الخلاصةُُ
في شرحِ حديثِ الوليِّ
إعدادُ
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
((حقوقُ الطبعِ لكلِّ مسلمٍ ))
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمةُ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمين على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه الغرِّ الميامين ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .
وبعد :
يقول الله تعالى : {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} [يونس/62-64]
وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ مَا تَقُولُ فِى قَوْلِ اللَّهِ (لَهُمُ الْبُشْرَى فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ) قَالَ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ شَىْءٍ مَا سَمِعْتُ أَحَداً سَأَلَ عَنْهُ بَعْدَ رَجُلٍ سَأَلَ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « بُشْرَاهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ وَبُشْرَاهُمْ فِى الآخِرَةِ الْجَنَّةُ ».(1)
__________
(1) -مسند أحمد (28291) صحيح لغيره(1/1)
وقد ذكر الله تعالى أن هناك أولياء للرحمن وأولياء للشيطان ، وأمرنا أن نكون من أولياء الرحمن ، وقد ذكرت الولاية في القرآن والسنة ، وقد ورد فيها حديث صحيح مشهور أورده البخاري في صحيحه فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ »(1).
هذا وقد قام العلماء بشرح هذا الحديث ، وهم سائر شراح البخاري ، وقام بشرحه العلامة ابن رجب الحنبلي رحمه الله في جامع العلوم والحكم ، وشرحه ابن تيمية رحمه الله في رسالته القيمة الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان(2), وأفرده الشوكاني رحمه الله بكتاب ضخم سماه ( القطر الجلي شرح حديث الولي )(3)
وقد رأيت أن أقوم بجمع خلاصة هذه الشروح والتوفيق بينها ، وإضافة ما يلزم إضافته لها ، أو التعقيب على بعضها ، لاسيما وقد أصبح الاختلافُ كبيرا بين المسلمين حول كثير من صفات الأولياء .
__________
(1) -صحيح البخارى (6502 )
(2) - وقد يسر الله لنا تحقيقه ونشره .
(3) - وقد أخذت به رسالة دكتوراه من الأزهر قسم الفلسفة ونشر بكتاب ضخم(1/2)
وقد قمت بجمع مفردات مواد هذا الموضوع من مصادرها الأساسية ؛ من القرآن وتفاسيره والسنَّة وشروحها ، والفقه والأصول ، والآداب وغيرها، متحريا صحة النقل ، وقد حكمت على الأحاديث بالصحة والضعف حسب قواعد الجرح والتعديل الموضوعة في هذا الفنِّ .
هذا وقد قسمته إلى بابين وتحت كل باب مباحث عديدة كما يلي :
البابُ الأولُ =مباحثُ هامَّةٌ حول هذا الموضوع ...
المبحثُ الأول -معنى الولاية في اللغة ...
المبحثُ الثاني -وِلاَيَةُ اللَّهِ تَعَالَى بالتفصيل ... ...
المبحثُ الثالث -الخلاصةُ في أحكام السِّحْرِ
المبحثُ الرابع -الخلاصةُ في أحكام الإِلْهَامِ ...
المبحثُ الخامس -الخلاصة في أحكامِ الرُؤْيَا
المبحثُ السادس -هل الأولياءُ معصومون ؟ ...
المبحثُ السابع -الفرقُ بين الوليِّ ومدَّعي الولايةَ
المبحثُ الثامنُ-خاتمُ الأولياءِ ...
المبحثُ التاسع- الكَرَامَةُ ...
المبحثُ العاشر- هل كلُّ ما كان معجزةً لنبيٍّ كان كرامةً لوَليٍّ ؟ ...
المبحثُ الحادي عشر -مَنْ همُ الأولياء؟
المبحث الثاني عشر -هل يحجبُ أولياءُ الله عن الناسِ ؟ ...
المبحثُ الثالث عشر-خوارقُ العادات بين الكرامةِ والاستدراجِ ...
المبحث الرابع عشر-هل يتميز أولياء الله عن الناس بشيء ؟ ...
المبحث الخامس عشر-" الْحَقِيقَةُ " حَقِيقَةُ الدِّينِ : دِينُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ...
المبحث السادس عشر-الْأَنْبِيَاءُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ
المبحث السادس عشر-أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ هُمُ الْمُقْتَدُونَ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
===============
البابُ الثاني-شرح حديث الولي ...
وفيه مباحث
المبحثُ الأول- نصُّ الحديث وشواهده
المبحث الثاني-حول صحَّةِ الحديثِ وما قيل فيه والجواب عنه ...
المبحث الثالث-الدفاعُ عن صحيحي البخاري ومسلم ...
المبحثُ الرابع-مفهوم الولاية في القرآن الكريم
المبحثُ الخامسُ-الحديثُ القدسيُّ والفرق بينه وبين الحديث العادي ...(1/3)
المبحثُ السادسُ-معاني المفردات
المبحثُ السابعُ-معاداةُ أولياء الله تعالى مؤذنةٌ بالحرب من الله ...
المبحثُ الثامنُ-التقربُ إلى الله تعالى بالفرائض
المبحثُ التاسعُ-التقربُ إلى الله تعالى بالنوافلِ وتفاوت أولياء الله في ذلك
المبحثُ العاشر-ماذا يعطي الله تعالى من تقرب إليه بالفرائض والنوافل ؟ ...
المبحث الحادي عشر-إجابةُ دعاء أولياء الله ...
المبحثُ الثاني عشر-هل يترددُ اللهُ تعالى بقبضِ روحِ أوليائهِ ؟ ...
المبحث الثالث عشر-لماذا نكره الموت ؟
المبحثُ الرابع عشر-الجوابُ عن الإشكالات السبعة في هذا الحديث ...
المبحثُ الرابعُ عشر-أهمُّ الدروس والعبر المستفادة من الحديث
وأخيرا خاتمة فيها خلاصة لهذا الموضوع .
وقد ذكرت أهم المراجع والمصادر التي نافت على الثلاثمائة وثلاثين مرجعاً .. ...
لذا أرجو أن أكون قد وفيتُ هذا الحديثَ حقَّهُ ، وأجبتُ على كثير من التساؤلات والشُّبَهِ التي اختلف فيها الناس اليوم .
قال تعالى علي لسان النبي شعيب عليه السلام : { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (88) سورة هود.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أولياءه المتقين، وأن يختم لنا بالحسنى ، وأن ينفع به كاتبه وقارئه والدال عليه وناشره في الدارين .
جمعه وأعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 12 محرم 1429هـ الموافق ل 20/1/2008م
- - - - - - - - - - - - - - - -
البابُ الأولُ
مباحثُ هامَّةٌ حول الموضوع
المبحثُ الأول
معنى الولاية في اللغة(1)
__________
(1) - لسان العرب - (ج 15 / ص 405) و النهاية في غريب الأثر - (ج 5 / ص 510) وتاج العروس - (ج 1 / ص 8657)(1/4)
" ( ولي ) في أَسماء الله تعالى : الوَلِيُّ هو الناصِرُ وقيل : المُتَوَلِّي لأُمور العالم والخلائق القائمُ بها ومن أَسمائه عز وجل : الوالي وهو مالِكُ الأَشياء جميعها المُتَصَرِّفُ فيها . قال ابن الأَثير : وكأَن الوِلاية تُشعر بالتَّدْبير والقُدرة والفِعل وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي . ابن سيده : وَليَ الشيءَ و وَلِيَ عليه وِلايةً و وَلايةً وقيل : الوِلاية الخُطة كالإِمارة و الوَلايةُ المصدر . ابن السكيت : الوِلاية بالكسر السلطان والوَلايةُ والولاية النُّصرة . يقال : هم عليَّ وَلايةٌ أَي مجتمعون في النُّصرة . وقال سيبويه : الوَلاية بالفتح المصدر والوِلاية بالكسر الاسم مثل الإِمارة والنِّقابة لأَنه اسم لما توَلَّيته وقُمْت به فإِذا أَرادوا المصدر فتحوا . قال ابن بري : وقرىء { ما لكم من ولايَتِهم من شيء } بالفتح والكسر وهي بمعنى النُّصْرة قال أَبو الحسن : الكسر لغة وليست بذلك . التهذيب : قوله تعالى : { والذين آمَنُوا ولم يُهاجِروا ما لكم من وِلايَتهم من شيء } قال الفراء : يريد ما لكم من مَوارِيثهم من شيء قال : فكسْرُ الواو ههنا من وِلايتهم أَعجبُ إِليَّ من فتحها لأَنها إِنما تفتح أَكثرَ ذلك إِذا أُريد بها النصرة قال : وكان الكسائي يفتحها ويذهب بها إِلى النصرة، قال الأَزهري : ولا أَظنه علم التفسير، قال الفراء : ويختارون في وَلِيته وِلاية الكسر قال : وسمعناها بالفتح وبالكسر في الولاية في معنييهما جميعاً وأَنشد :
دَعِيهِم فهمْ أَلبٌ عليَّ وِلايةٌ وحَفْرُهُمُ إِنْ يَعْلمُوا ذاك دائبُ(1/5)
وقال أَبو العباس نحواً مما قال الفراء . وقال الزجاج : يقرأُ وَلايتِهم ووِلايَتِهم بفتح الواو وكسرها فمن فتح جعلها من النصرة والنسب، قال : والوِلايةُ التي بمنزلة الإِمارة مكسورة ليفصل بين المعنيين، وقد يجوز كسر الولاية لأَن في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصِّناعة والعمل،وكل ما كان من جنس الصِّناعة نحو القِصارة والخِياطة فهي مكسورة .
قال : والوِلايةُ على الإِيمان واجبة { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة/71] } وَليٌّ بيِّن الوَلاية ووَالٍ بيِّن الوِلاية .
والوَلِيُّ : وليُّ اليتيم الذي يلي أَمرَه ويقوم بكِفايته . ووَليُّ المرأَةِ : الذي يلي عقد النكاح عليها ولا يَدَعُها تسْتَبِدُّ بعقد النكاح دونه . وفي الحديث : « اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ غِنَاىَ وَغِنَى مَوْلاَى ».(1)
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 10 / ص 208)(29801) حسن(1/6)
وروى ابن سلام عن يونس قال : المَوْلى له مواضع في كلام العرب : منها المَوْلى في الدِّين وهو الوَلِيُّ وذلك قوله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (11) سورة محمد، أَي لا وَلِيَّ لهم ومنه قول سيدنا رسولُا : « مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِىٌّ مَوْلاَهُ »(1). أَي مَن كنتُ وَلِيَّه قال : وقوله عليه السلام مُزَيْنَة وجُهَيْنَةُ وأَسْلَمُ وغِفارُ مَوالي الله ورسوله أَي أَوْلِياء ا قال : و المَوْلى العَصَبةُ ومن ذلك قوله تعالى : {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} (5) سورة مريم ،وقال اللِّهْبِيُّ يخاطب بني أُمية:
مَهْلاً بَني عَمِّنا مَهْلاً مَوالِينا امْشُوا رُوَيْداً كما كُنْتُم تَكُونونا
قال : والمَوْلى الحَلِيفُ وهو من انْضَمَّ إِليك فعَزَّ بعِزِّك وامتنع بمَنَعَتك ،قال عامر الخَصَفِي من بني خَصَفَةَ :
همُ المَوْلى وإِنْ جَنَفُوا عَلَيْنا وإِنَّا مِنْ لِقائِهم لَزُورُ
__________
(1) - سنن الترمذى (4078) صحيح -قِيلَ مَعْنَاهُ مَنْ كُنْت أَتَوَلَّاهُ فِعْلِيٌّ يَتَوَلَّاهُ مِنْ الْوَلِيِّ ضِدُّ الْعَدُوِّ . أَيْ مَنْ كُنْت أُحِبُّهُ فِعْلِيٌّ يُحِبُّهُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَنْ يَتَوَلَّانِي فِعْلِيٌّ يَتَوَلَّاهُ ذَكَرَهُ الْقَارِي عَنْ بَعْضِ عُلَمَائِهِ .تحفة الأحوذي - (ج 9 / ص 126)(1/7)
قال أَبو عبيدة : يعني المَوالِي أَي بني العم وهو كقوله تعالى : { ثم يخرجكم طِفْلاً} والمَوْلى : المُعْتَقُ انتسب بنسبك ولهذا قيل للمُعْتَقِين المَوالي قال : وقال أَبو الهيثم المَوْلى على ستة أَوجه : المَوْلى ابن العم والعمُّ والأَخُ والابنُ والعَصباتُ كلهم و المَوْلى الناصر و المولى الولي الذي يَلِي عليك أَمرك قال : ورجل وَلاء وقوم وَلاء في معنى وَلِيَّ و أَوْلِياء لأَن الوَلاء مصدر والمَوْلى مَوْلى المُوالاة وهو الذي يُسْلِمُ على يدك ويُواليك والمَوْلى مَوْلى النِّعْمة وهو المُعْتِقُ أَنعم على عبده بعتقِه والمَوْلى المُعْتَقُ لأَنه ينزل منزلة ابن العم يجب عليك أَن تنصره وترثه إِنْ مات ولا وارث له فهذه ستة أَوجه .(1/8)
وقال الفراء في قوله تعالى : {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (8) سورة الممتحنة ، قال : هؤلاء خُزاعةُ كانوا عاقَدُوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أَن لا يُقاتِلوه ولا يُخرجوه فأُمِر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبِرِّ والوَفاء إِلى مدَّة أَجلهم ثم قال : {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (9) سورة الممتحنة ، أَن تَولَّوْهم أَي تَنْصُروهم يعني أَهل مكة ، قال أَبو منصور : جعل التولي ههنا بمعنى النَّصْر من الوَلِيّ و المَوْلى وهو الناصر ، وقال الفراء في قوله تعالى : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (22) سورة محمد، أَي توليتم أُمور الناس والخطاب لقريش، قال الزجاج : وقرىءَ : إِنْ تُوُلِّيتُمْ أَي وَلِيَكُمْ بنو هاشم . ويقال : تَوَلاَّكَ الله أَي وَلِيكَ الله ويكون بمعنى نَصَرك الله . وقوله : اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ(1)أَي أَحْبِبْ مَنْ أَحَبَّه وانْصُرْ من نصره . والمُوالاةُ على وجوه قال ابن الأَعرابي : المُوالاةُ أَن يتشاجر اثنان فيدخل ثالث بينهما للصلح ويكون له في أَحدهما هَوىً فيوالِيه أَو يُحابيه ووالى فلان فلاناً إِذا أَحبَّه، قال الأَزهري : وللموالاة معنى ثالث سمعت العرب تقول: والُوا حَواشِيَ نَعَمِكم عن جِلَّتِها،أَي اعْزِلوا صِغارَها عن كِبارِها وقد والَيْناها فتَوالَتْ إِذا تميزت وأَنشد بعضهم :
__________
(1) - مسند أحمد (962) صحيح(1/9)
وكُنَّا خُلَيْطَى في الجِمالِ فأَصبحَتْ جِمالي تُوالَى وُلَّهاً مِن جِمالِكا
تُوالى أَي تُمَيَّزُ منها ومن هذا قول الأَعشى :
ولكنَّها كانتْ نَوىً أَجْنَبِيَّةً تَواليَ رِبْعِيّ السِّقابِ فأَصْحَبا
ورِبْعِيُّ السِّقاب : الذي نُتِجَ في أَوَّل الربيع وتَوَالِيه : أَن يُفْصَلَ عن أُمّه فيَشْتَدَّ ولَهُه إِليها إِذا فَقَدها ثم يستمر على المُوالاة ويُصْحِبُ أَي ينقاد ويَصْبِر بعدما كان اشتدَّ عليه من مُفارَقته إِياها ،ابن الأَعرابي قال : ابن العم مَوْلىً وابن الأُخت مولى والجارُ والشريكُ والحَلِيف وقال الجعدي :
مَوالِيَ حِلْفٍ لا مَوالي قَرابةٍ ولكنْ قَطِيناً يَسْأَلونَ الأَتاوِيا
يقول : هم حُلَفاء لا أَبناء عم، وقول الفرزدق :
فلو كانَ عبدُ الله مَوْلىً هَجَوْتُه ولكنَّ عبدَ الله مَوْلَى مَوالِيا
لأَنَّ عبد الله بن أَبي إِسحق مولى الحَضْرَمِيِّين وهم حُلفاء بني عبد شمس بن عبد مناف ،والحَلِيفُ عند العرب مَوْلىً وإِنما قال: موالياً فنصب لأَنه ردّه إِلى أَصله للضرورة وإِنما لم ينوّن لأَنه جعله بمنزلة غير المعتل الذي لا ينصرف، قال ابن بري : وعطف قوله ولكن قطيناً على المعنى كأَنه قال ليسوا مَوالِيَ قرابة ولكن قطيناً وقبله :
فلا تَنْتَهي أَضْغانُ قَوْميَ بينَهم وسَوْآتُهم حتى يَصِيرُوا مَوالِيا(1/10)
وفي حديث الزكاة : « إِنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَحِلُّ لَنَا وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ ».(1). قال ابن الأَثير : وقد تكرر ذكر المولى في الحديث قال : وهو اسم يقع على جماعة كثيرة فهو : الرَّبُّ والمالِك والسَّيِّدُ والمُنْعِم والمُعْتِقُ والنَّاصِر والمُحِبُّ والتَّابع والجارُ وابن العَم والحَلِيفُ والعَقِيدُ والصِّهْرُ والعَبْدُ والمُعْتَقُ والمُنْعَمُ عليه قال : وأَكثرها قد جاءَت في الحديث فيضاف كل واحد إِلى ما يقتضيه الحديث الوارد فيه وكلُّ من وَلِيَ أَمراً أَو قام به فهو مَوْلاه و وَلِيُّه قال : وقد تختلف مصادر هذه الأَسماءِ فالوَلايةُ بالفتح في النسب والنُّصْرة والعِتْق و الوِلايةُ بالكسر في الإِمارة والوَلاءُ في المُعْتَق والمُوالاةُ من والى القومَ ، وفي الحديث : « مَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ عَدْلٌ وَلاَ صَرْفٌ »(2). أَي اتخذهم أَولياء له قال : ظاهره يوهم أَنه شرط وليس شرطاً لأَنه لا يجوز له إِذا أَذِنُوا أَن يُواليَ غيرهم وإِنما هو بمعنى التوكيد لتحريمه والتنبيه على بطلانه والإِرشاد إِلى السبب فيه لأَنه إِذا استأْذن أَولياءَه في موالاة غيرهم منعوه فيمتنع ،والمعنى إِنْ سوَّلت له نفسه ذلك فليستأْذنهم فإِنهم يمنعونه، وأَما قول لبيد :
فعَدَتْ كِلا الفَرْجَيْن تَحْسَبُ أَنَّه مَوْلى المَخافةِ خَلْفَها وأَمامَها
فيريد أَنه أَولى موضع أَن تكون فيه الحَرب وقوله : فعدت تم الكلام كأَنه قال : فعدت هذه البقرة وقطع الكلام ثم ابتدأَ كأَنه قال: تحسب أَنَّ كِلا الفَرْجَيْنِ مَوْلى المَخافة ، و تَوَلَّى الشَّيءَ : لَزِمه .
__________
(1) - سنن النسائى(2624 ) صحيح
(2) - صحيح مسلم(3864 )(1/11)
والوَليُّ : الصَّدِيق والنَّصِير . ابن الأَعرابي : الوَلِيُّ التابع المحب، وقال أَبو العباس في قوله : مَنْ كنتُ مَوْلاه فعليّ مولاه، أَي من أَحَبَّني وتَولاَّني فَلْيَتَوَلَّه . والمُوالاةُ : ضِدّ المُعاداة، والوَلِيُّ : ضدّ العدوّ ويقال منه تَوَلاَّه . وقوله عزَّ وجل : {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (45) سورة مريم ، قال ثعلب : كلُّ مَن عَبَد شيئاً مِنْ دون الله فقد اتَّخذه وِليّاً . وقوله عز وجل: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (257) سورة البقرة ، قال أَبو إِسحق : الله وليهم في حجاجهم وهِدايتهم وإِقامة البُرهان لهم ،لأَنه يزيدهم بإِيمانهم هِدايةً كما قال عز وجل : {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} (17) سورة محمد ، ووَلِيُّهم أَيضاً في نَصرهم على عدوّهم وإِظهارِ دينهم على دين مُخالِفِيهم ،وقيل : وَلِيُّهم أَي يَتَوَلَّى ثوابهم ومجازاتَهم بحسن أَعمالهم . والوَلاءُ : المِلْكُ . والمَوْلى : المالِكُ والعَبد والأُنثى بالهاء . وفيه مَوْلَوِيَّةٌ إِذا كان شبيهاً بالمَوالي . وهو يَتَمَوْلى علينا أَي يتشبّه بالمَوالي وما كنتَ بمَوْلىً وقد تَمَوْلَيْتَ والاسم الوَلاءُ . والمَوْلى : الصاحِبُ والقَريبُ كابن العم وشبهه . وقال ابن الأَعرابي : المَوْلى الجارُ والحَلِيفُ والشريك وابن الأُخت . والوَلِيّ : المَوْلى . وتَوَلاَّه : اتَّخذه وَلِيّاً وإِنه لَبَيِّنُ الوِلاةِ والوَلْية والتَّوَلِّي والوَلاء والولاية والوَلايةِ . والوَلْيُ : القُرْبُ والدُّنُوُّ وأَنشد أَبو عبيد :(1/12)
وشَطَّ وَلْيُ النَّوَى إِنَّ النَّوَى قَذَفٌ تَيَّاحَةٌ غَرْبَةٌ بالدَّارِ أَحيانا
ويقال : تَبَاعَدْنا بعد وَلْيٍ ويقال منه : وَلِيَه يَلِيه بالكسر فيهما وهو شاذ وأَوْلَيْته الشيء فَوَلِيَه وكذلك وَلِيَ الوالي البلَد ووَلِيَ الرَّجل البيع وِلاية فيهما وأَولَيته معروفاً . ويقال في التعجب : ما أَولاه للمعروف وهو شاذّ، قال ابن بري : شذوذه كونه رباعيَّاً والتعجب إِنما يكون من الأَفعال الثلاثية . وتقول : فلان وَلِيَ وَوُلِيَ عليه كما تقول ساسَ وسِيس عليه . ووَلاَّه الأَميرُ عَملَ كذا ووَلاَّه بيعَ الشيءِ وتَوَلَّى العَمَل أَي تَقَلَّد . وكُلْ مِما يَلِيكَ أَي مما يُقارِبك وقال ساعدة :
هَجَرَتْ غَضُوبُ وحُبَّ مَن يَتَجَنَّبُ وعَدَتْ عَوادٍ دونَ وَلْيِكَ تَشْعَبُ
وقولهم : قد أَوْلاني معروفاً قال أَبو بكر : معناه قد أَلصق بي معروفاً يَلِيني من قولهم : جلستُ مما يَلي زيداً أَي يُلاصقه ويُدانِيه . ويقال : أَوْلاني مَلَّكني المعروف وجعله منسوباً إِليَّ وَلِيّاً عَليَّ من قولك هو وَلِيُّ المرأَة أَي صاحبُ أَمرها والحاكم عليها قال : ويجوز أَن يكون معناه عَضَّدَني بالمعروف ونَصَرَني وقَوَّاني من قولك بنو فلان وَلاء على بني فلان أَي هم يُعِينونهم . ويقال : أَوْلاني أَي أَنْعَمَ عَليَّ من الآلاء وهي النِّعَمُ والواحد أَلىً ،وقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (51) سورة المائدة ،معناه مَن يَتَّبِعْهُم ويَنْصُرْهم .."
- - - - - - - - - - - - - - -
المبحثُ الثاني
وِلاَيَةُ اللَّهِ تَعَالَى(1)
مَفْهُومُ وِلاَيَةِ اللَّهِ تَعَالَى
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 45 / ص 175)(1/13)
ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ وِلاَيَةَ اللَّهِ تَعَالَى نَوْعَانِ : عَامَّةٌ ، وَخَاصَّةٌ :
فَأَمَّا الْوِلاَيَةُ الْعَامَّةُ فَهِيَ وِلاَيَةُ كُل مُؤْمِنٍ ، فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا ، لِلَّهِ تَقِيًّا ، كَانَ اللَّهُ لَهُ وَلِيًّا . وَفِيهِ مِنَ الْوِلاَيَةِ بِقَدْرِ إِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ .(1)
يَدُل عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى :{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (68) سورة آل عمران،وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (257) سورة البقرة .
وَفِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْوِلاَيَةِ قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ : فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ مِنْ أَهْل الإِْيمَانِ مَعَهُ مِنْ وِلاَيَةِ اللَّهِ بِقَدْرِ إِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ ، كَمَا مَعَهُ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ بِقَدْرِ فُجُورِهِ ، إِذِ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ تَجْتَمِعُ فِيهِ الْحَسَنَاتُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلثَّوَابِ وَالسَّيِّئَاتُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْعِقَابِ ، حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ يُثَابَ وَيُعَاقَبَ ، وَهَذَا قَوْل جَمِيعِ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَئِمَّةِ الإِْسْلاَمِ وَأَهْل السُّنَّةِ .(2)
__________
(1) - بدائع الفوائد 3 106 ، وانظر حاشية المدابغي على فتح المعين لابن حجر المكي ص 269، وشرح العقيدة الطحاوية للغنيمي ص 103 .
(2) - مختصر الفتاوى المصرية ص 588، والتحفة العراقية في أعمال القلوب ص 15 وما بعدها و مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 345)(1/14)
وَأَمَّا الْوِلاَيَةُ الْخَاصَّةُ فَهِيَ الْقِيَامُ لِلَّهِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهِ ، وَإِيثَارُهُ عَلَى كُل مَا سِوَاهُ فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال ، حَتَّى تَصِيرَ مَرَاضِي اللَّهِ وَمَحَابُّهُ هِيَ هَمَّهُ وَمُتَعَلِّقَ خَوَاطِرِهِ ، يُصْبِحُ وَيُمْسِي وَهَمُّهُ مَرْضَاةُ رَبِّهِ وَإِنْ سَخِطَ الْخَلْقُ .(1)
وَفِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْوِلاَيَةِ يَقُول الشَّوْكَانِيُّ : الْوَلِيُّ فِي اللُّغَةِ : الْقَرِيبُ . وَالْمُرَادُ بِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ : خُلَّصُ الْمُؤْمِنِينَ ، لأَِنَّهُمْ قَرُبُوا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ.(2)
وَقَدْ تَنَوَّعَتْ تَعْرِيفَاتُ الْعُلَمَاءِ لِهَذِهِ الْوِلاَيَةِ ، فَقَال الْغُنَيْمِيُّ الْمَيْدَانِيُّ : الأَْوْلِيَاءُ جَمْعُ وَلِيٍّ ، بِوَزْنِ فَعِيلٍ ( بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَقَتِيلٍ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ ، أَوْ ( بِمَعْنَى فَاعِلٍ كَعَلِيمٍ بِمَعْنَى عَالَمٍ . قَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ : وَكَوْنُهُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَرْجَحَ ، لأَِنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يُمْدَحُ إِلاَّ عَلَى فِعْل نَفْسِهِ ، وَقَدْ مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى .
- فَعَلَى الأَْوَّل يَكُونُ الْوَلِيُّ مَنْ تَوَلَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَل رِعَايَتَهُ وَحِفْظَهُ ، فَلاَ يَكِلُهُ إِلَى نَفْسِهِ ، كَمَا قَال سُبْحَانَهُ : {إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} (196) سورة الأعراف .
__________
(1) - بدائع الفوائد 3 107 .
(2) - فتح القدير 2 436 .(1/15)
- وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْوَلِيُّ مَنْ تَوَلَّى عِبَادَةَ اللَّهِ وَطَاعَتَهِ ، فَهُوَ يَأْتِي بِهَا عَلَى التَّوَالِي ، آنَاءَ اللَّيْل وَأَطْرَافَ النَّهَارِ . وَيَجْنَحُ إِلَى هَذَا مَا عَرَّفَهُ بِهِ السَّعْدُ فِي " شَرْحِ الْعَقَائِدِ " حَيْثُ قَال : هُوَ الْعَارِفُ بِاللَّهِ حَسَبَ مَا يُمْكِنُ ، الْمُوَاظِبُ عَلَى الطَّاعَاتِ ، الْمُجْتَنِبُ لِلْمَعَاصِي ، الْمُعْرِضُ عَنِ الاِنْهِمَاكِ بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ .(1)
وَكَذَا تَعْرِيفُ الْهَيْتَمِيِّ لِلأَْوْلِيَاءِ بِأَنَّهُمُ : الْقَائِمُونَ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ ، بِجَمْعِهِمْ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَل ، وَسَلاَمَتِهِمْ مِنَ الْهَفَوَاتِ وَالزَّلَل .(2)
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ سَلاَمَتَهُمْ مِنَ الْهَفَوَاتِ وَالزَّلَل لاَ تَعْنِي الْعِصْمَةَ ، إِذْ لاَ عِصْمَةَ إِلاَّ لِنَبِيٍّ ، وَلَكِنْ كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ الْوَلِيَّ مِنْ تَمَادِيهِ فِي الزَّلَل وَالْخَطَأِ إِنْ وَقَعَ فِيهِمَا ، بِأَنْ يُلْهِمَهُ التَّوْبَةَ فَيَتُوبَ مِنْهُمَا ، وَإِلاَّ فَهُمَا لاَ يَقْدَحَانِ فِي وِلاَيَتِهِ .(3)
الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالنَّبِيِّ :
__________
(1) - شرح العقيدة الطحاوية للميداني ص 103، وانظر لوامع الأنوار ار البهية للسفاريني 2 392 ، والمحلي على جمع الجوامع وحاشية العطار عليه 2 481 ، وتعريفات الجرجاني ص 132، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 1528 ، وفتح الباري 11 342 ، وبستان العارفين للنووي ص 171، ومجموعة رسائل ابن عابدين 2 277 ، وحاشية المدابغي على فتح المعين ص 269 .
(2) - الفتاوى الحديثة لابن حجر الهيثمي ص 301 .
(3) - مجموعة رسائل ابن عابدين 2 277 .(1/16)
ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مِمَّا يَفْتَرِقُ الْوَلِيُّ عَنِ النَّبِيِّ فِيهِ :(1)
أ - الْعِصْمَةُ :
- فَالأَْنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ وُجُوبًا ، وَلَيْسَ الأَْوْلِيَاءُ كَذَلِكَ ، فَيَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا يَجُوزُ عَلَى سَائِرِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ اقْتِرَافِ الذُّنُوبِ . قَال الشَّوْكَانِيُّ : لَكِنَّهُمْ قَدْ صَارُوا إِلَى رُتْبَةٍ رَفِيعَةٍ وَمَنْزِلَةٍ عَلِيَّةٍ ، فَقَل أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ مَا يُخَالِفُ الصَّوَابَ وَيُنَافِي الْحَقَّ ، وَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ فَلاَ يُخْرِجُهُمْ عَنْ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ لِلَّهِ .(2)
وَقَال النَّوَوِيُّ : وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مَحْفُوظًا ، فَلاَ يُصِرُّ عَلَى الذُّنُوبِ ، وَإِنْ حَصَلَتْ مِنْهُ هَفَوَاتٌ فِي أَوْقَاتٍ أَوْ زَلاَّتٌ ، فَلاَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ .(3)
ب - الإِْيمَانُ بِهِ وَوُجُوبُ الاِتِّبَاعِ :
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية 11 208 ،221، 223، ولوامع الأنوار البهية 2 301 ، وقطر الولي للشوكاني ص 248، وشرح العقيدة الطحاوية للغنيمي الميداني ص 139، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 /1529 .
(2) - قطر الولي ص 248 .
(3) - بستان العارفين ص 173 .(1/17)
- الأَْنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَجِبُ لَهُمُ الإِْيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل وَتَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ ، بِخِلاَفِ الأَْوْلِيَاءِ فَإِنَّهُمْ لاَ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِي كُل مَا يَأْمُرُونَ وَلاَ الإِْيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ . قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ : بَل يُعْرَضُ أَمْرُهُمْ وَخَبَرُهُمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَجَبَ قَبُولُهُ ، وَمَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَانَ مَرْدُودًا . ثُمَّ قَال : ذَلِكَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الاِعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنُّةِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ يُسَوَّغُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ اتِّبَاعُ مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنُّةِ .(1)
ج - الْوَحْيُ :
- الأَْنْبِيَاءُ مُكَرَّمُونَ بِتَلَقِّي الْوَحْيِ وَمُشَاهَدَةِ الْمَلَكِ ، وَلَيْسَ الأَْوْلِيَاءُ كَذَلِكَ . فَالْوَلِيُّ لاَ يَسَعُهُ إِلاَّ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ ، حَتَّى إِنَّ الْوَلِيَّ لَوِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ صَارَ عَدُوًّا لِلَّهِ ، لاَ وَلِيًّا لَهُ .
د ) وُجُوبُ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ :
- الأَْنْبِيَاءُ مَأْمُورُونَ بِتَبْلِيغِ الأَْحْكَامِ وَسَائِرِ مَا يُوحَى إِلَيْهِمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ وَإِرْشَادِ الأَْنَامِ لِدِينِهِ ، وَلَيْسَ الأَْوْلِيَاءُ كَذَلِكَ ، لأَِنَّهُمْ لاَ يَتَلَقَّوْنَ ذَلِكَ مُبَاشَرَةً بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ الأَْنْبِيَاءَ .
هـ - الأَْمْنُ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ :
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية11 / 208 ـ209 .(1/18)
- فَالأَْنْبِيَاءَ مَأْمُونُونَ عَنْ خَوْفِ سُوءِ الْخَاتِمَةِ ، أَمَّا الْوَلِيُّ فَلاَ يَعْلَمُ هُوَ وَلاَ غَيْرُهُ مَا دَامَ حَيًّا هَل سَيُخْتَمُ لَهُ بِالْمُوَافَاةِ عَلَى الإِْيمَانِ ، أَمْ أَنَّهُ سَيَلْقَى اللَّهَ غَيْرَ ذَلِكَ .
و ) خَتْمُ النُّبُوَّةِ :
- فَالنُّبُوَّةَ مَخْتُومَةٌ مِنْ حَيْثُ الإِْنْبَاءُ وَالإِْخْبَارُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِذْ لاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ ، أَمَّا الْوِلاَيَةُ فَدَائِمَةٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ .
ز ) حُكْمُ السَّبِّ :
- أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ نَبِيًّا فَقَدْ كَفَرَ ، وَمَنْ سَبَّ أَحَدًا مِنَ الأَْوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ فَإِنَّهُ لاَ يَكْفُرُ ، إِلاَّ إِذَا كَانَ سَبُّهُ مُخَالِفًا لأَِصْلٍ مِنْ أَصُول الإِْيمَانِ ، مِثْل أَنْ يَتَّخِذَ ذَلِكَ السَّبَّ دِينًا ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِدِينٍ .(1)
فَضْل النَّبِيِّ عَلَى الْوَلِيِّ :
- اتَّفَقَ سَلَفُ الأُْمَّةِ وَخَلَفُهَا مِنْ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ الأَْنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ ، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَفْضِيل أَحَدٍ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ . قَال الْقُشَيْرِيُّ : رُتْبَةُ الأَْوْلِيَاءِ لاَ تَبْلُغُ رُتْبَةَ الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لِلإِْجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ عَلَى ذَلِكَ .(2)
أَمَّا مَا نُقِل عَنْ بَعْضِ الْكَرَّامِيَّةِ وَغُلاَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ مِنْ جَوَازِ كَوْنِ الْوَلِيِّ أَفْضَل مِنَ النَّبِيِّ فَهُوَ بَاطِلٌ .
__________
(1) - مختصر الفتاوى المصرية ص 560، ومغني المحتاج 4 135 .
(2) - بستان العارفين ص 169 .(1/19)
قَال الْغُنَيْمِيُّ الْمَيْدَانِيُّ : هُوَ كُفْرٌ وَضَلاَلٌ .(1)
- أَمَا أَفْضَل الأَْوْلِيَاءِ وَالأَْنْبِيَاءِ ، فَقَدْ قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ : أَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى هُمْ أَنْبِيَاؤُهُ ، وَأَفْضَلُ أَنْبِيَائِهِ هُمُ الْمُرْسَلُونَ ، وَأَفْضَلُ الرُّسُل هُمْ أُولُو الْعَزْمِ : نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَفْضَلُ الرُّسُل : نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ .(2)
ثُمَّ قَال : وَإِذَا كَانَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَل هُمُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ ، فَبِحَسَبِ إِيمَانِ الْعَبْدِ وَتَقْوَاهُ تَكُونُ وِلاَيَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَمَنْ كَانَ أَكْمَل إِيمَانًا وَتَقْوَى ، كَانَ أَكْمَل وِلاَيَةً لِلَّهِ ، فَالنَّاسُ مُتَفَاضِلُونَ فِي وِلاَيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي الإِْيمَانِ وَالتَّقْوَى .(3)
مِعْيَارُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَوْلِيَاءَ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ
- نَبَّهَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يُمَيَّزُونَ عَمَّنْ سِوَاهُمْ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ ، لأَِنَّ هَذِهِ الْخَوَارِقَ كَمَا تَقَعُ لأَِوْلِيَاءِ اللَّهِ ، فَقَدْ تَظْهَرُ عَلَى أَيْدِي أَعْدَائِهِ ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُونَ وَيُمَيَّزُونَ بِصِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمُ الَّتِي دَل عَلَى خَبَرِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ .(4)
__________
(1) - شرح العقيدة الطحاوية للميداني الحنفي ص 139 .
(2) - مجموع فتاوى ابن تيمية 11 /161 ، وانظر قطر الولي ص 238 .
(3) - مجموع فتاوى ابن تيمية 11 /175 .
(4) - مجموع فتاوى ابن تيمية 10 /431 ، 11 /214 ،271،274 .(1/20)
وَفِي ذَلِكَ يَقُول الشَّوْكَانِيُّ : وَالْحَاصِل أَنَّ مَنْ كَانَ مِنَ الْمَعْدُودِينَ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ ، إِنْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنَ اللَّهِ ، مُقِيمًا لِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، تَارِكًا لِمَا نَهَاهُ عَنْهُ ، مُسْتَكْثِرًا مِنْ طَاعَاتِهِ ، فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَرَامَاتِ الَّتِي لَمْ تُخَالِفِ الشَّرْعَ ، فَهِيَ مَوْهِبَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل لاَ يَحِل لِمُسْلِمٍ أَنْ يُنْكِرَهَا .
وَمَنْ كَانَ بِعَكْسِ هَذِهِ الصِّفَاتِ ، فَلَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَلَيْسَتْ وِلاَيَتُهُ رَحْمَانِيَّةً ، بَل شَيْطَانِيَّةً ، وَخَوَارِقُهُ مِنْ تَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ وَعَلَى النَّاسِ . وَلَيْسَ هَذَا بِغَرِيبٍ وَلاَ مُسْتَنْكَرٍ ، فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ مَخْدُومًا بِخَادِمٍ مِنَ الْجِنِّ أَوْ بِأَكْثَرَ ، فَيَخْدِمُونَهُ فِي تَحْصِيلٍ مَا يَشْتَهِيهِ وَرُبَّمَا كَانَ مُحَرَّمًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ . وَالْمِعْيَارُ الَّذِي لاَ يَزِيغُ ، وَالْمِيزَانُ الَّذِي لاَ يَجُورُ هُوَ مِيزَانُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لَهُمَا مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا ، فَكَرَامَاتُهُ وَجَمِيعُ أَحْوَالِهِ رَحْمَانِيَّةٌ ، وَمَنْ لَمْ يَتَمَسَّكْ بِهِمَا وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ حُدُودِهِمَا فَأَحْوَالُهُ شَيْطَانِيَّةٌ .(1)
__________
(1) - قطر الولي للشوكاني ص 272 .(1/21)
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ ضَابِطَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ مَا يَتَلَبَّسُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَحَالٍ ، فَإِنْ كَانَ وَفْقَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ فِي الأُْمُورِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ وَفِي الأَْعْمَال الظَّاهِرَةِ الَّتِي عَلَى الْجَوَارِحِ ، كَانَ صَاحِبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْرِضًا فِي ذَلِكَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَهَدْيِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مُخَالِفًا لَهُمَا إِلَى غَيْرِهِ ، فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ .
ثُمَّ قَال : فَإِنِ اشْتَبَهَ عَلَيْكَ ، فَاكْشِفْهُ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاطِنَ : فِي صَلاَتِهِ ، وَمَحَبَّتِهِ لِلسُّنَّةِ وَأَهْلِهَا أَوْ نَفْرَتِهُ عَنْهُمْ ، وَدَعْوَتِهِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَالْمُتَابَعَةِ وَتَحْكِيمِ السُّنَّةِ ، فَزِنْهُ بِذَلِكَ ، وَلاَ تَزِنْهُ بِحَالٍ وَلاَ كَشْفٍ وَلاَ خَارِقٍ ، وَلَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ وَطَارَ فِي الْهَوَاءِ .(1)
كَرَامَاتُ الأَْوْلِيَاءِ
- الْكَرَامَاتُ جَمْعُ كَرَامَةٍ ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ : الشَّرَفُ . مِنَ الْكَرَمِ : الَّذِي يَعْنِي شَرَفَ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي خُلُقٍ مِنَ الأَْخْلاَقِ . أَوِ الإِْكْرَامُ : الَّذِي هُوَ إِيصَال نَفْعٍ إِلَى الإِْنْسَانِ ، لاَ يَلْحَقُهُ فِيهِ غَضَاضَةٌ ، أَوْ أَنْ يَجْعَل مَا يُوَصَل إِلَيْهِ شَيْئًا كَرِيمًا ، أَيْ شَرِيفًا.(2)
__________
(1) - الروح لابن القيم ص 359 .
(2) - معجم مقاييس اللغة 5 /172 ، ومفردات الراغب ص 707 .(1/22)
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ ، فَقَدْ عَرَّفَ ابْنُ عَابِدِينَ الْكَرَامَةَ بِأَنَّهَا : ظُهُورُ أَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ ، عَلَى يَدِ عَبْدٍ ظَاهِرِ الصَّلاَحِ ، مُلْتَزِمٍ لِمُتَابَعَةِ نَبِيٍّ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ ، مُقْتَرِنًا بِصَحِيحِ الاِعْتِقَادِ وَالْعَمَل الصَّالِحِ غَيْرِ مُقَارِنٍ لِدَعْوَى النُّبُوَّةِ .(1)
فَامْتَازَتِ الْكَرَامَةُ بِعَدَمِ الاِقْتِرَانِ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ عَنِ الْمُعْجِزَةِ ، وَبِكَوْنِهَا عَلَى يَدِ ظَاهِرِ الصَّلاَحِ وَهُوَ الْوَلِيُّ عَمَّا يُسَمُّونَهُ مَعُونَةً وَهِيَ الْخَارِقُ الظَّاهِرُ عَلَى أَيْدِي عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ ، تَخَلُّصًا لَهُمْ مِنَ الْمِحَنِ وَالْمَكَارِهِ ، وَبِمُقَارَنَةِ صَحِيحِ الاِعْتِقَادِ وَالْعَمَل الصَّالِحِ عَنِ الاِسْتِدْرَاجِ ، وَبِمُتَابَعَةِ نَبِيٍّ قَبْلَهُ عَنْ خَوَارِقِ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ الْمُؤَكِّدَةِ لِكَذِبِهِ الْمَعْرُوفَةِ بِالإِْهَانَةِ كَبَصْقِ مُسَيْلِمَةَ فِي بِئْرٍ عَذْبَةِ الْمَاءِ لِيَزْدَادَ مَاؤُهَا حَلاَوَةً ، فَصَارَ مِلْحًا أُجَاجًا .(2)
__________
(1) - مجموعة رسائل ابن عابدين 2 /278 .
(2) - المحلي على جمع الجوامع مع حاشية العطار 2 481/ ، وشرح العقيدة الطحاوية للغنيمي الميداني ص 139، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 /975 ، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني 2 392/ ، ومجموعة رسائل ابن عابدين 2 /278 ، وتعريفات الجرجاني ص 115 .(1/23)
- وَقَدْ ذَهَبَ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ وَالْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ - خِلاَفًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ - إِلَى أَنَّ ظُهُورَ الْكَرَامَةِ عَلَى الأَْوْلِيَاءِ جَائِزٌ عَقْلاً ، لأَِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُمْكِنَاتِ ، وَأَنَّهَا وَاقِعَةٌ نَقْلاً مُفِيدًا لِلْيَقِينِ مِنْ جِهَةٍ مَجِيءِ الْقُرْآنِ بِهَا ، وَوُقُوعِ التَّوَاتُرِ عَلَيْهَا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلاً بَعْدَ جِيلٍ . وَبَعْدَ ثُبُوتِ الْوُقُوعِ لاَ حَاجَةَ إِلَى إِثْبَاتِ الْجَوَازِ .(1)
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَكَرَامَاتُ الأَْوْلِيَاءِ حَقٌّ بِاتِّفَاقِ أَهْل الإِْسْلاَمِ وَالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، وَقَدْ دَل عَلَيْهَا الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ، وَالأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَالآْثَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَهَا أَهْل الْبِدَعِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَدَّعِيهَا أَوْ تُدَّعَى لَهُ يَكُونُ كَذَّابًا أَوْ مَلْبُوسًا عَلَيْهِ .(2)
الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَرَامَةِ وَالْمُعْجِزَةِ :
- الْمُعْجِزَةُ اسْمُ فَاعِلٍ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَجْزِ الْمُقَابِل لِلْمَقْدِرَةِ ، لِمَا فِيهَا مِنْ إِعْجَازِ الْخَصْمِ عِنْدَ التَّحَدِّي ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ .
__________
(1) - قطر الولي للشوكاني ص 257 وما بعدها، وبستان العارفين للنووي ص 141 ـ 155، والمعتمد لأبي يعلى ص 161، والفتاوى الحديثية لابن حجر المكي ص 301، وشرح الطحاوية للغنيمي ص 139، ولوامع الأنوار البهية 239/4 ، والمحلي على جمع الجوامع وحاشية العطار عليه 2 /481 .
(2) - مختصر الفتاوى المصرية ص 600 .(1/24)
وَهِيَ فِي الشَّرْعِ : مَا خَرَقَ الْعَادَةَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ، إِذَا وَافَقَ دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَقَارَنَهَا وَطَابَقَهَا ، عَلَى جِهَةِ التَّحَدِّي ابْتِدَاءً ، بِحَيْثُ لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَيْهَا وَلاَ عَلَى مِثْلِهَا وَلاَ عَلَى مَا يُقَارِبُهَا .(1)
وَتَسْمِيَةُ دَلاَئِل النُّبُوَّةِ وَأَعْلاَمِهَا " مُعْجِزَاتٍ " إِنَّمَا هُوَ اصْطِلاَحُ النُّظَّارِ ، إِذْ لَمْ يَرِدْ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْكِتَابِ وَلاَ فِي السُّنَّةِ ، وَالَّذِي فِيهِ لَفْظُ الآْيَةِ وَالْبَيِّنَةِ وَالْبُرْهَانِ .(2)
- أَمَّا وُجُوهُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْكَرَامَةِ وَالْمُعْجِزَةِ فَهِيَ :
أَوَّلاً : أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَقْتَرِنُ بِالتَّحَدِّي ، وَهُوَ طَلَبُ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُقَابَلَةِ يُقَال تَحَدَّيْتُ فُلاَنًا : إِذَا بَارَيْتَهُ فِي فِعْلٍ وَنَازَعْتَهُ لِلْغَلَبَةِ أَمَّا الْكَرَامَةُ فَلاَ تَقْتَرِنُ بِذَلِكَ .
__________
(1) - التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص 665، ، والتعريفات للجرجاني ص 115، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 /975 ، ولوامع الأنور البهية للسفاريني 2/290 .
(2) - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 4 /67 .(1/25)
وَلاَ شَكَّ أَنَّ كُل مَا وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مِنْ مُعْجِزَاتٍ كَنُطْقِ الْحَصَى وَحَنِينِ الْجِذْعِ وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْرُونٌ بِالتَّحَدِّي ، لأَِنَّ قَرَائِنَ أَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ نَاطِقَةٌ بِدَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ وَتَحَدِّيهِ لِلْمُخَالِفِينَ وَإِظْهَارِهِ مَا يَقْمَعُهُمْ وَيَقْطَعُهُمْ ، فَكَانَ كُل مَا ظَهَرَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمَّى آيَاتٍ وَمُعْجِزَاتٍ ، وَلأَِنَّ الْمُرَادَ مِنَ اقْتِرَانِهَا بِالتَّحَدِّي الاِقْتِرَانُ بِالْقُوَّةِ أَوِ الْفِعْل .(1)
ثَانِيًا : أَنَّ الأَْنْبِيَاءَ مَأْمُورُونَ بِإِظْهَارِ مُعْجِزَاتِهِمْ ، لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ صِدْقِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ ، وَلاَ يُعْرَفُ النَّبِيُّ إِلاَّ بِمُعْجِزٍ . أَمَّا الْكَرَامَةُ فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ إِظْهَارُهَا ، بَل يَسْتُرُ كَرَامَتَهُ وَيُسِرُّهَا وَيَجْتَهِدُ عَلَى إِخْفَاءِ أَمْرِهِ .(2)
ثَالِثًا : أَنَّ دَلاَلَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ قَطْعِيَّةٌ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ يَعْلَمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ، بَيْنَمَا دَلاَلَةُ الْكَرَامَةِ عَلَى الْوِلاَيَةِ ظَنِّيَّةٌ ، وَلاَ يَعْلَمُ مُظْهِرُهَا أَوْ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ أَنَّهُ وَلِيٌّ ، وَلاَ غَيْرُهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ ، لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ مَمْكُورًا بِهِ .(3)
__________
(1) - الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي ص 308 .
(2) - لوامع الأنوار البهية 2 /396 ، وبستان العارفين للنووي ص 161، 165 .
(3) - الفتاوى الحديثية ص 305، وبستان العارفين ص 161 .(1/26)
قَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : وَالدَّلاَلَةُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا وَلِيٌّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَل لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْقَطْعِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَمُوتُ إِلاَّ مُؤْمِنًا ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نَقْطَعَ عَلَى أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ ، لأَِنَّ الْوَلِيَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ يُوَافِي إِلاَّ بِالإِْيمَانِ ، وَلَمَّا اتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُنَا أَنْ نَقْطَعَ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ يُوَافِي إِلاَّ بِالإِْيمَانِ ، عُلِمَ أَنَّ الْفِعْل الْخَارِقَ لِلْعَادَةِ لاَ يَدُل عَلَى وِلاَيَتِهِ .(1)
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَدُل عَلَى عِصْمَةِ صَاحِبِهَا وَعَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ ، أَمَّا الْكَرَامَةُ فَلاَ تَدُل عَلَى عِصْمَةِ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ ، وَلاَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ فِي كُل مَا يَقُول ، وَلاَ عَلَى وِلاَيَتِهِ ، لِجَوَازِ سَلْبِهَا أَوْ أَنْ تَكُونَ اسْتِدْرَاجًا لَهُ .(2)
رابِعًا : أَنَّ الْكَرَامَةَ لاَ يَجُوزُ بُلُوغُهَا مَبْلَغَ الْمُعْجِزَةِ فِي جِنْسِهَا وَعِظَمِهَا ، كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَانْفِلاَقِ الْبَحْرِ وَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً وَخُرُوجِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ الأَْصَابِعِ ، وَبِذَلِكَ قَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ .
__________
(1) - المعتمد لأبي يعلي ص 165 .
(2) - مختصر الفتاوى المصرية ص 600، ولوامع الأنوار البهية 2 /393 .(1/27)
وَقَال بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءَ الْمَذْهَبَيْنِ وَغَيْرِهِمْ : كُل مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَرَامَةً لِوَلِيٍّ ، غَيْرَ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَقْتَرِنُ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ ، وَالْكَرَامَةُ لاَ تَقْتَرِنُ بِذَلِكَ ، بَل إِنَّ الْوَلِيَّ لَوِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ صَارَ عَدُوًّا لِلَّهِ ، لاَ يَسْتَحِقُّ الْكَرَامَةَ بَل اللَّعْنَةَ وَالإِْهَانَةَ .(1)
خَوَارِقُ الأَْنْبِيَاءِ قَبْل الْبَعْثَةِ :
- مِنْ جُمْلَةِ الْكَرَامَاتِ الْخَوَارِقُ الَّتِي وَقَعَتْ لِلأَْنْبِيَاءِ قَبْل النُّبُوَّةِ ، كَإِظْلاَل الْغَمَامِ وَشَقِّ الصَّدْرِ الْوَاقِعَيْنِ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل الْبَعْثَةِ ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ بِمُعْجِزَاتٍ لِتَقَدُّمِهَا عَلَى التَّحَدِّي وَدَعْوَى النُّبُوَّةِ ، بَل كَرَامَاتٍ ، وَتُسَمَّى " إِرْهَاصًا " أَيْ تَأْسِيسًا لِلنُّبُوَّةِ ، ذَكَرَ ذَلِكَ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الأُْصُول وَغَيْرُهُمْ .(2)
كَرَامَةُ الْوَلِيِّ مُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
__________
(1) - قطر الولي للشوكاني ص 258، ورد المحتار 3/308 ، ومجموعة رسائل ابن عابدين 2 /279 ، وبستان العارفين ص 156،162، والفتاوى الحديثية ص 301، 302، والمحلي على جمع الجوامع وحاشية العطار 2 /481 ، ولوامع الأنوار البهية 2 /396.
(2) - الفتاوى الحديثية ص 307، بستان العارفين ص 157، ومجموعة رسائل ابن عابدين 2 /278 ، ولوامع الأنوار البهية 2 /392(1/28)
- قَال ابْنُ عَابِدِينَ : اعْلَمْ أَنَّ كُل خَارِقٍ ظَهَرَ عَلَى يَدِ أَحَدٍ مِنَ الْعَارِفِينَ فَهُوَ ذُو جِهَتَيْنِ : جِهَةُ كَرَامَةٍ ، مِنْ حَيْثُ ظُهُورِهِ عَلَى يَدِ ذَلِكَ الْعَارِفِ . وَجِهَةُ مُعْجِزَةٍ لِلرَّسُول مِنْ حَيْثُ أَنَّ الَّذِي ظَهَرَتْ هَذِهِ الْكَرَامَةُ عَلَى يَدِهِ هُوَ وَاحِدٌ مِنْ أُمَّتِهِ ، لأَِنَّهُ لاَ يَظْهَرُ بِتِلْكَ الْكَرَامَةِ الآْتِي بِهَا وَلِيٌّ إِلاَّ وَهُوَ مُحِقٌّ فِي دِيَانَتِهِ ، وَدِيَانَتُهُ هِيَ التَّصْدِيقُ وَالإِْقْرَارُ بِرِسَالَةِ ذَلِكَ الرَّسُول مَعَ الإِْطَاعَةِ لأَِوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ ، حَتَّى لَوِ ادَّعَى هَذَا الْوَلِيُّ الاِسْتِقْلاَل بِنَفْسِهِ وَعَدَمَ الْمُتَابَعَةِ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا .(1)
الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَرَامَاتِ وَخَوَارِقِ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ
- ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْخَارِقَ غَيْرَ الْمُقْتَرِنِ بِتَحَدِّي النُّبُوَّةِ إِذَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ عَبْدٍ صَالِحٍ ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ خَلْقِهِ فَهُوَ الْكَرَامَةُ . أَمَّا إِذَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ ظَاهِرِ الْفِسْقِ مُطَابِقًا لِدَعْوَاهُ فَهُوَ " الاِسْتِدْرَاجُ " وَقَدْ يُسَمَّى " سِحْرًا وَشَعْوَذَةً " .
وَإِنْ ظَهَرَ عَلَى يَدِ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ مِنْ أَهْل الضَّلاَل فَهُوَ " الإِْهَانَةُ " ، كَنُطْقِ الْجَمَادِ بِأَنَّهُ مُفْتَرٍ كَذَّابٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، لأَِنَّ خَارِقَ الْعَادَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَكُونُ مُوَافِقًا لِلدَّعْوَى ، بَل مُثْبِتًا لِكَذِبِهَا .(2)
__________
(1) - مجموعة رسائل ابن عابدين 2 279/ ، وانظر مجموعة فتاوى ابن ابن تيمية 11 /275 .
(2) - بستان العارفين ص 157، ولوامع الأنوار 2 /290 ، وشرح العقيدة الطحاوية للميداني ص 139، والفتاوى الحديثية ص 304، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 /975 .(1/29)
وَأَسَاسُ ذَلِكَ أَنَّ كَرَامَاتِ الأَْوْلِيَاءِ لاَ يَكُونُ سَبَبُهَا إِلاَّ الإِْيمَانَ وَالتَّقْوَى ، أَمَّا خَوَارِقُ أَعْدَاءِ اللَّهِ فَسَبَبُهَا الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ .(1)
وَفِي ذَلِكَ يَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ : إِنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ لاَ تَدُل عَلَى عِصْمَةِ صَاحِبِهَا ، وَلاَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ فِي كُل مَا يَقُول ، لأَِنَّ بَعْضًا مِنْهَا قَدْ يَصْدُرُ عَنِ الْكُفَّارِ وَالسَّحَرَةِ بِمُؤَاخَاتِهِمْ لِلشَّيَاطِينِ ، كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدَّجَّال أَنَّهُ يَقُول لِلسَّمَاءِ : أَمْطِرِي فَتُمْطِرُ ، وَلِلأَْرْضِ : أَنْبِتِي فَتُنْبِتُ ، وَأَنَّهُ يَقْتُل وَاحِدًا ثُمَّ يُحْيِيهِ ، وَأَنَّهُ يَخْرُجُ خَلْفَهُ كُنُوزُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .(2)
وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى أَنَّ الرَّجُل لَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ ، لَمْ تَثْبُتْ لَهُ وِلاَيَةٌ ، بَل وَلاَ إِسْلاَمٌ حَتَّى يُنْظَرَ وُقُوفُهُ عِنْدَ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .(3)
================
المبحثُ الثالث
الخلاصةُ في أحكام السِّحْرِ(4)
التَّعْرِيفُ :
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية 11 /302 .
(2) - حديث الدجال أخرجه مسلم ( 4/2252 ـ 2253 ـ ط الحلبي ) .
(3) - مختصر الفتاوى المصرية ص 600 و مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 488) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 108) والفتاوى الكبرى - (ج 1 / ص 206)
(4) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 24 / ص 259-269)(1/30)
1 - السِّحْرُ لُغَةً : كُل مَا لَطُفَ مَأْخَذُهُ وَدَقَّ ، وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا »(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (5767 )
وفي المنتقى - شرح الموطأ - (ج 4 / ص 449)
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مَعْنَاهُ أَنْ يَمْدَحَ الْإِنْسَانُ فَيُصَدَّقُ بِهِ حَتَّى يَصْرِفَ الْقُلُوبَ إِلَى قَوْلِهِ ثُمَّ يَذُمَّهُ فَيُصَدَّقُ حَتَّى يَصْرِفَ الْقُلُوبَ إِلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ فَكَأَنَّهُ سَحَرَ السَّامِعِينَ وَرُوِيَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَفْدٌ فِيهِمْ قَيْسُ بْنُ الْأَصَمِّ وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْثَمِ فَفَخَرَ الزِّبْرِقَانُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا سَيِّدُ تَمِيمٍ وَالْمُطَاعُ فِيهِمْ وَالْمُجَابُ فِيهِمْ آخِذٌ لَهُمْ بِحُقُوقِهِمْ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ الظُّلْمِ وَهَذَا يَعْلَمُ ذَلِكَ يَعْنِي عَمْرَو بْنَ الْأَهْثَمِ فَقَالَ عَمْرٌو : إنَّهُ لَشَدِيدُ الْعَارِضَةِ مَانِعٌ لِجَانِبِهِ مُطَاعٌ فِي أَدَانِيهِ ، فَقَالَ الزِّبْرِقَانُ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ كَذَبَ وَمَا مَنَعَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ إِلَّا الْحَسَدُ ؛ فَقَالَ عَمْرٌو : أَنَا أَحْسُدُك ! فَوَاَللَّهِ إنَّك لَلَئِيمُ الْخَالِ حَدِيثُ الْمَالِ أَحْمَقُ الْوَالِدِ مُبْغَضُ فِي الْعَشِيرِ ، وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَدَقْت أَوَّلًا وَمَا كَذَبْت آخِرًا وَلَكِنِّي رَجُلٌ رَضِيت فَقُلْت أَحْسَنَ مَا عَلِمْت وَغَضِبْت فَقُلْت أَقْبَحَ مَا وَجَدْت ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم : إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا ..(1/31)
وَسَحَرَهُ أَيْ خَدَعَهُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } (سورة الشعراء / 153) أَيِ الْمَخْدُوعِينَ .
وَيُطْلَقُ السِّحْرُ عَلَى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ قَال الأَْزْهَرِيُّ : السِّحْرُ عَمَلٌ تُقُرِّبَ بِهِ إِلَى الشَّيْطَانِ وَبِمَعُونَةٍ مِنْهُ ، كُل ذَلِكَ الأَْمْرِ كَيْنُونَةٌ لِلسِّحْرِ . قَال : وَأَصْل السِّحْرِ صَرْفُ الشَّيْءِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى غَيْرِهِ ، فَكَأَنَّ السَّاحِرَ لَمَّا أَرَى الْبَاطِل فِي صُورَةِ الْحَقِّ ، وَخَيَّل الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ ، قَدْ سَحَرَ الشَّيْءَ عَنْ وَجْهِهِ ، أَيْ صَرَفَهُ . ا هـ . وَرَوَى شِمْرٌ : أَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا سَمَّتِ السِّحْرَ سِحْرًا لأَِنَّهُ يُزِيل الصِّحَّةَ إِلَى الْمَرَضِ ، وَالْبُغْضَ إِلَى الْحُبِّ(1).
وَقَدْ يُسَمَّى السِّحْرُ طِبًّا ، وَالْمَطْبُوبُ الْمَسْحُورُ ، قَال أَبُو عُبَيْدَةَ : إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ تَفَاؤُلاً بِالسَّلاَمَةِ ، وَقِيل : إِنَّمَا سُمِّيَ السِّحْرُ طِبًّا ؛ لأَِنَّ الطِّبَّ بِمَعْنَى الْحِذْقِ ، فَلُوحِظَ حِذْقُ السَّاحِرِ فَسُمِّيَ عَمَلُهُ طِبًّا(2). وَوَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لَفْظُ الْجِبْتِ ، فَسَّرَهُ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالشَّعْبِيُّ بِالسِّحْرِ ، وَقِيل : الْجِبْتُ أَعَمُّ مِنَ السِّحْرِ ، فَيَصْدُقُ أَيْضًا عَلَى الْكِهَانَةِ وَالْعِرَافَةِ . وَالتَّنْجِيمِ(3).
__________
(1) - لسان العرب ، والجمل على شرح المنهج 5 / 110 القاهرة ، الميمنية ، 1305 هـ .
(2) - لسان العرب - ( طب ) ، وكشاف اصطلاحات الفنون 3 / 648 .
(3) - لسان العرب ( جبت ) ، وتفسير القرطبي عند الآية 51 من سورة النساء .(1/32)
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ :فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْرِيفِهِ اخْتِلاَفًا وَاسِعًا ، وَلَعَل مَرَدَّ الاِخْتِلاَفِ إِلَى خَفَاءِ طَبِيعَةِ السِّحْرِ وَآثَارِهِ . فَاخْتَلَفَتْ تَعْرِيفَاتُهُمْ لَهُ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ تَصَوُّرِهِمْ لِحَقِيقَتِهِ .
فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَال الْبَيْضَاوِيُّ : الْمُرَادُ بِالسِّحْرِ مَا يُسْتَعَانُ فِي تَحْصِيلِهِ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى الشَّيْطَانِ مِمَّا لاَ يَسْتَقِل بِهِ الإِْنْسَانُ ، وَذَلِكَ لاَ يَحْصُل إِلاَّ لِمَنْ يُنَاسِبُهُ فِي الشَّرَارَةِ وَخُبْثِ النَّفْسِ .
قَال : وَأَمَّا مَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ كَمَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْحِيَل وَالآْلاَتِ وَالأَْدْوِيَةِ ، أَوْ يُرِيهِ صَاحِبُ خِفَّةِ الْيَدِ فَغَيْرُ مَذْمُومٍ ، وَتَسْمِيَتُهُ سِحْرًا هُوَ عَلَى سَبِيل التَّجَوُّزِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدِّقَّةِ ؛ لأَِنَّ السِّحْرَ فِي الأَْصْل لِمَا خَفِيَ سَبَبُهُ ا هـ(1).
__________
(1) - تفسير البيضاوي عند قوله تعالى : ( يعلمون الناس السحر ) الآية 102 من سورة البقرة ، وكشاف اصطلاحات الفنون 3 / 648 بيروت ، شركة خياط بالتصوير عن طبعة الهند .(1/33)
وَنَقَل التَّهَانُوِيُّ عَنِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ : السِّحْرُ نَوْعٌ يُسْتَفَادُ مِنَ الْعِلْمِ بِخَوَاصِّ الْجَوَاهِرِ وَبِأُمُورٍ حِسَابِيَّةٍ فِي مَطَالِعِ النُّجُومِ ، فَيُتَّخَذُ مِنْ ذَلِكَ هَيْكَلاً عَلَى صُورَةِ الشَّخْصِ الْمَسْحُورِ ، وَيَتَرَصَّدُ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ فِي الْمَطَالِعِ ، وَتُقْرَنُ بِهِ كَلِمَاتٌ يُتَلَفَّظُ بِهَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْفُحْشِ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ ، وَيُتَوَصَّل بِهَا إِلَى الاِسْتِعَانَةِ بِالشَّيَاطِينِ ، وَيَحْصُل مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَحْوَالٌ غَرِيبَةٌ فِي الشَّخْصِ الْمَسْحُورِ(1).
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ : السِّحْرُ شَرْعًا مُزَاوَلَةُ النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ لأَِقْوَالٍ أَوْ أَفْعَالٍ يَنْشَأُ عَنْهَا أُمُورٌ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ(2).
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ : عُقَدٌ وَرُقًى وَكَلاَمٌ يُتَكَلَّمُ بِهِ ، أَوْ يَكْتُبُهُ ، أَوْ يَعْمَل شَيْئًا يُؤَثِّرُ فِي بَدَنِ الْمَسْحُورِ أَوْ قَلْبِهِ أَوْ عَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ لَهُ(3).
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
أ - الشَّعْوَذَةُ :
2 - قَال فِي اللِّسَانِ : الشَّعْوَذَةُ خِفَّةٌ فِي الْيَدِ ، وَأَخْذٌ كَالسِّحْرِ ، يُرِي الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِ مَا عَلَيْهِ أَصْلُهُ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ ، وَقَالُوا : رَجُلٌ مُشَعْوِذٌ وَمُشَعْوِذَةٌ ، وَقَدْ يُسَمَّى الشَّعْبَذَةَ(4).
ب - النَّشْرَةُ :
__________
(1) - التهانوي : كشاف اصطلاحات الفنون 3 / 648 .
(2) - الجمل على شرح المنهج 5 / 110 ، والقليوبي 4 / 169 ، وحاشية الكازروني على تفسير البيضاوي عند الآية 51 من سورة البقرة .
(3) - كشاف القناع آخر باب حد الردة 6 / 186 ، الرياض مكتبة النصر الحديثة ، ومطالب أولي النهى 6 / 303 بيروت . المكتب الإسلامي .
(4) - لسان العرب : ( شعذ ) .(1/34)
3 - النَّشْرَةُ ضَرْبٌ مِنَ الرُّقْيَةِ وَالْعِلاَجِ يُعَالَجُ بِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ بِهِ مَسًّا مِنَ الْجِنِّ . سُمِّيَتْ نَشْرَةً لأَِنَّهُ يَنْشُرُ بِهَا مَا خَامَرَهُ مِنَ الدَّاءِ ، أَيْ يُكْشَفُ وَيُزَال ، قَال الْحَسَنُ : النَّشْرَةُ مِنَ السِّحْرِ(1). وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ سُئِل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّشْرَةِ ، فَقَال : هِيَ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ(2).
ج - الْعَزِيمَةُ :
4 - الْعَزِيمَةُ مِنَ الرُّقَى الَّتِي كَانُوا يَعْزِمُونَ بِهَا عَلَى الْجِنِّ ، وَجَمْعُهَا الْعَزَائِمُ ، يُقَال : عَزَمَ الرَّاقِي : كَأَنَّهُ أَقْسَمَ عَلَى الدَّاءِ ، وَأَصْلُهَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ : الإِْقْسَامُ وَالتَّعْزِيمُ عَلَى أَسْمَاءٍ مُعَيَّنَةٍ زَعَمُوا أَنَّهَا أَسْمَاءُ مَلاَئِكَةٍ وَكَّلَهُمْ سُلَيْمَانُ بِقَبَائِل الْجَانِّ ، فَإِذَا أَقْسَمَ عَلَى صَاحِبِ الاِسْمِ أَلْزَمَ الْجِنَّ بِمَا يُرِيدُ(3).
د - الرُّقْيَةُ :
5 - الرُّقْيَةُ وَجَمْعُهَا الرُّقَى ، وَهِيَ أَلْفَاظٌ خَاصَّةٌ يَحْدُثُ عِنْدَ قَوْلِهَا الشِّفَاءُ مِنَ الْمَرَضِ ، إِذَا كَانَتْ مِنَ الأَْدْعِيَةِ الَّتِي يَتَعَوَّذُ بِهَا مِنَ الآْفَاتِ مِنَ الصَّرْعِ وَالْحُمَّى ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِىِّ قَالَ كُنَّا نَرْقِى فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِى ذَلِكَ فَقَالَ :« اعْرِضُوا عَلَىَّ رُقَاكُمْ لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ »(4).
__________
(1) - لسان العرب .
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (235) - (ج 7 / ص 387) (23982) ومسند البزار(6709) ومجمع الزوائد ( 8397 ) وحسنه ابن حجر في الفتح ( 10 / 233 - ط السلفية ) وهو صحيح
(3) - لسان العرب ، والفروق للقرافي فرق ( 242 ) .
(4) - صحيح مسلم(5862)(1/35)
وَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ »(1).
وَمِنَ الرُّقَى مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ كَرُقَى الْجَاهِلِيَّةِ ، وَأَهْل الْهِنْدِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَسْتَشْفُونَ بِهَا مِنَ الأَْسْقَامِ وَالأَْسْبَابِ الْمُهْلِكَةِ . قَال الْقَرَافِيُّ : الرُّقْيَةُ لِمَا يُطْلَبُ بِهِ النَّفْعُ ، أَمَّا مَا يُطْلَبُ بِهِ الضَّرَرُ فَلاَ يُسَمَّى رُقْيَةً بَل هُوَ سِحْرٌ(2). وَانْظُرْ ( تَعْوِيذَةٌ ) .
هـ - الطَّلْسَمُ :
6 - الطَّلْسَمَاتُ أَسْمَاءٌ خَاصَّةٌ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ لَهَا تَعَلُّقًا بِالْكَوَاكِبِ ، تُجْعَل فِي أَجْسَامٍ مِنَ الْمَعَادِنِ أَوْ غَيْرِهَا ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا تُحْدِثُ آثَارًا خَاصَّةً(3).
و - الأَْوْفَاقُ :
7 - الأَْوْفَاقُ هِيَ أَعْدَادٌ تُوضَعُ فِي أَشْكَالٍ هَنْدَسِيَّةٍ عَلَى شَكْلٍ مَخْصُوصٍ ، كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ عَمِلَهُ فِي وَرَقٍ وَحَمَلَهُ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى تَيْسِيرِ الْوِلاَدَةِ ، أَوْ نَصْرِ جَيْشٍ عَلَى جَيْشٍ ، أَوْ إِخْرَاجِ مَسْجُونٍ مِنْ سِجْنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.(4)
ز - التَّنْجِيمُ :
8 - التَّنْجِيمُ لُغَةً : النَّظَرُ فِي النُّجُومِ ، اصْطِلاَحًا : مَا يُسْتَدَل بِالتَّشَكُّلاَتِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى الْحَوَادِثِ الأَْرْضِيَّةِ كَمَا يَزْعُمُونَ .
حَقِيقَةُ السِّحْرِ :
9 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ السِّحْرَ هَل لَهُ حَقِيقَةٌ وَوُجُودٌ وَتَأْثِيرٌ حَقِيقِيٌّ فِي قَلْبِ الأَْعْيَانِ ، أَمْ هُوَ مُجَرَّدُ تَخْيِيلٍ ؟.
__________
(1) - سنن أبى داود (3886 )صحيح
(2) - لسان العرب ، والفروق للقرافي 4 / 147 الفرق ( 242 ) .
(3) - الفروق للقرافي الفرق ( 242 ) 4 / 142 .
(4) - الفروق للقرافي 4 / 142 الفرق ( 242 ) .(1/36)
فَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ الْحَنَفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْجَصَّاصِ ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الإِْسْتِرَابَاذِيُّ وَالْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ، إِلَى إِنْكَارِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ السِّحْرِ وَأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ تَخْيِيلٌ مِنَ السَّاحِرِ عَلَى مَنْ يَرَاهُ ، وَإِيهَامٌ لَهُ بِمَا هُوَ خِلاَفُ الْوَاقِعِ ، وَأَنَّ السِّحْرَ لاَ يَضُرُّ إِلاَّ أَنْ يَسْتَعْمِل السَّاحِرُ سُمًّا أَوْ دُخَانًا يَصِل إِلَى بَدَنِ الْمَسْحُورِ فَيُؤْذِيهِ ، وَنُقِل مِثْل هَذَا عَنِ الْحَنَفِيَّةِ ، وَأَنَّ السَّاحِرَ لاَ يَسْتَطِيعُ بِسِحْرِهِ قَلْبَ حَقَائِقِ الأَْشْيَاءِ ، فَلاَ يُمْكِنُهُ قَلْبُ الْعَصَا حَيَّةً ، وَلاَ قَلْبُ الإِْنْسَانِ حِمَارًا .
قَال الْجَصَّاصُ : السِّحْرُ مَتَى أُطْلِقَ فَهُوَ اسْمٌ لِكُل أَمْرٍ مُمَوَّهٍ بَاطِلٍ لاَ حَقِيقَةَ لَهُ وَلاَ ثَبَاتَ ، قَال اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ } (سورة الأعراف / 116) يَعْنِي مَوَّهُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ تَسْعَى ، وَقَال تَعَالَى : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّل إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } (سورة الشعراء / 66) فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا ظَنُّوهُ سَعْيًا مِنْهَا لَمْ يَكُنْ سَعْيًا وَإِنَّمَا كَانَ تَخْيِيلاً ، وَقَدْ قِيل : إِنَّهَا كَانَتْ عِصِيًّا مُجَوَّفَةً مَمْلُوءَةً زِئْبَقًا ، وَكَذَلِكَ الْحِبَال كَانَتْ مَعْمُولَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوَّةً زِئْبَقًا ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُمَوَّهًا عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ .(1)
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص عند الآية ( 102 ) من سورة البقرة 1 / 43 وما بعدها ، وكشاف اصطلاحات الفنون 3 / 652 ، والجمل على شرح المنهج 5 / 100 ، وروضة الطالبين 9 / 128 ، 346 .(1/37)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْل السُّنَّةِ إِلَى أَنَّ السِّحْرَ قِسْمَانِ :
10 - قِسْمٌ هُوَ حِيَلٌ وَمُخْرَقَةٌ وَتَهْوِيلٌ وَشَعْوَذَةٌ ، وَإِيهَامٌ لَيْسَ لَهُ حَقَائِقُ ، أَوْ لَهُ حَقَائِقُ لَكِنْ لَطُفَ مَأْخَذُهَا ، وَلَوْ كُشِفَ أَمْرُهَا لَعُلِمَ أَنَّهَا أَفْعَالٌ مُعْتَادَةٌ يُمْكِنُ لِمَنْ عَرَفَ وَجْهَهَا أَنْ يَفْعَل مِثْلَهَا ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا يَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَةِ خَوَاصِّ الْمَوَادِّ وَالْحِيَل الْهَنْدَسِيَّةِ وَنَحْوِهَا ، وَلاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ دَاخِلاً فِي مُسَمَّى السِّحْرِ ، كَمَا قَال تَعَالَى : { سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } (سورة الأعراف / 116) وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ خَفَاءُ وَجْهِهِ ضَعِيفًا فَلاَ يُسَمَّى سِحْرًا اصْطِلاَحًا ، وَقَدْ يُسَمَّى سِحْرًا لُغَةً ، كَمَا قَالُوا : ( سَحَرْتُ الصَّبِيَّ ) بِمَعْنَى خَدَعْتُهُ .
الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَهُ حَقِيقَةٌ وَوُجُودٌ وَتَأْثِيرٌ فِي الأَْبْدَانِ . فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْقِسْمِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ . وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ(1).
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِتَأْثِيرِ السِّحْرِ وَإِحْدَاثِهِ الْمَرَضَ وَالضَّرَرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ :
__________
(1) - الجمل على شرح المنهج 5 / 100 ، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 7 / 379 ، وفتح القدير 4 / 408 ، والفروق للقرافي 4 / 149 ، 150 ، الفرق ( 242 ) ، وروضة الطالبين 9 / 346 ، والمغني 8 / 150 .(1/38)
مِنْهَا قَوْله تَعَالَى : { قُل أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } (سورة الفلق) وَالنَّفَّاثَاتُ فِي الْعُقَدِ : هُنَّ السَّوَاحِرُ مِنَ النِّسَاءِ ، فَلَمَّا أُمِرَ بِالاِسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِنَّ عُلِمَ أَنَّ لَهُنَّ تَأْثِيرًا وَضَرَرًا .
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } (سورة البقرة / 102) .(1/39)
وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ مِنْ بَنِى زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّىْءَ وَمَا فَعَلَهُ ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهْوَ عِنْدِى لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قَالَ « يَا عَائِشَةُ ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِى فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ ، أَتَانِى رَجُلاَنِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِى ، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَىَّ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ فَقَالَ مَطْبُوبٌ . قَالَ مَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ . قَالَ فِى أَىِّ شَىْءٍ قَالَ فِى مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ ، وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ . قَالَ وَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِى بِئْرِ ذَرْوَانَ » . فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ فَقَالَ « يَا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ ، أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ » . قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أَسْتَخْرِجُهُ قَالَ « قَدْ عَافَانِى اللَّهُ ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا » . فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ . تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَأَبُو ضَمْرَةَ وَابْنُ أَبِى الزِّنَادِ عَنْ هِشَامٍ . وَقَالَ اللَّيْثُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ فِى مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ . يُقَالُ الْمُشَاطَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الشَّعَرِ إِذَا مُشِطَ ، وَالْمُشَاقَةُ مِنْ مُشَاقَةِ الْكَتَّانِ(1).
__________
(1) - صحيح البخارى (5763 ، 3175 ، 3268 ، 5765 ، 5766 ، 6063 ، 6391 ) ومسلم (5832 )(1/40)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ قَالَ سُفْيَانُ وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَا فَقَالَ يَا عَائِشَةُ أَعَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلْآخَرِ مَا بَالُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ وَفِيمَ قَالَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ قَالَ وَأَيْنَ قَالَ فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ تَحْتَ رَاعُوفَةٍ(1)فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ قَالَتْ فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ فَقَالَ هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قَالَ فَاسْتُخْرِجَ قَالَتْ فَقُلْتُ أَفَلَا أَيْ تَنَشَّرْتَ فَقَالَ أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ شَرًّا "(2)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ فَقَالَ « نَعَمْ ». قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ يُؤْذِيكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيكَ بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ..(3)
__________
(1) - الراعوفة : صخرة تترك في أسفل البئر إذا احتفرت ، تكون هناك ليجلس عليها المستقي حين تنقية البئر . ( القاموس / رعف ) .
(2) - صحيح البخاري (5323 )
(3) - صحيح مسلم (5829)
وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ مِنْ شَكْوَاهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين سُحِرَ ثُمَّ عَافَاهُ اللَّه تَعَالَى وَشَفَاهُ وَرَدَّ كَيْد السَّحَرَة الْحُسَّاد مِنْ الْيَهُود فِي رُءُوسهمْ وَجَعَلَ تَدْمِيرهمْ فِي تَدْبِيرهمْ وَفَضَحَهُمْ وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَمْ يُعَاتِبهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا مِنْ الدَّهْر بَلْ كَفَى اللَّه وَشَفَى وَعَافَى . تفسير ابن كثير - (ج 8 / ص 536)
وانظر كشاف القناع 6 / 186 ، والمغني لابن قدامة 8 / 151 .(1/41)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :
11 - عَمَل السِّحْرِ مُحَرَّمٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ، وَقَدْ نَقَل النَّوَوِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ ، وَأَدِلَّةُ تَحْرِيمِهِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا :
أ - قَوْله تَعَالَى : { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } (سورة طه / 69) .
ب - قَوْله تَعَالَى : { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } (سورة البقرة / 102) فَجَعَلَهُ مِنْ تَعْلِيمِ الشَّيَاطِينِ وَقَال فِي آخِرِ الآْيَةِ : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ } فَأَثْبَتَ فِيهِ ضَرَرًا بِلاَ نَفْعٍ .
ج - قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ : { إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } (سورة هود / 73) فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ رَغِبُوا إِلَى اللَّهِ فِي أَنْ يَغْفِرَ لَهُمُ السِّحْرَ ، وَذَلِكَ يَدُل عَلَى أَنَّهُ ذَنْبٌ.
د - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا هُنَّ قَالَ « الشِّرْكُ بِاللَّهِ ، وَالسِّحْرُ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالتَّوَلِّى يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ »(1)..
__________
(1) - صحيح البخارى(2766 ) وصحيح مسلم (272 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 192)
وَالْمُرَاد بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا الْعَفَائِف ، وَبِالْغَافِلَاتِ الْغَافِلَات عَنْ الْفَوَاحِش ، وَمَا قُذِفْنَ بِهِ . وَقَدْ وَرَدَ الْإِحْصَان فِي الشَّرْع عَلَى خَمْسَة أَقْسَام : الْعِفَّة ، وَالْإِسْلَام ، وَالنِّكَاح ، وَالتَّزْوِيج ، وَالْحُرِّيَّة . وَقَدْ بَيَّنْت مَوَاطِنه وَشَرَائِطه وَشَوَاهِده فِي كِتَاب تَهْذِيب الْأَسْمَاء وَاللُّغَات وَاَللَّه أَعْلَم .
وَأَمَّا عَدُّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّوَلِّي يَوْم الزَّحْف مِنْ الْكَبَائِر فَدَلِيل صَرِيح لِمَذْهَبِ الْعُلَمَاء كَافَّة فِي كَوْنِهِ كَبِيرَة إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ هُوَ مِنْ الْكَبَائِر . قَالَ : وَالْآيَة الْكَرِيمَة فِي ذَلِكَ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي أَهْل بَدْرٍ خَاصَّةً . وَالصَّوَاب مَا قَالَهُ الْجَمَاهِير أَنَّهُ عَامٌّ بَاقٍ . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَأَمَّا عَدُّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّحْر مِنْ الْكَبَائِر فَهُوَ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِنَا الصَّحِيح الْمَشْهُور . وَمَذْهَب الْجَمَاهِير أَنَّ السِّحْر حَرَام مِنْ الْكَبَائِر فِعْله وَتَعَلُّمه وَتَعْلِيمه . وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : إِنَّ تَعَلُّمه لَيْسَ بِحَرَامٍ ، بَلْ يَجُوز لِيُعْرَف وَيُرَدّ عَلَى صَاحِبه وَيُمَيَّز عَنْ الْكَرَامَة لِلْأَوْلِيَاءِ : وَهَذَا الْقَائِلُ يُمْكِنهُ أَنْ يَحْمِل الْحَدِيث عَلَى فِعْل السِّحْر . وَاَللَّه أَعْلَم.
وفي شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 5 / ص 313)
والسحر عبارة عن عقد ورقى يعني قراءات مطلسمة في صور الشياطين وعفاريت الجن ينفث بها الساحر فيؤذي المسحور بمرض أو موت أو صرف أو عطف صرف يصرفه عن ما يريد عطف يعني يعطفه على ما لا يريد كما قال الله تعالى فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجته وهو من كبائر الذنوب والساحر يجب أن يقتل حدا سواء تاب أو لم يتب وذلك لعظم مضرته على الناس وشدة جرأته والعياذ بالله ولهذا جاء في الحديث حد الساحر ضربه بالسيف وفي رواية ضربه بالسيف ثم إن السحر منه ما يكون كفرا وهو أن يستعين بالشياطين والجن وهذا كفر لقول الله تبارك وتعالى في سورة البقرة { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } وهذا نص صريح بأن السحر كفر إذا كان متلقيا من الشياطين لأن الشياطين لا يمكن أن تخدم الإنسان إلا بشيء يكون شركا وقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم سحره يهودي خبيث يقال له لبيد بن الأعصم وضع له سحرا في بئر في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر يعني النخلة الفحل لجمرته جف يسمى الكافور أو الكفرة هذا الخبيث وضع السحر للرسول صلى الله عليه وسلم في مشط المشط الذي يمشط به عادة مشاطة يعني ما سقط من الشعر عند المشط فوضعه في هذا البئر لكن لم يؤثر على النبي صلى الله عليه وسلم في أمر يتعلق بالرسالة أبدا لكن صار يخيل إليه أنه أتى أهله أو أنه فعل الشيء ولم يفعله حتى أنزل الله عز وجل سورتي { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } فرقاه بهما جبريل فشفي بإذن الله ثم استخرج السحر من هذه البئر وفله وأبطله وهذا دليل على خبث اليهود وأنهم من أشد الناس عداوة بل قال الله تعالى: { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } فبدأ اليهود قبل المشركين فهم أشد الناس عداوة للمسلمين ولهذا سحروا النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الله ولله الحمد أبطل سحرهم فصار السحر ينقسم إلى قسمين سحر كفر وهو الاستعانة بالأرواح الشيطانية وغير كفر وهو أن يكون بالعقد والأدوية والأخشاب وما أشبه ذلك أما حكم الساحر فإنه يجب أن يقتل بكل حال إن كان كافرا فلردته وإن كان سحره دون الكفر فلأذيته قال الله تعالى { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } الإشراك بالله والسحر(1/42)
وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ السِّحْرِ تَمْوِيهًا وَحِيلَةً ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، فَقَالُوا : إِنَّ الأَْوَّل مُبَاحٌ ؛ أَيْ لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ اللَّهْوِ فَيُبَاحُ مَا لَمْ يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى مُحَرَّمٍ كَالإِْضْرَارِ بِالنَّاسِ وَإِرْهَابِهِمْ . قَال الْبَيْضَاوِيُّ : أَمَّا مَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ كَمَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْحِيَل بِمَعُونَةِ الآْلاَتِ وَالأَْدْوِيَةِ ، أَوْ يُرِيهِ صَاحِبُ خِفَّةِ الْيَدِ فَغَيْرُ مَذْمُومٍ ، وَتَسْمِيَتُهُ سِحْرًا عَلَى التَّجَوُّزِ ، أَوْ لِمَا فِيهِ مِنَ الدِّقَّةِ(1).
كُفْرُ السَّاحِرِ بِفِعْل السِّحْرِ(2):
12 - لِلْفُقَهَاءِ اتِّجَاهَاتٌ فِي تَكْفِيرِ السَّاحِرِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي :
__________
(1) - روضة الطالبين 9 / 346 ، ومطالب أولي النهى 6 / 303 ، 304 ، وكشاف اصطلاحات الفنون 3 / 648 ، وتفسير البيضاوي 1 / 175 القاهرة المكتبة التجارية عند الآية 51 من سورة البقرة .
(2) - فتح الباري لابن حجر - (ج 16 / ص 295-302) و فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 5714) -سؤال رقم 69914- هل تُقبل توبة الساحر؟ وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 634) -رقم الفتوى 20595 طعام الساحر ..يؤكل أم يُرمَى ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 2 / ص 144) ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 9 / ص 415) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 1 / ص 477) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 5 / ص 225)(1/43)
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ يَكْفُرُ بِفِعْلِهِ سَوَاءٌ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ أَمْ لاَ(1). ثُمَّ قَال الْحَنَابِلَةُ : أَمَّا الَّذِي يَسْحَرُ بِأَدْوِيَةٍ وَتَدْخِينٍ وَسَقْيِ شَيْءٍ فَلَيْسَ كَافِرًا ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَعْزِمُ عَلَى الْجِنِّ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَجْمَعُهَا فَتُطِيعُهُ .(2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَكْفِيرِ السَّاحِرِ بِفِعْل السِّحْرِ إِنْ كَانَ سِحْرُهُ مُشْتَمِلاً عَلَى كُفْرٍ ، أَوْ كَانَ سِحْرُهُ مِمَّا يُفَرِّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ(3). وَأَضَافَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى حَالَةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَالَةَ تَحْبِيبِ الرَّجُل إِلَى الْمَرْأَةِ وَهُوَ الْمُسَمَّى ( التُّوَلَةُ )(4).
__________
(1) - حاشية رد المحتار - (ج 4 / ص 426) وفتح القدير - (ج 13 / ص 297) ورد المحتار - (ج 16 / ص 305)
(2) - الشرح الكبير لابن قدامة - (ج 10 / ص 116) والإنصاف - (ج 16 / ص 118) وشرح منتهى الإرادات - (ج 11 / ص 334) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 21 / ص 174) والمبدع شرح المقنع - (ج 9 / ص 440) وكشف المخدرات والرياض الزاهرات لشرح أخصر المختصرات - (ج 2 / ص 29) والإقناع - (ج 4 / ص 307)
(3) - الذخيرة في الفقه المالكي للقرافي - (ج 10 / ص 422) و الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني - (ج 1 / ص 231)
(4) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 1 / ص 53)(1/44)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْعَمَل بِالسِّحْرِ حَرَامٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ مِنْ حَيْثُ الأَْصْل ، وَأَنَّ السَّاحِرَ لاَ يَكْفُرُ إِلاَّ فِي حَالَتَيْنِ هُمَا : أَنْ يَعْتَقِدَ مَا هُوَ كُفْرٌ ، أَوْ أَنْ يَعْتَقِدَ إِبَاحَةَ السِّحْرِ(1). وَأَضَافَ ابْنُ الْهُمَامِ حَالَةً ثَالِثَةً هِيَ مَا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَفْعَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ(2).
حُكْمُ تَعَلُّمِ السِّحْرِ وَتَعْلِيمِهِ :
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَعَلُّمِ السِّحْرِ دُونَ الْعَمَل بِهِ .
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 16 / ص 295) والحاوي في فقه الشافعي - الماوردي - (ج 13 / ص 96)
(2) - الفقه على المذاهب الأربعة - (ج 5 / ص 225) وحاشية رد المحتار - (ج 4 / ص 426) وفتح القدير - (ج 13 / ص 297) ورد المحتار - (ج 16 / ص 305)(1/45)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ) إِلَى أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ حَرَامٌ وَكُفْرٌ(1)، وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَنِ اسْتَثْنَى أَحْوَالاً . فَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ ذَخِيرَةِ النَّاظِرِ أَنَّ تَعَلُّمَهُ لِرَدِّ فِعْل سَاحِرِ أَهْل الْحَرْبِ فَرْضٌ ، وَأَنَّ تَعَلُّمَهُ لِيُوَفِّقَ بَيْنَ زَوْجَيْنِ جَائِزٌ ، وَرَدَّهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّه وردَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ ». قَالَتْ قُلْتُ لِمَ تَقُولُ هَذَا وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَتْ عَيْنِى تَقْذِفُ وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى فُلاَنٍ الْيَهُودِىِّ يَرْقِينِى فَإِذَا رَقَانِى سَكَنَتْ.
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 16 / ص 295) ونيل الأوطار - (ج 11 / ص 412) ونيل الأوطار - (ج 11 / ص 427) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 5 / ص 147) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 5 / ص 225) وحاشية رد المحتار - (ج 4 / ص 426) وفتح القدير - (ج 13 / ص 296) ورد المحتار - (ج 16 / ص 305) وشرح مختصر خليل للخرشي - (ج 22 / ص 426) وروضة الطالبين وعمدة المفتين - (ج 3 / ص 355) وشرح البهجة الوردية - (ج 17 / ص 341) وشرح البهجة الوردية - (ج 17 / ص 350) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 39 / ص 238) ومغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج - (ج 15 / ص 359) ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج - (ج 26 / ص 280) وحاشية البجيرمي على الخطيب - (ج 12 / ص 351)(1/46)
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّمَا ذَاكِ عَمَلُ الشَّيْطَانِ كَانَ يَنْخَسُهَا بِيَدِهِ فَإِذَا رَقَاهَا كَفَّ عَنْهَا إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِى كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِى لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا » .(1)
وَالتُّوَلَةُ شَيْءٌ كَانُوا يَصْنَعُونَهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُحَبِّبُ الْمَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا .
وَاسْتَدَل الطُّرْطُوشِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } (سورة البقرة / 102) أَيْ بِتَعَلُّمِهِ ،وقَوْله تَعَالَى : { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } (سورة البقرة / 102) وَلأَِنَّهُ لاَ يَتَأَتَّى إِلاَّ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَادِرٌ بِهِ عَلَى تَغْيِيرِ الأَْجْسَامِ ، وَالْجَزْمُ بِذَلِكَ كُفْرٌ . قَال الْقَرَافِيُّ : أَيْ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ ظَاهِرًا ؛ وَلأَِنَّ تَعْلِيمَهُ لاَ يَتَأَتَّى إِلاَّ بِمُبَاشَرَتِهِ ، كَأَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى الْكَوْكَبِ وَيَخْضَعَ لَهُ ، وَيَطْلُبَ مِنْهُ قَهْرَ السُّلْطَانِ .
__________
(1) - سنن أبى داود (3885 ) صحيح
التولة : نوع من السحر يحبب المرأة إلى زوجها(1/47)
ثُمَّ فَرَّقَ الْقَرَافِيُّ بَيْنَ مَنْ يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ بِمُجَرَّدِ مَعْرِفَتِهِ لِمَا يَصْنَعُ السَّحَرَةُ كَأَنْ يَقْرَؤُهُ فِي كِتَابٍ ، وَبَيْنَ أَنْ يُبَاشِرَ فِعْل السِّحْرِ لِيَتَعَلَّمَهُ فَلاَ يَكْفُرُ بِالنَّوْعِ الأَْوَّل ، وَيَكْفُرُ بِالثَّانِي حَيْثُ كَانَ الْفِعْل مُكَفِّرًا(1).
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : تَعْلِيمُهُ حَرَامٌ ، إِلاَّ إِنْ كَانَ لِتَحْصِيل نَفْعٍ ، أَوْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ ، أَوْ لِلْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ(2).
وَقَال الْفَخْرُ الرَّازِيُّ : الْعِلْمُ بِالسِّحْرِ لَيْسَ بِقَبِيحٍ وَلاَ مَحْظُورٍ ، قَال : وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لأَِنَّ الْعِلْمَ لِذَاتِهِ شَرِيفٌ ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُل هَل يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } (سورة الزمر / 9) وَلأَِنَّ السِّحْرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يُعَلَّمُ لَمَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزِ ، وَالْعِلْمُ بِكَوْنِ الْمُعْجِزِ مُعْجِزًا وَاجِبٌ ، وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ فَهُوَ وَاجِبٌ . قَال : فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِالسِّحْرِ وَاجِبًا فَكَيْفَ يَكُونُ قَبِيحًا أَوْ حَرَامًا ؟(3).
النَّشْرَةُ ، أَوْ حَل السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ :
14 - يُحَل السِّحْرُ عَنِ الْمَسْحُورِ بِطَرِيقَتَيْنِ :
__________
(1) - فتح القدير 4 / 408 ، وابن عابدين 1 / 31 ، وكشاف القناع 6 / 186 ، والفروق للقرافي 4 / 152 ، 153 ، 159 ، 165 ، الفرق 242 .
(2) - القليوبي على شرح المنهاج 4 / 169 .
(3) - تفسير الرازي 3 / 238(1/48)
الأُْولَى : أَنْ يُحَل بِالرُّقَى الْمُبَاحَةِ وَالتَّعَوُّذِ الْمَشْرُوعِ ، كَالْفَاتِحَةِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَالاِسْتِعَاذَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِ الْمَأْثُورَةِ وَلَكِنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْمَأْثُورِ ، فَهَذَا النَّوْعُ جَائِزٌ إِجْمَاعًا . وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُحِرَ ، اسْتَخْرَجَ الْمُشْطَ وَالْمِشَاطَةَ اللَّتَيْنِ سُحِرَ بِهِمَا ، ثُمَّ كَانَ يَقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ ، فَشَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى .(1)
الثَّانِيَةُ : أَنْ يُحَل السِّحْرُ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ . وَهَذَا النَّوْعُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ :
__________
(1) - ومما يدفع السحر: التوكل على الله ودعاؤه والتحصن بالقرآن الكريم وأنواع الذكر الثابتة وكمال التوحيد والحذر من الوقوع في شَرَك الأشرار والفجار ومجانبة المفسدين الظالمين. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة:208].(1/49)
الأَْوَّل - أَنَّهُ حَرَامٌ لاَ يَجُوزُ ؛ لأَِنَّهُ سِحْرٌ وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ تَحْرِيمِ السِّحْرِ الْمُتَقَدِّمُ بَيَانُهَا . وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْقَيِّمِ . وَتَوَقَّفَ فِيهِ أَحْمَدُ . وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ : لاَ يَحُل السِّحْرَ إِلاَّ سَاحِرٌ ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ سُئِل عَنِ امْرَأَةٍ يُعَذِّبُهَا السَّحَرَةُ ، فَقَال رَجُلٌ : أَخُطُّ خَطًّا عَلَيْهَا وَأَغْرِزُ السِّكِّينَ عِنْدَ مَجْمَعِ الْخَطِّ وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ . فَقَال مُحَمَّدٌ : مَا أَعْلَمُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَأْسًا ، وَلاَ أَدْرِي مَا الْخَطُّ وَالسِّكِّينُ . وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ : حَل السِّحْرِ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ ، فَيَتَقَرَّبُ النَّاشِرُ وَالْمُنْتَشِرُ إِلَى الشَّيْطَانِ بِمَا يُحِبُّ فَيَبْطُل الْعَمَل عَنِ الْمَسْحُورِ .
الْقَوْل الثَّانِي - أَنَّ حَل السِّحْرِ بِسِحْرٍ لاَ كُفْرَ فِيهِ وَلاَ مَعْصِيَةَ جَائِزٌ ، فَقَدْ نَقَل الْبُخَارِيُّ عَنْ قَتَادَةَ : قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ ، أَوْ يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ أَيُحَل عَنْهُ ، أَوْ يُنْشَرُ ؟ قَال : لاَ بَأْسَ ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الإِْصْلاَحَ ، فَإِنَّ مَا يَنْفَعُ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ .(1/50)
وَالْقَوْلاَنِ أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . قَال الرَّحِيبَانِيُّ : يَجُوزُ حَل السِّحْرِ بِسِحْرٍ لأَِجْل الضَّرُورَةِ ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ ، وَقَال فِي الْمُغْنِي : تَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِي الْحِل ، وَهُوَ إِلَى الْجَوَازِ أَمْيَل(1).
عُقُوبَةُ السَّاحِرِ(2):
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ يُقْتَل فِي حَالَيْنِ : الأَْوَّل أَنْ يَكُونَ سِحْرُهُ كُفْرًا ، وَالثَّانِي إِذَا عُرِفَتْ مُزَاوَلَتُهُ لِلسِّحْرِ بِمَا فِيهِ إِضْرَارٌ وَإِفْسَادٌ وَلَوْ بِغَيْرِ كُفْرٍ .
__________
(1) - المغني 8 / 154 ، ومطالب أولي النهى 6 / 305 ، وفتح المجيد ص 304 ، وتيسير العزيز الحميد ص 366 ، ومواهب الجليل للحطاب 6 / 256 ، وفتح الباري 10 / 236 .
(2) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 1 / ص 120-129) وشرح الطحاوية في العقيدة السلفية - (ج 3 / ص 241) ومجموع الفتاوى - (ج 28 / ص 346) ومجموع الفتاوى - (ج 29 / ص 384) ونيل الأوطار - (ج 11 / ص 413-420) والروضة الندية - (ج 2 / ص 83) والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية - (ج 1 / ص 869) والفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني - (ج 7 / ص 134)
وقتل الساحر لحماية الناس من ضرره وشره وللوقاية من كثرة مفاسده ولاقتلاع جذور الشرك بالله تعالى من المجتمع المسلم وللحفاظ على صفاء عقائد المسلمين وعقولهم وأموالهم ودرء المفاسد عن المسلمين، والإسلام وحده هو الذي يرعى كل خير ويحارب كل شر.
فقتل الساحر والساحرة هو الصحيح من قولي أهل العلم حتى وإن أظهر التوبة، لأن الصحابة لم يستتيبوا السحرة الذين قُتلوا، ولأن الغالب على الساحر الكذب فلا يصدق في توبته، فإن كان صادقاً في نيته وقصده نفعته التوبة عند الله عز جل ولكن لا تدفع عنه حد القتل لأنه مفسد شرير، خبيث السيرة والسريرة.(1/51)
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَال : السَّاحِرُ إِذَا أَقَرَّ بِسِحْرِهِ أَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ يُقْتَل وَلاَ يُسْتَتَابُ ، وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي هَذَا سَوَاءٌ ، وَقِيل : لاَ يُقْتَل إِنْ كَانَ ذِمِّيًّا .
وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ ابْنِ الْهُمَامِ أَنَّ قَتْلَهُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيل التَّعْزِيرِ ، لاَ بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اعْتِقَادِهِ مَا يُوجِبُ كُفْرَهُ ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ : يَجِبُ قَتْل السَّاحِرِ وَلاَ يُسْتَتَابُ ، وَذَلِكَ لِسَعْيِهِ فِي الأَْرْضِ بِالْفَسَادِ لاَ بِمُجَرَّدِ عَمَلِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اعْتِقَادِهِ مَا يُوجِبُ كُفْرَهُ ، لَكِنْ إِنْ جَاءَ تَائِبًا قَبْل أَنْ يُؤْخَذَ قُبِلَتْ(1).
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى قَتْل السَّاحِرِ ، لَكِنْ قَالُوا : إِنَّمَا يُقْتَل إِذَا حُكِمَ بِكُفْرِهِ ، وَثَبَتَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ لَدَى الإِْمَامِ ، فَإِنْ كَانَ مُتَجَاهِرًا بِهِ قُتِل وَمَالُهُ فَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ ، وَإِنْ كَانَ يُخْفِيهِ فَهُوَ كَالزِّنْدِيقِ يُقْتَل وَلاَ يُسْتَتَابُ(2)، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ - أَيْضًا - السَّاحِرَ الذِّمِّيَّ ، فَقَالُوا : لاَ يُقْتَل ، بَل يُؤَدَّبُ . لَكِنْ قَالُوا : إِنْ أَدْخَل السَّاحِرُ الذِّمِّيُّ ضَرَرًا عَلَى مُسْلِمٍ فَيَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ ، وَلاَ تُقْبَل مِنْهُ تَوْبَةٌ غَيْرَ الإِْسْلاَمِ ، نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عَنْ مَالِكٍ . لَكِنْ قَال الزَّرْقَانِيُّ : الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ انْتِقَاضَ عَهْدِهِ ، فَيُخَيَّرُ الإِْمَامُ فِيهِ .
__________
(1) - فتح القدير 4 / 408 ، وابن عابدين 1 / 31 و 3 / 295 ، 296 .
(2) - الزرقاني 8 / 63 .(1/52)
أَمَّا إِنْ أَدْخَل السَّاحِرُ الذِّمِّيُّ ضَرَرًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْل مِلَّتِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّبُ مَا لَمْ يَقْتُلْهُ ، فَإِنْ قَتَلَهُ قُتِل بِهِ(1).
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : إِنْ كَانَ سِحْرُ السَّاحِرِ لَيْسَ مِنْ قَبِيل مَا يَكْفُرُ بِهِ ، فَهُوَ فِسْقٌ لاَ يُقْتَل بِهِ مَا لَمْ يَقْتُل أَحَدًا وَيَثْبُتُ تَعَمُّدُهُ لِلْقَتْل بِهِ بِإِقْرَارِهِ(2).
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ يُقْتَل حَدًّا وَلَوْ لَمْ يَقْتُل بِسِحْرِهِ أَحَدًا ، لَكِنْ لاَ يُقْتَل إِلاَّ بِشَرْطَيْنِ :
الأَْوَّل : أَنْ يَكُونَ سِحْرُهُ مِمَّا يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ كُفْرًا مِثْل فِعْل لَبِيدِ بْنِ الأَْعْصَمِ ، أَوْ يَعْتَقِدُ إِبَاحَةَ السِّحْرِ ، بِخِلاَفِ مَا لاَ يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ كُفْرًا ، كَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَجْمَعُ الْجِنَّ فَتُطِيعُهُ ، أَوْ يَسْحَرُ بِأَدْوِيَةٍ وَتَدْخِينٍ ، وَسَقْيِ شَيْءٍ لاَ يَضُرُّ .
الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا ، فَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا لَمْ يُقْتَل ؛ لأَِنَّهُ أُقِرَّ عَلَى شِرْكِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ السِّحْرِ ، وَلأَِنَّ لَبِيدَ بْنَ الأَْعْصَمِ الْيَهُودِيَّ سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْتُلْهُ ، قَالُوا : وَالأَْخْبَارُ الَّتِي وَرَدَتْ بِقَتْل السَّاحِرِ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي سَاحِرِ الْمُسْلِمِينَ لأَِنَّهُ يَكْفُرُ بِسِحْرِهِ .
وَالذِّمِّيُّ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ فَلاَ يُقْتَل بِهِ ، لَكِنْ إِنْ قُتِل بِسِحْرٍ يَقْتُل غَالِبًا ، قُتِل قِصَاصًا .
وَشَرْطٌ آخَرُ أَضَافَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي : وَهُوَ أَنْ يَعْمَل بِالسِّحْرِ ، إِذْ لاَ يُقْتَل بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ بِهِ .
__________
(1) - الزرقاني 8 / 68 .
(2) - تفسير الرازي 3 / 239 ، وروضة الطالبين 9 / 347 .(1/53)
ثُمَّ قَال بَعْضُهُمْ : وَيُعَاقَبُ بِالْقَتْل أَيْضًا مَنْ يَعْتَقِدُ حِل السِّحْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَيُقْتَل كُفْرًا ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ قَدْ أَنْكَرَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ .
وَاحْتَجُّوا لِقَتْل السَّاحِرِ بِمَا رَوَى عَنْ جُنْدَبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ »(1).
وَبِمَا وَرَدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ بَجَالَةَ يُحَدِّثُ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ وَأَبَا الشَّعْثَاءِ ، قَالَ : كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ : فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ أَنَ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ , وَفَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ الْمَجُوسِ , وَانْهَوْهُمْ ، عَنِ الزَّمْزَمَةِ فَقَتَلْنَا ثَلاَثَ سَوَاحِرَ , وَجَعَلْنَا نُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ حَرِيمِهِ فِي كِتَابِ اللهِ"(2).
وَبِأَنَّ حَفْصَةَ أَمَرَتْ بِقَتْل سَاحِرَةٍ سَحَرَتْهَا . وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ قَبْل مَوْتِهِ بِسَنَةٍ : أَنِ اقْتُلُوا كُل سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ ، وَقَتَل جُنْدُبُ بْنُ كَعْبٍ سَاحِرًا كَانَ يَسْحَرُ بَيْنَ يَدَيِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي عُقْبَةَ(3).
حُكْمُ السَّاحِرِ إِذَا قَتَل بِسِحْرِهِ :
__________
(1) - سنن الترمذى (1532 ) والصواب وقفه وإرساله
(2) - مسند أحمد (1679)ومصنف ابن أبي شيبة (235) - (ج 10 / ص 136)(29585) ومصنف ابن أبي شيبة (235) - (ج 12 / ص 244)(33320) وهو صحيح
(3) - كشاف القناع 6 / 187 ، والمغني 8 / 153 ، 154 ، وتيسير العزيز الحميد ص 342 ، ومطالب أولي النهى 6 / 304 ، 305 .(1/54)
16 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقَتْل بِالسِّحْرِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَمْدًا ، وَفِيهِ الْقِصَاصُ . وَيَثْبُتُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الإِْقْرَارِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ إِنْ قَتَل بِسِحْرِهِ مَنْ هُوَ مُكَافِئٌ لَهُ فَفِيهِ الْقِصَاصُ إِنْ تَعَمَّدَ قَتْلَهُ بِهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِ السَّاحِرِ بِهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا ، كَقَوْلِهِ : قَتَلْتُهُ بِسِحْرِي ، أَوْ قَوْلِهِ : قَتَلْتُهُ بِنَوْعِ كَذَا ، وَيَشْهَدُ عَدْلاَنِ يَعْرِفَانِ ذَلِكَ ، وَقَدْ كَانَا تَابَا ، بِأَنَّ ذَلِكَ النَّوْعَ يَقْتُل غَالِبًا . فَإِنْ كَانَ لاَ يَقْتُل غَالِبًا فَيَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ . فَإِنْ قَال : أَخْطَأْتُ مِنَ اسْمِ غَيْرِهِ إِلَى اسْمِهِ فَخَطَأٌ .
وَلاَ يَثْبُتُ الْقَتْل الْعَمْدُ بِالسِّحْرِ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِتَعَذُّرِ مُشَاهَدَةِ الشُّهُودِ قَصْدَ السَّاحِرِ وَتَأْثِيرَ سِحْرِهِ(1).
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ : يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ مِمَّنْ قَتَل بِسِحْرِهِ بِالسَّيْفِ وَلاَ يُسْتَوْفَى بِسِحْرٍ مِثْلِهِ ، أَيْ لأَِنَّ السِّحْرَ مُحَرَّمٌ ؛ وَلِعَدَمِ انْضِبَاطِهِ(2).
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ إِنْ قَتَل بِسِحْرِهِ أَحَدًا مِنْ أَهْل مِلَّتِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَل بِهِ .
تَعْزِيرُ السَّاحِرِ الَّذِي لَمْ يَسْتَحِقَّ الْقَتْل :
__________
(1) - نهاية المحتاج 7 / 379 ، 380 ، والقليوبي 4 / 179 ، وروضة الطالبين 9 / 347 ، والزرقاني 8 / 29 .
(2) - نهاية المحتاج 7 / 290 ، والقليوبي وشرح المنهاج 4 / 124 ، ومواهب الجليل للحطاب 6 / 256 ، والزرقاني 8 / 29 .(1/55)
17 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ السَّاحِرَ غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ لِلْقَتْل ، بِأَنْ لَمْ يَكُنْ سِحْرُهُ كُفْرًا وَلَمْ يَقْتُل بِسِحْرِهِ أَحَدًا ، إِذَا عَمِل بِسِحْرِهِ يُعَزَّرُ تَعْزِيرًا بَلِيغًا لِيَنْكَفَّ هُوَ وَمَنْ يَعْمَل مِثْل عَمَلِهِ ، وَلَكِنْ بِحَيْثُ لاَ يَبْلُغُ بِتَعْزِيرِهِ الْقَتْل عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاِرْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً . وَفِي قَوْلٍ لِلإِْمَامِ : تَعْزِيرُهُ بِالْقَتْل(1).
الإِْجَارَةُ عَلَى فِعْل السَّحَرِ أَوْ تَعْلِيمِهِ :
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِسْتِئْجَارَ لِعَمَل السِّحْرِ لاَ يَحِل إِنْ كَانَ ذَلِكَ النَّوْعُ مِنَ السِّحْرِ حَرَامًا - عَلَى الْخِلاَفِ الْمُتَقَدِّمِ بَيْنَهُمْ فِي حُكْمِهِ - وَلاَ تَصِحُّ الإِْجَارَةُ ، وَلاَ تَحِل إِعْطَاءُ الأُْجْرَةِ ، وَلاَ يَحِل لآِخِذِهَا أَخْذُهَا ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفْصِيلاَتِ :
__________
(1) - مطالب أولي النهى 6 / 304 ، ومغني المحتاج 2 / 183 .(1/56)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ سَاحِرًا لِيَعْمَل لَهُ عَمَلاً هُوَ سِحْرٌ فَالإِْجَارَةُ حَرَامٌ وَلاَ تَصِحُّ ، وَلاَ يُقْتَل الْمُسْتَأْجَرُ لأَِنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ لَيْسَ بِسِحْرٍ ، حَتَّى لَوْ قَتَل السَّاحِرُ بِسِحْرِهِ ذَاكَ أَحَدًا ، وَيُؤَدَّبُ الْمُسْتَأْجَرُ أَدَبًا شَدِيدًا ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مَنْ يَسْتَأْجِرُ لِحَل السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ ، فَأَجَازُوا ذَلِكَ - أَيْ عَلَى الْقَوْل بِجَوَازِ حَل السِّحْرِ - لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ الْعِلاَجِ(1)، وَكَذَا أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ الإِْجَارَةَ عَلَى إِزَالَةِ السِّحْرِ نَحْوَ مَا يَحْصُل لِلزَّوْجِ مِنَ الاِنْحِلاَل الْمُسَمَّى عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالرَّبْطِ . قَالُوا : وَالأُْجْرَةُ عَلَى مَنِ الْتَزَمَ الْعِوَضَ ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الرَّجُل نَفْسَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا أَوْ أَجْنَبِيًّا(2).
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا بِأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الاِسْتِئْجَارُ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ وَلاَ تُسْتَحَقُّ عَلَى تَعْلِيمِ السِّحْرِ أُجْرَةٌ(3)، وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ كُتُبِ السِّحْرِ وَيَجِبُ إِتْلاَفُهَا(4).
__________
(1) - الزرقاني 8 / 63 ، والمواق بهامش مواهب الجليل 6 / 280 ، وابن عابدين 5 / 57 .
(2) - الشبراملسي على نهاية المحتاج 5 / 268 و تحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 24 / ص 298) ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج - (ج 17 / ص 265) وحاشية البجيرمي على المنهج - (ج 10 / ص 173)
(3) - حاشية القليوبي على المنهاج 3 / 70 .
(4) - حاشية الشيخ عميرة على شرح المنهاج 2 / 158 .(1/57)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : لاَ تَصِحُّ الإِْجَارَةُ عَلَى السِّحْرِ إِنْ كَانَ مُحَرَّمًا ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُبَاحًا فَلاَ مَانِعَ مِنَ الاِسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ ، كَتَعْلِيمِ رُقًى عَرَبِيَّةً لِيَحِل بِهَا السِّحْرَ(1). وَلاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِكُتُبِ سِحْرٍ لأَِنَّهَا إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ آلَةَ سِحْرٍ(2). .
19-الفرقُ بين السحر والكرامة
هناك أناس التبس عليهم حال السحرة الكذابين والمشعوذين فتحيروا فيما يصدر من السحرة من خوارق العادات كالطيران في الهواء والمشي على الماء وقطع المسافة الطويلة في زمن قصير والإخبار عن الغيب فيقع الخبر كذلك، وشفاء المرضى فيظن هؤلاء الجهال أن هذا الساحر من أولياء الله وقد يؤول الأمر إلى أن يعبد من دون الله ويرجى منه النفع والضر والعياذ بالله، فظن بعض الناس أن خوارق العادات التي تجري من السحرة والعرافين كرامات من الله فالتبس عند الجهال حال أولياء الرحمن بحال أولياء الشيطان.
والشرع فرق بين أولياء الله وأولياء الشيطان، فأولياء الله عز وجل هم الحافظون لحدود الله المتمسكون بشرعه ظاهراً وباطناً، الممتثلون لأوامر الله المجتنبون لنواهيه، المحافظون على صلاة الجماعة قال الله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62-63].
__________
(1) - مطالب أولي النهى 3 / 604 .
(2) - مطالب أولي النهى 4 / 98 ، 483 .(1/58)
وليس من شرط الولاية لله تعالى أن يكون للولي كرامة بخرق العادات فإن أعظم الكرامة هي الاستقامة، وأما أولياء الشيطان فيظهر منهم خوارق عادات يظنها الجهال كرامات، وهي في الحقيقة أحوال شيطانية تخدمهم فيها الشياطين ليضلوا بها المفتونين, فلا تغتر بمن دخل النار وخرج سالماً أو طار في الهواء أو مشى على الماء أو أمسك بالثعابين، بل انظر إلى تمسكهم بالشرع تجدهم لا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا يسمعون القرآن بل يسمعون أغاني الزور ويغشون الفجور أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ [المجادلة:19]. واعتبر ذلك بالدجال الأكبر الذي يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرض انبتي فتنبت، ويحيي الموتى بإذن الله، وهو أخطر خلق الله.
20- الكهان والعرافون والمنجمون
وممن يدخل في ذم السحرة: الكهان والعرافون والمنجمون والذين يخطون في الرمل، وكل هؤلاء يدّعون علم الغيب، وهم كفرة خارجون عن الإسلام بادعائهم الغيب. قال الله تعالى: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاواتِ والأرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ [النمل:65]. ومن صدقهم في دعواهم فهو كافر بالله مشرك. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ وَمَنْ أَتَى امْرَأَةً فِى دُبُرِهَا وَمَنْ أَتَى امْرَأَةً حَائِضًا فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- »(1)..
21- الوقايةُ منَ السِّحرِ
إن الوقاية من السحر هو:
بكمال التوحيد والتوكل على الله تعالى، قال الله تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 7 / ص 198)(14504)وصحيح الجامع ( 5942)وهو حديث صحيح(1/59)
والوقاية من السحر بالدعاء والاستعاذة منه ،عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :" لاَ يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ ، وَإِنَّ الْبَلاءَ لَيَنْزِلُ فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ."(1)
ومن الوقاية من السحر التحصن بتلاوة القرآن وأنواع الذكر الصحيحة صباحاً ومساءً عَنْ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلاَّمٍ يَقُولُ حَدَّثَنِى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِىُّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلاَ تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ ». قَالَ مُعَاوِيَةُ بَلَغَنِى أَنَّ الْبَطَلَةَ السَّحَرَةُ(2). يعني السحرة لا يقدرون على ضرر من قرأها وحفظها.
__________
(1) - المستدرك للحاكم(1813)وصحيح الجامع (7739) والدعاطب (33)حسن
(2) - صحيح مسلم (1910 )
البطلة : السحرة = الصواف : جمع صافة وهى الباسطة أجنحتها فى الهواء =الغيايتان : مثنى غياية وهى السحابة =الفرقان : الجماعتان(1/60)
ومن الوقاية من السحر تحريق كتبه، وقتل الإمام للسحرة ورفع أمرهم إلى السلطان لكف شرهم وعظيم ضررهم عن الناس, وإذا وقع السحر بأحد فعلاجه بإحراق مادته التي انعقد بها السحر إذا عُثر عليها وعُلمت، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَهُودِىٌّ مِنْ يَهُودِ بَنِى زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ - قَالَتْ - حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّىْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ دَعَا ثُمَّ دَعَا ثُمَّ قَالَ :« يَا عَائِشَةُ أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِى فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ جَاءَنِى رَجُلاَنِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِى وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَىَّ. فَقَالَ الَّذِى عِنْدَ رَأْسِى لِلَّذِى عِنْدَ رِجْلَىَّ أَوِ الَّذِى عِنْدَ رِجْلَىَّ لِلَّذِى عِنْدَ رَأْسِى مَا وَجَعُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ. قَالَ مَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ. قَالَ فِى أَىِّ شَىْءٍ قَالَ فِى مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ. قَالَ وَجُبِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ. قَالَ فَأَيْنَ هُوَ ؟قَالَ فِى بِئْرِ ذِى أَرْوَانَ ».(1/61)
قَالَتْ فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ :« يَا عَائِشَةُ وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ». قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أَحْرَقْتَهُ قَالَ :« لاَ أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِى اللَّهُ وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا فَأَمَرْتُ بِهَا فَدُفِنَتْ » .(1)
وعلاج السحر بدوام الدعاء بالعافية منه عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طُبَّ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ قَدْ صَنَعَ الشَّىْءَ وَمَا صَنَعَهُ ، وَإِنَّهُ دَعَا رَبَّهُ ثُمَّ قَالَ « أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِى فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ » .(2)
وسحر النبي صلى الله عليه وسلم نوع من المرض لا يقدح في عصمته وتبليغه، ولم يتسلط على عقله ، ولكنه نوع من الأذى من الجن كما أوذي من الإنس فأظهره الله على أعدائه من الجن والإنس وعافاه ونصره وعافاه من هذا المرض، والله تبارك وتعالى جعل هذا ليكون فعل الرسول تشريعاً، وزيادةً في رفعة النبي صلى الله عليه وسلم وعظيم أجره.
ومما يعالج به السحر مداومة قراءة الفاتحة والمعوذات وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]. وآية الكرسي، فإنها تضعف سلطانه حتى يضمحل، وسواءً قرأ المسحور على نفسه أو قرأ عليه أحد الصالحين.
__________
(1) - صحيح مسلم (5832 ) .الجُب : وعاء طلع النخل = المطبوب : المسحور = المشاطة : ما يسقط من الشعر عند تسريحه = النقاعة : الماء الذى توضع فيه الحناء والمراد أنه متغير اللون
(2) - صحيح البخارى (6391 )(1/62)
ولا يحوز أن يحل السحر بسحر مثله لأن الله لم يجعل شفاء الأمة فيما حُرِّم عليها، ويجوز أن يتداوى المسحور من السحر بالعقاقير المباحة من الأعشاب ونحوها.(1)
=================
المبحثُ الرابع
الخلاصةُ في أحكام الإِلْهَامِ(2)
التَّعْرِيفُ :
1 - الإِْلْهَامُ لُغَةً : مَصْدَرُ أَلْهَمَ ، يُقَال : أَلْهَمَهُ اللَّهُ خَيْرًا أَيْ لَقَّنَهُ إِيَّاهُ ، وَالإِْلْهَامُ أَنْ يُلْقِيَ اللَّهُ فِي النَّفْسِ أَمْرًا يَبْعَثُ عَلَى الْفِعْل أَوِ التَّرْكِ ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْوَحْيِ يَخُصُّ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ .(3)
وَعِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ : إِيقَاعُ شَيْءٍ فِي الْقَلْبِ يَطْمَئِنُّ لَهُ الصَّدْرُ يَخُصُّ بِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ(4).
وَقَدْ عَدَّ الأُْصُولِيِّينَ الإِْلْهَامَ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْوَحْيِ إِلَى الأَْنْبِيَاءِ ، وَفِي كِتَابِ التَّقْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ عَنِ الإِْلْهَامِ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ : أَنَّهُ إِلْقَاءُ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ بِلاَ وَاسِطَةِ عِبَارَةِ الْمَلَكِ وَإِشَارَتِهِ مَقْرُونٍ بِخَلْقِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْهُ تَعَالَى(5).
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
أ - الْوَسْوَسَةُ :
2 - الْوَسْوَسَةُ : إِلْقَاءُ مَعْنًى فِي النَّفْسِ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبٍ نَشَأَ مِنَ الشَّيْطَانِ لَهُ(6).
ب - التَّحَرِّي :
__________
(1) - انظر موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1654) -علي بن عبد الرحمن الحذيفي -المدينة المنورة -28/12/1421
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 6 / ص 188)فما بعد
(3) - لسان العرب ، كشاف اصطلاحات الفنون : باب اللام فصل الميم
(4) - جمع الجوامع 2 / 356 ط الحلبي
(5) - التقرير والتحبير 3 / 295 ط بولاق الأولى
(6) - كشاف اصطلاحات الفنون ( لهم ) ، والعقائد النسفية وحواشيها ص 41 ط الحلبي(1/63)
3 - التَّحَرِّي فِيهِ بَذْل جَهْدٍ وَإِعْمَال فِكْرٍ ، أَمَّا الإِْلْهَامُ فَيَقَعُ بِلاَ كَسْبٍ .(1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ :
4 - يَتَّفِقُ الأُْصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّ الإِْلْهَامَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لأَِنْبِيَائِهِ حَقٌّ ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ ، كَذَلِكَ هُوَ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ ، وَيَكْفُرُ مُنْكِرُ حَقِيقَتِهِ ، وَيَفْسُقُ تَارِكُ الْعَمَل بِهِ كَالْقُرْآنِ .(2)
أَمَّا إِلْهَامُ غَيْرِ الأَْنْبِيَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، لأَِنَّ مَنْ لَيْسَ مَعْصُومًا لاَ ثِقَةَ بِخَوَاطِرِهِ لأَِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ مِنْ دَسِيسَةِ الشَّيْطَانِ فِيهَا ، وَهُوَ قَوْل جُمْهُورِ أَهْل الْعِلْمِ ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَلاَ عِبْرَةَ بِمَا قَالَهُ قَوْمٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الأَْحْكَامِ .
وَقِيل : هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُلْهَمِ لاَ عَلَى غَيْرِهِ ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَارِضٌ مِنْ نَصٍّ أَوِ اجْتِهَادٍ أَوْ خَاطِرٍ آخَرَ ، وَهَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ ، فَيَجِبُ الْعَمَل بِهِ فِي حَقِّ الْمُلْهَمِ ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ إِلَيْهِ .
وَاعْتَمَدَهُ الإِْمَامُ الرَّازِيُّ فِي أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ .(3)
وَهَل هُوَ فِي حَقِّ الأَْنْبِيَاءِ مِنَ الْوَحْيِ الظَّاهِرِ أَمِ الْوَحْيِ الْبَاطِنِ ؟ خِلاَفٌ بَيْنَ الأُْصُولِيِّينَ .(4)
__________
(1) - ابن عابدين 1 / 290 ط بولاق الأولى ، البحر الرائق 1 / 302 ط العلمية
(2) - جمع الجوامع 2 / 356
(3) - جمع الجوامع 2 / 356 ، والتقرير والتحبير 3 / 295 ،296
(4) - التقرير والتحبير 3 / 396، مسلم الثبوت 2 / 370
وفي الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي - (ج 1 / ص 754)
مطلب في أن الإلهام ليس بحجة على ما هو الأرجح عند الفقهاء
واختلف العلماء في حجية الإلهام بقيده السابق فالأرجح عند الفقهاء أنه ليس بحجة إذ لا ثقة بخواطر غير المعصوم ، وعند الصوفية أنه حجة ممن حفظه الله من سائر أعماله الظاهرة والباطنة ، والأولياء وإن لم يكن لهم العصمة لجواز وقوع الذنب منهم ولا ينافيه الولاية ، ومن ثم قيل للجنيد أيزني الولي ؟ فقال وكان أمر الله قدرا مقدورا ،لكن لهم الحفظ فلا تقع منهم كبيرة ولا صغيرة غالبا ، وعلى القول بحجيته فهو ينسب إلى الله تعالى بمعنى أنه الملقى له في القلب كرامة لذلك الولي وإنعاما عليه بما يكون سببا للمزيد له أو صلاحا لغيره .(1/64)
وقال ابن رجب رحمه الله(1):"وقد ذكر طوائفُ مِن فقهاءِ الشافعيَّة والحنفية المتكلمين في أصول الفقه مسألة الإلهام : هل هو حجَّةٌ أم لا ؟ وذكروا فيه اختلافاً بينهم ، وذكر طائفةٌ من أصحابنا أنَّ الكشفَ ليس بطريق للأحكام ، وأخذه القاضي أبو يعلى من كلام أحمد في ذمِّ المتكلِّمين في الوساوس والخطرات ، وخالفهم طائفةٌ من أصحابنا في ذلك ، وقد ذكرنا نصَّ أحمد هاهنا بالرُّجوع إلى حوازِّ القلوب ، وإنَّما ذمَّ أحمدُ وغيرُه المتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية حيث كان كلامُهم في ذلك لا يستندُ إلى دليلٍ شرعيٍّ ، بل إلى مجرَّد رأي وذوقٍ ، كما كان ينكرُ الكلامَ في مسائلِ الحلال والحرام بمجرَّدِ الرَّأي من غير دليلٍ شرعيٍّ .
فأمَّا الرُّجوع إلى الأمور المشتبهة إلى حوازِّ القلوب ، فقد دلَّت عليه النُّصوص النبوية ، وفتاوى الصحابة ، فكيف يُنكره الإمام أحمد بعدَ ذلك ؟ لا سيَّما وقد نصَّ على الرُّجوع إليه موافقةً لهم .
__________
(1) - جامع العلوم والحكم محقق - (ج 29 / ص 16)(1/65)
وقال الزركشي(1):" دَلَالَةُ الْإِلْهَامِ ذَكَرَهَا بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ وَقَالَ : مَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ فَهُوَ إلْهَامٌ ، أَوْ الشَّرِّ فَهُوَ وَسْوَاسٌ ،وَقَالَ بِهَا بَعْضُ الشِّيعَةِ فِيمَا حَكَاهُ صَاحِبُ اللُّبَابِ " قَالَ الْقَفَّالُ : وَلَوْ ثَبَتَتْ الْعُلُومُ بِالْإِلْهَامِ لَمْ يَكُنْ لِلنَّظَرِ مَعْنًى ، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ دَلَالَةٌ وَلَا عِبْرَةٌ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (53) سورة فصلت، فَلَوْ كَانَتْ الْمَعَارِفُ إلْهَامًا لَمْ يَكُنْ لِإِرَادَةِ الْأَمَارَاتِ وَجْهٌ، قَالَ : وَيُسْأَلُ الْقَائِلُ بِهَذَا عَنْ دَلِيلِهِ ، فَإِنِ احْتَجَّ بِغَيْرِ الْإِلْهَامِ فَقَدْ نَاقَضَ قَوْلَهُ ، وَإِنْ احْتَجَّ بِهِ أَبْطَلَ بِمِنِ ادَّعَى إلْهَامًا فِي إبْطَالِ الْإِلْهَامِ .
__________
(1) - البحر المحيط - (ج 7 / ص 384)فما بعدها(1/66)
وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ فِي حُجِّيَّةِ الْإِلْهَامِ خِلَافًا ، وَفَرَّعَا عَلَيْهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ هَلْ يَجُوزُ انْعِقَادُهُ لَا عَنْ دَلِيلٍ ؟ فَإِنْ قُلْنَا : لَمْ يَصِحَّ جَعْلُهُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا جَوَّزْنَا الِانْعِقَادَ لَا عَنْ دَلِيلٍ ، وَإِلَّا فَلَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْقَائِلُ بِانْعِقَادِهِ لَا عَنْ دَلِيلٍ هُوَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْإِلْهَامَ دَلِيلًا، قُلْت : وَقَدْ اخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ اعْتِمَادَ الْإِلْهَامِ ، مِنْهُمْ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِهِ " فِي أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ ، وَابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ " فَقَالَ : إلْهَامُ خَاطِرٍ حَقٌّ مِنْ الْحَقِّ ، قَالَ : وَمِنْ عَلَامَاتِهِ أَنْ يُشْرَحَ لَهُ الصَّدْرُ وَلَا يُعَارِضَهُ مُعَارِضٌ مِنْ خَاطِرٍ آخَرَ.(1/67)
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ " : ذَهَبَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْمَعَارِفَ تَقَعُ اضْطِرَارًا لِلْعِبَادِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامِ بِحُكْمِ وَعْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِشَرْطِ التَّقْوَى ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (29) سورة الأنفال، أَيْ تُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (2) سورة الطلاق ،أَيْ مَخْرَجًا عَلَى كُلِّ مَا الْتَبَسَ عَلَى النَّاسِ وَجْهُ الْحُكْمِ فِيهِ ، { ..(1/68)
وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (282) سورة البقرة ،فَهَذِهِ الْعُلُومُ الدِّينِيَّةُ تَحْصُلُ لِلْعِبَادِ إذَا زَكَتْ أَنْفُسُهُمْ وَسَلِمَتْ قُلُوبُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى ، بِتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ وَامْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ ، إذْ خَبَرُهُ صِدْقٌ ، وَوَعْدُهُ حَقٌّ ، فَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ بَعْدَ الْقَلْبِ لِحُصُولِ الْمُعَارَضَةِ فِيهِ بِطَرِيقِ الْإِلْهَامِ بِحُكْمِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ كَإِعْدَادِهِ بِإِحْضَارِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فِيهِ مَعَ التَّفَطُّنِ لِوُجُوهِ لُزُومِ النَّتِيجَةِ عَقِيبَ النَّظَرِ لِقُدْرَةِ اللَّهِ اضْطِرَارًا ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ فِيهِ وَأَمَّا حُصُولُ هَذِهِ الْمَعَارِفِ عَلَى سَبِيلِ إلْهَامِ الْمُبْتَدَأِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ يَكُونُ مِنْ الْعَبْدِ ، فَأَحَدُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الْعَقْلِ وَيَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ مَدَارَكَ الْعُلُومِ الْإِلْهَامُ يَحْتَاجُ إلَى هَذَا التَّفْصِيلِ ، وَهُوَ غَلَطٌ فِي الْحَصْرِ إذْ لَيْسَ هُوَ جَمِيعُ الْمَدَارِكِ ، بَلْ مُدْرَكٌ وَاحِدٌ عَلَى مَا بَيِّنَاهُ وَتَأَوَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَوْلَهُمْ ، وَقَالَ : يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدُوا أَنَّ الْعُلُومَ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ مُخْتَرَعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ،وَقَالَ الْإِمَامُ شِهَابُ الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ أَمَالِيهِ مُحْتَجًّا عَلَى الْإِلْهَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (7) سورة القصص ،وَقَوْلِهِ : {وَأَوْحَى(1/69)
رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (68) سورة النحل ،فَهَذَا الْوَحْيُ مَجْرَدُ الْإِلْهَامِ ، ثُمَّ إنَّ مِنَ الْإِلْهَامِ عُلُومًا تَحْدُثُ فِي النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ الْمُطْمَئِنَّةِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : « إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِى أُمَّتِى هَذِهِ مِنْهُمْ ، فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ »(1). وَقَالَ تَعَالَى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) }(2)[الشمس/7، 8].
__________
(1) - صحيح البخارى(3469 )
(2) - ثُمَّ أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى بِالنَّفْسِ وَخَلْقِهَا سَوِيَّةً عَلَى الفِطْرَةِ القَوِيمَةِ .
فَبَيَّنَ لِلنَّفْسِ الخَيْرَ وَالشَّرَ ، وَأَعْطَاهَا القُدْرَةَ عَلى التَّمِيِيزِ بَيْنَهُمَا ، والقُدْرَةَ عَلَى الاخْتِيَارِ .(1/70)
فَأَخْبَرَ أَنَّ النُّفُوسَ مُلْهَمَةٌ ، فَالنَّفْسُ الْمُلْهَمَةُ عُلُومٌ لَدُنِّيَّةٌ هِيَ الَّتِي تَبَدَّلَتْ صِفَتُهَا وَاطْمَأَنَّتْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ أَمَّارَةً، قَالَ: وَهَذَا النَّوْعُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ مِنْ عَالِمِ الْمُلْكِ وَالشَّهَادَةِ ، بَلْ تَخْتَصُّ فَائِدَتُهُ بِصَاحِبِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، إذْ لَمْ تَكُنْ لَهُ ثَمَرَةُ السِّرَايَةِ إلَى الْغَيْرِ عَلَى طَرِيقِ الْعُمُومِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ فَائِدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِبَارِ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ ، قَالَ : وَإِنَّمَا لَمْ تَكُنْ لَهُ السِّرَايَةُ إلَى الْغَيْرِ عَلَى طَرِيقِ الْعُمُومِ عَنْ مَفَاتِيحِ الْمُلْكِ لِكَوْنِ مَحَلِّهَا النَّفْسَ ، وَقُرْبِهَا مِنَ الْأَرْضِ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيُّ ، بِخِلَافِ الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى ، وَهُوَ الْوَحْيُ الَّذِي قَامَ [ بِنَقْلِهِ ] الْمَلَكُ الْمُلَقَّى ، لِأَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ الْمُجَانِسُ لِلرُّوحِ الرُّوحَانِيِّ الْعُلْوِيِّ، قَالَ : وَبَيْنَهُمَا ثَالِثَةٌ وَهِيَ النَّفْثُ فِي الرَّوْعِ يَزْدَادُ بِهَا الْقَلْبُ عِلْمًا بِاَللَّهِ وَبِإِدْرَاكِ الْمُغَيَّبَاتِ ، وَهِيَ رَحْمَةٌ خَاصَّةٌ تَكُونُ لِلْأَوْلِيَاءِ فِيهَا نَصِيبٌ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بَعْثًا فِي حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَّصِلُ بِرُوحِ الْقُدْسِ ، وَتَرِدُ عَلَيْهِ كَمَوْجَةٍ تَرِدُ عَلَى الْبَحْرِ ، فَيَكْشِفُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلُ عَقِبَ وُرُودِهَا عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَتَصِيرُ الرَّحْمَةُ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ وَاصِلَةً إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْثٍ فِي رَوْعِهِ .انْتَهَى .(1/71)
وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِى مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَرُ »(1).
