الذي يحرم قراءته فعند الشيخين أنه ما وراء السبعة فعليه المراد إجماع السبعة فمن قرأ بوجه مخالف لإجماعهم حرم وإلا فلا . (1/580)
مطلب في أن من غلب عليه فن يرحع إليه فيه دون غيره
فإن قلت : كيف ساغ لمثل شيخ الإسلام والقراء الزين الأنصاريحمل الوجوب في كلانم ابن الجزري في المقدمة على الصناعي كما مر مع تصريحه في غيرها بالشرعي كما في السؤال بل ورد أن تركه مفسق ، وأيضا كيف ساغ التفصيل الذي قدمته مع أن ظاه عبارته المنقولة في السؤال أنه لا فرق في وجوب ذلك شرعا بين الخفي والظاهر المجمع عليه والمختلف فيه .
قلت : ابن الجزري وإن كان إماما ذا فنون عديدة إلا أنم الذي غلب عليه فن القرآات ومن غلب عليه فن يرحع إليه فيه دون غيره ، فهو رحمه الله وإن صرح بأن الوجوب شرعي وأن تركه مفسق لا يرجع إليه في ذلك لأن هذا من مبحث الفقهاء وهو لم يشتهر بالفسق اشتهاره بذلك ، فذلك منه إنما هو بحسب ما ظهر له ووقر عنده من رعاية تلك الرسوم لعلمه الذي غلب عليه ، وكان ذلك منه بمنزلة الإختيارات التي لا يعمل بها في المذهب ، فوجب الرجوع لما دل عليه أهل المذهب وهو إطلاق عدم الوجوب الشرعي كما دل عليه(1/581)
<248>كلامهم في مواضع قدمته وإن قدمت الجواب عنها أيضا ، وتلك لعلها مستند إطلاق شيخنا وغيره أن الوجوب صناعي . وأما التفصيل الذي قدمته فاستنبطه من كلامهم الظاهر أو الصريح فيه كما مر واضحا ومبسوطا . وأما إطلاق ابن الجزري السابق فلم نر في كلامهم ما يدل له ، فمن ثم ساغ لشيخنا مخالفته مطلقا كما يعرف بتأمله .
فإن قلت : كيف ساغ له أن يجعل مخالفة الواجب فسقا وهذا ليس إطلاقه من اصطلاح الفقهاء ولا الأصوليين إذ الفسق إنما يتحق بإرتكاب الكبيرة لا بمطلق مخالفة الواجب لأن مخالفته تنقسم إلى صغيرة وكبيرة .
قلت : أما قصد بذلك التغليط فحسب تحريض الناس على التجويد والإعتناء به لفرط تساهلهم فيه ويكون أخذ كون ذلك كبيرة له فيه ملحظ ما وإن كان بصدد المنع ، وقد أشار ابن الجزري إلى نحو ما ذكرته آخر كلامه الذي في السؤال ، ثم رأيت الحافظ الجلال السيوطي نقل عن ابن الجزري نفسه ما يؤيد ذلك أي ما قاله شيخنا حيث قال في إتقاته : قولهم لا يجوز الوقف على المضاف دون المضاف إليه ولا كذلك . قال ابن الجزري : إنما يريدون به الجواز الأدائي وهو الذي يحسن في لبقراءة ويرق في التلاوة ، ولا يريدون بذلك أنه حرام ولا مكروه إلا أن يريد بذلك تحريف القرآن وخلاف الذي أراد الله فإنه يكفر فضلا عن أن يآثم .
فإن قلت : كيف ساغ لابن الجزري حمل الجوا وقصره على الصناعي مع ما ذكر عنه في السؤال ؟ .
قلت : له أن يفرق بأن الوقف لم يرد له ضابط عنه صلى الله عليه وسلم ولا نقل فيه شيئ توفيقي فأدير الأمر فيه على ما لا يخل بالمعنى ، أما وجوه الأداء فوردت بل تواترت على ما فيها من كلام الأصوليين عنه صلى الله عليه وسلم فساغ له أن يجعل الوجوب فيه شرعيا ولم يكن بين كلاميه تناقض .
فإن قلت : قد مر عن شرح المهذب الحرمة في الوقف في نستعين وليس المراد بها إلا الحرمة الشرعية فكيف ساغ لابن الجزري حمل كلامهم في الوقف على الأمر الصناعي دون الشرعي ؟ .
قلت : كلامه في غير ما فيه شرح المهذب لأنه في الوقت على إحدى جزئي كلمة وكلام ابن الجزري في الوقف على كلمة لكن لا يتم معناها إلا بما بعدها ، ويفرق بينها بأن الأول فيه تغيير للمعنى أو النظم المعروف بخلاف الثاني فتأمله ، واله سبحانه الموفق للصواب . (1/582)
مطلب في نكتة قوله تعالىوإذا فيل لهم لا فسدوا في الأرضالخ
وسئل نفع الله بعلومه عما صورته : سأل العز ابن عبد السلام عن نكتة قوله تعالى {وإذا فيل لهم لا فسدوا في الأرض} قال وليس هذا مثال قوله تعالى {وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير} لأن معناه في الأرض كلها فلو لم يأت به لاحتمل أن يكون خاصا ببعض الأرض انتهى فما الجواب ؟ .
فأجاب رضي الله عنه بقوله : إنما يتوجه سؤاله لو صح ما الفرق بين الآيتين ، والظاهر أنه غير صحيح وبيانه أن في الأرض في كل منهما وقعت في حيز ما يفيد العموم وهو النهي في الأول والنفي في الثاني ، وحينئذ فمفاد الأولى النهي عن جميع أنواع الفساد ، ومفدا الثانية انتفاء وجود ولي ونصير لهم بسائر أنواعهما فاستويا(1/583)
<249>في أن ذكر في الأرض في كل منهما يسأل عن حكمته لأنه لو حذف لصح الكلام بدونه ، وقوله لم يأت به لاختمل الخ قد علمت أنه غير متوجه لما تقر أن النفي أفاد أنه لا يوجد لهم ولي ولا نصير أصلا ولاسيما إن قلنا إن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة . فإن قال : إن العموم عندنا بسائر أقسامه ظني لا قطعي فلا ينافي الاحتمال المذكور . قلنا . وكذا هو في : {لا تفسدوا} ، فكما أحتيج لذكر في الأرض في الآية الثانية لمنع ذلك الاحتمال كذلك يحتاج إليه في الأولى لمنع نظيره ،إذ لو حذف لاحتمل أن النهي عن الفساد خاص ببعض الأرض وهو المدينة التي هي محل المخاطبين وهم المنافقون ، فاحتيج لذكر في الأرض حتى يكون فيه التنصيص على النهى عن وقوع نوع من أنواع الفساد في نوع من أنواع الأرض .
والحاصل أن الحق في الآيتين أن ذكر الأرض له فائدة أي فائدة ، فأما في الثانية فواضح مما قرره ، وأما في الأولى فهو ما تقر أنه لو حذف ذلك أوهم أن النهي عن الفساد خاص بمحلهم وهو أرض المدينة فذكر ليفيد أنه عام في جزء من جزئيات الأرض ، لأن الأرض مفرد محلى بأل وهو للعموم عند الأصولين ولأن جمهور المعنين أن الأصل في أل الجنس والاستغراق لا العهد ، وما نقل عن المحققين من أن الأصل فيها العهد ففيه نظر على أنه يؤيد ما قيل المراد بالأرض في الآية المدينة ، وعليه فذكر الأرض له فائدة ظاهرة وهي التنصيص على ما وقع منهمالإفسلد فيه بالفعل ليكون أدعى إلى امتثالهم ، لأن إفساد الإنسان في بلده ومحل إقامته أقبح منها في غير ذلك ، والتقدير لو فرض إفسادكم فلا تجعلوه في أرضكم ومحل إقامتكم كما يقال لنحوقاطع الطريق إن كان لابد فلا تجعل ذلك في بلدك ومع من يعرفك ، وبما قررته ظهرت نكتة ذكر الأرض سواء كلانت أل فيها للعموم أو للعهد . ويمكن إستخراج نكتة أخرى له وهي التذكير بالمبدأ والميعاد ، وذلك أردع عن الفساد والتقدير لا تفسدوا في عنصركم الغالب عليكم الذي خلقتم منه ومرجعكم إليه وهو الطين ، والأرض أصلكم منها خلقتم وإليها تعودون فكيف تفسدون فيها ، وكلما ذكر الإنسان بحقارة أصله ومبدئه وبهلاكه واضمحلاله وعوده إلى ذلك المبدأ ومصيره ترابا ثم بعثه وحسابه كان ذلك أدعى لقبوله الموعظة وانفكاكه عما نهى عنه وامتثاله لما أمر به ، وكأن هذا واله أعلم هو السر لقوله تعالى {ولا تمش في الأرض ملاحا إنك لن تخرق الأرض} ولو سأل العز عن نكتة هذ1ه لكان أولى لأن حكمته في ذكر الأرض هنا أدق منها في تلك بكثير كما لا يخفى ، ولا يصح أن يقال احترز به عم المسي في الهواء أو على الماء لأن هذ1ا خارق وهو لا يحترز عنه ، وكأن ما ذكرته أيضا هو حكمة تكريرها والعدول عن الأصل لن تخرقها ، لكن لما كانت الإعادة بالظاهر تقتضي مزيد التيقظ والتقريع أوثرت على الضمير ، ونكتة أخرى هي الإشلارة إلى عجزهم وأن آثار فسلدهم قاصرة عليهم لا تتعداهم إلى الملائكة الذين يكون هلاكهم وعذابهم على أيديهم ، ونكتة أخرى هي غاية التقريع والتخويف لهم وهي أن إفسادهم يؤدي إلى استئصالهم لأن الفساد في الأرض يؤدي إلى خرابها واستئصال أهلها ، فكأنه قيل لهم لا تكونوا سببا في هلاك أنفسكم بواسطة وقوع الفساد منكم ، ومما يوضح ذلك قوله تعالى {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} وقد سئل مجاهد رضي الله عنه عن قوله تعالى {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل} ؟ قال : بلى في الأرض فيعمل فيها بالعدنوان والظلم فيحبس الله بذلك القطر من السماء فيهلك بحبس القطر الحرث أي الزرع ،و النسل أي سائر الحيوانات ثم قرأ مجاهد {ظهر الفساد في البر والبحر} الآية ، وتخصيص العز في هذه الآية بالسؤال مع أن لها نظائر كثيرة في القرآن نحو {ولا تعثوا في الأرض مفسدين(1/584)
<}250>{ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} كأنه للاستغناء بها عن نظائوها ، وما ذكرته من التكت في تلك الآية يأتي في نظائرها التي أشرت إليها فتنفطن لذلك فإنه أهم ، وهذا كله لم أر من نبه على شيئ منه ، ثم رأيت اليضاوي أشار إلى بعض هذه النكتة الآخيرة بقوله : وكان من فسادهم في الأرض نهييج الحروب والفتن بمخادعة المسلمين وممالأة الكفار عليهم وإفشاء الأسرار إليهم فإن ذلك يؤدي إلى فساد من في الأرض من الناس والدواب والحرث ، ومنه إظهار المعاصي والإهانة بالدين ، فإن الإخلال بالشرائع والإعراض عنها مما يوجب الهرج والمرج ويخل انتظام العالم انتهى . ورأيت أبا حيان أشار إلى ذلك وإلى ما ذكرته أولا من أنه ذكر فيها أيضا لإفادة العموم أي التنصيصعليه لما قدمته ، وذلك لما قاله في قوله تعالى {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها} معلوم أن السعي لا يكون إلا في الأرض لكن أفاد به العموم بمعنى في أي مكان حل منها مع الفساد ، ويدل لفظ في الأرض على كثرة سعيه وتقلبه في نواحي الأرض لأنه يلزم من عموم الأرضلا تكرار السعي وتقدم ما يشبهه في قوله تعالى {ولا تفسدوا في الأرض} ويمكن استخراج نكتة أخرى وهي التعريض بصلاح الأرض ، وأنهم يريدون بإفسادهم رفع ذلك الصلاح الذي امتن الله به على أهلها إما بكونه تعالى أصلح خلقها على الوجه المطابق لمنافع الخلق وإما بكونه بعث فيها الرسل وأنزل الكتب وفصل الشرائع ؛ وفسادها حينئذ إما بإفساد النفوس بالقتل وقطع الأعصاب ، وإما بإفساد الأموال بنحو النهب ووجه الحيل ، وإما بإفساد الأديان بالكفر والبدع ، وإما بإفساد الأنساب بالزنا واللواط والقذف ، وإما بإفساد العقول بشرب المسكرات فاقتضى النهي عن الفساد في الأرض منع إدخال ماهية الفساد في الوجود بجميع أنواعه وأصنافه ، ونكتة أخرى وهي تذكيرهم بنعمة الله العظمى عليهم المشار إليها بقوله {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} أي جعلكم عمارها وسكانها أو أطال أعماركم فيها أو جعلها لكم ما عشتم أو أسكنكم فيها وخلقكم لعمارتها أو استدعى منكم عمارتها ، وكان التقدير : لا تفسدوا فيما جعلتكم عماره وخلقتم لعمارته وسكناه مع جعله لكم فيها ما عشتم ، وطلبه منكم أن تعمروه بصلاح الأعمال والأحوال ، وفي هذا من حملهم على الصلاح وإرشادهم إلى النجاح ما ليس فيه مما لم يذكر في الأرض فكان في ذكره المفيد لذلك فائدة أي فائدة .
وسئل نفع الله به أيضا عما سأله العز ابن عبد السلام في أماليه بقوله : ذكر الأزمنة في مثل قوله تعالى {وإذ نجيناكم} {وإذا وعدنا موسى} وغير ذلك من المواضع التي حصل فيها للإمتنان بالنعم بجعل الممتن به نفس الزمان ومثله قول من قال من العرب
أنسيت يوم عكاظ إذ لاقيتني تحت العجاج ولم يشق غباري
والمراد ما وقع في اليوم لا نفس اليوم ما فائدة ذلك ، واو ذكر النعم فقط استقل المعنى ا هـ فما جواب ذلك ؟ .
فأجاب نفع الله به بقوله : لذلك حكمة ظاهرة جلية ، وبيانها إجمالا أن إذ في نحو ذلك معمولة المحذوف تقريره واذكروا وقت كذا هذا هو الأصح ، وأن التذكير بمجرد النعم ليس فيه تنبيه على أضدادها بوجه أظهر بخلاف التذكير بها بالتي وقعت فيه ، وتفصيلا أن الشيئ كلما لوحظ خطره ثم النجاة منه ثم تبديله بالنعم المحضة يكون ذلك أدعى إلى مزيد الشكر عليه والخضوع لموليه ومسديه وإلى الاعتراف به وإلى عدم مخالفة المنعم في شيئ من أموامره أو نواهيه ، فلهذا ذكر تعالى زمن النعم التي امتن بها على عباده وذكرهم بذلك الزمن ليذكرهم ملا كانوا فيه من المحن في ذلك الزمن قبل وصول تلك النعم إليهم فإذا ذكروا ذلك عظمت النعم عندهم عظمة لا نهاية لها ، ووقعت تلك المنة منهم الموقع العظيم الأعظم ، ولأجل هذا ذكرنا في آيات كثيرة(1/585)
<251>أحوالنا السابقة لنشكره عليها ، وعلى أحوالنا اللاحقة بكونه خلقنا من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا ولا نقدر على شيئ ، فيسر لنا ما قام بمصالحنا إلى أن من علينا بنعمة الهداية والوقاية ، وبكونه جعل لنا عينين ولسانا وشفتين وهدانا النجدين ونحو ذلك من النعم التي لا تحصى والمنن التي لا تستقصى ، كما ظهر لكم بتدبير الآي القرآنية . وبما تقرر علم أم قول العز لو ذكرت النعم فقط استقل المعنى فيه نظر ، لأن المعنى المقصود الذي قررناه لا يحصل كماله بمجرد ذكر النعم بل بذكر زمنها ، ولعله أراد بالمعنى أصله لكنه غير مجد لأن جزالة معانى القرآن وبداعة أساليبه تقتضي رعاية أبلغ المراتب وأسنى المطالب وهذا من أسباب إعجازه التي لم يصل إلى أدنى مراتبها غيره . وقد لحظ الشاعر في البيت الذي ذكره العز نحو ما قررته لأنه لو ذكره بمجرد التلاقي لم ينتبه لهول ذلك اليوم ولا استحضر جميع ما فيه فلم يحصل المقصود من تخويفه وتقريعه ، وأما إذا كره بذلك اليوم المشهور الذي صار يضرب به المثل في هزيمته وجبنه وعجزه عن شق غباره وبنحو ذلك مما وقع فيه ، فقد حصل المقصود من تخويفه وتقريعه وزجره وترويعه والتسجيل عليه بأن من وقع له مثل ذلك اليوم لا ينبغي أن يعود إلى طعان بل إلى حمل سنان ، فاتضح أن ما في البيت من منوال ما في الآية وأن النكتة في ذلك أشهر من نار على علم ، وهذا الجواب لم أرى من نبه على شيئ منه : رحمه الله تعالى ا هـ . (1/586)
مطلب في قوله تعالىأولو تؤمنالخ
وسئل رضي الله عنه : عما سأل العز في أماليه أيضابقوله تعالى {أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} واللله تعالى عالم بإيمانه فما الحكمة في ذلك ، وما فائدة الإستفهام والجواب عنه ؟ .
فأجاب طمئن الله قلبه بلإيمان ووالى عليه مزيد العفو والغفران وأسكنه أعلى فراديس الجنان آمين بقوله : الجواب عن ذلك مذكور في كتب التفسير ، وحاصله مع الزيادة عليه : أن الله تفضل على أنبيائه ورسله بما لم يتفضل به على غيرهم ، ومنه حماية ساحتهم المطهرة أن تدنس بريبة أو ترمى برذيلة حاشاهم الله من ذلك ، وإذا كانت هذه عادة الله معهم فإبراهيم أكملهم بعد نبينا صلى الله عليه وسلم فله من تلك الحماية الحظ الأوفى ، وحينئذ فإبراهيم سأل ربه بغاية من الأدب ونهاية من الخضوع أن يريه كيفية إحيائه الموتى ، فإذا سمع هذا من لم يبلغ حقيقة العلم بأحوال الأنبياء داخله شك في هذا السؤال ونوهم منه غير المرادج مما لا يليق بمقام الخليل ، بل ربما أداه إلى الكفر ، فأراد الله تعالى أن ينزه مرتبة خيله وأن يحفظ غيره من الهلاك بسببه فسأله وهو أعلم بما إنطوى عليه ضميرع من البلوغ إلى غايات الإيمان والوصول إلى نهايات الإيقان ، فقال له بأداة التقرير الدال على كمال نزاهته {أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} بانضمام عين اليقين إلى علم اليقين ، فإنه بان أن إيمان إبراهيم على أكمل وجوه الإيمان ، وأنه لم يخالطه أدنى وهم ، وأنه ليس غرضه من سؤاله عن ذلك إلا ذلك العيان الذي هو أعلى مقامات العرفان . ولأجل ذلك جاء عن جماعة أنه قال : بلى يا رب ولكن ليس الخبر كالعيان ، على أنه من تأمل سؤال إبراهيم فهم منه مراده وهو صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن أصل الإحياء وإنما سأل عن كيفيته ، وهذا صريح في أنه مؤمن بأصل الإحياء ومتيقن له وأنه ممن إنطوى ضميره على اعتقاده .
فإن قلت : إذا دل سؤاله على ذلك فلم قيل {أولم تؤمن} .
(1/587)
<252>
قلت : هذه الدلالة لا يفهمها أكثر الناس ، فلو وكل الأمر إليها لوقع أكثرهم في المحذور على أن بعض المفسرين ممن لا يعول عليه مع ذلك كله تكلم هنا بكلمات لا تستحق أن تذكر كيف وألفاظ الآية كما تقرر لا تدل على شيئ ينافي كمال الإيمان فضلا عن أصله . وإيضاحه أنه إنما سأله أن يريه عيانا كيفية إحياء الموتى لأنه لما علم ذلك بقلبه وتيقنه واستدل به على نمرود في قوله {ربي الذي يحيي ويميت} طلب ممن رباء في الكمالات العلمية والمواهب الأحدية أن يريه كيفية ذلك لما في معاينته من رؤية اجتماع الأجزاء المتلاشية والأعضاء المتبددة والصور المضمحلة واستعظام باهر قدرته تعالى .
فإن قلت : كيف هذا مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " نحن أحق بالشك من إبراهيم " .
قلت : هذل فيه أيضا غاية النزاهة لإبراهيو صلى الله على نبينا وعليه وسلم بنفي وقوع شك منه على أبلغ وجه وأوضحه أي لو شك إبراهيم كما يتوهمه من سؤاله هذا من لا علم له لكتا أحق بالشك منه لأنه الخليل والإمام الجليل ، ولم لا وقد أمر صلى الله عليه وسلم بإتباع سنته وتعظيم مرتبته ، وقد علم صلى الله عليه وسلم أنه أفضل من إبراهيم بنص قوله " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " ومع ذلك تواضع ونفى الشك عن إبراهيم بأنه لو ثبت له لثبت له ، وهذا غاية في الشهادة ببراءة إبراهيم ونزاهته .
فإن قلت : سؤال إبراهيم وجوابه قبل نزول القرآن فلا توهم في ذلك الزمن حتى ينفى ؟ .
قلت : هو تعالى علم بأن القرآن سينزل بهذا النمط فلو حذف هذا السؤال لوقع من أحد من هذه الأمة توهم ما ، فصانهم الله تعالى عن ذلك من أصله جريا على سلبق رأفته ورحمته بهم ، وأيضا فالتوراة والإنجيل مشتملان على حكاية أحوال إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم ، فلو حكى سؤاله لما توهموا منه خلاف المراد فكان السؤالوالجواب صونا لما عساه أن يقع . (1/588)
مطلب في تفسير قوله تعالىفلما جن عليه الليلالخ
وسئل نفع الله بعلومه : عما سأل العز بن عبد السلام في أماليه أيضا عن قوله تعالى {قال لا أحب الآفلين} فقال : هذا مشكل غاية الإشكال لأن الدال على عدم ألوهية الكواكب إن كان التغير وقد وجد الأفول فلا معنى لإخنصاصه به ، وإن كان الغيبة عن البصر فيلزم من حق الله تعالى وإن كان كونه انتقل من كمال وهو العلو إلى النقصان فقد كان ناقصا عند الإشراق ، وأيضا فذلك معلوم له قبل الأفول أنه يأفل وأنه في المشرق مساو لحالته في المعر لاهـ فما الجواب ؟ .
فأجاب أتم الله عليه نوره ووالى عليه نعمه وسروره بقوله : ذكر غير واحد من المفسرين هذا الإشكال وجوابه ، لكنه يحتاج إلى مقدمات توضحه فمغنى قوله جن عليه الليل أظلم والكوكب النجم . قال الراغب : لا يقال في النجم كوكب إلا عند ظهوره قيل كافه الأولى زائدة على خلاف الأصل إذ هي ليست من حروف الزيادة ، والأفول الغيبة والذهاب ، والبزوغ الإبتداء في الطلوع كأنه مأخوذ من البزغ وهو الشق لأنه بنوره يشق الظلمة شقا ، والقمر معروف سمى به لبياضه وانتشار ضوئه ، وقيل لأنه يقمر ضوء الكواكب وينور به .
(1/589)
<253>
(1/590)
مطلب في وجه تذكير الشمس فيهذل ربيوتأنيثها فيبازغة
وذكر الشمس في {هذل ربي} وأنثها في {بازغة} لأن فيها لغتين التذكير والتأنيث ، فالتذكير بتأويل الكوكب أو الضوء أو النور أو الطالع أو الشخص أو الشيئ أو لكونه أخبر عنها بمذكر والمبتدأ والخبر كالشيئ الواحد ، وقول أبي حيان على لغة أكثر الأعاجم لأنهم لا يفرقون في الضمائر وأسماء الإشارة بين المذكر والمؤنث مردود بأن هذا إنما يقال لو عبر بلغة إبراهيم وهي العبرانية . (1/591)
مطلب لغة إبراهيم العبرانية
ونقل الطبري أن سبب نطقه بها لما عبر النهر فارا من النمرود وكان ووصى من أرسلهم لإحضاره أن يأتوه بمن يسمعونه يتكلم بالسريانية فلما أدركوه استنطقوه فحول الله لسانه عبرانيا فسميت العبرانية لأنها كانت عند عبوره النهر ، وذكر ابن سلام : أن سبب تسمية السريانية كذلك أن الله سبحانه وتعالى حين علم آدم الأسماء علمه إياها سرا عن الملائكة وأنطقه بما ذكر . (1/592)
مطلب قيل إن إبراهيم الخليل ولد ببرزة
وأكثر المفسرين على أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم ولد زمن ملك رأى رؤيا عبرها المعبرون بأنه يولد غلام يكون هلاك ملكه على يديه فأمر بذبح كل غلام يولد فلم تظهر أم إبراهيم حملها ، فلما أحست بالطلق ذهبت إلى كهف جبل فوضعته فيه وسدت بابه بحجر ، فجاء جبريل عليه الصلاة والسلام ووضع إصبعه في فمه وكانت تأتيه وتتعهده أمه أحيانا ، قيل ولد برزة بغوطة دمشق والصحيح بكوثا بإقليم بابل من العراق ، وبقي لإإلى أن عرف له ربا فسأل أمه : من ربي ؟ فقالت أنا قال ومن ربك ؟ قالت أبوك ، قال ومن ربه ؟ قالت ملك البلد ، فعرف أنها جاهلة بالله تعالى ، فنظر في باب العار ليرى شيئا يستدل به على وجود الرب تعالى فرأى نجما قيل المشترى وقيل الزهرة ، فقال {هذا ربي} الآية ثم قيل كان هذا قبل البلوغ وقيل بعده ، وبالغ المحققون في رد هذا القول وبطلانه وقالوا : لا يجوز أن يأتي على نبي زمن إلا وهو على غاية المعرفة بالله والتبري مما سواء ، وكيف يتوهم هذا على من عصمه الله وطهره وأخبر عنه أنه آتاه رشده من قبل وأنه جاء ربه بقلب سليم وأنه أراه ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين يقول هذا ربي على حقيقته لا يمكن ذلك أبدا ، ومما احتجوا به أن القول بربوبية الحماد كفر إجماعا وهو لا يجوز على نبي إجماعا وبأنه عرف ربه فيل هذه لبقضية حيث قال لأبيه آزر {أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين} ودعاه إلى التوحيد وأطال معه الكلام في تسفيه ما هو فيه كما ذكر في سورة مريم ، ومما يدل على تقدم ذلك على ما هنا أن ما هنا في التغليظ في الحجاج لسائر قومه ، ومن المعلوم تقدم الترفق على التعنيف في الدعوى إلى الله وابتداؤه بالأهل ثم الأجانب ، وإذا ثبت لإبراهيم هذا الكمال الباهر في التوحيد فكيف يسوغ لعاقل فضلا عن فاضل أن يتوهم في إبراهيم أنه اعتقد ألوهية كوكب معاذ الله وحاشاه الله كيف ودلائل الحدوث في الأفلاك ظاهرة لا تخفى على أقل العقلاء فكيف بأكماهم ، وقوله {يا قوم إني بريء مما تشركون} وقوله {وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان} أدل دليل على بطلان ما م أنه قال ذلك في الغار وعلى أنه إنما قال ذلك إرشادا لهم إلى الإيمان وإبطالا لما كانوا عليه من عبادة غير الله (1/593)
< 254>تعالى ومن ثم قال {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا} قيل : ولو كان مقصوده تحصيل المعرفة لنفسه لاستدجل بغروب الشمس في اليوم السابق لتلك الليلة على أنها لا تصلح للألوهية وإذا بطلت صلاحيتها لذلك فغيرها أواى ، ولا يتأتى مثل ذلك فيما إذا قلنا إن مقصوده إلزام القوم وإلجائهم إلى الإعتراف بالحق لاحتمال أنه إنما اتفقت مكالمته معهم حال طلوع ذلك النجم ، ثم اشتدت تلك المناظرة إلى أن طلع القمر وطلعت الشمس بعده فثبت بهذه الأدلة الظاهرة أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قال على سبيل الجزم {هذا ربي} وإذا بطل هذا فتلك المناظرة إما أن تكون بعد البلوغ وحينئذ فقوله {هذا ربي} ليس لمعتقدهم حتى يرجعوا إليه فيبطله بقوله {لا أحب الآفلين} كما تقول في البحث مع الفلاسفة القائلين بقدم الأجسام الجسم قديم فلم نشاهده مركبا متغيرا ، ويؤيد ذلك قوله تعالى {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} أو هذا ربي في زعمك فلما غاب قال لو هذا إلها لما غاب أو هذا يرجع لما قبله خلافا لمن غاير بينهم ، أو أنه استفهام إنكاري حذفت أداته لدلالة السياق عليه على حد {أفائن مت فهم الخالدون} أي أفهم الخالدون على أحد الأقوال ، أو بتقدير القول أي يقولون هذا ربي أي الذي يربيني وإضماره كثير ، ومنه {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا} الآية ، أو ذكره استهزاء كما يقال لذليل ساد قوما هذا سيدكم ، أو قاله خداعا لهم ليوهمهم أنه معظم لما عظموه حتى يلقوا إليه مقاليد عقولهم ويقبلوا ما صدر عنه ، فلما أفل أراهم نقص النجوم وأنها لا تصلح للألوهية ، ولا محذور في إيهام ذلك التعظيم لأنها مصلحة عامة من غير حصول محذور لما تقرر من أن قوله {هذا ربي} محتمل لعدة أمور على أن التلفظ بكلمة الكفر إذا جاز للإكره فلأن يجوز إذا استعقب في ظن القائل هداية أقوام إلى الله بطريق أولى .
وقد وقع لإبراهيم نظير ذلك في قوله تعالى حكاية عنه {فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم} وذلك أنهم كانوا يستدلون بعلم النجم على حدوث الحوادث المستقبلة فوافقهم على هذا الطريق في الظاهر مع برااءته عنه في الباطن ، وقصده أن يتوصل به إلى كسر الأصنام ، ونظيره جواب (1) لما ورد لدعوة قومه فرآهم عاكفين عبادة جسم فأوهمهم أنه بعظمه حتى رجعوا إليه في أكثر أمورهم فدهمهم عدو فشاوروه في أمره فقال ادعوا الصنم فدعوه فلم يفد ، فلما بين لهم أنه لا ينفع ولا يدفع دعاهم إلى أن يدعوا الله فدعوه فصرف عنهم فأسلموا ، وإما أن يكون قبل البلوغ وتقريره أنه كان كامل العقل في صغره أيضا فخطر له إثبات الصانع بالأدلة القطعية ، فلما رأى الكوكب أبطل ألوهيته بأفوله وكذا القمر والشمس إذا تمهدت هذه المقدجمة فإشكال العز بن عبد السلام قد ذكره غيره كما تقرر وتقرير المقصود منه أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم استدل بأفول الكواكب على امتناع ربوبيتها ، والأفول عبارة عن غيبوبة الشيئبعد ظهوره فيدل على الحدوث من حيث أنه حركة ، وعلى هذا التقدير فالطلوع أيضا حركة فلم ترك الإستدلال على حدوثها بالطلوع وعول في إثبات هذا المطلوب على الأفول ؟ وجوابه : أن الطلوع والغروب يشتركلان في الدلالة على الحدوث إلا أن الدليل الذي يحتج به الأنبياء في معرض دعوة الخلق كلهم إلى الله تعالى لابد وأن يكون ظاهر بحيث يشترك في فهمه الزكي والغبي كدلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يقينية إلا أنها دقيقة إلا على الأفاضل
__________
(1) قوله جواب ) هكذا هو بالنسخ ، واعل جواب اسم رجل ، وتأمل الله مصححه .(1/594)
<255>من الخلق . أما دلالة الأفول فإنها ظاهرة يعرفها كل أحد فإن اللآفل يزيل سلطانه وقت الأفول من حيث أن الأفول غيبوبة والإله المعبود القادر العالم لا يغيب ، ولهذا استدل بظهور الكوكب وببزوغ الشمس على الألوهية واستدل بأفولها على عدم الألوهية ، ولم يتعرض للاستدلال بالحركة أهي تدل على الحدوث أو لا ؟ قال الفخر الرازي : وفيه دقيقة ، وهو أنه عليه الصلاة والسلام إنما كان يناظرهم وهم كانوا كنجمين ، ومذهبهم أن الكوكب إذا كان في الربع الشرقي ويكون صاعدا إلى وسط السماء كان قويا عظيم التأثير أما إذا كان غاربا أو قريب الأفول فإنه يكون ضعيف الأثر قليل القوة ، فدل بهذه الدقيقة على أن إلهه الذي لا تتغير قدرته إلى العجز وكماله إلى النقص ، وكأنه قال لهم : مذهبكم أن الكوكب حال أنه في الربع الغربي يكون ضغيف القوة ناقص التأثير عاجز عن التدبير وذلك يدل على القدح في ألوهيته ، لا يقال تلك الليلة كانت مسبوقة بنهار وليل فأفول تينيك النيرين كان حاصلا فيما قبل فلا فائدة لتخصيص الأفول الالحاصل في هذه الليلة لأنا نقول : قد بان مما سبق أنه صلى الله عليه وسلم إنما أورد هذا الدليل على القوم الذين كان يدعوهم من عبادة النجوم إلى التوحيد أنه كان جالسا معهم ليلة من الليالي فزجرهم عن عبادة الكواكب ، فبينما هم في تقرير الكلام إذ رفع بصره إلى كوكب مضيء فلما أفل قال لوكان هذا الكوكب إلها لما إنتقل من العلو إلى الهبوط ومن القوة إلىالضعف ومن الوحود إلى العدم ومن الظهور إلى الغيبة ، ثم في أثناء ذلك الكلام بزغ القمر وأفل فأعاد عليهم ذلك الكلام ، وكذا القول في الشمس .
إذا تقرر ذلك علم اندفاع قول العز فلا معنى لاختصلصه به كيف ومعناه أظهر من نار على علم لما تقرر أن التغيير وإن حدث قبل الأفول إلا أنه فيه أظهر وأتم وأوضح وأعم ، وقوله فيلزمفي حق الإله ممنوع لأن غيبة الكوكب غيبة بعد ظهور وهبوط بعد علو ونقص بعد كمال وعدم بعد وجود ، والله سبحلنه وتعالى منزه عن جميع ذلك ، وقوله عن التغيير ليس فيه فائدة بل موهم خلاف المراد ، وقوله فقد كان ناقصا عند الإشراق مسلم ولكن شتان بين نقصه عنده ونقصه بالأفول كما تقرر ، وقوله أيضا فذاك معلوم له قبل الأفول أنه يأفل مسلم أيضا ولكن استدلاله بالأفول عند مشاهدته أبلغ في إلزام الخصم وأقهر له وأوقع لدعواه ، ومن عادة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه ينتقل إلى أظهر الأدلة وإن حصل مقصود بغيره ، ألا تراه في حجاجه مع النمرود كان يمكنه أن يقول أحي من أمته ومع ذلك انتقل عن ذبك إلى ماهو أبلغ في قهره وألزم له فقال {إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} قال تعالى {فبهت الذي كفر} فعلم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يراعون في إقامة الأدلة على الدعوى إلى الله تعالى أوضحها وأظهرها وأكملها وأقهرها لتظهر حجتهم لكل أحد ويفتضح معاندهم إلى الأبد ، وقوله في المشرق مساو لحالته في المغرب ممنوع بل ينهما بون بائن مما تقرر المرة بعد المرة والكرة بعد الكرة ، والله سبحانه وتعالى يوفقنا لاصابة الصواب ويهدينا إلى ما يحبه ويرضاه ويجزل لنا عظيم الثواب إنه الكريم الجواد الذي ليس لنعمته من نفاد .
( خاتمة ) دلت الآية على أحكام لا بأس بالإشارة إليها أو بعضها منها أنه تعالى ليس بجسم وإلا كان غائبا أبدا وكان آفلا أبدا وأنه ليس محلا للحوادث كما زعمه الكرامية وإلا كان متغيرا وحينئذ يحصل معنى الأفول ، وذلك محال وأن إقامة الأدلة على التوحيد هو شعار الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، وأن التقليد في ذلك غير مغن شيئا كما قاله الكثيرون أو مغن شيئا ولكنه ناقص عن الاستدلال وهذا هو التحقيق ، وأن معارف الأنبياء بربهم(1/595)
<256>استدلالية ضرورية ، وأن الطريق في معرفة الله تعالى هو النظر في مخلوقاته إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخر أسهل من ذلك لسلكه إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم ، وقوله {إني بريء مما تشركون} مبني على ما أثبته بالدليل أن هذه الكواكب لا تصلح للربوبية ولا للألوهية لكنه استشكل بأن دلالة الدليل على نفي ألوهية الكواكب لا يلزم منه نفي الشريك مطلقا وإثبات التوحيد ، وجوابه أن القوم كانوا مساعدين على نفي سائر الشركاء وإنما نازعوا في نفي هذه الصورة المعينة فلما ثبت بالدليل أنها ليست أربابا وثبت بالاتفاق نفي غيرها حصل الجزم بنفي كل شريك وإثبات التوحيد المطلق لله تعالى وحده .
فإن قلت : ثبت أن قومه كانوا يعبدون الأصنام أيضا .
قلت : لم يكونوا مع ذلك معتقدين الألوهية إلا للنجوم وأن تلك صورة يتقرب بعبادتها إلى النجوم كما حكى عنهم ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/596)
مطلب في قوله تعالىإن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة
وسئل نفع الله بعلومه : عما سأل العز في أماليه أيضا عن معنى قوله تعالى{إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} كيف يصح أن يكون نعذب طائفة جواب الشرط وعذاب الطائفة لا يتوقف على العفو عن الأخرى كيف يقدر الجواب انتهى . فما الجواب ؟
فأجاب أسكنه الله جنة المآب وأوضح به طريق الصواب بقوله : لم أر من نبه على جواب ذلك لكنه يعلم من سبب نزول الآية ، وهو لأنه صلى الله عليه وسلم كان يسير في غزوة تبوك مبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين اثنان يستهزئان بالقرآن والرسول والآخر يضحك ، فالطائفتان عنه ثلاثة واحد تاب فعفى الله عنه وهو محشي ابن جبير الأشجعي يقال هو الذي كان يضحك ولا يخوض مجانبا لهموينكر بعض ما سمع فلما نزلت هذه الآية وهي {ولئن سألتهم ليقولن كنا نخوض ونلعب} إلى آخرها تاب من نفاقه وقال اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت فأصيب يوم اليمامة فما من أحد من المسلمين إلا عرف مصرعه وأما هو فلم يعرف له مصرع ولم يظفر أحد بجثته ، وأما الآخران فلم يتوبا أحدهما عبد ابن أبي .
إذا تقرر ذلك علم أن التقدير إن نعف عن واحد منكم أيها الثلاثة لكونه تاب وتعيينه دل عليه المذكور بشهادة الواقع . (1/597)
مطلب في قوله تعالىهو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراوقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب
وسئل نفعنا الله بعلومه : عما سأل العز رحمه الله تعالى في أماليه أيضا عن قوله تعالى {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراوقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} فجعل عدد العلم والحساب معلوما للمنازل مع أنه لا يفتقر في معرفة هذين لكون القمر مقدرا بالمنازل بل غروبه وطلوعه كاف انتهى . فما الجواب ؟ .
فأجاب أعلى الله تعالى على النيرين منزلته وبلغه في الدارين أمنيته بقوله : ظاهر تقريره أن الضمير المفعول في قدره لقمر وحده وتخصيصه بالذكر لسرعة سيره ومعاينة منازله وإناطة أحكام الشرع به ولأن به يعرف انقضاء الشهور والسنين لا بالشمس ، ولأنه هو عمدة العرب في تواريخهم ، وقيل الضمير لهما(1/598)
<257>لاشتركهما في معرفة عدد السنين والحساب ، واكتفى بذكر القمر لما ذكر ثم منازل القمر هي المشهورة وهي الثمالنية والعشرين منزلة ، زهذه المنازل مقسومة على البروج الإثنى عشر لكل برج منزلتان وثلث فينزل القمر كل ليلة منزلة منزلة فيستتر ليلتان إذا تم الشهر وإلا فليلة ؛ فانقضاؤه مع نزوله تلك المنازل ، ومقام الشمس في كل منزلة ثلاث عشرة يوما وبانقضائها تنقضي السنة ، وسلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى الفصول الأربعة ، وبالفصول الأربعة تنتظم حركة هذا العالم ، وبحركة القمر تحصل الشهور وباخنلاف حاله في زيادة ضوئه ونقصه يختلف أحوال رطوبات هذا العالم ، وبسب الحركة اليومية يحصل النهار الذي هو محل الكسب والليل الذي هو محل الراحة ، وهذا يدل على كثرة رحمته تعالى لخلق وعظيم عنايته تعالى بهم . قال حكماء الإسلام : هذا يدل على أنه تعالى أودع في أجرام الأفلاك والكواكب أشياء معينة من الخواص وقوى مخصوصة بياعتبارها تنتظم مصالح هذا العالم السفلي ؛ إذ لو لم يكن لها آثار وفوائد في هذا العالم لكان خلقها بغير فائدة فينا في تلك النصوص .
إذا تقرر ذلك ظهر أن لمعرفة المنازل في القمر والشمس دخل أي دخل في معرفة عدد السنين وشهورها وأيامها وفي معرفة حساب الأوقات وآجال الديون والمعاملات وغيرها ، بل كمال ذلك ومعرفته على حقيقته لا يعرفه إلا من عرف تلك المنازل وحسابها وكيفية سير النيرين فيها وانتقالها من بعضها إلى بعض . وأما معرفة مجرد غروب القمر وطلوعه فلا يحصل به تمام ذلك فاتضح أن لهيئة تلك المنازل وحسابها للنيرين أو القمر علة واضحة لعلم السنين وحساب نحو الأوقات على وجهها ، وأن هذا العلم معلوم لتلك الهيئة وأنه لا غبار على ذلك ، وأن قول العز إنه لا يفتقر في معرفة هذين لكون القمر مقدرا بالمنازل وأن الطلوع والغروب كاف ممنوع ، إذ لو شاهد الجاهل بالمنازل لطلوع القمر أثناء الليل فقيل له ما الماضي أو الباقي من الليل أو وقت العشاء لم يعرف الجواب مع مشاهدته لطلوعه بخلاف من يعرف المنازل فإنه يعرف ذلك وما هو أدق منه بأدنى إلتفات إليه .
فأن قلت : الذي ظهر مما قررته هو معرفة الحساب المذكور أما علم عدد السنين فلا يتوقف على معرفة المنازل أصلا فكيف جعل معلولا لتقدير المنازل ؟ .
قلت : المراد بعدد السنين ما يشمل عدد أجزائها من الشهور والأيام والساعات ولا يعرف كمال ذلك أيضا بل أصله إلا من عرف تلك المنازل فلا إشكال حينئذ في الآية بوجه ، ولم أر أحد نبه على ذلك ، واله الموفق لصواب . (1/599)
مطلب في أن الضياء أبلغ من النور ، ووجه إيثار النور في سورة النور
( فائدة ) الضياء هو أعظم أبلغ من النور لأنه يستدعي سطوعا ولمعانا مفرطا بخلاف النور فلذا اختصت الشمس بالضياء والقمر بالنور لكنه مشكل بقوله تعالى {الله نور السموات والأرض مثل نوره} الآية ، فإن إيثار النور فيها يقتضي أنه أبلغ وأعظم في الرونق . وأجاب ابن عطية : بأن النور هنا أبلغ وأحكم لأنه تعالىشبه هذاه ولطفه الذي نصبه ليهتدي به فأصابه قوم وضل عنه آخرون بالنور الذي هو أبدا موجود في الليل وأثناء الظلام ، ولو شبه بالضياء لوجب أن لا يضل أحد إذا كان الهدى يكون كالشمس التي لا تبقى معها ظلمة ، فمعنى الآية أنه تعالى جعل هداه في الكفر كالنور في الظلام فاهتدى قوم وضل آخرون ، ولو جعله كالضياء لما ضل به أحد انتهى .
(1/600)
<258>
(1/601)
مطلب في قوله تعالىوما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله
وسئل نفع الله به بعلومه : عما سأل العز رحمه الله تعالى في أماليه أيضا عن قوله تعالى{وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله} فقال : فيه إشكال لأن العرب إذا أرادت بالمصدر مع قطع النظر عن الزمان قالوا أعجبني قيامك ، وإن أرادوا أن يخبروا بأن ذلك المصدر كان في الماضي قالوا أعجبني أن قمت ، وإذا أرادوا في المستقبل قالوا أن تقوم ، وهو معنى قول النحاة أن تخلص الفعل للمستقبل .
إذا تقرر ذلك فنقول : المشركون قالوا هذا القرآن أفترى أي في الزمن الماضي فكيف ينفي إفتراؤه في الزمن المستقبل ا هـ فما الجواب عن ذلك ؟ .
فأجاب رحمه الله تعالى بقوله : لم أر من أشار لجواب ذلك ولكنه ظاهر لمن تأمل السبب الذي ورد لأجله هذا النفي ؛ وبيانه أن الكفار طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بقرآن غير ما سمعوا منه كما حكاه تعالى عنهم بقوله {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله} ثم طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية أخرى كما حكاه تعالى بقوله {وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه} وقد أبطل الله ما قالوه أولا بقوله {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي} وما قالوه ثانيا بقوله {فقل إنما الغيب لله} ثم ذكر تعالى ما يقرر ذلك ويؤيده إلى أن انتهى هذا السياق فختمه بما يبطل ذاينيك القولين الصادرين عن جهلهم المفرط وحماقتهم البالغة فقال تعالى {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله} ووجهه بما فيه الرد عليهم أنهم اعتقدوا أن القرآن لبشر وأن محمدا صلى الله عليه وسلم أتى به من عند نفسه اختلافا وافتعالا ، فبين الله لهم بهذه الآية بعد أن بين لهم أيضا بسوابقها ومتعلقاتها أن هذا القرآن لا يمكن أن يفتري منه شيئ في المستقبل من غير الله ، فكيف تطالبون محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يأتيكم بقرآن آخر غير ما سمعتموه أو بآية أخرى غير القرآن ، وقد علمتم استحالة افتراء القرآن المستلزم لاستحالة افتراء الآيات ، فالتعبير بأن يفترى دلالة أت هنا عليه إنما وقع طبقا لرد مخترعهم الذب طلبوا منه أن يأتيهم به في المستقبل لا للاحتراز عن الكماضي والحال أن استحالة افترائه فيهما علم من غير ذلك بل ومن هذا أيضا ، لأن كل ما استحال الإتيان به في الماضي والحال لأنهما مستقبلان بالنسبة لما قبلهما .
إذا تقرر ذلك علم جواب إشكال العز ، وأنه إنما يتوجه على ما زعمه من أن هذا جواب لقولهم افترى هذا القرآن في الزمن الماضي وقد بان إنتفاء ذلك وأن هذا ليس جوابا لذلك أصلا ، كيف وذلك مذكور بجوابه إثر هذا الخاتم لذلك السياق كما قدمته ، فإنه تعالى لما ذكر ذينيك القولين الساقين وأبطلهما وختم سياقهما بهذا ذكر عقبه ما يقولونه في القرآن النازل الذي سمعوه مع جوابه أيضا فقال {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله} ومع تأمل هذا وتدبره لا يتوجه إشكال العز أصلا ولا يصح قوله {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله} جوابا لقولهم افتراه في الزمن الماضي .
واعلم أن هذا كله بناء على تسليم ما ذكر عن العرب من تلك القاعة وأنها عامة حتى في خبر كان المنفيه ، ولك أن لا تسلم عمومها لذلك استدلال بقوله تعالى {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} فإنه نزل نهيا ع استغفار سبق منهم للمشركين كما قاله أئمة التفسير فدل على أن أن في خبر كان لا يفرق بين ماض(1/602)
<259>وغيره لانسحاب مضى كان على خبرها فيلم مضيه في المعنى وإن دخلت عليه أداة الاستقبال لفظا ، ومن ثم أعربوا أن يفترى في الآية افتراء ومفتري أو ذا افتراء ، كل هذا فيه دليل لما ذكرته من أن حقيقة الاستقبال هنا غير مرادة لوجود كان على ما تقرر ، وعبارة أبي حيان أي وما صح ولا استقام أن يكون هذا القرآن المعجز مفترى قال : والظاهر أن يفترى هو خبر كان أي ذا افتراء أو مفترى ، وزعم بعضهم أن هذه هي المقدرة بعد لام محذوفة وأن يفترى معمولة ، وحينئذ فلا يرد سؤاله من أصله فتأمل ذلك فإني لم أجد الآن شيئا أراجعه من مطولات كتب النحو . (1/603)
مطلب في قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلامواشدد على قلوبهم
وسئل رحمه الله : : عما سأل العز ابن عبد السلام في أماليه أيضا عن قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام {واشدد على قلوبهم} هذا مشكل لأنه طلب أن يشدد رباط قلوبهم حتى لا يدخلها الإيمان والطلب مستلزم للإرادة فكيف يطلب ويريد ما أمر الله بخلافه منهم ، وليس مثل قوله تعالى حكاية عن نوح عليه الصلاة والسلام {ولا تزد الظالمين إلا ضلالا} لأن نوحا قيل له {إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} فأيس من إيمانهم بخلاف موسى .
فأجاب رحمه الله : لا إشكال فيه عند التأمل إنما بني إشكاله على أن الطلب مستلزم للإرادة منهم حيث قال بعد الاستلزام الذي ذكره : فكيف يطلب ويريد لما أمر الله أن يكرهه منهم وليس الأمر كما ذكره ، وبيانه أن الطلب إنما يستلزم إرادة وقوعه من الله غضبا عليهم لا لإرادة وقوعه منهم ، وهذا لا محذور فيه بوجه فهو يكره وقوعه منهم لاشتماله على المفاسد التي لا تحصى ومخالفته لما أمر الله به من دعايتهم إلى الإسلام ، ويريد وقوعه من الله بهم من حيث استلزامه لعذابهم ووقوع عقابهم في مقابلة ما قابلوه به من مزيد العناد والطغيان ، فالإرادة والكراهة لم يتواردا على شيئ واحد حتى يلزم عليه ما قاله العز وبنى عليه إشكاله المذكور . وبعد أن علمت اختلاف ما بين الحيثيتين ظهر لك أنه لا إشكال ، وأن غاية سؤال موسى ليس إلا الدعاء عليهم بدوام العذاب على كفرهم المستصحب بسب عدم توفيقهم إلى الإسلام ، وقوله ليس الخ فيه نظر ومن أين له الجزم بانتفاء المماثلة بل يحتمل أنه علم بالوحي عدم إيمانهم فدعا عليهم ، وهذا هو اللائق بمرتبة النبي سيما موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصثلاة والسلام فإنه كان عنده من الرحمة لقومه الغاية العظمى كما أشار لذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله رحم الله أخي موسى لقد أذي بأكثر من هذا فصبر " . (1/604)
مطلب على أنه لو قال لمسلم سلبه الله الإيمان لا يكفر
ولقد ذكر الشيخان وغيرهما من أئمتنا : لو قال لمسلم سلبه الله الإيمان ، أو لكافر لا رزقه الله الإيمان لا يكون كفرا لأنه ليس رضا بالكفر وإنما هو دعاء عليه بتشديد الأمر انتهى . فعلم أن الدعاء بدوام الكفر لا يستلزم الرضا بالكفر الذي هو المكروه ، بل ولا إرادة الكفر من المدعو عليه التي هي كفر أيضا لما تقرر أن القصد من هذا الدعاء تشديد الأمر عليه دون أمر زائد على ذلك فإذا كان هذا في شرعنا غير كفر فلا يبعد أن يكون مباحا في شرع موسى عليه السلام ، ولم أر أحدا من المفسرين أشار لشيئ من ذلك ، ثم رأيت أبا حيان رحمه الله أشار لبعض ما ذكرته بقولي وقوله الخ بل يحتمل أنه علم بالوحي الخ فقال : لما بالغ(1/605)
<260>موسى عليه الصلاة والسلام في إظهار المعجزات وهم مصرون على العناد واشتدادهم عليه وعلى من آمن معه وهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفرا وعلى الإنذار إلا استكبار ، وعلم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلا الغي والضلال أو علم بالوحي من الله تعالى دعا عليهم بما علم أنه لا يكون غيره كما قال لعن الله إبليس وأخزى الكفرة ، وكما دعا نوح على قومه حين أوحي إليه {إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} . (1/606)
مطلب في قوله تعالىأفمن يخلق كمن لا يخلق
وسئل أدام الله النفع به : عما سأل العز في أماليه أيضا ، وهو قوله تعالى {أفمن يخلق كمن لا يخلق} حيث قال العز هذا مشكل لأن قاعدة التشبيه أن يكون المشبه به دون المشبه . وهذا وارد إنكارا عليهم في تشبيههم الأصنام بالله عز وجل لقوله تعالى {يحبونهم كحب الله} فكان يقتضي أن يقال أفمن لا يخلق كمن يخلق ، ولا يقال أنهم كانوا يعطمون الأصنام أكثر من تعظيم الله تعالى لأن الأمر ليس كذلك بل قالوا {ما نعبدهم إلا ليقربونا من الله زلفى} ولا يتم لنا في هذه الآية الجوا الذي في قوله تعالى {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} انتهى . فما الجواب ؟ .
فأجاب بقوله : أجاب عن ذلك المفسرون بأنه عكس التشبيه وهو موجود في كلام العرب ، ومنه قوله تعالى {إنما البيع مثل الربا} شبهوا المجمع على حله بالربا المجمع على تحريمه ، ولم يعكسوا تنزيلا لما يفعلونه من الربا بمنزلة الأصل المماثل له البيع ، ومن ذلك أيضا قول ذي الرمة :
كأن ضياء الشمس غرة أحمد * البيت .
إذا تقرر ذلك فهم لمبالغتهم في كفرهم وعتوهم في عنادهم شبهوا الله تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا بأصنامهم ونحوها من كل ما عبدوه من دون الله تعالى تنبيهها منهم بذلك على أنهم لما عندهم من عظيم الإشراك به جعلوه من جنس المخلوقات المعجزة تشبيها بها ، ومن ثم بالغ تعالى في الإنكار عليهم مشيرا إلى أنهم في ذلك بالبهائم أشبه فقال {أفلا تذكرون} عظيم فساد هذا الواقع منكم فإن فساده من أجلى البديهيات فضلا عن الضروريات ، ولذلك كان كأنه حاصل في عقولهم مركوزا في أفهامهم لكنهم آثروا عليه أهويتهم . الباطلة وآراءهم الخالية فغفلوا عنه ، ولو التفتوا إليه بعقولهم أدنى التفات لأدركوه وكان كالحاضر عندهم بأدنى تذكر والتفات ومن ثم قيل لهم {أفلا تذكرون} لأنكم لو تذكرتم أدنى تذكر لم تقولوا ذلك .
إذا تقرر ذلك علم الجوا عما قاله العز ، وأن هذا ما جاء على خلاف القاعدة التي ذكرها لأن قصد قائله المبالغة في إثارة مدعاه فعكس الطريق الجادة حتى يحصل له تلك المبالغة المذكورة كما تقرر ، وقوله لا يقال الخ ممنوع بل كانوا على فرق منهم من يعظم صنمه أكثر من تعظيم الله ومنهم من يعكس فهذا وارد في حق الأولين ، وقوله تعالى عنهم {ما نعبدهم إلا ليقربون إلى الله زلفى} في حق الآخرين . (1/607)
مطلب في قوله تعالىولا تزر وازرة وزر أخرى
وسئل نفع الله بعلومه : عما سأل عنه العز في أماليه أيضا ، وهو قوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} حيث قال فيه سؤال : وهو أن عدم قيام فعل الغير عام في النفس الآثمة وغير الآثمة فلم خص الآثمة مع أن التصريح بالعموم أتم في العدل وأبلغ في الإشارة وأخصر في اللفظ كما قيل ولا تحمل نفس حمل أخرى انتهى ؟ .
(1/608)
<261>
فأجاب رحمه الله تعالى بقوله : للمفسرين في ذلم رأيان : أحدهما : أن تزر معناه أن تحمل الوزر وهو الثقل والتقدير ولا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى ؛ وعلى هذا فلا يرد سؤال العز يندفع قوله كما قيل الخ لأن ما قاله هو معنى الآية كما تقرر فلا فرق بينهما ، وقد جرى البعض من المحققين على ذلك في قوله تعالى في سورة ( سبحان ) {من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} فقال : بين تعالى أن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله والذنب مختص بفاعله ولا يتعدى منه إلى غيره ، ويتأكد هذا بقوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} . ثانيهما : أنه من الوزر وهوالإثم ، والتقدير لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، وعلى هذا يتوجه سؤال العز ويجاب عنه بأن سب التخصيص أنه وقع ردا لقولهم ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} بعد أن رده بقوله {وما هم بحاملين من خطاياهم من شيئ وإنهم لكاذبون} ومن عادة القرآن أن يكرر الأدلة وإلإن اتحدت الدعوى بأوجه مختلفة وسياقات مؤتلفة زيادة في التأكيد والتقرير ومبالغة في الرد لتلك المقالة ، ثم بالغ تعالى في الرد عليهم فقال عقب تلك الآية في سورة فاطر {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيئ واو كان ذا قرى} أي وإن تطلب نفس مثقلة بالذنوب نفسا أخرى إلى أن تحمل عنها شيئا مما أثقلها لا تحمل تلك النفس المطلوبة منه شيئا في حالة من الحالات ، ولو كان المدعو أو الداعي ذا فربة له ، وأفادت هذه نفي حمل ذنب كل نفس عنها كما أفادت الأولى نفي أن يحمل عليها ذنب غيرها ولا ينافي هذا {وليحمل أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} لأن المراد أنهم يحمالون أثقال ضلالهم وإضلالهم وكلها أوزارهم فلم يحمل أحد عن أحد شيئا ، وقوله مع أن التصريح بالعموم الخ لا يرد لما تقرر أن ذلك التخصيص إنما وقع بسبب دعا إليه هو رد ما افتروه كما تقرر على أنه تعالى لم يقتصر عليه بل ذكره في آية ( سبحان ) بعد أن مهد ببيان أن حسنات الإنسان له وسيئلته عليه فقال {من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها} وذكر في آية فاطر بعده ما يتعلق بالحسنات أيضا فقال {ومن تزكى} الآية ، أي تطهر عن دنس الذنوب {فإنما يتزكى لنفسه} إذ نفعها لها دون غيرها فذكر تعالى هذين السياقين سياق المعاصي وما يتعلق بها ثم سياق الحسنات وما يتعلق بها على أبلغ وجه وأكمل تقرير جريا على بلاغة القرآن المقررة لكل مطلب على حدته بما لا يبقي في المنكر شبهة ولا تردد بوجه فتأمل ذلك فإني لم أر من أشار إلى شيء منه مما يتعلق بسؤال العز . (1/609)
مطلب في قوله تعالىفضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا
وسئل بلغه الله أمله وختم بالخير عمله عما سأل العز في أماليه أيضا عن قوله تعالى {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا} أي ذوات عدد ، ومعلوم أن السنين لا تكون إلا ذوات عدد فما فائدة ذكره ، وليس مثل قوله تعالى {دراهم معدودة} وفي {أيام أخر} لأن ذكر العدد فيها يدل على القلة لأن ما كثر في الغالب يتعذر عده لكثرته والمراد هنا تعظيم الصفة فعدم ذكر العدد أولى به انتهى ؟ .
فأجال لا زال كهفا للسائل وعلومه استقامة للمائل بقوله : فائدة ذكره أن مدة لبثهم في الكهف مضروبا على آذانهم وقع الخلاف في قدرها فمنهم من قال {لبثا يوما أو بعض يوم} لأنهم كانوا نائمين لا ينتبهون إلا إن نبهوا ، وسبب الشك أنهم كانوا ناموا غدوة وانتبهوا ظهرا ، فشكوا هل هي ظهر ذلك اليوم فيكون بعض يوم أو ظهر اليوم الذي بعده فيكون يوما وشيئا ولم يكروه إلغاء للكسر ، ومنهم من يأوي عند التردد(1/610)
<262>ففوض علم ذلك إلى الله ، وحقيقة الأمر في ذلك ذكره الله تعالى بعد بقوله {ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا} فالمدة طويلة جدا في نفي الأمر ، وقصيرة جدا في ظن بعضهم وهم القائلون {لبثنا يوما أو بعض يوم} والعدد يقال للكثير لأن العرب فيما دون الأربعين يعدونه ولا يزنونه وفي الأكثر من لك يزنونه ، وما دون الأربعين الشامل لتسعة وثلاثين من أعداد الكثرة لا القلة وتارة يستعمل للتقليل وهو الثلاثة وما دون الأحد عشر ومن الأول {في أيام معدودات} ومن الثاني {دراهم معدودة} .
إذا تقرر ذلك علم أن وصفه تعالى السنين بالعد إذ المعنى معدودة أو ذوات عدد له نكتة ظاهرة جدا ، وهي أن القصد في أول القصة تعمية خبرهم وبيان أن الممتحنين للنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلمون هم ولا غيرهم مدة لبثهم حقيقة فأتى بالسنين التي هي نص في القلة لأنها ملحقة بجمع المذكر السالم مما يحتمل القلة ويحتمل الكثرة مبالغة في التعمية والامتحان كما تقرر ، ويدل لذلك تعليله تعالى عقب {ثم بعثناهم} قوله عز من قائل {لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا} أي أضبط حرزا من لبثهم .
إذا تقرر ذلك علم الجواب عن قوله فما فائدة ذكره وأنه ليس مثل دراهم معدودة وأيام معدودات ، وأن قوله : فهو المراد الخ ممنوع ، بل المراد ما قررته وهو مزيد التعمية والامتحان ليخضعوا إلى الله ويردوا العلم إليه ، ومن ثم قال تعالى آخر القصة {ولا تستفت فيهم منهم أحدا} ثم اخبر بمدة لبثهم الحقيقي وبين أن أحدا لا يعلمه كذلك غيره ، لأنه من جملة الغيب الذي انفرد تعالى بعلمه ، وهذا كله لم أر من نبه عليه ، ثم رأيت الفخر الرازي قال : قال الزجاج : ذكر العدد هنا مفيد كثرة السنين وكذلك كل شيء مما يعد إذا ذكر فيه العدد ووصف به يفيد كثرته لأنه إذا قل فهم مقداره بدون التعديد أما إذا كثر فهناك يحتاج التعديد فإذا قلت : أقمت أياما عددا أردت أياما ذوات عدد أو معدودة انتهى . وفيما ذكره نظر ظاهر والصواب ما قررته فتأمله . . (1/611)
مطلب في قوله تعالىومن أعرض عن ذكري فإن له معيضة ضنكاالخ
وسئل نفع الله به : عما سأل العز في أماليه أيضا وهو قوله {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} مع قوله {وكذلك نجزي من أسرف} لأن من أسرف اندرج فيمن أعرض إذ المعرض أعم من المسرف فيلزم أحد أمرين : إما تشبيه الشيء بنفسه أو بقاء من أعرض على عمومه لإذا لم يخصص ، أو تشبيه الأعلى بالأدنى إن كان قد خصص ؛ لأن المسرف أعظم ذنبا من المعرض لأن المعرض قد يعرض ولا يسرف وكلا الأمرين مشكل انتهى ؟ .
فأجاب بقوله من تأمل نظم الآية علم أن هذا إشكال لا يرد أصلا وذلك أن المعرض عن الذكر المكنى به عن الهدى المذكور قبله وهو الكتاب والرسول لإفادة أنه مذكر بالله وداع إلى عبادته يقول الله يوم القيامة إذا حشره أعمى البصيرة وهو الأظهر أو البصر {رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا} فيجيبه الله تعالى بأمرين : أحدهما يتعلق به ، والثاني يتعلق بكل من كان على طريقته فالأول هو قوله {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} . والثاني هو قوله {وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه} وهذان الوصفان أعنى الإسراف وعدم الإيمان بالآيات داخلان في الإعراض السابق ، وكان قضية النظم ، وكذلك نجزي من كان مثلك وعلى طريقتك لكنه عدل عنه إلى ذلك البيان ليسجل عليه بالإسراف وعدم الإيمان بالآيات ، وأن جزاءه ذلك ليس خاصا به بل يعم كل من اتصف بما اتصف به وهو الإعراض الذي هو(1/612)
<263>الإسراف بالانهماك في الشهوات المنسي للتأمل في الآيات والأدلة وعدم الإيمان بها ، فاندفع بما قررته قوله : لأن من أسرف اندرج فيمن أعرض لأن المعرض الخ ، ووجه اندفاعه بما علم ما قررته أن قوله : {وكذلك نجزي من أسرف} ليس معطوفا على من أعرض ولا هو داخل في سياقه ، وإنما هو سياق آخر كما علمت ، فإن من أعرض من جملة المقول لآدم وحواء وكذلك نجزي من أسرف من جملة المقول يوم القيامة لكل من أعرض أو لأحد الأفراد المعرضين إذ الآية تشمل كل من هذين وشتان ما بين السياقين . واندغع أيضا قوله : إذ المعرض أهم من المسرف ووجه اندفاعه ما قررته بما يقتضي أن يكون عينه ، ولكن إنما عبر عنه بسياقين مختلفين للتسجيل على كل معرض بأنه جمع بين وصفي الإعراض والإسراف وعدم الإيمان بالآيات ، واندفع قوله : فيلزم أحد أمرين الخ ، ووجه اندفاعه ما مر من اختلاف السياقين والتعبير عن المعرض بما هو من لازمه للتسجيل عليه ، وحينئذ فلا يلزم شيء من ذلك على أ، قوله إنا تشبيه الشيء بنفسه فيه نظر بل اللازم مقتضى ما ذكره تشبيه الجزء بكله ، وقوله : إن كان قد خصص لأن المسرف الخ ممنوع أيضا لما تقرر من استوائهما ، وأنه مع ذلك ليس فيه محذور بوجه ، فتأمل ذلك كله فإني لم أر من نبه على شيء منت انتهى . (1/613)
مطلب الإشكال الذي في قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتاوجوابه
وسئل رضي الله عنه : عما سأل العز في أماليه أيضا : وهو قوله تعالى {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} فبه إشكال لأنه ذكره بعد ذوله {أم اتخذوا آلهة من الأرض وهم ينشرون} يبطل قولهم وهذا لا يبطله ، لأن الملازمة بين الفساد والإله الثاني إنما تصدق إذا كان الإله الثاني تاما حتى يلزم التمانع وهو لم يدعوا ذلك ألا تراهم يقولون {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} أما إلهان تامان فلم يقل به أحد من الملل فما قالوا به لا تبطله الآية ، وما تبطله الآية لم يقولوا به ، وكذلك قوله {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض} قيل الحق الله عز وجل ، وقيل القرآن وأيما كان فالملازمة مشكلة انتهى .
فأجاب ختم الله له بالإسلام وأدام عليه هواطل الجود والإنعام بقوله : د استروح العز ببنائه إشكاله على قوله : وهم لم يدعوا ذلك ، ومع ذلك فهو لا ينتج له إشكالا ؛ أما أولا فإنا نقول : ليسوا كلهم يقولون {ما نعبدهم} الآية بل منهم من أثبت آلهته فقط ومنهم من أشرك ، وهؤلاء المشركين منهم من زعم أن آلهته أكمل من الله تعالى لما مر عنهم في قوله ردا عليهم {أفمن يخلق كمن لا يخلق} ومنهم من عكس وهم القائلون {ما نعبدهم} . وأما ثانيا فلإن سلمنا له ذلك وأنهم لم يدعوه إلا أنه لازم لقزلهم ولازم المذهب مذهب بالنسبة لإقامة الدليل على إبطاله اتفاقا ، وإنما الخلاف في أنه هل يحكم بأن القائل بالملزوم قائل به أو لا ، فلما لزم من تسميتهم نحو الأصنام المنحوته المتخذة من الأرض آلهة لزمهم أنها تقدر على جميع الممكنات ، إذ من لوازم الإله الاقتدار على ذلك ، نسب الله تعالى إليهم ذلك وإن لم يصرحوا به ، فقال تعالى {أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون} أي ينشرون الموتى دون غيرهم كما أفاده الضمير الموهم لاختصاص الانتشار بهم ، قم لما تقرر أن تسميتهم إياها آلهة يلزمها الاقتدار على جميع الممكنات بين الله تعالى أن هذا اللازم إن لم يوجد فيها فهي غير آلهة ، وإن وجد فيها لزم التمانع المقتضي للفساد فقال تعالى {لو كانا فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} أي لخرجتا عن نظامهما التام المشاهد لما يكون بينهما عادة من الاختلاف والتمانع المقرر في محله ، وفرض اتفاقهما عقلا لا يعول عليه في الأدلة القرآنية كما قرر في محله أيضا .
(1/614)
<264>
إذا تقرر ذلك علم اندفاع قول العز وهذا لا يبطله ، كيف لا وقد علمت أن إبطاله له أمر واضح جلي لما قررته أنهم سموا نحو أصنانهم آلهة ، فإما أن يقولوا مع ذلك : إنها لا تقدر على شيء فيبطل حينئذ ألوهيتها فعلى كل تقدير يبطل اتخاذهم لتلك الآلهة ما بغير دليل بأن يعترفوا بالأول أعني بأنها لا تقدر على شيء أو بالدليل الذي أقامه تعالى عليهم إن اعترفوا بأنها تقدر على جميع الممكنات ، ومن تأمل إيراد الأدلة بأن على المستدل أن يبطل جميع ما يقوله خصمه ، وإن لم يقل ببعضها علم أن الآية واردة علىأكمل الاستدلالات وأتقن البراهين . وقوله : قلم يقل به أحد من أهل الملل ممنوع لأنهم وإن لم يقولوا به صريحا هم قائلون به استلزاما فعلى المستدل إبطاله لأنه لازم قولهم ، وحينئذ فبطل قوله : فما قالوا به لا تبطله الآية ، وما تبطله الآية لم يقولوا به ، وكذلك قوله : وأيما كان فالملازمة مشكلة ، وبيانه أنه لا إشكال فيها لما قررناه إذ الحق لو اتبع أهواءهم بأن كان في الواقع آلهة شتى لفسد العالم كما تقرر في {لو كانا فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} وفسر بأن الحق لو اتبع أهواءهم وانقلب باطلا لذهب ما قام به العالم من نظامه فلا يبقى ، وبأن الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لو اتبع أهواءهم وانقلب شركا لجاء الله بالقيامة وأهلك الغالم لفرط غضبه : وعلى كل من هذين فلا إشكال في الملازمة أيضا . هذا ومن طعن في دلالة التمانع فسر الآية بأن المراد : لو كان في السمماء والأرض آبهة كما تقولون بإلهيتها يا عبدة الأوثان لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على تدبير العالم فيلزم فساد العالم . قالوا : وهذا أولى لأنه تعالى حكى عنهم قوله {أم اتخذوا آلهم من الأرض هم ينشرون} ثم ذكر الأدلة على فساد هذا فوجب ان يختص الدليل به ، وعلى هذا التقرير لا يتوجه سؤال العز أصلا . (1/615)
مطلب في قوله تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القومالآيات
وسئل نفع الله به : عما سأل العز عنه أيضا في أماليه ، وهو قوله تعالى {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان} فقال : فيه سؤلان . أحدهما: أن المراد بالشهادة هنا العلم فما فائدة ذكره وليس محل التمدح بالعلم لأن الله تعالى لا يتمدح بعلم جزئي ، وليس السياق سياق تهديد أو ترغيب حتى يكون ذكر العلم للمجازاة على الفعل كقولك : عرفت صنعك ؟ .
الثاني : أن الحرث كانت كرما فقضى داود أولا بأن الغنم لصاحب الكرم ، وحكم سليمان ثانيا بأن الغنم تسلم لصاحب الكرم ينتفع بأصوافها وألبانها ، ويسلم الكرم لصاحب الغنم يصلحه ، فإذا صلح عادت الغنم لربها والكرم لربه ، فحكم داود لو وقع في شريعتنا لم يكن ثم ما يقتضي فساده لأن الأرش يجوز أن يكون قدر قيمة الغنم وصاحبها مفلس فدفع قيمة الغنم لمستحقها ، وحكم سليمان لو وقع في شريعتنا لم يصح وشريعتنا هي أتم الشرائع ، فإن كان حكم سليمان صحيحا فلم لم يشرع لنا ، وإن كان حكم داود أفضل فلم أثنى على سليمان دونه . انتهى ، فما الجواب ؟ .
فأجاب أسبغ الله عليه من لطائفالفضل والإحسان ما يخلده به في مقصورات الجنان بقوله : الجواب عن ذلك يستدعي مقدمات بها يتبين أن في حكاية العز سقطا وهو أنهم اختلفوا في كيفية القصة . والذي عليه أكثر المفسرين أن رجلين دخلا على داود صلى الله على نبينا وعليه وسلم أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الخرث : إن غنم هذا دخلت حرثي وما أبقت منه شيئا ؟ فقال داود : اذهب فإن الغنم لك ، فخرجا فمرا على سليمان صلى الله عليه وسلم فقال : كيف قضى بينكما ؟ فأخبراه فقال : لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا ، فأخبر بذلك داود غدعاه فقال : فكيف كنت تقضي بينهما ؟ فقال : أدفع الغنم لصاحب(1/616)
<265>الحرث فيكون له منافعها من الدر والنسل والوبر حتى إذا كان من العام المستقبل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم لأهلها وقبض صاحب الحرث حرثه . والذي عليه ابن مسعود وشريح ومقاتل أن راعيا بات ليلة بجنب كرم فدخلت الأغنام الكرم وهو لا يشعر فأكلت القضبان وأفسدتها فذهب صاحب الكرم من الغد إلى داود فقضى له بالغنم ، لأنه لم يكن بين ثمن الكرم وثمن الغنم تفاوت ، فخرجوا ومروا بسليمان فقال : كيف قضى بينكما ؟ فأخبروه فقال : غير هذا أرفق بلافريقين ، فقال : تسلم الغنم إلى صاحب الكرم حتى يترفق بمنافعها ويعمل الراعي في إصلاح الكرم حتى يصير كما كان ثم ترد الغنم إلى صاحبها كما قبضت ، وحكم بذلك . ثم في الآية أمور قيل : لم يختلفا البتة ورد بأن الصواب أنهما اختلفا كما أجمع عليه الصحابة والتابعون رضوان الله تعالى عليهم ، وقوله تعالى {ففهمناها سليمان} بعد قوله {وكنا لحكمهم شاهدين} صريح في ذلك لأن الفاء للتعقيب فوجب سبق ذلك الحكم على التفهيم وحينئذ يلزم اختلافهما فيه حتى يبقى لقوله {ففهمناها سليمان} موقع ، ويجوز في حكمهما أن يكونا عن نص أو اجتهاد لجوازه للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم على الصحيح وأدلته مبسوطه في علم أصول الفقه ، وقال الجبائي من المعتزلة : لا يجوز الاجتهاد هنا وإن جوزناه لوجوه :
أحدها : أن الذي وصل لصاحب الحرث من ضر الماشية ومنافعها مجهول المقدار ، فكيف يجوز في الاجتهاد أحدهما عوضا والآخر معوضا عنه ؟ .
وثانيها : أن اجتهاد داود إن كان صوابا لزم أن لا ينقض لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ، وإن كان خطأ وجب أن يبين الله توبته كسائر الأنبياء فيما حكاه تعالى عنهم فلما مدحهما بقوله {وكلا آتينا جكما وعلما} دل على أنه يقع الخطأ .
وثالثها : كيف يجوز أن يكون اجتهاد مع قوله {ففهمناها سلمان} ؟ .
وأجيب عن الأول : بأن الجهالة في القدر لا تمنع من الاجتهاد كما قال الشافعي رضي الله عنه في وجوب صاع في مقابلة لبن المصراة عملا بالحديث ، وقدم أبو حنيفة القياس عليه لمخالفته لما استقر أن المثلى إنما يقوم ويضمن بمثله والمتقوم بقيمته .
وعن الثاني : بأنه يحتمل أنه كان خطأ من الصغائر كذا قيل وليس بصحيح ، بل الاجتهاد يثاب عليه ولو كان خطأ كما نص عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فبطل قول الجبائي : وإن كان خطأ وجب الخ .
وعن الثالث بما فيه نظر أيضا والأصوب أن يقال قوله : {ففهمناها سليمان} أي هديناه إلى ما هو الحق في نفس الأمر فكان اجتهاده صوابه فيثاب عليه عشرة أجور ، وهذا يلزم عليه كالذي قبله أن من قال بجواز الاجتهاد للأنبياء يجوز عليهم الخطأ فيه ، وهو قول الأصوليين واعتمده بعض محققيهم في نبينا صلى الله عليه وسلم لكنه قول مردود ، والصواب في نبينا صلى الله عليه وسلم أن اجتهاده هذا ، وجه كون حكميهما عن اجتهاد ، وأما وجه كونهما عن نص فيكون الثاني ناسخا للأول . ويجاب عما اعترض به على هذا بأنه لا يمنع من ذلك نزول الناسخ على سليمان لأن شريعتهما كانت واحدة ولا يمنع قوله {ففهمناها سليمان} لأن معناه : ففهمناه ما أمرناه بتبليغه مما ينسخ حكم داود لكونه أهلا لذلك مع صغر سنه فإنه كان له إحدى عشر سنة على ما قيل ففيه غاية المدحة ، ثم على تجويز أن يكون عن نص واجتهاد كونهما عن اجتهاد أنجح لما روي في الأخبار الكثيرة أن داود لم يكن قد بت الحكم في ذلك حتى سمع من سليمان أن غير ذلك أولى ، وفي بعضها أن داود ناشده(1/617)
<266>أن يورد ما عنده ، وكان ذلك لا يليق بالنص لأنه لا يجوز كتمه . وطريق الإجتهاد في ذلك ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن داود قدر الضرر في الكرم فكان مساويا لقيمة الغنم ، وكان عنده أن الواجب في ذلك الضرر أن يزال بمثله من النفع فلا جرم سلم الغنم للمق عليه مكا قال أبو حنيفة رضي الله عنه في العبد جنى على النفس يدفع المولى ذلك أو يفديه . وأما سليمان فكان إجتهاده أدى إلى أنه يجب مقابلة الأصول بالأصول والزوائد بالزوائد ، وأما مقابلة الأصول بالزوائد فغير جائزة لأنه بقتضي الحيف ، ولعل منافع الغنم في تلك السنة كانت موازية لمنافع الكرم فحكم به كما قال الشافعي رضي الله عنه فيمن غصب عبدا فأبق من يده أنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد فإذا ظهر ترادا .واستدل القائلون بأن المصيب من المجتهدين واحد بقوله {ففهمناها سليمان} إذ لو أصاب كلا منهما لما يكن لتخصيص سليمان بالتفهيم فائدة وبأن الكل مصيبون بقوله {وكلا آتينا حما وعلما} ورد الاستدلالان ؛ أما الأول فلأنه لم يقل فهمه الصواب فيحتمل أنه فهمه الناسخ ولم يفهمه لداود بأن لم يبلغه وكل مصيب فيما حكم به على أن أكثر ما في الآية أنها دالة على أنهما معا لم يكونا مصيبين وذلك لا يوجب أن يكون في شرعنا كذلك ، وأما الثاني فلأنه تعالى لم يقل حكما وعلما بما حكما به بل يجوز أن يكون حكما وعلما بوجوه الإجتهاد وطرق الأحكام على أنه لا يلزم من كون كل مجتهد مصيبا في شرعه أن يكون كذلك في شرعنا .
واعلم أن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال : إن هذه الآية محكمة والقضاة يقضون بها إلى يوم القيامة . ورد بقول كثير إنها منسوخة بالإجماع ، ثم اختلفوا في حكمه فقال الشافعي رضي الله عنه : إن كان بالنهار لا ضمان لتقصير صاحب الحرث أو ليلا فالضمان لتقصير صاحب الماشية لأن الفرض أنها بمحل جرت العادة بإسيابها نهارا وحفظها ليلا . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا ضمان مطلقا حيث لم يتعد صاحبها بالإرسال لقوله صلى الله عليه وسلم " العجماء جبار " ولاستدل الشافعي بأنه صلى الله عليه وسلم قضى بأن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن على أهل الماشية ما أصاب ماشيتهم بالليل .
إذا تقرر ذلك فاعلم أن قول العز : فما فائدة ذكره وليس الخ . يجاب عنه بأن له فائدة واضحة وهي إفادة أن اختلاف النبيين الجلييلين صلى الله على نبينا وعليهما وسلم في الحكم في هذه القضية الواحدة لم يصدر عن هوى ولا حدس وإنما صدر إما عن نص والثاني ناسخ للأول كما تقرر أو اجتهاد والثاني أرجح كما تقرر أيضا ، فلما كان الخلاف مظنة الخوض في المختلفين المؤدي إلى استنقاص أحدهما أو كليهما رد الله هذه المظنة وبين أنها منفية عنهما بأنه تعالى عالم بحكمهما علما مخصوصا ، ومن ثم عبر عنه بالشهود الذي هو أخص من مطلق العلم ، لأنهما إن صدرا عن نصين فواضح أو اجتهادين فهو تعالى أقام في وجود كل واحد حجة ألجأته إلى ما قضى به فعبر تعالى عن ذلك بحضوره لحكميهما ، ومر على أن بعضهم استدل بهذه الآية على أن كل مجتهد مصيب وأخذ وجه الدلالة منه فذلك بما ذكرته أولى من أخذه من قوله تعالى {وكلا آتينا حكما وعلما} لأنه مردود كما مر ، وقوله : وليس الخ يفهم أن ذكر الله تعالى لعلمه لا يكون إلا لما ذكره وهو ممنوع ، وقوله الثاني الخ رتب إشكاله فيه على مقدمات ستدفع وبغندفاعها يندفع الإشكال من أصله فلا يحتاج لجواب ، وبيان ذلك أن قوله لم يكن ثم ما يقتضي فساده إن أراد بنفي مقتضيه في شريعتنا أن مجتهدي شريعتنا أجمعوا على أنه سائغ فممنوع ، كيف وأبو حنيفة رضي الله عنه لا يضمن فساد البهيمة مطلقا ويستدل بقوله صلى الله عليه وسلم " العجماء جبار " على أنه لو قال بتضمين(1/618)
<267>إتلاف البهيمة لقال به نظير ما مر عن العبد الجاني ، والحسن البصري يقول في غير هذه المسألة بما قضى به سليمان كما مر أيضا على أنه غير صحيح لو سلم له ما قاله أنه مفلس لأن الأرش يعني قيمة المتلف إنما يجب من النقد الغالب والغنم ليست منه ، والقاضي لا يجب أن يعطى غريم المفلس ماله إلا إن كان من جنس حقه وكان الإعطاء أحظ من اليع ، وأما إذا لم يوجد ذلك فلا يجوز إعطاؤه مال المفلس بل يلزمه بيعه بثمن المثل حالا من نقد البلد وإعطاء قيمة متلفه من ثمنه ، فبان أن إعطاء داود عين الغنم في قيمة ما أتلفه غير صحيح في مذهبنا أيضا ، وإذا اندفعت هذه المقدمة من كلام العز لم يتوجه إشكالا أصلا ، وقوله : وحكم سليمان لو وقع في شريعتنا لما صح إن أراد بنفي صحته في شريعتانا أن أحد المجتهدين من هذه الأمة لم يه ممنوع كيف والحسن البصري من أكابرهم قائل به كما مر ، وقد مر أن الشافعي رضي الله عنه قائل بنظيره فيمن غصب عبدا فأبق من يده أن يضمن قيمته للحيلولة يأخذها مالك العبد ويملكها ملك قرض فينتفع بربحها في مقابلة ما فوته الغاصب من منافع عبده فإذا رد عبده له رد قيمته عليه .
وإذا بان واتضح مما قررته هنا ومما قدمته في تفسير الآية بقوله واجب الخ أن كلا من حكم داود وسليمان صلى الله عليهما وسلم في شريعتنا من قال به وبنظيره بان أن إشكال العز لا يتوجه أصلا وأنه مبني على هاتين المقدمتين وقد بان اندفاعهما فيندفع الإشكال المبني هليهما ، وقوله : فإن كان حكم سليمان الخ في تعبيره بالأفضلية هنا التي لها دخل في توجه الإشكال لى ما زعمه مما يأتي نظر ظاهر ، وإنما حق العبارة فإن كان حكم سليمان هو الحق الناسخ بناء على أنه نص أو هو اجتهاد فلما لم يشرع لنا ؟ ويجاب بمنع هذه الملازمة إذ لا يلزم من كون حكم سليمان هو الناسخ أو هو الحق بالإعتبارين المذكورين أن يشرع لنا لما هو مقرر أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إنما اتفقت مللهم على أصول التوحيد ومتعلقاتها ، وأما الأحكام فإنهم مختلفون فيها لأنها مرتبطة ومنوطة بالمصالح والمفاسد ، وهي مختلفة باختلاف الأشخاص والأزمان والأمكنة ، بل وبأحوال المرسل فإن كل رسول يظهر في شريعته في الغالب ما يناسب أحواله وخصائصه التي اختصه الله تعالى بها ، ألا ترى أن شريعة موسى يغلب عليها الجلال حتى كانت التوبة بقتل النفسوتطهير النجاسة بقطع محلها والقود فيها متحتم لا يجوز أخذ الدية عنه ، وقتال العدو فيها واجب لا مندوحة عنه ، وذلك لأن الجلال كان يغلب على موسى عليه السلام ؛ ألا ترى بأخذه رأس أخيه يجره إليه ، وصضربه للحجر الفار بثوبه ، ودعائه على فرعون وأعوانه بالطمس على أموالهم والإشداد على قلوبهم ، وغير ذلك مما هو معلوم من أحواله وأحوال شريعته التي نص عليها الله في كتابه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وشريعة عيسى صلى الله عليه وسلم يغلب عليها الجمال إذ لم يشرع فيها قصاص ولا قتال ولا نحوهما من التشديد الذي شرع لغيره ، وقوله : فلم أثنى على سليمان بأنه المفهم دونه فيه نظر أيضا . وحق العبارة : فلم خصص سليمان بأنه المفهم دونه وأما الثناء والمدح فوقع لهما معا في قوله {وكلا آتينا حكما وعلما} على أنه مر أن تخصيص سليمان بذكر التفهيم إنما هو لعارض هو دفع ما يتوهم في حكمه لصغره ، وما خرج لنحو ذلك فلا مفهوم له فليس في الآ؟ية ما يدل على إنتفاء التفهيم عن داود بل فيها ما يدل عليه لثبوت ذلك ، وهو قوله تعالى {وكلا آتينا حكما وعلما وفقنا الله لتفهيم معنى كتابه ولإدراك خطأ لبقولين من صوابه ودام علينا رضاه في هذه الدار وإلى أن نلقاه بمنه وكرمه آمين}(1/619)
<268>
وسئل بلغه الله من الخير أضعاف أمله : عما سأل عنه العز في أماليه أيضا من قوله تعالى {فلا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم} {فيأتيهم بغتة} فقال : فيه إشكال لأنهم إذا رأوه فكيف يأتيهم بغتة بعد ذلك لأن الفاء للتعقيب انتهى ؟ .
فأجاب حماه الله وإيانا من العذاب بقوله : إشكال العز مبني على ما أفهمه كلامه المذكور وأن {فيأتيهم} عطقف على {يروا} وليس الأمر كذلك وإنما هو معطوف على قوله {سلكناه} وقوله {لا يؤمنون} الخ بيان وتأكيد لما دل عليه قوله {سلكناه} لأن إدخال الكفر في قلوبهم معناه أنها (1) .
__________
(1) هكذا بياض بالأصل ، ومن تأمل صنيع المؤلف فيما كتبه سابقا من الأجوبة عما أداه العز من الأسئلة وإتيانه في ذلك بغرائب النكات وبديع العبارات مما لم يسبق إليه علم أنه ما ترك ذلك البياض إلا حرصا على الإتيان بمثل ذلك هنا فعاقه عن ذلك بعض العوائق ، ولا بأس بذكر بعض ما قيل في الآية تتميما للنفع فنقول :
الأنسب في دفع الإيراد أن تكون الفاء عاطفة مدخولها على يرو ، ويدفع عدم التعقيب بما ذكره الشهاب الخفاجي في حاشية البيضاوي نقلا عن الكشاف : وهو أن الفاء كما تكون للترتيب والتعقيب الحصولي كذلك تكون للتفاوت الرتبي كأنه قيل : حتى تكون رؤيتهم للعذاب ، فما هو أشد منها وهو مفاجأته فما هو أشد منها وهو سؤالهم النظرة كقولك : من أساء مقته الصالحون فمقته الله ، وترى ثم تقع في هذا الأسلوب أي التراخي الرتبي كما صرح به بعض شراح الكشاف ، ولا يخفى أن تفاوت الرتبة من التراخي ، ولا دلالة للفاء عليه فكأن وجهه أنه من جعل ما هو مقدم معقبا لا في كل معطوف بالفاء إذ الرؤية بعد البغت ، فالحاصل هنا على هذا أن البغت من غير شعور لا يصح تعقبه للرؤية اهـ مع بعض تغيير وزيادة . ثم إن الضمير في " سلكناه " لهم في مرجعه احتمالان إما أن يكون عائدا على عدم الإيمان المدلول عليه بي (ما كانوا به مؤمنين ) وعلى هذا يكون قوله ( لا يؤمنون ) بيانا وتأكيدا كما ذكره المؤلف رحمه الله ، ويكون فيه حينئذ الدلالة على أن الكفر مخلوق لله لأن السلك معناه الإيجاد على هذا ، وإما أن يكون عائدا على القرآن الدال عليه السياق ، وعليه فيكون قوله ( لا يؤمنون ) تقييدا لإفادة ما هم عليه من العناد ، لأن معنى الآية على هذا : أدخلنا القرآن في قلوبهم وفهمناه لهم مع ما هو عليه في حال كونهم لا يؤمنون به ، وما ذاك إلا عناد ا هـ مصححه .(1/620)
مطلب حديث " كان الله ولم يكن معه شيئ " الحديث الخ
مسألة . وسئل رضي الله عنه وأفاض علينا من مدده : عن قوله صلى الله عليه وسلم " كان الله ولم يكن معه شيئ وكان عرشه على الماء " الحديث ، يدل أنه ما كان مع الله شيئ ، والحال أن عرشه كان معه ؟ .
فأجاب رضي الله عنه : لفظ حديث البخاري " كان الله ولم يكن معه شيئ قبله وكان عرسه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب قي الذكر كل شيئ " وأخرج الترمذي " قلت : يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه ؟ قال كان عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء " قال الترمذي : قال أحمد : يريد بالعماء ليس معه شيئ . قال ابن الأير في جامعه : العماء في اللغة السحاب الرقيق ، وقيل الكثيف وقيل الضباب : ولابد في الحديث من حذف مضاف تقديره أين كان عرش ربنا فحذف كقوله تعالى {هل ينظرون إلى أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} أي أمر الله ، ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى {وكان عرشه على الماء} وحكى عن بعضهم في عمى مقصور وهو كل أمر لا يدركه الفطن . قال الأزهري : قال أبو عبيد : إنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول منهم وإلا فلا ندري كيف كان ذلك العماء . قال الأزهري : فنحن نؤمن به ولا نكيف بصفة . وقال أبو حيان في بحره عند تفسيره قوله تعالى {وكان عرشه علىالماء} والظاهر أن قوله {وكان عرشه علىالماء} تقديره قبل خلق السموات والأ؟رض ، وفي هذا دليل على أن الماء والعرش كانا مخلوقين قبل . قال كعب : خلق الله ياقوتة خضراء فنظر(1/621)
<269>إليها بالهيبة فصارت ماء ثم خلق الريح فجعل الماء على منتهاه ثم وضع العرش على الماء " وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له على أي شيئ كان الماء ؟ قال : على متن الريح . قال اليضاوي : وكان عرشه على الماء قبل خلقهما : أي السماء والأرض ، لم يكن حائل بينهاإلا أنه كان موضوعا على متن الماء ، واستدل به على إمكان الخلاء ، وأن الماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم ، وقيل كان الماء على متن الريح والله أعلم .
إذا تقرر ذلك فلفظ الحديث " ولم يكن قبله شيئ " خلافا لما في السؤال ، على أنه لو فرض أن ذلك ورد أيضا لم يكن فيه إشكال مع قوله قوله تعالى {وكان عرشه علىالماء} لأن معناه ولم يكن معه شيئ أي في أزله ، وأما بعد أن أوجد بعض خلقه فكان العرش حينئذ على الماء . فقول السائل : والحال أن عرشه كان معه إن أراد أنه كان معه في الأزل فباطل وإن أراد أنه كان معه فيما لايزال فصحيح ، فحينئذ هو لا ينافي الحديث الذي ذكره كما لا يخفى ذلك عن ذيس بصيرة ، واله أعهلم بالصواب . (1/622)
مطلب حديث " أنا مدينة العلم و أبو بكر أساسها " الخ
وسئل رضي الله عنه : أن الني صلى الله عليه وسلم قال " أنا مدينة العلم و أبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها " هل الحديث صحيح أم لا ؟ .