__________
(1) - صحيح البخارى (3689 )(1/72)
قَالَ ابْنُ وُهَيْبٍ : يَعْنِي مُلْهَمُونَ وَلِهَذَا ،قَالَ صَاحِبُ نِهَايَةِ الْغَرِيبِ " : جَاءَ فِي الْحَدِيثِ تَفْسِيرُهُ أَنَّهُمْ الْمُلْهَمُونَ ، وَالْمُلْهَمُ هُوَ الَّذِي يُلْقَى فِي نَفْسِهِ الشَّيْءُ فَيُخْبِرُ بِهِ حَدْسًا وَفِرَاسَةً ، وَهُوَ نَوْعٌ يَخُصُّ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، كَأَنَّهُمْ حُدِّثُوا بِشَيْءٍ فَقَالُوهُ،وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « اسْتَفْتِ نَفْسَكَ ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ - ثَلاَثاً - الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِى النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِى الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ »(1).
__________
(1) - سنن الدارمى (2588) صحيح(1/73)
فَذَلِكَ فِي الْوَاقِعَةِ الَّتِي تَتَعَارَضُ فِيهَا الشُّبَهُ وَالرِّيَبُ، قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَاسْتِفْتَاءُ الْقَلْبِ إنَّمَا هُوَ حَيْثُ أَبَاحَ الشَّيْءَ ، أَمَّا حَيْثُ حُرِّمَ فَيَجِبُ الِامْتِنَاعُ ، ثُمَّ لَا يُعَوَّلُ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ ، فَرُبَّ مُوَسْوَسٍ يَنْفِي كُلَّ شَيْءٍ ، وَرُبَّ مُسَاهِلٍ نَظَرَ إلَى كُلِّ شَيْءٍ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَذَيْنِ الْقَلْبَيْنِ ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِقَلْبِ الْعَالِمِ الْمُوَفَّقِ الْمُرَاقِبِ لِدَقَائِقِ الْأَحْوَالِ ، فَهُوَ الْمِحَكُّ الَّذِي تُمْتَحَنُ بِهِ حَقَائِقُ الصُّوَرِ ، وَمَا أَعَزَّ هَذَا الْقَلْبَ ،وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ(1)" : هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يُعْرَفُ فِي شَأْنِهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ مَا عَسَى يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوْ يُحَدِّثُ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ : « قَدْ كَانَ يَكُونُ فِى الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُ فِى أُمَّتِى أَحَدٌ فَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ». وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : يَعْنِي يُلْقَى فِي رَوْعِهِ "
تَنْبِيهٌ: لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، وَإِلَّا فَمِنْ جُمْلَةِ طُرُقِ الْوَحْيِ الْإِلْهَامُ .
__________
(1) - شعب الإيمان للبيهقي(5494 )(1/74)
الْهَاتِفُ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ مِثْلُ الَّذِي سَمِعُوهُ يَأْمُرُ بِغُسْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَمِيصِهِ كَذَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْمُسَوَّدَةِ " فِي ذَيْلِ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا قَالَ : لَكِنَّهُ مِنْ بَابِ الْفَضَائِلِ وَكَذَلِكَ مَا اسْتَخَارَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ، كَقَوْلِ الْعَبَّاسِ فِي حَدْوِ الصَّارِخِ : اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّك(1)، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْقُرْعَةِ فَعَلَهُ تَكْرِيمًا لَهُ قُلْت : وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا كِتَابًا فِي الْهَوَاتِفِ ، وَصَدَّرَهُ بِحَدِيثِ { هَتَفَ جِبْرِيلُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ(2)}."(3)
وقال الشوكاني(4): " دلالة الإلهام ذكرها بعض الصوفية، وحكى الماوردي والروياني، في "باب"القضاء في حجية الإلهام خلافًا وفرعًا عليه أن الإجماع هل يجوز انعقاده لا عن دليل "فإن قلنا: يصح جعله دليلا شرعيا جوزنا الانعقاد لا عن دليل" وإلا فلا.
__________
(1) - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلاَنِ يَحْفِرَانِ الْقُبُورَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ يَحْفِرُ لأَهْلِ مَكَّةَ وَأَبُو طَلْحَةَ يَحْفِرُ لِلأَنْصَارِ وَيَلْحَدُ لَهُمْ - قَالَ - فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ الْعَبَّاسُ رَجُلَيْنِ إِلَيْهِمَا فَقَالَ اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّكَ. فَوَجَدُوا أَبَا طَلْحَةَ وَلَم يَجِدُوا أَبَا عُبَيْدَةَ فَحَفَرَ لَهُ وَلَحَدَ. مسند أحمد (2713) وهو صحيح لغيره
(2) - لم أجده
(3) - انظر حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 5 / ص 380)
(4) - إرشاد الفحول - (ج 2 / ص 199)(1/75)
قال الزركشي في "البحر": وقد اختار جماعة من المتأخرين اعتماد الإلهام، منهم في "تفسيره" في أدلة القبلة، وابن الصلاح في "فتاويه"(1)، فقال: إلهام خاطر الحق من الحق. قال: ومن علامته أن ينشرح له الصدر، ولا يعارضه معارض "من خاطر آخر".
قال أبو علي التميمي في كتاب "التذكرة في أصول الدين"(2): ذهب بعض الصوفية إلى أن المعارف تقع اضطرارًا للعباد على سبيل الإلهام، بحكم وعد الله سبحانه وتعالى، بشرط التقوى، واحتج بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}(3)أي: ما تفرقون به بين الحق والباطل، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }(4)أي: عن كل ما يلتبس على غيره وجه الحكم فيه وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}(5).
فهذه العلوم الدينية تحصل للعباد إذا زكت أنفسهم، وسلمت قلوبهم لله تعالى، بترك المنهيات وامتثال المأمورات؛ "إذ" وخبره صدق ووعده حق.
__________
(1) - واسمها "فتاوى ابن الصلاح، لأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشافعي، وهي من محاسنه، جمعها بعض طلبته، وهو الكمال إسحاق المعزي، وهي في مجلد كثير الفوائد نسخة منها مرتبة على الأبواب ونسخة غير مرتبة ا. هـ كشف الظنون 2/ 1218.
(2) - التذكرة في أصول الدين - للشيخ أبى طاهرأسماعيل بن مكى بنإسماعيل بن عوف المالكى الاسكندرانى المتوفى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.حاجي خليفة [ 393 ]
(3) - جزء من الآية 29 من سورة الأنفال
(4) - جزء من الآية 22 من سورة الطلاق.
(5) - جزء من الآية 282 من سورة البقرة.(1/76)
واحتج شهاب الدين السهروردي(1)على الإلهام بقوله تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ}(2)وبقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}(3)فهذا الوحي هو مجرد الإلهام.
ثم إن من "الإلهام"علوما تحدث في النفوس الزكية المطمئنة، عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ « قَدْ كَانَ يَكُونُ فِى الأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِى أُمَّتِى مِنْهُمْ أَحَدٌ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهُمْ ». قَالَ ابْنُ وَهْبٍ تَفْسِيرُ مُحَدَّثُونَ مُلْهَمُونَ.(4)وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}(5)فأخبر أن النفوس ملهمة.
__________
(1) - هو عمر بن محمد بن عبد الله التيمي القرشي، البكري السهروردي، الشيخ الإمام العالم القدوة، العارف، المحدث، شيخ الإسلام، شهاب الدين، ولد سنة ثلاثين وخمسمائة هـ وتوفي سنة اثنتنين وثلاثين وستمائة هي، صنف في التصوف كتابا فيه أحوال القوم ا. هـ سير أعلام النبلاء 22/ 375 شذرات الذهب 5/ 153.
(2) - جزء من الآية 7 من سورة القصص.
(3) - جزء من الآية 68 من سورة النحل.
(4) - صحيح مسلم (6357 )
المحدث : الصادق الظن الملهم الذى يلقَى فى نفسه الشىء فيخبر به فراسة
(5) - الآيتان 7-8 من سورة الشمس.(1/77)
قلت: وهذا الحديث الذي ذكره هو ثابت في الصحيح بمعناه، قال ابن وهب(1)في تفسير الحديث: أي: ملهمون، ولهذا قال صاحب "نهاية الغريب"(2): جاء في الحديث تفسيره أنهم الملهمون، والملهم: هو الذي يلقى في نفسه الشيء، فيخبر به حدسا وفراسة، وهو نوع يخص به الله من يشاء من عباده، كأنهم حدثوا بشيء فقالوه.
وأما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "استفت قلبك، وإن أفتاك الناس"(3)فذلك في الواقعة التي تتعارض فيها الأدلة.
قال الغزالي: واستفتاء القلب إنما هو حيث أباح المفتي، أما حيث حرم فيجب الامتناع، ثم لا نقول على كل قلب، فرب قلب موسوس ينفي كل شيء، ورب قلب متساهل يطير إلى كل شيء، فلا اعتبار بهذين القلبين، وإنما الاعتبار بقلب العالم الموفق لدقائق الأحوال، فهو المحك الذي يمتحن به حقائق الأمور، وما أعز هذا القلب.
__________
(1) - هو عبد الله بن وهب بن مسلم، الفقه، المصري، أبو محمد ولد سنة خمس وعشرين ومائة هـ، وتوفي سنة سبع وتسعين ومائة هـ، كان صاحبًا للإمام مالك، جمع بين الفقه والحديث والعبادة، من آثاره: "الجامع، الموطأ" وغيرها ا. هـ سير أعلام النبلاء 14/ 400 الأعلام 4/ 144 شذرات الذهب 2/ 252.
(2) - واسمه "النهاية في غريب الحديث" للإمام مبارك بن أبي الكرم محمد المعروف بابن الأثير، أخذه من الغريبين للهروي وغريب الحديث لأبي موسى الأصبهاني ورتبه على حروف المعجم بالتزام الأول والثاني من كل كلمة واتباعهما بالثالث. وهو مطبوع، انظر: كشف الظنون 2/ 1989.
(3) - مر تخريجه(1/78)
قال البيهقي في "شعب الإيمان"(1): هذا محمول على أنه يعرف في منامه من عالم الغيب ما عسى يحتاج إليه، أو يحدث على لسان ملك بشيء من ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « قد كان يكون في الأمم محدثون ، فإن يكن في أمتي منهم أحد كان عمر بن الخطاب منهم »(2).
وقد روي عن إبراهيم بن سعد(3)أنه قال في هذا الحديث يعني: يلقي في روعه.
قال القفال: لو تثبت العلوم بالإلهام لم "يكن" للنظر معنى، ونسأل القائل بهذا عن دليله، فإن احتج بغير الإلهام "فقد ناقض قوله. انتهى.
ويجاب عن هذا الكلام: بأن مدعي الإلهام لا يحصر الأدلة في الإلهام، حتى يكون استدلاله بغير الإلهام مناقضا لقوله، نعم إن استدل على إثبات الإلهام بالإلهام، كان في ذلك مصادرة على المطلوب؛ لأنه استدل على محل النزاع بمحل النزاع.
ثم على تقدير الاستدلال لثبوت الإلهام بمثل ما تقدم من الأدلة، من أين لنا أن دعوى هذا الفرد لحصول الإلهام له صحيحة، وما الدليل على أن قلبه من القلوب التي ليست بموسوسة ولا بمتساهلة.
6- في هذه الأمة مُلهمونَ(4)
__________
(1) - الجامع المصنف في شعب الإيمان". للإمام أحمد بن الحسين البيهقي، كتاب كبير من الكتب المشهور، وله مختصرات منها مختصر شمس الدين القونوي ا. هـ كشف الظنون "1/ 574.
(2) - مر تخريجه
(3) - هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، الإمام الكبير، الحافظ، أبو إسحاق القرشي، الزهري، العوفي، المدني، ولد سنة ثمان ومائة هـ، سمع من الزهري وهو حدث واختلف في سنة وفاته فقيل سنة أربع وثمانين ومائة هـ وقيل خمس وقيل سبع وغير ذلك ا. هـ سير أعلام النبلاء 8/ 304 تهذيب التهذيب 1/ 121 الأعلام 1/ 40.
(4) - انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 2289) -رقم الفتوى 5416 في هذه الأمة ملهمون ، والمدار على الصلاح والاستقامة.
تاريخ الفتوى : 16 صفر 1420(1/79)
إن بعض الناس يطلعهم الله عز وجل على شيء من الغيب عن طريق الرؤيا الصالحة أو الإلهام والتحديث، كماروي عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ ». " رواه مسلم(1)، وهو عند البخاري عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: « الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ » .(2)
__________
(1) - صحيح مسلم (6053 )
(2) - صحيح البخارى(6989 )
وفي المنتقى - شرح الموطأ - (ج 4 / ص 384)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ يَحْتَمِلُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يُرِيدَ بِهِ الصَّادِقَةَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمُبَشِّرَةَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مِنْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ وَصَفَهَا بِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ لِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ الْإِنْبَاءِ بِمَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ وَيَكُونُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ قَالَ : جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلرُّؤْيَا مَلَكًا وُكِّلَ بِهَا يَرَى الرَّائِي مِنْ ذَلِكَ مَا فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا يَكُونُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ قِيلَ مَعْنَى هَذِهِ التَّجْزِئَةِ أَنَّ مُدَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كَانَتْ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ كَانَتْ نُبُوَّتُهُ بِالرُّؤْيَا وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ مِنْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ وَقِيلَ إنَّهَا جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ . وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قَالَ : الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ وَمِثْلُهُ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا مِنْ الرُّوَاةِ وَحَدِيثُ أَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَثْبَتُ مِنْ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجْتَمِعَ بَيْنَهُمَا فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا عَلَى الرُّؤْيَا الْجَلِيَّةِ وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا عَلَى الرُّؤْيَا الْخَفِيَّةِ وَقَالَ : مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ رُؤْيَا الْفَاسِقِ وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ فَخَصَّ بِذَلِكَ رُؤْيَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وَيَحْتَمِلُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْجُزْءَ مِنْ السِّتَّةِ وَالْأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ هِيَ الرُّؤْيَا الْمُبَشِّرَةُ عَلَى مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَطَاءٍ بَعْدَ هَذَا لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِ هَذَا الصِّنْفِ مِنْ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْذَارِ وَالزَّجْرِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَنْوَاعِ يَكُونُ جُزْءًا مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ لِقِلَّةِ تَكَرُّرِهِ وَلِمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِهِ مِنْ قِبَلِ الشَّيْطَانِ تَحْزِينًا وَتَخْوِيفًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .(1/80)
وفي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ ، وَالْحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا ، فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ »(1).
والرؤيا الصالحة بشرى خير للمسلم، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ .. »(2).
وأما الإلهام والتحديث فهو واقع في الأمم السابقة ويقع أيضا في هذه الأمة، وقد اختلف في معناه على أقوال فقيل: هو الإصابة بغير نبوة، وقيل المحدَّث هو الملهم بالصواب الذي يُلْقَى على فيه. وقيل غير ذلك، والأصل في إثبات الإلهام والتحديث ما ورد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِى أُمَّتِى هَذِهِ مِنْهُمْ ، فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ».(3)
وربما أطلق العلماء على هذا النوع من العلم بالمغيبات الكشف، ومدار الأمر على استقامة الحال وسلامة المعتقَد، فإنَّ جنس هذا العلم يحصل للبرِّ والفاجرِ، والمسلم والكافر، والمحدَّث والكاهن.
وكما قال السلف: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء أو يطير في الهواء، فلا تغتروا بعمله، حتى يعرض على الكتاب والسنة.
__________
(1) - صحيح البخارى (3292 ) ومسلم (6039 )
(2) - صحيح مسلم (1102 ) = قمن : خليق وجدير
(3) - صحيح البخارى (3469 )(1/81)
ووجود الكرامة والولاية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمر مقطوع به، لكن من الخطأ البين أن يعطى أحد من الناس شيئاً من التقديس والتعظيم لأجل صلاحه واستقامته .
وعليه فقد يلقي الشيطان بعض الأمور الغيبية على لسان شخص ما، ليفتتن به الناس، لا سيما إذا كانوا جهالا مولعين بالخرافات ، يثبتون الولاية والكرامة بأوهى سبب. فالحذر الحذر من مكر الشيطان وحيله.
================
المبحثُ الخامس
الخلاصة في أحكامِ الرُؤْيَا(1)
التَّعْرِيفُ :
1 - الرُّؤْيَا عَلَى وَزْنِ فُعْلَى مَا يَرَاهُ الإِْنْسَانُ فِي مَنَامِهِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لأَِلِفِ التَّأْنِيثِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ ، وَتُجْمَعُ عَلَى رُؤًى .
وَأَمَّا الرُّؤْيَةُ بِالْهَاءِ فَهِيَ رُؤْيَةُ الْعَيْنِ وَمُعَايَنَتُهَا لِلشَّيْءِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ ، وَتَأْتِي أَيْضًا بِمَعْنَى الْعِلْمِ كَمَا فِي الصِّحَاحِ وَاللِّسَانِ ، فَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى النَّظَرِ بِالْعَيْنِ فَإِنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ ، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْعِلْمِ فَإِنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ(2).
وَالرُّؤْيَا فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ تَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
أ - الإِْلْهَامُ :
2 - الإِْلْهَامُ فِي اللُّغَةِ : تَلْقِينُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخَيْرَ لِعَبْدِهِ ، أَوْ إِلْقَاؤُهُ فِي رُوعِهِ(3).
وَفِي الاِصْطِلاَحِ : إِيقَاعُ شَيْءٍ يَطْمَئِنُّ لَهُ الصَّدْرُ يَخُصُّ بِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ(4).
__________
(1) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 22 / ص 7-15)
(2) - المصباح، والقاموس مادة : ( روى ) ، الصحاح واللسان ، مادة : ( رأى ) ، والكليات 2 / 384 ط - دمشق .
(3) - القاموس ، واللسان ، والصحاح، مادة : ( لهم ) .
(4) - كشاف اصطلاحات الفنون .(1/82)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ : ( إِلْهَامٌ ) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرُّؤْيَا وَالإِْلْهَامِ أَنَّ الإِْلْهَامَ يَكُونُ فِي الْيَقَظَةِ ، بِخِلاَفِ الرُّؤْيَا فَإِنَّهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ فِي النَّوْمِ .
ب - الْحُلُمُ :
3 - الْحُلُمُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ اللاَّمِ وَقَدْ تُسَكَّنُ تَخْفِيفًا هُوَ الرُّؤْيَا ، أَوْ هُوَ اسْمٌ لِلاِحْتِلاَمِ وَهُوَ الْجِمَاعُ فِي النَّوْمِ(1). وَالْحُلُمُ وَالرُّؤْيَا وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَحْدُثُ فِي النَّوْمِ إِلاَّ أَنَّ الرُّؤْيَا اسْمٌ لِلْمَحْبُوبِ فَلِذَلِكَ تُضَافُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَالْحُلُمُ اسْمٌ لِلْمَكْرُوهِ فَيُضَافُ إِلَى الشَّيْطَانِ ولما وردَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ ، وَالْحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا ، فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ »(2)، وَقَال عِيسَى بْنُ دِينَارٍ : الرُّؤْيَا رُؤْيَةُ مَا يُتَأَوَّل عَلَى الْخَيْرِ وَالأَْمْرِ الَّذِي يُسَرُّ بِهِ ، وَالْحُلُمُ هُوَ الأَْمْرُ الْفَظِيعُ الْمَجْهُول يُرِيهِ الشَّيْطَانُ لِلْمُؤْمِنِ لِيُحْزِنَهُ وَلِيُكَدِّرَ عَيْشَهُ(3).ج - الْخَاطِرُ :
__________
(1) - القاموس المحيط ، مادة : ( حلم ) ، صحيح مسلم بشرح النووي 15 / 16 ط - المصرية، تفسير القرطبي 9 / 124 ط - المصرية .
(2) - صحيح البخارى (3292) ومسلم (6037 )
(3) - المنتقى 7 / 277 ط - العربي .(1/83)
4 - الْخَاطِرُ هُوَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَرَاتِبِ حَدِيثِ النَّفْسِ ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ مَا يَخْطِرُ فِي الْقَلْبِ مِنْ تَدْبِيرِ أَمْرٍ ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ مَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنَ الْخِطَابِ أَوِ الْوَارِدُ الَّذِي لاَ عَمَل لِلْعَبْدِ فِيهِ ، وَالْخَاطِرُ غَالِبًا يَكُونُ فِي الْيَقَظَةِ بِخِلاَفِ الرُّؤْيَا(1).
د - الْوَحْيُ :
5 - مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ كَمَا قَال ابْنُ فَارِسٍ الإِْشَارَةُ وَالرِّسَالَةُ وَالْكِتَابَةُ وَكُل مَا أَلْقَيْتَهُ إِلَى غَيْرِك لِيَعْلَمَهُ ، وَهُوَ مَصْدَرُ وَحَى إِلَيْهِ يَحِي مِنْ بَابِ وَعَدَ ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ بِالأَْلِفِ مِثْلُهُ ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَال الْوَحْيِ فِيمَا يُلْقَى إِلَى الأَْنْبِيَاءِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى(2). فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّؤْيَا وَاضِحٌ ، وَرُؤْيَا الأَْنْبِيَاءِ وَحْيٌ ، وَفِي الْحَدِيثِ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِى النَّوْمِ ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ(3).
__________
(1) - المصباح مادة : ( مطر ) ، والمنثور للزركشي 2 / 33 ط - الأولى، والتعريفات للجرجاني / 129 ط - العربي، والكليات 2 / 309 ط - دمشق .
(2) - المصباح مادة : ( وحي ) .
(3) - البخاري ( 6982) ومسلم (422)
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 287)
قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء : إِنَّمَا اُبْتُدِئَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّؤْيَا لِئَلَّا يَفْجَأهُ الْمَلَك وَيَأْتِيه صَرِيح النُّبُوَّة بَغْتَة فَلَا يَحْتَمِلهَا قُوَى الْبَشَرِيَّة فَبُدِئَ بِأَوَّلِ خِصَال النُّبُوَّة وَتَبَاشِير الْكَرَامَة مِنْ صِدْق الرُّؤْيَا وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر مِنْ رُؤْيَة الضَّوْء وَسَمَاع الصَّوْت وَسَلَام الْحَجَر وَالشَّجَر عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ .(1/84)
الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ وَمَنْزِلَتُهَا(1):
__________
(1) - الرؤيا فهي على ثلاثة أضرب : الرؤيا الصالحة وهي ما يراه الشخص الصالح في منامه من المبشرات ، وهي من إكرام الله لعباده الصالحين ، وحديث النفس فقد ينام الإنسان وهو مهتم بشيء ما فيرى حلما في النوم في شأنه، وتخويف من الشيطان للعباد ، ففي حديث البخاري : لم يبق من النبوة إلا المبشرات .قالوا : وما المبشرات؟ قال : الرؤيا الصالحة . وفي رواية مسلم : لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة .
وروى البخاري عن أبي الطفيل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نبوة بعدي إلا المبشرات، قال: قيل وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الحسنة، أو قال: الرؤيا الصالحة .
وفي الحديث : الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءا من النبوة . رواه مسلم .
وهوعند البخاري بلفظ : الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة .
وفي الصحيحين أيضا : الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان .
وفي الحديث : الرؤيا ثلاث: فبشرى من الله ، وحديث النفس ، وتخويف من الشيطان ، فإذا رأى أحدكم رؤيا تعجبه فليقص إن شاء ، وإن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد ، وليقم يصلي . رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وصححه الألباني.
وروى ابن ماجه عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الرؤيا ثلاثة: منها تهاويل من الشيطان ليحزن ابن آدم ، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته ، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة . وصححه الألباني أيضا.
قال المناوي في فيض القدير : الرؤيا الصالحة الحسنة أو الصحيحة المطابقة للواقع . وقال أيضا في شرح حديث عوف بن مالك السابق ( الرؤيا ثلاثة منها تهاويل من الشيطان ليحزن ابن آدم ) ولا حقيقة لها في نفس الأمر ( ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه ) قال القرطبي : ويدخل فيه ما يلازمه في يقظته من الأعمال والعلوم والأقوال وما يقوله الأطباء من أن الرؤيا من خلط غالب على الرائي ( ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) قال الحكيم : أصل الرؤيا حق جاء من عند الحق المبين يخبرنا عن أنباء الغيب وهي بشارة أو نذارة أو معاينة وكانت عامة أمور الأولين بها ثم ضعفت في هذه الأمة لعظيم ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي ولما فيها من التصديق وأهل الإلهام واليقين فاستغنوا بها عن الرؤيا والمؤمن محسود ولع به الشيطان لشدة عداوته فهو يكبده ويحزنه من كل وجه ويلبس عليه فإذا رأى رؤيا صادقة خلطها ليفسد عليه بشراه أو نذارته أو معاينته ونفسه دون الشيطان فيلبس عليه بما اهتم به في يقظته فهذان الصنفان ليسا من أنباء الغيب والصنف الثالث هي الرؤيا الصادقة التي هي من أجزاء النبوة . اهـ
واعلم أن الرؤيا الصالحة تعتبر وحيا من الله وجزءا من النبوة باعتبار ما فيها من الأخباروالبشائر ولكنها لا تعتبر من ناحية التشريع والأحكام فلا يبنى عليها حكم شرعي ولا يثبت بها حق ، فقد حكى الإمام النووي في شرح مسلم عن القاضي عياض في الاحتجاج بما يراه النائم في منامه قوله: أنه لا يبطل بسببه -أي المنام- سنة ثبتت، ولا يثبت به سنة لم تثبت، وهذا بإجماع العلماء .
وقال النووي : وكذا قال غيره من أصحابنا وغيرهم، فنقلوا الاتفاق على أنه لا يغير بسبب ما يراه النائم ما تقرر في الشرع. انتهى
وقال النووي أيضا في المجموع: لو كانت ليلة الثلاثين من شعبان ولم ير الناس الهلال، فرأى إنسان النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: الليلة أول رمضان لم يصح الصوم بهذا المنام، لا لصاحب المنام ولا لغيره. انتهى.
وأما الإلهام فقد اختلف في معناه على أقوال فقيل: هو الإصابة بغير نبوة، وقيل المحدث هو الملهم بالصواب الذي يلقى على فيه. وقيل غير ذلك، والأصل في إثبات الإلهام والتحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب . متفق عليه.
وربما أطلق العلماء على هذا النوع من العلم بالمغيبات الكشف، ومدار الأمر على استقامة الحال وسلامة المعتقد، فإن جنس هذا العلم يحصل للبر والفاجر، والمسلم والكافر، والمحدث والكاهن فقد يلقي الشيطان بعض الأمور الغيبية على لسان شخص ما، ليفتتن به الناس، لا سيما إذا كانوا جهالا. وكما قال السلف : إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء أو يطير في الهواء، فلا تغتروا بعمله، حتى يعرض على الكتاب والسنة. فيجب على المسلم أن يعرف الفرق بين الإلهامات الإلهية والإيحاءات الشيطانية حتى لا يقع في شرك المبطلين. فالإلهامات الإلهية هي ما يحصل لمن كان مستقيم الظاهر والباطن على شرع الله تعالى في الاعتقاد والقول والعمل. وأما الإيحاءات الشيطانية فهي ما يحصل لأولياء الشيطان من الزنادقة والمبتدعة المنحرفين الضالين ، وأن المدرك الوحيد لأخذ الأحكام الشرعية هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بفهم السلف الصالح لهذه الأمة وأما غير ذلك من المكاشفات والإلهامات فليس مدركا للأحكام البتة، فلا ينبني عليه حكم شرعي إطلاقا .والله أعلم .فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 1952) -رقم الفتوى 72203 الرؤيا والوحي والإلهام(1/85)
6 - الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ حَالَةٌ شَرِيفَةٌ وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ كَمَا ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ .. »(1).
وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْل مِصْرَ سَأَل أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ قَوْله تَعَالَى : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (64) سورة يونس ، قَال : مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ مُنْذُ سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا ، فَقَال : مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ غَيْرُك مُنْذُ أُنْزِلَتْ ، هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ(2).
وَ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ »(3). وَرُوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ .(4)
__________
(1) - صحيح مسلم (1102) = قمن : خليق وجدير
(2) - سنن الترمذى (2442)حسن لغيره
(3) - صحيح البخارى (6989 ) ومسلم (6049 )
(4) - فتح الباري 12 / 362 - 363 ط الرياض، صحيح مسلم بشرح النووي 15 / 20 - 21 ط المصرية، تحفة الأحوذي 6 / 549 ط . الفجالة، وتفسير القرطبي 9 / 122 - 123 ط المصرية .(1/86)
وَالْمُرَادُ بِالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ غَالِبُ رُؤَى الصَّالِحِينَ كَمَا قَال الْمُهَلَّبُ ، وَإِلاَّ فَالصَّالِحُ قَدْ يَرَى الأَْضْغَاثَ وَلَكِنَّهُ نَادِرٌ لِقِلَّةِ تَمَكُّنِ الشَّيْطَانِ مِنْهُمْ ، بِخِلاَفِ عَكْسِهِمْ ، فَإِنَّ الصِّدْقَ فِيهَا نَادِرٌ لِغَلَبَةِ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ ، فَالنَّاسُ عَلَى هَذَا ثَلاَثُ دَرَجَاتٍ .
- الأَْنْبِيَاءُ وَرُؤَاهُمْ كُلُّهَا صِدْقٌ ، وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ .
- وَالصَّالِحُونَ وَالأَْغْلَبُ عَلَى رُؤَاهُمُ الصِّدْقُ ، وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ .
- وَمَنْ عَدَاهُمْ وَقَدْ يَقَعُ فِي رُؤَاهُمُ الصِّدْقُ وَالأَْضْغَاثُ .(1/87)
وَقَال الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْعَرَبِيُّ : إِنَّ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ هِيَ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَى أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ لِصَلاَحِهَا وَاسْتِقَامَتِهَا ، بِخِلاَفِ رُؤْيَا الْفَاسِقِ فَإِنَّهَا لاَ تُعَدُّ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ ، وَقِيل تُعَدُّ مِنْ أَقْصَى الأَْجْزَاءِ ، وَأَمَّا رُؤْيَا الْكَافِرِ فَلاَ تُعَدُّ أَصْلاً . وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمَ الصَّادِقَ الصَّالِحَ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ حَالُهُ حَال الأَْنْبِيَاءِ فَأُكْرِمَ بِنَوْعٍ مِمَّا أُكْرِمَ بِهِ الأَْنْبِيَاءُ وَهُوَ الاِطِّلاَعُ عَلَى الْغَيْبِ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ وَالْمُخَلِّطُ فَلاَ ، وَلَوْ صَدَقَتْ رُؤْيَاهُمْ أَحْيَانًا فَذَاكَ كَمَا قَدْ يَصْدُقُ الْكَذُوبُ ، وَلَيْسَ كُل مَنْ حَدَّثَ عَنْ غَيْبٍ يَكُونُ خَبَرُهُ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ كَالْكَاهِنِ وَالْمُنَجِّمِ(1).
__________
(1) - فتح الباري ( 12 / 362 - 391 ط - الرياض، وصحيح مسلم بشرح النووي 15 / 20 - 21 ط المصرية ، وتفسير القرطبي 9 / 124 ط الأولى .(1/88)
هَذَا ، وَقَدِ اسْتُشْكِل كَوْنُ الرُّؤْيَا جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ مَعَ أَنَّ النُّبُوَّةَ انْقَطَعَتْ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ فَقِيل فِي الْجَوَابِ : إِنْ وَقَعَتِ الرُّؤْيَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ حَقِيقَةً ، وَإِنْ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ فَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ عَلَى سَبِيل الْمَجَازِ . وَقَال الْخَطَّابِيُّ : قِيل مَعْنَاهُ : أَنَّ الرُّؤْيَا تَجِيءُ عَلَى مُوَافَقَةِ النُّبُوَّةِ لاَ أَنَّهَا جُزْءٌ بَاقٍ مِنَ النُّبُوَّةِ ، وَقِيل الْمَعْنَى : إِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ عِلْمِ النُّبُوَّةِ ؛ لأَِنَّ النُّبُوَّةَ وَإِنِ انْقَطَعَتْ فَعِلْمُهَا بَاقٍ(1).
رُؤْيَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْمَنَامِ :
7 - اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ رُؤْيَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْمَنَامِ فَقِيل : لاَ تَقَعُ ، لأَِنَّ الْمَرْئِيَّ فِيهِ خَيَالٌ وَمِثَالٌ ، وَذَلِكَ عَلَى الْقَدِيمِ مُحَالٌ ، وَقِيل : تَقَعُ لأَِنَّهُ لاَ اسْتِحَالَةَ لِذَلِكَ فِي الْمَنَامِ(2).
رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ :
__________
(1) - فتح الباري 12 / 363 ، 364
(2) - الفروق 4 / 446، وتهذيب الفروق 4 / 271، وفتح الباري 12 / 387 .(1/89)
8 - ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ بَابًا بِعِنْوَانِ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَذَكَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ مِنْهَا : مَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال : سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« مَنْ رَآنِى فِى الْمَنَامِ فَسَيَرَانِى فِى الْيَقَظَةِ ، وَلاَ يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِى »(1)..
وَهَذِهِ الأَْحَادِيثُ تَدُل عَلَى جَوَازِ رُؤْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ ، وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَقْوَالاً مُخْتَلِفَةً فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ .
__________
(1) - صحيح البخارى (6993 ) ومسلم (6057 )(1/90)
وَالصَّحِيحُ مِنْهَا أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنَّ رُؤْيَتَهُ فِي كُل حَالَةٍ لَيْسَتْ بَاطِلَةً وَلاَ أَضْغَاثًا ، بَل هِيَ حَقٌّ فِي نَفْسِهَا ، وَلَوْ رُئِيَ عَلَى غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَصَوُّرُ تِلْكَ الصُّورَةِ لَيْسَ مِنَ الشَّيْطَانِ بَل هُوَ مِنْ قِبَل اللَّهِ ، وَقَال : وَهَذَا قَوْل الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ : « مَنْ رَآنِى فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ »(1). أَيْ رَأَى الْحَقَّ الَّذِي قَصَدَ إِعْلاَمَ الرَّائِي بِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا وَإِلاَّ سَعَى فِي تَأْوِيلِهَا وَلاَ يُهْمِل أَمْرَهَا ، لأَِنَّهَا إِمَّا بُشْرَى بِخَيْرٍ ، أَوْ إِنْذَارٌ مِنْ شَرٍّ إِمَّا لِيُخِيفَ الرَّائِيَ ، إِمَّا لِيَنْزَجِرَ عَنْهُ ، وَإِمَّا لِيُنَبِّهَ عَلَى حُكْمٍ يَقَعُ لَهُ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ(2).
وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ أَنَّ رُؤْيَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا تَصِحُّ لأَِحَدِ رَجُلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : صَحَابِيٌّ رَآهُ فَعَلِمَ صِفَتَهُ فَانْطَبَعَ فِي نَفْسِهِ مِثَالُهُ فَإِذَا رَآهُ جَزَمَ بِأَنَّهُ رَأَى مِثَالَهُ الْمَعْصُومَ مِنَ الشَّيْطَانِ ، فَيَنْتَفِي عَنْهُ اللَّبْسُ وَالشَّكُّ فِي رُؤْيَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
__________
(1) - صحيح البخارى(6996 ) ومسلم (6058 )
(2) - فتح الباري ( 12 / 384 - 385 ط الرياض )(1/91)
وَثَانِيهِمَا : رَجُلٌ تَكَرَّرَ عَلَيْهِ سَمَاعُ صِفَاتِهِ الْمَنْقُولَةِ فِي الْكُتُبِ حَتَّى انْطَبَعَتْ فِي نَفْسِهِ صِفَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَمِثَالُهُ الْمَعْصُومُ ، كَمَا حَصَل ذَلِكَ لِمَنْ رَآهُ ، فَإِذَا رَآهُ جَزَمَ بِأَنَّهُ رَأَى مِثَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا يَجْزِمُ بِهِ مَنْ رَآهُ ، فَيَنْتَفِي عَنْهُ اللَّبْسُ وَالشَّكُّ فِي رُؤْيَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَأَمَّا غَيْرُ هَذَيْنِ فَلاَ يَحِل لَهُ الْجَزْمُ بَل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَآهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمِثَالِهِ ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مِنْ تَخْيِيل الشَّيْطَانِ ، وَلاَ يُفِيدُ قَوْل الْمَرْئِيِّ لِمَنْ رَآهُ أَنَا رَسُول اللَّهِ ، وَلاَ قَوْل مَنْ يَحْضُرُ مَعَهُ هَذَا رَسُول اللَّهِ ؛ لأَِنَّ الشَّيْطَانَ يَكْذِبُ لِنَفْسِهِ وَيَكْذِبُ لِغَيْرِهِ ، فَلاَ يَحْصُل الْجَزْمُ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ مِثَالِهِ الْمَخْصُوصِ لاَ يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ فِي التَّعْبِيرِ أَنَّ الرَّائِيَ يَرَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَيْخًا وَشَابًّا وَأَسْوَدَ ، وَذَاهِبَ الْعَيْنَيْنِ ، وَذَاهِبَ الْيَدَيْنِ ، وَعَلَى أَنْوَاعٍ شَتَّى مِنَ الْمُثُل الَّتِي لَيْسَتْ مِثَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ صِفَاتُ الرَّائِينَ وَأَحْوَالُهُمْ تَظْهَرُ فِيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ كَالْمِرْآةِ لَهُمْ(1).
__________
(1) - الفروق ( 4 / 245 ط الأولى ) و تهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 4 / ص 462) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 8 / ص 390- 392)(1/92)
تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِعْلِهِ فِي الرُّؤْيَا(1):
__________
(1) - وفي البحر المحيط - (ج 7 / ص 389)
رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ ، عَلَى وَجْهٍ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ ، يَكُونُ حُجَّةً وَيَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ ، وَقَدْ سَبَقَ فِيهِ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَنَامَ لَا يُثْبِتُ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَلَا بَيِّنَةً ، وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا ، وَالشَّيْطَانُ لَا يَتَمَثَّلُ بِهِ ، وَلَكِنْ النَّائِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّحَمُّلِ وَالرِّوَايَةِ لِعَدَمِ تَحَفُّظِهِ وَأَمَّا الْمَنَامُ الَّذِي رُوِيَ فِي الْأَذَانِ ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَمَلِ بِهِ ، فَلَيْسَ الْحُجَّةُ فِيهِ الْمَنَامَ ، بَلْ الْحُجَّةُ فِيهِ أَمْرُهُ بِذَلِكَ فِي مَدَارِكِ الْعِلْمِ .
وفي إرشاد الفحول - (ج 2 / ص 202)
"الفائدة" السابعة: في رؤيا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذكر جماعة من أهل العلم منهم الأستاذ أبو إسحاق: أنه يكون حجة ويلزم العمل به.
وقيل: لا يكون حجة، لا يثبت به حكم شرعي، وإن كانت رؤية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، والشيطان لا يتمثل به لكن النائم ليس من أهل التحمل للرواية، لعدم حفظه.
وقيل: إنه يعمل به، ما لم يخالف شرعا ثابتا.
ولا يخفاك أن الشرع الذي شرعه الله لنا على لسان نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كمله الله عز وجل، وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ( الآية 3 من سورة المائدة)، ولم يأتنا دليل يدل على أن رؤيته في النوم بعد موته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا قال فيها بقول، أو فعل فيها فعلا يكون دليلا وحجة، بل قد قبضه الله إليه بعد أن كمل لهذه الأمة ما شرعه لها على لسانه، ولم يبق بعد ذلك حاجة للأمة في أمر دينها، وقد انقطعت البعثة لتبليغ الشرائع، وتبيينها بالموت، وإن كان رسولا حيًّا وميتًا، وبهذا تعلم أن لو قدرنا ضبط النائم لم يكن ما رآه من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله حجة عليه، ولا على غيره من الأمة.(1/93)
9 - مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ يَقُول قَوْلاً أَوْ يَفْعَل فِعْلاً فَهَل يَكُونُ قَوْلُهُ هَذَا أَوْ فِعْلُهُ حُجَّةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ أَوْ لاَ ؟ .
ذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ فِي ذَلِكَ ثَلاَثَةَ أَقْوَالٍ :
الأَْوَّل : أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً وَيَلْزَمُ الْعَمَل بِهِ ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ مِنْهَا الأُْسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ ؛ لأَِنَّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ حَقٌّ وَالشَّيْطَانُ لاَ يَتَمَثَّل بِهِ .
الثَّانِيَ : أَنَّهُ لاَ يَكُونُ حُجَّةً وَلاَ يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ؛ لأَِنَّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَا حَقٍّ وَأَنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّل بِهِ لَكِنِ النَّائِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْل التَّحَمُّل لِلرِّوَايَةِ لِعَدَمِ حِفْظِهِ .
الثَّالِثَ : أَنَّهُ يُعْمَل بِذَلِكَ مَا لَمْ يُخَالِفْ شَرْعًا ثَابِتًا .
قَال الشَّوْكَانِيُّ : وَلاَ يَخْفَاكَ أَنَّ الشَّرْعَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَمَّلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل وَقَال : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }(سورة المائدة 3).(1/94)
وَلَمْ يَأْتِنَا دَلِيلٌ يَدُل عَلَى أَنَّ رُؤْيَتَهُ فِي النَّوْمِ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَال فِيهَا بِقَوْلٍ ، أَوْ فَعَل فِيهَا فِعْلاً يَكُونُ دَلِيلاً وَحُجَّةً ، بَل قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَمَّل لِهَذِهِ الأُْمَّةِ مَا شَرَعَهُ لَهَا عَلَى لِسَانِهِ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ حَاجَةٌ لِلأُْمَّةِ فِي أَمْرِ دِينِهَا ، وَقَدِ انْقَطَعَتِ الْبَعْثَةُ لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ وَتَبْيِينِهَا بِالْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ رَسُولاً حَيًّا وَمَيِّتًا ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا ضَبْطَ النَّائِمِ لَمْ يَكُنْ مَا رَآهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِعْلِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ وَلاَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الأُْمَّةِ(1).
__________
(1) - إرشاد الفحول / 249 ط . الحلبي .(1/95)
وَذَكَرَ صَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ أَيْضًا أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الرُّؤْيَا التَّعْوِيل عَلَيْهَا فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لاِحْتِمَال الْخَطَأِ فِي التَّحَمُّل وَعَدَمِ ضَبْطِ الرَّائِي ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ مَا يَثْبُتُ فِي الْيَقَظَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا ثَبَتَ بِالنَّوْمِ عِنْدَ التَّعَارُضِ ، قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ لِرَجُلٍ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ يَقُول لَهُ إِنَّ فِي الْمَحَل الْفُلاَنِيِّ رِكَازًا اذْهَبْ فَخُذْهُ وَلاَ خُمُسَ عَلَيْكَ فَذَهَبَ وَوَجَدَهُ وَاسْتَفْتَى ذَلِكَ الرَّجُل الْعُلَمَاءَ ، فَقَال لَهُ الْعِزُّ : أَخْرِجِ الْخُمُسَ فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ ، وَقُصَارَى رُؤْيَتِكَ الآْحَادُ ، فَلِذَلِكَ لَمَّا اضْطَرَبَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ بِالتَّحْرِيمِ وَعَدَمِهِ فِيمَنْ رَآهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَنَامِ فَقَال لَهُ إِنَّ امْرَأَتَكَ طَالِقٌ ثَلاَثًا وَهُوَ يَجْزِمُ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا لِتَعَارُضِ خَبَرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ تَحْرِيمِهَا فِي النَّوْمِ ، وَإِخْبَارِهِ فِي الْيَقَظَةِ فِي شَرِيعَتِهِ الْمُعَظَّمَةِ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ لَهُ ، اسْتَظْهَرَ الأَْصْل أَنَّ إِخْبَارَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْيَقَظَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْخَبَرِ فِي النَّوْمِ لِتَطَرُّقِ الاِحْتِمَال لِلرَّائِي بِالْغَلَطِ فِي ضَبْطِهِ الْمِثَال قَال : فَإِذَا عَرَضْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا احْتِمَال طُرُوِّ الطَّلاَقِ مَعَ الْجَهْل بِهِ وَاحْتِمَال طُرُوِّ الْغَلَطِ فِي الْمِثَال فِي النَّوْمِ وَجَدْنَا الْغَلَطَ فِي الْمِثَال أَيْسَرَ وَأَرْجَحَ ، أَمَّا ضَبْطُ عَدَمِ الطَّلاَقِ فَلاَ يَخْتَل إِلاَّ عَلَى النَّادِرِ مِنَ النَّاسِ ، وَالْعَمَل بِالرَّاجِحِ(1/96)
مُتَعَيِّنٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَال عَنْ حَلاَلٍ إِنَّهُ حَرَامٌ ، أَوْ عَنْ حَرَامٍ إِنَّهُ حَلاَلٌ ، أَوْ عَنْ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ قَدَّمْنَا مَا ثَبَتَ فِي الْيَقَظَةِ عَلَى مَا رَأَى فِي النَّوْمِ ، كَمَا لَوْ تَعَارَضَ خَبَرَانِ مِنْ أَخْبَارِ الْيَقَظَةِ صَحِيحَانِ فَإِنَّا نُقَدِّمُ الأَْرْجَحَ بِالسَّنَدِ ، أَوْ بِاللَّفْظِ ، أَوْ بِفَصَاحَتِهِ ، أَوْ قِلَّةِ الاِحْتِمَال فِي الْمَجَازِ أَوْ غَيْرِهِ ، فَكَذَلِكَ خَبَرُ الْيَقَظَةِ وَخَبَرُ النَّوْمِ يَخْرُجَانِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ(1).
تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا :
10 - التَّعْبِيرُ كَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ خَاصٌّ بِتَفْسِيرِ الرُّؤْيَا ، وَمَعْنَاهُ الْعُبُورُ مِنْ ظَاهِرِهَا إِلَى بَاطِنِهَا ، وَقِيل : هُوَ النَّظَرُ فِي الشَّيْءِ ، فَيُعْتَبَرُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ حَتَّى يَحْصُل عَلَى فَهْمِهِ حَكَاهُ الأَْزْهَرِيُّ ، وَبِالأَْوَّل جَزَمَ الرَّاغِبُ ، وَقَال أَصْلُهُ مِنَ الْعَبْرِ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ ، وَهُوَ التَّجَاوُزُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ، وَخَصُّوا تَجَاوُزَ الْمَاءِ بِسِبَاحَةٍ أَوْ فِي سَفِينَةٍ أَوْ غَيْرِهَا بِلَفْظِ الْعُبُورِ بِضَمَّتَيْنِ ، وَعَبَرَ الْقَوْمُ إِذَا مَاتُوا كَأَنَّهُمْ جَازُوا الْقَنْطَرَةَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الآْخِرَةِ ، قَال : وَالاِعْتِبَارُ وَالْعِبْرَةُ الْحَالَةُ الَّتِي يُتَوَصَّل بِهَا مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُشَاهَدِ إِلَى مَا لَيْسَ بِمُشَاهَدٍ ، وَيُقَال : عَبَرْتُ الرُّؤْيَا بِالتَّخْفِيفِ إِذَا فَسَّرْتَهَا ، وَعَبَّرْتُهَا بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ(2).
__________
(1) - تهذيب الفروق ( 4 / 270 - 271 ط - الأولى ) و أنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 8 / ص 394- 396)
(2) - المصباح المنير، فتح الباري ( 12 / 352 ط - الرياض ) .(1/97)
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى : { إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } (سورة يوسف / 43) أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ عُبُورِ النَّهْرِ ، فَعَابِرُ الرُّؤْيَا يَعْبُرُ بِمَا يَؤُول إِلَيْهِ أَمْرُهَا ، وَيَنْتَقِل بِهَا كَمَا فِي رُوحِ الْمَعَانِي مِنَ الصُّورَةِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الْمَنَامِ إِلَى مَا هِيَ صُورَةٌ وَمِثَالٌ لَهَا مِنَ الأُْمُورِ الآْفَاقِيَّةِ وَالأَْنْفُسِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْخَارِجِ(1).
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلاَمِ الْمُوَقِّعِينَ صُوَرًا لِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَتَأْوِيلِهَا ، وَمِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ : تَأْوِيل الثِّيَابِ بِالدِّينِ وَالْعِلْمِ ، فَإِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّل الْقَمِيصَ فِي الْمَنَامِ بِالدِّينِ وَالْعِلْمِ(2).
وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَسْتُرُ صَاحِبَهُ وَيُجَمِّلُهُ بَيْنَ النَّاسِ ، فَالْقَمِيصُ يَسْتُرُ بَدَنَهُ ، وَالْعِلْمُ وَالدِّينُ يَسْتُرُ رُوحَهُ وَقَلْبَهُ ، وَيُجَمِّلُهُ بَيْنَ النَّاسِ .
__________
(1) - تفسير القرطبي ( 9 / 200 ط - المصرية ) ، روح المعاني ( 12 / 250 ط المنيرية ) .
(2) - عَنْ أَبِى أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَىَّ ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِىَّ ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ ، وَعُرِضَ عَلَىَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ » . قَالُوا فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « الدِّينَ » . صحيح البخارى(23 ) ومسلم (6340 )(1/98)
وَتَأْوِيل اللَّبَنِ بِالْفِطْرَةِ لِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ التَّغْذِيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَيَاةِ وَكَمَال النَّشْأَةِ . وَتَأْوِيل الْبَقَرِ بِأَهْل الدِّينِ وَالْخَيْرِ الَّذِينَ بِهِمْ عِمَارَةُ الأَْرْضِ كَمَا أَنَّ الْبَقَرَ كَذَلِكَ .
وَتَأْوِيل الزَّرْعِ وَالْحَرْثِ بِالْعَمَل ، لأَِنَّ الْعَامِل زَارِعٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ .
وَتَأْوِيل الْخَشَبِ الْمَقْطُوعِ الْمُتَسَانِدِ بِالْمُنَافِقِينَ ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُنَافِقَ لاَ رُوحَ فِيهِ وَلاَ ظِل وَلاَ ثَمَرَ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَشَبِ الَّذِي هُوَ كَذَلِكَ .
وَتَأْوِيل النَّارِ بِالْفِتْنَةِ لإِِفْسَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَمُرُّ عَلَيْهِ وَيَتَّصِل بِهِ .
وَتَأْوِيل النُّجُومِ بِالْعُلَمَاءِ وَالأَْشْرَافِ لِحُصُول هِدَايَةِ أَهْل الأَْرْضِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا ، وَلاِرْتِفَاعِ الأَْشْرَافِ بَيْنَ النَّاسِ كَارْتِفَاعِ النُّجُومِ .(1/99)
وَتَأْوِيل الْغَيْثِ بِالرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةِ وَصَلاَحِ حَال النَّاسِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصُّوَرِ الْوَارِدَةِ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَالْمَأْخُوذَةِ مِنَ الأَْمْثِلَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ ، ثُمَّ قَال : وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْثَال الْقُرْآنِ كُلِّهَا أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ لِعِلْمِ التَّعْبِيرِ لِمَنْ أَحْسَنَ الاِسْتِدْلاَل بِهَا ، وَكَذَلِكَ مَنْ فَهِمَ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يُعَبِّرُ بِهِ الرُّؤْيَا أَحْسَنَ تَعْبِيرٍ ، وَأُصُول التَّعْبِيرِ الصَّحِيحَةُ إِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ مِشْكَاةِ الْقُرْآنِ ، فَالسَّفِينَةُ تُعَبَّرُ بِالنَّجَاةِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ } (سورة العنكبوت / 15) وَتُعَبَّرُ بِالتِّجَارَةِ . وَالطِّفْل الرَّضِيعُ يُعَبَّرُ بِالْعَدُوِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَالْتَقَطَهُ آل فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } (سورة القصص / 8) .
وَالرَّمَادُ بِالْعَمَل الْبَاطِل لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَثَل الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ } (سورة إبراهيم / 18) فَإِنَّ الرُّؤْيَا أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ لِيَسْتَدِل الرَّائِي بِمَا ضُرِبَ لَهُ مِنَ الْمَثَل عَلَى نَظِيرِهِ ، وَيَعْبُرُ مِنْهُ إِلَى شَبَهِهِ(1).
__________
(1) - أعلام الموقعين 1 / 190 - 195 ط - الكليات وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 258) وحجة الله البالغة - (ج 2 / ص 347)(1/100)
هَذَا وَمِمَّا وَرَدَ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا مِنَ السُّنَّةِ عَنْ أَبِى مُوسَى - أُرَاهُ - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« رَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ أَنِّى أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ ، فَذَهَبَ وَهَلِى إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ ، فَإِذَا هِىَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ ، وَرَأَيْتُ فِى رُؤْيَاىَ هَذِهِ أَنِّى هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ بِأُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا وَاللَّهُ خَيْرٌ فَإِذَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ ، وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِى آتَانَا اللَّهُ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ »(1).
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَال : قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أُوتِيتُ خَزَائِنَ الأَرْضِ ، فَوُضِعَ فِى يَدَىَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ ، فَكَبُرَا عَلَىَّ وَأَهَمَّانِى ، فَأُوحِىَ إِلَىَّ أَنِ انْفُخْهُمَا ، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا ، فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا صَاحِبَ صَنْعَاءَ وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ »(2).
__________
(1) - صحيح البخارى (3622 ) ومسلم (6072 ) = الوهل : الاعتقاد والظن
(2) - صحيح البخارى (7037 )(1/101)
وَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « رَأَيْتُ كَأَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ ، خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ ، حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةَ - وَهْىَ الْجُحْفَةُ - فَأَوَّلْتُ أَنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ نُقِلَ إِلَيْهَا » .(1)
وَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِى مُوسَى - أُرَاهُ - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« رَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ أَنِّى أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ ، فَذَهَبَ وَهَلِى إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ ، فَإِذَا هِىَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ ، وَرَأَيْتُ فِى رُؤْيَاىَ هَذِهِ أَنِّى هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ بِأُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا وَاللَّهُ خَيْرٌ فَإِذَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ ، وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِى آتَانَا اللَّهُ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ »(2).
هَذَا وَلاَ تُقَصُّ الرُّؤْيَا عَلَى غَيْرِ شَفِيقٍ وَلاَ نَاصِحٍ ، وَلاَ يُحَدَّثُ بِهَا إِلاَّ عَاقِلٌ مُحِبٌّ ، أَوْ نَاصِحٌ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَال يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا } (سورة يوسف / 5) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « لاَ تُقَصُّ الرُّؤْيَا إِلاَّ عَلَى عَالِمٍ أَوْ نَاصِحٍ ».(3)
__________
(1) - صحيح البخارى(7038 )
(2) - صحيح البخارى (3622 )
(3) - الترمذي (2449 ) صحيح(1/102)
وَأَنْ لاَ يَقُصَّهَا عَلَى مَنْ لاَ يُحْسِنُ التَّأْوِيل ، لِقَوْل مَالِكٍ : لاَ يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا إِلاَّ مَنْ يُحْسِنُهَا ، فَإِنْ رَأَى خَيْرًا أَخْبَرَ بِهِ ، وَإِنْ رَأَى مَكْرُوهًا فَلْيَقُل خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ، قِيل : فَهَل يُعَبِّرُهَا عَلَى الْخَيْرِ وَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ لِقَوْل مَنْ قَال : إِنَّهَا عَلَى مَا تَأَوَّلَتْ عَلَيْهِ ، فَقَال : لاَ ، ثُمَّ قَال : الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ ، فَلاَ يُتَلاَعَبُ بِالنُّبُوَّةِ .
وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ ، وَلْيَتْفُل ثَلاَثًا ، وَلاَ يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ ، وَإِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْمَدَ ، وَأَنْ يُحَدِّثَ بِهَا ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ قَال : سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يَقُول : " لَقَدْ كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا فَتُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُول : وَأَنَا كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا تُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : « الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ اللَّهِ ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلاَ يُحَدِّثْ بِهِ إِلاَّ مَنْ يُحِبُّ ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا ، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَلْيَتْفِلْ ثَلاَثًا وَلاَ يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ » .(1).
__________
(1) - صحيح البخارى(7044 )(1/103)
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يُحِبُّهَا ، فَإِنَّهَا مِنَ اللَّهِ ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا ، وَلْيُحَدِّثْ بِهَا ، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ ، فَإِنَّمَا هِىَ مِنَ الشَّيْطَانِ ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا ، وَلاَ يَذْكُرْهَا لأَحَدٍ ، فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ »(1).
================
المبحثُ السادس
هل الأولياءُ معصومون ؟
أجمع المسلمون أن العصمة لا تكون إلا للأنبياء عليهم السلام، وأما من دونهم كأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فليسوا بمعصومين إجماعاً فضلا عمن دونهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية(2):" وَالْأَوْلِيَاءُ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُحَدِّثُونَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِى مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَرُ »(3).
__________
(1) - صحيح البخارى (7045 )
(2) - مجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 226)
(3) - صحيح البخارى (3689 )(1/104)
فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عُمَرُ ؛ وَأَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْهُ إذْ هُوَ الصِّدِّيقُ فَالْمُحَدِّثُ - وَإِنْ كَانَ يُلْهَمُ وَيُحَدِّثُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى- فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِضَ ذَلِكَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ،فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومِ كَمَا قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الشاذلي : قَدْ ضُمِنَتْ لَنَا الْعِصْمَةُ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلَمْ تُضْمَنْ لَنَا الْعِصْمَةُ فِي الْكُشُوفِ وَالْإِلْهَامِ . وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ ،وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يُبَيِّنُ لَهُ أَشْيَاءَ تُخَالِفُ مَا يَقَعُ لَهُ كَمَا بَيَّنَ لَهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةَ وَيَوْمَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَوْمَ قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ ،وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُشَاوِرُ الصَّحَابَةَ ؛ فَتَارَةً يَرْجِعُ إلَيْهِمْ وَتَارَةً يَرْجِعُونَ إلَيْهِ ،وَرُبَّمَا قَالَ الْقَوْلَ : فَتَرُدُّ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَوْلَهُ وَتُبَيِّنُ لَهُ الْحَقَّ فَيَرْجِعُ إلَيْهَا وَيَدَعُ قَوْلَهُ ،كَمَا قُدِّرَ الصَّدَاقُ(1)
__________
(1) - عَنِ الشَّعْبِىِّ قَالَ : خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ : أَلاَ لاَ تُغَالُوا فِى صَدَاقِ النِّسَاءِ فَإِنَّهُ لاَ يَبْلُغُنِى عَنْ أَحَدٍ سَاقَ أَكْثَرَ مِنْ شَىْءٍ سَاقَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَوْ سِيقَ إِلَيْهِ إِلاَّ جَعَلْتُ فَضْلَ ذَلِكَ فِى بَيْتِ الْمَالِ..ثُمَّ نَزَلَ فَعَرَضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَتْ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَوْ قَوْلُكَ قَالَ : بَلْ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا ذَاكَ؟ فَقَالَتْ : نَهَيْتَ النَّاسَ آنِفًا أَنْ يُغَالُوا فِى صَدَاقِ النِّسَاءِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِى كِتَابِهِ ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) فَقَالَ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ : كُلُّ أَحَدٍ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ لِلنَّاسِ : إِنِّى كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تُغَالُوا فِى صَدَاقِ النِّسَاءِ أَلاَ فَلْيَفْعَلْ رَجُلٌ فِى مَالِهِ مَا بَدَا لَهُ. هَذَا مُنْقَطِعٌ.السنن الكبرى للبيهقي (ج 7 / ص 233)(14725)
ومجمع الزوائد ( 7502 ) وهو حسن لغيره
انظر إحياء علوم الدين - (ج 1 / ص 47) وفتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 168)(1/105)
وَرُبَّمَا يَرَى رَأْيًا فَيُذْكَرُ لَهُ حَدِيثٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَعْمَلُ بِهِ وَيَدَعُ رَأْيَهُ(1)، وَكَانَ يَأْخُذُ بَعْضَ السُّنَّةِ عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ(2)،
__________
(1) - عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ كُنْتُ فِى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ فَقَالَ اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلاَثًا ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِى فَرَجَعْتُ فَقَالَ مَا مَنَعَكَ قُلْتُ اسْتَأْذَنْتُ ثَلاَثًا ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِى فَرَجَعْتُ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، فَلْيَرْجِعْ » . فَقَالَ وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ . أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ وَاللَّهِ لاَ يَقُومُ مَعَكَ إِلاَّ أَصْغَرُ الْقَوْمِ ، فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ ، فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَلِكَ . صحيح البخارى(6245 )
(2) - عنْ عَمْروٍ قَالَ :كُنْتُ جَالِسًا مَعَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَمْرِو بْنِ أَوْسٍ ، فَحَدَّثَهُمَا بَجَالَةُ سَنَةَ سَبْعِينَ - عَامَ حَجَّ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ - عِنْدَ دَرَجِ زَمْزَمَ قَالَ كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الأَحْنَفِ ، فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِى مَحْرَمٍ مِنَ الْمَجُوسِ . وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرٍ ..صحيح البخارى (3156 -3157)(1/106)
وَكَانَ يَقُولُ الْقَوْلَ فَيُقَالُ لَهُ : أَصَبْت فَيَقُولُ وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَهُ ؟ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا إمَامَ الْمُحَدِّثِينَ فَكُلُّ ذِي قَلْبٍ يُحَدِّثُهُ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ هُوَ دُونَ عُمَرَ، فَلَيْسَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ بَلِ الْخَطَأُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ ،وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ تَدَّعِي أَنَّ الْوَلِيَّ مَحْفُوظٌ ،وَهُوَ نَظِيرُ مَا يَثْبُتُ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْعِصْمَةِ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ قَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا - فَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ .(1/107)
وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ : يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1)، وَإِنْ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي الْهُدَى وَالنُّورِ وَالْإِصَابَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ أَفْضَلَ مِنَ الْمُحَدِّثِ ،لِأَنَّ الصِّدِّيقَ يَأْخُذُ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ فَلَا يَأْخُذُ إلَّا شَيْئًا مَعْصُومًا مَحْفُوظًا . وَأَمَّا الْمُحَدِّثُ فَيَقَعُ لَهُ صَوَابٌ وَخَطَأٌ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تَمَيَّزَ صَوَابُهُ مِنْ خَطَئِهِ ؛ وَبِهَذَا صَارَ جَمِيعُ الْأَوْلِيَاءِ مُفْتَقِرِينَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَزِنُوا جَمِيعَ أُمُورِهِمْ بِآثَارِ الرَّسُولِ، فَمَا وَافَقَ آثَارَ الرَّسُولِ فَهُوَ الْحَقُّ وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ فِيهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يُثِيبُهُمْ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ خَطَأَهُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ أَعْظَمُ اهْتِدَاءً وَاتِّبَاعًا لِلْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ فَهُمْ أَعْظَمُ إيمَانًا وَتَقْوَى".اهـ
__________
(1) - انظر الأحكام للآمدي - (ج 1 / ص 10) والأحكام لابن حزم - (ج 6 / ص 857) والأحكام لابن حزم - (ج 6 / ص 883) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 4 / ص 52) وكتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 2 / ص 32) وكتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 2 / ص 73) وكتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 3 / ص 72) ومن أصول الفقه على منهج أهل الحديث - الرقمية - (ج 1 / ص 175) والخلاف بين العلماء - الرقمية - (ج 1 / ص 32) وشرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام - (ج 1 / ص 2) والموافقات - (ج 5 / ص 134) وقوت القلوب - (ج 1 / ص 225)(1/108)
وقال أيضاً(1):" وَلَيْسَ مَنْ شَرْطِ وَلِيِّ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا لَا يَغْلَطُ وَلَا يُخْطِئُ ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ ،وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ بَعْضُ أُمُورِ الدِّينِ حَتَّى يَحْسَبَ بَعْضُ الْأُمُورِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ فِي بَعْضِ الْخَوَارِقِ أَنَّهَا مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَكُونُ مِنِ الشَّيْطَانِ لَبَّسَهَا عَلَيْهِ لِنَقْصِ دَرَجَتِهِ، وَلَا يَعْرِفُ أَنَّهَا مِنْ الشَّيْطَانِ(2)، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَجَاوَزَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ(3)، فَقَالَ تَعَالَى : { آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) }(4)[
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى - (ج 15 / ص 403)
(2) - انظر مجموع الفتاوى - (ج 35 / ص 114)
(3) - انظر مجموع الفتاوى - (ج 35 / ص 114)
(4) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأنَّهُ صَدَّقَ بِمَا جَاءَهُ مِنَ الوَحْي ، وَآمَنَ بِمَا أَنْزَلَ إِليهِ مِنْ رَبِّهِ . وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ كَذَلِكَ بِوُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَتَمَامِ حِكْمَتِهِ فِي نِظَامِ خَلِيقَتِهِ ، وَيْؤْمِنُونَ بِوُجُودِ مَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَيُصَدِّقُونَ بِجَميعِ الأَنْبياءِ وَالرُّسُلِ وَالكُتُبِ المُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالأنبِياءِ ، لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الرُّسُلِ وَالأنبياءِ ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ جَمِيعاً صَادِقُونَ ، هَادُونَ إلى سَبيلِ الخَيْرِ ، وَإنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَنْسَخُ شَرِيعَةَ بَعْضٍ بِإذْنِ اللهِ . وَقَالُوا : سَمِعْنَا قَوْلَكَ يَا رَبَّنَا وَفَهِمْنَاهُ ، وَامْتَثَلْنَا لِلْعَملِ بِمُقْتَضَاهُ ، نَسْألُكَ المَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ وَإليكَ نَحْنُ صَائِرُونَ .
لاَ يُكَلِّفُ اللهُ أحَداً فَوْقَ طَاقَتِهِ ، وَهذا مِنْ لُطْفِ اللهِ بِخَلْقِهِ . وَللنَّفْسِ مَا كَسَبَتْ مِنْ خَيْرٍ . وَعَلَيهَا مَا اكْتَسَبَتْ مِنْ شَرٍّ ، مِنْ قَوْلٍ أوْ فِعْلٍ . وَأرْشَدَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ إِلى دُعَائِهِ وَاسْتِرْحَامِهِ ، وَالضَّرَاعَةِ إليهِ ، وَذَلِكَ بِأنْ يَقُولُوا : رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ تَرَكْنا فَرْضَنَا وَنَحْنُ نَاسُونَ أوِ ارْتَكَبْنَا مُحَرَّماً وَنَحْنُ نَاسُونَ أوْ مُخْطِئُونَ ، أوْ عَنْ جَهْلٍ بِوَجْهِهِ الشَّرْعِيِّ ، رَبَّنا وَلا تُكَلِّفْنا مِنَ الأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ وَإنْ أَطَقْنَاهَا ، كَمَا شَرَّعْتَهُ لِلأمَمِ السَّالِفَةِ مِنَ الأغْلاَلِ وَالآصَارِ ، رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ مِنَ التَّكْلِيفِ وَالمَصَائِبِ وَالبَلاَءِ ، وَاعْفُ عَنَّا فِيمَا بَيْنَنا وَبَيْنَكَ وَاغْفِرْ لَنَا فِيمَا بَيْنَنا وَبَيْنَ العِبَادِ ، فَلاَ تُظْهِرْهُمْ عَلَى أَعْمَالِنا القَبِيحَةِ وَمَسَاوئِنا ، وَارْحَمْنَا لِكَيْلاَ نَقَعَ مُسْتَقْبَلاً فِي ذَنبِ ، أنْتَ وَلِيُّنا وَمَوْلاَنا ، فَانْصُرْنا عَلَى القَوْمِ الذِينَ كَفَرُوا بِكَ ، وَجَحَدُوا دِينك .(1/109)
البقرة/285، 286]، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ(1)وَقَالَ : قَدْ فَعَلْت، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِى أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) قَالَ :دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَىْءٌ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ مِنْ شَىْءٍ فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-: « قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا ». قَالَ فَأَلْقَى اللَّهُ الإِيمَانَ فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) قَالَ قَدْ فَعَلْتُ (رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) - قَالَ قَدْ فَعَلْتُ (وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا) قَالَ قَدْ فَعَلْتُ.(2).
__________
(1) - صحيح مسلم(344 ) وأخرجه البخارى(4545)مختصرا عن ابن عمر
(2) - صحيح مسلم(345 )(1/110)
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا }(1)(
__________
(1) - يَنْسَخُ اللهُ تَعالى في هذهِ الآيةِ حُكْم التَّبَنِّي الذِيْ كَانَ مَعْمُولاً بهِ في الجاهليةِ ، فقدْ كانَ التَّبَنِّي جَائزاً وظَلَّ حُكْمُ التَّبَنِّي سَارياً في ابْتِدَاءِ أَمْرِ الإِسْلامِ ، فكانَ الرَّجُلُ يتبنَّى وَلَدَ غيرِهِ ، فَيُصْبِحُ حُكْمُهُ حُكْمَ الوَلَدِ مِنَ الصُّلْبِ ، في أمورِ النَّسَبِ والمِيراثِ . . . ولكنَّ اللهَ تَعَالى نَسَخَ حُكْمَ التَّبَنِّي في هذهِ الآيةِ . وأمَرَ المؤمنينَ بِرَدِّ نِسْبَةِ الأدْعِيَاءِ ( الأَولادِ بالتَّبَنِّي ) إلى آبائِهِمْ الحَقِيقِيِّينَ ، لأنَّ هذَا هُوَ العَدْلُ والقِسْطُ والبِرُّ .
( فَعَلَيْهِمْ أَن يَقُولُوا زَيْدُ بنُ حَارِثَة لا زَيْدُ بنُ محمدٍ ) ، أمَّا إذا كَانَ الولدُ المُتَبَنَّى لا يُعرَفُ أبُوه لِيُنْسَبَ إليهِ ، فَعَلى المؤمنينَ أنْ يَعُدُّوا هؤلاءِ الأدْعياءِ إخْوَاناً لَهُمْ في الدِّينِ - إنْ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا في الإِسْلامِ - وأنْ يَعُدُّوهُمْ موالِيَهُمْ إن كانُوا مُحَرَّرِينَ ( فيُقَالُ سَالِمُ مَوْلَى أبِي حُذَيْفَةَ ) .
وَلاَ حَرَجَ على المُؤْمِنِين فيما اخْطَؤُوا فيهِ من نِسْبَةِ بَعْضِ هؤُلاءِ الأَدْعياءِ إلى غَيْرِ آبَائِهِمْ ، بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ الجهْدِ في البَحْثِ والاسْتِقْصَاءِ ، أو فيما يَسْبِقُهُمْ بهِ لِسَانُهُمْ ، ولكنَّ الحَرَجَ والإِثمَ والمُؤاخَذَةَ تَقَعُ على منْ يَفْعَلُونَهُ مُتَعَمِّدينَ بهِ الباطِلَ ، واللهُ غفورٌ لذَنْبِ مَنْ تَابَ أو أخْطَأ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، وهو رحيمٌ بهِ فَلا يُعاقِبُهُ مِنْ بَعْدِ التًَّوْبَةِ .(1/111)
5) سورة الأحزاب. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ » . قَالَ فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالَ هَكَذَا حَدَّثَنِى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ(1). فَلَمْ يُؤَثِّمْ الْمُجْتَهِدَ الْمُخْطِئَ ؛ بَلْ جَعَلَ لَهُ أَجْرًا عَلَى اجْتِهَادِهِ وَجَعَلَ خَطَأَهُ مَغْفُورًا لَهُ، وَلَكِنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُصِيبَ لَهُ أَجْرَانِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ وَلِيُّ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَغْلَطَ لَمْ يَجِبْ عَلَى النَّاسِ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يَقُولُهُ مَنْ هُوَ وَلِيٌّ لِلَّهِ لِئَلَّا يَكُونَ نَبِيًّا ؛ بَلْ وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ اللَّهِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى مَا يُلْقَى إلَيْهِ فِي قَلْبِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا [ لِلشَّرْعِ ]، وَعَلَى مَا يَقَعُ لَهُ مِمَّا يَرَاهُ إلْهَامًا وَمُحَادَثَةً وَخِطَابًا مِنَ الْحَقِّ ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِضَ ذَلِكَ جَمِيعَهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ وَافَقَهُ قَبْلَهُ وَإِنْ خَالَفَهُ لَمْ يَقْبَلْهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَمُوَافِقٌ هُوَ أَمْ مُخَالِفٌ ؟ تَوَقَّفَ فِيهِ ."
__________
(1) - صحيح البخارى (7352 ) ومسلم (4584 )(1/112)
وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أكمل الله لنا الدين وأتم علينا النعمة بقوله عز وجل: ِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً {المائدة: 3}. وبموته صلى الله عليه وسلم انقطعِ عن الدنيا(1)
__________
(1) - قلت : ليس انقطاعاً تاما ، بل أعمالنا تعرض عليه صلى اله عليه وسلم وهناك حديث يدل على ذلك فعَنْ عَبْدِ اللهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ :" إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً سَيَّاحِينَ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلامَ قَالَ : وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَنُحَدِّثُ لَكُمْ ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ ، فَمَا رَأَيْتُ مِنَ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ ، وَمَا رَأَيْتُ مِنَ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ".
مسند البزار 1-14 - (ج 2 / ص 458)برقم(1925) والإتحاف 9/176 و177 ومطالب (3853) وإتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة - (ج 7 / ص 30) برقم(6412) وهو حديث حسن
وفي طرح التثريب - (ج 4 / ص 308) و(3/297) وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ ،وقال السيوطي في «الخصائص» (2/491) صحيح إسناده
ويقويه أيضاً أحاديث رد روحه إليه صلى الله عليه وسلم للرد على من سلم عليه
ويشهد له كذلك حديث أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَفِيهِ قُبِضَ وَفِيهِ النَّفْخَةُ وَفِيهِ الصَّعْقَةُ فَأَكْثِرُوا عَلَىَّ مِنَ الصَّلاَةِ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَىَّ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاَتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرَمْتَ أَىْ يَقُولُونَ قَدْ بَلِيتَ.
قَالَ « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ ».سنن النسائى برقم(1385 ) وصحيح الجامع (2212) وفي سنن ابن ماجه برقم (1138 و1706) من طريقين آخرين وهو صحيح مشهور
أَرَمَ : بلى = أرمت : بليت(1/113)
وعن اتصاله بالخلق، فمن ادَّعى أن له صلة به صلى الله عليه وسلم أو أنه يجالسه أو يأخذ عنه العلم أو يتلقى منه الأوامر فقد افترى إثماً مبيناً وكذب على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
====================
المبحثُ السابع
الفرقُ بين الوليِّ ومدَّعي الولايةَ(1)
المفهوم الشرعي لكلمة (ولي الله) يتجلى واضحاً في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) }[يونس/62، 63]، فكل من كان مؤمناً تقيًا فهو من أولياء الله تعالى. وليست الولاية محصورةً في أشخاص معينين، ولا يشترط لحصولها وقوع الكرامة.
قال القرطبي رحمه الله(2):" قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ - : وَمَنْ أَظْهَرَ اللَّه تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ كَرَامَات وَخَوَارِق لِلْعَادَاتِ فَلَيْسَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى وِلَايَته , خِلَافًا لِبَعْضِ الصُّوفِيَّة وَالرَّافِضَة حَيْثُ قَالُوا : إِنَّ ذَلِكَ يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ وَلِيّ , إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا مَا أَظْهَرَ اللَّه عَلَى يَدَيْهِ مَا أَظْهَرَ .
وَدَلِيلنَا أَنَّ الْعِلْم بِأَنَّ الْوَاحِد مِنَّا وَلِيّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَصِحّ إِلَّا بَعْد الْعِلْم بِأَنَّهُ يَمُوت مُؤْمِنًا , وَإِذَا لَمْ يُعْلَم أَنَّهُ يَمُوت مُؤْمِنًا لَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نَقْطَع عَلَى أَنَّهُ وَلِيّ لِلَّهِ تَعَالَى , لِأَنَّ الْوَلِيّ لِلَّهِ تَعَالَى مَنْ عَلِمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُوَافِي إِلَّا بِالْإِيمَانِ .
__________
(1) - انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 1934)-رقم الفتوى 4445 الفرق بين الولي ومدعي الولاية -تاريخ الفتوى : 03 ربيع الثاني 1422
(2) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 122)(1/114)
وَلَمَّا اِتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّنَا لَا يُمْكِننَا أَنْ نَقْطَع عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُل يُوَافِي بِالْإِيمَانِ , وَلَا الرَّجُل نَفْسه يَقْطَع عَلَى أَنَّهُ يُوَافِي بِالْإِيمَانِ , عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ يَدُلّ عَلَى وِلَايَته لِلَّهِ ".
وروى البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ »(1)..
فطريق الولاية في الكتاب والسنة هو المحافظة على الفرائض والحرص على النوافل، والتحقق بمقامات الإيمان، والتزين بلباس التقوى.
وبهذا يعلم أن المجانين والفسقة والعصاة لا يدخلون في ذلك، وغاية المجنون أن يرفع عنه القلم، لا أن يكون ولياً، فضلاً عن أن يكشف عنه الحجاب، فإن الحجاب لا يكشف لأحد في الدنيا، والوحي لا يتنزل إلا على الأنبياء، وإذا كان الرجل يطير في الهواء أو يمشي على الماء لم يكن هذا دليلاً على ولايته، فإن الخوارق تقع على يد الكافر والملحد والفاسق كما تقع على يد المؤمن. ولهذا قال الجنيد رحمه الله: علمنا مضبوط بالكتاب والسنة،من لم يحفظ الكتاب ولم يكتب الحديث، فلم يتفقه، فلا يقتدى به.
__________
(1) - صحيح البخارى (6502 )(1/115)
وقال:"الطرق كلها مسدودة عن الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع سنته ولزم طريقته، لأن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه، وعلى المقتفين أثره والمتابعين.
وليس للولي أن يدعي الولاية لنفسه أو يشهد لها بذلك، فإن هذا من التزكية المذمومة.
كما أن من المفاهيم الباطلة حول الولاية ما يلي:
1- اعتقاد أن الولي يتصرف في الكون، ويجوز دعاؤه والاستغاثة به في الشدائدمن دون الله تعالى .
2- اعتقاد عصمة الولي ،وأن الله لا يخلق له الخذلان الذي هو قدرة العصيان، كما يقول القشيري عفا الله عنه.
3- اعتقاد أن الولي يعلم الغيب، وأنه يغني عن نفسه وعن الخلق.
4- أو أن الولي يتطور ويظهر في أشكال مختلفة، فتارة تراه أسداً، وتارة تراه شيخاً، وتارة تراه صبياً. وأنه يوجد في أماكن مختلفة في وقت واحد.
5- اعتقاد أن الولي يباح له مخالفة الشريعة، وأنه يجب التسليم له وعدم الإنكار عليه ولو ترك الجمع والجماعات، لأنه صاحب حال كما يقول بعض الجهال .
6- اعتقاد أن الولاية تكون بيد الولي الكبير يعطيها لمن يشاء من أتباعه، وهذا ضلال لا يحتاج إلى إقامة الدليل على بطلانه.
7- اعتقاد أن للولاية خاتماً كما أن للنبوة خاتماً وهذا من الضلا المبين.
8- اعتقاد أن الولي يمكنه سلب العلم والهداية من مخالفيه،وهذا داخل تحت اعتقادهم أنه يتصرف في الكون.
فهذه الاعتقادات الباطلة مما يعلم يقيناً أنها مخالفة للكتاب والسنة ولما عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وأنها سبيل أولياء الشيطان لا أولياء الرحمن..
====================
المبحثُ الثامنُ
خاتمُ الأولياءِ(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
__________
(1) - انظر مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 1 / ص 149) , مجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 219- 229(1/116)
" قال ابن عربي :"( السَّابِعُ ) أَنَّهُ قَالَ : " وَمِنَّا مَنْ عَلِمَ فَلَمْ يَقُلْ مِثْلَ هَذَا وَهُوَ أَعْلَى الْقَوْلِ، بَلْ أَعْطَاهُ الْعِلْمَ وَالسُّكُوتَ مَا أَعْطَاهُ الْعَجْزَ وَهَذَا هُوَ أَعْلَى عَالِمٍ بِاَللَّهِ، وَلَيْسَ هَذَا الْعِلْمُ إلَّا لِخَاتَمِ الرُّسُلِ وَخَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالرُّسُلِ : إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ الرَّسُولِ الْخَاتَمِ وَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ الْوَلِيِّ الْخَاتَمِ ؛ حَتَّى إنَّ الرُّسُلَ لَا يَرَوْنَهُ مَتَى رَأَوْهُ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ .
فَإِنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ - أَعْنِي نُبُوَّةَ التَّشْرِيعِ وَرِسَالَتِهِ - يَنْقَطِعَانِ وَالْوِلَايَةُ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا ؛ فَالْمُرْسَلُونَ مِنْ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ : لَا يَرَوْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ فَكَيْفَ مَنْ دُونَهُمْ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ ؟.
وَإِنْ كَانَ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ تَابِعًا فِي الْحُكْمِ لِمَا جَاءَ بِهِ خَاتَمُ الرُّسُلِ مِنَ التَّشْرِيعِ ،فَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي مَقَامِهِ وَلَا يُنَاقِضُ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ، فَإِنَّهُ مِنْ وَجْهٍ يَكُونُ أَنْزَلَ كَمَا أَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ يَكُونُ أَعْلَى - إلَى قَوْلِهِ - وَلَمَّا مَثَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّبُوَّةَ بِالْحَائِطِ مِنَ اللَّبِنِ ."(1/117)
فَفِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ وَتَنْقِيصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مَا لَا تَقُولُهُ لَا الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى ؛ وَمَا أَشْبَهَهُ فِي هَذَا الْكَلَامِ بِمَا ذَكَرَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ : فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ تَحْتِهِمْ أَنَّ هَذَا لَا عَقْلٌ وَلَا قُرْآنٌ . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ هُنَا - مِنْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ تَسْتَفِيدُ مِنْ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِي بَعْدَهُمْ - هُوَ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ، فَإِنَّ الْمُتَقَدِّمَ لَا يَسْتَفِيدُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ . وَمُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ : أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا أَنْبِيَاءَ وَلَا رُسُلًا . وَقَدْ يَزْعُمُ أَنَّ الْعِلْمَ - الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ - أَعْلَى الْعِلْمِ وَهُوَ الْقَوْلُ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَأَنَّ وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ وَحَقِيقَةُ تَعْطِيلِ الصَّانِعِ وَجَحْدِهِ وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي يُظْهِرُهُ فِرْعَوْنُ فَلَمْ يَكْفِهِ زَعْمُهُ أَنَّ هَذَا حَقٌّ حَتَّى زَعَمَ أَنَّهُ أَعْلَى الْعِلْمِ، وَلَمْ يَكْفِهِ ذَلِكَ حَتَّى زَعَمَ أَنَّ الرُّسُلَ إنَّمَا يَرَوْنَهُ مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ .(1/118)
فَجَعَلَ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَعْلَمَ بِاَللَّهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَجَعَلَهُمْ يَرَوْنَ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ مِنْ مِشْكَاتِهِ . ثُمَّ أَخَذَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ فَقَالَ : فَإِنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ : - أَعْنِي نُبُوَّةَ التَّشْرِيعِ وَرِسَالَتَهُ - يَنْقَطِعَانِ وَالْوِلَايَةُ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا . فَالْمُرْسَلُونَ مِنْ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ لَا يَرَوْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ فَكَيْفَ بِالْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا أَنْبِيَاءَ وَلَا رُسُلًا ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا، فَإِنَّ هَذَا كُفْرٌ ظَاهِرٌ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ إنَّمَا تَنْقَطِعُ نُبُوَّةُ التَّشْرِيعِ وَرِسَالَتُهُ يَعْنِي، وَأَمَّا نُبُوَّةُ التَّحْقِيقِ وَرِسَالَةُ التَّحْقِيقِ - وَهِيَ الْوِلَايَةُ عِنْدَهُمْ - فَلَمْ تَنْقَطِعْ ،وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ عِنْدَهُمْ هِيَ أَفْضَلُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ : -
مَقَامُ النُّبُوَّةِ فِي بَرْزَخٍ فُوَيْقَ الرَّسُولِ وَدُونَ الْوَلِيّ(1/119)
وَقَالَ فِي الْفُصُوصِ فِي : ( كَلِمَةٍ عزيرية فَإِذَا سَمِعْت أَحَدًا مِنْ أَهْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَقُولُ أَوْ يُنْقَلُ إلَيْك عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْوِلَايَةُ أَعْلَى مِنْ النُّبُوَّةِ : فَلَيْسَ يُرِيدُ ذَلِكَ الْقَائِلُ إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ . أَوْ يَقُولُ : إنَّ الْوَلِيَّ فَوْقَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ ؛ فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَلِيٌّ : أَتَمُّ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَبِيٌّ وَرَسُولٌ لَا أَنَّ الْوَلِيَّ التَّابِعُ لَهُ أَعْلَى مِنْهُ ،فَإِنَّ التَّابِعَ لَا يُدْرِكُ الْمَتْبُوعَ أَبَدًا فِيمَا هُوَ تَابِعٌ لَهُ فِيهِ إذْ لَوْ أَدْرَكَهُ لَمْ يَكُنْ تَابِعًا لَهُ " .
وَإِذَا حَقَّقُوا عَلَى ذَلِكَ قَالُوا : إنَّ وِلَايَةَ النَّبِيِّ فَوْقَ نُبُوَّتِهِ وَإِنَّ نُبُوَّتَهُ فَوْقَ رِسَالَتِهِ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ بِوِلَايَتِهِ عَنْ اللَّهِ ثُمَّ يَجْعَلُونَ مِثْلَ وِلَايَتِهِ ثَابِتَةً لَهُمْ وَيَجْعَلُونَ وِلَايَةَ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ أَعْظَمَ مِنْ وِلَايَتِهِ ،وَأَنَّ وِلَايَةَ الرَّسُولِ تَابِعَةٌ لِوِلَايَةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِي ادَّعُوهُ .
وَفِي هَذَا الْكَلَامِ أَنْوَاعٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ :
((1/120)
مِنْهَا ) أَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي وُجُودَ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى مَا ادَّعُوهُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ . وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا أَحَدٌ مِنَ الْمَعْرُوفِينَ قَبْلَ هَؤُلَاءِ إلَّا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي كِتَابِ ( خَتْمُ الْوِلَايَةِ )وَقَدْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَا هُوَ خَطَأٌ وَغَلَطٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَهُوَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ وَمَعْرِفَةٌ وَلَهُ مِنَ الْكَلَامِ الْحَسَنِ الْمَقْبُولِ وَالْحَقَائِقِ النَّافِعَةِ أَشْيَاءُ مَحْمُودَةٌ - فَفِي كَلَامِهِ مِنْ الْخَطَأِ : مَا يَجِبُ رَدُّهُ وَمِنْ أَشْنَعِهَا مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ ( خَتْمُ الْوِلَايَةِ )مِثْلُ دَعْوَاهُ فِيهِ أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ دَرَجَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ دَرَجَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا . ثُمَّ إنَّهُ تَنَاقَضَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ؛ لَمَّا حَكَى عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّ الْوَلِيَّ يَكُونُ مُنْفَرِدًا عَنْ النَّاسِ فَأَبْطَلَ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَقَالَ : يَلْزَمُ هَذَا أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَبْطَلَ ذَلِكَ .
((1/121)
وَمِنْهَا ) أَنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مَا يُشْعِرُ أَنَّ تَرْكَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ - وَلَوْ أَنَّهَا التَّطَوُّعَاتُ الْمَشْرُوعَةُ - أَفْضَلُ فِي حَقِّ الْكَامِلِ ذِي الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ ،وَهَذَا أَيْضًا خَطَأٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الطَّرِيقِ ،فَإِنَّ أَكْمَلَ الْخَلْقِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا زَالَ مُحَافِظًا عَلَى مَا يُمْكِنُهُ مِنَ الْأَوْرَادِ وَالتَّطَوُّعَاتِ الْبَدَنِيَّةِ إلَى مَمَاتِهِ .
( وَمِنْهَا ) مَا ادَّعَاهُ مِنْ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِي يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَتَفْضِيلِهِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَأَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُمْ كَخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ . وَهَذَا ضَلَالٌ وَاضِحٌ ؛ فَإِنَّ أَفْضَلَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الْمَشْهُورَةِ . وَخَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ }(1)وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ « هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ إِلاَّ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ ».(2)
__________
(1) - صحيح البخاري (2457 ) وصحيح مسلم(6632 )
(2) - سنن الترمذى (4026) وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وهو كما قال(1/122)
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ عُمَرُ وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ قُلْتُ ثُمَّ أَنْتَ قَالَ مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ(1)" وَرَوَى بِضْعٌ وَثَمَانُونَ نَفْسًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ "(2).
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}(3)(
__________
(1) - صحيح البخاري(3395 ) وفي صحيح البخاري (3382 ) عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ثُمَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم
(2) - أحمد ( 846 و848 و849 و891 و892 و938 و944 و1043 و1044 و1064 و1072 ) وهو متواتر عنه
(3) - وَمَنْ أَطَاعَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَعَمِلَ بِمَا أَمَرا بِهِ ، وَانْتَهَى عَمَّا نَهَيَا عَنْهُ ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُسْكِنُهُ دَارَ كَرَامَتِهِ ، وَيَجْعَلُهُ مُرَافِقاً لِلأَنْبِيَاءَ ، ثُمَّ لِمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الرُّتْبَةِ ، وَهُمُ الصِّدِّيقُونَ ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ ، ثُمَّ عُمُومُ المُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ الذِينَ صَلُحَتْ سَرَائِرُهُمْ وَعَلاَنِيَتُهُمْ وَمَا أَحْسَنَ رِفْقَةَ هَؤُلاءِ الذِينَ لاَ يَشْقَى جَلِيسُهُمْ .
(
وَيُذْكَرُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ : أنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ جَاءَ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَحْزُوناً ، فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ عَنْ سَبَبِ حُزْنِهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ شَيءٌ فَكَّرْتُ فِيهِ . فَقَالَ النَّبِيُّ : وَمَا هُوَ؟ قَالَ : نَحْنُ نَغْدُو وَنَرُوحُ ، وَنَنْظُرُ إلى وَجْهِكَ وَنُجَالِسُكَ ، وَغَداً تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ فَلا نَصِلُ إِلَيْكَ . فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ بِشَيءٍ ، فَجَاءَهُ جِبْريلٌ عَلَيهِ السَّلاَمُ بِهَذِهِ الآيَةِ ) . ( وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ : " مَنْ أَحَبَّ قَوْماً حُشِرَ مَعَهُمْ " ) . ( وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ أَيْْضاً : " المَرْءُ مَعَ مَْن أَحَبَّ " )(1/123)
69) سورة النساء ،وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ مَرَاتِبُ الْعِبَادِ : أَفْضَلُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصِّدِّيقُونَ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ . وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفَضِّلَ أَحَدٌ مِنَّا نَفْسَهُ عَلَى يُونُسَ بْنِ متى(1)،
__________
(1) - عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ حَدَّثَنَا ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ "صحيح البخاري (3144 )
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى "صحيح البخاري (3160 )(1/124)
مَعَ قَوْلِهِ : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) } [القلم/48-50]، وَقَوْلِهِ {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}(1)(
__________
(1) - فَابْتَلَعَهُ الحُوتُ ، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْمَلاَمَةِ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ قَوْمِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّهِ ، وَتَخَلِّيهِ عَنْ دَعْوتِهِمْ إِلَى اللهِ ، والدَّعْوَةُ تَسْتَدْعِي الصَّبْرَ والثَّبَاتَ ..(1/125)
142) سورة الصافات ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُفَضِّلَ أَحَدٌ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ ابْنِ متى }(1)،وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا يَنْبَغِي لِعَبْدِ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْ يُونُسَ بْنِ متى }(2)، وَفِي لَفْظٍ : { أَنْ يَقُولَ : أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى }(3)، وَفِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى فَقَدْ كَذَبَ }(4)،وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ - يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - { لَا يَنْبَغِي لِعَبْدِ أَنْ يَقُولَ : أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى }(5)، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا يَنْبَغِى لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى »(6)، وَهَذَا فِيهِ نَهْيٌ عَامٌّ .
__________
(1) - البخاري (3160 )
(2) - صحيح البخاري(3160 )
(3) - صحيح البخاري(3144 )
(4) - صحيح البخاري (4238)
(5) - صحيح البخاري (3163 ) ومسلم (6309 )
(6) - صحيح البخاري(3144 ) و صحيح مسلم (6310 )(1/126)
وَأَمَّا مَا يَرْوِيهِ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ متى } وَيُفَسِّرُهُ بِاسْتِوَاءِ حَالِ صَاحِبِ الْمِعْرَاجِ وَحَالِ صَاحِبِ الْحُوتِ : فَنَقْلٌ بَاطِلٌ وَتَفْسِيرٌ بَاطِلٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « اثْبُتْ أُحُدُ فَمَا عَلَيْكَ إِلاَّ نَبِىٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدَانِ »(1). وَأَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ الصِّدِّيقِينَ .
__________
(1) - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ صَعِدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى أُحُدٍ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ ، فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ ، قَالَ « اثْبُتْ أُحُدُ فَمَا عَلَيْكَ إِلاَّ نَبِىٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدَانِ » . صحيح البخارى (3686 )-رجف : خفق واضطرب(1/127)
وَلَفْظُ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ : لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّتِهَا وَلَا لَهُ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَمُوجَبُ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ آخِرُ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) } [يونس/62، 63] ،فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا كَانَ لِلَّهِ وَلِيًّا " . وَهُمْ عَلَى دَرَجَتَيْنِ : السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ الْمُقْتَصِدُونَ كَمَا قَسَّمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ فَاطِرٍ وَسُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَالْإِنْسَانِ وَالْمُطَفِّفِينَ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ »(1).
__________
(1) - صحيح البخارى (6502 )(1/128)
فالمتقربون إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ : هُمْ الْأَبْرَارُ الْمُقْتَصِدُونَ أَصْحَابُ الْيَمِينِ ،والمتقربون إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ الَّتِي يُحِبُّهَا بَعْدَ الْفَرَائِضِ ، هُمْ السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ، وَإِنَّمَا تَكُونُ النَّوَافِلُ بَعْدَ الْفَرَائِضِ . وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ فِي وَصِيَّتِهِ لِعُمَرِ ابْنِ الْخَطَّابِ:" إِنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِالنَّهَارِ لاَ يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ ، وَإِنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لاَ يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ ، وَأَنَّهُ لاَ يَقْبَلُ نَافِلَةً حَتَّى تُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ ".(1)
__________
(1) - عَنْ زُبَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ ؛ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ يَسْتَخْلِفُهُ ، فَقَالَ النَّاسُ : تَسْتَخْلِفُ عَلَيْنَا فَظًّا غَلِيظًا ، وَلَوْ قَدْ وَلِيَنَا كَانَ أَفَظَّ وَأَغْلَظَ ، فَمَا تَقُولُ لِرَبِّكَ إِذَا لَقِيتَهُ ، وَقَدِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْنَا عُمَرَ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَبِرَبِّي تُخَوِّفُونَنِي ؟ أَقُولُ : اللَّهُمَّ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمْ خَيْرَ خَلْقِك.
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ ، فَقَالَ : إِنِّي مُوصِيكَ بِوَصِيَّةٍ إِنْ أَنْتَ حَفِظْتَهَا : إِنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِالنَّهَارِ لاَ يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ ، وَإِنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لاَ يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ ، وَأَنَّهُ لاَ يَقْبَلُ نَافِلَةً حَتَّى تُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ ، وَإِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا الْحَقَّ وَثِقَلُهُ عَلَيْهِمْ ، وَحَقٌّ لِمِيزَانٍ لاَ يُوضَعُ فِيهِ إِلاَّ الْحَقُّ أَنْ يَكُونَ ثَقِيلاً ، وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمَ الْبَاطِلَ وَخِفَّتُهُ عَلَيْهِمْ ، وَحَقٌّ لِمِيزَانٍ لاَ يُوضَعُ فِيهِ إِلاَّ الْبَاطِلُ أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا ، وَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِصَالِحِ مَا عَمِلُوا ، وَأَنَّهُ تَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ، فَيَقُولُ الْقَائِلُ : لاَ أَبْلُغُ هَؤُلاَءِ ، وَذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ بِأَسْوَإِ مَا عَمِلُوا ، وَأَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ صَالِحَ مَا عَمِلُوا ، فَيَقُولُ قَائِلٌ : أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَؤُلاَءِ ، وَذَكَرَ آيَةَ الرَّحْمَةِ وَآيَةَ الْعَذَابِ ، لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ رَاغِبًا وَرَاهِبًا ، لاَ يَتَمَنَّى عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ، وَلاَ يُلْقِي بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ.
فَإِنْ أَنْتَ حَفِظْت وَصِيَّتِي ، لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبَّ إِلَيْك مِنَ الْمَوْتِ ، وَإِنْ أَنْتَ ضَيَّعْت وَصِيَّتِي لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَبْغَضَ إِلَيْك مِنَ الْمَوْتِ ، وَلَنْ تَعْجِزَهُ.
مصنف ابن أبي شيبة (235) - (ج 14 / ص 572)(38211) وأخرجه ابن المبارك (1/319 ، رقم 914) ، وابن أبى شيبة (7/434 ، رقم 37056) ، وهناد (1/284 ، رقم 496) ، وأبو نعيم فى الحلية (1/36) وهو صحيح لغيره .(1/129)
والاتحادية يَزْعُمُونَ أَنَّ قُرْبَ النَّوَافِلِ : يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ عَيْنُ الْحَقِّ عَيْنَ أَعْضَائِهِ ،وَأَنَّ قُرْبَ الْفَرَائِضِ : يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ عَيْنَ وُجُودِهِ كُلِّهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ،بَلْ كُفْرٌ صَرِيحٌ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَإِذَا كَانَ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ آخِرَ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ فِي الدُّنْيَا، فَلَيْسَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَفْضَلَ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا أَكْمَلَهُمْ ،بَلْ أَفْضَلُهُمْ وَأَكْمَلُهُمْ سَابِقُوهُمْ الَّذِينَ هُمْ أَخَصُّ بِأَفْضَلِ الرُّسُلِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الْوَلِيُّ أَعْظَمَ اخْتِصَاصًا بِالرَّسُولِ وَأَخْذًا عَنْهُ وَمُوَافَقَةً لَهُ كَانَ أَفْضَلَ ،إذِ الْوَلِيُّ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ؛ فَعَلَى قَدْرِ الْمُتَابَعَةِ لِلرَّسُولِ : يَكُونُ قَدْرُ الْوِلَايَةِ لِلَّهِ .
وَالْأَوْلِيَاءُ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُحَدِّثُونَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: « لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ ، فَإِنْ يَكُ فِى أُمَّتِى أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ »(1).
__________
(1) - صحيح البخارى (3689 ) وصحيح مسلم (6357 )عَنْ عَائِشَةَ
المحدث : الصادق الظن الملهم الذى يلقَى فى نفسه الشىء فيخبر به فراسة(1/130)
فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عُمَرُ ؛ وَأَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْهُ إذْ هُوَ الصِّدِّيقُ، فَالْمُحَدَّثُ - وَإِنْ كَانَ يُلْهَمُ وَيُحَدِّثُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى- فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِضَ ذَلِكَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومِ كَمَا قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الشاذلي : قَدْ ضُمِنَتْ لَنَا الْعِصْمَةُ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلَمْ تُضْمَنْ لَنَا الْعِصْمَةُ فِي الْكُشُوفِ وَالْإِلْهَامِ . وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ ،وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يُبَيِّنُ لَهُ أَشْيَاءَ تُخَالِفُ مَا يَقَعُ لَهُ كَمَا بَيَّنَ لَهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةَ ،وَيَوْمَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،وَيَوْمَ قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ ،وَغَيْرَ ذَلِكَ ،وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُشَاوِرُ الصَّحَابَةَ ؛ فَتَارَةً يَرْجِعُ إلَيْهِمْ وَتَارَةً يَرْجِعُونَ إلَيْهِ، وَرُبَّمَا قَالَ الْقَوْلَ : فَتَرُدُّ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَوْلَهُ وَتُبَيِّنُ لَهُ الْحَقَّ فَيَرْجِعُ إلَيْهَا وَيَدَعُ قَوْلَهُ، كَمَا قُدِّرَ الصَّدَاقُ ،وَرُبَّمَا يَرَى رَأْيًا فَيُذْكَرُ لَهُ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَعْمَلُ بِهِ وَيَدَعُ رَأْيَهُ ،وَكَانَ يَأْخُذُ بَعْضَ السُّنَّةِ عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ، وَكَانَ يَقُولُ الْقَوْلَ فَيُقَالُ لَهُ : أَصَبْت فَيَقُولُ وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَهُ ؟ .(1/131)
فَإِذَا كَانَ هَذَا إمَامَ الْمُحَدَّثِينَ فَكُلُّ ذِي قَلْبٍ يُحَدِّثُهُ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ هُوَ دُونَ عُمَرَ ، فَلَيْسَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ بَلْ الْخَطَأُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ ،وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ تَدَّعِي أَنَّ الْوَلِيَّ مَحْفُوظٌ ،وَهُوَ نَظِيرُ مَا يَثْبُتُ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْعِصْمَةِ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ قَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا - فَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ .
وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ : يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،وَإِنْ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي الْهُدَى وَالنُّورِ وَالْإِصَابَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ أَفْضَلَ مِنَ الْمُحَدَّثِ؛ لِأَنَّ الصِّدِّيقَ يَأْخُذُ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ فَلَا يَأْخُذُ إلَّا شَيْئًا مَعْصُومًا مَحْفُوظًا .
وَأَمَّا الْمُحَدِّثُ فَيَقَعُ لَهُ صَوَابٌ وَخَطَأٌ ،وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تَمَيَّزَ صَوَابُهُ مِنْ خَطَئِهِ ؛ وَبِهَذَا صَارَ جَميعُ الْأَوْلِيَاءِ مُفْتَقِرِينَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَزِنُوا جَمِيعَ أُمُورِهِمْ بِآثَارِ الرَّسُولِ، فَمَا وَافَقَ آثَارَ الرَّسُولِ فَهُوَ الْحَقُّ وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ ،وَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ فِيهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُثِيبُهُمْ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ خَطَأَهُمْ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ أَعْظَمُ اهْتِدَاءً وَاتِّبَاعًا لِلْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ، فَهُمْ أَعْظَمُ إيمَانًا وَتَقْوَى وَأَمَّا آخِرُ الْأَوْلِيَاءِ : فَلَا يَحْصُلُ لَهُ مِثْلُ مَا حَصَلَ لَهُمْ .(1/132)
وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى : « مَثَلُ أُمَّتِى مَثَلُ الْمَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ »(1)،
__________
(1) - سنن الترمذى (3109 ) ومسند أحمد (19394) والمعجم الأوسط للطبراني (3802 ) ومسند البزار( 1412و3527 و6896 ) ومسند الشهاب القضاعي (1244 ) ومسند الطيالسي (682و2135 )ومجمع 10/68 ومطالب (4216) بغوى 1/405 وفتح 7/6 وكثير 7/493 وخط 11/114 وصحيح الجامع (5854) وهو حديث صحيح
وفي تحفة الأحوذي - (ج 7 / ص 188)
قَالَ التوربشتي : لَا يُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى التَّرَدُّدِ فِي فَضْلِ الْأَوَّلِ عَلَى الْآخِرِ فَإِنَّ الْقَرْنَ الْأَوَّلَ هُمْ الْمُفَضَّلُونَ عَلَى سَائِرِ الْقُرُونِ مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ وَفِي الرَّابِعِ اِشْتِبَاهٌ مِنْ قِبَلِ الرَّاوِي ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِمْ نَفْعُهُمْ فِي بَثِّ الشَّرِيعَةِ وَالذَّبِّ عَنْ الْحَقِيقَةِ . قَالَ الْقَاضِي : نَفَى تَعَلُّقَ الْعِلْمِ بِتَفَاوُتِ طَبَقَاتِ الْأُمَّةِ فِي الْخَيْرِيَّةِ وَأَرَادَ بِهِ نَفْيَ التَّفَاوُتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ } أَيْ بِمَا لَيْسَ فِيهِنَّ كَأَنَّهُ قَالَ لَوْ كَانَ لَعُلِمَ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَخْفَى وَلَكِنْ لَا يُعْلَمُ لِاخْتِصَاصِ كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْهُمْ بِخَاصِّيَّةٍ وَفَضِيلَةٍ تُوجِبُ خَيْرِيَّتَهَا كَمَا أَنَّ كُلَّ نَوْبَةٍ مِنْ نُوَبِ الْمَطَرِ لَهَا فَائِدَةٌ فِي النُّشُوءِ وَالنَّمَاءِ لَا يُمْكِنُك إِنْكَارُهَا وَالْحُكْمُ بِعَدَمِ نَفْعِهَا ، فَإِنَّ الْأَوَّلِينَ آمَنُوا بِمَا شَاهَدُوا مِنْ الْمُعْجِزَاتِ وَتَلَقَّوْا دَعْوَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِجَابَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْآخِرِينَ آمَنُوا بِالْغَيْبِ لِمَا تَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْآيَاتِ وَاتَّبَعُوا مَنْ قَبْلَهُمْ بِالْإِحْسَانِ ، وَكَمَا أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ اِجْتَهَدُوا فِي التَّأْسِيسِ وَالتَّمْهِيدِ فَالْمُتَأَخِّرُونَ بَذَلُوا وُسْعَهُمْ فِي التَّلْخِيصِ وَالتَّجْرِيدِ وَصَرَفُوا عُمْرَهُمْ فِي التَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ ، فَكُلُّ ذَنْبِهِمْ مَغْفُورٌ وَسَعْيُهُمْ مَشْكُورٌ وَأَجْرُهُمْ مَوْفُورٌ اِنْتَهَى . قَالَ الطِّيبِيُّ : وَتَمْثِيلُ الْأُمَّةِ بِالْمَطَرِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَا أَنَّ تَمْثِيلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَيْثَ بِالْهُدَى وَالْعِلْمِ فَتَخْتَصُّ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْمُشَبَّهَةُ بِالْمَطَرِ بِالْعُلَمَاءِ الْكَامِلِينَ مِنْهُمْ الْمُكَمِّلِينَ لِغَيْرِهِمْ فَيَسْتَدْعِي هَذَا التَّفْسِيرُ أَنْ يُرَادَ بِالْخَيْرِ النَّفْعُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْمُسَاوَاةُ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ ، وَلَوْ ذُهِبَ إِلَى الْخَيْرِيَّةِ فَالْمُرَادُ وَصْفُ الْأُمَّةِ قَاطِبَةً سَابِقِهَا وَلَاحِقِهَا وَأَوَّلِهَا وَآخِرِهَا بِالْخَيْرِ وَأَنَّهَا مُلْتَحِمَةٌ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ مَرْصُوصَةٌ بِالْبُنْيَانِ مُفَرَّغَةٌ كَالْحَلْقَةِ الَّتِي لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا . وَفِي أُسْلُوبِ هَذَا الْكَلَامِ قَوْلُ الْأَنْمَارِيَّةِ : هُمْ كَالْحَلْقَةِ الْمُفَرَّغَةِ لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا تُرِيدُ الْمُكَمِّلَةَ ، وَيُلَمِّحُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ : إِنَّ الْخِيَارَ مِنْ الْقَبَائِلِ وَاحِدٌ وَبَنُو حَنِيفَةَ كُلُّهُمْ أَخْيَارُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأُمَّةَ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ فِي الْخَيْرِيَّةِ بِحَيْثُ أُبْهِمَ أَمْرُهَا فِيهَا وَارْتَفَعَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ سَوْقِ الْمَعْلُومِ مَسَاقَ غَيْرِهِ وَفِي مَعْنَاهُ أَنْشَدَ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ : تَشَابَهَ يَوْمَاهُ عَلَيْنَا فَأَشْكَلَا فَمَا نَحْنُ نَدْرِي أَيُّ يَوْمَيْهِ أَفْضَلُ يَوْمٍ بَدَاءُ الْعُمْرِ أَمْ يَوْمُ يَأْسِهِ وَمَا مِنْهُمَا إِلَّا أَغَرُّ مُحَجَّلُ وَمِنْ الْمَعْلُومِ عِلْمًا جَلِيًّا أَنَّ يَوْمَ بُدَاءَةِ الْعُمْرِ أَفْضَلُ مِنْ يَوْمِ يَأْسِهِ ، لَكِنَّ الْبَدْءَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ يَكْمُلُ وَيَسْتَتِبُّ إِلَّا بِالْيَأْسِ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَقَالَ مَا قَالَ وَكَذَا أَمْرُ الْمَطَرِ وَالْأُمَّةِ اِنْتَهَى .(1/133)
قَدْ تُكُلِّمَ فِي إسْنَادِهِ وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ إنَّمَا مَعْنَاهُ يَكُونُ فِي آخِرِ الْأُمَّةِ مَنْ يُقَارِبُ أَوَّلَهَا حَتَّى يَشْتَبِهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أَيُّهُمَا خَيْرٌ كَمَا يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ طَرَفَا الثَّوْبِ ،مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ خَيْرٌ مِنَ الْآخَرِ ،وَلِهَذَا قَالَ : " لَا يُدْرَى " وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا السَّلْبَ لَيْسَ عَامًّا لَهَا، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا أَيَّهُمَا أَفْضَلُ .
ثُمَّ إنَّ هَذَا خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ صَارَ مَرْتَبَةً مَوْهُومَةً لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَصَارَ يَدَّعِيهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِشَيْخِهِ طَوَائِفُ وَقَدْ ادَّعَاهَا غَيْرُ وَاحِدٍ ،وَلَمْ يَدَّعِهَا إلَّا مَنْ فِي كَلَامِهِ مِنَ الْبَاطِلِ مَا لَمْ تَقُلْهُ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى كَمَا ادَّعَاهَا صَاحِبُ الْفُصُوصِ وَتَابَعَهُ صَاحِبُ الْكَلَامِ فِي الْحُرُوفِ ،وَشَيْخٌ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ كَانَ بِدِمَشْقَ ،وَآخَرُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ الَّذِي يُزَوِّجُ بِنْتَهُ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ،وَأَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ وَيَدَّعِي هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الْأُمُورِ مَا لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ ،كَمَا قَدْ يَدَّعِي الْمُدَّعِي مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ أَوْ لِشَيْخِهِ مَا ادَّعَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ .(1/134)
ثُمَّ صَاحِبُ الْفُصُوصِ وَأَمْثَالُهُ بَنَوْا الْأَمْرَ : عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَأْخُذُ عَنِ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَالنَّبِيُّ يَأْخُذُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ فَلِهَذَا صَارَ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلَ عِنْدَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَهَذَا بَاطِلٌ وَكَذِبٌ، فَإِنَّ الْوَلِيَّ لَا يَأْخُذُ عَنِ اللَّهِ إلَّا بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ إلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ مُحَدَّثًا قَدْ أُلْقِيَ إلَيْهِ شَيْءٌ : وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَزِنَهُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَتَكْلِيمُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : - مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى . وَبِإِرْسَالِ رَسُولٍ كَمَا أَرْسَلَ الْمَلَائِكَةَ إلَى الْأَنْبِيَاءِ . وَبِالْإِيحَاءِ، وَهَذَا فِيهِ لِلْوَلِيِّ نَصِيبٌ ،وَأَمَّا الْمَرْتَبَتَانِ الْأُولَيَانِ : فَإِنَّهُمَا لِلْأَنْبِيَاءِ خَاصَّةً ،فَالْأَوْلِيَاءُ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِالرُّسُلِ لَا يَأْخُذُونَ عِلْمَ الدِّينِ إلَّا بِتَوَسُّطِ رُسُلِ اللَّهِ إلَيْهِمْ ،وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا عَرْضُهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ،وَلَنْ يَصِلُوا فِي أَخْذِهِمْ عَنِ اللَّهِ إلَى مَرْتَبَةِ نَبِيٍّ أَوْ رَسُولٍ، فَكَيْفَ يَكُونُونَ آخِذِينَ عَنِ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَيَكُونُ هَذَا الْأَخْذُ أَعْلَى ،وَهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى مَقَامِ تَكْلِيمِ مُوسَى وَلَا إلَى مَقَامِ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ كَمَا نَزَلَتْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ؟ وَهَذَا دِينُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى .
==================
المبحثُ التاسع
الكَرَامَةُ(1)
التَّعْرِيفُ :
__________
(1) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 34 / ص 216)فما بعدها(1/135)
1 - الْكَرَامَةُ لُغَةً : مَصْدَرُ كَرُمَ ، يُقَال : كَرُمَ الرَّجُل كَرَامَةً : عَزَّ(1).
وَفِي الاِصْطِلاَحِ : تُطْلَقُ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ : فَتُطْلَقُ أَوَّلاً : بِمَعْنَى : ظُهُورِ أَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ عَلَى يَدِ شَخْصٍ ظَاهِرِ الصَّلاَحِ غَيْرِ مُقَارِنٍ لِدَعْوَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ .
وَتُطْلَقُ ثَانِيًا : بِمَعْنَى : الإِْعْزَازِ وَالتَّفْضِيل وَالتَّشْرِيفِ ، وَتُطْلَقُ ثَالِثًا : بِمَعْنَى : إِكْرَامِ الضَّيْفِ(2).
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
أ - الْمُعْجِزَةُ :
2 - الْمُعْجِزَةُ فِي اللُّغَةِ : هِيَ مَا يَعْجِزُ الْخَصْمُ عِنْدَ التَّحَدِّي .
وَاصْطِلاَحًا : هِيَ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ مَقْرُونٌ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ قُصِدَ بِهِ إِظْهَارُ صِدْقِ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ مَعَ عَجْزِ الْمُنْكِرِينَ عَنِ الإِْتْيَانِ بِمِثْلِهِ(3).وَعَلَى هَذَا فَالْمُعْجِزَةُ أَخَصُّ مِنَ الْكَرَامَةِ .
ب - الإِْرْهَاصُ :
3 - الإِْرْهَاصُ : مَا يَظْهَرُ مِنَ الْخَوَارِقِ قَبْل ظُهُورِ النَّبِيِّ(4).وَالْكَرَامَةُ أَعَمُّ مِنْهُ .
ج - الاِسْتِدْرَاجُ :
4 - الاِسْتِدْرَاجُ : مَا يَظْهَرُ مِنْ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ عَلَى يَدِ كَافِرٍ أَوْ فَاسِقٍ(5)،وَالصِّلَةُ بَيْنَ الاِسْتِدْرَاجِ وَالْكَرَامَةِ الضِّدْيَّةُ مِنْ حَيْثُ الْمَقْصُودُ .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكَرَامَةِ :
الْكَرَامَةُ بِمَعْنَى التَّشْرِيفِ وَالإِْعْزَازِ :
__________
(1) - لسان العرب .
(2) - التعريفات للجرجاني .
(3) - القاموس المحيط ، وحاشية البيجوري على جوهرة التوحيد ص80 .
(4) - التعريفات للجرجاني ، وحاشية البيجوري على جوهرة التوحيد ص80 .
(5) - الإقناع للشربيني 1 / 691 ، والتعريفات للجرجاني .(1/136)
5 - الْكَرَامَةُ بِمَعْنَى التَّشْرِيفِ وَالإِْعْزَازِ ، مَنْزِلَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ لِبَنِي آدَمَ وَفَضَّلَهُمْ بِهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ ، قَال عَزَّ مَنْ قَائِلٌ : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } (سورة الإسراء / 70 ) ، قَال ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الآْيَةِ : أَيْ : لَقَدْ شَرَّفْنَا ذُرِّيَّةَ آدَمَ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ ، بِالْعَقْل ، وَالْعِلْمِ ، وَالنُّطْقِ ، وَتَسْخِيرِ مَا فِي الْكَوْنِ لَهُمْ ، وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى مَنْ خَلَقْنَا مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ ، وَأَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْجِنِّ ، وَالْبَهَائِمِ وَالْوَحْشِ وَالطَّيْرِ(1)، وَقَدْ حَافَظَ الإِْسْلاَمُ عَلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ لِبَنِي آدَمَ جَعَلَهُ مَبْدَأَ الْحُكْمِ ، وَأَسَاسَ الْمُعَامَلَةِ ، وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ مِنَ التَّشْرِيعَاتِ ، فَلاَ يَحِل لأَِحَدٍ إِهْدَارُ كَرَامَةِ أَحَدٍ بِالاِعْتِدَاءِ عَلَيْهَا : بِالْقَتْل ، قَال تَعَالَى : { مَنْ قَتَل نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَل النَّاسَ جَمِيعًا } (سورة المائدة / 32 ) أَوْ بِهَتْكِ عِرْضِهِ ، قَال اللَّهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } (سورة النور / 4) ، أَوْ بِالسُّخْرِيَةِ مِنْهُ وَالاِسْتِهْزَاءِ بِهِ ، قَال تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ
__________
(1) - تفسير ابن كثير في الآية 70 من سورة الإسراء(1/137)
عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَْلْقَابِ } (سورة الحجرات / 11) ، وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ فِي حَيَاتِهِ ، وَبَعْدَ مَمَاتِهِ ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الأَْعْدَاءِ أَثْنَاءَ الْحَرْبِ ، وَبَعْدَ انْتِهَائِهَا ، وَفِي الْحَدِيثِ : لاَ تَغُلُّوا ، وَلاَ تَغْدِرُوا ، وَلاَ تُمَثِّلُوا(1)(
__________
(1) - عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِى خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ « اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَ لاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلاَلٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِى عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِى يَجْرِى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ فِى الْغَنِيمَةِ وَالْفَىْءِ شَىْءٌ إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلاَ ذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ ». صحيح مسلم (4619 )
تخفر : تنقض العهد =تغل : تسرق من الغنيمة قبل أن تقسم(1/138)
ر : جِهَادٌ ف 31 ).
إِكْرَامُ الضَّيْفِ :
6 - رَغَّبَ الإِْسْلاَمُ فِي كَرَامَةِ الضَّيْفِ وَعَدَّهَا مِنْ أَمَارَاتِ صِدْقِ الإِْيمَانِ ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ »(1).
__________
(1) - صحيح البخارى(6018 ) ومسلم (182 )
وفي المنتقى - شرح الموطأ - (ج 4 / ص 334)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ هَذَا مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ وَالضِّيَافَةُ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ وَأَوَّلُ مَنْ ضَيَّفَ الضَّيْفَ إبْرَاهِيمُ عليه السلام قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَلْ أَتَاك حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ أُكْرِمُوا ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَصَفَ ذَلِكَ بِالْكَرَامَةِ فَقَالَ : فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَلَمْ يَقُلْ : فَلْيَقْضِهِ حَقَّهُ وَالْإِكْرَامُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَقَدْ يَتَعَيَّنُ وُجُوبُهَا فِي مَوَاضِعَ لِلْمُجْتَازِ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُبَلِّغُهُ وَيَخَافُ الْهَلَاكَ إِنْ لَمْ يُضَيِّفْ وَتَكُونُ وَاجِبَةً عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ الْعَامِرِينَ لِأَرْضِ الْعَنْوَةِ إِنْ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ . رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ : قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك تَبْعَثُنَا فَنَمُرُّ بِقَوْمٍ لَا يُقْرُونَنَا فَمَاذَا تَرَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم : إِنْ أَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي يَحْتَمِلُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِمَنْ كَانَ يَجْتَازُ غَازِيًا عَلَى أَهْلِ عَهْدٍ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِصْحَابِ الزَّادِ إِلَى رَأْسِ مَغْزَاتِهِ وَلَا يَصِلُ إِلَى الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ الَّذِي تَعَيَّنَ فَرْضُهُ وَوُجُوبُهُ إِلَّا بِالْقِرَى فِي الطَّرِيقِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ اُفْتُتِحَتْ خَيْبَرُ وَغَيْرُهَا مِنْ بِلَادِ الْعَنْوَةِ إِنْ كَانَ شُرِطَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِهَا وَأَمَّا أَهْلُ الْحَضَرِ فَقَوْلُهُ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْحَضَرِ ضِيَافَةٌ وَقَالَ سَحْنُونٌ الضِّيَافَةُ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى وَأَمَّا أَهْلُ الْحَضَرِ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا قَدِمَ الْحَضَرَ وَجَدَ مَنْزِلًا وَهُوَ الْفُنْدُقُ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ النَّدْبُ إِلَيْهِ وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى أَهْلِ الْحَضَرِ بِعَيْنِهِ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى لِمَعَانٍ أَحَدُهَا أَنَّ ذَلِكَ يَتَكَرَّرُ عَلَى أَهْلِ الْحَضَرِ فَلَوْ الْتَزَمَ أَهْلُ الْحَضَرِ الضِّيَافَةَ لَمَا خَلَوْا مِنْهَا وَأَهْلُ الْقُرَى يَنْدُرُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَيَقِلُّ فَلَا تَلْحَقُهُمْ بِذَلِكَ مَشَقَّةٌ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ الْمُسَافِرَ يَجِدُ فِي الْحَضَرِ مِنْ الْمَسْكَنِ وَالطَّعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَلَا تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ لِعَدَمِ الضِّيَافَةِ وَأَمَّا فِي الْقُرَى الصِّغَارِ فَلَا يَجِدُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَهُوَ كَالْمُضْطَرِّ إِلَى مَنْ يُضَيِّفُهُ وَحُكْمُ الْقُرَى الْكِبَارِ الَّتِي تُوجَدُ فِيهَا الْفَنَادِقُ وَالْمَطَاعِمُ لِلشِّرَاءِ وَيَكْثُرُ تَرْدَادُ النَّاسِ عَلَيْهَا حُكْمُ الْحَضَرِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ ، وَهَذَا فِيمَنْ لَا يَعْرِفُهُ الْإِنْسَانُ وَأَمَّا مَنْ يَعْرِفُهُ مَعْرِفَةَ مَوَدَّةٍ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْنًى يَقْتَضِي الْمُوَاصَلَةَ وَالْمُكَارَمَةَ فَحُكْمُهُ فِي الْحَضَرِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .(1/139)
كَرَامَةُ الْعُلَمَاءِ وَكِبَارِ السِّنِّ ، وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ وَأَهْل الْفَضْل :
7 - حَثَّ الإِْسْلاَمُ عَلَى تَوْقِيرِ الْعُلَمَاءِ وَكِبَارِ السِّنِّ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ ، وَأَهْل الْفَضْل ، قَال تَعَالَى : { قُل هَل يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } (سورة الزمر / 9) ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّ مِنْ إِجْلاَلِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِى الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِى فِيهِ وَالْجَافِى عَنْهُ وَإِكْرَامَ ذِى السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ ».(1)،
__________
(1) - سنن أبى داود (4845 )صحيح
عون المعبود - (ج 10 / ص 365)
( إِنَّ مِنْ إِجْلَال اللَّه ) : أَيْ تَبْجِيله وَتَعْظِيمه
( إِكْرَام ذِي الشَّيْبَة الْمُسْلِم ) : أَيْ تَعْظِيم الشَّيْخ الْكَبِير فِي الْإِسْلَام بِتَوْقِيرِهِ فِي الْمَجَالِس وَالرِّفْق بِهِ وَالشَّفَقَة عَلَيْهِ وَنَحْو ذَلِكَ ، كُلّ هَذَا مِنْ كَمَالِ تَعْظِيم اللَّه لِحُرْمَتِهِ عِنْد اللَّه
( وَحَامِل الْقُرْآن ) أَيْ وَإِكْرَام حَافِظه وَسَمَّاهُ حَامِلًا لَهُ لِمَا يَحْمِل لِمَشَاقٍّ كَثِيرَة تَزِيد عَلَى الْأَحْمَال الثَّقِيلَة قَالَهُ الْعَزِيزِيُّ . وَقَالَ الْقَارِي : أَيْ وَإِكْرَام قَارِئِهِ وَحَافِظه وَمُفَسِّره
( غَيْر الْغَالِي ) بِالْجَرِّ ( فِيهِ ) أَيْ فِي الْقُرْآن .
وَالْغُلُوّ التَّشْدِيد وَمُجَاوَزَة الْحَدّ ، يَعْنِي غَيْر الْمُتَجَاوِز الْحَدّ فِي الْعَمَل بِهِ وَتَتَبُّع مَا خَفِيَ مِنْهُ وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ مِنْ مَعَانِيه وَفِي حُدُود قِرَاءَته وَمَخَارِج حُرُوفه قَالَهُ الْعَزِيزِيُّ
(
وَالْجَافِي عَنْهُ ) أَيْ وَغَيْر الْمُتَبَاعِد عَنْهُ الْمُعْرِض عَنْ تِلَاوَته وَإِحْكَام قِرَاءَته وَإِتْقَان مَعَانِيه وَالْعَمَل بِمَا فِيهِ . وَقِيلَ الْغُلُوّ الْمُبَالَغَة فِي التَّجْوِيد أَوْ الْإِسْرَاع فِي الْقِرَاءَة بِحَيْثُ يَمْنَعهُ عَنْ تَدَبُّر الْمَعْنَى .
وَالْجَفَاء أَنْ يَتْرُكهُ بَعْد مَا عَلِمَهُ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ نَسِيَهُ فَإِنَّهُ عُدَّ مِنْ الْكَبَائِر ، قَالَ فِي النِّهَايَة : وَمِنْهُ الْحَدِيث " اِقْرَءُوا الْقُرْآن وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ " أَيْ تَعَاهَدُوهُ وَلَا تَبْعُدُوا عَنْ تِلَاوَته بِأَنْ تَتْرُكُوا قِرَاءَته وَتَشْتَغِلُوا بِتَفْسِيرِهِ وَتَأْوِيله وَلِذَا قِيلَ اِشْتَغِلْ بِالْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعك عَنْ الْعَمَل وَاشْتَغِلْ بِالْعَمَلِ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعك عَنْ الْعِلْم ، وَحَاصِله أَنَّ كُلًّا مِنْ طَرَفَيْ الْإِفْرَاط وَالتَّفْرِيط مَذْمُوم ، وَالْمَحْمُود هُوَ الْوَسَط الْعَدْل الْمُطَابِق لِحَالِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيع الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال ، كَذَا فِي الْمِرْقَاة شَرْح الْمِشْكَاة
( وَإِكْرَام ذِي السُّلْطَان الْمُقْسِط ) : بِضَمِّ الْمِيم أَيْ الْعَادِل .(1/140)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلاَّ قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ »(1).
الْكَرَامَةُ بِمَعْنَى ظُهُورِ أَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ عَلَى يَدِ غَيْرِ نَبِيٍّ :
__________
(1) - أخرجه الترمذى (2154 ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ بَيَانٍ الْعُقَيْلِىُّ حَدَّثَنَا أَبُو الرَّحَّالِ الأَنْصَارِىُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ به
ويزيد بن بيان وشيخه فيهما ضعف ، والإمام الترمذي لم يحسن هذا الحديث ، ولا الإمام النووي . فالحديث ضعيف ، ويجوز العمل به في فضائل الأعمال
ومما يشهد له من حيث المعنى ففي الزهد لأحمد بن حنبل (773 )حدثنا عبد الله ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة قال : قال أبو الدرداء : البر لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا ينام فكن كما شئت كما تدين تدان " وهو صحيح لغيره موقوف
وفي الزهد الكبير للبيهقي(718 ) أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، ثنا أحمد بن منصور ، ثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « البر لا يبلى ، والإثم لا ينسى ، والديان لا ينام ، فكن كما شئت كما تدين تدان » وهو صحيح مرسل
وحديث مسلم (7028 ) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ فِى عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِى عَوْنِ أَخِيهِ .. ».(1/141)
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ أَهْل السُّنَّةِ إِلَى جَوَازِ ظُهُورِ أَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ عَلَى يَدِ مُؤْمِنٍ ظَاهِرِ الصَّلاَحِ إِكْرَامًا مِنَ اللَّهِ لَهُ ، وَإِلَى وُقُوعِهَا فِعْلاً ، وَيُسَمَّى وَلِيًّا .
وَالْوَلِيُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ : هُوَ الْعَارِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ حَسَبَ الإِْمْكَانِ ، وَالْمُوَاظِبُ عَلَى الطَّاعَةِ الْمُجْتَنِبُ لِلْمَعَاصِي ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يَرْتَكِبُ مَعْصِيَةً بِدُونِ تَوْبَةٍ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لاَ يَقَعُ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ ، لأَِنَّهُ لاَ عِصْمَةَ إِلاَّ لِلأَْنْبِيَاءِ ( ر : وِلاَيَةٌ ) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِهَا بِأَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ عَلَى فَرْضِ وُقُوعِهَا مُحَالٌّ ، وَكُل مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُقُوعِهَا بِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قِصَّةِ مَرْيَمَ قَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ : {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}(1)(
__________
(1) - فَتَقَبَّلَهَا رَبُهَا نَذِيرَةً مُحَرَّرَةً لِلْعِبَادَةِ وَخِدْمَةِ بَيْتِهِ ، وَأحَسَنَ نَشْأَتَهَا وَنَباتَها ، وَقَرَنَها بِالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ ، تَتَعَلَّمُ مِنْهُمُ العِلْمَ وَالخَيْرَ وَالدِّينَ .
وَجَعَلَ زَكَريَا كَافِلاً لَهَا ، إتْمَاماً لِسَعَادَتِهَا ، لِتَقْتَبِسَ مِنْهُ العِلْمَ وَالعَمَلَ الصَّالِحَ . وَكُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا مَكَانَ مُصلاَّهَا ( المِحْرَابَ ) وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً ، فَكَانَ زَكَرِيّا يَسْأَلُهَا مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا الرِّزْقُ يَا مَرْيَمُ؟ فَتَرُدُّ عَلَيهِ قََائِلَةً إنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ الذِي يَرْزُقُ النَّاسَ جَمِيعاً بِتَسْخِيرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَهُوَ تَعَالَى يََرْزُقَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ رِزْقاً كَثِيراً بِلاَ حُدُودٍ؟(1/142)
37) سورة آل عمران، قَال الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الآْيَةِ : هَذَا دَلِيل جَوَازِ الْكَرَامَةِ لِلأَْوْلِيَاءِ(1)، وَفِي حَاشِيَةِ الشَّيْخِ زَادَهْ عَلَى تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ : لأَِنَّ حُصُول الرِّزْقِ عِنْدَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لاَ شَكَّ أَنَّهُ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ ظَهَرَ عَلَى يَدِ مَنْ لاَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ ، وَلَيْسَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ ، لأَِنَّ النَّبِيَّ الْمَوْجُودَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ هُوَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لَهُ لَكَانَ عَالِمًا بِحَالِهِ ، وَلَمْ يَشْتَبِهْ أَمْرُهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَقُل لِمَرْيَمَ : { أَنَّى لَكَ هَذَا } وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الآْيَةِ : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَال رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } (سورة آل عمران / 38) ، مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهَا عَنْ أَمْرِ تِلْكَ الأَْشْيَاءِ - قِيل : أَنَّهُ كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ ، وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ - لَمَّا سَأَلَهَا عَنْ تِلْكَ الأَْشْيَاءِ غَيْرِ الْعَادِيَّةِ ، وَذَكَرَتْ لَهُ : أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، هُنَالِكَ طَمِعَ فِي انْخِرَاقِ الْعَادَةِ بِحُصُول الْوَلَدِ مِنَ الْمَرْأَةِ الْعَاقِرِ الشَّيْخَةِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَائِسًا مِنَ الْوَلَدِ بِسَبَبِ شَيْخُوخَتِهِ وَشَيْخُوخَةِ زَوْجَتِهِ وَعُقْمِهَا ، فَلَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ مَا رَآهُ فِي حَقِّ مَرْيَمَ مِنَ الْخَوَارِقِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ لَمْ يَحْصُل لَهُ إِلاَّ بِإِخْبَارِ مَرْيَمَ - لَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ كُلَّهُ لَمَا كَانَتْ
__________
(1) - تفسير البيضاوي - (ج 1 / ص 339)(1/143)
رُؤْيَةُ تِلْكَ الْخَوَارِقِ فِي مَرْيَمَ سَبَبًا لِطَمَعِهِ بِوِلاَدَةِ الْعَاقِرِ ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ - وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ : ثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الْخَوَارِقَ مَا كَانَتْ مُعْجِزَةً لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلاَ لِنَبِيٍّ غَيْرِهِ ، لِعَدَمِ وُجُودِهِ ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهَا كَرَامَةٌ لِمَرْيَمَ فَثَبَتَ الْمَطْلُوبُ(1).
كَمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى وُقُوعِهَا بِقِصَّةِ أَهْل الْكَهْفِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ(2)، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِتْيَةً سَبْعَةً مِنْ أَشْرَافِ الرُّومِ خَافُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ مِنْ مَلِكِهِمْ فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ ، وَدَخَلُوا غَارًا فَلَبِثُوا فِيهِ بِلاَ طَعَامٍ وَلاَ شَرَابٍ ثَلَثَمِائَةٍ وَتِسْعَ سِنِينَ بِلاَ آفَةٍ ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ هَذَا شَيْءٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ ظَهَرَ عَلَى يَدِ مَنْ لَمْ يَدَّعِ النُّبُوَّةَ ، وَلاَ الرِّسَالَةَ .
__________
(1) - تفسير البيضاوي وحاشية الشيخ زادة في تفسير الآيات 37 ، 38 ، 33 من سورة آل عمران .
(2) - سورة الكهف من الآية 9 - إلى الآية 22 من السورة .(1/144)
وَكَذَلِكَ بِقِصَّةِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : فَقَدْ أَتَى بِعَرْشِ بِلْقِيسَ قَبْل أَنْ يَرْتَدَّ طَرْفُ سُلَيْمَانَ إِلَيْهِ مَعَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الْيَمَنِ وَالشَّامِ فَرَأَى سُلَيْمَانُ الْعَرْشَ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ بِلَمْحَةِ طَرْفِ الْعَيْنِ ، قَال تَعَالَى : {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}(1)(40) سورة النمل .