فأجاب بقوله الحديث رواه صاحب الفردوس وتبعه ابنه بالإسناد عن ابن مسعودرضي الله عنه مرفوغعا وهو حديث ضعيف كحديث " أنا مدينة العلم وعلي بابها ومعاوية حلقها " فهو ضعيف أيضا ، وأما حديث " أنا مدينة العلم وهلي بابها " فهو حديث حسن بل قال الحاكم صحيح وقول البخاري ليس له وجه صحيح والترمذي منكر وابن عين كذب معترض وإن ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وتبعه الذهبي وغيره على ذلك وليس مقتضيا أفضليه علي على أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، فقد صح عنه أي عن علي نفسه : خير الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم رجل آخر فقال له ابنه محمد رضي الله عنهما ثم أنت يا أبت قال ما أبوك إلا رجل من المسلمين " ومن ثم أجمع أهل السنة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم على أن أفضل الصحابة على الإطلاق أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وسئل رضي الله عنه : في قول سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فيمن أزال عنه أذى " مسح الله عنك ما تكره " هل لفظ مسح بالخاء المعجمة أو المهملة أوضحوا ذلك أثابكم الله الجنة بمنه ؟ .
فأجاب بقوله : مسح يصح أن يكون بالحاء المهملة والمعجمة ، إذ الأول بمعنى محا أو قطع أو أذهب ، وكل منهما صحيح ، والمتبادر من المسح حقيقته الشائعة وهي تحويل الصورة لأقبح منها ، والحديث في أذكار النووي عن كتاب ابن السني ولفظه " أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه تناول من لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم أذى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح الله عنك يا أبا أيوب ما تكره " وفي رواية " أنه أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال صلى الله عليه وسلم : لا يكن بك الوء يا أبا أيوب مرتين " .
(1/623)
<270>
(1/624)
مطلب اعن يزيد ابن معاوية عند الغزالي لا يجوز
وسئل رضي الله عنه ونفعنا به : عما في ( الإحياء ) من حديث " لعن المؤمن كقتله " قال في الصحيح متفق عليه فما معنى هذا الحديث وكيف لعن المؤمن المذكور ؟ .
فأجاب بقوله : إن معنى لعن المؤمن كقتله أي مثله في الحرمة الشديدة لأن لعن المسلم حرام بل لعن الكافر الغير الحربي كذلك بل لعن الحيوان كذلك ، وسبب ذلك أن اللعن عبارة عن الطرد واإبعاد عن الله وذلك غير جائز إلا على من اتصف بصفة تبعده عن الله تعالى وهو الكفر والبدعة والفسق ، فيجوز لعن المتصف بواحدة من هذه باعتبار من الوصف الأعم نحو لعنة الله على الكافرين والمبتدعة والفسقة أو الوصف الأخص نحو لعن الله اليهود والخوارج والقدرية والروافض والزنادقة والظلمة وآكل الربا ، وأما لعن شخص بعينه فإن كان حيا لم يجز مطلقا إلا أن علم أنه يموت على الكفر كإبليس وذلك كمن لم يعلم موته على الكفر وإن كان كافر في الحال ، لأنه ربما يسام فيموت مقربا من الله تعالى فكيف يحكم لبأنه ملعونا مبعدا مطرودا فلا نظر للكفر في الحال ، نعم يجوز أن يقال لعنه الله إن مات كافرا وكذا يقال في فاسق ومبتدع معين إن مات ولم يتب ، ومن ثم لم يجز كما قاله الغزالي وغيره لعن يزيد لأنه قاتل الحسين أو أمر بقتله خلافا لمن تسامح في ذلك ورآه جائزا ممن لم يعتد به ولا بقوله في الأحكام الشرعية وذلك لأنه لم يثبت أنه قتله ولا أمر بقتله ولا رضى إلا ما حكي في بعض التواريخ مما لا تقوم بمثله حجة ، نعم يجوز أن يقال قاتل الحسين أو الآمر بقتله أو الراصي به لعنه الله إن مات قبل التوبة لاحتمال موته بعدها كما وقع لوحشي قاتل سيدنا حمزة رضي الله عنه .
فإن قيل : قتله كبيرة بل أكبر الكبائر بعد الكفر واللعن ليس كذلك فكيف يقال إنه مثله .
قلت : أما كون اللعن ليس كذلك على الإطلاق فغير صحيح ، بل الذي عليه المحققون أن اللعن كبيرة أخذا من الحديث وغيره وليس هو أكبر الكبائر ، وحينئذ فالتشبيه إنما هو في أصل التحريم أو كون كل منهما كيرة وليس بلازم في المشبه أن يعطى حكم المشبه به من كل والله أعلم . (1/625)
مطلب في حديث " أول من يسأل يوم القيامة ثلاثة " الخ
وسئل نفع الله به وبعلومه : عما في ( الإحياء ) من الحديث وهو قال صلى الله عليه وسلم " أول من يسأل يوم القيامة ثلاثة: رجل آتاه الله العلم فيقول الله عز وجل ماذا صنعت فيما علمت ؟ قال أي رب كنت أقوم آناء الليل وأطراف النهار ، فيقول الله عز وجل كذبت وتقول الملائكة كذبت بل أردت أن يقال فلان عالم ألا فقد قيل ذلك . ورجل آتاه الله مالا فيقول تعالى قد أنعمت عليك فماذا صنعت ، فيقول يا رب كنت أنفقه وأتصدق به آناء الليل وأطراف النهار ، فيقول الله تعالى كذبت وتقول الملائكة كذبت بل أردت أن يقال فلان سخي ألا فقد قيل . قال أبو هريرة رضي الله عنه : فقد خبط على فخذي وقال ياأبا هريرة أولئك أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة " انتهى فهل هو صحيح أو لا ؟ .
فأجاب رحمه الله تعالى : بأن الحديث المذكور فيها رواه مسلم لكن لم يذكر الصنف الثالث وهو مذكور في حديث ( الإحياء ) وإنما وقع الخلل فيه من كاتب السؤال ، والله أعلم .
(1/626)
<271>
(1/627)
مطلب حديث " الفقراء سراج الأغنياء " ليس بموضوع
وسئل نفع الله به : عن قوله صلى الله عليه وسلم " الفقراء سراج الأغنياء في الدنيا والآخرة ولولا الفقراء لهلك الأغنياء ، ودولة الأغنياء لا بقاء لها ودولة الفقراء في اآخرة لا فناء لها " وقوله صلى الله عليه وسلم " لعن الله من أكرم غنيا لأجل غناه وأهان الفقير لفقره ، فمن فعل ذلك سمي في السموات عدو الله وعدو الأنبياء ولا يستجاب له دعوة ولا تقضى له حاجة " قاله الطوسي في حديث الأربعين ، فهل هذا الحديث صحيح أم حسن أم كيف حاله ؟ .
فأجاب : بأن حديث " الفقراء سراج الأغنياء " لم أره في غير ا؟لأربعين المذكورة في السؤال ولمصنفها من الجلالة ما يمنعه أن يضع فيها حديث موضوعا مع علمه بوضعه ، ولفظ الحديث الذي فيها " سراج الأغنياء في الدنيا والآخرة الفقراء ولولا الفقراء لهلك الأغنياء ، مثل الفقير كمثل العصا في يد الأعمى ، دولة الأغنياء لا بقاء لها ودولة الفقراء يوم القيامة " الخ . وله شاهد رواه أبو نعيم بسند ضعيف " اتخذوا عند الفقراء أيادي فإن لهم دولة يوم القيامة فإذا كان يوم القيامة ناد مناد سيروا إلى الفقراء فاعتذروا إليهم كما يعتذر أحدكم إلى أخيه في الدنيا " وحديث لعن الله من أكرم الغني " الخ هو في الأأربعين المذكورة أيضا لكن بلفظ " لعن الله من أكرم الغني لأجل غناه وأهان الفقير لأجل فقره ، وسمي في السموات والأرض عدو الله وعدو الأنبياء ، ولا تستجاب له دعوة ولا تقضى له حاجة " انتهى وذكره أيضا شيخ مشايخ الإسلام الحافظ أبو الفضل أحمد ابن حجر العسقلاني في ( دشديد النفوس لمسند الفردوس ) ولفظه " لعن الله فقيرا تواضع لغني من أجل ماله " الحديث أسنده عن أبي ذر انتهى . وبقية الحديث " من فعل ذلك منهم فقد ذهب ثلتا دينه وأخهرجه الديلمي أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو في ترجمة وهب ابن منبه من الحلية لأبي نعيم مرفوعا " من تضعضع لذي السلطان أراد دنياه أعرض الله عنه " وأخرج عنه أيضا ورفعه " من تضرع لصاحب دنيا وضع الله بذلك نص دينه " وكل ذلك ضعيف بل ا هـ لكن يشهد لذلك حديث " من تواضع لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه " رواه البيهقي في الشعب من حديث الحسن بن بشر الأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود رضي الله عنه بقوله " من خضع لغني ووضع له نفسه إعظاما له طمعا فيما قبله ذهب ثلثا مروءته مشطر دينه " ومن حديث سمرة ابن عطية عن ابن زائدة عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا " من أصبح محزونا على الدنيا أصبح ساخطا على ربه ومن أصبح يشكو مصيبة نزلت به فإنه يشكو ربه ، ومن تضعضع لغني يسأل ما في يده أسخط الله عز وجل ، ومن أعطي القرآن فدخل النار فأبعده " وقال ما يرويه عن ثابت عن أنس إلا وهب ابن راشد البصري وكان من الصالحين ، وفي لفظ " فتضعضع لماله وقصد ما عنده أحبط الله عمله " وهما وهيان جدا حتى إن ابن الجوزي ذكرهما في الموضوعات ، فعلم أن هذه الأحاديث ليس فيها شيئ صحيح ولا حسن قيل وإنما لم يحكم على الثلث الثالث وهو القلب لخفائه إذ الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان وتصديق بالقلب ، واله سبحانه وتعالى أعلم . (1/628)
مطلب حديث " من زار قبر والديه أو أحدهما " الخ
وسئل رضي الله عنه : عما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " من زار قبر أبويه أو أحدهما يوم الجمعة غفر له وكتب له براءة " . عن ابن سرين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الرجل ليموت والداه أو أحدهما وهو عاق لهما فيدعو الله عز وجل لهما من بعدها إلا كتبه الله من البارين " هل هو صحيح أم لا ؟ .
(1/629)
<272>
فأجاب رضي الله عنه : بأن الحديثين المذكورين هنا لم أرهما في شيئ من كتب الحديث المعتمدة ، لكن شيئان منهما ورد عند ابن عساكر عن أنس رضي الله عنه وفيه يحيي ابن عليه كذبه ابن معين ولفظه " إن الرجل يموت والداه أو أحدهما وإنه لعاق لهما فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله برا " لكن مما ورد في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " من أصبح مرضيا لوالديه أصبح له بابان مفتوحان إلى الجنة ، ومن أمسى فله مثل ذلك فإن كان واحد فواحد ، قيل يا رسول الله وإن ظلما ؟ قال صلى الله عليه وسلم : وإن ظلما " رواه البيهقي في الشعب من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ولا يصح ، وصح حديث " من أرضى والديه فتح له باب أوسط أبواب الجنة ، ومع ذلك الباب كذا وكذا " ومعنى كونه أوسط أبواب الجنة أنه خيار الأسباب الموصلة إليها. وروى ابن ماجة " إن الرجل ترفع درجته في الجنة فيقول أنى هذا ؟ فيقال له استغفار ولدك لك " وروى الطبراني في الأوسط بسند ضعيف " ما على أحد عنده دار أن يتصدق بها لوالديه " وصح عن مالك ابن ربيعة " بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من بني سلمة فقال يا رسول الله هل بقي على من بر أبوي شيئ أبرهما به بعد وفاتهما ؟ قال نعم الصلاة عليهما والإستغفار لهما وإنفاذ عهدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما " والمراد بالصلاة عليهما الدعاء لهما ، ومعنى الحديث الثاني وما في معناه صحيح وإن كان لفظه لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم لأن العقوق فيه حق لله وهو يزول بالتوبة بشرطها وفيه حق لهما ولا يبعد زواله بالدعاء لهما عملا {إن الحسنات يذهبن السيئات} وعموم " وأتبع السيئة الحسنة تمحها " والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/630)
مطلب هل ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن المنبر لما حن الجذع واحتضنه
وسئل رضي الله عنه وحشرنا في زمرته : لما حن الجذع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هل ورد أنه نزل صلى الله عليه وسلم عن المنبر واحتضنه ؟ .
فأجاب أعاد الله علينا من بركاته : نعم ورد بل صح ، ففي رواية البخاري عن جابر " أنه لما صاح نزل صلى الله عليه وسلم وضمه إليه فجعل يئن أنين الصبي الذي يسكت " وفي رواية لأبي يعلى الموصلي " أنه صلى الله عليه وسلم لما قغعد على المنبر خار الجذع خوار الثور حتى إرتج المسجد لخواره حزنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) فقال والذي نفس محمد بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا حتى تقوم الساعة حزنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به صلى الله عليه وسلم فدفن " . وروى الترمذي وقال صحيح غريب وكذا رواه ابن ماجة والإمام أحمد ابن حنبل من طريق الحسن وفيه " فأخبر أنس أنه سمع الخشبة تحن حنين الولد . قال : فما زالت تحن حتى نزا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر فمشى إليها فاحتضنها فسكنت " .
( فائدة ) في حديث بريدة الذي أخرجه الدارمي أنه صلى الله عليه وسلم قال " إن أردت أن أردك إلى الحائط الذي كنت فيه تنبت لك عروقك وتكمل خلقتك ويجدد لك خوص وثمرة ، وإن شئت أغرسك في الجنة فيأكل أوليلء الله من ثمرك ؟ ثم أصغى له النبي صلى الله عليه وسلم يستمع ما يقول ، فقال بل تغرسني في الجنة
__________
(1) يوجد في بعض النسخ بياض بهذا المحل(1/631)
<273>فيأكل مني أولياء الله وأكون في مكان لا أبلي فيه ، فسمعه من يليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد فعلت ، ثم قال : اختار دار البقاء على دار الفناء " والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب . (1/632)
مطلب في حديث " أي البقاع خير " الخ
وسئل رضي الله عنه : عن الحديث المروي عن أبي أمامة رضي الله عنه " أن حبرا من اليهود سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي البقاع خير ؟ فسكت عنه وقال : اسكت حتى يأتي جبريل ، فسكت وجاء جبريل فسأله فقال ما المسئول عنها بأعلم من السائل ولكن أسأل ربي تبارك وتعالى ، ثم قال جبريل : يا محمد إني دنوت من الله دنوا ما دنوته منه قط . قال : وكيف كان يا جبريل ؟ قال : كان بيني وبينه سبعون ألف حجاب من نور ، فقال : شر البقاع أسواقها وخير البقاع مساجدها " رواه ابن حبان ، فهل المراد من السبعين أنها باقية أم ارتفعت تلك ؟ .
فأجاب رحمه الله تعالى بقوله : لا يخفى أنم الله منزه عن الجهات والمساحات ، وأن المراد بذكر الحجب في هذا المحل وغيره إنما هو على طريقة الاستعارة والتمثيل ، ثم فحوى لفظ الخبر أن جبريل لما أخبر عن هذا الدنو المخصوص الذي لم يعهده قط أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأله عن حقيقته إما ليزداد يقينه بذلك إن كان عالما به قبله أو ليتجدد عليه علم إن لم يكن الأمر كذلك ، فسأله عن كيفية ذلك الدنو المخصوص بقوله " وكيف كان يا جبريللال فقال جبريل كان بيني وبينه سبعين ألف حجاب من نور " أي كان دنوي هذا الذي لم أعهده أن وصلت إلى محل بيني وبينه هذه الحجب الكثيرة هذ1ا مع هذه الغاية من الدنو فما بالك في غير ذلك .
والحاصل أن ذلك من جبريل إخبار عن بعد المسافة ما بينه وبين الله في هذا القرب فضلا عن أكابر الملائكة وغيرهم ، ولا يتوهم أن المراد الإخبار عن تلك الحجب أنها ارتفعت لإيهامه أنه لم يبق بينه وبين ربه حجاب وهذا لا يقدر مخلوق عليه بل لابد من الحجب الكثيرة ، وإنما تختلف رتب الأ؟كابر بأعدادها كما يدل على ذلك أحاديث وردت عنه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/633)
مطلب حديث " يعذبان وما يعذبان في كبير "
وسئلت : في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال " مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة أو مكة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يعذبان وما يعذبان في كبير ، ثم قال بلى كان أحدهما لا يستبريء من بوله وكان الآخر يمشي بالنميمة ، ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين فوضع على كل قبر منهما كسرة ، فقيل يا رسول الله لما فعلت هذا ؟ فقال : لعل الله يخفف عنها ما لم ييبسا أو إلى أن ييبسا " ما الحكمة في ذلك وتخصيص الجريدة ، وهل لكل أحد أن يفعل ذلك على أي قبر شاء ، وهل المعذبان مسلمان أو كافران .
فأجبت بقولي : جواب هذا السؤال بأقسامه يعرف من الكلام على بعض ألفاظ الحديث فنتكلم على مكا تيسر منه زيادة في الفائدجة فنقول " " بلى " فيه إيجاب النفي أي بلى يعذبان في كبير والجمع بينهما باعتبارين أي ليس بكبير عندكم ولكنه كبير عند الله كما في {وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم} أو المراد بقوله " وما يعذبان(1/634)
<274>في كبير " أي أمر كان يكبر ويشق عليهما الاحتراز منه إذ لا مشقة في التنزه عن البول والنميمة ، وليس المراد أن ذلك غير كبير في أمر الدين بل هما كبيرتان لأن عدم التنزه من البول يلزم معه بطلان الصلاة وتركها كبيرة ، والمشي بالنميمة من أفبح القبائح والكبائر لاسيما مع قوله " كان "وهي تشعر بكثرة ذلك منهما ، وليست الكبيرة منحصرة فيما فيه حد أو وعيد شديد ، بل الأظهر في تعريفها أنها كل جريمة تؤذن بقلة إكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة ، ولا شك أن كلا من عدم التنزه من البول والمشي بالنميمة يؤذن بذلك ، وضمير ييبسا للمكسورتين . قال العلماء : هو محمول على أنه سأل الشفاعة لهما فأجيبت شفاعته بأن يخفف عنهما إلى أن ييبسا ، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو لهما تلك المدة ، ويحتمل أنهما يسبحان ماداما رطبين وليس لليلبس تسبيح ، وقوله تعالى {وإن من شيئ إلا يسبح بحمده} أي شيئ حي وحياة كل شيئ بحسبه ، فالخشب ما لم ييبس والحجر ما لم يقطع . والجمهور أنه على عمومه إما حقيقة وهو قول المحققين إذ العقل لا يحيله أو بلسان الحال باعتبار دلالته على الصانع وأنه منزه عن كل نقص وعن كل وصف غير بالغ في الكمال نهايته . وقال الخطابي : لعل التخفيف للتبرك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه ، وكأنه جعل حده دوام النداوة لأن في الرطب معنى ليس في اليابس . قال بعض الشراح : والعامة تفرش الخوص في القبور وليس له وجه ألبتة انتهى . فعلمت الحكمة في كسر الجريدة وعلم أنهما مسلمان إذ الكافر لا يسأل له النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة ، وقد مر عن العهلماء أنه محمول عندهم أنه سأل لهما الشفاعة فأجيب فيلزم كونهما مسلمين وتخصيص الجريد بذلك يظهر أن يقال فيه حكمته لعله المتيسر في المدينة بناء على أن الواقعة كانت بها ، وأما الإشارة إلى ما بين الإنسان والنخلة من تمام القرب والإتحاد كما يشهد له الحديث " أكرموا عماتكم النخل فإنها خلقت من فضلة طينة آدم " ولا شك أن الجنس أرحم لجنسه من غيره ففي الجريدة من يادة الحنو على الآدمي لما بينهما من الإتحاد ما ليس في غيرها ، ويلزم من زيادة حنوها كثرة التسبيح المخفف للعذاب ، أو سؤال التخفيف لأنا إذا جرينا على ما مر عن المحققين أن الجمادات تسبح لله بلسان المقال لا يبعد أنها تسأل الله في رحمة بعض المكلفين ، إذ يلزم من تسبيحها بلسان المقال أن فيها إدراكا ولا يبعد من ذوي الإدراك أن يسأل لقريبه ما ينفعه .
وبما قررته يعلم أنه يسن لكل أحد اتباعا له صلى الله عليه وسلم فإن الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم التأسي إلا ما دل دليل على الخصوصية ولا دليل هنا عليها فندب لنا التأسي به صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وأن لما يفعل العامة من فرش الخوص وهو سعف الجريد في القبور وجها خلافا لما مر عن بعض الشراح وذلك لما تقرر أن بين النخلة بجميع أجزائها والآدمي تمام المناسبة فإذا كان معه من أجزائها شيئ في قبره كثر تسبيحه فيحصل له بذلك أنس وتخفيف ، ثم رأيتني ذكرت في الفتاوى سؤالا وجوابا يعلم منه ما قدمته من ندب التأسي به صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وأن لمكا يفعله العمة مما مر وجها وجيها ، فالسؤال : هل يفرش من الريحان ونحوه على متن القبر أو ما فيه لحد ؟ والجواب : استنط العلماء من غرسه صلى الله عليه وسلم للجريدتين على القبر غرس الأشجار والرياحين ولم يبينوا كيفيته ، لكن في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم غرس في كل قبر واحدة فيشمل القبر كله فيحصل المقصود بأي محل منه ، نعم أخرج عبد الله ابن حميد في مستده أنه صلى الله عليه وسلم وضع الجريدة على القبر عند رأس الميت في القبر ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
(1/635)
<275>
(1/636)
مطلب في قوله صلى الله عليه وسلم " أهريقوا علي من سبع قرب لم تحللن أو كيتهن "
وسئل : في صحيح البخاري كانت عائشة تحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد ما دخل بيته واشتد وجعه أهريقوا علي من سبع قرب لم تحللن أو كيتهن العلي أعهد إلى الناس فأجلس في مخصب لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم طفقنا نصب عليه حتى طفق يشير إلينا أن قد فعلتن ثم خرج إلى الناس " ما الحكمة في ذلك وفي تخصيص السبع ؟ .
فأجاب بقوله : إنما طلب صلى الله عليه وسلم ذلك لأن الماء البارد ينفع بعض الأمراض بتخفيف حرارته وزيادة القوة بسببه وينعش نفس المريض ويزيل ما بها من كرب الحمى والوجع ، وبه يقوى الحار الغريزي فيقهر المرض ويضعف عمله فكان في طلبه صلى الله عليه وسلم لذلك بيان مشروعية التداوي والرد على من زعم أن التداوي ينافي التوكل ، ومن ثم كان أحسن حدود التوكل وأجمعها أنه مباشرة الأسباب مع شهود المسبب ، ولا ينافي ذلك قول أئمتنا ترك التداوي توكلا فضيلة لأنهم لم يقولوا ، أفضل وأيضا فمحله في غير من بعث لتشريع الأحكام ، ومن ثم لما قيل للصديق رضي الله عنه وكرم وجهه ألا ندعو لك الطبيب ؟ فقال الطبيب أمرضني إشلرة إلى ترك التداوي توكلا وتسليما ، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فمبعوث لبيان الأحكام تشريعا بالقول تارة وبالفعل أخرى فلو ترك صلى الله عليه وسلم ذلك لربما توهم أن في التداوي محذورا فعله ليبين به أن لا محذور فيه وأنه لا يخل بالتوكل وأن الإنسان مخير بين فعله وتركه توكلا ، ومن ثم كان في الحيث إشارة إلى أنه ينبغي صب الماء البارد على المريض حيث كان ينفعه بمعرفة نفسه أو بقول طبيب عدل بنية التداوي وقصد الشفاء ، وحكمة السبع أن هذا العدد فيه بركة بالاستقراء وله دخل في إزالة السموم أو تخفيف ألمها ، وهو صلى الله عليه وسلم في ذلك المرض كان تحرك عليه ذلك السم الذي أصابه من أكلة خيبر كما صح عنه صلى الله عليه وسلم الإخبار بذلك ، فأمرهم أن يفرغوا عليه من تلك الفرب السبع ليزول بذلك بعض ذلك السم الذي تحرك عليه ، وأيضا فلهذا العدد شأن عظيم لوقوعه في كثير من \أعداد عظائم المخلوقات كالسموات والأرض وأبواب جهنم وبعض الأمرو الشرعية كما لا يخفى ، وحكمة التقييد بعدم حل الأوكية أنه يكون أبلغ في طهارته وصفائه لعدم مخالطة الأيدي له ، وأيضا فالقرب إنما كانت توكأ وتحل على ذكر الله تعالى فاشترط كونها لم تحل لأنها تجمع بركة الذكر في شدها وحلها . قال المهلب : أمره صلى الله عليه وسلم بالصب عليه على وجه التداوي كما صب صلى الله عليه وسلم وضوءه على المغمى عليه ، وغلط من قال إن الصب كان للاغتسال من إغمائه ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/637)
مطلب في حديث " ارجع فإنك لم تصل "
وسئل نفع الله به : عن الحديث الذي رواه النساءي " أنه دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه وهو لا يشعر ، ثم انصرف فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليه ، فرد عليه السلام ثم قال : ارجع فصل فإنك لم تصل لم أدر قال لا أدري في الثانية أم في الثالثة قال : والذي أنزل عليك الكتاب لقد جهدت فعلمني وأمرني قال صلى الله عليه وسلم : إذا أرلادت الصلاة فتوضأ وأحسن الوضوء ثم قم فاستقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا . فإذا صنعت فقد قضيت وما انتقصت من ذلك فإنما انتقصته من صلاتك " فما الجواب عن اقراره صلى الله عليه وسلم لما رآه يصلي هذه الصلاة ، وفيه أيضا تصحيح لصلاته مع عدم الطمأنينة بدليل قوله " فإنما انتقصته من صلاتك " .
(1/638)
<276>
فأجاب بقوله : إنما أقره صلى الله عليه وسلم لأنه جوز أن يكون ترك بعض الواجبات نسيانا لا جهلا فلما تحقق أنه جهل علمه ، والحديث صريح في وجوب الطمأنينة حيث أمره بالإعادة وعلل ذلك بأنه لم يصل ، فحينئذ معنى قوله صلى الله عليه وسلم " فإنما انتقصته من صلاتك " أنه إذا ترك الطمأنينة ونحوها من الأركان انتقص جزءا منها ومعلوم أن انتقاص الجزء يبطل الكل .
فإن قلت : هذا خلاف الظاهر ؟ .
قلت : ممنوع ، وعلى التنزل فيجب حمله على ما ذكر لتصريحه في الحديث قبله بوجوب الإعادة وتعلياه بما مر ، والله بحانه وتعالى أعلم . (1/639)
مطلب في قول النبي صلى الله عليه وسلم " من كذب علي " الحديث
وسئل عن قوله صلى الله عليه وسلم " من كذب علي " الحديث ، فإذا كان يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي بمعنى الحديث إلا أنه يلحن لأنه لا يحسن العربية فما الحكم ؟ وقولهم في الحديث على شرط البخاري أو على شرط مسلم ما هو الشرط المذكور ؟
فأجاب بقوله : لا يجوز لأحد أن يروي الحديث بالمعنى إلا إن كان عارفا بالألفاظ ومعانيها وما أريد بها فحينئذ ليس لهذا اللاحن أن يروي شيئا من الأحاديث بالمعنى لجهله بألفاظها ومدلولاتها ومتى فعل ذلك كان من جملة الكاذبين على النبي صلى الله عليه وسلم والكذب عليه كبيرة . وقال الشيخ أبو محمد : إنه كفر . وشرط الخاري أن يروي العدل الضابط الحافظ المتقن عن مثله وهكذا إلى الصحابي ومع تحقيق لقيه بشيخه الذي يروي عنه ، وشرد مسلم ما ذكر إلا تحقيق اللقي فإنه لا يشترط بل بإمكانه وأطال في الاستدلال عليه في مقدمة صحيحه ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/640)
مطلب " لو لم يخف الله لم يعصه "
وسئل رحمه الله عن حديث " لو لم يخف الله لم يعصه " هل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ .
فأجا قوله : نقل البهاء السبكي عن بعضهم نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ونسبه ابن مالك في شرح الكافية وغيره إلى عمر رضي الله عنه ز قال الجلال السيوطي : ولم أره في شيئ من كتب الحديث لا مرفوعا ولا موقوفا لا عن عمر ولا عن غيره مع شدة الفحص عليه . قال : ورأيت ذلك في فتوى قدمت لأبي الفضل العراقي ، وكتب عليها أنه وقع في شرح الترمذي لابن عربي وأنه لم يقف على اسناده لكنه في سالم لا صهيب ، ثم رأيت أبي نعيم أخرجه في الحلية في سند فيه ابن لهيعة عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه " إن سالما شديد الحب له لو لم يخف الله عز وجل ما عصيه ط وأخرجه الديلمي أيضا في مسند الفردوس من طريق الحافظ أي بكر ابن مردويه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه " معاذ بن جبل إمام العلماء يوم القيامة لا يحجبه عن ربه إلا المرسلون ، وإن سالما مولى أبي حذيفة شديد الحب لله لو لم يخف الله ما عصاه " .
(1/641)
<277>
(1/642)
مطلب حديث " حب إلي النساء " الخ
وسئل زكى الله أعماله عن حديث ط حبب إلي من دنياكم ثلاث " وما معناه ؟ .
فأجاب قوله : أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس من طريق صحيح ولفظه " حبب إلي النساء والطيب وجعلت قرة عيني الصلاة " وأخرجه الضياء من هذه الطريق أيضا ورواه النسائي عن أنس أيضا بهذا اللفظ من طريق صحيح أيضا على كلام فيه هذا حاصله ، ورواه ابن عدي عن أنس كذلك ، ورواه النسائي عن أنس أيضا بلفظ " حبب إلي من الدنيا النساء والطيب وجعلت قرة عيني قي الصلاة " ورواه أحمد عن أنس بهذا اللفظ ، وأبو عوانة عنه أيضا بلفظ " وجعلت " وأبو يعلى كذلك من طريق وما قبله من طريق آخر ، والطبراني من طريق " إنما حبب إلى من الدنيا الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة ط وقوله عقبه لم يروه عن ثابت إلا سلام مردود بأن غيره رواه عنه أيضا ، والبيهقي عن أنس بلفظ " إنما حبب إلي من دنيكم ثلاث النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة " وبلفظ " من الدنيا " وأخرجه أيضا كذلك ابن أبي شيبة وابن سعد والبزار ، وما أشار إليه ىالعقيلي من أن هذا الحديث ضعيف من جميع طرقه مردود بما مر ، وبقول شيخ الإسلام ابن حجر رواه النسائي واسناده حسن ، وقول الزين العراقي في تخريج الإحياء رواه النسائي والحاكم واسناده جيد وقول الذهبي اسناده قوي ، ورواه أحمد بزيادة لطيفة وهي " أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن " وزاد الديلمي " وحبب إلي النساء والطيب " الحديث ، وعزاها لمسندي الإمام أحمد وأبي يعلى وسنن النسائي ومعجم الطبراني . ورد بأنها ليس في واحد من المذكورات ، وأما زيادة " ثلاث " فهي في الإحياء في موضعين وفي الكشاف في آل عمران : قال الزين العراقي وابن حجر والزركشي وغيرهم : ولم تقع في شيئ من طرقه بل هي مفسدة للمعنى فإن الصلاة ليست من الدنيا ، لكن شرحه الإمام ابن فورك على أنه ورد بلفظ " ثلاث " ووجهه وأطنب فيه ، ووجهه الغزالي أيضا في كتاب ( ذم الدنيا ) بأن الصلاة منها بالنظر إلى اللذة الحاصلة يبها لأن كل ما يدخل في الحس والمشاهدة فهو منها ، ويقرب منه ما وجهه ابن فورك حيث قال : الصلاة طاعة المطيع في الدنيا لربه تعالى فهي منها وقتا ومحلا وليست منها حكما واسما ، والطيب والنساء منها وقتا ومحلا وحكما ووضعا ، ولذلك عبر عن الصلاة بعبارة أخرى أفردها ولم يذ1كرها ثانيا ليدل على أنها مخصوصة بأنها في الدنيا وهي صلة إلى الآخرة ، ثم قال بعد كلام طويل في بيان ذلك : فكل ما في الدنيا محله وفي الآخرة حكمه فهو من الدنيا محلا ومن الآخرة مرادا ومرجعا ومآلا . وفي مسند أحمد عن عائشة رضي الله عنها ط كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه من الدنيا ثلاث الطعام والنساء والطيب " فأصاب ثنتين ولم يصب الطعام ومنه أخذ توجيه الثلاث إن ثبت بأنه اقتصر منها على الخصلتين اللتين أصاب منها دون الثالثة التي لم يكثر منها ويكون قوله ط وجعلت " الخ جملة مستأنفة وليست من الثلاث ، واستأنس بذلك لعبارة الكشاف في قوله تعالى {فيه آيات بينات} والظاهر أن الحصر في الرواية السابقة ليس بشيئ فقد أخرج النسائي عن أنس رضي الله عنه " لم يكن شيئ أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل ، وكان يحب لحم الكتف والقثاء بالرطب " وغير ذلك ، أو أن غيرهما لم تبلغ محبته له كمحبته لهما . وفي بحر الروياني قولان في علة حبه لهن فقيل لزيادة الابتلاء والمشقة حتى لا يلهو بهن عن أداء الرسالة فيكون ذلك أكمثر لمشاقه ، وقيل ليزيل بخلوته بهن ظن أنه ساحر ، وبين القاضي عياض في الشفاء نكتة تخصيصهن وتخصيص الطيب بكلام نفيس فاطلبه منه وكذا ابن القيم في الهدي والطب النبوي .
(1/643)
<278>
(1/644)
مطلب " أربع من سنن المرسلين "
ويؤيد جعل الجماع من سنن المرسلين حديث الترمذي " أربع من سنن المرسلين الحياء والجماع والتعطر والسواك " زاد الطبراني وأبو نعيم " والحلم " زكذلك العقيلي ولفظه " من سنن المرسلين الحياء والحلم والحجامة والسواك والتعطر وكثرة الأزواج " وكذا هو عند الطبراني بزيادة " خمس من سنن المرسلين " وهما ضعيفان ، والمرغبات في النكاح كثيرة شهيرة ، وعدل عن أحببت إلىحبب إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم معصوم لا يبتدأ أمرا من تلقاء نفسه وأنه محفوظ في محبته للنساء معصوم من الخطأ فيه . ولذلك افتتن سليمان عليه الصلاة والسلام في قوله {أحببت حب الخير عن ذكر ربي} ووكل يوسف عليه الصلاة والسلام إلى غختياره وما أحبه لما قال {رب السجن أحب إلي} وعدل عن الدنيا إلى دنياكم ليصون نفسه الشريفة عن إضافتها إلى الدنيا وإضافة الدنيا إليها لأنه كان منوعا من التطلع إلى شيئ منها ، وخص النساء والطيب ؟ أما النساء فليتلقوا أحواله الباطنة وليكثر النسل عند الإقتداء به في ذلك ، وأما الطيب فلأنه من دواعي الجماع بل أقواها ، وأفرد الصلاة بسياق آخر إشارة أنها المحبوب الأعظم وأنها ليست من المحبوبات الدنيوية ، والله سبحانه أعلم . (1/645)
مطلب في حكم قراءة الحديث وسماعه
وسئل نفع الله به : عن الجلوس لسماع الحديث وقراءته هل فيه ثواب أم لا ؟ .
فأجاب بقوله : إن قصد بسماعه الحفظ وتعليم الأحكام أو الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أو اتصال السند ففيه ثواب ، وأما قراءة متون الأحاديث فقال الشيخ أبو اسحق الشيرازي في شرح اللمع : إن قراءة متونها لا يتعلق بها ثواب خاص لجواز قراءتها وروايتها بالمعنى . قال ابن العماد : وهو ظاهر إذ لو تعلق بنفس ألفاظها ثواب خاص لما جاز تغييرها وروايتها بالمعنى لأن ما تعلق به حكم شرعي لا يجوز تغييره بخلاف القرآن فإنه معجز ، وإذا كانت قراءته المجردة لا ثوا فيها لم يكن في استماعه المجرد عما مر ثوا بالأولى ، وأفتى بعضهم بالثواب وهو الأوجه عندي لأن سماعها لا يخلو من فائدة لو لمن يكن إلا عود بركته صلى الله عليه وسلم على القاريء والمستمع ، فلا ينافي ذلك قولهم إن سماع الأذكار مباح لا سنة . (1/646)
مطلب حديث " بعثت أنا والساعة كهاتين "
وسئل رحمه الله : عن حديث " بعثت أنا والساعة كهاتين " هل يدل على علمه ة صلى الله عليه وسلم بالساعة ؟ وهل ينافي ذلك ما قيل في أنه يمكث في الأرض ألف سنة أو يؤيده ؟ .
فأجاب قوله : قال اليهقي في البعث والنشور : هذا لا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم عالم بوقتها وإنما يريد أن تواتر الأنبياء انقطع وأنه آخرهم وهي مع ذلك دانية لأن أشراطها متتابعة وبينها انتهى . وفي التذكرة معناه قرب مجيئها ، وما قيل لم يصح فيه شيئ ، لكن روى اليهقي في الكتاب المذكور عنه صلى الله عليه وسلم " إني لأرجوا أن لن يعجز أمتي عند ربها عز وجل أن يؤخرهم نصف يوم قيل وكم نصف اليوم ، قال صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة " وذكر عن السراج البلقيني أنه روى حديث " أعطي أمتي نصف يوم من أيام الآخرة فإن أصلحت كمل لها ذلك اليوم " وقد أصلحت إن شاء الله تعالى .
(1/647)
<279>
(1/648)
مطلب حديث " علماء أمتي كأنبياء بني اسرائيل "
وسئل نفع الله به عن حديث " علماء أمتي كأنبياء بني اسرائيل " ما وجه التمثيل فيه ؟ .
فأجاب قوله : قال الدميري : هذا الحديث لا يعرف له مخرج لكن في صحيح البخاري " العلماء هم ورثة الأنبياء " وخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم في صحيحيهما ، وفي الفردوس للديلمي " إن لله عز وجل ثلثمائة قلوبهم على قلب آدم ، وله أربعون قلوبهم على قلب موسى ، وله سبع قلوبهم على قلب إبراهيم ، وله خمسة قلوبهم على قلب جبريل ، وله ثلاثة قلوبهم على قلب ميكائيل ، وله واحد قلبه على قلب إسرافيل " ومعنى التنظير أنهم مثلهم في ميراث العلم أو تشريع الأحكام لكن قطع الأنياء بالوحي والعلماء بالاجتهاد . (1/649)
مطلب كانت سبابته صلى الله عليه وسلم أطول من الوسطى الخ
وسئل رضي الله عنه : عما صورته : ذكر الادميري في ( شرح المنهاج ) في الكلام على قوله " ويرسل المسبحة " أن سبابته صلى الله عليه وسلم أطول من الوسطى والوسطى أطول منة البنصر والبنصر أطول من الخنصر وأورد فيه حديثا هل ذكره غيره ؟ .
فأجاب بقوله : ذكره شيخ الإسلام ابن حجر في أسد الغابة في تفسير سورة البقرة . (1/650)
مطلب في حديث " من صلي علي عند قبري " الخ
وسئل رحمه الله تعالى : عن حديث " من صلى علي عند قبري سمعته ، ومن صلى علي بعيدا عن قبري بلغته " ، وما المراد بالعندية للقبر والبعد عنه ؟ .
فأجاب بقوله : الذي يظهر أن المراد بالعندية عند القبر الشريف على ساكنه أفضل الصلاة وأزكى السلام أن يكون في محل قريب منه بحيث يصدق عرفا أنه عنده وبالبعدج عنه ما عدا ذلك وإن كان بمسجده صلى الله عليه وسلم ، ونظير ذلك ما يقع السؤالعنه كثيرا وهو ما المراد بخلف المقام لقولهم يسن ركعتا الطواف خلف المقام ، فالذي يظهر أن المراد بخلف المقام أن يكون بمحل بحيث يصدق عليه عرفا أنه خلفه وإن كان بينه وبينه بعد ما .
وسئل رضي الله عنه : من روى حديث ط من عطس أو تجشأ فقال الحمد لله على كل من الأحوال رفع الله عنه سبعين داء أهونها الجذام " ؟ .
فأجاب بقوله : رواه الخطيب في ترجمة الحسنبن جعفر الواعظ .
وسئل رضي الله عنه : من روى قوله صلى الله عليه وسلم " من أعرض عن صاحب بدعة بغضا له في الله ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا ، ومن انتهر صاحب بدعة أمنه الله يوم الفزع الأكبر ، ومن أهان صاحب بدعة رفعه الله في الجنة مائة درجة ، ومن سلم على صاحب بدعة أو لقيه بالبشر أو استقبله بما يسره فقد استخف بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم " وقوله " اللهم لا تطع فينا تاجرنا ولا مسافرنا فإن تاجرنا يحب الغلاء ومسافرنا يكره المطر " وقوله صلى الله عليه وسلم " من دخل على أخيه المسلم فأطعمه من طعامه فليأكل ولا يسأل عنه ، وإن سقاه من شرابه فليشرب ولا يسأل عنه " ؟ .
(1/651)
<280>
فأجاب بقوله : روى الثلاثة الخطيب في تاريخه ، وروي عن محمد الدينوري ما قجد ينافي الآخر وهو أنه " أنه قدم له طعام معتبر فقال لمن قدمه له من أين لك هذا ؟ فقال من حخلال لا من ظلم ولا من غصب . قال : ففيم تتجر ؟ فخرج عنه فقال : هذا جمع من غم المسلمين " وأجاب بعضهم بأن الحديث محمول على من لم يتسرب والحكاية محمولة ما إذا استراب وهو ظاهر . (1/652)
مطلب هل التكلم في حضرة الأصم بما لا يسمعه ولا يفهمه كتناجي اثنين الخ
وسئل نفع الله به : هل التكلم في حضرة الأصم بما لا يسمعه ولا يفهمه كتناجي اثنين دون ثالث الوارد فيه صلى الله عليه وسلم لا يتناجى اثنان دون الثالث أو يفرق . فأحاب بقوله : علة النهي الدال على الحرمة تناجي اثنين دون ثالث المصرح به في كلام أئمتنا خشية إخافته وإيذائه وإن كانا صديقين له كما اقتضاه إطلاقهم ، وكأنهم نظروا في ذلك إلى المظنة وإن قطع بانتفائها في بعض الصور كالمشقة في السفر ، وإذا كانت هذه هي العلة لا يبعد أن يقال إن التكلم في حضرة الأصم كالتناجي لأن الخشية المذكورة موجودة فالمظنة موجودة ، وكذا يقال في المتكلمين بلسان بحضرة من لا يعرفه فإنه كالتناجي سواء بسواء فليحرم مثله . فإن قلت : يمكن الفرق بين هذين والتناجي بأن المتكلمين فيه يمكنهما تفهيم الحاضر بخلافه في تينيك الصورتين ، أما الأخيرة فواضح وأما التي قبلها أعني صورة الأصم فيشق عليهما ذلك ؟ .
قلت : هو وإن أمكن بذلك إلا أن الجاري على إطلاقهم أنه لا نظر لذلك لما تقرر أن المظنة موجودة كما لم ينظروا ، ثم إلى التناجي بحضرة من يمكنه مغادرة المجلس ولم يلزموه به ، بل حرموا عليهما مع ذلك التناجي بحضرته فكذا هنا فلا نظر إلى إمكان تفهيمه وعدمه . ويوجه بأن التكلم يمكنه الذهاب عنه من غير إخافة ولا فعل ما يكون مظنة لها ، ومن ثم لو فرض أنه متعد في الجلوس عنده اتجه أنه لا حرمة عليهم لتعديه بخلاف ما لو لم يتعد كأن كان المحل مباحا وجلس عندهم فيلزمهم إما السكوت أو القيام من عنده لأن دفع المفاسد أولى من جلب المصالح ، والظاهر أن محل حرمة التناجي وما ألحق به حيث لم يعلم أو يظن رضاء المتكلم بحضرته وإلا فلا تحريم لانتفاء المظنة حينئذ . (1/653)
مطلب في أن البدعة الشرعية لا تكون إلا ضلالة بخلاف اللغوية
وسئل نفع الله به بما لفظه : من روى حديث قوله صلى الله عليه وسلم " من أعرض عن صاحب بدعة بغضا له في الله ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا ، ومن انتهر صاحب بدعة أمنه الله يوم الفزع الأكبر ، ومن أهان صاحب بدعة رفعه الله في الجنة مائة درجة ، ومن سلم على صاحب بدعة أو لقيه بالبشر أو استقبله بما يسره فقد استخف بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم " وما المراد بأصحاب البدع وهل منهم من يخبر بما اقتضاه النجوم ؟ .
فأجاب رحمه الله بقوله : رواه الخطيب في تاريخ بغداد ، وفي الحديث الصحيح " شر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة " والمراد بأصحاب البدع فيه من كان على خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة ، والمراد بهم أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري وأبي منصور المتريدي إمامي أهل السنة ، ويدخل في المبتدعة كل من أحدث في الإسلام حدثا لم يشهد الشرع بحسنة كالمكوس والمظالم ، نعم إن كان في تليين القول للظالم إنقاذ مظلوم منه(1/654)
<281>
أو حمله على خير أو معروف فلابأس به قال تعالى {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}ومن ثم حكي عن بعض الأكابر أنه كان يقوم لذمي ويعتذر أنه كان واسطة بينه وبين الخليفة ويستدل بقوله تعالى {لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم}وفي الخبر " منكان آمرا بمعروف فليكن أمره ذلك بمعروف " وهذا هو سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كام يلين القول لمن يرجو إسلامه كثمامة ابن أثال وغيره لأنه أرجى للهداية ، وفسر بعضهم البدعة بما يعم جميع ما قدمنا وغيره فقال : هي ما لم يقم دليل شرعي على أنه واجب أو مستحب سواء فعل في عهده صلى الله عليه وسلم أو لم يفعل كإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، وقتال الترك لما كلن مفعولا بأمره لم يكن بدعة وإن لم يفعل في عهده ، وكذا جمع القرآن في المصاحف والاجتماع على قيام شهر رمضان وأمثال ذلك مما ثبت وجوبه أو استحبابه بدليل شرعي ، وقول عمر رضي الله عنه في التراويح نعمت العة هي أراد البدعة اللغوية وهو ما فعل على غير مثال كما قال تعالى {قل ما كنت بدعا من الرسل} وليست بدعة شرعا فإن البدعة الشرعية ضلالة كما قال صلى الله عليه وسلم . قال : ومن العلماء من قسمها إلى حسن وغير حسن فإنما قسم البدعة اللغوية ومن قال " كل بدعة ضلالة " فمعناه البدعة الشرعية ألا ترى الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان أنكروا فيضة غير الصلولت الخمس كالعيدين وإن لم يكن فيه نهي ، وكرهوا استلام الركنين الشاميين والصلاة عقب السعي بين الصفا والمروة قياسا على الطواف وكذا ما تركه صلى الله عليه وسلم مع قيام المقتضى فيكون فيكون تركه سنة وفعله بدعة مذمومة ، وخرج بقولنا مع قيام المقتضي في حياته تركه إخراج اليهود من جزيرة العرب وجمع المصحف ، وما تركه لوجود المانع كالاجتماع للتراويح فإن المقتضي التام يدخل فيه عدم المانع ، وذكر ابن الحاج المالكي فيمن قال : النجوم تدل على كذا لكن بفعل الله يجري في خلقه أنه بدعة من القول منهي عنها فيؤدب ولا يكفر إلا إن جعل للنجم تأثيرا فيقتل وظاهر كلام المازري الجواز إذا أسند ذلك لعادة أجراها الله تعالى ، وذكر مالك رضي الله عنه حديثا مع حديث " أصبح من عبادي مؤمنا بي " الحديث . وجعل الأول دالا على الجواز إذا نسب ذلك لعادة جرت ، والثاني يدل على الحرمة أو الكفر إذا نسبه للأنواء ، وبه صرح الباجي فقال : نسبة ذلك للمطر إما مع اعتقاد أنه فاعل أو دليل والأول كفر قال : وبعض الجهال يقول : هذا من الإخبار بمغيب لأنه إنما أخبر بما دلت عليه النجوم ؛ لأنه ما من شيء إلا والنوم دالة عليه وهو باطل ؛ لأنه مما استأثر الله بعلمه فلا دليل عليه ولو قال : إن العادة نزول المطر عند نوء كذا ، والنوء لا تأثير له في نزول المطر فلا يكفر إلا إنه لا يجوز إطلاق هذا اللفظ بوجه ، وإن لم يعتقده لورود الشرع بالمنع منه لما فيه من إيهام السامع ، انتهى . وفيما قاله نظر ولم يرد في الشرع ما يمنع منه بهذا المعنى ، بل قد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول : مطرنا بنوء كذا ، فالحق ما قاله غير الباجي ، وهو الذي عليه أئمتنا على أن من قال ذلك معتقدا لتأثير الكوكب وحده أو مع الله تعالى كافر ، وهذا مما لا خلاف فيه ، ومن قاله معتقدا أن الكوكب جعله الله علامة على كذا بحسب ما استقر في العادة فليس بحرام ، وعلى هذا نص الشافعي رضي الله عنه وقال : إذا قال : مطرنا بنوء كذا يريد في وقت كذا فهو كقوله : مطرنا في شهر كذا وهذا لا يكون كفرا من مسلم ولا حراما ، بخلاف قول أهل الشكر لأنهم يعتقدون التأثير له ، وفي سماع ابن القاسم في الرجل ينظر في النجوم فيقول : الشمس تكسف غدا ، والرجل يقدم بعد غد أرى أن يزجر . قال : فإني لا أرى هؤلاء المعالجين الذين يزعمون أنهم يعالجون(1/655)
<282>المجانين بالقرآن قد كذبوا ، وليس كما قالوا ، ولو كان لعلمته الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد صنع له صلى الله عليه وسلم طعاما مسموما فلم يعرفه حتى أخبرته الشاة . (1/656)
مطلب في أن القمر يقطع الفلك في شهر والشمس لا تقطعه إلا في اثنى عشر شهرا وعلى أن من استقل بمعرفة كون الشمس مثلا تكسف غدا يؤدب ويزجر عن ذلك
وقال ابن رشد : ليس قول الرجل : الشمس تكسف غدا بعلم الحساب كقوله فلان يقدم غدا في جميع الوجوه لأن النيرين مسخران يجريان في أفلاكهما من برج إلى آخر على ترتيب وحساب ، وقد لا يبعد فإنه قال تعالى {والقمر قدرناه منازل} إلى قوله {وكل في فلك يسبحون} وقال {والشمس والقمر بحسبان} فالقمر سريع الجري يقطع الفلك في شهر ، ولا تقطعه الشمس إلا في اثنى عشر شهرا .
والحاصل أن دعوى الكسوف ليست من علم الغيب في شيء لأنه يدركه بالحساب فلا ضلال فيه ولا كفر ، لكن يكره الاشتغال به لأنه مما لا يعني ، وفي الخبر به قبل وروده ضرر في الدين لأن الجاهل إذا سمع به ظن أنه من علم الغيب فيزجر عن ذلك فاعله ، ويؤدب عليه لأنه من جملة حبائل الشيطان .
والحاصل أنه تقدم للمازري عن سحنون أنه كان يؤدب عليه ، وعن أبي الطيب أن ذلك جائز لأنه مما يعلم بدقيق الحساب كالمنازل ، وهذا جائز تعلمه وتعليمه إجماعا فكذا الكسوف ، واعترض القول بتأديب قائله بأنا إذا كنا نرى بالعيان صدقق قولهم وإصابتهم في الإخبار به ، ثم رددناه كان ذلك مكابرة للحس ، فإذا رآه العامي ومن لم يعرف أوجد في نفسه ريبة من الشريعة والدين ، فكان من المصلحة والحرص على هذه القاعدة ان يصدقوا في ذلك ولا ينكر عليهم ما يقولون . (1/657)
مطلب في أن بعض المالكية قال يجب قتل المنجم بلا استتابة
واختلفوا في المنجم يقضي بتنجيمه فيقول : إنه يعلم متى يقدم فلان ، وما في الأرحام ، ووقت نزول الأمطار ، وحدوث الفتن والأهواء ، وما يسر الناس من الأخبار وغير ذلك من المغيبات ، فقال بعض المالكية : إنه كافر يجب قتله من غير استتابة لقوله تعالى {ولقد صرفناه بينهم ليذكروا} إلى قوله {إلا كفورا} ولقوله صلى الله عليه وسلم " أصبح من عبادي مؤمنا بي وكافرا بي " الحديث بطوله .
وقال بعضهم : يقتل بعد استتابة فإن تاب وإلا قتل . وروي عن أشهب : وقال بعضهم : يزجر ويؤدب . قال بعض محققيهم : والذي أقول به : إنه ليس باختلاف قول وإنمكا هو اختلاف في الأحكام بحسب الأحوال ، فإن كان المنجم يعتقد في النجوم أنها الفاعلة لذلك كله مستسرا بذلك فحضرته البينة او أقر على نفسه وجب قتله دون استتابة كالزنديق ، وإن كان معلنا غير مسر بظهوره ويحتاج عليه فهو كالمعتد فيستتاب فإن تاب وإلا قتل ، وإن كان مقرا بالله مؤمنا ومقرا بأن النجوم لا تأثير لها في العالم والفاعل هو الله تعالى ، لكنه جعل النجوم دالة ولها أمارة على ما يحدث في العالم فهذا يزجر عن اعتقاده ويؤدب عليه أبدا حتى يكف عنه وعن اعتقاده ويتوب منه فهو بدعة فتسقط أمانته وشهادته على ما لسحنون في نوازله من الشهادات ، ولا يحل لمسلم أن يصدقه فيما يقول ، وكيف يحل له تصديقه مع قوله تعالى {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} وغير ذلك من الآيات الدالة على ان الله تعالى استأثر بعلم الغيب مع قوله صلى الله عليه وسلم(1/658)
<283>" من صدق كاهنا أو عرافا أو منجما فقد كفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم " ويمكن أن يصادف في بعض المرار فيكون من حبائل الشيطان فلا يغتر به أحد كما لا يصدق الذين يعالجون المجانين فيما يزعمون أنهم يعالجونهم به من القرآن فلا يعلم الأمور على تفاصيلها إلا علام الغيوب أو من أطلعه الله من أنبيائه ليكون دليلا على صحة نبوته ، أو أوليائه ليكون دليلا على صحة ولايته .
وحاصل مذهبنا في ذلك أنه متى اعتقد أن لغير الله تأثيرا كفر فيستتاب فإن تاب وإلا قتل سواء أسر ذلك أم أظهره ، وكذا لو اعتقد أنه يعلم الغيب المشار إليه بقوله تعالى {لا يعلمها إلا هو} لأنه مكذبللقرآن فإن خلا عن اعتقاد هذين فلا كفر بل ولا إثم إن قال : علمت كذا بواسطة القربة والعادة والإلهية ونحو ذلك . (1/659)
مطلب في فضل الفقه على غيره
وسئل نفع الله به بما لفظه : الحديث مضلة إلا الفقهاء ، وهل هو حديث وما معناه مع ان معرفة الحديث شرط في مسمى الفقيه ؟ وأيما أعظم قدرا وأجل ذكر الفقهاء أو المحدثون ؟ .
فأجاب بقوله : ليس بحديث وإنما هو من كلام ابن عيينه أو غيره ، ومعناه أن الحديث كالقرآن في أنه قد يكون عام اللفظ خاص المعنى وعكسه ، ومنه ناسخ ومنسوخ ومنه ما لم يصحبه عمل ، ومنه مشكل يقتضي ظاهره التشبيه كحديث " ينزل ربنا " الخ ، ولا يعرف معنى هذه إلا الفقهاء بخلاف من لايعرف إلا مجرد الحديث ، فإنه يضل فيه كما وقع لبعض متقدمي الحديث . بل ومتأخريهم ، كابن تيمية وأتباعه ، وبهذا يعلم فضل الفقهاء المستبطين على المحدثين غير المستنبطين . ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم : " رب مبلغ أوعى من سامع ، ورب حامل فقه ليس بقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " وقوله " بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " فمستنبطوا الفروع هم خيار سلف الأمة وعلماؤهم وعدولهم وأهل الفقه والمعرفة فيهم ، فهم قوم غذوا بالتقوى وربوا بالهدى أفنوا أعمارهم في استباطها وتحقيقها بعد أن ميزوا صحيح الأحاديث من سقيمها وناسخها من منسوخها ، فأوصلوا أصولها ومهدوا فروعها فجزاهم الله عن المسلمين خيرا وأحسن جزاءهم كما جعلهم ورثة أنبيائه وحفاظ شرعه وشهود آلائه ، وألحفنا بهم وجعلنا من تابعيهم بإحسان إنه الكريم الجواد الرحمن . (1/660)
مطلب لا أجهل من صاحب حديث إن لم يتفه فيه
ووقفت امراءة على مجلس فيه يحيى بن معين وزهير بن حرث وخلف بن صالح وجماعة يتذاكرون الحديث فسألتهم : هل تغسل الحائض الميت ؟ فسكتوا ، فأقبل أبو ثور فأمروها أن تسأله فقال : نعم تغسله لحديث عائشة رضي الله عنه " إن حيضك ليس في يدك " وإنها كانت تفرك رأسه صلى الله عليه وسلم وهي حائض فإذا فركت رأس الحي فالميت أولى بذلك قالوا نعم ، حدثنا بذلك فلان عن فلان فقالت لهم : أين كنتم إلى الآن ؟ وكان الأعمش يسأل أبا حنيفه رضي الله عنهما عن المسائل فيجيبه ، فيقول : من أين لك هذا ؟ فيقول : أنت حدثتنا عن النخعي بكذا أو عن الشعبي بكذا فيقول الأعمش عند ذلك ك يا معشر الفقهاء نحن الأطيار وأنتم الصيادون لها ، وعن عطية قال : كنت عند شعبة فقال يا أبا محمد : إذا جائتكم معضلة فمن تسألون عنها ؟ فقلت في نفسي : هذا رجل أعجبته نفصه فقلت له : نتوجه إليك وإلى أصحابك حجتى تفتوا ؟ فما بقيت إلا قيليلا حتى جاءه سائل فقال : يا أبا بسطام : رجل ضرب رجلا على أم رأسه فادعى أنه ذهب بذلك شمه ؟ فجعل يتشاغل عنه يمينا وشمالا(1/661)
<284>فأومت للرجل بأن يلح عليه فالتفت إلي وقال لي : يا أبا محمد ما أشر البغي على أهله والله ما عندي فيه شيء أنت أنت ، فقلت : يستفتيك وأنا أجيبه ، فقال : إني سائلك ؟ فقال : سمعت الأوزاعي والزهري يقولان : يدق الخردل دقا بالغا ويشم فإن عطس فقد كذب وإن لم يعطس قد صدق فقال : جئت بها والله ما يعطس رجل انقطع شمه ، وقال ابن عبد البر : أراد الأعمش الحج فلما بلغ الحيرة قال لعلي بن مشهد : اذهب إلى أبي حتى يكتب لنا المناسك ثم ذكر ابن عبد البر حكايات يطول ذكرها من تلبيس إبليس وغيره فذكر فيه جهل المحدثين معرفة الأحكام وقال ابن وهب : كل صاحب حديث لا يكون له رأس في الفقه لا يفلح أبدا ولولا أن الله تعالى أنقذنا بمالك لضللنا ، وقال بعضهم : لا أجهل من صاحب حديث إن لم يتفه فيه ، وقال مالك رضي الله عنه لابني أخته بكر وإسماعيل : أراكما تحبان الحديث وتطلبانه ؟ قالا : نعم . قال : إن أحببتما أن تنتفعا به وينفع الله بكما فأقلا من الحديث وتفقها ، وأشار رضي الله عنه إلى أنه لا بد من معرفة الحديث ، لكن العمدة إنما هي على التفقه فيه . (1/662)
مطلب في قول البخاري لا يصير الرجل محدثا كاملا في الحديث إلا أن يكتب أربعا من أربع الخ
وفي أشياخ القاضي عياض لما ذكر أبا محمد بن العربي المشهور حكى من حديثه عن عماد بن محمد بن مخلد التميمي قال : لما عزل أبو العباس الهمداني من قضاء الري ورد بخارى لتجديد مودة كانت بينه وبين أيب الفضل القلعي فنزل في جوارنا فحملني إليه معلمي وقال : أسألك ان تحدث هذا الصبي بما سمعتته من مشايخك ؟ قال : ما لي سماع . قال : كيف وأنت فقيه فما هذا ؟ قال : لأني لما بلغت مبلغ الرجال اشتاقت نفسي إلى معرفة الحديث ورواية الأخبار وسماعها فقصدت محمد بن إسماعيل وسألته الإقبال على ذلك فقال : يا بني لا تدخل على أمر حتى تعرف حدوده والوقوف على مقداره ، فقلت له : عرفني يرحمك الله حدود ما تصديت له ، ومقدار ما سلكت إليه وسألتك عنه . فقال لي : اعلم ان الرجل لا يصير محدثا كاملا في الحديث إلا أن يكتب أربعا مع أربع كأربع مثل أربع في أربع عند أربع بأربع على أربع عن أربع لأربع وكل هذه الرباعيات لا تتم إلا بأربع مع أربع فإن تمت له هان عليه أربع وابتلي بأربع فإذا صبر على ذلك أكرمه الله بأربع وأثابه في الآخرة بأربع فقلت له : فسر لي ما ذكر من أحوال هذه الرباعيات من قل صاف منشرح كاف وبيان شاف طالبا لأجر واف ؟ فقال :نعم أما الأربع التي يحتاج إلى كتبها فأخبار النبي صلى الله عليه وسلم وشرائعه ، والصحابة ومقاديرهم ، والتابعين وأحوالهم ، وسائر العلماء وتواريخهم مع أسماء رجالهم وكناهم وأمكنتهم وأزمنتهم كالتحميد مع الخطب والدعاء مع الرسائل والبسملة مع السور والتكيرات مع الصلوات مثل المسندات والمرسلات والموضوعات والمقطوعات في صغره وإدراكه وكهولته وشبابه عند فراغه وعند شغله وعند فقره وعند غناه بالجبال والبحار والبلدان والبراري على الأحجار والأصداف والجلود والأكتاف إلى الوقت الذي يمكنه نقله إلى الأوراق عمن هو فوقه وعمت هو مثله وعمن هو دونه وعن كتاب إليه يتيقن أنه خطه دون غيره لوجه الله تعالى طلبا لمرضاته والعمل بموافق كتاب الله تعالى ونشرها بين طالبها والتأليف في إحياء ذكره بعده ، ثم لا تتم هذه الأشياء إلا بأربع معرفة الكتابة والثقة والضبط والنحو مع أربع هي من محض عطاء الله تعالى القدرة والصحة والحرص والحفظ ، فإذا تمت هذه الأشياء هان عليه أربع الأهل والمال والوطن والولد ، وابتلي أربع شماته الأدعاء وملامة الأصدقاء وطعن الجهلاء وحسد العلماء ، فإذا صبر على هذه المحن الأربع أكرمه الله تعالى بأربع بعز القناعة(1/663)
<285>وتهنئة النفس ولذة العلم وحسن الذكر ، وأثابه في الآخرة بأربع بالشفاعة لمن أراد من أحبابه وبظل العرش يوم ال ظل إلا ظله ، ويسقي من أراد من حوض نبيه وبجوار الرحمن في أعلى عليين في الجنة فقد أخبرتك يا بني بجملة ما كنت سمعته من مشايخي متفرقا في هذا الباب فأقبل الآن على ما قصدتني له أو دع . قال : فهالني قوله فسكت متفكرا وأطرقت نادما ، فلما رأى ذلك مني قال لي : فإذا لم تطق هذه المشاق كلها فعليك بالفقه الذي يمكنك فعله وأنت ببيتك لا تحتاج لبعد الأسفار ووطء الديار وركوب البحار وهو مع ذلك ثمرة الحديث ، وليس ثواب الفقه دون ثواب الحديث في الآخرة ولا فن الفيه بأقل من فن المحدث . فلما سمعت ذلك نقض عزمي في طلب الحديث وأقبلت على دراسة الفقه وتعلمه إلى أن صرت متقدما فيه فلذلك لم يكن عندي ما أمليه على هذا الصبي ، فقال له المعلم : إن هذا الحديث الذي لا يوجد عند غيرك خير للصبي من كلام كثير نجده عند غيرك انتهى .
واستفيد من ذلك مزيد فضل الفقه وأنه ثمرة الحديث وغن كان طلب الحديث أشد وتحصيله أشق ، وحكى الخطيب في تاريخ بغداد أن معتزليا لام محدثا على كثرة كتابته فقال : كم تكتب يذهب بصرك ويحدودب ظهرط ويزداد فقرك ، ثم كتب له بظهر كتابه :
إن التفقه والقراءة والتشاغل بالعلوم *** أصل المذلة والإيذاية والمهانة والهموم
فلما قرأها قال : كذب عدو نفسه بل يرتفع ذكرك وينتشر علمك ويبقى اسمك مع اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، ثم كتب له :
إن التشاغل بالدفاتر والكتابة والدراسة *** أصل التفقه والزهادة والفهامة والرياسة
وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه : من جفظ الفقه عظمت قيمته ، ومن تعلم الحديث قويت حجته ، ومن تعلم الشعر والعربية رق طبعه ، ومن تعلم الحساب جزل رأيه ، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه . (1/664)
مطلب في قوله صلى الله عليه وسلم " من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لا يعلم " لخ
وسئل رضي الله عنه : ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم " من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لا يعلم " فما ذلك العلم وما ذلك الذي يورثه ؟ .
فأجاب بقوله : سئل عن ذلك ابن عبد السلام وأجاب عنه بما ماخصه : إن من عمل بما يعلم من واجب الشرع ومندوبه واجتناب مكروهه ومحرمه أورثه الله من العلم الإلهي ما لم يكن يعلمه قبل لقوله تعالى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} هذا هو الظاهر منه ولا يجوز تخصيصه من ينظر في الوقائع فيما لم يكن عنده إذ لا دليل على هذا التخصيص بل الحديث شامل للفهاء وغيرهم ، وقد ذكر بعض العلماء العارفين الذين عاملهم الله عز وجل بذلك أن لكل طاعة نوعا من العلم يختص بها لا يترتب على غيرها كما أن الثواب كذلك والإلهام من جملة ما عجله الله تعالى من ثواب الأعمال الصالحة فإن الله تعالى يعطي بها في الدنيا ويجازي بها في الأخرى ، فلكل عمل منها إيهام يختص به فأفضله لأفضلها لأنه من جملة ثوابها وكذلك التوفيق للطاعات مرتب على فضائل الأعمال .
وسئل عن ندب " ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد " عند قوله تعالى {فبأي آلا ربكما}(1/665)
<286>{تكذبان} وتكريرها بتكريرها والله رب العالمين آخر تبارك الملك والتكبير في ختم الضحى وما بعدها ما دليله ومن رواه ؟ .
فأجاب بقوله رضي الله عنه : روى الأول عنه صلى الله عليه وسلم الطبراني وفيه " أنه صلى الله عليه وسلم أثنى على الجن إذ قالوا ذلك عند قراءته عليهم سورة الرحمن عند طل {فبأي آلاء ربكما تكذبان} " وروى البقية البيهقي . (1/666)
مطلب في حديث الأسماء الحسنى المشهورة
وسئل رضي الله عنه : عن حديث الأسماء الحسنى المشهور اتفقت عليه الطرق أم اختلفت بألفاظ وأحرف في بعضها أو زيادة عليها .
فأجاب بقوله : ورد المقيت بدل المغيث والمبين بدل المتين والقريب بدل الرقيب والرافع بدل المانع والقائم بدل الدائم وبدل القابض الباسط والشديد بدل الرشيد ، وجاء في روايات " الأعلى المحيط مالك يوم الدين الراشد الغفاطر العادل المنير الرب الفرد الكافي القاهر الصادق الجميل الباري القديم الباقي الوفيالبرهان الوافي القدير الحجافظ المعطي العالم الأبد الوتر ذو القوة الحنان المنان الخلاق العلام " .
وسئل نفع الله به : عما حكى الدميري تخريجه في شرح المنهاج وشرح سنن ابن ماجة عن السنن الصحاح لابن السني ومسند أبي يعلى الموصلي عن ابن عمر رضي الله عنهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة إذا أراد قضاء الحاجة خؤرج إلى المغمس " قال نافع : وهو على ميلين من مكة انتهى . فهل يقتضى هذا ندب الخروج من مكة لمريد قضائها أو لا فيجاب عن الخبر وعليه فما الجواب ؟ وإ ذا قلتم بالندب فهل صرح به أحد من أئمة الشافعية أو غيرهم ؟ وما الذي يقتضيه سياق الدميري له عند قول النهاج ويبعد .
فأجاب بقوله : هذا الحديث إنكما سيق موافقة لحديث أبي داود وغيره " أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يأتي البراز حتى يتغيب فلا يرى " فمن ثم نص الأئمة على الإبعاد عن الناس حتى لا يرى شخص قاضي الحاجة فهذا هو الذي يدل عليه الخبر .
فإن قلت : التغيب حتى لا يرى الشخص يحصل بدون هذه المسافة فما حكمة هذا البعد المفرط ؟ .
قلت : لعله صلى الله عليه وسلم علم انتشار الناس حوالي مكة فلم يتيسر له محل خال غير ذلك ، فعلم أنالخبر لا يدل على ندب خصوصالخروج من مكة على أنه إنما يتوهم لو كان المغمس من الحل ، فإذا كان من الحرم فلا يتوهم ألأصلا إذ لا فرق بين مكة وبقية الحرم في الإحترام . (1/667)
مطلب في حكم الإقامة في دار الحرب
وسئل نفع الله به : عن قوله صلى الله عليه وسلم " أنا بريء من مسلم مقيم بين أظهر المشركين قالوا لما ؟ قال لا تتراءي نارهم " .
فأجاب بقوله : هذا تعليل للبراءة فحذف لام التعليل ووجه المناسبة بين العلة والمعلول أن في الإقامة بينهم تكثير سوادهم ، وأنهم لو قصدهم جيش غزاة ربما منعهم منهم رؤية نيران المسلمين مع نيرانهم فإن العرب كانوا عند تقابل الجيوش يعرفون كثرتها بكثرة النيران كما وقع ذلك في إرسالهم لرؤية جيشه صلى الله(1/668)
<287>عليه وسلم بمر الظهران عند قصد مكة لفتحها ، فلما كان في إقامة المسلمين بين أظهر المشركين هذا المحذور العظيم وهو منع المسلمين من غوهم أو عدم إدخال مرعب عليهم برئ منه صلى الله عليه وسلم لكونه سببا لعدم جهادهم فالنار على حقيقتها في الأمرين وهو الوجه الظاهرالمناسب المنضبط كما علمت .
فإن قلت : قد ينافيه قول الفقهاء تجوز الإقامة بينهم لمن أمن على نفسه .
قلت : لا ينافيه لأنهم شرطوا أمنه على إظهار دينه وإذا أمن ذلك كان في إقامته بينهم مصلحة للمسلمين راجحة على خروجه من بينهم فجوزوا له ذلك لئلا يصير محله لهجرته منه دار حرب بل تجب عليه الإقامة حينئذ .
فإن قلت : التعليل في الحديث بالخشية منهم على دينه أظهر فلم عدل لذلك .
قلت : لأن فيما ذكر في الحديث مضرة المقيم فقط على أن حرمة الإمامة لخشية الفتنة معلوم عند كل أحد فلا يحتاج للتنبيه عليه بخلاف حرمتها لترائي النارين فإن هذا لا يعرفه كل أحد ، فمن ثم نبه صلى الله عليه وسلم جريا على عادته الكريمة من تنبيهه أمته على الأشياء الخفية التي لا يهتدي إليها إلا بنوع توفيق ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/669)
مطلب في قول أحمد في حديث الإستخارة إنه منكر لا يؤثر ضعفا فيه
وسئل رضي الله عنه بما لفظه : نقل شيخ الإسلام الزين العراقي في أحاديث الإحياء عن أحمد رضي الله عنه قال في حديث الاستخارة المشهور : هذا حديث منكر مع أن البخاري رواه عن جابر رضي الله تعالى عنه قال " كان صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة في القرآن يقول إذا هم أحدكم بأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إني استخيرك بعلمك " الحديث فهل قول أحمد المذكور يؤثر ضعفا في الحديث أو لا ؟ .
فأجاب بقوله : لا يؤثر قول أحمد المذكور ضعفا في الحديث لأنه ليس المراد به ظاهر فإن اصطلاح أحمد كما نقله الأئمة عنه أنه يطلق هذا اللفظ على الفرد المطلق وإن كان راويه ثقة ، وقد جاء عن أحمد ذلك قي حديث " الأعمال بالنيات " لكونه فردا مطلقا باعتبار أوله وإن كان متواترا باعتبار آخره ، فقال في رواية محمد ابن إبراهيم التيمي روى حديثا منكرا ووصف محمد مع ذلك بأنه ثقة ، فإذا عرف من اصثطلاح أحمد رضي الله عنه ذلك علم أنه لم يضعف الحخديث بوجه على أن الحاقظ ابن عدي رضي الله عنه أشار إلى أن حديث جابر المذكور ليس فردا مطلقا كيف وقد رواه غير جابر من الصحابة رضي الله عنهم سمى الترمذي منهم اثنين فقال : وفي الباب عن ابن مسعود وأبي أيوب انتهى . زاد غيره عبد الله ابن عناس وعبد الله ابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد رضي الله تعالى عنهم أجمعين لكن مع بعض الزيادة ونقص في ألفاظه ، وذلك يعلمك بأن الحديث ليس فردا مطلقا كيف وقد وافق جابر في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم ستة من أكابر الصحابة رضي الله عنهم .
وسئل رضي الله عنه بما لفظه : ما معنى حديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس بالسجود فأسرع فيهم القتل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بنصف العقل وقال(1/670)
<288>أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله ولم ؟ قال لا ترا آي نارهما " وهل هو حديث صحيح أم لا ؟ .
فأجاب بقوله : الحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي وفبلهم أبو بكر ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة إلى قيس ابن أبي حازم التابعي الكير ، فمنهم من أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم . ومنهم من أسنده عن قيس عن جرير البجلي ، وقال البخاري : المرسل أصح ، ومعنى الحديث كما فسره أهل الغريب أنه يلزم المسلم أن يبعد منزله عن منزل المشركين أي الحربي ، ولا ينل بموضع إذا أوقدت فيه نار تلوح وتظهر النار التي يوقدونها في منزلهم لأن النارين متى ترىيا كان معدودا منهم ، وقد تكرر أن الهجرة من دار الحرب واجبة بشروطها والترائي تفاعل من الرؤيا يقال : تراءى القوم إذا رأى بعضهم بعضا وتراءى لي الشيء إذا ظهر حتى رأيته ، وإسناد الترائي إلى النارين مجاز من قولهم : داري تنظر إلى دار فلان أي تقابهلها ، ويقال : نارهما مختلفان هذه تدعو إلى الله ، وكأن هذه النار تعبد والأخرى تنادي بلسان حالها للترائي وهذه تدعو إلى الشيطان فكيف يجتمعان ، والأصل في تراءيا تتراءيا حذفت إحدى التاءين تخفيفا . (1/671)
مطلب في حديث " إن الله يبغض البليغ من الرجال "
وسئل نفعنا الله به عن حديث " إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : رواه أبو داود والترمذي وحسنه وهو بمعنى الحديث الحسن أيضا " إن الله يبغض الثرثارين والمتشدقين " وفي رواية "إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون" أي المكثرون للكلام مع التشدق فيه وإظهار التفاصح وأنه بليغ لا يصل أحد إليه في ذلك زهوا وعجبا . (1/672)
مطلب هل ورد " لا تعد من لا يعودك "
وسئل نفع الله به : هل ورد " لا تعد من لا يعودك " ؟ .
فأجاب بقوله : لم يرد بهذا اللفظ وإنما هو من كلام ابن وهب ، والوارد بسند ضعيف " من عاد مرضانا عدنا مرضاه " وهو يفهم ما ذكر ، وستئنس له بالحديث بسند ضعيف أيضا " لا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له " ومن ثم قال أحمد رضي الله عنه ورحمه لما قال له ولده : يا أبت إن جارنا مرض فما نعوده يا أبت . فقال : ما عادنا فنعوده .
فإن قلت : قد ينافي ذلك الحديث المرسل " عد من لا يعودك " .
قلت : لا ينافيه لإمكان حمل الأول على التأديب ومن يترك ذلك انتقاصا لك ، والثاني على المقام الأكمل وهو هضم النفس وعدم الالتفات لحظوظها بوجه . (1/673)
مطلب في أنه لا ينبغي تكبير اللقمة من أحد الضيوف أو الشركاء
وسئل نفع الله به : هل يكره القران بين تمرتين مطلقا ، وهل يلحق بالتمر غيره؟ .
فأجاب بقوله : ورد النهي عن القران في التمر وخصه بعض الحفاظ بما إذا كان من أحد الشريكين حيث لم يستأذن صاحبه ، انتهى . وهذا التخصيص يحتاج لدليل إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ،(1/674)
<289>وأيضا فالضيوف ينبغي مراعاة النصفة بينهم وليس منها القران ، قال بعض الأئمة : يحرم على بعضهم تكبير اللقمة ليأكل أكثر منهم ويحرمهم ، لأنهم استحقوا الطعام المحضر إليهم على السواء فلا يجوز تمييز بعضهم عليهم ببعضه من غير رضاهم ، فالوجه أنه لا فرق بين الشركاء والضيوف نعم التقييد بعدم استئذانهم متجه فبإذنهم في القران عن طيب نفس لا حياء تزول الكراهة أو الحرمة ، وألحق بالتمر غيره حتى السمسم وفيه بعد ، والذي يتجه حمله على ما بعد القران فيه مزريا بصاحبه ودالا على تهوره في الأكل وعدم أدبه فيه . (1/675)
مطلب في موت فرعون كافرا
وسئل : هو ورد في موت فرعون كافرا حديث ؟ .
فأجاب : عم ورد فيها أحاديث ، منها حديث عدي والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " خلق الله يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا وخلق فرعون في بطن أمه كافرا " .
وسئل نفع الله به : عن حديث : " أن من الله والمؤمنون مني " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : هو كذب مختلط وإن ذكره الديلمي بلا إسناد .
وسئل نفع الله به : أول ما الله روحي والعالم بأسره من نوري كل شيء يرجع إلي صلة من رواه ؟ صلى الله عليه وسلم
فأجاب بقوله : لا أعلم أحدا رواه كذلك وإنما الذي رواه عبد الرزاق أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله خلق نور محمد قبل الأشياء من نوره " .
وسئل نفع الله به وبعلومه : عن حديث : " من رآني فقد رأى الحق " ما حكمه ؟ .
فأجاب بقوله : هو حديث صحيح ، ومعنى قوله " فقد رأى الحق " أي الرؤيا الحق . (1/676)
مطلب حديث " من عرف نفسه عرف ربه "
وسئل رضي الله عنه : عن حديث " من عرف نفسه عرف ربه " من رواه ؟ .
فأجاب رحمه الله بقوله : لا أصل له ، وإنما يحكى من كلام يحيى بن معاذ الرازي الصوفي ، ومعناه : من عرف نفسه بالعجز والافتقار والتقصير والذلة والانكسار عرف ربه بصفات الجلالة والجمالة على ما ينبغي لهما ، فأدام مراقبته حتى يفتح له باب مشاهدته فيكون من أخصائه الذين أفرغ عليهم سجال معرفته وألبسهم صوافي خلافته ؟ .
وسئل رضي الله عنه عن حديث " المؤمن مرآة المؤمن من رواه " ؟ .
فأجاب بقوله : رواه أبو داود وغيره وله طرق تصيره حسنا .
وسئل رضي الله عنه : عن حديث " تفكر ساعة خير من عمل الثقلين " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : لم أره بهذا اللفظ والذي رواه أبو الشيخ " تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة " .
(1/677)
<290>
(1/678)
مطلب في تأويل خلق الله آدم على صورته
وسئل نفع الله به عن حديث " خلق الله آدم على صورته " أو " على صورة الرحمن " هل هو وراد أو لا ؟ .
فأجاب بقوله : نعم هو وارد ولكن الضمير في صورته إذا أريد بها حقيقتها ليس للحق تعالى لتعاليه عن الصورة ولوازمها علوا كبيرا ، وإنما سبب ذلك أن عبدا لطمه سيده على وجهه فزجره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال له زيادة في تأديبه " إن الله خلق آدم على صورته " أي فكيف تضربه على وجهه المحاكي لوجه أبيك آدم وصورته . أما إذا أريد بها مجرد الوصف فيصح رجوع الضمير إلى الله كما تصرح به رواية " على صورة الرحمن " ويكون مفاد الحديث حينئذ أنه تعالى خلق آدم متجليا على صورته بشيء من صفات الحق كالرحمة ، ومن ثم خص وصف الرحمن بالذكر في الرواية الثانية ، ويؤيد ذلك " تخلقوابأخلاق الله " وقول عائشة رضي الله عنها في حق النبي صلى الله عليه وسلم : " وكان خلقه القرآن " .
وسئل رحمه الله تعالى عن حديث : " الحق ينطق على لسان عمر " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : رواه أحمد والترمذي وأبو داود بللافظ " إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه " ورواه ابن ماجه بلفظ " إن الله تعالى وضع الحق على لسان عمر يقول به " . (1/679)
مطلب حديث " ما وسعني سمائي ولا أرضي " الخ
وسئل رضي الله عنه : عن حديث : " ما وسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو مذكور في الإسرائيليات ، وقال الزركشي : هو حديث باطل من وضع الملاحدة انتهى . وذكر جماعة له من الصوفية لا يريدون به حقيقة ظاهرة من الاتحاد أو الحلول لأن كل منهما كفر ، وصالحوا الصوفية أعرف الناس بالله وما يجب له وما يستحيل عليه ، وإنما يريدون بذلك أن قلب المؤمن يسع الإيمان بالله تعالى ومحبته ومعرفته .
وسئل نفع الله به عن حديث : " إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك لنور شيء اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول : جف القلم على علم الله " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : رواه الترمذي رحمه الله تعالى وحسنه ، وابن جرير والطبراني والحاكم والبيهقي ، وبسطت الكلام على معناه في شرح المشكاة . (1/680)
مطلب من استكمل ورعه حرم رؤيتي في المنام
وسئل نفع الله به : ما معنى حديث أخرجه الديلمي عن ابن عباس رضي الله عنهما ولفظه " من استكمل ورعه حرم رؤيتي في المنام " ؟ .
فأجاب بقوله : منشأ افشكال فيه جعل ورعه فاعل اىستكمل بمعنى كمل والظاهر أن هذا ليس هو المراد وإنما الذي يتضح به المعنى أن ورعه مفعول والفاعل ضمير من ، والمعنى : من عد ورعه كاملا حرم رؤيتي في المنام أي الرؤية التي تدل على شرف رائيها بأن يراه صلى الله عليه وسلم على أوصافه المعروفة ، ووجه(1/681)
<291>حرمانه أن ذلك الاستكمال ينبئ عن العجب بالعمل وعن غلية أخلاق نفسه الرديئة عليه وعن عدم صدقه وإخلاصه في عبادته ، وإلا لرأى أن لا ورع له أصلا بل ولا عمل فضلا عن الورع فيه فضلا عن استكماله ، وإنما عوقب بذلك بخصوصه لأن صدق الرؤيا ينبئ عن صدق العمل وكذبها ينبئ عن كذب العمل فجعلت رؤيته له صلى الله عليه وسلم غير واقعة ليستدل بذلك على كذبه في ذلك الاستكمال وأنه لم يحصل له من الورع شيء .
فإن قلت : هل يمكن حمل الحديث على المعنى الأول ويلتمس له وجه ؟ .
قلت : نعم لكن بتكلف بأن يقال كنى بحرمان ما هو من لازم النوم عن حرمان النوم لأن كمال الورع الذي هو تازهد يستدجعي تجنب الشبع ونحوه من قبائح الأوصاف والأخلاق ، ويلزم من تجنب ذلك قلة النوم حتى يصير كأنه غير موجود أو يقال حرم رؤيتي في النوم لإستغنائها عنها فيه بما هو أعلى وأفضل وهو رؤيتي في اليقظة ، لأن التحقيق أنها ممكنة بل واقعة كما ذكره ، وشاهد غير واحد من أولياء الله تعالى بأن ترفع الحجب فيرونه صلى الله عليه وسلم يقظة في قبره الشريف ، إذ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أحياء في قبورهم يصلون ، وقد يقع له صلى الله عليه وسلم تشكل فيرى ذلك التشكل منفصلا عن القبر الشريف كما وقع ذلك للعارف سيدي علي وفا بتربتهم بالقرافة . أو يقال وجه حرمانه إياها إنما تقع غالبا لتأنيس الضعفاء وتبشيرهم بأنهم على حق ، ومن كمل ورعه صار من المتمكنين الذين لا يحتاجون لتأنيس الضعفاء وتبشيرهم بما ذكر ، ونظير هذا أن المريد الصادق في ابتدائه تكثر له الكرامات لتؤنسه وتثبته فإذا كمل خفت أو انعدمت عنه لعدم احتياجه إليها ، ومن ثم قال الجنيد سيد الطائفة رضي الله عنه وعنهم : مشى قوم على الماء ومات بالعطش من هو أفضل منهم ة، وقال : ذرة استقامة خيرا من ألف كرامة ، وقال بعض الأساتذة لتلميذ له شكا إليه أنه كان يجد كرامة ثم عدمها : يا بني إن الصبي إذا دخل المكتب أعطي خشخاشة يلعب بها فإذا تمرن عليها رماها وتركها فكذلك رؤيته صلى الله عليه وسلم تكون تأنيسا للمريدين في ابتداء إرادتهم فإذا كملوا بيكمال تورعهم استغنوا عن ذلك التأنيس فعبر بحرمان الرؤية عن هذا الاستغناء .
واعلم أن هذه كلها احتمالات والله تعالى أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه وسلم بتقدير صحة الحديث لأن أحاديث الديلمي فيها ما فيها كما تقرر في محله ، والله أعلم . (1/682)
مطلب هل ورد عن الني صلى الله عليه وسلم التصريح بكفر فرعون ؟
وسئل نفع الله به : هل ورد عن الني صلى الله عليه وسلم التصريح بكفر فرعون ؟ .
فأجاب بقوله : نعم ورد ذلك في عدة أحاديث : منها حديث ابن عدي والطبراني والبيهقي وضعفه " خلق الله يحيي ابن زكريا في بطن أمه مؤمنا وخلق فرعون في بطن أمه كافرا " . ومنها حديث الدار قطني وابن عساكر " خلق الله الناس على طبقات ثم قال ومنهم من يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت كافرا منهم فرعون ذي الأوتاد " . ومنها حديث البيهقي" يولد العبد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت مؤمنا منهم تحيي بن زكريا ، ويولد كافرا ويحيا كافرا ويموت كافرا منهم فرعون " .
(1/683)
<292>
(1/684)
مطلب حديث " ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم
وسئل نفع الله به : عمن روى حديث " ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم : رجل أعطى ماله سفيها ، وقد قال تعالى {ولا تؤتوا السفاء أموالكم} ورجل له امرأة سيئة الخلق ولم يطلقها ، ورجل بائع ولم يشهد " .
فأجاب بقوله : رواه ابن عساكر .
وسئل نفع الله به بما لفظه : من روى حديث " يخرج الخمار من قبره مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله تعالى ويقوم آكل الربا مكتوبا بين عينيه لا حجة له عند الله ويقوم المحتكر من قبره مكتوبا بين عينيه كافر تبوأ مقعدك من النار " .
فأجاب بقوله : رواه الديلمي . (1/685)
مطلب في بيان حديث " خيركم بعد المائتين الخفيف الحاذ "
وسئل نفع الله به بما لفظه : حديث " خيركم بعد المائتين الخفيف الحاذ " من رواه وما ضبطه ؟ .
فأجاب بقوله أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده " خيركم بعد المائتين الخفيف الحاذ ، قيل يا رسول الله ومن الخفيف الحاذ ؟ قال : من لا مال له ولا أهل " . وفي اسناده رواه ابن الجراح . وقد كثر اختلاف الأئمة فيه ، ومن ثم قال الذهبي هذا لحديث مما غلط فيه فإنم أبي حاتم قال فيه إنه منكر لا يشبه حديث الثقات ، وأما الحاذ فهو بالحاء المهملة والذال المعجمة الخفيفة ، ومن قال إنه بالام أو بالجيم والدال المهملة فهو لحن ، والمراد هنا الظاهر ضرب مثلا لقلة المال والعيا / وأصل حقيقته المتن وهو ما يقع عليه اللبد من ظهر الفرس وهو محمول بالنسبة لترك التزوج والولد على من الفتنة أو على من فقد فيه بعض شروط النكاح أو على من خشي من النكاح التوريط في أمر يخشى منه على نفسه أو دينه بسب طلب المعيشة لا منسوخ خلافا لمن وهم فيه لأنه خبر وهو لا يقبل النسخ . (1/686)
مطلب حديث " من بلغ الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار "
وسئل نفع الله به : عن خبر " من بلغ الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار " من رواه ؟ .
فأجاب بقوله : لفظ الحديث " " من أتت عليه الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار " رواه الأزدي عن الضخاك عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وأشلر إليه الخطيب . (1/687)
مطلب في حديث " إن الله خلق آدم على صورته "
وسئل رحمه الله تعالى عن معنى حديث " إن الله خلق آدم على صورته " هل هو صحيح أو لا ؟ .
فأجاب بقوله : الحديث صحيح والجواب عنه أنه وارد على سبب هو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجل يضرب عبده على وجهه فقال له صلى الله عليه وسلم ذلك : أي لا تضربه على وجهه فإن الله خلق وجه آدم على صورة هذا الوجه وآدم أبوك فكيف تضرب وجها يشبه وجه أبيك ، فالضمير لغير مذكور دل عليه قرينة الحال الخارجة وهو جائز ، ويصح أن يكون الضمير له تعالى كما هو ظاهر السياق وحينئذ(1/688)
<293>يتعين أن المراد بالصورة الصفة : أي إن اللهى تعالى خلق آدم على أوصافه من العلم والقدرة وغيرهما ، ويؤيد هذا الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها " كان صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن " وحديث " تخلقوا بأخلاق الله تعالى " فالمطلوب من الكمال أن يطهر أخلاقه وأوصافه من كل نقص ليحصل له نوع من التأس بأخلاق ربه : أي صفاته ، وإلا فشتان ما بين أوصاف القديم والحادث . وبهذا التقرير يعلم أن في هذا الحديث غاية المدحة لآدم صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم حيث أوجد الله فيه صفات كصفاته تعالى بالمعنى الذي قررته ، ويصح أن يراد بالصورة المعنى المراد من الروح ، وبالإضافة غاية التشريف لآدم صلوات الله وسلامه عليه ولبنيه .
والحاصل أن الحديث إن لأأعيد الضمير فيه لله وجب تأويله على ما هو المعروغف من مذهب الخلف الذي هو أحكم وأعلم خلافا لفرقة ضلوا عن الحق وارتكبوا عظاءم من الجهة والتجسيم الذين هما كفر عند كثير من العلماء ، أعاذنا الله من ذلك بمنه وكرمه . (1/689)
مطلب هل ابن الصياد هو الدجال أو غيره ؟
وسئل نفع الله به : عن ابن الصياد هو الدجال أو غيره ؟ .
فأجاب بقوله : اختلف في ذلك الصحابة رضوان الله عليهم ، فكثير منهم من قال إنه هو وكان بعضهم يحلف على ذلك . وقال آخرون إنه غيره وهو الأشهر ، وعليه يدل صريحا ما في حديث مسلم الطويل المنعوت فيه الدجال بأوصلف لا تنطبق على ابن الصياد منها أنه مسلسل في جزيرة من جزائر البحرين ، وابن الصياد إذا كان بالمدينة على أنه ورد أنه أسلم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوج وولد له ، وأما ما ورد أيضا أنه فقد ولم يدر أين ذهب فهذا لا يدل على أنه الدجال كما هو ظاهر ، واله أعلم .