__________
(1) - فَقَالَ سُليمانُ لجماعَتِهِ إِنهُ يريدُ أَنْ يأتُوهُ بهِ بأَسرَعَ منْ ذلِكَ ، فقالَ لهُ رَجُل يعرفُ اسمَ اللهِ الأَعْظَمِ ( عندَهُ عِلمٌ منَ الكِتابِ ) إِنهُ مُسْتَعِدٌّ أنْ يأتِيَهُ بهِ قَبْلَ أن تَطْرِفَ عينُهُ وَدَعَا الرّجلُ باسْمِ اللهِ الأَعْظَمِ ، فمَثلَ العَرْشُ بينَ يَديْ سُلَيمانَ فَلَمَّا رَآهُ سُليمان ومَنْ حَوْلَهُ مُسْتَقِراً بينَ أيديهمْ قالَ سليمانُ : هذَا مِنْ نِعَمِ اللهِ عليَّ لِيَخْتَبِرَنِي رَبِّي أَأَشْكُرُهُ عَلى نِعَمِهِ أمْ أكفرُ بها؟ ومنْ شَكَرَ وَعَمِلَ صَالحاً فلنفْسِهِ ، ومَنْ كَفَرَ فَعَليهِ كُفرُهُ ، وَاللهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عنِ العِبادِ ، وعَنْ عبادَتِهِمْ .(1/145)
وَكَذَلِكَ بِمَا وَقَعَ لِلصَّحَابَةِ مِنْ كَرَامَاتٍ فِي حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَوْتِهِمْ ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال : وَجَّهَ عُمَرُ جَيْشًا ، وَرَأَّسَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً يُدْعَى : سَارِيَةَ ، فَبَيْنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْطُبُ جَعَل يُنَادِي : يَا سَارِيَةُ : الْجَبَل ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ قَدِمَ رَسُول الْجَيْشِ فَسَأَلَهُ عُمَرُ ، فَقَال : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هُزِمْنَا فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتًا يُنَادِي : يَا سَارِيَةُ إِلَى الْجَبَل ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَأَسْنَدْنَا ظُهُورَنَا إِلَى الْجَبَل فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَكَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الْمَدِينَةِ حَيْثُ كَانَ يَخْطُبُ عُمَرُ وَبَيْنَ مَكَانِ الْجَيْشِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ(1).
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - أَنَّ رَجُلَيْنِ خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ ، وَإِذَا نُورٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا حَتَّى تَفَرَّقَا ، فَتَفَرَّقَ النُّورُ مَعَهُمَا . وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ وَرَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ . قَالَ حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ كَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -(2).
__________
(1) - أخرجه ابن عساكر (20/24) ,الإصابة في معرفة الصحابة - (ج 1 / ص 410) وهو صحيح
(2) - صحيح البخارى (3805 )(1/146)
وَوَقَعَتْ لِلصَّحَابَةِ كَرَامَاتٌ بَعْدَ مَوْتِهِمْ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِى عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« إِنَّ صَاحِبَكُمْ تَغْسِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ يَعْنِى حَنْظَلَةَ فَاسْأَلُوا أَهْلَهُ مَا شَأْنُهُ ». فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ فَقَالَتْ : خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ حِينَ سَمِعَ الْهَائِعَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« لِذَلِكَ غَسَلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ ». قَالَ يُونُسُ فَحَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِى زَائِدَةَ عَنْ عَامِرٍ قَالَ : قُتِلَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَقُتِلَ حَنْظَلَةُابْنُ الرَّاهِبِ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ الَّذِى طَهَّرَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ "(1)
وَلاَ تَزَال تَقَعُ الْكَرَامَاتُ لِصُلَحَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ، لأَِنَّ اللَّهَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَعَدَ أَنْ يَنْصُرَهُمْ وَيُعِينَهُمْ ، وَيُؤَيِّدَهُمْ ، جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ : « ..وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ . »(2).
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 4 / ص 15)(7062و7063)وحلية 1/357 وبداية 4/21 ونبوة 3/246 وهو صحيح لغيره
(2) - صحيح البخارى (6502 )(1/147)
وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ نُصْرَةِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ وَتَأْيِيدِهِ ، وَإِعَانَتِهِ ، حَتَّى كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ : يُنْزِل نَفْسَهُ مِنْ عَبْدِهِ مَنْزِلَةَ الآْلاَتِ الَّتِي يَسْتَعِينُ بِهَا(1)، وَلِذَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ : " فَبِي يَسْمَعُ ، وَبِي يُبْصِرُ ، وَبِي يَبْطِشُ ، وَبِي يَمْشِي "(2)، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِلَتُهُ بِاللَّهِ فَلاَ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُكْرِمَهُ بِظُهُورِ مَا لاَ يُطِيقُهُ غَيْرُهُ عَلَى يَدَيْهِ تَكْرِيمًا لَهُ .
وَأَنْكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ الإِْسْفَرَايِينِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ حُصُول مَا يَخْرِقُ الْعَادَةَ عَلَى يَدِ غَيْرِ نَبِيٍّ ، وَقَالُوا : إِنَّ الْخَوَارِقَ دَلاَلاَتُ صِدْقِ الأَْنْبِيَاءِ ، وَدَلِيل النُّبُوَّةِ لاَ يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِ النَّبِيِّ ، وَلأَِنَّهَا لَوْ ظَهَرَتْ بِأَيْدِي الأَْوْلِيَاءِ لَكَثُرَتْ بِكَثْرَتِهِمْ ، وَلَخَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا خَارِقَةً لِلْعَادَةِ ، وَالْفَرْضُ أَنَّهَا كَذَلِكَ(3).
قَوْل مَنِ ادَّعَى مَا لاَ يُمْكِنُ عَادَةً :
__________
(1) - فتح الباري 11 / 341
(2) - رواية : " فبي يسمع وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي " أورده ابن حجر في الفتح ( 11 / 344 ) نقلاً عن الطوفي ولم يعزها إلى أي مصدر .
(3) - حاشية شيخ الإسلام الشيخ إبراهيم البيجوري المسماة بتحفة المريد على جوهرة التوحيد ص 80 وما بعدها .(1/148)
9 - إِذَا ادَّعَى أَحَدٌ مَا لاَ يُمْكِنُ عَادَةً ، وَيُمْكِنُ بِالْكَرَامَةِ فَلاَ يُقْبَل شَرْعًا وَهُوَ لَغْوٌ ، كَأَنِ ادَّعَى أَنَّهُ رَهَنَ دَارِهِ بِالشَّامِ وَأَقْبَضَهُ إِيَّاهَا ، وَهُمَا بِمَكَّةَ لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ ، قَال الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ : وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ لاَ يُحْكَمُ بِمَا يُمْكِنُ مِنْ كَرَامَاتِ الأَْوْلِيَاءِ ، وَكَذَا إِنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ فِي الْمَغْرِبِ وَهُوَ بِالْمَشْرِقِ وَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لاَ يَلْحَقُهُ ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأُْمُورَ لاَ يُعَوَّل عَلَيْهَا بِالشَّرْعِ ، وَإِنْ خَصَّ الشَّارِعُ شَخْصًا بِحُكْمٍ يَبْقَى الْحُكْمُ خَاصًّا بِهِ ، وَلاَ يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ بِالْقِيَاسِ ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ فَحَسْبُهُ(1)،
__________
(1) - عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ابْتَاعَ مِنْ سَوَاءِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُحَارِبِىِّ فَرَسًا فَجَحَدَ فَشَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« مَا حَمَلَكَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَلَمْ تَكُنْ مَعَهُ؟ ». قَالَ : صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنْ صَدَّقْتُكَ بِمَا قُلْتَ وَعَرَفْتُ أَنَّكَ لاَ تَقُولُ إِلاَّ حَقًّا فَقَالَ مَنْ شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ فَهُوَ حَسْبُهُ.
السنن الكبرى للبيهقي (ج 10 / ص 146)(21021)والمستدرك للحاكم (2188) ومجمع 9/320 وتخ 1/87 وكر 5/136 وفتح 8/519وهو حديث صحيح(1/149)
وَهَذِهِ مَكْرُمَةٌ خَاصَّةٌ بِخُزَيْمَةَ بَعْدَ شَهَادَتِهِ بِشَهَادَتَيْنِ ، فَلاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لأَِنَّهُ كَرَامَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ ، وَلاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ(1)
=====================
المبحثُ العاشر
هل كلُّ ما كانَ معجزةٌ لنبيٍّ كان كرامةً لوَليٍّ ؟(2)
قال بعض أهل العلم : إن كل معجزة وجدت لنبي يجوز أن تقع كرامة لولي. وهذا القول لا يصح بهذا الإطلاق، وإنما يتعين تقييدُه، فيستثنى ما وقع به التحدِّي لبعض الأنبياء، فإن الأولياء لا يصلون إلى مثله،قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :(3)" "الْمَشْهُورُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ إِثْبَاتُ الْكَرَامَاتِ مُطْلَقًا ، لَكِنْ اِسْتَثْنَى بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ كَأَبِي الْقَاسِم الْقُشَيْرِيُّ مَا وَقَعَ بِهِ التَّحَدِّي لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ ، وَلَا يَصِلُونَ إِلَى مِثْلِ إِيجَادِ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَنَحْو ذَلِكَ ، وَهَذَا أَعْدَل الْمَذَاهِب فِي ذَلِكَ ، فَإِنَّ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ فِي الْحَالِ وَتَكْثِيرَ الطَّعَامِ وَالْمَاءِ وَالْمُكَاشَفَةِ بِمَا يَغِيبُ عَنْ الْعَيْنِ وَالْإِخْبَار بِمَا سَيَأْتِي وَنَحْو ذَلِكَ قَدْ كَثُرَ جِدًّا حَتَّى صَارَ وُقُوعُ ذَلِكَ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى الصَّلَاحِ كَالْعَادَةِ ، فَانْحَصَرَ الْخَارِقُ الْآنَ فِيمَا قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ ، وَتَعَيَّنَ تَقْيِيدُ قَوْلِ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّ كُلَّ مُعْجِزَةٍ وُجِدَتْ لِنَبِيٍّ يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ كَرَامَةً لِوَلِيٍّ ."
وفي فتاوى الرملي :(4)
__________
(1) - تحفة المحتاج 5 / 107 ، ومسلم الثبوت 2 / 327 .
(2) - انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 7 / ص 2082)= رقم الفتوى 49724 مقولة " ما صح لنبي صح لولي " تاريخ الفتوى : 21 ربيع الثاني 1425
(3) - فتح الباري لابن حجر - (ج 11 / ص 420)
(4) - فتاوى الرملي - (ج 6 / ص 180)(1/150)
" ( سُئِلَ ) عَمَّنْ قَالَ مِنْ كَرَامَاتِ الْوَلِيِّ أَنْ يَقُولَ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَعَقِيدَتُهُ فَاسِدَةٌ فَهَلْ مَا ادَّعَاهُ صَحِيحٌ أَوْ بَاطِلٌ ؟
( فَأَجَابَ ) بِأَنَّ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ إذِ الْكَرَامَةُ الْأَمْرُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ يُظْهِرُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدِ وَلِيِّهِ وَقَدْ قَالَ الْأَئِمَّةُ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَرَامَةً لِوَلِيٍّ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا إلَّا التَّحَدِّيَ فَمَرْجِعُ الْكَرَامَةِ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى نَعَمْ إنْ أَرَادَ اسْتِقْلَالَ الْوَلِيِّ بِذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ ."
وقال البراك حفظه الله :(1)
" معجزات الأنبياء وهي الآيات والبينات والبراهين على صدقهم، وكرامات الأولياء كلها من خوارق العادات، وكل الخوارق يرجع إلى نوع القدرة والتأثير، أو العلم، أو الغنى.
فالخوارق تتنوع بحسب هذه المعاني، فمعجزات الأنبياء منها ما يكون علمياً، ومنها ما يكون من قبيل القدرة، ومنها ما يكون من قبيل الغنى، وهكذا كرامات الأولياء.
__________
(1) - فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 4 / ص 162) -بين كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء -المجيب عبد الرحمن بن ناصر البراك(1/151)
وقول القائل: (ما صح أن يكون معجزة لنبي صح أن يكون خارقاً لولي)، معناه: أن ما كان معجزة للنبي إن حصل مثله للولي فهو كرامة، وليس المقصود أن كل معجزة من معجزات الأنبياء يكون مثلها للأولياء، لكن إن حصل للولي من الخوارق ما يشبه بعض معجزات النبي فهو في حقه كرامة، وما كان كرامة لولي فإنه معجزة للنبي الذي يتبعه هذا الولي؛ لأنه إنما حصل له هذا الخارق بسبب اتباعه، فتكون الكرامة حجة على صحة الدين الذي هو عليه، وبهذا يعلم أنه لا يلزم أن كل خارق حصل لنبي يكون مثله لأحد من الأولياء، فانشقاق القمر وعروج النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحصل لغيره ولن يحصل.
وقد ذكر شيخ الإسلام بن تيمية أن خوارق الأنبياء لا يقدر على مثلها أحد من البشر، فلا بد أن تتميز خوارق الأنبياء على كرامات الأولياء."
وقال العلامة ابن عثميين رحمه الله :(1)
__________
(1) - لقاءات الباب المفتوح - (ج 184 / ص 3) -تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود بالنذر ...):(1/152)
" ولهذا كان من القواعد المقررة عند العلماء: أن كل كرامة لولي فهي آيةٌ للنبي الذي اتبعه؛ لأن هذه الكرامة تشهد بصدق ما كان عليه الولي، وهذا الولي تابع لرسولٍ سابق، فيكون في ذلك آية على أن هذا الشرع الذي عليه هذا الولي حق، وهذه تكون آية للنبي، فالقاعدة الآن: أن كل كرامة لولي فهي آية للنبي الذي اتبعه. وعليه فنقول: من آيات موسى أنه ضرب الحجر وإذا ضربه انفجر عيوناً تنبع ماءً من حجر يابس، فهل كان للرسول صلى الله عليه وسلم مثله؟ الجواب: كان له أعظم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جيء إليه بقدحٍ من ماء وليس مع الناس ماءٌ إلا ما في هذه الركوة، فوضع يده فيه فجعل الماء ينبع من بين أصابع يده كالعيون -سبحان الله!- هذه أعظم من آية موسى، يعني: آية موسى يخرج الماء من الحجر، وخروج الماء من الحجر معتاد، كما قال تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ [البقرة:74] لكن هل جرت العادة أن يخرج الماء من الإناء الذي بينه وبين الأرض فاصل؟ لا. إذاً هذه أعظم. موسى عليه الصلاة والسلام ضرب البحر فانفلق فكان أسواقاً يابسة، وهذه لا شك آيةٌ عظيمة، جرى لهذه الأمة أعظم من هذه، مشوا على الماء دون أن يُضْرَب لهم طريقٌ يابس، مشوا على الماء المائع الهين الذي يغوص فيه من يقع فيه بدوابهم وأرجلهم ولم يغرقوا، في قصة العلاء الحضرمي ، وفي قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، مشوا على الماء، وهذا أعظم من أن يمشوا على الأرض التي تتفرق عنها الماء. فالمهم: أنه ما من نبيٍ بعثه الله إلا أعطاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، قلنا: هذا رحمةً وحكمة، رحمةً بالناس من أجل أن تحملهم هذه الآيات على التصديق فينجون من عذاب الله، حكمة لأنه ليس من الحكمة أن يقوم إنسان من بين الناس ويقول: أنا رسول الله، حتى يؤتى آيات.(1/153)
من آية صالح هذه الناقة لها شرب ولثمود شرب، لها يوم ولهؤلاء يوم، هذه من آيات الله، وقع مثلها للرسول عليه الصلاة والسلام في الهجرة، فإنه مر براعي غنم وعنده ماعز أو ضأن ليس فيها لبن فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضروعها فجعلت تدر باللبن."
وقال ابن أطفيش :(1)
" اخْتَلَفُوا فِي كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فَنَفَتْهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَأَثْبَتَهَا الْجُمْهُورُ ، وَالْحُجَّةُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} (37) سورة آل عمران، فَافْهَمْ ذَلِكَ رَدَّا عَلَيْهِمْ ، وَالْكَرَامَةُ : ظُهُورُ أَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ غَيْرِ مُقَارِنٍ لِدَعْوَى النُّبُوَّةِ عَلَى يَدِ مَنْ عُرِفَتْ دِيَانَتُهُ وَاشْتُهِرَتْ وِلَايَتُهُ فِي اتِّبَاعِ نَبِيِّهِ فِي جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ ، وَإِلَّا فَهِيَ اسْتِدْرَاجٌ أَوْ سِحْرٌ أَوْ إذْلَالٌ كَمَا وَقَعَ لَمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ جَاءَهُ أَعْوَرُ يَدْعُو لَهُ ، فَدَعَا فَعَمِيَتْ الصَّحِيحَةُ أَيْضًا ، وَتُسَمَّى إهَانَةً ، وَقَدْ يَظْهَرُ الْخَارِقُ عَلَى يَدِ عَاصٍ تَخْلِيصًا لَهُ مِنْ فِتْنَةٍ ، وَتُسَمَّى مَعُونَةً ، وَنَسَبَ شَارِحُ الْهَمْزِيَّةِ إنْكَارَ الْكَرَامَةِ إلَى بَعْضِ أَهْلِ مَذْهَبِهِ ، وَأَوْجَبَ تَأْوِيلَهُ وَإِلَى الْمُعْتَزِلَةِ ، وَوَجْهُ التَّأْوِيلِ أَنَّهُ مَنَعَ وُقُوعَهَا بِقَصْدٍ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ عَنْ رُتْبَةِ الْوِلَايَةِ .
__________
(1) - شرح النيل وشفاء العليل - إباضية - (ج 34 / ص 206)(1/154)
وَقِيلَ : مَنَعَ وُقُوعَ الَّتِي مِنْ جِنْسِ مُعْجِزَةِ نَبِيٍّ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ الْأَمْرُ ، وَرَدَّهُمَا الْفَخْرُ بِأَنَّ الْمُرْضِي وُقُوعُهَا مَعَ الِانْتِفَاءِ مِنْ النُّبُوءَةِ ،وَاشْتَرَطَ الْقُشَيْرِيِّ وَجَمَاعَةٌ أَنْ لَا تَنْتَهِيَ إلَى إحْيَاءِ مَيِّتٍ وَلَا وُجُودِ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِ أَبٍ ، وَرَدَّ بِذَلِكَ وَبِقَوْلِهِمْ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَرَامَةً لِوَلِيٍّ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي النُّبُوَّةَ ، وَالْكَرَامَةُ مِنَ الْجَائِزِ تَظْهَرُ بِأَيْدِي أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ إكْرَامًا لِلْأَنْبِيَاءِ كَمَا وَقَعَ لِمَرْيَمَ ، وَكَوِلَادَةِ عِيسَى بِلَا أَبٍ ، وَكَمَا وَقَعَ لِأَصْحَابِ الْكَهْفِ ، وَوَزِيرِ سُلَيْمَانَ فِي عَرْشِ بِلْقِيسَ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ إرْهَاصٌ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كَرَامَةٌ لِمَنْ وَقَعَ عَلَى يَدِهِ وَإِجْلَالٌ لَهُمْ إذْ وَقَعَ ذَلِكَ لِمَنْ تَبِعَهُمْ فِي شَرَائِعِهِمْ ، وَقَلْبُ الْأَعْيَانِ مُخْتَصٌّ بِاَللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ ، وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ عَلَى السَّاحِرِ ، وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِ وَعَلَى الْوَلِيِّ ، وَصَحَّحَهُ شَارِحُ الْهَمْزِيَّةِ ، وَإِنَّمَا أَمْكَنَهُ هَذَا لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى يَدِ أَحَدٍ كَمَا فَعَلَهُ عَلَى يَدِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى يَدِ أَحَدٍ بِدُونِ اللَّهِ فَمَمْنُوعٌ بِإِجْمَاعٍ ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) } [الجن/26، 27]، فَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ مُنْقَطِعٌ ،(1/155)
وَإِضَافَةُ الْغَيْبِ لِلِاسْتِغْرَاقِ ، وَمَدْلُولُ الْعَامِّ كُلِّيَّةٌ ، فَالْغُيُوبُ كُلُّهَا لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهَا غَيْرَهُ ، بَلْ أَطْلَعَ عَلَى جُزْئِيَّاتٍ مَخْصُوصَةٍ وَلَوْ قُلْنَا : إنَّهُ مُتَّصِلٌ ، فَالْمَعْنَى لَا يُظْهِرُ عَلَى بَعْضِ غَيْبِهِ إلَّا الرَّسُولَ ، وَيُظْهِرُ عَلَى غَيْرِهِ رُسُلًا آخَرِينَ وَأَوْلِيَاءَ ، وَزَعَمَ بَعْضُ الْكَرَّامِيَّةِ أَنَّ الْوَلِيَّ قَدْ يَبْلُغُ دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ ، وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ أَنَّ الْوِلَايَةَ فَوْقَ النُّبُوَّةِ وَأَنِلْهُ يَسْقُطُ عَنْ الْوَلِيِّ التَّكْلِيفُ إذَا بَلَغَ حَالَةً مَخْصُوصَةً ، قَالَ الْغَزَالِيُّ : قَتْلُ الْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَفْضَلُ مِنْ قَتْلِ سَبْعِينَ كَافِرًا لِشِدَّةِ ضَرَرِهِمْ فِي الدِّينِ ، وَمِمَّنْ وَافَقَ الْمُعْتَزِلَةَ فِي نَفْيِ الْكَرَامَةِ أَبُو إِسْحَاقَ الْحَلِيمِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ ، وَأَثْبَتَهَا أَبُو الْحَسَنِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ ، وَكَانَ أَهْلُ رَحْبَةَ وَهِيَ مَدِينَةٌ يُنْكِرُونَ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ ، قَالَ أَبُو جَابِرٍ الرَّحَبِيُّ : فَرَكِبْت سَبُعًا ذَاتَ يَوْمٍ وَدَخَلْت الْمَدِينَةَ ،وَقُلْت : أَيْنَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ – يعني كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ-؟ "
وفي فتاوى ابن عليش :(1)
__________
(1) - فتاوى ابن عليش - (ج 1 / ص 451)(1/156)
" ( مَا قَوْلُكُمْ ) فِي رَجُلٍ مَاتَ , وَأَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى هَلْ بَانَتْ زَوْجَتُهُ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ بَانَتْ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ بِالْجَوَازِ فَهَلْ , وَلَوْ فِي الْعِدَّةِ , وَهَلْ تَكُونُ مَعَهُ بِعِصْمَةٍ جَدِيدَةٍ وَهَلْ حُكْمُ الْمَرْأَةِ إذَا مَاتَتْ , وَأَحْيَاهَا اللَّهُ تَعَالَى حُكْمُ الرَّجُلِ أَمْ لَا كَيْفَ الْحَالُ ؟ أَفِيدُوا الْجَوَابَ .(1/157)
فَأَجَبْت بِمَا نَصُّهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , وَالصَّلَاةُ , وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إذَا فُرِضَ مَوْتُهُ حَقِيقَةً , وَأَحْيَاهُ اللَّهُ لَهُ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ أَوْ كَرَامَةً لِوَلِيٍّ فَقَدْ بَانَتْ زَوْجَتُهُ بِمُجَرَّدِ مَوْتِهِ , وَيَجُوزُ لَهُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا بَعْدَ حَيَاتِهِ , وَلَوْ فِي الْعِدَّةِ ; لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْعَقْدِ فِي الْعِدَّةِ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ غَيْرِ الزَّوْجِ أَلَا تَرَى أَنْ مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا دُونَ الْغَايَةِ فَلَهُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ ،لَكِنَّ مَحَلَّ هَذَا إنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ طَلَاقٌ يَبْلُغُ بِهَذِهِ الْبَيْنُونَةِ ثَلَاثًا , وَإِلَّا فَلَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ , وَإِنْ عَقَدَ عَلَيْهَا بَعْدَ زَوْجٍ , وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ طَلْقَتَانِ , وَهُوَ حُرٌّ أَوْ وَاحِدَةٌ , وَهُوَ رَقِيقٌ كَانَتْ مَعَهُ بِعِصْمَةٍ جَدِيدَةٍ تَامَّةٍ , وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ طَلَاقٌ أَوْ تَقَدَّمَتْ لَهُ طَلْقَةٌ , وَهُوَ حُرٌّ , وَعَقَدَ عَلَيْهَا كَانَتْ مَعَهُ بِتَمَامِ الْعِصْمَةِ الْأُولَى , وَحُكْمُ الْمَرْأَةِ إذَا مَاتَتْ , وَأَحْيَاهَا اللَّهُ تَعَالَى حُكْمُ الرَّجُلِ , وَكُلُّ هَذَا إنَّمَا يُقَالُ : تَشْحِيذًا لِلْأَذْهَانِ , وَتَدْرِيبًا لِلْعِرْفَانِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ."
وقال ابن حجر المكي :(1)
__________
(1) - الزواجر عن اقتراف الكبائر - (ج 3 / ص 177)(1/158)
" وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ إحْيَاءُ الْمَيِّتِ ، أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ فَلَا يَجُوزُ إظْهَارُهُ إلَّا مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ رَدَّهُ أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ بِأَنَّهُ خَرَقَهَا كَرَامَةً لِوَلِيٍّ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ مُكَابَرَةٌ لِلْحِسِّ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَعِيدٍ مِنْ عُقُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ الضَّالَّةِ ."
=====================
المبحثُ الحادي عشر
مَنْ همُ الأولياء؟(1)
" إن الله بينهم بقوله: بينهم بقوله: { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [يونس: 62، 63]..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " من كان مؤمناً تقياً، كان الله ولياً "(2).
ليست الولاية بالدعوى والتمني، الولاية إنما هي بالإيمان والتقوى، فلو رأينا رجلا يقول: إنه ولي ولكنه غير متق لله تعالى، فقوله مردود عليه.
أما الكرامات، فهي جمع كرامة، والكرامة أمر خارق للعادة، يجريه الله تعالى على يد ولي، تأييدا له، أو إعانة، أو تثبيتا، أو نصرا للدين.
- فالرجل الذي أحيا الله تعالى له فرسه، وهو صلة بن أشيم، بعد أن ماتت، حتى وصل إلى أهله، فلما وصل إلى أهله، قال لابنه: ألق السرج عن الفرس، فإنها عرية! فلما ألقى السرج عنها، سقطت ميتة. فهذه كرامة لهذا الرجل إعانة له.(3)
- أما التي لنصرة الإسلام، فمثل الذي جرى للعلاء بن الحضرمي رضي الله عنه في عبور ماء البحر، وكما جرى لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في عبور نهر دجلة، وقصتها مشهورة في التاريخ.
فالكرامة أمر خارق للعادة .
أما ما كان على وفق العادة، فليس بكرامة.
__________
(1) - مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 8 / ص 323)فما بعدها و مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 8 / ص 626)
(2) - مجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 224)
(3) - انظر كتاب مجابو الدعوة (41 )(1/159)
وهذا الأمر إنما يجريه الله على يد ولي، احترازا من أمور السحر والشعوذة، فإنها أمور خارقة للعادة، لكنها تجري على يد غير أولياء الله، بل على يد أعداء الله، فلا تكون هذه كرامة.
وقد كثرت هذه الكرامات التي تدعى أنها كرامات في هؤلاء المشعوذين الذين يصدون عن سبيل الله، فالواجب الحذر منهم ومن تلاعبهم بعقول الناس وأفكارهم.
فالكرامة ثابتة بالقرآن والسنة، والواقع سابقا ولاحقا.
- فمن الكرامات الثابتة بالقرآن والسنة لمن سبق قصة أصحاب الكهف، الذين عاشوا في قوم مشركين، وهم قد آمنوا بالله، وخافوا أن يغلبوا على آمرهم، فخرجوا من القرية مهاجرين إلى الله عز وجل، فيسر الله لهم غارا في جبل، وجه هذا الغار إلى الشمال، فلا تدخل الشمس عليهم فتفسد أبدانهم ولا يحرمون منها، إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، وهم في فجوه منه، وبقوا في هذا الكهف ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا، وهم نائمون، يقلبهم الله ذات اليمن وذات الشمال، في الصيف وفي الشتاء، لم يزعجهم الحر، ولم يؤلمهم البرد، ما جاعوا وما عطشوا وما ملوا من النوم. فهذه كرامة بلا شك، بقوا هكذا حتى بعثهم الله وقد زال الشرك عن هذه القرية، فسلموا منه.
- ومن ذلك قصة مريم رضي الله عنها، أكرمها الله حيث أجاءها المخاض إلى جذع النخلة، وأمرها الله أن تهز بجذعها لتتساقط عليها رطبا جنيا.
- ومن ذلك قصة الرجل الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه، كرامة له، ليتبين له قدرة الله تعالى، ويزداد ثباتا في إيمانه.
- أما في السنة، فالكرامات كثيرة، وراجع (كتاب الإنبياء، باب ما ذكر عن بن إسرائيل) في " صحيح البخاري "، وكتاب " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " لشيخ الإسلام ابن تيمية .
- وأما شهادة الواقع بثبوت الكرامات، فظاهر، يعلم به المرء في عصره، إما بالمشاهدة، وإما بالأخبار الصادقة.
فمذهب أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء.(1/160)
وهناك مذهب مخالف لمذهب أهل السنة، وهو مذهب المعتزلة ومن تبعهم، حيث إنهم ينكرون الكرامات، ويقولون: إنك لو أثبت الكرامات، لاشتبه الساحر بالولي بالنبي، لأن كل واحد منهم يأتي بخارق.
فيقال: لا يمكن الالتباس، لأن الكرامة على يد ولي، والولي لا يمكن أن يدعي النبوة، ولو ادعاها، لم يكن وليا. آية النبي تكون على يد نبي، والشعوذة والسحر على يد عدو بعيد من ولاية الله، وتكون بفعله باستعانته بالشياطين، فينالها بكسبه، بخلاف الكرامة، فهي من الله تعالى، لا يطلبها الولي بكسبه.
قال العلماء: كل كرامة لولي، في آية للنبي الذي اتبعه، لأن الكرامة شهادة من الله عز وجل أن طريق هذا الولي طريق صحيح.
وعلى هذا، ما جرى من الكرامات للأولياء من هذه الأمة فإنها آيات لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولهذا قال بعض العلماء: ما من آية لنبي من الأنبياء السابقين، إلا ولرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلها.
- فأورد عليهم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يلق في النار فيخرج حيا، كما حصل ذلك لإبراهيم .
فأجيب بأنه جرى ذلك لأتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، كما ذكره المؤرخون عن أبي مسلم الخولاني، وإذا أكرم أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام بجنس هذا لأمر الخارق للعادة، دل ذلك على أن دين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، لأنه مؤيد بجنس هذه الآية التي حصلت لإبراهيم .
وأورد عليهم أن البحر لم يفلق للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد فلق لموسى !
فأجيب بأنه حصل لهذه الأمة فيما يتعلق في البحر شيء أعظم مما حصل لموسى، وهو المشي على الماء، كما في قصة العلاء بن الحضرمي، حيث مشوا على ظهر الماء، وهذا أعظم مما حصل لموسى، مشى على أرض يابسة.
وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات(1/161)
وأورد عليهم أن من آيات عيسى إحياء الموتى، ولم يقع ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فأجيب بأنه حصل وقع لأتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، كما في قصة الرجل الذي مات حماره في أثناء الطريق، فدعا الله تعالى أن يحييه، فأحياه الله تعالى.
وأورد عليهم إبراء الأكمة والأبرص.
فأجيب بأنه حصل من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قتادة بن النعمان لما جرح في أحد، ندرت عينه حتى صارت على خده، فجاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخذها بيده، ووضعها في مكانها، فصارت أحسن عينيه. فهذه من أعظم الآيات.
فالآيات التي كانت للأنبياء السابقين كان من جنسها للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو لأمته، ومن أراد المزيد من ذلك، فليرجع إلى كتاب " البداية والنهاية في التاريخ " لابن كثير .
تنبيه :
الكرامات، قلنا: إنها تكون تأييدا أو تثبيتا أو إعانة للشخص أو نصرا للحق، ولهذا كانت الكرامات في التابعين أكثر منها في الصحابة، لأن الصحابة عندهم من التثبيت والتأييد والنصر ما يستغنون به عن الكرامات فإن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بين أظهرهم، وأما التابعون، فإنهم دون ذلك، ولذلك كثرت الكرامات في زمنهم تأييدا لهم وتثبيتا ونصرا للحق الذي هم عليه.
" خوارق ": جمع خارق.و" العادات ": جمع عادة.
في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات
والمراد بـ " خوارق العادات ": ما يأتي على خلاف العادة الكونية.
وهذه الكرامات لها أربع دلالات:
أولا : بيان كمال قدرة الله عز وجل، حيث حصل هذا الخارق للعادة بأمر الله.
ثانيا : تكذيب القائلين بأن الطبيعة هي التي تفعل، لأنه لو كانت الطبيعة هي التي تفعل، لكانت الطبيعة على نسق واحد لا يتغير، فإذا تغيرت العادات والطبيعة، دل على أن للكون مدبرا وخالقا.
ثالثا : أنها آية للنبي المتبوع كما أسلفنا قريبا.(1/162)
رابعا : أن فيها تثبيتا وكرامة لهذا الولي.
يعني: أن الكرامة تنقسم إلى قسمين: قسم يتعلق بالعلوم والمكاشفات، وقسم آخر يتعلق بالقدرة والتأثيرات .
- أما العلوم، فأن يحصل للإنسان من العلوم ما لا يحصل لغيره.
- وأما المكاشفات، فأن يظهر له من الأشياء التي يكشف له عنها ما لا يحصل لغيره.
- مثال الأول - العلوم: ما ذكر عن أبي بكر : أن الله أطلعه على ما في بطن زوجته - الحمل -، أعلمه الله أنه أنثى .
- ومثال الثاني - المكاشفات -: ما حصل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث كان يخطب الناس يوم الجمعة على المنبر، فسمعوه يقول: يا سارية ! الجبل! فتعجبوا من هذا الكلام، ثم سألوه عن ذلك؟
كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة ،فقال: إنه كشف له عن سارية بن زنيم وهو أحد قواده في العراق، وأنه محصور من عدوه، فوجهه إلى الجبل، وقال له: يا سارية ! الجبل! فسمع سارية صوت عمر، وانحاز إلى الجبل، وتحصن به .
هذه من أمور المكاشفات، لأنه أمر واقع، لكنه بعيد.
- أما القدرة والتأثيرات، فمثل ما وقع لمريم من هزها لجذع النخل وتساقط الرطب عليها، ومثل ما وقع للذي عنده علم من الكتاب، حيث قال لسليمان : { أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } .
الكرامات موجودة فيما سبق من الأمم، ومنها قصة أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة ، وموجودة في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كقصة أسيد بن حضير ، وتكثير الطعام عند بعض الصحابة ، وموجودة في التابعين، مثل قصة صلة بن أشيم الذي أحيا الله له فرسه.(1)
يقول شيخ الإسلام في كتاب " الفرقان ": " وهذا باب واسع، قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع، وأما ما نعرفه نحن عيانا ونعرفه في هذا الزمان، فكثير ".
__________
(1) - انظر كتاب مجابو الدعوة (41 )(1/163)
الدليل على أنها موجودة إلى يوم القيامة: سمعي وعقلي:
- أما السمعي، فإن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر في قصة الدجال أنه يدعو رجلا من الناس من الشباب، يأتي، ويقول له: كذبت! إنما أنت المسيح الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيأتي الدجال، فيقتله قطعتين، فيجعل واحدة هنا وواحدة هنا رمية الغرض (يعني: بعيد ما بينهما)، ويمشي بينهما، ثم يدعوه، فيقوم يتهلل، ثم يدعوه ليقر له بالعبودية، فيقول الرجل: ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم! فيريد الدجال أن يقتله، فلا يسلط عليه .
فهذه أي: عدم تمكن الدجال من قتل ذلك الشاب من الكرامات بلا شك.
- وأما العقلي، فيقال:ما دام سبب الكرامة هي الولاية، فالولاية لا تزال موجودة إلى قيام الساعة . اهـ
طريقة أهل السنة والجماعة في حق الأولياء والأئمة(1)
" أئمة هذه الشريعة الإسلامية ولله الحمد أئمة مشهورون أثنت عليهم الأمة وعرفت لهم قدرهم، ولكنها لا تعتقد فيهم العصمة، فليس عند أهل السنة والجماعة أحد معصوم من الخطأ ولا من الإقرار على الخطأ، إلا الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه معصوم من الإقرار على الخطأ، أما غيره مهما بلغت إمامته فإنه ليس معصوما أبدا، كل يخطئ وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي أمرنا الله تعالى بطاعته على الإطلاق.
__________
(1) - مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 5 / ص 144)(1/164)
فهم يقولون لا شك أن في هذه الأمة أئمة، ولا شك أن فيها أولياء، ولكننا لا نريد بذلك أن نثبت العصمة لأحد من هؤلاء الأئمة، ولا أن نثبت لأحد من الأولياء أنه يعلم الغيب أو يتصرف في الكون، وهم أيضا لا يجعلون الولي من قال عن نفسه: إنه ولي، أو أتى بالدعايات الباطلة لأجل أن يجلب الناس إليه يقولون: إن الولي بينه الله تعالى بقوله: { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } ، هؤلاء الأولياء: الذين آمنوا، وكانوا يتقون، فالإيمان: العقيدة، والتقوى: العمل قولا كان أو فعلا، وأخذ شيخ الإسلام من هذه الآية عبارة طيبة وهي قوله: " من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا "، هذا الولي حقيقة، لا الولي الذي يجلب الناس إليه، ويجمع الحاشية ويقول: أنا أفعل، ويستعين بالشياطين على معرفة الخفي، ثم يبهر الناس بما يقول فيقولون: هذا ولي، لا لأن الولاية تكون باتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، وبإيمانه وتقواه، فإن كان مؤمنا تقيا فهو ولي.
ولكن هؤلاء الأولياء أيضا لا يلزم في كل ولي أن يجعل الله له كرامة، فما أكثر الأولياء الذين لا كرامة لهم؛ لأن الكرامة في الغالب لا تأتي إلا لنصر حق أو دفع باطل، لا لتثبيت شخص بعينه، فلا يلزم إذن أن يكون لكل ولي كرامة، قد يحيا الولي ويموت وليس له كرامة، وقد يكون له كرامات متعددة، وهذه الكرامات كما قال أهل العلم: كل كرامة لولي فإنها آية للنبي الذي اتبعه، ولا أقول: " معجزة " لأن الأولى أن تسمى آية؛ لأن هذا التعبير القرآني والآية أبلغ من المعجزة؛ لأن الآية معناها العلامة على صدق ما جاء به هذا الرسول، والمعجزة قد تكون على يد مشعوذ أو على يد إنسان قوي يفعل ما يعجز عنه غيره، لكن التعبير بـ "الآية" أبلغ وأدق، وهي التعبير القرآني، فنسمي المعجزات بالآيات، هذا هو الصواب.(1/165)
يوجد أناس حسب ما نسمع في هذه الأمة يدعون أنهم أولياء، ولكن من تأمل حالهم وجد أنهم بعيدون عن الولاية، وأنه لا حظ لهم فيها، لكن لهم شياطين يعينونهم على ما يريدون، فيخدعون بذلك البسطاء من الناس." .
==================
المبحث الثاني عشر
هل يحجبُ أولياءُ الله عن الناسِ ؟(1)
"أَمَّا وُجُودُ أَقْوَامٍ يَحْتَجِبُونَ عَنِ النَّاسِ دَائِمًا فَهَذَا بَاطِلٌ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ الْأَنْبِيَاء وَلَا الْأَوْلِيَاءِ وَلَا السَّحَرَةِ ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَحْتَجِبُ الرَّجُلُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ : إمَّا كَرَامَةً لِوَلِيِّ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ السِّحْرِ . فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ مِنْهَا مَا هُوَ حَالٌ رَحْمَانِيٌّ وَهُوَ كَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ .
وَمِنْهُ مَا هُوَ حَالٌ نَفْسَانِيٌّ أَوْ شَيْطَانِيٌّ ،كَمَا يَحْصُلُ لِبَعْضِ الْكُفَّارِ أَنْ يُكَاشَفَ أَحْيَانًا، وَكَمَا يَحْصُلُ لِبَعْضِ الْكُهَّانِ أَنْ تُخْبِرَهُ الشَّيَاطِينُ بِأَشْيَاءَ . وَأَحْوَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ هِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ تَحْمِلُهُ الشَّيَاطِينُ فَتَطِيرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْقُصُ فِي الْهَوَاءِ . وَمِنْهُمْ مِنْ يَلْبِسُهُ الشَّيْطَانُ فَلَا يُحِسُّ بِالضَّرْبِ وَلَا بِالنَّارِ إذَا أُلْقِيَ فِيهَا ؛ لَكِنَّهَا لَا تَكُونُ عَلَيْهِ بَرْدًا أَوْ سَلَامًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا لِأَهْلِ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ .
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 27 / ص 497)(1/166)
وَأَهْلِ الْإِشَارَاتِ - الَّتِي هِيَ فَسَادَاتٌ مِنَ اللَّاذَنِ وَالزَّعْفَرَانِ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - هُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ : فَجُمْهُورُهُمْ أَرْبَابُ مُحَالٍ بهتاني وَخَوَاصُّهُمْ لَهُمْ حَالٌ شَيْطَانِيٌّ ؛ وَلَيْسَ فِيهِمْ وَلِيٌّ لِلَّهِ ،بَلْ هُمْ مِنْ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ مِنْ جِنْسِ التتر ...
وَأَمَّا قَطْعُ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ فَهَذَا يَكُونُ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ وَيَكُونُ لِبَعْضِ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكَرَامَاتِ ؛ بَلْ الَّذِي يَحُجُّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مِمَّنْ يَحُجُّ فِي الْهَوَاءِ ؛ وَلِهَذَا اجْتَمَعَ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ الجعبري بِبَعْضِ مَنْ كَانَ يَحُجُّ فِي الْهَوَاءِ فَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَحُجَّ مَعَهُمْ فَقَالَ : هَذَا الْحَجُّ لَا يَجْزِي عَنْكُمْ حَتَّى تَحُجُّوا كَمَا يَحُجُّ الْمُسْلِمُونَ . وَكَمَا حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ . فَوَافَقُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَقَالُوا - بَعْدَ قَضَاءِ الْحَجِّ - مَا حَجَجْنَا حَجَّةً أَبْرَكَ مِنْ هَذِهِ الْحَجَّةِ : ذُقْنَا فِيهَا طَعْمَ عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ . وَهَذَا يَكُونُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ ؛ لَيْسَ هَذَا لِلْإِنْسَانِ كُلَّمَا طَلَبَهُ .
وَكَذَلِكَ الْمُكَاشَفَاتُ تَقَعُ بَعْضَ الْأَحْيَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَحْيَانًا مِنْ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَحْوَالُهُمْ شَيْطَانِيَّةٌ قَدْ يَأْكُلُ أَحَدُهُمْ الْمَآكِلَ الْخَبِيثَةَ حَتَّى يَأْكُلَ الْعُذْرَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْخَبَائِثِ بِالْحَالِ الشَّيْطَانِيِّ وَهُمْ مَذْمُومُونَ عَلَى هَذَا .(1/167)
فَإِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ . فَمَنْ أَكَلَ الْخَبَائِثَ كَانَتْ أَحْوَالُهُ شَيْطَانِيَّةً . فَإِنَّ الْأَحْوَالَ نَتَائِجُ الْأَعْمَالِ . فَالْأَكْلُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يُورِثُ الْأَحْوَالَ الرَّحْمَانِيَّةَ : مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَأَكْلُ الْخَبَائِثِ وَعَمَلُ الْمُنْكَرَاتِ يُورِثُ الْأَحْوَالَ الشَّيْطَانِيَّةَ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَخُفَرَاءُ التتر هُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ .
وَإِذَا اجْتَمَعُوا مَعَ مَنْ لَهُ حَالٌ رَحْمَانِيٌّ بَطَلَتْ أَحْوَالُهُمْ وَهَرَبَتْ شَيَاطِينُهُمْ . وَإِنَّمَا يَظْهَرُونَ عِنْدَ الْكُفَّارِ وَالْجُهَّالِ كَمَا يَظْهَرُ أَهْلُ الْإِشَارَاتِ عِنْدَ التتر وَالْأَعْرَابِ وَالْفَلَّاحِينَ وَنَحْوِهِمْ مِنَ الْجُهَّالِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ . وَأَمَّا إذَا ظَهَرَ الْمُحَمَّدِيُّونَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّ حَالَ هَؤُلَاءِ يَبْطُلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .اهـ
===============
المبحثُ الثالث عشر
خوارقُ العادات بين الكرامةِ والاستدراجِ(1)
__________
(1) - انظر : فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 2885)= رقم الفتوى 32634 خوارق العادات بين الكرامة والاستدراج تاريخ الفتوى : 26 ربيع الأول 1424(1/168)
"إن قطع المسافات البعيدة وغيرها من خوارق العادات كالمشي على الماء ونحو ذلك قد يحصل لأولياء الله تعالى إكراما لهم وتحقيقا لمصالح أنفسهم أو في دعوتهم، وأعظم ذلك ما يحصل للأنبياء كالإسراء والمعراج لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكانفلاق البحر لسيدنا موسى عليه السلام، وكإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى على يد سيدنا عيسى عليه السلام، ومعجزات الأنبياء كلها من هذا القبيل، وما يحصل لأتباعهم من الخوارق هو في الحقيقة امتداد طبيعي لمعجزات أنبيائهم وببركة اتباعهم كما يقرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كما يحصل لأولياء الشيطان ما يشبه ذلك من حيث الصورة، يستدرجهم الله تعالى به ويضلُّهم به، ويفتن به أتباعهم الضالين بهم، ومن هنا يلتبسُ الأمر على كثير من الناس ،ويحصل الإشكال عند بعضهم، فلا يفرِّقون بين ما كان من خوارق العادات إكراماً من الله تعالى لأوليائه وأحبابه ،وبين ما كان من ذلك استدراجاً من الله تعالى لأولياء الشيطان وإضلالالهم.
وسبب ذلك عدم النظر إلى تلك الأمور من منظور شرعي عماده كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم سلف الأمة المزكَّى، بل نظروا إلى تلك الخوارق على أنها علامةٌ لا تتخلف لولاية الله للعبد ومحبته له وإكرامه بغض النظر عن حاله هو، فنسبوا لولاية الله تعالى من هو من أولياء الشيطان باعتبار أنه حصلت على يديه بعض الخوارق، فحصل الخلطُ والالتباس عندهم في التمييز بين أولياء الله تعالى وأولياء الشيطان لفساد الاعتبار عندهم.(1/169)
ولو نظروا إلى ذلك من منظور شرعيٍّ لجعلوا المعيار لولاية الله ومحبته وإكرامه للعبد هو إيمانه بالله تعالى واتباعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتمسكه بشرع الله تعالى، فذلك هو الوصف الذي من اتصف به فهو ولي لله تعالى محب له محبوب عنده مكرَّمٌ لديه، ومن لم يتصف بذلك فليس له في ولاية الله ولا في محبته وإكرامه نصيبٌ، لذلك صحَّ أن تكون تلك الأوصاف هي المعيار الدقيق للتمييز بين أولياء الله تعالى وأولياء الشيطان، لا ما يحصل لكلا الفريقين من خوارق العادات، لأسباب مختلفة بينا طرفا منها.
وانظر المعيار الذي جعله الله لولايته ومحبته وإكرامه، يقول الله تعالى:{ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }[يونس:62-63]. وصفهم سبحانه وتعالى بالإيمان المستلزم للانقياد له والاعتماد عليه وحده والرضا به ربا وبدينه دينا وبرسوله إماما، ووصفهم بالتقوى المتضمنة لامتثال أمره واجتناب نهيه ،والسعي في تحصيل محابِّه ونيل مرضاته سبحانه وتعالى.
كما جعل التقوى في آية أخرى هي المعيار لمعرفة المكرَمين عنده سبحانه، يقول الله تعالى:{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }[الحجرات:13]، ويقول أيضا:{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }[آل عمران:31].(1/170)
وفي الحديث القدسي:" مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ". الحديث أخرجه البخاري.(1)
ونصوصُ الوحي طافحةٌ بتقرير هذا المعيار، وأنه وحده هو الذي يمكن أن يعتمد عليه في وصف الشخص بالولاية والمحبة والكرامة، أما تلك الخوارقُ فقد تحصل لمن اتصف بالولاية وقد لا تحصل، وليس في ذلك نقصٌ لمن لم تحصل له ،ولا يقدح عدمُها في ولايته.والله أعلم.اهـ
==============
المبحث الرابع عشر
هل يتميز أولياء الله عن الناس بشيء ؟(2)
__________
(1) - صحيح البخارى (6502 )
(2) - الفرقان بين أولياء الرحمن وأوليا الشيطان بتحقيقي ص 288-327(1/171)
وَلَيْسَ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ شَيْءٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنْ النَّاسِ فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُبَاحَاتِ، فَلَا يَتَمَيَّزُونَ بِلِبَاسِ دُونَ لِبَاسٍ إذَا كَانَ كِلَاهُمَا مُبَاحًا، وَلَا بِحَلْقِ شَعْرٍ أَوْ تَقْصِيرِهِ أَوْ ظَفْرِهِ إذَا كَانَ مُبَاحًا، كَمَا قِيلَ : كَمْ مِنْ صِدِّيقٍ فِي قَبَاءٍ وَكَمْ مِنْ زِنْدِيقٍ فِي عَبَاءٍ ؛ بَلْ يُوجَدُونَ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الظَّاهِرَةِ وَالْفُجُورِ(1)،فَيُوجَدُونَ فِي أَهْلِ الْقُرْآنِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَيُوجَدُونَ فِي أَهْلِ الْجِهَادِ وَالسَّيْفِ وَيُوجَدُونَ فِي التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ وَالزُّرَّاعِ .
__________
(1) - أي المعاصي(1/172)
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَصْنَافَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (20)(1)
__________
(1) - إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَقَلَّ مِنْ ثُلْثَي اللَّيْلِ ، وَأَكْثَرَ مِنْ نِصْفِهِ ، وَتَقُومُ النِّصْفَ ، وَتَقُومُ الثُّلُثَ ، أَنْتَ وَطَائِفَةٌ مِنَ أَصْحَابِكَ المُؤْمِنِينَ ، حِينَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ قِيَامُ اللَّيْلِ ..وَلاَ يَعْلَمُ مَقَادِيرَ اللَّيْلِ والنَّهَارِ إِلاَّ اللهُ ، وَأَنْتُمْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ ضَبْطَ المَوَاقِيتِ ، وَإِحْصَاءَ السَّاعَاتِ ، فَتَابَ عَلَيْكُمْ بِأَنْ رَخَّصَ لَكُمْ تَرْكَ القِيَامِ المُقَدَّرِ ، وَعَفَا عَنْكُمْ ، وَرَفَعَ عَنْكُمْ هَذِهِ المَشَقَّةَ ، فَصَلُّوا مَا تَيَسَّرَ لَكُمْ مِنَ الصَّلاَةِ فِي اللَّيْلِ ، وَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ فِيهَا ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ بَيْنَكُمْ ذَوُوا أَعْذَارٍ لاَ يَسْتَطِيعُونَ مَعَهَا القِيَامَ بِاللَّيْلِ ، كَالمَرَضِ والسَّفَرِ وَابْتِغَاءِ الرِّزْقِ ( الضَّرْبِ فِي الأَرْضِ ) وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ ، فَهَؤُلاَءِ إِذَا لَمْ يَنَامُوا اللَّيْلَ تَعِبَتْ أَجْسَادُهُمْ ، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا القِيَامَ بِوَاجِبِهِمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ ، وَصَلُّوا الصَّلاَةِ المَفْرُوضَةَ ، وَقُومُوهَا فَلاَ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ غَافِلَةً ، وَآتُوا الزَّكَاةَ الوَاجِبَةَ عَلَيْكُمْ ، وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فِي أَوْجُهِ الطَّاعَاتِ ، وَسَيَجْعَلُ رَبُّكُمْ هَذَا الإِنْفَاقَ بِمَثَابَةِ القَرْضِ لَهُ ، وَسَيَجْزِيكُمْ فِي الآخِرَةِ أَحْسَنَ الجَزَاءِ ، وَمَا تُقَدِّمُوا فِي الدُّنْيَا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ فَعْلِ خَيْرٍ فَإِنَّكُمْ وَاجِدُونَ ثَوَابَهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى ، وَاسْتَغْفِرُو اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .(1/173)
سورة المزمل .
وَكَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ أَهْلَ الدِّينِ وَالْعِلْمِ " الْقُرَّاءَ " فَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْعُلَمَاءُ وَالنُّسَّاكُ ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْمُ " الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ " .
وَاسْمُ " الصُّوفِيَّةِ " هُوَ نِسْبَةٌ إلَى لِبَاسِ الصُّوفِ(1)؛ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى صَفْوَةِ الْفُقَهَاءِ وَقِيلَ إلَى صُوفَةَ بْنِ أد بْنِ طانجة قَبِيلَةٌ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا يُعْرَفُونَ بِالنُّسُكِ، وَقِيلَ إلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَقِيلَ إلَى الصَّفَا ،وَقِيلَ إلَى الصَّفْوَةِ ،وَقِيلَ إلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ ضَعِيفَةٌ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ صفيٌّ أَوْ صَفَائِيٌّ أَوْ صفويٌّ أَوْ صِفِّيٌّ وَلَمْ يَقُلْ صُوفِيٌّ .
وَصَارَ أَيْضًا اسْمُ " الْفُقَرَاءِ(2)
__________
(1) - وفي الأَساس : وآل صَوْفانَ : كانُوا يَخْدُمونَ الكعبةَ وَيَتَنَسَكُونَ ولَعَلَّ الصُّوفِيّةَ نُسِبَتْ إِليهم تَشْبيهاً بهم في التَّنَسُّكِ والتَّعَبُّدِ أَو إِلى أَهْلِ الصُّفَّةِ فيُقالُ مكان الصُّفِّيَةِ : الصُّوفِيَّةُ بقلبِ إِحْدَى الفائَين واواً للتَّخْفِيفِ أَو إِلى الصُّوفِ الذي هو لِباسُ العُبّادِ وأَهْلِ الصَّوامِعِ .تاج العروس - (ج 1 / ص 5970)
(2) - قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (15) سورة فاطر
وَأَمَّا الْمُسْتَأْخِرُونَ فَـ " الْفَقِيرُ " فِي عُرْفِهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ السَّالِكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ " الصُّوفِيُّ " فِي عُرْفِهِمْ أَيْضًا ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ مُسَمَّى " الصُّوفِيِّ " عَلَى مُسَمَّى " الْفَقِيرِ " لِأَنَّهُ عِنْدَهُ الَّذِي قَامَ بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ مُسَمَّى الْفَقِيرِ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ الَّذِي قَطَعَ الْعَلَائِقَ وَلَمْ يَشْتَغِلْ فِي الظَّاهِرِ بِغَيْرِ الْأُمُورِ الْوَاجِبَةِ وَهَذِهِ مُنَازَعَاتٌ لَفْظِيَّةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ . وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ الْمُرَادَ الْمَحْمُودَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الصِّدِّيقِ وَالْوَلِيِّ وَالصَّالِحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَمِنْ حَيْثُ دَخَلَ فِي الْأَسْمَاءِ النَّبَوِيَّةِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّسَالَةُ وَأَمَّا مَا تَمَيَّزَ بِهِ مِمَّا يَعُدُّهُ صَاحِبُهُ فَضْلًا وَلَيْسَ بِفَضْلِ أَوْ مِمَّا يُوَالِي عَلَيْهِ صَاحِبُهُ غَيْرَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا زِيَادَةُ الدَّرَجَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَهِيَ أُمُورٌ مُهْدَرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ إلَّا إذَا جُعِلَتْ مِنْ الْمُبَاحَاتِ كَالصِّنَاعَاتِ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ بِشَرْطِ أَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّ تِلْكَ الْمُبَاحَاتِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُسْتَحَبَّاتِ . وَأَمَّا مَا يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ فِي دِينِ اللَّهِ : مِنْ أَنْوَاعِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ . فَيَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ .مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 70)(1/174)
" يَعْنِي بِهِ أَهْلَ السُّلُوكِ ،وَهَذَا عُرْفٌ حَادِثٌ ،وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ أَيُّمَا أَفْضَلُ مُسَمًّى " الصُّوفِيُّ " أَوْ مُسَمَّى " الْفَقِيرِ(1)" ؟ وَيَتَنَازَعُونَ أَيْضًا أَيُّمَا أَفْضَلُ : الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ أَوْ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ ؟(2). وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ قَدِيمٌ بَيْنَ الجنيد وَبَيْن أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَطَاءٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِيهَا رِوَايَتَانِ وَالصَّوَابُ فِي هَذَا كُلِّهِ مَا قَالَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيْثُ قَالَ : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(3)(
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 5- 24) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 442)
(2) - انظر مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 119) فما بعد ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 476)
(3) - يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالى في هذِهِ الآيةِ أنَّ النَّاسَ جَمِيعاً إخوةٌ لأمٍّ وأبٍ ، وَلِذَلِكَ فَلَيسَ لأحَدٍ مْنهُمْ أنْ يَسْتَعْلِيَ عَلَى أحَدٍ مِنْ إخْوَتِهِ ، وَلا أنْ يُسيءَ إليهِ ، وَلا أنْ يَنْتَقِصَهُ ، وَلا أنْ يَغْتَابَهُ . وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى البَشَرَ بالتَّكاثُرِ شُعُوباً وَقَبَائِلَ مُخْتَلِفَةً لِيتَمَكَّنَ بَعْضُهُم مِنْ مَعْرِفَةِ بَعْضٍ ، كأنْ يُقَالَ هذا فُلانُ بنُ فَلاَنٍ مِنْ قَبيلَةِ كَذَا مِنْ بَطْنِ كَذَا ..وَلاَ فَضْلَ لأحَدٍ عَلَى أحَدٍ إلا بالتَّقْوى ، وَالأتْقَى هُوَ الأكْرِمُ عِنْدَ اللهِ ، وَالأرْفَعُ مَنْزِلَةً ، وَلاَ قِيمَةَ في مِيِزَانِ اللهِ لِلأمْوالِ والأحْسَابِ وَالأولادِ ، وَإِنَّما القِيمَةُ للتُّقى وَالصَّلاحِ وَطَهَارَةِ القَلْبِ ، وَالخَوفِ مِنَ اللهِ ، وَالإِخْلاَصِ في مَحَبَّةِ النَّاسِ ، وَالنُّصْح لَهُمْ . وَاللهُ عَلِيمٌ بِما تَنْطَوِي عَلَيهِ الصُّدُورُ ، خَبيرٌ بأُمُورِ العِبَادِ .
( وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : " يَا أيُّها النَّاسُ إنَّ اللهَ أذْهَبَ عَنْكُمْ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ ، وَتَعظُّمَها بِآبائِها ، فَالنَّاسُ رَجُلانِ : رَجُلٌ بَرٌّ نَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللهِ ، وَرَجُلٌ فَاجِرٌ شَقيُّ هَيِّنٌ عَلَى الله تَعَالى " ) . ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ .(1/175)
13) سورة الحجرات . وَفِي اِ لصحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ قَالَ :« أَتْقَاهُمْ » . فَقَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ . قَالَ :« فَيُوسُفُ نَبِىُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِىِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِىِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ » . قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ . قَالَ :« فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونَ خِيَارُهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِى الإِسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا »(1).
__________
(1) - صحيح البخارى (3353 ) ومسلم (6311 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 8 / ص 112)
قَالَ الْعُلَمَاء : وَأَصْل الْكَرَم كَثْرَة الْخَيْر ، وَقَدْ جَمَعَ يُوسُف صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَارِم الْأَخْلَاق ، مَعَ شَرَف النُّبُوَّة ، مَعَ شَرَف النَّسَب ، وَكَوْنه نَبِيًّا اِبْن ثَلَاثَة أَنْبِيَاء مُتَنَاسِلِينَ أَحَدهمْ خَلِيل اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ شَرَف عِلْم الرُّؤْيَا ، وَتَمَكُّنه فِيهِ ، وَرِيَاسَة الدُّنْيَا ، وَمُلْكهَا بِالسِّيرَةِ الْجَمِيلَة ، وَحِيَاطَته لِلرَّعِيَّةِ ، وَعُمُوم نَفْعه إِيَّاهُمْ ، وَشَفَقَته عَلَيْهِمْ ، وَإِنْقَاذه إِيَّاهُمْ مِنْ تِلْكَ السِّنِينَ . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَالَ الْعُلَمَاء : لَمَّا سُئِلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاس أَكْرَم ؟ أَخْبَرَ بِأَكْمَل الْكَرَم وَأَعَمّه ، فَقَالَ : أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَصْل الْكَرَم كَثْرَة الْخَيْر ، وَمَنْ كَانَ مُتَّقِيًا كَانَ كَثِير الْخَيْر وَكَثِير الْفَائِدَة فِي الدُّنْيَا ، وَصَاحِب الدَّرَجَات الْعُلَا فِي الْآخِرَة . فَلَمَّا قَالُوا : لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُك قَالَ : يُوسُف الَّذِي جَمَعَ خَيْرَات الْآخِرَة وَالدُّنْيَا وَشَرَفهمَا . فَلَمَّا قَالُوا : لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُ ، فَهِمَ عَنْهُمْ أَنَّ مُرَادهمْ قَبَائِل الْعَرَب قَالَ : " خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّة خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَام إِذَا فَقُهُوا " وَمَعْنَاهُ أَنَّ أَصْحَاب الْمُرُوءَات وَمَكَارِم الْأَخْلَاق فِي الْجَاهِلِيَّة إِذَا أَسْلَمُوا أَوْ فَقُهُوا فَهُمْ خِيَار النَّاس . قَالَ الْقَاضِي : وَقَدْ تَضَمَّنَ الْحَدِيث فِي الْأَجْوِبَة الثَّلَاثَة أَنَّ الْكَرَم كُلّه عُمُومه وَخُصُوصه وَمُجْمَله وَمُبَانه . إِنَّمَا هُوَ الدِّين مِنْ التَّقْوَى وَالنُّبُوَّة وَالْإِغْرَاق فِيهَا وَالْإِسْلَام مَعَ الْفِقْه ، وَمَعْنَى مَعَادِن الْعَرَب أُصُولهَا وَفَقُهُوا بِضَمِّ الْقَاف عَلَى الْمَشْهُور ، وَحُكِيَ كَسْرُهَا أَيْ صَارُوا فُقَهَاء عَالَمِينَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة الْفِقْهِيَّة وَاللَّهُ أَعْلَمُ .(1/176)
فَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَنَّ أَكْرَمَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ . وَفِي (مسندِ أحمدَ) عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :{ لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إلَّا بِالتَّقْوَى . كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ }(1).
وَعَنْهُ أَيْضًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :« إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ مُؤْمِنٌ تَقِىٌّ وَفَاجِرٌ شَقِىٌّ أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلاَنِ الَّتِى تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتْنَ »(2).
__________
(1) - مسند أحمد ( 24204) وهو حديث صحي
(2) - سنن أبى داود(5118 ) صحيح
الجعل : جمع الجعل وهو دويبة سوداء كالخنفساء تدير الخراء بأنفها = العبية : الكبر والفخر
وفي تحفة الأحوذي - (ج 9 / ص 405)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ رَجُلَانِ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ فَهُوَ الْخَيْرُ الْفَاضِلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسِيبًا فِي قَوْمِهِ ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ فَهُوَ الدَّنِيءُ وَإِنْ كَانَ فِي أَهْلِهِ شَرِيفًا رَفِيعًا ، اِنْتَهَى . وَقِيلَ مَعْنَاهُ : إِنَّ الْمُفْتَخِرَ الْمُتَكَبِّرَ إِمَّا مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ فَإِذَنْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَى أَحَدٍ أَوْ فَاجِرٌ شَقِيٌّ فَهُوَ ذَلِيلٌ عِنْدَ اللَّهِ وَالذَّلِيلُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّكَبُّرَ ، فَالتَّكَبُّرُ مَنْفِيٌّ بِكُلِّ حَالٍ " النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ " أَيْ فَلَا يَلِيقُ بِمِنْ أَصْلُهُ التُّرَابُ النَّخْوَةُ وَالتَّجَبُّرُ أَوْ إِذَا كَانَ الْأَصْلُ وَاحِدًا فَالْكُلُّ إِخْوَةٌ فَلَا وَجْهَ لِلتَّكَبُّرِ لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْأُمُورِ عَارِضَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا حَقِيقَةً ، نَعَمْ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وَهِيَ مُبْهَمَةٌ فَالْخَوْفُ أَوْلَى لِلسَّالِكِ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِهَذِهِ الْمَسَالِكِ .(1/177)
فَمَنْ كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَتْقَى لِلَّهِ فَهُوَ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِذَا اسْتَوَيَا فِي التَّقْوَى اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ . وَلَفْظُ " الْفَقْرِ " فِي الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ الْفَقْرُ مِنَ الْمَالِ، وَيُرَادُ بِهِ فَقْرُ الْمَخْلُوقِ إلَى خَالِقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (60) سورة التوبة، وَقَالَ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (15) سورة فاطر ،وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ صِنْفَيْنِ مِنْ الْفُقَرَاءِ : أَهْلَ الصَّدَقَاتِ وَأَهْلَ الْفَيْءِ فَقَالَ فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ : {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (273)(1)
__________
(1) - اجْعَلُوا مَا تُنْفِقُونَ لِلَّذِينَ ذَكَرَ اللهُ صِفَاتِهِم الخَمْسَ ، التِي هِيَ أجَلُّ الأوْصَافِ قَدْراً ، وَهِيَ : ( الإِحْصَارُ ، وَالعَجْزُ عَنِ الكَسْبِ ، وَالتَّعَفُّفُ ، وَمَعْرِفَتُهُمْ بِسِيمَاهُمْ ، وَعَدَمُ سُؤَالِهِمْ شَيئاً مِمَّا فِي أيدِي النَّاسِ ) ..وَهؤُلاءِ هُمُ الفُقَرَاءُ مِنَ المُهَاجِرِينَ الذِينَ انْقَطَعُوا للهِ وَرَسُولِهِ ، وَسَكَنُوا المَدِينةَ ، وَلَيسَ لَهُمْ وَسيلةُ عَيْشٍ يُنْفِقُونَ مِنْها عَلَى أنْفُسِهِمْ ، وَهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَفَراً لِلْبَحْثِ عَن الرِّزْقِ ، وَيَحْسَبُهُمْ مَنْ لاَ يَعْرِفُهُمْ ، وَلا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ حَالِهِمْ ، أنَّهُمْ أغْنِيَاءُ مِنْ تَعَفَّفِهِمْ فِي لِبَاسِهِمْ وَحَالِهِمْ وَمَقَالِهِمْ ، وَتَعْرِفُهُمْ بِمَا يَظْهَرُ لِذَوِي الألْبَابِ مِنْ صِفَاتِهِمْ : لاَ يُلِحُّونَ فِي المَسْألَةِ ، وَلاَ يَطْلُبُونَ مِنَ النَّاسِ مَا لاَ يَحْتَاجُونَ إليهِ .
وَجَميعُ مَا تُنْفِقُونَهُ مِنْ خَيرٍ فَإنَّ اللهُ عَالِمٌ بِهِ ، وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَيهِ أوْفَى الجَزَاءِ يَوَمَ القيَامَةِ .(1/178)
سورة البقرة، وَقَالَ فِي الصِّنْفِ الثَّانِي وَهُمْ أَفْضَلُ الصِّنْفَيْنِ :{لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(1)(8) سورة الحشر. وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَجَرُوا السَّيِّئَاتِ وَجَاهَدُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « أَلاَ أُخْبِرُكُمْ مَنِ الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ »(2).
__________
(1) - يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى حَالَةَ الفُقَرَاءِ المُسْتَحِقِّينَ لِمَالِ الفَيْءِ فَيَذْكُرُ أَنَّهُم الذِينَ اضْطَرَّهُم كُفَّارُ مَكَّةَ إِلَى الخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ ، وَتَرْكِ أَمْوَالِهِمْ ، وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ طَلَباً لِمَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى ، وابْتِغَاءَ ثَوَابِهِ ، وَنُصْرَةً للهِ وَرَسُولِهِ ، وَهَؤُلاَءِ هُمُ الصَّادِقُونَ فِي إِيْمَانِهِمْ ، الذِينَ وَفَّقُوا قَوْلَهُمْ مَعَ فِعْلِهِمْ ، وَهَؤُلاَءِ هُمُ المُهَاجِرُونَ .
(2) - مسند أحمد (24685و24694) وهو صحيح لغيره وبعضه في صحيح البخارى (10 )(1/179)
أَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيه بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ { رَجَعْنَا مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ }(1)
__________
(1) - وفي كشف الخفاء من المحدث (1362 ) رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا وما الجهاد الأكبر قال جهاد القلب.قال الحافظ ابن حجر في تسديد القوس هو مشهور على الألسنة وهو من كلام إبراهيم بن عيلة، انتهى،
وأقول الحديث في الإحياء قال العراقي رواه بسند ضعيف عن جابر ورواه الخطيب في تاريخه عن جابر بلفظ قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزاة فقال عليه الصلاة والسلام: قدمتم خير مقدم وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه، انتهى،
والمشهور على الألسنة رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر دون باقيه ففيه اقتصار، انتهى
وفي زاد المعاد - (ج 3 / ص 5) : [ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللّهِ فَرْعٌ عَلَى جِهَادِ النّفْسِ ]
وَلَمّا كَانَ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللّهِ فِي الْخَارِجِ فَرْعًا عَلَى جِهَادِ الْعَبْدِ نَفْسِهِ فِي ذَاتِ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللّهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللّهُ عَنْهُ كَانَ جِهَادُ النّفْسِ مُقَدّمًا عَلَى جِهَادِ الْعَدُوّ فِي الْخَارِجِ وَأَصْلًا لَهُ فَإِنّهُ مَا لَمْ يُجَاهِدْ نَفْسَهُ أَوّلًا لِتَفْعَلَ مَا أُمِرْت بِهِ وَتَتْرُكَ مَا نُهِيت عَنْهُ وَيُحَارِبُهَا فِي اللّهِ لَمْ يُمْكِنْهُ جِهَادُ عَدُوّهِ فِي الْخَارِجِ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ جِهَادُ عَدُوّهِ وَالِانْتِصَافُ مِنْهُ وَعَدُوّهُ الّذِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ قَاهِرٌ لَهُ مُتَسَلّطٌ عَلَيْهِ لَمْ يُجَاهِدْهُ وَلَمْ يُحَارِبْهُ فِي اللّهِ بَلْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إلَى عَدُوّهِ حَتّى يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْخُرُوجِ .(1/180)
فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِأَقْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْعَالِهِ ،وَجِهَادُ الْكُفَّارِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ(1)؛
__________
(1) - عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ». أَوْ « أَمِيرٍ جَائِرٍ ».سنن أبى داود (4346 ) وهو صحيح لغيره
وفي مسند أحمد (15106)عَنْ أَبِى الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ سَأَلْتُ جَابِراً أَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « أَفْضَلُ الْجِهَادِ مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُرِيقَ دَمُهُ ». فَقَالَ جَابِرٌ نَعَمْ. حديث صحيح لغيره(1/181)
بَلْ هُوَ أَفْضَلُ مَا تَطَوَّعَ بِهِ الْإِنْسَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (95) سورة النساء، وَقَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)(1)[
__________
(1) - نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ ، حِينَ أُسِرَ بِبَدْرٍ ، فَقَالَ لَئِنْ سَبَقْتُمُونَا بِالإِسْلاَمِ وَالهِجْرَةِ وَالجِهَادِ ، لَقَدْ كُنَّا نُعَمِّرُ المَسْجِدَ الحَرَامَ ، وَنَسْقِي الحَاجَّ ، وَنَفكُّ العَانِيَ ..فَرَدَّ اللهَ تَعَالَى عَلَيْهِ قَائِلاً : إِنَّ سِقَايَةَ الحَاجِّ ، وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ لاَ تَسْتَوِيَانِ عِنْدَ اللهِ مَعَ الإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَالجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ ، وَاللهُ تَعَالَى لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ إلَى الحَقِّ فِي أَعْمَالِهِمْ ، وَلاَ إلى الحُكْمِ العَدْلِ فِي أعْمَالِ غَيْرِهِمْ .
فَالذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، هُمْ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ دَرَجَةً وَمَقَاماً ، وَأَكْثَرُ مَثُوبَةً مِنَ الذِينَ عَمَّرُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ ، وَسَقَوْا الحَاجَّ فِي الجَّاهِلِيةِ . وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُجَاهِدُونَ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُمُ الفَائِزُونَ بِرَحْمَةِ اللهِ ، وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّاتِهِ .
وَهَؤُلاَءِ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ فِي كِتَابِهِ ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ، وَعَلَى لِسَانِ مَلاَئِكَتِهِ حِينَ مَوْتِهِمْ ، بِرَحْمَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانٍ ، وَبِأَنَّهُ سَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتِهِ الوَاسِعَةَ ، وَسَيبقَوْنَ فِيهَا أَبَداً فِي نَعِيمٍ مُقِيمٍ ، وَالرِضْوَانُ مِنَ اللهِ هُوَ نِهَايَةُ الإِحْسَانِ ، وَأَعْلَى النَّعِيمِ ، وَأَكْمَلُ الجَزَاءِ .
وَسَيَكُونُ هَؤُلاَءِ الكِرَامُ مُخَلَّدِينَ فِي الجَنَّةِ أَبَداً وَهَذا جَزَاءٌ لَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ ، وَاللهُ تَعَالَى عِنْدَهُ الأَجْرُ العَظِيمُ لِمَنْ آمَنَ وَجَاهَدَ ، وَقَامَ بِمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِ الإِسْلاَمُ .أيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 1255)(1/182)
التوبة/19، 22] } . وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلاَّمٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلاَّمٍ قَالَ حَدَّثَنِى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ رَجُلٌ :مَا أُبَالِى أَنْ لاَ أَعْمَلَ عَمَلاً بَعْدَ الإِسْلاَمِ إِلاَّ أَنْ أُسْقِىَ الْحَاجَّ. وَقَالَ آخَرُ :مَا أُبَالِى أَنْ لاَ أَعْمَلَ عَمَلاً بَعْدَ الإِسْلاَمِ إِلاَّ أَنْ أَعْمُرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. وَقَالَ آخَرُ: الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِمَّا قُلْتُمْ. فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ وَقَالَ: لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْتُ الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ :{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(1)(19) سورة التوبة . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِىَّ قَالَ حَدَّثَنِى صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ - وَأَشَارَ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ – قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَىُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ :« الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا ». قُلْتُ ثُمَّ أَىٌّ قَالَ: « ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ». قُلْتُ ثُمَّ أَىٌّ قَالَ :« ثُمَّ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ » قَالَ حَدَّثَنِى بِهِنَّ وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِى(2).
__________
(1) - صحيح مسلم (4979 ) وأحمد(18864 )
(2) - صحيح مسلم (264 ) وصحيح البخارى (527 )(1/183)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ :« إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ » . قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ :« الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ » . قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ :« حَجٌّ مَبْرُورٌ »(1).
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قِيلَ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ « لاَ تَسْتَطِيعُونَهُ ». قَالَ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ « لاَ تَسْتَطِيعُونَهُ ». وَقَالَ فِى الثَّالِثَةِ « مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلاَ صَلاَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى »(2).
__________
(1) - صحيح البخارى (26 ) ومسلم (258 )
(2) - صحيح مسلم (4977 ) والبخاري (2787 )(1/184)
وَفِي السُّنَنِ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِى. قَالَ « اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ » أَوْ « أَيْنَمَا كُنْتَ ».قَالَ زِدْنِى. قَالَ « أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا ». قَالَ زِدْنِى. قَالَ « خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ »(1)., وَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ :« يَا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنِّى لأُحِبُّكَ وَاللَّهِ إِنِّى لأُحِبُّكَ ». فَقَالَ « أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِى دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ »(2).و عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ كُنْتُ رِدْفَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- لَيْسَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ إِلاَّ مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ « يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ». قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ « يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ». قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةَ ثُمَّ قَالَ « يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ». قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ « هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ ». قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ». ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ « يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ».
__________
(1) - مسند أحمد (22709) وهذا لفظه وسنن الترمذى (2115 ) عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ». وهو صحيح لغيره
(2) - سنن أبى داود (1524 )صحيح(1/185)
قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ « هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ». قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ ».(1).
وَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فِى سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِى الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِى مِنَ النَّارِ. قَالَ :« لَقَدْ سَأَلْتَنِى عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ تَعْبُدُ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِى الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ ». ثُمَّ قَالَ: « أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ ». قَالَ ثُمَّ تَلاَ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) }سورة السجدة ، ثُمَّ قَالَ :« أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ ». قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.
__________
(1) - صحيح البخارى(2856 ) ومسلم (152 )(1/186)
قَالَ :« رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ ». ثُمَّ قَالَ :« أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ». قُلْتُ بَلَى يَا نَبِىَّ اللَّهِ، قَالَ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ :« كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا ». فَقُلْتُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ :« ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ».(1).
__________
(1) - سنن الترمذى (2825 )صحيح لغيره(1/187)
وَتَفْسِيرُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: « مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ »(1). فَالتَّكَلُّمُ بِالْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ ،وَالصَّمْتُ عَنِ الشَّرِّ خَيْرٌ مِنَ التَّكَلُّمِ بِهِ ،فَأَمَّا الصَّمْتُ الدَّائِمُ فَبِدْعَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ الِامْتِنَاعُ عَنْ أَكْلِ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَشُرْبِ الْمَاءِ فَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ أَيْضًا(2)، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :بَيْنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا : أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ وَلاَ يَسْتَظِلَّ وَلاَ يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ »(3).
__________
(1) - صحيح البخارى (6018 ) ومسلم (182 )
(2) - انظر مجموع فتاوى ابن تيمية (ج 22 / ص 310)فما بعدها
(3) - صحيح البخارى (6704 )(1/188)
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عن حُمَيْدِ بْنِ أَبِى حُمَيْدٍ الطَّوِيلُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضى الله عنه - يَقُولُ :جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ . قَالَ أَحَدُهُمْ :أَمَّا أَنَا فَإِنِّى أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا . وَقَالَ آخَرُ :أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ . وَقَالَ آخَرُ :أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا . فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :« أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى »(1). أَيْ سَلَكَ غَيْرَهَا ظَانًّا أَنَّ غَيْرَهَا خَيْرٌ مِنْهَا ، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ تَعَالَى : {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}(2)(
__________
(1) - صحيح البخارى (5063) ومسلم (3470 )
(2) - لَقَدْ تَجَرَّدَ إِبراهِيمُ فِي عِبَادَةِ اللهِ فَلَمْ يَدْعُ مَعَهُ غَيْرَهُ ، وَلَمْ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً ، وَتَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ حَتَّى تَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ ، وَخَالفَ قَوْمَهُ ..فَمَنْ يَتْرُكَ طَرِيقَ إِبْراهيمَ هذا وَمَسْلَكَهُ وَمِلَّتَهُ ، وَيَتَّبِعْ طَرِيقَ الغَيِّ وَالضَّلاَلِ ، فَهُوَ سَفِيهٌ ، وَلاَ يَرْتَكِبُ الضَّلاَلَةَ إِلاَّ السَّفيهُ .وَلَقَدِ اصْطَفَى اللهُ إِبراهِيمَ وَاخْتَارَهُ في الدُّنيَا ، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الصَّالِحِينَ المُقَرَّبينَ عِنْدَ اللهِ .(1/189)
130) سورة البقرة ،بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ بِذَلِكَ كُلَّ يَوْمِ جُمْعَةٍ(1).
__________
(1) - قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ ، وَأَحْسَنَ الْهَدْىِ هَدْىُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَإِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ .صحيح البخارى(7277 )
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلاَ صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ « صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ ». وَيَقُولُ « بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ ». وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ « أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ». صحيح مسلم (2042 )
فتح الباري لابن حجر - (ج 20 / ص 330)
و " الْمُحْدَثَات " بِفَتْحِ الدَّالّ جَمْع مُحْدَثَة وَالْمُرَاد بِهَا مَا أُحْدِث ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْل فِي الشَّرْع وَيُسَمَّى فِي عُرْف الشَّرْع " بِدْعَة " وَمَا كَانَ لَهُ أَصْل يَدُلّ عَلَيْهِ الشَّرْع فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ ، فَالْبِدْعَة فِي عُرْف الشَّرْع مَذْمُومَة بِخِلَافِ اللُّغَة فَإِنَّ كُلّ شَيْء أُحْدِث عَلَى غَيْر مِثَال يُسَمَّى بِدْعَة سَوَاء كَانَ مَحْمُودًا أَوْ مَذْمُومًا ، وَكَذَا الْقَوْل فِي الْمُحْدَثَة وَفِي الْأَمْر الْمُحْدَث الَّذِي وَرَدَ فِي حَدِيث عَائِشَة " مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمَرْنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدّ " كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحه وَمَضَى بَيَان ذَلِكَ قَرِيبًا فِي " كِتَاب الْأَحْكَام " وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث جَابِر الْمُشَار إِلَيْهِ " وَكُلّ بِدْعَة ضَلَالَة " وَفِي حَدِيث الْعِرْبَاض بْن سَارِيَة " وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَات الْأُمُور فَإِنَّ كُلّ بِدْعَة ضَلَالَة " وَهُوَ حَدِيث أَوَّله " وَعَظَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَة بَلِيغَة " فَذَكَرَهُ وَفِيهِ هَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ اِبْن مَاجَهْ وَابْن حِبَّان وَالْحَاكِم ، وَهَذَا الْحَدِيث فِي الْمَعْنَى قَرِيب مِنْ حَدِيث عَائِشَة الْمُشَار إِلَيْهِ وَهُوَ مِنْ جَوَامِع الْكَلِم.
قَالَ الشَّافِعِيّ " الْبِدْعَة بِدْعَتَانِ : مَحْمُودَة وَمَذْمُومَة ، فَمَا وَافَقَ السُّنَّة فَهُوَ مَحْمُود وَمَا خَالَفَهَا فَهُوَ مَذْمُوم " أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْم بِمَعْنَاهُ مِنْ طَرِيق إِبْرَاهِيم بْن الْجُنَيْد عَنْ الشَّافِعِيّ ، وَجَاءَ عَنْ الشَّافِعِيّ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبه قَالَ " الْمُحْدَثَات ضَرْبَانِ مَا أُحْدِث يُخَالِف كِتَابًا أَوْ سُنَّة أَوْ أَثَرًا أَوْ إِجْمَاعًا فَهَذِهِ بِدْعَة الضَّلَال ، وَمَا أُحْدِث مِنْ الْخَيْر لَا يُخَالِف شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهَذِهِ مُحْدَثَة غَيْر مَذْمُومَة " اِنْتَهَى . وَقَسَّمَ بَعْض الْعُلَمَاء الْبِدْعَة إِلَى الْأَحْكَام الْخَمْسَة وَهُوَ وَاضِح ، وَثَبَتَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : قَدْ أَصْبَحْتُمْ عَلَى الْفِطْرَة وَإِنَّكُمْ سَتُحْدِثُونَ وَيُحْدَث لَكُمْ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مُحْدَثَة فَعَلَيْكُمْ بِالْهَدْيِ الْأَوَّل ، فَمِمَّا حَدَثَ تَدْوِين الْحَدِيث ثُمَّ تَفْسِير الْقُرْآن ثُمَّ تَدْوِين الْمَسَائِل الْفِقْهِيَّة الْمُوَلَّدَة عَنْ الرَّأْي الْمَحْض ثُمَّ تَدْوِين مَا يَتَعَلَّق بِأَعْمَالِ الْقُلُوب ، فَأَمَّا الْأَوَّل فَأَنْكَرَهُ عُمَر وَأَبُو مُوسَى وَطَائِفَة وَرَخَّصَ فِيهِ الْأَكْثَرُونَ وَأَمَّا الثَّانِي فَأَنْكَرَهُ جَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ كَالشَّعْبِيِّ ، وَأَمَّا الثَّالِث فَأَنْكَرَهُ الْإِمَام أَحْمَد وَطَائِفَة يَسِيرَة وَكَذَا اِشْتَدَّ إِنْكَار أَحْمَد لِلَّذِي بَعْده ، وَمِمَّا حَدَثَ أَيْضًا تَدْوِين الْقَوْل فِي أُصُول الدِّيَانَات فَتَصَدَّى لَهَا الْمُثْبِتَة وَالنُّفَاة ، فَبَالَغَ الْأَوَّل حَتَّى شَبَّهَ وَبَالِغ الثَّانِي حَتَّى عَطَّلَ ، وَاشْتَدَّ إِنْكَار السَّلَف لِذَلِكَ كَأَبِي حَنِيفَة وَأَبِي يُوسُف وَالشَّافِعِيّ ، وَكَلَامُهمْ فِي ذَمّ أَهْل الْكَلَام مَشْهُور ، وَسَبَبه أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا سَكَتَ عَنْهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه ، وَثَبَتَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْر وَعُمَر شَيْء مِنْ الْأَهْوَاء - يَعْنِي بِدَع الْخَوَارِج وَالرَّوَافِض وَالْقَدَرِيَّة - وَقَدْ تَوَسَّعَ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْ الْقُرُون الثَّلَاثَة الْفَاضِلَة فِي غَالِب الْأُمُور الَّتِي أَنْكَرَهَا أَئِمَّة التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعهمْ ، وَلَمْ يَقْتَنِعُوا بِذَلِكَ حَتَّى مَزَجُوا مَسَائِل الدِّيَانَة بِكَلَامِ الْيُونَان ، وَجَعَلُوا كَلَام الْفَلَاسِفَة أَصْلًا يَرُدُّونَ إِلَيْهِ مَا خَالَفَهُ مِنْ الْآثَار بِالتَّأْوِيلِ وَلَوْ كَانَ مُسْتَكْرَهًا ، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ حَتَّى زَعَمُوا أَنَّ الَّذِي رَتَّبُوهُ هُوَ أَشْرَفُ الْعُلُوم وَأَوْلَاهَا بِالتَّحْصِيلِ ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَعْمِل مَا اِصْطَلَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ عَامِّيٌّ جَاهِل ، فَالسَّعِيد مَنْ تَمَسَّكَ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَف وَاجْتَنَبَ مَا أَحْدَثَهُ الْخَلَف ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُ بُدّ فَلْيَكْتَفِ مِنْهُ بِقَدْرِ الْحَاجَة ، وَيَجْعَل الْأَوَّل الْمَقْصُود بِالْأَصَالَةِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَد بِسَنَدٍ جَيِّد عَنْ غُضَيْف بْن الْحَارِث قَالَ بَعَثَ إِلَيَّ عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان فَقَالَ : إِنَّا قَدْ جَمَعْنَا النَّاس عَلَى رَفْع الْأَيْدِي عَلَى الْمِنْبَر يَوْم الْجُمُعَة ، وَعَلَى الْقَصَص بَعْد الصُّبْح وَالْعَصْر ، فَقَالَ : أَمَّا إِنَّهُمَا أَمْثَل بِدَعكُمْ عِنْدِي وَلَسْت بِمُجِيبِكُمْ إِلَى شَيْء مِنْهُمَا لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " مَا أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً إِلَّا رُفِعَ مِنْ السُّنَّة مِثْلُهَا ؛ فَتَمَسُّكٌ بِسَنَةِ خَيْرٌ مِنْ إِحْدَاثِ بِدْعَةٍ " . اِنْتَهَى وَإِذَا كَانَ هَذَا جَوَاب هَذَا الصَّحَابِيّ فِي أَمْر لَهُ أَصْل فِي السُّنَّة فَمَا ظَنَّك بِمَا لَا أَصْل لَهُ فِيهَا ، فَكَيْف بِمَا يَشْتَمِل عَلَى مَا يُخَالِفهَا . وَقَدْ مَضَى فِي " كِتَاب الْعِلْم " أَنَّ اِبْن مَسْعُود كَانَ يُذَكِّر الصَّحَابَة كُلّ خَمِيس لِئَلَّا يَمَلُّوا وَمَضَى فِي " كِتَاب الرِّقَاق " أَنَّ اِبْن عَبَّاس قَالَ : حَدِّثْ النَّاس كُلّ جُمْعَة فَإِنْ أَبَيْت فَمَرَّتَيْنِ ، وَنَحْوه وَصِيَّة عَائِشَة لِعُبَيْدِ بْن عُمَيْر ، وَالْمُرَاد بِالْقَصَصِ التَّذْكِير وَالْمَوْعِظَة ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَجْعَلهُ رَاتِبًا كَخُطْبَةِ الْجُمُعَة بَلْ بِحَسْب الْحَاجَة ، وَأَمَّا قَوْله فِي حَدِيث الْعِرْبَاض " فَإِنَّ كُلّ بِدْعَة ضَلَالَة " بَعْد قَوْله " وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَات الْأُمُور " فَإِنَّهُ يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُحْدَث يُسَمَّى بِدْعَة وَقَوْله " كُلّ بِدْعَة ضَلَالَة " قَاعِدَة شَرْعِيَّة كُلِّيَّة بِمَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومهَا ، أَمَّا مَنْطُوقهَا فَكَأَنْ يُقَال " حُكْم كَذَا بِدْعَة وَكُلّ بِدْعَة ضَلَالَة " فَلَا تَكُون مِنْ الشَّرْع لِأَنَّ الشَّرْع كُلّه هَدْي ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْحَكَم الْمَذْكُور بِدْعَة صَحَّتْ الْمُقَدِّمَتَانِ ، وَأَنْتَجَتَا الْمَطْلُوب ، وَالْمُرَاد بِقَوْلِهِ " كُلّ بِدْعَة ضَلَالَة " مَا أُحْدِث وَلَا دَلِيل لَهُ مِنْ الشَّرْع بِطَرِيقِ خَاصّ وَلَا عَامّ . وَقَوْله فِي آخِر حَدِيث اِبْن مَسْعُود ( إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أَرَادَ خَتْم مَوْعِظَته بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآن يُنَاسِب الْحَال . وَقَالَ اِبْن عَبْد السَّلَام : فِي أَوَاخِر " الْقَوَاعِد " الْبِدْعَة خَمْسَة أَقْسَام " فَالْوَاجِبَة " كَالِاشْتِغَالِ بِالنَّحْوِ الَّذِي يُفْهَم بِهِ كَلَام اللَّه وَرَسُوله لِأَنَّ حِفْظ الشَّرِيعَة وَاجِب ، وَلَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِذَلِكَ فَيَكُون مِنْ مُقَدَّمَة الْوَاجِب ، وَكَذَا شَرْح الْغَرِيب وَتَدْوِين أُصُول الْفِقْه وَالتَّوَصُّل إِلَى تَمْيِيز الصَّحِيح وَالسَّقِيم " وَالْمُحَرَّمَة " مَا رَتَّبَهُ مَنْ خَالَفَ السُّنَّة مِنْ الْقَدَرِيَّة وَالْمُرْجِئَة وَالْمُشَبِّهَة " وَالْمَنْدُوبَة " كُلّ إِحْسَان لَمْ يُعْهَد عَيْنُهُ فِي الْعَهْد النَّبَوِيّ كَالِاجْتِمَاعِ عَلَى التَّرَاوِيح وَبِنَاء الْمَدَارِس وَالرُّبَط وَالْكَلَام فِي التَّصَوُّف الْمَحْمُود وَعَقْد مَجَالِس الْمُنَاظَرَة إِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ وَجْه اللَّه " وَالْمُبَاحَة " كَالْمُصَافَحَةِ عَقِب صَلَاة الصُّبْح وَالْعَصْر ، وَالتَّوَسُّع فِي الْمُسْتَلَذَّات مِنْ أَكْل وَشُرْب وَمَلْبَس وَمَسْكَن . وَقَدْ يَكُون بَعْض ذَلِكَ مَكْرُوهًا أَوْ خِلَاف الْأَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ .(1/190)
المبحث الخامس عشر
" الْحَقِيقَةُ " حَقِيقَةُ الدِّينِ : دِينُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(1)
وَ " الْحَقِيقَةُ " حَقِيقَةُ الدِّينِ : دِينُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . هِيَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ ؛ وَإِنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ شِرْعَةٌ وَمِنْهَاجٌ .
فَ " الشِّرْعَةُ " هِيَ الشَّرِيعَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (48) سورة المائدة، وَقَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) } [الجاثية/18، 19] .
وَ " الْمِنْهَاجُ " هُوَ الطَّرِيقُ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) } [الجن/16-17] .
__________
(1) -الفرقان بين أولياء الرحمن وأوليا الشيطان بتحقيقي ص406 فما بعدها(1/191)
فَالشِّرْعَةُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيعَةِ لِلنَّهْرِ، وَالْمِنْهَاجُ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي سَلَكَ فِيهِ، وَالْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ هِيَ حَقِيقَةُ الدِّينِ ،وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ،وَهِيَ حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَسْلِمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَسْتَسْلِمُ لِغَيْرِهِ(1)،فَمَنْ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَانَ مُشْرِكًا ،وَاَللَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ،وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لِلَّهِ بَلْ اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَتِهِ كَانَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(2)(
__________
(1) - قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} [البقرة/208-210]
(2) - يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ عَلَى دُعَائِهِ ، وَتَكَفَّلَ لَهُمْ بِالإِجَابَةِ عَلَى دُعَائِهِمْ؛ وَدُعَاءُ العَبْدِ رَبِّهُ دَلِيلٌ عَلَى إِيْمَانِهِ بِرَبِّهِ ، وَخَوْفِهِ مِنْهُ ، وَطَمَعِهِ فِي ثَوَابِهِ وَكَرَمِهِ ، وَرَحْمَتِهِ ، وَمَنْ اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَهْتَمُّ بِإِجَابَةِ دُعَائِهِ لأَنَّهُ لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ ، وَأَنَّهُ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الخَلاَئِقِ ، وَتَصْرِيفِ شُؤُونِهِمْ ، وَإحْصَاءِ أَعْمَالِهِمْ ، وَإِعَادَةِ بَعْثِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَيْهَا ، وَيَجْزِيَهُمْ بِهَا ..وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : إِنَّ الذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ فَإِنَّهُ سَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَهُمْ أَذِلاءُ صَاغِرُونَ.(1/192)
60) سورة غافر.
وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وقَوْله تَعَالَى {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(1)(85) سورة آل عمران، عَامٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ . فَنُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَالْحَوَارِيُّونَ كُلُّهُمْ دِينُهُمُ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ،قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)(2)
__________
(1) - مَنِ ابْتَغَى دِيناً لاَ يَقُودُهُُ إلَى الإسْلاَمِ الكَامِلِ للهِ ، وَالخُضُوعِ التَّامِّ لَهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، فَلاَ يُقْبَلُ مِنْهُ هَذا الدِّينُ ، وَيَكُونُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ، لأنَّهُ يَكُونُ قَدْ سَلَكَ طَريقاً غَيْرَ مَا شَرَعَهُ اللهُ . وَجَاءَ فِي الصَّحِيحِ : " مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ) .
(2) - يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم عَمَّا يُلاَقِيهِ مِنْ إِيذَاءِ قَوْمِهِ ، وَتَكْذِيبِهِمْ بِمَا يَقُصُّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ ..وَيَبْدَأُ تَعَالَى بِقِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فَيَقُولُ تَعَالَى : أَخْبِرْ يَا مُحَمَّدُ كُفَّارَ مَكَّةَ الذِينَ يُكَذِبُونَكَ خَبَرَ نُوحٍ مَعْ قَوْمِهِ الذِينَ كَذَّبُوهُ ، كَيْفَ أَهْلَكَهُمُ اللهُ ، وَدَمَّرَهُمْ بِالغَرَقِ أَجْمَعِينَ ، وَلَيْحَذَرْ هَؤُلاَءِ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ البَلاَءِ وَالهَلاَكِ وَالدَّمَارِ مَا أَصَابَ أُوْلَئِكَ .
لَقَدْ قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ : يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ ثَقُلَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي بَيْنَكُمْ ( كَبُرَ ) ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْكُمْ تَذْكِيرِي إِيَّاكًُمْ بِآيَاتِ اللهِ ، وَحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ ، فَإِنِّي قَدْ وَكَّلْتُ أَمْرِي إِلَى اللهِ الذِي أَرْسَلَنِي ، وَاعْتَمَدْتُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ ، وَإِنِّي لاَ أُبَالِي بِكُمْ ، وَلاَ أَكُفُّ عَنْكُمْ ، سَوَاءَ عَظُمَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي أَوْ لاَ ، فَاجْتَمِعُوا أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ ، مِنَ الأَصْنَامِ الذِينَ تَدْعُونَهُمْ ، وَلاَ تَتْرُكُوا أَمْرَكُمْ مُلْتَبَساً عَلَيْكُمْ ( غَمَّةً ) ، بَلْ كُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ ، لِكَيْلا تَتَحَوَّلُوا عَنْهُ ، وَافْصِلُوا أَمْرَكُمْ مَعِيَ ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ مُحِقُّونَ فَاقْضُوا إِلَيَّ ، وَافْعَلُوا مَا تَسْتَطِيعُونَ ، وَلاَ تُؤَخِرُونِي سَاعَةً وَاحِدَةً ( وَلاَ تُنْظِرُونَ ) .
فَإِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ تَذْكِيرِي ، وَأَدْبَرْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ ( تَوَلَّيْتُمْ ) ، فَلاَ يَضُرُّنِي ذَلِكَ لأَنَّنِي لَمْ أَطْلُبْ مِنْكُمْ أَجْراً عَلَى نُصْحِي لَكُمْ ، وَإِنَّمَا أَطْلُبُ الأَجْرَ مِنَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ الذِي أَمَرَنِي بِأَن أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ ، المُؤْمِنِينَ العَابِدِينَ القَائِمِينَ بِأَمْرِ رَبِّهِمْ .(1/193)
} [يونس/71، 72]، وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) } [البقرة/130-134]، وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) }(1)[يونس/84] ،وَقَالَ السَّحَرَةُ : {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ }(2)(
__________
(1) - وَلَمَّا أَعْلَنَ جَمَاعَةُ مُوسَى لَهُمْ إِيمَانَهُمْ بِاللهِ وَبِرِسَالاَتِهِ ، وَهُمْ خَائِفُونَ مِنَ العَذَابِ وَالفِتْنَةِ ، قَالَ لَهُمْ مُوسَى : إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ إِيمَاناً حَقّاً ، فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا ، وَبِوُعُودِهِ ثِقُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ مُذْعِنِينَ ، إِذْ إِنَّ الإِيمَانَ لاَ يَكُونُ يَقِيناً إِلاَّ إِذَا صَدَّقَهُ العَمَلُ ، وَهُوَ الإِسْلاَمُ للهِ وَحْدَهُ .
(2) - وَنَحْنُ لَمْ نَرْتَكِبْ إِثْماً أَوْ جُرْماً تَنْقِمُ بِهِ عَلَينا ، وَالشَّيءُ الوَحِيدُ الذِي تُؤاخِذُنَا عَليهِ هُوَ أَنَّنَا آمَنَّا بِرَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا آيَاتُهُ ..ثُمَّ اتَّجَهَ السَّحَرَةُ بِالدُّعَاءِ إِلى اللهِ تَعَالَى قَائِلِينَ : اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَى دِينِكَ ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الصَّابِرِينَ عَلَى الأَذَى الذِي سَيُلْحِقُهُ فِرْعَوْنُ بِنا ، وَتَوَفَّنَا وَنَحْنُ مُتَّبِعُونَ دِينَكَ وَنَبِسَّكَ ، مُسْتَسْلِمُونَ لِقَضَائِكَ .(1/194)
126) سورة الأعراف ، وَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ :{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}(1)(101) سورة يوسف، وَقَالَتْ بلقيس : {.. قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(2)(
__________
(1) - لَمَا تَمَّتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَى يُوسُفَ بِاجْتِمَاعِهِ بِأَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ ، وَرَأَى مَا مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالمُلْكِ ، وَمَا وَهَبَهُ مِنَ العِلْمِ وَالقُدْرَةِ عَلَى تَفْسِيرِ الأَحْلاَمِ ، اتَّجَهَ إِلَى اللهِ رَبِّهِ بِالدُّعَاءِ قَائِلاً : يَا رَبِّ أَنْتَ خَالِقِي وَمَالِكُ أَمْرِي ، وَمُتَوَلِّي نِعْمَتِي ، فِي حَيَاتِي وَبَعَدَ مَمَاتِي ، تَوَفَّنِي عَلَى مَا ارْتَضَيْتَ لأَنْبِيَائِكَ مِنْ دِينِ الإِسْلاَمِ ، وَأَدْخِلْنِي فِي زُمْرَةِ مَنْ هَدَيْتَهُمْ إِلَى الصَّلاَحِ مِنْ عِبَادِكَ المُخْلِصِينَ الصَّالِحِينَ .
(2) - كانَ سليمانُ عليهِ السلامُ قد أمَرَ الشَّياطينَ فَبَنَوْا لَها قَصْراً ( صَرْحاً ) عَظيماً من زُجَاجٍ ، أُجِريَ الماءُ من تحتِهِ ، فمَنْ لا يَعْرِفُ أَمْرَهُ يَظُنُّ أَنَّهُ ماءٌ ، ولكنَّ الزُّجَاجَ يَحُولُ بينَ الماءِ وبينَ الماشي ..ثمَّ قالَ لها سليمانُ : ادْخُلِي الصَّرْحَ لِيُرِيَها مُلْكاً أعَزَّ من مُلْكِها ، وسُلْطَاناً أعْظَمَ من سُلْطَانِها ، فَلَمّا رأتِ الماءَ تَحْتَ الزُّجَاجِ ظَنَّتْ أنَّهَا سَتَخُوضُ فيهِ ، فَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْها لِتَخُوضُ فقَالَ لَها سُليمانُ إِنَّهُ زُجَاجُ ، وليسَ ماء ، فلَمَّا وقَفَتْ عَلَى سليمانَ عَاتَبهَا على عِبَادَةِ الشَّمسِ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَدَعَاهَا إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ ، فأسْلَمَتْ وحَسُنَ إسِلامُها ، واتَّبعَتْ دينَ سُليمانَ ، وَقَالَتْ : رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بعِبَادَةِ الشَّمسِ ، وبِاغْتِرَارِي بِمُلْكِي ، وأسْلَمْتُ مَعَ سُليمانَ للهِ ربِّ العالمينَ ، وخالقِ كلِّ شيءٍ .(1/195)
44) سورة النمل ،وَقَالَ تَعَالَى : {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (44)(1)
__________
(1) - يَمْدَحُ اللهُ تَعَالَى التَّوْرَاةَ ، فَيَقُولُ : إنَّهُ أَنْزَلَهَا وَفِيهَا هُدىً وَنُورٌ ، يَحْكُمُ بِهَا الأَنْبِيَاءَ الذِينَ أَسْلَمُوا وُجُوهَهُمْ لِرَبِّهِمْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ( وَهُمْ مُوسَى وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) بَيْنَ اليَهُودِ لاَ يَخْرُجُونَ عَنْ حُكْمِهَا ، وَلاَ يُبَدِّلُونَها وَلاَ يُحَرِّفُونَها . وَيَحْكُمُ بِهَا العُلَمَاءُ العُبَّادُ ( الرَّبَّانِيُّونَ ) ، وَالعُلَمَاءُ ( الأَحْبَارُ ) بِمَا اسْتَوْدَعُوا ( اسْتُحْفِظُوا ) مِنْ كِتَابِ اللهِ الذِي أُمِرُوا بِأنْ يَحْفَظُوهُ مِنَ التَّبْدِيلِ ، وَبِأنْ يُظْهِرُوهُ ، وَيَعْمَلُوا بِأَحْكَامِهِ ، ثُمَّ خَاطَبَ اللهُ تَعَالَى رُؤَسَاءَ اليَهُودِ الذِينَ كَانُوا فِي زَمَنْ التَّنْزِيلِ فَقَالَ : كَيْفَ لاَ يَخَافُونَ اللهَ فِي الكِتْمَانِ وَالتَّبْدِيلِ ، بَعْدَ أنْ قَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ سِيرَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ وَيَرْعَوُونَ عَنْ غَيِّهِمْ ..ثُمَّ قَالَ لَهُمْ : وَإِذَا كَانَ الحَالُ كَذَلِكَ أيُّهَا الأَحْبَارُ ، وَلاَ شَكَّ فِي أنَّكُمْ لا تُنْكِرُونَهُ ، فَلا تَخْشَوا النَّاسَ فَتَكْتُمُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الكِتَابِ ، خَشْيَةَ النَّاسِ ، أَوْ طَمَعاً فِي مَنْفَعَةٍ عَاجِلَةٍ مِنْهُ ، وَأخْشَوْنِي أنَا وَاقْتَدُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الرَّبَّانِيِّينَ وَالأَحْبَارِ ، وَاحْفَظُوا التَّوْرَاةَ ، وَلا تَعْدِلُوا عَنْ ذَلِكَ ، فَإنَّ النَّفْعَ وَالضَّرَرَ بِيَدِ اللهِ ، وَلاَ تَتْرُكُوا بَيَانَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ لِلْنَّاسِ ، وَالعَمَلِ بِهَا ، لِقَاءَ مَنْفَعَةٍ دَنْيَوِيَّةٍ قَلِيلَةٍ تَأْخُذُونَها مِنَ النَّاسِ كَرَشْوَةٍ أوْ جَاهٍ .
وَكُلُّ مَنْ يَرْغَبُ عَنِ الحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ شَرْعٍ ، وَيُخْفِيهِ وَيَحْكُمُ بِغَيْرِهِ ( كَحُكْمِ اليَهُودِ فِي الزَّانِيَيْنِ المُحْصَنَيْنِ بِالتَّحْمِيمِ وَالجَلْدِ ، وَكِتْمَانِ الرَّجْمِ ، وَقَضَائِهِمْ فِي بَعْضِ قَتْلاَهِمْ بِدِيَةٍ كَامِلَةٍ ، وَفِي بَعْضِهِمْ بِنِصْفِ دِيَةٍ ، مَعْ أنَّ اللهَ قَدْ سَوَّى بَيْنَ الجَمِيعِ فِي الحُكْمِ ) ، فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ الذِينَ سَتَرُوا الحَقَّ الذِي كَانَ عَلَيهِم كَشْفُهُ وَتَبْيِينُهُ لِلنَّاسِ .(1/196)
سورة المائدة ،وَقَالَ الْحَوَارِيُّونَ: {.. نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(1)(52) سورة آل عمران.
فَدِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ ،وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُهُمْ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّا مَعْشَرُ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ }(2)،
__________
(1) - فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ تَعَالَى عِيسَى رَسُولاً إلى قَوْمِهِ بَني إِسْرَائِيلَ ، دَعَاهُمْ إلى دِينِ اللهِ القَوِيمِ ، فَأَبَى أَكْثَرُهُمْ وَسَخِرُوا مِنْهُ ، فَلَمَّا اسْتَشْعَرَ عِيسَى مِنْهُمْ الكُفْرَ وَالاسْتِمْرارَ فِي العِنَادِ وَالضَّلاَلَةِ ، وَقَصْدِ الإِيذَاءِ ، سَأَلَ النَّاسَ قَائِلاً : مَنْ يَتْبَعُنِي إلى اللهِ ، وَيَنْصُرُ دَعْوتِي إليهِ؟ فَقَالَ الحَوَارِيُّونَ ( أيِ الأنْصَارُ ) نَحْنُ عَلَى استعدادٍ لِنُصْرَتِكَ فِي سَبيلِ دَعْوَتِكَ إلى اللهِ ، فَقَدْ آمَنَّا بِاللهِ ، وَاشْهَدْ عَلينا بأنَّنا أَسْلَمْنَا إليهِ وُجُوهَنَا ، وَنَحْنُ مُنْقَادُونَ لأوَامِرِهِ . ( وَفِي هذا دَليلٌ عَلَى أنَّ الإِسْلاَمَ هُوَ دِينُ اللهِ عَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيِّ ) .
(2) - لم أجده بهذا اللفظ وإنما وجدت نحوه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ أَبْنَاءُ عَلاَّتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَلَيْسَ بَيْنَنَا نَبِىٌّ ». مسند أحمد (11272) وهو صحيح
العلات : أولاد العلات الإخوة لأب من أمهات شتى(1/197)
قَالَ تَعَالَى : {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (13) سورة الشورى، وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) } [المؤمنون/51-53] .
======================
المبحث السادس عشر
الْأَنْبِيَاءُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ(1)
وَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَسَائِرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بأنبياء(2)،
__________
(1) - الفرقان بين أولياء الرحمن وأوليا الشيطان بتحقيقي ص417 فما بعدها
(2) - وفي مجموع الفتاوى - (ج 18 / ص 370):
إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَخِيَارُ الْأَوْلِيَاءِ أَتْبَعُهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ كَمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ مَنْ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ
وفي الرسالة القشيرية - (ج 1 / ص 159):
فإن قيل: كيف يجوز إظهار هذه الكرامات الزائدة في المعاني على معجزات الرسل؟ وهل يجوز تفضيل الأولياء على الأنبياء عليهم السلام؟ قيل: هذه الكرامات لاحقة بمعجزات نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنكل من له بصادق في الإسلام لا تظهر عليه الكرامة. وكل نبي ظهرت كرامته على واحد من أمته فهي معدودة من جملة معجزاته؛ إذ لو لم يكن ذلك الرسول صادقاً لم تظهر على يد من تابعه الكرامة. فأما رتبة الأولياء فلا تبلغ ربتةَ الأنبياء عليهم السلام: للإجماع المنعقد على ذلك.
وهذا أبو يزيد البسطامي سئل عن هذه المسألة فقال: مثل ما حصل للأنبياء عليهم السلام كمثل زِق فيه عسل ترشح منه قطرة، فتلك القطرةُ مثل ما لجميع الأولياء، وما في الظرف مثل لنبينا صلى الله عليه وسلم.
وفي بستان العارفين - (ج 1 / ص 22)
قال القشيري هل يجوز تفضيل الولي على النبي قلنا رتبة الأولياء لا تبلغ رتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام للإجماع المنعقد على ذلك.(1/198)
وَقَدْ رَتَّبَ اللَّهُ عِبَادَهُ السُّعَدَاءَ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ " أَرْبَعَ مَرَاتِبَ " فَقَالَ تَعَالَى : {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}(1)(69) سورة النساء. وَفِي الْحَدِيثِ : " { مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ }(2)،
__________
(1) - وَمَنْ أَطَاعَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَعَمِلَ بِمَا أَمَرا بِهِ ، وَانْتَهَى عَمَّا نَهَيَا عَنْهُ ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُسْكِنُهُ دَارَ كَرَامَتِهِ ، وَيَجْعَلُهُ مُرَافِقاً لِلأَنْبِيَاءَ ، ثُمَّ لِمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الرُّتْبَةِ ، وَهُمُ الصِّدِّيقُونَ ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ ، ثُمَّ عُمُومُ المُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ الذِينَ صَلُحَتْ سَرَائِرُهُمْ وَعَلاَنِيَتُهُمْ وَمَا أَحْسَنَ رِفْقَةَ هَؤُلاءِ الذِينَ لاَ يَشْقَى جَلِيسُهُمْ .
( وَيُذْكَرُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ : أنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ جَاءَ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَحْزُوناً ، فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ عَنْ سَبَبِ حُزْنِهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ شَيءٌ فَكَّرْتُ فِيهِ . فَقَالَ النَّبِيُّ : وَمَا هُوَ؟ قَالَ : نَحْنُ نَغْدُو وَنَرُوحُ ، وَنَنْظُرُ إلى وَجْهِكَ وَنُجَالِسُكَ ، وَغَداً تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ فَلا نَصِلُ إِلَيْكَ . فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ بِشَيءٍ ، فَجَاءَهُ جِبْريلٌ عَلَيهِ السَّلاَمُ بِهَذِهِ الآيَةِ ) .
(2) - حلية 3/325 وفضائل الصحابة (135 و137 و662)حسن لغيره
وفي مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 444)
إِنَّ أَفْضَلَ أَوْلِيَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةُ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَخَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَخَيْرُ قُرُونِهَا الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ وَخَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ آخِرُ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ يَكُونُ فِي النَّاسِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِخَيْرِ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا أَفْضَلِهِمْ بَلْ خَيْرُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثُمَّ عُمَرُ : اللَّذَانِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلَ مِنْهُمَا .(1/199)
وَأَفْضَلُ الْأُمَمِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ تَعَالَى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (110) سورة آل عمران، وَقَالَ تَعَالَى : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (32) سورة فاطر ،وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ : « أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى»(1).
وَأَفْضَلُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَرْنُ الْأَوَّلُ(2).
__________
(1) - مسند أحمد (20550) صحيح
(2) - وفي الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 33 / ص 153)
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ خَيْرَ الْقُرُونِ قَرْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَال عِمْرَانُ - رَاوِي الْحَدِيثِ - : فَلاَ أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا ، ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ ، وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ ، وَيَنْذِرُونَ وَلاَ يُوفُونَ ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ ، وَفِي رِوَايَةٍ : خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ . . . (2) ، قَال ابْنُ حَجَرٍ : وَالْمُرَادُ بِقَرْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحَابَةُ (3) .
قَال النَّوَوِيُّ : إِنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ كُل مُسْلِمٍ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ سَاعَةً فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَرِوَايَةُ خَيْرُ النَّاسِ عَلَى عُمُومِهَا وَالْمُرَادُ مِنْهُ جُمْلَةُ الْقَرْنِ ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْهُ تَفْضِيل الصَّحَابِيِّ عَلَى الأَْنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِمْ ، وَلاَ أَفْرَادُ النِّسَاءِ عَلَى مَرْيَمَ وَآسِيَةَ وَغَيْرِهِمَا ، بَل الْمُرَادُ جُمْلَةُ الْقَرْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُل قَرْنٍ بِجُمْلَتِهِ .
قَال الْقَاضِي : وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْقَرْنِ هُنَا فَقَال الْمُغِيرَةُ : قَرْنُهُ أَصْحَابُهُ ، وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ أَبْنَاؤُهُمْ ، وَالثَّالِثُ أَبْنَاءُ أَبْنَائِهِمْ ، وَقَال شَهْرٌ : قَرْنُهُ مَا بَقِيَتْ عَيْنٌ رَأَتْهُ ، وَالثَّانِي مَا بَقِيَتْ عَيْنٌ رَأَتْ مَنْ رَآهُ ثُمَّ كَذَلِكَ ، وَقَال غَيْرُ وَاحِدٍ : الْقَرْنُ كُل أَهْل طَبَقَةٍ مُقْتَرِنِينَ فِي وَقْتٍ ، وَقِيل : هُوَ لأَِهْل مُدَّةٍ بُعِثَ فِيهَا نَبِيٌّ طَالَتْ مُدَّتُهُ أَمْ قَصُرَتْ .
وَذَكَرَ الْحَرْبِيُّ الْخِلاَفَ فِي قَدْرِهِ بِالسِّنِينَ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، ثُمَّ قَال : وَلَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ وَاضِحٌ ، وَرَأَى أَنَّ الْقَرْنَ كُل أُمَّةٍ هَلَكَتْ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا أَحَدٌ .
وَقَال الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ : الْقَرْنُ عَشْرُ سِنِينَ ، وَقَتَادَةُ : سَبْعُونَ ، وَالنَّخَعِيُّ : أَرْبَعُونَ ، وَزُرَارَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى : مِائَةٌ وَعِشْرُونَ ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ : مِائَةٌ ، وَقَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ : هُوَ الْوَقْتُ .
قَال النَّوَوِيُّ : وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَرْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحَابَةُ ، وَالثَّانِي التَّابِعُونَ ، وَالثَّالِثُ تَابِعُوهُمْ (4) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 16 / 318 نشر دار القلم .
(2) حديث : " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم . . . " . أخرجه البخاري ( فتح الباري 7 / 3 ) ومسلم ( 4 / 1964 ) من حديث عمران بن حصين واللفظ للبخاري ، والرواية الأخرى أخرجها البخاري ( فتح الباري 7 / 3 ) ومسلم ( 4 / 1963 ) من حديث ابن مسعود .
(3) فتح الباري 7 / 5 - 6 .
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 16 / 318 - 319 نشر دار القلم .(1/200)
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ : « خَيْرُكُمْ قَرْنِى ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ » ،وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ(1). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : « لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِى ، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ »(2).
__________
(1) - وفي نظم المتناثر - (ج 1 / ص 199) 240 (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).
أورده في الأزهار من حديث (1) ابن مسعود (2) وعمران بن حصين (3) وأبي هريرة (4) وعائشة (5) وبريدة (6) والنعمان بن بشير (7) وعمر (8) وسعد بن تميم (9) وجعدة بن هبيرة (10) وسمرة (11) وأبي برزة (12) وجميلة بنت أبي لهب (13) وعمرو بن شرحبيل مرسلا ثلاثة عشر نفسا.
(قلت) في فيض القدير قال المؤلف يعني السيوطي يشبه أن الحديث متواتر اه.
وفي أول الإصابة للحافظ ابن حجر ما نصه :وتواتر عنه صلى الله عليه وسلم قوله خير الناس قرني ثم الذين يلونهم اه
وفي رسالة الفرقان لابن تيمية ما نصه وقد استفاضت النصوص الصحيحة عنه أي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خير القرون قرني الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم اه.
(2) - صحيح البخارى(3673 ) و صحيح مسلم (6651 ) - النَّصيف : النصف
إن تعديل الصحابة رضي الله عنهم وتنزيههم عن الكذب والوضع، هو مما اتفق عليه أئمة الإسلام ونقاد الحديث من أهل السنة والجماعة، ولا يعرف من طعن فيهم وشكك في عدالتهم إلاَّ الشذاذ من أصحاب الأهواء والفرق الضالة المنحرفة ممن لا يلتفت إلى أقوالهم، ولا يعتد بها في خلاف ولا وفاق.
كيف لا وقد عدلهم الله في كتابه، وأثنى عليهم ومدحهم في غير ما آية فقال جل وعلا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ... [الفتح:29]، وقال: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100]، وقال: لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التوبة:88]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تزكيهم، وتشيد بفضلهم ومآثرهم، وصدق إيمانهم وإخلاصهم، وأي تزكية بعد تزكية الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء؟!
كما عدلهم رسوله صلى الله عليه وسلم وبيَّن منزلتهم، ودعا إلى حفظ حقهم وإكرامهم، وعدم إيذائهم بقول أو فعل، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم . وقال: لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحدٍ ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصفيه . أخرجاه في الصحيحين.
وقال أيضاً: الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه . رواه الترمذي .
وأجمع المسلمون من أهل السنة والجماعة على عدالتهم وفضلهم وشرفهم، وإليك طرفًا من أقوال أئمة الإسلام وجهابذة النقاد فيهم. قال ابن عبد البر رحمه الله -كما في الاستيعاب-: قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول .
وقال ابن الصلاح في مقدمته: ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتنة منهم فكذلك، بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحسانًا للظنِّ بهم، ونظرًا إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة. انتهى.
وقال الإمام الذهبي : فأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي، وإن جرى ما جرى...، إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل، وبه ندين الله تعالى .
وقال ابن كثير : والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة . ثم قال: وقول المعتزلة: الصحابة كلهم عدول إلاَّ من قاتل عليًّا قول باطل مردود . ثم قال: وأما طوائف الروافض وجهلهم وقلة عقلهم، ودعاويهم أن الصحابة كفروا إلاَّ سبعة عشر صحابيًّا - وسموهم - فهذا من الهذيان بلا دليل .
على أنه -كما قال الخطيب في الكفاية- لو لم يرد الله ورسوله فيهم شيئا مما ذكر لأوجب الحال التي كانوا عليها -من الهجرة، وترك الأهل والمال والولد، والجهاد ونصرة الإسلام، وبذل المهج وقتل الآباء والأبناء في سبيل الله- القطع بتعديلهم واعتقاد نزاهتهم وأمانتهم، وأنهم كانوا أفضل من كل من جاء بعدهم.
والطعن في الصحابة رضي الله عنهم طعن في مقام النبوة والرسالة، فإن كل مسلم يجب أن يعتقد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أدى الأمانة وبلغ الرسالة، وقام بما أمره الله به، ومن ذلك أنه بلغ أصحابه العلم وزكاهم ورباهم على عينه. قال عز وجل: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]، والحكم بعدالتهم من الدين، ومن الشهادة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قام بما أمره الله به، والطعن فيهم يعني الطعن بإمامهم ومربيهم ومعلمهم صلى الله عليه وسلم، كما أن الطعن فيهم مدخل للطعن في القرآن الكريم، فأين التواتر في تبليغه؟ وكيف نقطع بذلك إذا كانت عدالة حملته ونقلته مشكوكاً فيها؟!
ونحن حينما نصف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هم له أهل، فإنما نريد صحابته المخلصين الذين أخلصوا دينهم، وثبتوا على إيمانهم، ولم يغمطوا بكذب أو نفاق، فالمنافقون الذين كشف الله سترهم، ووقف المسلمون على حقيقة أمرهم، والمرتدون الذين ارتدوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده، ولم يتوبوا أو يرجعوا إلى الإسلام، وماتوا على ردتهم؛ هؤلاء وأولئك لا يدخلون في هذا الوصف إطلاقًا، ولا تنطبق عليهم هذه الشروط أبدًا، وهم بمعزل عن شرف الصحبة، وبالتالي هم بمعزل عن أن يكونوا من المرادين بقول العلماء والأئمة: "إنهم عدول". وفي تعريف العلماء للصحابي ما يبين ذلك بجلاء، حيث عرفوه بأنه من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ومات على ذلك.
فالخلاصة أن تعديل الصحابة رضي الله عنهم أمر متفق عليه بين المسلمين، ولا يطعن فيهم إلاَّ من غُمص في دينه وعقيدته، ورضي بأن يسلم عقله وفكره لأعدائه، معرضًا عن كلام الله وكلام رسوله وإجماع أئمة الإسلام. فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 7 / ص 411)رقم الفتوى 47533 عدالة الصحابة محل إجماع -تاريخ الفتوى : 29 صفر 1425(1/201)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، قَالَ تَعَالَى : {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(1)(
__________
(1) - وَمَا لَكُم يَا أَيُّها النَّاسُ لاَ تُنْفِقُونَ مِنْ أَمْوالِكم فِي سَبيلِ اللهِ؟ أَتَخْشَوْنَ الفَقْرَ إِنْ أَنْفَقْتُمْ؟ أَنْفِقُوا وَلاَ تَخْشَوْا شَيْئاً ، فَإِنَّ الذِي أَنْفَقْتُمْ أَمْوالَكُمْ فِي سَبِيلهِ هُوَ مَالكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ ، وَقَدْ تَكَفَّلَ بِرِزْقِكُمْ ، وَبِالإِخْلاَفِ عَلَيكُم { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } . ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالى تَفَاوَتَ دَرَجَاتِ المُنْفِقِينَ ، بِحَسَبِ تَفَاوُتِ أَحْوَالِهم ، فَقالَ : إِنَّهُ لاَ يَسْتَوي مَنْ آمَنَ ، وَهَاجَرَ ، وَأَنْفَقَ مَالَهُ في سَبِيلِ اللهِ ، قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ ( أَوْ قَبْلَ صُلْحِ الحَدَيْبِيَةِ عَلَى قَوْلٍ ) ، مَعَ مَنْ آمنَ ، وَأَنْفَقَ بَعْدَ الفَتْحِ ، فَالأَوَّلُونَ أَعْظَمُ دَرجةً عِنْدَ الله ، لأنَّ المُؤْمِنينَ قَبْلَ الفَتْحِ كَانُوا قَليلي العَدَدِ ، وَواجِبَاتُهُمْ كَثِيرةٌ وَثَقِيلةٌ ، أَمَّا بَعْدَ الفَتْحِ فَقَدِ انْتَشَرَ الإِسْلامُ ، وَأَمِنَ النَّاسُ . وَاللهُ عَلِيمٌ خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُهُ العِبَادُ .
(
وَجَاءَ عَنْ رَسُولِ الله قَوْلُهُ : " لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَباً مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ " ) . ( رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ) .(1/202)
10) سورة الحديد، وَقَالَ تَعَالَى : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(1)(
__________
(1) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ رِضَاهُ عَنِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ المُهَاجِرِينَ ، ( وَهُمُ الذِينَ هَاجَرُوا قَبْلَ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ ) ، وَمِنَ الأَنْصَارِ ( وَهُمُ الذِينَ بَايَعُوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْعَتَي العَقَبَةِ وَالرِّضْوَانِ ) ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ . وَيُخْبِرُ تَعَالَى بِرِضَاهُ عَنْهُمْ بِمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا ، مِنْ عِزٍّ وَنَصْرٍ وَمَغْنَمٍ وَهُدًى ، وَبِمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ ، مِنْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَوَانِبِهَا ، وَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا أَبَداً . وَالفَوْزُ الذِي فَازَ بِهِ هَؤُلاَءِ الكِرامُ البَرَرَةُ هُوَ أَعْظَمُ الفَوْزِ ..(1/203)
100) سورة التوبة ،وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلُوا ،وَالْمُرَادُ بِالْفَتْحِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ ،فَإِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ فَتْحِ مَكَّةَ وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) }(1)[
__________
(1) - نَزَلَتْ هذِهِ السُّورَةُ وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في طَريقِهِ مِنَ الحُدَيْبِيَةِ إِلى المَدِينَةِ ، بَعْدَ أَنْ أَبْرَمَ مَعَ قُرَيشٍ وَثِيقَةَ الصُّلْحِ المَعْرُوفِ بِصُلْحِ الحُدَيْبِيةِ . قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ : ( إنَّكُم تَعُدُّون الفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ ، وَنَحْنُ نَعُدُّ الفَتْحَ صُلْحَ الحُدَيْبِيَةِ ) .
وَفِي هذهِ السُّورَةِ يَقُولُ اللهُ تَعَالى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ، إِنَّهُ فَتَحَ لَهُ فَتْحاً ظَاهِراً مُبِيناً بِعَقْدِ الصُّلحِ في الحُدَيْبِيَةِ مَعَ قُرَيشٍ ، إِذْ أمِنَ النَّاسُ ، وَاجْتَمَعَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضِ ، وَتَكَلَّمَ المُؤْمِنُ مَعَ الكَافِرِ ، وَتَسَابَقَ العَرَبُ إلى الدُّخُولِ في دِينِ اللهِ أَفْواجاً ، حَتَّى إِذا كَانَ بَعْدَ عَامَينِ سَارَ رَسُولُ اللهِ لِفَتْحِ مَكَّةَ في عَشَرَةِ آلافِ مُقَاتِلٍ ، أكْثَرُهُمْ دَخَلَ الإِسْلاَمَ بَعْدَ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ .
لِيَغْفِرَ اللهُ لَكَ جَمِيعَ مَا صَدَرَ عَنْكَ مِنَ الذُّنوبِ وَالهَفَوَاتِ ، قَبْلَ الرِّسَالةِ وَبَعْدَها ، وَيُتِمَّ رَبُّكَ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بِإِعْلاءِ شَأْنِكَ وَشَأْنِ الإِسْلامِ ، وانتِشَارِهِ في البُلْدَانِ ، وَرَفْعِ ذِكْرِكَ في الدُّنيا وَالآخِرَةِ ، وَيُرْشِدَكَ رَبُّكَ طَرِيقاً مِنَ الدِّينِ لا اعْوِجَاجَ فِيهِ ، بِما يَشْرَعُهُ لَكَ مِنَ الشَّرْعِ ، وَالدِّينِ القَوِيمِ .وَيْنَصُرُكَ اللهُ عَلَى مَنْ عَادَاكَ نَصْراً ذَا عِزَّةٍ .(1/204)
الفتح/1-4]، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَفَتْحٌ هُوَ قَالَ : نَعَمْ }(1).
وَأَفْضَلُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ " الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ "وَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْأُمَّةِ وَجَمَاهِيرِهَا وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ دَلَائِلُ بَسَطْنَاهَا فِي " مِنْهَاجِ أَهْلِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ أَهْلِ الشِّيعَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ".
__________
(1) - عن أبي وَائِلَ قَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَلَوْ نَرَى قِتَالاً لَقَاتَلْنَا ، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ فَقَالَ « بَلَى » . فَقَالَ أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِى الْجَنَّةِ وَقَتْلاَهُمْ فِى النَّارِ قَالَ « بَلَى » . قَالَ فَعَلَى مَا نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَقَالَ « ابْنَ الْخَطَّابِ ، إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِى اللَّهُ أَبَدًا » . فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا . فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا . فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَوَفَتْحٌ هُوَ قَالَ « نَعَمْ » . صحيح البخارى (3182 ) ومسلم (4733 )(1/205)
وَبِالْجُمْلَةِ اتَّفَقَتْ طَوَائِفُ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا وَاحِدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ، وَلَا يَكُونُ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُهُمْ مَعْرِفَةً بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّبَاعًا لَهُ ،كَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ أَكْمَلُ الْأُمَّةِ فِي مَعْرِفَةِ دِينِهِ وَاتِّبَاعِهِ(1)،وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَكْمَلُ مَعْرِفَةً بِمَا جَاءَ بِهِ وَعَمَلًا بِهِ، فَهُوَ أَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ إذْ كَانَتْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْأُمَمِ وَأَفْضَلُهَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ .
==============
المبحث السابع عشر
أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ هُمُ الْمُقْتَدُونَ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2)
__________
(1) - والصحابة أكمل الأمة في ذلك بدلالة الكتاب والستة والإجماع ، والاعتبار ولهذا لا تجد أحدا من أعيان الأمة إلا وهو معترف بفضل الصحابة عليه ، وعلى أمثاله ، وتجد من ينازع في ذلك كالرافضة من أجهل الناس ، ولهذا لا يوجد في أئمة الفقه الذين يرجع إليهم رافضي ، ولا في أئمة الحديث ولا في أئمة الزهد والعبادة ، ولا في أئمة الجيوش المؤيدة المنصورة رافضي، ولا في الملوك الذين نصروا الإسلام وأقاموه وجاهدوا عدوه من هو رافضي، ولا في الوزراء الذين لهم سيرة محمودة من هو رافضي .مختصر منهاج السنة النبوية - (ج 1 / ص 41) ومختصر منهاج السنة النبوية - (ج 1 / ص 103)
(2) - الفرقان بين أولياء الرحمن وأوليا الشيطان بتحقيقي ص600فما بعدها
و انظر مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 83) ومجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 176) ومجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 178) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 400) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 202) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 298) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 299) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 302) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 635) ومجموع الفتاوى - (ج 19 / ص 55) ومجموع الفتاوى - (ج 27 / ص 497) ومجموع الفتاوى - (ج 35 / ص 117)
وفي شرح الطحاوية في العقيدة السلفية - (ج 3 / ص 207)
قَوْلُهُ : ( وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ ، وَصَحَّ عَنِ الثِّقَاتِ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ ) .
ش : فالْمُعْجِزَةُ فِي اللُّغَةِ تَعُمُّ كُلَّ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ ، وَ [ كذلك الكرامة] فِي عُرْفِ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمُتَقَدِّمِينَ . وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ يُفَرِّقُونَ فِي اللَّفْظِ بَيْنَهُمَا ، فَيَجْعَلُونَ الْمُعْجِزَةَ لِلنَّبِيِّ ، وَالْكَرَامَةَ لِلْوَلِيِّ . وَجِمَاعُهُمَا : الْأَمْرُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ .
والْكَمَالُ يَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةٍ : الْعِلْمِ ، وَالْقُدْرَةِ ، وَالْغِنَى . وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ لَا تَصْلُحُ عَلَى الْكَمَالِ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ ، فَإِنَّهُ الَّذِي أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ . وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ دَعْوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ : { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } (الْأَنْعَامِ : 50) .
وَكَذَلِكَ قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَهَذَا أَوَّلُ أُولِي الْعَزْمِ ، وَأَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ ، وَهَذَا خَاتَمُ الرُّسُلِ ، وَخَاتَمُ أُولِي الْعَزْمِ ، وَكِلَاهُمَا تَبَرَّأَ مِنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ يُطَالِبُونَهُمْ تَارَةً بِعِلْمِ الْغَيْبِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } ( النَّازِعَاتِ : 42) ، وَتَارَةً بِالتَّأْثِيرِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا } الْآيَاتِ ( الْإِسْرَاءِ : 90 ) ، وَتَارَةً يَعِيبُونَ عَلَيْهِمُ الْحَاجَةَ الْبَشَرِيَّةَ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ } ( الْفُرْقَانِ : 7) الْآيَةَ .
فَأُمِرَ الرَّسُولُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَنَالُ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ بِقَدْرِ مَا يُعْطِيهِ اللَّهُ ، فَيَعْلَمُ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ ، وَيَسْتَغْنِي عَمَّا أَغْنَاهُ عَنْهُ ، وَيَقْدِرُ عَلَى مَا أَقْدَرَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُخَالِفَةِ لِلْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ ، أَوْ لِعَادَةِ أَغْلَبِ النَّاسِ . فَجَمِيعُ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ مَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ
ثُمَّ الْخَارِقُ : إِنْ حَصَلَ بِهِ فَائِدَةٌ مَطْلُوبَةٌ فِي الدِّينِ ، كَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا دِينًا وَشَرْعًا ، إِمَّا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ، وَإِنْ حَصَلَ بِهِ أَمْرٌ مُبَاحٌ ، كَانَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي شُكْرًا ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ نَهْيَ تَنْزِيهٍ ، كَانَ سَبَبًا لِلْعَذَابِ أَوِ الْبُغْضِ ، كَالَّذِي أُوتِيَ الْآيَاتِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا : بَلْعَامُ بْنُ بَاعُورَا ، [ لكن قد يكون صاحبها معذورا ] لِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ ، أَوْ نَقْصِ عَقْلٍ أَوْ عِلْمٍ ، أَوْ غَلَبَةِ حَالٍ ، أَوْ عَجْزٍ أَوْ ضَرُورَةٍ .
فَالْخَارِقُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : مَحْمُودٌ فِي الدِّينِ ، وَمَذْمُومٌ ، وَمُبَاحٌ . فَإِنْ كَانَ الْمُبَاحُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ كَانَ نِعْمَةً ، وَإِلَّا فَهُوَ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا .
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَوْزَجَانِيُّ : كُنْ طَالِبًا لِلِاسْتِقَامَةِ ، لَا طَالِبًا لِلْكَرَامَةِ ، فَإِنَّ نَفْسَكَ مُتَحَرِّكَةٌ فِي طَلَبِ الْكَرَامَةِ ، وَرَبُّكَ يَطْلُبُ مِنْكَ الِاسْتِقَامَةَ .
قَالَ الشَّيْخُ السُّهْرَوَرْدِيُّ فِي عَوَارِفِهِ : [وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الْبَابِ] ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ [وَالْمُتَعَبِّدِينَ] سَمِعُوا [عن] سَلَفِ الصَّالِحِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَمَا مُنِحُوا بِهِ مِنَ الْكَرَامَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ ، فَنُفُوسُهُمْ لَا تَزَالُ تَتَطَلَّعُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُرْزَقُوا شَيْئًا مِنْهُ ، وَلَعَلَّ أَحَدَهُمْ يَبْقَى مُنْكَسِرَ الْقَلْبِ ، مُتَّهِمًا لِنَفْسِهِ فِي صِحَّةِ عَمَلِهِ ، حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ خَارِقٌ ، وَلَوْ عَلِمُوا بِسِرِّ ذَلِكَ لَهَانَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ ، فَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يَفْتَحُ عَلَى بَعْضِ [الْمُجتهِدِينَ] الصَّادِقِينَ مِنْ ذَلِكَ بَابًا ، وَالْحِكْمَةُ [فِيهِ] أَنْ يَزْدَادَ بِمَا [يَرَى] مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَآثَارِ الْقُدْرَةِ - يَقِينًا ، فَيَقْوَى عَزْمُهُ عَلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا ، وَالْخُرُوجِ عَنْ دَوَاعِي الْهَوَى . فَسَبِيلُ الصَّادِقِ مُطَالَبَةُ النَّفْسِ بِالِاسْتِقَامَةِ ، فَهِيَ كُلُّ الْكَرَامَةِ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلْقُلُوبِ مِنَ التَّأْثِيرِ أَعْظَمَ مِمَّا لِلْأَبْدَانِ ، لَكِنْ إِنْ كَانَتْ صَالِحَةً كَانَ تَأْثِيرُهَا صَالِحًا ، وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً كَانَ تَأْثِيرُهَا فَاسِدًا . فَالْأَحْوَالُ يَكُونُ تَأْثِيرُهَا مَحْبُوبًا لِلَّهِ تَعَالَى تَارَةً ، وَمَكْرُوهًا لِلَّهِ أُخْرَى .
وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى مَنْ يَقْتُلُ غَيْرَهُ فِي الْبَاطِنِ . وَهَؤُلَاءِ يَشْهَدُونَ بِبَوَاطِنِهِمْ وَقُلُوبِهُمُ الْأَمْرَ الْكَوْنِيَّ ، وَيَعُدُّونَ مُجَرَّدَ خَرْقِ الْعَادَةِ لِأَحَدِهِمْ أَنَّهُ كَرَامَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهُ ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا الْكَرَامَةُ لُزُومُ الِاسْتِقَامَةِ ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكْرِمْ عَبْدًا بِكَرَامَةٍ أَعْظَمَ مِنْ مُوَافَقَتِهِ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ ، وَهُوَ طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ ، وَمُوَالَاةُ أَوْلِيَائِهِ ، وَمُعَادَاةُ أَعْدَائِهِ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .
وَأَمَّا مَا يَبْتَلِي اللَّهُ بِهِ عَبْدَهُ ، مِنَ السِّرِّ بِخَرْقِ الْعَادَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا أَوْ بِالضَّرَّاءِ - فَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَجْلِ كَرَامَةِ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ وَلَا هَوَانِهِ عَلَيْهِ ، بَلْ قَدْ سَعِدَ بِهَا قَوْمٌ إِذَا أَطَاعُوهُ ، وَشِقِيَ بِهَا قَوْمٌ إِذَا عَصَوْهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي }{ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي }{ كَلَّا } (الْفَجْرِ : 15 - 17 ) .
وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ تَرْتَفِعُ دَرَجَتُهُمْ بِخَرْقِ الْعَادَةِ ، وَقِسْمٌ يَتَعَرَّضُونَ بِهَا لِعَذَابِ اللَّهِ ، وَقِسْمٌ يَكُونُ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاحَاتِ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
وَتَنَوُّعُ الْكَشْفِ وَالتَّأْثِيرِ بِاعْتِبَارِ تَنَوُّعِ كَلِمَاتِ اللَّهِ . وَكَلِمَاتُ اللَّهِ نَوْعَانِ : كَوْنِيَّةٌ ، وَدِينِيَّةٌ :
فَكَلِمَاتُهُ الْكَوْنِيَّةُ هِيَ الَّتِي اسْتَعَاذَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : « أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ » . قَالَ تَعَالَى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ( يس : 82 ) . وَقَالَ تَعَالَى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } ( الْأَنْعَامِ : 115 ) . وَالْكَوْنُ كُلُّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ ، وَسَائِرِ الْخَوَارِقِ .
وَالنَّوْعُ الثَّانِي : الْكَلِمَاتُ الدِّينِيَّةُ ، وَهِيَ الْقُرْآنُ وَشَرْعُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ ، وَهِيَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَخَبَرُهُ ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهَا الْعِلْمُ بِهَا ، وَالْعَمَلُ ، وَالْأَمْرُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ، كَمَا أَنَّ حَظَّ الْعِبَادِ عُمُومًا وَخُصُوصًا الْعِلْمُ بِالْكَوْنِيَّاتِ وَالتَّأْثِيرُ فِيهَا ، أَيْ بِمُوجَبِهَا . فَالْأُولَى تَدْبِيرِيَّةٌ كَوْنِيَّةٌ ، وَالثَّانِيَةُ شَرْعِيَّةٌ دِينِيَّةٌ . فَكَشْفُ الْأُولَى الْعِلْمُ بِالْحَوَادِثِ الْكَوْنِيَّةِ ، وَكَشْفُ الثَّانِيَةِ الْعِلْمُ بِالْمَأْمُورَاتِ الشَّرْعِيَّةِ .
وَقُدْرَةُ الْأُولَى التَّأْثِيرُ فِي الْكَوْنِيَّاتِ ، إِمَّا فِي نَفْسِهِ كَمَشْيِهِ عَلَى الْمَاءِ ، وَطَيَرَانِهِ فِي الْهَوَاءِ ، وَجُلُوسِهِ فِي النَّارِ ، وَإِمَّا فِي غَيْرِهِ ، بِإِصْحَاحٍ وَإِهْلَاكٍ ، وَإِغْنَاءٍ وَإِفْقَارٍ .
وَقُدْرَةُ الثَّانِيَةِ التَّأْثِيرُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ ، إِمَّا فِي نَفْسِهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِمَّا فِي غَيْرِهِ فَيُطَاعُ فِي ذَلِكَ طَاعَةً شَرْعِيَّةً .
فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّ عَدَمَ الْخَوَارِقِ عِلْمًا وَقُدْرَةً لَا تَضُرُّ الْمُسْلِمَ فِي دِينِهِ ، فَمَنْ لَمْ يَنْكَشِفْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ ، وَلَمْ يُسَخَّرْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْكَوْنِيَّاتِ - : لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ فِي مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ ، بَلْ قَدْ يَكُونُ عَدَمُ ذَلِكَ أَنْفَعَ لَهُ ، فَإِنَّهُ إِنِ اقْتَرَنَ بِهِ الدِّينُ وَإِلَّا هَلَكَ صَاحِبُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَإِنَّ الْخَارِقَ قَدْ يَكُونُ مَعَ الدِّينِ ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ عَدَمِهِ ، أَوْ فَسَادِهِ ، أَوْ نَقْصِهِ .
فَالْخَوَارِقُ النَّافِعَةُ تَابِعَةٌ لِلدِّينِ ، خَادِمَةٌ لَهُ ، كَمَا أَنَّ الرِّيَاسَةَ النَّافِعَةَ هِيَ [ التَّابِعَةُ] لِلدِّينِ ، وَكَذَلِكَ الْمَالُ النَّافِعُ ، كَمَا كَانَ السُّلْطَانُ وَالْمَالُ النَّافِعُ بِيَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . فَمَنْ جَعَلَهَا هِيَ الْمَقْصُودَةَ ، وَجَعَلَ الدِّينَ تَابِعًا لَهَا ، وَوَسِيلَةً إِلَيْهَا ، لَا لِأَجْلِ الدِّينِ فِي الْأَصْلِ - : فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَنْ يَأْكُلُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ ، وَلَيْسَتْ حَالُهُ كَحَالِ مَنْ تَدَيَّنَ خَوْفَ الْعَذَابِ ، أَوْ رَجَاءَ الْجَنَّةِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ ، وَشَرِيعَةٍ صَحِيحَةٍ .
وَالْعَجَبُ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّ هَمَّهُ قَدِ ارْتَفَعَ عَنْ أَنْ يَكُونَ خَوْفًا مِنَ النَّارِ أَوْ طَلَبًا لِلْجَنَّةِ - يَجْعَلُ هَمَّهُ بِدِينِهِ أَدْنَى خَارِقٍ مِنْ خَوَارِقِ الدُّنْيَا !! ثُمَّ إِنَّ الدِّينَ إِذَا صَحَّ عِلْمًا وَعَمَلًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجِبَ خَرْقَ الْعَادَةِ ، إِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } ( الطَّلَاقِ : 2 - 3) . وَقَالَ تَعَالَى : { إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } ( الْأَنْفَالِ : 29 ) . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا }{ وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا }{ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } (النِّسَاءِ : 66 - 68 ) . وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }{ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }{ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } ( يُونُسَ : 62 - 64 ) .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ " ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ }» (الْحِجْرِ : 75 ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ .
وَقَالَ تَعَالَى ، فِيمَا يَرْوِي عَنْهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لِأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ ، وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ » . فَظَهَرَ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ حَظُّ الرَّبِّ ، وَطَلَبَ الْكَرَامَةِ حَظُّ النَّفْسِ . وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .(1/206)
فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ هُمُ الْمُقْتَدُونَ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَفْعَلُونَ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَنْتَهُونَ عَمَّا عَنْهُ زَجَرَ ؛ وَيَقْتَدُونَ بِهِ فِيمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُ فِيهِ، فَيُؤَيِّدُهُمْ بِمَلَائِكَتِهِ وَرُوحٍ مِنْهُ، وَيَقْذِفُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ أَنْوَارِهِ ،وَلَهُمُ الْكَرَامَاتُ الَّتِي يُكْرِمُ اللَّهُ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ الْمُتَّقِينَ .
وَخِيَارُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَرَامَاتُهُمْ لِحُجَّةٍ فِي الدِّينِ(1)، أَوْ لِحَاجَةِ بِالْمُسْلِمِينَ(2)،كَمَا كَانَتْ مُعْجِزَاتُ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ .
__________
(1) - أي لإقامة الحجة في الدين على المعاندين والمتشككين ، بأن يمكنهم الله تعالى من الردِّ عليهم ، وكشف شبهاتهم ، وتفنيدها
(2) - كقحط ، أو فقر أو جوع أو خوف أو مرض ونحو ذلك(1/207)
وَكَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهُ إنَّمَا حَصَلَتْ بِبَرَكَةِ اتِّبَاعِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ تَدْخُلُ فِي مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ(1)، وَتَسْبِيحِ الْحَصَا فِي كَفِّهِ(2)، وَإِتْيَانِ الشَّجَرِ إلَيْهِ وَحَنِينِ الْجِذْعِ إلَيْهِ(3)،
__________
(1) - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً ، فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ . صحيح البخارى (3637) وهو متواتر نظم المتناثر - (ج 1 / ص 211)264 (انشقاق القمر).
(2) - عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنِّى لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَىَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّى لأَعْرِفُهُ الآنَ ».صحيح مسلم(6078 )
(3) - عَنِ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ ، فَيَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَأَنَّهُ لَمَّا صَنَعَ الْمِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ فَحَنَّ الْجِذْعُ ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَمَسَحَهُ.صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 435)(6506) وهو صحيح ، وحنين الجذع متواتر نظم المتناثر - (ج 1 / ص 210)263 (حنين الجذع)..(1/208)
وَإِخْبَارِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِصِفَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ(1)،وَإِخْبَارِهِ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ(2)،
__________
(1) - عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« لَمَّا كَذَّبَنِى قُرَيْشٌ قُمْتُ فِى الْحِجْرِ ، فَجَلاَ اللَّهُ لِى بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ » . صحيح البخارى (3886 )
(2) - عن عَمْرَو بْنِ أَخْطَبَ - قَالَ :صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْفَجْرَ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ فَنَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا..صحيح مسلم (7449 )(1/209)
وَإِتْيَانِهِ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً(1)،
__________
(1) - وفي نظم المتناثر - (ج 1 / ص 213)267 تكثير الطعام ببركته وردت من رواية جماعة من الصحابة حتى قال بعضهم أنها متواترة تواترا معنويا وأشار لتواترها أيضا عياض فيما تقدم قريبا عنه بل أشار إلى أن القصص المشهورة عنه صلى الله عليه وسلم في هذا المعني كلها معلومة على القطع ثم قال بعد كلام في الاستدلال على ذلك وهذا حق لا غطاء عليه وقد قال به من أئمتنا القاضي أي أبو بكر الباقلاني والأستاذ أبو بكر أي ابن فورك وغيرهما وما عندي أوجب قول القائل أن هذه القصص المشهورة من با ب خبر الواحد إلا قلة مطالعته للأخبار وروايتها وشغله بغير ذلك من المعارف وإلا فمن اعتنى بطرق النقل وطالع الأحاديث والسير لم يرتب في صحة هذه القصص المشهورة على الوجه الذي ذكرناه اه.
وقال أيضا في فصل تكثير الطعام ببركته ودعائه بعدما أورد فيه أحاديث وقضايا وقد اجتمع على معنى هذا الفصل بضعة عشر من الصحابة ورواه عنهم أضعافهم من التابعين ثم من لا يعد بعدهم وأكثرها في قصص مشهورة ومجامع مشهودة لا يمكن التحدث عنها إلا بالحق ولا يسكت الحاضر لها على ما أنكره اه.(1/210)
كَمَا أَشْبَعَ فِي الْخَنْدَقِ الْعَسْكَرَ مِنْ قِدْرِ طَعَامٍ وَهُوَ لَمْ يَنْقُصْ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْمَشْهُورِ(1)،
__________
(1) - عن جَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - قَالَ :لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - خَمَصًا شَدِيدًا ، فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِى فَقُلْتُ هَلْ عِنْدَكِ شَىْءٌ فَإِنِّى رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَمَصًا شَدِيدًا . فَأَخْرَجَتْ إِلَىَّ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ فَذَبَحْتُهَا ، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِى ، وَقَطَّعْتُهَا فِى بُرْمَتِهَا ، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ لاَ تَفْضَحْنِى بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبِمَنْ مَعَهُ . فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنَّا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا ، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ . فَصَاحَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُورًا فَحَىَّ هَلاً بِكُمْ » . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ ، وَلاَ تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّى أَجِىءَ » . فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْدُمُ النَّاسَ حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِى ، فَقَالَتْ بِكَ وَبِكَ . فَقُلْتُ قَدْ فَعَلْتُ الَّذِى قُلْتِ ..فَأَخْرَجَتْ لَهُ عَجِينًا ، فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ ثُمَّ قَالَ « ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعِى وَاقْدَحِى مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلاَ تُنْزِلُوهَا ، وَهُمْ أَلْفٌ ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا ، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِىَ ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ . صحيح البخارى (4102 ) ومسلم (5436 )
البرمة : القِدر من الحجر = الخمص : الجوع = الداجن : ما يألف البيت من الحيوان =تغط : تغلى ويسمع غليانها
وفي صحيح مسلم (5437 ) عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيْمٍ قَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَىْءٍ فَقَالَتْ نَعَمْ. فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ ثُمَّ أَخَذَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ ثَوْبِى وَرَدَّتْنِى بِبَعْضِهِ ثُمَّ أَرْسَلَتْنِى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فَذَهَبْتُ بِهِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَالِسًا فِى الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ ». قَالَ فَقُلْتُ نَعَمْ. فَقَالَ « أَلِطَعَامٍ ». فَقُلْتُ نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِمَنْ مَعَهُ « قُومُوا ». قَالَ فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ فَقَالَتِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ - قَالَ - فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِىَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَعَهُ حَتَّى دَخَلاَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « هَلُمِّى مَا عِنْدَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ». فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَفُتَّ وَعَصَرَتْ عَلَيْهِ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا فَأَدَمَتْهُ ثُمَّ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ قَالَ « ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ ». فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ « ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ ». فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ « ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ ». حَتَّى أَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ رَجُلاً أَوْ ثَمَانُونَ.(1/211)
وَأَرْوَى الْعَسْكَرَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ مَزَادَةِ مَاءٍ وَلَمْ تَنْقُصْ(1)،
__________
(1) - ففي مسند أحمد (2307)عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ وَلَيْسَ فِى الْعَسْكَرِ مَاءٌ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ فِى الْعَسْكَرِ مَاءٌ. قَالَ « هَلْ عِنْدَكَ شَىْءٌ ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ « فَأْتِنِى بِهِ ». قَالَ فَأَتَاهُ بِإِنَاءٍ فِيهِ شَىْءٌ مِنْ مَاءٍ قَلِيلٍ - قَالَ - فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَصَابِعَهُ فِى فَمِ الإِنَاءِ وَفَتَحَ أَصَابِعَهُ - قَالَ - فَانْفَجَرَتْ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ عُيُونٌ وَأَمَرَ بِلاَلاً فَقَالَ « نَادِ فِى النَّاسِ الْوَضُوءَ الْمُبَارَكَ ». حسن لغيره
وفي صحيح البخارى (3579 ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا نَعُدُّ الآيَاتِ بَرَكَةً وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا ، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَفَرٍ فَقَلَّ الْمَاءُ فَقَالَ :« اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ » . فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِى الإِنَاءِ ، ثُمَّ قَالَ :« حَىَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ ، وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ » فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهْوَ يُؤْكَلُ .(1/212)
وَمَلَأ أَوْعِيَةَ الْعَسْكَرِ عَامَ تَبُوكَ مِنْ طَعَامٍ قَلِيلٍ وَلَمْ يَنْقُصْ وَهُمْ نَحْوُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا(1)،
__________
(1) - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَوْ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ لَمَّا كَانَ غَزْوَةُ تَبُوكَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَذِنْتَ لَنَا فَنَحَرْنَا نَوَاضِحَنَا فَأَكَلْنَا وَادَّهَنَّا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « افْعَلُوا ». قَالَ فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ فَعَلْتَ قَلَّ الظَّهْرُ وَلَكِنِ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ ثُمَّ ادْعُ اللَّهَ لَهُمْ عَلَيْهَا بِالْبَرَكَةِ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ فِى ذَلِكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « نَعَمْ ». قَالَ فَدَعَا بِنِطَعٍ فَبَسَطَهُ ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ - قَالَ - فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِىءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ - قَالَ - وَيَجِىءُ الآخَرُ بَكَفِّ تَمْرٍ - قَالَ - وَيَجِىءُ الآخَرُ بِكِسْرَةٍ حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَىْءٌ يَسِيرٌ - قَالَ - فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِ بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ قَالَ « خُذُوا فِى أَوْعِيَتِكُمْ ». قَالَ فَأَخَذُوا فِى أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى مَا تَرَكُوا فِى الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلاَّ مَلأُوهُ - قَالَ - فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَفَضِلَتْ فَضْلَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ لاَ يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فَيُحْجَبَ عَنِ الْجَنَّةِ ».صحيح مسلم (148 )
النواضح : جمع الناضح وهى الناقة التى يسقى عليها الماء = النطع : البساط من الجلد(1/213)
وَنَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً حَتَّى كَفَى النَّاسَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ(1)،
__________
(1) - عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ ، فَأُتِىَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَىْءٌ مِنْ مَاءٍ ، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ . قَالَ أَنَسٌ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ ، قَالَ أَنَسٌ فَحَزَرْتُ مَنْ تَوَضَّأَ مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ . صحيح البخارى (200 ، 169 ، 195 ، 3572 ، 3573 ، 3574 ، 3575 ) ومسلم (6080 ) =حزر : قدر وخمن
وفي صحيح مسلم (6081 ) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَحَانَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِوَضُوءٍ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى ذَلِكَ الإِنَاءِ يَدَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ - قَالَ - فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ النَّاسُ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ.
وفي صحيح مسلم (6082 )عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابَهُ بِالزَّوْرَاءِ - قَالَ وَالزَّوْرَاءُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ السُّوقِ وَالْمَسْجِدِ فِيمَا ثَمَّهْ - دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَوَضَعَ كَفَّهُ فِيهِ فَجَعَلَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ. قَالَ قُلْتُ كَمْ كَانُوا يَا أَبَا حَمْزَةَ قَالَ كَانُوا زُهَاءَ الثَّلاَثِمِائَةِ.(1/214)
كَمَا كَانُوا فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةَ نَحْوُ أَلْفٍ وَأَرْبَعُمِائَةٍ أَوْ خَمْسُمِائَةٍ(1)، وَرَدِّهِ لِعَيْنِ أَبِي قتادة حِينَ سَالَتْ عَلَى خَدِّهِ فَرَجَعَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ(2)،
__________
(1) - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - قَالَ عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَالنَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فَتَوَضَّأَ فَجَهَشَ النَّاسُ نَحْوَهُ ، فَقَالَ « مَا لَكُمْ » . قَالُوا لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ وَلاَ نَشْرَبُ إِلاَّ مَا بَيْنَ يَدَيْكَ ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِى الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَثُورُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ ، فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا . قُلْتُ كَمْ كُنْتُمْ قَالَ لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا ، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً . صحيح البخارى (3576 ) = جهش : فزع ولجأ
(2) - عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، أَنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ سَقَطَتْ عَيْنُهُ عَلَى وَجْنَتِهِ يَوْمَ أُحُدٍ , فَرَدَّهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنٍ وَأَحَدَّهَا .مصنف ابن أبي شيبة (36768) وهو صحيح مرسل
وفي مسند أبي عوانة (5550 )حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ النَّهْدِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْغَسِيلِ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، أَوْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَسَالَتْ عَلَى وَجْنَتِهِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَقْطَعُوهَا، ثُمَّ قَالُوا: نَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَسْتَشِيرُهُ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: فَوَضَعَهَا فِي مَوْضِعِهَا، ثُمَّ غَمَزَهَا بِرَاحَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَكْسِبْهُ جَمَالا، قَالَ: فَمَا يَدْرِي مَنْ لَقِيَهُ أَيَّ عَيْنَيْهِ أُصِيبَتْ. وهو صحيح لغيره
وانظر الإصابة في تمييز الصحابة [ جزء 5 - صفحة 416 ] (7081)(1/215)
وَلَمَّا أَرْسَلَ مُحَمَّدَ بْنَ مسلمة لِقَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَوَقَعَ وَانْكَسَرَتْ رِجْلُهُ فَمَسَحَهَا فَبَرِئَتْ(1)،
__________
(1) - عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى أَبِى رَافِعٍ الْيَهُودِىِّ رِجَالاً مِنَ الأَنْصَارِ ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ ، وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُؤْذِى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيُعِينُ عَلَيْهِ ، وَكَانَ فِى حِصْنٍ لَهُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُ ، وَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ ، وَرَاحَ النَّاسُ بِسَرْحِهِمْ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لأَصْحَابِهِ اجْلِسُوا مَكَانَكُمْ ، فَإِنِّى مُنْطَلِقٌ ، وَمُتَلَطِّفٌ لِلْبَوَّابِ ، لَعَلِّى أَنْ أَدْخُلَ . فَأَقْبَلَ حَتَّى دَنَا مِنَ الْبَابِ ثُمَّ تَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ كَأَنَّهُ يَقْضِى حَاجَةً ، وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ ، فَهَتَفَ بِهِ الْبَوَّابُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ فَادْخُلْ ، فَإِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُغْلِقَ الْبَابَ . فَدَخَلْتُ فَكَمَنْتُ ، فَلَمَّا دَخَلَ النَّاسُ أَغْلَقَ الْبَابَ ، ثُمَّ عَلَّقَ الأَغَالِيقَ عَلَى وَتَدٍ قَالَ فَقُمْتُ إِلَى الأَقَالِيدِ ، فَأَخَذْتُهَا فَفَتَحْتُ الْبَابَ ، وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُسْمَرُ عِنْدَهُ ، وَكَانَ فِى عَلاَلِىَّ لَهُ ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ أَهْلُ سَمَرِهِ صَعِدْتُ إِلَيْهِ ، فَجَعَلْتُ كُلَّمَا فَتَحْتُ بَابًا أَغْلَقْتُ عَلَىَّ مِنْ دَاخِلٍ ، قُلْتُ إِنِ الْقَوْمُ نَذِرُوا بِى لَمْ يَخْلُصُوا إِلَىَّ حَتَّى أَقْتُلَهُ . فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ ، فَإِذَا هُوَ فِى بَيْتٍ مُظْلِمٍ وَسْطَ عِيَالِهِ ، لاَ أَدْرِى أَيْنَ هُوَ مِنَ الْبَيْتِ فَقُلْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ ..قَالَ مَنْ هَذَا فَأَهْوَيْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ ، فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ ، وَأَنَا دَهِشٌ فَمَا أَغْنَيْتُ شَيْئًا ، وَصَاحَ فَخَرَجْتُ مِنَ الْبَيْتِ ، فَأَمْكُثُ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ دَخَلْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ مَا هَذَا الصَّوْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ . فَقَالَ لأُمِّكَ الْوَيْلُ ، إِنَّ رَجُلاً فِى الْبَيْتِ ضَرَبَنِى قَبْلُ بِالسَّيْفِ ، قَالَ فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أَثْخَنَتْهُ وَلَمْ أَقْتُلْهُ ، ثُمَّ وَضَعْتُ ظُبَةَ السَّيْفِ فِى بَطْنِهِ حَتَّى أَخَذَ فِى ظَهْرِهِ ، فَعَرَفْتُ أَنِّى قَتَلْتُهُ ، فَجَعَلْتُ أَفْتَحُ الأَبْوَابَ بَابًا بَابًا حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى دَرَجَةٍ لَهُ ، فَوَضَعْتُ رِجْلِى وَأَنَا أُرَى أَنِّى قَدِ انْتَهَيْتُ إِلَى الأَرْضِ فَوَقَعْتُ فِى لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ ، فَانْكَسَرَتْ سَاقِى ، فَعَصَبْتُهَا بِعِمَامَةٍ ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ حَتَّى جَلَسْتُ عَلَى الْبَابِ فَقُلْتُ لاَ أَخْرُجُ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَعْلَمَ أَقَتَلْتُهُ فَلَمَّا صَاحَ الدِّيكُ قَامَ النَّاعِى عَلَى السُّورِ فَقَالَ أَنْعَى أَبَا رَافِعٍ تَاجِرَ أَهْلِ الْحِجَازِ . فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِى فَقُلْتُ النَّجَاءَ ، فَقَدْ قَتَلَ اللَّهُ أَبَا رَافِعٍ . فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ « ابْسُطْ رِجْلَكَ » . فَبَسَطْتُ رِجْلِى ، فَمَسَحَهَا ، فَكَأَنَّهَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ . صحيح البخارى (4039 )(1/216)
وَأَطْعَمَ مِنْ شِوَاءٍ مِائَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا كُلًّا مِنْهُمْ حَزَّ لَهُ قِطْعَةً وَجَعَلَ مِنْهَا قِطْعَتَيْنِ فَأَكَلُوا مِنْهَا جَمِيعُهُمْ ثُمَّ فَضَلَ فَضْلَةٌ(1)،وَدَيْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي جَابِرٍ لِلْيَهُودِيِّ وَهُوَ ثَلَاثُونَ وَسْقًا .
__________
(1) - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنهما - قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاَثِينَ وَمِائَةً فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ » . فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ أَوْ نَحْوُهُ ، فَعُجِنَ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً - أَوْ قَالَ - أَمْ هِبَةً » . قَالَ لاَ ، بَلْ بَيْعٌ . فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً ، فَصُنِعَتْ وَأَمَرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسَوَادِ الْبَطْنِ أَنْ يُشْوَى ، وَايْمُ اللَّهِ مَا فِى الثَّلاَثِينَ وَالْمِائَةِ إِلاَّ قَدْ حَزَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا ، إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَأَ لَهُ ، فَجَعَلَ مِنْهَا قَصْعَتَيْنِ ، فَأَكَلُوا أَجْمَعُونَ ، وَشَبِعْنَا ، فَفَضَلَتِ الْقَصْعَتَانِ ، فَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْبَعِيرِ . أَوْ كَمَا قَالَ . صحيح البخارى (2618 ) ومسلم (5485 ) المشعان : منتقش الشعر ثائر الرأس(1/217)
قَالَ جَابِرٌ : فَأَمَرَ صَاحِبَ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ التَّمْرَ جَمِيعَهُ بِاَلَّذِي كَانَ لَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ فَمَشَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لِجَابِرِ جُدْ لَهُ فَوَفَّاهُ الثَّلَاثِينَ وَسْقًا وَفَضَلَ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسْقًا(1)، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ قَدْ جُمِعَتْ نَحْوَ أَلْفِ مُعْجِزَةٍ(2).
__________
(1) - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّىَ ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ ثَلاَثِينَ وَسْقًا لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ ، فَاسْتَنْظَرَهُ جَابِرٌ ، فَأَبَى أَنْ يُنْظِرَهُ ، فَكَلَّمَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيَشْفَعَ لَهُ إِلَيْهِ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَلَّمَ الْيَهُودِىَّ لِيَأْخُذَ ثَمَرَ نَخْلِهِ بِالَّذِى لَهُ فَأَبَى ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّخْلَ ، فَمَشَى فِيهَا ثُمَّ قَالَ لِجَابِرٍ « جُدَّ لَهُ فَأَوْفِ لَهُ الَّذِى لَهُ » . فَجَدَّهُ بَعْدَ مَا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَوْفَاهُ ثَلاَثِينَ وَسْقًا ، وَفَضَلَتْ لَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسْقًا ، فَجَاءَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيُخْبِرَهُ بِالَّذِى كَانَ ، فَوَجَدَهُ يُصَلِّى الْعَصْرَ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُ بِالْفَضْلِ ، فَقَالَ « أَخْبِرْ ذَلِكَ ابْنَ الْخَطَّابِ » . فَذَهَبَ جَابِرٌ إِلَى عُمَرَ ، فَأَخْبَرَهُ . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَقَدْ عَلِمْتُ حِينَ مَشَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيُبَارَكَنَّ فِيهَا .صحيح البخارى (2396 )
(2) - ذكرها البيهقي في دلائل النبوة والسيوطي في الخصائص الكبرى ، وفيها الصحيح والحسن والضعيف والواهي(1/218)
وَكَرَامَاتُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ وَسَائِرِ الصَّالِحِينَ كَثِيرَةٌ جِدًّا : مِثْلُ مَا كَانَ " أسيد بْنُ حضير " يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ فَنَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ نَزَلَتْ لِقِرَاءَتِهِ،(1)
__________
(1) - عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ قَالَ بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطٌ عِنْدَهُ إِذْ جَالَتِ الْفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ فَقَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ ، فَسَكَتَ وَسَكَتَتِ الْفَرَسُ ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ ، فَانْصَرَفَ وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ فَلَمَّا اجْتَرَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى مَا يَرَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ » . قَالَ فَأَشْفَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا فَرَفَعْتُ رَأْسِى فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ فَرَفَعْتُ رَأْسِى إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ فَخَرَجَتْ حَتَّى لاَ أَرَاهَا . قَالَ « وَتَدْرِى مَا ذَاكَ » . قَالَ لاَ . قَالَ « تِلْكَ الْمَلاَئِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ وَلَوْ قَرَأْتَ لأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا لاَ تَتَوَارَى مِنْهُمْ » ..البخارى (5018 ) معلقاً ووصله السنن الإمام النسائي في الكبرىالرسالة (8020)ومسند أبي عوانة (3156) وهو صحيح(1/219)
وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تُسَلِّمُ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ(1)؛ وَكَانَ سَلْمَانُ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ يَأْكُلَانِ فِي صَحْفَةٍ فَسَبَّحَتْ الصَّحْفَةُ أَوْ سَبَّحَ مَا فِيهَا(2)،
__________
(1) - عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ قَالَ لِى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَكَ بِهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ثُمَّ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ وَقَدْ كَانَ يُسَلَّمُ عَلَىَّ حَتَّى اكْتَوَيْتُ فَتُرِكْتُ ثُمَّ تَرَكْتُ الْكَىَّ فَعَادَ. " صحيح مسلم(3033 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 4 / ص 326)
وَمَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ عِمْرَان بْن الْحُصَيْن رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَتْ بِهِ بَوَاسِير فَكَانَ يَصْبِر عَلَى الْمُهِمَّات وَكَانَتْ الْمَلَائِكَة تُسَلِّم عَلَيْهِ ، فَاكْتَوَى فَانْقَطَعَ سَلَامهمْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ تَرَكَ الْكَيّ فَعَادَ سَلَامهمْ عَلَيْهِ .
(2) - عن قيس ، قال : كان أبو الدرداء إذا كتب إلى سلمان أو سلمان إلى أبي الدرداء كتب إليه بآية الصحيفة، قال : كنا نتحدث أنهما بينما هما يأكلان من صحفة إذا سبحت وما فيها ، أو بما فيها ، فانظر هذه الكرامة " دلائل النبوة للبيهقي (2313) وفيه ضعف
الصحيفة : ما يكتب فيه من ورق ونحوه(1/220)
وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ وأسيد بْنُ حضير خَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَأَضَاءَ لَهُمَا نُورٌ مِثْلُ طَرَفِ السَّوْطِ فَلَمَّا افْتَرَقَا افْتَرَقَ الضَّوْءُ مَعَهُمَا . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ(1).
__________
(1) - عَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ ، وَمَعَهُمَا مِثْلُ الْمِصْبَاحَيْنِ يُضِيآنِ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا ، فَلَمَّا افْتَرَقَا صَارَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاحِدٌ حَتَّى أَتَى أَهْلَهُ .صحيح البخارى(465 )
وفي رواية ( 3805 ) عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - أَنَّ رَجُلَيْنِ خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ ، وَإِذَا نُورٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا حَتَّى تَفَرَّقَا ، فَتَفَرَّقَ النُّورُ مَعَهُمَا . وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ وَرَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ . قَالَ حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ كَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -(1/221)
وَقِصَّةُ { الصِّدِّيقِ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَمَّا ذَهَبَ بِثَلَاثَةِ أَضْيَافٍ مَعَهُ إلَى بَيْتِهِ وَجَعَلَ لَا يَأْكُلُ لُقْمَةً إلَّا رَبَّى مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا فَشَبِعُوا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا هِيَ قَبْلَ ذَلِكَ فَنَظَرَ إلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ وَامْرَأَتُهُ فَإِذَا هِيَ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَتْ فَرَفَعَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ إلَيْهِ أَقْوَامٌ كَثِيرُونَ فَأَكَلُوا مِنْهَا وَشَبِعُوا}(1).
__________
(1) - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ ، وَأَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ ، وَإِنْ أَرْبَعٌ فَخَامِسٌ أَوْ سَادِسٌ » . وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلاَثَةٍ فَانْطَلَقَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَشَرَةٍ ، قَالَ فَهْوَ أَنَا وَأَبِى وَأُمِّى ، فَلاَ أَدْرِى قَالَ وَامْرَأَتِى وَخَادِمٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَيْتِ أَبِى بَكْرٍ . وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ لَبِثَ حَيْثُ صُلِّيَتِ الْعِشَاءُ ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ وَمَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ - أَوْ قَالَتْ ضَيْفِكَ - قَالَ أَوَمَا عَشَّيْتِيهِمْ قَالَتْ أَبَوْا حَتَّى تَجِىءَ ، قَدْ عُرِضُوا فَأَبَوْا . قَالَ فَذَهَبْتُ أَنَا فَاخْتَبَأْتُ فَقَالَ يَا غُنْثَرُ ، فَجَدَّعَ وَسَبَّ ، وَقَالَ كُلُوا لاَ هَنِيئًا . فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَطْعَمُهُ أَبَدًا ، وَايْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إِلاَّ رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا ..قَالَ يَعْنِى حَتَّى شَبِعُوا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هِىَ كَمَا هِىَ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهَا . فَقَالَ لاِمْرَأَتِهِ يَا أُخْتَ بَنِى فِرَاسٍ مَا هَذَا قَالَتْ لاَ وَقُرَّةِ عَيْنِى لَهِىَ الآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلاَثِ مَرَّاتٍ . فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ - يَعْنِى يَمِينَهُ - ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً ، ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ ، وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ ، فَمَضَى الأَجَلُ ، فَفَرَّقَنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً ، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ ، اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ ، أَوْ كَمَا قَالَ . صحيح البخارى (602 ) ومسلم (5486 )
جَدع : دعا بقطع الأنف =الغنثر : الثقيل الوخم(1/222)
وَ " خبيب بْنُ عَدِيٍّ " كَانَ أَسِيرًا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ يُؤْتَى بِعِنَبِ يَأْكُلُهُ وَلَيْسَ بِمَكَّةَ عِنَبَةٌ(1).
__________
(1) - عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عَمْرُو بْنُ أَبِى سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِىُّ - وَهْوَ حَلِيفٌ لِبَنِى زُهْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِى هُرَيْرَةَ - أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِىَّ جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ وَهْوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ ذُكِرُوا لِحَىٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لِحْيَانَ ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَىْ رَجُلٍ ، كُلُّهُمْ رَامٍ ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ . فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ ، وَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ فَقَالُوا لَهُمُ انْزِلُوا وَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ ، وَلاَ نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا . قَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لاَ أَنْزِلُ الْيَوْمَ فِى ذِمَّةِ كَافِرٍ ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ ..فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِى سَبْعَةٍ ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأَنْصَارِىُّ وَابْنُ دَثِنَةَ وَرَجُلٌ آخَرُ ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَأَوْثَقُوهُمْ فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ ، وَاللَّهِ لاَ أَصْحَبُكُمْ ، إِنَّ فِى هَؤُلاَءِ لأُسْوَةً . يُرِيدُ الْقَتْلَى ، فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَأَبَى فَقَتَلُوهُ ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ ، فَابْتَاعَ خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا ، فَأَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ أَنَّ بِنْتَ الْحَارِثِ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ ، فَأَخَذَ ابْنًا لِى وَأَنَا غَافِلَةٌ حِينَ أَتَاهُ قَالَتْ فَوَجَدْتُهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالْمُوسَى بِيَدِهِ ، فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فِى وَجْهِى فَقَالَ تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ .
وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِى يَدِهِ ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِى الْحَدِيدِ ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ وَكَانَتْ تَقُولُ إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنَ اللَّهِ رَزَقَهُ خُبَيْبًا ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِى الْحِلِّ ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ ذَرُونِى أَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ . فَتَرَكُوهُ ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَوْلاَ أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ مَا بِى جَزَعٌ لَطَوَّلْتُهَا اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا . وَلَسْتُ أُبَالِى حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا عَلَى أَىِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِى وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحَارِثِ ، فَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لِكُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِعَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ يَوْمَ أُصِيبَ ، فَأَخْبَرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ وَمَا أُصِيبُوا ، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَىْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَبُعِثَ عَلَى عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ ، فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا . صحيح البخارى(3045)(1/223)
وَ " عَامِرُ بْنُ فهيرة : قُتِلَ شَهِيدًا فَالْتَمَسُوا جَسَدَهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَكَانَ لَمَّا قُتِلَ رُفِعَ فَرَآهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَقَدْ رُفِعَ ،وَقَالَ : عُرْوَةُ : فَيَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ رَفَعَتْهُ(1).
__________
(1) - عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتِ اسْتَأْذَنَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَبُو بَكْرٍ فِى الْخُرُوجِ حِينَ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الأَذَى ، فَقَالَ لَهُ « أَقِمْ » . فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَطْمَعُ أَنْ يُؤْذَنَ لَكَ ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنِّى لأَرْجُو ذَلِكَ » قَالَتْ فَانْتَظَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ ظُهْرًا فَنَادَاهُ فَقَالَ « أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ » . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَاىَ . فَقَالَ « أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِى فِى الْخُرُوجِ » . فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الصُّحْبَةُ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « الصُّحْبَةُ » .
قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِى نَاقَتَانِ قَدْ كُنْتُ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ . فَأَعْطَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - إِحْدَاهُمَا وَهْىَ الْجَدْعَاءُ ، فَرَكِبَا فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا الْغَارَ ، وَهْوَ بِثَوْرٍ ، فَتَوَارَيَا فِيهِ ، فَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ غُلاَمًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الطُّفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ أَخُو عَائِشَةَ لأُمِّهَا ، وَكَانَتْ لأَبِى بَكْرٍ مِنْحَةٌ ، فَكَانَ يَرُوحُ بِهَا وَيَغْدُو عَلَيْهِمْ ، وَيُصْبِحُ فَيَدَّلِجُ إِلَيْهِمَا ثُمَّ يَسْرَحُ ، فَلاَ يَفْطُنُ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الرِّعَاءِ ، فَلَمَّا خَرَجَ خَرَجَ مَعَهُمَا يُعْقِبَانِهِ حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ ، فَقُتِلَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ . وَعَنْ أَبِى أُسَامَةَ قَالَ قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ فَأَخْبَرَنِى أَبِى قَالَ لَمَّا قُتِلَ الَّذِينَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ وَأُسِرَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِىُّ قَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ مَنْ هَذَا فَأَشَارَ إِلَى قَتِيلٍ ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ هَذَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ . فَقَالَ لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَ مَا قُتِلَ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى إِنِّى لأَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَرْضِ ، ثُمَّ وُضِعَ . فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرُهُمْ فَنَعَاهُمْ فَقَالَ « إِنَّ أَصْحَابَكُمْ قَدْ أُصِيبُوا ، وَإِنَّهُمْ قَدْ سَأَلُوا رَبَّهُمْ ، فَقَالُوا رَبَّنَا أَخْبِرْ عَنَّا إِخْوَانَنَا بِمَا رَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا . فَأَخْبَرَهُمْ عَنْهُمْ » . وَأُصِيبَ يَوْمَئِذٍ فِيهِمْ عُرْوَةُ بْنُ أَسْمَاءَ بْنِ الصَّلْتِ ، فَسُمِّىَ عُرْوَةُ بِهِ ، وَمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو سُمِّىَ بِهِ مُنْذِرًا . صحيح البخارى(4093 )(1/224)
وَخَرَجَتْ " أُمُّ أَيْمَنَ " مُهَاجِرَةً وَلَيْسَ مَعَهَا زَادٌ وَلَا مَاءٌ فَكَادَتْ تَمُوتُ مِنْ الْعَطَشِ فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْفِطْرِ وَكَانَتْ صَائِمَةً سَمِعَتْ حِسًّا عَلَى رَأْسِهَا فَرَفَعَتْهُ فَإِذَا دَلْوٌ مُعَلَّقٌ فَشَرِبَتْ مِنْهُ حَتَّى رُوِيَتْ وَمَا عَطِشَتْ بَقِيَّةَ عُمْرِهَا(1).
__________
(1) - عَنِ ابْن سيرين قال خرجت أم أيمن مهاجرة إلى الله وإلى رسوله صلي الله عليه وسلم وهي صائمة ليس معها زاد ولا حمولة ولا سقاء في شدة حر تهامة وقد كادت تموت من الجوع والعطش حتي إذا كان الحين الذي فيه يفطر الصائم سمعت حفيفا علي رأسها فرفعت رأسها فإذا دلو معلق برشاء أبيض قالت فأخذته بيدي فشربت منه حتى رويت فما عطشت بعد قال فكانت تصوم وتطوف لكي تعطش في صومها فما قدرت على أن تعطش حتى ماتت" مصنف عبد الرزاق( 7901) وبنحوه من طريق آخر اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة - (ج 3 / ص 17)([2180]) وهو حسن لغيره(1/225)
وَ " سَفِينَةُ " مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ الْأَسَدَ بِأَنَّهُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَشَى مَعَهُ الْأَسَدُ حَتَّى أَوْصَلَهُ مَقْصِدَهُ(1).
__________
(1) - عَنْ مُحَمَّدِ بن الْمُنْكَدِرِ، أَنَّ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:"رَكِبْتُ الْبَحْرَ، فَانْكَسَرَتْ سَفِينَتِي الَّتِي كُنْتُ فِيهَا، فَرَكِبْتُ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِهَا، فَطَرَحَنِي اللَّوْحُ فِي أَجَمَةٍ فِيهَا الأَسَدُ، فَأَقْبَلَ يُرِيدُنِي، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْحَارِثِ، أَنَا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ، وَأَقْبَلَ إِلَيَّ، فَدَفَعَنِي بِمَنْكِبِهِ حَتَّى أَخْرَجَنِي مِنَ الأَجَمَةِ، وَوَضَعَنِي عَلَى الطَّرِيقِ، وَهَمْهَمَ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوَدِّعُنِي، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ عَهْدِي بِهِ".المعجم الكبير للطبراني (6319 ) والمستدرك للحاكم(6550) وصححه ووافقه الذهبي وهو كما قالا(1/226)
وَ " الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ " كَانَ إذَا أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَبَرَّ قَسَمَهُ وَكَانَ الْحَرْبُ إذَا اشْتَدَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْجِهَادِ يَقُولُونَ : يَا بَرَاءُ أَقْسِمْ عَلَى رَبِّك فَيَقُولُ : يَا رَبِّ أَقْسَمْت عَلَيْك لَمَا مَنَحْتنَا أَكْتَافَهُمْ فَيُهْزَمُ الْعَدُوُّ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ " الْقَادِسِيَّةِ " قَالَ : أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَبِّ لَمَا مَنَحْتنَا أَكْتَافَهُمْ وَجَعَلْتنِي أَوَّلَ شَهِيدٍ فَمُنِحُوا أَكْتَافَهُمْ وَقُتِلَ الْبَرَاءُ شَهِيدًا(1).
__________
(1) - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : كَمْ مِنْ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ ذِي طِمْرَيْنِ ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّ قَسَمَهُ مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ ، فَإِنَّ الْبَرَاءَ لَقِيَ زَحْفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَقَدْ أَوْجَعَ الْمُشْرِكُونَ فِي الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالُوا : يَا بَرَاءُ ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : إِنَّكَ لَوْ أَقْسَمْتَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّكَ ، فَأَقْسِمْ عَلَى رَبِّكَ ، فَقَالَ : أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا رَبِّ لِمَا مَنَحْتَنَا أَكْتَافَهُمْ ، ثُمَّ الْتَقَوْا عَلَى قَنْطَرَةِ السُّوسِ ، فَأَوْجَعُوا فِي الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالُوا لَهُ : يَا بَرَاءُ ، أَقْسِمْ عَلَى رَبِّكَ ، فَقَالَ : أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا رَبِّ لِمَا مَنَحْتَنَا أَكْتَافَهُمْ ، وَأَلْحَقْتَنِي بِنَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم ، فَمُنِحُوا أَكْتَافَهُمْ ، وَقُتِلَ الْبَرَاءُ شَهِيدًا" المستدرك للحاكم (5274) وهو صحيح(1/227)
وَ " خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ " حَاصَرَ حِصْنًا مَنِيعًا فَقَالُوا لَا نُسْلِمُ حَتَّى تَشْرَبَ السُّمَّ فَشَرِبَهُ فَلَمْ يَضُرَّهُ .(1)
__________
(1) - عَنْ أَبِي السَّفَرِ ، قَالَ : لَمَّا قَدِمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى الْحِيرَةِ نَزَلَ عَلَى بَنِي الْمَرَازِبَةِ ، قَالَ : فَأُتِيَ بِالسُّمِّ فَأَخَذَهُ فَجَعَلَهُ فِي رَاحَتِهِ ، وَقَالَ : بِسْمِ اللهِ , فَاقْتَحَمَهُ , فَلَمْ يَضُرَّهُ بِإِذْنِ اللهِ شَيْئًا" مصنف ابن أبي شيبة(33724) و تاريخ دمشق - (ج 37 / ص 365) والإصابة في تمييز الصحابة [ جزء 2 - صفحة 254 ] ومعرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني(2172 ) وهو حسن لغيره
وكتب لأهل الحيرة كتاب أمان، فكان الذي راوده عليه عمرو بن عبد المسيح ابن نقيلة، ووجد خالد معه كيساً فقال: ما في هذا؟ وفتحه خالد فوجد فيه شيئاً. فقال ابن بقيلة: هو سمُّ السَّاعة. فقال: ولم استصحبته معك ؟
فقال: حتى إذا رأيت مكروهاً في قومي أكلته، فالموت أحبُّ إليَّ من ذلك، فأخذه خالد في يده وقال: إنَّه لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها، ثمَّ قال: بسم الله خير الأسماء، رب الأرض والسَّماء الذي ليس يضر مع اسمه داء، الرَّحمن الرَّحيم.قال: وأهوى إليه الأمراء ليمنعوه منه فبادرهم فابتلعه، فلمَّا رأى ذلك ابن بقيلة قال: والله يا معشر العرب لتملكنَّ ما أردتم ما دام منكم أحد، ثمَّ التفت إلى أهل الحيرة فقال: لم أر كاليوم أوضح إقبالاً من هذا.تاريخ الرسل والملوك - (ج 2 / ص 191) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 7 / ص 474)(1/228)
وَ " سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ " كَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ مَا دَعَا قَطُّ إلَّا اُسْتُجِيبَ لَهُ وَهُوَ الَّذِي هَزَمَ جُنُودَ كِسْرَى وَفَتَحَ الْعِرَاقَ .(1)
وَ " عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ " لَمَّا أَرْسَلَ جَيْشًا أَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُسَمَّى " سَارِيَةَ " فَبَيْنَمَا عُمَرُ يَخْطُبُ فَجَعَلَ يَصِيحُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ يَا سَارِيَةَ الْجَبَلَ فَقَدِمَ رَسُولُ الْجَيْشِ فَسَأَلَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقِينَا عَدُوًّا فَهَزَمُونَا فَإِذَا بِصَائِحِ : يَا سَارِيَةَ الْجَبَلَ يَا سَارِيَةَ الْجَبَلَ فَأَسْنَدْنَا ظُهُورَنَا بِالْجَبَلِ فَهَزَمَهُمْ اللَّهُ .(2)
__________
(1) - انظر المعجم الأوسط للطبراني (6683 ) و تاريخ دمشق - (ج 20 / ص 287) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 9 / ص 432) والإصابة في تمييز الصحابة [ جزء 3 - صفحة 74 ]
(2) - أخرجه ابن عساكر (20/25) وأخرجه ابن عساكر (20/24) والإستيعاب في معرفة الأصحاب - (ج 2 / ص 10) والإصابة في معرفة الصحابة - (ج 1 / ص 410) وتاريخ دمشق - (ج 2 / ص 366) وتاريخ دمشق - (ج 20 / ص 20) وتاريخ دمشق - (ج 20 / ص 23- 27) وتاريخ دمشق - (ج 44 / ص 96) وتاريخ الرسل والملوك - (ج 2 / ص 397) وتاريخ الرسل والملوك - (ج 2 / ص 398) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 7 / ص 29) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 8 / ص 178) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 8 / ص 179) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 8 / ص 180)وتاريخ الإسلام للذهبي - (ج 1 / ص 111) وتاريخ الإسلام للذهبي - (ج 1 / ص 407) قلت : فالحديث صحيح(1/229)
وَلَمَّا عُذِّبَتِ " الزَّنيرَةُ " عَلَى الْإِسْلَامِ فِي اللَّهِ فَأَبَتْ إلَّا الْإِسْلَامَ وَذَهَبَ بَصَرُهَا قَالَ الْمُشْرِكُونَ أَصَابَ بَصَرَهَا اللَّاتَ وَالْعُزَّى قَالَتْ كَلَّا وَاَللَّهِ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَا .(1)
__________
(1) - قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يَمُرّ بِهِ وَهُوَ يُعَذّبُ بِذَلِكَ وَهُوَ يَقُول : أَحَدٌ أَحَدٌ ؛ فَيَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ وَاَللّهِ يَا بِلَالُ ثُمّ يُقْبِلُ عَلَى أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ ، وَمَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِهِ مِنْ بَنِي جُمَحٍ فَيَقُولُ أَحْلِفُ بِاَللّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذَا لَأَتّخِذَنّهُ حَنَانًا ، حَتّى مَرّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ ( ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ) رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَوْمًا ، وَهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ بِهِ وَكَانَتْ دَارُ أَبِي بَكْرٍ فِي بَنِي جُمَحٍ فَقَالَ لِأُمَيّةِ بْنِ خَلَفٍ أَلَا تَتّقِي اللّهَ فِي هَذَا الْمِسْكِينِ ؟ حَتّى مَتَى ؟ قَالَ أَنْت الّذِي أَفْسَدْته فَأَنْقِذْهُ مِمّا تَرَى ؛ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ . أَفْعَلُ عِنْدِي غُلَامٌ أَسْوَدُ أَجْلَدُ مِنْهُ وَأَقْوَى ، عَلَى دِينِك ، أُعْطِيكَهُ بِهِ قَالَ قَدْ قَبِلْتُ فَقَالَ هُوَ لَك . فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ غُلَامَهُ ذَلِكَ وَأَخَذَهُ فَأَعْتَقَهُ ..ثُمّ أَعْتَقَ مَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إلَى الْمَدِينَةِ سِتّ رِقَابٍ بِلَالٌ سَابِعُهُمْ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا ، وَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا ؛ وَأُمّ عُبَيْسٍ وَزِنّيرَةُ ، وَأُصِيبَ بَصَرُهَا حِينَ أَعْتَقَهَا ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : مَا أَذْهَبَ بَصَرَهَا إلّا اللّاتُ وَالْعُزّى ؛ فَقَالَتْ كَذَبُوا وَبَيْتِ اللّهِ مَا تَضُرّ اللّاتُ وَالْعُزّى وَمَا تَنْفَعَانِ فَرَدّ اللّهُ بَصَرَهَا . وَأَعْتَقَ النّهْدِيّةَ وَبِنْتَهَا ، وَكَانَتَا لِامْرَأَةِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ فَمَرّ بِهِمَا وَقَدْ بَعَثَتْهُمَا أَبَدًا ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حِلّ يَا أُمّ فُلَانٍ فَقَالَتْ حِلّ أَنْت أَفْسَدْتَهُمَا فَأَعْتِقْهُمَا ، قَالَ فَبِكَمْ هُمَا ؟ قَالَتْ بِكَذَا وَكَذَا ، قَالَ قَدْ أَخَذْتُهُمَا وَهُمَا حُرّتَانِ أَرْجِعَا إلَيْهَا طَحِينَهَا ، قَالَتَا : أَوَنَفْرُغُ مِنْهُ يَا أَبَا بَكْرٍ ثُمّ نَرُدّهُ إلَيْهَا ؟ قَالَ وَذَلِكَ إنْ شِئْتُمَا . وَمَرّ بِجَارِيَةِ بَنِي مُؤَمّلٍ حَيّ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ ، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يُعَذّبُهَا لِتَتْرُكَ الْإِسْلَامَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ وَهُوَ يَضْرِبُهَا ، حَتّى إذَا مَلّ قَالَ إنّي أَعْتَذِرُ إلَيْك ، إنّي لَمْ أَتْرُكْ إلّا مَلَالَةً فَتَقُولُ كَذَلِكَ فَعَلَ اللّهُ بِك . فَابْتَاعَهَا أَبُو بَكْرٍ ، فَأَعْتَقَهَا .
سيرة ابن هشام - (ج 1 / ص 317) ودلائل النبوة للبيهقي (588 ) ومعرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني (7024 ) وتاريخ الإسلام للذهبي - (ج 1 / ص 57) والإصابة في معرفة الصحابة - (ج 3 / ص 493)من طرق وهو صحيح لغيره(1/230)
وَدَعَا " سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ " عَلَى أَرْوَى بِنْتِ الْحَكَمِ فَأُعْمِيَ بَصَرُهَا لَمَّا كَذَبْت عَلَيْهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا فَعَمِيَتْ وَوَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ مِنْ أَرْضِهَا فَمَاتَتْ .(1)
__________
(1) - عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّ أَرْوَى خَاصَمَتْهُ فِى بَعْضِ دَارِهِ فَقَالَ دَعُوهَا وَإِيَّاهَا فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ طُوِّقَهُ فِى سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا وَاجْعَلْ قَبْرَهَا فِى دَارِهَا. قَالَ فَرَأَيْتُهَا عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الْجُدُرَ تَقُولُ أَصَابَتْنِى دَعْوَةُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ. فَبَيْنَمَا هِىَ تَمْشِى فِى الدَّارِ مَرَّتْ عَلَى بِئْرٍ فِى الدَّارِ فَوَقَعَتْ فِيهَا فَكَانَتْ قَبْرَهَا.صحيح مسلم (4218 )(1/231)
" وَالْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ " كَانَ عَامِلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : يَا عَلِيمُ يَا حَلِيمُ يَا عَلِيُّ يَا عَظِيمُ فَيُسْتَجَابُ لَهُ وَدَعَا اللَّهَ بِأَنْ يُسْقُوا وَيَتَوَضَّئُوا لَمَّا عَدِمُوا الْمَاءَ وَالْإِسْقَاءَ لِمَا بَعْدَهُمْ فَأُجِيبَ وَدَعَا اللَّهَ لَمَّا اعْتَرَضَهُمْ الْبَحْرُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْمُرُورِ بِخُيُولِهِمْ فَمَرُّوا كُلُّهُمْ عَلَى الْمَاءِ مَا ابْتَلَّتْ سُرُوجُ خُيُولِهِمْ ؛ وَدَعَا اللَّهَ أَنْ لَا يَرَوْا جَسَدَهُ إذَا مَاتَ فَلَمْ يَجِدُوهُ فِي اللَّحْدِ .(1)
وَجَرَى مِثْلُ ذَلِكَ " لِأَبِي مُسْلِمٍ الخولاني " الَّذِي أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَإِنَّهُ مَشَى هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْعَسْكَرِ عَلَى دِجْلَةَ وَهِيَ تُرْمَى بِالْخَشَبِ مِنْ مَدِّهَا ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ : تَفْقِدُونَ مِنْ مَتَاعِكُمْ شَيْئًا حَتَّى أَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : فَقَدْت مِخْلَاةً فَقَالَ: اتْبَعْنِي فَتَبِعَهُ فَوَجَدَهَا قَدْ تَعَلَّقَتْ بِشَيْءِ فَأَخَذَهَا.(2)
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة(29797) ودلائل النبوة للبيهقي (2302 ) ومجابو الدعوة (25 ) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 7 / ص 141) وفي سنده ضعف
(2) - دلائل النبوة للبيهقي (2304 ) وسبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد - (ج 10 / ص 244) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 7 / ص 142) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 7 / ص 320) وهو صحيح(1/232)
وَطَلَبَهُ الْأَسْوَدُ العنسي لَمَّا ادَّعَى النُّبُوَّةَ فَقَالَ لَهُ : أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ . قَالَ مَا أَسْمَعُ قَالَ أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ نَعَمْ فَأَمَرَ بِنَارِ فَأُلْقِيَ فِيهَا فَوَجَدُوهُ قَائِمًا يُصَلِّي فِيهَا وَقَدْ صَارَتْ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا(1)؛
__________
(1) - عن اسماعيل بن عيَّاش الحطيميّ، حدَّثني شراحيل ابن مسلم الخولانيّ، أنَّ الأسود بن قيس بن ذي الحمار العنسيّ تنبَّأ باليمن، فأرسل إلى أبي مسلم الخولانيّ فأتي به.فلمَّا جاء به قال: أتشهد أني رسول الله ؟
قال: ما أسمع.قال: أتشهد أنَّ محمَّداً رسول الله ؟
قال: نعم.قال: أتشهد أني رسول الله ؟
قال: ما أسمع.قال: أتشهد أنَّ محمَّداً رسول الله ؟
قال: نعم.قال: فردَّد عليه ذلك مراراً، ثمَّ أمر بنار عظيمة فأجِّجت فألقي فيها فلم تضرَّه.فقيل للأسود: إنفه عنك وإلا أفسد عليك من اتَّبعك، فأمره فارتحل فأتى المدينة وقد قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واستخلف أبو بكر، فأناخ أبو مسلم راحلته بباب المسجد، ثمَّ دخل المسجد وقام يصلِّي إلى سارية فبصر به عمر بن الخطَّاب فأتاه فقال: ممن الرَّجل ؟
فقال: من أهل اليمن.قال: ما فعل الرَّجل الذي حرقة الكذَّاب بالنَّار ؟
قال: ذاك عبد الله بن أيُّوب.قال: فأنشدك بالله أنت هو ؟
قال: اللَّهم نعم."سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد - (ج 10 / ص 266) وتاريخ دمشق - (ج 27 / ص 201) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج/ص:6/299) وهو حديث قوي(1/233)
وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَسَهُ عُمَرُ بَيْنَهُ وَبَيْن أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَرَى مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ(1). وَوَضَعَتْ لَهُ جَارِيَةٌ السُّمَّ فِي طَعَامِهِ فَلَمْ يَضُرَّهُ . وَخَبَّبَتِ امْرَأَةٌ عَلَيْهِ زَوْجَتَهُ فَدَعَا عَلَيْهَا فَعَمِيَتْ وَجَاءَتْ وَتَابَتْ فَدَعَا لَهَا فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَا .(2)
__________
(1) - أخرجه ابن عساكر (27/200) والاستيعاب في معرفة الأصحاب - (ج 2 / ص 66) وتاريخ دمشق - (ج 27 / ص 200) وتاريخ دمشق - (ج 27 / ص 201) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 7 / ص 332-333) وتاريخ الإسلام للذهبي - (ج 2 / ص 126) وهو حديث فيه انقطاع
(2) - سير أعلام النبلاء (4/11) وهو حديث حسن(1/234)
وَكَانَ " عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ " يَأْخُذُ عَطَاءَهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فِي كُمِّهِ وَمَا يَلْقَاهُ سَائِلٌ فِي طَرِيقِهِ إلَّا أَعْطَاهُ بِغَيْرِ عَدَدٍ ثُمَّ يَجِيءُ إلَى بَيْتِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ عَدَدُهَا وَلَا وَزْنُهَا(1). وَمَرَّ بِقَافِلَةٍ قَدْ حَبَسَهُمْ الْأَسَدُ فَجَاءَ حَتَّى مَسَّ بِثِيَابِهِ الْأَسَدَ ثُمَّ وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِهِ وَقَالَ : إنَّمَا أَنْتَ كَلْبٌ مِنْ كِلَابِ الرَّحْمَنِ وَإِنِّي أَسْتَحِي أَنْ أَخَافَ شَيْئًا غَيْرَهُ، وَمَرَّتْ الْقَافِلَةُ(2)،وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُهَوِّنَ عَلَيْهِ الطَّهُورَ فِي الشِّتَاءِ فَكَانَ يُؤْتَى بِالْمَاءِ لَهُ بُخَارٌ وَدَعَا رَبَّهُ أَنْ يَمْنَعَ قَلْبَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ(3).
__________
(1) - مصنف عبد الرزاق مشكل (20543) و والزهد لأحمد بن حنبل (1255) والزهد والرقائق لابن المبارك (849 ) والإصابة في معرفة الصحابة - (ج 2 / ص 356) وتاريخ دمشق - (ج 26 / ص 29) وتاريخ دمشق - (ج 26 / ص 30) و سير أعلام النبلاء (4/19) وفيها جهالة
(2) - عن مالك بن دينار ، قال : مر عامر بن عبد الله القيسي فإذا قافلة قد احتبست ، فقال لهم : « ما لكم ؟ » قالوا : الأسد حال بيننا وبين الطريق قال : « إنما ذا كلب من كلاب الله فمر به حتى أصاب ثوبه فم الأسد » تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي (732 ) وحلية الأولياء - (ج 1 / ص 244) والإصابة في تمييز الصحابة [ جزء 5 - صفحة 77 ] حسن
حال : حجز وفرق ومنع
(3) - عن قتادة قال : كان عامر بن عبد قيس « سأل ربه تعالى أن يهون عليه الطهور في الشتاء ، فكان يؤتى بالماء وله بخار » ، قال : « وسأل ربه عز وجل أن ينزع شهوة النساء من قلبه ، فكان لا يبالي أذكرا لقي أم أنثى ، وسأل ربه عز وجل أن يمنع قلبه من الشيطان ، وهو في الصلاة فلم يقدر عليه »
الزهد والرقائق لابن المبارك (848 ) وشعب الإيمان للبيهقي (976 ) و حلية الأولياء - (ج 1 / ص 244) وصفة الصفوة - (ج 1 / ص 351) والإصابة في معرفة الصحابة - (ج 2 / ص 356) والطبقات الكبرى لابن سعد - (ج 7 / ص 106) وتاريخ دمشق - (ج 26 / ص 22) صحيح لغيره(1/235)
وَتَغَيَّبَ " الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ " عَنْ الْحَجَّاجِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ سِتَّ مَرَّاتٍ فَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَلَمْ يَرَوْهُ(1)وَدَعَا عَلَى بَعْضِ الْخَوَارِجِ كَانَ يُؤْذِيه فَخَرَّ مَيِّتًا .
وَ " صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ " مَاتَ فَرَسُهُ وَهُوَ فِي الْغَزْوِ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ لِمَخْلُوقِ عَلَيَّ مِنَّةً وَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَحْيَا لَهُ فَرَسَهُ . فَلَمَّا وَصَلَ إلَى بَيْتِهِ قَالَ يَا بُنَيَّ خُذْ سَرْجَ الْفَرَسِ فَإِنَّهُ عَارِيَةٌ فَأَخَذَ سَرْجَهُ فَمَاتَ الْفَرَسُ(2)، وَجَاعَ مَرَّةً بِالْأَهْوَازِ فَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتَطْعَمَهُ فَوَقَعَتْ خَلْفَهُ دَوْخَلَةِ رُطَبٍ فِي ثَوْبِ حَرِيرٍ فَأَكَلَ التَّمْرَ وَبَقِيَ الثَّوْبُ عِنْدَ زَوْجَتِهِ زَمَانًا . وَجَاءَ الْأَسَدُ وَهُوَ يُصَلِّي فِي غَيْضَةٍ بِاللَّيْلِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ لَهُ اُطْلُبْ الرِّزْقَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَوَلَّى الْأَسَدُ وَلَهُ زَئِيرٌ .
__________
(1) - ورد نحوه في قوت القلوب - (ج 1 / ص 99) وسنده واه
(2) - لم أجده ولكني وجدت نحوه عن حماد بن جعفر بن زيد العبدي ، عن أبيه قال : خرجنا غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم ، فلما دنونا من أرض العدو ، قال الأمير : لا يشذن من العسكر أحد فذهبت بغلة صلة بثقلها ، فأخذ يصلي فقيل : إن الناس قد ذهبوا فقال : إنما هما خفيفتان قال : فدعا ثم قال : اللهم إني أقسم عليك أن ترد علي بغلتي وثقلها قال : فجاءت حتى وقفت بين يديه مجابو الدعوة (41 )(1/236)
(1)
__________
(1) - عن جعفر بن زيد قال: خرجنا في غزاة وفي الجيش صلة بن أشيم، فنزل الناس عند العتمة فقلت: لأرمقن عمله الليلة، فدخل غيضة ودخلت في أثره فقام يصلي وجاء الأسد حتى دنا منه وصعدت أنا في شجرة، قال: فتراه التفت أو عدَّه جرواً حتى سجد فقلت: الآن يفترسه، فجلس ثم سلم فقال: أيها السبع إن كنت أمرت بشيء فافعل وإلا فاطلب الرزق من مكان آخر، فولى الأسد وإن له لزئيراً تصدع منه الجبال، فلما كان عند الصباح جلس فحمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة. ثم رجع إلى الجيش فأصبح كأنه بات على الحشا، وأصبحت وبي من الفترة شيء الله به عليم..قال: وذهبت بغلته بثقلها فقال: اللهم إني أسألك أن ترد علي بغلتي بثقلها، فجاءت حتى قامت بين يديه، قال: فلما التقينا العدو حمل هو وهشام بن عامر فصنعا بهم طعناً وضرباً، فقال العدو: رجلان من العرب صنعا بنا هذا فكيف لو قاتلونا كلهم؟ أعطوا المسلمين حاجتهم - يعني انزلوا على حكمهم - وقال صلة: جعت مرة في غزاة جوعاً شديداً فبينما أنا أسير أدعو ربي وأستطعمه، إذ سمعت وجبة من خلفي، فالتفت فإذا أنا بمنديل أبيض فإذا فيه دوخلة ملآنة رطباً فأكلت منه حتى شبعت، وأدر كنى المساء فملت إلى دير راهب فحدثته الحديث فاستطعمني من الرطب فأطعمته، ثم إني مررت على ذلك الراهب بعد زمان فإذا نخلات حسان فقال: إنهن لمن الرطبات التي أطعمتني، وجاء بذلك المنديل إلى امرأته فكانت تريه للناس، ولما أهديت معاذة إلى صلة أدخله ابن أخيه الحمام ثم أدخله بيت العروس بيتاً مطيباً فقام يصلي فقامت تصلي معه، فلم يزالا يصليان حتى برق الصبح، قال: فأتيته فقلت له: أي عمْ أُهديت إليك ابنة عمك الليلة فقمت تصلي وتركتها؟ قال: إنك أدخلتني بيتاً أول النهار أذكرتني به النار، وأدخلتني بيتاً آخر النهار أذكرتني به الجنة، فلم تزل فكرتي فيهما حتى أصبحت،البداية والنهاية لابن كثير(ج/ص: 9 /22) وتاريخ الإسلام للذهبي - (ج 2 / ص 88) وكلاهما ورد بسند قوي(1/237)
وَكَانَ " سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ " فِي أَيَّامِ الْحَرَّةِ يَسْمَعُ الْأَذَانَ مِنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ وَكَانَ الْمَسْجِدُ قَدْ خَلَا فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُهُ .(1)
__________
(1) - ففي شعب الإيمان للبيهقي (4006 ) أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، وأبو سعيد بن أبي عمرو ، قالا : حدثنا أبو عبد الله الصفار ، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا ، حدثني سويد بن سعيد ، حدثني ابن أبي الرجال ، عن سليمان بن سحيم ، قال : « رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ، قلت : يا رسول الله هؤلاء الذين يأتونك فيسلمون عليك أتفقه سلامهم ؟ ، قال : » نعم وأرد عليهم «(حسن مرسل )
وفي دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني (491 ) حدثنا محمد بن عبد العزيز بن سهل الخشاب النيسابوري قال : ثنا إبراهيم بن إسحاق الأنماطي ثنا محمد بن سليمان لوين قال : ثنا عبد الحميد بن سليمان ، عن أبي حازم ، عن سعيد بن المسيب قال : لقد رأيتني ليالي الحرة وما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الأذان من القبر ثم أتقدم فأقيم وأصلي وإن أهل الشام ليدخلون المسجد زمرا فيقولون : انظروا إلى الشيخ المجنون( ضعيف ، عبد الحميد بن سليمان ضعيف )
وفي الطبقات الكبرى لابن سعد - (ج 5 / ص 132)
قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني طلحة بن محمد بن سعيد عن أبيه قال: كان سعيد بن المسيب أيام الحرة في المسجد لم يبايع ولم يبرح، وكان يصلي معهم الجمعة ويخرج إلى العيد، وكان الناس يقتتلون وينتبهون وهو في المسجد لا يبرح إلا ليلا إلى الليل. قال فكنت إذا حانت الصلاة أسمع أذانا يخرج من قبل القبر حتى أمن الناس وما رأيت خبرا من الجماعة.( وفيه الواقدي وهو متهم )
وفي سنن الدارمى(94) أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ : لَمَّا كَانَ أَيَّامُ الْحَرَّةِ لَمْ يُؤَذَّنْ فِى مَسْجِدِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- ثَلاَثاً وَلَمْ يُقَمْ ، وَلَمْ يَبْرَحْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْمَسْجِدَ ، وَكَانَ لاَ يَعْرِفُ وَقْتَ الصَّلاَةِ إِلاَّ بِهَمْهَمَةٍ يَسْمَعُهَا مِنْ قَبْرِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ مَعْنَاهُ.( وفيه انقطاع ) فالحديث حسن لغيره
وانظر سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد - (ج 12 / ص 357-359)(1/238)
وَرَجُلٌ مِنْ " النَّخْعِ " كَانَ لَهُ حِمَارٌ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ ،فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ هَلُمَّ نَتَوَزَّعُ مَتَاعَك عَلَى رِحَالِنَا فَقَالَ لَهُمْ : أَمْهِلُونِي هُنَيْهَةً ثُمَّ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَأَحْيَا لَهُ حِمَارَه،ُ فَحَمَلَ عَلَيْهِ مَتَاعَهُ(1).
وَلَمَّا مَاتَ " أُوَيْسٌ الْقَرْنِيُّ " وَجَدُوا فِي ثِيَابِهِ أَكْفَانًا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ قَبْلُ وَوَجَدُوا لَهُ قَبْرًا مَحْفُورًا فِيهِ لَحْدٌ فِي صَخْرَةٍ فَدَفَنُوهُ فِيهِ وَكَفَّنُوهُ فِي تِلْكَ الْأَثْوَابِ .(2)
__________
(1) - لم أجده ، والأغلب عدم صحته
(2) - عن المعافى بن مدرك حدثنا داود بن الجراح حدثنا عثمان بن عطاءعن أبيه قال خرج أويس القرني عاريا راجلا إلى ثغر أرمينية فأصابه البطن فالتجأ إلى أهل خيمة فمات عندهم ومعه جراب وقعب فقالوا لرجلين منهم اذهبا فاحفرا له قبرا قالوا فنظرنا في جرابه فإذا فيه ثوبان ليسا من ثياب الدنيا وجاء الرجلان فقالا قد أصبنا قبرا محفورا في صخرة كأنما رفعت الأيدي عنه الساعة فكفنوه ودفنوه ثم التفتوا فلم يروا شيئا "
تاريخ دمشق - (ج 9 / ص 454) ولا يصح فيه جهالة وضعف
ويعارضه ما ورد من طريق عبد الله بن المبارك أنبأ جعفر بن سليمان عن الجريري عن أبي نضرة العبدي عن أسير بن جابر قال قال لي صاحب لي وأنا بالكوفة * هل لك في رجل تنظر إليه قلت نعم قال هذه مدرجته وأنه أويس القرني وأظنه أنه سيمر الآن قال فجلسنا له فمر فإذا رجل عليه سمل قطيفة قال والناس يطئون عقبة قال وهو يقبل فيغلظ لهم ويكلمهم في ذلك فلا ينتهون عنه فمضينا مع الناس حتى دخل مسجد الكوفة ودخلنا معه فتنحى إلى سارية فصلى ركعتين ثم أقبل إلينا بوجهه فقال يا أيها الناس ما لي ولكم تطئون عقبي في كل سكة وأنا إنسان ضعيف تكون لي الحاجة فلا أقدر عليها معكم لاَ تفعلوا رحمكم الله من كانت له إلي حاجة فليلقني ها هنا قال وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل وفدا قدموا عليه هل سقط إليكم رجل من قرن من أمره كيت وكيت فقال الرجل لأويس ذكرك أمير المؤمنين ولم يذكر ذلك كما يقال ما كان ذلك من ذكره ما أتبلغ إليكم به قال وكان أويس أخذ على الرجل عهدا وميثاقا أن لاَ يحدث به غيره قال ثم قال أويس إن هذا المجلس يغشاه ثلاثة نفر مؤمن فقيه ومؤمن لم يتفقه ومنافق وذلك في الدنيا مثل الغيث ينزل من السماء إلى الأرض فيصيب الشجرة المورقة المونعة المثمرة فيزيد ورقها حسنا ويزيدها إيناعا وكذلك يزيد ثمرها طيبا ويصيب الشجرة المورقة المونعة التي ليس لها ثمرة فيزيدها إيناقا ويزيدها ورقا حسنا وتكون لها ثمرة فتلحق بأختها ويصيب الهشيم من الشجر فيحطمه فيذهب به قال ثم قرأ الآية !< وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا >! لم يجالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان فقضاء الله الذي قضى !< شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا >! اللهم ارزقني شهادة تسبق كسرتها أذاها وأمنها فزعها توجب الحياة والرزق ثم سكت قال أسير فقال لي صاحبي كيف رأيت الرجل قلت ما ازددت فيه إلا رغبة وما أنا بالذي أفارقه فلزمنا فلم نلبث إلا يسيرا حتى ضرب على الناس بعث أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فخرج صاحب القطيفة أويس فيه وخرجنا معه فيه وكنا نسير معه وننزل معه حتى نزلنا بحضرة العدو قال بن المبارك فأخبرني حماد بن سلمة عن الجريري عن أبي نضرة عن أسير بن جابر قال فنادى منادي علي رضي الله عنه يا خيل الله اركبي وأبشري قال فصف الثلثين لهم فانتضى صاحب القطيفة أويس سيفه حتى كسر جفنه فألقاه ثم جعل يقول يا أيها الناس تموا تموا ليتمن وجوه ثم لاَ تنصرف حتى ترى الجنة يا أيها الناس تموا تموا جعل يقول ذلك ويمشي وهو يقول ذلك ويمشي إذ جاءته رمية فأصابت فؤاده فبرد مكانه كأنما مات منذ دهر قال حماد في حديثه فواريناه في التراب " المستدرك للحاكم مشكلا - (ج 3 / ص 146)(3386 ) وصححه ووافقه الذهبي
قلت : هذا الحديث صحيح وهو أقوى ما ورد في موت أويس رحمه الله .
وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة [ جزء 1 - صفحة 222 ] بعد روايته : وهو صحيح السند(1/239)
وَكَانَ " عَمْرُو بْنُ عُتبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ " يُصَلِّي يَوْمًا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَأَظَلَّتْهُ غَمَامَةٌ وَكَانَ السَّبْعُ يَحْمِيه وَهُوَ يَرْعَى رِكَابَ(1)أَصْحَابِهِ،لِأَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِطُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الْغَزْوِ أَنَّهُ يَخْدِمُهُمْ .(2)
وَكَانَ " مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشخير " إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ سَبَّحَتْ مَعَهُ آنِيَتُهُ وَكَانَ هُوَ وَصَاحِبٌ لَهُ يَسِيرَانِ فِي ظُلْمَةٍ فَأَضَاءَ لَهُمَا طَرَفُ السَّوْطِ .(3)
وَلَمَّا مَاتَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ وَقَعَتْ قَلَنْسُوَةُ رَجُلٍ فِي قَبْرِهِ، فَأَهْوَى لِيَأْخُذَهَا فَوَجَدَ الْقَبْرَ قَدْ فُسِحَ فِيهِ مَدَّ الْبَصَرِ .(4)
__________
(1) - الركاب : وهي الإبل المركوبة أو الحاملة شيئا أو التي يراد الحمل عليها
(2) - الأولياء (110 ) وحلية الأولياء - (ج 2 / ص 148) وتاريخ الإسلام للذهبي - (ج 2 / ص 170)
(3) - عن قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ مُطَرِّفُ بنُ عَبْدِ اللهِ وَصَاحِبٌ لَهُ سَرَيَا فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَإِذَا طَرَفُ سَوْطِ أَحَدِهِمَا عِنْدَهُ ضَوْءٌ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَوْ حَدَّثْنَا النَّاسَ بِهَذَا، كَذَّبُوْنَا.
فَقَالَ مُطَرِّفٌ: المُكَذِّبُ أَكْذَبُ - يَقُوْلُ: المُكَذِّبُ بِنِعْمَةِ اللهِ أَكْذَبُ
مصنف عبد الرزاق(20544) والاعتقاد للبيهقي (287) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي(2496) وحلية الأولياء - (ج 1 / ص 300) وتاريخ دمشق - (ج 58 / ص 321) و سير أعلام النبلاء (4/193)وتهذيب التهذيب 10 / 174 وهو صحيح
(4) - قلت : لم أجدها(1/240)
وَكَانَ " إبْرَاهِيمُ التيمي " يُقِيمُ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا وَخَرَجَ يَمْتَارُ لِأَهْلِهِ طَعَامًا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَمَرَّ بِسَهْلَةِ حَمْرَاءَ فَأَخَذَ مِنْهَا ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَفَتَحَهَا فَإِذَا هِيَ حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ فَكَانَ إذَا زَرَعَ مِنْهَا تَخْرُجُ السُّنْبُلَةُ مِنْ أَصْلِهَا إلَى فَرْعِهَا حَبًّا مُتَرَاكِبًا .(1)
وَكَانَ " عتبةُ الْغُلَامُ " سَأَلَ رَبَّهُ ثَلَاثَ خِصَالٍ صَوْتًا حَسَنًا وَدَمْعًا غَزِيرًا وَطَعَامًا مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ . فَكَانَ إذَا قَرَأَ بَكَى وَأَبْكَى وَدُمُوعُهُ جَارِيَةٌ دَهْرَهُ وَكَانَ يَأْوِي إلَى مَنْزِلِهِ فَيُصِيبُ فِيهِ قُوتَهُ وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ يَأْتِيه .(2)
__________
(1) - قلت :روي عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، قَالَ : انْطَلَقَ إبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمْتَارُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الطَّعَامِ , فَمَرَّ بِسَهْلَةٍ حَمْرَاءَ , فَأَخَذَ مِنْهَا ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَقَالُوا : مَا هَذَا ، قَالَ : حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ ، قَالَ : افْتَحُوهَا فَوَجَدُوهَا حِنْطَةً حَمْرَاءَ ، قَالَ : فَكَانَ إذَا زَرَعَ مِنْهَا شَيْئًا خَرَجَ سُنْبُلَةً مِنْ أَصْلِهَا إلَى فَرْعِهَا حَبًّا مُتَرَاكِبًا.مصنف ابن أبي شيبة(31813) وسنده صحيح إلى أبي صالح
أما إبراهيم التيمي فلم أجد قصته ، ولعله وقع التباس بينهما
(2) - شعب الإيمان للبيهقي (1333 ) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (2521 ) ومجابو الدعوة (104) وحلية الأولياء - (ج 3 / ص 69) ولا يصح فيه جهالة(1/241)
وَكَانَ " عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ " أَصَابَهُ الْفَالِجُ فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُطْلِقَ لَهُ أَعْضَاءَهُ وَقْتَ الْوُضُوءِ فَكَانَ وَقْتَ الْوُضُوءِ تُطْلَقُ لَهُ أَعْضَاؤُهُ ثُمَّ تَعُودُ بَعْدَهُ .(1)
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .(2)
__________
(1) - قَالَ ابْنُ أَبِي الحَوَارِيِّ: قَالَ لِي أَبُو سُلَيْمَانَ:أَصَابَ عَبْدَ الوَاحِدِ الفَالِجُ، فَسَأَلَ اللهَ أَنْ يُطْلِقَهُ فِي وَقْتِ الوُضُوْءِ، فَكَانَ إِذَا أَرَادَ الوُضُوْءَ، انْطَلَقَ، وَإِذَا رَجَعَ إِلَى سَرِيْرِه، فُلِجَ.
قوت القلوب - (ج 1 / ص 405) وتاريخ دمشق - (ج 37 / ص 226) وتاريخ الإسلام للذهبي - (ج 3 / ص 145) و سير أعلام النبلاء (7/180) وحلية الأولياء - (ج 3 / ص 28) قلت : إن سمع أبو سليمان الداراني منه فالخبر صحيح إليه
(2) - انظر الدرر السنية كاملة - (ج 1 / ص 146) والدرر السنية كاملة - (ج 24 / ص 39) وشروح الطحاوية - (ج 2 / ص 62) وشروح الطحاوية - (ج 2 / ص 382-385) والاعتقاد للبيهقي - (ج 1 / ص 316)فما بعدها وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي - (ج 6 / ص 394) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 224 / ص 45) والفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي - (ج 1 / ص 228) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 1 / ص 499) وسبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد - (ج 10 / ص 235)(1/242)
وَأَمَّا مَا نَعْرِفُهُ عَنْ أَعْيَانٍ وَنَعْرِفُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَكَثِيرٌ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْكَرَامَاتِ قَدْ تَكُونُ بِحَسَبِ حَاجَةِ الرَّجُلِ ،فَإِذَا احْتَاجَ إلَيْهَا الضَّعِيفُ الْإِيمَانِ أَوْ الْمُحْتَاجُ أَتَاهُ مِنْهَا مَا يُقَوِّي إيمَانَهُ وَيَسُدُّ حَاجَتَهُ ،وَيَكُونُ مَنْ هُوَ أَكْمَلُ وِلَايَةً لِلَّهِ مِنْهُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَأْتِيه مِثْلُ ذَلِكَ لِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ وَغِنَاهُ عَنْهَا لَا لِنَقْصِ وِلَايَتِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي التَّابِعِينَ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي الصَّحَابَةِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ الْخَوَارِقُ لِهَدْيِ الْخَلْقِ وَلِحَاجَتِهِمْ فَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ دَرَجَةً .(1/243)
وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ مِثْلُ حَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيَّادٍ الَّذِي ظَهَرَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ قَدْ ظَنَّ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ الدَّجَّالُ(1)،
__________
(1) - عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ أَقْبَلْنَا فِى جَيْشٍ مِنَ الْمَدِينَةِ قِبَلَ هَذَا الْمَشْرِقِ. قَالَ فَكَانَ فِى الْجَيْشِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَيَّادٍ وَكَانَ لاَ يُسَايِرُهُ أَحَدٌ وَلاَ يُرَافِقُهُ وَلاَ يُؤَاكِلُهُ وَلاَ يُشَارِبُهُ وَيُسَمُّونَهُ الدَّجَّالَ فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ نَازِلٌ فِى مَنْزِلٍ لِى إِذْ رَآنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَيَّادٍ جَالِساً فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَىَّ فَقَالَ يَا أَبَا سَعِيدٍ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا يَصْنَعُ النَّاسُ لاَ يُسَايِرُنِى أَحَدٌ وَلاَ يُرَافِقُنِى أَحَدٌ وَلاَ يُشَارِبُنِى أَحَدٌ وَلاَ يُؤَاكِلُنِى أَحَدٌ وَيَدْعُونِى الدَّجَّالَ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنْتَ يَا أَبَا سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ الدَّجَّالَ لاَ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ ». وَإِنِّى وُلِدْتُ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ الدَّجَّالَ لاَ يُولَدُ لَهُ ». وَقَدْ وُلِدَ لِى فَوَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ مِمَّا يَصْنَعُ بِى هَؤُلاَءِ النَّاسُ أَنْ آخُذَ حَبْلاً فَأَخْلُوَ فَأَجْعَلَهُ فِى عُنُقِى فَأَخْتَنِقَ فَأَسْتَرِيحَ مِنْ هَؤُلاَءِ النَّاسِ وَاللَّهِ مِا أَنَا بِالدَّجَّالِ وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَوْ شِئْتَ لأَخْبَرْتُكَ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ أُمِّهِ وَاسْمِ الْقَرْيَةِ الَّتِى يَخْرُجُ مِنْهَا..مسند أحمد (12068)صحيح(1/244)
وَتَوَقَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِهِ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الدَّجَّالُ ؛ لَكِنَّهُ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْكُهَّانِ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَبَّأْت لَك خَبْئًا قَالَ : الدُّخُّ الدُّخُّ . وَقَدْ كَانَ خَبَّأَ لَهُ سُورَةَ الدُّخَانِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَك(1)
__________
(1) - عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ ، حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِى مَغَالَةَ ، وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لاِبْنِ صَيَّادٍ « تَشْهَدُ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ » . فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيِّينَ . فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَتَشْهَدُ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ فَرَفَضَهُ وَقَالَ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ . فَقَالَ لَهُ « مَاذَا تَرَى » . قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ يَأْتِينِى صَادِقٌ وَكَاذِبٌ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ » ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنِّى قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا » . فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ هُوَ الدُّخُّ . فَقَالَ « اخْسَأْ ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ » . فَقَالَ عُمَرُ - رضى الله عنه - دَعْنِى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ ..فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِى قَتْلِهِ » . صحيح البخارى (1354 )(1/245)
" يَعْنِي إنَّمَا أَنْتَ مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ ؛ وَالْكُهَّانُ كَانَ يَكُونُ لِأَحَدِهِمْ الْقَرِينُ مِنَ الشَّيَاطِينِ يُخْبِرُهُ بِكَثِيرِ مِنْ الْمُغَيَّبَاتِ بِمَا يَسْتَرِقُهُ مِنْ السَّمْعِ ،وَكَانُوا يَخْلِطُونَ الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَنْزِلُ فِى الْعَنَانِ - وَهْوَ السَّحَابُ - فَتَذْكُرُ الأَمْرَ قُضِىَ فِى السَّمَاءِ ، فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ ، فَتَسْمَعُهُ فَتُوحِيهِ إِلَى الْكُهَّانِ ، فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ »(1).
__________
(1) - صحيح البخارى(3210 )(1/246)
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِى عَلِىُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ أَخْبَرَنِى رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الأَنْصَارِ أَنَّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ جُلُوسٌ لَيْلَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رُمِىَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا رُمِىَ بِمِثْلِ هَذَا ». قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ كُنَّا نَقُولُ وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ وَمَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فَإِنَّهَا لاَ يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ وَلَكِنْ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فَيُخْبِرُونَهُمْ مَاذَا قَالَ - قَالَ - فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَوَاتِ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَتَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ فَيَقْذِفُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَيُرْمَوْنَ بِهِ فَمَا جَاءُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ »(1).
__________
(1) - صحيح مسلم(5955 ) =يقرفون : يكذبون فيه(1/247)
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ مُعَمَّرٌ قُلْت لِلزُّهْرِيِّ قُلْتُ لِلزُّهْرِىِّ أَكَانَ يُرْمَى بِهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ نَعَمْ ولَكِنْ غُلِّظَتْ حِينَ بُعِثَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-.(1)
__________
(1) - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَالِساً فِى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ - قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنَ الأَنْصَارِ - فَرُمِىَ بِنَجْمٍ عَظِيمٍ فَاسْتَنَارَ قَالَ « مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ إِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ ». قَالَ كُنَّا نَقُولُ يُولَدُ عَظِيمٌ أَوْ يَمُوتُ عَظِيمٌ. قُلْتُ لِلزُّهْرِىِّ أَكَانَ يُرْمَى بِهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ نَعَمْ ولَكِنْ غُلِّظَتْ حِينَ بُعِثَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فَإِنَّهُ لاَ يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ ولَكِنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ اسْمُهُ إِذَا قَضَى أَمْراً سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا ثُمَّ يَسْتَخْبِرُ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ فَيَقُولُ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فَيُخْبِرُونَهُمْ وَيُخْبِرُ أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ سَمَاءً حَتَّى يَنْتَهِىَ الْخَبَرُ إِلَى هَذِهِ السَّمَاءِ. وَيَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ فَيُرْمَوْنَ فَمَا جَاءُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَلَكِنَّهُمْ يَقْذِفُونَ وَيَزِيدُونَ ». قَالَ عَبْدُ اللَّهِ - يَعْنِى أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - قَالَ أَبِى قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَيَخْطَفُ الْجِنُّ وَيُرْمَوْنَ. مسند أحمد (1910) وهو صحيح(1/248)
وَ " الْأَسْوَدُ العنسي " الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ كَانَ لَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يُخْبِرُهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ، فَلَمَّا قَاتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ كَانُوا يَخَافُونَ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ يُخْبِرُوهُ بِمَا يَقُولُونَ فِيهِ : حَتَّى أَعَانَتْهُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهَا كُفْرُهُ فَقَتَلُوهُ .(1)
__________
(1) - عن النعمان بن بزرج ، قال : « خرج أسود الكذاب وكان رجلا من بني عنس ، وكان معه شيطانان يقال لأحدهما سحيق والآخر شقيق ، وكانا يخبرانه بكل شيء يحدث من أمر الناس ، فسار الأسود حتى أخذ ذمار ، وكان باذان إذ ذاك مريضا بصنعاء ، فلما مات ، جاء الأسود شيطانه وهو على قصر ذمار ، فأخبره بموت باذان ، فنادى الأسود في قومه : يا آل يحابر ، ويحابر فخذ من مراد : إن سحيقا قد أجار ذمار ، وأباح لكم صنعاء » فذكر الحديث في خروجه إلى صنعاء ، وأخذه صنعاء واستنكاحه المرزبانة امرأة باذان ، وإرسالها إلى داذويه خليفة باذان ، وفيروز ، وخرزاذ بن بزرج وجرجست هذا الشيطان فائتمروا به وأنا أكفيكموه ، وأنهم ائتمروا بقتله مع قيس بن عبد يغوث ، فاجتمع داذويه ، وفيروز ، وأصحابهما ، وكان على باب الأسود ألف رجل يحرسونه ، فجعلت المرزبانة تسقيه خمرا صرفا فكلما قال : شوبوه صبت عليه من خمر كان حتى سكر ، فدخل في فراش باذان ، وكان من ريش . فانقلب عليه الفراش وجعل داذويه وأصحابه ينضحون الجدار بالخل ويحفرونه من نحو بيوت أهل بزرج بحديدة ، حتى فتحوه قريبا منه ، فذكر الحديث في دخول داذويه ، وجرجست ، فلم يرزقا قتله ، فخرجا فدخل فيروز ، وابن بزرج فأشارت إليهما المرأة أنه في الفراش ، فتناول فيروز برأسه ولحيته فعصر عنقه فدقها وطعنه ابن بزرج بالخنجر فشقه من ترقوته إلى عانته ، ثم احتز رأسه ، وخرجوا وأخرجوا المرأة معهم وما أحبوا من متاع البيت ، وذكر الحديث .."دلائل النبوة للبيهقي (2084 )(1/249)
وَكَذَلِكَ " مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ " كَانَ مَعَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يُخْبِرُهُ . بِالْمُغَيَّبَاتِ وَيُعِينُهُ عَلَى بَعْضِ الْأُمُورِ(1).
__________
(1) - عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرٍو الضَّمْرِىِّ قَالَ َرَجْتُ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِىِّ بْنِ الْخِيَارِ إِلَى الشَّامِ فَلَمَّا قَدِمْنَا حِمْصَ قَالَ لِى عُبَيْدُ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِى وَحْشِىٍّ نَسْأَلُهُ عَنْ قَتْلِ حَمْزَةَ قُلْتُ َعَمْ. وَكَانَ وَحْشِىٌّ يَسْكُنُ حِمْصَ - قَالَ - فَسَأَلْنَا عَنْهُ فَقِيلَ لَنَا ُوَ ذَاكَ فِى ظِلِّ قَصْرِهِ كَأَنَّهُ حَمِيتٌ - قَالَ - فَجِئْنَا حَتَّى وَقَفْنَا عَلَيْهِ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْنَا السَّلاَمَ - قَالَ - وَعُبَيْدُ اللَّهِ مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَتِهِ مَا يَرَى وَحْشِىٌّ إِلاَّ عَيْنَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ َا وَحْشِىُّ أَتَعْرِفُنِى قَالَ َنَظَرَ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ َ وَاللَّهِ إِلاَّ أَنِّى أَعْلَمُ أَنَّ عَدِىَّ بْنَ الْخِيَارِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ قِتَالٍ ابْنَةُ أَبِى الْعِيصِ فَوَلَدَتْ لَهُ غُلاَماً بِمَكَّةَ فَاسْتَرْضَعَهُ فَحَمَلْتُ ذَلِكَ الْغُلاَمَ مَعَ أُمِّهِ فَنَاوَلْتُهَا إِيَّاهُ فَلَكَأَنِّى نَظَرْتُ إِلَى قَدَمَيْكَ. قَالَ َكَشَفَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَجْهَهُ ثُمَّ قَالَ أَلاَ تُخْبِرُنَا بِقَتْلِ حَمْزَةَ. قَالَ َعَمْ إِنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ طُعَيْمَةَ بْنَ عَدِىٍّ بِبَدْرٍ فَقَالَ لِى مَوْلاَىَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ ِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمِّى فَأَنْتَ حُرٌّ..فَلَمَّا خَرَجَ النَّاسُ يَوْمَ عِينِينَ - قَالَ وَعِينِينُ جُبَيْلٌ تَحْتَ أُحُدٍ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَادِى - خَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ إِلَى الْقِتَالِ فَلَمَّا أَنِ اصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ - قَالَ - خَرَجَ سِبَاعٌ مَنْ مُبَارِزٌ قَالَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ يَا سِبَاعُ يَا ابْنَ أُمِّ أَنْمَارٍ يَا ابْنَ مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ أَتُحَادُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ وَأَكْمَنْتُ لِحَمْزَةَ تَحْتَ صَخْرَةٍ حَتَّى إِذَا مَرَّ عَلَىَّ فَلَمَّا أَنْ دَنَا مِنِّى رَمَيْتُهُ فَأَضَعُهَا فِى ثُنَّتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ وَرِكَيْهِ - قَالَ - فَكَانَ ذَلِكَ الْعَهْدُ بِهِ - قَالَ - فَلَمَّا رَجَعَ النَّاسُ رَجَعْتُ مَعَهُمْ - قَالَ - فَأَقَمْتُ بِمَكَّةَ حَتَّى فَشَا فِيهَا الإِسْلاَمُ - قَالَ - ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى الطَّائِفِ - قَالَ - فَأَرْسَلَ إِلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ وَقِيلَ لَهُ ِنَّهُ لاَ يَهِيجُ لِلرُّسُلِ.
قَالَ َخَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فَلَمَّا رَآنِى قَالَ « أَنْتَ وَحْشِىٌّ ». قَالَ قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ « أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ ». قَالَ قُلْتُ َدْ كَانَ مِنَ الأَمْرِ مَا بَلَغَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذْ. قَالَ « مَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ عَنِّى وَجْهَكَ ». قَالَ فَرَجَعْتُ فَلَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَخَرَجَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ قَالَ قُلْتُ لأَخْرُجَنَّ إِلَى مُسَيْلِمَةَ لَعَلِّى أَقْتُلُهُ فَأُكَافِئَ بِهِ حَمْزَةَ - قَالَ - فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا كَانَ - قَالَ - فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِى ثَلْمَةِ جِدَارٍ كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقٌ ثَائِرٌ رَأْسُهُ - قَالَ - فَأَرْمِيهِ بِحَرْبَتِى فَأَضَعُهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ - قَالَ - وَدَبَّ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ - قَالَ - فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ. مسند أحمد(16503) وهو صحيح
ثلمة : النقصان والخلل = الثنة : الثنة من الإنسان ما دون السرة فوق العانة أسفل البطن =الحميت : الزق =المعتجر : الذى يلفها على رأسه ويرد طرفها على وجهه ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه =الأورق : الأسمر(1/250)
وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ كَثِيرُونَ ،مِثْلُ : الْحَارِثِ الدِّمَشْقِيِّ " الَّذِي خَرَجَ بِالشَّامِ زَمَنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَادَّعَى النُّبُوَّةَ وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ يُخْرِجُونَ رِجْلَيْهِ مِنَ الْقَيْدِ وَتَمْنَعُ السِّلَاحَ أَنْ يَنْفُذَ فِيهِ، وَتُسَبِّحُ الرَّخَامَةُ إذَا مَسَحَهَا بِيَدِهِ ،وَكَانَ يَرَى النَّاسَ رِجَالًا وَرُكْبَانًا عَلَى خَيْلٍ فِي الْهَوَاءِ، وَيَقُولُ : هِيَ الْمَلَائِكَةُ وَإِنَّمَا كَانُوا جِنًّا ،وَلَمَّا أَمْسَكَهُ الْمُسْلِمُونَ لِيَقْتُلُوهُ طَعَنَهُ الطَّاعِنُ بِالرُّمْحِ فَلَمْ يَنْفُذْ فِيهِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ : إنَّك لَمْ تُسَمِّ اللَّهَ فَسَمَّى اللَّهَ فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ .(1)
__________
(1) - الحارث بن سعيد المتنبئ الكذاب، ويقال له الحارث بن عبد الرحمن بن سعيد الدمشقي، مولى أبي الجلاس العبدري، ويقال مولى الحكم بن مروان، كان أصله من الجولة فنزل دمشق وتعبد بها وتنسك وتزهد ثم مكر به ورجع القهري على عقبيه، وانسلخ من آيات الله تعالى، وفارق حزب الله المفلحين، واتبع الشيطان فكان من الغاوين، ولم يزل الشيطان يزج في قفاه حتى أخسره دينه ودنياه، وأخزاه وأشقاه. فإنا لله وحسبنا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال أبو بكر بن أبي خيثمة، ثنا عبد الوهاب نجدة الجولي، حدثنا محمد بن مبارك، ثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن حسان، قال: كان الحارث الكذاب من أهل دمشق، وكان مولى لأبي الجلاس، وكان له أب بالجولة، فعرض له إبليس، وكان رجلاً متعبداً زاهداً لو لبس جبة من ذهب لرؤيت عليه الزهادة والعبادة، وكان إذا أخذ بالتحميد لم يسمع السامعون مثل تحميده ولا أحسن من كلامه، فكتب إلى أبيه وكان بالجولة: يا أبتاه أعجل عليَّ فإني قد رأيت أشياء أتخوف أن يكون الشيطان قد عرض لي، قال فزاده أبوه غيَّاً على غيه، فكتب إليه أبوه: يا بني أقبل على ما أمرت به فإن الله تعالى يقول: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 - 222] ولست بأفاك ولا أثيم، فامض لما أمرت به، وكان يجيء إلى أهل المسجد رجلاً رجلاً، فيذاكرهم أمره ويأخذ عليهم العهد والميثاق إن هو يرى ما يرضى وإلا كتم عليه.
قال: وكان يريهم الأعاجيب. كان يأتي إلى رخامة في المسجد فينقرها بيده فتسبح تسبيحاً بليغاً حتى يضج من ذلك الحاضرون.
قلت: وقد سمعت شيخنا العلامة أبا العباس بن تيمية رحمه الله يقول: كان ينقر هذه الرخامة الحمراء التي في المقصورة فتسبح، وكان زنديقاً.
قال ابن أبى خيثمة في روايته وكان الحارث يطعمهم فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، وكان يقول لهم: اخرجوا حتى أريكم الملائكة، فيخرج بهم إلى دير المراق فيريهم رجالاً على خيل فيتبعه على ذلك بشر كثير، وفشا أمره في المسجد وكثر أصحابه وأتباعه، حتى وصل الأمر إلى القاسم بن مخيمرة، قال فعرض على القاسم أمره وأخذ عليه العهد إن هو رضي أمر قبله، وإن كرهه كتم عليه، قال فقال له: إني نبي.
فقال القاسم: كذبت يا عدو الله، ما أنت نبي، وفي رواية ولكنك أحد الكذابين الدجالين الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الساعة لا تقوم حتى يخرج ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه نبي)) وأنت أحدهم ولا عهد لك، ثم قام فخرج إلى أبي إدريس - وكان على القضاء بدمشق - فأعلمه بما سمع من الحارث فقال أبو إدريس نعرفه، ثم أعلم أبو إدريس عبد الملك بذلك، وفي رواية أخرى أن مكحولاً وعبد الله بن زائدة دخلا على الحارث فدعاهما إلى نبوته فكذباه وردا عليه ما قال، ودخلا على عبد الملك فأعلماه بأمره، فتطلبه عبد الملك طلباً حثيثاً، واختفى الحارث وصار إلى دار بيت المقدس يدعو إلى نفسه سراً واهتم عبد الملك بشأنه حتى ركب إلى النصرية فنزلها فورد عليه هناك رجل من أهل النصرية ممن كان يدخل على الحارث وهو ببيت المقدس فأعلمه بأمره وأين هو، وسأل من عبد الملك أن يبعث معه بطائفة من الجند الأتراك ليحتاط عليه، فأرسل معه طائفة وكتب إلى نائب القدس ليكون في طاعة هذا الرجل ويفعل ما يأمره به، فلما وصل الرجل إلى النصرية ببيت المقدس بمن معه، انتدب نائب القدس لخدمته فأمره أن يجمع ما يقدر عليه من الشموع ويجعل مع كل رجل شمعته، فإذا أمرهم بإشعالها في الليل أشعلوها كلهم في سائر الطرق والأزقة حتى لا يخفى أمره، وذهب الرجل بنفسه فدخل الدار التي فيها الحارث فقال لبوابة: استأذن على نبي الله، فقال: في هذه الساعة لا يؤذن عليه حتى يصبح، فصاح النصري أسرجوا، فأشعل الناس شموعهم حتى صار الليل كأنه النهار، وهمَّ النصري على الحارث فاختفى منه في سرب هناك فقال أصحابه هيهات يريدون أن يصلوا إلى نبي الله، إنه قد رفع إلى السماء، قال فأدخل النصري يده في ذلك السرب فإذا بثوبه فاجتره فأخرجه، ثم قال للفرعانين من أتراك الخليفة قال: فأخذوه فقيدوه، فيقال: إن القيود والجامعة سقطت من عنقه مراراً ويعيدونها وجعل يقول: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: 50] وقال لأولئك الأتراك: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [المؤمن: 28] فقالوا له بلسانهم ولغتهم: هذا كراننا فهات كرانك، أي هذا قرآننا فهات قرآنك، فلما انتهوا به إلى عبد الملك أمر بصلبه على خشبة وأمر رجلاً فطعنه بحربة فانثنت في ضلع من أضلاعه، فقال له عبد الملك: ويحك أذكرت اسم الله حين طعنته؟
فقال: نسيت، فقال: ويحك سم الله ثم اطعنه، قال: فذكر اسم الله ثم طعنه فأنفذه، وقد كان عبد الملك حبسه قبل صلبه وأمر رجالاً من أهل الفقه والعلم أن يعظوه ويعلموه أن هذا الذي به من الشيطان، فأبى أن يقبل منهم فصلبه بعد ذلك وهذا من تمام العدل والدين.
وقد قال الوليد بن مسلم، عن ابن جابر، فحدثني من سمع الأعور، يقول: سمعت العلاء بن زياد العدوي.
يقول: ما غبطت عبد الملك بشيء من ولايته إلا بقتله حارثاً حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه نبي، فمن قاله فاقتلوه، ومن قتل منهم أحداً فله الجنة)).
البداية والنهاية لابن كثير (ج/ص: 9/34) فما بعدها وتاريخ دمشق - (ج 11 / ص 428)و تاريخ الإسلام للذهبي - (ج 2 / ص 147)(1/251)
وَهَكَذَا أَهْلُ " الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ "(1)
__________
(1) - وفي تاريخ الإسلام للذهبي - (ج 11 / ص 253)409 _ يوسف القُمَّينيّ . شيخ مشهور بدمشق . للنّاس فيه حُسن اعتقاد . وكان يأوي إلى القمامين والمزابل الّتي مأوى الشياطين ، ويلبس ثياباً تكنس الأرض ، وتتنجّس ببوْله ، ويمشي حافياً ، ويترنّح في مشْيته . وله أكمامٌ ، طوال ، ورأسه مكشوف .
وكان طويل السّكوت ، ذا مهابة وولهٍ ما .
ويُحكى عنه عجائب وكشوفات . وكان يأوي إلى قمّين حمّام نور الدّين .
ولمّا توفّي شيعه خلْقٌ لا يُحْصون من العامّة .
وقد بصّرنا الله وله الحمد وعرّفنا هذا النّموذج ، وأنّ لهم شياطين تطمع فيهم لنقْص عقولهم ، وتجري منهم مجرى الدّم ، وتتكلّم على ألسنتهم بالمُغيَّبات ، فيضلّ النّاس ، ويتألّهونهم ، ويعتقدون أنّهم أولياء الله ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون . فقد عمّ البلاء في الخلق بهذا الضّرب ، ولكن الله يثيب النّاس على حسن قصدهم ، وإن جهلوا وأخطأوا ، ويغفر لهم بلا شكّ إذا كان قصدُهم ابتغاء وجهه الكريم .
وهذا زماننا فيه واحد اسمه إبراهيم بظاهر باب شرقيّ ، له كشوفات كالشّمس ، وما أكثرها . أمَّ أربع سنين في دُكّان برّ الباب ، ثمّ تحوّل إلى قمين حمّام الفواخير ، وهو زُطّيٌّ ، سفيه ، نجِس ، قد أحرقته السّوداء ، وله شيطان ينطق على لسانه ، فما أجهل من يعتقد في هذا وشبهه أنّه وليّ الله ، والله يقول في أوليائه { الّذي آمنوا وكانوا يتقون } .
وقد كان في الجاهليّة خلْقٌ من الكُهّان يخبرون بالمغيِّبات ، والرُّهبان لهم كشْفٌ وإخبار بالمغيّبات ، والسّاحر يخبر بالمغيّبات . وفي زماننا نساءٌ ورجالٌ بهم مسٌّ من الجِنّ يخبرون بالمغيّبات على عدد الأنفاس .
وقد صنّف شيخُنا ابن تيْميّة غير مسألةٍ في أنّ أحوال هؤلاء وأشباههم شيطانيّة ، ومن هذه الأحوال الشّيطانيّة الّتي تضلّ العامّة أكْلُ الحيّات ، ودخول النّار ، والمشْي في الهواء ، ممّن يتعانى المعاصي ، ويخلّ بالواجبات . فنسأل الله العون على اتّباع صراط المستقيم ، وأن يكتب الإيمان في قلوبنا ، وأن يؤيّدنا بروحٍ منه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وقد يجيء الجاهل فيقول : اسكُتْ لا تتكلّم في أولياء الله . ولم يشعر أنّه هو الّذي تكلّم في أولياء الله وأهانهم ، إذْ أدخل فيهم هؤلاء الأوباش المجانين أولياء الشّياطين ، قال الله تعالى : { وإنّ الشّياطين ليُوحُون إلى أوليائهم لِيُجادلوكم } ثمّ قال : { وإنْ أطعْتموهم إنّكم لمُشركون } وما اتّبع النّاس الأسود العنسيّ ومُسيلمة الكذّاب إلاّ لإخبارهما بالمغيّبات ، ولا عُبدت الأوثان إلاّ لذلك ، ولا ارتبط خلقٌ بالمنجّمين إلا لشيءٍ من ذلك ، مع أنّ تسعة أعشار ما يُحْكى من كذب النّاقلين . وبعض الفُضلاء تراه يخضع للمولّهين والفُقراء النّصّابين لما يرى منهم . وما يأتي به هؤلاء يأتي بمثله الرُّهبان ، فلهم كشوفات وعجائب ، ومع هذا فهم ضُلاّلٌ من عبدة الصُّلبان ، فأين يُذْهب بك ؟ ! ثبّتنا الله بالقول الثّابت في الحياة الدّنيا وفي الآخر ة، وإيّاك .
وانظر مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 84) ومجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 176) ومجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 363) ومجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 364) ومجموع الفتاوى - (ج 8 / ص 232) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 278) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 431) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 443) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 470) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 495-496) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 538) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 611) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 667-668) ومجموع الفتاوى - (ج 14 / ص 226)ومجموع الفتاوى - (ج 14 / ص 359) و مجموع الفتاوى - (ج 27 / ص 499) ومجموع الفتاوى - (ج 35 / ص 111) ومجموع الفتاوى - (ج 35 / ص 114)(1/252)
تَنْصَرِفُ عَنْهُمْ شَيَاطِينُهُمْ إذَا ذُكِرَ عِنْدَهُمْ مَا يَطْرُدُهَا، مِثْلُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ وَكَّلَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ ، فَأَتَانِى آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ ، فَأَخَذْتُهُ ، وَقُلْتُ وَاللَّهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ إِنِّى مُحْتَاجٌ ، وَعَلَىَّ عِيَالٌ ، وَلِى حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ . قَالَ فَخَلَّيْتُ عَنْهُ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ » . قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً فَرَحِمْتُهُ ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ . قَالَ « أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ » . فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّهُ سَيَعُودُ . فَرَصَدْتُهُ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ دَعْنِى فَإِنِّى مُحْتَاجٌ ، وَعَلَىَّ عِيَالٌ لاَ أَعُودُ ، فَرَحِمْتُهُ ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ ، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ » . قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً ، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ . قَالَ « أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ » . فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهَذَا آخِرُ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَزْعُمُ لاَ تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ .(1/253)
قَالَ دَعْنِى أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا . قُلْتُ مَا هُوَ قَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِىِّ ( اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ ) حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ . فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ ، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ » . قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِى كَلِمَاتٍ ، يَنْفَعُنِى اللَّهُ بِهَا ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ . قَالَ « مَا هِىَ » . قُلْتُ قَالَ لِى إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِىِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ ( اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ ) وَقَالَ لِى لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَىْءٍ عَلَى الْخَيْرِ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ » . قَالَ لاَ . قَالَ « ذَاكَ شَيْطَانٌ»(1).
__________
(1) - صحيح البخارى (2311 ) معلقاً بصيغة الجزم والسنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة - (ج 6 / ص 394)(10729) وهو صحيح(1/254)
وَلِهَذَا إذَا قَرَأَهَا الْإِنْسَانُ عِنْدَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ بِصِدْقِ أَبْطَلَتْهَا، مِثْلُ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ بِحَالِ شَيْطَانِيٍّ أَوْ يَحْضُرُ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ ،فَتَنْزِلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ وَتَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ كَلَامًا لَا يُعْلَمُ ،وَرُبَّمَا لَا يُفْقَهُ، وَرُبَّمَا كَاشَفَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ بِمَا فِي قَلْبِهِ ،وَرُبَّمَا تَكَلَّمَ بِأَلْسِنَةِ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْجِنِّيُّ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ، وَالْإِنْسَانُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ الْحَالُ لَا يَدْرِي بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْرُوعِ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ(1)وَلَبِسَهُ وَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِهِ، فَإِذَا أَفَاقَ لَمْ يَشْعُرْ بِشَيْءِ مِمَّا قَالَ، وَلِهَذَا قَدْ يُضْرَبُ الْمَصْرُوعُ وَذَلِكَ الضَّرْبُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِنْسِيِّ، وَيُخْبِرُ إذَا أَفَاقَ أَنَّهُ لَمْ يَشْعُرْ بِشَيْءِ، لِأَنَّ الضَّرْبَ كَانَ عَلَى الْجِنِّيِّ الَّذِي لَبِسَهُ .
__________
(1) - قال تعالى :{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) }[البقرة/275]
الذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ - أي المَصْرُوعُ . وَكَانَتِ العَرَبُ تَعْتَقِدُ أنَّ الشَيْطَانَ يَخْبِطُ الإِنْسَانَ فَيَصْرَعُهُ .(1/255)
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَأْتِيه الشَّيْطَانُ بِأَطْعِمَةِ وَفَوَاكِهَ وَحَلْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ،وَمِنْهُمْ مَنْ يَطِيرُ بِهِمْ الْجِنِّيُّ إلَى مَكَّةَ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ غَيْرِهِمَا ،وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ ثُمَّ يُعِيدُهُ مِنْ لَيْلَتِهِ فَلَا يَحُجُّ حَجًّا شَرْعِيًّا ؛ بَلْ يَذْهَبُ بِثِيَابِهِ وَلَا يُحْرِمُ إذَا حَاذَى الْمِيقَاتَ وَلَا يُلَبِّي وَلَا يَقِفُ بمزدلفة وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ ؛ وَلَا يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَا يَرْمِي الْجِمَارَ، بَلْ يَقِفُ بِعَرَفَةَ بِثِيَابِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِحَجِّ [ وَلِهَذَا رَأَى بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ تَكْتُبُ الْحُجَّاجَ ] فَقَالَ أَلَا تَكْتُبُونِي ؟ فَقَالُوا لَسْت مِنْ الْحُجَّاجِ . يَعْنِي حَجًّا شَرْعِيًّا .
- - - - - - - - - - - - - -
البابُ الثاني
شرحُ حديثِ الوليِّ
المبحثُ الأولُ
نصُّ الحديث وشواهده(1/256)
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ »رواهُ البخاريُّ(1).
و عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ أَذَلَّ لِى وَلِيًّا فَقَدِ اسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِى وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِمِثْلِ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَمَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ إِنْ سَأَلَنِى أَعْطَيْتُهُ وَإِنْ دَعَانِى أَجَبْتُهُ مَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ وَفَاتِهِ لأَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ».أخرجه أحمد(2)
__________
(1) - صحيح البخارى ( 6502 ) وشرح السنة للبغوي (1214)وهق 3/346 و10/219 (21508 ) والإتحاف 10/403 وصحيحة (1640) وسنة 5/19 وفتح 11/340و341 وتلخيص 3/117 وصفة 491 وصحيح الجامع ( 1782) والإحسان ( 347) وهـ ( 3989)
(2) - مسند أحمد (26947) و المعجم الأوسط للطبراني (11408 ) والزهد الكبير للبيهقي(707) وهو صحيح لغيره(1/257)
و عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، يَقُولُ:"مَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَأَكُونَ أَنَا سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ، وَقَلْبَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ، فَإِذَا دَعَا أَجَبْتُهُ، وَإِذَا سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَرَنِي نَصَرْتُهُ، وَأَحَبُّ مَا تَعَبَّدَ لِي عَبْدِي بِهِ النُّصْحُ لِي".أخرجه الطبراني(1)
و عن الحسن قال: يقول الله ما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فأكون عينيه اللتين يبصر بهما وأذنيه اللتين يسمع بهما ويديه اللتين يبطش بهما ورجليه اللتين يمشي بهما فإذا دعاني أجبته وإذا سألني أعطيته وإن استغفرني غفرت له"(2)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 7 / ص 230)(7739 ) و(ج 7 / ص 250)(7800 ) والإتحاف 8/102 و 477 و 9/440 وعدى 5/1939 والصحيحة (1640) والزهد الكبير للبيهقي (710 ) وهو حسن لغيره
(2) - مصنف عبد الرزاق(20302) صحيح مرسل(1/258)
و عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ ، قَالَ : مَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللهِ فَقَدْ آذَنَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ ، وَمَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ فَقَدْ حَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ ، وَمَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ لاَ عِلْمَ لَهُ بِهَا كَانَ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزِعَ ، وَمَنْ قَفَا مُؤْمِنًا بِمَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ وَقَفَهُ اللَّهُ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَجِيءَ مِنْهَا بِالْمَخْرَجِ ، وَمَنْ خَاصَمَ لِضَعِيفٍ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ حَقُّهُ , ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزِلُّ الأَقْدَامُ ، وَقَالَ اللَّهُ : مَا تَرَدَّدْت فِي شَيْءٍ أُرِيدُهُ ، تَرْدَادِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهِ وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ" أخرجه ابن أبي شيبة(1).
و عن طاوس اليماني ، قال : « إني لأجد في بعض الكتب الذي أنزل الله تعالى : لن ينجو مني عبد إلا بأداء ما افترضت عليه ، وما اقترب إلي عبدي بأفضل من النصيحة ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا فعل ذلك ، كنت قلبه الذي يعقل به ، وبصره الذي يبصر به ، إن سألني أعطيته ، وإن دعاني أجبته ، وإن استنصر بي نصرته » أخرجه أبواد في الزهد(2)
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (235) - (ج 13 / ص 576)(36630) والزهد والرقائق لابن المبارك (1022 ) صحيح مرسل
= برح : زال = النافلة : ما كان زيادة على الأصل الواجب
(2) - الزهد لأبي داود( 5 ) وفيه راو لم أعرفه(1/259)
و عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:مَنْ عَادَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ نَاصَبَنِي بِالْمُحَارَبَةِ , وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ كَتَرَدُّدِي عَنْ مَوْتِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ , وَرُبَّمَا سَأَلَنِي وَلِيِّي الْمُؤْمِنُ الْغِنَى , فَأَصْرِفُهُ مِنَ الْغِنَى إِلَى الْفَقْرِ , وَلَوْ صَرَفْتُهُ إِلَى الْغِنَى لَكَانَ شَرًّا لَهُ , وَرُبَّمَا سَأَلَنِي وَلِيِّي الْمُؤْمِنُ الْفَقْرَ , فَأَصْرِفُهُ إِلَى الْغِنَى , وَلَوْ صَرَفْتُهُ إِلَى الْفَقْرِ لَكَانَ شَرًّا لَهُ.إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ:وَعِزَّتِي وَجَلالِي وَعُلُوِّي وَبَهَائِي وَجَمَالِي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي لا يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوَايَ عَلَى هَوَى نَفْسِهِ إِلا أَثْبَتُّ أَجَلَهُ عِنْدَ بَصَرِهِ , وَضَمِنَتِ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ رِزْقَهُ , وَكُنْتُ لَهُ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَةِ كُلِّ تَاجِرٍ.أخرجه الطبراني .(1)
و عن أنس ، عن محمد صلى الله عليه وسلم ، عن جبريل ، عليه السلام ، عن الله ، تبارك وتعالى قال : « يقول الله تبارك وتعالى : من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، وما رددت في شيء أنا فاعله ما رددت في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، ولا بد له منه » مسند الشهاب(2)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 10 / ص 291)(12551 ) وفيه ضعف
(2) - مسند الشهاب القضاعي (1334 ) وهو صحيح لغيره(1/260)
و عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، عن ربه تعالى وتقدس قال:" يَقُولُ اللهُ تَعالى : مَن أَهَان َ لي وَلياًّ فَقد بَارَزني بِالمُحاربةِ ، وَإِنِّي لأ سرعُ شَيءٍ إِلى نُصرةِ أَوليَائي إِني لأَغضبُ لَهم كَمَا يَغضَبُ اللَّيثُ الحَربُ ، وَما تَرددتُ عَن شَيءٍ أَنا فَاعِلهُ تَرددي عَن قَبضِ رُوحِ عَبدي المُؤمِنِ وهُوَ يَكرهُ المَوتَ وَأَكرهُ مَساءتهُ وَلا بُدَّ لَهُ مِنهُ ، وَما تَعبَّدَ لي عَبدي المُؤمنُ بِمثلِ الزُّهدِ في الدُّنيَا ، وَلا تَقربَ عَبدِي المُؤمنُ بِمثلِ أَداءِ مَا افترضتُ عَليهِ ، ولاَ يَزالُ عَبدي يَتقربُ إِليَّ بِالنوافِلِ حَتى أُحبهُ ، فَإذا أَحببتهُ كُنتُ لهُ سَمعاً وَبَصراً وَيداً وموئلاً ، إِنْ سَأَلني أَعطيتهُ ، وإِنْ دَعاني أَستجيبُ لهُ ، وإِن َّمن عِبادي المُؤمنينَ لَمَن يَسأَلني البَابَ مِنَ العِبادةِ فَأَكُفهُ عَنهُ ، وَلو أَعطيتهُ إِياهُ لَدَاخلهُ العُجبُ وَأَفسدهُ ذلِكَ ، وَإِنَّ مِن عِبادي المُؤمنينَ لَمَن لاَ يَصلحُ لهُ إلا الغِنىَ وَلو أَفقرتهُ لأَفسدهُ ذلِكَ ، وَإِنَّ مِن عِبادي المؤمنينَ لَمَن لاَ يَصلحُ لهُ إِلا الفَقرُ ، ولو أَغنيتهُ لأَفسدهُ ذلكَ ، وإِنَّ مِن عِباديَ المُؤمنينَ لَمَنْ لاَ يُصلحهُ إِلا الصحةُ وَلو أَسقمتهُ لأَفسدهُ ذلِكَ وإِنَّ منْ عِباديَ المؤمِنينَ لَمَن لاَيَصلحُ لَهُ إلاَّ السُّقمُ وَلو أصححتهُ لأَفسدهُ ذلِكَ ، إِني أدبَّرُ عِبادي بِعلمِي بِقلُوبهِم ، إِني عَليمٌ خَبيرٌ " أخرجه أبو نعيم في الحلية(1)
__________
(1) - الاتحاف 8/102 و 477 9/440 وطب 8/264 ومجمع 2/248 وأخرجه ابن أبى الدنيا فى الأولياء (ص 9 ، رقم 1) ، والحكيم (2/232) ، وأبو نعيم فى الحلية (8/318) ، وابن عساكر (7/95) وموسوعة السنة النبوية - (ج 16 / ص 86)(22852 ) حسن لغيره(1/261)
و عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قال الله عز وجل : من آذى لي وليا فقد استحق محاربتي ، وما تقرب إلى عبد بمثل أداء فرائضي ، وإنه ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت رجله التي يمشي بها ، ويده التي يبطش بها ، ولسانه الذي ينطق به ، وقلبه الذي يعقل به ، إن سألني أعطيته وإن دعاني أجبته ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن موته ، وذاك أنه يكرهه وأنا أكره مساءته »أخرجه أبو يعلى .(1)
و عن عبدة بن أبي لبابة ، حدثني زِرُّ بنُ حُبيش ، سمعتُ حذيفة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إنَّ الله تعالى أوحى إليَّ : يا أخا المرسلين ، ويا أخا المنذرين أنذر قومك أنْ لا يدخلوا بيتاً من بيوتي ولأحد عندهم مظلِمَة ، فإني ألعنه ما دام قائماً بين يديَّ يُصلِّي حتى يَرُدَّ تلك الظُّلامة إلى أهلها ، فأكونَ سمعه الذي يسمع به ، وأكونَ بصره الذي يبصر به ، ويكون من أوليائي وأصفيائي ، ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة )) أخرجه أبو نعيم في الحلية .(2)
=================
المبحث الثاني
حول صحَّةِ الحديثِ وما قيل فيه والجواب عنه
قال الشيخ ناصر الدين الألبانى ( رحمه الله )(3): كنت برهة من الزمن متوقفا فى صحة هذا الحديث ، ثم تتبعت طرقه ، فتبين لى أنه صحيح بمجموعها ، وقد صححه جمع ---اهـ
قلت : كان ينبغي عليه عدم التسرع في تضعيف هذا الحديث الصحيح ،لأنه في صحيح الإمام البخاري وكفى .
__________
(1) - مسند أبي يعلى الموصلي (6930 ) وسنده واه
(2) - أخرجه أبو نعيم فى الحلية (6/116) و حلية الأولياء(ج 3 / ص 9) وقال :غريب من حديث الأوزاعي، عن عبدة. ورواه علي بن معبد، عن إسحاق بن أبي يحيى العكي، عن الأوزاعي مثله. وابن عساكر (65/44) وهو حديث حسن غريب
(3) - فى هامش صحيح الجامع ( 1782)(1/262)
وقال في الصحيحة مبيناً ذلك(1):
" قلت : و هذا إسناد ضعيف ، و هو من الأسانيد القليلة التي انتقدها العلماء على البخاري رحمه الله تعالى(2)، فقال الذهبي في ترجمة خالد بن مخلد هذا و هو القطواني بعد أن ذكر اختلاف العلماء في توثيقه و تضعيفه و ساق له أحاديث تفرد بها هذا منها : " فهذا حديث غريب جدا ، و لولا هيبة " الجامع الصحيح " لعددته في منكرات خالد بن مخلد ، و ذلك لغرابة لفظه ، و لأنه مما ينفرد به شريك ، و ليس بالحافظ ، و لم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد . و لا أخرجه من عدا البخاري ، و لا أظنه في مسند أحمد و قد اختلف في عطاء ، فقيل : هو ابن أبي رباح ، و الصحيح أنه عطاء بن يسار " اه(3)ـ
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله ردًّا عليه :(4)
__________
(1) - السلسلة الصحيحة - (ج 2 / ص 384)
(2) - قلت : انتقاد السند لا يعني بالضرورة انتقاد المتن ، فكم من ستد انتقد ، والمتن صحيح .
(3) - ميزان الاعتدال - (ج 1 / ص 641)(2463) وها مش صحيح ابن حبان - (ج 2 / ص 58)
وفي سير أعلام النبلاء (ج 19 / ص 198)
وَرَوَى البُخَارِيُّ حَدِيْثَ: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً، فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ) عَنِ ابْنِ كرَامَةَ، عَنْ خَالِدٍ.وَهُوَ غَرِيْبٌ جِدّاً، لَمْ يَرْوِهِ سِوَى ابْنِ كَرَامَةَ، عَنْهُ.
وفيها أيضاً (16/7):
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :(إِنَّ اللهَ قَالَ:مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَدْ بَارَزَنِي بِالحَرْبِ)، وَذَكَرَ الحَدِيْثَ.غَرِيبٌ جِدّاً، مَدَارُهُ عَلَى ابْنِ كرَامَةَ، قَدْ رَوَاهُ البُخَارِيُّ عَنْهُ، وَيُرْوَى شَبَهُهُ مِنْ طَرِيْقِ عَبْدِ الوَاحِدِ، عَنْ مَوْلاَهُ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ.
(4) - فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 342)(1/263)
" قُلْت : لَيْسَ هُوَ فِي مُسْنَد أَحْمَد جَزْمًا ، وَإِطْلَاق أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ هَذَا الْمَتْنُ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَرْدُودٌ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَشَرِيكٌ شَيْخُ شَيْخِ خَالِدٍ فِيهِ مَقَالٌ أَيْضًا ، وَهُوَ رَاوِي حَدِيث الْمِعْرَاج الَّذِي زَادَ فِيهِ وَنَقَصَ وَقَدَّمَ وَأَخَّرَ وَتَفَرَّدَ فِيهِ بِأَشْيَاءَ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهَا كَمَا يَأْتِي الْقَوْل فِيهِ مُسْتَوْعَبًا فِي مَكَانِهِ ، وَلَكِنْ لِلْحَدِيثِ طُرُقٌ أُخْرَى يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى أَنْ لَهُ أَصْلًا ، مِنْهَا عَنْ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي " الزُّهْد " وَابْن أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو نُعَيْم فِي " الْحِلْيَة " وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " الزُّهْد " مِنْ طَرِيق عَبْد الْوَاحِد بْن مَيْمُون عَنْ عُرْوَة عَنْهَا ، وَذَكَرَ اِبْن حِبَّانَ وَابْن عَدِيٍّ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ ، وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ إِنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوب بْن مُجَاهِد عَنْ عُرْوَة وَقَالَ : لَمْ يَرَوْهُ عَنْ عُرْوَة إِلَّا يَعْقُوب وَعَبْد الْوَاحِد . وَمِنْهَا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " الزُّهْد " بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ .(1/264)
وَمِنْهَا عَنْ عَلِيٍّ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي مُسْنَد عَلِيٍّ ، وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَسَنَدُهُمَا ضَعِيفٌ ، وَعَنْ أَنَس أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيُّ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ أَيْضًا ، وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مُخْتَصَرًا وَسَنَده حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وَعَنْ مُعَاذِ بْن جَبَلٍ أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي " الْحِلْيَة " مُخْتَصَرًا وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا ، وَعَنْ وَهْب بْن مُنَبِّهٍ مَقْطُوعًا أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي " الزُّهْد " وَأَبُو نُعَيْم فِي " الْحِلْيَة " وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى اِبْن حِبَّانَ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ إِخْرَاج حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة : لَا يُعْرَفُ لِهَذَا الْحَدِيث إِلَّا طَرِيقَانِ يَعْنِي غَيْر حَدِيث الْبَاب وَهُمَا هِشَامٌ الْكِنَانِيُّ عَنْ أَنَس وَعَبْد الْوَاحِد بْن مَيْمُون عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة وَكِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَاتِهِمْ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ ."
ثم قال الشيخ ناصر رحمه الله معقباً :(1/265)
" "هذا كله كلام الحافظ .و قد أطال النفس فيه ، و حق له ذلك ، فإن حديثا يخرجه الإمام البخاري في " المسند الصحيح " ليس من السهل الطعن في صحته لمجرد ضعف في إسناده ، لاحتمال أن يكون له شواهد تأخذ بعضده و تقويه .. فهل هذا الحديث كذلك ؟ لقد ساق الحافظ هذه الشواهد الثمان ، و جزم بأنه يدل مجموعها على أن له أصلا . و لما كان من شروط الشواهد أن لا يشتد ضعفها و إلا لم يتقو الحديث بها كما قرره العلماء في " علم مصطلح الحديث " ، و كان من الواجب أيضا أن تكون شهادتها كاملة ، و إلا كانت قاصرة ، لذلك كله كان لابد لي من إمعان النظر في هذه الشواهد أو ما أمكن منها من الناحيتين اللتين أشرت إليهما : قوة الشهادة و كمالها أو العكس ، و تحرير القول في ذلك ، فأقول : وذكر أكثر طرق الحديث .. ثم قال : و خلاصة القول : إن أكثر هذه الشواهد لا تصلح لتقوية الحديث بها ، إما لشدة ضعف إسناده ، و إما لاختصارها ، اللهم إلا حديث عائشة ، و حديث أنس بطريقيه ، فإنهما إذا ضما إلى إسناد حديث أبي هريرة اعتضد الحديث بمجموعها و ارتقى إلى درجة الصحيح إن شاء الله تعالى ، و قد صححه من سبق ذكره من العلماء . "
قلت ُ:
كان الشيخ ناصر رحمه الله يسلك مسلك المتشددين في الجرح والتعديل ، كما فاته بعض الطريق التي لم يجدها كحديث البزار وغيره مما ذكرته من قبل .
وأما قول الإمام الذهبي في الميزان والسير: فهو مردود على الذهبي رحمه الله، فليس هذا الحديث غريبا كما زعم !!(1/266)
وخالد بن مخلد إذا كان له مناكير لا يعني أن يكون هذا الحديث منها أصلا ، لأن الإمام البخاري روى له ما لم ينكر عليه ،وقد ذكر ابن عدى في ترجمته ما أنكر عليه ،ولم يذكر هذا الحديث وقال : قد اعتبرت حديثه ما روى عنه من الكوفيين محمد ابن عثمان بن كرامة ، ومن الغرباء أحمد بن سعيد الداري وعندى من حديثهما صدر صالح ، ولم أجد فى كتبه أنكر مما ذكرته ، فلعله توهما منه أو حملا على الحفظ وهو عندي إن شاء الله لا بأس به " اهـ .(1)
وقد حدَّث عن خالد كبارُ أهل العلم منهم البخاري ومسلم وابن أبى شيبة وأبو داود في مسند مالك والترمذي والنسائي وابن ماجه ..(2)
__________
(1) - الكامل في ضعفاء الرجال 3/36
(2) - راجع التهذيب 3/116-118(1/267)
فهو ثقة له أفراد ،وقد اعتمد حديث الولي وقواه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه القيم الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان(1)، بل وسائر كتبه وفتاواه(2). وذكره في الفتاوى الكبرى واحتج به في مواضع عديدة(3)، وفي الصارم المسلول(4)
وأفرده العلامة الشوكاني بكتاب ضخم تخريجاً وشرحاً في كتابه النفيس ( القطر الجلي شرح حديث الولي)(5).
__________
(1) - هذا وقد يسر الله تعالى لنا تحقيقه وهو في صيد الفوائد وغيره
(2) - انظر : مجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 225)ومجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 340)ومجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 341)ومجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 371)ومجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 390)ومجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 463)ومجموع الفتاوى - (ج 3 / ص 416)ومجموع الفتاوى - (ج 5 / ص 511)ومجموع الفتاوى - (ج 6 / ص 483) ومجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 442) ومجموع الفتاوى - (ج 8 / ص 143) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 7) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 305) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 682) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 755) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 23) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 61) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 75) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 159) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 179) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 314) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 332) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 516) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 549) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 619) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 665) ومجموع الفتاوى - (ج 17 / ص 133) ومجموع الفتاوى - (ج 25 / ص 316)
(3) - انظرها الفتاوى الكبرى - (ج 1 / ص 207) والفتاوى الكبرى - (ج 3 / ص 179) والفتاوى الكبرى - (ج 7 / ص 396) والفتاوى الكبرى - (ج 10 / ص 381)
(4) - انظر الصارم المسلول - (ج 1 / ص 172) والصارم المسلول - (ج 1 / ص 388)
(5) - وهو مطبوع ومحقق وأخذت به رسالة دكتوراه من الأزهر .(1/268)
بل هو مما تلقته الأمةُ بالقبولِ ، واحتجَّ به جميعُ الأئمة دون نكير ، فيكون إجماعاً على صحَّتهِ .(1)
==============
المبحث الثالث
الدفاعُ عن صحيحي البخاري ومسلم(2)
__________
(1) - انظر على سبيل المثال :الفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 9 / ص 158) و الحاوي للفتاوي للسيوطي - (ج 2 / ص 34)القول الجلي في حديث الولي ولقاءات الباب المفتوح - (ج 59 / ص 12) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 66 / ص 19) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 8 / ص 252) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 10 / ص 220) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 14 / ص 149) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1908) سؤال رقم 21170 وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1973)سؤال رقم 21371 وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 048)
سؤال رقم 21565 وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 2974) سؤال رقم 2723 وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 3115)سؤال رقم 31762 وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 3318)سؤال رقم 34171 وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 4909)سؤال رقم 4983 وفتاوى ابن حجر الهيثمى - (ج 6 / ص 12) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 1098)رقم الفتوى 2944 فقد ذكره في أكثر من أربع وعشرين مرة وفتاوى إسلامية - (ج 1 / ص 185) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 2 / ص 63) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 2 / ص 186) والموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 32 / ص 153) والموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 33 / ص 104) والموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 39 / ص 232) والموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 41 / ص 101)
(2) - انظر فتاوى يسألونك - (ج 7 / ص 247)فما بعدها = دفاع عن صحيحي البخاري ومسلم و وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 2014) =رقم الفتوى 13678 دفاع عن صحيحي البخاري ومسلم =تاريخ الفتوى : 29 ذو القعدة 1424(1/269)
إن الله عز وجل حفظ دينه من عبث العابثين، وكيد الكائدين، وتمثل هذا الحفظ في صور عديدة وأشكال مختلفة، ولا يخفى هذا الأمر على منصف خلع العصبية المقيتة، وتحلَّى بالعدل الذي هو ميزة العقلاء، فإن كتاب الله قال الله عنه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].
فهذا المصحف الذي نسخ منه مئات الملايين من النسخ، وعبر الأزمان المتفاوتة، منذ نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا وهو مع كل هذا محروس من الزيادة والنقصان، فلو أخذ إنسان نسخاً من القرآن من مكتبات الدنيا كلها لوجدها متفقة لا اختلاف بينها.