باب في التصوف(1/690)
مطلب في جماعة من فقراء المسلمين دخلوا مسجدا الخ
وسئل رضي الله عنه : في جماعة من فقراء المسلمين دخلوا مسجدا ودخل وقت الظهر قصلوا الظهر جماعة وصلوا راتبته ، ثم تحلقوا يدرسون كتاب الله تعالى فختموا وخلوا الأجزاء في المقدمة وخلوها مفتوحة مستشفعين بالأجزاء العظيمة وأشاروا إلى واحد منهم يدعو والباقون يؤمنون فختم ثم ذكروا الله ولا يزالون كذلك مع عدم الإغيلر والخلو عن الغلط واتحاد المقاصد وسكون الحواس الظاهرة ولا يزال يصفو الوقت والحاضرون ، وظهر سر قوله صلى الله عليه وسلم " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله تعالى ويتدارسونه بينهم ويذكرون الله تعالى إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده " فصفت بواطنهم واحترقت وفنيت بدوام الذكر الأجزاء الخبيثة وبقيت الأجزاء الطيبة مع طيب المكان وطيب الوقت ، فمنهم خاضع وخاشع وباك ومغشي عليه {قد علم كل أناس مشربهم} فبعض الفقراء المتوسمين معهم بأصواتهم الحسنة يسمع بذوق فيحصل على هذا المذكور في بعض الأوقات حال يشبه أحوالهم مع تقصيره في سائر أحواله لعلمه ببركة من حضر من الروحانيين ، وممن تروحن من الآدميين مع السكينة والرحمة العامة عليهم فيقهره حتى يظهر من باطنه خفقان واضطراب فتحركت بسببه(1/691)
<294>الأعضاء الظاهرة بكيفيات لا يفعلها ولا يرضى بها بل ولا يقدر على فعلها ، فهذا الإنسان هل الأحسن في أمره أنه متى استشعر هذا الأمر يخرج من ذاك المكان ؟ أم التصبر فيه كيفما أظهره حكم الوقت ؟ أم يفرق بين أن يكون ممن تختل الحلقة بخروجه وبين غيره ؟ فإن قلتم : إن الأحسن التصبر والتلذذ بيما يجدمن اللذة التي يحقر فيها نعيم الدنيا والآخرة ، وهو مع ذلك بحيث لا يشعر من نفسه ولا من جسمه ولا من لباسه شيئا إلا أنه يسمع الذكر والقول ، وقد يغيب عن الجميع فهل تعدون هذه الحالة من أسباب الحدث قياسا على الإغماء أو لا قياسا على النعاس ؟ أم تقولون إن ذهب الشعور بالكلية فهو محدجث كالمغمى عليه وإن كان شعورا ما فهو متطهر كالناعس ، ولأن الأصل الطهارة فكيف الحكم فإن هذه الحالة كما لا يخفى على بصائركم الناقدة وأذواقكم السليمة لا تشبه هذه ولا تلك ، أجيبوا جوابا شافيا كافيا كاشفا نقلا وعقلا وذوقا ، ولا عدمناكم بصدور المجالس ظاهرين وبحل المشاكل قائمين وعلى سبيل السنة البيضاء سالكين وإلى المطالب المقصودة واصلين آمين يا رب العالمين ؟ .
فأجاب بقوله رحمه الله ونفعنا ووالدينا بأسراره وكملنا بباهر أنواره وطيبنا بعاطر أزهاره وأورثنا ما أورثه من العلم والمعارف الإلهية والأحكام الشرعية والأنفاس المحمدية الأحمدية : الأحسن لمن أمن على نفسه الرياء لما أنها اتصفت وصفت عن كدوراتها وعرت عن شهواتها ومألوفاتها وتجلى عليها وارد الحق وتحلت بمعاني الصدق ،فانقشع عن سماء سرها سحب الأكدار ، وتمزقت عن عين بصيرتها حجب الأغيار فأخلصت الوجهة إليه وقامت بباهر الأدب بين يديه ولم تشهد سواه ولا خطر بالها إياه لوصولها إلى غاية مقام الإحسان الموجب لإنضمام العيان إلى البرهان أن لا يخردج نفسه عن هذه الحضرة العلية والمواهب الإختصاصية الزكية بل يستديم استجلاء تلك الأنوار واستكشاف هذه الأسرار حتى يمتلئ الإهاب ويسمع لذيذ الخطاب ويصير عينا من معينات الحق التي أظهرها هداية للعباد وإيضاحا لسبل الرشاد ، وكيف يسوغ لمن تأهل للوصول إلى هذا الطود الشامخ والمقاتم الباذخ وحقائق الأناقة ومعاني الخلاقة وشهود العيان والتبختر في سوابغ الإمتنان أن ينزل عن معالي تلك الكممالات وعوارف هذه المنازلات إلى حضيض الأعراض والوقوف مع دني الأغراض ، بل عليه أن يستسلم لما أقامه فيه الحق نم علي عبادته بين أهل محبتهوإرادته مستمطرا ما يفتح به عليه من ينابيع الحكم والمعارف ومتهئا ومتأهلا لنفحات الحق التي أمرنا بالتعرض لها ليلا ونهارا وسرا وإظهارا ، ومعرضا عن قول الوشاة القاصرين والطغاة المحجوبين سواء اختلت تلك الحضرة بذهابه أو لا لما بان وظهر أن المقام أحرى وأولى ، وليحذر كل الحذر من النظر إلى الخلق فإن من نظر إليهم بحال بصره أو بصيرته ساء فعله وحق طرده وكثف حجابه ودام عذابه ، ولم يظفر من أعماله إلا بتمويه باطل وحال حائل ووصف مضمحل زائل ، وحينئذ تستولي عليه نفسه وشيطانه فيلبسان عليه أحواله ويزينان عنده كماله فتزل قدمه ويحق ندمه . وإذا ثبت هذا المريد أو المراد كما أشرنا متحليا بصدقه وتقواه إلى أن استحكم فيه ذلك الوارد وأخرجه عن حيز الصحو إلى غمرة تلك الموارد فتارة يضعف عن قبول أعباء ما فاجأه من باهر الأنوار الموجبة لاستتار العقل بها أتم الاستتار فيكون كالنائم بل هو أشد منه استغراقا ، ولا شك حينئذ في انتقاض وضوئه وإن لم يكن وفقا لزوال الشعور من أصله بواسطة ما استولى على عقله لكنا لا نجعله(1/692)
<295>كالإغماء لأنه مرض يستولي على العقل فيذهله ويعطل إدراكه ويخبله ومن ثم احتاج للعلاج غالبا ولم يكن سهم من قام به لغرضه صائبا .
وأما الغيبة التي كلمنا فيها فالعقل معها باق على كماله وإنما عرض له ما يقهره فأخرجه عن حيز الاعتدال لاستغراقه في أنوار الشهود ونهوله عن الوجود . وتارة لا يضعف عن قبول ذلك لإلفه تلك الموارد وغوصه غمرة هذه المسالك فحينئذ لا يغيب عن إدراك عقله ولا يذهل عن محله ، وإنما غاية ما يحصل له نوع ذهول فهة كالتاعس إذ هو عن سماع مجرد الصوت غير مخمور مخبول ، وكل من كان على هذا القانون فوضوئه باق وإن لم يفهم ما سمعه ولا يشعر بما صنعه ، هذا كله حيث تيقن ما يرد عليه وعرف وصفه وما يحصل معه ، فأما إذا عرض له ما لا يعرف وصفه مما ذكرناه وإنما شك هل ثم استيلاء عليه وكان كالنائم أو لا فكان كالناعس لا ينتاقض وضوءه كما شرطناه من أصل بقاء طهره ودوام أصل تمييزه وفهمه سيما والغالب على أرباب الأحوال بقاء شعورهم معها وعدم انحرافهم عن سنن الكمال قدس الله أرواحهم ونور معالمهم وضرائحهم وأعاد علينا من بركاتهم وأذاقنا الله حلاوة شرابهم وألحقنا بهم في التحلي بأشرف المعارف وأكرم المتالد والمطارف إنه أكرم كريم وأرحم رحيم . (1/693)
مطلب في أن ابن عربي مكث ثلاثة أشهر على وضء واحد ولما صنف كتابه الفتوحات وضعه على ضهر الكعبة أوراقا سنة فلم يضره شيئ رضي الله تعالى عنه ونفعنا ببركته آمين
وسئل أفاض الله علينا من بركته : ماحكم مطالعة كتب الشيخ محيي الدين ابن عربي ؟ .
الذي أثرناه عن أكابر مشايخنا العلماء الحكماء الذي يستسقى بهم الغيث وعليهم المعول إليهم المرجع في تحرير الأحكام وبيان الأحوال والمعارف والمقامات والإشارات أن الشيخ محيي الدين ابن عربي من ألياء الله تعالى العارفين ومن العلماء العاملين ، وقد انفقوا على أنه كان أعلم أهل زمانه بحيث أنه كان في كل فن متبوعا لا تابعا ، وأنه في التحقيق والكشف والكلام عن الفرق والحمع بحر لا يجارى وإمام لا يغالط ولا يمارى ، وأنه أورع أهل زمانه وألزمهم للسنة وأعظمهم مجاهدة حتى إنه مكث ثلاثة أشهر على وضوء واحد ، وقس على ذلك ما هو من سوابقه ولواحقه ، ووقع له ما هو أعظم من ذلك . ومنه أنه لما صنف كتابه الفتوحات المكية وضعه على زهر الكعبة ورقا من غير وقاية عليه فمكث على ظهزها سنة لم يمسه مطر ولا أخذ منه الريح ورقة واحدة مع كثرة الرياح والأمطار بمكة ، فحفظ الله كتابه هذا من هذبين الضدين دليل أي دليل وعلامة أي علامة على أنه تعالى قبل منه ذلك الكتاب وأثابه عليه وحمد تصنيفه له ، فلا ينبغي التعرض للإنكار عليه ف\إنه السم القاتل لوقته كما شاهدناه ووجربناه في أناس حق عليهم من المقت وسوء العقاب ما أوجب لهم التعرض لهذا الإمام العارف بالإنكار حتى استأصل شأفتهم وقطع دابرهم فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ، فمعاذا بالله من أحوالهم وتضرعا إليه بالسلامة من أقوالهم .
وأما مطالعة كتبه رضي الله عنه فينبغي للإنسان أن يعرض عنها بكل وجه أمكنه فإنها مشتملة على حقائق يعسر فهمها إلا على العارفين المتضلعين في الكتاب والسنة المطلعين على حقائق المعارف وعوارف الحقائق ، فمن لم يصل لهذه المرتبة يخشى عليه منها مزلة القدم والوقوع في مهامه الحيرة والندم كما شاهدناه في أناس(1/694)
<296>جهال أدمنوا مطالعتها فخلعوا ربقة الإسلام والتكليفات الشرعية من أعناقهم ومضى بهم الحال إلى الوقوع في شرك الشرك ا؟لأكبر فخسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المين . وأيصضا ففي تلك الكمتب مواضع عبر عنها قبما لا يطابقه ظواهر عباراتها اتكالا على اصطلاح مقرر عند واضعها فيفهم مطالعها ظواهرها الغير المرادة فيضل ضلالا مبينا ، وأيصا ففيها أمور كشفية وقعت حال غيبة واصطلام وهذا يحتاج إلى التأويل وهو يتوقف على إتقان العلوم الظاهرة بل والباطنة ، فمن نظر فيها وهو ليس كذلك فهم منها خلاف المراد فضل وأضل ؛ فعلم أن مجانبة مطالعتها رأسا أولى فإن العارف لا يحتاج إليها إلا ليطابق بما فيها ما عنده وغيره إن لم تضره ما نفعته نعم ، له كتب قي التربية الصرفة والحمل على الأخلاق والأحوال وغيرهما مما يناسب السلوك فهذ1ه لا بأس بمطالعتها فإنها ككتب الغزالي وأبي طالب المكي ونحوها من الكت النافعة في الدنيا والآخرة فجزى الله مصنفها خير الجزاء وأكمله . (1/695)
مطلب في حكم مطالعة كتب ابن عربي وابن الفارض
وسئل رضي الله عنه وأدام النفع به آمين : ما حكم مطالعة كتب ابن عربي وابن الفارض ؟ .
فأجاب بقوله : حكمهما أنها جائزة مطالعة كتبهما بل مستحبة ، فكم اشتملت تلك الكمتب على فائدة لا توجد في غيرها وعائدة لا تنقطع هواطل خيرها وعجيبة من عجائب الأسرار الإلهية التي لا ينتهي مدد خيرها ، وكم ترجمت من مقام عجز عن الترجمة عنه من سواها وأظهرت من العبارة الوفية عن حال أعجز حال من عداها ، ورمزت من رموز لا يفهمها إلا العارفون ولا يحوم حول حمومة حماها إلا الربانيون الذين هم بين بواطن الشريعة وأحكام ظواهرها على أكمل ما ينبغي جامعون ، فلذلك كانوا بفضل مؤلفيها معترفين وعلى ما فيها من الأخلاق والأحوال والمعارف والمقامات والكمالات هم المعولون ، ولم لا وهذان الإمامان المذكوران في السؤال من أئمة السلوك والمعارف ، ومن الأخيار الذين منحهم الله غايات اللطائف ولطائف العوارف ، وزوى عن قلوبهم محبة من سواه تعالى وعمرها بذكره وشهوده وأسبغ عليها رضاه ، وفرغهم له فقاموا بواجب خدمته حسب الطاقة البشرية ، وأجرى عليهم من سوابغ قربه وحقائق الوحدانية الفردانية ، فتوسلا إليك الهم أن تهل على جدثيهما +هواطل الرحمة والرضوان . وأن تسكنهما من قرك الأكبر أعلى فراديس الجنان إنك أنت الحنان المنان ، هذا وإنه قد طالع هذه الكتب أقوام عوام جهلة طغام فأدمنوا مطالعتها مع دقة معانياه ورقة إشاراتها وغموض مبانيها وبنائها علىاصطلاح القوم السالمين عن المحذور واللوم وتوقف فهمها بكمالها على إتقان العلوم الظاهرة والتحلي بحقائق الأحوال والأخلاق الباهرة ، ولذلك ضعفت أفهامهم وزلت أقدامهم وفهموا منها خلاف المراد واعتقدوه صوابا فباءوا بخسار يوم التناد وألحدوا في الاعتقاد وهوت بهم أفهامهم القاصرة إلى هوة الحلول والاتحاد ، حتى لقد سمعت شيئا من هذه المفاسد القبيحة والمكفرات الصريحة من بعض من أدمن مطالعة تلك الكتب مع جهله بأساليبها وعظم ما لها من الخطب ، وهذا هو الذي أوجب لكثير من الأئمة الحط عليها والمبادرة بالإنكار إليها ، ولهم في ذل نوع عذر لأن قصدهم فطم ألئك الجهلة عن تلك السموم القاتلة لهم لا الإنكار على مؤلفيها من حيث ذاتهم وحالهم ، وبعض المنكرين يغترون بظواهر ألفاظها وإيهامها خلاف مقصود حفاظها غفلة عن اصطلاحاتهم المقررة وتحقيقاتهم المقررة على القواعد الشرعية المحررة . والحق عدم الإنكار والتسليم فيما برز عن ألئك الأئمة الأطهار مع التشديد على الجهلة بالقواعد(1/696)
<297>وللاصطلاحات في مطالعة تلك الكتب ، فقد صرح الإمام ابن العربي بحرمة مطالعة كتبهم إلا لمن تحلى بأخلاقهم وعلم معاني كلماتهم الموافقة لاصطلاحاتهم ، ولا تجد ذلك إلا فيمن جد وشمر وجانب السوء وشد المئزر وتطلع من العلوم الظاهرة وتطهر من كل خلق دنيء مما تعلق بالدنميا والآخرة غهذا الذي يفهم الخطاب ويؤذن له في الدخول إذا وقف على الباب ،/ واله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب . (1/697)
مطلب هل لقول التاج ابن عطاء الله في حكمه رب معصية أورثت ذلا الخ أصل من السنة
وسئبل نفع الله تعالىبه : هل لقول التاج ابن عطاء الله في حكمه : رب معصية أورثت ذلاواستصغارا خيرا من طاعة أورثت عزا واستكبارا أصل من السنة وكيف يطلق حخير على معصية ؟ .
فأجاب بقوله : نعم له أصل من السنة ، وهو ما أخرجه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب بسندجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " قال الله عز وجل لولا أن الذنوب خير لعبدي المؤمن من العجب ما خليت بين عبدي المؤمن وبين الذنوب " ورواه الديلمي في مسند الفردوس بلفظ ط لولا أن المؤمن يعجب بعمله لعصم من الذنب حتى لا يهم به ولكن الذنب خيرا له من العجب " . وأخرج ابن أبي الدنيا وقال غريب تفرد به من اختالف6 في توثيقه الحديث القدسي المشهور المذكور في تفسير سورة الشورى من تفسير البغوي وفيه " إن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة فأكفه عنه أن لا يدخله عجب فيفسد ذلك " وإذا تأملت ؟أن الخيرية في ذلك نسبية من حيث الثمرات والغايات المترتبة علىذلك لم يبق عندك إشكال في إطلاقها على المعصية من رعاية ذلك الأمر النسبي فتأمله .
وسئل نفع الله به : هل الخمول نعمة وكل يأباه والشهرة آفة وكل يتمناه .
فأجاب بقوله : لم يرد وإنما هو من كلام أبي المحاسن الروياني من أئمتنا .
وسئل : هل ورد " اتخذوا مع الفقراء دولة قبل أن تحجز دولتهم " وأنه صلى الله عليه وسلم أنشد بين يديه * لسعت حية الهوى كبدي * البيتين (1)المشهورين فتواجد حتى سقطت البردة عن كتفيه ؟ .
فأجاب بقوله : لم يرد ذلك كله بل هو كذب باطل باتفاق أهل الحديث .
__________
(1) قوله البيتين هما :
لسعت حية الهوى كبدي فما لها طبيب ولا راقي
هذا الحبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي ودرياقي كذا بهامش بعض النسخ(1/698)
مطلب يمكن الاجتماع بالنبي صلى الله عليه وسلم الآن يقظة
وسئل نفع الله بعلومه ورضي عنه : هل يمكن الآن الاجتماع بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والتلقي منه ؟ .
فأجلاب بقوله : نعم يمكن ذلك ، فقد صرح أن ذلك من كرامات الأولياء الغزالي والبارزي والتاج السبكي والعفيف الشافعي من الشافعية ، والقرطبي وابن أبي حمزة من المالكية ، وقد حكى عن بعض الألياء أنه حضر مجلس فقيه فروى ذلك الفقيه حديثا ، فقال له الولي : إني لم أقل هذا الحديث وكشف للفقيه فرآه .
(1/699)
<298>
(1/700)
مطلب من اكتفى بالفقه عن الزهد
وسئل رحمه الله تعالى وبرد ثراه : ما معنى قول صوفي مطلب : من اكتفى بالفقه عن الزهد فسق ؟ .
فأجاب بقوله : معناه أن من تساهل في الزهد والورع أدى ذلك إلى ارتكاب الشبهات ، ومن تساله في ارتكاب الشبهات أداه ذلك إلى ارتكاب الحرام ، ومن تساهل في الحرام أداه ذلك إلى ارتكاب الكبائر ، على أن الصوفية رضي الله عنهم قد يطلقون يطلقون لفظ السيئة والفسق والكفر على غير معناه الشرعي مبالغة في تالتنفير كقولهم : حسنات الأبرار سيئات المقربين وقول سيدي عمر ابن الفارض رضي الله عنه :
وإن خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا قضيت بردتي
فهذا ليس بردة حقيقة .
وسئل نفع الله به : عن رقص الصوفية عند تواجدهم هل له أصل ؟ .
فأجاب بقوله : نعم له أصل ، فقد روى في الحديث " أن جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنه رقص ين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له : أشبهت خلقي وخلقي " وذلك من لذة هذا الخطاب ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم ، وقد صح القيام والرقص في مجالس الذكر عن جماعة من أكابر الأئمة منهم عز للدين شيخ الإسلام ابن عبد السلام .
وسئل نفع الله به : هل تمكن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة ؟ .
فأجاب بقوله : أنكر ذلك جماعة وجوزه آخرون وهو الحق فقد أخبر بذلك من لا يتهم من الصالحين بل استدل بحديث البخاري " من رأني في المنام فسيراني في اليقظة " أي بعيني رأسه ، وقيل بغعين قلبه ، واحتمال إرادة القيامة بعيد من لفظ اليقظة على أنه لا فائدة في التقييد حينئذ لأن أمته كلهم يرونه يوم القيامة من رآه في المنام ومن لم يره في المنام . وفي شرح ابن أبي حمزة للأحاديثق التي انتقاها من البخاري ترجيح بقاء الحديث على عمومه في حيلاته ومماته لمن له أهلية الاتباع للسنة ولغيره . قال : ومن يدعي الخصوص بغير تخصيص منه صلى الله عليه وسلم فقد تعسف ثم ألزم منكر ذلك بأنه غير مصدق بقول الصادق وبأنه جاهل بقدرة القادر وبأنه منكر لكراما الأولياء مع ثبوتها بدلائل السنة الواضحة ، ومراده بعموم ذلك وقوع رؤية اليقظة الموعود بها لمن رآه في النوم ولو لمرة واحدة تحقيقا لوعده الشريف الذي لا يخلف ، وأكثر ما يقع ذلك للعامة عند الاحتضار فلا تخرج روحه من جسده حتى يراه وفاء بوعده ، وأما غيرهم فيحصل ذلك لهم قبل ذلك بقلو أو بكثرة بحسب تأهلهم وتعقلهم واتباعهم لسنة إذ الإخلال بها مانع كبير ، وفي صحيح مسلم عن عمران ابن حصين رضي الله عنه ، أن الملائكة كانت تسلم عليه إكراما لصبره على ألم البواسير ، فلما كواها انقطع سلام الملائكة عنه ، فلما ترك الكي أي برئ كما في رواية صحيحة عاد سلامهم عليه لكون الكي خلاف السنة منع تسايمهم عليه مع شدة الضرورة إليه لأنه يقدح في التوكل والتسليم والصبر . وفي رواية البيهقي " كانت الملائكة تصافحه فلما كوى تنحت عنه " وفي كتاب ( المنقذ من الضلالة ) لحجة الإسلام بعد مدح الصوفية وبيان أنهم خير الخلق حتى إنهم وهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد ، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق الناطق . وقال تلميذه أبو بكر ابن العربي المالحي : ورؤية الأنبياء والملائكة وسماع(1/701)
<299>كلامهم ممكن للمؤمن كرامة وللكافر عقوبة . وفي ( المدخل ) لابن الحاج المالكي رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة باب ضيق ، وقل من يقع له ذلك إلا من كان على صفة عزيز وجودها في هذا الزمان بل عدمت غالبا مع أننا لا ننكر من وقع له هذا من الأكابر الذين حفظهم الله تعالى في ظواهرهم وبواطنهم . قال : وقد أنكر بعض علماء الظاهر ذلك محتجا بأن العين الفانية لا ترى العين الباقية وهو صلى الله عليه وسلم في دار البقاء والرائي في دار الفناء . ورد بأن المؤمن إذا مات يرى الله وهو لا يموت والواحد منهم يموت في كل يوم سبعين مرة ، وأشار اليهقي بأن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى جماعة من الأنبياء ليلة المعراج . وقال البارزي : وقد سمع من جماعة من الأولياء من زماننا وقبله أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يقظة حيا بعد وفاته . (1/702)
مطلب في حكاية غريبة وأن الأنبياء أذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت
ونقل اليافعي وغيره عن الشيخ الكبير أبي عبد الله القرشي أنه وقع بمصر غلاء فتوجه للدعاء برفعه فقيل لا تدع فلا يسمع لأحد منكم في هذا الأمر دعاء ، فسافرت إلى الشام فلما وصلت إلى قريب ضريح الخليل عليه معلى نبينا أفضل الصلاة والسلام تلقاني فقلت يا رسول الله اجعل ضيلفتي عندك الدعاء لأهل مصر ؟ فدعا لهم ففرج الله عنهم ، فقال اليافعي : فقوله تلقاني الخليل قول حق لا ينكره إلا جاهل بمعرفة ما يرد عليهم من الأحوال التي يشاهدون فيها ملكوت السموات والأرض وينظرون الأنبياء أحياء غير أموات كما نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جماعة من الأنبياء في السماء وسمع خطابهم ، وقد تقرر أن ما جاز الأنبياء معجزة جاز الأولياء كرامة بشرط عدم التحدي . وحكى ابن الملقن في طبقات الأوليباء أن الشيخ عبد القادر الجيلاني قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قبل الظهر فقال لي يا بني لم لا تتكلم ؟ قلت يا أبتاه أنا رجل أعجمي كيف أتكلم على فصحاء بغداد ؟ فقال لي افتح فاك ففتحته فتفل فيه سبعا وقال : تكلم على الناس وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة فصليت الظهر وجلسيت وحضرني خلق كثير فأرتج علي فرأيت عليا قائما بلإزائي في المجلس فقال يا بني لم لا تتكلم ؟ فقلت يا أبتاه قد ارتج علي ، فقال افتح فاك ، ففتحته فتفل فيه ستا قلت لم لا تكملها سبعا ؟ قال أدبا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توارى عني فتكلمت . وقال في ترجمة غيره : كان كثير الرؤية للنبي صلى الله عليه وسلم يقظة ومناما . وذكر الكمال الأدفوي عمن أخذ عنه ابن دقيق العيد وغيره عن غيره ، وقال التاج ابن عطاء الله عن شيخه الكامل العارف أبي العباس المرسي : صافحت بكفي هذه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحكى ابن فارس عن سيدي علي وفا : كنت وأنا ابن خمس سنين أقرأ القرآن على رجل فأتيته مرة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما وعليه قميص أبيض من قطن ، ثم رأيت القميص علي فقال لي اقرأ فقرأت عليه سورة ( الضحى ) و ( ألم نشرح ) ثكم غاب عني ، فلما أن بلغت إحدى وعشرين سنة أحرمت بصلاة الصبح بالقرافة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قبالة وجهي فعانقني فقال " {وأما بنعمة ربك فحدث} فأثبت لسانه من ذلك الوقت ، والحكايات في ذلك عن أولياء الله كثيرة جدا ، ولا ينكر ذلك إلا معاتند أو محروكم ، وعلم مما مر عن ابن العربي أن أكثر ما تقع رؤيته صلى الله عليه وسلم بالقلب ثم بالبصر لكنها به ليست كالرؤية المتعارفة وإنما هي جمعية حالية وحالة(1/703)
<300>برزخية وأمر وجداني فلا يدرك حقيقته إلا من باشره كذا قبل ، ويحتمل أن المراد الرؤية المتعارفة بأن يرى ذاته طائفة في العالم أو تنكشف الحجب له بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبره فينظره حيا فيه رؤية حقيقية إذ لا استحالة ، لكن الغالب أن الرؤية إنما هي لمثاله لا لذاته ، وعليه يحمل قول الغزالي : ليس المراد أنه يرى جسمه وبدنه بل مثالا له صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه والآلة إما حقيقية وإما خيالية والنفس غير الخيال المتخيل فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا هو شخصه . قال : ومثل ذلك من يرى الله تعالى في المنام فإن ذاته منزهة عن الشكل والصورة ، ولكن تنتهي تعريفاته إلىالعهبدج بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره ، ويكون هذا المثال حقا في كونه واسطة في التعريف فيقول الرائي رأيت الله في المنام لا يعني إني رأيت ذات الله كما يقول في حق غيره انتهى . ثم رأيت ابن العربي صرح بما ذكرناه من أنه لا يمتنع رؤية ذات النبي صلى الله عليه وسلم بروحه وجسده لأنه وسائر الأنبياء أحياء ردت لهم أرواحهم بعد ما قبضوا وأذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي ، ولا مانع من أن يراه كثيرون في وقت واحد لأنه كالشمس ، وإذا كان القطب يملأ الكون كما قاله التاج ابن عطاء الله فما بالك بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا يلزم من ذلك أن الرائي صحابي لأن شرط الصحبة الرؤية في عالم الملك وهذه رؤية وهو في عالم الملكت ، وهي لا تفيد صحبة وإلا لثبت لجميع أمته لأنهم عرضوا عليه في ذلك العالم فرآهم ورأوه كما جاءت به الأحاديث . (1/704)
مطلب في معنى قول الحلاج أنا الحق ، وقول أبي يزيد سبحاني سبحاني
وسئل نفع الله به : ما معنى قول الحلاج : أنا الحق ، وقول أبي يزيد : سبحاني سبحاني ؟ .
فأجاب بقوله للعارفين رضي الله عنهم ونفعنا بعلومهم وأسرارهم ولحظاتهم أوقات يغلب عليهم فيها شهود الحق تعالى بعين العلم والبصيرة ، فإذا تم لهم ذلك الشهود ذهلوا حتى عن نفوسهم ولم يبق لهم شعور بغير الحق تعالى ، فحينئذ يتكلمون على لسان القرب الأقدس الذي منحوه المشار إليه بقوله تعالى " فإذا أحببته صرت سمعه وعينه ويده ورجله " الحديث ، ويثبتون لأنفسهم بطريق الإيهام لا بطريق الحقيقة ما أثبته الحق لنفسه لا بمعنى الإتحاد الذي هو عين الكفر والإحاد وحاشاهم الله عنه بل بمعنى اتحاد الشهود الذي صير الحكم ليس إلا لذلت الحق تعالى وتقدس ، فقوله أنا الحق أو سبحاني ، معناه قد تجلى علي الحق بشهوده حتى صرت كأني هو ، وهذا كله إن صدر عنه في حالة الصحو ، وأما إذا صدر عنهم ذلك في حالة الغيبة فهو من الشطحلات التي لا حكم لها إذ لا يحكم إلا على ما تلفظ به صاحبه في حال الصحو زالإختيار ، وأما ما تلفظ به في حيز الصحو والغيبة فلا يدار عليه حكم ألبتة ، ومن ذلك أيضا قول أبي يزيد : ما في الجبة غير الله ، فإن كان في حال الصحو كان معناه مثل ما مر أولا وإلا فلا معنى له فلا يدار عليه حكم ، والله أعلم . (1/705)
مطلب في الكلام على الأولياء على أكمل وجه
وسئل نفع الله به : هل كرامات الأولياء حق ، وهل يجوز أن تبلغ نبلغ المعجزة ، وما اللفرق بينهما وبين السحر ، ولم كثرت بعد زمن الصحابة وهم أفضل الأئة ؟ .
فأجاب بقوله رحمه الله : الحق الذي \عليه أهل السنة والجماعة والأصوليين والمحدثين(1/706)
<301>وكثيرون من غيرهم خلافا للمعتزلة ومن قلدهم في بهتانهم وضلالهم من غير رؤية ولا تأمل ، وكان الأستاذ أبو اسحق يميل إلى مذهبهم أو يئول كلامه إليه كما هو الظاهر أن ظهور الكرامة على الألياء ، وهم القائمون بحقوق الله وحقوق عباده بجمعهم بين العلم والعمل وسلامتهم من الهفوات والزلل جائزة عقلا كما هو واضح لأنها من جملة الممكنات ولا يمتنع وقوع شيئ لقبح عقلي لأنه لا حكم للعقل ، وليس في وقوع الكرامة ما يقدح في المعجزة بوجه فإنها لا تدل لعينها بل لتعلقها بدعوى الرسالة ، فكما جاز تصديق مدعيها بما يطابق دعواه جاز أن يصدر عنه مثله إكراما لبعض أوليائه ، وسيأتي لذلك مزيد في تحقيق الفرق بينهما وواقغة نقلا مفيدة لليقين من جهة مجئ القرآن به ووقوع التواتر عليه قرنا بعد قلان وجيلا بعد جيل ، وكتب العلم شرقا وغربا وعجما وعربا ناطقة بوقوعها متواترة تواترا معنويا لا ينكره إلا غبي أو معاند . فمما في القرآن مجئ رزق مريم إليها من الجنة وهزها جذع النخلة حتى تساقط عليها منه الرطب الجني من غير أوان الرطب ، وعجائب الخضر بناء على المرجوح أنه ولي لا نبي ، وقصة ذي القرنين ، وأصحا الكهف وكلام كلبهم لهم ، وقصة الذي عنده علم الكتاب وهو آصف ابن برخيا في إحضاره عرش بلقيس قبل رمش العين في مسيرة أكثر من شهر ، ومما في السنة من تكليم الطفل لجريج ، وانفراج الصخرة عن الثلاثة الذين في الغار بدعائهم وتكثير طعام أبي بكر رضي الله عنه في قصعة مع ضيفه حتى صا بعد الأكل أكثر مما كان قبله بثلاث مرات روى هذا الثلاثة البخاري ومسلم . ورويا أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال في حق عمر رضي الله عنه " أنه من المحدثين " بفتح الدال أي الملهمين ، وصح أيضا عنه رضي الله عنه " أنه بينما هو يخطب على منبر المدينة يوم الجمعة وإذا هو ينادي في حال خطبته يا سارية الجبل ، فعجب الناس لذلك وأنكرواعليه حتى قال له عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه بعد ذلك وشدد عليه وأخبره بما قال الناس فيه ، ثم ظهر لهم قريبا الواقعة وصدقها وما فيها من الكرمات . ومنها الكشف له عن حال سارية والمسلمين وعدوهم ، ومنها بلوغ صوته لسارية حتى سمع وإهتدى سارية إلى أن هذا صوت عمر مع بعد الشقة فإنه بنهاوند من أرض العجم ومعه سارية من المسلمين فكمن لهم عدوهم في الجبل فبلغه صوته فسمعه فاستيقظوا للكمين وظفروا بهم " وروى البخاري في صحيحه " مجئ العنقود من العنب في غير أوانه لخبيب لما أريد قتله بمكة " وفيه أيضا " أن ؟أسيد ابن حضير وعباد ابن بشر رضي الله عنهما خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مطلمة ومعهما مثل المصباحين في أيديهما " وروى البخاري ومسلم " أن كلا من سعد وسعيد من العشر المبشرين بالجنة دعا على من كذب عليه فاستجيب له بعين ما سأله " وصح في مسلم " رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب ولو أقسم على ربه لأبره " قيل لو لم يكن إلا هذا الحدجيث لكفى في الدلالة لهذا المذهب .
وإذا تقرر وقوعها من غير إحصاء ولا حصر فالذي عليه معظم الأئمة أنه يجو بلوغها مبلغ المعجزة في جنسها وعظمها وإنما يفترقان في أن المعجزة تقترن بدعوى النبوة أي باعتبار الجنس أو ما من شأنه وإلا فأكثر الأنبياء ولاسيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقعت من غير إدعاء نبوة ، والكرامة تقترن بدعوى الولاية أو تظهر على يد الولي من غير دعوى شيئ وهو الأكثر ، فمن ألئك الأئمة الإمام أبو بكر ابن فورك وعبارته : المعجزات دلالات الصدق ثم إن ادعى صاحبها النبوة فالمعجزة تدل على صدقه في مقالته فإن أشار صاحبها إلى الولاية دلت المعجزة على صدقه في مقالته فتسمى كرامة ولا تسمى معجزة وإن كانت(1/707)
<302>من جنس المعجزات وإمام الحرمين وملخص عبارة ارشاده الذي صار إليه أهل الحق انخراق العادات في حق الأولياء ثم مجوزوا الكرامات تحزبوا أحزابا ؛ فمنهم من منع وقوعها على قضية دعوى الولاية لئلا تشابه المعجزة وهذا غير مرضي عندنا بل قد تقع مع دعوى ذلك . ومن بعض أصحابنا من شرط أن لا تكون معجزة انبي كانفلاق البحر وإحياء الموتى وهذا غير سديد ، والمرضي عندنا تجويز جملة خوارق العادات في معارض الكرمات ثم ذكر بعد أن الكرامة والمعجزة ليس بينهما فرق إلا وقوع المعجزة على حسب دعوى النبوة والكرامة دون ادعائه النبوة ، والإمام أبو حامد الغزالي فإنه شرط في تسمية الخارق معجزة اقترانه بدعوى النبوة فاقتضى أنه لا فرق بينها وبين الكرامة إلا ذلك ومن ثم قال في كتابه ( الاقتصاد في الاعتقاد ) لما ذكر خوارق العادات في الكرامات : وذلك أي خرق العادة مما لا يستحيل في نفسه لأنه ممكن لا يؤدي إلى بطلان المعجزة لأن الكرامة عبارة عما يظهر من غير اقتران التحدي ، فإن كان مع التحدي فإنا نسميه معجزة ، والفخر الرازي واليضاوي فإنهما لم بفرقا بينهما إلا بتحدي النبوة ، وكذلك حافظ الدين النسفي فإنه قال : لا يقال لو جازت الكرامة لنسد طريق الوصول إلى معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لأن المعجزة تقارن دعوى النبوة ولو ادعاه الولي كفر من ساعته وسبقهم لذلك الإمام أبو القاسم القشيري حيث قال : شرائط المعجزات كلها أو أغلبها توجد في الكرامة إلا دعوى النبوة . (1/708)
مطلب إحياء الموتى كرامة
قال الإمام اليافعي بعد نحو ذلك عن هؤلاء الأئمة وغيرهم : فهؤلاء اتفقوا على أن الفارق بينهما هو تحدي النبوة فقط ولم يشترط أحد منهم أن الكرامة دون المعجزة في جنسها وعظمها فدل ذلك على استوائهما فيما عدى التحدي كما صرح به إمام الحرمين فيجوز اجتماعهما فيما عدى التحدي من سائر الخوارق حتى إحياء الموتى . ففي رسالة القشيري باسناده إلى أبي عبد الله التستري أحد كبار مشايخ الرسالة أنه خرج غازيا في سرية فمات المهر الذي تحته وهو في البرية فقال : يا رب أعرناه حتى نرجع إلى تستر أي قريته فإذا المهر قائم ، فلما غزا ورجع إلى تستر قال لابنه يا بني خذ السرج عن المهر فقال إنه عرق فيضره الهواء ، فقال يا بني إنه عارية فأخذ السرج فوقع المهر ميتا ، وفيها أنه انطلق للغزو على حماره فمات فتوضأ وصلى ودعا الله أن يبعث له حماره ولا يجعل عليه منة لأحد فقام الحمار ينفض أذنيه ، وفيها أيضا عن أعرابي أنه سقط جمله ميتا ووقع رحله وقتبه فدعا ربه فقام الجمل وفوقه رحله وقتبه ، وفيها أيضا عن سهل التستري أنه قال : الذاكر لله علىالحقيقة لو هم أن يحيي الموتى لفعل يعني بإذن الله تعالى ومسح بيده على عليل بين يديه فبرئ وقام .
قال اليافعي : وأخبرني بعض صالحي أهل اليمن : أن الشيخ الأهدبالمهملة شيخ أبي الغيث رحمهم الله كانت عنده هرة يطعمها فضربها الخادم فقتلها ورماها في خربة ، فسأله الشيخ عنها بعد ليلتين أو ثلاث فقال فقال لا أدري ، فناداها الشيخ فأتت إليه وأطعمها على عادته . قال : وأخبرني مغربي صالح عالم أعتقده بإسناده أن بعض أصحاب الشيخ أبي يوسف الدهماني مات فحزن عليه أهله ، فأتى إليه وقال : قم بإذن الله تعالى ، فقام وعاش بعد ذلك ما شاء الله تعالى من الزمان ، وقال : ومن المشهور ما روى مسندا من خمس طرق عن(1/709)
<303>جماعة من الشيوخ الأجلاء أن القطب الشيخ عبد القادر نفع الله به جاءت إليه امرأة بولدها وخرجت عنه لله وله فقبله ثم أمره بالمجاهدة ، فدخلت أمه عليه يوما فوجدته نحيلا مصفرا يأكل قرص شعير ، فدخلت على الشيخ فوجدت بين يديه إناء فيه عظم دجاجة قد أكلها فقلت يا سيدي تأكل لحم الدجاج ويأكل ابني خبز الشعير ، فوضع يده على الطعام وقال قومي بالله محيي العظام فقامت الدجاجة سزية وصاحت ، فقال الشيخ إذا صار ابنك هكذا فليأكل الدجاج وما شاء ، وقالوا مرت بمجلسه حدأة وهو في يوم شديد الحر وهو يعظ الناس فشوشت على الحاضرين فقال يا ريح خذي رأس هذه الحدأة فوقعت لثاني وقتها بناحية ورأسها بناحية ، فنزل الشيخ وأخذها في يده وأمر يده الأخرى عليها وقال بسم الله الرحمن الرحيم قومي بإذن الله فحييت وطارت والناس يشاهدون ، وقد تكلمهم الموتى . ففي رسالة القشيري عن أبي سعيدى الخراز رضي الله عنه أنه كان مجاورا بمكة فمر بباب بني شيبة فرأى شابا حسن الوجه ميتا فنظر في وجهه فتبسم وقال : يا أبا سعيد ما علمت أن الأحباء أحياء وإن ماتوا وإنما ينقلون من دار إلى دار ، وجاء مسندا من ثلاثة طرق أن الشيخ عبد القادر رضي الله عنه زا ومعه ناس كثيرون قبر الشيخ حماد الدباس فأطال الوقوف عنده ثم انصرف مسرورا ، فسئل فأخبر أنه مر مع الشيخ حماد وأصحابه على قنطرة ببغداد لصلاة الجمعة فدفعه في النهر امتحانا له بشدة البرد فلم يتأثر فأخبر أصحابه أنه حبل لا يتحرك ، وأنه رأى الشيخ حماد في قبره على أحسن هيئة إلا أن يده اليمنى لا تطيعه . قال : فقلت له ما هذا ؟ قال هذه اليد التي رميتك بها فهل أنت غافر لي ذلك ؟ فقلت نعم ، قال فاسأل الله تعالى أن يردها علي فوقفت أسأل الله تعالى في ذلك وقام معي خمسة آلاف ولي في قبورهم يسألون الله تعالى أن يقبل مسئلتي فيه ويتشفعون عندي في تمام المسئلة فما زلت أسأل الله تعالى في ذلك حتى رد الله تعالى يده وصافحني بها ، ثم اجتمع المشايخ وطلبوا برهانا على هذه القصة ؟ فقال لهم اختاروا لكم رجلين نبين لكم ذلك على لسانهما فاختاروا شخصين غائبين وقالوا نمهلك ، فقال لا تقوموا حتى تسمعوا منهما ، فلم يلبئوا حتى جاء أحدهما يشتد عدوا فقال أشهدني الله الساعة الشيخ حمادا وقال لي : يا يوسف أسرع إلى مدرسة الشيخ عبد الفادر وقل للمشايخ الذين فيها صدق الشيخ عبد القادر فيما أخبره به عني ، فلم يتم كلامه حتى جاء الآخر وأخبر بمثل ما أخبر به فقاموا واستغفروا ، وكانفلاق البحر وجفافه . في الرسالة عن بعضهم كنا في مركب فمات رجل منا فأخذنا في جهازه فلما أردنا أن نلقيه في البحر جف فحفرنا له قبرا ودفناه فارتفع الماء والمركب وسرنا ، وكانقلاب الأعيان وهو كثير لا يحصى منه انقلاب الخمر سمنا كما وقع للشيخ عيسى الهتار اليمني ؛ فإنه مر على بغي فواعدها ليلتها بعد العشاء ففرحت وتزينت ، وجاء ودخل بيتها وصلى ركعتين ثم خرج وقال حصل المقصود فتابت وزوجها لبعض الفقراء ، وأمر بعمل عصيدة وليمة وأن لا يشتري لها إداما ثم حضر هو والفقراء كالمنتاظرين الإدام وكان وصل الخبر لأمير خدن لها فأرسل بقارورتي خمر يمتحن الشيخ بهما ليأتدموا بهما ، فأخذهما الشيخ فصبهما سمنا أطيب ما يوجد فأكل منه الرسول وبلغ الخبر الأمير فحضر وأكل ما أدهشه فتاب لوقته ، وكطي الأرض لهم وتعدد صور جسدهم في أمكنة مختلفة وتفجير الماء وكلام الجمادات والحيولانات لهم وطاعة الأشياء لهم حتى الجن وغير ذلك مما اشتهر وتواتر أدحض حجة المخالفين وأباد شبة الجاهلين .
قال اليافعي : ومما تفرق الكرامة فيه المعجزة أن المعجزة يجب على النبي صلى الله عليه وسلم إظهارها والكرامة يجب على الولي إخفاؤها إلا عند الضرورة أو إذن أو حال غالب لا يكون له فيه اختيار أو تقوية(1/710)
<304>يقين مريد . قال : وإطلاق المحققين أنه يجوز له إظهارها يحمل على بعض هذه الصور للعلم بأن إظهارها بغير غرض لا يجوز بخلافه لغرض صحيح ، وضابطه أن يكون في إظهارها مصلحة كما وقع لكافر ملك أنه قال لشيخ : إن لم تظهر لي كرامة وإلا قتلت الفقراء فأظهر له قلب بعير ذهبا ورمى بكوز فارغ في الهواء فامتلأ ماء فنكس رأسه فلم يخرج منه قطرة ، فقيل للملك هذا سحر ، فأمر الشيخ بإيقاد نار عظيمة وبالسماع ثم دخل هو والفقراء فيها وخطف ولد الملك معهم فغاب ساعة وخرج وبإحدى يديه رمانة والأخرى تفاحة ، فقيل وهذا سحر أيضا ، فأخرج له الملك قدحا ملآن سما وقال لا أصدق إلا أن شربته جميعه فأمر بالسماع ثم شربه فتمزقت ثيابه فأبدلت فتمزقت فأبدلت فتمزقت وهكذا حتى بقيت ولم يصبه شيئ غير أنننه كان يرشح عرقا ؛ وكما وقع للعارف أبي عباس المرسي أن رجلا أضافه وقدم له طعاما خبيثا امتحانا له فقال إن كان على يد الحارث ابن أسد المحاسبي عرق يضرب إذا قدم له الحرام فعلى يدي ستون عرقا كذلك فاستغفر الرجل وتاب . (1/711)
مطلب في الفرق ين الكرامة والسحر
وأما الفرق بين الكرامة والسحر فهو أن الخارق الغير مقترن بتحدي النبوة فإن ظهر على يد صالح وهو القائم بحقوق الله وحقوق خلقه فهو الكرامة أو على يد من ليس كذلك فهو السحر أو الاستدراج . قال إمام الحرمين : وليس ذلك مقتضى العقل ولكنه متلقى من إجماع العلماء انتهى . وتمييز الصالح المذكور عن غيره بين لا خفاء فيه إذ ليست السيما كالسيما ولا الآداب كالآداب ، وغير الصالح لو لبس ما عسى أن يلبس لابد أن يرشح من نتن فعله أو قوله ما يميزه عن الصالح . (1/712)
مطلب في تعريف البراهمة
ومن ثم ناظر صوفي برهميا ، والبراهمة قوم تظهر لهم خوارق لمزيد الرياضيات فطار البرهمي في الجو فارتفعت إليه نعل الشيخ ولم تزل تضرب رأسه وتصفعه حتى وقع على الأرض منكوسا على رأسه بين يدي الشيخ والناس ينظرون . أقول : ووقع نظير هذا لشيخنا العارف ابن أبي الحمائل لما كان بفارس كور بلد قريب من دمياط فدخلها متوسما بوسم الصوفية فأظهر لهم من الخوارق ما أوجب لغالب أهل البلد أنهم تبعوه فظهر منه انحلال كثير عن طريق الاستقامة حتى أغوى كثيرين . وكان له مجلس ذكر بالجامع الذي فيه شيخنا وله فيه مجلس ذكر أيضا ، ففي ليلة فرغ شيخنا من مجلسه وألئك لم يفرغوا فأنصت ساعة ثم قال لتسومته التي يلبسها يلبسها في الجامع يا هذه التاسومة اذهبي إلى هذا الشيخ ، فإن كان كاذبا فاصفعيه إلى أن يخرج من هذا الجامع ، فلم يلبس جماعة شيخنا السامعون لكلامه إلا وهم يسمعون صوت الصفع في رقبة هذا الشيخ ففر وفرت جماعته حتى خرجوا من الجامع ثم من اللد ولم نعلم أين ذهب . ووقع للإمام العارف البهائي السندي صاحب الإمام السهروردي أن برهميا جاء مجلسه وارتفع في الهواء فارتفع الشيخ حينئذ في الهواء ودار في جانب المجلس فأسلم البرهمي لعجزه عن ذلك فإنهم لا يقدرون على الدوران في الهواء وإنما يرتفع الواحد في الهواء مستويا لا غير وناظر عبد الله ابن حنيف برهميا على حقيقة الإسلام ليطوي مع البرهمي أربعين يوما فشرعا فعجز البرهمي عن إكمال المدة وأكملها ابن حنيف على غاية من اللذ1ة والقوة . ووقع له مع برهمي أيضا أنه ناظره على المكث تحت الماء مدة فمات البرهمي أثناءها وظهرت جيفته وبقى ابن حنيف جتى أكملها ثم ظهر .
(1/713)
<305>
(1/714)
مطلب قد يعلم الولي أنه ولي على الصحيح
ومما يفترقان فيه أيضا أن دلالة المعجزة على النبوة قطعية وأن النبي يعلم أنه نبي ، ودلالة الكرامة على الولاية ظنية ولا يعلم مظهرها أو من ظهرت عليه أنه ولي وقد يعلم ذلك وفقا للأستاذين الكبيرين والإمامين أبي علي الدقاق وأبي القاسم القشيري وردا على من نازع في ذلك بأنه ينافي الخوف فقال وما يجدونه في قلوبهم من الهيبة والإخلال لحق سبحانه يزيد على كثير من الخوف انتهى . على أن التحقيق أن علم الولاية لا ينافي الخوف ، ألا ترى أن العشرة المبشرون بالجنة عالمون أنهم من أهلها ومع ذلك كان عندهم من الخوف ما لا يحد كما عرف من سيرهم في ذلك رضوان الله عليهم . وإنما كانت الكرامة بعد زمن الصحابة رضي الله عنهم أكثر قال أحمد ابن حنبل رضي الله عنه : لأن ألئك كان إيمانهم قويا فلم يحتاجوا إلى زيادة مقو بخلاف من بعدهم فقووا بزيادة الكرمات ، وقال الشهاب السهروردي : وهو كالشرح لما قبله لأنهم ببركة رؤيته صلى الله عليه وسلم ومشاهدته مع نزول الوحي تنورت بواطنهم وتزكت نفوسهم وانصقلت مرآة قلوبهم فاستغنوا بما أعطوا عن رؤية الكرامة واستلماع أنوالر القدرة ووطأ لهذه بقوله قبله : وخرق العادة قد يكاشف به لضعف يقين المكاشف رحمة ناجزة وثوابا معجلا لبعض العباد وفوق هؤلاء قوم ارتفعت الحجب عن قلوبهم وباشرت بواطنهم روح اليقين وصرف المعرفة فلا حلجة لهم إلى رؤية خارق . وأجاب اليافعي بأن الكرامة نور وزين والنور إنما يظهر حسن بهائه في الظلمة والزين إنما يظهر كمال حسنه بحس الشين والطامة والشين إنما وجدا بعد الصحابة رضي الله عنهم ألا ترى أن الشمس إذا غربت لا تظهر الظلم ولا الكواكب عقب غروبها إلا بعد مزيد بعدها عن الأفق ، وبأن الصحابة كاوا أهل سن وحق وعدل ومن بعدهم بضدهم فبعث الله في سائر البلدان رجالا قلدهم سيوفا ماضية قطعوا بها مواد الفساد والبدع والمخالفات حتى خافهم الناس وأذعنوا لهم أي فمن ثم كثرت فيهم تلك السيوف المكني بها فلا زالت دائمة مستمرة معجزة له صلى الله عليه وسلم انتهى ملخص جوابيه . والثاني منهما يئول حاصله إلى الجوابين الأولين والثاني لا يصلح جوابا لكثرة المسؤل عنها بل لظهور عظيم موقع الكرامة في النفوس بعد زمن الصحابة أكثر منه في زمنهم ، وهذا مبحث آخر ؛ على أنه قد يتوهم من تمثيله بالشمس والكواكب أن الأزمنة المتأخرة فيها من نجوم العارفين وكواكب المهتدين ما ليس في الأزمة الأمل ، وهذا إن وجد منه أفراد إلا أنه بالنسبة لغير الصحابة إذ الصواب أن من بعدهم وإن كمل ما كمل لا يصل إلى غايتهم كما قال صلى الله عليه وسلم " لو أنفق أحدكم مثل حبل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم – أي الصحابة – ولا نصيفه " وأما قول ان عبد البر : قد يوجد في الخلق من هو أفضل من الصحابة لحديث " أمتي كالمطر لايدري أوله خير أم آخره ط وأحاديث أخر قريبة منه فهو مقالة شاذة جدا ، وليس في الأحاديث دلالة لأن بعض المتأخرين قد يوجد له مزايا لا توجد في بعض الصحابة ومن المقرر أن المفضول قد يتميز بمزاياه . (1/715)
مطلب في قول ابن المبارك والله للغبار الذي دخل أنف فرس معاوية
ويؤيد ذلك ابن المبارك وناهيك به إمامة وعلما ومعرفة سئل أيما أفضل معاوية أم عمر ابن عبد العزيز ؟ فقال : والله للغبا الذي دخل أنف فرس معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من مائة واحد مثل ابن عبد العزيز ، يريد ذلك أن شرف اتلصحبة والرؤية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحلول نظره الكريم لا يعادله عمل ولا يوازيه شرف .
(1/716)
<306>
(1/717)
مكطلب في حكمة كون الكرام بعد زمن الصحابة أكثر
( تتمات : منها ) نقل اليافعي رحمه الله تعالى أن كرامات الأولياء من تتمة معجزات النبي صلى الله عليه وسلم لأنها تشهد للولي بالصدق المستلزم لكمال دينه المستلزم لحقيته المستلزم لصدق نبيه فيما أخبر به من الرسالة ، وكانت الكراهة من جملة المعجزة بهذا الاعتبار .
ومنها لا تتعجب من إنكار قوم للمعجزات وإن بلغت من الكثرة والظهور إلى أن صار العلم بها ضروريا بل بديهيا فقد أنكر قوم القرآن الذي هو أعهظم المعجزات وأبهر الآيات ووصل العناد بهؤلاء إلى أن قال الله في حقهم {ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} وليس العجب من إنكار لمعتزلة الكرامات فإنهم قد خاضوا فيما هو أقبح من ذلك ، وأنكروا النصوص المتواترة المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم كسؤال الملكين وعذا القبر والحوض والميزان وغير ذلك من عظيم كذبهم وافترائهم لتقليدهم لعقولهم الفاسدة ، وتحكيمهم لها على الله وآياته وأسمائه وصفاته وأفعاله فما رأوه من ذلك موافقا لتلك العقول السقينة الفاسدة اللئيمة قبلوهو ما لا ردوه ، ولم يبالوا بتكذيب السنة والقرآن والإجماع لأن كلمة الغضب حقت عليهم وقبائح المذام تسابقت إليهم ، وإنما العجب من قوم تسموا بأهل السنة وزعموا أنهم من حملة تلك المنة ، ومع ذلك يبالغون في الإنكار لأن كلمة الحرمان حقت عليهم إلى أن ألحقنهم بأهل البوار وأوجبت لهم نوعا من البوار والخسار ، وهؤلاء أقسام : فمنهم من ينكر على مشايخ الصوفية وتابعيهم ، ومنهم من يعتقد إجمالا وإن لهم كرامات ومتى عين له أحد منهم أو رأى كرامة أنكر ذلك لما خيله له الشيطان أنهم انقطعوا وأنه لم يبق إلا متلبسا مغرورا احتوى عليه الشيطان ولبس عليه وهؤلاء من العناد والحرمان بمكان أيضا ، وقد قرر ابن الجوزي من الوقوع في خطرهم إلا أن تكون له نية صالحة كقصده قمع مبتدعة في زمانه ، وذلك أنه صنف كتابا سماه ( تلبيس إبليس ) تكلم فيه على شيوخ الصوفية وطريقهم وزعم أن إبليس لبس عليهم . قال اليافعي : ولم يدري أنه هو الذي لبس عليه في كلامه هذا واعتقاده فيهم وهو لا يشعر ، والعجب كل العجب منه إنكاره سادات ما ين أوتاد وأبدال وصدقين وعارفين بالله قد مائوا الوجود كرامات وأنوار ومعارف أعرضوا في بدايتهم عما سوى الله فحصل لهم في نهايتهم من فضل الله ما لا يعلمه إلا الله ، فقول الصغير منهم وقفت على باب قلبي عشرين سنة ما جاذبه شيئ غير الله إلا رددته ، هذا وهو يطول كلامه بحكايتهم وينفق بضاعته بمحاسن صفاتهم فهلا أخلى كتبه من ذكرهم إخلاء عاما ولا يكون مما يحلونه عاما ويحرمونه عاما، أما علم أن علماء أعلام الأئمة من المجتهدين ومن بعدهم من الأئمة لم يزالوا قديما وحديثا يعتقدون الصوفية ويتبركون بهم ويستمدون منهم ، ولقد وقع المتقي ابن دقيق العيد أنه قا في حق فقير كان يعتقده ويخضع له هو عندي خير من مائة فقيه أو من ؟ألف فقيه ، وكذلك النووي رضي الله عنه كان يغعتقد الشيخ يس المزين ويقبل إشارته حتى أنه أمره بالسفر ورد ما هنده من الكتب المستعارة قبل موته بقليل ففعل وسافر من دمشق راجعا البلدة نوى فتوفى بها بين أهله ، وكذلك العز ابن عبد السلام كان يبالغ في تعظيم الصوفية .
(1/718)
<307>(1/719)
مطلب ما يدل على حياة الخضر عليه السلام
وفي حياة الخضر ما يرد على ابن الجوزي في إنكار حياته على أنه ناقض نفسه فإنه روى بإسناده المتصل أربع روايات تدل على حياته . منها عن علي كرم الله وجهه " أنه رآه متعلقا بأستار الكعبة " ومنها عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ولا أعلمه إلا مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يلتقي الخضر وإلياس في كل عام في الموسم فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه " ومنها : عن علي كرم الله وجهه " أنه يجتمع مع إسرافيل وجبريل وميكائيل بعرفات والحجيج بها " ولقد وقع لمن أنكر على فقير في سماع وبقربهم نساء أنه رأى ذكره فرج امرأة فبهت ساعة طويلة ، فقام الشيخ وجاءه وقال : هكذا تكون الفقراء إذا جلس عندهم النساء ، فتاب فدعا له الشيخ فعاد لحاله الأولى .
قلت : ومثل هذا السماع لا يباح إلا لمثل هذا الشيخ وأتباعه المحفوظين مع أن سماع الخالي عن المحرمات الظاهرة فيه اختلاف وتفصيل ، وجاء غلمان السلطان لأخذ خراج أرض لبعض الفقراء فخرج عليهم منها ثعابين فهربوا ولم يزالوا هاربين حتى انقرض الشيخ وأولاده ، فعادوا للأخذ من أولاد الأولاد فخرجت إليهم الثعابين وتبعهم كذلك ، وأنا ممن رأى تلك الأرض حين خرج منها الثعابين . وسرق لبعض ذرية هذا الشيخ بقرة فلما أراد السراق حلبها التفت الثعابين بأرجلهم فما خلصوا إلا بالمبادرة بردها انتهى كلام اليافعي قدس سره ملخصا . ولقد قال الأستاذ العارف أبو الحسن الشاذلي رحمه الله في قوم يكذبون بكرامات أولياء زمانهم فقط : والله ما هي إلا إسرائيلية صدقوا موسى وكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم لأنهم أدركوا زمنه .
ومنها : أي من جملة الكرامات الخوارق التي وقعت للأنبياء علهم الصلاة والسلام قبل النبوة كإظلال الغمام وشق الصدر الواقعين لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فليست معجزات لتقدمها على التحدي بل كرامات وتسمى إرهاصا : أي تأسيسا للنبوة ذكر ذلك جمهور أئمة الأصول وغيرهم .
ومنها التحدي أي طلب المعارضة والمقابلة . قال الجوهري : يقال تحديت فلانا إذا باريته في فعل ونازعه للمغالبة ، وفي الأساس : حدا يحدوا وهو حادي الإبل واحتدى بها حدوا إذا غنى ، ومن المجاز تحدي أقرانه إذا باراهم وناعهم للغلبة وأصله الحدو يتبارى فيه الحاديان ، ويتعارضان فيتحدى كل واحد صاحبه أي يطلب حداه كما يقال : توفاه بمعنى استوفاه ، وأصل ذلك أنه كان عند الحد ويقوم حاد عن يمين القطار وحاد عن يساره يتحدى كل منهما صاحبه بمعنى يستحديه أي يطلب منه حداه ثم اتسع فيه حتى استعمل في كل مباراة . (1/720)
مطلب لا بد في المعجزة من التحدي أي ولو بالقوة
ومنها : اختلفوا في السحر هل تنقلب به الأعيان والطبائع ؟ فقال قوم : نعم كجعل الإنسان حمارا ، وقال قوم : لا فالساحر والصالح لا يقلبان عينا مطلقا . قالوا : وإلا لاشتبهت المعجة بالكرامة والكرامة بالسحر ويرده ما مر من امتياز المعجزة باقترانها بالتحدي ، وأما زعمهم أن أكثر آياته صلى الله عليه وسلم وأعمها وأغلبها كان بال تحد كنطق الحصى والجذع ونبع الماء ولعله لم يتحد بغير القرآن وتمني الموت وإن عدم تسمية ما عدا هاتين آية ولا معجزة أقرب إلى الكفر منه إلى البدعة ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول عند بعضهم " أشهد(1/721)
<308>أني رسول الله وقد سمى الله معجات الأنبياء آيات ولم يشرط تحديا انتهى . فيرد بأن المراد بقولهم في المعجزة لا بد من اقترانه بالتحدي الاقتران بالقوة أو الفعل ، ولا شك أن كل ما وقع منه صلى الله عليه وسلم بعد النبوة مقرون بالتحدي لأن قرائن أقواله وأحواله ناطقة بدعواه النبوة وتحديه للمخالفين وإظهاره ما يقمعهم ويحديهم فكان كل ما ظهر منه صلى الله عليه وسلم يسمى آيات ومعجزات وقوله صلى الله عليه وسلم عند ظهور بعضها : " أشهد أني رسول الله " شاهد صدق على ما ذكرته فتأمله .
ومنها : التمييز بين الكرامة والمعجزة بما مر أن لفظ المعجزة خاص بخوارق الأنبياء ن ولفظ الكرامة خاص بخوارق الأولياء وإنما هو اصطلاح الخلف ، وأما السلف فكانوا يسمون كل من الأمرين معجزة كالإمام أحمد وغيره ويخصون خوارق الأنبياء باسم الآية والبرهان ، وقد يسمون الكرامة آية لدلالتها على نبوة من اتبعه ذلك الولي كما مر بيانه ، والله سبحانه وتعالى أعلم . (1/722)
مطلب هل أصحاب الكرامات من الأولياء أفضل ممن لا تظهر على يده كرامة ظاهرة
وسئل نفع الله بع وبعلومه : هل أصحاب الكرامات من الأولياء أفضل ممن لا تظهر على يده كرامة ظاهرة ؟ .
فأجاب بقوله : ليس ذوو الكرامات أفضل من غيرهم على الإطلاق بل قد تنبئ الكرامة عن ضعف يقين أو همة فتجعل لمن أراد يه عناية حتى يزول عنه كل من ذينك أو أحدهما ، بل قد تقع الكرامة لمحب أو زاهد ولا تقع لعارف مع أن المعرفة أفضل من المحبة عند الأكثرين وأفضل من الزهد عند الكل لأن الزهد من أوائل المقامات والمحبة أول الأحوال الناشئة عن مجاوزة المقامات ، ويؤيد ذلك قول أبي يزيد رضي الله عنه : العارف طيار والزاهد سيار . وقال غيره : وأنى يلحق السيار بالطيار . وقال ذو النون المصري : الزهاد ملوك الآخرة وهم فقراء العارفين ، فعلم أنه لا دخل للكرامة في الأفضلية وإنما منشأ الأفضلية قوة اليقين وكمال المعرفة الله تعالى فكل من كان أقوى يقينا وأكمل معرفة كان أفضل ، ولهذا قال سيد الطائفة أبو القاسم الجنيد قدس الله سره : مشى رجال باليقين على الماء ومات بالعطش من هو افضل منهم يقينا ، وقال أيضا : اليقين ارتفاع الريب في مشهد الغيب . وقال سهل التستري : حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين وفيه سكون إلى غير الله . ولا يشكل عليك ما مر من حكاية الإطلاق في التفضيل بين المحب والعارف مع ان العارف لا بد أن يكون محبا لأن المراد من ذلك إنما هو التفضيل بين غلية المحبة وغلبة المعرفة لأن بعضهم يغلب عليه سكر المحبة وشدة الهيمان والوله بمحبوبه ، وبعضهم يغلب عليه المشاهدة وظهور الأسرار والمعارف وكثرة التجليات مع اعتدال حاله في المحبة في غالب الحالات فيكون أكثر معارف والأول أشد ولها وسكرا ، ومن ثم قال المحققون : المحبة استهلاك في لذة والمعرفة شهود في حيرة وفناء في محنة انتهى . (1/723)
مطلب في الفرق بين اليقين وعلم اليقين وعين اليقين وحق اليقين
واعلم أن اليقن هو نهاية المعرفة ، ومراتبه ثلاثة : علم اليقين ، وهو ما ينشأ عن النظر والاستدلال . وعين اليقين وهو ما يكون من طرق الكشف والنوال . وحق اليقين ، وهو مشاهدة الغيب مشاهدة العيان كما يشاهد الرائي ، فالأول للأولياء ، والثاني لخواصهم ، والثالث للأتبياء ، وحقيقته اختص بها نبنا محمد صلى الله عليه وسلم .
(1/724)
<309>
(1/725)
مطلب أيما أفضل علماء الباطن أم علماء الظاهر ؟
وسئل رضي الله عنه ونفع به : أيما أفضل علماء الباطن أم علماء الظاهر ؟ .
فأجاب بقوله : إن أردت بعلماء الباطن ما هو المتبادر منه عند أهله وهم العارفون بالله الذين وفقهم الله لأفضل الأعمال وحفظهم من سائر المخالفات في كل الأحوال ، ثم كشف لهم الغطاء فعبدوه كأنهم يرونه واشتغلوا بمحبته عما سواه ، وأطلعهم على عجائب ملكه وغرائب حكمه ، وقربهم من حضرة قدسه ، وأجلسهم على بساط أنسه ، وملأ قلوبهم بصفات جماله وجلاله وجعلها مطالع أنواره ومعادن أسراره وخزائن معارفه وكنوز لطائفه ، وأحيا بهم الدين ونفع بهم المريدين وأغاث بهم العباد وأصلح بهم البلاد ، وبعلماء الظاهر الذين عرفوا رسوم العلوم الكسبية وعويصات الوقائع الفعلية والقولية وغرائب البراهين العقلية والنقلية حتى حفظوا سياج الشرع من أن يلم به طارق أو يخرقه مبتدع مارق فالأولون أفضل ، وإن كان للآخرين فضل عظيم ، بل ربما كانوا أفضل من حيثية لا مطلقا ومع ذاك فأفضلية الأولين على حالها إذ قد يكون في المفضول مزية بل مزايا ، هذا إن وجدت في هؤلاء صفة العدالة وإلا فلا مفاضلة إذ لا مشاركة بينهم وبين الأولين في شيء من صفات الكمال لأن رسوم العلوم الخالية عن الأعمال الصالحة في الحقيقة مقت أي مقت ، وغضب أي غضب ، ومن ثم جاء في الأخبار الصحيحة من عقاب العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم ما يدهش اللب ويحير الفكر ، هذا هو الحق في هذه المسالة خلافا لمن أطلق الكلام في تفضيل أحد الشقين ولم ينح هذا التفصيل الذي أبديته . ولا يرد على ذلك ما وقع لموسى مع الخضر صلى الله على نبينا وعليه وسلم بناء على ما عليه الجمهور من الصوفية من أن الخضر ولي لأن موسى أفضل منه إجماعا لأنه امتاز على الخضر بخصوصيات لا تحصى ، وإنما غاية ما يتميز به الخضر أنه اطلع على جزئيات من عالم الغيب لم يطلع علها موسى فتلمذ له لأجلها وتأديبا من الله إذ سئل من أعلم الناس ؟ فقال : أنا ولم يرد العلم إلى الله فليست قضيتهما مما نحن فيه بوجه خلافا لليافعي رحمه الله حيث جعلها دليلا لتفضيل الأولين ، ومما يدل لأفضلية الأولين ما هو مقرر أن العلماء إنما يشرفون على قدر شرف معلومهم وشرف العلوم تابع تابع لشرف غاياتها . فعلوم المعارف المتعلقة المتعلقة بالله وأسمائه وصفاته أشرف العلوم وأصحابها أشرف العماء ، ويليها في الشرف علم الفقه لأن غايته معرفة أحكام الله وشرعه الذي تعبد به عباده ، وجميع العلوم وسيلة إلى هذين العلمين المشتملين على معرفة الله ومعرفة عبادته لأن الخلق لم يخلقواإلا لذلك {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} والعبادة تفتقر إلى المعرفة ، ومن فسرها بالمعرفة فهي مستلزمة للعبادة إذ من عرف الله عرف وجوب عبادته وطاعته ، ومما يوضح لك أن العلوم وسيلة لذينك العلمين أنها وسيلة لمعرفة الفقه الوسيلة لمعرفة العمل الوسلة للعمل الوسيلة لطاعة الله وقربه الوسيلة لمعرفته ؛ فمن استعمل هذه الوسائل على وجهها وصل بها إلى المقصود الأعظم وإلا فهو الخاسر الجاهل وإن كان بصورة عالم ، ومما يدل على أفضلية علم المعرفة على الفقه وغيره أمور :
منها : أن العلوم والمعارف اللدنية يختص بها الأولياء والصديقون والعلوم الظاهرة ينالها حتى الفسقة والزنادقة ومن ثم قال السهروردي في عوارفه : وينبيك عن شرف علم الصوفية وزهاد العلماء أن العلوم كلها لا يبعد تحصيلها مع محبة الدنيا والإخلال بحقائق التقوى ، وربما كانت محبة الدنيا عونا على اكتسابها لأن الاشتغال بها شاق على النفوس جبلت على محبة الجاه والرفعة حتى إذا استشعرت حصول ذلك بحصول العلم(1/726)
<310>أجابت إلى تحمل الكلف وسهر الليل والصر على الغربة والأسفار وفقد الملاذ والشهوات ، وعلوم هؤلاء القوم يعني الصوفية لا تحصل بمحبة الدنيا ولا تنكشف إلا بمجانبة الهوى ولا تدرس إلا في مدرسة التقوى قال الله تعالى {واتقوا الله ويعلمكم الله} .
ومنها أن شرف العلم على قدر شرف انتفاع صاحبه ونفعه الغير به ، والعارفون هم الذين انتفعوا ونفعوا حقا ، ويكفي في انتفاعهم تطهير قلوبهم مما سوى الله وامتلاؤها بمحبته ومعرفته ، ومن نفعهم للخلق أن بركتهم تغيث العباد ويدفع بها الفساد وإلا لفسدت الأرض ويقام بهم الدين ويرشد بهم المريدون إلى التطير من كل خلق دنيء والترقي إلى التحلي بكل وصف عل . (1/727)
مطلب في حكايات غريبة عن الأولياء قدس سرهم
ومن ثم وقع لعارف أن تلميذه أراد الزنا بامرأة فلما هم سمع صوت شيخه من بلاد بعيدة يقول : هكذا تفعل يا فلان ففر هاربا . ووقع لآخر من تلميذه في نظير ذلك أنه ما شعر إذا هم إلا والشيخ قد لطمه لطمة أذهب بصره فخرج وأمر من جاء به إلى الشيخ فقال : ادع الله أن يرد بصري فإني تائب إلى الله تعالى ، فقال نعم ولكن لا تموت إلا أعمى فدعا له فرد عليه بصره ثم عمي قبل موته بثلاثة أيام ، وكذلك وقع للشيخ أبي الغيث بن جميل اليمني رحمه الله أنه كان له تلميذ بالعجم هم بالزنا بامرأة فضربه الشيخ بقبقابه مع زجر وغضب بحضرة الفقراء فلم يدروا ما الخبر حتى قدم الشيخ العجمي بقبقاب الشيخ بعد شهر تائبا ، وكذلك للجيلاني أنه رمى فردتي قبقابه أثر وضوئه مع صرختين عظيمتين قلم تدر الفقراء ما الخبر حتى قدمت قافلة بعد ثلاثة وعشرين يوما فأخبروه أن عربا نهبوا أموالهم واقتسموها وهم ينظرون فنذروا للشيخ بشيء إن نجوا منهم فسمعوا الصرختين وجاءهم العرب بأموالهم وأخبروهم أن فردتي القباب جاءتا إلى كبيرهم فقتلتاهما فأخذوهما وهما مبلولتان وقدموا بهما .
ومنها : ما وقع في فضل أويس القرني رضي الله عنه ونفعنا به وكونه أفضل التابيعين في بعض روايات صحيح مسلم مع ما في التابيعين من العلماء الكبار الذين لا يحصون .
ومنها أن ابن عبد السلام صرخ بتقضيل العارفين بالله ومن ثم لما سمع إملاء القطب أبي الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى على رسالة القشيري صار بقول : اسمعوا إلى هذا الكلام العجيب الغريب القريب العهد بربه .
ومنها قول الأستاذ أبي القاسم الجنيد نفع الله به : لو علمت تحت اديم السماء علما أشرف من علمنا هذا لسعيت إليه وقصدته . وقال الشهاب السهروردي : الإشارة في خبر " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " إلى هذا العلم الذي هو العلم بالله وقوة اليقين دون علم نحو البيع والطلاق والعتاق . قال : وقد يكون الإنسان عالما بالله ذا يقين وليس عنده علم من فروض الكفايات ، وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم أعلم من علماء التابعين بحقائق اليقين ودقائق المعرفة مع أن في علماء التابعين من هم أقوم بعلم الفقه من بعض الصحابة . قال : والعلماء الزاهدون بعد الأخذ مما لا بد منه أقبلوا على الله وانقطعوا إليه وخلصت أرواحهم إلى مقام القرب فأفاضت على قلوبهم أنوار إلهيات تهيأت بها لإدراك العلوم الربانية والمعارف الإلهية ، والله أعلم .
(1/728)
<311>
(1/729)
مطلب في الفرق بين الحقيقة والشريعة
وسئل نفع الله به : عن حقيقة الفرق بين الحقيقة والشريعة ؟ .
فأجاب بقوله : فرق بينهما بفروق : منها أن الحقيقة هي مشاهدة أسرار الربوبية ولها طريقة هي عزائم الشريعة ونهاية الشيء غير مخالفة له على ما يأتي ، فالشريعة هي الأصل ومن ثم شبهت بالبحر والمعدن واللبن والشجرة ، والحقيقة هي الفرع المستخرج من الشريعة ومن ثم شبهت بالدر والتبر والزيدة والثمرة ، ومعنى سلب المخالفة لخما المذكور أنه لس بينهما اختلاف في مجاري أحكام العبودية وإنما يختلفان في مشاهدة أسرار الربوبية ، ولا شك أن أهلهما متفاوتون في الاعتناء والاهتمام بعلم صفات القلب والأخذ بعزائم الأحكام وليس ذلك اختلافا بينهما ، وبين ذلك اليافعي رحمه الله بأن الشريعة علم وعمل ، والعلم ظاهر وباطن ، والظاهر شرعي وغيره ، والشرعي فرض ومندوب ، والفرض عين وكفاية ، والعين علم صفات القلب وعلم أصل وعلم فرع ، والعمل عزائم ورخص ، والحقيقة مشتملة على قسمين علم وعمل ، والعلم وهبي وكسبي ، فالوهبي علم المكاشفة والكسبي فرض عين وفرض كفاية وفرض العين علم القلب وعلم أصل وعلم فرع ، فالكسبي الذي هو أحد علم نوعي قسمي الحقيقة هو علم الشريعة والعمل الذي هو العزائم مشتمل على سلوك طريق الحقيقة ، والطريقة مشتملة على منازل السالكين وتسمى مقامات اليقين ، والحقيقة موافقة للشريعة في جميع علمها وعملها أصولها وفروعها وفرضها ومندوبها ليس بينهما مخالفة أصلا ، نعم هنا شيئان : أحدهما علم صفا تالقلب فأهل الحقيقة لهم به اهتمام واعتناء جدا وسلوك طريقتهم موقوف على معرفته وتبديل صفاته الذميمة ، وأكثر أهل الشريعة يهملون ذلك ويتهاونون به مع كونه فرض عين في الشريعة والحقيقة بلا خلاف ، والثاني الرخص فأهل الحقيقة من حيث العلم والاعتقاد لا يشكون في حقيقتها وأنها من رحمة الله عباده ، وأما من حيث علمهم فإنما يسلكون شوامخ عزائم الشريعة الغراء إلى الله بتوفيقه وعنايته وجميل لطفه وصيانته ، فمنهم من لا يقطعها إلا في سبعين سنة ومنهم من يقطعها في ساعة واحدة بحسب معونة الله وتسهيله . (1/730)
مطلب في حكم ما إذا قال فلان يعلم الغيب
وسئل نفع الله به بما لفظه : من قال إن المؤمن يعلم الغيب هل يكفر لقوله تعالى {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} وقوله {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا} أو يستفضل لجواز العلم بجزئيات من الغيب ؟ .
فأجاب بقوله رحمه الله ونفعنا به آمين : لا يطلق القول بكفره لاحتمال كلامه ومن تكلم بما يحتمل الكفر وغيره وجب استفضاله كما في الروضة وغيرها ، ومن ثم قال الرافعي ينبغي إذا نقل عن أحد لفظ ظاهره الكفر أن يتأمل ومعن النظر فيه فإن احتمل ما يخرج اللفظ عن ظاهره من إرادة تخصيص أو مجاز او نحوهما وسئل اللافظ عن مراده وإن كان الأصل في الكلام الحقيقة والعموم وعدم الإضمار لأن الضرورة ماسة إلى الاحتياط في هذا الأمر واللفظ محتمل ، فإن ذكر ما ينفى عنه الكفر مما يحتمله اللفظ ترك وإن لم يحتمل اللفظ خلاف ظاهره أو ذكر غير ما يحتمل أو لم يذكر شيئا استتيب ، فإن تاب قبلت توبته وإلا فإن كان مدلول لفظة كافرا مجمعا عليه حكم بردته فقتل إن لم يتب ، وإن كان في محل الخلاف نظر في الراجح من الأدلة إن تأهل وإلا أخذ بالراجح عند أكثر المحققين من أهل النظر ، فإن تعادل الخلاف أخذ بالأحوط(1/731)
<312>وهو عدمالتكفير ، بل الذي أميل إليه إذا اختلف في التكفير وقف حاله وترك الأمر فيه إلى الله تعالى انتهى كلامه .
وقوله : وإن كان في محل الخلاف الخ محله في غير قاض مقلد رفع إليه أمره وإلا لزمه الحكم بما يقتضه مذهبه إن انحصر الأمر فيه سواء وافق الاحتياط أم لا ، وما أشار إليه الرافعي من الاحتياط في غراقة الدماء ما أمكن وجيه ، فقد قال حجة الإسلام الغزالي : ترك قتل ألف نفس استحقوا القتل أهون من سفك محجم من دم مسلم بغير حق ، ومتى استفصل فقال أردت قولي المؤمن يعلم الغي أن بعض الأولياء قد يعلمه الله ببعض المغيبات قبل منه ذلك لأنه جائز عقلا وواقع نقلا إذ هو من جملة الكرامات الخارجة عن الحصر على ممر الأعصار ، فبعضهم يعلمه بخطاب وبعضهم علمه بكشف حجاب وبعضهم يكشف له عن اللوح المحفوظ حتى يراه ، ويكفي بذلك ما أخبر به لاقرآن عن الخضر بناء على أنه ولي وهو ما نقل عن جمهور العلماء وجميع العارفين إن كان الأصح أنه نبي صلى الله عليه وسلم ، وما جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه أخبر عن حمل امرأته أنه ذكر وكان كذلك . وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كشف عن سارية وجيشه وهم بالعجم فقال على منبر المدينة وهو يخطب يوم الجمعة : يا سارية الجبل يحذره الكمين الذي أراد استئصال المسلمين ، وما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في حق عمر رضي الله تعالى عنه : " إنه من المحدثين " إيي الملهمين ، وفي رسالة القشيري وعوارف السهروردي وغيرهما من كتب القوم ما لا يحصى من القضايا التي فيها أخبار الأولياء بالمغيبات كقول بعضهم : أنا غدا أموت وقت الظهر وكان كذلك ، ولما دفن فتح عينيه فقال له دافنه : أحياة بعد موت ؟ فقال أنا حي وكل محب لله حي ، وكقول سائل لمن حضر للإنكار عليه {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} فتاب باطنه فقال {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} . وروى السهروردي عن الجيلاني أنه قال لرجل : عندك وديعة لفلان فتوقف لامتناعه شرعا ثم لما لم ير من ذلك بدا دفع للشخ ما طلبه فقدم كتاب من المودع لوديعه : أعط الشيخ كذا بقدر ما أخذه الشيخ . قال اليافعي : وروي مسندا عنه أعني الشيخ عبد القادر أن شيخا أرسل جماعة يقولون له : إن لي أربعين سنة في دركات باب القدرة فما رأيتك ثم ، فقال لاشيخ في ذلك الوقت لجماعة من أصحابه : اذهبوا إلى فلان تجدون جماعته في بعض الطريق أرسلهم إلي كذا فردوهم معكم إليه ثم قولوا له يسلم عليك الشيخ عبد القادر ويقول لك : أنت في الدركات ، ومن هو في الدركات لا يرى من هو في الحضرة ، ومن هو في الحضرة لا يرى من هو في المخدع ، وأنا في المدخل أدخل وأخرج من باب السر حيث لا تراني بأمارة إن خرجت لك الخلعة الفلانية في الوقت الفلاني على يدي خرجت لك وهي خلعة الرضا ، وبأمارة خروج التشريف الفلاني في الليلة الفلانية على يدي خرج وهو تشريف الفتح ، وبأمارة أن خلع عليك في الدركات بمحضر اثني عشر ألف ولي وهي خلعة الولاية ، وهي فرجية خضراء وطرازها سورة الإخلاص على يدي خرجت لك ، فانتهوا فوجدوا ذلك الشيخ فردوهم ثم أخبروه بما ذكره الشيخ عبد القادر ، فقال : صدق وهو صادق الوقت والتصريف . (1/732)
مطلب في الفراسة
ووقع للشيخ أبي الغيث بن جميل أن قاطع طريق جاءه بحب وآخر بثور فأمر بطبق ذلك وأكله فامتنع الفقهاء من أكل ذلك ، فبعد أن أكل الفقراء ذلك جاءه شخص فقال كنت نذرت لفرائك بحب ، وجاء آخر وقال : كنت نذرت لهم بثور فأخذ القطاع الحب والثور ، وكان الشيخ أمره بإبقاء رأس الثور فأخرجه(1/733)
<313>لصاجبه فعرفه فندم الفقهاء على مخالفة الشيخ ، وأمثال ذلك من الأولياء لا تحصى ويكفي دليلا قوله صلى الله عليه وسلم في الخبر الصحيح : " إن في أمتي 7 ملهمون أو محدثون ومنهم عمر " . وقوله صلى الله عليه وسلم :" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " . ووقف نصراني على الجنيد رحمه الله تعالى وهو يتكلم في الجامع على الناس فقال : أيها الشيخ ما معنى حديث : " اتقوا فراسة المؤمن " فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه وقال : أسلم فقد جاء وقت إسلامك ، فأسلم الغلام . وسئل بعضهم عن الفراسة فقال : أرواح تتقلب في الملكوت فتشرف على الأولياء على بعض الغيوب الآيتان المذكورتان في السؤال بتاء على أن الاستثناء في الثانية منقطع ، وهو ما ذهب إليه المعتزلة واستدلوا به على نفي كرامات الأولياء جهلا منهم أنه لا يدل عليها أو على خصوص علمهم بجزئيات من الغيب إلا هذه الآية إن جعلنا الاستثناء فيها منقطعا ، ووجه عدم المنافاة أن علم الأنبياء والأولياء إنما هو بإعلام من الله لهم ، وعلمنا بذلك إنما هو بإعلامهم لنا وهذا غير علم الله تعالى الذي انفرد به وهو صفة من صفاته القديمة الأزلية الدائمة الأبدية المنزهة عن التغير وسمات الحدوث والنقص والمشاركة والانقسام ، بل هو علم واحد علم به جمع المعلومات كلياتها وجزئياتها ما كان منها وما يكون أو يجوز أن يكون ليس بضروري ولا كسبي ولا حادث بخلاف علم سائر الخلق .
إذا تقرر ذلك فعلم الله المذكور هو الذي تمدح به وأخبر في الآيتين المذكورتين بأنه لا يشاركه فيه أحد فلا يعلم الغيب إلا هو ومن سواه إن علموا جزئيات منه فهو بإعلامه واطلاعه لهم ن وحينئذ لا يطلق أنهم يعلمون الغيب إذ لا صفة لهم يقتدرون بها على الاستقلال بعلمه وأيضا هم نا علموا وإنما علموا وأيضا هم ما علموا غيبا مطلقا لأن من أعلم بشيء منه يشاركه فيه الملائكة ونظراؤه ممن اطاع ، ثم إعلام الله تعالى للأنبياء والأولياء بعض الغيوب ممكن لا يستلزم محالا بوجه فإنكار وقوعه عناد ومن البداهة أنه لا يؤدي إلى مشاركته له تعالى فيما تفرد به العلم الذي تمدح به واتصف به في الأزل وما لا يزال ، وما ذكرناه في الآية صرح به النووي رحمه الله في فتاويه فقال : معناها لا يعلم ذلك استقلالا وعلم إحاطة بكل المعلومات إلا الله وأما المعجزات والكرامات فبإعلام الله لهم علمت وكذا ما علم بإجراء العادة انتهى كلامه . (1/734)
مطلب في شطحات الأولياء
وسئل نفع الله ه بما لفظه : ما الذ يجاب به عما وقع من شطحات الأولياء كقول أب يزيد سبحاني ما في الجبة غير الله ، وقول الحلاج أنا الحق ، ونحو ذلك مما لا يخفى من كلماتهم وإشاراتهم التي طاهرها انتقاد وباطنها حق إلا عند أهل المقت والعناد ؟ .
فأجاب بقوله : ما وقع لهم رضوان الله عليهم من الشطحات للأئمة العلماء العارفين الحكماء الذين حماهم الله بالسلامة من حرمان الإنكار ومن عليهم بالاعتقاد في أوليائه وحمل ما صدر عنهم على أحسن المحامل وأقومها عنها أجوبة مسكتة وتحقيقات مبهتة لا يهتدي إليها إلا الموفقون ولا يعرض عنها إلا المخذولون ، فاحذر أن تكون ممن يتحسى كأس سم الإنكار فيهلك لوقته وبادر بالسلامة من غضب الله ومحاربته ومقته فقد قال على لسان الصادق المصدوق : " من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب " أي أعلمته أني محارب له . قال الأئمة : ولم ينصب الله تعالى المحاربة لأحد من العصاة إلا للمنكرين على أوليائه وآكلي الربا ومن حاربه الله لا يفلح أبدا .
(1/735)
<314>
أحد تلك المسالك : أن تلك الكلمات حكاية عن حضرة الحق ونطق عما يليق وما شاهدوه من أنوارها وغلبة التجوز في نحو ذلك من مقامات المحبة والعبودية والقرب يبسط لهم العذر ويؤفع عنهم الأصر ، ممن اعتمد هذا المسلك الشهاب السهروردي المجمع على إمامته في العلوم الظاهرة والباطنه في عوارفه حيث قال : وما حكي عن أبي يزيد رضي الله عنه من قوله : سبحاني ، حاشا الله أن يعتقد في أبي يزيد أن يقول مثل ذلك إلا على معنى الحكاية عن الله تعالى . قال : وذلك مما ينبغي أن يعتقد في الحلاج رحمه الله في قوله : أنا الحق .
ثانيها : أن ذلك وقع منهم في حال الغيبة والسكر الناشئين عن افناء في المحبة والشهود لموارد الأحوال المزعجة للقلب الآخذة له من صحوه وتمييزه ، ألا ترى أن بعض الهموم أو الواردات الدنيوية إذا وردت على القلب أذهلته وأذهبت تمييزه لشدة تمكنها منه واستغراقه في فكره وخطرها ، فإنه إذا كان هذا في الأمور السالفة التي لا تقاوم جناح بعوضة فكيف بواردات الحق على القلوب ولواعج المحبة المذهلة عن كل مطلوب ومرغوب وعوالم الملكوت المنكشفة لهم في منازلتهم ومشاهدة عجائب القدرة في ترقياتهم ، فإن ذلك لايبقي في القلب شعورا ولا تمييزا بل يصير صاحبه كالسكران الثمل فحينئذ ينطق بما رسخ في خلده قبل ويرجع بطبعه قهرا عليه إلى مكان يلحظه ويعول عليه فينطق لسانه بطبق تلك الأحوال لكن بعبارت لا يقصد بها ما يوهمه ظاهرها من اتحاد أو حلولو أو انحلال فتأمل ذلك وعول عليه تسلم ، وكل سكر نشأ عن سبب جائز فصاحبه غير مكلف ، وممن اعتمد هذا المسلك القطب الرباني عبد القادر الجيلاني نفع الله به حيث قال مترجما عن حال الحلاج : طار طائر عقل بعض العارفين من وكر شجر صورته وعلا إلى السماء خارقا صفوف الملائكة فكان بازيا من بزاة الملك مخيط العينين بخيط ، وخلق الإنسان ضعيفا فلم يجد في السماء ما يحاول من الصيد فلما لاحت له فريسة رأيت ربي ازداد تحيره في قول مطلوبه {فأينما تولوا فثم وجه الله} عاد هابطا إلى حضرة خطة الأرض طالبا ما هو اعدم من وجود النار ف قعور البحار يتلفت بعين عقله فما شاهد سوى الآثار فكر فلم يجد في الدارين محبوبا سوى محبوبه وقال بلسان سكر قلبه : أنا الحق ثم ترنم بلحن غير معهود صفر في روضة الوجود صفيرا يليق ولحن بصورته لحنا عرضه لحتفه ، نودي في سره : يا حلاج اعتقدت أن قوتك لك ، قل الآن نيابة عن جميع العارفين حسب الواحد أفراد الواحد قل يا محمد أنت سلطان الحقيقة أنت إنسان عين الوجود يا عتبة باب الملك لمعرفتك تخضع أعناق العافين وفي حمى جلالتك توضع جباه الخلق أجمعين . انتهى كلامه رضي الله عنه وهو من النفاسة والجلالة بالمحل الأسنى فتدبره حق تدبره ، ويكفى الحلاج شرفا شهادة هذا القطب له بهذا المقام مع ان الصوفية وغيلاهم مختلفون فيه اختلافا كثيرا ، فجماعة من العارفين كأبي العباس بن عطاء وأبي عبد الله بن حنيف وأبي القاسم النصرابادي رضي الله عنهمأثنوا عليه وصححوا له حاله وجعلوه أحد المحققين ن وخالفهم أكثر المشايخ فلم يثبتوا له قدما في التصوف ولم يقبلوه ولم يأخذوا عنه وهذا لا ينافي ما قاله الأولون ؛ لأنه وإن كان محقا بل عالما ربانيا كما قاله ابن حنيف إلا أنه كان مخلطا تكثر منه الكلمات التي ظواهرها منتقدة ، فلذا أعرضوا عن الأخذ عنه ولم يثبتوا له قدما في التصوف أي في التربية والاقتداء وجعلوه في حيز المجاذيب الذين يعتقدون ولا يؤخذ عنهم ولا يعدون من أصحاب المراتب والتصرف فتأمل ذلك فإنه مهم .