أما السنة النبوية التي هي بمثابة الشرح للقرآن، فقد هيأ الله من يحفظها من جهابذة الرجال، الذين بذلوا أنفسهم لهذا الشأن العظيم من أمثال الإمام البخاري الذي قال عنه أَبو الطَّيِّبُ حَاتِمُ بنُ مَنْصُوْرٍ الكِسِّيُّ : مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي بصرِهِ وَنفَاذِهِ مِنَ العِلْمِ .(1)
وقال رجاء الحافظ: فَضْلُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ عَلَى العُلَمَاءِ كفضلِ الرِّجَالِ عَلى النِّسَاءِ.
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، كُلُّ ذَلِكَ بِمَرَّةٍ؟!
فَقَالَ: هُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ يَمْشِي عَلَى ظَهرِ الأَرْضِ..(2)
ويقول محمد بن إسحاق بن خزيمة: مَا رَأَيْتُ تَحْتَ أَديمِ السَّمَاءِ أَعْلَمَ بِحَدِيْثِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَحْفَظَ لَهُ مِنْ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ(3).
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (12/428)
(2) - سير أعلام النبلاء (12/428)
(3) - تاريخ دمشق - (ج 52 / ص 65) وسير أعلام النبلاء (12/432) و تاريخ الإسلام للذهبي - (ج 5 / ص 14) وتاريخ الإسلام للذهبي - (ج 5 / ص 17)(1/270)
ولقد كثرت السهام التي توجه للإسلام وللقضايا المسلَّمة عند جماهير علماء الأمة في هذا الزمان ،وهذه الهجمات ليست جديدة ولا يستبعد أن تكون هنالك أيدٍ خفيةً تحرك مثل هذه الدعوات المغرضة لتشكيك المسلمين عامة وطلبة العلم الشرعي خاصة في قضايا صارت من القطعيات في دين الإسلام كقول بعض من ينسب للعلم الشرعي إن السنة ليست مصدراً للتشريع ويجب الاكتفاء بما في القرآن الكريم ، وكقول بعضهم إنه لا يوجد حديث واحد قاله النبي - صلى الله عليه وسلم – بلفظه، بل كل ما ورد إنما هو بالمعنى ، وكقول بعضهم: إن أصول الفقه بدعة وإنه لا قياس في الشرع ونحو ذلك من الترهات والخزعبلات .
وقد تصدى العلماء للرد على هذه القضايا وأمثالها قديماً وحديثاً ولا يتسع المقام لكل ذلك فلعلي أذكر شيئاً يسيراً في إبطال الفرية المذكورة :
لقد اتفق علماء الأمة قديماً وحديثاً على أن صحيح الإمام البخاري وصحيح الإمام مسلم هما أصحُّ كتابين بعد كتاب الله عز وجل ،وأن الأحاديث المسندة المتصلة المذكورة فيهما أحاديث صحيحة ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال الإمام النووي رحمه الله :[ اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصحَّ الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول . وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة . وقد صحَّ أن مسلماً كان ممن يستفيد من البخاري ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث ](1).
وقال الإمام النسائي:[ ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب البخاري ] المصدر السابق .
وقال ابن الصلاح:[ أول من صنف في الصحيح ، البخاري أبو عبد الله محمد بن إسماعيل وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري ومسلم مع أنه أخذ عن البخاري واستفاد منه فإنه يشارك البخاري في كثير من شيوخه وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز ](2).
__________
(1) - شرح النووي على صحيح مسلم 1/24
(2) - هدي الساري ص12(1/271)
ويقول الشهرزوري: جميع ما حكم مسلم بصحته من هذا الكتاب فهو مقطوع بصحته، والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر، وهكذا ما حكم البخاري بصحته في كتابه، وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول، سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه في الإجماع، والذي نختاره أن تلقي الأمة للخبر المنحط عن درجة التواتر بالقبول يوجب العلم النظري بصدقة.(1)
ويقول أبو المعالي الجويني: لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق ولا حنثته لإجماع علماء المسلمين على صحتهما.(2)
وقال الذهبي :[ وأما جامع البخاري الصحيح فأجل كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله تعالى ](3).
وقال ولي الله الدهلوي :[ أما الصحيحان فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأن كل من يهون أمرهما فهو مبتدع متبع غير سبيل المؤمنين ](4).
وقال العلامة أحمد محمد شاكر :[ الحق الذي لا مرية فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين وممن اهتدى بهديهم وتبعهم على بصيرة من الأمر : أن أحاديث الصحيحين صحيحة كلها . ليس في واحد منها مطعن أو ضعف . وإنما انتقد الدارقطني وغيره من الحفاظ بعض الأحاديث . على معنى أن ما انتقدوه لم يبلغ في الصحة الدرجة العليا التي التزمها كل واحد منهما في كتابه . وأما صحة الحديث في نفسه فلم يخالف أحد فيها . فلا يهولنك إرجاف المرجفين . وزعم الزاعمين أن في الصحيحين أحاديث غير صحيحة وتتبع الأحاديث التي تكلموا فيها وانقدها على القواعد الدقيقة التي سار عليها أئمة أهل العلم واحكم عن بينة . والله الهادي إلى سواء السبيل](5).
__________
(1) - انظر صيانة صحيح مسلم: 1/85.
(2) - صيانة صحيح مسلم: 1/86.
(3) - الحطة في ذكر الصحاح الستة ص312
(4) - حجة الله البالغة 1/249
(5) - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث ص35(1/272)
وقال الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله :[ كيف والصحيحان هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى باتفاق علماء المسلمين من المحدثين وغيرهم فقد امتازا على غيرهما من كتب السنة بتفردهما بجمع أصح الأحاديث الصحيحة وطرح الأحاديث الضعيفة والمتون المنكرة على قواعد متينة وشروط دقيقة وقد وفقوا في ذلك توفيقاً بالغاً لم يوفق إليه من بعدهم ممن نحا نحوهم في جمع الصحيح؛ كابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم ،حتى صار عرفاً عاماً أن الحديث إذا أخرجه الشيخان أو أحدهما فقد جاوز القنطرة ودخل في طريق الصحة والسلامة . ولا ريب في ذلك وأنه هو الأصل عندنا ](1).
وبعد أن ذكرت هذه الباقة العطرة من أقوال أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين في الثناء على الصحيحين فيجب أن يعلم أن هؤلاء العلماء وغيرهم لم يطلقوا هذه الأحكام على الصحيحين جزافاً، وإنما جاءت هذه الأحكام بعد أن درسوا الصحيحين دراسة واعية على بصيرة وهدى . فقد درس آلاف العلماء من الحفاظ وغيرهم أسانيد البخاري ومسلم دراسة مستفيضة فوصلوا إلى ما وصلوا إليه وهو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال ؟.
فالأحاديث المرفوعة في الصحيحين أو أحدهما صحيحة بدون أدنى شك ،وأما الحديث المتفق عليه فهو ما اتفق البخاري ومسلم على روايته في صحيحيهما والحديث المتفق عليه هو أعلى درجة من درجات الحديث الصحيح .
قال الإمام النووي :[ الصحيح أقسام أعلاها ما اتفق عليه البخاري ومسلم ثم ما انفرد به البخاري ثم مسلم ثم على شرطهما ثم على شرط البخاري ثم مسلم ثم صحيح عند غيرهما ](2).
وقال الشوكاني :[ واعلم أن ما كان من الأحاديث في الصحيحين أو أحدهما جاز الاحتجاج به من دون بحث، لأنهما التزما الصحة وتلقت ما فيهما الأمة بالقبول ](3).
__________
(1) - مقدمة الألباني لشرح العقيدة الطحاوية ص14-15
(2) - تدريب الراوي شرح التقريب 1/122-123
(3) - نيل الأوطار 1/22(1/273)
وينبغي أن يعلمَ أن من أهل العلم من انتقد على الصحيحين أو أحدهما أحاديث كالدارقطني وقد فصلَّ الحافظُ ابن حجر الكلام على الأحاديث المنتقدة على صحيح البخاري في الفصل الثامن من مقدمته لفتح الباري ،والمسماة هدي الساري ،فذكر الأحاديث المنتقدة ،وأجاب عليها جواباً إجمالياً وجواباً مفصلاً فقال في الأول منهما :[ والجواب عنه على سبيل الإجمال أن نقول لا ريب في تقديم البخاري ثم مسلم على أهل عصرهما ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل . فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضاً لتصحيحهما ،ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة ](1). ثم ذكر الجواب التفصيلي عن كل حديث انتقد على البخاري .
وخلاصة الأمر أنَّ مَنْ طعن في أحاديث البخاري ومسلم فكلامه مردود عليه، حيث إنَّ أهل هذا الشأن من الحفاظ وأهل الحديث أجابوا عن ذلك أجوبة قاطعة واضحة . وإنَّ الطعن في البخاري ومسلم ما هو إلا طعنٌ في السنَّة النبوية ،ومن يطعن في السنة النبوية يخشى عليه من الزندقة .اهـ
وبعض المبتدعة يرد نصوص السنة بحجة أنها آحاد لا يلزمه اتباعها، أو ظنية الدلالة فلا يلزمه قبولها، وهو بذلك يحرم نفسه نور الوحي، وهدي الله.
فإن القرآن وإن كان قطعي الثبوت، فأكثره ظني الدلالة، والسنة أكثرها ظني الدلالة ظني الثبوت، فمن اشترط للاحتجاج بالأدلة أن تكون قطعية الثبوت والدلالة، فقد رد معظم الشريعة، وناقض إجماع الأمة.
__________
(1) - هدي الساري ص 506(1/274)
يقول الإمام ابن عبد البر في التمهيد(1): "وأجمع أهل العلم من أهل الفقة والأثر في جميع الأمصار فيما علمت على قبول خبر الواحد العدل، وإيجاب العلم به إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع، على هذا جمع الفقهاء في كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج، وطوائف من أهل البدع شرذمة لا تعد خلافاً، وقد أجمع المسلمون على جواز قبول الواحد السائل المستفتي لما يخبره به العالم الواحد إذا استفتاه فيما يعلمه".
وقال أيضاً:" الذي نقول به أنه يوجب العمل دون العلم، كشهادة الشاهدين والأربعة سواء، وعلى ذلك أكثر أهل الفقه والأثر وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعاً وديناً في معتقده. على ذلك جماعة أهل السنة".
وقال الإمام القرطبي في تفسيره(2): "وهو مجمع عليه (أي قبول خبر الآحاد) من السلف معلوم بالتواتر من عادة النبي صلى الله عليه وسلم في توجيهه ولاته ورسله آحاداً للأفاق ليعلموا الناس دينهم، فيبلغوهم سنة رسولهم صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي. والله أعلم.
---------
الشَّكُّ في أحاديث الصحيحين(3)
إن التعامل مع الصحيحين الذي ورد طرف منه في السؤال يجب التفريق فيه بين من له دراية بعلم الحديث وأهليته، وبين عامة الناس، بل ربما يقال حتى من طلبة العلم الذين ليس لديهم الأهلية في علم الحديث.
فأما المشتغلون بعلم الحديث فهؤلاء لهم أن يناقشوا قبول أي حديث حتى وإن كان في الصحيحين، ولكن ليس ببدعٍ من القول، وإنما على ضوء القواعد الحديثية المعروفة، ومن خلال كلام من تقدم من أهل العلم، وقد أشار الحافظ ابن حجر -رحمه الله- إلى ذلك في (مقدمة فتح الباري) وذكر أمثلة من الأحاديث المنتقدة على الصحيح، والإجابة عنها.
__________
(1) - (1/2)
(2) - (2/152)
(3) - انظر : فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 1 / ص 488)= الشك في أحاديث الصحيحين =المجيب د. فهد بن عبدالرحمن اليحيى(1/275)
ومن أوائل من انتقد بعض أحاديث الصحيحين الإمام الدار قطني -رحمه الله- في (الإلزامات والتتبع).
ومع هذا الذي ذكرت فإنني أنبه إلى أمور:
1- أن طالب العلم لا ينبغي له التعجل في هذا الباب والاستقلال بالحكم، فإن للصحيحين من المنزلة وتلقي الأمة لهما بالقبول ما ليس لغيرهما، ولذا فإنك تجد من علماء الحديث من لم يسلّم بهذه الانتقادات كلها سوى مواضع يسيرة منها كابن الصلاح، والنووي، وابن حجر وآخرين.2- أن الانتقاد الوارد على الصحيحين إنما هو في أحاديث معدودة نسبتها ضئيلة إلى جانب مجموع ما فيهما، ومع ذلك فكثير منها قد أجيب عنه كما تقدم.
3-أن ما يمكن انتقاده على الصحيحين يكاد أن يكون قد فرغ منه، فقد مضى على تأليف الصحيحين أكثر من ألف عام، وما من حديث قد يتطرق إليه الانتقاد إلا ذُكر خلال هذه المدة، وستجد في المقابل من يجيب عن الانتقاد سواء كان ذلك من جهة السند أو المتن.
4- -وهو أمر مهم- أن الغالب في الانتقادات الواردة كانتقادات الدارقطني -رحمه الله- إنما هو من جهة السند الذي ساقه صاحب الصحيح، مع أن متن الحديث ثابت من طرق أخرى، وكثير منها يسلّم به المنتقِد كالدارقطني. فإذاً لا يلزم من توجيه الانتقاد إلى حديث ما في أحد الصحيحين عدم ثبوته من وجه آخر.
5- أن النظر العقلي المحض وردّ الروايات الصحيحة بدعوى مخالفتها للعقل -فحسب- ليس من منهج أهل السنة، فإنهم -وإن كانوا قد يناقشون المتن منفرداً عن السند- بيد أنهم لا يطلقون العنان للعقل المجرد كي يردّ ما شاء من صحيح المنقول، وإنما تَرِدُ المناقشة عندهم في المتن -حين يقتضي الحال ذلك- على ضوء النصوص الأخرى والقواعد الحديثية والأصولية والفقهية.
ولئن كان هذا في شأن أهل العلم، فهو في حق العامة أولى، إذ ليس لهم أن يردوا الأحاديث بدعوى عدم موافقتها للعقل، وأي عقل هذا الذي يتحاكم إليه؟ فإن عقول الناس وفهومهم مختلفة متفاوتة!(1/276)
هذا ما يتعلق بالمتخصصين في هذا العلم.
أما غيرهم -لا سيما عامة الناس- فلا يجوز لهم الخوض في قضية القبول والرفض لما في الصحيحين، بل عليهم أن يأخذوا بالأصل، وهو: قبول ما في الصحيحين، لتلقي الأمة لهما بالقبول والتسليم بصحة ما فيهما في الجملة. والله -تعالى- أعلم.
-------------
هل في البخاري أحاديث ضعفها الألباني رحمه الله ؟(1)
"نعم.. لقد ضعَّف الشيخ الألباني أحاديث قليلة جداً في صحيح البخاري، ولكن لا يلزم من تضعيف الشيخ لها أن تكون ضعيفة بالفعل، بل قد تكون صحيحة كما ذهب إلى ذلك البخاري من قبل، وقد تكون ضعيفة فعلاً. فتضعيف الشيخ الألباني - عليه رحمة الله- اجتهاد منه، قابل للقبول والرد.
لكن العلماء قد نصوا أن أحاديث الصحيحين (صحيح البخاري وصحيح مسلم) كلها مقبولة، إلا أحاديث يسيرة انتقدها بعض النقاد الكبار، الذين بلغوا رتبة الاجتهاد المطلق في علم الحديث. وأن ما سوى تلك الأحاديث اليسيرة، فهي متلقاة بالقبول عند الأمة جميعها.
وبناء على ذلك: فإن الحديث الذي يضعفه الشيخ الألباني في صحيح البخاري له حالتان: الأولى: أن يكون ذلك الحديث الذي ضعفه الألباني قد سبقه إلى تضعيفه إمام مجتهد متقدم، فهذا قد يكون حكم الشيخ الألباني فيه صواباً، وقد يكون خطأ، وأن الصواب مع البخاري.
الثانية: أن يكون الحديث الذي ضعفه الألباني لم يسبق إلى تضعيفه، فهذا ما لا يقبل من الشيخ -رحمه الله-؛ لأنه عارض اتفاق الأمة على قبول ذلك الحديث (كما سبق). والله أعلم."
قلت : هذا هو الصواب .
-----------
تضعيفُ الأحاديث الصحيحة شذوذ عن العلماء
__________
(1) - انظر فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 1 / ص 484) = هل في البخاري أحاديث ضعيفة =المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 2452)= رقم الفتوى 43428 المراد ليس الطعن في بعض أحاديث البخاري بل أمور أخطر بكثير
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى(1/277)
قال العلامة ابن باز رحمه الله(1):
"إنَّ هذا شذوذ عن العلماء لا يعول عليه إلا في أشياء يسيرة عند مسلم - رحمه الله - نبه عليها الدارقطني وغيره ، والذي عليه أهل العلم هو تلقي أحاديث الصحيحين بالقبول والاحتجاج بها كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر والحافظ ابن الصلاح وغيرهما ، وإذا كان في بعض الرجال المخرج لهم في الصحيحين ضعفٌ، فإن صاحبي الصحيح قد انتقيا من أحاديثهم ما لا بأس به ، مثل : إسماعيل بن أبي أويس ، ومثل عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وجماعات فيهم ضعف لكن صاحبي الصحيح انتقيا من أحاديثهم ما لا علة فيه ؛ لأنَّ الرجل قد يكون عنده أحاديث كثيرة فيكون غلط في بعضها أو رواها بعد الاختلاط إن كان ممن اختلط ، فتنبه صاحبا الصحيحين لذلك فلم يرويا عنه إلا ما صحَّ عندهما سلامته .
والخلاصة: أن ما رواه الشيخان قد تلقته الأمة بالقبول ،فلا يسمع كلام أحد في الطعن عليهما رحمة الله عليهما سوى ما أوضحه أهل العلم كما تقدم.. والله ولي التوفيق ".
==================
المبحثُ الرابع
مفهوم الولاية في القرآن الكريم
قال تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} [البقرة/257]
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن باز - (ج 25 / ص 69) =13=س : ما موقفنا ممن يضعف أحاديث في صحيح مسلم أو صحيح البخاري ؟(1/278)
أي :اللهُ وَليُّ الذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَهُ ، فَيُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الكُفْرِ والشَّكِّ وَالرَّيبِ إلى نُورِ الحَقِّ الوَاضِحِ . وَالمُؤْمِنُ لاَ وَليَّ لَهُ ، وَلاَ سُلْطَانَ لأَحَدٍ عَلَى اعْتِقَادِهِ إِلاَّ اللهُ تَعَالَى . أَمَّا الذِينَ كَفَرُوا فَوَلِيُّهُمُ الشَّيْطَانُ ، يُزَيِّنُ لَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ وَالجَهَالَةِ ، وَيُخْرِجَهُمْ عَنْ طُرِيقِ الحَقِّ وَنُورِهِ ، إِلى الكُفْرِ وَظُلُمَاتِهِ ، وَيُؤدِّي بِهِمْ إلى نَارِ جَهَنَّمَ لِيَبْقَوا فِيها خَالِدِينَ أَبدَاً . وَالنُّورُ هُوَ الحَقُّ ، وَالحَقُّ وَاحِدٌ ، أمَّا الظُّلُمَاتُ وَهِيَ الكُفْرُ فَهِيَ أجْنَاسٌ .
وقال تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) }[المائدة/55، 56]
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (71) سورة التوبة
يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى مُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ ، الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ ، وَيُسَاعِدُونَ المُحْتَاجِينَ مِنَ الضُعَفَاءِ وَالمَسَاكِينِ ، وَهُمْ دَائِمُونَ الرُّكُوعِ للهِ .
( نَزَلْت هَذِهِ الآيَةُ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ حِينَ بَرِئ مِنْ مُوَالاةِ اليَهُودِ ، وَرَضِيَ بِمُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ ) .(1/279)
وَكُلُّ مَنْ رَضِي بِمُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤمِنِينَ هُوَ مُفْلِحٌ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ، وَهُوَ مَنْصُورٌ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ، لأنَّهُ يَكُونُ فَِي حِزْبِ اللهِ ، وَحِزْبِ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ ، وَلاَ يُغْلَبُ مَنْ يَتَوَالاَّهُمُ اللهُ .(1)
وقال تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (11) سورة محمد
لقَدْ دَمَّرَ اللهُ عَلَى الكَافِرينَ ، وَنَجَّى المُؤْمِنينَ وَأَظْهَرَهُمْ عَلَى الكَافِرينَ ، لأنَّ اللهَ مَوْلى الذِينَ آمَنُوا وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ وأطَاعُوهُ ، وَهُوَ نَاصِرُهُمْ وَحَافِظُهُمْ ، وَلأنَّ الكَافِرينَ لاَ ناصِرَ لَهُمْ فَيَدْفَعُ عَنْهُمُ العُقًُوبَةَ وَالعَذَابَ .(2)
وقال تعالى : {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} (6) سورة الأحزاب
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 726) والتفسير الميسر - (ج 2 / ص 229) وتفسير السعدي - (ج 1 / ص 236)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 4435) والتفسير الميسر - (ج 9 / ص 171) وتفسير السعدي - (ج 1 / ص 785)(1/280)
جَعَلَ اللهُ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم أَوْلى بِالمُؤْمِنينِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَولاَيَتَهُ مُقَدَّمَةً عَلَى وِلاَيَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، لأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لاَ يَأَمُرُهُمْ إِلاَّ بِمَا فِيهِ خَيْرُهُمْ وَصَلاَحُهُمْ ، أَمَّا النَّفْسُ فَأَمَّارَةٌ بالسُّوءِ ، وَقَدْ تَجْهَلُ بَعْضَ المَصَالِحِ . وَجَعَلَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ فِي مَقَامِ الأُمّهَاتِ لِلْمُؤْمِنينَ فِي الحُرْمَةِ والاحتِرَامِ . وَكَانَ التَّوَارُثُ فِي بَدْءِ الإِسْلامِ بِالحِلْفِ وَالمُؤَاخَاةِ بَينَ المُسلِيِمينَ ، فَكَانَ المُتآخِيَانِ يَتَوَأرَثَانِ ( وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَينِ نَسَباً ) دُونَ سَائِرِ الأَقْرِبَاءِ ، فَأَبْطَلَ اللهُ تَعَالى هذا التَّعَامُلَ فِي هذهِ الآيةِ ، وَرَدَّ المِيرَاثَ إِلى أَقْرِبَاءِ النَّسَبِ ، فَجَعَلَ أُولِي الأَرْحَامِ بِحَقِّ القَرَابَةِ ، أَولى بالمِيراثِ مِنَ المُؤمِنينَ بِحَقِّ الدِّينِ ، والمُهَاجِرِينَ بِحَقِّ الهِجْرَةِ . واسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنْ هذا الحُكْمِ الوَصِيَّةَ ( المَعْرُوفَ ) ، التي يُريدُ أَحَدُهُمْ أَنْ يُوصِيَ بِها إِلى أَحَدِ المُهَاجِرِينَ والمُؤْمِنينَ ( أَوْلِيَائِكُمْ ) فَإِنَّهُ فِي هذِهِ الحَالِ يَسْتَحِقُّها دُونَ ذَوِي الحُقُوقِ فِي المِيراثِ مِنْ أَقْرِبَاءِ النّضسَبِ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالى : إِنَّ جَعْلَ ذَوِي الأَرْحَامِ بَعْضَهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ في المِيراثِ هُوَ حُكْمٌ قَدَّرَهُ الله تَعَالَى ، وَأَثْبَتَهُ فِي كِتَابِهِ الذِي لاَ يُبَدِّلُ وَلاَ يُغَيَّرُ .(1)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 3420) وتفسير السعدي - (ج 1 / ص 659)(1/281)
وقال تعالى : { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) } [يونس/62-63{
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ ، وَهُمُ الذِينَ آمَنُوا وَاتَّقَوا وَأَخْلَصُوا العِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ ، وَالتَّوَكُلَ عَلَيْهِ ، لاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ مِمَّا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَهْوَالِ الآخِرَةِ ، وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا .
وَيَقُولُ تَعَالَى مُعَرِّفاً ( أَوْلِيَاءَ اللهِ ) : بِأَنَّهُمُ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ ، وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَكَانُوا يَتَّقُونَ اللهَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ ، وَيُرَاقِبُونَهُ فِي سِرِّهِمْ وَعَلاَنِيَّتِهِمْ ، فَلاَ يَقُومُونَ إِلاَّ بِمَا يُرْضِي اللهَ رَبَّهُمْ .(1)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 1428) وتفسير السعدي - (ج 1 / ص 368)
وكيف يخاف أولياء الله أو يحزنون والله معهم هكذا في كل شأن وفي كل عمل وفي كل حركة أو سكون ? وهم أولياء الله , المؤمنون به الأتقياء المراقبون له في السر والعلن:(الذين آمنوا وكانوا يتقون) . .كيف يخافون وكيف يحزنون , وهم على اتصال بالله لأنهم أولياؤه ? وعلام يحزنون ومم يخافون , والبشرى لهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ? إنه الوعد الحق الذي لا يتبدل - لا تبديل لكلمات الله -:
(
ذلك هو الفوز العظيم) . .إن أولياء الله الذين يتحدث عنهم السياق هم المؤمنون حق الإيمان المتقون حق التقوى . والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل . والعمل هو تنفيذ ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه . . هكذا يجب أن نفهم معنى الولاية لله . لا كما يفهمه العوام , من أنهم المهبولون المخبولون الذين يدعونهم بالأولياء ! "في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 252)(1/282)
وقال تعالى : {إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} (196) سورة الأعراف
إِنَّ اللهَ حَسْبِي ، وَهُوَ مُتَوَلِّي أَمْرِي وَنَاصِرِي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَهُوَ يَتَولَّى نَصْرَ كُلِّ صَالِحٍ مِنْ عِبَادِهِ ، وَهُوَ الذِي نَزَّل القُرْآنَ بِالحَقِّ عَلَيَّ ( الكِتَابَ ) .(1)
__________
(1) - التفسير الميسر - (ج 3 / ص 157) وأيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 1151)
إنه لا بد لصاحب الدعوة إلى الله أن يتجرد من أسناد الأرض ; وأن يستهين كذلك بأسناد الأرض . .
إنها في ذاتها واهية واهنة , مهما بدت قوية قادرة:(يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له:إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له , وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه . ضعف الطالب والمطلوب !) . .(مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً , وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون !) . .
وصاحب الدعوة إلى الله يرتكن إلى الله . فما هذه الأولياء والأسناد الأخرى إذن ? وماذا تساوي في حسه ; حتى لو قدرت على أذاه ?!إنما تقدر على أذاه بإذن ربه الذي يتولاها . لا عجزاً من ربه عن حمايته من أذاها _ سبحانه وتعالى _ ولا تخلياً منه سبحانه عن نصرة أوليائه . . ولكن ابتلاء لعباده الصالحين للتربية والتمحيص والتدريب . واستدراجاً لعباده الطالحين للإعذار والإمهال والكيد المتين !
لقد كان أبو بكر - رضي الله عنه - يردد , والمشركون يتناولونه بالأذى ; ويضربون وجهه الكريم بالنعال المخصوفة يحرفونها إلى عينيه ووجهه , حتى تركوه وما يعرف له فم من عين ! . . كان يردد طوال هذا الاعتداء المنكر الفاجر على أكرم من أقلت الأرض بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم:" رب ما أحلمك ! رب ما أحلمك ! رب ما أحلمك ! . . . " كان يعرف في قراره نفسه ما وراء هذا الأذى من حلم ربه ! لقد كان واثقاً أن ربه لا يعجز عن التدمير على أعدائه ; كما كان واثقاً أن ربه لا يتخلى عن أوليائه !
ولقد كان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول , وقد تناوله المشركون بالأذى - لأنه أسمعهم القرآن في ناديهم إلى جوار الكعبة - حتى تركوه وهو يترنح لا يصلب قامته ! . . كان يقول بعد هذا الأذى المنكر الفاجر الذي ناله:"والله ما كانوا أهون عليّ منهم حينذاك ! " . . كان يعرف أنهم يحادون الله - سبحانه - وكان يستيقن أن الذي يحاد الله مغلوب هين على الله . فينبغي أن يكون مهيناً عند أولياء الله .
ولقد كان عبد الله بن مظعون - رضي الله عنه - يقول , وقد خرج من جوار عتبة بن ربيعة المشرك , لأنه لم يستسغ لنفسه أن يحتمي بجوار مشرك فكيف عنه الأذى , وإخوان له في الله يؤذون في سبيل الله . وقد تجمع عليه المشركون - بعد خروجه من جوار عتبة - فآذوه حتى خسروا عينه . . كان يقول لعتبة وهو يراه في هذه الحال فيدعوه أن يعود إلى جواره:" لأنا في جوار من هو أعز منك ! " . . وكان يرد على عتبة إذ قال له:" يا ابن أخي لقد كانت عينك في غنى عمَّا أصابها ! " . . يقول:" لا والله . وللأخرى أحق لما يصلحها في سبيل الله ! " . . كان يعلم أن جوار ربه أعز من جوار العبيد . وكان يستيقن أن ربه لا يتخلى عنه , ولو تركه يؤذى في سبيله هذا الأذى لترتفع نفسه إلى هذا الأفق العجيب:" لا والله . وللأخرى أحق لما يصلحها في سبيل الله " . .
هذه نماذج من ذلك الجيل السامق الذي تربى بالقرآن في حجر محمد صلى الله عليه وسلم في ظلال ذلك التوجيه الرباني الكريم:(قل:ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون . إن وليي الله الذي نزل الكتاب , وهو يتولى الصالحين) . .
ثم ماذا كان بعد هذا الأذى الذي احتملوه من كيد المشركين . وهذا الاعتصام بالله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ?
كان ما يعرفه التاريخ ! كانت الغلبة والعزة والتمكين لأولياء الله . وكانت الهزيمة والهوان والدثور للطواغيت الذين قتلهم الصالحون . وكانت التبعية ممن بقي منهم - ممن شرح الله صدره للإسلام - لهؤلاء السابقين , الذين احتملوا الأذى بثقة في الله لا تتزعزع , وبعزمة في الله لا تلين !
إن صاحب الدعوة إلى الله - في كل زمان وفي كل مكان - لن يبلغ شيئاً إلا بمثل هذه الثقة , وإلا بمثل هذه العزمة , وإلا بمثل ذلك اليقين:(إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) . .في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 201)(1/283)
- - - - - - - - - - - - -
المبحثُ الخامسُ
الحديثُ القدسيُّ والفرق بينه وبين الحديث العادي
الحديث القدسي فهو نسبة إلى القدس، وهي نسبة تدل على التعظيم والتنزيه والتطهير.
فالحديثُ القدسيُّ :ما كان لفظه من النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه من الله تعالى، أو هو ما أخبر الله نبيه بالإلهام أو المنام، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك المعنى بعبارة من نفسه.
وقد اختلف العلماء هل ألفاظه من عند الله تبارك وتعالى؟ أم المعنى فقط؟ وعبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه.
ويلحق بهذين النوعين من الوحي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم معبراً عن معنى أوحي إليه أو مبيناً للقرآن الكريم، ولهذا قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [لنجم:3-4].
والحديث القدسي حكمه حكم الحديث النبوي، فمنه: الصحيح، والحسن، والضعيف...
ومثاله ما ورد في البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى ،(1)وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِى ، فَإِنْ ذَكَرَنِى فِى نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى ، وَإِنْ ذَكَرَنِى فِى مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِى مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا ، وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً »(2).
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 4346)= رقم الفتوى 24371 الحديث القدسي...معناه..والفرق بينه وبين القرآن
(2) - صحيح البخارى (7405 )(1/284)
وتعريف الحديث النبوي: هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير ونحوها من أوصاف خَلقية أو خُلقية أو همِّ.(1)
فالحديث القدسي هو: ما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى بألفاظه، ولكن دون التعبد بهذه الألفاظ، وليس للتحدي والإعجاز.
وعلى هذا، فالكل من عند الله، ولكن القرآن متعبد بألفاظه لا تصح الصلاة إلا به، وهو المعجزة الكبرى التي تحدى الله بها الخلق أجمعين، قال تعالى: )قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء:88].
وبين الحديث القدسي والقرآن عدة فروق منها(2):
1. أن القرآن الكريم كلام الله لفظاً ومعنى، أما الحديث القدسي فذهب بعض أهل العلم إلى أنه كلام الله لفظاً ومعنى لكنه يختلف عن القرآن في طريقة تبليغه وعن الواسطة فيه وهو جبريل عليه السلام، بحيث يكون بالإلهام أو الإلقاء في الروع أو حال المنام أو غيرها من طرق الوحي غير المجلَّى، وذهب آخرون إلى القول المشهور وهو أن الحديث القدسي معناه من الله ولفظه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - واختاره عامة المؤلفين في القرآن وعلومه.
2. أن القرآن متواتر كله فهو قطعي الثبوت، أما الحديث القدسي فمنه الصحيح والضعيف والموضوع، ووصفه بقدسي راجع إلى منزلته فلا يعني بالضرورة ثبوت كل مروي فيه، إذ إن موضوع الصحة والضعف المدار فيه على السند وقواعد القبول والرد المعروفة عند المحدثين.
3. أن الحديث القدسي تجوز روايته بالمعنى، أما القرآن فلا يجوز فيه ذلك.
__________
(1) -انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 4995) =رقم الفتوى 18457 تعريف الحديث القدسي والنبوي =تاريخ الفتوى : 20 ربيع الثاني 1423
(2) - انظر فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 1 / ص 474) = الفرق بين القرآن والحديث القدسي(1/285)
4. أن القرآن متعبد بتلاوته فكل حرف بحسنة والحسنة بعشر أمثالها كما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -(1).
5. القرآن معجز بلفظه ومعناه، أما الحديث القدسي فليس كذلك.
6. القرآن تحدى الله به العرب - بل العالمين - أن يأتوا بمثله، وأما الحديث القدسي فليس فيه تحد،
7. ومن خصائص القرآن الكريم أنه لا يجوز مسه إلا لطاهر.
والحاصلُ أن الفرق بين القرآن والحديث القدسي يتَّضحُ في كون القرآن نزل للإعجاز وللتعبد، وليس الحديث القدسي كذلك..
قال العلامة الشهاب ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين النووية في شرح الحديث الرابع والعشرين المسلسل بالدمشقيين وهو حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي فيما يرويه عن ربه تعالى أنه قال:(( يَا عِبَادِى إِنِّى حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا..)):(2)
__________
(1) - برقم(2910)
(2) -قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 22)
قلت : وهذا نصه عَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ « يَا عِبَادِى إِنِّى حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِى أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِى أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِى أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِى أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّى فَتَضُرُّونِى وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِى يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِى مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِى فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِى إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ ». قَالَ سَعِيدٌ كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِىُّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ. صحيح مسلم (6737 )(1/286)
" اعلم أنَّ الكلام المضاف إليه تعالى أقسامٌ ثلاثةٌ:
أولها - وهو أشرفها ((القرآن)) لتميزه عن البقية بإعجازه من أوجه كثيرة ،وكونه معجزة باقية على ممر الدهر ،محفوظة من التغيير والتبديل ،وبحرمة مسِّه لمحدِثٍ وتلاوته لنحو الجنُبِ ،وروايته بالمعنى وبتعينه في الصلاة ،وبتسميته قرآنا ،وبأن كل حرف منه بعشر حسنات، وبامتناع بيعه في رواية عند أحمد وكراهته عندنا ،وبتسمية الجملة منه آية وسورة ،وغيره من بقية الكتب والأحاديث القدسية لا يثبت لها شيء مما ذكر، فيجوز مسه وتلاوته لمن ذكر وروايته بالمعنى، ولا يجزئ في الصلاة بل يبطلها ،ولا يسمَّى قرآنا ،ولا يعطى قارئة بكل حرفٍ عشرا، ولا يمنع بيعه ولا يكره اتفاقاً، ولا يسمَّى بعضه آية ولا سورة اتفاقاً أيضاً.
ثانيهاً - كتبُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل تغييرها وتبديلها.
ثالثهاً - بقيةُ الأحاديث القدسية ،وهي ما نقل إلينا آحاداً عنه مع إسناده لها عن ربه، فهي من كلامه تعالى فتضاف إليه وهو الأغلب ،ونسبتها إليه حينئذ نسبة إنشاء، لأنه المتكلم بها أولاً ،وقد تضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه المخبر بها عن الله تعالى، بخلاف القرآن فإنه لا يضاف إلا إليه تعالى فيقال فيه ((قال الله تعالى) وفيها ((قال رسول الله فيما يروي عن ربه تعالى)) .(1/287)
واختلفَ في بقية السنَّة هل هي كلها بوحيٍ أولا ؟وآيةُ ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) [النجم/3-5])) تؤيد الأول، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم :((إلا إني أوتيت الكتاب ومثله معه))(1)، ولا تنحصرُ تلك الأحاديث القدسيةُ في كيفية من كيفيات الوحي ،بل يجوز أن تنزل بأي كيفيةٍ من كيفياته؛ كرؤيا النوم ،والإلقاء في الروع ،وعلى لسان الملك، ولراويها صيغتان إحداهما أن يقول :((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ،((قال الله تعالى فيما رواه عنه رسول الله والمعنى واحد)) انتهى
قلتُ :
وعدد الأحاديث القدسية ليست بالكثيرة ، قد لا تصل إلى الألف حديث ، فيها الصحيح والحسن والضعيف ، بل والموضوع أحياناً .
================
المبحثُ السادسُ
معاني المفردات
عادى : من المعاداة ضد الموالاة ، وفي رواية : (( من أهان ))
وليا : وهو العالم به ، المواظب على طاعته ، المخلص في عبادته .
آذنته بالحرب : أعلمته بأني محارب له .
عبدي : هذه الإضافة للتشريف .
يتقرب إلي : يطلب القرب مني ، وفي رواية : (( يتحبب إلي ))
__________
(1) - عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ :« أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ أَلاَ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الأَهْلِىِّ وَلاَ كُلُّ ذِى نَابٍ مِنَ السَّبُعِ وَلاَ لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ إِلاَّ أَنْ يَسْتَغْنِىَ عَنْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ ».سنن أبى داود (4606 ) وهو صحيح = يقرى : يكرم الضيف ويقوم بحق ضيافته(1/288)
بالنوافل : التطوعات من جميع أصناف العبادات .
كنت سمعه إلخ : المراد بهذا حفظ هذه المذكورات من أن تستعمل في معصية ، فلا يسمع ما لم يأذن له الشرع بسماعه ، ولا يبصر ما لم يأذن له في إبصاره ، ولا يمد يده إلى شيء لم يأذن له في مدها إليه ، ولا يسعى إلا فيما أذن الشرع في السعي إليه.
لأعطينه : ما سأل .
ولئن استعادني : بنون الوقاية وروي بباء موحدة تحتية , والأول أشهر .
لأعيذنه : مما يخاف .(1)
=============
المبحثُ السابعُ
معاداةُ أولياء الله تعالى مؤذنةٌ بالحرب من الله
__________
(1) - انظر : التحفة الربانية شرح الأربعين النووية - (ج 39 / ص 1)(1/289)
قوله - عز وجلَّ - : ((مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ))يعني : فقد أعلمتُه بأنِّي محاربٌ له ، حيث كان محارباً لي بمعاداة أوليائي(1)، ولهذا جاء في حديث عائشة : (( فقد استحل محاربتي )) وفي حديث أبي أُمامة وغيره : (( فقد بارزني بالمحاربة )) ، وعن معاذ بن جبلٍ ، سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : « إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ وَإِنَّ مَنْ عَادَى لِلَّهِ وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الأَبْرَارَ الأَتْقِيَاءَ الأَخْفِيَاءَ الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا وَلَمْ يُعْرَفُوا قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ »(2). .
__________
(1) - انظر : فتح الباري لابن حجر 11/416 .
(2) - أخرجه ابن ماجة برقم ( 3989 ) و الطبراني في " الكبير " 20/( 321 ) ، والحاكم 4/328 ووحلية 1/5و15 و3/248 والإتحاف 3/144 ومشكل 2/317 والشعب ( 6812) وك 1/4 و4/328 وطص 2/45 وترغيب 1/68 و3/444 و4/154 والزهد للبيهقى ( 195) والشهاب 2/148و2/252 والإتحاف 8/236 و264 وأولياء 6 وصفة 500 وكر 6/225 والخمول برقم ( 8 ) وصححه الحاكم ووافقه المنذرى والذهبى لكنه فيه إشكال فقد ورد من طريق الليث بن سعد عن عياش بن عباس القتبانى عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر --- به وهذا إسناد صحيح
ومن طريق نافع بن يزيد عن عباس بن عياش عن عيسى بن عبد الرحمن عن زيد بن أسلم عن أبيه به ومن طريق ابن لهيعة عن عيسى عن زيد بن أسلم به وعيسى بن عبد الرحمن هذا الزرقى متروك التقريب ( 5306) من السابعة .
والليث بن سعد أحفظ من نافع بن يزيد ومن ابن لهيعة فلم يذكر فيه عبد الرحمن ، وإنما يرويه عياش بن عباس عن زيد بن أسلم به
وقد روى عياش عن سالم أبى النضر وبكير الأشج وأبى عبد الرحمن الحبلى ، وعيسى بن هلال وكليب بن صبيح وأبى الحصين الحميرى وأبى الخير مرثد اليزنى وجماعة وهو ثقة ولم يوصف بتدليس ومات سنة 133هـ التهذيب 8/197-198 وسالم مدنى وبكير الأشج مدنى نزل بمصر --وزيد بن أسلم مات سنة 136 هـ أى بعده فهو معاصر له .
وأقدم شيخ لعياش : الهيثم بن شفى أبو الحصين الحجرى المصرى ثقة من الثانية .
وأنا لا أستبعد أن يكون قد سمع من أبي زيد وهو أسلم وكل مشايخه ثقات ، فلا يمكن أن يترك حديث زيد بن أسلم مباشرة ويسمعه بواسطة ذلك النكرة !
فالحديث صحيح
وهناك ملحوظة أخرى وهى أن عيسى بن عبد الرحمن روى عن زيد بن أسلم ومات زيد سنة 136هـ وعن عيسى بن أبى موسى وعن الزهرى ومات الزهرى سنة 124هـ والذين رووا عنه ابن لهيعة ومات 169هـ ومعن بن عيسى بن سبرة فإن كان صاحب مالك فقد مات سنة 198هـ وأبو داود الطيالسى المتوفى 204هـ ومحمد بن شعيب بن شابور المتوفى 200هـ فكيف يروى عنه عياش وعياش مات سنة 133هـ ؟ والصحيح أن الذى روى عنه هو ابنه وليس هو فقد قال الحافظ فى التهذيب 8/218 وروى عنه : عبد الله ابن عيسى القتبانى وهو عبد الله بن عياش بن عباس القتبانى روى عن أبيه ويزيد بن أبى حبيب وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج وعبيد الله بن أبى جعفر والزهرى وأبى عشانة المعافرى وغيرهم . ومات سنة 170هـ التهذيب 5/351
- عادى : حارب الذين يطيعون الله ويتبعون أوامره ، بارز : أعلن حربه مع الله تعالى
- الأخفياء : الذين يعكفون على عبادة الله ويتركون الرياء وحب الظهور
- مصابيح الهدى : لكثرة إيمانهم أضاء الله بصائرهم
- غبراء مظلمة : جهالات مفسدة أى يهديهم الله إلى الحق فيبعدون عن كل الفتن(1/290)
وقال الشيح ابن عثيمين رحمه الله(1):
" المعاداة: هي المباعدة وهي ضد الموالاة والولي بينه الله عز وجل في قوله:{ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) }[يونس/62، 63] ،هؤلاء هم أولياء الله { الذين آمنوا } أي: حققوا الإيمان في قلوبهم بكل ما يجب الإيمان به { وكانوا يتقون } أي حققوا العمل الصالح بجوارحهم فاتقوا جميع المحارم من ترك الواجبات أو فعل المحرمات فهم جمعوا بين صلاح الباطن بالإيمان وصلاح الظاهر بالتقوى هؤلاء هم أولياء الله ،وليست ولاية الله سبحانه وتعالى تأتي بالدعوى كما يفعله بعض الدجالين الذين يموهون على العامة بأنهم أولياء لله وهم أعداء لله .. فالذي يعادي أولياء الله يقول الله عز وجل :فقد آذنته بالحرب يعني أعلنت عله الحرب، فالذي يعادي أولياء الله محارب لله عز وجل ، ومن حارب الله فهو مهزوم مخذول لا تقوم له قائمة ."
__________
(1) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 1 / ص 415)(1/291)
فأولياءُ الله تجبُ موالاتُهم ، وتَحرُمُ معاداتُهم ، كما أنَّ أعداءهُ تجبُ معاداتُهم ، وتحرم موالاتُهم ، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ}(1)(
__________
(1) - هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ ، وَكَانَ حَاطِبٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ ، هَاجَرَ مِنْ مَِكَّةَ ، وَتَرَكَ فِيهَا مَالَهُ وَوَلَدَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ قُرَيِشٍ . فَلَمَا أَرَادَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَتَحَ مَكَّةَ دَعَا رَبَّهُ اللهَ أَنْ يُعْمِيَ الأَخْبَارَ عَنْ قُرَيشٍ ، حَتَّى يَأْخْذَهُمْ عَلَى حِينِ غِرَّةٍ ، فَكَتَبَ حَاطِبٌ كِتَاباً إِلَى قُرَيشٍ يُعَرِّفُهُمْ بِعَزْمِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى غَزْوِهِمْ ، وَأَرْسَلَهُ مَعَ امْرَأَةٍ لِيَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَداً . وَأَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِالكِتَابِ ، فَأَرْسَلَ الرَّسُولُ عَلِيّاً وَالزُّبَيْرَ ، وَأَمَرَهُمَا بِالذَّهَابِ إِلَى رَوْضَةِ خَاخٍ لِيَأَتِيَاهُ بِالكِتَابِ مِنَ المَرْأَةِ ، فَلَمَّا جَاءَاهَا طَلَبا مِنْهَا الكِتَابَ فأَنْكَرَتْهُ ، فَهَدَّدَاهَا بِتَجْرِيدِهَا مِنْ ثِيَابِهَا لِتَفْتِيشِهَا ، فَأَخْرَجَتِ الكِتَابَ مِنْ ضَفَائِرِ شَعْرِهَا .
وَسَأَلَ الرَّسُولُ حَاطِباً عَنِ الكِتَابِ فَاعْتَرَفَ وَقَالَ لِلرَّسُولُ إِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كُفْراً ، وَلاَ ارْتِدَاداً عَنِ الإِسْلاَمِ ، وإِنَّمَا لِيَتَّخِذَ بِهِ يَداً عِنْدَ قُرَيشٍ يَحْمِي بِهَا أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ وَمَالَهُ . فَقَالَ الرَّسُولُ للصَّحَابَةِ إِنَّهُ صَدَقَكُمْ . وَقَالَ عُمْرُ بِنُ الخَطَّابِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنْقَ هَذَا المُنَافِقِ . فَقَالَ الرَّسُولُ : إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ .
وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ فِي هَذِهِ الآيَةِ بِأَنْ لاَ يَتَّخِذَوا الكُفَّارَ أَعْواناً وَأَنْصَاراً لَهُمْ يُبَلِّغُونَهُمْ أَخْبَارَ الرَّسُولِ التِي لاَ ينْبَغِي لأَعْدَائِهِ أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَيهَا ، وَقَدْ كَفَرَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارُ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِكِتَابِهِ ، فَكَيْفَ بِكُمْ بَعْدَ هَذَا تَتَّخِذُونَهُمْ أَنْصَاراً تُسِرُّونَ إِليهِمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ ، وَيُضُرُّ الرَّسُولَ والمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ أَخْرَجُوا الرَّسُولَ وَأَصْحَابَهُ مِنْ بَينِ أَظْهَرِهِمْ كُرْهاً بِالتَّوْحِيدِ ، وَإِخْلاَصِ العِبَادَةِ للهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَنْبٌ يُؤَاخَذُونَ عَلَيهِ غَيْرُ ذَلِكَ .
فَإِنْ كُنْتُمْ ، يَا أَيَّهُا المُؤْمِنُونَ ، قَدْ خَرَجْتُمْ مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِي ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ، فَلاَ تُوَلُوا أَعْدَائِي ، وَمَنْ يَفْعَلْ هَذِهِ المُوَالاَةَ ، وَيُفْشِ سِرَّ الرَّسُول لأَعْدَائِهِ ، فَقَدْ حَادَ عَنْ قَصْدِ الطَّرِيقِ المُوصِلَةِ إِلَى الجَنَّةِ .أيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 5029)(1/292)
1) سورة الممتحنة ، وقال تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) } [المائدة/55-57] ، ووصف أحبَّاءهُ الذين يُحبهم ويُحبونه بقوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (54) سورة المائدة، وروى الإمام أحمد في كتاب " الزهد " بإسناده عن وهب ابن منبِّهٍ ، قال : إنَّ الله تعالى قال لموسى - عليه السلام - حين كلمه : اعلم أنَّ مَنْ أهان لي وليّاً ، أو أخافه ، فقد بارزني بالمحاربة ، وبادأني ، وعرَّض نفسه ودعاني إليها ، وأنا أسرعُ شيءٍ إلى نُصرة أوليائي ، أفيظنُّ الذي يُحاربني أنْ يقومَ لي ؟ أو يظنُّ الذي يعازّني أنْ يعجزني ؟ أم يظنُّ الذي يبارزني أنْ يسبقني أو يفوتني ؟ وكيف وأنا الثَّائرُ لهم في الدنيا والآخرة ، فلا أَكِلُ نصرتهم إلى غيري .(1)
واعلم أنَّ جميعَ المعاصي محاربة لله - عز وجل - ، قال الحسن(2): ابنَ آدم هل لك بمحاربة الله من طاقةٍ ؟ .فإنَّ مَنْ عصى الله ، فقد حاربه .
__________
(1) - برقم ( 342 ) عن وهب بن منبه ، به ، وهو جزء من حديث طويل . وأسناده حسن إلى وهب
(2) - حديث أبي الفضل الزهري(598) مطولا(1/293)
لكن كلَّما كانَ الذَّنبُ أقبحَ كانتِ المحاربة لله أشدَّ ،ولهذا سمّى الله تعالى أَكَلةَ الرِّبا(1)، وقُطَّاع الطَّريق محاربينَ لله تعالى ورسوله(2)؛ لعظيم ظلمهم لعباده ، وسعيهم بالفساد في بلاده ، وكذلك معاداةُ أوليائه ، فإنَّه تعالى يتولَّى نُصرةَ أوليائه ، ويُحبهم ويؤيِّدُهم ، فمنْ عاداهم ، فقد عادى الله وحاربه ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « اللَّهَ اللَّهَ فِى أَصْحَابِى اللَّهَ اللَّهَ فِى أَصْحَابِى لاَ تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِى فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّى أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِى أَبْغَضَهُمْ وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِى وَمَنْ آذَانِى فَقَدْ آذَى اللَّهَ وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ » خرَّجه الترمذي(3).
__________
(1) - بقوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279)} سورة البقرة
(2) - 5ال تعالى : {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (33) سورة المائدة
(3) - سنن الترمذى (4236 )و أحم4/87دو 5/54 و55 و57 و74 والشعب (1511) والحلية 8/287 وسنة 14/70 وعدى 4/1485 والخطيب 9/123 وابن حبان (2284) والفضائل لأحمد (1 و2 و3 و4) والروياني(882) والبخاري في التاريخ 5/131 وجامع الأصول 8/553 وهو حديث حسن
وفى سنده عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفى قال: خ فيه نظر وقال ابن معين :صويلح وفى رواية ضعيف وفى رواية ليس به بأس يكتب حديثه وقال ن : ليس بالقوى ا هـ ابن عدى 4/167 و168
ووثقه ابن حبان وابن المدينى والعجلى انظر التهذيب 5/298 والجامع (2218)(1/294)
" وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ وُقُوعُ الْمُحَارَبَةِ وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَعَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ فِي أَسْرِ الْخَالِقِ ، وَالْجَوَاب أَنَّهُ مِنْ الْمُخَاطَبَةِ بِمَا يُفْهَمُ ، فَإِنَّ الْحَرْبَ تَنْشَأُ عَنْ الْعَدَاوَةِ وَالْعَدَاوَةُ تَنْشَأُ عَنْ الْمُخَالَفَةِ وَغَايَة الْحَرْب الْهَلَاك وَاَللَّه لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى فَقَدْ تَعَرَّضَ لِإِهْلَاكِي إِيَّاهُ . فَأَطْلَقَ الْحَرْبَ وَأَرَادَ لَازِمَهُ أَيْ أَعْمَلُ بِهِ مَا يَعْمَلُهُ الْعَدُوُّ الْمُحَارَبُ .
قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ : فِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ ، لِأَنَّ مَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ أَهْلَكَهُ ، وَهُوَ مِنْ الْمَجَازِ الْبَلِيغِ ، لِأَنَّ مَنْ كَرِهَ مَنْ أَحَبَّ اللَّهُ خَالَفَ اللَّهَ وَمَنْ خَالَفَ اللَّهَ عَانَدَهُ وَمَنْ عَانَدَهُ أَهْلَكَهُ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي جَانِبِ الْمُعَادَاةِ ثَبَتَ فِي جَانِب الْمُوَالَاةِ ، فَمَنْ وَالَى أَوْلِيَاءَ اللَّه أَكْرَمَهُ اللَّهُ . وَقَالَ الطُّوفِيُّ : لَمَّا كَانَ وَلِيُّ اللَّهِ مَنْ تَوَلَّى اللَّهَ بِالطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى تَوَلَّاهُ اللَّهُ بِالْحِفْظِ وَالنُّصْرَةِ ، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِأَنَّ عَدُوَّ الْعَدُوّ صِدِّيقٌ وَصِدِّيقَ الْعَدُوِّ عَدُوٌّ ، فَعَدُوُّ وَلِيِّ اللَّهِ عَدُوُّ اللَّهِ فَمَنْ عَادَاهُ كَانَ كَمَنْ حَارَبَهُ وَمَنْ حَارَبَهُ فَكَأَنَّمَا حَارَبَ اللَّه ".(1)
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 342) ورح الأربعين النووية - (ج 80 / ص 4)عطية سالم(1/295)
" قال صاحب الإفصاح :في هذا الحديث من الفقه أن الله سبحانه وتعالى قدم الإعذار إلى كل من عادى ولياً ، أنه قد آذنه بأنه محاربه بنفس المعاداة، وولي الله تعالى هو الذي يتبع ما شرعه الله تعالى فليحذر الإنسان من إيذاء قلوب أولياء الله عز وجل ومعنى المعاداة أن يتخذه عدواً.
ولا أرى المعنى إلا من عاداه لأجل ولاية الله، وأما إذا كانت الأحوال تقتضي نزاعاً بين وليين لله محاكمة أو خصومة راجعة إلى استخراج حق غامض، فإن ذلك لا يدخل في هذا الحديث، فإنه قد جرى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما خصومة ،وبين العباس وعلي رضي الله عنهما وبين كثير من الصحابة وكلهم كانوا أولياء الله عز وجل."(1)
__________
(1) - شرح الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية - (ج 1 / ص 34) وبنحوه في فيض القدير، شرح الجامع الصغير(1752)(1/296)
ومن هنا يقول العلماء: (من عادى لي ولياً)، ليس منه المطالبة بحق شرعي، ولنأت إلى سر الحديث وإلى البلاغة التي تُشم ولا تُلمس في هذا اللفظ النبوي الكريم، (من عادى لي ولياً)، ولم يقل: من عادى ولياً لي، بل (من عادى لي ولياً)، فهل تجدون فيها فرقاً أم لا؟ الذوق البلاغي هنا: بتقديم (لي) على (ولياً)، فإن تقديم الجار والمجرور هنا، وإضافته إلى المولى سبحانه يُشعر بأن المحاربة تكون لمن عادى الولي لكونه ولياً لله، أما لو قال: (من عادى ولياً لي)، فقد يكون هذا الولي عنده ما يوجب المعاداة، لكن (من عادى لي)، يعني: من أجلي وبسببي وباسمي، فمن عاداه وهو ينتمي إليّ فقد آذنته بالحرب، والحديث في بلاغته يُشعر بأن العداوة المنهي عنها والمحذر منها هي أن يعاديه لكونه ولياً لله، ومن الذي يعادي ولي الله لولايته لله؟ نعلم جميعاً أن ولاية الله لا تحصل بالمعصية والفسوق والخروج على كتاب الله وسنة رسوله، ولا بمخالفة الإجماع وشق عصا المسلمين، فهذا الحديث -كما يتفق العلماء- يعتبر فاصلاً بين الحق والباطل.(1)
-------------
منْ صفاتِ أولياءِ الرحمنِ(2)
مَنْ شَهِدَ لَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ، وَمَنْ شَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ(3).
__________
(1) - انظر شرح الأربعين النووية لعطية سالم - (ج 80 / ص 5)=هل كل معاداة لولي تستوجب حرباً لله؟
(2) - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لشبخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بتحقيقي ص 138
(3) - قال تعالى : {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (76) سورة النساء(1/297)
وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لِلَّهِ أَوْلِيَاءَ مِنْ النَّاسِ وَلِلشَّيْطَانِ أَوْلِيَاءَ، فَفَرَّقَ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، فَقَالَ تَعَالَى:{ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) } [يونس/62-65](1)،
__________
(1) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ ، وَهُمُ الذِينَ آمَنُوا وَاتَّقَوا وَأَخْلَصُوا العِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ ، وَالتَّوَكُلَ عَلَيْهِ ، لاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ مِمَّا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَهْوَالِ الآخِرَةِ ، وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا .
وَيَقُولُ تَعَالَى مُعَرِّفاً ( أَوْلِيَاءَ اللهِ ) : بِأَنَّهُمُ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ ، وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَكَانُوا يَتَّقُونَ اللهَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ ، وَيُرَاقِبُونَهُ فِي سِرِّهِمْ وَعَلاَنِيَّتِهِمْ ، فَلاَ يَقُومُونَ إِلاَّ بِمَا يُرْضِي اللهَ رَبَّهُمْ .
وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُتَّقُونَ ، لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا بِالنَّصْرِ وَالعِزَّةِ ، وَبِإِلْهَامِهِم الحَقَّ وَالخَيْرَ ، وَبِالاسْتِخْلاَفِ فِي الأَرْضِ مَا أَقَامُوا شَرْعَ اللهِ ، وَنَصَرُوا دِينَهُ الحَقَّ ، وَأَعْلَوا كَلِمَتَهُ ( وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا العَبْدُ ، أَوْ تُرَى لَهُ ، وَهِيَ فِي الآخِرَةِ الجَنَّةُ " ) ( رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم ) . وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ لاَ يُبَدَّلُ ( لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ) ، وَلاَ يُغَيَّرُ وَلاَ يُخْلَفُ ، بَلْ مُقَرَّرٌ ثَابِتٌ كَائِنٌ لاَ مَحَالَةَ . وَهَذِهِ البُشْرَى بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ هِيَ الفَوْزُ العَظِيمُ .(1/298)
وَقَالَ تَعَالَى: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (257) سورة البقرة(1)،
__________
(1) - وهذا يشمل ولايتهم لربهم، بأن تولوه فلا يبغون عنه بدلا ولا يشركون به أحدا، قد اتخذوه حبيبا ووليا، ووالوا أولياءه وعادوا أعداءه، فتولاهم بلطفه ومنَّ عليهم بإحسانه، فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل إلى نور الإيمان والطاعة والعلم، وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من ظلمات القبر والحشر والقيامة إلى النعيم المقيم والراحة والفسحة والسرور { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } فتولوا الشيطان وحزبه، واتخذوه من دون الله وليا ووالوه وتركوا ولاية ربهم وسيدهم، فسلطهم عليهم عقوبة لهم فكانوا يؤزونهم إلى المعاصي أزا، ويزعجونهم إلى الشر إزعاجا، فيخرجونهم من نور الإيمان والعلم والطاعة إلى ظلمة الكفر والجهل والمعاصي، فكان جزاؤهم على ذلك أن حرموا الخيرات، وفاتهم النعيم والبهجة والمسرات، وكانوا من حزب الشيطان وأولياءه في دار الحسرة، فلهذا قال تعالى: { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } ..(1/299)
وَقَالَ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) [المائدة/51-56] }(1)،
__________
(1) - يَنْهَى اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالاَةِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى ، وَاتِّخَاذِهِمْ حُلَفاءَ لَهُمْ عَلَى أَهْلِ الإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَيَقُولُ لَهُمْ إنَّ مَنْ يَتَّخِذُهُمْ نُصَرَاءَ وَحُلَفَاءَ وَأَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَرَسُولِهِ ، فَهُوَ مِنْهُمْ فِي التَّحَزُّبِ عَلى اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤْمِنِينَ ..وَإنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ . وَمَنْ يَتَولَّى أَعْدَاءُ اللهِ فَهُوَ ظَالِمٌ ، وَاللهُ لاَ يَهْدِيهِ إلى الخَيْرِ . وَاليَهُودُ وَالنَّصَارَى بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ وَلِيٌّ وَلا نَصِيرٌ .
وَإذْ كَانَتْ وَلاَيَةُ أَهْلِ الكِتَابِ لاَ يَتْبَعُها إلاَّ الظَالِمُونَ فَإنَّكَ تَرَى الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ شَكٌّ وَنِفَاقٌ ( مَرَضٌ ) يُبَادِرُونَ إلَى مُوَالاَتِهِمْ ، وَإلَى مُوَادَّتِهِمْ فِي البَاطِنِ وَالظَّاهِرِ ، وَيَتَأَوَّلُونَ فِي مَوَدَّتِهِمْ وَفِي مُوَالاَتِهِمْ ، أنَّهُمْ يَخْشَونَ أَنْ يَقَعَ أَمْرٌ مِنْ ظَفَرِ الكَافِرِينَ بِالمُسْلِمِينَ ( تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ) فَتَكُونَ لَهُمْ أَيَادٍ عِنْدَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى ، فَيَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ حِينَئِذٍ . فَعَسَى اللهُ أَنْ يُتِمَّ أَمْرَهُ بِنَصْرِ المُسْلِمِينَ ، وَيُحَقِقَ لَهُمُ الفَتْحَ وَالغَلَبَةَ ، أَوْ يَتِمَّ أَمْرٌ مِنْ عِنْدِهِ كَفَرْضِ الجِزْيَةِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى ، فَيُصْبحَ الذِينَ وَالَوْا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنَ المُنَافِقِينَ نَادِمِينَ عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ مُوَالاَةِ هَؤُلاَءِ تَحَسُّباً لِمَا لَمْ يَقَعْ ، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ شَيْئاً ، وَلاَ دَفَعَ عَنْهُمْ مَحْذُوراً .
( هَذِهِ الآيَةُ وَالتِي قَبْلَهَا نَزَلَتَا فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ مِنَ الخَزْرَجِ ، فَقَدْ كَانَ لَهُمَا حُلَفَاءُ مِنَ اليَهُودِ ، فَجَاءَ عُبَادَةَ إلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ لِي مَوَالٍ مِنَ اليَهُودِ كَثيرُ عَدَدُهُمْ ، وَإني أَبْرَأ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْ وَلاَيَةِ يَهُودٍ ، وَأتَوَلَّى اللهَ وَرَسُولَهُ .وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ : إنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ وَلاَ أَبْرَأ مِنْ وَلاَيَةِ مَوَالِيَّ ) .
لَمَّا التَجَأَ هَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ إلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى يُوالُونَهُمْ وَيُوادُّونَهُمْ ، افْتَضَحَ أَمْرُهُمْ لِعِبَادِ اللهِ المُؤْمِنِينَ ، بَعْدَ أنْ كَانُوا يَتَسَتَّرُونَ ، لاَ يَدْرِي أحَدٌ كَيْفَ حَالُهُمْ ، فَتَعَجَّبَ المُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ ، كَيْفَ كَانُوا يَظْهَرُونَ أَنَّهُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ ، يُعَاضِدُونَهُمْ وَيُسَاعِدُونَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمِ اليَهُودِ ، فَلَمَّا جَدَّ الجِدُّ أَظْهَرُوا مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ مُوَالاَتِهِمْ وَمُمَالأَتِهِمْ عَلَى المُؤْمِنِينَ . وَلَمَّا اسْتَبَانَ حَالُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ قَالُوا : لَقَدْ هَلَكَتْ أَعْمَالُ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ مِنْ صَلاَةٍ وَصَوْمٍ وَزَكَاةٍ وَجِهَادٍ ، وَخَسِرُوا بِذَلِكَ مَا كَانُوا يَرْجُونَهُ مِنَ الثَّوَابِ .
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَيَقُولُ إنَّ الذِينَ يَرْتَدَّونَ عَنْ دِينِهِمْ مِنَ الإيِمَانِ إلى الكُفْرِ ، وَيَتَوَلَّوْنَ عَنْ نُصْرَةِ دِينِهِ ، وَإِقَامَةِ شَرِيعَتِهِ ، فَإنَّ اللهَ سَيَسْتَبْدِلُ بِهِمْ مَنْ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ ، وَأَشَدُّ مَنَعَةً ، وَأَقْوَمُ سَبِيلاً ، يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ، يَتَّصِفُونَ بِصِفَاتِ المُؤْمِنِينَ وَهِيَ : العِزَّةُ عَلَى الكَافِرِينَ ، وَالرَّحْمَةُ وَالتَّوَاضُعُ مَعَ المُؤْمِنِينَ ، يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلاَ يَرُدُّهُمْ رَادٌّ عَنْ إذاعَةِ أَمْرِ اللهِ ، وَإِقَامَةِ حُدُودِهِ ، وَقِتَالِ أَعْدَائِهِ ، يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ . وَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاِت كَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْهِ كَبِيراً ، وَاللهُ وَاسِعُ الفَضْلِ ، عَلِيمٌ بِمَنْ يِسْتَحِقُّ ذَلِكَ فَيُعْطِيهِ ، مِمَّنْ لاَ يَسْتَحِقُّهُ فَيَحْرِمُهُ إيَّاهُ . ( وَقِيلَ إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ، فَقَدْ عَلِمَ اللهُ أنَّ النَّاسَ سَيَرْتَدُّونَ عَنِ الإِسْلاَمِ ، وَأَنَّ عُصْبَةً مِنَ المُؤْمِنِينَ ، مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ، سَيَقُومُونَ بِمُحَارَبَةِ المُرْتَدِّينَ ، وَأَنَّهُمْ سَيَثْبُتُونَ فِي حَرْبِهِمْ حَتَّى يُتِمُّ اللهُ نَصْرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .
يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى مُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ ، الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ ، وَيُسَاعِدُونَ المُحْتَاجِينَ مِنَ الضُعَفَاءِ وَالمَسَاكِينِ ، وَهُمْ دَائِمُونَ الرُّكُوعِ للهِ . ( نَزَلْت هَذِهِ الآيَةُ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ حِينَ بَرِئ مِنْ مُوَالاةِ اليَهُودِ ، وَرَضِيَ بِمُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ ) . وَكُلُّ مَنْ رَضِي بِمُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤمِنِينَ هُوَ مُفْلِحٌ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ، وَهُوَ مَنْصُورٌ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ، لأنَّهُ يَكُونُ فَِي حِزْبِ اللهِ ، وَحِزْبِ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ ، وَلاَ يُغْلَبُ مَنْ يَتَوَلاَّهُمُ اللهُ .(1/300)
وَقَالَ تَعَالَى: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا}(1)(44) سورة الكهف.
-----------------
صِفاتُ أولياءِ الشيطانِ(2)
وَذَكَرَ " أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ " فَقَالَ تَعَالَى:{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)(3)[
__________
(1) - وَفِي مِثْلِ هذِهِ الحَالِ مِنَ الشَّدَائِد وَالمِحَنِ ، تَكُونُ المُوَالاَةُ ، وَتَكُونُ النُّصْرَةُ للهِ وَحْدَهُ . وَفِي الشَّدَائِدِ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى اللهِ تَعَالَى ، يُعْلِنُونَ خُضُوعَهُمْ وَاعْتِرَافَهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ ، فَهُوَ خَيْرُ مَنْ أَثَابَ ، وَخَيْرُ مَنْ جَازَى . وَالأَعْمَالُ التِي تَكُونُ خَالِصَةً للهِ عَزَّ وَجَلَّ ، تَكُونُ عَاقِبَتُهَا خَيْراً وَرَشَداً لِفَاعِلِيهَا
(2) - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لشبخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بتحقيقي ص 139-143
(3) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَعِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، إِذَا أَرَادُوا قِرَاءَةَ القُرْآنِ .
مَنْ عَمِلَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَقَامَ بِمَا فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللهِ ، مُصَدِّقٌ كُتُبَهُ وَرُسُلَهُ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعِدُهُ بِأَنْ يُحْيِيَهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ، تَصْحَبُهَا القَنَاعَةُ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَهُ ، وَالرِّضَا بِمَا قَدَّرَهُ اللهُ وَقَضَاهُ ، إِذْ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا حَصَلَ عَلَيْهِ مِنْ رِزْقٍ إِنَّمَا حَصَلَ لَهُ بِتَدْبِيرِ اللهِ تَعَالَى وَقِسْمَتِهِ ، وَاللهُ مُحْسِنٌ كَرِيمٌ ، لاَ يَفْعَلُ إِلاَّ مَا فِيهِ المَصْلَحَةُ ، وَفِي الآخِرَةِ يَجْزِيهِ اللهُ الجَزَءَ الأَوْفَى ، وَيُثِيبَهُ أَحْسَنَ الثَّوَابِ ، جَزَاءَ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ ، وَمَا تَحَلَّى بِهِ مِنْ إِيمَاٍن .
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَعِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، إِذَا أَرَادُوا قِرَاءَةَ القُرْآنِ .
وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى : أَنَّ الشَّيْطَانَ لاَ سُلْطَةَ لَهُ وَلاَ سُلْطَانَ عَلَى المُؤْمِنِينَ المُتَوَّكِلِينَ عَلَى اللهِ ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى ارْتِكَابِ ذَنْبٍ لاَ يَتُوبُونَ مِنْهُ .
إِنَّمَا تَسَلُّطُهُ بِالغَوَايَةِ وَالضَّلاَلَةِ يَكُونُ عَلَى الذِينَ يَجْعَلُونَهُ نَصِيراً فَيُحِبُّونَهُ وَيُطِيعُونَهُ ، وَيَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَتِهِ ، وَالذِينَ هُمْ بِسَبَبِ إِغْوَائِهِ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ .(1/301)
النحل/98-101] }، وَقَالَ تَعَالَى :{ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) }(1)[النساء/76]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}(2)(
__________
(1) - الذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ إِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللهِ ، وَنَشْرِ دِينِهِ ، لاَ يَبْتَغُونَ غَيْرَ رِضْوَانِ اللهِ . أمَّا الذِينَ كَفَرُوا ، فَإِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ ( الطَّاغُوتِ ) ، الذِينَ يُزَيِّنُ لَهُمُ الكُفْرَ ، وَيُمَنِّيهِمُ النَّصْرَ . وَكَيْدُ الشَّيْطَانِ ضَعيفٌ ، وَهُوَ لاَ يَسْتَطِيعُ نَصْرَ أَوْلِيَائِهِ . أمَّا أَوْلِيَاءُ اللهِ فَهُمُ الأَعِزَّةُ ، لأنَّ اللهَ حَامِيهِمْ وَنَاصِرُهُمْ وَمُعِزُّهُمْ ، وَلِذَلِكَ فَعَلَى المُؤْمِنِينَ ، أَوْلِيَاءِ اللهِ ، أنْ لاَ يَخَافُوا أَعْدَاءَهُمُ الكُفَّارَ ، لأنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ .
(2) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى بَنِي آدَمَ إِلَى عَدَاوَةِ إِبْلِيسَ لَهُمْ ، وَلأَبِيهِمْ آدَمَ ، قَبْلَهُمْ ، وَيُقَرِّعُهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ إِبْلِيسَ ، وَمُخَالَفَةِ الخَالِقِ . وَيَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ : اذْكُرْ لِقَوْمِكَ إِذْ قَالَ اللهُ لِلْمَلاَئِكَةِ : اسْجُدُوا لآدَمَ ، اعْتِرَافاً بِفَضْلِهِ ، وَاعْتِذَاراً عَمَّا قَالُوهُ بِحَقِّهِ : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } ..فَامْتَثَلُوا جَمِيعاً لأَمْرِ رَبِّهِمِ الكَرِيمِ ، إِلاَّ إِبْلِيسَ ، الَّذِي كَانَ مِنَ الجِنِّ ، فَامْتَنَعَ عَنِ السُّجُودِ ، وَخَرَجَ عَنْ أَمْرِ اللهِ ( فَسَقَ ) ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى : إِنَّ اللهَ خَلَقَهُ مِنْ نَارٍ ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَنْ يَسْجُدَ لِمَخْلُوقٍ خَلَقَهُ اللهُ مِنَ الطِّين ، وَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ . فَكَيْفَ تَتَّخِذُونَ ، يَا بَنِي آدَمَ ، هَذا العَدُوَّ لَكُمْ ، هُوَ وَذُرِّيَتَهُ ، أَوْليَاءَ لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَتُطِيعُونَ أَوَامِرَهُمْ ، وَهُمْ عَلَى مَا عَرَفْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ مِنَ العَدَاوَةِ لآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ ، فَبِئْسَ مَا فَعَلْتُمْ { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } .(1/302)
50) سورة الكهف ، وَقَالَ تَعَالَى :{ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)(1)[
__________
(1) - وَمَنْ يَتَّخِذَ الشَّيْطَانَ وَلِياً لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ يَخْسَرِ الدُّنيا وَالآخِرَةِ وَتِلْكَ خَسَارَةٌ لاَ جَبْرَ لَهَا ، وَلاَ اسْتِدْرَاكَ لِفائِتِهَا.
يُخَوِّفُ الشَّيْطَانُ النَّاسَ مِنَ الفَقْرِ إذَا هُمْ أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَيُوَسْوِسُ لَهُمْ بِأَنَّ أَمْوَالَهُمُ تَنْفَدُ أَوْ تَنْقُصُ ، وَيُصْبحُونَ فُقَرَاءَ أَذِلاَّءَ ، وَيَعِدُهُمْ بِالغِنَى وَالثَّرْوَةِ حِينَ يُغْرِيهِمْ بِلَعبِ القِمَارِ وَيُمَنِّيهِمْ بِأنَّهُمُ الفَائِزُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَقَدْ كَذَبَ وَافْتَرَى فِي ذَلِكَ فَوُعُودُهُ بَاطِلَةٌ .
وَهَؤُلاءِ المُسْتَحْسِنُونَ لِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ الشَّيْطَانُ ، وَمَنَّاهُمْ بِهِ ، سَيَكُونُ مَأْوَاهُمْ وَمَصِيرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي جَهَنَّمَ ، وَلَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً وَلاَ خَلاَصاً .(1/303)
النساء/119-121] } . وقال تَعَالَى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)(1)
__________
(1) - وَخَافَتْ قُرَيشٌ أنْ يَجْمَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أهْلَ المَدِينَةِ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَرِكُوا فِي المَعْرَكَةِ ، وَيَخْرُجَ وَرَاءَهُمْ ، فَأَرْسَلُوا إلَيهِ بَعْضَ نَاقِلِي الأخْبَارِ لِيُهَوِّلُوا عَلَيهِ ، لِيَكُفَّ عَنِ اللِّحَاقِ بِهِمْ ، وَقَالَ نَاقِلُوا الأَخْبَار لِلْمُسْلِمِينَ : إنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ ( النَّاسَ ) قَدْ حَشَدُوا لَكُمْ ، وَجَمَعُوا قُوَاهُمْ ، فَاحْذَرُوهُمْ ، وَاخْشَوْهُمْ ، فَلَمْ يَزِدْ هَذَا القَوْلُ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ - الذِينَ اسْتَجَابُوا لِلْرَسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ وَخَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُلَبِّينَ دَعْوَتَهُ ، رَاغِبِينَ فِي نَيْلِ رِضْوَانِ رَبِّهِمْ وَنَصْرِهِ - إلاَّ إِيمَاناً بِرَبِهِمْ ، وَثِقَةً بِوَعْدِهِ وَنَصْرِهِ وَأجْرِهِ ، وَرَدُّوا عَلَى مُخَاطِبِيِهِمْ قَائِلِينَ : إِنَّهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ ، وَهُوَ حَسْبُهُمْ .
فَلَمَّا تَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ كَفَاهُمُ اللهُ مَا أَهَمَّهُمْ وَأَغَمَّهُمْ ، وَرَدَّ عَنْهُمْ بَأسَ النَّاسِ ( الكَافِرِينَ ) ، فَرَجَعُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوْءٌ ، وَقَدْ فَازُوا بِرِضْوَانِ اللهِ ، وَعَظِيمِ فَضْلِهِ ، وَاللهُ وَاسِعُ الفَضْلِ
(
خَرَجَ المُسْلِمُونَ مَعَ الرَّسُولِ إلى مَوْقِعٍ يُعْرَفُ بِحَمْراءِ الأَسَدِ ، وَأرْسَلَ إلى المُشْرِكِينَ رُسُلاً يُحَذِّرُونَهُمْ ، فَخَافَتْ قُرَيْشٌ وَتَابَعَتْ سَيْرَهَا نَحْوَ مَكَّةَ ) .
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ وَاعَدَ َرسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَدْراً مِنَ العَامِ القَابِلِ ، فَخَرَجَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُسْلِمِينَ إلَى بَدْرٍ فِي المَوْعِدِ المُحَدَّدِ ، وَتَخَلَّفَتْ قُرَيْشٌ ، فَاشْتَرَى رَسُولَ اللهِ عِيْراً مَرَّتْ بِهِمْ فِي المَوْسِمِ ، ثُمَّ بَاعَهَا فَرَبِحَ ، وَوَزَّعَ الرِّبْحَ عَلَى أَصْحَابِهِ ، فَانْقَلَبُوا مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الثَّانِيَةِ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ، وَنَالُوا رِضْوَانَ اللهِ ، وَحَصَلُوا عَلَى فَضْلِهِ فِي الرِّبْحِ . وَاللهُ عَظِيمُ الفَضْلِ عَلَى عِبَادِهِ .
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ ، أنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الذِي يُخَوِّفُكُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ المُشْرِكِينَ ، وَيُوهِمُكُمْ أَنَّهُمْ ذَوُو بَأْسٍ وَقُوَّةٍ ، وَهُوَ الذِي قَالَ لَكُمْ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ، فَلاَ تَخَافُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ ، وَالْجَؤُوا إِلَيهِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقّاً ، فَإِنَّهُ كَافِيكُمْ إِيَّاهُمْ ، وَنَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ . وَخَافُوهُ هُوَ فَهُوَ القَادِرُ عَلَى النَّصْرِ وَعَلَى الخُذْلاَنِ ، وَعَلَى الضَّرِّ وَالنَّفْعِ .(1/304)
} [آل عمران/173-175]، وَقَالَ تَعَالَى :{ يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)(1)
__________
(1) - يُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ مِنْ إِبْلِيسَ وَجَمَاعَتِهِ ( قَبِيلِهِ ) ، وَيُذَكِّرُهُمْ بِعَدَاوَتِهِ القَدِيمَةِ لآدَمَ وَزَوْجِهِ ، حِينَمَا سَعَى فِي إِخْرَاجِهِمَا مِنَ الجَنَّةِ ، دَارِ السَّعَادَةِ وَالهَنَاءِ ، إلَى الأَرْضِ دَارِ الشَّقَاءِ ، وَتَسَبَّبَ فِي هَتْكِ سِتْرِهِمَا ، وَكَشْفِ عَوْرَاتِهِمَا ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَسْتُورَةً عَنْهُمَا ، وَلِذَلِكَ فَإنَّ بَنِي آدَمَ عَلَيْهِمْ ألاَّ يُمَكِّنُوا إِبْلِيسَ مِنْ خِدَاعِهِمْ ، وَإِيقَاعِهِمْ فِي المَعَاصِي بِوَسْوَسَتِهِ ، فَإِبْلِيسُ يَرَى البَشَرَ فِي حِينِ أَنَّهُمْ لاَ يَرَوْنَهُ هُمْ ..وَالشَّيَاطِينُ هُمْ أَوْلِيَاءُ وَأَخِلاَّءُ وَأَصْحَابٌ لِلْكُفَّارِ الذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ مِنَ الإِنْسِ ، لاسْتِعْدَادِهِمْ لِتَقَبُّلِ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ وَإِغْوَائِهِمْ . أَمَّا المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ .
وَإِذَا فَعَلَ المُكَذِّبُونَ أَمْراً بَالِغَ النُّكْرِ ، كَالشِّرْكِ ، وَالطَّوَافِ ، بِالبَيْتِ عُرَاةً ، اعْتَذَرُوا عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا : إنَّهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ، وَهُمْ يَسِيرُونَ عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدِينَ بِهِمْ ، وَاللهُ أَمَرَهُمْ بِهِ ، وَرَضِيَ لَهُمْ عَنْ فِعْلِهِ ، إِذْ أَقَرَّهُمْ عَلَيهِ .
وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مُنْكِراً مَا يَفْتَرُونَ : إنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِهذِهِ الأُمُورِ المُنْكَرَةِ ، فَكَيْفَ يَنْسُبُونَ إِلَيهِ تَعَالَى مَا لاَ يَجِدُونَ دَلِيلاً عَلَى صِحَّةِ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ؟
وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ : أَمَرَ رَبِّي بِالاسْتِقَامَةِ وَالعَدْلِ فِي كُلِّ الأُمُورِ ( بِالقِسْطِ ) ، فَأَقْسِطُوا وَتَوَجَّهُوا إلَى اللهِ بِخُشُوعٍ وَحُضُورِ قَلْبٍ ، عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ تَعْبُدُونَهُ فِيهِ ، وَأَخْلِصُوا فِي عِبَادَتِهِ ، وَكَمَا خَلَقَ اللهُ النَّاسَ وَلَمْ يَكُونُوا شَيْئاً ، كَذَلِكَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْشُرَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَيُعِيدَهُمْ إلى الحَيَاةِ ، ثُمَّ يَجْمَعُهُمْ وَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ .
وَاللهُ لاَ يَتَقَبَّلُ العَمَلَ مِنَ العَبْدِ إلاَّ إِذَا كَانَ مُسْتَجْمِعاً أَمْرَينِ :
- الصَّوابَ وَمُوَافَقَةِ الشَّرِيعَةِ .
- وَأَنْ يَكُونَ خَالِصاً لِوَجْهِ اللهِ بَعِيداً عَنِ الشِّرْكِ .
وَكَمَا بَدَأَ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ خَلْقَاً وَتَكْوِيناً بِقُدْرَتِهِ ، كَذَلِكَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرِيقَيْنِ :
أ - فَرِيقاً هَدَاهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ فَاهْتَدَى ، وَأَقَامَ وَجْهَهُ للهِ مُخْلِصاً فِي عِبَادَتِهِ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً .
ب - وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةَ لاتِّبَاعِهِمْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الطَّاعَةِ لِرَبِّهِمْ ، وَإِنَّهُمْ حِينَ أَطَاعُوا الشَّيَاطِينَ فِيمَا زَيَّنُوهُ لَهُمْ مِنَ الفَوَاحِشِ وَالمُنْكَرَاتِ ، أَصْبَحُوا وَكَأَنَّهُمْ وَلَّوْهُمْ أُمُورَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ الذِي يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ، وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ ، فَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَتْهُمْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ .(1/305)
} [الأعراف/27-30] ، وَقَالَ تَعَالَى: { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}(1)(
__________
(1) - فَلاَ تَأْكُلُوا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ مِمَّا مَاتَ فَلَمْ تَذْبَحُوهُ ، وَلاَ مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ، مِمَّا ذَبَحَهُ المُشْرِكُونَ لأَوْثَانِهِمْ ، فَإِنَّ أَكْلَ ذَلِكَ فِسْقٌ وَمَعْصِيَةٌ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ حَنْبَلٍ : إنَّ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ عَمْداً أَوْ سَهْواً يَجْعَلُ الذَّبِيحَةَ غَيْرَ حَلاَلٍ . وَقَالاَ الذَّبْحُ بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ فِسْقٌ ، وَكَذَلِكَ الأَكْلُ مِنَ الذَّبِيحَةِ التِي لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهَا فِسْقٌ .
- وَقَالَ الشَّافِعِي : لاَ تَشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ ، فَإِنْ تُرِكَتْ عَمْداً أَوْ سَهْواً فَلاَ ضَرَرَ فِي ذَلِكَ ، وَيَحِلّ الأَكْلُ مِنَ الذَّبِيحَةِ . وَقَالَ إنَّ المُحَرَّمَ هُوَ مَا ذُبِحَ لِغَيرِ اللهِ ، كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ قُرَيْشٍ مِنْ نَحْرِ الذَّبَائِحِ لِلأَوْثَانِ .
- وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ نِسْيَاناً لاَ يَضُرُّ ، أَمَّا تَرْكُها عَمْداً فَيَجْعَلُها غَيْرَ حَلاَلٍ .
وَإِنَّ شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ ليُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ بِالوَسْوَسَةِ بِمَا يُجَادِلُونَكُمْ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ فَقَدْ جَادَلَتِ اليَهُودُ النَّبِيَّ : فَقَالُوا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلْنَا ، وَلاَ نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَ اللهُ ( أَيْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفهِ ) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةُ ، أَرْسَلَتْ فَارِسُ إلَى قُرَيْشٍ أَنْ خَاصِمُوا مُحَمَّداً ، وَقُولُوا لَهُ : فَمَا تَذْبَحُ أَنْتَ بِسِكِينٍ فَهُوَ حَلاَلٌ ، وَمَا ذَبَحَ اللهُ بِشَمْشِيرٍ مِنْ ذَهَبِ ( أَيْ المَيْتَةَ ) فَهُوَ حَرَامٌ؟
وَسَمِعَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ هَذَا القَوْلَ فَوَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ : ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ . . . ) ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى : فَإِنْ أَطَعْتُمُ المُشْرِكِينَ فِي أَكْلِ المَيْتَةِ فَإِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ، لأَنَّكُمْ تَكُونُونَ قَدْ عَدَلْتُمْ عَنْ شَرْعِ اللهِ وَأَمْرِهِ ، إلَى قَوْلِ غَيْرِهِ ، فَقَدَّمْتُمْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ ، وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ .(1/306)
121) سورة الأنعام، وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}(1)(
__________
(1) - وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ يَا أَبَتِ أَنْ تَسْتَمِرَّ فِي شِرْكِكَ وَفِي تَعَنُّتِكَ ، وَاسْتِكْبَارِكَ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ ، فَتَكُونَ قَرِيناً وَتَابِعاً لِلشَّيْطَانِ فِي النَّارِ ..(1/307)
45) سورة مريم ،وَقَالَ تَعَالَى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) }(1)[
__________
(1) - هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ ، وَكَانَ حَاطِبٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ ، هَاجَرَ مِنْ مَِكَّةَ ، وَتَرَكَ فِيهَا مَالَهُ وَوَلَدَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ قُرَيِشٍ ..فَلَمَا أَرَادَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَتَحَ مَكَّةَ دَعَا رَبَّهُ اللهَ أَنْ يُعْمِيَ الأَخْبَارَ عَنْ قُرَيشٍ ، حَتَّى يَأْخْذَهُمْ عَلَى حِينِ غِرَّةٍ ، فَكَتَبَ حَاطِبٌ كِتَاباً إِلَى قُرَيشٍ يُعَرِّفُهُمْ بِعَزْمِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى غَزْوِهِمْ ، وَأَرْسَلَهُ مَعَ امْرَأَةٍ لِيَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَداً . وَأَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِالكِتَابِ ، فَأَرْسَلَ الرَّسُولُ عَلِيّاً وَالزُّبَيْرَ ، وَأَمَرَهُمَا بِالذَّهَابِ إِلَى رَوْضَةِ خَاخٍ لِيَأَتِيَاهُ بِالكِتَابِ مِنَ المَرْأَةِ ، فَلَمَّا جَاءَاهَا طَلَبا مِنْهَا الكِتَابَ فأَنْكَرَتْهُ ، فَهَدَّدَاهَا بِتَجْرِيدِهَا مِنْ ثِيَابِهَا لِتَفْتِيشِهَا ، فَأَخْرَجَتِ الكِتَابَ مِنْ ضَفَائِرِ شَعْرِهَا .
وَسَأَلَ الرَّسُولُ حَاطِباً عَنِ الكِتَابِ فَاعْتَرَفَ وَقَالَ لِلرَّسُولُ إِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كُفْراً ، وَلاَ ارْتِدَاداً عَنِ الإِسْلاَمِ ، وإِنَّمَا لِيَتَّخِذَ بِهِ يَداً عِنْدَ قُرَيشٍ يَحْمِي بِهَا أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ وَمَالَهُ . فَقَالَ الرَّسُولُ للصَّحَابَةِ إِنَّهُ صَدَقَكُمْ . وَقَالَ عُمْرُ بِنُ الخَطَّابِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنْقَ هَذَا المُنَافِقِ . فَقَالَ الرَّسُولُ : إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ .
وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ فِي هَذِهِ الآيَةِ بِأَنْ لاَ يَتَّخِذَوا الكُفَّارَ أَعْواناً وَأَنْصَاراً لَهُمْ يُبَلِّغُونَهُمْ أَخْبَارَ الرَّسُولِ التِي لاَ ينْبَغِي لأَعْدَائِهِ أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَيهَا ، وَقَدْ كَفَرَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارُ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِكِتَابِهِ ، فَكَيْفَ بِكُمْ بَعْدَ هَذَا تَتَّخِذُونَهُمْ أَنْصَاراً تُسِرُّونَ إِليهِمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ ، وَيُضُرُّ الرَّسُولَ والمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ أَخْرَجُوا الرَّسُولَ وَأَصْحَابَهُ مِنْ بَينِ أَظْهَرِهِمْ كُرْهاً بِالتَّوْحِيدِ ، وَإِخْلاَصِ العِبَادَةِ للهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَنْبٌ يُؤَاخَذُونَ عَلَيهِ غَيْرُ ذَلِكَ .
فَإِنْ كُنْتُمْ ، يَا أَيَّهُا المُؤْمِنُونَ ، قَدْ خَرَجْتُمْ مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِي ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ، فَلاَ تُوَلُوا أَعْدَائِي ، وَمَنْ يَفْعَلْ هَذِهِ المُوَالاَةَ ، وَيُفْشِ سِرَّ الرَّسُول لأَعْدَائِهِ ، فَقَدْ حَادَ عَنْ قَصْدِ الطَّرِيقِ المُوصِلَةِ إِلَى الجَنَّةِ .
إِنْ ظَفِرَ بِكُمْ هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ ، الذِينَ تُلْقَونَ إِليهِم بِالمَوَدَّةِ ، يُظْهِرُوا لَكُمْ عَدَاوَتَهُمْ ، وَيَمُدُّوا إِليكُمْ أَيدِيَهُمْ وأَلْسِنَتَهُمْ بِمَا يَسُوؤُكُمْ : يُقَاتِلُونَكُمْ وَيَشْتَمُونَكُمْ وَيَتَمَنَّونَ لَو تَكْفرُونَ بِرَبِّكُمْ فَتَكُونُوا عَلَى مِثْلِ دِينِهِمْ ، فَكَيْفَ تُسِرُّونَ إِلَى هَؤُلاَءِ بِالمَوَدَّةِ وَهَذِهِ هِيَ حَالُهُمْ؟ . .
وََيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ الذِي اعْتَذَرَ بِرَغْبَتِهِ فِي المُحَافَظَةِ عَلَى أَوْلاَدِهِ وَأَمْوَالِهِ فِي مَكَّةَ ، بِأَنَّ الأَقَارِبَ وَالأَوْلاَدَ ، الذِينَ تُوَالُونَ الكُفَّارَ مِنْ أَجْلِهِمْ ، لَنْ يَنْفَعُوكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَلَنْ يَدْفَعُوا عَنْكُمْ شَيئاً مِنْ عَذَابِ اللهِ ، إِنْ عَصَيْتُمُوهُ فِي الدُّنْيَا ، لأَنَّهُ سَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَقَارِبِهِمْ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ العَصِيبِ . وَيَذْهَلُ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَّنْ سِوَاهُ ، وَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ شَأْنٌ يُغَنِيهِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُهُ العِبَادُ .
أَفَلاَ تَأَسَّى هَؤُلاَءِ الذِينَ يُوَادُّونَ الكَافِرِينَ بِأَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ ، وَأَصْحَابِهِ المُؤْمِنينَ ، حِينَ قَالُوا لِقَوْمِهِم الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ : إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنَ الآلِهَةِ وَالأَنْدَادِ ، وَجََحَدْنَا ما أَنْتُمْ عَلَيهِ مِنَ الكُفْرِ ، وَأَنْكَرْنَا عِبَادَتَكُمْ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ حِجَارَةٍ وَأَوْثَانٍ وَأَصْنَامٍ ، وَقَدْ أَعْلَنَّا الحَرْبَ عَلَيْكُمْ ، فَلاَ هَوَادَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ، وَسَنَبْقَى عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تُؤمِنُوا بِاللهِ وَتُوَحِّدُوهُ ، وَتَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَلاَ صَاحِبَةَ وَلاَ وَلَدَ ، وَتَتَخَلَّصُوا مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ .
وَلَكُمْ فِي أَبْيكُمْ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تَتَأَسَّوْنَ بِهَا ، وَتَعْتَبِرُونَ بِهَا فِي مَسْلَكِكُمْ وَعِبَادَتِكُمْ ، وَلاَ تَسْتَثْنُوا مِنْ تَصَرُّفَاتِ إِبْرَاهِيمَ التِي تَقْتَدُونَ بِهَا إِلاَّ اسْتْغْفَارَهُ لأَبِيهِ الذِي بَقِيَ مُقِيماً عَلَى الكُفْرِ ، فَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ : إِنَّهُ سَيَسْتَغْفِرُ لَهُ اللهَ ، وَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفَعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فَالأَمْرُ مَرْدُودٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَ . وَلَكِنَّ هَذَا القَوْلَ صَدَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمِ حِينَمَا وَعَدَهُ أَبُوهُ بِأَنَّهُ سَيُؤْمِنُ بِاللهِ ، وَيَتْبَعُهُ فِيمَا يَعْبُدُ . فَلَمَّا تَبَيَّنَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّ عَدُوٌ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ .
وَحِينَمَا فَارَقَ إِبْرَاهِيمُ وَالمُؤْمِنُونُ مَعَهُ قَوْمَهُمْ لَجَؤُوا إِلَى اللهِ مُتَضَرِّعِينَ قَائِلِينَ : رَبَّنَا إِنَّنَا اعْتَمَدْنَا عَلَيْكَ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا ( تَوَكَّلْنَا ) ، وَرَجَعْنَا إِلَيكَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذُنُوبِنَا ، وَإِلَيكَ مَصِيرُنَا حِينَ تَبْعَثُنَا مِنْ قُبُورِنَا لِلْعََرْضِ وَالحِسَابِ . فَاقْتَدُوا بِهِمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ ، وَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ .
رَبَّنَا وَلاَ تُسَلِّطْ قَوْمَنَا الكَافِرِينَ عَلَينَا ، وَلاَ تَجْعَلْهُمْ يَظْهَرُونَ عَلَينَا ، فَيَعْمَلُوا عَلَى فِتْنَتِنَا عَنْ دِينِنَا بِالعَذَابِ وَالنَّكَالِ . وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا ظَهَرُوا عَلَيْنَا لأَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ فِيمَا يَقُولُونَ ، وَفِيمَا يَعْبُدُونَ ، رَبَّنَا واسْتُرْ ذُنُوبَنَا عَنْ غَيرِكَ ، وَاعْفُ عَنَّا فِيمَا بَيْنَنَا وَبَينَكَ ، إِنَّكَ يَا رَبِّ أَنْتَ القَوِيُّ العَزِيزُ الذِي لاَ يُضَامُ ، الحَكِيمُ فِيمَا تَشْرَعُ ، وَفِيمَا تَقْضِي .(1/308)
الممتحنة/1-5]
وجوبُ التفريق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان(1)
__________
(1) - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لشبخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بتحقيقي ص144-145
وفي فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 1 / ص 98):
وإذا عرف أن الناس فيهم أَولياءُ الرحمن وأَولياءُ الشيطانِ، فيجب أَن يفرق بين هؤلاءِ وهؤلاءِ كما فرق الله ورسوله بينهما، فأَوْلياءُ الله هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ- الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) فكل من ادعى الولاية فلابد من سبر احواله ومعرفة ما هو عليه فإن كان متصفًا بما وصف الله به أَولياءَه المؤمنين مجانبًا لحزب الشيطان وأَوليائه الضالين المضلين وكان مقيمًا لشعائر الدين من تحقيق التوحيد واقامة الصلاة في الجمع والجماعات وكان من الدعاة إلى الله واتصف بما عليه سلف الأمة وأَئمتها هديًا وسمتًا وخلقًا وحالا ومقاما وصلحت نيته بذلك فهذا يرجى أَن يكون من أَولياءِ الله المتقين الذين قال الله فيهم (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ- الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) فكل من كان مؤمنًا تقيًا كان لله وليًا، ومن ادعى الولاية بدون ذلك فهو مدعى.
والدعاوي ما لم يقيموا عليها بينات ابناؤها ادعياءُ
وفي فتاوى اللجنة الدائمة - 1 - (ج 1 / ص 638):
فالفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: أن أولياء الرحمن:
هم المؤمنون المتقون، كما قال تعالى: { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } (1) { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } (2) وأولياء الشيطان: هم المعادون لله التاركون للعمل بشرعه.
وأفضل أولياء الله هم رسله، والله جل وعلا يجعل على يد رسله المعجزات والكرامات أو يجعل على يد أوليائه الكرامات، وما يقع على يد أولياء الشيطان فهو من الأحوال الشيطانية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وإن كان اسم المعجزة يعم كل خارق للعادة في اللغة، وعرف الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد بن حنبل وغيره، ويسمونها: الآيات، لكن كثيرا من المتأخرين يفرق في اللفظ بينهما فيجعل المعجزة للنبي والكرامة للولي، وجماعهما الأمر الخارق للعادة). انتهى.(1/309)
إِذَا عُرِفَ أَنَّ النَّاسَ فِيهِمْ " أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ " فَيَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كَمَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُمَا، فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)(1)[
__________
(1) - الأولياء : جمع ولي مأخوذ من الولي بمعنى القرب والدنو ، يقال : تباعد فلان من عبد ولي أى : بعد قرب.
والمراد بهم : أولئك المؤمنون الصادقون الذى صلحت أعمالهم ، وحسنت بالله - تعالى - صلتهم ، فصاروا يقولون ويفعلون كل ما يحبه ، ويجتنبون كل ما يكرهه .
قال الفخر الرازي : " ظهر فى علم الاشتقاق أن تركيب الواو واللام والياء يدل على معنى القرب ، فولى كل شيء هو الذى يكون قريبا منه .
والقرب من الله إنما يتم إذا كان القلب مستغرقاً فى نور معرفته ، فإن رأى رأى دلائل قدرته ، وإن سمع سمع آيات وحدانيته ، وإن نطق نطق بالثناء عليه ، وِإن تحرك تحرك فى خدمته ، وإن اجتهد اجتهد فى طاعته ، فهنالك يكون فى غاية القرب من الله - تعالى - ويكون وليا له - سبحانه - .
وإذا كان كذلك كان الله - وليا له - أيضاً - كما قال : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } وقد افتتحت الآية الكريمة بأداة الاستفتاح { ألا } وبحرف التوكيد { إن } لتنبيه الناس إلى وجوب الاقتداء بهم ، حتى ينالوا ما ناله أولئك الأولياء الصالحون من سعادة دنيوية وأخروية .
وقوله : { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } تمييز لهم عن غيرهم ممن لم يبلغوا درجتهم .
والخوف : حالة نفسية تجعل الإِنسان مضطرب المشاعر لتوقعه حصلو ما يكرهه .
والحزن اكتئاب نفسي يحدث للإِنسان من أجل وقوع ما يكرهه .
أى : أن الخوف يكون من أجل مكروه يتوقع حصوله ، بينما الحزن يكون من أجل مكروه قد وقع فعلاً .
والمعنى : ألا إن أولياء الله الذين صدق إيمانهم ، وحسن عملهم ، لا خوف علهيم من أهوال الموقف وعذاب الآخرة ، ولا هم يحزنون على ما تركوا وراءهم من الدنيا ، لأن مقصدهم الأسمى رضا الله - سبحانه - فمتى فعلوا ما يؤدي إلى ذلك هان كل ما سواه .
وقوله : { الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } استئناف مسوق لتوضيح حقيقتهم فكأن سائلا قال : ومن هم أولياء الله؟ فكان الجواب هم الذين توفر فيهم الإِيمان الصادق ، والبعد التام عن كل ما نهى الله - تعالى - عنه .
وعبر عن إيمانهم بالفعل الماضي ، للإِشارة إلى أنه إيمان ثابت راسخ . لا تزلزله الشكوك ، ولا تؤثر فيه الشبهات .
وعبر عن تقواهم بالفعل الدال على الحال والاستقبال للإِيذان بأن اتقاءهم وابتعادهم عن كل ما يغضب الله من الأقوال والأفعال ، يتجدد ويستمر دون أن يصرفهم عن تقواهم وخوفهم منه - سبحانه - ترغيب وترهيب .
وقوله - سبحانه - { لَهُمُ البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة } زيادة تكريم وتشريف لهم .
والبشرى والبشارة : الخبر السار ، فهو أخص من الخبر ، وسمى بذلك لأن أثره يظهر على البشرة وهى ظاهر جلد الإِنسان ، فيجعله متهلل الوجه ، منبسط الأسارير ، مبتهج النفس .
أى : لهم ما يسرهم ويسعدهم فى الدنيا من حياة آمنة طيبة ، ولهم - أيضاً - فى الآخرة ما يسرهم من فوز برضوان الله ، ومن دخول جنته .
قال الآلوسى ما ملخصه : " والثابت فى أكثر الروايات ، أن البشرى فى الحياة الدنيا ، هى الرؤيا الصالحة . . فقد أخرد الطيالسي وأحمد الدارمي والترمذي . . وغيرهم عن عبادة بن الصامت قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله - تعالى - { لَهُمُ البشرى فى الحياة الدنيا } فقال : " هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له " .
وقيل المراد بالبشرى : البشرى العاجلة نحو النصر والغنيمة والثناء الحسن ، والذكر الجميل ، ومحبة الناس ، وغير ذلك .
ثم قال : وأنت تعلم أنه لا ينبغي العدول عما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى تفسير ذلك إذا صح . وحيث عدل من عدل لعدم وقوفه على ذلك فيما أظن ، فالأولى أن تحمل البشرى فى الدارين على البشارة بما يحقق نفي الخوف والحزن كائناً ما كان . . . "
وقوله : { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله } أى : لا تغيير ولا خلف لأقوال الله - تعالى - ولا لما وعد به عباده الصالحين من وعود حسنة ، على رأسها هذه البشرى التي تسعدهم فى الحياة الدنيا وفى الآخرة .
واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - { ذلك هُوَ الفوز العظيم } يعود إلى ما ذكر من البشرى فى الدارين .
أى : ذلك المذكور من أن لهم البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة ، هو الفوز العظيم الذى لا فوز وراءه ، والذي لا يفوته نجاح أو فضل .الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 2132)(1/310)
يونس/62-64] }
الموالاةُ والمعاداةُ قائمان على الحبِّ والبغضِ(1)
لا شك أن الولاء والبراء مبنيان على قاعدة: الحب والبغض، فينبغي للداعية أن يوضح للناس ويحضهم على الموالاة والمعاداة وتكون على ثلاثة أوجه:
1- من يحب محبة كاملة: وهذه المحبة للمؤمنين المتقين: من الأنبياء والمرسلين وعباد الله المحسنين القائمين بجميع ما أمر الله به، المبتعدين عن جميع ما نهى الله عنه .
2- من يحب من وجه ويكره من وجه؛ لأنه قد يجتمع في المؤمن ولاية من وجه وعداوة من وجه آخر وهذا هو المسلم الذي خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا فيحب ويوالى على قدر ما معه من الخير، ويبغض ويعادى على قدر ما معه من الشر.
3 - من يبغض من كل وجه: وهو من كفر بالله عَزَّ وجَلَّ، فيجب بغضه بالقلب كاملًا لازمًا لا نقص فيه، أما بالبدن والأعمال فعلى حسب القدرة ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة لا نقص فيها، وفعل العبد معها بحسب قدرته فإنه يعطى ثواب الفعل الكامل إن شاء الله تعالى .
=============
المبحثُ الثامنُ
التقربُ إلى الله تعالى بالفرائض
وقوله : ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ،)) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله(2):
__________
(1) - انظر فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري - (ج 3 / ص 33)
(2) - فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 342)(1/311)
" يَجُوزُ فِي " أَحَبّ " الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ جَمِيعُ فَرَائِضِ الْعَيْنِ وَالْكِفَايَةِ ، وَظَاهِرُهُ الِاخْتِصَاصُ بِمَا اِبْتَدَأَ اللَّه فَرْضِيَّتَهُ ، وَفِي دُخُول مَا أَوْجَبَهُ الْمُكَلَّف عَلَى نَفْسِهِ نَظَرٌ لِلتَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ اِفْتَرَضْت عَلَيْهِ ، إِلَّا إِنْ أُخِذَ مِنْ جِهَة الْمَعْنَى الْأَعَمِّ ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ أَدَاء الْفَرَائِض أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّه . قَالَ الطُّوفِيُّ : الْأَمْرُ بِالْفَرَائِضِ جَازِمٌ وَيَقَعُ بِتَرْكِهَا الْمُعَاقَبَةُ بِخِلَافِ النَّفْلِ فِي الْأَمْرَيْنِ وَإِنْ اِشْتَرَكَ مَعَ الْفَرَائِضِ فِي تَحْصِيلِ الثَّوَابِ فَكَانَتْ الْفَرَائِضُ أَكْمَلَ ، فَلِهَذَا كَانَتْ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَشَدَّ تَقْرِيبًا ، وَأَيْضًا فَالْفَرْضُ كَالْأَصْلِ وَالْأُسِّ وَالنَّفْلُ كَالْفَرْعِ وَالْبِنَاءِ ، وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْفَرَائِضِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ اِمْتِثَالُ الْأَمْرِ وَاحْتِرَامُ الْآمِرِ وَتَعْظِيمُهُ بِالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ وَإِظْهَارُ عَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ فَكَانَ التَّقَرُّبُ بِذَلِكَ أَعْظَمَ الْعَمَلِ ، وَاَلَّذِي يُؤَدِّي الْفَرَائِض قَدْ يَفْعَلهُ خَوْفًا مِنْ الْعُقُوبَةِ وَمُؤَدِّي النَّفْلِ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا إِيثَارًا لِلْخِدْمَةِ فَيُجَازَى بِالْمَحَبَّةِ الَّتِي هِيَ غَايَةُ مَطْلُوبِ مَنْ يَتَقَرَّبُ بِخِدْمَتِهِ ."
وقال ابن عثمين رحمه الله(1):
__________
(1) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 1 / ص 415)(1/312)
" يعني أن الله يقول ما تقرب إلي الإنسان بشيء أحب إلي مما افترضته عليه يعني أن الفرائض أحب إلى الله من النوافل فالصلوات الخمس مثلا أحب إلى الله من قيام الليل وأحب إلى الله من النوافل وصيام رمضان أحب إلى الله من صيام الإثنين والخميس والأيام الست من شوال وما أشبهها كل الفرائض أحب إلى الله من النوافل، ووجه ذلك أن الفرائض وكدها الله عز وجل فألزم بها العباد وهذا دليل على شدة محبته لها عز وجل فلما كان يحبها شديدا ألزم بها العباد، أما النوافل فالإنسان حر إن شاء تنفل وزاد خيرا وإن شاء لم يتنفل، لكن الفرائض أحب إلى الله وأوكد والغريب أن الشيطان يأتي الناس فتجدهم في النوافل يحسنونها تماما تجده مثلا في صلاة الليل يخشع ولا يتحرك ولا يذهب قلبه يمينا ولا شمالا لكن إذا جاءت الفرائض فالحركة كثيرة والوساوس كثيرة والهواجس بعيدة وهذا من تزيين الشيطان فإذا كنت تزين النافلة ،فالفريضة أحق بالتزين فأحسن الفريضة لأنها أحب إلى الله عز وجل من النوافل .اهـ
وقال الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد البدر(1):
" في هذه الجملة وما بعدها بيان أنَّ ولاية الله إنَّما تحصل بالتقرُّب إليه بأداء الفرائض، والإتيان مع ذلك بالنوافل، وهو يدلٌُّ على أنَّ التقرُّبَ بأداء الفرائض أحبُّ إلى الله من النوافل؛ لأنَّ في ذلك فعل ما أوجب الله وترك ما حرَّم الله، والآتي بالواجبات التارك للمحرَّمات هو المقتصد، ومَن أتى بها وأتى بالنوافل معها فهو السابق بالخيرات.اهـ
وفي فيض الباري :(2)
__________
(1) - فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين - (ج 1 / ص 128)
(2) - فيض الباري شرح صحيح البخاري - (ج 6 / ص 192)(1/313)
" وأمَّا ما ذكروه في القرب بالفرائض، فلا لفظَ له في الحديث، إلاَّ أنَّهم أخذوه بالمقابلة. والذي تبيَّن لي أن القربَ في الفرائض أَزْيَدُ وأكملُ، فإنه يَجْلِبُ المحبوبيةَ له تعالى من أوَّل الأمر. بخلاف القُرْب في النوافل، فإنها تَجْلِبُ المحبوبيةَ تدريجاً، وإن كانت ثمرتُها في الانتهاء أيضاً هي المحبوبيةُ. ولكن ما يَحْصُلُ من النوافل آخراً يَحْصُلُ من الفرائضِ أوَّلاً، فأنَّى يستويان وإليه تُرْشِدُ ألفاظُ الحديث، فإنَّه قال في الفرائض: «ما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أَحَبَّ إليَّ ممَّا افترضتُ عليه»، فجعل مفروضَه أحبَّ إليه من أوَّل الأمر، وجعل ثمرتَه القربَ. بخلاف النوافل، فإنَّ القُرْبَ منها تدريجيٌّ، يتدرَّجُ العبدُ إليه شيئاً فشيئاً. وبالجملةِ أنَّهما في النتيجة سواء، وهي المحبوبيةُ، غير أنَّها تْحْصُلُ بالفرائض أوَّلاً، وبالنوافل ثانياً. "
وليُّ الرحمنِ متابعٌ للرسولِ صلى الله عليه وسلم في الأمرِ والنهيِ(1)
__________
(1) - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لشبخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بتحقيقي ص159(1/314)
فَإِذَا كَانَ وَلِيُّ اللَّهِ هُوَ الْمُوَافِقُ الْمُتَابِعُ لَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ ،وَيُبْغِضُهُ وَيُسْخِطُهُ، وَيَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ ،كَانَ الْمُعَادِي لِوَلِيِّهِ مُعَادِيًا لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} (1)(1)سورة الممتحنة .
فَمَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدْ عَادَاهُ، وَمَنْ عَادَاهُ فَقَدْ حَارَبَهُ فَلِهَذَا قَالَ :{ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِى بِالْحَرْبِ}(2).
----------
__________
(1) - يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، لا تتخذوا عدوي وعدوكم خلصاء وأحباء، تُفْضون إليهم بالمودة، فتخبرونهم بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وسائر المسلمين، وهم قد كفروا بما جاءكم من الحق من الإيمان بالله ورسوله وما نزل عليه من القرآن، يخرجون الرسول ويخرجونكم- أيها المؤمنون- من "مكة"؛ لأنكم تصدقون بالله ربكم، وتوحدونه، إن كنتم- أيها المؤمنون- هاجرتم مجاهدين في سبيلي، طالبين مرضاتي عنكم، فلا توالوا أعدائي وأعداءكم، تُفْضون إليهم بالمودة سرًّا، وأنا أعلم بما أخفيتم وما أظهرتم، ومن يفعل ذلك منكم فقد أخطأ طريق الحق والصواب، وضلَّ عن قصد السبيل.
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 3 / ص 346)(6622) والبخاري (6502) بلفظ ( مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ)(1/315)
أفضلُ الأولياءِ الأنبياءُ والمرسلونَ(1)
وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ هُمْ أَنْبِيَاؤُهُ ،وَأَفْضَلُ أَنْبِيَائِهِ هُمُ الْمُرْسَلُونَ مِنْهُمْ ،وَأَفْضَلُ الْمُرْسَلِينَ أُولُو الْعَزْمِ : نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى : {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}(2)(
__________
(1) - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لشبخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بتحقيقي ص161-162
(2) - شَرَعَ اللهُ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا شَرَعَ لِنُوحٍ ، وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ وَأُوْلِي العَزْمِ مِنَ الرُسُلِ ، وَأَمْرَهُمْ أَمْراً مُؤَكَّداً مِمَّا هُوَ أَصْلُ الإِيْمَانِ ، وَأَصْلُ الشَّرَائِعِ ، مِمَّا لاَ يَخْتَلِفُ بِاخْتَلافِ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ : كَالإِيْمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَالإِيْمَانِ بِاليَوْمِ الآخِرِ ، وَالإِيْمَانِ بِالمَلاَئِكَةِ وَالكُتُبِ والرُّسُلِ . وَقَدْ أَوْصَاهُمْ تَعَالَى جَمِيعاً بِإِقَامَةِ دِينِ التَّوْحِيدِ والتَّمْسُّكِ بِهِ ، وَبِحِفْظِهِ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِيهِ زَيغٌ أَوِ اضْطِرَابٌ ، وَبِأَلاَّ يَتَفَرَّقُوا فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَمَبَادِئِهَا .
( أَمَّا فِي التَّفَاصِيلِ فَقَدْ جَاءَ كُلُّ مُرْسَلٍ بِمَا يُنَاسِبُ قَوْمَهُ وَزَمَانَهُ ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ) .
وَقَدْ شَقَّ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيهِ مِنَ التَّوْحِيدِ ، وَتَركِ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ ، وَمَا أَلْفَوْا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ ، وَاللهُ يَصْطَفِي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيُقَرِّبُهُمْ إِلَيهِ ، وَيُوَفِّقُهُمْ لِلعَمَلِ بِطَاعَتِهِ ، وَأتِّبَاعِ رُسُلِهِ .(1/316)
13) سورة الشورى، وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)(1)} [الأحزاب/7، 8] .
__________
(1) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أولي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ هُمْ خَمْسَةٌ : نُوحٌ وَإِبراهيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وُحَمَّدٌ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَخَذَ العَهْدَ والمِيثَاقَ عَلَى هؤلاءِ الرُّسُلِ ، وَعَلَى سَائِرِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ فِي إِبلاغِ رِسَالَةِ اللهِ لِلنَّاسِ ، وَإِقَامَةِ دِين اللهِ ، وفي التَّعاوُنِ والتَّنَاصُر { أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } وَأَعْلَمَ اللهُ تَعَالى الرُّسُلَ والأَنبياءَ أَنَّهُ سَيَْأَلُهُمْ عَمَّا فَعَلُوهُ فِي إِبلاغِ الرِّسَالةِ { وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين } فَاعْتَبَرَ ذَلِكَ مِيثاقاً غَلِيظاً ، عَظِيمَ الشَّأْنِ .
وَقَدْ أَخَذَ اللهُ تَعَالى المِيثَاقَ عَلَى الأَنبياءِ لِيَسْأَلَهُمْ عَمَّا أَجَابَتْهُمْ بِهِ الأُمَمُ التي أُرسِلُوا إِليها ، وَعَمّا فَعَلَتْهُ الأُمَمُ فِيما بَلَّغَهُ المُرْسَلونَ إِليها مِنْ رِسَالَةِ رَبِّهِمْ ، وَلِيَسْأَلْ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ، لِيُكَافِئَهُمْ عَلَيهِ ، وَلِيَسْأَلَ الكَاذِبينَ عَنْ كَذِبِهِمْ ، لِيُعاقِبَهُمْ عَلَيهِ ، وَقَدْ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً فِي نَارِ جَهَنَّمَ .(1/317)
وَأَفْضَلُ أُولِي الْعَزْمِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،خَاتَمُ النَّبِيِّينَ(1)،وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ(2)،
__________
(1) - قال تعالى : مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) [الأحزاب/40، 41]
(2) - ففي صحيح البخارى (7367 ) عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عَطَاءٌ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِى أُنَاسٍ مَعَهُ قَالَ أَهْلَلْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى الْحَجِّ خَالِصًا لَيْسَ مَعَهُ عُمْرَةٌ - قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ - فَقَدِمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَحِلَّ وَقَالَ « أَحِلُّوا وَأَصِيبُوا مِنَ النِّسَاءِ » . قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ فَبَلَغَهُ أَنَّا نَقُولُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلاَّ خَمْسٌ أَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ إِلَى نِسَائِنَا فَنَأْتِى عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَذْىَ قَالَ وَيَقُولُ جَابِرٌ بِيَدِهِ هَكَذَا وَحَرَّكَهَا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّى أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَصْدَقُكُمْ وَأَبَرُّكُمْ وَلَوْلاَ هَدْيِى لَحَلَلْتُ كَمَا تَحِلُّونَ فَحِلُّوا فَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ » . فَحَلَلْنَا وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا .
وفي مسند أحمد(24402) عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ أَنَّ الأَنْصَارِىَّ أَخْبَرَ عَطَاءً أَنَّهُ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ صَائِمٌ فَأَمَرَ امْرَأَتَهُ فَسَأَلَتِ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ». فَأَخْبَرَتْهُ امْرَأَتُهُ فَقَالَ إِنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يُرَخَّصُ لَهُ فِى أَشْيَاءَ فَارْجِعِى إِلَيْهِ فَقُولِى لَهُ. فَرَجَعَتْ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ قَالَ إِنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يُرَخَّصُ لَهُ فِى أَشْيَاءَ. فَقَالَ « أَنَا أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِ اللَّهِ ». وهو صحيح(1/318)
وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ(1)،وَإِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ إذَا اجْتَمَعُوا وَخَطِيبُهُمْ إذَا وَفَدُوا(2)،
__________
(1) - عَنِ الأَوْزَاعِىِّ حَدَّثَنِى أَبُو عَمَّارٍ حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَرُّوخَ حَدَّثَنِى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ ».صحيح مسلم (6079 )
(2) - عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« أَنَا أَوَّلُهُمْ خُرُوجاً ، وَأَنَا قَائِدُهُمْ إِذَا وَفَدُوا ، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا أَنْصَتُوا ، وَأَنَا مُسْتَشْفِعُهُمْ إِذَا حُبِسُوا ، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أَيِسُوا ، الْكَرَامَةُ وَالْمَفَاتِيحُ يَوْمَئِذٍ بِيَدِى ، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّى ، يَطُوفُ عَلَىَّ أَلْفُ خَادِمٍ كَأَنَّهُمْ بَيْضٌ مَكْنُونٌ أَوْ لُؤْلُؤٌ مَنْثُورٌ ».
كثير 7/12 ونبوة 5/484 و الإتحاف 10/496 وجامع الأصول 8/527 وت (3610) ومي 1/26 (49 )وع (160) والسنة الخلال(235) ومجمع 8/254عبد الله بن سلام
حسن لغيره(1/319)
صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ(1)الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ وَصَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ(2)
__________
(1) - قال تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (79) سورة الإسراء
(2) - عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ وَبِيَدِى لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلاَ فَخْرَ وَمَا مِنْ نَبِىٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلاَّ تَحْتَ لِوَائِى وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ وَلاَ فَخْرَ قَالَ فَيَفْزَعُ النَّاسُ ثَلاَثَ فَزَعَاتٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ أَبُونَا آدَمُ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ. فَيَقُولُ إِنِّى أَذْنَبْتُ ذَنْبًا أُهْبِطْتُ مِنْهُ إِلَى الأَرْضِ وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا. فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ إِنِّى دَعَوْتُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ دَعْوَةً فَأُهْلِكُوا وَلَكِنِ اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ إِنِّى كَذَبْتُ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا مِنْهَا كَذْبَةٌ إِلاَّ مَاحَلَ بِهَا عَنْ دِينِ اللَّهِ وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى. فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ إِنِّى قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى. فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ إِنِّى عُبِدْتُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا قَالَ فَيَأْتُونَنِى فَأَنْطَلِقُ مَعَهُمْ ». قَالَ ابْنُ جُدْعَانَ قَالَ أَنَسٌ فَكَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « فَآخُذُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ فَأُقَعْقِعُهَا فَيُقَالُ مَنْ هَذَا فَيُقَالُ مُحَمَّدٌ..فَيَفْتَحُونَ لِى وَيُرَحِّبُونَ فَيَقُولُونَ مَرْحَبًا فَأَخِرُّ سَاجِدًا فَيُلْهِمُنِى اللَّهُ مِنَ الثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ فَيُقَالُ لِى ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَقُلْ يُسْمَعْ لِقَوْلِكَ وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِى قَالَ اللَّهُ (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) ». سنن الترمذى (3441 ) وهو حديث حسن
و عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنْتَظِرُونَهُ قَالَ فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ فَسَمِعَ حَدِيثَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ عَجَبًا إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلاً اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً. وَقَالَ آخَرُ مَاذَا بِأَعْجَبَ مِنْ كَلاَمِ مُوسَى كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا وَقَالَ آخَرُ فَعِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ. وَقَالَ آخَرُ آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ وَقَالَ « قَدْ سَمِعْتُ كَلاَمَكُمْ وَعَجَبَكُمْ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَمُوسَى نَجِىُّ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ وَهُوَ كَذَلِكَ أَلاَ وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَلاَ فَخْرَ وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حِلَقَ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُ اللَّهُ لِىَ فَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِى فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ فَخْرَ وَأَنَا أَكْرَمُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَلاَ فَخْرَ ». سنن الترمذى (3976 ) وهو حسن لغيره
و عَنْ أَنَسٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنِّى لأَوَّلُ النَّاسِ تَنْشَقُّ الأَرْضُ عَنْ جُمْجُمَتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ وَأُعْطَى لِوَاءَ الْحَمْدِ وَلاَ فَخْرَ وَأَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ وَإِنِّى آتِى بَابَ الْجَنَّةِ فَآخُذُ بِحَلْقَتِهَا فَيَقُولُونَ مَنْ هَذَا فَيَقُولُ أَنَا مُحَمَّدٌ. فَيَفْتَحُونَ لِى فَأَدْخُلُ ...َ » مسند أحمد (12804) وهو صحيح(1/320)
وَصَاحِبُ الْحَوْضِ الْمَوْرُودِ(1)وَشَفِيعُ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ(2)
__________
(1) - عَنِ ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « حَوْضِى مَسِيرَةُ شَهْرٍ ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلاَ يَظْمَأُ أَبَدًا » . صحيح البخارى (6579 ) وأحاديثه متواترة
(2) - قلت : ونؤمنُ بالشفاعةِ التي أذنَ الله تعالى بها لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فله في القيامة عدة شفاعاتٍ:
-أما الأولى: فشفاعتُه في أهل الموقف كي يقضَى بينهم بعد أن يتراجعَ الأنبياءُ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام عن الشفاعةِ حتى تنتهي إلى نبينا محمدٍ عليه الصلاة والسلام. عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِى بَعْضٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ. فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ. فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ. فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- فَيَأْتُونِى فَأَقُولُ أَنَا لَهَا. فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى فَيُؤْذَنُ لِى وَيُلْهِمُنِى مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لاَ تَحْضُرُنِى الآنَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى. فَيُقَالُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ. فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى. فَيُقَالُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ. فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى. فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ. فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ». قَالَ « ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَقُولُ يَا رَبِّ ائْذَنْ لِى فِيمَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَيَقُولُ وَعِزَّتِى وَجَلاَلِى وَكِبْرِيَائِى وَعَظَمَتِى لأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ».( أخرجه البخاري ومسلم ) . وهي التي عناها القرآن الكريم بقوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (79) سورة الإسراء
-وأمَّا الثانية: فيشفعُ في أهل الجنةِ أن يدخلوا الجنة، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالاَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَجْمَعُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلاَّ خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اذْهَبُوا إِلَى ابْنِى إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ - قَالَ - فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلاً مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ اعْمِدُوا إِلَى مُوسَى -صلى الله عليه وسلم- الَّذِى كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا. فَيَأْتُونَ مُوسَى -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللَّهِ وَرُوحِهِ. فَيَقُولُ عِيسَى -صلى الله عليه وسلم- لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ. فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ وَتُرْسَلُ الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَتَقُومَانِ جَنَبَتَىِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالاً فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ ». قَالَ قُلْتُ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى أَىُّ شَىْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ قَالَ « أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِى طَرْفَةِ عَيْنٍ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ وَشَدِّ الرِّجَالِ تَجْرِى بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ حَتَّى يَجِىءَ الرَّجُلُ فَلاَ يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلاَّ زَحْفًا - قَالَ - وَفِى حَافَتَىِ الصِّرَاطِ كَلاَلِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ وَمَكْدُوسٌ فِى النَّارِ ». وَالَّذِى نَفْسُ أَبِى هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا.( أخرجه مسلم ) ،
- وأما الثالثة : فهي شفاعته في تخفيف العذاب عن بعض المشركين؛ كما في شفاعته لعمه أبي طالب، فيكون في ضحضاح من نار؛ فعنِ الْعَبَّاسَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رضى الله عنه -أنّهُ قَالَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - :مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ . قَالَ : « هُوَ فِى ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ ، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِى الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ » (أخرجه الشيخان) . لأنَّ الله أخبر أن الكافرين لا تنفعهم شفاعة الشافعين، ونبينا صلى الله عليه وسلم أخبر أن شفاعته لأهل التوحيد خاصة . فشفاعتُه لعمه أبي طالب خاصة به وخاصة لأبي طالب، وهذه الشفاعات الثلاث خاصة له عليه الصلاة والسلام .
- وأما الرابعة : فشفاعته فيمن استحق النار من الموحدين أن يخرج منها، أو لا يدخلها أصلاً ، وهذا النوع له صلى الله عليه وسلم ، ولسائر النبيين والصديقين والشهداء ونحوهم ممن أذنَ الله لهم، فيشفعُ فيمن استحقَّ النار ألا يدخلَها، ويشفعُ فيمن دخلَها أن يخرجَ منها، فعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، يُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ » (أخرجه البخاري) . و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « شَفَاعَتِى لأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِى ».( أخرجه أبو داود ) .
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذه الشفاعات كلها لثبوت أدلتها وأنها لا تحققُ إلا بشرطين :
الشرط الأول : إذن الله للشافع أن يشفعَ، كما قال تعالى : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } الآية ( 255 ) البقرة ، وقوله تعالى :{ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } الآية ( 3 ) من سورة يونس .
الشرط الثاني : رضا اللهِ عن المشفوع له كما قال تعالى : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } الآية ( 28 ) الأنبياء ويجمع الشرطين قوله تعالى : { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شيئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى } الآية ( 26 ) النجم .
"وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ الْخَلْقِ جَاهًا عِنْدَ اللَّهِ لَا جَاهَ لِمَخْلُوقِ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ جَاهِهِ وَلَا شَفَاعَةَ أَعْظَمُ مِنْ شَفَاعَتِهِ .مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 145)
"وَأَمَّا شَفَاعَتُهُ وَدُعَاؤُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَهِيَ نَافِعَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ شَفَاعَتُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي زِيَادَةِ الثَّوَابِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قِيلَ إنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبِدْعَةِ يُنْكِرُهَا . وَأَمَّا شَفَاعَتُهُ لِأَهْلِ الذُّنُوبِ مِنْ أُمَّتِهِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ "مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 148)(1/321)
وَصَاحِبُ الْوَسِيلَةِ وَالْفَضِيلَةِ(1)الَّذِي بَعَثَهُ بِأَفْضَلِ كُتُبِهِ(2)،
__________
(1) - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِى وَعَدْتَهُ ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ » . صحيح البخارى( 614 )
". فَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً . وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ هَذِهِ الْوَسِيلَةَ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَبْدَ وَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَهَا لِلرَّسُولِ وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ سَأَلَ لَهُ هَذِهِ الْوَسِيلَةَ فَقَدْ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَلَمَّا دَعَوْا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحَقُّوا أَنْ يَدْعُوَ هُوَ لَهُمْ فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ نَوْعٌ مِنْ الدُّعَاءِ كَمَا قَالَ إنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا."مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 200)
(2) - قال تعالى : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) }[الإسراء/9-11]
هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم ، فيشمل الهدى أقواماً وأجيالاً بلا حدود من زمان أو مكان؛ ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق ، وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان .
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور ، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض ، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة ، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء ، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق .
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه ، وبين مشاعره وسلوكه ، وبين عقيدته وعمله ، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم ، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض ، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله ، ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعاً بالحياة .
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة ، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء . ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار . ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال .
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض : أفراداً وأزواجاً ، وحكومات وشعوباً ، ودولاً وأجناساً ، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى؛ ولا تميل مع المودة والشنآن؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض . الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه ، وهو أعلم بمن خلق ، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل ، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان .
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها ، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام .
إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء . فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه . فلا إيمان بلا عمل ، ولا عمل بلا إيمان . الأول مبتور لم يبلغ تمامه ، والثاني مقطوع لاركيزة له . وبهما معاً تسير الحياة على التي هي أقوم . . وبهما معاً تتحقق الهداية بهذا القرآن .
فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن ، فهم متروكون لهوى الإنسان . الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه وما يضره ، المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له :
{ ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً } . .
ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها . ولقد يفعل الفعل وهو شر ، ويعجل به على نفسه وهو لا يدري . أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه . . فأين هذا من هدى القرآن الثابت الهادئ الهادي؟
ألا إنهما طريقان مختلفان : شتان شتان . هدى القرآن وهوى الإنسان! اهـ في ظلال القرآن - (ج 5 / ص 8)(1/322)
وَشَرَعَ لَهُ أَفْضَلَ شَرَائِعِ دِينِهِ(1)، وَجَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ(2)،
__________
(1) - قال تعالى :{ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) }[الشورى/13، 14]
(2) - قال تعالى :{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران/110]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ فِي الوُجُودِ ، لأنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ إِيمَاناً صَادِقاً بِاللهِ ، وَيَظْهَرُ أثَرُهُ فِي نُفُوسِهِمْ ، فَيَنْزِعُهُمْ عَنِ الشَّرِّ ، وَيَصْرِفُهُمْ إلَى الخَيْرِ ، فَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَيَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرَاتِ وَمَا حَرَّمَ اللهُ مِنَ الظُّلْمِ وَالبَغْي .
وَلَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتَابِ إِيمَاناً صَحِيحاً يَسْتَوْلي عَلَى النُّفُوسِ ، وَيَمْلِكُ أَزِمَّةِ القُلُوبِ فَيَكُونُ مَصْدَرَ الفَضَائِلِ وَالأَخْلاَقِ الحَسَنَةِ ، كَمَا تُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ ، أَيُّها المُسْلِمُونَ ، لَكَانَ ذَلِكَ خَيْراً لَهُمْ مِمَّا يَدَّعُونَهُ مِنْ إِيمَانٍ لاَ يَزَعُ النُّفُوسَ عَنِ الشُّرُورِ ، وَلا يُبْعِدُهَا عَنِ الرَّذَائِلِ . وَبَيْنَ أهْلِ الكِتَابِ جَمَاعَةٌ مُؤْمِنُونَ مُخْلِصُونَ فِي إيمَانِهِمْ ، وَلَكِنّ أكْثَرَهُمْ فَاسِقُونَ عَنْ دِينِهِمْ ، مُتَمَرِّدُونَ فِي الكُفْرِ .(1/323)
وَجَمَعَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ مِنْ الْفَضَائِلِ وَالْمَحَاسِنِ مَا فَرَّقَهُ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ، وَهُمْ آخِرُ الْأُمَمِ خَلْقًا وَأَوَّلُ الْأُمَمِ بَعْثًا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : « نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِى فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَهَدَانَا اللَّهُ ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ ، الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ »(1). وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :{ أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ }(2)، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « آتِى بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ مَنْ أَنْتَ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ. فَيَقُولُ بِكَ أُمِرْتُ لاَ أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ »(3). وَفَضَائِلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(4)
__________
(1) - البخارى (876 ) ومسلم (2018 )
(2) - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ فَأُكْسَى الْحُلَّةَ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلاَئِقِ يَقُومُ ذَلِكَ الْمَقَامَ غَيْرِى ».سنن الترمذى (3970 ) قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ. وهو كما قال
(3) - صحيح مسلم(507 )
(4) - من فضائل الرسول صلى الله عليه وسلم :
إن فاتكم أن تروه بالعيون فما . . . يفوتكم وصفه هذى شمائله
مكمل الذات في خلق وفي خلُق . . . وفي صفات فلا تحصى فضائله
- قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) [الأحزاب/45-47]} .
- { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) [الأحزاب/40، 41]} .
- {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) [الأنبياء/107، 108]}
-عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَنَا أَكْثَرُ الأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ ». مسلم (505 )
- وعَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ قَالَ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِى الْجَنَّةِ لَمْ يُصَدَّقْ نَبِىٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مَا صُدِّقْتُ وَإِنَّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيًّا مَا يُصَدِّقُهُ مِنْ أُمَّتِهِ إِلاَّ رَجُلٌ وَاحِدٌ ». مسلم(506 )
- وعن عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْعَالِيَةِ حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِى مُعَاوِيَةَ دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلاً ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم- « سَأَلْتُ رَبِّى ثَلاَثًا فَأَعْطَانِى ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِى وَاحِدَةً سَأَلْتُ رَبِّى أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِى بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِى بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا » مسلم (7442 ) . السنة : الجدب والقحط
-وعَنْ أَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - كَيْفَ كَانَتْ صَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى رَمَضَانَ قَالَتْ مَا كَانَ يَزِيدُ فِى رَمَضَانَ وَلاَ غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، يُصَلِّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَلاَ تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ، ثُمَّ يُصَلِّى أَرْبَعًا فَلاَ تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ، ثُمَّ يُصَلِّى ثَلاَثًا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ قَالَ « تَنَامُ عَيْنِى وَلاَ يَنَامُ قَلْبِى » . صحيح البخارى(3569 )
- وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن سَلامٍ، قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا فَخْرٌ، وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ وَلا فَخْرٌ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَمُشَفَّعٌ، لِوَاءُ الْحَمْدِ بِيَدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَحْتِي آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ".المعجم الكبير للطبراني - (ج 18 / ص 450)(165 )صحيح لغيره
- وَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِىَ الْغَنَائِمُ وَجُعِلَتْ لِىَ الأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِىَ النَّبِيُّونَ » صحيح مسلم (1195 ).10-و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِى آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا ، حَتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِى كُنْتُ فِيهِ » . صحيح البخارى (3557 )
- و عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِى كَرَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا وَيَقُولُونَ لَوْلاَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ ».سنن الترمذى (3101 )صحيح
- و عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ مَكْتُوبٌ خَاتِمُ النَّبِيِّينَ ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ ، وَسَأُخْبِرُكُمْ بِأَوَّلِ أَمْرِي : دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ ، وَبِشَارَةُ عِيسَى ، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْنِي ، وَقَدْ خَرَجَ لَهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهَا مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ " شرح السنة للبغوي (3427) حسن
-و عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِىَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا ، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِى غَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ . قَالَ « مَا أَنَا بِقَارِئٍ » . قَالَ « فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ اقْرَأْ . قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ . فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ اقْرَأْ . فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ . فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّالِثَةَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) » . فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضى الله عنها فَقَالَ « زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى » . فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ « لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى » . فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ . فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ - وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِىَّ ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِىَ - فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِى مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأَى . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا ، لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَوَمُخْرِجِىَّ هُمْ » . قَالَ نَعَمْ ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِىَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا . ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّىَ وَفَتَرَ الْوَحْىُ . صحيح البخارى(3 )(1/324)
وَفَضَائِلُ أُمَّتِهِ كَثِيرَةٌ(1)،
__________
(1) - قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) }[البقرة/143]
إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا , فتقيم بينهم العدل والقسط ; وتضع لهم الموازين والقيم ;وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد ; وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها , وتقول:هذا حق منها وهذا باطل . لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها . وهي شهيدة على الناس , وفي مقام الحكم العدل بينهم . . وبينما هي تشهد على الناس هكذا , فإن الرسول هو الذي يشهد عليها ; فيقرر لها موازينها وقيمها ; ويحكم على أعمالها وتقاليدها ; ويزن ما يصدر عنها , ويقول فيه الكلمة الأخيرة . . وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها . . لتعرفها , ولتشعر بضخامتها . ولتقدر دورها حق قدره , وتستعد له استعدادا لائقا . .
وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل , أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد , أو من الوسط بمعناه المادي الحسي . .
(
أمة وسطا) . . في التصور والاعتقاد . . لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي . إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد , أو جسد تتلبس به روح . وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد , وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها , وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع , بلا تفريط ولا إفراط , في قصد وتناسق واعتدال .
(أمة وسطا) . . في التفكير والشعور . . لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجرتة والمعرفة . . . ولا تتبع كذلك كل ناعق , وتقلد تقليد القردة المضحك . . إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب ; وشعارها الدئم:الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها , في تثبت ويقين .
(أمة وسطا) . . في التنظيم والتنسيق . . لا تدع الحياة كلها للمشاعر , والضمائر , ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب . إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب , وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب ; وتزاوج بين هذه وتلك , فلا تكل الناس إلى سوط السلطان , ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان . . ولكن مزاج من هذا وذاك.
(أمة وسطا) . . في الارتباطات والعلاقات . . لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته , ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة ; ولا تطلقه كذلك فردا أثرا جشعا لا هم له إلا ذاته . . إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء ; وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه . ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو , ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة ; وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة , والجماعة كافلة للفرد في كافلة للفرد في تناسق واتساق .
(أمة وسطا) . . في المكان . . في سرة الأرض , وفي أوسط بقاعها . وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب , وجنوب وشمال , وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا , وتشهد على الناس جميعا ; وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة ; وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك ; وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء .
(أمة وسطا) . . في الزمان . . تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها ; وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها . وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها ; وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى ; وتزواج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات , ورصيدها العقلي المستمر في النماء ; وتسيربها على الصراط السوي بين هذا وذاك .
وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها , إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره لها , واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها , واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها ! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها .
وأمة تلك وظيفتها , وذلك دورها , خليقة بأن تحتمل التبعة وتبذل التضحية , فللقيادة تكاليفها , وللقوامة تبعاتها , ولا بد أن تفتن قبل ذلك وتبتلى , ليتأكد خلوصها لله وتجردها , واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الراشدة .
وإذن يكشف لهم عن حكمة اختيار القبلة التي كانوا عليها , بمناسبة تحويلهم الآن عنها:
(وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) . .
ومن هذا النص تتضح خطة التربية الربانية التي يأخذ الله بها هذه الجماعة الناشئة , التي يريد لها أن تكون الوارثة للعقيدة , المستخلفة في الأرض تحت راية العقيدة . إنه يريد لها أن تخلص له ; وأن تتخلص من كل رواسب الجاهلية ووشائجها ; وأن تتجرد من كل سماتها القديمة ومن كل رغابها الدفينة ; وأن تتعرى من كل رداء لبسته في الجاهلية , ومن كل شعار اتخذته , وأن ينفرد في حسها شعار الإسلام وحده لا يتلبس به شعار آخر , وأن يتوحد المصدر الذي تتلقى منه لا يشاركه مصدر آخر .
ولما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به في نفوس العرب فكرة أخرى غير فكرة العقيدة ; وشابت عقيدة جدهم إبراهيم شوائب من الشرك , ومن عصبية الجنس , إذ كان البيت يعتبر في ذلك الحين بيت العرب المقدس . . والله يريده أن يكون بيت الله المقدس , لا يضاف إليه شعار آخر غير شعاره , ولا يتلبس بسمة أخرى غير سمته .
لما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به هذه السمة الأخرى , فقد صرف الله المسلمين عنه فترة , ووجههم إلى بيت المقدس , ليخلص مشاعرهم من ذلك التلبس القديم أولا ; ثم ليختبر طاعتهم وتسليمهم للرسول صلى الله عليه وسلم ثانيا , ويفرز الذين يتبعونه لأنه رسول الله , والذين يتبعونه لأنه أبقى على البيت الحرام قبلة , فاستراحت نفوسهم إلى هذا الإبقاء تحت تأثير شعورهم بجنسهم وقومهم ومقدساتهم القديمة .
إنها لفتة دقيقة شديدة الدقة . . إن العقيدة الإسلامية لا تطيق لها في القلب شريكا ; ولا تقبل شعارا غير شعارها المفرد الصريح ; إنها لا تقبل راسبا من رواسب الجاهلية في أية صورة من الصور . جل أم صغر . وهذا هو إيحاء ذلك النص القرآني: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) . . والله - سبحانه - يعلم كل ما يكون قبل أن يكون . ولكنه يريد أن يظهر المكنون من الناس , حتى يحاسبهم عليه , ويأخذهم به . فهو - لرحمته بهم - لا يحاسبهم على ما يعلمه من أمرهم , بل على ما يصدر عنهم ويقع بالفعل منهم .
ولقد علم الله أن الانسلاخ من الرواسب الشعورية , والتجرد من كل سمة وكل شعار له بالنفس علقة . . أمر شاق , ومحاولة عسيرة . . إلا أن يبلغ الإيمان من القلب مبلغ الاستيلاء المطلق , وإلا أن يعين الله هذا القلب في محاولته فيصله به ويهديه إليه:
(وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) . .
فإذا كان الهدى فلا مشقة ولا عسر في أن تخلع النفس عنها تلك الشعارات , وأن تنفض عنها تلك الرواسب ; وأن تتجرد لله تسمع منه وتطيع , حيثما وجهها الله تتجه , وحيثما قادها رسول الله تقاد .
ثم يطمئن المسلمين على إيمانهم وعلى صلاتهم . إنهم ليسوا على ضلال , وإن صلاتهم لم تضع , فالله سبحانه لا يعنت العباد , ولا يضيع عليهم عبادتهم التي توجهوا بها إليه ; ولا يشق عليهم في تكليف يجاوز طاقتهم التي يضاعفها الإيمان ويقويها:
(وما كان الله ليضيع إيمانكم , إن الله بالناس لرؤوف رحيم) . .
إنه يعرف طاقتهم المحدودة , فلا يكلفهم فوق طاقتهم ; وإنه يهدي المؤمنين , ويمدهم بالعون من عنده لاجتياز الامتحان , حين تصدق منهم النية , وتصح العزيمة . وإذا كان البلاء مظهرا لحكمته , فاجتياز البلاء فضل رحمته: (إن الله بالناس لرؤوف رحيم) . .
بهذا يسكب في قلوب المسلمين الطمأنينة , ويذهب عنها القلق , ويفيض عليها الرضى والثقة واليقين . .في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 17)(1/325)
وَمِنْ حِينِ بَعَثَهُ اللَّهُ جَعَلَهُ اللَّهُ الْفَارِقَ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ.(1)
__________
(1) - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، إِلاَّ مَنْ أَبَى » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ :« مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى » . صحيح البخارى(7280 )
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ :« وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِى أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِىٌّ وَلاَ نَصْرَانِىٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ».صحيح مسلم (403 )
وِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِى وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِى وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ ». مسند أحمد (5232) صحيح(1/326)
لا وَلِيًّ لِلَّهِ إلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم(1)،وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا(2)، فَلَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ،وَمَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ وَوِلَايَتَهُ وَهُوَ لَمْ يَتْبَعْهُ فَلَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ ؛ بَلْ مَنْ خَالَفَهُ كَانَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ قَالَ تَعَالَى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(3)(
__________
(1) - قال تعالى :{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) } [الفتح/8، 9]
(2) - قال تعالى : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء
(3) - هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ حِينَ دَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كَعْبَ بنَ الأشْرَفِ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنَ اليَهُودِ إلى الإِيمَانِ ، فَقَالوا : ( نَحْنُ أبْنَاءُ اللهِ وَأحِبَّاؤُهُ ) . فَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هذِهِ الآيَةَ ، وَفِيهَا يَأمُرُ اللهُ نَبيَّهُ الكَرِيمَ بِأنْ يَقُولَ لَهُمْ : مَنِ ادَّعَى حُبَّ اللهِ دُونَ أن يَتَّبعَ شَرْعَ مُحَمَّدٍ ، فَهُوَ غَيْرُ صَادِقٍ ، فَدِينُ اللهِ وَاحِدٌ ، وَشَرْعُهُ وَاحِدٌ ، وَالأدْيَانُ يَصَدِّقُ بَعْضُها بَعْضاً وَيُكَمِّلُها .
وَجَاءَ دِينُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِيَخْتِمَ الأدْيَانَ السَّابِقَةَ وَيُكَمِّلَها ، فَلاَ يُمْكِنُ أنْ يَدَّعِي أحَدٌ حُبَّ اللهِ ، وَهُوَ يَكْفُرُ بِشَرْعِهِ وَمَا أنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِه . وَمَنْ يَتَّبعْ شَرْعَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَيُخْلِصْ فِي ذَلِكَ يُحْبِبْهُ اللهُ ، وَاتِّبَاعِ أمْرِهِ . وَاللهُ كَثِيرُ الغُفْرَانِ لِعِبَادِهِ ، عَظِيمُ الرَّحْمَةِ بِهِمْ . وَجَاءَ فِي الصَّحِيحِ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " .(1/327)
31) سورة آل عمران ،قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: ادَّعَى قَوْمٌ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ مِحْنَةً لَهُمْ ،وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا أَنَّ مَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ ،وَمَنْ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ ،وَلَمْ يَتَّبِعْ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ(1)،
__________
(1) - وفي في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 54):
إن حب الله ليس دعوى باللسان , ولا هياما بالوجدان , إلا أن يصاحبه الأتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم , والسير على هداه , وتحقيق منهجه في الحياة . . وإن الإيمان ليس كلمات تقال , ولا مشاعر تجيش , ولا شعائر تقام . ولكنه طاعة لله والرسول , وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرسول . .
يقول الإمام ابن كثير في التفسير عن الآية الأولى:" هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية . فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأعماله , كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " . .
ويقول عن الآية الثانية: (قل أطيعوا الله والرسول . فإن تولوا) . . أي تخالفوا عن أمره - (فإن الله لا يحب الكافرين) . . فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر , والله لا يحب من اتصف بذلك , وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله . .
ويقول الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية في كتابه:"زاد المعاد في هدى خير العباد":
"ومن تأمل في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأنه صادق , فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام . . علم أن الإسلام أمر وراء ذلك , وأنه ليس مجرد المعرفة فقط . ولا المعرفة والإقرار فقط . بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهرا وباطنا . . "
إن هذا الدين له حقيقة مميزة لا يوجد إلا بوجودها . . حقيقة الطاعة لشريعة الله , والاتباع لرسول الله , والتحاكم إلى كتاب الله . . وهي الحقيقة المنبثقة من عقيدة التوحيد كما جاء بها الإسلام . توحيد الألوهية التي لها وحدها الحق في أن تعبد الناس لها , وتطوعهم لأمرها , وتنفذ فيهم شرعها , وتضع لهم القيم والموازين التي يتحاكمون إليها ويرتضون حكمها . ومن ثم توحيد القوامة التي تجعل الحاكمية لله وحده في حياة البشر وارتباطاتها جميعا , كما أن الحاكمية لله وحده في تدبير أمر الكون كله . وما الإنسان إلا قطاع من هذا الكون الكبير .(1/328)
وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَظُنُّونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ فِي غَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَلَا يَكُونُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، فَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) }(1)[
__________
(1) - قَالَ كُلٌّ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى نَحْنُ مُنْتَسِبُونَ إلى أنْبِيَاءِ اللهِ ، وَهُمْ بَنُوهُ ، وَلَهُ بِهِمْ عِنَايَةٌ ، وَهُوَ يُحِبُّنَا .
وَأوْرَدُوا فِي كِتَابِهِمْ أنَّ اللهَ قَالَ لِعَبْدِهِ إِسْرَائِيلَ ( يَعْقُوبَ ) أنْتَ ابْنِي البِكْرُ . فَحَمَلُوا هَذا القَوْلَ عَلَى غَيْرِ تَأوِيلِهِ وَحَرَّفُوهُ . وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُقَلائِهِمْ : إنَّ هذا القَوْلَ يُطْلَقُ عِنْدَهُمْ عَلَى سَبيلِ التَّكْرِيمِ وَالتَّشْرِيفِ .
وَوَرَدَ فِي الإِنجيلِ : إنَّ المَسِيحَ قَالَ لَهُمْ : إنِّي ذَاهِبٌ إلى أبي وَأبِيكُمْ ، يَعْنِي رَبِّي وَرَبِّكُمْ .
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ رَدّاً عَلَى أقْوالِ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ أنْ يَقُولَ لَهُمْ : لَوْ كَنْتُمْ كَمَا تَدَّعُونَ أبْنَاءَ اللهِ وَأحِبَّاءَهُ فَلِمَ أعَدَّ اللهُ لَكُمْ جَهَنَّمَ جَزَاءً لَكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ وَكَذِبِكُمْ وَافِتِرائِكُمْ؟ بَلْ أنْتُمْ بَشَرٌ مِنَّنْ خَلَقَ اللهُ ، وَلَكُمْ أسْوَةٌ بِأمْثَالِكُمْ ، وَهُوَ سَبْحَانَهُ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ، وَالحَاكِمُ المَتَصَرِّفُ فِي جَمِيعِ عِبَادِهِ ، فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ ، وَيُعَذِبُ مَنْ يَشَاءُ ، وَلا مَعَقِّبَ عَلَى حُكْمِهِ ، وَهُوَ سَريعُ الحِسَابِ .(1/329)
المائدة/18] . وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)(1)
__________
(1) - ادَّعَى اليَهُودُ ، وَادَّعَتِ النَّصَارَى أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إَلاَ مَنْ كَانَ عَلَى مِلَتِهِمْ هُمْ . فَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً : تِلْكَ أَشْيَاءُ يَتَمَنَّوْنَهَا عَلَى اللهِ بِغَيرِ وَجْهِ حَقٍّ ، وَلَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ وَلاَ حُجَّةٌ عَلَى مَا يَقُولُونَ . فَإِنْ كَانَ لِدَعْوَاهُمْ هذِهِ أَسَاسٌ فَلْيأتُوا بِبُرْهَانٍ عَلَيها . وَبِمَا أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ إِقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَى دَعْوَاهُمْ هَذِهِ فَهُمْ إِذاً كَاذِبُونَ مُتَخَرِّصُونَ .
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى دَعْوَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى تِلْكَ فَيَقُولُ لَهُمْ : بَلَى سَيَدْخُلُ الجَنَّةَ الذِين يُسْلِمُونَ وُجُوهَهُمْ للهِ . وَيَنْقَادُونَ لأَمْرِهِ مُطِيعِينَ مُخْلِصِينَ ، وَهُمْ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ فُهؤُلاءِ يُوَفِّيهِمْ رَبُّهُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ ، وَيُدْخِلُهُم الجَنَّةَ ، وَيُذْهِبُ عَنْهُمُ الخَوْفَ وَالحَزَنَ يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنَ الأَمْرِ ، وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا يَتْرُكُونَهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنيا . فَرَحْمَةُ اللهِ لاَ يَخْتَصُّ بِهَا شَعْبٌ دُونَ شَعْبٍ ، وَكُلُّ مَنْ عَمِلَ لَهَا ، وَأَخْلَصَ فِي عَمَلِهِ ، كَانَ مِنْ أَهْلِهَا .(1/330)
} [البقرة/111، 112] . وَكَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ اللَّهِ لِسُكْنَاهُمْ مَكَّةَ وَمُجَاوَرَتِهِمْ الْبَيْتَ، وَكَانُوا يَسْتَكْبِرُونَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى :{ قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) } [المؤمنون/66، 67]،(1)
__________
(1) - لَقَدْ كَانَتْ آيَاتُ اللهِ تُتْلَى عَلَيْكُم بالحَقِّ ، فَكُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عَنْ سَمَاعِها ، وَتَسْخَرُونَ مِنْهَا ، وَتُعْر ِضُونَ عَنْهَا ، وَتُدِيرُونَ ظُهُورَكُمْ إِلَيْهَا وَلِذَلِكَ فًَلاَ عُذْرَ لَكُم اليَوْمَ .
وَقَدْ كُنْتُم تُعْرِضُونَ عَن الإِيْمَانِ وَأَنْتًمْ تَسْتَكْبِرُونَ بالبَيْتِ الحَرَامِ ، وَتَقُولُونَ : نَحْنَ أَهْلُ حَرَمِ اللهِ ، وَخُدَّامُ بَيْتِهِ ، فَلاَ يُظْهِرُ عَلَيْنَا أَحَداً ، وَلاَ نَخَافُ أَحَداً ، وَكُنْتُم تَسْمرُونَ حَوْلَ البَيْتِ ، وَتَتَنَاوَلُونَ القُرْآنَ بالُجِرِ مِنَ القَوْلِ ( سَامِراً تَهْجُرُونَ ) .
( وَقِيلَ بَلِ المَقْصُودُ بالهُجْرِ مِنَ القَوْلِ والتَّكْذِيبِ رَسُولُ اللهِ والأَوَّلُ أَظْهَرُ ) .
مُسْتَكْبِرينَ بِهِ - مُسْتَعْظِمِينَ بالبَيْتِ الحَرَامِ .(1/331)
وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)(1)
__________
(1) - تآمَرَ المُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، يُرِيدُونَ سَجْنَهُ أَوْ قَتْلَهُ أَوْ إِخْرَاجَهُ مِنْ مَكَّةَ ، فَأَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِخِطَّتِهِمْ . وَجَاءَ جِبْرِيلُ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فَأَمَرَهُ بِأَلاَّ يَبيتَ فِي مَكَانِهِ الذِي يَبِيتُ فِيهِ ، فَدَعَا الرَّسُولُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَبِيتَ فِي فِرَاشِهِ ، وَيَتَسَجّى بِبُرْدِهِ فَفَعَلَ . ثُمَّ خَرَجَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَالقَوْمُ الذِينَ كُلِّفُوا بِقَتْلِهِ وَاقِفُونَ بِالبَابِ ، وَكَانَ مَعَهُ حَفْنَةٌ مِنْ تُرَابٍ ، فَجَعَلَ يَذْرُوهَا عَلَى رُؤُوسِهِمْ ، وَأَخَذَ اللهُ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْهُ وَهُوَ يَقْرَأ سُورَة ( يس ) .
وَذَكَرَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ يُخَطِّطُونَ وَيَمْكُرُونَ وَيُدَبِّرُونَ لإِيقَاعِ الأَذَى بِكَ وَبِالمُؤْمِنِينَ ، وَاللهُ يَمْكُرُ بِهِمْ ، وَيُدَبِّرُ مَا يُفْسِدُ تَدْبِيرَهُمْ ، وَيُعَطِّلُ مَكْرَهُمْ ، وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ لأنَّ مَكْرَهُ نَصْرٌ لِلْحَقِّ ، وَإِعْزَازٌ لأَهْلِهِ ، وَخُذْلاَنٌ لِلْبَاطِلِ وَحِزْبِهِ .
حِينَمَا كَانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم يَتْلُو القُرْآنَ عَلَى كُفّارِ قُرَيشٍ كَانُوا يَقُولُونَ : قَدْ سَمِعْنا ، لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنا مِثْلَهُ . وَلَكِنَّ أَحَداً مِنْهُمْ لَمْ يَسْتَطِعْ قَوْلَ شَيءٍ مِنْهُ ، لأنَّ اللهَ تَعَالَى تَحَدَّاهُمْ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ أَنْ يَأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ . وَكَانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ يَقُومَ بِهِ مَجْلِسِهِ الذِي يَقْرَأ فِيهِ القُرْآنَ ، وَيَدْعُو النَّاسَ إلى رَبِّهِمْ ، يَأْتِي النَّضْرُ بْنُ الحَارِثِ فَيَجْلِسُ مَكَانَ الرَّسُولِ ، وَيُحَدِّثُ النَّاسَ بِأَسَاطِيرِ فَارِسَ وَالرُّومِ وَقَصَصِهِمْ القَدِيمَةِ ، وَيَقُولُ لَهُمْ : بِاللهِ أيُّنَا أَحْسَنُ قَصَصاً أَنَا أَوْ مُحَمَّدٌ؟
يُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ النَّضْرُ بْنُ الحَارِثِ : إِنَّ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ : وَيلَكَ إِنَّهُ كَلاَمُ رَبِّ العَالَمِينَ . فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ . . وَمَعْنَى الآيَةِ : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا القُرْآنُ ، وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ هُوَ الحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ لِتَهْدِيَ بِهِ عِبَادَكَ ، كَمَا يَدَّعِي مُحَمَّدٌ ، فَارْجُمْنَا بِحِجَارَةٍ مِنَ السَّمَاءِ ، أَوْ أَنْزَلَ بِنَا عَذَابَكَ الأَليمَ . وَهَذا القَوْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنْ عُتُوَّ قُرَيْشٍ كَانَ كَبِيراً ، وَعِنَادَها كَانَ بَالِغاً ، إِذْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ هَذا القَوْلَ ، وَهُوَ مِمَّا عِيبَ عَلَيهِمْ . وَلَوْ أنَّهُم قَالُوا : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَاهْدِنَا إِليهِ ، وَوَفِّقْنَا لاتِّبَاعِهِ ، لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ .
وَمَا كَانَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ ، وَلاَ مِنْ مُقْتَضَى رَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ ، وَأَنْتَ أَيًُّهَا الرَّسُولُ فِيهِمْ ، لأنَّ اللهَ إِنَّمَا أَرْسَلَكَ رَحْمَةً وَنِعْمَةً ، لا عَذاباً وَنَقْمَةً ، وَأنَّ سُنَّتَهُ جَرَتْ ألاَّ يُعَذِّبَ المُكَذِّبِينَ إلاَّ بَعْدَ أنْ يَخْرُجَ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَظْهِرِهِمْ .
وَرَوَى ابْنُ جُريرٍ : كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ فَأَنْزَلَ اللهُ : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } . ثُمَّ خَرَجَ رَسُولَ اللهِ إلَى المَدِينَةِ ، فَأَنْزَلَ تَعَالَى قَوْلَهُ : { وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } فَكَانَ قَدْ بَقِيَ فَي مَكَّةَ جَمَاعَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ يَسْتَغْفِرُونَ اللهَ ، فَلَمَّا خَرَجُوا أَنْزَلَ اللهُ قَوْلَهُ تَعَالَى : { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام } فَأَذِنَ اللهُ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِفَتْحِ مَكَّةَ .
( وَقِيلَ فِي مَعْنى : { وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } إِنَّ المُشْرِكِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالبَيْتِ الحَرَامِ وَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لاَ شَرِيكَ لَكَ لبَّيْكَ ، وَيَقُولُونَ : غُفْرانَكَ اللَّهُمَّ ) .
إنَّهُمْ أَهْلٌ لأنْ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ لأنَّهُمْ يَصُدُّونَ المُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَنِ الصَّلاةِ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ ، وَالطَّوَافِ بِالكَعْبَةِ ، وَلكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُنْزِلْ بِهِم العَذَابَ لِبَرَكَةِ مَقَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ ، فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ ، أَوْقَعَ اللهُ بَأْسَهُ فِيهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ .
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى : وَهَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ الذِينَ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ ، لَيْسُوا هُمْ أَهْلَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ ، فَهُمْ دَنَّسُوهُ بِالشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الأصْنَامِ ، وَإِنَّمَا أَهْلُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ ، الذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الوَلاَيَةِ عَلَيهِ ، هُمُ النَّبِيُّ وَالمُسْلِمُونَ ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ المُشْرِكِينَ لاَ يَعْلَمُونَ هَذِهِ الحَقِيقَةَ .
إنه لا يمنع العذاب عنهم ما يدعونه من أنهم ورثة إبراهيم وسدنة بيت الله الحرام . . فهذه ليست سوى دعوى لا أساس لها من الواقع . إنهم ليسوا أولياء هذا البيت ولا أصحابه . إنهم أعداء هذا البيت وغاصبوه ! إن بيت الله الحرام ليس تركة يرثها الخلف عن السلف . إنه بيت الله يرثه أولياء الله المتقون لله . . ومثله دعواهم أنهم ورثة إبراهيم - عليه السلام - فوراثة إبراهيم ليست وراثة دم ونسب ; إنما هي وراثة دين وعقيدة . والمتقون هم ورثة إبراهيم وبيت الله الذي بناه لله ; فإذا هم يصدون عنه أولياءه الحقيقيين المؤمنين بدين إبراهيم !
إنهم ليسوا أولياء لهذا البيت وإن كانوا يصلون عنده صلاتهم . فما هذه بصلاة ! إنما كانت صفيراً بالأفواه وتصفيقاً بالأيدي , وهرجاً ومرجاً لا وقار فيه , ولا استشعار لحرمة البيت , ولا خشوع لهيبة الله .
عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال:إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض , ويصفقون ويصفرون .
وإن هذا ليخطر بالبال صور العازفين المصفقين الصاخبين الممرغين خدودهم على الأعتاب والمقامات اليوم في كثير من البلاد التي يسمونها "بلاد المسلمين" ! إنها الجاهلية تبرز في صورة من صورها الكثيرة . بعدما برزت في صورتها الواضحة الكبيرة:صورة ألوهية العبيد في الأرض , وحاكميتهم في حياة الناس . . وإذا وقعت هذه فكل صور الجاهلية الأخرى إنما هي تبع لها , وفرع منها !
(فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) . .
وهو ذلك العذاب الذي نزل بهم في بدر بأيدي العصبة المسلمة . فأما العذاب الذي طلبوه - عذاب الاستئصال المعروف - فهو مؤجل عنهم , رحمة من الله بهم , وإكراماً لنبيه صلى الله عليه وسلم ومقامه فيهم , عسى أن ينتهي بهم الأمر إلى التوبة والاستغفار مما هم فيه .في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 215)(1/332)
} [الأنفال/30-34] ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَهُ وَلَا أَوْلِيَاءَ بَيْتِهِ ؛إنَّمَا أَوْلِيَاؤُهُ الْمُتَّقُونَ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِى حَازِمٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ يَقُولُ « إِنَّ آلَ أَبِى » لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِى ، إِنَّمَا وَلِيِّىَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ . وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أَبُلُّهَا بِبَلاَلِهَا »(1).
__________
(1) - البخاري (5990 ) ومسلم (541 )
فتح الباري لابن حجر - (ج 17 / ص 118)
قَوْله : ( سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِهَارًا ) يَحْتَمِل أَنْ يَتَعَلَّق بِالْمَفْعُولِ أَيْ كَانَ الْمَسْمُوع فِي حَالَة الْجَهْر ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَتَعَلَّق بِالْفَاعِلِ أَيْ أَقُول ذَلِكَ جِهَارًا ،
وَقَوْله : " غَيْر سِرٍّ " تَأْكِيد لِذَلِكَ لِدَفْعِ تَوَهُّم أَنَّهُ جَهَرَ بِهِ مَرَّة وَأَخْفَاهُ أُخْرَى ، وَالْمُرَاد أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ خِفْيَة بَلْ جَهَرَ بِهِ وَأَشَاعَهُ .
قَوْله : ( إِنَّ آل أَبِي ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِحَذْفِ مَا يُضَاف إِلَى أَدَاة الْكُنْيَة ، وَأَثْبَتَهُ الْمُسْتَمْلِيّ فِي رِوَايَته لَكِنْ كَنَّى عَنْهُ فَقَالَ : " آل أَبِي فُلَان " وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَتَيْ مُسْلِم وَالْإِسْمَاعِيلِيّ ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَصْل مُسْلِم مَوْضِع " فُلَان " بَيَاض ثُمَّ كَتَبَ بَعْض النَّاس فِيهِ " فُلَان " عَلَى سَبِيل الْإِصْلَاح ، وَفُلَان كِنَايَة عَنْ اِسْم عَلَم ، وَلِهَذَا وَقَعَ لِبَعْضِ رُوَاته " إِنَّ آل أَبِي يَعْنِي فُلَان " وَلِبَعْضِهِمْ " إِنَّ آل أَبِي فُلَان " بِالْجَزْمِ .
وَقَالَ اِبْن التِّين : حُذِفَتْ التَّسْمِيَة لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَبْنَائِهِمْ . وَقَالَ النَّوَوِيّ : هَذِهِ الْكِنَايَة مِنْ بَعْض الرُّوَاة ، خَشِيَ أَنْ يُصَرِّح بِالِاسْمِ فَيَتَرَتَّب عَلَيْهِ مَفْسَدَة إِمَّا فِي حَقِّ نَفْسه ، وَإِمَّا فِي حَقِّ غَيْره ، وَإِمَّا مَعًا . وَقَالَ عِيَاض : إِنَّ الْمَكْنِيّ عَنْهُ هُنَا هُوَ الْحَكَم بْن أَبِي الْعَاصِ . وَقَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد : كَذَا وَقَعَ مُبْهَمًا فِي السِّيَاق ، وَحَمَلَهُ بَعْضهمْ عَلَى بَنِي أُمَيَّة وَلَا يَسْتَقِيم مَعَ قَوْله آل أَبِي ، فَلَوْ كَانَ آل بَنِي لَأَمْكَنَ ، وَلَا يَصِحّ تَقْدِير آل أَبِي الْعَاصِ لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ مِنْ بَنِي أُمَيَّة وَالْعَامّ لَا يُفَسَّر بِالْخَاصِّ . قُلْت : لَعَلَّ مُرَاد الْقَائِل أَنَّهُ أَطْلَقَ الْعَامّ وَأَرَادَ الْخَاصّ ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة وَهْب بْن حَفْص الَّتِي أَشَرْت إِلَيْهَا " أَنَّ آل بَنِي " لَكِنْ وَهْب لَا يُعْتَمَد عَلَيْهِ ، وَجَزَمَ الدِّمْيَاطِيّ فِي حَوَاشِيه بِأَنَّهُ آل أَبِي الْعَاصِ بْن أُمَيَّة ، ثُمَّ قَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد : إِنَّهُ رَأَى فِي كَلَام اِبْن الْعَرَبِيّ فِي هَذَا شَيْئًا يُرَاجَع مِنْهُ . قُلْت : قَالَ أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ فِي " سِرَاج الْمُرِيدِينَ " : كَانَ فِي أَصْل حَدِيث عَمْرو بْن الْعَاصِ " أَنَّ آل أَبِي طَالِب " فَغَيَّرَ " آل أَبِي فُلَان " كَذَا جَزَمَ بِهِ ، وَتَعَقَّبَهُ بَعْض النَّاس وَبَالَغَ فِي التَّشْنِيع وَنَسَبَهُ إِلَى التَّحَامُل عَلَى آل أَبِي طَالِب ، وَلَمْ يُصِبْ هَذَا الْمُنْكَر فَإِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَة الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا اِبْن الْعَرَبِيّ مَوْجُودَة فِي " مُسْتَخْرَج أَبِي نُعَيْم " مِنْ طَرِيق الْفَضْل بْن الْمُوَفَّق عَنْ عَنْبَسَةَ بْن عَبْد الْوَاحِد بِسَنَدِ الْبُخَارِيّ عَنْ بَيَان بْن بِشْر عَنْ قَيْس بْن أَبِي حَازِم عَنْ عَمْرو بْن الْعَاصِ رَفَعَهُ " إِنَّ لِبَنِي أَبِي طَالِب رَحِمًا أَبُلّهَا بِبَلَاهَا " وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ هَذَا الْوَجْه أَيْضًا لَكِنْ أَبْهَمَ لَفْظ طَالِب ، وَكَأَنَّ الْحَامِل لِمَنْ أَبْهَمَ هَذَا الْمَوْضِع ظَنّهمْ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي نَقْصًا فِي آل أَبِي طَالِب ؛ وَلَيْسَ كَمَا تَوَهَّمُوهُ كَمَا سَأُوَضِّحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَوْله : ( لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَفِي نُسْخَة مِنْ رِوَايَة أَبِي ذَرّ " بِأَوْلِيَاءٍ " فَنَقَلَ اِبْن التِّين عَنْ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ الْمُرَاد بِهَذَا النَّفْي مَنْ لَمْ يُسْلِم مِنْهُمْ ، أَيْ فَهُوَ مِنْ إِطْلَاق الْكُلّ وَإِرَادَة الْبَعْض ، وَالْمَنْفِيّ عَلَى هَذَا الْمَجْمُوع لَا الْجَمِيع . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : الْوِلَايَة الْمَنْفِيَّة وِلَايَة الْقُرْب وَالِاخْتِصَاص لَا وِلَايَة الدِّين ، وَرَجَّحَ اِبْن التِّين الْأَوَّل وَهُوَ الرَّاجِح ، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَة آل أَبِي طَالِب عَلِيًّا وَجَعْفَرًا وَهُمَا مِنْ أَخَصِّ النَّاس بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا لَهُمَا مِنْ السَّابِقَة وَالْقِدَم فِي الْإِسْلَام وَنَصْر الدِّين ، وَقَدْ اِسْتَشْكَلَ بَعْض النَّاس صِحَّة هَذَا الْحَدِيث لِمَا نُسِبَ إِلَى بَعْض رُوَاته مِنْ النَّصْب وَهُوَ الِانْحِرَاف عَنْ عَلِيّ وَآل بَيْته ، قُلْت : أَمَّا قَيْس بْن أَبِي حَازِم فَقَالَ يَعْقُوب بْن شَيْبَة تَكَلَّمَ أَصْحَابنَا فِي قَيْس فَمِنْهُمْ مَنْ رَفَعَ قَدْره وَعَظَّمَهُ وَجَعَلَ الْحَدِيث عَنْهُ مِنْ أَصَحّ الْأَسَانِيد حَتَّى قَالَ اِبْن مَعِين : هُوَ أَوْثَق مِنْ الزُّهْرِيّ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ : لَهُ أَحَادِيث مَنَاكِير ، وَأَجَابَ مَنْ أَطْرَاهُ بِأَنَّهَا غَرَائِب وَإِفْرَاده لَا يَقْدَح فِيهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبه وَقَالَ : كَانَ يَحْمِل عَلَى عَلِيّ وَلِذَلِكَ تَجَنَّبَ الرِّوَايَة عَنْهُ كَثِير مِنْ قُدَمَاء الْكُوفِيِّينَ ، وَأَجَابَ مَنْ أَطْرَاهُ بِأَنَّهُ كَانَ يُقَدِّم عُثْمَان عَلَى عَلِيّ . قُلْت : وَالْمُعْتَمَد عَلَيْهِ أَنَّهُ ثِقَة ثَبْت مَقْبُول الرِّوَايَة ، وَهُوَ مِنْ كِبَار التَّابِعِينَ ، سَمِعَ مِنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق فَمَنْ دُونه ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ حَدِيث الْبَاب إِسْمَاعِيل بْن أَبِي خَالِد وَبَيَان بْن بِشْر وَهُمَا كُوفِيَّانِ وَلَمْ يُنْسَبَا إِلَى النَّصْب ، لَكِنَّ الرَّاوِي عَنْ بَيَان وَهُوَ عَنْبَسَةُ بْن عَبْد الْوَاحِد أُمَوِيّ قَدْ نُسِبَ إِلَى شَيْء مِنْ النَّصْب ، وَأَمَّا عَمْرو بْن الْعَاصِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَه وَبَيْنَ عَلِيّ مَا كَانَ فَحَاشَاهُ أَنْ يُتَّهَم ، وَلِلْحَدِيثِ مَحَلّ صَحِيح لَا يَسْتَلْزِم نَقْصًا فِي مُؤْمِنِي آلِ أَبِي طَالِب ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَاد بِالنَّفْيِ الْمَجْمُوع كَمَا تَقَدَّمَ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِآلِ أَبِي طَالِب أَبُو طَالِب نَفْسه وَهُوَ إِطْلَاق سَائِغ كَقَوْلِهِ فِي أَبِي مُوسَى : " إِنَّهُ أُوتِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِير آلِ دَاوُدَ " وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " آل أَبِي أَوْفَى " وَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ مُبَالَغَة فِي الِانْتِفَاء مِمَّنْ لَمْ يُسْلِم لِكَوْنِهِ عَمّه وَشَقِيق أَبِيهِ وَكَانَ الْقَيِّم بِأَمْرِهِ وَنَصْره وَحِمَايَته ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمَّا لَمْ يُتَابِعهُ عَلَى دِينه اِنْتَفَى مِنْ مُوَالَاته .
قَوْله : ( إِنَّمَا وَلِيِّي اللَّه وَصَالِح الْمُؤْمِنِينَ ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْإِفْرَادِ وَإِرَادَة الْجُمْلَة ، وَهُوَ اِسْم جِنْس ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الْبَرْقَانِيّ " وَصَالِحُو الْمُؤْمِنِينَ " بِصِيغَةِ الْجَمْع ، وَقَدْ أَجَازَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْآيَة الَّتِي فِي التَّحْرِيم كَانَتْ فِي الْأَصْل " فَإِنَّ اللَّه هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيل وَصَالِحُو الْمُؤْمِنِينَ " لَكِنْ حُذِفَتْ الْوَاو مِنْ الْخَطّ عَلَى وَفْق النُّطْق ، وَهُوَ مِثْل قَوْله : ( سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة ) وَقَوْله : ( يَوْم يَدْعُ الدَّاعِ ) وَقَوْله : ( وَيَمْحُ اللَّه الْبَاطِل ) وَقَالَ النَّوَوِيّ : مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ وَلِيِّي مَنْ كَانَ صَالِحًا وَإِنْ بَعُدَ مِنِّي نَسَبه ، وَلَيْسَ وَلِيِّي مَنْ كَانَ غَيْر صَالِح وَإِنْ قَرُبَ مِنِّي نَسَبه . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : فَائِدَة الْحَدِيث اِنْقِطَاع الْوِلَايَة فِي الدِّين بَيْنَ الْمُسْلِم وَالْكَافِر وَلَوْ كَانَ قَرِيبًا حَمِيمًا . وَقَالَ اِبْن بَطَّال : أَوْجَبَ فِي هَذَا الْحَدِيث الْوِلَايَة بِالدِّينِ وَنَفَاهَا عَنْ أَهْل رَحِمه إِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْل دِينه ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّسَب يَحْتَاج إِلَى الْوِلَايَة الَّتِي يَقَع بِهَا الْمُوَارَثَة بَيْنَ الْمُتَنَاسِبِينَ ، وَأَنَّ الْأَقَارِب إِذَا لَمْ يَكُونُوا عَلَى دِين وَاحِد لَمْ يَكُنْ بَيْنَهمْ تَوَارُث وَلَا وِلَايَة ، قَالَ : وَيُسْتَفَاد مِنْ هَذَا أَنَّ الرَّحِم الْمَأْمُور بِصِلَتِهَا وَالْمُتَوَعَّد عَلَى قَطْعهَا هِيَ الَّتِي شُرِعَ لَهَا ذَلِكَ ، فَأَمَّا مَنْ أُمِرَ بِقَطْعِهِ مِنْ أَجْل الدِّين فَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا يَلْحَق بِالْوَعِيدِ مَنْ قَطَعَهُ لِأَنَّهُ قَطَعَ مَنْ أَمَرَ اللَّه بِقَطْعِهِ ، لَكِنْ لَوْ وَصَلُوا بِمَا يُبَاح مِنْ أَمْر الدُّنْيَا لَكَانَ فَضْلًا ، كَمَا دَعَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُرَيْشٍ بَعْد أَنْ كَانُوا كَذَّبُوهُ فَدَعَا عَلَيْهِمْ بِالْقَحْطِ ثُمَّ اِسْتَشْفَعُوا بِهِ فَرَقَّ لَهُمْ لَمَّا سَأَلُوهُ بِرَحِمِهِمْ فَرَحِمَهُمْ وَدَعَا لَهُمْ . قُلْت : وَيُتَعَقَّب كَلَامه فِي مَوْضِعَيْنِ :
أَحَدهمَا : يُشَارِكهُ فِيهِ كَلَام غَيْره وَهُوَ قَصْره النَّفْي عَلَى مَنْ لَيْسَ عَلَى الدِّين ، وَظَاهِر الْحَدِيث أَنَّ مَنْ كَانَ غَيْر صَالِح فِي أَعْمَال الدِّين دَخَلَ فِي النَّفْي أَيْضًا لِتَقْيِيدِهِ الْوِلَايَة بِقَوْلِهِ : " وَصَالِح الْمُؤْمِنِينَ " ،
وَالثَّانِي : أَنَّ صِلَة الرَّحِم الْكَافِر يَنْبَغِي تَقْيِيدهَا بِمَا إِذَا أَيِسَ مِنْهُ رُجُوعًا عَنْ الْكُفْر ، أَوْ رَجَا أَنْ يَخْرُج مِنْ صُلْبه مُسْلِم ، كَمَا فِي الصُّورَة الَّتِي اِسْتَدَلَّ بِهَا وَهِيَ دُعَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُرَيْشٍ بِالْخِصْبِ وَعُلِّلَ بِنَحْوِ ذَلِكَ ، فَيَحْتَاج مَنْ يَتَرَخَّص فِي صِلَة رَحِمه الْكَافِر أَنْ يَقْصِد إِلَى شَيْء مِنْ ذَلِكَ ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى الدِّين وَلَكِنَّهُ مُقَصِّر فِي الْأَعْمَال مَثَلًا فَلَا يُشَارِك الْكَافِر فِي ذَلِكَ . وَقَدْ وَقَعَ فِي " شَرْح الْمِشْكَاة " : الْمَعْنَى أَنِّي لَا أُوَالِي أَحَدًا بِالْقَرَابَةِ ، وَإِنَّمَا أُحِبّ اللَّه تَعَالَى لِمَا لَهُ مِنْ الْحَقّ الْوَاجِب عَلَى الْعِبَاد ، وَأُحِبّ صَالِح الْمُؤْمِنِينَ لِوَجْهِ اللَّه تَعَالَى ، وَأُوَالِي مَنْ أُوَالِي بِالْإِيمَانِ وَالصَّلَاح سَوَاء كَانَ مِنْ ذَوِي رَحِم أَوْ لَا ، وَلَكِنْ أَرْعَى لِذَوِي الرَّحِم حَقّهمْ لِصِلَةِ الرَّحِم ، اِنْتَهَى .
وَهُوَ كَلَام مُنَقَّح . وَقَدْ اِخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَصَالِح الْمُؤْمِنِينَ ) عَلَى أَقْوَال :
أَحَدهَا : الْأَنْبِيَاء أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَابْن أَبِي حَاتِم عَنْ قَتَادَةَ وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ ، وَذَكَرَهُ اِبْن أَبِي حَاتِم عَنْ سُفْيَان الثَّوْرِيّ ، وَأَخْرَجَهُ النَّقَّاش عَنْ الْعَلَاء بْن زِيَاد .
الثَّانِي : الصَّحَابَة أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي حَاتِم عَنْ السُّدِّيِّ ، وَنَحْوه فِي تَفْسِير الْكَلْبِيّ قَالَ : هُمْ أَبُو بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ وَأَشْبَاههمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِمُنَافِقٍ .
الثَّالِث : خِيَار الْمُؤْمِنِينَ أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي حَاتِم عَنْ الضَّحَّاك .
الرَّابِع : أَبُو بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي حَاتِم عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ .
الْخَامِس : أَبُو بَكْر وَعُمَر أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَابْن مَرْدَوَيْهِ عَنْ اِبْن مَسْعُود مَرْفُوعًا وَسَنَده ضَعِيف ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَابْن أَبِي حَاتِم عَنْ الضَّحَّاك أَيْضًا ، وَكَذَا هُوَ فِي تَفْسِير عَبْد الْغَنِيّ بْن سَعِيد الثَّقَفِيّ أَحَد الضُّعَفَاء بِسَنَدِهِ عَنْ اِبْن عَبَّاس مَوْقُوفًا ، وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْه آخَر ضَعِيف عَنْهُ كَذَلِكَ ، قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعَبْد اللَّه بْن بُرَيْدَةَ وَمُقَاتِل بْن حَيَّان كَذَلِكَ .
السَّادِس : أَبُو بَكْر خَاصَّة ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيّ عَنْ الْمُسَيِّب بْن شَرِيك .
السَّابِع : عُمَر خَاصَّة أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي حَاتِم بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيف عَنْ مُجَاهِد ، وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ وَاهٍ جِدًّا عَنْ اِبْن عَبَّاس .
الثَّامِن : عَلِيّ أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي حَاتِم بِسَنَدٍ مُنْقَطِع عَنْ عَلِيّ نَفْسه مَرْفُوعًا ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيف عَنْ مُجَاهِد قَالَ : هُوَ عَلِيّ ، وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدَيْنِ ضَعِيفَيْنِ مِنْ حَدِيث أَسْمَاء بِنْت عُمَيْسٍ مَرْفُوعًا قَالَتْ : " سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول صَالِح الْمُؤْمِنِينَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب " وَمِنْ طَرِيق أَبِي مَالِك عَنْ اِبْن عَبَّاس مِثْله مَوْقُوفًا وَفِي سَنَده رَاوٍ ضَعِيف ، وَذَكَرَهُ النَّقَّاش عَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُحَمَّد بْن عَلِيّ الْبَاقِر وَابْنه جَعْفَر بْن مُحَمَّد الصَّادِق . قُلْت : فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فَفِيهِ دَفْع تَوَهُّم مَنْ تَوَهُّم أَنَّ فِي الْحَدِيث الْمَرْفُوع نَقْصًا مِنْ قَدْر عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْهُ وَيَكُون الْمَنْفِيّ أَبَا طَالِب وَمَنْ مَاتَ مِنْ آلِه كَافِرًا ، وَالْمُثْبَت مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنًا ، وَخُصَّ عَلِيّ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ رَأْسهمْ ، وَأُشِيرَ بِلَفْظِ الْحَدِيث إِلَى لَفْظ الْآيَة الْمَذْكُورَة وَنُصَّ فِيهَا عَلَى عَلِيّ تَنْوِيهًا بِقَدْرِهِ وَدَفْعًا لِظَنِّ مَنْ يُتَوَهَّم عَلَيْهِ فِي الْحَدِيث الْمَذْكُور غَضَاضَة ، وَلَوْ تَفَطَّنَ مَنْ كَنَّى عَنْ أَبِي طَالِب لِذَلِكَ لَاسْتَغْنَى عَمَّا صَنَعَ ، وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( وَزَادَ عَنْبَسَةُ بْن عَبْد الْوَاحِد ) أَيْ اِبْن أُمَيَّة بْن عَبْد اللَّه بْن سَعِيد بْن الْعَاصِ بْن أَبِي أُحَيْحَةَ بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرًا وَهُوَ سَعِيد بْن الْعَاصِ بْن أُمَيَّة ؛ وَهُوَ مَوْثُوق عِنْدَهمْ ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِع الْمُعَلَّق ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْبُخَارِيّ فِي كِتَاب الْبِرّ وَالصِّلَة فَقَالَ : " حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الْوَاحِد بْن عَنْبَسَةَ حَدَّثَنَا جَدِّي " فَذَكَرَهُ وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ رِوَايَة نَهْدِ بْن سُلَيْمَان عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الْوَاحِد الْمَذْكُور وَسَاقَهُ بِلَفْظِ " سَمِعْت عَمْرو بْن الْعَاصِ يَقُول سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي جَهْرًا غَيْر سِرٍّ : إِنَّ بَنِي أَبِي فُلَان لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي ، إِنَّمَا وَلِيِّي اللَّه وَاَلَّذِينَ آمَنُوا ، وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِم " الْحَدِيث وَقَدْ قَدَّمْت لَفْظ رِوَايَة الْفَضْل بْن الْمُوَفَّق عَنْ عَنْبَسَةَ مِنْ عِنْد أَبِي نُعَيْم وَأَنَّهَا أَخَصُّ مِنْ هَذَا .
قَوْله : ( وَلَكِنْ لَهَا رَحِم أَبُلّهَا بِبَلَالِهَا ، يَعْنِي أَصِلهَا بِصِلَتِهَا ) كَذَا لَهُمْ ، لَكِنْ سَقَطَ التَّفْسِير مِنْ رِوَايَة النَّسَفِيّ ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرّ بَعْده " أَبُلّهَا بِبَلَائِهَا " وَبَعْده فِي الْأَصْل : كَذَا وَقَعَ ، وَبِبَلَالِهَا أَجْوَد وَأَصَحّ . وَبِبَلَاهَا لَا أَعْرِف لَهُ وَجْهًا ، اِنْتَهَى . وَأَظُنّهُ مِنْ قَوْله " كَذَا وَقَعَ إِلَخْ " مِنْ كَلَام أَبِي ذَرّ ، وَقَدْ وَجَّهَ الدَّاوُدِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ اِبْن التِّين هَذِهِ الرِّوَايَة عَلَى تَقْدِير ثُبُوتهَا بِأَنَّ الْمُرَاد مَا أَوْصَلَهُ إِلَيْهَا مِنْ الْأَذَى عَلَى تَرْكهمْ الْإِسْلَام ، وَتَعَقَّبَهُ اِبْن التِّين بِأَنَّهُ لَا يُقَال فِي الْأَذَى أَبُلّهُ ، وَوَجَّهَهَا بَعْضهمْ بِأَنَّ الْبَلَاء بِالْمَدِّ يَجِيء بِمَعْنَى الْمَعْرُوف وَالْإِنْعَام ، وَلَمَّا كَانَ الرَّحِم مِمَّا يَسْتَحِقّ الْمَعْرُوف أُضِيفَ إِلَيْهَا ذَلِكَ . فَكَأَنَّهُ قَالَ : أَصِلهَا بِالْمَعْرُوفِ اللَّائِق بِهَا . وَالتَّحْقِيق أَنَّ الرِّوَايَة إِنَّمَا هِيَ " بِبَلَالِهَا " مُشْتَقّ مِنْ أَبُلّهَا ، قَالَ النَّوَوِيّ : ضَبَطْنَا قَوْله : " بِبَلَالِهَا " بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَة وَبِكَسْرِهَا وَهُمَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ . وَقَالَ عِيَاض : رَوَيْنَاهُ بِالْكَسْرِ ، وَرَأَيْته لِلْخَطَّابِيِّ بِالْفَتْحِ . وَقَالَ اِبْن التِّين : هُوَ بِالْفَتْحِ لِلْأَكْثَرِ وَلِبَعْضِهِمْ بِالْكَسْرِ . قُلْت : بِالْكَسْرِ أَوْجَه ، فَإِنَّهُ مِنْ الْبَلَال جَمْع بَلَل مِثْل جَمَل وَجَمَال ، وَمَنْ قَالَهُ بِالْفَتْحِ بَنَاهُ عَلَى الْكَسْر مِثْل قَطَام وَحَذَام . وَالْبَلَال بِمَعْنَى الْبَلَل وَهُوَ النَّدَاوَة ، وَأُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَى الصِّلَة كَمَا أُطْلِقَ الْيُبْس عَلَى الْقَطِيعَة ، لِأَنَّ النَّدَاوَة مِنْ شَأْنهَا تَجْمِيع مَا يَحْصُل فِيهَا وَتَأْلِيفه ، بِخِلَافِ الْيُبْس فَمِنْ شَأْنه التَّفْرِيق . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره : بَلَلْت الرَّحِم بَلًّا وَبَلَلًا وَبِلَالًا أَيْ نَدِيَّتهَا بِالصِّلَةِ . وَقَدْ أَطْلَقُوا عَلَى الْإِعْطَاء النَّدَى وَقَالُوا فِي الْبَخِيل مَا تَنَدَّى كَفّه بِخَيْرٍ ، فَشُبِّهَتْ قَطِيعَة الرَّحِم بِالْحَرَارَةِ وَوَصْلهَا بِالْمَاءِ الَّذِي يُطْفِئ بِبَرْدِهِ الْحَرَارَة ، وَمِنْهُ الْحَدِيث " بُلُّوا أَرْحَامكُمْ وَلَوْ بِالسَّلَامِ " وَقَالَ الطِّيبِيُّ وَغَيْره : شَبَّهَ الرَّحِم بِالْأَرْضِ الَّتِي إِذَا وَقَعَ عَلَيْهَا الْمَاء وَسَقَاهَا حَتَّى سُقِيَهَا أَزْهَرَتْ وَرُئِيَتْ فِيهَا النَّضَارَة فَأَثْمَرَتْ الْمَحَبَّة وَالصَّفَاء ، وَإِذَا تُرِكَتْ بِغَيْرِ سَقْي يَبِسَتْ وَبَطَلَتْ مَنْفَعَتهَا فَلَا تُثْمِر إِلَّا الْبَغْضَاء وَالْجَفَاء ، وَمِنْهُ قَوْلهمْ سَنَة جَمَاد أَيْ لَا مَطَر فِيهَا ، وَنَاقَة جَمَاد أَيْ لَا لَبَن فِيهَا . وَجَوَّزَ الْخَطَّابِيُّ أَنْ يَكُون مَعْنَى قَوْله : " أَبُلّهَا بِبَلَالِهَا " فِي الْآخِرَة أَيْ أَشْفَع لَهَا يَوْم الْقِيَامَة . وَتَعَقَّبَهُ الدَّاوُدِيُّ بِأَنَّ سِيَاق الْحَدِيث يُؤْذِن بِأَنَّ الْمُرَاد مَا يَصِلهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا ، وَيُؤَيِّدهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ طَرِيق مُوسَى بْن طَلْحَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : " لَمَّا نَزَلَتْ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتك الْأَقْرَبِينَ ) دَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا ، فَعَمَّ وَخَصَّ - إِلَى أَنْ قَالَ - يَا فَاطِمَة أَنْقِذِي نَفْسك مِنْ النَّار فَإِنِّي لَا أَمْلِك لَكُمْ مِنْ اللَّه شَيْئًا غَيْر أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا " وَأَصْلهُ عِنْدَ الْبُخَارِيّ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَة . وَقَالَ الطِّيبِيُّ : فِي قَوْله : " بِبَلَالِهَا " مُبَالَغَة بَدِيعَة وَهِيَ مِثْل قَوْله : ( إِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْض زِلْزَالهَا ) أَيْ زِلْزَالهَا الشَّدِيد الَّذِي لَا شَيْء فَوْقه ، فَالْمَعْنَى أَبُلّهَا بِمَا اُشْتُهِرَ وَشَاعَ بِحَيْثُ لَا أَتْرُك مِنْهُ شَيْئًا .(1/333)
يَعْنِى أَصِلُهَا بِصِلَتِهَا، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :{.. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}(1)(4) سورة التحريم. وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ: هُوَ مَنْ كَانَ صَالِحًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ(2).
=================
المبحثُ التاسعُ
التقربُ إلى الله تعالى بالنوافلِ
قوله : )َمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ..)
__________
(1) - أي: الجميع أعوان للرسول، مظاهرون، ومن كان هؤلاء أعوانه فهو المنصور، وغيره ممن يناوئه مخذول ، وفي هذا أكبر فضيلة وشرف لسيد المرسلين، حيث جعل الباري نفسه [الكريمة]، وخواص خلقه، أعوانًا لهذا الرسول الكريم.
(2) - وفي تفسير الرازي - (ج 15 / ص 385)
{ وصالح الْمُؤْمِنِينَ } . قال ابن عباس : يريد أبا بكر وعمر مواليين النبي صلى الله عليه وسلم على من عاداه ، وناصرين له ، وهو قول المقاتلين ، وقال الضحاك خيارالمؤمنين ، وقيل من صلح من المؤمنين ، أي كل من آمن وعمل صالحاً ، وقيل : من برىء منهم من النفاق ، وقيل : الأنبياء كلهم ، وقيل : الخلفاء وقيل : الصحابة ، وصالح ههنا ينوب عن الجمع ، ويجوز أن يراد به الواحد والجمع ، وقوله تعالى : { والملائكة بَعْدَ ذلك } أي بعد حضرة الله وجبريل وصالح المؤمنين { ظَهِيرٍ } أي فوج مظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأعوان له وظهير في معنى الظهراء ، كقوله : { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] قال الفراء : والملائكة بعد نصرة هؤلاء ظهير ، قال أبو علي : وقد جاء فعيل مفرداً يراد به الكثرة كقوله تعالى : { وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ } [ المعارج : 10 ، 11 ](1/334)
النوافل هي الإتيان بالأعمال الصالحة زيادة على الفرائض، وفعلها مع الاستمرار عليها يجلب محبَّة الله عزَّ وجلَّ، وإذا حصلت له المحبَّة ظفر بتسديد الله في تصرفاته، فلا يسمع إلاَّ ما هو حق، ولا يرى إلاَّ ما هو حق، ولا ينال إلاَّ ما هو حق، ولا يَمشي إلاَّ إلى ما هو حق، وأكرمه الله بإجابة دعوته إذا دعاه، وإعاذته مِمَّا استعاذه منه.(1)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله(2):
" قَوْله ( وَمَا زَالَ )فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " وَمَا يَزَالُ " بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ .
قَوْله ( يَتَقَرَّب إِلَيَّ )التَّقَرُّب طَلَبُ الْقُرْبِ ، قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْقُشَيْرِيُّ : قُرْبُ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ يَقَعُ أَوَّلًا بِإِيمَانِهِ ، ثُمَّ بِإِحْسَانِهِ . وَقُرْبُ الرَّبِّ مِنْ عَبْدِهِ مَا يَخُصُّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ عِرْفَانِهِ ، وَفِي الْآخِرَة مِنْ رِضْوَانه ، وَفِيمَا بَيْن ذَلِكَ مِنْ وُجُوه لُطْفه وَامْتِنَانه . وَلَا يَتِمُّ قُرْبُ الْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ إِلَّا بِبَعْدِهِ مِنْ الْخَلْقِ . قَالَ : وَقُرْب الرَّبّ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَامٌّ لِلنَّاسِ ، وَبِاللُّطْفِ وَالنُّصْرَةِ خَاصٌّ بِالْخَوَاصِّ ، وَبِالتَّأْنِيسِ خَاصٌّ بِالْأَوْلِيَاءِ . وَوَقَعَ فِي حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ " يَتَحَبَّبُ إِلَىَّ " بَدَلَ " يَتَقَرَّبُ " وَكَذَا فِي حَدِيث مَيْمُونَةَ .
قَوْله ( بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أَحْبَبْته )فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " أُحِبَّهُ " ظَاهِرُهُ أَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ تَقَعُ بِمُلَازَمَةِ الْعَبْدِ التَّقَرُّبَ بِالنَّوَافِلِ .
__________
(1) - فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين - (ج 1 / ص 115)
(2) - فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 342)(6021 )(1/335)
وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ بِمَا تَقَدَّمَ أَوَّلًا أَنَّ الْفَرَائِضَ أَحَبُّ الْعِبَادَاتِ الْمُتَقَرَّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ فَكَيْفَ لَا تُنْتِجُ الْمَحَبَّةَ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النَّوَافِلِ مَا كَانَتْ حَاوِيَةً لِلْفَرَائِضِ مُشْتَمِلَةً عَلَيْهَا وَمُكَمِّلَةً لَهَا ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ " اِبْن آدَم . إِنَّك لَنْ تُدْرِكَ مَا عِنْدِي إِلَّا بِأَدَاءِ مَا اِفْتَرَضْت عَلَيْك " وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ : مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّهُ إِذَا أَدَّى الْفَرَائِض وَدَامَ عَلَى إِتْيَان النَّوَافِل مِنْ صَلَاة وَصِيَام وَغَيْرهمَا أَفْضَى بِهِ ذَلِكَ إِلَى مَحَبَّة اللَّه تَعَالَى .
وَقَالَ اِبْن هُبَيْرَة : يُؤْخَذ مِنْ قَوْله " مَا تَقْرَب إِلَخْ " أَنَّ النَّافِلَة لَا تُقَدَّمُ عَلَى الْفَرِيضَة ، لِأَنَّ النَّافِلَة إِنَّمَا سُمِّيَتْ نَافِلَةً لِأَنَّهَا تَأْتِي زَائِدَةً عَلَى الْفَرِيضَةِ ، فَمَا لَمْ تُؤَدَّ الْفَرِيضَةُ لَا تَحْصُلُ النَّافِلَةُ ، وَمَنْ أَدَّى الْفَرْضَ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ النَّفْل وَأَدَامَ ذَلِكَ تَحَقَّقَتْ مِنْهُ إِرَادَةُ التَّقَرُّبِ اِنْتَهَى . وَأَيْضًا فَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ التَّقَرُّبَ يَكُون غَالِبًا بِغَيْرِ مَا وَجَبَ عَلَى الْمُتَقَرِّب، كَالْهَدِيَّةِ وَالتُّحْفَة بِخِلَافِ مَنْ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنْ خَرَاجٍ أَوْ يَقْضِي مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ .(1/336)
وَأَيْضًا فَإِنَّ مِنْ جُمْلَة مَا شُرِعَتْ لَهُ النَّوَافِل جَبْرُ الْفَرَائِضَ كَمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِم " اُنْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَتَكْمُلُ بِهِ فَرِيضَتُهُ(1)" الْحَدِيث بِمَعْنَاهُ ،فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ التَّقَرُّب بِالنَّوَافِلِ أَنْ تَقَع مِمَّنْ أَدَّى الْفَرَائِضَ لَا مَنْ أَخَلَّ بِهَا كَمَا قَالَ بَعْض الْأَكَابِرِ : مَنْ شَغَلَهُ الْفَرْضُ عَنِ النَّفْلِ فَهُوَ مَعْذُورٌ وَمَنْ شَغَلَهُ النَّفْلُ عَنِ الْفَرْضِ فَهُوَ مَغْرُورٌ ."
فأولياء الله هُمُ الذين يتقرَّبون إليه بما يقرِّبهم منه ، وأعداؤه الذين أبعدهم عنه بأعمالهم المقتضية لطردهم وإبعادهم منه ، فقسم أولياءه المقربين إلى قسمين :
__________
(1) - عَنْ حُرَيْثِ بْنِ قَبِيصَةَ قَالَ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَقُلْتُ اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِى جَلِيسًا صَالِحًا. قَالَ فَجَلَسْتُ إِلَى أَبِى هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ إِنِّى سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِى جَلِيسًا صَالِحًا فَحَدِّثْنِى بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَنِى بِهِ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلاَتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ فَإِنِ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَىْءٌ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِى مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ ». سنن الترمذى (415 ) وهو صحيح(1/337)
أحدهما : من تقرَّب إليه بأداء الفرائض ، ويشمل ذلك فعل الواجبات ، وتركَ المحرَّمات ؛ لأنَّ ذلك كُلَّه من فرائضِ اللهِ التي افترضها على عباده .
والثاني : من تقرَّب إليه بعدَ الفرائضِ بالنوافل ، فظهر بذلك أنَّه لا طريق يُوصِلُ إلى التقرُّب إلى الله تعالى ، وولايته ، ومحبته سوى طاعته التي شرعها على لسان رسوله ، فمنِ ادَّعى ولايةَ الله ، والتقرُّب إليه ، ومحبَّته بغير هذه الطريق ، تبيَّن أنَّه كاذبٌ في دعواه ، كما كان المشركون يتقرَّبُون إلى الله تعالى بعبادة من يعبدونَه مِنْ دُونِه ، كما حكى الله عنهم أنَّهم قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (3) سورة الزمر، وكما حكى عن اليهود والنَّصارى أنَّهم قالوا : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (18) سورة المائدة،مع إصرارهم على تكذيبِ رُسله ، وارتكاب نواهيه ، وترك فرائضه ،فلذلك ذكرَ في هذا الحديث أنَّ أولياء الله على درجتين :(1/338)
أحدهما : المتقرِّبُون إليه بأداءِ الفرائض ، وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين ، وأداء الفرائض أفضلُ الأعمال كما قال عمرُ بنُ الخطاب - رضي الله عنه - : أفضلُ الأعمال أداءُ ما افترضَ اللهُ ، والوَرَعُ عمّا حرَّم الله ، وصِدقُ النيّة فيما عند الله - عز وجل -(1). وعنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَخْطُبُ بِخُنَاصِرَة فَسَمِعْته يَقُولُ : أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ.(2)، وذلك لأنَّ الله - عز وجل - إنَّما افترض على عباده هذه الفرائض لِيُقربهم منه ، ويُوجِبَ لهم رضوانه ورحمته .
وأعظمُ فرائضِ البدن التي تُقرِّب إليه : الصلاةُ ، كما قال تعالى : {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ*} (19) سورة العلق ، وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ »(3).
و عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّى فَلاَ يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلْيَدْرَأْهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ »(4)..
__________
(1) - لم أجده
(2) - أخرجه : عبد الله في زوائده على " الزهد " ( 1711 ) ، والدينوري في " المجالسة "( 2586 ) و مصنف ابن أبي شيبة (235) - (ج 13 / ص 463)(36228 ) وهو حسن
(3) - صحيح مسلم(1111 )
(4) - البخاري 1/112 ( 405 ) و مسلم(1156 ) =يدرأ : يدفع(1/339)
و عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الأَحْوَصِ يُحَدِّثُنَا فِى مَجْلِسِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَزَالُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُقْبِلاً عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ فِى صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ ».(1).
ومنَ الفرائض المقرّبة إلى الله تعالى : عدلُ الرَّاعي في رعيَّته ، سواءٌ كانت رعيَّتُه عامّةً كالحاكم ، أو خاصةً كعدلِ آحاد النَّاس في أهله وولده ، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ :« أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالأَمِيرُ الَّذِى عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِىَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ».(2).
__________
(1) - سنن أبى داود (910 ) والترمذي (3102) مطولا وهو صحيح
وفي شرح سنن النسائي - (ج 2 / ص 331)
قَوْله ( مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْد ) بِالْإِحْسَانِ وَالْغُفْرَان وَالْعَفْو لَا يَقْطَع عَنْهُ ذَلِكَ
( مَا لَمْ يَلْتَفِت ) مَا لَمْ يَتَعَمَّد الِالْتِفَاتَ إِلَى مَا لَا يَتَعَلَّق بِالصَّلَاةِ
( فَإِذَا صَرَفَ وَجْهه ) بِالِالْتِفَاتِ إِلَى مَا لَا يَتَعَلَّق بِالصَّلَاةِ اِنْصَرَفَ عَنْهُ بِقَطْعِ ذَلِكَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
(2) - البخاري 2/6 ( 893 ) و مسلم (4828 )(1/340)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِى حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا »(1)..
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ وَأَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ جَائِرٌ »(2). .
الدرجة الثانية : درجةُ السابقين المقرَّبين ، وهُمُ الذين تقرَّبوا إلى الله بعدَ الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات ، والانكفافِ عن دقائقِ المكروهات بالوَرعِ ، وذلك يُوجبُ للعبدِ محبَّة اللهِ ، كما قال : (( ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافِلِ حتّى أُحبَّه )) ، فمن أحبه الله ، رزقه محبَّته وطاعته والاشتغالَ بذكره وخدمته ، فأوجبَ له ذلك القرب منه ، والزُّلفى لديه ، والحظْوة عنده ، كما قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (54) سورة المائدة ، ففي هذه الآية إشارةٌ إلى أنَّ مَنْ أعرض عن حبنا ، وتولى عن قربنا ، لم نبال ، واستبدلنا به من هو أولى بهذه المنحة منه وأحقُّ ، فمنْ أعرضَ عنِ الله ، فما له مِنَ الله بَدَلٌ ، ولله منه أبدال .
__________
(1) - صحيح مسلم(4825 )
(2) - سنن الترمذى ( 1379 ) صحيح لغيره(1/341)
ما لي شُغل سِواه ما لي شُغلُ ما يَصرِفُ عن هواه قلبي عذلُ
ما أصنعُ إنْ جفا وخابَ الأملُ مِنِّي بدل ومنه ما لي بدلُ
و وَفِي الْأَثَر يَقُول اللَّه تَعَالَى " يَا اِبْن آدَم اُطْلُبْنِي تَجِدْنِي فَإِنْ وَجَدْتنِي وَجَدْت كُلّ شَيْء وَإِنْ فُتُّك فَاتَك كُلّ شَيْء وَأَنَا أَحَبّ إِلَيْك مِنْ كُلّ شَيْء "(1).
وكان ذو النون يردّد هذه الأبيات بالليل كثيراً(2):
اطلبوا لأنفسكم مثل ما وَجَدْتُ أنا
قد وجدت لي سكَناً ليس في هواه عَنَا
إنْ بَعَدْتُ قرَّبَنِي أو قَرُبْتُ مِنه دَنا
من فاته اللهُ ، فلو حصلتْ له الجنةُ بحذافيرها ، لكان مغبوناً ، فكيف إذا لم يحصل له إلاَّ نزرٌ يسيرٌ حقيرٌ من دارٍ كلها لا تَعدِلُ جَناحَ بعوضةٍ :
مَنْ فَاتَهُ أَنْ يَراكَ يَوماً فَكُلُّ أوقاتِهِ فَواتُ
وحَيثُما كنتُ من بِلادٍ فَلِي إلى وَجْهِكَ التِفَاتُ
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 6 / ص 198)
(2) - أبو نعيم في " الحلية " 9/344 وصفة الصفوة - (ج 1 / ص 496)(1/342)
ثم ذكر أوصاف الذين يُحبهم الله ويُحبُّونه ، فقال : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } (المائدة : 54) ، يعني أنَّهم يعامِلون المؤمنين بالذِّلَّة واللِّين وخفض الجناح ، { أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } (المائدة : 54) ، يعني أنَّهم يعاملون الكافرين بالعزَّة والشدَّة عليهم ، والإغلاظ لهم ، فلما أحبُّوا الله ، أحبُّوا أولياءه الذين يُحبونه ، فعاملوهُم بالمحبَّة ، والرَّأفة ، والرحمة ، وأبغضوا أعداءه الذين يُعادونه ، فعاملُوهم بالشِّدَّة والغِلظة ، كما قال تعالى : { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } (الفتح : 29) ،{ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } (المائدة : 54) ، فإنَّ من تمام المحبة مجاهدةَ أعداءِ المحبوب ، وأيضاً ، فالجهادُ في سبيل الله دعاء للمعرضين عن الله إلى الرجوع إليه بالسَّيفِ والسِّنان بعد دعائهم إليه بالحجَّةِ والبرهانِ ، فالمحبُّ لله يحبُّ اجتلابَ الخلق كلِّهم إلى بابه ؛ فمن لم يُجبِ الدعوةَ باللين والرِّفق ، احتاج إلى الدعوة بالشدّة والعنف ،فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِى السَّلاَسِلِ »(1). .
__________
(1) - صحيح البخارى (3010 ) و أحمد 2/302 و406 وأبو داود ( 2677 ) ، وابن حبان ( 134 )
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 9 / ص 220)
قَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ : مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ أُسِرُوا وَقُيِّدُوا ، فَلَمَّا عَرَفُوا صِحَّة الْإِسْلَام دَخَلُوا طَوْعًا فَدَخَلُوا الْجَنَّة ، فَكَانَ الْإِكْرَاه عَلَى الْأَسْر وَالتَّقْيِيد هُوَ السَّبَب الْأَوَّل ، وَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَى الْإِكْرَاه التَّسَلْسُل ، وَلَمَّا كَانَ هُوَ السَّبَب فِي دُخُول الْجَنَّة أَقَامَ الْمُسَبَّب مَقَام السَّبَب . وَقَالَ الطِّيبِيُّ : وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالسَّلْسَلَةِ الْجَذْب الَّذِي يَجْذِبهُ الْحَقّ مَنْ خَلْصِ عِبَاده مِنْ الضَّلَالَة إِلَى الْهُدَى وَمِنْ الْهُبُوط فِي مَهَاوِي الطَّبِيعَة إِلَى الْعُرُوج لِلدَّرَجَاتِ ، لَكِنَّ الْحَدِيث فِي تَفْسِير آل عِمْرَان يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْحَقِيقَة . وَنَحْوه مَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيق أَبِي الطُّفَيْل رَفَعَهُ " رَأَيْت نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يُسَاقُونَ إِلَى الْجَنَّة فِي السَّلَاسِل كَرْهًا . قُلْت : يَا رَسُول اللَّه مَنْ هُمْ ؟ قَالَ قَوْم مِنْ الْعَجَم يَسْبِيهِمْ الْمُهَاجِرُونَ فَيُدْخِلُونَهُمْ فِي الْإِسْلَام مُكْرَهِينَ " وَأَمَّا إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فَمَنَعَ حَمْله عَلَى حَقِيقَة التَّقْيِيد وَقَالَ : الْمَعْنَى يُقَادُونَ إِلَى الْإِسْلَام مُكْرَهِينَ فَيَكُون ذَلِكَ سَبَب دُخُولهمْ الْجَنَّة ، وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّ ثَمَّ سِلْسِلَة . وَقَالَ غَيْره : يُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمُرَاد الْمُسْلِمِينَ الْمَأْسُورِينَ عِنْد أَهْل الْكُفْر يَمُوتُونَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُقْتَلُونَ فَيُحْشَرُونَ كَذَلِكَ ، وَعَبَّرَ عَنْ الْحَشْر بِدُخُولِ الْجَنَّة لِثُبُوتِ دُخُولهمْ عَقِبه . وَاللَّه أَعْلَم .(1/343)
{ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } (المائدة : 54 ) ؛ لا همَّ للمحبِّ غيرُ ما يُرضي حبيبه ، رضي من رضي ، وسَخِطَ من سخط ، من خاف الملامة في هوى من يُحبُّه ، فليس بصادقٍ في المحبَّةِ
وقال أبو الشِّيص الخُزاعِيّ(1):
وَقَفَ الهَوَى بِي حيثُ أَنْتِ، فلَيْسَ لي ... مُتَأَخَّرٌ عَنْهُ ولا مُتَقَدَّمُ
أَجِدُ المَلامَةَ في هَواكِ لَذِيذَةً ....... حُبَّاً لذِكْرِكِ، فلْيَلُمْنِي اللَّوَّمُ
أَشْبَهْتِ أَعْدائِي فَصِرْتُ أُحِبُّهُمْ ... إذْ كانَ حَظِّي منكِ حَظِّيَ مِنْهُمُ
وأَهَنْتِنِي، فأَهَنْتُ نَفْسِيَ صاغِراً ... ما مَنْ يَهُونَ عليكِ مِمَّنْ يُكْرَمُ
قوله : { ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } (المائدة : 54) ، يعني درجة الذين يُحبهم ويُحبونه بأوصافهم المذكورة ، { وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (المائدة : 54) : واسعُ العطاءِ ، عليمٌ بمن يستحقُّ الفضل ، فيمنحه ، ومن لا يستحقُّه ، فيمنعه .
__________
(1) - الحكم الجديرة بالإذاعة - (ج 1 / ص 8) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 11 / ص 432) ونفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب - (ج 4 / ص 502) والبديع في نقد الشعر - (ج 1 / ص 60) وزهر الآداب وثمر الألباب - (ج 1 / ص 224)والحماسة البصرية - (ج 1 / ص 165) و الشعر والشعراء - (ج 1 / ص 184) وتراجم شعراء موقع أدب - (ج 77 / ص 473)(1/344)
وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « كَانَ مِنْ دُعَاءِ دَاوُدَ يَقُولُ :اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَالْعَمَلَ الَّذِى يُبَلِّغُنِى حُبَّكَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ نَفْسِى وَأَهْلِى وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ ».(1)
وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ((اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِى وَتَرْحَمَنِى وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِى غَيْرَ مَفْتُونٍ أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ ».))(2)
وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - : « اللَّهُمَّ ارْزُقْنِى حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِى حُبُّهُ عِنْدَكَ اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِى مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِى فِيمَا تُحِبُّ اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّى مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ لِى فَرَاغًا فِيمَا تُحِبُّ »..(3)
__________
(1) - سنن الترمذى (3828 ) قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ والمستدرك للحاكم(1932) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 15 / ص 22)(16640) ومسند البزار(4089) والإتحاف 5/78 و9/549 وحل 1/226 وهو حسن لغيره
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 15 / ص 22)(16640) والمستدرك للحاكم(1932) ومسند البزار(4172) وسنن الترمذى (3543 ) ومسند البزار(5385)
عن معاذ بن جبل ، به .وهو جزء من حديث طويل ،صحيح
(3) -سنن الترمذى (3829 ) ومصنف ابن أبي شيبة (235) - (ج 10 / ص 354)(30208)وجامع الأصول 4/341 والدعا طب (1403) وهو صحيح(1/345)
ورُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان يدعو : (( اللهمَّ اجعل حُبَّك أحبَّ الأشياءِ إليَّ ، وخشيتَك أخوف الأشياء عندي ، واقطع عنِّي حاجاتِ الدُّنيا بالشَّوق إلى لقائك ، وإذا أقررتَ أعيُنَ أهل الدُّنيا من دنياهم ، فأقرِرْ عيني من عبادتك ))(1).
فأهلُ هذه الدرجة مِنَ المقرَّبين ليس لهم همٌّ إلاَّ فيما يُقرِّبُهم ممن يُحبهم ويحبونه ، قال بعضُ السلف : العمل على المخافة قد يُغيِّرُه الرجاءُ ، والعملُ على المحبة لا يَدخله الفتورُ ، ومن كلامِ بعضهم : إذا سئم البطَّالون من بطالتهم ، فلن يسأم محبُّوكَ من مناجاتك وذكرك.
قال فرقد السَّبَخي : قرأتُ في بعض الكتب : من أحبَّ الله ، لم يكن عنده شيءٌ آثَرَ من هواه ، ومن أحبَّ الدُّنيا ، لم يكن عنده شيءٌ آثر من هوى نفسه ، والمحب لله تعالى أميرٌ مؤمَّر على الأمراء زمرته أول الزمر يومَ القيامة ، ومجلسه أقربُ المجالس فيما هنالك ، والمحبة منتهى القربة والاجتهاد ، ولنْ يسأم المحبُّون من طول اجتهادهم لله - عز وجل - يُحبُّونه ويحبُّون ذكرَه ويحببونه إلى خلقه يمشون بين عباده بالنصائح ، ويخافون عليهم من أعمالهم يوم تبدو الفضائحُ ، أولئك أولياءُ الله وأحباؤه ، وأهلُ صفوته ، أولئك الذين لا راحةَ لهم دُونَ لقائه .
وقال فتح الموصليُّ : المحبُّ لا يجد مع حبِّ الله - عز وجل - للدنيا لَذَّةً ، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عينٍ .
وقال محمدُ بن النضر الحارثي : ما يكادُ يملُّ القربةَ إلى الله تعالى محبٌّ لله - عز وجل - ، وما يكاد يسأمُ من ذلك .
وقال بعضهم : المحبُّ لله طائرُ القلب ، كثيرُ الذكر ، متسبب إلى رضوانه بكل سبيلٍ يقدر عليها من الوسائل والنوافل دَوباً دَوباً ، وَشوقاً شوقاً ، وأنشد بعضهم :
وكُنْ لِرَّبك ذا حُبٍّ لِتَخْدمه إنَّ المحبين للأحبابِ خُدَّامُ
وأنشد آخر :
__________
(1) - الاتحاف 5/78 و9/549 و609 و حلية 1/226و8/282 ، و فيه ضعف(1/346)
ما للمُحِبِّ سوى إرادةِ حُبِّه إنَّ المحبَّ بكلِّ برٍّ يَضرَعُ
ومن أعظم ما يُتقرَّب به العبد إلى الله تعالى مِنَ النَّوافل : كثرةُ تلاوة القرآن ، وسماعهُ بتفكُّر وتدبُّرٍ وتفهُّمٍ ، قال خباب بن الأرت لرجل : تقرَّب إلى الله ما استطعتَ ، واعلم أنَّك لن تتقرب إليه بشيءٍ هو أحبُّ إليه من كلامه(1).
وفي " الترمذي " عن أبي أُمامة مرفوعاً(2): ((وَمَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ)) يعني القرآن ، لا شيءَ عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم ، فهو لذَّةُ قلوبهم ، وغايةُ مطلوبهم . قال عثمان : لو طَهُرَتْ قلوبُكم ما شبعتُم من كلام ربكم(3). وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : مَنْ أَحَبَّ الْقُرْآنَ فَلْيُبْشِرْ.(4).
قال بعضُ العارفين لمريدٍ : أتحفظُ القرآن ؟ قال : لا ، فقال : واغوثاه بالله ! مريد لا يحفظ القرآن فبم يتنعم ؟ فبم يترنم ؟ فبم يُناجي ربه - عز وجل - ؟
كان بعضُهُم يُكثِرُ تلاوة القرآن ، ثم اشتغل عنه بغيره ، فرأى في المنام قائلاً يقول له:
إن كُنتَ تَزعُمُ حُبِّي فَلِمَ جَفوتَ كِتابي
أما تأمَّلتَ ما فيـ ـهِ مِنْ لَطيفِ عِتابي
__________
(1) - الإبانة الكبرى لابن بطة (2013 ) والأسماء والصفات للبيهقي (498) والرد على الجهمية للدارمي (159) وهو صحيح
(2) - الإبانة الكبرى لابن بطة (2006 ) ومختصر قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي (37 و208 ) ومسند أحمد (22966) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 7 / ص 163)(7543) وفضائل القرآن لمحمد بن الضريس(138) وتاريخ بغداد - (ج 3 / ص 205) وتاريخ بغداد - (ج 5 / ص 329) وفيه ضعف
(3) - الزهد لأحمد بن حنبل (686) وفضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (749) وحلية الأولياء حلية الأولياء - (ج 3 / ص 295) وفيه انقطاع
(4) - سنن الدارمى (3386) والتفسير من سنن سعيد بن منصور(3) وأمالي ابن سمعون (171) وحلية الأولياء - (ج 3 / ص 284) وحلية الأولياء - (ج 3 / ص 296)صحيح(1/347)
ومن ذلك : كثرةُ ذكر الله الذي يتواطأ عليه القلبُ واللسان .و عَنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ:"أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ".(1)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى ، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِى ، فَإِنْ ذَكَرَنِى فِى نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى ، وَإِنْ ذَكَرَنِى فِى مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِى مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا ، وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً »(2)..
وعَنْ كَرِيمَةَ ابْنَةِ الْحَسْحَاسِ الْمُزَنِيَّةِ أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ قَالَتْ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَنَحْنُ فِى بَيْتِ هَذِهِ يَعْنِى أُمَّ الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَأْثُرُهُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ « أَنَا مَعَ عَبْدِى مَا ذَكَرَنِى وَتَحَرَّكَتْ بِى شَفَتَاهُ ».(3)
.
__________
(1) - الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (1220 ) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 15 / ص 3)(16607) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 15 / ص 18)(16634) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 15 / ص 20)(16637) وشعب الإيمان للبيهقي(545 )وصحيح ابن حبان(819 ) ومسند الشاميين( 191و192 و2035 و2036 و3521)والصحيحة (1836) وصحيح الجامع (165) صحيح
(2) - صحيح البخارى (7405 ) ومسلم (6981 )
(3) - مسند أحمد (11267) والمعجم الأوسط للطبراني (6810) وصحيح ابن حبان(816) وصحيح الجامع ( 1906 ) وهو صحيح(1/348)
وقال - عز وجل - : {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (152) سورة البقرة.
وعَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ - رضى الله عنه - قَالَ :لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ - أَوْ قَالَ لَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، إِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا ، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهْوَ مَعَكُمْ » . وَأَنَا خَلْفَ دَابَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَمِعَنِى وَأَنَا أَقُولُ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ ، فَقَالَ لِى « يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ :« أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ » . قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فِدَاكَ أَبِى وَأُمِّى .قَالَ « لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ » .(1).
وعن أبي موسى الأشعري قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة ، فلما أشرفنا على المدينة فكبروا تكبيرة فرفعوا بها أصواتهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن ربكم ليس بأصم ، ولا غائب وهو بينكم وبين رأس رواحلكم ».(2)
__________
(1) - صحيح البخارى (4205 ) =اربع : ارفق بنفسك واخفض صوتك
(2) - صحيح ابن خزيمة (2361 ) صحيح(1/349)
ومن ذلك : محبةُ أولياء الله وأحبائه فيه ، ومعاداة أعدائه فيه ، وعَنْ أَبِى زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- :« إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ».
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ. قَالَ « هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلاَ أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ لاَ يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ وَلاَ يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ ». وَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }(1)(يونس : 62) .
وعَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ ، قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ : {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة 101 ] ، قَالَ : فَنَحْنُ نَسْأَلُهُ ، إِذْ قَالَ : " إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ بِقُرْبِهمْ ومَقْعَدِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
__________
(1) - سنن أبى داود(3529 ) وحلية الأولياء - (ج 1 / ص 2)في إسناده انقطاع إلا أنَّ للحديث شواهد .(1/350)
قَالَ : وَفِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ أَعْرَابِيٌّ ، فَقَامَ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَرَمَى بِيَدَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْهُمْ مَنْ هُمْ ؟ قَالَ : فَرَأَيْتُ وَجْهَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَشِرُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " عِبَادٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مِنْ بُلْدَانٍ شَتَّى وَقَبَائِلَ مِنْ شُعُوبِ أَرْحَامِ الْقَبَائِلِ ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ يَتَوَاصَلُونَ بِهَا لِلَّهِ ، لا دُنْيَا يَتَبَادَلُونَ بِهَا ، يَتَحَابُّونَ بِرُوحِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، يَجْعَلُ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ نُورًا ، يَجْعَلُ لَهُمْ مَنَابِرَ مِنْ لُؤْلُؤٍ قُدَّامَ الرَّحْمَنِ تَعَالَى ، يَفْزَعُ النَّاسُ وَلا يَفْزَعُونَ ، وَيَخَافُ النَّاسُ وَلا يَخَافُونَ " .(1).
وِعَنْ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لاَ يَحِقُّ الْعَبْدُ صَرِيحَ الإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَبْغَضُ لِلَّهِ فَإِذَا أَحَبَّ لِلَّهِ تَبَارَك وَتَعَالَى وَأَبْغَضَ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَدِ اسْتَحَقَّ الْوَلاَءَ مِنَ اللَّهِ وَإِنَّ أَوْلِيَائِى مِنْ عِبَادِى وَأَحِبَّائِى مِنْ خَلْقِى الَّذِينَ يُذْكَرُونَ بِذِكْرِى وَأُذْكَرُ بِذِكْرِهِمْ »(2). .
وسُئل المرتعش : بم تُنال المحبة ؟ قال : بموالاة أولياء الله ، ومعاداة أعدائه(3)، وأصله الموافقة
__________
(1) - مصنف عبد الرزاق(20325) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 3 / ص 467)(3355)ومبارك 248 والإتحاف 6/174 حسن
(2) - مسند أحمد (15948) وحلية الأولياء - (ج 1 / ص 2) وسير أعلام النبلاء (1/252) وفيه ضعف
(3) - أخرجه : أبو عبد الرحمان السلمي في " طبقات الصوفية " : 351(1/351)
وفي " الزهد " للإمام أحمد عن عطاء بن يسار ، قال : قال موسى - عليه السلام - : يا ربِّ ، مَنْ هُمْ أهلُك الذين تُظلُّهم في ظلِّ عرشك ؟ قالَ : يا موسى ، هُمُ البريئة أيديهم ، الطَّاهرةُ قلوبهم ، الَّذين يتحابُّون بجلالي ، الذين إذا ذكرت ذكروا بي ، وإذا ذكروا ذكرت بذكرهم ، الذين يُسبغون الوضوء في المكاره ، ويُنيبون إلي ذكري كما تُنيب النُّسور إلى وكورها ، ويكْلَفُون بحُبِّي كما يَكلَفُ الصبيُّ بالنّاس ، ويغضبون لمحارمي إذا استُحِلَّت ، كما يغضبُ النَّمِرُ إذا حَرِبَ .(1)
والخلاصة أنَّ النوافل هي الإتيان بالأعمال الصالحة زيادة على الفرائض، وفعلها مع الاستمرار عليها يجلب محبَّة الله عزَّ وجلَّ، وإذا حصلت له المحبَّة ظفر بتسديد الله في تصرفاته، فلا يسمع إلاَّ ما هو حق، ولا يرى إلاَّ ما هو حق، ولا ينال إلاَّ ما هو حق، ولا يَمشي إلاَّ إلى ما هو حق، وأكرمه الله بإجابة دعوته إذا دعاه، وإعاذته مِمَّا استعاذه منه.(2)
--------------
أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَلَى طَبَقَتَيْنِ
سَابِقُونَ مُقَرَّبُونَ وَأَصْحَابُ يَمِينٍ مُقْتَصِدُونَ(3)
__________
(1) - الزهد لأحمد بن حنبل (395 ) عنه و شعب الإيمان للبيهقي(9200 )عن مالك بن دينار وكلاهما صحيح إليه
إسباغ الوضوء : إتمامه وإكماله واستيعاب أعضائه بالغسل
(2) - فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين - (ج 1 / ص 129)
(3) - الفرقان بين أولياء الرحمن وأوليا الشيطان بتحقيقي ص 258-261(1/352)
ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَآخِرِهَا وَفِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ ؛ وَالْمُطَفِّفِينَ وَفِي سُورَةِ فَاطِرٍ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ فِي الْوَاقِعَةِ الْقِيَامَةَ الْكُبْرَى فِي أَوَّلِهَا وَذَكَرَ الْقِيَامَةَ الصُّغْرَى فِي آخِرِهَا فَقَالَ فِي أَوَّلِهَا : { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (14)}(1)[
__________
(1) - إِذَا قَامَتِ القِيَامَةُ . وَسُمِّيَتِ القِيَامَةُ الوَاقِعَةَ لَتَحَقُّقِ حُدُوثِهَا .
فَلَيْسَ لِوُقُوعِهَا - إِذَا أَرَادَ اللهُ كَوْنَهَا - مَنْ يَصْرِفُهُ أَوْ يَدْفَعُهُ ( أَوْ فَلاَ تَبْقَى نَفْسٌ مُكَذِّبَةً بِوُقُوعِهَا ) .
فَتَخْفِضُ أَقْواماً إِلَى الجَحيمِ ، وَتَرْفَعُ أَقْوَاماً إِلَى عِلِّيِّينَ .
إِذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ تَتَزَلْزَلُ الأَرْضُ زِلْزَالاً شَدِيداً ، وَتَتَحَرَّكُ تَحْرُّكاً عَنِيفاً ، وَتَضْطَرِبُ بِطُولِهَا وَعَرْضِهَا ، فَتْنَدَكُّ الحُصُونُ وَالقِلاَعُ وَالأَبْنِيَةُ وَالجِبَالُ .
( وَقَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ { إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ . }
وَإِذا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ تَتَفَتَّتُ الجِبَالُ تَفَتُّتاً ، وَتُصْبحُ مِثْلَ كَثِيبِ الرَّمْلِ لاَ تَمَاسُكَ بَيْنَ أَجْزَائِهَا .
وَتَصِيرُ الجِبَالُ ذَرَّاتٍ مُتَطَايِرَةً كَالهَبَاءِ الذِي يَتَطَايَرُ مِنْ شَرَرِ النَّارِ إِذَا اشْتَعَلَتْ ، فَإِذَا وَقَعَ عَلَى الأَرْضِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً.
وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُصْبحُ النَّاسُ أَصْنَافاً ثَلاَثَةً .
فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ الذِينَ يَأْخُذُونَ كِتَابَهُمْ بِأَيمَانِهِمْ ، وَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا يَكُونُ عَلَيْهِ حَالُهُمْ مِنَ السَّعَادَةِ ، وَالفَرْحَةِ ، وَالنَّضْرَةِ ، وَالنِّعْمَةِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ العَصيبِ .
وَأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ الذِينَ يُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ بِشَمَائِلِهِمْ ، وَيُوقَفُونَ إِلَى شَمَالِ الجَمْعِ لِيُسَاقُوا إِلَى النَّارِ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَكُونُ عَلَيهِ حَالُهُمْ مِنَ المَذَلَّةِ وَالمَسَاءَةِ ، وَالخِزْيِ وَالخُشُوعِ .
أَمَّا الصّنْفُ الثَّالِثُ فَهُم السَّابِقُونَ فِي الدُّنْيَا إِلَى الإِيْمَانِ ، وَفِعْلِ الخَيْرَاتِ ، وَأَدَاءِ الطَّاعَاتِ ، وَهَؤُلاَءِ يَكُونُونَ سَابِقِينَ إِلَى الفَوْزِ بِرَحْمَةِ اللهِ ، وَبِدُخُولِ الجَنَّةِ .
( وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " أَتَدْرُونَ مَنِ السَّابِقُونَ إِلَى ظِلِّ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالُوا : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : الذِينَ إِذَا أُعْطُوا الحَقَّ قَبِلُوهُ ، وَإِذَا سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ ، وَحَكَمُوا لِلنَّاسِ كَحُكْمِهِمْ لأَنْفُسِهِمْ " ) ( رَوَاهُ أَحْمَدُ ) .
وَهَؤُلاءِ السَّابِقُونَ هُم الذِينَ نَالُوا الحُظْوَةَ عِنْدَ اللهِ في الجَنَّةِ .
وَيَتَمَتَّعُونَ فِي الجَنَّةِ بِمَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذْنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ .
وَهَؤُلاءِ السَّابِقُونَ هُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الأُمَمِ السَّالِفَةِ .
وَقِلَّةٌ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ( الآخِرِينَ ) .(1/353)
الواقعة/1-14] ، فَهَذَا تَقْسِيمُ النَّاسِ إذَا قَامَتْ الْقِيَامَةُ الْكُبْرَى الَّتِي يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهَا الْأَوَّلِينَ والآخرين كَمَا وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ : فَلَوْلَا أَيْ : فَهَلَّا { فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)(1)
__________
(1) - فَإِذَا كُنْتُمْ تَدَّعُونَ أَنَّهُ لاَ خَالِقَ فِي الوُجُودِ ، وَأَنَّكُمُ الخَالِقُونَ ، فَهَلاَّ أَرْجَعْتُمُ الأَنْفُسَ المُحْتَضَرَةَ ، التِي بَلَغَتِ الحَلاَقِيمَ ، وَأَعَدْتُمُوهَا إِلَى مَكَانِهَا مِنَ الأَجْسَادِ؟
وَأَنْتُمْ جَالِسُونَ أَمَامَ المُحْتَضَرِ تَنْظُرُونَ إِلَيهِ ، وَنَفْسُهُ قَدْ بَلَغَتِ الحُلْقُومَ فِي خُرُوجِهَا مِنَ الجَسَدِ .
وَرُسُلُنَا الذِينَ جَاؤُوا لِقَبْضِ رُوحِ المُحْتَضرِ َقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنَّكُمْ لاَ تُبْصِرُونَهُمْ .
فَإِذَا كُنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّكُمْ غَيرُ مَبُعُوثِينَ ، وَغَيْرُ مُحَاسَبِينَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ .
غَيْرَ مَدِينِينَ - غَيْرَ مُحَاسَبِينَ أَوْ غَيْرَ مَجْزِيِّينَ بِهَا .
فَهَلاَّ أَرْجَعْتُمُ الأَنْفُسَ المُحْتَضَرَةَ إِلَى مَكَانِهَا مِنَ الجَسَدِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا تَعْتَقِدُونَ مِنْ أَنَّكُمْ لاَ تُبْعَثُونَ ، وَلاَ تُحَاسَبُونَ .
فَإِذَا كَانَ المُحْتَضِرُ مِنَ المُقَرَّبِينَ الذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ، وَفَعَلُوا الطَّاعَاتِ ، وَاجْتَنَبُوا مَا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى .
فَيَكُونُ لَهُ رَاحَةٌ وَفَرَحٌ ، وَتُبَشِّرُهُ المَلاَئِكَةُ عِنْدَ المَوْتِ بِجَنَّةِ النَّعِيمِ .
فَرَوْحٌ - فَلَهُ اسْتِرَاحَةٌ أَوْ رَحْمَةٌ .
وَأَمَّا إِنْ كَانَ المُحْتَضَرُ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ .
فَتَقُولُ لَهُ المَلاَئِكَةُ : لاَ بَأْسَ عَلَيْكَ وَأَنْتَ سَالِمٌ ، أَنْتَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ .
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الكَفَرَةِ المُكَذِّبِينَ بِاللهِ ، وَبِالكُتُبِ وَالرُّسُلِ ، وَبِالبَعْثِ وَالحِسَابِ .
فَيَكُونُ قِراهُ ، وَزَادُ الضِّيَافَةِ الذِي يَنْتَظِرُهُ ، مَاءً شَدِيدَ الحَرَارَةِ .
فَنُزُلٌ - فَلَهُ قِرىً وَضِيَافَةٌ .
وَيَدْخُلُ نَارَ جَهَنَّمَ لِيَصْلاَهَا فَتَغْمُرُهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ .
وَهَذَا هُوَ الخَبَرُ اليَقِينُ الحَقُّ الذِي لاَ شَكَّ فِيهِ .
وَبَعْدَ أَنِ اسْتَبَانَ الحَقُّ ، وَظَهَرَ اليَقِينُ ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ ، وَنَزِّهْهُ عَمَّا لاَ يَلِيقُ بِجَنَابِهِ الكَرِيمِ .(1/354)
}سورة الواقعة .
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)(1)
__________
(1) - يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ الإِنْسَانَ وَأَوْجَدَهُ مِنْ عَدَمٍ ، وَيَسْأَلُ اللهُ تَعَالَى الإِنْسَانَ : أَلاَ يَعْرِفُ أَنَّهُ مَضَى عَلَيْهِ حِينٌ مِنَ الزَّمَانِ؟ قَبْلَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْئاً يُعْرَفُ فَيُذْكَرُ اسمُهُ؟
لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ ذَاتِ عَنَاصِرَ شَتَّى ، اخْتَلَطَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ، لِنَخْتَبِرَهُ بِالتَّكْلِيفِ إِذَا شَبَّ وَبَلَغَ الحُلُمَ ، وَنَرَى هَلْ يَشْكُرُ رَبَّهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ خَلْقٍ وَرِزْقٍ وَصِحَّةٍ ، أَمْ يَكْفُرُ؟ وَجَعَلْنَاهُ ذَا سَمْعٍ لَيَسْتَطِيعَ سَمَاعَ الآيَاتِ ، وَجَعَلْنَاهُ ذَا بَصَرٍ لِيَسْتَطِيعَ رُؤْيَةَ الدَّلاَئِلِ ، فَيَتَفَكَّرَ وَيَتَدَبَّرَ .
وَأَعْطِينَاهُ العَقْلَ والسَّمْعَ والبَصَرَ لِيُدْرِكَ وَيَعْقِلَ ، وَبِيَّنَا لَهُ طَرِيقَ الهُدَى وَطَرِيقَ الضَّلاَلِ لِيَخْتَارَ بِطَوْعِهِ بَيْنَ الخَيْرِ والشَّرِّ ، وَبَيْنَ الهُدَى وَالمَعْصِيَةِ ، فَمَنْ آمَنَ بِرَبِّهِ شَكَرَ ، وَمَنْ كَفَرَ بِرَبِّهِ جَحَدَ وَكَفَرَ النِّعْمَةَ .
إِنَّا أَعْدَدْنَا وَهَيَّأْنَا لِمَنْ كَفَرَ بِنِعْمَتِنَا ، وَخَالَفَ أَمْرَنَا ، سَلاَسِلَ يُقَادُ بِهَا إِلَى الجَحِيمِ ، وَأَغْلاَلاً تُشَدُّ بِهَا أَيْدِيهِ إِلَى عُنُقِهِ ، وَنَاراً يُعَذَّبُ فِيهَا .
إِنَّ الكرَامَ البَرَرَةَ الذِينَ أَطَاعُوا اللهَ ، يَشْرَبُونَ مِنْ خَمْرٍ كَانَ مَا يُمْزَجُ بِهَا مَاءَ الكَافُورِ .
وَهَذَا المِزَاجُ مِنْ عَيْنٍ يَشْرَبُ بِهَ عِبَادُ اللهِ المُتَّقُونَ ، وَهُمْ فِي الجَنَّاتِ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاؤُوا ، وَيُجْرُونَها حَيْثُ أَرَادُوا مِنْ دُورِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ .
وَهَؤُلاَءِ الأَبْرَارُ يُوفُونَ بِمَا أَوْجَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ نُذُورٍ ، لأَنَّ مَنْ أَوْفَى بِمَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ أَكْثَرَ وَفَاءً بِمَا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَيْهِ ، وَيَتْرُكُونَ المُحَرَّمَاتِ التِي نَهَاهُمْ رَبُّهُمْ عَنْهَا ، خِيفَةَ سُوءِ الحِسَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَهُوَ يَوْمٌ ضَرَرُهُ مُنْتَشِراً فَاشِياً عَامّاً عَلَى النَّاسِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ .
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ ، مَعَ شَهْوَتِهِمْ لَهُ ، وَرَغْبَتِهِمْ فِيهِ ، لِلْفَقِير العَاجِزِ عَن الكَسْبِ ( المِسْكِينِ ) ، وَاليَتِيمِ الذِي مَاتَ أَبُوهْ ، وَهُوَ دُونَ سِنِّ البُلُوغِ وَالأَسِيرِ العَاني الذِي لاَ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ قُوتاً .
وَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يُطْعِمُونَ الفُقَرَاءَ وَالمَسَاكِينَ والأَيْتَامَ وَالأَسْرَى ، لأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ ثَوَابَ اللهِ وَرِضْوَانَهُ وَحْدَهُ ، لاَ يَطْمَعُونَ فِي جَزَاءٍ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِهِ عَلَى إِنْفَاقِهِمْ ، وَلاَ فِي شُكْرٍ مِنَ المُنْفَقِ عَلَيْهِ .
وَإِنَّنَا إِنَّمَا نَفْعَلُ ذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يَرْحَمَنَا رَبُّنَا فِي يَوْمِ القِيَامَةِ ، وَهُوَ يَوْمٌ طَوِيلٌ عَصِيبٌ ، تَعْبِسُ فِيهِ الوُجُوهُ وَتَكْلَحُ مِنْ شِدَّةِ أَهْوَالِهِ .
فَآمَنَهُمْ اللهُ شَرَّ مَا خَافُوهُ ، وَأَعْطَاهُمْ أَمناً تَكُونُ لَهُ وُجُوهُهُمْ نَضِرَةً ، وَسُرُوراً تُسَرُّ بِهِ قُلُوبُهُمْ ، وَالقَلْبُ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ الوَجْهُ .
وَجَزَاهُمُ اللهُ بِصَبْرِهِمْ عَلَى الإِيْثَارِ ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَيهِ مِنَ الجُوعِ وَالعُرْيِ ، جَنَّةً لَهُمْ فِيهَا مَنْزِلٌ رَحْبٌ ، وَعَيْشٌ رَغْدٌ ، وَلِبَاسٌ مِنْ حَرِيرٍ .
وَيَجْلِسُونَ فِي الجَنَّةِ عَلَى السَّرَائِرِ والأَرَائِكِ ، وَهُمْ مُتَّكِئُونَ فِي وَضْعِ مَنْ هُوَ مُنَعَّمٌ ، لاَ يُقَاسُونَ حَرّاً مُزْعِجاً ، وَلاَ بَرْداً مُؤْلِماً .(1/355)
} الْآيَاتِ .
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ فَقَالَ : كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) }(1).
__________
(1) - كُفُّوا أَيُّهَا المُطَفِّفُونَ ، وَازْدَجِرُوا عَن التَّطْفِيفِ ، فَإِنَّ الفُجَّارَ المُطَفِّفِينَ سَيُحَاسَبُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ ، وَسَيَكُونُ مَصِيرُهُمْ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ سَحِيقِ السُّفُولِ ( فِي سِجِّينٍ ) .
( وَقِيلَ إِنَّ المَعْنَى هُوَ أَنَّ كِتَابَ أَعْمَالِهِمْ سَيَكُونُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ دَلاَلَةً عَلَى التَّحْقِيرِ وَالإِذْلاَلِ ) .
وَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا سِجِّينٌ هَذَا؛ لأَنَّكَ لاَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ يَا مُحَمَّدُ .
وَمَصِيرٌ هَؤُلاَءِ المُجْرِمِينَ فِي سِجِّينٍ مَكْتُوبٌ مَرْقُومٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ ، لاَ يُزَادُ فِيهِ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُ .
الوَيْلُ وَالخِزْيُ وَشِدَّةُ العَذَابِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لِمَنْ كَانَ يُكَذِّبُ بِيوْمِ الجَزَاءِ ، وَلِمَنْ كَانَ لاَ يُبَالِي بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ حِسَابٍ وَعِقَابٍ .
الذِينَ يُكذِّبُونَ بِيَوْمِ القِيَامَةِ ، يَوْمِ الحِسَابِ وَالجَزَاءِ .
وَمَا يُكَذِّبُ بِهَذَا اليَوْمِ إِلاَّ المُعْتَدِي فِي أَفْعَالِهِ ، الذِي يَتَجَاوَزُ الحَلاَلَ إِلَى الحَرَامِ ، الأَثِيمُ فِي أَقْوَالِهِ فَهُوَ إِنْ حَدَّثَ كَذَبَ وَإِنْ وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِنْ خَاصَمَ فَجَرَ .
وَهَذَا المُعْتَدِي الأَثِيمُ هُوَ الذِي إِذَا سَمِعَ كَلاََمَ اللهِ يُتْلَى عَلَيْهِ ، كَذَّبَهُ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مُنَزَّلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنَ أَخْبَارِ الأَوَّلِينَ وَقَصَصِهِمْ أَخَذَهَا مُحَمَّدٌ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ السَّابِقِينَ .
وَلَيْسَ الأَمْرُ كَمَا زَعَمُو مِنْ أَنَّ هَذَا القُرْآنَ هُوَ مِنْ أَسَاطِيرِ الأَوَّلِينَ ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلاَمُ اللهِ إِلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وَلَكِنَّ الذِي حَجَبَ عَنْ قُلُوبِهِمْ الإِيْمَانَ هُوَ مَا عَلاَ قُلُوبَهُمْ وَغَطَّاهَا مِنْ تَرَاكُمْ الذُّنُوبِ ، وَتَوَالِي الإِقْدَامِ عَلَى مُنْكَرِ الأَعْمَالِ ، حَتَّى اعْتَادُوهَا ، وَصَارَتْ سَبَباً لَهُمْ لِحُصُولِ الرِّيْن عَلَى قُلُوبِهِمْ ، الأُمُورِ عَلَيْهِمْ .
( أَيِ إِنَّ قُلُوبَهُمْ عَمِيَتْ مِنَ الذُّنُوبِ وَمَاتَ فِيهَا الإِحْسَاسُ ) .
يَزْجُرُ اللهُ تَعَالَى هَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ ، الذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ القُرْآنَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ، والذِينَ يَدَّعُوْنَ أَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ عِنْدَ اللهِ مِنَ المُقَرَّبِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَيَقُولُ لَهُمْ : لَيْسَ الأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا ، فَهُمْ سَيُطْرَدُونَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ، وَسَيُحْجَبُونَ عَنْ رُؤْيَتِهِ .
وَبَعْدَ أَنْ يُحْجَبُوا يَوْمَ القِيَامَةِ عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ ، يُقْذَفُ بِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، وَيَصْلَونَ سَعِيرَهَا ، وَيُقَاسُونَ حَرَّهَا .
وَيُقَالُ لَهُمْ : إِنَّ هَذَا العَذَابَ الذِي أَنْتُم فِيهِ هُوَ جَزَاءٌ لَكُمْ عَلَى تَكْذِيبكُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ .
وَإِنَّ مَصِيرَ الأَبْرَارِ سَيَكُونُ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ( عِلِّيِّيْنَ - أَيْ مَكَانٍ عَالٍ ) .
( وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّ المَعْنَى هُوَ : أَنَّ كِتَابَ أَعْمَالِ الأَبْرَارِ مُوْدَعٌ فِي أَعْلَى الأَمْكِنَةِ ، بَحَيْثُ يَشْهَدُهُ المُقَرَّبُونَ مِنَ المَلاَئِكَةِ تَشْرِيفاً لَهُمْ ، وَتَعْظِيماً لِشَأْنِهِمْ ) .
( وَالرَّأْيَانِ يَتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ الأَبْرَارَ مُكَرَّمُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ) .
وَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى بَيَانَ عَظَمَةِ شَأْنِ عِلِّيينَ فَقَالَ : وَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا عِلِّيُونَ هَذَا لأَنَّكَ لاَ تْعَلَمُهُ أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ .
وَمَصِيرُ هَؤُلاَءِ الأَبْرَارِ فِي عَلِّيِينَ مَكْتُوبٌ مَرْقُومٌ .
وَيَشْهَدُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مَقَرّبُوهَا .
وَيَكُونُ الأَبْرَارُ الذِينَ يُطِيعُونَ رَبَّهُمْ ، وَيُؤْمِنُونَ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى رُسُلِهِ فِي نَعِيمٍ دَائِمٍ مُقِيمٍ ، وَجَنَّاتٍ فِيهَا فَضْلٌ عَظِيمٌ يَوْمَ القِيَامَةِ .
وَهُمْ عَلَى الأَسِرَّةِ يَنْظُرُونَ إِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ الذِي لاَ يُوصَفُ ( وَقِيلَ بَلْ إِنَّهُمْ يَنْظرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ ) .
- وَإِذَا نَظَرَ الإِنْسَانُ إِلَى وُجُوهِهِمْ أَدْرَكَ أَنَّهُمْ أَهْلُ رِفْهٍ وَنَعِيمٍ لِمَا يَرَى فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ الاطْمِئْنَانِ وَالنَّضْرَةِ .
يُسْقَوْنَ مِنْ خَمْرِ الجَنَّةِ فِي أَوَانٍ مَخْتُومَةٍ ، يَفُكُّ خَتْمَهَا الأَبْرَارُ .
وَقَدْ خُتِمَتْ أَوَانِيهَا بِخِتَامٍ مِنْ مِسْكٍ تَكْرِيما لِهَذِهِ الخَمْرِ ، وَصَوْناً لَهَا عَنِ الابْتِذَالِ ( وَأَهْلُ الأَرْضِ كَانُوا يَخْتُمُونَ أَوَانِيَ الخَمْرِ بِطِينٍ ) .
وَلِلْوُصُولِ إِلَى هَذَا النَّعِيمِ فَعَلَى النَّاسِ أَنْ يَتَسَابِقُوا وَيَتَنَافَسُوا فِي التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ ، وَالفَوْزِ بِمَرْضَاتِهِ ، وَالعَمَلِ بِأَوَامِرِهِ .(1/356)
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ قَالُوا يُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا وَيَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا وَهُوَ كَمَا قَالُوا(1).
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 24 / ص 107) وتفسير الطبري - (ج 24 / ص 300و301) وتفسير ابن كثير - (ج 8 / ص 353) ومصنف ابن أبي شيبة (ج 13 / ص 14)(34085) عَنْ عَبْدِ اللهِ : مَخْتُومٍ مَمْزُوجٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ ، قَالَ : طَعْمُهُ وَرِيحُهُ تَسْنِيمٍ عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صَرْفًا وَيُمَزِّجُ لأَصْحَابِ الْيَمِينِ . وهو صحيح
وبرقم(34086) عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صَرْفًا وَيُمْزَجُ لِسَائِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ . صحيح(1/357)
فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: { يَشْرَبُ بِهَا } وَلَمْ يَقُلْ : يَشْرَبُ مِنْهَا لِأَنَّهُ ضَمَّنَ ذَلِكَ قَوْلَهُ يَشْرَبُ يَعْنِي يُرْوَى بِهَا فَإِنَّ الشَّارِبَ قَدْ يَشْرَبُ وَلَا يُرْوَى فَإِذَا قِيلَ يَشْرَبُونَ مِنْهَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى الرِّيِّ، فَإِذَا قِيلَ يَشْرَبُونَ بِهَا كَانَ الْمَعْنَى يَرْوُونَ بِهَا، فَالْمُقَرَّبُونَ يَرْوُونَ بِهَا فَلَا يَحْتَاجُونَ مَعَهَا إلَى مَا دُونَهَا ؛ فَلِهَذَا يَشْرَبُونَ مِنْهَا صِرْفًا بِخِلَافِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَإِنَّهَا مُزِجَتْ لَهُمْ مَزْجًا ،وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ :{ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)(1)
__________
(1) - وأما { الأبْرَارِ } وهم الذين برت قلوبهم بما فيها من محبة الله ومعرفته، والأخلاق الجميلة، فبرت جوارحهم ، واستعملوها بأعمال البر أخبر أنهم { يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ } أي: شراب لذيذ من خمر قد مزج بكافور أي: خلط به ليبرده ويكسر حدته، وهذا الكافور [في غاية اللذة] قد سلم من كل مكدر ومنغص، موجود في كافور الدنيا، فإن الآفة الموجودة في الأسماء التي ذكر الله أنها في الجنة وهي في الدنيا تعدم في الآخرة .
كما قال تعالى: { فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ } { وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } { لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ } { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ } .
{
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } أي: ذلك الكأس اللذيذ الذي يشربون به، لا يخافون نفاده، بل له مادة لا تنقطع، وهي عين دائمة الفيضان والجريان، يفجرها عباد الله تفجيرا، أنى شاءوا، وكيف أرادوا، فإن شاءوا صرفوها إلى البساتين الزاهرات، أو إلى الرياض الناضرات، أو بين جوانب القصور والمساكن المزخرفات، أو إلى أي: جهة يرونها من الجهات المونقات.تفسير السعدي - (ج 1 / ص 901)(1/358)
} .
فَعِبَادُ اللَّهِ هُمْ الْمُقَرَّبُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي تِلْكَ السُّورَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ(1)
__________
(1) - قلت : هذا القاعدة ثابتة بالقرآن والسنة والإجماع ، وقد ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع هذه بعضها :
ففي مجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 393)
فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ الْقَرْضَ وَالنَّصْرَ وَجَعَلَهُ لَهُ هَذَا فِي الرِّزْقِ وَهَذَا فِي النَّصْرِ وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْعِيَادَةُ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } وَقَوْلُهُ : { مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا } وَإِنَّمَا فِي الْحَدِيثِ أَمْرُ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ فَقَطْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَرِدُ بِهِ الْوَاحِدُ الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ : { عَبْدِي مَرِضْت وَجُعْت } فَلِذَلِكَ عَاتَبَهُ . وَأَمَّا النَّصْرُ : فَيَحْتَاجُ فِي الْعَادَةِ إلَى عَدَدٍ ؛ فَلَا يُعْتَبُ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ مُعَيَّنٍ غَالِبًا أَوْ الْمَقْصُودُ بِالْحَدِيثِ التَّنْبِيهُ وَفِي الْقُرْآنِ النَّصْرُ وَالرِّزْقُ وَلَيْسَ فِيهِ الْعِيَادَةُ ؛ لِأَنَّ النَّصْرَ وَالْقَرْضَ فِيهِ عُمُومٌ لَا يَخْتَصُّ بِشَخْصِ دُونَ شَخْصٍ . وَأَمَّا الْعِيَادَةُ : فَإِنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ يَجِدُ الْحَقَّ عِنْدَهُ .فَصْلٌ :
فَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ ثَابِتَانِ بَلْ هُمَا حَقِيقَةُ الدِّينِ وَالْيَقِينِ وَالْإِيمَانِ . أَمَّا الْأَوَّلُ - وَهُوَ كَوْنُ اللَّهِ فِي قَلْبِهِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ - : فَهَذَا فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَلَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْهُ ؛ فَإِنْ أَدَّى وَاجِبَهُ فَهُوَ مُقْتَصِدٌ وَإِنْ تَرَكَ بَعْضَ وَاجِبِهِ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ؛ وَإِنْ تَرَكَهُ كُلَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِرَبِّهِ . وَأَمَّا الثَّانِي - وَهُوَ مُوَافَقَةُ رَبِّهِ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَكْرَهُهُ وَيَرْضَاهُ وَيُسْخِطُهُ - فَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ إنَّمَا هُوَ لِلسَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ : الَّذِينَ تَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ - الَّتِي يُحِبُّهَا وَلَمْ يَفْرِضْهَا - بَعْدَ الْفَرَائِضِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَفْرِضُهَا وَيُعَذِّبُ تَارِكَهَا . وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَمَّا أَتَوْا بِمَحْبُوبِ الْحَقِّ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ الْمُنْتَظِمَةِ لِلْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَحْمَالِ : أَحَبَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى . فَقَالَ : { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ } فَعَلُوا مَحْبُوبَهُ فَأَحَبَّهُمْ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ مُنَاسِبٌ لَهُ مُنَاسَبَةَ الْمَعْلُولِ لِعِلَّتِهِ . وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ : أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ بِعَيْنِ كُلِّ حَرَكَةٍ يُحِبُّهَا اللَّهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ ؛وَالْبَاطِنَةُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا يَأْتِي بِهِ مِنْ الظَّاهِرَةِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : " قُوَّةُ الْمُؤْمِنِ فِي قَلْبِهِ وَضَعْفُهُ فِي جِسْمِهِ وَقُوَّةُ الْمُنَافِقِ فِي جِسْمِهِ وَضَعْفُهُ فِي قَلْبِهِ " وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ } { وَقَالَ : إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } وَقَالَ : { فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ } فِي حَدِيثِ الْقَادِرِ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَالْعَاجِزِ عَنْهُ الَّذِي قَالَ : { لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانِ لَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا عَمِلَ } فَإِنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي عَمَلِ الْقَلْبِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا مَعْذُورَ الْجِسْمِ اسْتَوَيَا فِي الْجَزَاءِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } .
وفي مجموع الفتاوى أيضاً - (ج 6 / ص 482):
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : قَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ وَهُوَ إذَا كَانَ حُبُّ اللِّقَاءِ ؛ لِمَا رَآهُ مِنْ النَّعِيمِ فَالْمَحَبَّةُ حِينَئِذٍ لِلنَّعِيمِ الْعَائِدِ عَلَيْهِ لَا لِمُجَرَّدِ لِقَاءِ اللَّهِ . فَيُقَالُ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ وَلَكِنَّ لِقَاءَ اللَّهِ عَلَى نَوْعَيْنِ : " لِقَاءِ مَحْبُوبٍ " وَ " لِقَاءِ مَكْرُوهٍ " كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِأَبِي حَازِمٍ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ الْأَعْرَجِ : كَيْفَ الْقُدُومُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ؟ فَقَالَ : الْمُحْسِنُ كَالْغَائِبِ يَقْدَمُ عَلَى مَوْلَاهُ وَأَمَّا الْمُسِيءُ كَالْآبِقِ يُقْدَمُ بِهِ عَلَى مَوْلَاهُ . فَلَمَّا كَانَ اللِّقَاءُ نَوْعَيْنِ - وَإِنَّمَا يُمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي الْإِخْبَارِ بِمَا يُوصَفُ بِهِ هَذَا اللِّقَاءُ وَهَذَا اللِّقَاءُ - وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اللِّقَاءَ الْمَحْبُوبَ " بِمَا تَتَقَدَّمُهُ الْبُشْرَى بِالْخَيْرِ وَمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ الْإِكْرَامِ وَ " اللِّقَاءَ الْمَكْرُوهَ " بِمَا يَتَقَدَّمُهُ مِنْ الْبُشْرَى بِالسُّوءِ وَمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ الْإِهَانَةِ ؛ فَصَارَ الْمُؤْمِنُ مُخْبِرًا بِأَنَّ لِقَاءَهُ لِلَّهِ لِقَاءُ مَحْبُوبٍ وَالْكَافِرُ مُخْبَرًا بِأَنَّ لِقَاءَهُ لِلَّهِ مَكْرُوهٌ : فَصَارَ الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِقَاءَ اللَّهِ وَصَارَ الْكَافِرُ يَكْرَهُ لِقَاءَ اللَّهِ ؛ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَ هَذَا وَكَرِهَ لِقَاءَ هَذَا { جَزَاءً وِفَاقًا } . فَإِنَّ الْجَزَاءَ بِذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا تُرْحَمُوا ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ : { مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ لَهُ لِسَانَانِ فِي الدُّنْيَا كَانَ لَهُ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ : { مَنْ اسْتَمَعَ إلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ : { لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِالرَّجُلِ حَتَّى يَجِيءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مِزْعَةُ لَحْمٍ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } وَمِثْلُ هَذَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرٌ يُبَيِّنُ فِيهِمَا أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ؛ فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَمْشِي ؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ؛ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا تَقَرَّبَ إلَيْهِ بِمُحَابِّهِ مِنْ النَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَحَبَّهُ الرَّبُّ كَمَا وَصَفَ وَهَذَا مَا احْتَمَلَتْهُ هَذِهِ الْأَوْرَاقُ مِنْ الْجَوَابِ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
وفي مجموع الفتاوى - (ج 8 / ص 338) :
وَالْفَنَاءُ فِي هَذَا هُوَ " الْفَنَاءُ " الْمَأْمُورُ بِهِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ أَنْ يَفْنَى بِعِبَادَةِ اللَّهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ ؛ وَبِطَاعَتِهِ عَنْ طَاعَةِ مَا سِوَاهُ وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ عَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى مَا سِوَاهُ وَبِرَجَائِهِ وَخَوْفِهِ عَنْ رَجَاءِ مَا سِوَاهُ وَخَوْفِهِ فَيَكُونُ مَعَ الْحَقِّ بِلَا خَلْقٍ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ : كُنْ مَعَ الْحَقِّ بِلَا خَلْقٍ وَمَعَ الْخَلْقِ بِلَا نَفْسٍ . وَتَحْقِيقُ الشَّهَادَةِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ طَاعَتُهُ طَاعَةَ اللَّهِ وَإِرْضَاؤُهُ إرْضَاءَ اللَّهِ . وَدِينُ اللَّهِ مَا أَمَرَ بِهِ فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ وَلِهَذَا طَالَبَ اللَّهُ الْمُدَّعِينَ لِمَحَبَّتِهِ بِمُتَابَعَتِهِ فَقَالَ : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } وَضَمِنَ لِمَنْ اتَّبَعَهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ بِقَوْلِهِ : { يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } . وَصَاحِبُ هَذِهِ الْمُتَابَعَةِ لَا يَبْقَى مُرِيدًا إلَّا مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا كَارِهًا إلَّا لِمَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُحِبُّهُ الْحَقُّ كَمَا قَالَ : { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي ؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ . وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } .
فَهَذَا مَحْبُوبُ الْحَقِّ وَمَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ فَهُوَ مَحْبُوبُ الْحَقِّ وَهُوَ الْمُتَقَرِّبُ إلَى اللَّهِ بِمَا دَعَا إلَيْهِ الرَّسُولُ مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ يُحِبُّ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُبْغِضُ مَعْصِيَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ الْفَرَائِضَ وَالنَّوَافِلَ كُلَّهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَيْسَ فِيهَا كُفْرٌ وَلَا فُسُوقٌ وَالرَّبُّ تَعَالَى أَحَبَّهُ لَمَّا قَامَ بِمَحْبُوبِ الْحَقِّ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَلَمَّا لَمْ يَزَلْ مُتَقَرِّبًا إلَى الْحَقِّ بِمَا يُحِبُّهُ مِنْ النَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَحَبَّهُ الْحَقُّ فَإِنَّهُ اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي مَحْبُوبِ الْحَقِّ . فَصَارَ الْحَقُّ يُحِبُّهُ الْمَحَبَّةَ التَّامَّةَ الَّتِي لَا يَصِلُ إلَيْهَا مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي التَّقَرُّبِ إلَى الْحَقِّ بِمَحْبُوبَاتِهِ حَتَّى صَارَ يَعْلَمُ بِالْحَقِّ وَيَعْمَلُ بِالْحَقِّ فَصَارَ بِهِ يَسْمَعُ وَبِهِ يُبْصِرُ وَبِهِ يَبْطِشُ وَبِهِ يَمْشِي . وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً فَهَذَا لَمْ تَبْقَ عِنْدَهُ الْأُمُورُ " نَوْعَانِ " : مَحْبُوبٌ لِلْحَقِّ وَمَكْرُوهٌ ؛ بَلْ كُلُّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ عِنْدَهُ مَحْبُوبٌ لِلْحَقِّ كَمَا أَنَّهُ مُرَادٌ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَصْلُ قَوْلِهِمْ : هُوَ قَوْلُ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ فَهُمْ مِنْ غُلَاةِ الْجَهْمِيَّة الْجَبْرِيَّةِ فِي الْقَدَرِ وَإِنْ كَانُوا فِي الصِّفَاتِ يُكَفِّرُونَ الْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ كَحَالِ أَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ صَاحِبِ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " وَ " ذَمِّ الْكَلَامِ " و " الْفَارُوقِ " و " تَكْفِيرِ الْجَهْمِيَّة " وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ فِي بَابِ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ فِي غَايَةِ الْمُقَابَلَةِ للجهمية والْنُّفَاةِ وَفِي بَابِ الْأَفْعَالِ وَالْقَدَرِ قَوْلُهُ يُوَافِقُ الْجَهْمَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غُلَاةِ الْجَبْرِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَمِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ .
وفي مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 304):
إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْبَةِ جَاءَ بِمَا لَمْ يَجِئْ بِهِ شَرْعٌ مِنْ قَبْلِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ ؛ { أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ؛ وَأَنَا نَبِيُّ التَّوْبَةِ } وَقَدْ رُفِعَ بِهِ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ مَا كَانَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } وَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ التَّائِبِ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ الْفَاقِدِ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْمَرْكَبِ إذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْيَأْسِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا فَرَحُ الرَّبِّ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ وَتِلْكَ مَحَبَّتُهُ ؛ كَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُ لَا يَعُودُ لِمَوَدَّتِهِ { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ } { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } وَلَكِنَّ وُدَّهُ وَحُبَّهُ بِحَسَبِ مَا يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ الْعَبْدُ بَعْدَ التَّوْبَةِ ؛ فَإِنْ كَانَ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ مَحْبُوبَاتِ الْحَقِّ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ يَأْتِي بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَتْ مَوَدَّتُهُ لَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَعْظَمَ مِنْ مَوَدَّتِهِ لَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ . وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَ كَانَ الْأَمْرُ أَنْقَصَ ؛ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ ؛ وَمَا رَبُّك بِظَلَّامِ لِلْعَبِيدِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْته بِالْحَرْبِ ؛ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا : فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي ؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ؛ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَفْضَلَ الْأَوْلِيَاءِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ هُمْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ؛ وَكَانَتْ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لَهُمْ وَمَوَدَّتُهُ لَهُمْ بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ أَعْظَمَ مَحَبَّةٍ وَمَوَدَّةٍ ، وَكُلَّمَا تَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَحَبَّهُمْ وَوَدَّهُمْ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَادَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِثْلَ " أَهْلِ الْأَحْزَابِ " كَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَغَيْرِهِمْ . فَإِنَّهُمْ بَعْدَ مُعَادَاتِهِمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ مَوَدَّةً وَكَانُوا فِي ذَلِكَ مُتَفَاضِلِينَ وَكَانَ عِكْرِمَةُ وَسُهَيْلٌ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ أَعْظَمَ مَوَدَّةً مِنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَنَحْوِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ هِنْدَ امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ أُمَّ مُعَاوِيَةَ قَالَتْ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يذلوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِك وَقَدْ أَصْبَحْت وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعَزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِك فَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا نَحْوَ ذَلِكَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْمَوَدَّةَ الَّتِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا تَكُونُ تَابِعَةً لِحُبِّهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ . فَالْحُبُّ لِلَّهِ مِنْ كَمَالِ التَّوْحِيدِ ؛ وَالْحُبُّ مَعَ اللَّهِ شِرْكٌ . قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } فَتِلْكَ الْمَوَدَّةُ الَّتِي صَارَتْ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَوْهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إنَّمَا كَانَتْ مَوَدَّةً لِلَّهِ وَمَحَبَّةً لِلَّهِ وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَمَنْ وَدَّ اللَّهَ وَدَّهُ اللَّهُ فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَحَبَّهُمْ وَوَدَّهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ كَمَا أَحَبُّوهُ وَوَدُّوهُ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ التَّائِبَ إنَّمَا تَحْصُلُ لَهُ الْمَغْفِرَةُ دُونَ الْمَوَدَّةِ .
وفي مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 308) :
وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ مَا أَتَاهُ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَدِّلَ وَصْفَهُ الْمَذْمُومَ بِالْمَحْمُودِ ؛ فَإِذَا كَانَ يُبْغِضُ الْحَقَّ فَلَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّهُ وَإِذَا كَانَ يُحِبُّ الْبَاطِلَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبْغِضَهُ . فَمَا يَأْتِي بِهِ التَّائِبُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَمَحَبَّتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَمِنْ بُغْضِ الْبَاطِلِ وَاجْتِنَابِهِ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَرْضَاهَا ، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ كَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَأْتِي بِهِ الْعَبْدُ مِنْ محابه فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ فِعْلًا لِمَحْبُوبِ الْحَقِّ كَانَ الْحَقُّ أَعْظَمَ مَحَبَّةً لَهُ وَانْتِقَالُهُ مِنْ مَكْرُوهِ الْحَقِّ إلَى مَحْبُوبِهِ مَعَ قُوَّةِ بُغْضِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَاطِلِ وَقُوَّةِ حُبّ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ حُبّ الْحَقِّ ؛ فَوَجَبَ زِيَادَةُ مَحَبَّةِ الْحَقِّ لَهُ وَمَوَدَّتِهِ إيَّاهُ ؛ بَلْ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ لِأَنَّهُ بَدَّلَ صِفَاتِهِ الْمَذْمُومَةَ بِالْمَحْمُودَةِ فَيُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ . فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ . وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ إتْيَانُ التَّائِبِ بِمَا يُحِبُّهُ الْحَقُّ أَعْظَمَ مِنْ إتْيَانِ غَيْرِهِ كَانَتْ مَحَبَّةُ الْحَقِّ لَهُ أَعْظَمَ وَإِذَا كَانَ فِعْلُهُ لِمَا يَوَدُّهُ اللَّهُ مِنْهُ أَعْظَمَ مِنْ فِعْلِهِ لَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ كَانَتْ مَوَدَّةُ اللَّهِ لَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَعْظَمَ مِنْ مَوَدَّتِهِ لَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ فَكَيْفَ يُقَالُ : الْوُدُّ لَا يَعُودُ .
وفي مجموع الفتاوى - (ج 15 / ص 27)
وقَوْله تَعَالَى { إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } لَهُ دَلَالَةٌ بِمَنْطُوقِهِ وَدَلَالَةٌ بِإِيمَائِهِ وَتَعْلِيلِهِ بِمَفْهُومِهِ . فَدَلَالَتُهُ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى قُرْبِ الرَّحْمَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ وَدَلَالَتُهُ بِإِيمَائِهِ وَتَعْلِيلِهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقُرْبَ مُسْتَحَقٌّ بِالْإِحْسَانِ وَهُوَ السَّبَبُ فِي قُرْبِ الرَّحْمَةِ مِنْهُمْ وَدَلَالَتُهُ بِمَفْهُومِهِ عَلَى بُعْدِهِ مِنْ غَيْرِ الْمُحْسِنِينَ . فَهَذِهِ ثَلَاثُ دَلَالَاتِ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ ؛ وَإِنَّمَا اُخْتُصَّ أَهْلُ الْإِحْسَانِ بِقُرْبِ الرَّحْمَةِ لِأَنَّهَا إحْسَانٌ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ وَإِحْسَانُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إنَّمَا يَكُونُ لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَكُلَّمَا أَحْسَنُوا بِأَعْمَالِهِمْ أَحْسَنَ إلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ فَإِنَّهُ لَمَّا بَعُدَ عَنْ الْإِحْسَانِ بَعُدَتْ عَنْهُ الرَّحْمَةُ بُعْدٌ بِبُعْدِ وَقُرْبٌ بِقُرْبِ فَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ تَقَرَّبَ اللَّهُ إلَيْهِ بِرَحْمَتِهِ وَمَنْ تَبَاعَدَ عَنْ الْإِحْسَانِ تَبَاعَدَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَحْمَتِهِ .
وانظر مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 192) ومجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 200) ومجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 276) وفتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 3 / ص 129) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 3431) رقم الفتوى 16158 الجزاء من جنس العمل، والعفو أقرب للتقوى وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 5422) رقم الفتوى 19031 الوعيد لا يلزم أن يقع وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 2257) رقم الفتوى 62719 امرأة الزاني تصير زانية من وجوه كثيرة والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 8 / ص 174) ومجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 23947)
وفي إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 265):
[ يَكُونُ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَمِثَالِهِ ] وَلِذَلِكَ كَانَ الْجَزَاءُ مُمَاثِلًا لِلْعَمَلِ مِنْ جِنْسِهِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، فَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَمَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ ضَارَّ مُسْلِمًا ضَارَّ اللَّهُ بِهِ ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَمَنْ خَذَلَ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ نُصْرَتُهُ فِيهِ خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ نُصْرَتُهُ فِيهِ ، وَمَنْ سَمَحَ سَمَحَ اللَّهُ لَهُ ، وَالرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ ، وَمَنْ أَنْفَقَ أَنْفَقَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ أَوْعَى أَوْعَى عَلَيْهِ ، وَمَنْ عَفَا عَنْ حَقِّهِ عَفَا اللَّهُ لَهُ عَنْ حَقِّهِ ، وَمَنْ تَجَاوَزَ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَنْ اسْتَقْصَى اسْتَقْصَى اللَّهُ عَلَيْهِ ؛ فَهَذَا شَرْعُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ وَوَحْيُهُ وَثَوَابُهُ وَعِقَابُهُ كُلُّهُ قَائِمٌ بِهَذَا الْأَصْلِ ، وَهُوَ إلْحَاقُ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ ، وَاعْتِبَارُ الْمِثْلِ بِالْمِثْلِ ، وَلِهَذَا يَذْكُرُ الشَّارِعُ الْعِلَلَ وَالْأَوْصَافَ الْمُؤَثِّرَةَ وَالْمَعَانِيَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْأَحْكَامِ الْقَدَرِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَالْجَزَائِيَّةِ لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا أَيْنَ وُجِدَتْ ، وَاقْتِضَائِهَا لِأَحْكَامِهَا ، وَعَدَمِ تَخَلُّفِهَا عَنْهَا إلَّا لِمَانِعٍ يُعَارِضُ اقْتِضَاءَهَا وَيُوجِبُ تَخَلُّفُ أَثَرِهَا عَنْهَا ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَقَوْلِهِ : { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا } { ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمْ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } { ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ } { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ } { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } .(1/359)
فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :« مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ فِى عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِى عَوْنِ أَخِيهِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ(1).
__________
(1) - صحيح مسلم (7028)
وفي شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 2 / ص 342)
قال المؤلف رحمه الله تعالى باب قضاء حوائج المسلمين الحوائج ما يحتاجه الإنسان ليكمل به أموره وأما الضروريات فهي ما يضطر إليه الإنسان ليدفع به ضررا ودفع الضرورات واجب فإنه يجب على الإنسان إذا رأى أخاه في ضرورة أن يدفع ضرورته فإذا رآه في ضرورة إلى الطعام أو إلى الشراب أو إلى التدفأة أو إلى التبردة وجب عليه أن يقضي حاجته ووجب عليه أن يزيل ضرورته ويرفعها .