(1/736)
<315>
(1/737)
مطلب في جواب الغزالي عن كلام الحلاج
وإياك أن تفهم أن من الصوفيه من ينكر عليه حاله الباطل فإن الأمر ليس كذلك ، وقد بسط الغزالي رحمه الله أحواله فأجاب عن كلماته ووقائعه بما ينزه ساحته عن حلول أو غيره من الاعتقادات الباطلة وكلماته الدالة على معرفته وحقيقة ما هو عليه منها الحق إذا استولى على سر ملكه الأسرار فيعانيها ويخبر عنها ، وقوله لما سئل عن التصوف هو مطلوب أهونه ما ترى ، وقوله لما قال خادمه وقد قرب صلبه أوصني ؟ قال عليك بنفسك إن لم تشغلها شغلتك ، وقوله وهو يتبختر في قيده للصلب :
نديمي غير منسوب *** إلى شيء من الحلف
سقاني مثل ما يشرب *** كفعل الضيف بالضيق
فلما دارت الكاسات *** دعا بالنطع والسيف
ثم قال {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ولاذين آمنوا مشفقون منها ويغلمون أنها الحق} وهذا منه رحمه الله صريح فيما ذكرناه أن ما صدر منه إنما كان في حال سكره وغيبته ، وقال لمعتزلي ردا عليه لما أوجد الله تعالى الأجسام بلا علة كذلك أوجد فيها صفاتها وكما لا يملك العبد أصل فعله كذلك لا يملك فعله ، وقوله المريد هو الخارج عن أسباب الدارين ، وقوله وقد رؤي في ثياب رثة فقيل له ما حالك ؟ فقال :
لئن أمسيت في ثوب عديم *** لقد بليا على حر كريم
فلا يحزنك إذ أبصرت حالا *** تغير فيّ عن حال قديم
في نفس ستتلف أو سترقى *** لعمر الله في أمر جسيم(1/738)
مطلب في قول الشيخ عبد القادر قدمي هذه على رقبة كل ولي
ثالثها : أنهم قد يؤمرون تعريفا لجاهل أو شكرا وتحدثا بنعمة الله كما وقع للشيخ عبد القادر أنه بينما هو بمجلس وعظه وإذا هو يقول : قدمي هذه على رقبة كل ولي لله تعالى ، فأجابه في تلك الاعة أولياء الدنيا . قال جماعة : بل أولياء الجن جميعهم ، وطأطئوا روءسهم وخضعوا له واعترفوا بما قاله إلا رجلا بأصبهان فأبى فسلب حاله ، وممن طأطأ رأسه أبو النجيب السهروردي وقال : على رأسي على رأسي ، وأحمد الرفاعي فقال : وحميد منهم ، وسئل : فقال الشيخ عبد القادر يقول كذا وكذا وأبو مدين في المغرب وأنا منهم اللهم إني أشهدك وأشهد ملائكتك أني سمعت وأطعت فسئل فأخبر بما قاله ببغداد فأرخ فكان قول أبي مدين عقب قول الشيخ عبد القادر ذلك ، وكذا الشيخ عبد الرحيم القناوي مد عنفه وقال : صدق الصادق المصدوق فسئل فأخبر بما قاله الشيخ ، وذكر كثيرون من العارفين الذين ذكرناهم وغيرهم أنه لم يقل إلا بأمر إعلاما بقطبته فلم يسع أحد التخلف بل جاء يأسانيد متعددة عن كثيرين أنهم اخبروا قبل مولده بنحو مائة سنة أنه سيولد بأرض العجم مولود له مظهر عظم يقول ذلك فتندرج الأولياء في وقته تحت قدمه . (1/739)
حكاية غريبة وحكى إمام الشافعية في زمنه أبو سعيد عبد الله بن أبي عصرون قال : دخلت بغداد في طلب العلم فوافقت ابن السقا ورافقته في طلب العلم بالنظامية وكنا نزور الصالحين ، وكان ببغداد رجل يقال له الغوث يظهر إذا شاء ويختفي إذا شاء ، فقصدنا زيارته أنا وابن السقا والشيخ عبد القادر وهو يومئذ شاب ، فقال ابن السقا ونحن سائرون : لأسألنه مسألة لا يدري لها جوابا . قلت : لأسألنه مسألة وأنظر(1/740)
<316>ما يقول فيها . وقال الشيخ عبد القادر : معاذ الله أن أسأله شيئا أنا بين يديه أنتظر بركة رؤيته ، فدخلنا عليه فلم نره إلا بعد ساعة ، فنظر الشيخ إلى ابن السقا مغضبا وقال : ويحك يا ابن السقا تسألني مسألة لا أدري بها وجوابا هي كذا وجوابها كذا ، إني لأرى نار الكفر تلتهب فيك ، ثم نظر إلي وقال : يا عبد الله أتسألني عن مسألة لتنظر ما أقول فيها هذا كذا وحوابها كذا لتخرن الدنيا عليك إلى شحمة أذنيك بإساءة أدبك ، ثم نظر إلى الشيخ عبد القادر وأدناه منه وأكرمه وقال : يا عبد القادر لقد أرضيت الله ورسوله بحسن أدبك كأني أراك في بغداد وقد صعدت الكرسي متكلما على الملأ وقلت: قدمي هذه على رقبة كل ولي لله ، وكأني أرى الأولياء في وقتك وقد حنوا رقابهم إجلالا لك ثم غاب عنا فلم نره . قال : وأما الشيخ عبد القادر فقد ظهرت أمارات قربه من الله وأجمع عليه الخاص والعام ، وقال : قدمي الخ . وأقرت الأولياء في وقته له بذلك . وأما ابن السقا فإنه اشتغل بالعلوم الشرعية حتى برع فيها وفاق فيها كثيرا من أهل زمانه ، واشتهر بقطع من يناظره في جميع العلوم وكان ذا لسان فصيح وسمت بهي فأدناه الخليفة منه وبعثه رسولا إلى ملك الروم ، فرآه ذا فنون وفصاحة وسمة فأعجب به وجمع له القسيسين والعلماء بالنصرانية فناظرهم وأفحهم وعجزوافعظم عند الملك فزادت فتنته فتراءت له بنت الملك فأعجبته وفتن بها فسأله أن يزوجها له فقال : إلا أن تتنصر فتنصر وتزوجها ثم مرص فألقوه بالسوق يسأل القوت فلا يجاب وعلته كآبة وسواد حتى مر عليه من يعرفه فقال له : ما هذا ؟ قال : فتنة حلت بي سببها ما ترى . قال له : هل تحفظ شيئا من القرآن ؟ قال : لا ، إلا قوله {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} قال : ثم خرجت عليه يوما فرأيته كأنه قد حرق وهو في النزع فقلبته إلى القبلة فاستدار إلى الشرق فعدت فعاد وهكذا إلى أن خرجت روحه ووجه إلى الشرق ، وكان يذكر كلام الغوث ويعلم أنه أصيب بسببه . قال ابن أبي عصرون : وأما أنا فجئت إلى دمشق فأحضرني السلطان الصالح نور الدين الشهيد وأكرهني على ولاية الأوقاف قولتها ، وأقبلت علي الدنيا مالا كثيرا ، فقد صدف قول الغوث فينا كلنا ، وفي هذه الحكاية التي كادت أن تتواتر في المعنى لكثرة ناقليها وعدالتهم فيها أبلغ زجر وآكد ردع عن الإنكار على أولياء الله تعالى خوفا من أن يقع المنكر فما وقع فيه ابن السقا من تلك الفتنة المهلكة الأبدية التي لا أقبح منها ولا أعظم منها ، نعوذ بالله من ذلك ، ونسأله بوجه الكريم وحبيبه الرءوف الرحيم أن يومنا من ذلك ومن كل فتنة ومحنة بمنه وكرمه ، وفيها أيضا أتم حث على اعتقادهم والأدب معهم وحسن الظن بهم ما أمكن . (1/741)
حكاية إسماعيل الحضرمي ووقوف الشمس له رحمه الله تعالى
رابعها : أن الشطح قد يكون فيه نفع للخلق وقد عرفوا ذلك بإلهام أو كشف أو خطاب أو نحوها من وجوه التعريفات كما تواتر باليمن الشيخ العارف إمام الفقهاء والصوفية في وقته إسماعيل الحضرمي نفع الله به أنه قال : من قبل قدمي دخل الجنة ، فلم يزل يقبل قدمه كل زائر وإن جلت مراتبه . ومن كراماته أنه كان داخلا لزبيد وقد دنت الشمس للغروب فقال لها : لا تغربي حتى ندخلها فوقفت ساعة طويلة ، فلما دخلها أشار إليها فإذا الدنيا مظلمة والنجوم ظاهرة ظهورا تاما .
خامسها : ظهور المراد من اللفظ وإن أشكل ظاهره كما وقع للشيخ أبي الغيث بن جميل نفع الله به أنه جاء إليه جماعة من الفقهاء فقال لهم : مرحبا بعبيدي فاشتد إنكارهم عليه وذكروا ذلك للشيخ إسماعيل المذكور قبله فقال : أنتم عبيد الهوى وهو عبده .
(1/742)
<317>
سادسها : الإشارة إلى الخلافة عن الحق بالإذن له في التصرف في الكون كما قال الشيخ أبو الغيث :
وحباني الملك المهيمن خلعة *** فالأرض أرضي والسماء سمائي
وفي رواية –
وحلاني الملك المهيمن باسمه
أي سره أو صفته أو بركته أو بالنيابة عنه في التصرف فيما أذن لي فيه ، وأن اسمي الذي هو أبو الغيث مشتق من اسم الله تعالى المغيث ، فأبو الغيث نفع الله كتب هذا جوابا لما كتبه إليه الشيخ العارف بالله أحمد بن علوان رحمه الله ونفع بالجميع وهو : جزت الصفوف أي مقامات الأولياء أو صفوف الملائكة ، إلى الحروف : أي علم الحروف ، والأسماء إلى الهجاء : أي الاطلاع على الأسرار ، حتى انتهيت مراتب الإبداع : أي إلى أن تتصرف فيما أذن لك الله فيه بقدرته ، وقد مر أنه يجوز أن يعطى الولي نظير كرامات الأنبياء بشرط عدم التحدي بالنبوة ، أو أن المراد أن الله أطلعك على تكوين الخلق أو أسمعك صريف القلم الذي أمر بكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، ومعنى جف القلم بما أنت لاق الكناية عن القضاء المبرم الذي هو في أم الكتاب لا يقبل تبديلا ولا تغييرا :
لا باسم ليلى استعنت على الثرى *** كلا ولا لبنى يرد شراعي
أي لم تستعن بشيخ ولا غيره فيما فوض إليك من التصرف في قطع مهامه العوائق ، بل صرت مستقلا بنفسك في التصرف مأذونا فيه لا تحتاج على شيخ يدلك ولا تحمل شراعا أي قلع مركبك الساري في بحر المعارف وشهود مجاري الأقدار واللطائف ، ولا تمسك سكناه لعرفانك بالبحر ومحل أخطاره . (1/743)
مطلب في تعريف الملامتية
سابعها : قصد التخريب ، وهو ما يقع للملامتية وهم قوم طابت نفوسهم مع الله فلم يودوا أن أحدا يطلع على أعمالهم غيره ، فإذا رأى أحد منهم أن أحدا اعتقد فيه خرب : أي ارتكب ما يذم به ظاهره من فعل وقول كسرقة بعض الأولياء وهو إبراهيم الخواص نفع الله به وناهيك به علما ومعرفة لما رأى أهل بلده يعتقدونه سرق ثيابا من الحمام لابن الملك وخرج يتبختر بها حتى أدرك فضرب وأخذت منه وسمي لص الحمام فقال : الآن طابت الإقامة في هذه البلد .
فإن قلت : ما تأوله في لبث ثياب الغير ؟ .
قلت : يحتمل أنه علم عتبه ورضاه بل أرضاه ، وإن لم يعلم قلبه نظر إلى الغالب لأن من اطلع على باطن عبد أنه في غاية الصلاح وإن لبسه هذا الزمن اليسير ليطهر نفسه من النظر إلى الخلق رضى له بذلك قطعا ، وقد صرح الشافعي رضي الله عنه بأنه يجوز أخذ خلال وخلالين من مال الغير نظرا إلى أن ذلك مما يتسامح به عادة ، ومسألتنا أولى من ذلك لأن أكثر الناس مجبولون على محبة هذه الطائفة بل كلهم منقادون إلى الصادقين من أهلها . ثم رأيت بعضهم أجاب بجواب آخر حين سأله فقيه عنها لا أقنع إلا بكلام الفقهاء ، فقال :
أليس يجوز ف ظاهر الفقه استعمال بعض المحرمات للضرورة كالتداوي بالنجاسة ؟ فقال الفقيه : بلى ، فقال : فكذا هذا داوى نفسه بل قلبه بهذا المحرم ، وما أجبت به أولى لأن التدلوي بالنجاسة ليس فيه إلا حق الله فسمح به لأجل المرض ، وأما هذا فحق الآدمي لا يجوز إلا برضاه فكيف يجوز لأجل صلاح قلبه ، فالصواب ما أجبت به إذ لا يرد عليه ما أورده اليافعي رحمه الله على ذلك الجواب ، فقال بعد قوله : لا يداوى التخريب بحرام مغلظ كالكبائر ونحوها : وفي جواز ارتكاب الحرام للتخريب بمجرد الظن حصول الفساد والضرر الراجحين(1/744)
<318>على فساد الحرام وضرره عندي فيه نظر ، ويترتب على هذا سؤال فيقال : إذا تعارض مفسدتان صغرى قطعية وكبرى ظنية فأيتهما أولى بالدفع وإذا حصل الغرض من التخريب بمكروه فلا يجوز بحرام انتهى كلام اليافعي رضي الله عنه . وتوقفه في تعارض المفسدتين المذكورتين فيه نظر ، وقضية قولهم : درء المفاسد مقدم على جلب المصالح تقديم دفع المفسدة القطعية صغرت أو كبرت كما يعلم من كلام الأئمة في المضطر يأخذ طعام الغير المستغني عنه قهرا عليه ويقتله إن امتنع من إعطائه ، وتعيين القتل طريقا لتحصيله ، ومع ذلك لا يأخذه مجانا بل يبدله حالا إن قدر عليه وإلا فحتى يقدر . (1/745)
مطلب فيما نقل عن جماعة من الصوفية من كلمات تدل على انحلال عقائدهم الخ
وسئل نفع الله به ورضي عنه بما لفظه : نقل عن جماعة من الصوفيه تدل على انحلال عقائدهم لا سيما الشيخ عبد القادر الجيلاني نفع الله به ورحمه ، فإنه نقل عنه القول بالجهة ، وقد قبح عظيم وخرق جسيم وحاشا هذا الولي أن يقول ذلك أو أن يرتكب في شيء من المهالك ووعر تلك المسالك فبينوا ما في ذلك ؟ .
فأجاب بل الله ثراه : حاشا الله ومعاذ الله أن يظن بأحد من الصوفية المذكورين في رسالة القشيري وعوارف المعارف وغيرها من كتب الأئمة الجامعين بين علمي الظاهر والباطن شيء مما يخالف عقيدة أهل السنة والجماعة ، وقد ذكر القشيري وغيره من كلماتهم في العقائد ما يبين ذلك ويوضحه فانظر في الرسالة وغيرها ومن نسب إلى واحد منهم شيئا مما يخالف ذلك كالقول بقدم الحروف فقد افترى ؛ فقد شرح سهل بن عبد الله وأبو بكر الشبلي وأبو العباس بن عطاء بحدوثها . (1/746)
مطلب في بيان الخمسة الذين يقتدى بهم في علمي الظاهر والباطن
وابن عطاء هذا هو أحد الشيوخ الخمسة الذين أجمع على الاقتداء بهم لجمعهم بين علمي الظاهر ولاباطن وهو أبو عبد الله الحرث بن أسيد المحاسبي وإنكار الإمام أحمد عليه بالغوا في رده لعدم علمه بحقيقة حاله ، وأبو القاسم الجنيد وأبو محمد رويم وأبو عبد الله عمرو بن عثمان المكي وابن عطاء المذكور ، ونخصيص هؤلاء بذلك إنما هو لكونهم كانوا مجتمعين اجتماعا مخصوصا في عصر واحد لا لنفي الاقتداء عن غيرهم إذ الجامعون بين العلمين المذكورين من القوم كثيرون على أن تخصيص الاقتداء بالجامعين بين العلمين المذكورين إنما هو لبيان الأكمل ، إذ لا خلاف بينهم أن جميع السالكين العارفين بالله تعالى لا يجوز الاقتداء بهم سواء حصل السلوك قبل الجذبة أو بعدها ، وسواء علموا جميع علوم الشريعة المفروضة المندوبة أم لم يعرفوا سوى فرض العين الذي لا بد لكل مكلف منه أو لبيان من يقتدى به في العلمين معا ، وقد قال أبو عثمان المقري : كنت أعتقد شيئا من حديث الجهة فلما قدمت بغداد زال عني ذلك فكتبت إلى أصحابنا بمكة أني أسلمت جديدا ، وقال الأشتاذ أبو إسحاق الإسفرايني : قدمت من بغداد إلى نيسابور فدرست في جامعها فشرحت القول في الروح وأنها نخلوقة فأصغى الشيخ أبو القاسم النصرابادي إلي من بعيد ثم اجتاز بنا بعد أيام فقال لبعض أصحابي : اشهدوا أني أسلمت على يدي هذا الرجل وأشار إلي ، فانظر إلى تواضع هذا الأستاذ الذي هو أبو القاسم وإنصاه ورجوعه للحق مع أنه كان شيخ وقته ، وكذا أبو عثمان السابق ، وكل هذا يدل على أنهم مطهرون من الحظوظ النفيسة متصفون بالصفات العلية ، ومن كلام أبي القاسم المذكور : الجنة باقية بإبقائه وذكره لك رحمته ومحبته لك باقية لك ببقائه فشتان ما بين ما هو باق ببقائه وما هو باق بإبقائه ، فتأمل هذا التحقيق عن هذا الإمام(1/747)
<319>الموافق لما عليه أهل الحق أن صفات القديم (1) سبحانه باقية بإبقائه وأن ذاته باقية ببقائه ولما ذكر القشيري عقائدهم المأخوذة من مجموع كلامهم قال : دلت هذه المقالات على أن عقائد مشايخ الصوفية توافق أقاويل أهل الحق في مسائل الأصول ، وقال أيضا : اعلموا رحمكم الله أن شيوخ هذه الطريقة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد وصانوا عقائدهم من البدع وأتوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل ، وقال سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى بعد أن كر عقائد أهل السنة والجماعة : هذا إجمال من اعتقاد الأشعري واعتقاد السلف وأهل الطريقة والحقيقة نسبته إلى التفصيل الواضح كنسبة القطرة إلى البحر الطافح ، ومراده بأهل الطريقة والحقيقة الصوفية ، وما أحسن قول بعضهم : المعتزلة نزهوا الله من حيث العقل فأخطئوا ، والصوفية نزهوه من حيث العلم فأصابوا . قال اليافعي : وقد اشتهر عن الشيخ عبد القادر أنه كان يعتقد الجهة وقد استغرب ذلك منه وعد شاذا في ذلك عن أئمة المشرق ، لكن قد أخبر الشيخ الكبير العارف بالله تعالى الشهير نجم الدين الأصبهاني : أن الشيخ عبد القادر رجع آخرا عما كان يعتقده أولا ، ذكر ذلك لما بلغه أن الإمام ابن دقيق العيد تعجب من اعتقاد الشيخ عبد القادر ذلك مع ما حوى من العلوم والمعارف ، ومثل الشيخ نجم الدين الأصبهاني إذا أخبر عن القوم بقول فعلي الخبير يسقط المخبر إذ هو من أهل الإطلاع ظاهرا وباطنا لكونه من أهل النور والكشف المشهور ، وكون العراق له وطنا ، وصحب المشايخ هناك والعلماء ، وعقد النبي صلى الله عليه وسلم للوائه أحد عشر أخبر بالرجوع عن الاعتقاد المذكور ، وعقد الأعلام المذكور عن غير واحد من أصحاب الشيخ نجم الدين المذكور عنه ممن لا يشك والله في صدقهم انتهى كلام اليافعي قدس سراه .
ثم حكى من كلام الشيخ عبد القادر ما اشتمل على بدائع من التوحيد والتنزيه وعجائب من المعارف وقواطع تنفي التجسيم والمكان والتشبيه مفصحا بكون الحق تعالى لم يستقر في مكان ولم يتغير عما عليه ، وكان جامعا ين فصاحة العبارة وبلاغة الاستعارة وحلاوة نظم الدر في سلك معارف الأنوار ، وطلاوة تناسب الفواصل في سلك محاسن الأسرار ، ومن جملة تلك الكلمات الأنيقة والعبارات الرائقة الفائقة الرشيقة نودي في معاقل الآفاق وفجاج الأكوان ومعالم المصنوعات أو سلطان الصفات القديمة وملك النعوت العظيمة يريد أن يمر على مسالك العوالم ويعدل في مشاهد الشواهد ، فحدقوا عيونكم وصفوا سرائركم وقيدوا أفكاركم وغضوا أبصاركم وأحضروا بلاغتكم وفكوا مناطقكم وألسنتكم فتروا من جنان العزة سناء بارقا مجللا بالهيبة مظللا بالعظمة متوجا بالجمال مكللا بالكمال آخذا بنواصي الأنوار وقاهرا لمعاني الأسرار فتجلى في حلل لطفه وتلطفه ودنى بقربه وتعرفه له مطالع ومشارق ولوامح وبوارق وشواهد ومناطق ومعارف وحقائق وعوارف ومناشق تجلو مطالعة {الرحمن على العرش استوى} وتسفر مشارقه {وسع كرسيه السماوات والأرض} وتوضح لوامحه {يداه مبسوطتان} وتكشف بوراقه {وهو معكم} وتبدي شواهده {زالسماوات مطويات بيمينه} وتفصح مناطقه {والله من ورائهم محيط} وتنادي معارفه {وهو السميع البصير} وتنطق حقائقه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وتشهد عوارفه {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} وتتأرج مناشقه {قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} فظهرت بدائع صنائع القدم في أحسن صورة من بهجة الكمال البارز من حريم العزة عليها ملابس الجمال غرائب العجائب ، وطاف به طائف من ربك في طرائق الملكوت
__________
(1) قوله أن صفات القديم الخ) هكذا بالنسخ ويتأمل فيه فلعل فيه مخالفة لما عليه الأشاعرة من أنها قديمة بذاتها ، والقديم يجب له البقاء كما هو مقرر بمحله اهـ مصححه(1/748)
<320>ومصنوعات المصنوعات ومكنون الكائنات فوقع الكل في مهاوي البهتة وتهاوا في مهامه الدهشة ، وإذا النداء في حضرة القدس {ألست بربكم} قالوا بلسان الذل والخضوع في مقام الإقرار بوحدانية الألوهية {بلى} وأشهدهم على أنفسهم بقيام الحجة {يوم تشهد عليهم ألسنتهم} فتبع الخلائق ذلك البارق وسلكوا نحوه طرائق فاقتفى قوم آثاره فلم يستضيئوا هذى من علمه ولا آثاره بل حكموا العقول ومقايسها وأتبعوا الأهوية وأبالسها فمنهم طائفة ضلوا في تيه التمويه ووقعوا في التجسيم والتشبيه فأولئك الذين أهلكم الشقاء حين ابتلي أخيارهم ، وأولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ، ومنهم فرقة حاروا في أضاليل التعطيل ، ومنهم عصابة هلكوا بأباطيل الحلول فأغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا ، ومنادي التوحيد والتنزيه ينادي في صفحات الوجود : إن سلطان الصفة القدسمة وملك النعوت القويمة إلى الآن في مقر العز والجلال ومظل القدرة والكمال ما انتقل على مكان ولم يتغير عما هو عليه كان محتجبا بجلال عزته في تعالي كبريائه وعظمته فأحجم العرش من خوف البطش إذ جعل محل الافتراء ومجالا للامتراء ، وصح بلسان الرهبة من البعد بأرباب الغيبة عن الرشاد : إني منذ خلقت في دهشة الوله ووحشة التحير حتى لمع لي من جناب الأزل بارق {الرحمن على العرش استوى} فلما صبوت إلى نفسي نظري وقع وحده على جرم السماء فانطبع فيه رقم {ثم استوى إلى السماء} فبهت فيه نظري وشخص إليها بصري ، فطمحت إشراقات أنواره إلى عالم الثرى فانتقش في طي مكنوناته مكتوب {واسجد واقترب} فأنارت بلك ظلمتي واطمأنت لذلك فكرتي وقربت ظفرتي ، لا أسمع إلا الأخبار ولا أشهد غير الآثار ، واتبع قوم سبيل الرشاد في إشراق أنواره ونصبوا الشرع أمامهم واقتدوا بعساكر التوفيق جندا جندا ، وسارت ركائب التأييد وفدا وفدا وشموس الهداية تسري معهم وعيون العناية ترعى مرتعهم وتجمعهم ، فأوصلهم الصدق في اتباع الحق إلى مسالك التوحيد ومعاقل التحميد وعلت بهم الرتب عن مقام الريب . انتهى الغرض منه وإلا فهو بحر ليس له ساحل وتيه لا يهتدي فيه إلا كامل . (1/749)
مطلب قول أبي يزيد خضت بحرا الخ
وسئل نفع الله به : عن معنى قول أبي يزيد : خضت بحرا وقف الأنبياء بساحله ؟ .
فأجاب بقوله : هذا القول لم يصح عنه وإن صح فقوله جميع ما أعطي الأولياء مما أعطي الأنبياء كزق ملئ عسلا فرشحت منه رشحات فتلك الرشحات هي ما أعطي الأولياء ، وما في باطن الزق هو ما أعطي الأنبياء يوجب إن لم يكن صدر منه في حال السكر صرف ذلك القول عن ظاهره ويعين تأويله بما يليق بجلالة الأنبياء بأن يقال : وقفوا بساحله ليعبروا فيه من رأوا فيه أهلية العبور ويمنعوا من لم يروا فيه أهلية العبور ، أو ليدركوا من رأوه أشرف على الغرق أو نحو ذلك مما فيه نفع للغير كما يقف الأفضل يشفع في دخول الجنة ويدخل المفضول . قال بعضهم : أو يقال : وقوفهم وقوف صدور لا وقوف ورود وعلى كل حال فلا يظن بأبي يزيد نفع الله به إلا ما يليق بجلالة قدره وعلو مقامه وما علم منه من تعظيم الأنبياء وشرائعهم ونهاية الأدب مع جميعهم . (1/750)
مطلب الخطاب الذي يذكره الأولياء الخ هل ينسب إلى الله سبحانه ؟
وسئل نفع الله به : عن الخطاب الذي يذكره الأولياء فيقول أحدهم : حدثني قلبي عن ربي ، ويقول بعضهم : خاطبني ربي بكذا هل يتسب إلى الله سبحانه وما حقيقته ، وهل يسمى كلاما أو حديثا ، وما الفرق بين ما سمعه الأنبياء وما سمعه الأولياء ، وما على من جحد أحدهما ؟ .
(1/751)
<321>
فأجاب بقوله : فرق القطب الرباني الشيخ عبد القادر الجيلاني نفع الله به بين النبوة والولاية بما حاصلة : أن النبوة كلام الله الواصل للنبي صلى الله عليه وسلم مع الملك والروح الأمين ، والولاية حديث يلقى في قلب الولي على سبيل الإلهام المصحوب بسكينة توجب الطمأنينة والقبول له من غير توقف ولا تلعثم ، ورد الأول كفر ، والثاني نقص . وجاء فقيه لأبي يزيد معترضا عليه فقال له : علمك عمن ومن أين ؟ فقال : علمي من عطاء الله وعن الله عز وجل ، ومن حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عمل بما يعلم أورثه الله علم ما لم يعلم " . وقال : العلم علمان : علم ظاره وعلم باطن فالعلم الظاهر حجة الله على خلقه والعلم الباطن هو العلم النافع فعلمك يا فقيه نقل من لسان إلى لسان للتعلم لا للعمل ، وعلمي من علم الله عز وجل إلهاما ألهمني من عنده ، فقال له الفقيه : علمي عن الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله ، فقال : للنبي صلى الله عليه وسلم علم عن الله عز وجل لم يطلع عليه جبريل ولا ميكائيل عليهما الصلاة والسلام ، فطلب منه الفقيه أن يوضخ له علمه الذي ذكره ؟ فقال : يا فقيه أعلمت أن الله عز وجل كلم موسى تكليما ، وكلم محمدا صلى الله عليه وسلم ورآه كفاحا ، وكلم الأنبياء وحيا ؟ قال : بلي . قال : ما علمت أن كلامه للصديقين والأولياء بإلهام منه لهم وألقى فوائده في قلوبهم وتأييده لهم ثم أنطقهم بالحكمة ونفع بهم الأمة ، ومما يؤيد ما قلته ما ألهم الله عز وجل أم موسى أن تقذفه في التابوت ثم تلقيه في اليم ، وكما أفهم الخضر في أمر السفينة وأمر الغلام والحائط ، وقوله لموسى {وما فعلته عن أمري} أي إنما هو علم الله عز وجل وقال تعالى {وعلمناه من لدنا علما} أي بناء على ما عليه الصوفية قاطبة أنه ولي لا نبي ، وكما ألهم يوسف صلى الله عليه وسلم في السجن فقال {ذالكما مما علمني ربي} أي وكان ذلك قبل النبوة ، وكما قال أبو بكر لعائشة رضي الله عنهما : إن بنت خارجة حامل بنت ولم يكن استبان حملها فولدت جارية ، ومثل هذا كثير وأهل الإلهام قوم اختصهم الله بالفوائد فضلا منه عليهم ، وقد فضل الله بعضهم على بعض في الإلهام والفراسة ، فقال الفقيه : قد أعطيتني أصلا وشفيت صدري .
ومما يؤيد ما رواه الصوفية من أن الإلهام حجة أي فيما لا مخالفة فيه لحكم شرعي ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي " فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به " الحديث ، وفي رواية " فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق " وفي أخرى " وكنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا " .
والحاصل أن العلماء بالله عز وجل هم الواقفون مع الله في العلوم والأعمال والمقامات والأحوال والأقوال والأفعال وسائر الحركات والسكنات والإرادات والخطرات ومعادن الأسرار ومطالع الأنوار ، والعارفون المحبون المحبوبون المقربون رضي الله تعالى عنهم ونفع بهم .
إذا تقرر ذلك علم منه الجواب عن جميع ما في السؤال وهو الفرق بين خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وخطاب الولي فالأول بواسطة الملك أو لا بواسطة أو بالرؤيا الصادقة أو بالنفث في الروع وكل ذلك يسمى وحيا وكلاما ينسب إلى الله حقيقة ومن أنكر ما علم من الدين بالضرورة كفر .
والثاني : شيء يلقى في القلب يثلج له الصدر وهو المسمى حديثا وإلهاما لقوله صلى الله عليه وسلم في الحيث " إن في أمتي 7 محدثون – بفتح الدال – ملهمون ومنهم عمر " .
(1/752)
<322>
(1/753)
مطلب في أن الإلهام ليس بحجة على ما هو الأرجح عند الفقهاء
وإختلف العلماء في حجية الإلهام بقيده السابق فالأرجح عند الفقهاء أنه ليس بحجة إذ لا ثقة بخواطر غير المعصوم ، وعند الصوفية أنه حجة ممن حفظه الله من سائر أعماله الظاهرة والباطنة ، والأولياء وإن لم يكن لهم العصمة لجواز وقوع الذنب منهم ولا ينافيه الولاية ، ومن ثم قيل للجنيد أيزي الوالي ؟ فقال وكان أمر الله قدرا مقدورا لكن لهم الحفظ فلا تقع منهم كبيرة ولا صغيرة غالا ، وعلى القول بحجيته هفهو ينسب إلى الله تعالى بمعنى أنه الملقى له في القلب كرامة لذلك الولي وإنعاما عليه بما يكون سببا للمذيد له أو صلاحا لغيره . (1/754)
مطلب في بيان عدة رجال الغيب وغير ذلك
وسئل نفع الله به : ما عدة رجال الغبيب وما الدليل على وجودعهم ؟ .
فأجاب بقوله : رجال الغيب سموا بذلك لعدم معفة أكثر الناس لهم ، رأسهم قطب الغوث الفرد الجامع جعله الله دائرا في الآفاق الأربعة أركان الدنيا كدوران الفلك ففي أفق السماء ، وقد ستر الله أحواله عن الخاصة والعامة غيرة عليه غير أنه يرى عالما كجاهل وأبله كفطن وتاركا آخذا قريبا بعيدا سهلا عسرا أمنا حذرا ، ومكانته من الأولياء كالنقطة من الدائرة التي هي مركزها به يقع صلاح العالم . والأوتاد وهم أربعة لا يطلع عليهم إلا الخاصة واحد باليمن وواحدبالشام وواحد بالمشرق وواحد بالمغرب . والأبدال : وهم سبعة على الأصح وقيل ثلاثون وقيل أربعة عشر كذا قاله اليافعي ، وسيأتي حديث أنهم أربعون وحديث أنهم ثلاثون وكلا منهم يعكر على قوله ، والأصح أتهم سبعة والنقباء : وهم أربعون . والنجباء : وهم ثلثمائة فإذا مات القطب أبدل بخيار الأربعة أو أحد الأربعة أبدل بخيار السبعة أو أأحخدج السبعة أبدل بخيار الأربعين أو أحد الأربعين أبدل بخيار الثلثمائة أو أحد الثلثمئة أبدل بخير الصالحين فإذا أراد الله قيام الساعة أماتهم أجميعين ، وذلك أن الله يدفع عن عباده البلاء بهم وينزل بهم قطر السماء ، وروى بعضهم عن الخضر أنه قال : ثلثمائة هم الأوليلاء وسبعون هم النجباع وأربعون هم أوتاد الله في الأرض وعشرة هم النقباء وسبعة هم العرفاء وثلاثة هم المختارون وواحد هو العوث . وجاء عن علي كرم الله وجهه أنه قال : الأبدال بالشام والنجباء بمصر والعصائب بالعراق والنقباء بخرسان والأوتاد بسائر الأرض والخضر عليه الصلاة والسلام سيد القوم . وفي حديث الإمام ال رافعي أنه صلى الله عليه وسلم قال " " إن لله في الأرض ثلثمائة قلوبهم على قلب آدم ، وله أربعون قلوبهم على قلب موسى ، وله سبع قلوبهم على قلب إبراهيم ، وله خمسة قلوبهم على قلب جبريل ، وله ثلاثة قلوبهم على قلب ميكائيل ، وواحد قلبه على قلب إسرافيل فإذا مات الواحد أبدل الله مكانه من الثلاثة ، وإذا مات من الثلاثة أبدل الله مكانه من الخمسة ، وإذا مات من الخمسة أبدل الله مكانه من السبعة ، وإذا مات من السبعة أبدل الله مكانه من الالأربعين ، وإذا مات من الأربعين أبدل الله مكانه من الالثلاثمائة وإذا مات من الثلثمائة أبدل الله مكانه من العامة يدفع الله بهم البلاء عن هذه الأمة " قال اليافعي رضي الله عنه ، قال بعض العارفين : والواحد المذكور في الحديث هو القطب وهو الغوث قال بعضهم : لم يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم قلبه في جملة الأنبياء والملائكة لأنه لم يخلق الله في عالم الخلق والأمر أعز وألطف وأشرف من قلبه صلى الله عليه وسلم فقلوب الملائكة والأنباء والأولياء بالإضافة إلى قلبه كإضافة سائر الكواكب إلى الشمس ، ولقد سمعت النجم الأصبهاني رضى الله تعالى عنه خلف مقام إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم يذكر أن الخضر عليه السلام سأل الله عز وجل أن يقبضه عندما يرفع القرآن ، والظاهر والله أعلم أنم القطب وسائر الأولياء المعدودين وغيرهم من الموجودين في ذلك الوقت يطلبون الموت(1/755)
<323>أيضا حينئذ إذ ليس برفع القرآن تطيب الحياة لأهل الخير بل لا يبقى في الأرذ خير ، وما ذكرته من حياة الخضر هو الذي قطع به الأولياء ورجحه الفقهاء والأصوليون وأكثر المحدثين ، وقد اجتمع به وأخبر عنه من لا يحصى من الصدقين والأولياء في كل زمان ، بل والله لقد أحخبروني أنه اجتمع بي وسألني عن شيئ فأجبته ولم أعرفه لأنه لم يعرفه إلا صاحب استعداد ممن شاء الله ؛ ومبالغة ابن الجوزي في إنكار حياته غلو منه إذ هو إنكار للشمس وليس دونها حجاب ، بل كلامه فيه متناقض لأنه روى أربع روايات بالأسانيد المتصلة عن علي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم ، وكذلك إنكاره على أكابر من الصوفية صدرت عن أحوالي لا يعرفها وعلوم لا يدركها ولا يفهمها ، والعجب منه أنه يحكي كلمات عظيمة عجيبة يطرز بها كلامه ثم ينكرها في موضع آخر انتهى كلام اليافعي ملخصا . والحديث الذي ذكره إن صح فيع فوائد خفية .
منها : أنه مخالف للعدد السابق قبله ، وقد يجاب بأن تلك الأعداد اصطلاح بدليل وقوع الخلاف في بعضهم كالأبدال فقد يكونون في ذلك العدد نظروا إلى مراتب عبروا عنها بالأبدال والنقباء والنجباء والأوتاد وغير ذلك مما مر ، والحديث نظر إلى مرات أخرى والكل متفقون على وجود تلك الأعداد .
ومنها : أنهخ يقتضي أن الملائكة أفضل من الأنبياء ، والذي دل عليه كلام أهل السنة والجماعة إلا من شذ منهم أن الأنبياء أفضل من جميع الملائكة . (1/756)
مطلب في الإختلاف في أن الأفضل إسرافيل أم غيره من الملائكة
زمنها : أنه يقتضى أن ميكائيل أفضل من جبرائيل والمشهور خلافه ، وأن إسرافيل أفضل منهما وهو كذلك بالنسبة لميكائيل ، وأما بالنسبة لجبريل ففيه خلاف والأدلة فيه متكافئة فقيل جبريل أفضل لأنه صاحب السر المخصوص بالرسالة إلى الأنبياء والرسل والقائم بخدمتهم وتربيتهم ، وقيل إسرافيل لأنه صاح سر الخلائق أجمعين إذ اللوح المحفوظ في جبهته لا يطلع عليه غيره وجبريل وغيره إنما يتلقون ما فيه عنه ، وهو صاحب الصور القائم ملتقما له ينتظر الساعة والأمر به لينفخ فيه فيموت كل شيئ إلا من استثنى الله ثم بعد أربعين سنة يؤمر بالنفخ فيحيون ثم يبعثون .
واعلم أن هذا الحديث لم أرى ن خرجه من حفاظ المحدثين الذين يعتمد عليهم ، ولكن وردت أحاديث تؤيد كثيرا مما فيه منها حديث أبي نعيم في الحلية " خيار أمتي كل قرن خمسمائة والأبدال أربعون فلا الحمسمائة ينقصون ولا الأبدال ، كلما مات منهم رجل أبدل الله من الخمسمائة مكانه وأدخله في الأربعين مكانه ، يعفون عمن ظلمهم ويحسنون لمن أساء إليهم ويتسامتون فيما آتاهم الله وهم في الأرض كلها " ومنها حديث أحمد " الأبدال في هذه الأمة ثلاثون رجلا قلوبهم على قلب إبراهيم خليل الرحمن كلما مات رجل أبدل مكانه رجلا " ولا تخالف بين الحديثين في عدد الأبدال لأن البدل له إطلاقان كما يعلم من الأحاد
يث الآتية في تخالف علاماتهم وصفاتهم ، أو أنهم قد يكونون في زمان أربعين وفي آخر ثلاثين ، لكن يعكر على هذه الرواية " ولا الأربعون كلما مات رجل الخ " والرواية الآتية " وهم أربعون رجلا كلما مات الخ " . ومنها حديث الطبراني " إن الأبدال في أمتي ثلاثون بهم تقوم الأرض وبهم يمطرون وبهم ينصرون " وحديث ان عساكر " إن الأبدال بالشام يكونون وهم أربعون رجلا بهم تسقون الغيث وبهم تنصرون على أعدائكم يصرف بهن عن أهل الأرض البلاء والغرق " . ومنها حديث الطبراني " الأبدال في أهل الشام وبهم تنصرون وبهم ترزقون " . ومنها حديث أحمد " الأبدال بالشام وهم أربعون رجلا(1/757)
<324>كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا تسقون بهم الغيث وتنصرون بهم على أعداءويصرف عن أهل الشام بهم العذاب " ومنها حديث الجلال الذي رواه في كرامات الأولياء ورواه الديلمي أيضا " الأبدال أربعون رجلا وأربعون امرأة كلما مات رجلا أبدل الله كمانه رجلا وكلما ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة " . ومنها خبر الحاكم عن عطاء مرسلا " الأبدال من الموالي " . ومنها خبر ابن أبي الدنيا مرسلا " علامة أبدال أمتي أنهم لا يلعنون شيئا أبدا " ورفعه معضل وخبر بن حبان " لا تخلو الأرض من ثلاثين وثمانين مثل إبراهيم خليل الرحمن بهم تغاثون وبهم ترزقون وبهم تمطرون " ومنها خبر البيهقي " إن أبدال أمتي لم يدخلوا الجن بأعمالهم ، ولكن إنما دخلوها برحمة الله وسخاوة الأنفس وسلامة الصدر ورحمة لجميع المسلمين " ومنها خبر الطبراني في الأوسط " لن تخلو الأرض من أربعين رجلا مثل خليل الرحمن بهم تسقون وبهم تنصرون وما مات منهم أحدا إلا أبدل الله مكانه آخر " ومنها خبر ابن عدي في كامله " البدلاء أربعون اثنان وعشرون بالشام وثملنية عشر بالعراق كلما مات منهم أحد أبدل الله مكانه آخر ، فإذا جاء الأمر قبضوا كلهم فعند ذلك تقوم الساعة " ومنها خبر أبي نعيم في الحلية أيضا " لا يزال الأربعون رجلا من أمتي قلوبهم على قلب إبراهيم يدفع بهم عن أهل الأرض يقال لهم الأبدال إنهم لم يدركوها بصلاة ولا بصوم ولا بصدقة ، قال ان مسعود رواية : فبما أدركوها يا رسول الله ؟ قال : بالسخاء والنصيحة للمسلمين " ومما جاء في القطب كما قال بعض المحدثين خبر أبي نعيم في الحلية " إن للهى تعالى في كل بدعة كيد بها للإسلام وأهله وليا صالحا يذب عنه ويتكلم بعلاماته فاغتنموا حضور تلك المجالس بالذب عن الضعفاء ، وتوكلوا على الله وكفى باله وكيلا " ومما جاء في جميع من ذكر وغيرهم حديث الترمذي الحكيم وأبي نعيم " في كل قرن من أمتي سابقون " وحديث أبي نعيم " لكل قرن من أمتي سابقون " والحديث المشهور " يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها " والحديث الذي رواه الشيخان وغيرهما من طرق كثيرة " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون " وفي رواية لهما " لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس " وفي أخرى لابن ماجة " لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق قوامة على أمر الله لا يضرها من خالفها " وفي أخرى لابن ماجة " لا تزال طائفة من أمتي 7 منصورون لا يضرهم خذلان من خذلهم حتى تقوم الساعة " وفي أخرى لمسلم " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم تعال صل بنا فيقول لا إن بعضكم على بعض أمير تكرمة من الله لهذه الأمة " . (1/758)
مطلب في المراد بالمحدثين في قول الإمام أحمد الأبدال إن لم يكونوا أصحاب الحديث فمن هم ؟
( تنبيه ) قال يزيد ابن هرون : الأبدال هم أهل العلم أي النافع الذي هو علم الظاهر والباطن لا علم الظاهر وحده . وقال الإمام أحمد رضي الله عنه : هم إن لم يكونوا أصحاب الحديث فمن هم ، ومراده بأصحاب الحديث من هو مثله ممن جمع بين علمي الظاهر والباطن وأحاط بالأحكام والحك والمعارف والمكامن كالأئمة الثلاثة الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمل ونظرائهم ، فإن هؤلاء أخيار الأبدال والنجباء والأوتاد فاحذر أن تسئ ظنك بأحد من مثل ألئك ويسول لك الشيطان ومن استولى عليه ممن لم يهتد بنور العلم أن أئمة الفقهاء والمجاهدين(1/759)
<325>لم يبلغوا تلك المراتب ، وقد اتفقوا أن الشافعي رضي الله عنه كان من الأمتاد ، وفي رواية أنه تقطب قبل موته وكذلك جاء هذا عن بعض تابعيه من الفقهاء كالإمام النووي وغيره . (1/760)
مطلب في مسكن النقباء وغيرهم في أيب أرض هو ؟
وروى الخطيب في تاريخ بغداد عن الكناني أنه قال : النقباء ثلثمائة والنجباء سبعون والبدلاء أربعون والأخيار سبعة والعمد أربع والغوث واحد ، فمسكن النقباء المغرب ومسكن النجباء مصر ومسكن الأبدال الشام والأخيار سياحون في الأرض والعمد زوايات الأرض ومسكن الغوث مكة ، فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء ثم النجباء ثم الأبدال ثم الأخيار ثم العمد ، فإم أجيبوا وإلا ابتهل الغوث فلا يتم مسألته حتى تجاب دعوته انتهى . وفيه تأييد لعض ما مر ومخالفة له وذلك كله يبين أن تلك الأعداد ترجع إلى الاصطلاحات ولا مشاحة في الاصطلاح . (1/761)
مطلب في حكاية غريبة
ولقد وقع لي في هذا المبحث غريبة مع بعض مشايخي هي أني إنما ربيت في حجور بعض أهل هذه الطائفة أعني القوم السالمين من المحذور واللوم فوقع عندي كلامهم أنه صادف قلبا خاليا فتمكن ، فلما قرأت في العلوم الظاهرة وسني حالي أربع عش سنة فقرأت مختصر أبي شجاع على شيخنا أبي عبد الله الإمام المجمع على بركته وتنسكه ، وعلمه الشيخ محمد الجويني بالجامع الأزهر بمصر المحروسة فلازمته مدة وكان عنده حدة فانجر الكلام في مجلسه يوما إلى ذكر القطب والنجباء والنقباء والأبدال وغيرهم ممن مر فبادر الشيخ إلى إنكار ذلك بغلظة وقال هذا كله لا حقيقة له وليس فيه شيئ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت له وكنت أصغر الحاضرين معاذ الله بل هذا صدق وحق لا مرية فيه لأن أولياء الله أخبروا به وحاشاهم من الكذب ، ومن نقل ذلك الإمام اليافعي وهو رجل جمع بين العلوم الظاهرة والباطنة فزاد إنكار الشيخ وإغلاظه علي فلم يسعني إى السكوت وأضمرت أنه لن ينصرني إلا شيخنا شيخ الإسلام والمسلمين وإمام الفقهاء والعارفين أبو يحيى الأنصاري ، وكان من عادتي أن أقودج الشيخ محمد الجويني لأنه كان ضريرا وأذهب أنا وهو إلى شيخنا المذكور أعني شيخ الإسلام زكريا يسلم عليه ، فذهبت أنا والشيخ محمد الجويني إلى شيخ الإسلام فلما قربنا من محله قلت للشيخ لا بأس أن أذكر لشيخ الإسلام مسألة القطب ومن دونه وننظر ما عنده فيها ، فلما وصلنا إليه أقبل على الشيخ الجويني وبالغ في إكرامه وسؤال الدعاء منه ثم دعا لي بدعوات منها الهم فقهه في الدين وكان كثيرا ما يدعوا لي بذلك ، فلما تم كلام الشيخ وأراد الجويني الإنصراف قلت لشيخ الإسلام يا سيدي القطب والأوتاد والنجباء والأبدال وغيرهم ممن يذكره الصوفية هل هم موجودون حقيقة ؟ فقال نعم والله يا ولدي ، فقلت له يا سيدي إن الشيخ وأشرت إلى الشيخ الجويني ينكر ذلك ويبالغ قي الرد على من ذكره ، فقال شيخ الإسلام هكذا يا شيخ محمد وكرر ذلك عليه حتى قال له الشيخ محمد يا مولانا شيخ الإسلام أمنت بذلك وصدقت به وقد ثبت ، فقال هذا هو الظن بك يا شيخ محمد ثم قمنا ولم يعاتبني الجويني على ما صدر مني .
ونظير هذه الواقعة من بعض وجهها ما وقع لي وعمري نحو ثمانية عشر سنة مع بعض مشايخنا أيضا وهو شيخ الإسلام الشمس الدلجي ، وكان أعطي من العلوم الشرعية والعقلية من متانة التصنيف وقوة السبك(1/762)
<326>ما لم يعطه أحد من أهل زمانه ، كنا نقرأ عليه في شرح التلخيص للسعد التفتازاني وفي كتاب صنفه الشيخ في أصول الدين فوقع ذكر العارف باله تعالى عمر بن الفارض رضي الله عنه في مجلسه ، فبادر الشيخ وقال قاتله الله ما أكفره كيف وكلامه ينطق بالحلول والاتحاد وأما شعره ففي الذروة العليا ، فقلت له من بين الحاضرين حاشاه الله من الكفر ومن الحلول والاتحاد ، فأغلظ الشيخ في الإنكار علي وعليه فأغلظت في جوابه وكان بالشيخ مرض بضيق النفسش ، وكان أخبرنا أن له مدة مديدة لا يقدر على وضع جنبه على الأرض ليلا ولا نهارا . فقلت له يا سيدي أنا ألتزم لك أنك إن رجعت عن إنكارك على الشيخ عمر بن الفرض وابن العربي وتابعيهما برئت من هذا الداء العضال . فقال هذا لا يصح ؛ فقلت صدقوا قولي بالرجوع عن ذلك مدة يسيرة فإن ذهب وإلا فأنتم تعرفون ما ترجعون إليه ؛ فقال يمكن أن نجرب ثم أظهر لنا الرجوع والتوبة فانصلح حاله وخف مرضه مدة مديدة ، وكنت أقول له يا سيدي صحت ضمانتي فيضحك ويعجبه ذلك ، وفي تلك المدة ما سمعنا منه عن هذه الطائفة إلا خيرا ، ثم عاد فعاد له بعد ذلك المرض بأشد ما كان وأتعبه فأذيق ألم ذلك المرض واستمر يشتد عليه بعد ذلك نحو عشرين سنة حتى مات وهو على حاله . (1/763)
مطلب في حد التصوف وغير ذلك من الفوائد
وسئل نفع الله ه : ما حد التصوف الصوفي ولم سمي بذلك ومتى حدثت التسمية وما الفرق بين الصوفي وغيره من الفرق المنتمية للصوفية ، وما الفرق بين التصوف والفقر والزهد وبين الصوفي والمتصوف والمتشبه ؟ .
فأجاب قوله : اختلفت عبارة العارفين في حده على أكثر ما ألف قول نظرا إلى شروطه وآدابه وغاياته وثمراته . فحده سيد الطائفة الجنيد رضي الله عنه بأن يكون مع الله بلا علاقة وبأن يميتك الحق عنك ويحيك به ، وبأنه ذكر مع اجتماع ووجد مع استماع وعمل مع أتباع . وأبو محمد رويم بأنه استرسال النفس مع الله على ما يريده . وأبو محفوظ معروف الكرخي بأنه الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق . وأبو علي الروذباري بأنه الإناخة على باب الحبيب وإن طرد . وأبو محمد الحريري ب،ه التحلي بكل خلق حسن سني والتخلي عن كل خلق دنيء .
واختلفت عباراتهم في حد الصوفي نظرا لذلك ، فحده الجنيد بأنه كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح ، وكان الأستاذ أبو علي الدقاق شرح ذلك بقوله أحسن ما قيل في هذا الباب قول من قال هذا الطريق لا صلح إلا لأقوام كنست بأرواحهم المزابل . وأبو محمد سهل ان عبد الله بأنه صفا من الكدر وتسلى عن الكفر وانقطع إلى الله عن البشر واستوى عنده الذهب والمدر . وذو النون بأنهم قوم آثروا الله على كل شيئ فآثرهم على كل شيئ .
واختلفوا أيضا في المنسوب إليه الفقيه فقيل نسب للصفة التي كانت بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لفقراء المهاجرين ، وقيل إلى الصف الأول بين يدي الله عز وجل بارتفاع هممهم وإقبالهم على الله قلوبهم ، وقيل إلى الصوف لأنه لباسهم غالبا لكونه أقرب إلى الخمول والتواضع والزهد ولكونه لباس الأنبياء صلى الله عليهم وسلم ، وقد جاء أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يركب الحمار ويلبس الصوف ، وفي حديث " مر بالصخرة على الروحاء سبعون نبيا حفاة عليهم العباءة يؤمون البيت الحرام وفي آخر يوم كلم الله موسى(1/764)
<327>عليه السلام كان عليه جبة من الصوف وسراويل من صوف وكساء من صوف " . وقال الحسن البصري : لقد أدركت سبعين بدريا لباسهم من الصوف . قال اليافعي : وهذا القول الثالث هو المناسب للاشتقاق اللغوي أعني الننسبة إلى الوصف ، وقيل أصل هذا الاسم صوفي من الصفا أو من المصافاة وبين العارف والشهاب السهروردي وقت حدوث هذا الاسم ، فقال ما حاصله : لم يكن هذا الاسم في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال : كان في زمن التابعين ، ونقل عن الحسن البصري أنه قال : رأيت صوفيا في المطاف فأعطيته شيئا فقال : معيأربعة دوانق تكفيني ، ونحو ما جاء عن سفيان الثوري : لولا أبو هاشم الصوفي ما ما عرفت دقيق الرياء ، وقيل لم يعرف هذا الاسم إلى المائتين من الهجرة لأن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم أحق باسم الصحابي لشرفه على كل وصف ، ومن رأى الصحابة وأخذ عنهم العلم أحق باسم التابعي لذلك ، قم لما بعد عهد النبوة وتوارى نورها واختلفت أيضا الآراء وكدر شرب العلوم شرب الأهوية وتزعزعت أبنية المتقين واضطربت عزائم الزاهدين ، وغلبت الجهالات وكثف حجابها وكثرت العادات وتملكت أربابها ، وتزخرفت الدنيا وكثر خطابها ، تفرد طائفة بأعمال صالحة وأحوال سنية واغتنموا العزلة واتخذوا لنفوسهم زوايا يجتمعون فيها تارة وينفردون أخرى أسوة أهل الصفة تاركين للأسباب مبتهلين إلى رب الأرباب فأثمر لهم صالح الأعمال سني الأحوال وتهيأ صفاء الفهوم لقبول العلم ، وصار لهم بعد اللسان لسان وبعد العرفان عرفان ، وبعد الإيمان إيمان كما قاله حارثة أصبحت مؤمنا حقا لما كوشف بمرتبة في الإيمان غير ما عهد ، فصار لهم بمقتضى ذلك علوم يعرفونها وإشارات يعهدونها ، فحرروا لنفوسهم اصطلاحات تشير إلى معارف يعرفونها وتعرب عن أحوال يجدونها فأخذ ذلك الخلف من السلف حتى صار ذلك رسما مستمرا وخيرا مستقرا في كل عصر وزمان فظهر هذا الاسم بينهم وتسموا به ، فالاسم سمتهم والعلم بالله صفتهم والعبادة حليتهم والتقوى شعارهم وحقائق الحقيقة أسرارهم انتهى . وسبقه القشيري في رسالته إلى أكثر من ذلك فإنه قال ما حاصله : اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسم أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى الصحابة إذ لا أفضلية فوقها ثم سمي من أدركهم التابعين ، ثم من أدركهم تابعي التابعين ، ثم تباينت المراتب فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين الزهاد والعباد . (1/765)
مطلب في الاختلاف في نسبة الصوفي لأي شيء وفي أي زمن حدث
ثم ظهرت البدع وحصل التداعي من الفرق ، فكل فريق ادعوا أن فيهم زهدا ، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف ، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة انتهى . قال الإمام الشهاب السهروردي : وممن انتمى إلى الصوفية وليس منهم قوم يسمون أنفسهم قلندرية تارة وملامتية أخرى . قال : وقد ذكرنا حال الملامتية وأنه حال شريف ومقام عزيز وتمسك بالسنن والآثار وتحقق بالإخلاص والصدق وليس مما يزعم المفتونون بشيء . وأما القلندرية فهم أقوام ملكهم سكر طيبة القلوب ختى خرقوا العادات وطرحوا التقليد بآداب المجالسات ، وساحوا في ميادين طيبة القلوب فقلت أعمالهم من الصلاة والصوم إلا الفرائض ، ولم يبالوا بتناول شيء من لذات الدنيا المباحة برخصة الشرع ، وربما اقتصروا على رعاية الرخصة ولم يطلبوا حقائق العزيمة ومع ذلك يتمسكون بترك الادخار وترك الجمع والاستكثار ولا يتوسمون بوسم المتقشفين والمتزهدين والمتعبدين وقنعوا بطيب(1/766)
<328>قلوبهم مع الله تعالى ولم يتطلبوا إلى ميد سواها ، والفرقبين الملامتي والقلندري أن الأول بالغ مع تمسكه بأبواب الخير والبر وبذله الجهد في ذلك ، وطلب المزيد في كتم العبادة والأحوال التي ترقى في بالعلوم في كل أحواله حتى لا يفطن به ، والثاني يبالغ في تحرير العبادات غير متقيد بهيئة ولا يبالي بما يعرف من أحواله أو يجهل وليس رأس ماله إلا طيبة قلبه . وأما الصوفي فهو الذي يضع كل شيء في موضعه ويدبر أوقاته وأحواله كلها بالعلم يقيم الخلق مقامهم ويقيم أمر الحق مقامه ، ويستر ما ينبغي ستره ويظهر ما ينبغي إظهاره كل ذلك مع حضور عقل وصحة توحيد وكمال معرفة ورعاية صدق وأخلاق ، ووقع لقوم مفتونين أنهم سموا أنفسهم ملامتية ولبسوا لبس الصوفية لينسبوا إليهم وليسوا منهم في شيء ، بل هم في غرور وباطل وغلط يتسترون بلبس الصوفية توقيا تارة ودعوى أخرى ، وبعض هؤلاء ينهجون منهج أهل الإباحة ويزعمون أن ضمائرهم خلصت إلى الله وأن الترسم بمراسم الشريعة رتبة العلوم ، وهذا هو عين الإلحاد والزندقة إذ كل حقيقة ردتها الشريعة زندقة .
وبعضهم يقول بالحلول ويزعمون أن الله حل فيهم ويحل في أجسامهم مصطفيها ، ويسبق إلى فهومهم معنى من النصارى في اللاهوت والناسوت تعالى الله أن يحل في شيء أو يحل به شيء ، ومنهم من يستحل النظر إلى المستحسنات إشارة إلى هذا الوهم ، وبعضهم يزعمون أنهم مجبورون على الأشياء لا فعل لهم مع الله ويسترسلون في المعاصي وكل ما تدعو إليه النفوس ويركنون إلى البطالة ودوام الغفلة والاغترار بالله والخروج من الملة وترك الحدود والأحكام والحلال والحرام ، وقد سئل سهل رضي الله عنه عن رجل يقول : أنا كالباب لا أتحرك إلا إذا حرك ، فقال : هذا لا يقوله إلا أحد رجلين إما صديق إشارة إلى أن قوام الأشياء بالله مع إحكام الأصول ورعاية حدود العبودية ، وإما زنديق إحالة للأشياء على الله وإسقاطا للوم عن نفسه وانخلاعا عن الدين ورسمه ، وبعضهم ربما كان ذا كاء وفطة غريزية ويكون قد سمع كلمات تعلقت بباطنه فيتألف له من باطنه كلمات ينسبها إلى الله تعالى وأنها مكالمة الله إياه مثل أن يقول قال لي وقلت له ، وهذا رجل جاهل بنفسه وحديثها وبربه وبكيفية بيان المكالمة والمحادثة ، أو عالم ببطلان ما يقوله وإنما يحمله هواه على الدعوى بذلك ليوهم أنه قد ظفر بشيء وكل ذلك ضلال ، وسبب تجريه ما سمعه من كلام بعض المحققين عن مخاطبات وردت عليهم بعد طول معاملات لهم ظاهرة وباطنة وتمسكهم بأصول القوم من صدق التقوى وكمال الزهد في الدنيا فلما صفت أسرارهم تشكلت في سرائرهم مخاطبات موافقة للكتاب والسنة مفهوما عند أهله موافقا للعلم ويكون ذلك مناجة لسرائرهم ومناجاة سرائرهم إياهم فيثبتون لأنفسهم مقام العبودية ولمولاهم الربوبية فضيفون ما يجدونه إلى نفوسهم وإلى مولاهم ، وهم مع ذلك عالمون بأن ذلك ليس بكلام الله وإنما هو علم حادث أحدثه الله في بواطنهم وطريق الأصحائ في ذلك الفرار إلى الله تعالى من كل ما تحدث نفوسهم بهم حتى إذا برأت ساحتهم من الهوى ألهموا في بواطنهم شيئا ينسبونه إلىالله تعالى نسبة الحادث إلى المحدث لا نسبة الكلام إلى المتكلم ليصانوا عن الزيغ والتحريف انتهى حاصل كلامه رضي الله عنه .
وحاصله أن هذا يرجع إلى الإلهام الذي قاله السادة الصوفية إنه حجة لتوفر قرائن عند من وقع له تقضي بحقيته وأنه ليس من الخواطر النفسانية في شيء قطعا وخالفهم القهاء والأصوليون فيهبل إنكاره من أصله كيف والحديث الصحيح " إن في أمتي 7 محدثون أو ملهمون ومنهم عمر رضي الله تعالى عنه " بل لئلا يدعيه ويحتج به من ليس من أهله ، ولا أنه لا ثقة بخواطر غير المعصوم فربما يخطر له في حديث نفسه أنه إلهام وزين(1/767)
<329>له الشيطان ذلك بمخايل يظهرها له فيظن صدقها فيعتقد حقية ذلك الوارد ، وفي الحقيقة ليس هو وارد حق إنما هو حديث نفس وخاطر شيطاني حمله عليه عدم جريانه على قوانين الاستقامة والقيم العبودية على وجهها الأكمل ، فلما كان للنفس والهوى والشيطان دخل في تزيين ذلك والتلبيس فيه رأى الفقهاء والأصوليون أن المصلحة للناس المتكفلة بسلامتهم من تغرير الشيطان والوقوع في هفوة الطغيا قطعهم عن الاحتاج بالالهامات ، وأن ذلك باب يجب سده على الناس لئلا يترتب على فتحه لهم من المفاسد ما لا يحصى . (1/768)
مطلب في الفرق بين التصوف والفقر والزهد
فهو كما قال الإمام الشهاب السهروردي هو أن التصوف اسم جامع لمعاني الفقر ومعاني الزهد مع مزيد وإضافات لا يكون الرجل بدونها صوفيا وإن كان زاهد فقيرا ، بل قيل : نهاية الفقر مع شرفه بداية التصوف . قال : وأهل الشام لا يفرقون بين الفقراء والصوفية في قوله عز وجل {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض} الآية .
والحق أن بينهما فرقا لأن الفقير متمسك بفقره مؤثر له على الغنى لعلمه بفضائله التي منها أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائه عام فهو لملاحظة العوض الباقي معرض عن الحاصل الفاني ، وهذا عين الاعتلال في طريق الصوفية لأنه يتطلع إلى الأعواض ولم يترك الغنى إلا لأجلها والصوفي يترك الأشياء لا للأعواض الموعودة بل للأحوال الموجودة فإنه ابن وقته . وايضا الفقير ترك الحظالعاجل اختيارا منه وإرادة والاختيار والإرادة علة في حال الصوفي لأن الصوفي صار قائما في الأشياء بإرادة الله تعالى لا بإرادة نفسه ، فلا يرى فضيلة في صورة فقره ولا في صوره غناه ، وإنما يرى الفضيلة فيما يوافقه الحق فيه ويدخله عليه ويعلم الإذن من الله في الدخول في الشيء ، وقد يدخل في صورة سعة مباينة للفقر بإذن من الله فيرى الفضيلة حينئذ في السعة لمكان إذن الله في ذلك ، ولا يفسح في السعة والدخول فيها للصادقين إلا بعد إحكامهم علم الإذن ، وفي هذه مزلة الأقدام وباب دعوى للمدعين ؛ وما من حال يتحقق به صاحب الحال إلا وقد يحكيه راكب الحال {ليهلك من هلك عن بينة ويحى من حي عن بينة} فإذا اتضح لك معنى الفرق بين الفقراء والتصوف ، وإن كان الفقر أساس التصوف ، وبه قوامه على الوصول إلى رتب التصوف على طريقة الفقر لا معنى أنه يلزم من وجود التصوف وجود الفقر انتهى .
الفرق بين الفقر والزهد أن الفقر فيه تحلي بمحاسنه للاطراح والخمول والتمزق وخدمة الفقراء والوجد والكياسة والرياضة والأدب . والترقي من الأوصاف الذميمة كالكبر والعجب والحسد وهذه قد لا توجد مع الزهد .
والحاصل أن محاسن الزاهد بعض محاسن الفقير ومحاسن الفقير بعض محاسن الصوفية . (1/769)
مطلب في الفرق بين الصوفي والتصوف والمتشبه
وأما الفرق بين الصوفي والمتصوف والمتشبه فقد بينه السهروردي أيضا بأن طريق الصوفية أوله إيمان ثم علم ثم ذوق فالمتشبه صاحب إيمان ، والإيمان بطريق الصوفية أصل كبير : قال سيد الطائفة أبو القاسم الجنيد قدس الله سره : التصديق بطريقنا هذا ولاية . قال السهروردي : لأن الصوفية تميزوا بأحوال عزيزة وآثار مستغربة عند أكثر الخلق لأنهم مكاشفون بالقدر وغرائب العلوم وإشاراتهم على عظيم أمر الله والقرب منه(1/770)
<330>والإيمان بذلك إيمان بالقدرة ولهم علوم من هذا القبيل فلا يؤمن بطريقتهم إلا من خصه الله تعالى بمزيد عنايته فالمتشبه صاحب إيمان والمتصوف صاحب علم لأنه بعد الإيمان اكتسب مزيد علم بطريقهم وصار له في ذلك مواجيد يستدل بها على سائرها ، والصوفي صاحب ذوق فللمتصوف الصادق نصيب من حال الصوفي ، وللمتشبه الصادق نصيب من حال المتصوف . قال : وهكذا سنة الله تعالى جارية أن كل صاحب حال له ذوق فيه لا بد أن يكشف له علم بحال أعلى مما هو فيه فيكون في حاله الأول صاحب ذوق وفي الحال الذي كوشف به صاحب علم وبحال فوق ذلك صاحب إيمان . ثم قال بعد كلام طويل : الصوفي في مقاومة الروح صاحب مشاهدة والمتصوف في مقاومة القلب صاحب مراقبة ، والمتشبه في مقاومة النفس صاحب مجاهدة ومحاسبة ، فتكوين الصوفي بوجود قلبه ، وتكوين المتصوف بوجود نفسه ، والمتشبه لا تكوين له لأن التكوين لأرباب الأحوال والمتشبه مجتهد سالك لم يصل بعد إلى الأحوال ، والط\كل يجمعهم دائرة الاصطفاء في قوله تعالى {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله} قال بعضهم : الظالم يجزع من البلاء ، والمقتصد يصبر عند البلاء ، والسابق يتلذذ بالبلاء ، وقال بعضهم : الظالم يعبد على الغفلة والعادة ، والمقتصد يعبد على الرغبة والرهبة ، والسابق يعبد على الهيبة والمنة ، وقال بعضهم : الظالم : صاحب الأقوال ، والمقتصد صاحب الأفعال ، والسابق صاحب الأحوال . وكل هذه الأقوال قريبة التناسب من حال الصوفي والمتصوف والمتشبه وكلهم من اهل الفلاح والنجاح . والمتشبه بالصوفيه ما اختار التشبه بهم دون غيرهم من الطوائف إلا لمحبته إياهم وهو على قصوره عن القيام بما هم فيه يكون معهم لموضع إرادته ومحبته ، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المرء مع من أحب ، فقال أبو ذر : يا رسول الله الرجل يحب القوم ولا يستطيع يعمل كعملهم قال : أنت يا أبا ذر مع من أحببت ، قال : فإني أحب الله ورسوله ، قال : فإنك مع من أحببت " قال الشهاب السهروردي : جاء فتى إلى الشيخ أحمد الغزالي بن أخي حجة الإسلام يريد منه أن يلبسه الخرقة فأرسله إلى شيخنا أي والظاهر أنه عمه أبو النجيب ليذكر له معنى الخرقة ، فجاء إليه فذكر للمبتدي شروطها وآدابها وحقوقها ، فجبن الرجل عن ذلك ورجع للغزالي ففاستحضره وقال له : ما ذكرته صحيح ، ولكن إذا ألزمنا المبتدي بذلك نفر وعجز عن القيام به ، فنحن نلبسه الخرقة حتى يتشبه بالقوم ويتزيا بزيهم فيقربه ذلك من مجالستهم ومحافلهم ، فببركة مخالطته بهم ونظره إلى أحوال القوم ومسيرهم يحب أن يسلك بذلك مسلكهم ويصل بذلك إلى شيء م أحوالهم . قال الشهاب السهروردي : فالمتشبه الحقيقي له إيمان بطريق القوم وعمل بمقتضاه وسلوك واجتهاد لأنه صاحب مجاهدة ومحاسبة كما مر ، ثم يصير متصوفا صاحب مراقبة ثم يصير صوفيا صاحب مشاهدة ، فأما من لم يقصد أوائل مقاصدهم بل هو على مجرد تشبه ظاهر من ظاهر من ظاهر التشبه والمشاركة في الزي والصورة دون السيرة والصفة فليس متشبها بالصوفية لأنه غير محاك لهم في الدخول في بداياتهم ، فإذا هو متشبه بالمتشبه يعزى إلى القوم بمجرد لبسه ومع ذلك هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ، وقد ورد : " من تشبه بقوم فهو منهم " .
(1/771)
<331>
(1/772)
مطلب فيمن ينكر على الصوفية إجمالا أو تفصيلا
وسئل رضي الله عنه : عن قوم من الفقهاء ينكرون على الصوفيه إجمالا أو تفصيلا فهل هم معذورون أم لا ؟ .
فأجاب بقوله : ينبغي لكل ذي عقل ودين أن لا يقع في ورطة الإنكار على هؤلاء القوم فإنه السم القاتل كما شوهد ذلك قديما وحديثا ، وقد قدمنا صحة قصة ابن السقاء المنكر على ولي الله فأشار له أنه يموت كافرا ، فشوهد عند موته بعد تنصره لفتنته بنصرانية أبت منه إلا أن يتنصر مستقبل الشرق وكلما حول للقبلة يتحول إلى الشرق حتى طلعت روحه وهو كذلك ، وأنه كان أوجه أهل زمانه علما وذكاء وشهرة وتقدما عند الخليفة فحلت عليه الكلمة بواسطة إنكاره ، وقوله عن ذلك الولي لأسألنه مسألة لا يقدر على جوابها ، وتقدم أيضا أن الإمام أبا سعيد بن أبي عصرون إمام الشافعية في زمنه صدر منه لذلك الولي نوع قلة أدب فوعده بأن يغرق في الدنيا إلى أذنيه فولاه نور الدين الشهيد الأوقاف بدمشق وكان كذلك ، وأن إمام العارفين وتاج الخلفاء الوارثين محيي الدين عبد القادر الجيلاني رضي الله تعالى عنه ، وهؤلاء الثلاثة جاءوا للولي معا فوقع للأولين ما ذكر وأما الشيخ عبد القادر لما تأدب معه دعا له ووعده بالولاية بل القطبية وأن قدمه سيصير على عنق كل ولي لله تعالى ، فانظر شؤم قلة الأدب وفائدة الأدب والاعتقاد . وجاء عن المشايخ العارفين والأئمة الوارثين أنهم قالوا : أقل عقوبة المنكر على الصالحين أن يحرم بركتهم . قالوا : ويخشى عليه سوء الخاتمة نعوذ بالله من سوء القضاء . وقال بعض العارفين : من رأيتموه يؤذي الأولياء وينكر مواهب الأصفياء فاعلموا أنه محارب لله مبعد مطرود عن حقيقة قرب الله ، وقال الإمام المجمع على جلالته وإمامته أبو تراب النخشبي رضي الله عنه : إذا ألف القلب الإعراض عن الله صحبته الوقيعة في أولياء الله تعالى . وقال الإمام العارف شاه بن شجاع الكرماني : ما تعبد متعبد بأكثر من التحبب إلى أولياء الله لأن محبتهم دليل على محبة الله عز وجل ، وقال أبو القاسم القشيري : قبول قلوب المشايخ للمريد أصدق شاهد لسعادته ، ومن رده قلب شيخ من الشيوخ فلا محالة يرى غب ذلك ولو بعد حين ، ومن خذل بترك حرمة الشيوخ فقد أظهر رقم شقاوته وذلك لا يخطئ انتهى . ويكفي في عقوبة المنكر على الأولياء قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب " أي أعلمته أني محارب له ومن حارب الله لا يفلح أبدا . وقد قال العلماء : لم يحارب الله عاصيا إلا المنكر على الأولياء وآكل الربا وكل منهما يخشى عليه خشية قريبة جدا من سوء الخاتمة إذ لا يحارب الله إلا كافرا . وحكى اليافعي قدس سره عن عصريه الشيخ الإمام عبد العزيز الدرياني : أنه أدركه المغرب وهو في حاجة فصلاه ، ورأى فقيها يلحن في قراءته فعزم الشيخ على الإقامة عنده ليعلمه فلما سلم قال له : يا عبد العزيز الحق حاجتك فإن من هي عنده يريد السفر ، وما عليك من هذا اللحن الذي سمعته والتعليم الذي نويته ، فركبت ، فلما وصلت لمن عنده تلك الحاجة رأيته عازما على السفر ، ولو تأخرت لحظة فاتني . وذكر اليافعي : أن جماعة من الفقهاء أنكروا على جماعة من الصوفية لحنهم في مواجيدهم فأعادوا تلك الكلمات في الحال وأعربوها بوجوه من الإعراب ثم أنشدوا عقيب ذلك :
لحنها معرب وأعجب من ذا *** أن إعراب غيرها ملحون
وقال بعض المشايخ لبعض الفقهاء المنكر عليه فعرض له أسد فمنعه منه : اشتغلتم باصلاح الظاهر فخفتم الأسد(1/773)
<332>واشتغلنا بإصلاح الباطن فخافنا الأسد ، وقال آخر لمن أنكر عليه قراءته : إن كنت لحنت في قراءة القرآن فقد لحنت أنت في الإيمان ، وذلك أنه لما أنكر عليه وخرج قصده السبع فخشي عليه من خوفه لضعف إيمانه وقلة يقينه بالله ، إذ السبع كلب من الكلاب ودابة من دواب البر لا يتحرك شيء منها إلا بإذن رب الأرباب . ووقع للصوفي انه دخل بلدا فتخلف فقيهها عن زيارته فسأله أهلها أن يغاثوا لشدة ما عندهم من جدب فقال : سلوا فقيهكم فإن سقيتم بدعوته زرته ، فسألوه فقال : لا اسألوه هو فإن سقيتم بدعوته زرته ، فرجعوا إليه فدعا فسقوا في الحال فجاء فزاره . (1/774)
مطلب على أنه ما تعبد متعبد بأكثر من التحبب إلى أولياء الله تعالى
ومما يلجئك على اعتقادهم ما جاء عن أبي الحسن النوري أنه وأصحابه رموا بالزندقة وسعي بهم إلى الخليفة فأما الجنيد فتستر بالفقه فإنه كان يفتي على مذهب أبي ثور صاحب الشافعي رضي الله تعالى عنهما ، فجئ بهم وبسط لهم النطع لتضرب أعناقهم فبادر النوري فقال له السياف : ولم تبادر للقتل ؟ فقال : لأوثر أصحابي بحياة ساعة لأنا قوم بنينا مذهبنا على الإيثار ، فأنهي الأمر إلى الخليفة فعجب من ذلك وأرسل له قاضيه فسأل عن مسائل مشكلة فالتفت عن يمينه وعن يساره ثم أطرق ثم تكلم عليها بما يشفي الصدور فرجع القاضي وهو يقول : إن كان هؤلاء زنادقة فليس على وجه الأرض صديق فأطلقوهم . وسئل رضي الله عنه عن ذلك الالتفات فقال : سألت عنها ملك اليمين فقال لا أعلمها ثم ملك الشمال فقال كذلك ، فسألت قلبي فأخبرني عن ربي بما أجبت به ، وكان هذا لشدة إشكالها ، وإلا فالنوري من أئمة علماء الظاهر أيضا رضي الله عنه ونفعنا بسائر الأولياء والعارفين فإنا نعتقدهم ونحبهم ومن أحب قوما حشر معهم حقق الله لنا الدخول في أعدادهم في الدنيا والآخرة آمين . (1/775)
مطلب ما معنى توحيد الصوفية الموهم للحلول والاتحاد الموجب لكثير من الفقهاء الاعتراض الخ
وسئل نفع الله به : ما معنى توحيد الصوفية الموهم للحلول والاتحاد الموجب لكثير من الفقهاء الاعتراض عليهم بذلك وتشديد النكير عليهم في جميع تلك المسالك حتى بالغ كثير منهم بالتكفير حقيقة أو للتنفير ؟ .
فأجاب بقوله : اعلم وفقني الله وإياك لمرضاته وأدخلنا تحت حيطة الصفوة من أوليائه ليتجلى علينا بعرائس هباته : أن توحيد الله تعالى باللسان العلمي المقرر في كتب أئمة الكلام القول فيه مشهور عند من مارس ذلك الفن واطلع على دقائقه وأحاط بما فيه من العويصات والشبه والإيرادات وأجوبتها ، ومن ثم كان هذا العلم في الحقيقة أشرف العلوم إذ هي تشرف بشرف معلومها ، وأفضلها إذ معرفة الله تعالى والنظر المؤدي إليها هما أول الواجبات العينية وأساس جميع الفروض وغيرها وسائر أصول الشريعة وفروعها ، وأما التوحيد بالأحوال الشهودية والمواجيد العرفانية فهو حال أئمة التصوف الذين أتحفهم الله بما لم يتحف به احدا سواهم لأن أهل ذلك العلم ليس لهم من الحضور مع الحق وآثار شهود صفاته وحقائف تجلياته في جميع أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم ما لأئمة الصوفية الغارقين في بحار شهود التوحيد الواقفين مع الله تعالى على قدم الصدق والتجريد والمتخلين عما سواه على غاية الكمال والتفريد ؟ فتوحيدهم هو الذي عليه المعول وحالهم هو الحال الأكمل الذي ليس لهم عنه محول بل هم دائما في ظله الظليل لا براح لهم عن الحضرة الشهودية ولا شاغل لهم عن(1/776)
<333>استجلاء لحقائق الوجود ليتعرفوا بها حكم الأقضية وحقائق القدرة وآثار صفات الجلال والجمال ، ومن ثم قال بعض محققيهم فارقا بينهم وبين علماء الكلام : أولئك قوم اشتغلوا بالاسم عن المسمى ونحن قوم اشتغلنا بالمسمى عن الاسم ، ولذلك تجد أولئك لا شهود لهم ولا استحضار بل قلوبهم مملوءة بشهو الأغيار مستغرقة في الشهوات ، وإن فرش ان لهم استحضارا فهو مقصور على حالة استحضار شيء من علمهم على أن هذا للنادر منهم ، وما أكثرهم فهم لا يستحضرون إلا الألفاظ ومعانيها فحسب دون أمر زائد على ذلك .
وقد شرح محققوا الصوفية توحيدهم الذي اختصوا به بعبارات مختلفة هي في الحقيقة مؤتلفة من أحسنها قول إمام العلوم الظاهرة والباطنة المجمع على جلالته وإمامته في الطريقين أبي القاسم القشيري قدس الله سره وروحه ونور ضريحه فارقا بين توحيد الصوفية وتوحيد غيرهم : توحيد العبد لربه على مراتب : توحيد له بالقول والوصف بأن يخبر عن وحدانيته ، وتوحيد له بالعلم وهو أن يعلمه بالبرهان على وحدانيته ، وتوحيد له بالمعرفة وهو أن يعرفه بالبيان كما علمه بالبرهان والبيان أجلى من البرهان ففي حال معرفته بالبيان لا يفتقر إلى نظره ولا إلى تذكر نظره ، وليس الضروري علمه ولكنه كالضروري في أنه أقوى حالا مما كان ، وقد تسمى هذه الحالة الإلهام ، وإنما يصح ذلك إذا ترقى إلى هذه الصفة عن العلم البرهاني بقوة الحال ثم توحيد من حيث الحال يشهده واحدا وحال الشهود ليس له الرؤية ولكنه كالرؤية كما قال صلى الله عليه وسلم : " اعبد الله كأنك تراه " وهذه هي حالت المشاهدة التي أىشار إليها القوم بتوالي التجلي على قلبه فصار كالعيان في حاله ، ومن أهل التوحيد من يشهد له الحادثات بجملتها بالله تعالى بظهورها فيشهدها به سبحانه تجري عليها أحكامه وتظهر فيها أفعاله . ومن أهل التوحيد من يوحد من حيث التنزيه فهؤلاء قالوا : الحق وراء ما أدركه الخلق بأفواههم وأحاطوا به بعلومهم وأشرفوا عليه بمعارفهم ، قالوا : وكل من كوشف يشيء فعلى قدر قوته وضعفه ، قالوا : والقوم الذين كوشفوا بالحقيقة أو شاهدوا الحق واحتفظوا بشواهدهم عن شهود الحق أو استمسكوا في عين الجمع أو ليس يشهدون إلا الحق أو ليس يخشون إلا الحق أو هم محوا في حق الحق أو مصطلمون فيه بسلطان الحقيقة أو تجلى لهم الحق بجلال الحق ، وغير هذا إلى آخر ما عبر عنه معبر أو أخبر عنه مخبر أو أشار إليه مشير أو أدركه فهم أو انتهى إليه علوم أو حصره بالتفصيل ذكر فهم شواهد الحق وهو حق من الحق ولكنه ليس بحقيقة الحق فإن الحق منزه عن الإدراك والإحاطة والإشراق . قالوا : وكل ما يدل على خلق أو جار على الخلق فذاك مما يليق بالخلق والحق مقدس عن جميع ذلك ، انتهى حاصل كلام القشيري ، وهو لا سيما آخره أوضح عاضد وأقوى شاهد على حقيقة توحيد القوم السالمين من المحظور واللوم ، وعلى أنه الغاية القصوى في التوحيد والحقيقة العليا في المعرفة والتنزيه والتمجيد فشرفهم بذلك ، وإياك أن تقع في ورطة الاعتراض عليهم فتتسابق أسهم القواطع إليك فإنهم براء من ذلك منزهون عنه إذ هم أكمل الخلق عقلا ومعرفة فكيف يتوهمون ما هو بديهي البطلان . وبيان ذلك أن الاتحاد بعد ما قام من البراهين المقررة في كتب الحكمة ، والكلام على امتناع اتحاد الاثنين وهو يستلزم كون الواجب هو الممكن وعكسه وذلك محال بالضرورة .
وأما الحلول فلوجوه : الأول أن الحال في الشيء يفتقر إليه في الجملة سواء كان حلول جسم في مكان أو عرض في جوهر أو صورة في مادة كما هو رأي الحكماء أو صفة في موصوف ، والافتقار إلى الغير ينافي الوجوب ومن ذلك حلول الامتزاج كالماء في الورد فإنه من خواص الأجسام وهي مفتقرة إلى الغير .
الثاني : أن الحلول في الغير إن لم يكن صفة كمال وجب نفيه عن الواجب وإلا لزم كون الواجب مستكملا(1/777)
<334>بالغير وهو باطل .
الثالث : لو حل في جسم على ما زعم بعض الملحدين الذين لا عقول لهم ولا دين فإما أن يحل في جميع أجزائه فيلزم الانقسام أو في جزء منه فيكون أصغر الأشياء وكلاهما باطل بالضرورة والاعتراف ، والأدلة على ذلك كثيرة محل بسطها كتب الكلام . وإذا بان واتضح بطلان الحلول والاتحاد وامتناعها على الذات فكذا على الصفات لاستحالة انتقال صفة الذات المختصة بها إلى غيرها فرأس القائلين بها النصارى وبعض المنتسبين إلى الإسلام كغلاة الشيعة . قالوا : لا يمتنع ظهور الروحاني في الجسماني كجبريل في صورة دحية وكالجني في صورة إنسي وحينئذ فلا يبعد أن يظهر الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا في صورة بعض الكاملين ، وأولى الناس بذلك علي وأولاده الذين هم خير البرية وأطالوا في هذه الترهات البديهية البطلان لكن لفساد عقولهم حتى صاروا كالأنعام بل هم أضل سبيلا راجت عليهم حتى حسبوا أنهم على حق فزلوا وأزلوا وضلوا وأضلوا ، وكفرتهم يزعمون أنهم من عداد الصوفية وليسوا كما زعموا بل هم في عداد الحمقاء الذين لا يدرون ما يقولون ولا يعون ما يزعمون فهم أضل من الحيوان وأحمق من الفراش التي ترمي نفسها إلى النيران ، ومن جملة خرافاتهم وكذبهم وجهالتهم قولهم : إن السالك إذا أمعن في سلوكه وخاض لجة الوصول يحل الله سبحانه وتقدس عن مرية المفترين فيه كما تحل النار في الجمر بحيث لا يتمايز أو يتحد بحيث لا إثنينية ولا تغاير ، وصح أن يقول : هو أنا وأنا هو وحينئذ يرتفع الأمر والنهي ويظهر من الغرائب والعجائب ما لا يصح أن يكزن من البشر وفساد هذا كالذي قبله غني عن الإيضاح والبيان فذكره استطراد ، وإنما الذي ينبغي أن يعتنى بتحقيقه وتحريره وحفظه وتقريره هو أن ما وقع في كلمات بعض المتقدمين والمتأخرين من أئمة الصوفية مما يوهو حلولا واتحادا ليس مرادهم ذلك بالنسبة لأحوالهم واصطلاحهم ، ومن ثم قال العلامة المحقق زمام المتأخرين في العلوم الحكمية والنقلية السعد التفتازاني : إن السالك إذا انتهى سلوكه إلى الله تعالى أي إلى مرتبة من قربه وشهوده ، وفي الله تعالى أي وفي بلوغ رضاه ما يؤمله من حضرته العلية يستغرق في بحار التوحيد والعرفان بحيث تضمحل أي باعتبار الشهود لا الحقيقة ذاته في ذاته وصفاته في صفاته ويغيب عن كل ما سواه ولا يرى في الوجود إلا الله تعالى . قال : وهذا هو الذي يسمونه الفناء في التوحيد ، وإليه يشير الحديث الإلهي : " لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل ختى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها " الحديث ، وحينئذ ربما يصدر عن الولي عبارات تشعر بالحلول أو الاتحاد لقصور العبارة عن بيان تلك الحال وبعد الكشف عنها بالمثال . قال : ونحن على ساحل التمني نغترف من بحر التوحيد بقدر الإمكان ونعترف أن طريق الفناء فيه العيان دون البرهان . قال : وهنا مذهي ثان يوهم ذلك وليس منه أيضا وهو أن الواجب هو الوجود المطلق وهو وحده لا كثرة فيه أصلا وإنما الكثرة في الإضافات والتعيينات التي هي بمنزلة الخيال والسراب إذ الكل في الحقيقة واحد يتكرر على مظاهر لا بطريق المخالطة ويتكثر في البواطن لا بطريق الانقسام فلا حلول هنا ولا اتحاد لعد الاثنينية والغيرية انتهى كلام السعد رحمه الله تعالى ، وبه يعلم أن من يقع في كلمات القوم لا سيما ابن عربي وابن الفارض وأتباعهما رحمها الله تعالى ونفع بهم في حضارات التوحيد منزل على ما ذكره السعد رحمه الله ، ولبعض أئمة المتأخرين من تلامذة مولانا عبد الرحمن الجامي المشهور في كتابه الذي سماه "المتمم به " ما كنى به عن نسخة النفحات وهو مولانا علاء الدين محمد بن المؤمن الأبيبزي بتحتانية ممدودة وكسر باء موحدة تحتانية وزاي من أجل تلامذة مولانا سعد الدين الكازوري من(1/778)
<335>أجل أساتذة الطريقة العلية السالمة من كدورات جهل الصوفية وهي طريقة النقشبندية أنه قال في الريحانة الثانية منه : ريحانة ذكر الآباء : معنى أن لا إله إلا الله أن الذكر ثلاث مراتب في السلوك ففي الأولى يقدر لا معبود إلا الله ، وفي الثانية التي هي مرتبة السير إلى الله يقدر لا مقصود إلا الله ، وفي المرتبة الثالثة وهو السير في الله وهي مقام المنتهين يقدر لا موجود إلا الله فهو ما لم ينته السالك في السير في الله وذكر لا موجود إلا الله فهو كفر صريح أي ربما أدى إليه كما لا يخفى فأطلقه مبالغة في الزجر والتنفير لمن يدعي هذه المرتبة الباطلة فتأمله . ووفات صاحب الريحانة سنة ثمان وثلاثين وتسعمائة ، ووفاة علاء الدين سنة اثنين وتسعين وثمانمائة ، ووفاة الكازوري سنة ستين وثمانمائة فاحذر من الإنكار فإنه يوقع المنكر في العثار ، وكن محسن الاعتقاد على غاية من الازياد فلإن المنكر محروم والمتعنت مذموم والحق أحق أن يتبع والباطل عن هؤلاء الأئمة قد اندفع ، أدخلنا الله تحت ألويتهم الطاهرة من الريب الظاهرة على سائر الرتب فإننا نعتقدهم ونحبهم ومن أحب قوما فهو يحشر معهم . (1/779)
مطلب ابن عربي هل هو على طريقة الهدى الخ ؟
وسئل تفع الله به بما لفظه : ما تقولون في ابن عربي هل هو على طريقة الهدى أم نهج الردى ؟ وهل صح تكفيره أو لا ؟ وهل قال أحد أنه على الصواب أو لا ؟ أوضحوا الجواب وأوضحوا لنا حاله فإنه تكاثرت الأقوال فيه ولم ندر الصحيح من السقيم ؟ .
فأجاب رضي الله عنه بقوله : الشيخ محيي الدين بن عربي رحمه الله ورضي عنه إمام جمع بين العلم والعمل كما اتفق على ذلك من يعتد به ، كيف وقد ذكر بعض المنكرين في ترجمته إنه كان وصل لمرتبة الاجتهاد وحينئذ فإسلامه متيقن وكذلك علمه وعمله وزهادته وورعه ووصوله في الاجتهاد في العبادة إلى ما لم يضل إليه أكابر أهل الطريق . وإذا تقرر أن هذا كله معلوم من حاله فالأصل بفاؤه عليه إلى أن مات فلا يجوز الإقدام على تنقيصه بمجرد التهور والتخيلات التي لا مستند لها يعتد به بل يستصحب ما علم من إسلامه ومعارفه وعلومه هذا ما يتعلق بذلك ، أما الكتب المنسوبة له فالحق أنه واقع فيها ما ينكر ظاهره والمحققون من مشايخنا ومن قبلهم على تأويل تلك المشكلات بأنها جارية على اصطلاح القوم وليس المراد منها ظواهرها . قال بعض المحققين من مشايخ مشايخنا : مع اعتقادي فيه المعرفة الكبرى والنزاهة العظمى لو رأيته للمته وقلت له : قد أودعت في كتبك أشياء كانت سببا لضلال كثيرين من الجهال بطريقتك واصطلاحك ، فإن أكثر الناس ليس لهم من الكلام إلا ظاهره وظاهر تلك الكلمات كفر صريح ارتبك فيه أقوام اغتروا بكلامك ولم يدروا أنه جار على اصطلاحك فليتك أخليت تلك الكتب عن الكلمات المشكلة انتهى حاصل ما قاله ذلك المحقق وهو كلام حسن ، وإن فرض أن للشيخ عذرا في ذكرها غيرة على طريقتهم أن ينتحلها الكاذبون لأن هذا لو فرض وقوعه كان أخف مما ترتب على ذكر تلك الكلمات من زلل كثير بسببها ، ولقد رأيت ممن ضل بها من يصرخ بمكفرات أجمع المسلمون على أنها مكفرات ومع ذلك يعتقدها وينسبها لابن عربي ، ولقد كذب في ذلك وافترى فإن ابن عربي بريء من ذلك باعتبار ما علم واستقرئ من حاله .
(1/780)
<336>
والحاصل أنه يتعين على كل من أراد السلامة لدينه ألا ينظر في تلك المشكلات ولا يعول عليها سواء قلنا إن لها باطنا صحيحا أم لا ، وأن لا يعتقد في ابن عربي خلاف ما علم منه في حياته من الزهد والعبادة الخارقين للعادة ، وقد ظهر له من الكرامات ما يؤيد ذلك . منها : ما حكاه صاحب القاموس أنه لما فرغ من تأليف كتابه (الفتوحات المكية) جعله وهو ورق مفرق على ظهر الكعبة فمكث سنة لم تطير الريح منه ورقة ولا وصلت إليه قطرة مطر مع كثرة أمطارها ورياحها فسلامة تلك الأوراق من المطر والريح مع مكثها سنة على السطح من الكرامات الباهرة الدالة على إخلاصه في تأليفه هذا الكتاب وأنه بريء مما نسب إليه فيه وفي غيره ولا يقدح فيه ما صدر عنه مما لا يقبل التأويل ولا يقتضي التضليل ، كقوله بإسلام فرعون لأن هذا لا يقتضي كفرا وإنما غايته أنه خطأ في الاجتهاد وهو غير قادح في صاحبه إذ كل من العلماء مأخوذ من قوله ومردود عليه إلا المعصومين . والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب .
وقد تم الكتاب بعون الملك الوهاب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين .
آمين . (1/781)