حتى إن أهل العلم يقولون لو اضطر الإنسان إلى طعام في يد شخص أو إلى شرابه والشخص الذي بيده الطعام أو الشراب غير مضطر إلى هذا الطعام أو الشراب ومنعه بعد طلبه ومات هذا المضطر فإنه يضمن لأنه فرط في إنقاذ أخيه من هلكة أما إذا كان الأمر حاجيا وليس ضروريا فإن الأفضل أن تعين أخاك على حاجته وأن تيسرها له ما لم تكن الحاجة فيها مضرته فإن كانت الحاجة فيها مضرته فلا تعنه لأن الله يقول ولا تعاونوا على الإثم والعدوان فلو فرض أن شخصا احتاج إلى شرب دخان وطلب منك أن تعينه بدفع القيمة له أو شرائه له أو ما أشبه ذلك فإنه لا يحل لك أن تعينه ولو كان محتاجا حتى لو رأيته ضائقا يريد أن يشرب الدخان فلا تعنه لقول الله تعالى { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } حتى لو كان أباك فإنك لا تعنه على هذا حتى لو غضب عليك إذا لم تأت به فليغضب لأنه غضب في غير موضع الغضب بل إنك إذا امتنعت من أن تأتي لأبيك بما يضره فإنك تكون بارا به ولا تكون عاقا له لأن هذا هو الإحسان فأعظم الإحسان أن تمنع أباك بما يضره قال النبي عليه الصلاة والسلام انصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا يا رسول الله كيف ننصره إذا كان ظالما قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه وعلى هذا فإن ما ذكره المؤلف في باب قضاء حوائج المسلمين يريد بذلك الحوائج المباحة فإنه ينبغي لك أن تعين أخاك عليها فإن الله في عونك ما كنت في عون أخيك .
ثم ذكر المؤلف أحاديث مر الكلام عليها فلا حاجة إلى إعادتها إلا أن فيها بعض الجمل تحتاج إلى كلام منها قوله من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة فإذا رأيت معسرا ويسرت عليه الأمر يسر الله عليك في الدنيا والآخرة مثل أن ترى شخصا ليس بيده ما يشتري لأهله من طعام وشراب لكن ليس عنده ضرورة فأنت إذا يسرت عليه يسر الله عليك في الدنيا والآخرة ومن ذلك أيضا إذا كنت تطلب شخصا معسرا فإنه يجب عليك أن تيسر عليه وجوبا لقوله تعالى { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } وقد قال العلماء رحمهم الله من كان له غريم معسر فإنه يحرم عليه أن يطلب منه الدين أو أن يطالبه به أو أن يرفع أمره إلى الحاكم بل يجب عليه إنظاره ويوجد بعض الناس والعياذ بالله ممن لا يخافون الله ولا يرحمون عباد الله يطالبون المعسرين ويضيقون عليهم ويرفعونهم إلى الجهات المسئولة فيحبسون ويؤذون ويمنعون من أهلهم ومن ديارهم كل هذا بسبب الظلم وإن كان الواجب على القاضي إذا ثبت عنده إعسار الشخص فواجب عليه أن يرفع الظلم عنه وأن يقول لغرمائه ليس لكم شيء ثم إن بعض الناس والعياذ بالله إذا كان لهم غريم معسر يحتال عليه بأن يدينه مرة أخرى بربا فيقول مثلا اشتر مني السلعة الفلانية بزيادة على ثمنها وأوفني أو يتفق مع شخص ثالث يقول اذهب تدين من فلان وأوفني وهكذا حتى يصبح هذا المسكين بين يدين هذين الظالمين كالكرة بين يدي الصبي يلعب بها والعياذ بالله .
والمهم أن عليكم إذا رأيتم شخصا يطالب معسرا أن تبينوا له أنه آثم وأن ذلك حرام عليه وأنه يجب عليه إنظاره بقول الله تعالى { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } وأنه إذا ضيق على أخيه المسلم فإنه يوشك أن يضيق الله عليه في الدنيا أو في الآخرة أو في الدنيا والآخرة معا ويوشك أن يعجل به العقوبة ومن العقوبة أن يستمر في مطالبة هذا المعسر وهو معسر لأنه كلما طالبه ازداد إثما وعلى العكس من ذلك فإنه يوجد بعض الناس والعياذ بالله يماطلون بالحقوق التي عليهم مع قدرتهم على وفائهم فتجده يأتيه صاحب الحق فيقول غدا وإذا أتاه في غد قال بعد غد وهكذا وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مطل الغنى ظلم وإذا كان ظلما فإن أي ساعة أو لحظة تمضي وهو قادر على وفاء دينه فإنه لا يزداد بها إلا إثما نسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية .(1/360)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :« الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ ». قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ(1).
__________
(1) - سنن أبى داود (4943 ) وسنن الترمذى (2049) صحيح
وفي تحفة الأحوذي - (ج 5 / ص 148)
قَوْلُهُ : ( الرَّاحِمُونَ ) لِمَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ آدَمِيٍّ وَحَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ بِنَحْوِ شَفَقَةٍ وَإِحْسَانٍ وَمُوَاسَاةٍ
( يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ) أَيْ يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيَتَفَضَّلُ عَلَيْهِمْ ، وَالرَّحْمَةُ مُقَيَّدَةٌ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالِانْتِقَامِ لِحُرْمَةِ اللَّهِ لَا يُنَافِي كُلٌّ مِنْهُمَا الرَّحْمَةَ
( اِرْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ ) قَالَ الطِّيبِيُّ : أَتَى بِصِيغَةِ الْعُمُومِ لِيَشْمَلَ جَمِيعَ أَصْنَافِ الْخَلْقِ فَيَرْحَمُ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ ، وَالنَّاطِقَ وَالْبُهْمَ ، وَالْوُحُوشَ وَالطَّيْرَ اِنْتَهَى . وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِيرَادَ
( مَنْ ) لِتَغْلِيبِ ذَوِي الْعُقُولِ لِشَرَفِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ أَوْ لِلْمُشَاكَلَةِ الْمُقَابِلَةِ بِقَوْلِهِ
(
يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ )وَهُوَ مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ أَيْ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مَنْ سَكَنَ فِيهَا وَهُمْ الْمَلَائِكَةُ فَإِنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْت كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَك وَقِهمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } ، وَفِي السِّرَاجِ الْمُنِيرِ وَقَدْ رُوِيَ بِلَفْظِ : " اِرْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ " ، وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ السَّمَاءِ الْمَلَائِكَةُ ، وَمَعْنَى رَحْمَتِهِمْ لِأَهْلِ الْأَرْضِ دُعَاؤُهُمْ لَهُمْ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ آمَنَ "(1/361)
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِي السُّنَنِ : « الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ »(1).
وَقَالَ :« الرَّحِمُ مَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ »(2). وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ .
__________
(1) - مسند أحمد مسند أحمد (1702 و25068) وسنن الترمذى (2049 )صحيح
تحفة الأحوذي - (ج 5 / ص 148)
( الرَّحِمُ شِجْنَةٌ )بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بَعْدَهَا نُونٌ وَجَاءَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِهِ رِوَايَةً وَلُغَةً ، وَأَصْلُ الشِّجْنَةِ عُرُوقُ الشَّجَرِ الْمُشْتَبِكَةُ ، وَالشَّجَنُ بِالتَّحْرِيكِ وَاحِدُ الشُّجُونِ ، وَهِيَ طُرُقُ الْأَوْدِيَةِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : الْحَدِيثُ ذُو شُجُونٍ ، أَيْ يَدْخُلُ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ
( مِنْ الرَّحْمَنِ )أَيْ أُخِذَ اِسْمُهَا مِنْ هَذَا الِاسْمِ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي السُّنَنِ مَرْفُوعًا : " أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْت الرَّحِمَ وَشَقَقْت لَهَا اِسْمًا مِنْ اِسْمِي " . وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ مُشْتَبِكَةٌ بِهَا ، فَالْقَاطِعُ لَهَا مُنْقَطِعٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى . وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ : مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّحِمَ اُشْتُقَّ اِسْمُهَا مِنْ اِسْمِ الرَّحْمَنِ فَلَهَا بِهِ عُلْقَةٌ ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا مِنْ ذَاتِ اللَّهِ ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ ، ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ .
(2) - مسند أحمد (25068)صحيح(1/362)
وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَوْعَيْنِ : مُقَرَّبُونَ وَأَصْحَابُ يَمِينٍ كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَلَ الْقِسْمَيْنِ فِي حَدِيثِ الْأَوْلِيَاءِ فَقَالَ : « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِى بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بَهَا وَلَئِنْ سَأَلَنِى عَبْدِى أَعْطَيْتُهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ »(1).
فَالْأَبْرَارُ أَصْحَابُ الْيَمِينِ هُمْ الْمُتَقَرِّبُونَ إلَيْهِ بِالْفَرَائِضِ يَفْعَلُونَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ،وَيَتْرُكُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُكَلِّفُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمَنْدُوبَاتِ ؛ وَلَا الْكَفِّ عَنْ فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ .
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي(ج 3 / ص 346)(6622) وهذا لفظه والبخاري (6502 )(1/363)
وَأَمَّا السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ فَتَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ، فَفَعَلُوا الْوَاجِبَاتِ والمستحبات وَتَرَكُوا الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، فَلَمَّا تَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَحْبُوبَاتِهِمْ أَحَبَّهُمْ الرَّبُّ حُبًّا تَامًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ } يَعْنِي الْحُبَّ الْمُطْلَقَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) }(1)[
__________
(1) - وَنَسْأَلُكَ أَنْ تُوَفِّقَنَا الى طَرِيقِ الحَقِّ ، والخَيْرِ والسَّعَادَةِ ، وهُوَ الطَّرِيقُ المُسْتَقِيمُ الَّذِي يُوصِلُنَا إلَيْكَ .
وَهُوَ طَرِيقُ عِبَادِكَ الَّذِينَ وَفَّقتَهُمْ إلى الإِيمَانِ بِكَ ، وَوَهَبْتَ لَهُمُ الهِدَايَةَ والرِّضَا مِنْكَ ، لاَ طَرِيقُ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا غَضَبَكَ ، وَضَلُّوا طَرِيقَ الحَقِّ والخَيْرِ لأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنِ الإِيمَانِ بِكَ ، والإِذْعَانِ لِهَدْيِكَ .(1/364)
الفاتحة/6، 7]، أَيّ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ الْإِنْعَامَ الْمُطْلَقَ التَّامَّ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}(1)(69) سورة النساء، فَهَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبُونَ صَارَتْ الْمُبَاحَاتُ فِي حَقِّهِمْ طَاعَاتٍ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ(2)،
__________
(1) - وَمَنْ أَطَاعَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَعَمِلَ بِمَا أَمَرا بِهِ ، وَانْتَهَى عَمَّا نَهَيَا عَنْهُ ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُسْكِنُهُ دَارَ كَرَامَتِهِ ، وَيَجْعَلُهُ مُرَافِقاً لِلأَنْبِيَاءَ ، ثُمَّ لِمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الرُّتْبَةِ ، وَهُمُ الصِّدِّيقُونَ ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ ، ثُمَّ عُمُومُ المُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ الذِينَ صَلُحَتْ سَرَائِرُهُمْ وَعَلاَنِيَتُهُمْ وَمَا أَحْسَنَ رِفْقَةَ هَؤُلاءِ الذِينَ لاَ يَشْقَى جَلِيسُهُمْ .
( وَيُذْكَرُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ : أنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ جَاءَ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَحْزُوناً ، فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ عَنْ سَبَبِ حُزْنِهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ شَيءٌ فَكَّرْتُ فِيهِ . فَقَالَ النَّبِيُّ : وَمَا هُوَ؟ قَالَ : نَحْنُ نَغْدُو وَنَرُوحُ ، وَنَنْظُرُ إلى وَجْهِكَ وَنُجَالِسُكَ ، وَغَداً تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ فَلا نَصِلُ إِلَيْكَ . فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ بِشَيءٍ ، فَجَاءَهُ جِبْريلٌ عَلَيهِ السَّلاَمُ بِهَذِهِ الآيَةِ ) .
(2) - ففي شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 446)
(
وَفِي بُضْع أَحَدكُمْ صَدَقَة )هُوَ بِضَمِّ الْبَاء ، وَيُطْلَق عَلَى الْجِمَاع ، وَيُطْلَق عَلَى الْفَرْج نَفْسه ، وَكِلَاهُمَا تَصِحّ إِرَادَته هُنَا ، وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَات تَصِير طَاعَات بِالنِّيَّاتِ الصَّادِقَات ، فَالْجِمَاع يَكُون عِبَادَة إِذَا نَوَى بِهِ قَضَاء حَقّ الزَّوْجَة وَمُعَاشَرَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِهِ ، أَوْ طَلَبَ وَلَدٍ صَالِحٍ ، أَوْ إِعْفَافَ نَفْسِهِ أَوْ إِعْفَاف الزَّوْجَة وَمَنْعَهُمَا جَمِيعًا مِنْ النَّظَر إِلَى حَرَام ، أَوْ الْفِكْر فِيهِ ، أَوْ الْهَمّ بِهِ ، أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِد الصَّالِحَة .
وفي مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 533)
فَإِذَا قِيلَ الْمُبَاحُ وَاجِبٌ بِمَعْنَى وُجُوبِ الْوَسَائِلِ أَيْ قَدْ يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى فِعْلِ وَاجِبٍ وَتَرْكِ مُحَرَّمٍ فَهَذَا حَقٌّ .ثُمَّ إنَّ هَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَصْدُ ؛ فَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَقْصِدُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْمُبَاحِ لِيَتْرُكَ الْمُحَرَّمَ مِثْلُ مَنْ يَشْتَغِلُ بِالنَّظَرِ إلَى امْرَأَتِهِ وَوَطْئِهَا لِيَدَعَ بِذَلِكَ النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَوَطْئِهَا أَوْ يَأْكُلُ طَعَامًا حَلَالًا لِيَشْتَغِلَ بِهِ عَنْ الطَّعَامِ الْحَرَامِ فَهَذَا يُثَابُ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ وَالْفِعْلِ ؛ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : " { وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ أَجْرٌ قَالَ : أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَمَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ فَلِمَ تَحْتَسِبُونَ بِالْحَرَامِ وَلَا تَحْتَسِبُونَ بِالْحَلَالِ } " وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخْصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ } " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَة فِي صَحِيحِهِ . وَقَدْ يُقَالُ الْمُبَاحُ يَصِيرُ وَاجِبًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِنْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا صَارَ وَاجِبًا مُعَيَّنًا وَإِلَّا كَانَ وَاجِبًا مُخَيَّرًا لَكِنْ مَعَ هَذَا الْقَصْدِ إمَّا مَعَ الذُّهُولِ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا أَصْلًا إلَّا وُجُوبَ الْوَسَائِلِ إلَى التَّرْكِ ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَصْدُ . فَكَذَلِكَ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ إلَيْهِ فَإِذَا قِيلَ هُوَ مُبَاحٌ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَأَنَّهُ قَدْ يَجِبُ وُجُوبَ الْمُخَيَّرَاتِ مِنْ جِهَةِ الْوَسِيلَةِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ . فَالنِّزَاعُ فِي هَذَا الْبَابِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ اعْتِبَارِيٌّ . وَإِلَّا فَالْمَعَانِي الصَّحِيحَةُ لَا يُنَازِعُ فِيهَا مَنْ فَهِمَهَا .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الْأَبْرَارَ وَأَصْحَابَ الْيَمِينِ قَدْ يَشْتَغِلُونَ بِمُبَاحِ عَنْ مُبَاحٍ آخَرَ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْمُبَاحَيْنِ يَسْتَوِي وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي حَقِّهِمْ . أَمَّا السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ فَهُمْ إنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ الْمُبَاحَاتِ إذَا كَانَتْ طَاعَةً لِحُسْنِ الْقَصْدِ فِيهَا ؛ وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ . وَحِينَئِذٍ فَمُبَاحَاتُهُمْ طَاعَاتٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ الْأَفْعَالُ فِي حَقِّهِمْ إلَّا مَا يَتَرَجَّحُ وُجُودُهُ فَيُؤْمَرُونَ بِهِ شَرْعًا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ أَوْ مَا يَتَرَجَّحُ عَدَمُهُ فَالْأَفْضَلُ لَهُمْ أَلَّا يَفْعَلُوهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إثْمٌ وَالشَّرِيعَةُ قَدْ بَيَّنَتْ أَحْكَامَ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا فَهَذَا " سُؤَالٌ " . وَ " سُؤَالٌ ثَانٍ " وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّ مِنْ الْأَفْعَالِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ كَمَا فِي حَقِّ الْأَبْرَارِ فَهَذَا الْفِعْلُ لَا يُحْمَدُ وَلَا يُذَمُّ وَلَا يُحَبُّ وَلَا يُبْغَضُ وَلَا يُنْظَرُ فِيهِ إلَّا وُجُودُ الْقَدَرِ وَعَدَمُهُ ؛ بَلْ إنْ فَعَلَوْهُ لَمْ يُحْمَدُوا وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوهُ لَمْ يُحْمَدُوا ، فَلَا يَجْعَلُ مِمَّا يُحْمَدُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي هَذَا الْفِعْلِ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَاسِلِ مَعَ كَوْنِ هَذَا الْفِعْلِ صَدَرَ بِاخْتِيَارِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ . إذْ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا غَيْرُ " الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " : وَهُوَ مَا فُعِلَ بِالْإِنْسَانِ كَمَا يَحْمِلُ الْإِنْسَانُ وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ الِامْتِنَاعَ فَهَذَا خَارِجٌ عَنْ التَّكْلِيفِ مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُحِبَّهُ إنْ كَانَ حَسَنَةً وَيُبْغِضَهُ إنْ كَانَ سَيِّئَةً وَيَخْلُوَ عَنْهُمَا إنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنَةً وَلَا سَيِّئَةً ، فَمَنْ جَعَلَ الْإِنْسَانَ فِيمَا يَسْتَعْمِلُهُ فِيهِ الْقَدَرُ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ - كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَاسِلِ - فَقَدْ رَفَعَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ عَنْهُ فِي الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَهَذَا بَاطِلٌ .(1/365)
فَكَانَتْ أَعْمَالُهُمْ كُلُّهَا عِبَادَاتٍ لِلَّهِ فَشَرِبُوا صِرْفًا كَمَا عَمِلُوا لَهُ صِرْفًا، وَالْمُقْتَصِدُونَ كَانَ فِي أَعْمَالِهِمْ مَا فَعَلُوهُ لِنُفُوسِهِمْ فَلَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ وَلَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَشْرَبُوا صِرْفًا ؛ بَلْ مُزِجَ لَهُمْ مِنْ شَرَابِ الْمُقَرَّبِينَ بِحَسَبِ مَا مَزَجُوهُ فِي الدُّنْيَا .(1/366)
وَنَظِيرُ هَذَا انْقِسَامُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ إلَى عَبْدٍ رَسُولٍ وَنَبِيٍّ مَلِكٍ وَقَدْ خَيَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا(1)، فَالنَّبِيُّ الْمَلِكُ مِثْلُ داود وَسُلَيْمَانَ وَنَحْوِهِمَا عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ،قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ الَّذِي { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (40) }(2)[
__________
(1) - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ :جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ فَقَالَ جِبْرِيلُ :إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ يَا مُحَمَّدُ :أَرْسَلَنِى إِلَيْكَ رَبُّكَ أَفَمَلَكاً نَبِيًّا يَجْعَلُكَ أَوْ عَبْداً رَسُولاً قَالَ جِبْرِيلُ:تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ :« بَلْ عَبْداً رَسُولاً ».مسند أحمد (7359) صحيح
(2) - فَسَأَلَ سُلَيْمَانُ رَبَّهُ المَغْفِرَةَ ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَمْنَحَهُ مُلْكاً عَظِيماً لاَ يَتَسَنَّى لأَحَدٍ بَعْدَهُ أَنْ يَمْلِكَهُ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلاَلَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ ، وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الوَهَّابُ الوَاسِعُ العَطَاءِ .
فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لِدَعْوَتِهِ ، وَسَخَّرَ لَهُ الرِّيَاحَ ، وَجَعَلَهَا مُذللَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ لَيِّنَةً طَيِّعَةً ، حَيْثُ أَرَادَ تُوْجِيهَهَا ، لاَ تَمْتَنِعُ عَنْ ذَلِكَ .
وَسَخَّرَ اللهُ تَعَالَى لَهُ الشَّيَاطِينَ البَنَّائِينَ وَالغَوَّاصِينَ يَعْمَلُونَ بِأَمْرِهِ مَا يُكَلِّفُهُمُ القِيَامَ بِهِ مِنَ الأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ ، مِنْ غَوْصٍ فِي البِحَارِ لاسْتِخْرَاجِ اللآلِئِ والنَّفَائِسِ ، وَمِنْ بِنَاءِ مَا يُرِيدُ بِنَاءَهُ مِنْ قُصُورٍ وَبُيُوتٍ وَمَعَابِدَ .
أَخْضَعَ اللهُ تَعَالَى الشَّيَاطِينَ ، المُشَاكِسِينَ المُتَمَرِّدِينَ ، لأَمْرِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فَوَضَعَهُمْ سُلَيمَانُ فِي القُيُودِ والأَصْفَادِ لِيَتَّقِيَ شَرَّهُمْ ، وَيَكفَّ فَسَادَهُمْ عَنِ العِبَادِ .
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِسُلَيْمَانَ : هَذَا الذِي مَنَحَكَ اللهُ إِيَّاهُ ، هُوَ عَطَاءٌ خَاصٌّ مِنَ اللهِ بِكَ ، فَأَعْطِ مَا شِئْتَ لِمَنْ شِئتَ ، وَامْنَعْ مَنْ شِئْتَ غَيْرَ مُحَاسَبٍ عَلَى شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَأَنْتَ حُرٌّ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ .
وَإِنَّ لِسُلِيْمَانَ فِي الآخِرَةِ عِنْدَ اللهِ لَقُرْبَةً وَكَرَامَةً وَحَظاً عَظِيماً .(1/367)
ص/35-40]، أَيْ أَعْطِ مَنْ شِئْت وَاحْرِمْ مَنْ شِئْت لَا حِسَابَ عَلَيْك، فَالنَّبِيُّ الْمَلِكُ يَفْعَلُ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَتْرُكُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيَتَصَرَّفُ فِي الْوِلَايَةِ وَالْمَالِ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَخْتَارُ مِنْ غَيْرِ إثْمٍ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْعَبْدُ الرَّسُولُ فَلَا يُعْطِي أَحَدًا إلَّا بِأَمْرِ رَبِّهِ ،وَلَا يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَحْرِمُ [ مَنْ يَشَاءُ بَلْ رُوِيَ عَنْهُ ] أَنَّهُ قَالَ: « مَا أُعْطِيكُمْ وَلاَ أَمْنَعُكُمْ ، أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ »(1)،
__________
(1) - صحيح البخارى (3117 )
وَالْمَعْنَى لَا أَتَصَرَّفُ فِيكُمْ بِعَطِيَّةٍ وَلَا مَنْعٍ بِرَأْيِي ، وَقَوْلُهُ " إِنَّمَا أَنَا الْقَاسِمُ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت " أَيْ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ " إِنْ أَنَا إِلَّا خَازِنٌ " .(1/368)
وَلِهَذَا يُضِيفُ اللَّهُ الْأَمْوَالَ الشَّرْعِيَّةَ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(1)(
__________
(1) - الأنفالُ هِيَ المَغَانِمُ التِي يَغْنَمُها المُقَاتِلُونَ فِي الحَرْبِ . وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي بَدْرٍ حِينَ اخْتَلَفَ المُسْلِمُونَ ، بَعْدَ نَصْرِهِمْ عَلَى قُرَيْشٍ ، حَوْلَ الطَّرِيقَةِ التِي تُقْسَمُ بِمُوجِبِهَا الغَنَائِمُ ، كُلٌّ مِنْهُمْ يَدَّعِي الفَضْلَ فِي نَصْرِ المُسْلِمِينَ ، وَهَزِيمة أعْدَائِهِمْ ، فَانْتَزَعَها اللهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ ، وَجَعَلَها إلى اللهِ ، وَإلى رَسُولِهِ ، لِيَقْسِمَها الرَّسُولُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ .
وَيَقُولُ تَعَالَى : يَسْألُكَ المُسْلِمُونَ عَنِ الأَنْفَالِ . قُلْ : هِيَ للهِ يَحْكُمُ فِيهَا بِحُكْمِهِ ، وَلِلرَّسُولِ يَقْسِمها وَفْقاً لِمَا شَرَعَهُ اللهُ ، فَاتَّقُوا اللهَ فِي أُمُورِكُمْ ، وَاجْتَنِبُوا مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الخِلافِ حَوْلَ قِسْمَتِها ، وَأَصْلِحُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ ، وَلا تَخْتَصِمُوا وَلا تَتَظَالَمُوا ، وَلاَ تَتَشَاتَمُوا ، وَلاَ يُعَنِّفُ بَعْضُكُمْ بَعضاً ، فَمَا آتَاكُمُ اللهُ مِنَ الهُدى خَيْرٌ مِمَّا تَخْتَصِمُونَ فِيهِ ، وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ فِي قِسْمَتِهَا ، فَإِنَّ الرَّسُولَ إِنَّمَا يَقْسِمُها وَفْقاً لِمَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ ، مِنْ عَدْلٍ وَإِنْصَافٍ ، وَالمُؤْمِنُونَ المُتَّقُونَ ، ذَوُو الإِيمَانِ الكَامِلِ ، هُمُ الذِينَ يُطِيعُونَ اللهَ فِيمَا حَكَمَ ، وَيُطِيعُونَ رَسُولَهُ فِيمَا قَسَمَ .(1/369)
1) سورة الأنفال ،وقَوْله تَعَالَى: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(1)(
__________
(1) - مَا جَعَلَهُ اللهُ فَيئاً لِرَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ الكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ القُرَى - كَبَنِي النَّضِيرِ وَخَيْبَرَوَقُرَيْظَةَ - فَإِنَّهُ يُصْرَفُ فِي وُجُوهِ البِرِّ ، وَلاَ يُقْسَمُ فِي الجَيْشِ كَالمَغْنَمِ ، فَيُعْطَى لِلرَّسُولِ لِيُعْطَيِ مِنْهُ ذَوِي قُرْبَاهُ ( وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي مِنْهُ بَنِي المُطَّلِبِ وَبَنِي هَاشِمِ ) . وَلِلْيَتَامَى وَالفُقَرَاءِ وَلِلْمَسَاكِينِ مِنْ ذَوِي الحَاجَاتِ ، وَلابْنِ السَّبِيلِ ( وَهُوَ المُسَافِرُ الذِي نَفَدَتْ نَفَقَتُهُ ) ، وَقَدْ قَضَى اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ لِكَيْلاَ يَأْخُذَهُ الأُغْنِيَاءُ ، وَيَتَدَاوَلُوهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَيَتَكَاثَرُوا بِهِ ، فَلاَ يَصْلُ شَيءٌ مِنْهُ إِلَى الفُقَرَاءِ .
وَمَا جَاءَكُم بِهِ الرَّسُولُ مِنْ أَحْكَامٍ فَتَمَسَّكُوا بِهِ ، وَمَا أَعْطَاكُمُ الرَّسُولُ مِنَ الفَيءِ فَخُذُوهُ ، فَهُوَ حَلاَلٌ لَكُمْ ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَلاَ تَقْرَبُوهُ ، واتَّقُوا اللهَ فامْتَثِلُوا لأَمْرِهِ ، وَاتْرُكُوا مَا نَهَاكُمْ عِنْهُ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالى شَدِيدُ العِقَابِ لِمَنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ .
(
وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ : " لا أَلْفَينَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئاً عَلَى أَرِيكَتِهِ يأْتِيهِ أَمْرٌ مِمَا أَمْرَتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ : لاَ أَدْرِي ، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ اتبَعْنَاهُ " ) .(1/370)
7) سورة الحشر، وقَوْله تَعَالَى {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(1)(
__________
(1) - يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ طَرِيقَةَ قِسْمَةِ المَغَانِمِ التِي يَغْنَمُها المُسْلِمُونَ فِي الحَرْبِ . وَالغَنِيمَةِ هِيَ المَالُ المَأْخُوذُ مِنَ الكُفَّارِ بِإِيجَافِ خَيْلٍ وَرِكَابٍ . أَمَّا الفَيْءُ فَهُوَ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ ( أَيْ بُدُونِ حَرْبٍ أَوْ بِدُونِ خُرُوجِ جُيُوشِ المُسْلِمِينَ إلَى الأَعْدَاءِ : كَالأَمْوَالِ التِي يُصَالِحُونَ عَلَيْهَا ، أَوْ يَمُوتُونَ عَنْهَا دُونَ وَارِثٍ لَهُمْ ، وَالخَرَاجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ) .
يَقُولُ تَعَالَى : اعْلَمُوا يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ أَنَّ كُلَّ مَا غَنِمْتُمُوهُ مِنَ الكُفَّارِ المُحَارِبِينَ فَاجْعَلُوا أوَّلاً خُمْسَهُ للهِ تَعَالَى لِيُنْفِقَ فِيمَا يُرْضِيهِ مِنْ مَصَالِحِ الدَّينِ العَامَّةِ : كَالدَّعْوَةِ لِلإِسْلاَمِ وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ ، وَعِمَارَةِ الكَعْبَةِ وَكِسْوَتِها ، ثُمَّ أعْطُوا مِنْهُ لِلرَّسُولِ كِفَايَتَهُ لِنَفْسِهِ وَنِسَائِهِ مُدَّةَ سَنَةٍ ، ثُمَّ أعْطُوا مِنْهُ ذَوِي القُرْبَى مِنْ أهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ نَسَباً وَوَلاءً ( وَقَدْ خَصَّ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ بِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي أَخِيهِ المُطَّلِبِ المُسْلِمِينَ ) ، ثُمَّ المُحْتَاجِينَ مِنْ سَائِرِ المُسْلِمِينَ ، وَهُمُ اليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ ، وَابْنُ السَّبِيلِ ( وَهُوَ المُجْتَازُ الذِي نَفِدَتْ نَفَقَتُهُ ) . وَهَذا الخُمْسُ يُدْفَعُ لِلإمَامِ ( بَعْدَ الرَّسُولِ) لِيَصْرِفَهُ فِي الوُجُوهِ المُبَيَّنَةِ فِي الآيَةِ .(1/371)
41) سورة الأنفال . وَلِهَذَا كَانَ أَظْهَرُ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ تُصْرَفُ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِ وَلِيِّ الْأَمْرِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ، وَيُذْكَرُ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد ،وَقَدْ قِيلَ فِي الْخُمُسِ أَنَّهُ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةٍ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَعْرُوفِ عَنْهُ وَقِيلَ : عَلَى ثَلَاثَةٍ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ(1).
__________
(1) - اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ الَّتِي تُؤْخَذُ قَسْرًا مِنْ أَيْدِي الرُّومِ مَا عَدَا الْأَرَضِينَ أَنَّ خُمُسَهَا لِلْإِمَامِ ، وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا لِلَّذِينِ غَنِمُوهَا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ) الْآيَةَ . وَاخْتَلَفُوا فِي الْخُمُسِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ مَشْهُورَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْخُمُسَ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ عَلَى نَصِّ الْآيَةِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُقَسَّمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ ، وَأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - : ( فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ) هُوَ افْتِتَاحُ كَلَامٍ وَلَيْسَ هُوَ قَسْمًا خَامِسًا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُقَسَّمُ الْيَوْمَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ، وَأَنَّ سَهْمَ النَّبِيِّ وَذِي الْقُرْبَى سَقَطَا بِمَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْخُمُسَ بِمَنْزِلَةِ الْفَيْءِ يُعْطَى مِنْهُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ ..وَالَّذِينَ قَالُوا يُقَسَّمُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ أَوْ خَمْسَةً اخْتَلَفُوا فِيمَا يُفْعَلُ بِسَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَهْمِ الْقَرَابَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ : فَقَالَ قَوْمٌ : يُرَدُّ عَلَى سَائِرِ الْأَصْنَافِ الَّذِينَ لَهُمُ الْخُمُسُ . وَقَالَ قَوْمٌ : بَلْ يُرَدُّ عَلَى بَاقِي الْجَيْشِ . وَقَالَ قَوْمٌ : بَلْ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْإِمَامِ ، وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى لِقَرَابَةِ الْإِمَامِ . وَقَالَ قَوْمٌ : بَلْ يُجْعَلَانِ فِي السِّلَاحِ وَالْعِدَّةِ . وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَرَابَةِ مَنْ هُمْ ؟ فَقَالَ قَوْمٌ : بَنُو هَاشِمٍ فَقَطْ ، وَقَالَ قَوْمٌ : بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ . وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَلِ الْخُمُسُ يُقْصَرُ عَلَى الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ أَمْ يُعَدَّى لِغَيْرِهِمْ هُوَ : هَلْ ذِكْرُ تِلْكَ الْأَصْنَافِ فِي الْآيَةِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا تَعْيِينُ الْخُمُسِ لَهُمْ ، أَمْ قَصْدُ التَّنْبِيهِ بِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ ؟ فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ قَالَ : لَا يَتَعَدَّى بِالْخُمُسِ تِلْكَ الْأَصْنَافَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ . وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ قَالَ : يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَصْرِفَهَا فِيمَا يَرَاهُ صَلَاحًا لِلْمُسْلِمِينَ . وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى أَنَّ سَهْمَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْإِمَامِ بَعْدَهُ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ : " إِذَا أَطْعَمَ اللَّهُ نَبِيًّا طُعْمَةً فَهُوَ لِلْخَلِيفَةِ بَعْدَهُ " . وَأَمَّا مَنْ صَرَفَهُ عَلَى الْأَصْنَافِ الْبَاقِينَ أَوْ عَلَى الْغَانِمِينَ فَتَشْبِيهًا بِالصِّنْفِ الْمُحَبَّسِ عَلَيْهِمْ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : الْقَرَابَةُ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ : " قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ مِنَ الْخُمُسِ " قَالَ : " وَإِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ صِنْفٌ وَاحِدٌ " . وَمَنْ قَالَ بَنُو هَاشِمٍ صِنْفٌ فَلِأَنَّهُمُ الَّذِينَ لَا يَحِلُّ لَهُمُ الصَّدَقَةُ . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْخُمُسِ، فَقَالَ قَوْمٌ : الْخُمُسُ فَقَطْ ، وَلَا خِلَافَ عِنْدِهِمْ فِي وُجُوبُ الْخُمُسِ لَهُ غَابَ عَنِ الْقِسْمَةِ أَوْ حَضَرَهَا . وَقَالَ قَوْمٌ : بَلِ الْخُمُسُ وَالصَّفِيُّ من الغنيمة ( وَهُوَ سَهْمٌ مَشْهُورٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ شَيْءٌ كَانَ يَصْطَفِيهِ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ فَرَسٌ أَوْ أَمَةٌ أَوْ عَبْدٌ ) . وَرُوِيَ أَنَّ صَفِيَّةَ كَانَتْ مِنَ الصَّفِيِّ . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الصَّفِيَّ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَبَا ثَوْرٍ فَإِنَّهُ قَالَ : يَجْرِي مَجْرَى سَهْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْفَصْلُ الثَّانِي فِي حُكْمِ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ
وَأَجْمَعَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ حكمها لِلْغَانِمِينَ إِذَا خَرَجُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ . بداية المجتهد ونهاية المقتصد - (ج 1 / ص 320) و وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 20 / ص 12) فما بعد(1/372)
وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ الْعَبْدَ الرَّسُولَ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ النَّبِيِّ الْمَلِكِ، كَمَا أَنَّ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَفْضَلُ مِنْ يُوسُفَ وداود وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ،كَمَا أَنَّ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُقَرَّبِينَ سَابِقِينَ، فَمَنْ أَدَّى مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَفَعَلَ مِنِ الْمُبَاحَاتِ مَا يُحِبُّهُ فَهُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ ،وَمَنْ كَانَ إنَّمَا يَفْعَلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَقْصِدُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِمَا أُبِيحَ لَهُ عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ مِنْ أُولَئِكَ
----------------
أولياءُ الله تعالى مقتصدون وسابقون(1)
__________
(1) - الفرقان بين أولياء الرحمن وأوليا الشيطان بتحقيقي ص 263-270(1/373)
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى " أَوْلِيَاءَهُ " الْمُقْتَصِدِينَ وَالسَّابِقِينَ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ فِي قَوْله تَعَالَى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) }(1)[
__________
(1) - ثُمَّ جَعَلَ اللهُ تَعَالى القَائِمِينَ بالقُرآنِ العَظيمِ ، هُمُ الذِينَ اصْطَفَاهُمْ مِنْ عِبَادِهِ ، مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ، وَأَوْرَثَهُمُ الكِتَابَ . وَقَالَ تَعَالى في مَكَانٍ آخَرَ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الذِينَ اصْطَفَاهُمُ اللهُ لِلقِيَامِ بِالقُرآنِ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وَجَعَلَهُمْ أقسَاماً ثَلاَثَةً :
- مِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُفَرِّطٌ فِي فِعْلِ بَعْضِ الوَاجِبَاتِ ، مُرْتَكِبٌ بَعْضَ المُحَرَّمَاتِ .
- وَمِنْهُمْ مُقَتَصِدٌ ، وَهُوَ القَائِمُ بِالوَاجِبَاتِ ، التَّارِكُ لِلْمُحَرَّمَاتِ ، وَقَدْ يُقَصِّرُ في فِعْلِ بَعْضِ المُسْتَحَبَّاتِ ، وَيَفْعَلُ بَعْضَ المَكْرُوهَاتِ .
وهؤلاءِ الكِرَامُ الذِينَ اصْطَفَاهُمْ اللهُ من عباده ، الذين أُوْرِثُوا القُرآنَ ، والكُتُبَ السَّابِقَةَ ، سَتَكُونُ جَنَّاتُ الإِقَامَةِ ( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) هِيَ مأْوَاهُمْ ، يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَيَلْبَسُونَ فِيها حَلِيّاً مِنْ ذَهَبٍ ، وَلُؤْلُؤٍ ، وَيَلْبَسُونَ فِيهَا ثِيَاباً مِنْ حَرِيرٍ ، وَهذِهِ الجَنَّاتُ هِيَ الفَضْلُ الكَبِيرُ الذِي مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْهِمْ .
وَيَقُولُونَ حِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ ، وَيَلْبَسُونَ الحَرِيرَ ، وَيَتَحَلَّونَ بِالذَّهَبِ وَاللُؤْلُؤِ : الْحَمْدُ للهِ الذِي أَذْهَبَ عَنَّا الخَوْفَ ( الحَزَنَ ) مِمَّا كُنَّا نَحْذَرُ وَنَتَخَوَّفُ . إِنَّ رَبَّنا سُبَحَانَهُ وَتَعَالى غَفُورٌ لِذُنُوبِ المُذْنِبِينَ ، شُكُورٌ لأَفْعَالِ المُطِيعِينَ .
واللهُ تَعَالى هُوَ الذِي أَعْطَانَا هذِهِ المَنزِلَةَ وَهذَا المَقَامَ الكَرِيمَ مِنْ فَضْلِهِ وَمَنِّهِ وَرَحْمَتِهِ ، وَلَمْ تَكُنْ أَعْمَالُنا لِتَبْلُغَ ذَلِكَ ، لاَ يَمَسُّنا فِي هذِه الدَّارِ عَنَاءٌ وَلاَ تَعَبٌ وَلاًَ إِعْيَاءٌ .(1/374)
فاطر/32-35]، لَكِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً ،كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (32) سورة فاطر.(1)
__________
(1) - وفي الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3514)
" ثم " فى قوله - تعالى - : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } للتراخى الرتبى . و { أَوْرَثْنَا } أى أعطينا ومنحنا ، إذ الميراث عطاء يصل للإِنسان عن طريق غيره .
والمراد بالكتاب : القرآن الكريم ، وما اشتمل عليه من عقائد وأحكام وآداب وتوجيهات سديدة . . وهو المفعول الثانى لأورثنا ، وقد على المفعول الأول ، وهو الموصول للتشريف .
و { اصطفينا } بمعنى اخترنا واستخلصنا ، واشتقاقه من الصفو ، بمعنى الخلوص من الكدر والشوائب .
والمراد بقوله : { مِنْ عِبَادِنَا } الأمة الإِسلامية التى جعلها الله خير أمة أخرجت للناس .
والمعنى : ثم جعلنا هذا القرآن الذى اوحيناه إليك الرسول الكريم - ميراثاً منك لأمتك ، التى اصطفيناها على سائر الأمم ، وجعلناها أمة وسطا . وقد ورثناها هذا الكتاب لتنتفع بهداياته . . وتسترشد بتوجيهاته ، وتعمل بأوامره ونواهيه .
قال الآلوسى : قوله : { الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } هم - كما قال ابن عباس وغيره - أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن الله - تعالى - اصطفاهم على سائر الأمم . .
وفى التعبير بالاصطفاء ، تنويه بفضل هؤلاء العباد ، وإشارة إلى فضلهم على غيرهم ، كما أن التعبير بالماضى يدل على تحقق هذا الاصطفاء .
ثم قسم - سبحانه - هؤلاء العباد إلى ثلاثة اقسام فقال : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله . . } .
وجمهور العلماء على أن هذه الأقسام الثلاثة ، تعد إلى أفراد هذه الأمة الإِسلامية .
وأن المراد بالظالم لنفسه ، من زادت سيئاته على حسناته .
وأن المراد بالمقصد : من تساوت حسناته مع سيئاته .
وأن المراد بالسابقين بالخيرات : من زادت حسناتهم على سيئاتهم .
وعلى هذا يكون الضمير فى قوله - تعالى - بعد ذلك : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا . . . } يعود إلى تلك الأقسام الثلاثة ، لأنهم جميعاً من أهل الجنة بفضل الله ورحمته .
ومن العلماء من يرى أن المراد بالظالم لنفسه : الكافر ، وعليه يكون الضمير فى قوله : { يَدْخُلُونَهَا } يعود إلى المقتصد والسابق بالخيرات ، وأن هذه الآية نظير قوله - تعالى - فى سورة الواقعة : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة والسابقون السابقون . . } .
ومن المفسرين الذين رجحوا القول الأول ابن كثير فقد قال ما ملخصه : يقول - تعالى - ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم . . . وهم هذه الأمة على ثلاث أقسام : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } وهو المفرط فى بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات . { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } وهو المؤدى للواجبات التارك للمرحمات وقد يترك بعض المستحبات ، ويفعل بعض المكروهات .
{ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله } وهو الفاعل للواجبات والمستحبات .
وقال ابن عباس : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله - تعالى - كل كتاب أنزله . فظالمهم يغفر له ، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب .وفى رواية عنه : السبق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله - تعالى - ، والظالم لنفسه يدخل الجنة بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم .
وفى الحديث الشريف : " شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى " .
وقال آخرون : الظالم لنفسه : هو الكافر .
والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة ، وهذا اختيار ابن جرير كما و ظاهر الآية ، وكا جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق يشد بعضها بعضاً .
ثم أورد الإِمام ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث منها : ما أخرجه الإِمام أحمد عن أبى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى هذه الآية : " هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة ، وكلهم فى الجنة " .
ومعنى قوله " بمنزلة واحدة " أى : فى أنهم من هذه الأمة ، وأنهم من أهل الجنة ، وإن كان بينهم فرق فى المنازل فى الجنة .
وقال الإِمام ابن جرير : فإن قال لنا قائل : إن قوله { يَدْخُلُونَهَا } إنما عنى به المقتصد والسابق بالخيرات؟
قيل له : وما برهانك على أن ذلك كذلك من خبر أو عقل؟ فإن قلا : قيام الحجة أن الظالم من هذه الأمة سيدخل النار ، ولم لم يدخل النار من هذه الأصناف الثلاثة أحد ، وجب أن لا يكون لأهل الإِيمان وعيد .
قيل : إنه ليس فى الآية خبر أنهم لا يدخلون النار ، وإنما فيها إخبار من الله - تعالى - أنهم يدخلون جنات عدن : وجائز أن يدخلها الظالم لنفسه بعد عقوبة الله إياه على ذنوبه التى أصابها فى الدنيا . . ثم يدخلون الجنة بعد ذلك ، فيكون ممن عمه خبر الله - تعالى - بقوله : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } .
وقال الشوكانى : والظالم لنفسه : هو الذى عمل الصغائر . وقد روى هذا القول عن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وأبى الدرداء ، وعائشة . وهذا هو الراجح ، لأن عمل الصغائر لا ينافى الاصطفاء ، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور . . وجه كونه ظالماً لنفسه ، أنها نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له ، فإنه لو عمل تلك الصغائر طاعات ، لكان لنفسه فيها من الثواب عظيماً . .
قالوا : وتقديم الظالم لنفسه على المقتصد وعلى السابق بالخيرات . لا يقتضى تشريفاً ، كما فى قوله - تعالى - { لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة . . } ولعل السر فى مجئ هذه الأقسام بهذا الترتيب ، أن الظالمين لأنفسهم الأقسام عددا ، ويليهم المقتصدون ، ويليهم السابقون بالخيرات ، كما قال - تعالى - { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } وقوله : { بِإِذُنِ الله } أى : بتوفيقه وإرادته وفضله .
واسم الإِشارة فى قوله : { ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير } يعود إلى ما تقدم من توريث الكتاب ومن الاصطفاء .
أى : ذلك الذى أعطيناه - أيها الرسول الكريم - لأمتك من الاصطفاء ومن توريهم الكتاب ، هو الفضل الواسع الكبير ، الذى لا يقادر قدره ، ولا يعرف كنهه إلا الله - تعالى - .
ثم بين - سبحانه - مظاهر هذا الفضل فقال : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } والضمير للأنواع الثلاثة .
أى : هؤلاء الظالمون لأنفسهم والمقتصدون والسابقون بالخيرات ، ندخلهم بفضلنا ورحمتنا ، الجنات الدائمة التى يخلدون فيها خلوداً أبدياً .
يقال : عدن فلان بالمكان ، إذا أقام به إقامة دائمة .
{ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } أى أنهم يدخلون الجنات دخولاً دائماً ، وهم فى تلك الجنات يتزينون بأجمل الزينات ، وبأفخر الملابس ، حيث يلبسون فى أيديهم أساور من ذهب ولؤلؤا ، أما ثيابهم فهى من الحرير الخالص .
ثم حكى - سبحانه - ما يقولونه بعد فوزهم بهذا النعيم فقال : { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } .
والحزن : غم يعترى الإِنسان لخوفه من وال نعمة هو فيها . والمراد به هنا : جنس الحزن الشامل لجميع أحزان الدين والدنيا والآخرة .
أى : وقالوا عند دخولهم الجنات الدائمة ، وشعورهم بالأمان والسعاة والاطمئنان : الحمد لله الذى أذهب عنا جميع ما يحزننا من أمور الدنيا أو الآخرة .
{ إِنَّ رَبَّنَا } بفضله وكرمه { لَغَفُورٌ شَكُورٌ } أى : لواسع المغفرة لعباده ولكثير العطاء للمطيعين ، حيث أعطاهم الخيرات الوفيرة فى مقابل الأعمال القليلة . { الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ } أى : الحمد لله الذى أذهب عنا الأحزان بفضله ورحمته ، والذى { أَحَلَّنَا } أى : أنزلنا { دَارَ المقامة } أى : الدار التى لا انتقال لنا منها ، وإنما نحن سنقيم فيها إقامة دائمة وهى الجنة التى منحها إياها بفضله وكرمه .
وهذه الدار { لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ } أى : لا يصيبنا فيها تعب ولا مشقة ولا عناء . يقال : نصب فلان - كفرح - إذا نزل به التعب والإِعياء .
{ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } أى : ولا يصيبنا فيها كَلال وإعياء بسب التعب والهموم ، يقال : لَغَب فلان لَغبْاً ولُغُوباً . إذا اشتد به الإِعياء والهزال .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما الفرق بين النصَب واللُّغوب؟
قلت : النصب ، التعب والمشقة ، التى تصيب المنتصب للأمر ، المزاول له .
وأما اللغوب ، فما يلحقه من الفتور بسبب النَصب . فالنصب : نفس المشقة والكلفة . واللغوب : نتيجة ما يحدث منه من الكلال والفتور .(1/375)
وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ بَعْدَ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ ،وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِحُفَّاظِ الْقُرْآنِ ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَقَسَّمَهُمْ إلَى ظَالِمٍ لِنَفْسِهِ وَمُقْتَصِدٍ وَسَابِقٍ ؛ بِخِلَافِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي الْوَاقِعَةِ وَالْمُطَفِّفِينَ وَالِانْفِطَارِ، فَإِنَّهُ دَخَلَ فِيهَا جَمِيعُ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَافِرُهُمْ وَمُؤْمِنُهُمْ،
وَهَذَا التَّقْسِيمُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَ " الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ " أَصْحَابُ الذُّنُوبِ الْمُصِرُّونَ عَلَيْهَا وَمَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ تَوْبَةً صَحِيحَةً لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ السَّابِقِينَ .
وَ " الْمُقْتَصِدُ " الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ الْمُجْتَنِبُ لِلْمَحَارِمِ .(1/376)
وَ " السَّابِقُ لِلْخَيْرَاتِ " هُوَ الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ كَمَا فِي تِلْكَ الْآيَاتِ ،وَمَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ تَوْبَةً صَحِيحَةً لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ السَّابِقِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى :{ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) }(1)[
__________
(1) - وَيَنْدُبُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ إلَى القِيَامِ بِالأَعْمِالِ الصَّالِحَةِ ، وَإلى المُسَارَعَةِ فِي فِعْلِ الخَيْرَاتِ ، لِيَنَالُوا مَغْفِرَةَ اللهِ وَرِضْوَانَهُ ، وَجَنَّتَهُ الوَاسِعَةَ العَرِيضَةَ التِي أَعَدَّهَا اللهُ لِعِبَادِهِ المُتَّقِينَ ، الذِينَ يَمْتَثِلُونَ أَمْرَهُ .
يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ صِفَاتِ أهْلِ الجَنَّةِ فَيَقُولُ : إِنَّهُمُ الذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ مَرْضَاةِ اللهِ ، فِي الرَّخَاءِ ( السَّرَاءِ ) ، وَفِي الشِّدَّةِ ( الضَرَّاءِ ) ، وَفِي الصِّحَّةِ وَالمَرَضِ ، وَفِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ ، لاَ يَشْغَلُهُمْ أَمْرٌ عَنْ طَاعَةِ اللهِ ، وَالإِنْفَاقِ فِي سَبيلِ مَرْضَاتِهِ ، وَإِنَّهُمْ يَكْتُمُونَ غَيْظَهُمْ إذَا ثَارَ ، وَيَعْفُونَ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيهِمْ . وَاللهُ يُحِبُّ الذِينَ يَتَفَضَّلُونَ عَلَى عِبَادِهِ البَائِسِينَ ، وَيُوَاسُونَهُمْ شُكْراً للهِ عَلَى جَزِيلِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ . ( وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ مَلأَ اللهُ جَوْفَهُ أَمْناً وَإِيمَاناً " ) .
وَمِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الجَنَّةِ أَنَّهُمْ إذَا صَدَرَ عَنْهُمْ فِعْلَ قَبيحٌ يَتَعَدَّى أثرُهُ إلَى غَيْرِهِمْ ( كَغَيبَةِ إِنْسَانٍ ) ، أَو صَدَرَ عَنْهُمْ ذَنْبٌ يَكُونُ مُقْتَصِراً عَلَيْهِمْ ( كَشُرْبِ خَمْرٍ وَنَحْوَهُ ) ، ذَكَرُوا اللهَ تَعَالَى وَوَعِيدَهُ ، وَعَظَمَتَهُ وَجَلاَلَهُ ، فَرَجَعُوا إلَى اللهِ تَائِبِينَ ، طَالِبِينَ مَغْفِرَتَهُ ، وَلَمْ يُقِيمُوا عَلى القَبِيحِ مِنْ غَيْرِ اسْتِغْفَارٍ ، لِعِلْمِهِمْ أنَّ اللهَ هُوَ الذِي يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى الذَّنْبِ ، لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أنَّ مَنْ تَابَ إلَى اللهِ ، تَابَ اللهُ عَلَيهِ ، وَغَفَرَ لَهُ .
وَالمُتَّقُونَ المُتَمَتِّعُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ سَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُمْ عَلَيهَا بِالمَغْفِرَةِ ، وَبِالأَمْرِ مِنَ العِقَابِ ، وَلَهُمْ ثَوَابٌ عَظِيمٌ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، وَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا أَبَداً ، وَالجَنَّةُ خَيْرُ مَا يُكَافَأُ بِهِ المُؤْمِنُونَ العَامِلُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَاتِ .(1/377)
آل عمران/133-136].
وَ " الْمُقْتَصِدُ " الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ الْمُجْتَنِبُ لِلْمَحَارِمِ ،وَ " السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ " هُوَ الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ كَمَا فِي تِلْكَ الْآيَاتِ . وَقَوْلُهُ :{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ .(1/378)
وَأَمَّا دُخُولُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ النَّارَ ،فَهَذَا مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَوَاتَرَتْ بِخُرُوجِهِمْ مِنْ النَّارِ ،وَشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِر ،وَإِخْرَاجِ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ السَّابِقِينَ هُمْ الَّذِينَ يَدْخُلُونَهَا ،وَأَنَّ الْمُقْتَصِدَ أَوْ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ لَا يَدْخُلُهَا كَمَا تَأَوَّلَهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ فَهُوَ مُقَابَلٌ بِتَأْوِيلِ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ لَا يَقْطَعُونَ بِدُخُولِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ النَّارَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ قَدْ يَدْخُلُ جَمِيعُهُمْ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ عَذَابٍ ،وَكِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،وَلِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا .(1/379)
وَقَدْ دَلَّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ " الطَّائِفَتَيْنِ " قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } (48) سورة النساء(1)، {
__________
(1) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى العِبَادَ بِأَنَّهُ لاَ يَغْفِرُ لِعَبْدٍ جَاءَ اللهُ مُشْرِكاً بِعِبَادَتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَأَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الذُّنُوبِ ، لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ ارْتَكَبَ ذَنْباً عَظِيماً ، لاَ يَسْتَحِقُّ مَعَهُ الغُفْرَانَ .
وَالشِّرْكُ ضَرْبَانِ :
- شِرْكٌ فِي الأُلُوهِيَّةِ - وَهُوَ الشُّعُورُ بِسْلَطَةٍ وَرَاءَ الأسْبَابِ وَالسُّنَنِ الكَوْنِيَّةِ لِغَيْرِ اللهِ .
- شِرْكٌ فِي الرّبُوبِيَّةِ - وَهُوَ الأَخْذُ بِشَيءٍ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ عَنْ بَعْضِ البَشَرِ دُونَ الوَحْي .
وفي الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 965)
والمعنى : إن الله لا يغفر لكم مات على كفره ، ويغفر ما دون الكفر من الذنوب والمعاصى لمن يشاء أن يغفر له إذا ما من غير توبة . فمن مات من المسلمين بدون توبة من الذنوب التى اقترفها فأمره مفوض إلى الله ، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة ، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة .
وقوله { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً } استئناف مشعر بتعليل عدم غفران الشرك ، وزيادة فى تشنيع حال المشرك .
أى . ومن يشرك بالله فى عبادته غيره من خلقه ، فقد ارتكب من الآثام ما لا يتعلق به المغفرة ، لأنه بهذا الإِشراك قد افترى الكذب العظيم على الله ، واقترف الإِفك المبين ، فعل أعظم ذنب فى الوجود : قال القرطبى : قوله - تعالى - : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } روى " أن النبى صلى الله عليه وسلم تلا { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } فقال له رجل : يا رسول الله والشرك!! فنزل : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } "الآية . وهذا من المحكم المتفق عليه الذى لا اختلاف فيه بين الأمة .
وقوله { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } من المتشابه الذى قد تكلم العلماء فيه .
فقال ابن جرير الطبرى : قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة فهو فى مشيئة الله إن شاء عفا عنه ذنبه ، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله - تعالى - .
وقد أورد ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية الكريمة ثلاثة عشر حديثا تتعلق بها .
ومن هذه الأحاديث ما رواه الحافظ أبو يعلى فى مسنده عن جابر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع فى الحجاب قيل يا نبى الله وما الحجاب؟ قال : الإِشراك بالله . ثم قرأ : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } " الآية .وروى ابن أبى حاتم وابن جرير عن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم لا نشك فى قاتل النفس ، وآكل مال اليتيم ، وشاهد الزور ، وقاطع الرحم ، حتى نزلت هذه الآية : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } وفى رواية لابن أبى حاتم : فلما سمعناها كففنا عن الشهادة وأرجينا الأمور إلى الله - تعالى - .
وقال الآلوسى : ثم إن هذه الآية كما يرد بها على المعتزلة - الذين يسوون بين الإِشراك بالله وبين ارتكاب الكبيرة بدون توبة - يرد بها أيضا - على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك وأن صاحبه مخلد فى النار . وذكر الجلال أن فيها ردا أيضا على المرجئة القائلين : إن أصحاب الكبائر من المسلمين لا يعذبون .
وأخرج ابن الضريس وابن عدى بسند صحيح عن ابن عمر قال : " كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم قوله - تعالى - { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } وقال : " إنى ادخرت دعوتى وشفاعتى أهل الكبائر من أمتى فأمسكنا عن كثير مما كان فى أنفسنا ثم نطقنا ورجونا " وقد استبشر الصحابة بهذه الآية حتى قال على بن أبى طالب : أحب آية إلى فى القرآن { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } .(1/380)
إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا }(1)(
__________
(1) - يخبر تعالى: أنه لا يغفر لمن أشرك به أحدا من المخلوقين، ويغفر ما دون الشرك من الذنوب صغائرها وكبائرها، وذلك عند مشيئته مغفرة ذلك، إذا اقتضت حكمتُه مغفرتَه.
فالذنوب التي دون الشرك قد جعل الله لمغفرتها أسبابا كثيرة، كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة في الدنيا، والبرزخ ويوم القيامة، وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض، وبشفاعة الشافعين. ومن فوق ذلك كله رحمته التي أحق بها أهل الإيمان والتوحيد.
وهذا بخلاف الشرك فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة، وأغلق دونه أبواب الرحمة، فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد، ولا تفيده المصائب شيئا، وما لهم يوم القيامة { مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ }.
ولهذا قال تعالى { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } أي افترى جرما كبيرا وأي ظلم أعظم ممن سوى المخلوق -من تراب الناقص من جميع الوجوه الفقير بذاته من كل وجه الذي لا يملك لنفسه- فضلا عمن عبده -نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا- بالخالق لكل شيء الكامل من جميع الوجوه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته الذي بيده النفع والضر والعطاء والمنع الذي ما من نعمة بالمخلوقين إلا فمنه تعالى فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟
ولهذا حتم على صاحبه بالخلود بالعذاب وحرمان الثواب { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } وهذه الآية الكريمة في حق غير التائب وأما التائب فإنه يغفر له الشرك فما دونه كما قال تعالى { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } أي لمن تاب إليه وأناب.تفسير السعدي - (ج 1 / ص 181)(1/381)
116) سورة النساء، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَهُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ التَّائِبُ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ لِمَنْ تَابَ، وَمَا دُونُ الشِّرْكِ يَغْفِرُهُ اللَّهُ أَيْضًا لِلتَّائِبِ فَلَا تَعَلُّقَ بِالْمَشِيئَةِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْمَغْفِرَةَ لِلتَّائِبِينَ قَالَ تَعَالَى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }(1)(
__________
(1) - ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } روايات منها : ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال : لما اجتمعنا على الهجرة . تواعدت أنا وهشام بن العاص بن وائل السَّهْمى وعيَّاش بن أبى ربيعة بن عتبة ، فقلنا : الموعد أضَاةَ بنى غفار - أى : غدير بنى غفار - وقلنا : من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه فأصبحت أنا وعياش بن عتبة ، وحبس عنا هشام ، وإذا به قد فُتِن فافتَتنَ ، فكنا نقول بالمدينة : هؤلاء قد عرفوا الله - عز وجل - وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة ، وكانوا هم - أيضاً - يقولون هذا فى أنفسهم . فأنزل الله - عز وجل - فى كتابه : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ . . } إلى قوله - تعالى - { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } قال عمر : فكتبتها بيدى ، ثم بعثتها إلى هشام . قال هشام : فلما قدمت على خرجت بها إلى ذى طوى فقلت : اللهم فهمنيها ، فعرفت أنها نزلت فينا ، فرجعت فجلست على بعيرى فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم .
والأمر فى قوله - تعالى - : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإضافة العباد إلى الله - تعالى - للتشريف والتكريم .
والإِسراف : تجاوز الحد فى كل شئ ، وأشهر ما يكون استعمالا فى الإِنفاق ، كما فى قوله - تعالى - : { يابني ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } والمراد بالإِسراف هنا : الإِسراف فى اقتراف المعاصى والسيئات ، والخطاب للمؤمنين المذنبين . وعدى الفعل " أسرفوا " بعلى ، لتضمنه معنى الجناية ، أى جنوا على أنفسهم .
والقُنُوط : اليأس ، وفعله من بابى ضرب وتعب . يقال : فلان قانط من الحصول على هذا الشئ ، أى يائس من ذلك ولا أمل له فى تحقيق ما يريده .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - لعبادى المؤمنين الذين جنوا على أنفسهم باتكابهم للمعاصى ، قل لهم : لا تيأسوا من رحمة الله - تعالى - ومن مغفرته لكم .
وجملة { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } تعليلية . أى : لا تيأسوا من رحمة الله - تعالى - لأنه هو الذى تفضل بمحو الذنوب جميعها . لمن يشاء من عباده المؤمنين العصاة .
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { هُوَ الغفور الرحيم } أى : هو الواسع المغفرة والرحمة لمن يشاء من عباده المؤمنين ، فهم إن تابوا من ذنوبهم قبل - سبحانه - توبتهم كما وعد تفضلا منه وكرما ، وإن ما توا دون أن يتوبوا ، فهم تحت رحمته ومشيئته ، إن شاء غفر لهم ، وإن شاء عذبهم ، ثم أدخلهم الجنة بفضله وكرمه .أما غير المؤمنين ، فإنهم إن تابوا من كفرهم ودخلوا فى الإِسلام ، غفر - سبحانه - ما كان منهم قبل الإِسلام لأن الإِسلام يَجُبّ ما قبله .
وإن ماتوا على كفرهم فلن يغفر الله - تعالى - لهم ، لقوله : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ } قال الإِمام الشوكانى : واعلم أن هذه الآية أرجى آية فى كتاب الله ، لاشتمالها على أعظم بشارة ، فإنه أولا : أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ، ومزيد تبشيرهم ، ثم وصفهم بالإسراف لى المعاصى . . ثم عقب على ذلك بالنهى عن القنوط من الرحمة . . ثم جاء بما لا يبقى بعده شك ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن فقال : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب . . } فالألف واللام قد صيرت الجمع الذى دخلت عليه للجنس الذى يستلزم استغراق أفراده ، فهو فى قوة إن الله يغفر كل ذنب كائنا ما كان ، إلا ما أخرجه النص القرآنى وهو الشرك .
ثم لم يكتف بما أخبر به عباده من مغفرة كل ذنب ، بل أكد ذلك بقوله { جميعا } فيالها من بشارة ترتاح لها النفوس . . وما أحسن تعليل هذا الكلام بقوله : { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم . . } .
وقال الجمل فى حاشيته ما ملخصه : وفى هذه الآية من أنواع المعانى والبيان أشياء حسنة ، منها إقباله عليهم ، ونداؤهم ، ومنها : إضافتهم إليه إضافة تشريف ، ومنها : الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، فى قوله : { مِن رَّحْمَةِ الله } ، ومنها : إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ، ومنه : إعادة الظاهر بلفظه فى قوله : { إِنَّ الله يَغْفِرُ } ومنها : إبراز الجملة من قوله : { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } مؤكدة بإن ، والفصل ، وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الجملة السابقة .
وقال عبد الله بن مسعود وغيره : هذه أرجى آية فى كتاب الله تعالى .الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3669)(1/382)
53) سورة الزمر. فَهُنَا عَمَّمَ الْمَغْفِرَةَ وَأَطْلَقَهَا فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِلْعَبْدِ أَيَّ ذَنْبٍ تَابَ مِنْهُ فَمَنْ تَابَ مِنْ الشِّرْكِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَمَنْ تَابَ مِنْ الْكَبَائِرِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَأَيُّ ذَنْبٍ تَابَ الْعَبْدُ مِنْهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ . فَفِي آيَةِ التَّوْبَةِ عَمَّمَ وَأَطْلَقَ وَفِي تِلْكَ الْآيَةِ خَصَّصَ وَعَلَّقَ فَخَصَّ الشِّرْكَ بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ وَعَلَّقَ مَا سِوَاهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ ،وَمِنَ الشِّرْكِ التَّعْطِيلُ لِلْخَالِقِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَجْزِمُ بِالْمَغْفِرَةِ لِكُلِّ مُذْنِبٍ . وَنَبَّهَ بِالشِّرْكِ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ كَتَعْطِيلِ الْخَالِقِ أَوْ يَجُوزُ أَلَّا يُعَذَّبَ بِذَنْبِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَغْفِرُ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ ،وَلَوْ كَانَ كُلُّ ظَالِمٍ لِنَفْسِهِ مَغْفُورًا لَهُ بِلَا تَوْبَةٍ وَلَا حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ لَمْ يُعَلِّقْ ذَلِكَ بِالْمَشِيئَةِ . وقَوْله تَعَالَى { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَغْفِرُ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَبَطَلَ النَّفْيُ وَالْوَقْفُ الْعَامُّ .
التفاضلُ في ولايةِ اللهِ تعالى(1)
لا يستوي في الإيمان من يسبِّحون الله بالغدو والآصالِ،ومن لا يذكرون اللهَ إلا قليلاً. وبينَ من أنفقَ كلَّ ماله في تجهيز جيوشِ المسلمينَ،وبين من لم ينفقْ شيئا قال تعالى : { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (10) سورة الحديد.
__________
(1) - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان بتحقيقي ص 271(1/383)
فالتفاضل يبعث على التسابق من العمل لنيل مزيد الثواب من الله،ولو كان الإيمانُ شيئا واحدا في النسبة لاطمأن البليد،ولم يتحرك لطلب المزيد ،إنه بتقدير استواء الإيمان والولاية لم يعد هناك ما يبعث النفوس على الاجتهادِ ويحرِّكُها إلى فعل الخيرات وهذا من مثبطات العزائم.
قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (253) سورة البقرة .
إذا كانت المفاضلة جائزة بين الرسل فهي بين الأولياء أجوز،قال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } (21) سورة الإسراء،عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ ..»(1). فلم يقتض زيادة الخير في المؤمن الأول انعدامه في الثاني،وإنما نقصانه ((وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ))،وأولياء الله الذين شاهدوا التنزيل ولازموا النبي صلى الله عليه وسلم وهاجروا وجاهدوا معه بالمال والنفس أعظمُ ثوابا وإيماناً ممن جاؤا بعدهم. وأعظم في ولاية الله ممن تولى الله بعدهم.
__________
(1) - صحيح مسلم (6945 )(1/384)
وكما أن الإيمان يزيد وينقص {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ .}(4) سورة الفتح وقول النبي صلى الله عليه وسلم: « الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً »(1). « يُخْرَجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الإِيمَانِ »(2).
فالولاية نظير ذلك، والناس متفاوتون فيها، بحسب الإيمان والعمل الصالح. فهي تزيد وتنقص كزيادة الإيمان ونقصانه وبزيادة الإيمان ونقصانه .(3)
__________
(1) - صحيح مسلم(161 )
(2) - سنن الترمذى (2802 ) وهو صحيح
(3) - انظر كتاب أولياء الله بين المفهوم الصوفي والمنهج السلفي ص 15 فما بعدها(1/385)
" وهناك طبقة أخرى من الأولياء قد لا تتميز بكثرة نوافل لكنها تتقرب إلى الله بكثرة التعلم والتعليم ودعوة الخلق إلى الهدى واقتفاء الأثر والنهي عن المحدثات. فإنَّ من كان داعياً غيره إلى الله هاديا للخلق أفضلُ من غيره من أولياء الله كما قال تعالى: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (11) سورة المجادلة. عَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِى الدَّرْدَاءِ فِى مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ إِنِّى جِئْتُكَ مِنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم- لِحَدِيثٍ بَلَغَنِى أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا جِئْتُ لِحَاجَةٍ. قَالَ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِى الأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِى جَوْفِ الْمَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ »(1).
__________
(1) - سنن أبى داود (3643 )صحيح(1/386)
قال ابن تيمية رحمه الله: ((فمنْ كان جاهلاً بما أمر الله به وما نهاه عنه لم يكن من أولياءِ الله، وإنْ كان فيه زهادةٌ وعبادةٌ لم يأمر الله بهما ورسوله، كالزهدِ والعبادةِ التي كانت في الخوارج والرهبان.)) ويضرب لذلك مثلا بارعاً فيقول: ((كما أن من كان عالما بأمر الله ونهيه ولم يكن عاملا بذلك لم يكن من أولياء الله بل قد يكون فاسقاُ فاجراً.)). ((ويقال: ما اتخذ الله وليا جاهلا، أي جاهلا بما أمره به ونهاه عنه)) (1).
ثم يوضح بعد ذلك أن من جمع بين العلم بما أمر الله به ونهى عنه وعمل بذلك فهو ولي الله حقا وأن ((من لم يقرأ القرآن كله، لم يحسن أن يفتي الناس ويقضي بينهم)) (2).
وهذه العبارة الأخيرة دالة على بعد نظره، فقد يفهم من العبارة السابقة نفي الولاية عن عوام الناس الذين يعلمون الدين بشكل أجمالي فجاءت العبارة الثانية مفصلة لما قد يلتبس.
"فأمَّا الذي يرائي بعمله الذي ليس بمشروعٍ، فهذا بمنزلة الفاسق الذي ينتسبُ إلى العلم ويكون علمهُ من الكلامِ المخالف لكتابِ الله وسنَّةِ رسوله، فكلٌّ من هذين الصنفين بعيدٌ عن ولاية اللهِ تعالى ،بخلاف العالم الفاجر ِالذي يقول ما يوافقُ الكتابَ والسنَّةَ، والعابدِ الجاهلِ الذي يقصدُ بعبادتهِ الخيرَ، فإنَّ كلًّا من هذينِ مخالفٌ لأولياءِ الله منْ وجهٍ دون وجهٍ، فقد يكون في الرجلِ بعضُ خصالِ أولياءِالله دون بعضٍ ، وقد يكونُ فيما ذكرَ معذوراً بخطأِ أو نسيانٍ وقد لا يكون معذوراً اهـ(3)
__________
(1) العبارة مأثورة عن الرفاعي رحمه الله أراد بها الرد على بعض المتصوفة المستخفين بالعلم، كان يقول: عظموا شأن الفقهاء والعلماء... ما اخذ الله وليا جاهلا، الولي لا يكون جاهلاً في دينه (البرهان المؤيد 57-53 تحقيق صلاح عزام).
(2) أنظر مختصر الفتاوى المصرية 559-558.
(3) - مختصر الفتاوي المصرية لابن تيمية - (ج 2 / ص 22)(1/387)
" وَأَمَّا الَّذِي أُوتِيَ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ فَهُوَ مُؤْمِنٌ عَلِيمٌ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الْعِلْمِ مِثْلَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِيمَانِ ؛ فَهَذَا أَصْلٌ تَجِبُ مَعْرِفَتُهُ .
وَهَهُنَا " أَصْلٌ آخَرُ " : وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ عَمَلٍ أَوْرَثَ كُشُوفًا أَوْ تَصَرُّفًا فِي الْكَوْنِ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي لَا يُورِثُ كَشْفًا وَتَصَرُّفًا ؛ فَإِنَّ الْكَشْفَ وَالتَّصَرُّفَ إنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَإِلَّا كَانَ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا . وَقَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ لِلْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ ،وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ ؛ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ .
فَفَضَائِلُ الْأَعْمَالِ وَدَرَجَاتِهَا لَا تُتَلَقَّى مِنْ مِثْلِ هَذَا ؛ وَإِنَّمَا تُتَلَقَّى مِنْ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعْمَالِ يَحْصُلُ لِصَاحِبِهِ فِي الدُّنْيَا رِئَاسَةٌ وَمَالٌ فَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ . وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَقَدْ أَفْسَدَ أَكْثَرُ مِمَّا يُصْلِحُ ،َإِنْ حَصَلَ لَهُ كَشْفٌ وَتَصَرُّفٌ ؛ وَإِنْ اقْتَدَى بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْعَامَّةِ" .(1)
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(2):
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 7) و مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 396)
(2) - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان بتحقيقي ص 271(1/388)
"وَإِذَا كَانَ " أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ . وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى فَهُمْ مُتَفَاضِلُونَ فِي وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي عَدَاوَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ .
وَأَصْلُ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى : الْإِيمَانُ بِرُسُلِ اللَّهِ وَجِمَاعُ ذَلِكَ : الْإِيمَانُ بِخَاتَمِ الرُّسُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْإِيمَانُ بِهِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَأَصْلُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ هُوَ الْكُفْرُ بِالرُّسُلِ وَبِمَا جَاءُوا بِهِ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الرِّسَالَةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(1)(
__________
(1) - والفعل { تزر } من الوزر بمعنى الإِثم والحمل والثقل . يقال : وزر يزر وزرا ، أى : أثم ، أو حمل حملا ثقيلا ، ومنه سمى الوزير ، لأنه يحمل أعباء تدبير شئون الدولة .
أى : من اهتدى إلى الطريق المستقيم ، وقدم فى حياته العمل الصالح فثمرة هدايته راجعة إلى نفسه ، ومن ضل عن الطريق القويم ، وفسق عن أمر ربه فوبال ضلاله راجع إليه وحده ، ولا تحمل نفس آثمة ، إثم نفس أخرى ، وإنما تسأل كل نفس عن آثامها فحسب .
وقد تكرر هذا المعنى فى كثير من آيات القرآن الكريم ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } وقوله - تعالى - : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى . . } ولا يتنافى هذا مع قوله - تعالى - : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ . . } وقوله - تعالى - : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ . . } لأن المقصود فى هاتين الآيتين وأشباههما ، أن دعاة الكفر والفسوق والعصيان ، يحملون ذنوبهم يوم القيامة ، ويحملون فوق ذلك جانبا من ذنوب من كانوا هم سببا فى ضلالهم ، لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ، ووزر من عمل بها - كما جاء فى الحديث الصحيح - فهم يحملون آثام أنفسهم ، والآثام التى كانوا سببا فى ارتكاب غيرهم لها .
كذلك لا يتنافى قوله - تعالى - : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } مع ما ثبت فى الحديث الصحيح عن ابن عمر رضى الله عنهما من " أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه . . " .
لأن العلماء حملوا الحديث على أن يكون الميت قد أوصى بذلك قبل موته ، أو أن يهمل نهيهم عن النوح عليه قبل موته ، مع أنه يعلم أنهم سينوحون عليه ويشقون الجيوب ، ويلطمون الخدود . . فتعذيبه بسبب تفريطه ، وعدم تنفيذه لقوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة . . } وقوله - تعالى - : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله - تعالى - بعباده - ورأفته بهم ، وكرمه معهم .قال أبو حيان - رحمه الله - : لما ذكر - تعالى - فى الآية السابقة ، أنه لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا ، بين بعد ذلك علة إهلاكهم ، وهى مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، والتمادى على الفساد - فقال ، سبحانه - : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا . . } .الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 2605)
فهي التبعة الفردية التي تربط كل إنسان بنفسه ; إن اهتدى فلها , وإن ضل فعليها . وما من نفس تحمل وزر أخرى , وما من أحد يخفف حمل أحد . إنما يسأل كل عن عمله , ويجزي كل بعمله ولا يسأل حميم حميما . .
وقد شاءت رحمة الله ألا يأخذ الإنسان بالآيات الكونية المبثوثة في صفحات الوجود , وألا يأخذه بعهد الفطرة الذي أخذه على بني آدم في ظهور آبائهم , إنما يرسل إليهم الرسل منذرين ومذكرين: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وهي رحمة من الله أن يعذر إلى العباد قبل أن يأخذهم بالعذاب .في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 304)(1/389)
15) سورة الإسراء ،وَقَالَ تَعَالَى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) }(1)[
__________
(1) - قَالَ رَجُلٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم : يَا مُحَمَّدُ مَا نَعْلَمُ أنَّ اللهَ أَنْزَلَ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ بَعْدَ مُوسَى ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ وَالآيَاتِ التِي تَلِيهَا . ثُمَّ ذَكَرَ فَضَائِحَ المُكَذِّبِينَ وَمَعَايِبَهُمْ ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الكَذِبِ ، وَمَا هُمْ عَلَيهِ مِنَ الافْتِرَاءِ وَالتَّعَنُّتِ ، وَذَكَرَ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ أَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا أَوْحَى إلَى غَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ المُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ . وَقَالَ تَعَالَى : إنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى دَاوُدَ كِتَاباً هُوَ الزَّبُورُ .
يَقُولُ تَعَالَى : إنَّهُ أَوْحَى إلَى رُسُلٍ قَصَّهُمْ عَلَى نَبِيِّهِ فِي الآيَاتِ السَّابِقَاتِ ، وَذَكَرَ لَهُ أَسْمَاءَهُمْ ، وَإنَّهُ أَوْحَى أَيْضاً إلَى رُسُلٍ لَمْ يَقْصُصْهُمْ عَلَيهِ ، وَلَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُمْ فِي القُرْآنِ .
وَفِي حَدِيثٍ يَرويه أبو ذر : " إنَّ عَدَدَ الأَنْبِيَاءِ مِئَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفاً وَإنَّ عَدَدَ الرُّسُلِ مِنْهُمْ ثَلاَثُمِئَةٍ وَثَلاثَةَ عَشَرَ أو خَمْسَةَ عَشَرَ "
وَيَقُولُ تَعَالَى : إنَّهُ شَرَّفَ مُوسَى بِأَنْ كَلَّمَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، بِدُونِ وَاسِطَةٍ ( وَالوَحْيُ لِلرُّسُلِ يُسَمَّى تَكْلِيماً ) .
يَقُولُ تَعَالَى : إنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ يُبَشِّرُونَ مَنْ أَطَاعَ اللهَ ، وَاتَّبَعَ رِضْوَانَهُ بِالخَيْرَاتِ وَحُسْنِ الثَّوَابِ ، وَيُنْذِرُونَ ، بِالعِقَابِ وَالعَذَابِ ، مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ ، وَكَذَّبَ رُسُلَهُ ، وَذَلِكَ لِكَيْلا يَبْقَى لِمُعْتَذِرٍ عُذْرٌ ، بَعْدَ أنْ أَوْضَحَتِ الرُّسُلُ لِلْنَّاسِ أوَامِرَ اللهِ وَنَوَاهِيهِ ، وَالجَزَاءُ لاَ يَكُونُ إلاَّ لِمَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ عَلَى الوَجْهِ الصَّحِيحِ . وَكَانَ اللهُ عَزيزَ الجَانِبِ لا يُضَامُ ، حَكِيماً فِي شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ .(1/390)
النساء/163-165]،وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ :{ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) }(1)[
__________
(1) - وَهِيَ تَكَادُ يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ مِنْ شِدَّةِ الغَضَبِ والغَيْطِ مِنْ هَؤُلاَءِ الكَفَرَةِ ، وَكُلَّمَا طُرِحَ فِيهَا فَوْجٌ مِنَ الكَفَرَةِ سَأَلَهُمْ حُرَّاسُ النَّارِ مُقَرِّعِينَ مُوَبِّخِينَ : أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبِيٌّ مِنْ رَبِّكُمْ يُنْذِرُكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا؟
وَيَرُدُّ هَؤُلاَءِ المُجْرِمُونَ عَلَى خَزَنَةِ جَهَنَّمَ قَائِلِينَ : بَلَى لَقَدْ جَاءَنَا رَسُولٌ مِنْ رَبِّنَا يَدْعُونَا إِلَى اللهِ ، وَيُنْذِرُنَا مِنْ عَذَابِهِ ، فَكَذَّبْنَاهُ وَقُلْنَا لَهُ : إِنَّ اللهَ لَمْ يُنَزِّلْ شَيْئاً ، وَلَمْ يُرْسِلْ إِلينَا رَسُولاً ، وَمَا أَنْتَ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا ، فَمَا أَنْتَ ، فِيمَا تَدَّعِيهِ مِنَ الرِّسَالَةِ مِنْ اللهِ ، إِلاَّ مُجَانِبٌ لِلْحَقِّ ، بَعِيدٌ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ .(1/391)
الملك/8-10]، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَوْجٌ أَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ جَاءَهُمْ النَّذِيرُ فَكَذَّبُوهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُلْقَى فِيهَا فَوْجٌ إلَّا مَنْ كَذَّبَ النَّذِيرَ . وَقَالَ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ لإبليس {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}(1)(85) سورة ص، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَمْلَؤُهَا بإبليس وَمَنْ اتَّبَعَهُ ؛ فَإِذَا مُلِئَتْ بِهِمْ لَمْ يَدْخُلْهَا غَيْرُهُمْ . فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ إلَّا مَنْ تَبِعَ الشَّيْطَانَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَّبِعْ الشَّيْطَانَ وَلَمْ يَكُنْ مُذْنِبًا ،وَمَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِالرُّسُلِ .
--------------
اجتماع ُالولايةِ والعداوةِ في الشخص الواحد(2)
__________
(1) - لَقَدْ أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ سَيَمْلأُ جَهَنَّمَ مِنْ إِبْلِيسَ وَذُرِّيتِهِ ، وَمِمَّنْ يَتَّبعُ غَوَايَةَ الشَّيْطَانِ وَحَبَائِلَهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ، فَيُضِلُّهُ الشَّيْطَانُ عَنْ طَرِيقِ اللهِ القَوِيمِ .
(2) - انظر كتاب أولياء الله بين المفهوم الصوفي والمنهج السلفي ص 23 فما بعدها(1/392)
الحقُّ والباطلُ يتصارعان في الإسلام،وليس خارج المجتمع المسلم فقط كما قد يظن بعض المسلمين. فالشيطانُ يحشد للمسلم من جنده ما لا يفعلُ لغيره بغية إخراجِه من الحقِّ الذي هو عليه. أو إبعاده عنه قدر الإمكان. ولذلك تجدُ في المسلمين من يجتمعُ فيه إسلامٌ وشركٌ من رياءٍ ونحوه أو يجتمعُ فيه إيمانٌ ونفاقٌ، أو إسلامٌ وفسقٌ. وبحسب انقياده للشيطانِ ومكابدته له تزداد نسبة ذلك أو تنقص. فمنَ الناس من يكون فيه إيمانٌ وشعبةٌ من النفاق، لأن الإيمانَ شعَبٌ ،وقد تذهبُ شعبةٌ من شعب الإيمان وتحلُّ مكانها شعبةٌ من شعب النفاق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم « أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ » .(1).
__________
(1) - صحيح البخارى (34 )(1/393)
وقد يجتمع في المرء إسلامٌ وجاهليةٌ، وتكون في مقابل إسلامه جزءا يسيراً فعنِ الْمَعْرُورِ قَالَ لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ إِنِّى سَابَبْتُ رَجُلاً ، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ ، فَقَالَ لِىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -: « يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ »(1). وعن أبي مَالِكٍ الأَشْعَرِىَّ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« أَرْبَعٌ فِى أُمَّتِى مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ الْفَخْرُ فِى الأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِى الأَنْسَابِ وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَةُ ». وَقَالَ « النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ ».(2).
__________
(1) - صحيح البخارى (30 )
(2) - صحيح مسلم (2203 )(1/394)
وقد يجتمعُ في المرء إيمان وعمل صالح من وجه وفسق من وجه آخر، فلا يقتضي وجود الثاني ذهابَ الأول، فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا ، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ جَلَدَهُ فِى الشَّرَابِ ، فَأُتِىَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -: « لاَ تَلْعَنُوهُ ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ »(1).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أُتِىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ قَالَ « اضْرِبُوهُ » . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ ، وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ أَخْزَاكَ اللَّهُ . قَالَ: « لاَ تَقُولُوا هَكَذَا لاَ تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ »(2).
__________
(1) - صحيح البخارى (6780 )
(2) - صحيح البخارى (6777 )(1/395)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ أُتِىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسَكْرَانَ ، فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ ، فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ مَالَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« لاَ تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ »(1). ((فوصفه بأنه أخٌ لهم مع شربهِ للخمرِ، وأثبتَ له محبةَ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكان من حبِّه للنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يدخلُ طرفةً المدينة إلا اشترى منها شيئا ولو بالدين ليهديه إلى النبي صلى الله عليه وسلم))(2) والله لا يحب الخمر ولا شاربها لكن إن اجتمع في العبد صلاحٌ وفسقٌ فيحبُّ الله فيه الصلاحَ ويبغضُ الفسق منه. ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم « سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ »(3). فوصفه بأنه ((مسلم)) وأن فيه فسقا وكفرا ليس على معنى كفر الردة. فإنَّ الردةَ مخرجةٌ عن الإسلام. وإنما الكفرُ الوارد هنا كنايةٌ عن إنكارِ المقاتلِ حقَّ أخيه المسلم عليه من حرمةِ مالهِ ودمهِ،أو أن تكون كفرا غير مخرجٍ من الملَّة كما أثرَ عن ابن عباس ((كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَفُسُوقٌ دُونَ فُسُوقٍ)) (4)
وعليه فقد يجتمعُ بالمسلم إسلامٌ وكفرٌ ليس كفرَ الرِّدةِ. وقد يجتمع فيه إسلامٌ ونفاقٌ ليس نفاق محادة الله ورسوله. وقد يجتمعُ إسلامٌ وشركٌ: ليس الشركَ الأكبرَ المخرج َمن أصل التوحيد.
__________
(1) - صحيح البخارى(6781)
(2) نفس المصدر 11: 77.
(3) - صحيح البخارى(48 )
(4) تفسير الدر المنثور 2: 286، تفسير الطبري المجلد الرابع 6: 165- 166، والبغوي 2: 41- 40.(1/396)
وبهذا يثبتُ اجتماعُ ولايةٍ في المسلمِ من وجهٍ وعداوةٍ من وجهٍ أخر. وذلك بخلاف المعتزلة والخوارج والمرجئة الذين تواطأت عقيدتهم على اعتبار أن الإيمان شيء واحد وألزمهم ذلك اعتبار نظيره في الولاية (1). وحتى في الثواب والعقاب فإنه عندهم شيء واحد. فإما نار لا خروج منها وإما جنة، وذلك باستثناء طوائف المرجئة.
قال ابن تيمية رحمه الله: ((وأما الظالم لنفسه فهو من أهل الإيمان، فمعه ولايةٌ بقدر إيمانه وتقواه كما معه من ولاية الشيطانِ بقدر فجوره، إذ الشخصُ الواحدُ يجتمع فيه الحسناتُ والسيئاتُ حتى يمكن أن يثابَ ويعاقبَ، وهذا قولُ جميع الصحابة وأئمة الإسلام وأهل السنة، بخلاف الخوارج والمعتزلة القائلين بأنه لا يخرجُ من النار من دخلها من أهل القبلة(2)،كما أن التقوى لا تنتفي بوقوع سيئةٍ من السيئاتِ إلا أن تكون شركاً أكبر ،فإن مفهوم أهل السنة والجماعة لقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} (63) سورة يونس ،ليس من شرط أولياء الله المتقين أن لا يكونوا مخطئينَ في بعض الأشياء خطأ مغفوراً لهم ولا ترك الصغائرِ مطلقاً ولا تركَ الكبائر أو الكفرِ الذي تعقبه التوبة، فقد قال تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (33) سورة الزمر، فوصفهم بالتقوى ثم قال: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (35) سورة الزمر، فوصف أعمالهم بأن فيها سيء وأسوأ وأثبت لهم التقوى. وهذا من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة وهو أنهم لا يخرجون عن التقوى من أتى ذنبا صغيراً لم يصر عليه ولا بإتيان ذنبٍ كبيرٍ إذا تاب منه))(3).
------------
__________
(1) أنظر مقالات الإسلاميين 266- 265.
(2) مختصر الفتاوى 590.
(3) أنظر جامع الرسل 1: 268 تحقيق د. محمد رشاد سالم.(1/397)
لَا يَكُونُ الْعَبْدُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا إذَا كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا(1)
وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا إذَا كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) } [يونس/62، 63] ،وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ - وَقَدْ تَقَدَّمَ - يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِ : { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ }(2)
__________
(1) - الفرقان بين أولياء الرحمن وأوليا الشيطان بتحقيقي ص 282-287
(2) - صحيح البخارى (6502)
وفي جامع العلوم والحكم - (ج 38 / ص 11)
الدرجة الثانية : درجةُ السابقين المقرَّبين ، وهُمُ الذين تقرَّبوا إلى الله بعدَ الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات ، والانكفافِ عن دقائقِ المكروهات بالوَرعِ ، وذلك يُوجبُ للعبدِ محبَّة اللهِ ، كما قال : (( ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافِلِ حتّى أُحبَّه )) ، فمن أحبه الله ، رزقه محبَّته وطاعته والاشتغالَ بذكره وخدمته ، فأوجبَ له ذلك القرب منه ، والزُّلفى لديه ، والحظْوة عنده ، كما قال الله تعالى : { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ((المائدة : 54 .)) ، ففي هذه الآية إشارةٌ إلى أنَّ مَنْ أعرض عن حبنا ، وتولى عن قربنا ، لم نبال ، واستبدلنا به من هو أولى بهذه المنحة منه وأحقُّ ، فمن أعرضَ عنِ الله ، فما له مِنَ الله بَدَلٌ ، ولله منه أبدال .
ما لي شُغل سِواه ما لي شُغلُ ما يَصرِفُ عن هواه قلبي عذلُ
ما أصنعُ إنْ جفا وخابَ الأملُ مِنِّي بدل ومنه ما لي بدلُ
وفي بعض الآثار يقول الله - عز وجل - : (( ابنَ آدم ، اطلبني تجدني ، فإنْ وجدتني ، وجدتَ كُلَّ شيء ، وإنْ فُتُّك ، فاتك كُلُّ شيءٍ ، وأنا أحَبُّ إليك من كلِّ شيءٍ )) .
كان ذو النون يردّد هذه الأبيات بالليل كثيراً :
اطلبوا لأنفسكم مثل ما وَجَدْتُ أنا
قد وجدت لي سكَناً ليس في هواه عَنَا
إنْ بَعَدْتُ قرَّبَنِي أو قَرُبْتُ مِنه دَنا
من فاته الله ، فلو حصلت له الجنةُ بحذافيرها ، لكان مغبوناً ، فكيف إذا لم يحصل له إلاَّ نزرٌ يسيرٌ حقيرٌ من دارٍ كلها لا تَعدِلُ جَناحَ بعوضةٍ :
مَنْ فَاتَهُ أَنْ يَراكَ يَوماً فَكُلُّ أوقاتِهِ فَواتُ
وحَيثُما كنتُ من بِلادٍ فَلِي إلى وَجْهِكَ التِفَاتُ(1/398)
وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا تَقِيًّا حَتَّى يَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ فَيَكُونُ مِنْ الْأَبْرَارِ أَهْلِ الْيَمِينِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يَكُونَ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يَصِحُّ إيمَانُهُ وَعِبَادَاتُهُ وَإِنْ قَدَرَ أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ - وَإِنْ قِيلَ إنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ حَتَّى يُرْسَلَ إلَيْهِمْ رَسُولٌ - فَلَا يَكُونُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، إلَّا إذَا كَانُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ ؛ فَمَنْ لَمْ يَتَقَرَّبْ إلَى اللَّهِ لَا بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ وَلَا بِتَرْكِ السَّيِّئَاتِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ الْمَجَانِينُ(1)وَالْأَطْفَالُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يَكْبَرَ »(2).
__________
(1) - قلت : بعض الناس يعتبر المجنون والمعتوه ونحوه من أولياء الله الصالحين ويتبركون بهم بهم ، وهذا ليس بصحيح .
(2) - سنن أبى داود (4400 ) و (4403 ) عن عائشة وعلي صحيح
وفي عون المعبود - (ج 9 / ص 428)
(
رُفِعَ الْقَلَم عَنْ ثَلَاثَة ): قَالَ السُّيُوطِيُّ نَقْلًا عَنْ السُّبْكِيّ وَقَوْله رُفِعَ الْقَلَم هَلْ هُوَ حَقِيقَة أَوْ مَجَاز فِيهِ اِحْتِمَالَانِ ، الْأَوَّل وَهُوَ الْمَنْقُول الْمَشْهُور أَنَّهُ مَجَاز لَمْ يُرِدْ فِيهِ حَقِيقَة الْقَلَم وَلَا الرَّفْع وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَة عَنْ عَدَم التَّكْلِيف ، وَوَجْه الْكِنَايَة فِيهِ أَنَّ التَّكْلِيف يَلْزَم مِنْهُ الْكِتَابَة كَقَوْلِهِ { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَام } وَغَيْر ذَلِكَ ، وَيَلْزَم مِنْ الْكِتَابَة الْقَلَم لِأَنَّهُ آلَة الْكِتَابَة فَالْقَلَم لَازِم لِلتَّكْلِيفِ ، وَانْتِفَاء اللَّازِم يَدُلّ عَلَى اِنْتِفَاء مَلْزُومه ، فَلِذَلِكَ كَنَّى بِنَفْيِ الْقَلَم عَنْ نَفْي الْكِتَابَة وَهِيَ مِنْ أَحْسَن الْكِنَايَات وَأَتَى بِلَفْظِ الرَّفْع إِشْعَارًا بِأَنَّ التَّكْلِيف لَازِم لِبَنِي آدَم إِلَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة وَأَنَّ صِفَة الْوَضْع ثَابِت لِلْقَلَمِ لَا يَنْفَكّ عَنْهُ عَنْ غَيْر الثَّلَاثَة مَوْضُوعًا عَلَيْهِ .
وَالِاحْتِمَال الثَّانِي أَنْ يُرَاد حَقِيقَة الْقَلَم الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيث " أَوَّل مَا خَلَقَ اللَّه الْقَلَم فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ فَكَتَبَ مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة " . فَأَفْعَال الْعِبَاد كُلّهَا حَسَنهَا وَسَيِّئُهَا يَجْرِي بِهِ ذَلِكَ الْقَلَم وَيَكْتُبهُ حَقِيقَة ، وَثَوَاب الطَّاعَات وَعِقَاب السَّيِّئَات يَكْتُبهُ حَقِيقَة ، وَقَدْ خَلَقَ اللَّه ذَلِكَ وَأَمَرَ بِكَتْبِهِ وَصَارَ مَوْضُوعًا عَلَى اللَّوْح الْمَحْفُوظ لِيُكْتَب ذَلِكَ فِيهِ جَارِيًا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . وَقَدْ كُتِبَ ذَلِكَ وَفُرِغَ مِنْهُ وَحُفِظَ . وَفِعْل الصَّبِيّ وَالْمَجْنُون وَالنَّائِم لَا إِثْم فِيهِ فَلَا يَكْتُب الْقَلَم إِثْمه وَلَا التَّكْلِيف بِهِ ، فَحُكْم اللَّه بِأَنَّ الْقَلَم لَا يَكْتُب ذَلِكَ مِنْ بَيْن سَائِر الْأَشْيَاء رَفْع لِلْقَلَمِ الْمَوْضُوع لِلْكِتَابَةِ وَالرَّفْع فِعْل اللَّه تَعَالَى فَالرَّفْع نَفْسه حَقِيقَة وَالْمَجَاز فِي شَيْء وَاحِد وَهُوَ أَنَّ الْقَلَم لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا عَلَى هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة إِلَّا بِالْقُوَّةِ وَالنَّهْي لِأَنْ يَكْتُب مَا صَدَرَ مِنْهُمْ ، فَسُمِّيَ مَنْعه مِنْ ذَلِكَ رَفْعًا ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْه يُشَارِك هَذَا الِاحْتِمَال الْأَوَّل وَفِيمَا قَبْله يُفَارِقهُ
( حَتَّى يَسْتَيْقِظ ) : قَالَ السُّبْكِيّ : هُوَ وَقَوْله حَتَّى يَبْرَأ وَحَتَّى يَكْبُر غَايَات مُسْتَقْبَلَة وَالْفِعْل الْمُغَيَّا بِهَا قَوْله رُفِعَ مَاضٍ وَالْمَاضِي لَا يَجُوز أَنْ تَكُون غَايَته مُسْتَقْبَلَة فَلَا تَقُول سِرْت أَمْس حَتَّى تَطْلُع الشَّمْس غَدًا . قَالَ : وَجَوَابه بِالْتِزَامِ حَذْف أَوْ مَجَاز حَتَّى يَصِحّ الْكَلَام فَيَحْتَمِل أَنْ يُقَدَّر رَفْع الْقَلَم عَنْ الصَّبِيّ فَلَا يَزَال مُرْتَفِعًا حَتَّى يَبْلُغ ، أَوْ فَهُوَ مُرْتَفِع حَتَّى يَبْلُغ ، فَيَبْقَى الْفِعْل الْمَاضِي عَلَى حَقِيقَته ، وَالْمُغَيَّا مَحْذُوف بِهِ يَنْتَظِم الْكَلَام ، وَيَحْتَمِل أَنْ يُقَال ذَلِكَ فِي الْغَايَة ، وَهِيَ قَوْله حَتَّى يَبْلُغ أَيْ إِلَى بُلُوغه فَيَشْمَل ذَلِكَ مَنْ كَانَ صَبِيًّا فَبَلَغَ فِي مَاضٍ وَمَنْ هُوَ صَبِيّ الْآن وَيَبْلُغ فِي مُسْتَقْبَل وَمَنْ يَصِير صَبِيًّا وَيَبْلُغ بَعْد ذَلِكَ ، فَهَذِهِ الْحَالَات كُلّهَا فِي التَّقْدِير أَمَّا فِي التَّجَوُّز فِي الْفِعْل الثَّانِي أَوْ الْفِعْل الْأَوَّل أَوْ الْحَذْف رَاجِعَة إِلَى مَعْنًى وَاحِد وَهُوَ الْحُكْم بِرَفْعِ الْقَلَم لِلْغَايَةِ الْمَذْكُورَة .
وَفِي اِبْن مَاجَهْ يُرْفَع بِلَفْظِ الْآتِي فَلَا يَرِد السُّؤَال عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَة .
قَالَ السُّيُوطِيُّ وَأَفْضَل مِنْ هَذَا الطَّوْل وَالتَّكَلُّف كُلّه أَنَّ رُفِعَ بِمَعْنَى يُرْفَع مِنْ وَضْع الْمَاضِي مَوْضِع الْآتِي وَهُوَ كَثِير كَقَوْلِهِ تَعَالَى { أَتَى أَمْر اللَّه }
( وَعَنْ الْمُبْتَلَى ): وَفِي الرِّوَايَة الْآتِيَة عَنْ الْمَجْنُون فَالْمُرَاد بِالْمُبْتَلَى الْمُبْتَلَى بِالْجُنُونِ
( حَتَّى يَبْرَأ ) : وَفِي الرِّوَايَة الْآتِيَة حَتَّى يُفِيق
( وَعَنْ الصَّبِيّ ) : قَالَ السُّبْكِيّ : الصَّبِيّ الْغُلَام ، وَقَالَ غَيْره الْوَلَد فِي بَطْن أُمّه يُسَمَّى جَنِينًا فَإِذَا وُلِدَ فَصَبِيّ فَإِذَا فُطِمَ فَغُلَام إِلَى سَبْع ثُمَّ يَصِير يَافِعًا إِلَى عَشْر ثُمَّ حَزْوَرًا إِلَى خَمْس عَشْرَة . وَاَلَّذِي يُقْطَع بِهِ أَنَّهُ يُسَمَّى صَبِيًّا فِي هَذِهِ الْأَحْوَال كُلّهَا قَالَهُ السُّيُوطِيُّ
( حَتَّى يَكْبُر ) : قَالَ السُّبْكِيّ : لَيْسَ فِيهَا مِنْ الْبَيَان وَلَا فِي قَوْله حَتَّى يَبْلُغ مَا فِي الرِّوَايَة الثَّالِثَة حَتَّى يَحْتَلِم ، فَالتَّمَسُّك بِهَا أَوْلَى لِبَيَانِهَا وَصِحَّة سَنَدهَا .
وَقَوْله حَتَّى يَبْلُغ مُطْلَق وَالِاحْتِلَام مُقَيَّد فَيُحْمَل عَلَيْهِ فَإِنَّ الِاحْتِلَام بُلُوغ قَطْعًا وَعَدَم بُلُوغ خَمْس عَشْرَة لَيْسَ بِبُلُوغٍ قَطْعًا . قَالَ وَشَرْط هَذَا الْحَمْل ثُبُوت اللَّفْظَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .(1/399)
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ عَلَى تَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ(1). لَكِنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ تَصِحُّ عِبَادَاتُهُ وَيُثَابُ عَلَيْهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ(2). وَأَمَّا الْمَجْنُونُ الَّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ عِبَادَاتِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ(3). وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ إيمَانٌ وَلَا كُفْرٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ ؛ بَلْ لَا يَصْلُحُ هُوَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ لِأُمُورِ الدُّنْيَا كَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ . فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَزَّازًا وَلَا عَطَّارًا وَلَا حَدَّادًا وَلَا نَجَّارًا وَلَا تَصِحُّ عُقُودُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ وَلَا نِكَاحُهُ وَلَا طَلَاقُهُ وَلَا إقْرَارُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ . وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِ بَلْ أَقْوَالُهُ كُلُّهَا لَغْوٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ . بِخِلَافِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فَإِنَّ لَهُ أَقْوَالًا مُعْتَبَرَةً فِي مَوَاضِعَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَفِي مَوَاضِعَ فِيهَا نِزَاعٌ .
__________
(1) - قال الترمذي : وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.سنن الترمذى (1488)
(2) - انظر الموسوعة الفقهية الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 27 / ص 20)فما بعد
(3) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 16 / ص 99)فما بعد(1/400)
وَإِذَا كَانَ الْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَلَا التَّقْوَى وَلَا التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ ؛ لَا سِيَّمَا أَنْ تَكُونَ حُجَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ إمَّا مُكَاشَفَةُ(1)
__________
(1) - وفي مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 613)
وَمَا يَحْصُلُ مِنْ نَوْعِ الْمُكَاشَفَةِ وَالتَّصَرُّفِ " ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ " مَلَكِيٌّ وَنَفْسِيٌّ وَشَيْطَانِيٌّ فَإِنَّ الْمَلَكَ لَهُ قُوَّةٌ وَالنَّفْسَ لَهَا قُوَّةٌ وَالشَّيْطَانَ لَهُ قُوَّةٌ وَقَلْبَ الْمُؤْمِنِ لَهُ قُوَّةٌ . فَمَا كَانَ مِنْ الْمَلَكِ وَمِنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ فَهُوَ حَقٌّ وَمَا كَانَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَةِ النَّفْسِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَدْ اشْتَبَهَ هَذَا بِهَذَا عَلَى طَوَائِفَ كَثِيرَةٍ فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ بَلْ صَارُوا يَظُنُّونَ فِي مَنْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ - أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ - أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ . وَالْكَلَامُ فِي هَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَلِهَذَا فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَرَى جَوَازَ قِتَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ . وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْأَنْوَاعِ الشَّيْطَانِيَّةِ والنفسانية مَا ظَنُّوا أَنَّهَا مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مِنْهُمْ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ . وَأَصْلُ هَذَا أَنَّهُمْ تَعَبَّدُوا بِمَا تُحِبُّهُ النَّفْسُ ؛ وَأَمَّا الْعِبَادَةُ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ فَلَا يُحِبُّونَهُ وَلَا يُرِيدُونَهُ وَحْدَهُ وَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ إذَا عَبَدُوا اللَّهَ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَرُسُلُهُ حَطَّ لَهُمْ عَنْ مَنْصِبِ الْوِلَايَةِ فَيُحْدِثُونَ مَحَبَّةً قَوِيَّةً وَتَأَلُّهًا وَعِبَادَةً وَشَوْقًا وَزُهْدًا ؛ وَلَكِنْ فِيهِ شِرْكٌ وَبِدْعَةٌ . وَمَحَبَّةُ " التَّوْحِيدِ " إنَّمَا تَكُونُ لِلَّهِ وَحْدَهُ عَلَى مُتَابَعَةِ رَسُولِهِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } فَلِهَذَا يَكُونُ أَهْلُ الِاتِّبَاعِ فِيهِمْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ فِي مَحَبَّتِهِمْ ؛ يُحِبُّونَ لِلَّهِ وَيَبْغَضُونَ لَهُ . وَهُمْ عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ . وَاَلَّذِينَ مَعَهُ { إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } وَأُولَئِكَ مَحَبَّتُهُمْ فِيهَا شِرْكٌ وَلَيْسُوا مُتَابِعِينَ لِلرَّسُولِ وَلَا مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَيْسَتْ هِيَ الْمَحَبَّةُ الإخلاصية . فَإِنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِالتَّوْحِيدِ . وَلِهَذَا سَمَّى أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ كِتَابَهُ " قُوتَ الْقُلُوبِ فِي مُعَامَلَةِ الْمَحْبُوبِ وَوَصْفِ طَرِيقِ الْمُرِيدِ إلَى مَقَامِ التَّوْحِيدِ " وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وفي الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي - (ج 1 / ص 730)
وسئل نفع الله به : عن حقيقة الفرق بين الحقيقة والشريعة ؟ .
فأجاب بقوله : فرق بينهما بفروق : منها أن الحقيقة هي مشاهدة أسرار الربوبية ولها طريقة هي عزائم الشريعة ونهاية الشيء غير مخالفة له على ما يأتي ، فالشريعة هي الأصل ومن ثم شبهت بالبحر والمعدن واللبن والشجرة ، والحقيقة هي الفرع المستخرج من الشريعة ومن ثم شبهت بالدر والتبر والزيدة والثمرة ، ومعنى سلب المخالفة لخما المذكور أنه لس بينهما اختلاف في مجاري أحكام العبودية وإنما يختلفان في مشاهدة أسرار الربوبية ، ولا شك أن أهلهما متفاوتون في الاعتناء والاهتمام بعلم صفات القلب والأخذ بعزائم الأحكام وليس ذلك اختلافا بينهما ، وبين ذلك اليافعي رحمه الله بأن الشريعة علم وعمل ، والعلم ظاهر وباطن ، والظاهر شرعي وغيره ، والشرعي فرض ومندوب ، والفرض عين وكفاية ، والعين علم صفات القلب وعلم أصل وعلم فرع ، والعمل عزائم ورخص ، والحقيقة مشتملة على قسمين علم وعمل ، والعلم وهبي وكسبي ، فالوهبي علم المكاشفة والكسبي فرض عين وفرض كفاية وفرض العين علم القلب وعلم أصل وعلم فرع ، فالكسبي الذي هو أحد علم نوعي قسمي الحقيقة هو علم الشريعة والعمل الذي هو العزائم مشتمل على سلوك طريق الحقيقة ، والطريقة مشتملة على منازل السالكين وتسمى مقامات اليقين ، والحقيقة موافقة للشريعة في جميع علمها وعملها أصولها وفروعها وفرضها ومندوبها ليس بينهما مخالفة أصلا ، نعم هنا شيئان : أحدهما علم صفا تالقلب فأهل الحقيقة لهم به اهتمام واعتناء جدا وسلوك طريقتهم موقوف على معرفته وتبديل صفاته الذميمة ، وأكثر أهل الشريعة يهملون ذلك ويتهاونون به مع كونه فرض عين في الشريعة والحقيقة بلا خلاف ، والثاني الرخص فأهل الحقيقة من حيث العلم والاعتقاد لا يشكون في حقيقتها وأنها من رحمة الله عباده ، وأما من حيث علمهم فإنما يسلكون شوامخ عزائم الشريعة الغراء إلى الله بتوفيقه وعنايته وجميل لطفه وصيانته ، فمنهم من لا يقطعها إلا في سبعين سنة ومنهم من يقطعها في ساعة واحدة بحسب معونة الله وتسهيله .(1/401)
سَمْعِهَا مِنْهُ أَوْ نَوْعٌ مِنْ تَصَرُّفٍ مِثْلِ أَنْ يَرَاهُ قَدْ أَشَارَ إلَى وَاحِدٍ فَمَاتَ أَوْ صُرِعَ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ - مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ - لَهُمْ مُكَاشَفَاتٌ وَتَصَرُّفَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ كَالْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ وَعُبَّادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ الشَّخْصِ وَلِيًّا لِلَّهِ ،وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ وِلَايَةَ اللَّهِ فَكَيْفَ إذَا عُلِمَ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ وِلَايَةَ اللَّهِ ؛مِثْلُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ؛ بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ الشَّرْعَ الظَّاهِرَ دُونَ الْحَقِيقَةِ الْبَاطِنَةِ . أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ غَيْرَ طَرِيقِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ . أَوْ يَقُولُ : إنَّ الْأَنْبِيَاءَ ضَيَّقُوا الطَّرِيقَ(1)
__________
(1) - وفي مدارج السالكين - (ج 7 / ص 57)
وأما الاتحاديه فالتوحيد عندهم أن الحق المنزه هو عين الخلق المشبه ،وأنه سبحانه هو عين وجود كل موجود وحقيقته وماهيته وأنه آية كل شيء وله فيه آية تدل على أنه عينه وهذا عند محققيهم من خطإ التعبير بل هو نفس الآية ونفس الدليل ونفس المستدل ونفس المستدل عليه فالتعدد بوجود اعتبارات وهمية لا بالحقيقة والوجود فهو عندهم عين الناكح وعين المنكوح وعين الذابح وعين المذبوح وعين الآكل وعين المأكول وهذا عندهم هو السر الذي رمزت إليه هوامس الدهور الأولية ورامت إفادته الهداية النبوية كما قاله محققهم وعارفهم ابن سبعين
ومن فروع هذا التوحيد أن فرعون وقومه مؤمنون كاملوا الإيمان عارفون بالله على الحقيقة ومن فروعه أن عباد الأصنام على الحق والصواب وأنهم إنما عبدوا عين الله سبحانه لا غيره ومن فروعه أن الحق أن لا فرق في التحريم والتحليل بين الأم والأخت والأجنبية ولا فرق بين الماء والخمر والزنا والنكاح الكل من عين واحدة بل هو العين الواحدة وإنما المحجوبون عن هذا السر قالوا هذا حرام وهذا حلال نعم هو حرام عليكم لأنكم في حجاب عن حقيقة هذا التوحيد ومن فروعه أن الأنبياء ضيقوا الطريق على الناس وبعدوا عليهم المقصود والأمر وراء ما جاءوا به ودعوا إليه(1/402)
أَوْ هُمْ عَلَى قُدْوَةِ الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُهُ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الْوِلَايَةَ، فَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ مِنْ الْكُفْرِ مَا يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ . فَضْلًا عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
فَمَنِ احْتَجَّ بِمَا يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِهِمْ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ عَلَى وِلَايَتِهِمْ كَانَ أَضَلَّ مِنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ ؛ فَإِنَّ كَوْنَهُ مَجْنُونًا يُنَاقِضُ أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَالْعِبَادَاتُ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي وِلَايَةِ اللَّهِ ،وَمَنْ كَانَ يَجُنُّ أَحْيَانًا وَيُفِيقُ أَحْيَانًا إذَا كَانَ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ ؛ فَهَذَا إذَا جُنَّ لَمْ يَكُنْ جُنُونُهُ مَانِعًا مِنْ أَنْ يُثِيبَهُ اللَّهُ عَلَى إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ الَّذِي أَتَى بِهِ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ وَيَكُونُ لَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ بَعْدَ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ وَيَأْجُرُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ . وَلَا يُحْبِطُهُ بِالْجُنُونِ الَّذِي اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ فَعَلَهُ، وَالْقَلَمُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ .(1/403)
فَعَلَى هَذَا فَمَنْ أَظْهَرَ الْوِلَايَةَ وَهُوَ لَا يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَلَا يَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ، بَلْ قَدْ يَأْتِي بِمَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ هَذَا وَلِيٌّ لِلَّهِ فَإِنَّ هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مَجْنُونًا ؛ بَلْ كَانَ مُتَوَلِّهًا(1)مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ أَوْ كَانَ يَغِيبُ عَقْلُهُ بِالْجُنُونِ تَارَةً وَيُفِيقُ أُخْرَى وَهُوَ لَا يَقُومُ بِالْفَرَائِضِ بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا قَدْ ارْتَفَعَ عَنْهُ الْقَلَمُ ؛ فَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَاقَبًا عُقُوبَةَ الْكَافِرِينَ فَلَيْسَ هُوَ مُسْتَحِقًّا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَجُوزُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ أَحَدٌ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ ،وَلَكِنْ إنْ كَانَ لَهُ حَالَةٌ فِي إفَاقَتِهِ كَانَ فِيهَا مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ مُتَّقِيًا كَانَ لَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ فِيهِ كُفْرٌ أَوْ نِفَاقٌ أَوْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ فَهَذَا فِيهِ مِنِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ مَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ ،وَجُنُونُهُ لَا يُحْبِطُ عَنْهُ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ حَالَ إفَاقَتِهِ مِنْ كُفْرٍ أَوْ نِفَاقٍ .
--------------
الشهادةُ لمعينٍ بالولايةِ
وأما الشهادةُ للشخص معين بالولاية ففيها ثلاثة أقوال كما بين ذلك ابن تيمية رحمه الله:
__________
(1) - ( وله ) الوَلَهُ الحزن وقيل هو ذهاب العقل والتحير من شدّة الوجد أَو الحزن أَو الخوف والوَلَهُ ذهاب العقل لفِقْدانِ الحبيب "لسان العرب - (ج 13 / ص 561)(1/404)
*الأول: قيل لا يشهد بذلك لغير النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي وعلي بن المديني وغيرهم.
*الثاني: وقيل يشهد به لمن جاء به نصٌّ إن كان خبراً صحيحاً كمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة فقط، وهذا قول كثير من أصحابنا وغيرهم.
*الثالث: وقيل يشهد به لمن استفاض عند الأمة أنه رجلٌ صالح كعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وغيرهما، وكان أبو ثور يشهد لأحمد بن حنبل بالجنَّة ، فعَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ أَبِى زُهَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ فِى خُطْبَتِهِ بِالنَّبَاءَةِ مِنَ الطَّائِفِ :« يُوشِكُ أَنْ تَعْلَمُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَخِيَارَكُمْ مِنْ شِرَارَكُمْ ». وَلاَ أَعْلَمُهُ قَالَ :أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟قَالَ :« بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ »(1).
__________
(1) - مسند أحمد(28440)صحيح(1/405)
و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِىَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقَالَ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ ». وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِىَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقَالَ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ ». قَالَ عُمَرُ فِدًى لَكَ أَبِى وَأُمِّى مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِىَ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ. وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِىَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِى الأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِى الأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِى الأَرْضِ »(1).
ثم قال: والتحقيق أن هذا قد يعلم بأسباب، وقد يعلم على الظن، ولا يجوز للرجل أن يقول بما لا يعلم)). (2)
__________
(1) - صحيح مسلم (2243 )
(2) كتاب النبوات 10-8ط. دار الكتب العلمية.(1/406)
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ أُمَّ الْعَلاَءِ - امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ - بَايَعَتِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِى أَبْيَاتِنَا ، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِى تُوُفِّىَ فِيهِ ، فَلَمَّا تُوُفِّىَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِى أَثْوَابِهِ ، دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ ، فَشَهَادَتِى عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -: « وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ » . فَقُلْتُ بِأَبِى أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ فَقَالَ « أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ ، وَاللَّهِ إِنِّى لأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِى - وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ - مَا يُفْعَلُ بِى » . قَالَتْ فَوَاللَّهِ لاَ أُزَكِّى أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا(1).
__________
(1) - صحيح البخارى (1243)(1/407)
وإن من الناس من يظهر منه صلاح وورع وكانت حاله بينه وبين الله على العكس من ذلك. فإذا خلا بمحارم الله انتهكها ،كما وريَ عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ : « لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِى يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ». قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ. قَالَ : « أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا »(1).
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْرًا ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ - يَقُولُهُ مِرَارًا - إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا . إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ ، وَحَسِيبُهُ اللَّهُ ، وَلاَ يُزَكِّى عَلَى اللَّهِ أَحَدًا »(2).
__________
(1) - سنن ابن ماجه (4386 )والصحيحة (505) وصحيح الجامع (5028)صحيح
(2) - صحيح البخارى (6061)(1/408)
و عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ قِيلَ لَهُ أَلاَ تَدْخُلُ عَلَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ فَقَالَ أَتُرَوْنَ أَنِّى لاَ أُكَلِّمُهُ إِلاَّ أُسْمِعُكُمْ وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَهُ مَا دُونَ أَنْ أَفْتَتِحَ أَمْرًا لاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ وَلاَ أَقُولُ لأَحَدٍ يَكُونُ عَلَىَّ أَمِيرًا إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ. بَعْدَ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِى النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلاَنُ مَا لَكَ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ بَلَى قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ ».(1)
__________
(1) - صحيح مسلم (7674 ) =الأَقتاب : جمع القتب وهو الأمعاء(1/409)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ - رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا ، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى عَسْكَرِهِ ، وَمَالَ الآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ ، وَفِى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ لاَ يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلاَّ اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ ، فَقَالَ مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ » . فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ أَنَا صَاحِبُهُ . قَالَ فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ قَالَ فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا ، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ . قَالَ « وَمَا ذَاكَ » . قَالَ الرَّجُلُ الَّذِى ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ . فَقُلْتُ أَنَا لَكُمْ بِهِ . فَخَرَجْتُ فِى طَلَبِهِ ، ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا ، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِى الأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ .(1/410)
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ :« إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ ، وَهْوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ ، وَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ »(1).
وعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ حَدَّثَنِى ثَوْرٌ قَالَ حَدَّثَنِى سَالِمٌ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - يَقُولُ افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ ، وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً ، إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى وَادِى الْقُرَى ، وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ ، أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِى الضِّبَابِ ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ ، فَقَالَ النَّاسُ هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« بَلَى وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِى أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا » . فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ ، فَقَالَ هَذَا شَىْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ »(2). .
__________
(1) - صحيح البخارى (2898 ) =ذباب : طرف السيف الأسفل الذى يضرب به =الشاذة : الخارج عن صف الكفار
(2) - صحيح البخارى (4234 ) =الشملة : كساء يتغطى به ويتلفف فيه(1/411)
فها قد خفيت حقيقة هؤلاء الرجال على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم أعظم أولياء الله؛ بل هم أعظمُ ولاية عند الله من أولياءِ اليومِ والغدِ.
ولقد نهانا الله تعالى عن أن يزكي الواحد منا نفسه مع كون الواحد منا أعلم بنفسه من غيره فقال {.. فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (32) سورة النجم. فكيف نستطيع أن نحكم على غيرنا بولايته وتقواه، و بصدق ظاهره وباطنه سره وعلانيته مع الله!.
----------------
هل يعلمُ الوليُّ ولايتَه ؟
ذكر الكلاباذي النزاع بين بعض أهل العلم في هذه المسألة فمنهم من جوز أن يعلم الولي ولايته وأن هذه المعرفة في ذاتها كرامة من الكرامات. واختار الكلاباذي هذا الرأي، ثم ذكر امتناع آخرين عن ذلك محتجين بأن معرفة الولي ولايته تزيل عنه خوفَ العاقبة، وأن زوال خوف العاقبة يوجب الأمن))(1).
ولعل الصواب ما ذهب إليه الكلاباذي فإنه يجوز أن يعلم الوليُّ ولايته فتكون بذلك كرامة له، وهذا لا يتعارض مع خوف العاقبةِ بالنسبة إلى من يرى جواز تغير عاقبة الولي.
ثم إن من الولاية ما لا يجوزُ الشكُّ فيه مطلقاً ،وذلك كعلم المسلم أنه يتولى الله ورسوله وأنه من حزبه. وأما إن كان على معنى كونه محبوباً عند الله مرضيًّا عنه موافياً له بالإيمان والتقوى عند الموت، فهذا ليس لأحدٍ الحكمُ بهِ.
ويذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن من الأولياء من لا يعرف الناسُ حقيقةَ ولايتِه ويكون عندهم من عامةِ الناس، كما قال صلى الله عليه وسلم « رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ »(2).
__________
(1) التعريف 74.
(2) - صحيح مسلم (6848 )(1/412)
فليس ذلك محصورا في رثاثة الحالِ، ولا قذارة الثيابِ، بل الولايةُ في كل مؤمنٍ تقيٍّ كما قال تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) [يونس/62-64]
بمعنى أنه لا يشترط له أن يكون ذو حرقة يتصنع الولاية، إذ الخرقة لا تجلب الولاية ،وليست ميزانا لها وإنما ميزان الولاية: الإيمان والتقوى.
==================
المبحثُ العاشر
ماذا يعطي الله تعالى من تقرب إليه بالفرائض والنوافل ؟
قوله : (فإذا أحببتُه ، كنتُ سمعه الذي يسمع به ، وبصرَه الذي يُبصرُ به ، ويدَه التي يبطش بها ، ورجلَه التي يمشي بها) ، وفي بعض الروايات : (وقلبَه الذي يعقل به ، ولسانه الذي ينطق به).
المراد بهذا الكلام : أنَّ منِ اجتهدَ بالتقرُّب إلى الله بالفرائضِ ، ثمَّ بالنوافل ، قَرَّبه إليه ، ورقَّاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان ، فيصيرُ يَعبُدُ الله على الحضورِ والمراقبة كأنه يراه ، فيمتلئُ قلبُه بمعرفة الله تعالى ، ومحبَّته ، وعظمته ، وخوفه ، ومهابته ، وإجلاله ، والأُنس به ، والشَّوقِ إليه ، حتّى يصيرَ هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهداً له بعين البصيرة كما قيل :
ساكنٌ في القلب يَعْمُرُه لَسْتُ أنساهُ فأَذكُرُه
غَابَ عَنْ سمعي وعن بصري فسُوَيدا القلب تُبصِرُه
قال الفضيلُ بن عياض : إن الله يقول : (( كذَب من ادَّعى محبَّتي ، ونام عنِّي ، أليس كل محبٍّ يُحبّ خلوة حبيبه ؟ ها أنا مطَّلعٌ على أحبابي وقد مثَّلوني بين أعينهم ، وخاطبوني على المشاهدة ، وكلَّموني بحضورٍ ، غداً أُقِرُّ أعينهم في جناني ))(1).
__________
(1) - أخرجه : الدينوري في "المجالسة" ( 132 ) ، وعبد الحق الأشبيلي في " التهجد " ( 1046 ) و( 1047 ) .(1/413)
ولا يزالُ هذا الذي في قلوب المحبين المقرَّبين يقوى حتّى تمتلئ قلوبُهم به ، فلا يبقى في قلوبهم غيرُه ، ولا تستطيع جوارحُهُم أنْ تنبعثَ إلا بموافقة ما في قلوبهم ، ومن كان حالُه هذا ، قيل فيه : ما بقي في قلبه إلا الله ، والمراد معرفته ومحبته وذكره ، وفي هذا المعنى الأثر الإسرائيلي المشهور : (( يقول الله : ما وسعني سمائي ولا أرضي ، ولكن وسعني قلبُ عبدي المؤمن ))(1). وقال بعضُ العارفين : احذروه ، فإنَّه غيورٌ لا يُحبُ أنْ يرى في قلبِ عبده غيرَه ، وفي هذا يقول بعضهم :
ليس للنَّاسِ موضِعٌ في فؤادي زاد فيه هواك حتَّى امتلا
وقال آخر :
قَدْ صِيغَ قلبي على مقدار حبِّهمُ فما لِحبٍّ سواهم فيه مُتَّسعُ
__________
(1) - ذكره : الزركشي في " التذكرة في الأحاديث المشتهرة " : 135 ، والسخاوي في " المقاصد الحسنة " ( 990 ) ، والملا علي القاري في " الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة " ( 657 ) و( 810 ) و( 1021 ) ، والعجلوني في " كشف الخفاء " ( 2256 ) .و أسنى المطالب ( 1290 ) ، وقد أجاد ابن رجب - رحمه الله - حينما نسبه إلى الإسرائيليات ؛ فهذا مما ورد عن أهل الكتاب كما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " 18/122 ، والسيوطي في " الدرر المنتثرة " : 362 ، ويخطئ بعض الناس فينسب هذا حديثاً نبوياً ، وهو لا أصل له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/414)
وإلى هذا المعنى أشار النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خطبته لما قدم المدينة فقال : أَحِبّوا مَا أَحَبّ اللّهُ أَحِبّوا اللّهَ مِنْ كُلّ قُلُوبِكُمْ وَلَا تَمَلّوا كَلَامَ اللّهِ وَذِكْرَهُ وَلَا تَقْسُ عَنْهُ قُلُوبُكُمْ فَإِنّهُ مِنْ كُلّ مَا يَخْلُقُ اللّهُ يَخْتَارُ وَيَصْطَفِي))(1)فمتى امتلأ القلبُ بعظمةِ الله تعالى ، محا ذلك مِنَ القلب كلَّ ما سواه ، ولم يبقَ للعبد شيءٌ من نفسه وهواه ، ولا إرادة إلاَّ لما يريدهُ منه مولاه ، فحينئذٍ لا ينطِقُ العبدُ إلاّ بذكره ، ولا يتحرَّك إلا بأمره ، فإنْ نطقَ ، نطق بالله ، وإنْ سمِعَ ، سمع به ، وإنْ نظرَ ، نظر به ، وإنْ بطشَ ، بطش به ، فهذا هو المرادُ بقوله : (( كنت سمعه الذي يسمعُ به ، وبصره الذي يُبصرُ به ، ويده التي يبطش بها ، ورجلَه التي يمشي بها )) ، ومن أشار إلى غير هذا ، فإنَّما يُشير إلى الإلحاد مِنَ الحلول ، أو الاتِّحاد ، والله ورسولُه بريئان منه .
وقال الحافظ في الفتح(2):
" وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ كَيْفَ يَكُونُ الْبَارِي جَلَّ وَعَلَا سَمْعَ الْعَبْدِ وَبَصَرَهُ إِلَخْ ؟
وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا- أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى سَبِيل التَّمْثِيلِ ، وَالْمَعْنَى كُنْت سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ فِي إِيثَارِهِ أَمْرِي فَهُوَ يُحِبُّ طَاعَتِي وَيُؤْثِرُ خِدْمَتِي كَمَا يُحِبّ هَذِهِ الْجَوَارِح .
ثَانِيهَا- أَنَّ الْمَعْنَى كُلِّيَّته مَشْغُولَةٌ بِي، فَلَا يُصْغِي بِسَمْعِهِ إِلَّا إِلَى مَا يُرْضِينِي ، وَلَا يَرَى بِبَصَرِهِ إِلَّا مَا أَمَرْتُهُ بِهِ.
__________
(1) - زاد المعاد - (ج 1 / ص 361)وسيرة ابن هشام - (ج 1 / ص 500) والسيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - (ج 1 / ص 458) وسنن البيهقي (2/524، 525).
(2) - فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 342)6021(1/415)
ثَالِثهَا- الْمَعْنَى أُحَصِّلُ لَهُ مَقَاصِدَهُ كَأَنَّهُ يَنَالُهَا بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ إِلَخْ .
رَابِعهَا- كُنْت لَهُ فِي النُّصْرَة كَسَمْعِهِ وَبَصَره وَيَده وَرِجْلِهِ فِي الْمُعَاوَنَة عَلَى عَدُوِّهِ .
خَامِسهَا- قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ وَسَبَقَهُ إِلَى مَعْنَاهُ اِبْن هُبَيْرَة : هُوَ فِيمَا يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ، وَالتَّقْدِيرُ كُنْت حَافِظَ سَمْعِهِ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ فَلَا يَسْمَعُ إِلَّا مَا يَحِلُّ اِسْتِمَاعُهُ ، وَحَافِظَ بَصَرِهِ كَذَلِكَ إِلَخْ .
سَادِسُهَا- قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ : يَحْتَمِل مَعْنًى آخَرَ أَدَقَّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَهُوَ أَنْ يَكُون مَعْنَى سَمْعِهِ مَسْمُوعَهُ ، لِأَنَّ الْمَصْدَر قَدْ جَاءَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ مِثْل فُلَانٌ أَمَلِي بِمَعْنَى مَأْمُولِي ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ إِلَّا ذِكْرِي وَلَا يَلْتَذُّ إِلَّا بِتِلَاوَةِ كِتَابِي، وَلَا يَأْنَسُ إِلَّا بِمُنَاجَاتِي ،وَلَا يَنْظُرُ إِلَّا فِي عَجَائِبِ مَلَكُوتِي ،وَلَا يَمُدُّ يَدَهُ إِلَّا فِيمَا فِيهِ رِضَايَ وَرِجْله كَذَلِكَ ، وَبِمَعْنَاهُ قَالَ اِبْن هُبَيْرَة أَيْضًا .
وَقَالَ الطُّوفِيُّ : اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء مِمَّنْ يُعْتَدّ بِقَوْلِهِ أَنَّ هَذَا مَجَازٌ وَكِنَايَةٌ عَنْ نُصْرَةِ الْعَبْد وَتَأْيِيده وَإِعَانَته ، حَتَّى كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُنَزِّلُ نَفْسَهُ مِنْ عَبْدِهِ مَنْزِلَةَ الْآلَاتِ الَّتِي يَسْتَعِينُ بِهَا،وَلِهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ " فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي ".(1/416)
قَالَ : وَالِاتِّحَادِيَّة زَعَمُوا أَنَّهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَنَّ الْحَقَّ عَيْنُ الْعَبْدِ ، وَاحْتَجُّوا بِمَجِيءِ جِبْرِيلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ ، قَالُوا: فَهُوَ رُوحَانِيٌّ خَلَعَ صُورَتَهُ وَظَهَرَ بِمَظْهَرِ الْبَشَرِ ، قَالُوا :فَاَللَّهُ أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يَظْهَرَ فِي صُورَةِ الْوُجُودِ الْكُلِّيِّ أَوْ بَعْضِهِ ، تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : هَذِهِ أَمْثَالٌ ،وَالْمَعْنَى تَوْفِيقُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يُبَاشِرُهَا بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ ، وَتَيْسِير الْمَحَبَّة لَهُ فِيهَا بِأَنْ يَحْفَظ جَوَارِحه عَلَيْهِ ،وَيَعْصِمَهُ عَنْ مُوَاقَعَة مَا يَكْرَه اللَّهُ مِنَ الْإِصْغَاء إِلَى اللَّهْو بِسَمْعِهِ ، وَمِنَ النَّظَر إِلَى مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ بِبَصَرِهِ ، وَمِنَ الْبَطْش فِيمَا لَا يَحِلّ لَهُ بِيَدِهِ ، وَمَنَ السَّعْيِ إِلَى الْبَاطِلِ بِرِجْلِهِ . وَإِلَى هَذَا نَحَا الدَّاوُدِيُّ ، وَمِثْله الْكَلَابَاذِيّ ، وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ أَحْفَظُهُ فَلَا يَتَصَرَّفُ إِلَّا فِي مَحَابِّي ، لِأَنَّهُ إِذَا أَحَبَّهُ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا يَكْرَهُهُ مِنْهُ .
سَابِعُهَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا : وَقَدْ يَكُون عَبَّرَ بِذَلِكَ عَنْ سُرْعَة إِجَابَة الدُّعَاء وَالنُّجْحِ فِي الطَّلَب ، وَذَلِكَ أَنَّ مَسَاعِيَ الْإِنْسَان كُلَّهَا إِنَّمَا تَكُون بِهَذِهِ الْجَوَارِحِ الْمَذْكُورَةِ .(1/417)
وَقَالَ بَعْضهمْ : وَهُوَ مُنْتَزَع مِمَّا تَقَدَّمَ لَا يَتَحَرَّك لَهُ جَارِحَةٌ إِلَّا فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ ، فَهِيَ كُلُّهَا تَعْمَلُ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ . وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الزُّهْد " عَنْ أَبِي عُثْمَان الْجِيزِيّ أَحَدِ أَئِمَّة الطَّرِيق قَالَ : مَعْنَاهُ كُنْت أَسْرَعَ إِلَى قَضَاء حَوَائِجه مِنْ سَمْعِهِ فِي الْأَسْمَاعِ وَعَيْنِهِ فِي النَّظَرِ وَيَده فِي اللَّمْس وَرِجْله فِي الْمَشْي .
وَحَمَلَهُ بَعْض مُتَأَخِّرِي الصُّوفِيَّة عَلَى مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ مَقَام الْفِنَاء وَالْمَحْو(1)،
__________
(1) - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"الْفَنَاءُ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : فَنَاءٌ عَنْ عِبَادَةِ السِّوَى وَفَنَاءٌ عَنْ شُهُودِ السِّوَى وَفَنَاءٌ عَنْ وُجُودِ السِّوَى .
فَالْأَوَّلُ : أَنْ يَفْنَى بِعِبَادَةِ اللَّهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَبِخَوْفِهِ عَنْ خَوْفِ مَا سِوَاهُ وَبِرَجَائِهِ عَنْ رَجَاءِ مَا سِوَاهُ وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ عَنِ التَّوَكُّلِ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَبِمَحَبَّتِهِ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ ؛ وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ ،وَهُوَ تَحْقِيقُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّه " فَإِنَّهُ يَفْنَى مِنْ قَلْبِهِ كُلُّ تَأَلُّهٍ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ تَأَلُّهٌ لِغَيْرِ اللَّهِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَكْمَلَ فِي هَذَا التَّوْحِيدِ كَانَ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَفْنَى عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى اللَّهِ، وَهَذَا الَّذِي يُسَمِّيهِ كَثِيرٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ حَالَ الِاصْطِلَامِ وَالْفَنَاءِ وَالْجَمْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَذَا فِيهِ فَضِيلَةٌ مِنْ جِهَةِ إقْبَالِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ ،وَفِيهِ نَقْصٌ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ شُهُودِهِ لِلْأَمْرِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ ،فَإِنَّهُ إذَا شَهِدَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ ،وَأَنَّهُ الْمَعْبُودُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ ،وَأَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَمَعْصِيَةِ رُسُلِهِ فَشَهِدَ حَقَائِقَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَحْكَامِهِ خُلُقًا وَأَمْرًا : كَانَ أَتَمَّ مَعْرِفَةً وَشُهُودًا وَإِيمَانًا وَتَحْقِيقًا مِنْ أَنْ يَفْنَى بِشُهُودِ مَعْنًى عَنْ شُهُودِ مَعْنًى آخَرَ ،وَشُهُودِ التَّفْرِقَةِ فِي الْجَمْعِ وَالْكَثْرَةِ فِي الْوَحْدَةِ ،وَهُوَ الشُّهُودُ الصَّحِيحُ الْمُطَابِقُ . لَكِنْ إذَا كَانَ قَدْ وَرَدَ عَلَى الْإِنْسَانِ مَا يَعْجِزُ مَعَهُ عَنْ شُهُودِ هَذَا وَهَذَا كَانَ مَعْذُورًا لِلْعَجْزِ لَا مَحْمُودًا عَلَى النَّقْصِ وَالْجَهْلِ .
وَالثَّالِثُ : الْفَنَاءُ عَنْ وُجُودِ السِّوَى ؛ وَهُوَ قَوْلُ الْمَلَاحِدَةِ أَهْلِ الْوَحْدَةِ كَصَاحِبِ الْفُصُوصِ وَأَتْبَاعِهِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : وُجُودُ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ وَمَا ثَمَّ غَيْرٌ وَلَا سِوَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . فَهَؤُلَاءِ قَوْلُهُمْ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ قَولِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعُبَّادِ الْأَصْنَامِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ وِلَايَةَ اللَّهِ : هِيَ مُوَافَقَتُهُ بِالْمَحَبَّةِ لِمَا يُحِبُّ وَالْبُغْضُ لِمَا يُبْغِضُ وَالرِّضَا بِمَا يَرْضَى وَالسُّخْطُ بِمَا يَسْخَطُ ،وَالْأَمْرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَالنَّهْيُ عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ ،وَالْمُوَالَاةُ لِأَوْلِيَائِهِ وَالْمُعَادَاةُ لِأَعْدَائِهِ ،كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : « إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ » فَهَذَا أَصَحُّ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي الْأَوْلِيَاءِ . فَالْمَلَاحِدَةُ والاتحادية يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى قَوْلِهِمْ لِقَوْلِهِ : " كُنْت سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَيَدَهُ وَرِجْلَهُ "
وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ :
مِنْهَا قَوْلُهُ : { مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ } فَأَثْبَتَ مُعَادِيًا مُحَارِبًا وَوَلِيًّا غَيْرَ الْمُعَادِي وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ هَذَا وَهَذَا .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ } فَأَثْبَتَ عَبْدًا مُتَقَرِّبًا إلَى رَبِّهِ وَرَبًّا افْتَرَضَ عَلَيْهِ فَرَائِضَ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ } فَأَثْبَتَ مُتَقَرِّبًا وَمُتَقَرَّبًا إلَيْهِ وَمُحِبًّا وَمَحْبُوبًا غَيْرَهُ . وَهَذَا كُلُّهُ يَنْقُضُ قَوْلَهُمْ : الْوُجُودُ وَاحِدٌ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ } إلَى آخِرِهِ . فَإِنَّهُ جَعَلَ لِعَبْدِهِ بَعْدَ مَحَبَّتِهِ هَذِهِ الْأُمُورَ وَهُوَ عِنْدَهُمْ قَبْلَ الْمَحَبَّةِ وَبَعْدَهَا وَاحِدٌ وَهُوَ عِنْدَهُمْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ : بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ وَشَعْرُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ لَا تَعَدُّدَ عِنْدَهُمْ وَلَا كَثْرَةَ فِي الْوُجُودِ ؛ وَلَكِنْ يُثْبِتُونَ مَرَاتِبَ وَمَجَالِيَ وَمَظَاهِرَ ؛ فَإِنْ جَعَلُوهَا مَوْجُودَةً نَقَضُوا قَوْلَهُمْ . وَإِنْ جَعَلُوهَا ثَابِتَةً فِي الْعَدَمِ - كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ عَرَبِيٍّ - أَوْ جَعَلُوهَا الْمُعَيَّنَاتِ -وَالْمُطْلَقُ هُوَ الْحَقُّ - كَانُوا قَدْ بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : الْمَعْدُومُ شَيْءٌ وَقَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْكُلِّيَّاتِ ثَابِتَةً فِي الْخَارِجِ زَائِدَةٌ عَلَى الْمُعَيَّنَاتِ .
وَالْأَوَّلُ : قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَرَبِيٍّ .
وَالثَّانِي : قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَهُوَ قَوْلُ القونوي صَاحِبُ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ بَاطِلَانِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ ،وَلِهَذَا كَانَ التلمساني أَحْذَقَ مِنْهُمَا فَلَمْ يُثْبِتْ شَيْئًا وَرَاءَ الْوُجُودِ . كَمَا قِيلَ :
وَمَا الْبَحْرُ إلَّا الْمَوْجُ لَا شَيْءَ غَيْرَهُ وَإِنْ فَرَّقَتْهُ كَثْرَةُ الْمُتَعَدِّدِ
لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الضُّلَّالَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ مَا قَالُوا : وُجُودُ الْمَخْلُوقِ هُوَ وُجُودُ الْخَالِقِ ،وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ قَالُوا : هَذَا هُوَ هَذَا ؛ وَلِهَذَا صَارُوا يَقُولُونَ بِالْحُلُولِ مِنْ وَجْهٍ لِكَوْنِ الْوُجُودِ فِي كُلِّ الذَّوَاتِ أَوْ بِالْعَكْسِ وَبِالِاتِّحَادِ مِنْ وَجْهٍ لِاتِّحَادِهِمَا ؛ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ هِيَ وَحْدَةُ الْوُجُودِ .مجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 369)فما بعدها
وقاال أيضاً :
"وَالْفَنَاءُ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ :
أَحَدُهَا : هُوَ الْفَنَاءُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَتْ بِهِ الْكُتُبُ وَهُوَ أَنْ يَفْنَى عَمَّا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ : فَيَفْنَى عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ بِعِبَادَتِهِ وَعَنْ طَاعَةِ غَيْرِهِ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ ،وَعَنِ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِهِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَعَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ بِمَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ ؛ وَعَنْ خَوْفِ غَيْرِهِ بِخَوْفِهِ بِحَيْثُ لَا يَتَّبِعُ الْعَبْدُ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ، وَبِحَيْثُ يَكُونُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (24) سورة التوبة، فَهَذَا كُلُّهُ هُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ .
وَأَمَّا ( الْفَنَاءُ الثَّانِي : وَهُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يَفْنَى عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيَفْنَى بِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِحَيْثُ قَدْ يَغِيبُ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ لِمَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا حَالٌ نَاقِصٌ قَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِ السَّالِكِينَ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ لَوَازِمَ طَرِيقِ اللَّهِ ،وَلِهَذَا لَمْ يُعْرَفْ مِثْلُ هَذَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ ،وَمَنْ جَعَلَ هَذَا نِهَايَةَ السَّالِكِينَ فَهُوَ ضَالٌّ ضَلَالًا مُبِينًا ،وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ لَوَازِمِ طَرِيقِ اللَّهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ ،بَلْ هُوَ مِنْ عَوَارِضِ طَرِيقِ اللَّهِ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، لَيْسَ هُوَ مِنْ اللَّوَازِمِ الَّتِي تَحْصُلُ لِكُلِّ سَالِكٍ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ : فَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ وُجُودِ السَّوِيِّ بِحَيْثُ يَرَى أَنَّ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ، وَأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ، فَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالِاتِّحَادِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَضَلِّ الْعِبَادِ، وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ : فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَطْرُدَ قَوْلَهُ ،فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُشَاهِدًا لِلْقَدَرِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ فَعُومِلَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُضْرَبَ وَيُجَاعَ حَتَّى يُبْتَلَى بِعَظِيمِ الْأَوْصَابِ وَالْأَوْجَاعِ ،فَإِنْ لَامَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ وَعَابَهُ فَقَدْ نَقَضَ قَوْلُهُ وَخَرَجَ عَنْ أَصْلِ مَذْهَبِهِ ،وَقِيلَ لَهُ : هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ مَقْضِيٌّ مَقْدُورٌ فَخَلْقُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ وَمَشِيئَتُهُ : مُتَنَاوَلٌ لَك وَلَهُ وَهُوَ يَعُمُّكُمَا ،فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَك فَهُوَ حُجَّةٌ لِهَذَا، وَإِلَّا فَلَيْسَ بِحُجَّةِ لَا لَك وَلَا لَهُ، فَقَدْ تَبَيَّنَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَنْظُرُ إلَى الْقَدَرِ وَيُعْرِضُ عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ وَيَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } . وَقَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ : { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } فَالتَّقْوَى فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ،وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } فَأَمَرَهُ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ بِالصَّبْرِ ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِر اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةٍ } وَقَالَ : " { إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِر اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ } . وَكَانَ يَقُولُ " { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ؛ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَئِي وَعَمْدِي وَهَزْلِي وَجِدِّي وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي ؛ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ } وَقَدْ ذَكَرَ عَنْ آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ أَنَّهُ اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَتَابَ إلَيْهِ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ ؛ وَعَنْ إبْلِيسَ أَبِي الْجِنِّ - لَعَنَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَصَرَّ مُتَعَلِّقًا بِالْقَدَرِ فَلَعَنَهُ وَأَقْصَاهُ ،فَمَنْ أَذْنَبَ وَتَابَ وَنَدِمَ فَقَدْ أَشْبَهَ أَبَاهُ ،وَمَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } وَلِهَذَا قَرَنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي غَيْرِ آيَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَغَيْرُهُ : " { يَقُولُ الشَّيْطَانُ أَهْلَكْت النَّاسَ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ ؛ فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ بَثَثْت فِيهِمُ الْأَهْوَاءَ، فَهُمْ يُذْنِبُونَ وَلَا يَتُوبُونَ ،لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ ذِي النُّونِ أَنَّهُ نَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ قَالَ تَعَالَى : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إلَّا فَرَّجَ اللَّهُ كَرْبَهُ }.
وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ فِي الْأَمْرِ مَنْ أَصْلَيْنِ وَلَا بُدَّ لَهُ فِي الْقَدَرِ مِنْ أَصْلَيْنِ .
فَفِي " الْأَمْرِ " عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي الِامْتِثَالِ عِلْمًا وَعَمَلًا ،فَلَا يَزَالُ يجْتَهِدُ فِي الْعِلْمِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَالْعَمَلِ بِذَلِكَ . ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ مِنْ تَفْرِيطِهِ فِي الْمَأْمُورِ وَتَعَدِّيهِ الْحُدُودَ ،وَلِهَذَا كَانَ مِنَ الْمَشْرُوعِ أَنْ يَخْتِمَ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ بِالِاسْتِغْفَارِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا انْصَرَفَ مِنْ صِلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ } فَقَامُوا بِاللَّيْلِ وَخَتَمُوهُ بِالِاسْتِغْفَارِ ، وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : " { سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي } يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ .
وَأَمَّا فِي " الْقَدَرِ " فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ فِي فِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَيَدْعُوَهُ ؛ وَيَرْغَبَ إلَيْهِ وَيَسْتَعِيذَ بِهِ، وَيَكُونَ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ ،وَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ ،وَيَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ ؛ وَإِذَا آذَاهُ النَّاسُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ عَلَيْهِ ،وَمِنْ هَذَا الْبَابِ احْتِجَاجُ آدَمَ وَمُوسَى لَمَّا قَالَ : يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ ؛ لِمَاذَا أَخْرَجْتنَاوَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمَ : أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِكَلَامِهِ فَبِكَمْ وَجَدْتَ مَكْتُوبًا عَلَيَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ أُخْلَقَ : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } قَالَ : بِكَذَا وَكَذَا فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ عَتَبُهُ لِآدَمَ لِأَجْلِ الذَّنْبِ، فَإِنَّ آدَمَ قَدْ كَانَ تَابَ مِنْهُ ،وَالتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ؛ وَلَكِنْ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ مِنْ ذَلِكَ . وَهُمْ مَأْمُورُونَ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى الْقَدَرِ فِي الْمَصَائِبِ وَأَنْ يَسْتَغْفِرُوا مِنَ المعائب كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ }.
فَمَنْ رَاعَى الْأَمْرَ وَالْقَدَرَ كَمَا ذَكَرَ : كَانَ عَابِدًا لِلَّهِ مُطِيعًا لَهُ مُسْتَعِينًا بِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مِنْ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ؛ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا .
وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَوْلِهِ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }.
فَالْعِبَادَةُ لِلَّهِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عِنْدَ الْأُضْحِيَّةِ :اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك } فَمَا لَمْ يَكُنْ بِاَللَّهِ لَا يَكُونُ ؛ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ بِاَللَّهِ فَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَدُومُ.
وَلَا بُدَّ فِي عِبَادَتِهِ مِنْ أَصْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا إخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ .
وَالثَّانِي مُوَافَقَةُ أَمْرِهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا ؛ وَقَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ،قَالُوا يَا أَبَا عَلِيٍّ : مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ الْعَمَلُ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا ؛ وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ ،وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى اتِّبَاعِ مَا شَرَعَ لَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ ،وَفِعْلِ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ مِنَ الدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } كَمَا ذَمَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ . وَالدِّينُ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ .مجموع الفتاوى - (ج 3 / ص 118)
وقال الإمام الذهبي رحمه الله :
"قالَ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ -وَلَقَدْ أَحسن فِي المَقَال - :فَإِذَا سَمِعْتُ الرَّجُل يَسْأَل عَنِ الجَمْع أَوِ الفَنَاء، أَوْ يُجِيْب فِيْهِمَا، فَاعلمْ أَنَّهُ فَارغٌ، لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ إِذْ أَهلُهمَا لاَ يَسْأَلُوْنَ عَنْهُ لِعْلمهم أَنَّهُ لاَ يدرك بِالوَصْف.
قُلْتُ:إِي وَاللهِ، دقَّقُوا وَعمَّقُوا، وَخَاضُوا فِي أَسرَارٍ عَظِيْمَة، مَا مَعَهُم عَلَى دَعْوَاهُم فِيْهَا سِوَى ظنٍّ وَخيَالٍ، وَلاَ وَجودَ لتلك الأَحْوَال مِنَ الفَنَاء وَالمحو وَالصَّحو وَالسُّكر إِلاَّ مُجَرَّد خَطَرَات وَوسَاوس، مَا تفُوَّه بعبارَاتهم صِدِّيْق، وَلاَ صَاحِبٌ، وَلاَ إِمَامٌ مِنَ التَّابِعِيْنَ.
فَان طَالبتَهم بدعَاويهم مقَتُوك، وَقَالُوا:محجوب، وَإِن سَلَّمت لَهُم قِيَادك تخبَّط مَا مَعَكَ مِنَ الإِيْمَان، وَهبَطَ بِك الحَال عَلَى الحَيْرَة وَالمُحَال، وَرَمَقْت العُبَّاد بعين المَقْت، وَأَهْل القُرْآن وَالحَدِيْثِ بعين البُعْد، وَقُلْتَ:مسَاكين محجوبُوْنَ.
فلاَ حَوْلَ وَلاَ قوَّة إِلاَّ بِاللهِ.
فَإِنَّمَا التَّصَوُّف وَالتَأَلُّه وَالسُّلوك وَالسَّيْر وَالمَحَبَّة مَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الرِّضَا عَنِ اللهِ، وَلزوم تَقْوَى الله، وَالجِهَادِ فِي سَبِيْل الله، وَالتَأَدُّب بآدَاب الشَّريعَة مِنَ التِّلاَوَة بترتيلٍ وَتدبُّرٍ، وَالقِيَامِ بخَشْيَةٍ وَخشوعٍ، وَصَوْمِ وَقتٍ، وَإِفطَار وَقت، وَبَذْلَ المَعْرُوْف، وَكَثْرَة الإِيثَار، وَتَعْلِيم العَوَام، وَالتَّوَاضع لِلْمُؤْمِنين، وَالتعزُّز عَلَى الكَافرين، وَمَعَ هَذَا فَالله يَهْدِي مَنْ يَشَاء إِلَى صرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ.
وَالعَالِمُ إِذَا عَرِيَ مِنَ التَّصوف وَالتَألُّه، فَهُوَ فَارغ، كَمَا أَنَّ الصُّوْفِيّ إِذَا عَرِيَ مِنْ عِلْمِ السُّنَّة، زَلَّ عَنْ سوَاءِ السَّبيل.
وَقَدْ كَانَ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ مِنْ عُلَمَاء الصُّوْفِيَّة، فترَاهُ لاَ يَقْبَلُ شَيْئاً مِنِ اصطلاَحَات القَوْم إِلاَّ بحُجَّةٍ. سير أعلام النبلاء(15/410)(1/418)
وَأَنَّهُ الْغَايَة الَّتِي لَا شَيْء وَرَاءَهَا ، وَهُوَ أَنْ يَكُون قَائِمًا بِإِقَامَةِ اللَّه لَهُ مُحِبًّا بِمَحَبَّتِهِ لَهُ نَاظِرًا بِنَظَرِهِ لَهُ ،مِنْ غَيْر أَنْ تَبْقَى مَعَهُ بَقِيَّةٌ تُنَاطُ بِاسْمٍ أَوْ تَقِفُ عَلَى رَسْمٍ ،أَوْ تَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ أَوْ تُوصَفُ بِوَصْفٍ ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَام أَنَّهُ يَشْهَدُ إِقَامَةَ اللَّهِ لَهُ حَتَّى قَامَ ،وَمَحَبَّته لَهُ حَتَّى أَحَبَّهُ ،وَنَظَرَهُ إِلَى عَبْدِهِ حَتَّى أَقْبَلَ نَاظِرًا إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ .
وَحَمَلَهُ بَعْضُ أَهْل الزَّيْغ عَلَى مَا يَدْعُونَهُ مِنْ أَنَّ الْعَبْد إِذَا لَازَمَ الْعِبَادَةَ الظَّاهِرَة وَالْبَاطِنَة حَتَّى يُصَفَّى مِنَ الْكُدُورَات أَنَّهُ يَصِير فِي مَعْنَى الْحَقِّ ، تَعَالَى اللَّه عَنْ ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ يَفْنَى عَنْ نَفْسه جُمْلَةً حَتَّى يَشْهَد أَنَّ اللَّه هُوَ الذَّاكِر لِنَفْسِهِ الْمُوَحِّد لِنَفْسِهِ الْمُحِبّ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَاب وَالرُّسُوم تَصِير عَدَمًا صَرْفًا فِي شُهُوده وَإِنْ لَمْ تُعْدَم فِي الْخَارِج ، وَعَلَى الْأَوْجُهِ كُلّهَا فَلَا مُتَمَسَّكَ فِيهِ لِلِاتِّحَادِيَّةِ وَلَا الْقَائِلِينَ بِالْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَة، لِقَوْلِهِ فِي بَقِيَّة الْحَدِيث: " وَلَئِنْ سَأَلَنِي ، وَلَئِنْ اِسْتَعَاذَنِي " فَإِنَّهُ كَالصَّرِيحِ فِي الرَّدّ عَلَيْهِمْ."اهـ
وقال العلامة محمد أنور شاه الكشميري رحمه الله(1):
" قوله: (كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ بِهِ) ومرَّ عليه الذهبيُّ في «الميزان»، وقال: لولا هيبةُ الجامع لقلتُ فيه: سبحان الله. وكان الذهبيُّ لم يتعلَّم علمَ المنطق.
__________
(1) - فيض الباري شرح صحيح البخاري - (ج 6 / ص 192)(6502 )(1/419)
قلتُ: إذا صَحَّ الحديثُ، فَلْيَضَعْهُ على الرأس والعين، وإذا تعالى شيءٌ منه عن الفهم، فَلْيَكِلْهُ إلى أصحابه، وليس سبيلُه أنْ يُجَرِّحَ فيه.
أمَّا علماءُ الشريعة فقالوا: معناه أنَّ جوارحَ العبد تصيرُ تابعةً للمرضاة الإِلهية، حتَّى لا تتحرَّك إلاَّ على ما يرضى به ربُّه. فإذا كانت غايةُ سمعِه وبصرِه وجوارحِه كلِّها هو اللَّهُ سبحانه، فحينئذٍ صَحَّ أن يقالَ: إنه لا يَسْمَعُ إلاَّ له، ولا يتكلَّمُ إلاَّ له، فكأنَّ اللَّهَ سبحانه صار سمعَه وبصرَه.
قلتُ: وهذا عدولٌ عن حقِّ الألفاظ، لأنَّ قولَه: «كنتُ سمعَه»، بصيغة المتكلِّم، يَدُلُّ على أنَّه لم يبق من المتقرِّب بالنوافل إلاَّ جسدُه وشبحُه، وصار المتصرِّفُ فيه الحضرةَ الإِلهيةَ فحسب، وهو الذي عناه الصوفية بالفناء في الله، أي الانسلاخ عن دواعي نفسه، حتى لا يكونَ المتصرِّفُ فيه إلاَّ هو. وفي الحديث لمعةٌ إلى وَحْدَةِ الوجود. وكان مشايخُنا مولعين بتلك المسألة إلى زمن الشاه عبد العزيز. أمَّا أنا، فلستُ بمتشدِّدٍ فيها:
*ومن عَجَبٍ أنَّى أَحِنُّ إليهم ***** وأسألُ عنهم دائماً، وهم معي
*وتبكيهم عيني، وهم في سوادِها، ** وتَشْتَاقُهم روحي، وهم بين أَضْلُعي
وفي شرح الأربعين النووية(1):
__________
(1) - شرح الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية - (ج 1 / ص 34)(1/420)
" هذه علامة ولاية الله، لمن لم يكن قد أحبه، ومعنى ذلك أنه لا يسمع ما لم يأذن الشرع له بسماعه ،ولا يبصر ما لم يأذن الشرع له في إبصاره ولا يمد يده إلى شيء ما لم يأذن الشرع له في مدها إليه، ولا يسعى برجله إلا فيما أذن الشرع في السعي إليه، فهذا هو الأصل إلا أنه قد يغلب على عبد ذكر الله تعالى حتى يعرف بذلك، فإن خوطب بغيره لم يكد يسمع لمن يخاطبه حتى يتقرب إليه بذكر الله غير أهل الذكر توصلاً إلى أن يسمع لهم، وكذلك في المبصرات والمتناولات والمسعى إليه، وتلك صفة عالية نسأل الله أن يجعلنا من أهلها."
وقال الشيخ عطية سالم رحمه الله(1):
" هل الله سبحانه وتعالى سيحل في الإنسان، ويكون عينه وسمعه وبصره ويده ورجله؟!
حاشا لله! لكن المعنى: أنه لا يسمع إلا ما يرضيني، فلا يتصنت إلى ما لا يجوز له، ولا يستمع إلى ما حرم الله، ولا يشارك في غيبة ولا نميمة، وبصره لا ينظر به إلى الحرام، بل ينظر نظرة اعتبار وتأمل في خلق الله: { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا } [آل عمران:191]، فإذا عرض له محرم غض بصره، وكذلك يده لا تمتد إلى ما حرم الله، ولكن تعمل وتسعى فيما هو لله، وكذلك محياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين أو وأنا أول المسلمين، إن قال: أول المسلمين فلا بأس تبعاً للنص، وإن قال من المسلمين على العموم فلا مانع من ذلك، والله تعالى أعلم."
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله(2):
__________
(1) - شرح بلوغ المرام - (ج 58 / ص 9)
(2) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 1 / ص 416) وانظر شرح الأربعين النووية - (ج 48 / ص 6)(1/421)
" يعني أنه يكون مسددا له في هذه الأعضاء الأربعة في السمع: يسدده في سمعه فلا يسمع إلا ما يرضي الله وما فيه الخير والصلاة ،ويعرض عما يغضب الله فلا يستمع إليه ،ويكون ممن إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه ،وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ،كذلك أيضا بصره: فلا ينظر إلا ما يحب الله النظر إليه ولا ينظر إلى المحرم ولا ينظر نظرا محرما، ويده فلا يعمل بيده إلا ما يرضي الله ،لأن الله يسدده، وكذلك رجله فلا يمشي إلا إلى ما يرضي الله، فلا يسعى إلا ما فيه الخير ،وهذا معنى قوله كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، أي أنه تعالى يسدد عبده هذا في سمعه وبصره وبطشه ومشيه، فإذا كان الله سبحانه وتعالى مسددا له في هذه الأشياء كان موفقا مغتنما لأوقاته منتهزا لفرصه ،وليس المعنى أن الله يكون نفس السمع ونفس البصر ونفس اليد ونفس الرجل ـ حاش لله ـ فهذا محال فإن هذه أعضاء وأبعاد لشخص مخلوق لا يمكن أن تكون هي الخالق ،ولأن الله تعالى أثبت في هذا الحديث في قوله ،ولئن سألني أعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه فأثبت سائلا ومسئولا وعائذا ومعوذا به وهذا غير هذا "
وقال ابن رجبٍ رحمه الله :
"ومن هنا كان بعضُ السَّلف كسليمان التيمي يرون أنّه لا يحسن أن يعصي الله . ووصَّتِ امرأةٌ مِنَ السَّلف أولادها ، فقالت لهم : تعوَّدُوا حبَّ الله وطاعته ، فإنَّ المتَّقين ألِفُوا الطّاعة ، فاستوحشت جوارحُهُم من غيرها ، فإنْ عرض لهمُ الملعونُ بمعصيةٍ ، مرَّت المعصيةُ بهم محتشمةً ، فهم لها منكرون .(1/422)
ومن هذا المعنى قولُ عليٍّ : إنْ كُنَّا لنرى أنَّ شيطان عمر ليهابُه أن يأمُرَه بالخطيئة(1)، وقد أشرنا فيما سبق إلى أنَّ هذا مِنْ أسرار التوحيد الخاصة ، فإنَّ معنى لا إله إلا الله : أنَّه لا يؤلَّه غيرُه حباً ، ورجاءً ، وخوفاً ، وطاعةً ، فإذا تحقَّق القلبُ بالتَّوحيد التَّامِّ ، لم يبق فيه محبةٌ لغير ما يُحبُّه الله ، ولا كراهة لغير ما يكرهه الله ، ومن كان كذلك ، لم تنبعثْ جوارحُهُ إلاّ بطاعة الله ، وإنَّما تنشأ الذُّنوب من محبَّة ما يكرهه الله ، أو كراهة ما يُحبه الله ، وذلك ينشأ من تقديم هوى النَّفس على محبَّة الله وخشيته ، وذلك يقدحُ في كمال التَّوحيد الواجبِ ، فيقعُ العبدُ بسببِ ذلك في التَّفريط في بعض الواجبات ، أو ارتكابِ بعضِ المحظوراتِ ، فأمَّا من تحقَّق قلبُه بتوحيدِ الله ، فلا يبقى له همٌّ إلا في الله وفيما يُرضيه به ، وقد ورد في الحديث مرفوعاً : (( من أصبح وَهمُّه غيرُ الله ، فليس من الله ))(2).
قال بعض العارفين : من أخبرك أنَّ وليه له همٌّ في غيره ، فلا تُصدِّقه .
كان داود الطائي يُنادي بالليل : همُّك عَطَّل عليَّ الهمومَ ، وحالف بيني وبين السُّهاد ، وشوقي إلى النَّظر إليك أوثق مني اللذات ، وحالَ بيني وبين الشهوات ، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب(3)، وفي هذا يقول بعضهم(4):
__________
(1) - ذكره : ابن الجوزي في " مناقب عمر " : 225 عن الشعبي ، عن علي ، به مطولاً . و الرياض النضرة في مناقب العشرة - (ج 1 / ص 143)
(2) - الشعب (10585) و (10586)أنس و (10517)حذيفة والزهد لأحمد 42 وعدي 7/2530 وحلية 3/48 والإتحاف 8/84 وأصفهان 2/252 وك 4/317 و 320 والمجمع 10/248 والترغيب 4/123 و 179 وتنزيه 2/302 والضعيفة (309 و 310 و 311 و 312) ومجمع 1/87 وأصفهان 1/243 والإتحاف 6/293 واللسان1/354(1096) وهو حسن لغيره
(3) - أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 7/356 - 357 .
(4) - المدهش - (ج 1 / ص 137)(1/423)
قالوا تشاغَلَ عنَّا واصطفى بدلاً منَّا وذلك فعلُ الخائن السالي
وكيف أشغلُ قلبي عن محبتكم بغير ذِكركُم يا كُلَّ أشغالي
================
المبحث الحادي عشر
إجابةُ دعاء أولياء الله
قوله : (( ولئن سألني لأعطينَّه ، ولئن استعاذني لأعيذنّه )) ، وفي الرواية الأخرى : (( إنْ دعاني أجبتُه ، وإنْ سألني ، أعطيته )) ، يعني أنَّ هذا المحبوبَ المقرَّب ، له عند الله منْزلةٌ خاصة تقتضي أنَّه إذا سأل الله شيئاً ، أعطاه إياه ، وإنِ استعاذَ به من شيءٍ ، أعاذه منه ، وإن دعاه ، أجابه ، فيصير مجابَ الدعوة لكرامته على ربه - عز وجل - ،
" وفيه دليل على أن العبد إذا صار من أهل حب الله تعالى لم يمتنع أن يسأل ربه حوائجه ويستعيذ به ممن يخافه والله تعالى قادر على أن يعطيه قبل أن يسأله وأن يعيذه قبل أن يستعيذه ولكنه سبحانه متقرب إلى عباده بإعطاء السائلين وإعاذة المستعيذين. "(1)
وقد كان كثيرٌ مِنَ السَّلف الصَّالح معروفاً بإجابة الدعوة . وفي " الصحيح "(2): أنَّ الرُّبيِّعَ بنتَ النَّضر كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ ، فَطَلَبُوا الأَرْشَ وَطَلَبُوا الْعَفْوَ ، فَأَبَوْا فَأَتَوُا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَهُمْ بِالْقِصَاصِ . فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا فَقَالَ « يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ » . فَرَضِىَ الْقَوْمُ وَعَفَوْا فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ » . .
__________
(1) - شرح الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية - (ج 1 / ص 34)
(2) - صحيح البخاري 3/243 ( 2703 ) و4/23 ( 2806 ) و6/29 ( 4500 ) و65( 4611 ) الأرش : العوض(1/424)
وفي " صحيح الحاكم " عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : كَمْ مِنْ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ ذِي طِمْرَيْنِ ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّ قَسَمَهُ مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ ، فَإِنَّ الْبَرَاءَ لَقِيَ زَحْفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَقَدْ أَوْجَعَ الْمُشْرِكُونَ فِي الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالُوا : يَا بَرَاءُ ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : إِنَّكَ لَوْ أَقْسَمْتَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّكَ ، فَأَقْسِمْ عَلَى رَبِّكَ ، فَقَالَ : أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا رَبِّ لِمَا مَنَحْتَنَا أَكْتَافَهُمْ ، ثُمَّ الْتَقَوْا عَلَى قَنْطَرَةِ السُّوسِ ، فَأَوْجَعُوا فِي الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالُوا لَهُ : يَا بَرَاءُ ، أَقْسِمْ عَلَى رَبِّكَ ، فَقَالَ : أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا رَبِّ لِمَا مَنَحْتَنَا أَكْتَافَهُمْ ، وَأَلْحَقْتَنِي بِنَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم ، فَمُنِحُوا أَكْتَافَهُمْ ، وَقُتِلَ الْبَرَاءُ شَهِيدًا.(1)
وروى ابن أبي الدنيا بإسنادٍ له أنَّ النعمان بن قوقل قال يومَ أحدٍ : اللهمَّ إنِّي أُقسم عليك أنْ أُقتل ، فأدخل الجنَّة ، فقُتِل ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : (( إنَّ النعمان أقسم على الله فأبرَّه ))(2).
__________
(1) - المستدرك للحاكم(5274) وصححه ووافقه الذهبي وسنن الترمذى (4227) ومسند أبي يعلى الموصلي(3878) ومعرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني (1077)وصحيح الجامع (4573)مختصرا ومطولا وهو حسن لغيره والمرفوع صحيح
(2) -في كتاب "مجابو الدعوة " ( 22 )و مجابو الدعوة (7 ) وفيه ضعف
وطئ : وضع قدمه على الأرض أو على الشيء وداس عليه ، ونزل بالمكان(1/425)
وروى الحاكم عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ قَالَ حَدَّثَنِى أَبِى : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ أَلاَ تَأْتِى نَدْعُو اللَّهَ فَخَلَوَا فِى نَاحِيَةٍ فَدَعَا سَعْدٌ قَالَ : يَا رَبِّ إِذَا لَقِينَا الْقَوْمَ غَدًا فَلَقِّنِى رَجُلاً شَدِيدًا بَأْسُهُ شَدِيدًا حَرَدُهُ فَأُقَاتِلُهُ فِيكَ وَيُقَاتِلَنِى ثُمَّ ارْزُقْنِى عَلَيْهِ الظَّفَرَ حَتَّى أَقْتُلَهُ وَآخُذَ سَلَبَهُ فَأَمَّنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ ارْزُقْنِى غَدًا رَجُلاً شَدِيدًا حَرَدُهُ شَدِيدًا بَأْسُهُ أُقَاتِلُهُ فِيكَ وَيُقَاتِلُنِى ثُمَّ يَأْخُذُنِى فَيَجْدَعُ أَنْفِى فَإِذَا لَقِيتُكَ غَدًا قُلْتَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ فِيمَ جُدِعَ أَنْفُكَ وَأُذُنُكَ فَأَقُولُ فِيكَ وَفِى رَسُولِكَ فَتَقُولُ صَدَقْتَ. قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ : يَا بُنَىَّ كَانَتْ دَعْوَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ خَيْرًا مِنْ دَعْوَتِى لَقَدْ رَأَيْتُهُ آخِرَ النَّهَارِ وَإِنَّ أُذُنَهُ وَأَنْفَهُ لَمُعَلَّقَانِ فِى خَيْطٍ.(1).
__________
(1) - المستدرك للحاكم (2409) والسنن الكبرى للبيهقي (ج 6 / ص 307)(13148) ومعرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني (3588 ) ومجمع الزوائد (15652) وقال عقبه :رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ وحلية الأولياء - (ج 1 / ص 56) وسير أعلام النبلاء (1/112) وهو حديث حسن(1/426)
وكان سعدُ بنُ أبي وقَّاص مجابَ الدعوة ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ - رضى الله عنه - فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا ، فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّى ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّى قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ فَإِنِّى كُنْتُ أُصَلِّى بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَخْرِمُ عَنْهَا ، أُصَلِّى صَلاَةَ الْعِشَاءِ فَأَرْكُدُ فِى الأُولَيَيْنِ وَأُخِفُّ فِى الأُخْرَيَيْنِ . قَالَ ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ . فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلاً أَوْ رِجَالاً إِلَى الْكُوفَةِ ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا ، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِى عَبْسٍ ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ قَالَ أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ ، وَلاَ يَعْدِلُ فِى الْقَضِيَّةِ . قَالَ سَعْدٌ أَمَا وَاللَّهِ لأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا ، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَأَطِلْ عُمْرَهُ ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ ، أَصَابَتْنِى دَعْوَةُ سَعْدٍ . قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِى فِى الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ .(1).
__________
(1) - صحيح البخارى (755 ) = أخرم : أنقص =أركد : أطيل فيهما(1/427)
و عَنْ مُصْعَبِ بنِ سَعْدٍ:أَنَّ رَجُلاً نَالَ مِنْ عَلِيٍّ، فَنَهَاهُ سَعْدٌ، فَلَمْ يَنْتَهِ، فَدَعَا عَلَيْهِ، فَمَا بَرِحَ حَتَّى جَاءَ بَعِيْرٌ نَادٌّ، فَخَبَطَهُ حَتَّى مَاتَ.(1).
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّ أَرْوَى خَاصَمَتْهُ فِى بَعْضِ دَارِهِ فَقَالَ دَعُوهَا وَإِيَّاهَا فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ طُوِّقَهُ فِى سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا وَاجْعَلْ قَبْرَهَا فِى دَارِهَا. قَالَ فَرَأَيْتُهَا عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الْجُدُرَ تَقُولُ أَصَابَتْنِى دَعْوَةُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ. فَبَيْنَمَا هِىَ تَمْشِى فِى الدَّارِ مَرَّتْ عَلَى بِئْرٍ فِى الدَّارِ فَوَقَعَتْ فِيهَا فَكَانَتْ قَبْرَهَا.(2).
__________
(1) - مجابو الدعوة (21 ) وسير أعلام النبلاء (1/116) وقال عقبه : وَلِهَذِهِ الوَاقِعَةِ طُرُقٌ جَمَّةٌ، رَوَاهَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي (مُجَابِيّ الدَّعْوَةِ).
(2) - صحيح مسلم (4218 )(1/428)
و عن عبد الملك ابن أخت سهم بن منجاب قال : سمعت سهما يقول : غزونا مع العلاء بن الحضرمي دارين ، قال : فدعا بثلاث دعوات ، فاستجاب الله له فيهن كلهن قال : سرنا معه فنزلنا منزلا ، وطلبنا الوضوء فلم نقدر عليه فقام فصلى ركعتين ، ثم دعا الله فقال : « اللهم يا عليم يا حكيم ، يا علي يا عظيم ، إنا عبيدك ، وفي سبيلك نقاتل عدوك ، فاسقنا غيثا نشرب منه ونتوضأ من الأحداث ، وإذا تركناه فلا تجعل لأحد فيه نصيبا غيرنا قال : فما جاوزنا غير قليل ، فإذا نحن بنهر من ماء سماء يتدفق ، قال : فنزلنا فتروينا ، وملأت إداوتي ، ثم تركتها ، فقلت : لأنظرن هل استجيب له ؟ فسرنا ميلا أو نحوه ، فقلت لأصحابي : إني نسيت إداوتي فذهبت إلى ذلك المكان ، فكأنما لم يكن فيه ماء قط فأخذت إداوتي فجئت بها فلما أتينا دارين - وبيننا وبينهم البحر - فدعا أيضا فقال : اللهم يا عليم يا حليم ، يا علي يا عظيم ، إنا عبيدك ، وفي سبيلك نقاتل عدوك ، فاجعل لنا سبيلا إلى عدوك ثم اقتحم بنا البحر ، فوالله ما ابتلت سروجنا حتى خرجنا إليهم فلما رجعنا اشتكى البطن فمات ، فلم نجد ما نغسله به ، فكفناه في ثيابه ، ودفناه ، فلما سرنا غير بعيد إذا نحن بماء كثير فقال بعضنا لبعض : ارجعوا لنستخرجه فنغسله فرجعنا فطلبنا قبره ، فخفي علينا قبره ، فلم نقدر عليه ، فقال رجل من القوم : إني سمعته يدعو الله يقول : اللهم يا عليم يا حليم ، يا علي يا عظيم ، أخف جثتي ، ولا تطلع على عورتي أحدا فرجعنا وتركناه ».(1)
وشُكي إلى أنس بن مالك عطشُ أرضٍ له في البصرة ، فتوضأ وخرج إلى البرية ، وصلّى ركعتين ؛ ودعا فجاء المطرُ فسقى أرضه ، ولم يُجاوِزِ المطر أرضه إلا يسيراً(2).
__________
(1) - مجابو الدعوة (25 ) وهو حسن
(2) - أخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 7/15 ، وابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " ( 44 ) .(1/429)
وعن الحسن ، قال : أحرقت خصاص بالبصرة وبقي خص في وسطها لم يحترق ، وأمير البصرة يومئذ أبو موسى الأشعري ، فخبر بذلك ، فبعث إلى صاحب الخص ، فأتي به فإذا شيخ ، فقال : يا شيخ ، ما بال خصك لم يحترق ؟ فقال : إني أقسمت على ربي ألا يحرقه ، فقال أبو موسى : أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « يكون في أمتي رجال طلس رءوسهم ، دنس ثيابهم ، لو أقسموا على الله لأبرهم »(1).
وكان أبو مسلم الخولاني مشهوراً بإجابة الدعوة ، عن بلال بن كعب قال : « كانت الظباء تمر بأبي مسلم الخولاني ، فتقول له الصبيان : يا أبا مسلم ، ادع لنا ربك يحبس علينا هذا الظبي فيدعو الله عز وجل فيحبسه حتى يأخذوه بأيديهم »(2).
وعن عثمان بن عطاء قال : كان أبو مسلم الخولاني إذا دخل منزله سلم ، فإذا بلغ وسط الدار كبر ، وكبرت امرأته ، قال : فيدخل فينزع رداءه وحذاءه ، فتأتيه بطعامه فيأكل فجاء ذات ليلة فكبر فلم تجبه ، ثم أتى باب البيت فكبر وسلم فلم تجبه ، وإذا البيت ليس فيه سراج ، وإذا هي جالسة بيدها عود في الأرض تقلب به فقال لها : ما لك ؟ فقالت : الناس بخير ، وأنت أبو مسلم ، لو أنك أتيت معاوية فيأمر لنا بخادم ، ويعطيك شيئا نعيش به ؟ فقال : « اللهم من أفسد علي أهلي فأعم بصره قال : وكانت معها امرأة فقالت لها : أنت امرأة مسلم ، فلو كلمت زوجك يكلم معاوية ليخدمكم ويعطيكم قال : فبينا هذه المرأة في منزلها ، والسراج يزهر ، إذ أنكرت بصرها ، فقالت : سراجكم طفيء ؟ قالوا لا ، قالت : إنا لله ، ذهب بصري ، فأقبلت كما هي إلى أبي مسلم ، فلم تزل تناشده الله عز وجل وتطلب إليه قال : فدعا الله عز وجل ، فرد عليها بصرها ، ورجعت امرأته إلى حالها الذي كانت عليه »(3).
__________
(1) -الأولياء(42 ) وصفة الصفوة - (ج 1 / ص 400)
(2) - أخرجه : ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " ( 84 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 2/129 .
(3) - مجابو الدعوة (70 )(1/430)
وعن عبد الملك بن عمير قال : « كان أبو مسلم الخولاني إذا استسقى سقي »(1)
وعن سليمان بن المغيرة قال : « انتهى أبو مسلم الخولاني إلى دجلة وهي ترمي بالخشب من مدها ، فمشى على الماء ، ثم التفت إلى أصحابه ، فقال : هل تفقدون شيئا ؟ فتدعوا الله عز وجل »(2)
وعن عثمان بن أبي العاتكة قال : اشترى أبو مسلم نغلة ، فقالت أم مسلم : ادع الله تبارك وتعالى أن يبارك لنا فيها ، فقال : اللهم بارك لنا فيها فماتت فاشترى أخرى ، فقالت : ادع الله تبارك وتعالى أن يبارك لنا فيها فقال : قولي : اللهم متعنا بها ، فبقيت لهم(3).
وعن حميد بن هلال قال : كان بين مطرف وبين رجل من قومه شيء فكذب على مطرف فقال له مطرف : « إن كنت كاذبا فعجل الله حتفك قال : فمات الرجل مكانه قال : فاستعدى أهله زيادا على مطرف ، فقال لهم زياد : هل ضربه ؟ هل هدمه بيده ؟ فقالوا : لا ، فقال : دعوة رجل صالح ، وافقت دعوته قدرا ، فلم يجعل لهم شيئا »(4).
وعن عصام بن زيد - رجل من مزينة - قال : كان رجل من الخوارج يغشى مجلس الحسن فيؤذيهم ، فقيل للحسن : يا أبا سعيد ، ألا تكلم الأمير حتى يصرفه عنا ؟ قال : فسكت عنهم قال : فأقبل ذات يوم والحسن جالس مع أصحابه ، فلما رآه قال : « اللهم قد علمت أذاه لنا ، فاكفناه بما شئت قال : فخر الرجل والله من قامته ، فما حل إلى أهله إلا ميتا على سرير فكان الحسن إذا ذكره ، بكى ، وقال للناس : ما كان أغره بالله »(5).
__________
(1) - مجابو الدعوة (72)
(2) - مجابو الدعوة (71 )
(3) - مجابو الدعوة (73 )
(4) - مجابو الدعوة (74 )
(5) - مجابو الدعوة(78 )(1/431)
وعن حماد بن جعفر بن زيد العبدي ، عن أبيه قال : خرجنا غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم ، فلما دنونا من أرض العدو ، قال الأمير : لا يشذن من العسكر أحد فذهبت بغلة صلة بثقلها ، فأخذ يصلي فقيل : إن الناس قد ذهبوا فقال : إنما هما خفيفتان قال : فدعا ثم قال : اللهم إني أقسم عليك أن ترد علي بغلتي وثقلها قال : فجاءت حتى وقفت بين يديه.(1)
وعن أبي السليل ، حدثني صلة بن أشيم قال : « كنت أسير بهذه الأهواز ، إذ جعت جوعا شديدا ، فلم أجد أحدا يبيعني طعاما ، فجعلت أتحرج أن أصيب أحدا من أهل الطريق شيئا فبينا أنا أسير إذ دعوت ربي ، فاستطعمت ، فسمعت وجبة خلفي ، فإذا أنا بثوب أو منديل فيه دخلة ملأى رطبا ، فأخذته وركبت دابتي ، فأكلت حتى شبعت ، فأدركني المساء ، فنزلت إلى راهب في دير له ، فحدثته الحديث ، فاستطعمني من الرطب ، فأطعمته رطبات قال ثم إني مررت على ذلك الراهب بعد زمان فإذا نخلات حسان حمال ، فقال : إنهن من رطباتك التي أطعمتني وجاء بالثوب إلى أهله ، فكانت امرأته تريه الناس ».(2)
وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال : « خرج قوم غزاة ، وخرج معهم محمد بن المنكدر ، وكانت صائفة ، فبينا هم يسيرون في الساقة قال رجل من القوم : أشتهي جبنا رطبا فقال محمد بن المنكدر : استطعموه يطعمكم ، فإنه لقادر على كل شيء فدعا القوم فلم يسيروا إلا قليلا حتى وجدوا مكتلا مخيطا ، كأنما أتي به من الروحاء ، فإذا هو جبن فقال بعض القوم : لو كان عسلا ؟ فقال محمد : فإن الذي أطعمكم جبنا هاهنا قادر على أن يطعمكم عسلا ، فاستطعموا يطعمكم فدعا القوم ، فساروا قليلا ، فوجدوا قافزة عسل على الطريق ، فنزلوا فأكلوا وحمدوا ربهم وشكروا ».(3)
__________
(1) - مجابو الدعوة (41 )
(2) - مجابو الدعوة (42 )
الدوخلة :سفيفة من خوص يوضع فيها الطعام . انظر : الفائق 1/216 .
(3) - مجابو الدعوة (53 )= المكتل : الزنبيل أي السلة أو القفة الضخمة تصنع من الخوص(1/432)
وكان حبيبٌ العجميُّ أبو محمد معروفاً بإجابة الدعوة ؛ دعا لغلام أقرع الرأس ، وجعل يبكي ويمسح بدُموعه رأسَ الغلام ، فما قام حتَّى اسودَّ شعر رأسه ، وعاد كأحسن الناس شعراً(1).
وأُتي برجلٍ زمنٍ في مَحملٍ فدعا له ، فقام الرجلُ على رجليه ، فحمل مَحمِلَه على عنقه ، ورجع إلى عياله(2).
واشترى في مجاعةٍ طعاماً كثيراً ، فتصدَّقَ به على المساكين ، ثمَّ خاط أكيسَةً ، فوضعها تحتَ فراشه ، ثمَّ دعا الله ، فجاءه أصحابُ الطَّعام يطلبُونَ ثمنه ، فأخرج تلك الأكيسةَ ، فإذا هي مملوءةٌ دراهمَ ، فوزنها ، فإذا هي قدرُ حقوقهم ، فدفعها إليهم(3)
وكان رجلٌ يعبثُ به كثيراً ، فدعا عليه حبيبٌ فبَرَصَ(4).
وكان مرَّةً عند مالك بن دينار ، فجاءه رجلٌ ، فأغلظَ لمالكٍ مِنْ أجلِ دراهمَ قسمها مالك ، فلمَّا طال ذلك من أمره ، رفع حبيبٌ يده إلى السَّماء ، فقال : اللهمَّ إنَّ هذا قد شغلنا عن ذِكرِك ، فأَرِحْنا منه كيف شئتَ ، فسقط الرجل على وجهه ميتاً(5).
__________
(1) - أخرجه : ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " ( 96 ) .
(2) - أخرجه : ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " ( 97 ) .
(3) -أخرجه : ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " ( 99 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/150 .
(4) -أخرجه : ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " ( 124 ) .
(5) - أخرجه : ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " ( 95 ) .(1/433)
وعن الشعبي ، أن قوما من المهاجرين خرجوا متطوعين في سبيل الله ، فنفق حمار رجل منهم ، فأرادوه على أن ينطلق معهم ، فأبى فانطلق أصحابه مترجلين وتركوه فقام وتوضأ وصلى ، ثم رفع يديه ، فقال : اللهم إني خرجت مجاهدا في سبيلك ، وابتغاء مرضاتك ، وأشهد أنك تحيي الموتى ، وأنك تبعث من في القبور ، اللهم فأحيي لي حماري ثم قام إلى الحمار فضربه ، فقام الحمار ينفض أذنيه ، فأسرجه وألجمه ، ثم ركبه فأجراه حتى لحق بأصحابه فقالوا له : ما شأنك ؟ قال : إن الله تعالى بعث لي حماري قال إسماعيل : قال الشعبي : أنا رأيت هذا الحمار بيع أو يباع بالكناسة.(1)
وخرجت سريَّةٌ في سبيل الله ، فأصابهم بردٌ شديد حتّى كادوا أن يهلِكُوا ، فدعَوا الله - عز وجل - و عن أرطأة بن المنذر ، حدثني أبو المثنى المليكي ، أن سرية ، خرجت في سبيل الله عز وجل ، فأصابهم برد شديد كادوا أن يهلكوا قال : فدعوا الله وإلى جانبهم شجرة عظيمة ، فإذا هي تلتهب ، فقاموا إليها ، فما زالوا عندها حتى جففوا ثيابهم ودفئوا ، وطلعت عليهم الشمس ، ثم انصرفوا ، ورد الله عز وجل الشجرة على هيئتها(2).
وعن السدي بن يحيى ، خرج أبو قلابة حاجا ، فتقدم أصحابه في يوم صيف وهم صيام ، فأصابه عطش شديد ، فقال : « اللهم إنك قادر على أن تذهب عطشي من غير فطر فأطلعته سحابة فأمطرت عليه حتى بلت ثوبه ، وذهب العطش عنه »(3).
ومثلُ هذا كثيرٌ جداً ، ويطول استقصاؤُه . وأكثر من كان مجابَ الدعوة من السلف كان يَصبِرُ على البلاء ، ويختار ثوابه ، ولا يدعو لنفسه بالفرج منه . وقد رُوي أنَّ سعدَ بن أبي وقاص كان يدعو للناس لمعرفتهم له بإجابة دعوته ، فقيل له : لو دعوتَ الله لِبصرك ، وكان قد أضرَّ ، فقال : قضاءُ الله أحبُّ إليَّ من بصري .
__________
(1) - مجابو الدعوة (35 ) وإسناده صحيح
(2) - مجابو الدعوة (95 )
(3) - مجابو الدعوة (116 ) وفي " الأولياء " ، له ( 63 ) .(1/434)
وابتلي بعضُهم بالجُذام ، فقيل له : بلغنا أنَّك تَعرِفُ اسمَ الله الأعظم ، فلو سألته أنْ يَكشِفَ ما بك ؟ فقال : يا ابن أخي ، إنَّه هو الذي ابتلاني ، وأنا أكره أنْ أُرادَّه(1).
وقيل لإبراهيم التيمي - هو في سجن الحجاج - لو دعوتَ الله تعالى ، فقال : أكره أنْ أدعُوَهُ أنْ يُفرِّجَ عنِّي ما لي فيه أجر . وكذلك سعيدُ بنُ جبير صبر على أذى الحجاج حتّى قتله، وكان مجابَ الدعوة؛ كان له ديكٌ يقوم بالليل بصياحه للصلاة فلم يَصِحْ ليلةً في وقته، فلم يقم سعيدٌ للصلاة فشقَّ عليه فقال : ما له ؟ قطع الله صوتَه ، فما صاح الدِّيكُ بعد ذلك ، فقالت له أمه : يا بني لا تَدْعُ بعد هذا على شيءٍ(2).
وذُكر لرابعة رجلٌ له منْزلةٌ عند الله ، وهو يقتاتُ مما يلتقِطُه مِنَ المنبوذات على المزابل ، فقال رجل : ما ضرَّ هذا أنْ يدعو الله أنْ يُغنِيَه عن هذا ؟ فقالت رابعةُ : إنَّ أولياءَ الله إذا قضي الله لهم قضاءٌ لم يتسخَّطوه .
وعن خالد بن الفزر قال : كَانَ حَيْوَةُ بنُ شُرَيْحٍ مِنَ البَكَّائِينَ، وَكَانَ ضَيِّقَ الحَالِ جِدّاً -يَعْنِي: فَقِيْراً مِسْكِيْناً-.
فَجَلَستُ وَهُوَ مُتَخَلٍّ يَدْعُو، فَقُلْتُ: لَوْ دَعَوتَ اللهَ أَنْ يُوْسِعَ عَلَيْكَ؟!
فَالْتَفَتَ يَمِيْناً وَشِمَالاً، فَلَمْ يَرَ أَحَداً، فَأَخَذَ حَصَاةً، فَرَمَى بِهَا إِلَيَّ، فَإِذَا هِيَ تِبرَةٌ فِي كَفِّي، وَاللهِ مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ مِنْهَا، وَقَالَ: مَا خَيْرٌ فِي الدُّنْيَا إِلاَّ لِلآخِرَةِ.ثُمَّ قَالَ: هُوَ أَعْلَمُ بِمَا يُصلِحُ عِبَادَه.فَقُلْتُ: مَا أَصْنَعُ بِهَذِهِ؟ قَالَ: اسْتَنْفِقْهَا. فَهِبْتُهُ -وَاللهِ- أَنْ أَرُدَّهَا. ».(3)
-----------
__________
(1) - انظر : الأولياء لابن أبي الدنيا : 25 .
(2) - أخرجه : ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " ( 122 ) .
(3) - مجابو الدعوة (107 ) و سير أعلام النبلاء (6/406)(1/435)
وقال الشيخ صالح بن عثيمين رحمه الله(1):
" ولئن سألني لأعطينه هذه من ثمرات النوافل ومحبة الله عز وجل أنه إذا سأل الله أعطاه ولئن استعاذني يعني استجار بي مما يخاف من شره لأعيذنه فهذه من علامة محبة الله أن يسدد الإنسان في أقواله وأفعاله فإذا سدد دل ذلك على أن الله يحبه :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) } [الأحزاب/70-72]"
قال ابن رجب رحمه الله :
وربما دعا المؤمنُ المجابُ الدعوة بما يعلم الله الخِيَرةَ له في غيره ، فلا يُجيبه إلى سؤاله ، ويُعوِّضه عنه ما هو خيرٌ له إما في الدنيا أو في الآخرة . وقد تقدم في حديث أنس المرفوع : (( إنَّ الله يقول : إنَّ من عبادي من يسألني باباً من العبادة ، فأكفه عنه كيلا يَدخُلَه العُجْبُ ))(2).
وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَوْ جَاءَ أَحَدُكُمْ يَسْأَلُهُ دِينَارًا لَمْ يُعْطِهِ ، وَلَوْ سَأَلَهُ دِرْهَمًا لَمْ يُعْطِهِ ، وَلَوْ سَأَلَهُ فِلْسًا لَمْ يُعْطِهِ ، وَلَوْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ أَعْطَاهُ إِيَّاهَا ، ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ "(3).
__________
(1) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 3 / ص 18)
(2) - أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الأولياء " ( 1 ) ، وانظر : مجمع الزوائد 10/264 . وفيه ضعف
(3) - الطبراني في " الأوسط " ( 7548 ) ومجمع الزوائد ( 17920 ) وانظر : الترغيب والترهيب ( 4692)حديث حسن(1/436)
وعن سالم بن أبي الجعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن من أمتي من لو أتى باب أحدكم فسأله دينارا لم يعطه إياه ، ولو سأله درهما لم يعطه إياه ، ولو سأله فلسا لم يعطه إياه ، ولو سأل الله الجنة لأعطاها إياه ، ولو سأله الدنيا لم يعطها إياه ، وما يمنعها إياه لهوانه عليه ؛ ذو طمرين ، لا يؤبه له ، لو يقسم على الله عز وجل لأبره »(1).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله(2):
"وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ بِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْعُبَّادِ وَالصُّلَحَاءِ دَعَوْا وَبَالَغُوا وَلَمْ يُجَابُوا
وَالْجَوَاب أَنَّ الْإِجَابَةَ تَتَنَوَّعُ : فَتَارَةً يَقَع الْمَطْلُوبُ بِعَيْنِهِ عَلَى الْفَوْرِ ، وَتَارَةً يَقَعُ وَلَكِنْ يَتَأَخَّرُ لِحِكْمَةٍ فِيهِ ، وَتَارَة قَدْ تَقَع الْإِجَابَة وَلَكِنْ بِغَيْرِ عَيْنِ الْمَطْلُوبِ حَيْثُ لَا يَكُون فِي الْمَطْلُوب مَصْلَحَةٌ نَاجِزَةٌ وَفِي الْوَاقِع مَصْلَحَة نَاجِزَة أَوْ أَصْلَحُ مِنْهَا .
__________
(1) - الزهد لأحمد بن حنبل 18(67 ) والزهد لهناد بن السري (582)والإتحاف 8/225 و236 والمجمع 10/264 و274 والترغيب 4/152 والمطالب (3213)صحيح لغيره
(2) - فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 342)(1/437)
وَفِي الْحَدِيث عِظَمُ قَدْر الصَّلَاة فَإِنَّهُ يَنْشَأ عَنْهَا مَحَبَّة اللَّه لِلْعَبْدِ الَّذِي يَتَقَرَّبُ بِهَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْمُنَاجَاةِ وَالْقُرْبَةِ ، وَلَا وَاسِطَةَ فِيهَا بَيْن الْعَبْد وَرَبِّهِ ، وَلَا شَيْء أَقَرَّ لَعَيْنِ الْعَبْدِ مِنْهَا وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيث أَنَس الْمَرْفُوع " وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاة " أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْره بِسَنَدٍ صَحِيحٍ(1)، وَمَنْ كَانَتْ قُرَّةُ عَيْنه فِي شَيْء فَإِنَّهُ يَوَدُّ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ وَلَا يَخْرُجَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَعِيمَهُ وَبِهِ تَطِيبُ حَيَاتُهُ ، وَإِنَّمَا يَحْصُل ذَلِكَ لِلْعَابِدِ بِالْمُصَابَرَةِ عَلَى النَّصَب ، فَإِنَّ السَّالِك غَرَضُ الْآفَات وَالْفُتُورِ .
وَفِي حَدِيث حُذَيْفَة مِنْ الزِّيَادَة " وَيَكُون مِنْ أَوْلِيَائِي وَأَصْفِيَائِي ، وَيَكُون جَارِي مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء فِي الْجَنَّة "(2)وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيث بَعْضُ الْجَهَلَة مِنْ أَهْلِ التَّجَلِّي وَالرِّيَاضَة فَقَالُوا : الْقَلْبُ إِذَا كَانَ مَحْفُوظًا مَعَ اللَّهِ كَانَتْ خَوَاطِرُهُ مَعْصُومَةً مِنْ الْخَطَأِ .
وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ أَهْل الطَّرِيق فَقَالُوا : لَا يُلْتَفَتُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ، وَالْعِصْمَةُ إِنَّمَا هِيَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَمَنْ عَدَاهُمْ فَقَدْ يُخْطِئُ ، فَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ رَأْسَ الْمُلْهَمِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ رُبَّمَا رَأَى الرَّأْيَ فَيُخْبِرُهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِهِ فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ وَيَتْرُك رَأْيه .
__________
(1) - سنن النسائى (3957 ) صحيح
(2) - أخرجه أبو نعيم فى الحلية (6/116) وقال : غريب . وابن عساكر (65/44) .(1/438)
فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِمَا يَقَع فِي خَاطِرِهِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَقَدِ اِرْتَكَبَ أَعْظَم الْخَطَإِ ، وَأَمَّا مَنْ بَالَغَ مِنْهُمْ فَقَالَ : حَدَّثَنِي قَلْبِي عَنْ رَبِّي فَإِنَّهُ أَشَدّ خَطَأ فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُون قَلْبه إِنَّمَا حَدَّثَهُ عَنْ الشَّيْطَانِ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .(1)
__________
(1) - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وَكَانَ غَيْرَ هَذَا مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ يَذْكُرُ عَنْ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكْرَانِ أَنَّ " هُولَاكُو " مَلِكَ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا دَخَلَ بَغْدَادَ رَأَى ابْنَ السَّكْرَانِ شَيْخًا مَحْلُوقَ الرَّأْسِ عَلَى صُورَةِ شَيْخٍ مِنْ مَشَايِخِ الدِّينِ وَالطَّرِيقِ آخِذًا بِفَرَسِ هُولَاكُو قَالَ : فَلَمَّا رَأَيْته أَنْكَرْت هَذَا وَاسْتَعْظَمْت أَنْ يَكُونَ شَيْخٌ مِنْ شُيُوخِ الْمُسْلِمِينَ يَقُودُ فَرَسَ مَلِكِ الْمُشْرِكِينَ لِقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ فَقُلْت : يَا هَذَا أَوْ كَلِمَةٌ نَحْوُ هَذَا فَقَالَ تَأْمُرُ بِأَمْرِ أَوْ قَالَ لَهُ : هَلْ يَفْعَلُ هَذَا بِأَمْرِ أَوْ فَعَلْت هَذَا بِأَمْرِ ؟ فَقُلْت : نَعَمْ بِأَمْرِ فَسَكَتَ ابْنُ السَّكْرَانِ وَأَقْنَعَهُ هَذَا الْجَوَابُ وَكَانَ هَذَا لِقِلَّةِ عِلْمِهِ بِالْفُرْقَانِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَظَنَّ أَنَّ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الشُّيُوخُ فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ مِنْ اللَّهِ وَأَنَّ مَنْ قَالَ : حَدَّثَنِي قَلْبِي عَنْ رَبِّي فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ يُنَاجِيهِ وَمَنْ قَالَ : أَخَذْتُمْ عِلْمَكُمْ مَيِّتًا عَنْ مَيِّتٍ وَأَخَذْنَا عِلْمَنَا عَنْ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ هُوَ كَذَلِكَ وَهَذَا أَضَلُّ مِمَّنْ ادَّعَى الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى وَاسِطَتِهِمْ . وَجَوَابُ هَذَا أَنْ يُقَالَ لَهُ : بِأَمْرِ مَنْ تَأْمُرُ ؟ فَإِنْ قَالَ : بِأَمْرِ اللَّهِ قِيلَ : بِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ الْقُرْآنَ أَمْ بِأَمْرِ وَقَعَ فِي قَلْبِك ؟ فَإِنْ قَالَ : بِالْأَوَّلِ ظَهَرَ كَذِبُهُ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيمَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ لِقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ لِأَجْلِ ذُنُوبٍ فَعَلُوهَا وَيَجْعَلَ الدَّارَ تُعْبَدُ بِهَا الْأَوْثَانُ وَيُضْرَبُ فِيهَا بِالنَّوَاقِيسِ وَيُقْتَلُ قُرَّاءُ الْقُرْآنِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالشَّرْعِ وَيُعَظَّمُ النجسية عُلَمَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَقَسَاوِسَةُ النَّصَارَى وَأَمْثَالُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ عَدَاوَةً لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ مِنْ جِنْسِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَأُولَئِكَ عُصَاةٌ مِنْ عُصَاةِ أُمَّتِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُنَافِقُونَ كَثِيرُونَ فَالْمُنَافِقُونَ يُبْطِنُونَ نِفَاقَهُمْ . وَإِنْ قَالَ : بِأَمْرِ وَقَعَ فِي قَلْبِي لَمْ يَكْذِبْ لَكِنْ يُقَالُ مِنْ أَيْنَ لَك أَنَّ هَذَا رَحْمَانِيٌّ وَلِمَ لَا يَكُونُ الشَّيْطَانُ هُوَ الَّذِي أَمَرَك بِهَذَا ؟ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنْ رَجَعَ إلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَنَّ الْجَمِيعَ بِمَشِيئَتِهِ قِيلَ لَهُ : فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَا يَفْعَلُهُ الشَّيْطَانُ وَالْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ هُوَ بِالْأَمْرِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ بِالْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ فَجَمِيعُ الْخَلْقِ دَاخِلُونَ تَحْتَهُ ؛ لَكِنْ مَنْ فَعَلَ بِمُجَرَّدِ هَذَا الْأَمْرِ لَا بِأَمْرِ الرَّسُولِ فَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَهُوَ مُسْتَوْجِبٌ لِعَذَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ عَابِدٌ لِغَيْرِ اللَّهِ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ وَهُوَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وَمِمَّنْ قَالَ فِيهِمْ الشَّيْطَانُ : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } قَالَ اللَّهُ : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَكَيْفَ تَأْمُرُ بِالشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَتُسَلِّطُ الْكُفَّارَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَتْلُ الْكُفَّارِ لِلْمُسْلِمِينَ هَذَا لَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ كَمَا لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَفْحَشِ الْفَوَاحِشِ إذَا جُعِلَتْ الْفَاحِشَةُ اسْمًا لِكُلِّ مَا يَعْظُمُ قُبْحُهُ فَكَانَتْ جَمِيعُ الْقَبَائِحِ السَّيِّئَةِ دَاخِلَةً فِي الْفَحْشَاءِ . وَكَانَ أَيْضًا بِالشَّامِ بَعْضُ أَكَابِرِ الشُّيُوخِ بِبَعْلَبَكَّ - الشَّيْخُ عُثْمَانُ شَيْخُ دَيْرِ نَاعِسٍ - يَأْتِيهِ خَفِيرُ الفرنج النَّصَارَى رَاكِبًا أَسَدًا وَيَخْلُو بِهِ وَيُنَاجِيهِ وَيَقُولُ : يَا شَيْخُ عُثْمَانُ وُكِّلْت بِحِفْظِ خَنَازِيرِهِمْ فَيَعْذُرُهُ عُثْمَانُ وَأَتْبَاعُهُ فِي ذَلِكَ وَيَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِهَذَا كَمَا أَمَرَ الْخَضِرَ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَ كَمَا عَذَرَ ابْنُ السَّكْرَانِ وَأَمْثَالُهُ خُفَرَاءَ الْمُشْرِكِينَ التَّتَارِ . وَالْجَوَابُ لِهَذَا كَالْجَوَابِ لِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ : وَكَّلَك اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا ؟
الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الدِّينَ أَمَرَ أَنْ يُوَالِيَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ لَا يَتَّخِذَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ؛ بَلْ أَمَرَك أَنْ تُبْغِضَهُمْ وَتُجَاهِدَهُمْ بِمَا اسْتَطَعْت هُوَ أَمَرَك أَنْ تَتَوَكَّلَ بِحِفْظِ خَنَازِيرِهِمْ فَإِنْ قَالَ : هَذَا ظَهَرَ كَذِبُهُ وَإِنْ قَالَ : بَلْ هُوَ أَمْرٌ أُلْقِيَ فِي قَلْبِي لَمْ يَكْذِبْ وَقِيلَ لَهُ : فَهَذَا مِنْ أَمْرِ الشَّيْطَانِ لَا مِنْ أَمْرِ الرَّحْمَنِ الَّذِي أَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ ؛ وَلَكِنَّهُ مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي كَوَّنَهُ وَقَدَّرَهُ كَشِرْكِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا } . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ الرِّجَالَ الَّذِينَ يُؤَيَّدُ بِهِمْ الْكُفَّارُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ هُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ كَالْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلَةِ بِبَنِي آدَمَ الْمُعَقِّبَاتِ . فَقُلْت لِشَيْخِ كَانَ مِنْ شُيُوخِهِمْ : مُحَمَّدٌ أُرْسِلَ إلَى الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَلَمْ يُرْسَلْ إلَى الْمَلَائِكَةِ فَكُلُّ إنْسِيٍّ أَوْ جِنِّيٍّ خَرَجَ عَنْ الْإِيمَانِ بِهِ فَهُوَ عَدُوٌّ لِلَّهِ لَا وَلِيٌّ لِلَّهِ ؛ بِخِلَافِ الْمَلَائِكَةِ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : الْمَلَائِكَةُ لَا يُعَاوِنُونَ الْكُفَّارَ عَلَى الْمَعَاصِي وَلَا عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنَّمَا يُعَاوِنُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الشَّيَاطِينُ ؛ وَلَكِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ تَكُونُ مُوَكَّلَةً بِخَلْقِهِمْ وَرِزْقِهِمْ وَكِتَابَةِ أَعْمَالِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَعْصِيَةِ فَهَذَا الْجَوَابُ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ .مجموع الفتاوى - (ج 13 / ص 218)
وقارن بالفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي - (ج 1 / ص 751) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 12 / ص 327) و08.074 الإلهام - بركات - (ج 1 / ص 3) و فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 12 / ص 120)(1/439)
قَالَ الطُّوفِيُّ : هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي السُّلُوكِ إِلَى اللَّه وَالْوُصُول إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَرِيقِهِ ، إِذِ الْمُفْتَرَضَاتُ الْبَاطِنَةُ وَهِيَ الْإِيمَان وَالظَّاهِرَة وَهِيَ الْإِسْلَام وَالْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا وَهُوَ الْإِحْسَانُ فِيهِمَا كَمَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ جِبْرِيل ، وَالْإِحْسَان يَتَضَمَّنُ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ مِنْ الزُّهْد وَالْإِخْلَاص وَالْمُرَاقَبَة وَغَيْرهَا ، وَفِي الْحَدِيث أَيْضًا أَنَّ مَنْ أَتَى بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَتَقَرَّبَ بِالنَّوَافِلِ لَمْ يُرَدَّ دُعَاؤُهُ لِوُجُودِ هَذَا الْوَعْد الصَّادِق الْمُؤَكَّد بِالْقَسَمِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَاب عَمَّا يَتَخَلَّفُ مِنْ ذَلِكَ ، وَفِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ وَلَوْ بَلَغَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ حَتَّى يَكُونَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ الطَّلَبِ مِنَ اللَّهِ لِمَا فِيهِ مِنِ الْخُضُوعِ لَهُ وَإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذَا وَاضِحًا فِي أَوَائِل كِتَاب الدَّعَوَات ."
=================
المبحثُ الثاني عشر
هل يترددُ اللهُ تعالى بقبضِ روحِ أوليائهِ ؟
وقوله : (( وما ترددتُ عن شيءٍ أنا فاعلُه تردُّدي عن قبضِ نفس عبدي المؤمن : يكرهُ الموتَ ، وأكره مساءته )) .
" قَالَ الْخَطَّابِيُّ : التَّرَدُّدُ فِي حَقِّ اللَّهِ غَيْرُ جَائِزٍ ، وَالْبَدَاءُ عَلَيْهِ فِي الْأُمُورِ غَيْرُ سَائِغٍ .
وَلَكِنْ لَهُ تَأْوِيلَانِ :(1/440)
أَحَدهمَا أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يُشْرِفُ عَلَى الْهَلَاكِ فِي أَيَّامِ عُمُرِهِ مِنْ دَاءٍ يُصِيبُهُ وَفَاقَةٍ تَنْزِلُ بِهِ فَيَدْعُو اللَّه فَيَشْفِيهِ مِنْهَا وَيَدْفَع عَنْهُ مَكْرُوهَهَا ، فَيَكُون ذَلِكَ مِنْ فِعْله كَتَرَدُّدِ مَنْ يُرِيدُ أَمْرًا ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فِيهِ فَيَتْرُكُهُ وَيُعْرِضُ عَنْهُ وَلَا بُدّ لَهُ مِنْ لِقَائِهِ إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ، لِأَنَّ اللَّه قَدْ كَتَبَ الْفَنَاءَ عَلَى خَلْقِهِ وَاسْتَأْثَرَ بِالْبَقَاءِ لِنَفْسِهِ . وَالثَّانِي أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ مَا رَدَدْتُ رُسُلِي فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ كَتَرْدِيدِي إِيَّاهُمْ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ ، كَمَا رَوَى فِي قِصَّةِ مُوسَى وَمَا كَانَ مِنْ لَطْمَةِ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ وَتَرَدُّدِهِ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْد أُخْرَى(1)،
__________
(1) - عن أبي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ لَهُ أَجِبْ رَبَّكَ - قَالَ - فَلَطَمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا - قَالَ - فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ إِنَّكَ أَرْسَلْتَنِى إِلَى عَبْدٍ لَكَ لاَ يُرِيدُ الْمَوْتَ وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِى - قَالَ - فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ ارْجِعْ إِلَى عَبْدِى فَقُلِ الْحَيَاةَ تُرِيدُ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَمَا تَوَارَتْ يَدُكَ مِنْ شَعْرَةٍ فَإِنَّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنَةً قَالَ ثُمَّ مَهْ قَالَ ثُمَّ تَمُوتُ. قَالَ فَالآنَ مِنْ قَرِيبٍ رَبِّ أَمِتْنِى مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ..قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَاللَّهِ لَوْ أَنِّى عِنْدَهُ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ ».صحيح مسلم (6298 )(1/441)
قَالَ : وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ عَطْفُ اللَّه عَلَى الْعَبْدِ وَلُطْفُهُ بِهِ وَشَفَقَتُهُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الْكَلَابَاذِيّ مَا حَاصِله : أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ صِفَة الْفِعْل بِصِفَةِ الذَّات ، أَيْ عَنْ التَّرْدِيد بِالتَّرَدُّدِ ، وَجَعَلَ مُتَعَلَّقَ التَّرْدِيدِ اِخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْعَبْدِ مِنْ ضَعْف وَنَصَبٍ إِلَى أَنْ تَنْتَقِلَ مَحَبَّتُهُ فِي الْحَيَاةِ إِلَى مَحَبَّتِهِ لِلْمَوْتِ فَيُقْبَضُ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ : وَقَدْ يُحْدِثُ اللَّهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ مِنَ الرَّغْبَة فِيمَا عِنْده وَالشَّوْق إِلَيْهِ وَالْمَحَبَّة لِلِقَائِهِ مَا يَشْتَاق مَعَهُ إِلَى الْمَوْت فَضْلًا عَنْ إِزَالَة الْكَرَاهَة عَنْهُ ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَيَسُوءُهُ ، وَيَكْرَهُ اللَّهُ مُسَاءَتَهُ فَيُزِيلُ عَنْهُ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ لِمَا يُورِدُهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْوَال فَيَأْتِيه الْمَوْت وَهُوَ لَهُ مُؤْثِرٌ وَإِلَيْهِ مُشْتَاق . قَالَ : وَقَدْ وَرَدَ تَفَعَّلَ بِمَعْنَى فَعَلَ مِثْل تَفَكَّرَ وَفَكَّرَ وَتَدَبَّرَ وَدَبَّرَ وَتَهَدَّدَ وَهَدَّدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1/442)
وَعَنْ بَعْضهمْ : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون تَرْكِيب الْوَلِيّ يَحْتَمِل أَنْ يَعِيش خَمْسِينَ سَنَةً وَعُمُرُهُ الَّذِي كُتِبَ لَهُ سَبْعُونَ فَإِذَا بَلَغَهَا فَمَرِضَ دَعَا اللَّه بِالْعَافِيَةِ فَيُحْيِيهِ عِشْرِينَ أُخْرَى مَثَلًا ، فَعَبَّرَ عَنْ قَدْر التَّرْكِيبِ وَعَمًّا اِنْتَهَى إِلَيْهِ بِحَسَبِ الْأَجَلِ الْمَكْتُوبِ بِالتَّرَدُّدِ ، وَعَبَّرَ اِبْن الْجَوْزِيِّ عَنِ الثَّانِي بِأَنَّ التَّرَدُّدَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَ الرُّوحَ وَأَضَافَ الْحَقّ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ تَرَدُّدَهُمْ عَنْ أَمْرِهِ ، قَالَ : وَهَذَا التَّرَدُّدُ يَنْشَأُ عَنْ إِظْهَارِ الْكَرَاهَةِ .
فَإِنْ قِيلَ إِذَا أُمِرَ الْمَلَكُ بِالْقَبْضِ كَيْفَ يَقَعُ مِنْهُ التَّرَدُّدُ ؟
فَالْجَوَاب أَنَّهُ يَتَرَدَّدُ فِيمَا يُحَدُّ لَهُ فِيهِ الْوَقْتُ . كَأَنْ يُقَالَ لَا تَقْبِضْ رُوحَهُ إِلَّا إِذَا رَضِيَ .
ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابًا ثَالِثًا وَهُوَ اِحْتِمَال أَنْ يَكُون مَعْنَى التَّرَدُّد اللُّطْف بِهِ كَأَنَّ الْمَلَك يُؤَخِّر الْقَبْض ، فَإِنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَى قَدْرِ الْمُؤْمِنِ وَعِظَم الْمَنْفَعَةِ بِهِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا اِحْتَرَمَهُ فَلَمْ يَبْسُطْ يَدَهُ إِلَيْهِ ، فَإِذَا ذَكَرَ أَمْرَ رَبِّهِ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنِ اِمْتِثَالِهِ .(1/443)
وَجَوَابًا رَابِعًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا لَنَا بِمَا نَعْقِلُ وَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ " وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً " فَكَمَا أَنَّ أَحَدَنَا يُرِيدُ أَنْ يَضْرِب وَلَده تَأْدِيبًا فَتَمْنَعُهُ الْمَحَبَّةُ وَتَبْعَثُهُ الشَّفَقَةُ فَيَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ الْوَالِدِ كَالْمُعَلَّمِ لَمْ يَتَرَدَّدْ، بَلْ كَانَ يُبَادِرُ إِلَى ضَرْبِهِ لِتَأْدِيبِهِ فَأُرِيدَ تَفْهِيمُنَا تَحْقِيق الْمَحَبَّة لِلْوَلِيِّ بِذِكْرِ التَّرَدُّد.
وَجَوَّزَ الْكَرْمَانِيُّ اِحْتِمَالًا آخَر وَهُوَ أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُ يَقْبِض رُوح الْمُؤْمِن بِالتَّأَنِّي وَالتَّدْرِيجِ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ كُنْ سَرِيعًا دَفْعَةً ."(1)
وقال المناوي رحمه الله :
" (وما تردّدت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن) أي ما أخرت وما توفقت توقف المتردد في أمر أنا فاعله إلا في قبض نفس عبدي المؤمن، أتوقفُ عليه حتى يسهل عليه ويميل قلبه إليه شوقاً إلى انخراطه في سلك المقربين والتبوىء في أعلا عليين، أو أراد بلفظ التردد إزالة كراهة الموت عن المؤمن بما يبتلي به من نحو مرض وفقر، فأخذه المؤمن عما تشبث به من حبِّ الحياة شيئاً فشيئاً بالأسباب المذكورة يشبه فعل المتردد فعبر به عنه "(2)
وقال ابن رجب رحمه الله :
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 342)
(2) - فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 4 / ص 336)(1/444)
" المرادُ بهذا أنَّ الله تعالى قضى على عباده بالموت ، كما قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } (آل عمران : 185) ، والموتُ : هو مفارقةُ الروح للجسد ، ولا يحصلُ ذلك إلا بألمٍ عظيمٍ جداً ، وهو أعظمُ الآلام التي تُصيب العبد في الدُّنيا ، قال عمر لِكعبٍ : أخبرني عن الموت ، قال يا أميرَ المؤمنين ، هو مثلُ شجرةٍ كثيرةِ الشَّوك في جوف ابنِ آدم ، فليس منه عِرقٌ ولا مَفْصِل إلا ورجل شديد الذراعين ، فهو يعالجها ينْزعها ، فبكى عمر(1).
ولما احتضر عمرو بنُ العاص سأله ابنُه عن صفة الموت ، فقال : " كَأَنِّي أَتَنَفَّس مِنْ خُرْم إِبْرَة ، وَكَأَنَّ غُصْن شَوْك يَجُرُّ بِهِ مِنْ قَامَتِي إِلَى هَامَتِي "(2).
وقيل لرجل عندَ الموت : كيف تجدُك ؟ فقال : أجدني أُجتذب اجتذاباً ، وكأنَّ الخناجرَ مختلفة في جوفي ، وكأنَّ جوفي تنُّور محمىًّ يلتهِبُ توقداً .
وقيل لآخر : كيف تَجِدُكَ ؟ قال : أجدني كأنَّ السماوات منطبقةٌ على الأرض عليَّ ، وأجد نفسي كأنَّها تخرجُ من ثقب إبرة .
فلما كان الموت بهذه الشِّدَّةِ ، والله تعالى قد حتمه على عباده كلِّهم ، ولابدَّ لهم منه ، وهو تعالى يكرهُ أذى المؤمن ومساءته ، سمَّى تردُّداً في حقِّ المؤمن ، فأمَّا الأنبياءُ عليهم السلام ، فلا يُقبضون حتَّى يُخيَّروا(3).
قال الحسن : لمّا كرهت الأنبياءُ الموتَ ، هوَّن الله عليهم بلقاء الله ، وبكلِّ ما أحبوا من تحفةٍ أو كرامة حتّى إنَّ نَفْسَ أحدهم تُنْزَعُ من بين جنبيه وهو يُحِبُّ ذلك لما قد مُثِّلَ له .
__________
(1) - أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/365 ، وانظر : فتح الباري 11/421 وفيه انقطاع
(2) - أخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 4/196 ، وانظر : فتح الباري 11/421 .
(3) - انظر : فتح الباري 11/421 .(1/445)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا أَغْبِطُ أَحَدًا بِهَوْنِ مَوْتٍ بَعْدَ الَّذِى رَأَيْتُ مِنْ شِدَّةِ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.(1)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَمُوتُ ، وَعَندَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ فَيُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْقَدَحِ ، وَيَمْسَحُ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ ، ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُمَّ أَعَني عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ.(2)
__________
(1) - سنن الترمذى (995 ) صحيح
أغبط : الغبطة أن يرى المغبوط فى حال حسنة فيتمناها دون زوالها عن المغبوط
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (235) - (ج 10 / ص 258)(29945)و أحمد 6/64 و70 و77 و151 ، وابن ماجه ( 1623 ) ، والترمذي ( 978 ) وفي " الشمائل " ، له ( 387 ) . وهو صحيح(1/446)
وعَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِى ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَىَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تُوُفِّىَ فِى بَيْتِى وَفِى يَوْمِى ، وَبَيْنَ سَحْرِى وَنَحْرِى ، وَأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِى وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ ، دَخَلَ عَلَىَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبِيَدِهِ السِّوَاكُ وَأَنَا مُسْنِدَةٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ ، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ فَقُلْتُ آخُذُهُ لَكَ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ ، فَتَنَاوَلْتُهُ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ وَقُلْتُ أُلَيِّنُهُ لَكَ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ ، فَلَيَّنْتُهُ ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ - أَوْ عُلْبَةٌ يَشُكُّ عُمَرُ - فِيهَا مَاءٌ ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِى الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ يَقُولُ « لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ » . ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ « فِى الرَّفِيقِ الأَعْلَى » . حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (4449 )(1/447)
وقد كان بعضُ السَّلف يَستَحِبُّ أنْ يُجْهَدَ عند الموت ، كماقدْ قَالَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز : مَا أُحِبُّ أَنْ يُهَوَّن عَلَيَّ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ إِنَّهُ لَآخِرُ مَا يُكَفَّر بِهِ عَنْ الْمُؤْمِنِ . وَمَعَ ذَلِكَ فَاَلَّذِي يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْبُشْرَى وَمَسَرَّة الْمَلَائِكَةِ بِلِقَائِهِ وَرِفْقِهِمْ بِهِ وَفَرَحِهِ بِلِقَاءِ رَبِّهِ يُهَوِّن عَلَيْهِ كُلَّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ أَلَمِ الْمَوْتِ حَتَّى يَصِير كَأَنَّهُ لَا يُحِسُّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .(1). وقال النَّخعي : كانوا يستحبون أنْ يجهدوا عند الموت(2)
وكان بعضهم يخشى من تشديد الموت أنْ يُفتن ، وإذا أراد الله أنْ يهوِّن على العبد الموت هوَّنه عليه . وفي وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ » . قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ . قَالَ « لَيْسَ ذَاكَ ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ ، فَلَيْسَ شَىْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ ، فَلَيْسَ شَىْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ »(3)..
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 342) و وانظر أحمد في " الزهد " ( 1718 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/317 .
(2) - أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 4/232 بنحوه .
(3) - صحيح البخارى (6507 )(1/448)
قال ابنُ مسعود رضي الله عنه : (( إذا جاء ملكُ الموت يَقبِضُ روحَ المؤمن ، قال له : إنَّ ربَّكَ يُقرِئُكَ السَّلام ))(1).
وعن اِبْن وَهْبٍ , قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْر , أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ يَقُول : إِذَا اِسْتَنْقَعَتْ نَفْس الْعَبْد الْمُؤْمِن جَاءَهُ مَلَك فَقَالَ : السَّلَام عَلَيْك وَلِيّ اللَّه , اللَّه يَقْرَأ عَلَيْك السَّلَام .ثُمَّ نَزَعَ بِهَذِهِ الْآيَة : {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (32) سورة النحل.(2).
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ : إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَضَنُّ بِدَمِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِكَرِيمَةِ مَالِهِ ، حَتَّى يَقْبِضَهُ عَلَى فِرَاشِهِ.(3).
وقال ثابت البناني : إنَّ لله عباداً يُضَنُّ بهم في الدنيا عن القتل والأوجاع ، يُطيلُ أعمارهم ، ويُحسِنُ أرزاقَهم ، ويُميتهم على فُرشهم ، ويطبعُهم بطابع الشهداء(4).
__________
(1) - انظر : تفسير القرطبي 10/102 .
(2) - تفسير الطبري - (ج 16 / ص 249)(16295 ) و شعب الإيمان للبيهقي (431) والعظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (427) وحلية الأولياء - (ج 1 / ص 491) وحلية الأولياء - (ج 4 / ص 306) والزهد والرقائق لابن المبارك (436)صحيح مرسل
(3) - مسند البزار(2442)و مجمع الزوائد ( 268 ) وفيه لين
(4) - أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الأولياء " ( 5 ) ومعجم ابن الأعرابي (1360)(1/449)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ , عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ:إِنَّ لِلَّهِ ضَنَائِنَ مِنْ خَلْقِهِ يُحْيِيهِمْ فِي عَافِيَةٍ , وَإِذَا تَوَفَّاهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَمُرُّ عَلَيْهِمُ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ , وَهُمْ فِيهَا مِنْهُ فِي عَافِيَةٍ.(1).
وعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، يَقُولُ : مَوْتُ الْفُجَاءَةِ تَخْفِيفٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ ، وَأَخْذَةُ أَسَفٍ عَلَى الْكُفَّارِ .(2)
وكان أبو ثعلبة الخشني يقول : إني لأرجو أنْ لا يخنقني الله كما أراكم تُخنَقون عند الموت(3)، وكان ليلة في داره ، فسمعوه ينادي : يا عبدَ الرحمان ، وكان عبدُ الرحمان قد قُتل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم أتى مسجدَ بيته ، فصلى فقُبِض وهو ساجد(4).
وقُبِضَ جماعة من السَّلف في الصلاة وهم سجود . وكان بعضهم يقول لأصحابه : إنِّي لا أموت موتَكم ، ولكن أُدعى فأجيب ، فكان يوماً قاعداً مع أصحابه ، فقال : لبَّيك ثم خَرَّ ميتاً .
وكان بعضهم جالساً مع أصحابه فسمِعوا صوتاً يقول : يا فلان أجِبْ ، فهذه والله آخرُ ساعاتِك مِنَ الدُّنيا ، فوثب وقال : هذا والله حادي الموت ، فودَّع أصحابه ، وسلَّم عليهم ، ثمَّ انطلق نحو الصوت ، وهو يقول : سلامٌ على المرسلين ، والحمد لله ربِّ العالمين ، ثم انقطع عنهم الصوتُ ، فتتبَّعوا أثره ، فوجدوه ميتاً .
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني (13244 ) وفيه لين
(2) - مصنف عبد الرزاق مشكل (6782) والمعجم الكبير للطبراني (8774 ) ومسند إسحاق بن راهويه(1067)حسن لغيره
(3) - الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم(2316 )الإصابة في معرفة الصحابة - (ج 3 / ص 298)
(4) - أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/31 .(1/450)
وكان بعضهم جالساً يكتب في مصحف ، فوضع القلمَ من يده ، وقال : إنْ كان موتُكم هكذا ، فوالله إنَّه لموتٌ طيِّبٌ ، ثم سقط ميتاً . وكان آخر جالساً يكتب الحديثَ ، فوضع القلم من يده ، ورفع يديه يدعو الله ، فمات ."
==============
المبحث الثالث عشر
لماذا نكرهُ الموتَ ؟
" أَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الزُّهْد " عَنْ الْجُنَيْد سَيِّد الطَّائِفَةِ قَالَ : الْكَرَاهَة هُنَا لِمَا يَلْقَى الْمُؤْمِن مِنْ الْمَوْت وَصُعُوبَتِهِ وَكَرْبِهِ ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنِّي أَكْرَهُ لَهُ الْمَوْت لِأَنَّ الْمَوْت يُورِدُهُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَمَغْفِرَتِهِ اِنْتَهَى . وَعَبَّرَ بَعْضهمْ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمَوْت حَتْم مَقْضِيّ ، وَهُوَ مُفَارَقَة الرُّوح لِلْجَسَدِ ، وَلَا تَحْصُل غَالِبًا إِلَّا بِأَلَمٍ عَظِيم جِدًّا كَمَا جَاءَ عَنْ عَمْرو بْن الْعَاصِ أَنَّهُ سُئِلَ وَهُوَ يَمُوت فَقَالَ : " كَأَنِّي أَتَنَفَّس مِنْ خُرْم إِبْرَة ، وَكَأَنَّ غُصْن شَوْك يَجُرُّ بِهِ مِنْ قَامَتِي إِلَى هَامَتِي " وَعَنْ كَعْب أَنَّ عُمَر سَأَلَهُ عَنْ الْمَوْت فَوَصَفَهُ بِنَحْوِ هَذَا ، فَلَمَّا كَانَ الْمَوْت بِهَذَا الْوَصْف ، وَاَللَّهُ يَكْرَه أَذَى الْمُؤْمِنِ ، أَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ الْكَرَاهَة . وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون الْمُسَاءَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طُول الْحَيَاة لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ، وَتَنَكُّس الْخَلْق وَالرَّدّ إِلَى أَسْفَل سَافِلِينَ . وَجَوَّزَ الْكَرْمَانِيُّ أَنْ يَكُون الْمُرَاد أَكْرَه مُكْرَهَهُ الْمَوْت فَلَا أُسْرِع بِقَبْضِ رُوحِهِ فَأَكُون كَالْمُتَرَدِّدِ .(1/451)
قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْفَضْل بْن عَطَاء : فِي هَذَا الْحَدِيث عِظَم قَدْر الْوَلِيِّ ، لِكَوْنِهِ خَرَجَ عَنْ تَدْبِيره إِلَى تَدْبِير رَبّه ، وَعَنْ اِنْتِصَاره لِنَفْسِهِ إِلَى اِنْتِصَارِ اللَّهِ لَهُ ، وَعَنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ بِصِدْقِ تَوَكُّلِهِ . قَالَ : وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَنْ لَا يُحْكَمَ لِإِنْسَانٍ آذَى وَلِيًّا ثُمَّ لَمْ يُعَاجَلْ بِمُصِيبَةٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ بِأَنَّهُ سَلِمَ مِنْ اِنْتِقَامِ اللَّهِ ، فَقَدْ تَكُون مُصِيبَتُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِ كَالْمُصِيبَةِ فِي الدِّينِ مَثَلًا . قَالَ : وَيَدْخُلُ فِي قَوْله " اِفْتَرَضْت عَلَيْهِ " الْفَرَائِض الظَّاهِرَة فِعْلًا كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَغَيْرهمَا مِنْ الْعِبَادَات ، وَتَرْكًا كَالزِّنَا وَالْقَتْل وَغَيْرهمَا مِنْ الْمُحَرَّمَات ، وَالْبَاطِنَة كَالْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَالْحُبّ لَهُ وَالتَّوَكُّل عَلَيْهِ وَالْخَوْف مِنْهُ وَغَيْر ذَلِكَ . وَهِيَ تَنْقَسِم أَيْضًا إِلَى أَفْعَال وَتُرُوك . قَالَ : وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَاز اِطِّلَاع الْوَلِيّ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ بِإِطْلَاعِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنْ اِرْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ دُخُولَ بَعْضِ أَتْبَاعِهِ مَعَهُ بِالتَّبَعِيَّةِ لِصِدْقِ قَوْلِنَا مَا دَخَلَ عَلَى الْمَلِك الْيَوْمَ إِلَّا الْوَزِيرُ ، وَمِنْ الْمَعْلُوم أَنَّهُ دَخَلَ مَعَهُ بَعْض خَدَمِهِ .(1/452)
قُلْت: الْوَصْف الْمُسْتَثْنَى لِلرَّسُولِ هُنَا إِنْ كَانَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِ كَوْنِهِ رَسُولًا، فَلَا مُشَارَكَةَ لِأَحَدٍ مِنْ أَتْبَاعِهِ فِيهِ إِلَّا مِنْهُ ، وَإِلَّا فَيَحْتَمِل مَا قَالَ ، وَالْعِلْم عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى."(1)
المبحثُ الرابع عشر
الجوابُ عن الإشكالات السبعة في هذا الحديث(2)
في هذا الحديث إشكالاتٌ سبعةٌ:
أحدها أن يقالَ كيف يعادي الإنسان الأولياء ،والأولياء قد تركوا الدنيا وانفردوا عن الخلق ،فإن جهل عليهم جاهل حلموا ،والعداوة إنما تكون عن خصومة ؟
والإشكال الثاني قوله :( (فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ) ) وكيف يتصور الحرب بين الخالق والمخلوق والمحارب مناظر؟ وهذا المخلوق في أسر قبضة الخالق .
والإشكال الثالث :( (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ) )، والعادةُ قد جرت بأن التقرب يكون بما لا يجبُ؛ كالهدايا إلى الملوك دون أداء الخراج، فإن مؤدي اللازم لا يكاد يحمَدُ وإنما يشكر من فعل ما لا يجب.
والرابعُ أن يقال: إذا كانتِ الفرائضُ أفضلَ القربات فكيفَ أثمرتِ النوافلُ المحبةَ ولم تثمرها الفرائضُ؟ والخامس قوله :( (فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا) ) فما صورة هذا ؟.
والسادس قوله :( (وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ) ) وكم قد رأينا من عابدٍ وصالحٍ يدعو ويبالغ ولا يرى إجابة ؟.
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 342)
(2) - كشف المشكل من حديث الصحيحين - (ج 1 / ص 1007)(1/453)
والسابع قوله :( (وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ) ) والترددُ إنما يقعُ إذا أشكلتِ المصلحةُ في العواقبِ وذلك ينشأُ عن ضعفِ التدبيرِ، والحقُّ عز َّوجلَّ منزَّهٌ عن ذلك؟.
والجوابُ:
أمَّا الإشكالُ الأول ،فإنَّ معاداةَ الأولياءِ يقعُ من أربعةِ أوجهٍ:
أحدُها أنْ يعاديهم الإنسانُ عصبيةً لغيرهم ،كما يعادي الرافضيُّ أبا بكرٍ وعمر.
والثاني مخالفةٌ لمذهبهِم ،كما يعادي أهلُ البدعِ أحمدَ بنَ حنبلٍ.
والثالثُ احتقاراً لهم، فيكونُ الفعل ُبهم فعلَ الأعداءِ ،كما كان بعضُ الجهَّالِ يحصبُ أويساً القرنيَّ. والرابعُ أنه قد يكون بينَ الولي وبينَ الناس معاملاتُ وخصوماتٌ، وليس كلُّ الأولياءِ ينفردونَ في الزوايا فربَّ وليٍّ في السوقِ.
وأمَّا الإشكالُ الثاني فإنَّ الإنسانَ إنما خوطبَ بما يعقلُ، ونهايةُ العداوة الحربُ، ومحاربةُ الله عز وجل للإنسان أنْ يهلكَه ،وتقديرُ الكلام فقد تعرَّضَ لإهلاكي إياهُ.
وأمَّا الإشكالُ الثالثُ: فإنَّ في أداءِ الواجباتِ احتراماً للأمرِ وتعظيماً للآمرِ، وبذلك الإنقيادُ تظهرُ عظمةُ الربوبيةِ، ويبينُ ذلُّ العُبوديةِ .
وأمَّا الرابعُ، فإنه لمَّا أدَى المؤمنُ جميعَ الواجباتِ ثم زادَ بالتنفُّلِ وقعتِ المحبَّةُ لقصدِ التقرُّبِ، لأنَّ مؤدَّى الفرضِ ربَّما فعلهُ خوفاً منَ العقابِ ،والمتقرِّبُ بالنَّفلِ لا يفعلُهُ إلا إيثاراً للخدمةِ والقربِ، فيثمرُ لهُ ذلك مقصودهُ.
وأمَّا الخامسُ فإنَّ قوله :( (فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا) ) مثَلٌ ولهُ أربعةُ أوجهٍ:
أحدهما كنتُ كسمعِه وبصرهِ في إيثارهِ أمري، فهو يحبُّ طاعتي ،ويؤثر خدمَتي ،كما يحبُّ هذه الجوارحَ.(1/454)
والثاني أنَّ كليتَهُ مشغولةٌ، فلا يصغي بسمعِه إلَّا إلى ما يرضيني ولا يبصرُ إلا عن أمري.
والثالثُ أنَّ المعنى أني أحصِّلُ لهُ مقاصدُهُ كما ينالهُ بسمعِه وبصرهِ .
والرابعُ كنتُ لهُ في العونِ والنُّصرةِ كبصرهِ ويدهِ اللذَينِ يعاونانِهِ على عدوِّهِ.
وأمَّا السَّادسُ فإنهُ ما سئلَ وليٌّ قطُّ إلا وأجيبَ، إلا أنهُ قدْ تؤخَّرُالإجابةُ لمصلحةٍ، وقد يسألُ ما يظنُّ فيه مصلحةً، ولا يكونُ فيه مصلحةٌ، فيعوَّضُ سواهُ.
وأمَّا السابعُ فجوابُه منْ وجهينِ :
أحدهُما أنْ يكونَ التردُّدُ للملائكةِ الذين يقبضونَ الأرواحَ، فأضافَهُ الحقُّ عزَّ وجلَّ إلى نفسِه لأنَّ ترددَهُم عن أمرهِ كما قالَ تعالى : {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (64) سورة مريم ،وتردُّدُ الملائكةِ إنما يكونُ لإظهارِ كرامةِ الآدميِّ كما تردَّدَ ملكُ الموتِ إلى آدمَ وإبراهيمَ وموسى ونبيِّنا {صلَّى اللهُ عليه وسلَّم} .
فأمَّا أنْ يكونَ الترددُ للهِ فمحالٌ في حقِّهِ ،وهذا مذهبُ الخطابيِّ، فإنِ اعتُرِضَ على هذا، فقيل: متَى أُمِرَ الملَكُ بقبضِ الرُّوحِ لم يجزْ لهُ الترددُ، فكيفَ يترددُ؟
فالجوابُ منْ وجهينِ:
أحدهُما أن يكونَ إنما ترددَ فيما لم يجزَمْ لهُ فيه على وقتٍ، كما روي ( ( أنه لما بعث ملك الموت إلى الخليل قيل له تلطف بعبدي ) )(1).
والثاني أن يكون ترددَ رقَّةٍ ولطفٍ بالمؤمنِ، لا أنهُ يؤخرُ القبضَ، فإنه إذا نظرَ إلى قدْرِ المؤمنِ منِ احترمَهُ فلم تنبسطْ يدهُ لقبضِ روحِه ،وإذا ذكرَ أمرَ الإلهِ لم يكنْ لهُ بدٌّ في امتثالهِ .
__________
(1) - لم أجده(1/455)
والثاني أنه خطابٌ لنا بما نعقلُ وقدْ تنزهَ الربُّ عزَّ وجلَّ عن حقيقتهِ كما قال :( (وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) )(1).
__________
(1) - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى ، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِى ، فَإِنْ ذَكَرَنِى فِى نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى ، وَإِنْ ذَكَرَنِى فِى مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِى مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا ، وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً » . صحيح البخارى (7405 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 9 / ص 35)
هَذَا الْحَدِيث مِنْ أَحَادِيث الصِّفَات ، وَيَسْتَحِيل إِرَادَة ظَاهِره ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَام فِي أَحَادِيث الصِّفَات مَرَّات ، وَمَعْنَاهُ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِطَاعَتِي تَقَرَّبْت إِلَيْهِ بِرَحْمَتِي وَالتَّوْفِيق وَالْإِعَانَة ، وَإِنْ زَادَ زِدْت ، فَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي وَأَسْرَعَ فِي طَاعَتِي أَتَيْته هَرْوَلَة ، أَيْ صَبَبْت عَلَيْهِ الرَّحْمَة وَسَبَقْته بِهَا ، وَلَمْ أُحْوِجْه إِلَى الْمَشْي الْكَثِير فِي الْوُصُول إِلَى الْمَقْصُود ، وَالْمُرَاد أَنَّ جَزَاءَهُ يَكُون تَضْعِيفه عَلَى حَسَب تَقَرُّبه .(1/456)
فكما أنَّ أحدَنا يترددُ في ضربِ ولدهِ فيأمرهُ التأديبُ بضربهِ وتمنعُه المحبَّةُ، فإذا أخبرَ بالترددِ فهمْنا قوةَ محبتِه لهُ بخلافِ عبدهِ، فإنه لا يترددُ في ضربهِ، فأريدَ تفهيمُنا تحقيقَ المحبَّة للوليِّ بذكرِ الترددِ، ومنَ الجائزِ أنْ يكونَ تركيبُ الوليِّ يحتملُ خمسينَ سنةً ،فيدعو عندَ المرضِ فيعافَى ويقوَى تركيبُه فيعيشُ عشرينَ أخرَى، فتغييرُ التركيبِ والمكتوبِ منَ الأجلِ كالترددِ، وذلك ثمرةُ المحبَّةِ ."
=================
المبحثُ الخامس عشر
أهمُّ الدروس والعبر المستفادة من الحديث
1 - بيانُ فضلِ أولياء الله، وشدَّة خطر معاداتهم.
2 -أنَّ ولايةَ الله عزَّ وجلَّ تحصل بأداء الفرائضِ وفعلِ النوافل.
3 - أنَّ أداءَ الفرائض هو أحبُّ الأعمال إلى الله تعالى ، وذلك لما فيها من إظهار عظمة الربوبية ، وذلِّ العبودية .
4 - إثباتُ صفة المحبَّة لله عزَّ وجلَّ.
5 - تفاوتُ الأعمالِ في محبَّة اللهِ إيَّاها.
6 - أنَّ فعلَ النوافلِ بعد أداءِ الفرائضِ يجلبُ محبَّة الله عزَّ وجلَّ.
7 - أنَّ من أتى بما وجبَ عليهِ ، وتقرَّبَ بالنوافل وفَّقه الله بحيث لا يسمع ما لم يأذن به الشرع ، ولا يبصر ما لم يأذن له في إبصاره ، ولا يمد يده إلى شيء لم يأذن له الشرع في مدها إليه ، ولا يسعى إلا فيما أذن له في السعي إليه ...(1)
8 - أنَّ محبَّة الله عزَّ وجلَّ تجلبُ للعبد إجابةَ دعائهِ وإعاذتهِ مِمَّا يخافُ.
9 - أنَّ ثوابَ الله عزَّ وجلَّ للعبدِ يكونُ بإجابةِ مطلوبهِ والسلامةِ من مرهوبهِ.(2)
__________
(1) -فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 3115) والتحفة الربانية شرح الأربعين النووية - (ج 39 / ص 1)
(2) - انظر فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين - (ج 1 / ص 115)(1/457)
10- ومنْ فوائد محبةِ الله تعالى للعبد أن الله تعالى يُلقي حبَّ العبدِ في قلوبِ العبادِ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحْبِبْهُ . فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ، فَيُنَادِى جِبْرِيلُ فِى أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ . فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى الأَرْضِ »(1)..
__________
(1) - صحيح البخارى (3209 )
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 17 / ص 191)
وَالْمُرَاد بِالْقَبُولِ فِي حَدِيث الْبَاب قَبُول الْقُلُوب لَهُ بِالْمَحَبَّةِ وَالْمَيْل إِلَيْهِ وَالرِّضَا عَنْهُ ، وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّ مَحَبَّة قُلُوب النَّاس عَلَامَة مَحَبَّة اللَّه ، وَيُؤَيِّدهُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِز " أَنْتُمْ شُهَدَاء اللَّه فِي الْأَرْض " وَالْمُرَاد بِمَحَبَّةِ اللَّه إِرَادَة الْخَيْر لِلْعَبْدِ وَحُصُول الثَّوَاب لَهُ ، وَبِمَحَبَّةِ الْمَلَائِكَة اِسْتِغْفَارهمْ لَهُ وَإِرَادَتهمْ خَيْر الدَّارَيْنِ لَهُ وَمَيْل قُلُوبهمْ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُطِيعًا لِلَّهِ مُحِبًّا لَهُ ، وَمَحَبَّة الْعِبَاد لَهُ اِعْتِقَادهمْ فِيهِ الْخَيْر وَإِرَادَتهمْ دَفْع الشَّرّ عَنْهُ مَا أَمْكَنَ ، وَقَدْ تُطْلَق مَحَبَّة اللَّه تَعَالَى لِلشَّيْءِ عَلَى إِرَادَة إِيجَاده وَعَلَى إِرَادَة تَكْمِيله ، وَالْمَحَبَّة الَّتِي فِي هَذَا الْبَاب مِنْ الْقَبِيل الثَّانِي ، وَحَقِيقَة الْمَحَبَّة عِنْدَ أَهْل الْمَعْرِفَة مِنْ الْمَعْلُومَات الَّتِي لَا تُحَدّ وَإِنَّمَا يَعْرِفهَا مَنْ قَامَتْ بِهِ وِجْدَانًا لَا يُمْكِن التَّعْبِير عَنْهُ ، وَالْحُبّ عَلَى ثَلَاثَة أَقْسَام : إِلَهِيّ وَرُوحَانِيّ وَطَبِيعِيّ ، وَحَدِيث الْبَاب يَشْتَمِل عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَام الثَّلَاثَة ، فَحُبّ اللَّه الْعَبْد حُبّ إِلَهِيّ ، وَحُبّ جِبْرِيل وَالْمَلَائِكَة لَهُ حُبّ رُوحَانِيّ ، وَحُبّ الْعِبَاد لَهُ حُبّ طَبِيعِيّ .(1/458)
11-أن الله سبحانه وتعالى قدَّم الإعذارَ إلى كلِّ منْ عادَى وليًّا أنه قد آذنه بأنه محاربهُ بنفس المعاداة . ولا يدخل في ذلك ما تقتضيهُ الأحوالُ في بعض المراتِ من النزاع بين وليين لله تعالى في محاكمةٍ أو خصومةٍ راجعةٍ لاستخراج حقٍّ غامضٍ ، فإنَّ هذا قد وقع بين كثير من أولياءِ الله عز وجل(1).
__________
(1) - عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ النَّصْرِىُّ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ذَكَرَ لِى ذِكْرًا مِنْ ذَلِكَ فَدَخَلْتُ عَلَى مَالِكٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ انْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ أَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا فَقَالَ هَلْ لَكَ فِى عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ يَسْتَأْذِنُونَ .
قَالَ نَعَمْ . فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا وَجَلَسُوا . فَقَالَ هَلْ لَكَ فِى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ . فَأَذِنَ لَهُمَا . قَالَ الْعَبَّاسُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِى وَبَيْنَ الظَّالِمِ . اسْتَبَّا . فَقَالَ الرَّهْطُ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنَهُمَا وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنَ الآخَرِ . فَقَالَ اتَّئِدُوا أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ » . يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَفْسَهُ . قَالَ الرَّهْطُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ . فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَلِكَ . قَالاَ نَعَمْ . قَالَ عُمَرُ فَإِنِّى مُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَمْرِ ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - فِى هَذَا الْمَالِ بِشَىْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ ) الآيَةَ ، فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلاَ اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ ، وَقَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ ، حَتَّى بَقِىَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ ، وَكَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِىَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ ، فَعَمِلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ حَيَاتَهُ ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَقَالُوا نَعَمْ . ثُمَّ قَالَ لِعَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ قَالاَ نَعَمْ . ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا وَلِىُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَنْتُمَا حِينَئِذٍ - وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ - تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِيهَا كَذَا ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهَا صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ أَنَا وَلِىُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِى بَكْرٍ . فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ ، ثُمَّ جِئْتُمَانِى وَكَلِمَتُكُمَا عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ ، جِئْتَنِى تَسْأَلُنِى نَصِيبَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ ، وَأَتَانِى هَذَا يَسْأَلُنِى نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا فَقُلْتُ إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا ، عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ تَعْمَلاَنِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا ، وَإِلاَّ فَلاَ تُكَلِّمَانِى فِيهَا . فَقُلْتُمَا ادْفَعْهَا إِلَيْنَا بِذَلِكَ . فَدَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ قَالَ الرَّهْطُ نَعَمْ . فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ . قَالاَ نَعَمْ . قَالَ أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّى قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ فَوَالَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ أَقْضِى فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَىَّ ، فَأَنَا أَكْفِيكُمَاهَا . صحيح البخارى (7305 ) 123/9
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 20 / ص 359)
قَالَ اِبْن التِّين مَعْنَى قَوْله فِي هَذِهِ الرِّوَايَة " اِسْتَبَّا " أَيْ نَسَبَ كُلُّ وَاحِد مِنْهُمَا الْآخَر إِلَى أَنَّهُ ظَلَمَهُ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة بِقَوْلِهِ " اِقْضِ بَيْنِي وَبَيْن هَذَا الظَّالِم " قَالَ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَظْلِم النَّاس وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا تَأَوَّلَهُ فِي خُصُوص هَذِهِ الْقِصَّة وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ عَلِيًّا سَبَّ الْعَبَّاس بِغَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ صِنْو أَبِيهِ ، وَلَا أَنَّ الْعَبَّاس سَبَّ عَلِيًّا بِغَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْرِف فَضْله وَسَابِقَته ، وَقَالَ الْمَازِرِيّ هَذَا اللَّفْظ لَا يَلِيق بِالْعَبَّاسِ وَحَاشَا عَلِيًّا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ سَهْو مِنْ الرُّوَاة ، وَإِنْ كَانَ لَا بُدّ مِنْ صِحَّته فَلْيُؤَوَّلْ بِأَنَّ الْعَبَّاس تَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْتَقِد ظَاهِره مُبَالَغَة فِي الزَّجْر وَرَدْعًا لِمَا يَعْتَقِد أَنَّهُ مُخْطِئ فِيهِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرهُ عَلَيْهِ أَحَد مِنْ الصَّحَابَة لَا الْخَلِيفَة وَلَا غَيْره ، مَعَ تَشَدُّدهمْ فِي إِنْكَار الْمُنْكَر ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُمْ فَهِمُوا بِقَرِينَةِ الْحَال أَنَّهُ لَا يُرِيد بِهِ الْحَقِيقَة ، اِنْتَهَى وَقَدْ مَضَى بَعْض هَذَا فِي شَرْح الْحَدِيث فِي فَرْض الْخُمُس ، وَفِيهِ أَنَّنِي لَمْ أَقِف فِي شَيْء مِنْ طُرُق هَذِهِ الْقِصَّة عَلَى كَلَام لِعَلِيٍّ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الْمَفْهُوم مِنْ قَوْله " اِسْتَبَّا " بِالتَّثْنِيَةِ أَنْ يَكُون وَقَعَ مِنْهُ فِي حَقّ الْعَبَّاس كَلَام ، وَقَالَ غَيْره حَاشَا عَلِيًّا أَنْ يَكُون ظَالِمًا وَالْعَبَّاس أَنْ يَكُون ظَالِمًا ، بِنِسْبَةِ الظُّلْم إِلَى عَلِيّ وَلَيْسَ بِظَالِمٍ وَقِيلَ فِي الْكَلَام حَذْف تَقْدِيره أَيْ هَذَا الظَّالِم إِنْ لَمْ يُنْصِف ، أَوْ التَّقْدِير " هَذَا كَالظَّالِمِ " وَقِيلَ هِيَ كَلِمَة تُقَال فِي الْغَضَب لَا يُرَاد بِهَا حَقِيقَتهَا ، وَقِيلَ لَمَّا كَانَ الظُّلْم يُفَسَّر بِأَنَّهُ وَضْع الشَّيْء فِي غَيْر مَوْضِعه تَنَاوَلَ الذَّنْب الْكَبِير وَالصَّغِير ، وَتَنَاوَلَ الْخَصْلَة الْمُبَاحَة الَّتِي لَا تَلِيق عُرْفًا فَيُحْمَل الْإِطْلَاق عَلَى الْأَخِيرَة وَاللَّهُ أَعْلَمُ(1/459)
12-أنَّ النافلة إنما تقبلُ إذا أديتِ الفريضةُ ، لأنها لا تسمَّى نافلةً إلا إذا قضيتِ الفريضةُ .
13-أن أولياء الله تعالى هم الذين يتقربون إليه بما يقرِّبهم منه من الإيمان والأعمال الصالحةِ، فظهر بذلك بطلانُ دعوى أن هناك طريقا إلى الولاية غير التقرب إلى الله تعالى بطاعاتهِ التي شرعها .
14-أنَّ العبدَ -ولو بلغَ أعلى الدرجات - لا ينقطعُ عن الطلبِ من ربِّه لما في ذلك من الخضوعِ له ، وإظهار العبودية له ، قال تعالى : {.. إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (90) سورة الأنبياء .
15- يجبُ علينا أن نحبَّ لله ، ونبغض لله ،ونوالي في الله ، ونعادي في الله ، ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللهِ وَالْبُغْضُ فِي اللهِ.(1)
16- أولياء الله تعالى يتفاوتون في درجاتهم وأعمالهم فهم إما سابقون أو مقرَّبون .
17- أولياء الله تعالى ليسوا بمعصومين ، فقد يقعون في المعصية ، فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ »(2).
18- أنَّ الأنبياءَ أفضلُ الأولياءِ ، وأفضلَهم أولي العزم منَ الرسلِ ، وأفضلَهم سيدُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم
19- أولياء الله تعالى موجودون في كل زمان ومكان ، ولا يوجد شيء يميزهم عن غيرهم سوى طاعتهم لله تعالى واتباعهم لمنهجه .
20- ليس بشرط أن تجري على أيديهم كرامات ، فخوارق العادات قد تكون كرامة من الله تعالى لعبد من عباده الصالحين ، وقد تكون استدراجاً والعياذ بالله .
__________
(1) -مصنف ابن أبي شيبة (235) - (ج 11 / ص 48)(31083) صحيح
(2) - ت (2499) وهـ (4251) ومي 2/303وحم3/198 و ك 4/244 والإتحاف 1/409 و8/596 وسنة 5/92 وصحيح الجامع (4515) صحيح لغيره(1/460)
21-أعظم كرامة لأولياء الله تعالى ما كانت من جنس معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الباقية الخالدة (القرآن الكريم) يعني كرامة العلم النافع ، وهو أعظم الكرامات ، ونفعه متعدٍّ للناس ، وما دام الناس ينتفعون به فأجره يصل لصاحبه بعد موته . بعكس الكرامات الحسيَّة فلا ينتفع بها إلا صاحبها أو من رآها ليس إلا .
22- من لم يتقرب إلى الله تعالى بالطاعات والبعد عن المعاصي والمنكرات ، فليس بولي لله ، بل وليٌّ للشيطان ، ولو طار في الهواء أو مشى على الماء .
23- من أهم صفات أولياء الله تعالى الاستقامة ، والتوكل على الله وحده ، والنصح لكل مسلم .
24- لا يجوز الطعن بأحاديث الصحيحين ، لأنها بلغت القنطرة ، وهي أصح الأحاديث على الإطلاق
25- الإنسان بطبيعته يكره الموت ويحبُّ البقاء ، لذلك « مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ »(1)
26- لا يجوز التسرع بالحكم على الأحاديث، أو ردَّها لا سيما إذا كانت مما تلقته الأمة بالقبول .بل يجب اتباع الطريق الذي سار عليه أهل العلم في هذا من الاحتياط التام .
27- أحاديث البخاري أصحُّ الأحاديث في السنة النبوية .
أهم المراجع والمصادر
1. ... تفسير الطبري
2. ... تفسير ابن كثير
3. ... الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
4. ... فتح القدير
5. ... تفسير الرازي
6. ... الكشاف
7. ... أضواء البيان
8. ... في ظلال القرآن
9. ... الوسيط لسيد طنطاوي
10. ... تفسير السعدي
11. ... التحرير والتنوير
12. ... التفسير الميسر
13. ... أيسر التفاسير لأسعد حومد
14. ... الإتقان
15. ... أحكام القرآن للجصاص
16. ... أحكام القرآن لابن العربي
17. ... مناهل العرفان للزرقاني
18. ... مناهل العرفان في علوم القرآن
19. ... البرهان في علوم القرآن
20. ... أصول الإيمان
21. ... شرح العقيدة الواسطية
22. ... التمهيد لشرح كتاب التوحيد
23. ... شرح الطحاوية في العقيدة السلفية
24. ... فتح المجيد شرح كتاب التوحيد
__________
(1) -صحيح البخارى (6507 )(1/461)
25. ... منهاج السنة النبوية
26. ... مختصر منهاج السنة النبوية
27. ... الدرر السنية كاملة
28. ... المنتقى - شرح الموطأ
29. ... موطأ مالك
30. ... صحيح البخارى
31. ... صحيح مسلم
32. ... سنن أبى داود
33. ... سنن الترمذى
34. ... سنن النسائى
35. ... سنن ابن ماجه
36. ... مصنف عبد الرزاق مشكل
37. ... مصنف ابن أبي شيبة (235)
38. ... مسند أحمد
39. ... الإبانة الكبرى لابن بطة
40. ... الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم
41. ... السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة
42. ... المستدرك للحاكم مشكلا
43. ... المعجم الكبير للطبراني
44. ... المعجم الأوسط للطبراني
45. ... المعجم الصغير للطبراني
46. ... تهذيب الآثار للطبري
47. ... دلائل النبوة للبيهقي
48. ... السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي
49. ... شعب الإيمان للبيهقي
50. ... سنن الدارمى
51. ... مسند أبي عوانة مشكلا
52. ... مسند البزار 1-14
53. ... مسند أبي يعلى الموصلي
54. ... مسند الحميدى
55. ... مسند السراج محققا
56. ... سنن الدارقطنى
57. ... صحيح ابن حبان
58. ... صحيح ابن خزيمة
59. ... مسند الشاميين 360
60. ... مسند الشهاب القضاعي
61. ... مسند الطيالسي 204
62. ... شرح معاني الآثار
63. ... مشكل الآثار للطحاوي
64. ... معرفة السنن والآثار للبيهقي
65. ... المنتقى من السنن المسندة لابن الجارود
66. ... معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني
67. ... موسوعة السنة النبوية
68. ... جامع الأحاديث
69. ... مجمع الزوائد
70. ... اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة
71. ... شرح السنة للبغوي
72. ... الأدب المفرد للبخاري
73. ... الاعتقاد للبيهقي
74. ... أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب
75. ... التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير
76. ... الدراية في تخريج أحأديث الهداية
77. ... الفتاوى الحديثية للحويني
78. ... اللآلي المصنوعة
79. ... المقاصد الحسنة للسخاوي
80. ... تنزيه الشريعة المرفوعة
81. ... روضة المحدثين
82. ... نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية
83. ... السلسلة الصحيحة
84. ... السلسلة الضعيفة
85. ... صحيح أبي داود
86. ... صحيح ابن ماجة
87. ... صحيح الترغيب والترهيب(1/462)
88. ... صحيح وضعيف الجامع الصغير
89. ... التمهيد لابن عبد البر
90. ... تأويل مختلف الحديث
91. ... تيسير العلام شرح عمدة الحكام- للبسام
92. ... جامع العلوم والحكم محقق
93. ... دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين
94. ... شرح ابن بطال
95. ... شرح الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية
96. ... شرح بلوغ المرام للشيخ عطية محمد سالم
97. ... شرح رياض الصالحين لابن عثيمين
98. ... شرح سنن ابن ماجه
99. ... شرح سنن النسائي
100. ... شرح مسند أبي حنيفة
101. ... عمدة القاري شرح صحيح البخاري
102. ... فتح الباري لابن حجر
103. ... فتح الباري لابن رجب
104. ... فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين
105. ... فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2
106. ... مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح
107. ... موطأ محمد بشرح اللكنوي
108. ... الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي
109. ... الفتاوى الفقهية الكبرى
110. ... الفقه الإسلامي وأدلته
111. ... الموسوعة الفقهية1-45 كاملة
112. ... فتاوى ابن الصلاح
113. ... فتاوى ابن حجر الهيثمى
114. ... فتاوى ابن عليش
115. ... فتاوى الأزهر
116. ... فتاوى الإسلام سؤال وجواب
117. ... فتاوى الرملي
118. ... فتاوى الزحيلي
119. ... فتاوى السبكي
120. ... فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
121. ... فتاوى الشيخ ابن جبرين
122. ... فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
123. ... فتاوى نور على الدرب
124. ... فتاوى واستشارات الإسلام اليوم
125. ... فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ
126. ... مجموع فتاوى ابن تيمية
127. ... مجموع فتاوى و مقالات ابن باز
128. ... مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين
129. ... مختصر الفتاوي المصرية لابن تيمية
130. ... نور على الدرب
131. ... السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية
132. ... الفقه على المذاهب الأربعة
133. ... شرح النيل وشفاء العليل - إباضية
134. ... مجموع فتاوى ابن تيمية
135. ... نيل الأوطار
136. ... يسألونك فتاوى
137. ... أنوار البروق في أنواع الفروق
138. ... إرشاد الفحول الي تحقيق الحق من علم الاصول(1/463)
139. ... إعلام الموقعين عن رب العالمين
140. ... الأحكام للآمدي
141. ... البحر المحيط
142. ... الفروق
143. ... الفصول في الأصول
144. ... المستصفى
145. ... الموافقات
146. ... تلقيح الافهام العلية بشرح القواعد الفقهية
147. ... تهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية
148. ... حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع
149. ... حجة الله البالغة
150. ... فواتح الرحموت
151. ... قواعد الأحكام في مصالح الأنام
152. ... آداب الأكل
153. ... إحياء علوم الدين
154. ... الآداب الشرعية
155. ... الرسالة القشيرية
156. ... الزواجر عن اقتراف الكبائر
157. ... الفتوحات المكية
158. ... المدخل
159. ... بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية
160. ... بستان العارفين للنووي
161. ... حلية الأولياء
162. ... صفة الصفوة
163. ... لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية
164. ... موسوعة خطب المنبر
165. ... السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث
166. ... حياة الصحابة للكاندهلوى
167. ... زاد المعاد
168. ... سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد
169. ... سيرة ابن هشام
170. ... الإستيعاب في معرفة الأصحاب
171. ... الجرح والتعديل لابن أبي حاتم
172. ... الطبقات الكبرى لابن سعد
173. ... الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة
174. ... الكامل لابن عدي
175. ... تاريخ دمشق
176. ... تذكرة الحفاظ
177. ... تعجيل المنفعة
178. ... تقريب التهذيب
179. ... تهذيب الأسماء
180. ... تهذيب التهذيب
181. ... تهذيب الكمال للمزي
182. ... جلاء العينين في محاكمة الأحمدين
183. ... سير أعلام النبلاء [ مشكول + موافق للمطبوع ]
184. ... ميزان الاعتدال
185. ... البداية والنهاية لابن كثير مدقق
186. ... تاريخ الإسلام للذهبي
187. ... تاريخ بغداد
188. ... النهاية في غريب الأثر
189. ... تاج العروس
190. ... لسان العرب
191. ... القاموس الفقهي
192. ... المعجم الوسيط
193. ... موسوعة البحوث والمقالات العلمية
194. ... مجلة البحوث الإسلامية
195. ... مجلة البحوث الإسلامية
196. ... مجلةالبيان
197. ... بدائع الفوائد(1/464)
198. ... حاشية المدابغي على فتح المعين لابن حجر المكي
199. ... التحفة العراقية في أعمال القلوب
200. ... وامع الأنوار ار البهية للسفاريني
201. ... تعريفات الجرجاني
202. ... كشاف اصطلاحات الفنون
203. ... مجموعة رسائل ابن عابدين
204. ... حاشية المدابغي على فتح المعين
205. ... قطر الولي للشوكاني
206. ... مغني المحتاج
207. ... الروح لابن القيم
208. ... معجم مقاييس اللغة
209. ... مفردات الراغب
210. ... المعتمد لأبي يعلى
211. ... التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي
212. ... الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 4
213. ... رد المحتار
214. ... إتحاف السادة المتقين شرح إحياء علوم الدين
215. ... الجمل على شرح المنهج
216. ... القليوبي
217. ... حاشية الكازروني على تفسير البيضاوي
218. ... كشاف القناع
219. ... مطالب أولي النهى
220. ... روضة الطالبين
221. ... حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 7
222. ... المغني لابن قدامة
223. ... الشرح الكبير لابن قدامة
224. ... شرح منتهى الإرادات
225. ... الإنصاف
226. ... المبدع شرح المقنع
227. ... كشف المخدرات والرياض الزاهرات لشرح أخصر المختصرات
228. ... الذخيرة في الفقه المالكي للقرافي
229. ... الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني
230. ... الحاوي في فقه الشافعي – الماوردي
231. ... حاشية رد المحتار
232. ... فتح القدير الكمال
233. ... شرح مختصر خليل للخرشي
234. ... شرح البهجة الوردية
235. ... مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
236. ... حاشية البجيرمي على الخطيب
237. ... تيسير العزيز الحميد
238. ... الروضة الندية
239. ... الزرقاني
240. ... المواق بهامش مواهب الجليل 6
241. ... جمع الجوامع
242. ... التقرير والتحبير
243. ... البحر الرائق
244. ... مسلم الثبوت
245. ... التذكرة في أصول الدين
246. ... شذرات الذهب
247. ... الأعلام للزركلي
248. ... المصباح المنير
249. ... المنثور للزركشي
250. ... الكليات
251. ... حجة الله البالغة
252. ... كتب وليد بن راشد السعيدان
253. ... أصول الفقه على منهج أهل الحديث
254. ... الخلاف بين العلماء(1/465)
255. ... شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام
256. ... الزهد لابن المبارك
257. ... الزهد لهناد
258. ... غرر الخصائص الواضحة
259. ... الترغيب والترهيب
260. ... حاشية شيخ الإسلام الشيخ إبراهيم البيجوري
261. ... تاريخ البخاري الكبير
262. ... فتاوى واستشارات الإسلام اليوم
263. ... لقاءات الباب المفتوح
264. ... فتاوى ابن عليش
265. ... الزواجر عن اقتراف الكبائر
266. ... تهذيب الأسماء
267. ... الأولياء لابن أبي الدنيا
268. ... الحكيم الترمذي
269. ... كشف المشكل من حديث الصحيحين
270. ... جامع الأصول
271. ... السنة الخلال
272. ... http://www.altawhed.com/Detail.asp?InNewsItemID=134871
273. ... تفسير الألوسي رحمه الله
274. ... فضائل الصحابة لعبد الله
275. ... القول المسدد في الذب عن مسند أحمد
276. ... ذيل القول المسدد
277. ... المقاصد الحسنة للسخاوي
278. ... الفتاوى الحديثية للحويني
279. ... تنزيه الشريعة المرفوعة
280. ... تذكرة الموضوعات
281. ... أحاديث القصاص لابن تيمية
282. ... أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب
283. ... الفوائد المجموعة للشوكاني بتحقيق المعلمي
284. ... فيض القدير
285. ... فتح الباري لابن رجب
286. ... مجلة مجمع الفقه الإسلامي
287. ... مدارج السالكين
288. ... تخريج أحاديث الكشاف
289. ... كنز العمال
290. ... جامع الأحاديث
291. ... فتاوى الشيخ ابن جبرين
292. ... بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية
293. ... الفتوحات المكية لابن عربي
294. ... مفاهيم يجب أن تصحح لابن علوي
295. ... الأسماء والصفات للبيهقي
296. ... فضائل عثمان بن عفان لعبد الله بن أحمد
297. ... السنة لأبي بكر بن الخلال
298. ... تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي
299. ... نظم المتناثر
300. ... الفتاوى البزازية
301. ... ميزان الاعتدال
302. ... لسان الميزان
303. ... مصرع التصوف أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي
304. ... درء التعارض بين النقل والعقل
305. ... تراجم شعراء موقع أدب
306. ... التيسير بشرح الجامع الصغير ـ للمناوى
307. ... روضة الناظر
308. ... مختصر المزني المطبوع مع الأم للشافعي(1/466)
309. ... تبصرة الحكام
310. ... البرهان للجويني
311. ... الأشباه والنظائر للسيوطي
312. ... مجمع الأنهر
313. ... صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ، لابن حمدان
314. ... رسالة القول المفيد في الاجتهاد والتقليد للشوكاني
315. ... فتاوى ابن الصلاح
316. ... مجابو الدعوة
317. ... دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني
318. المكتبة الشاملة 2
319. برنامج قالون للقرآن الكريم
320. بدائع الفوائد لابن القيم
321. شرح العقيدة الطحاوية للغنيمي
322. مختصر الفتاوى المصرية
323. التحفة العراقية في أعمال القلوب
324. مجموعة رسائل ابن عابدين
325. الروح لابن القيم
326. معجم مقاييس اللغة
327. مفردات الراغب
328. التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي
329. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية
330. المعتمد لأبي يعلى
331. المنتقى - شرح الموطأ
332. فتاوى الإسلام سؤال وجواب
333. موسوعة خطب المنبر
334. شذرات الذهب
335. المصباح المنير
336. روح المعاني للألوسي
337. فتاوى الأزهر
الفهرس العام
المقدمةُ ... 7
البابُ الأولُ ... 7
مباحثُ هامَّةٌ حول الموضوع ... 7
المبحثُ الأول ... 7
معنى الولاية في اللغة ... 7
المبحثُ الثاني ... 7
وِلاَيَةُ اللَّهِ تَعَالَى ... 7
مَفْهُومُ وِلاَيَةِ اللَّهِ تَعَالَى ... 7
الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالنَّبِيِّ : ... 7
فَضْل النَّبِيِّ عَلَى الْوَلِيِّ : ... 7
مِعْيَارُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَوْلِيَاءَ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ ... 7
كَرَامَاتُ الأَْوْلِيَاءِ ... 7
الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَرَامَةِ وَالْمُعْجِزَةِ : ... 7
- أَمَّا وُجُوهُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْكَرَامَةِ وَالْمُعْجِزَةِ فَهِيَ : ... 7
خَوَارِقُ الأَْنْبِيَاءِ قَبْل الْبَعْثَةِ : ... 7
كَرَامَةُ الْوَلِيِّ مُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ... 7
الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَرَامَاتِ وَخَوَارِقِ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ ... 7
المبحثُ الثالث ... 7
الخلاصةُ في أحكام السِّحْرِ ... 7
التَّعْرِيفُ : ... 7(1/467)
أ - الشَّعْوَذَةُ : ... 7
ب - النَّشْرَةُ : ... 7
ج - الْعَزِيمَةُ : ... 7
د - الرُّقْيَةُ : ... 7
هـ - الطَّلْسَمُ : ... 7
و - الأَْوْفَاقُ : ... 7
ز - التَّنْجِيمُ : ... 7
حَقِيقَةُ السِّحْرِ : ... 7
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ : ... 7
كُفْرُ السَّاحِرِ بِفِعْل السِّحْرِ : ... 7
حُكْمُ تَعَلُّمِ السِّحْرِ وَتَعْلِيمِهِ : ... 7
النَّشْرَةُ ، أَوْ حَل السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ : ... 7
عُقُوبَةُ السَّاحِرِ : ... 7
حُكْمُ السَّاحِرِ إِذَا قَتَل بِسِحْرِهِ : ... 7
تَعْزِيرُ السَّاحِرِ الَّذِي لَمْ يَسْتَحِقَّ الْقَتْل : ... 7
الإِْجَارَةُ عَلَى فِعْل السَّحَرِ أَوْ تَعْلِيمِهِ : ... 7
19-الفرقُ بين السحر والكرامة ... 7
20- الكهان والعرافون والمنجمون ... 7
21- الوقايةُ منَ السِّحرِ ... 7
المبحثُ الرابع ... 7
الخلاصةُ في أحكام الإِلْهَامِ ... 7
التَّعْرِيفُ : ... 7
أ - الْوَسْوَسَةُ : ... 7
ب - التَّحَرِّي : ... 7
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ : ... 7
6- في هذه الأمة مُلهمونَ ... 7
المبحثُ الخامس ... 7
الخلاصة في أحكامِ الرُؤْيَا ... 7
التَّعْرِيفُ : ... 7
أ - الإِْلْهَامُ : ... 7
ب - الْحُلُمُ : ... 7
د - الْوَحْيُ : ... 7
الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ وَمَنْزِلَتُهَا : ... 7
رُؤْيَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْمَنَامِ : ... 7
رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ : ... 7
تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِعْلِهِ فِي الرُّؤْيَا : ... 7
تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا : ... 7
المبحثُ السادس ... 7
هل الأولياءُ معصومون ؟ ... 7
المبحثُ السابع ... 7
الفرقُ بين الوليِّ ومدَّعي الولايةَ ... 7
المبحثُ الثامنُ ... 7
خاتمُ الأولياءِ ... 7
المبحثُ التاسع ... 7
الكَرَامَةُ ... 7
التَّعْرِيفُ : ... 7
أ - الْمُعْجِزَةُ : ... 7
ب - الإِْرْهَاصُ : ... 7
ج - الاِسْتِدْرَاجُ : ... 7
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكَرَامَةِ : ... 7
إِكْرَامُ الضَّيْفِ : ... 7(1/468)
كَرَامَةُ الْعُلَمَاءِ وَكِبَارِ السِّنِّ ، وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ وَأَهْل الْفَضْل : ... 7
الْكَرَامَةُ بِمَعْنَى ظُهُورِ أَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ عَلَى يَدِ غَيْرِ نَبِيٍّ : ... 7
قَوْل مَنِ ادَّعَى مَا لاَ يُمْكِنُ عَادَةً : ... 7
المبحثُ العاشر ... 7
هل ما كانَ معجزةٌ لنبيٍّ كان كرامةً لوَليٍّ ؟ ... 7
المبحثُ الحادي عشر ... 7
مَنْ همُ الأولياء؟ ... 7
في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات ... 7
الدليل على أنها موجودة إلى يوم القيامة: سمعي وعقلي: ... 7
طريقة أهل السنة والجماعة في حق الأولياء والأئمة ... 7
المبحث الثاني عشر ... 7
هل يحجبُ أولياءُ الله عن الناسِ ؟ ... 7
المبحثُ الثالث عشر ... 7
خوارقُ العادات بين الكرامةِ والاستدراجِ ... 7
المبحث الرابع عشر ... 7
هل يتميز أولياء الله عن الناس بشيء ؟ ... 7
المبحث الخامس عشر ... 7
" الْحَقِيقَةُ " حَقِيقَةُ الدِّينِ : دِينُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ... 7
المبحث السادس عشر ... 7
الْأَنْبِيَاءُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ ... 7
المبحث السابع عشر ... 7
أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ هُمُ الْمُقْتَدُونَ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... 7
البابُ الثاني ... 7
شرحُ حديثِ الوليِّ ... 7
المبحثُ الأولُ ... 7
نصُّ الحديث وشواهده ... 7
المبحث الثاني ... 7
حول صحَّةِ الحديثِ وما قيل فيه والجواب عنه ... 7
المبحث الثالث ... 7
الدفاعُ عن صحيحي البخاري ومسلم ... 7
الشَّكُّ في أحاديث الصحيحين ... 7
هل في البخاري أحاديث ضعفها الألباني رحمه الله ؟ ... 7
تضعيفُ الأحاديث الصحيحة شذوذ عن العلماء ... 7
المبحثُ الرابع ... 7
مفهوم الولاية في القرآن الكريم ... 7
المبحثُ الخامسُ ... 7
الحديثُ القدسيُّ والفرق بينه وبين الحديث العادي ... 7
المبحثُ السادسُ ... 7
معاني المفردات ... 7
المبحثُ السابعُ ... 7
معاداةُ أولياء الله تعالى مؤذنةٌ بالحرب من الله ... 7
منْ صفاتِ أولياءِ الرحمنِ ... 7
صِفاتُ أولياءِ الشيطانِ ... 7
وجوبُ التفريق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ... 7(1/469)
الموالاةُ والمعاداةُ قائمان على الحبِّ والبغضِ ... 7
المبحثُ الثامنُ ... 7
التقربُ إلى الله تعالى بالفرائض ... 7
وليُّ الرحمنِ متابعٌ للرسولِ صلى الله عليه وسلم في الأمرِ والنهيِ ... 7
أفضلُ الأولياءِ الأنبياءُ والمرسلونَ ... 7
المبحثُ التاسعُ ... 7
التقربُ إلى الله تعالى بالنوافلِ ... 7
أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَلَى طَبَقَتَيْنِ ... 7
سَابِقُونَ مُقَرَّبُونَ وَأَصْحَابُ يَمِينٍ مُقْتَصِدُونَ ... 7
أولياءُ الله تعالى مقتصدون وسابقون ... 7
التفاضلُ في ولايةِ اللهِ تعالى ... 7
اجتماع ُالولايةِ والعداوةِ في الشخص الواحد ... 7
لَا يَكُونُ الْعَبْدُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا إذَا كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا ... 7
الشهادةُ لمعينٍ بالولايةِ ... 7
المبحثُ العاشر ... 7
ماذا يعطي الله تعالى من تقرب إليه بالفرائض والنوافل ؟ ... 7
المبحث الحادي عشر ... 7
إجابةُ دعاء أولياء الله ... 7
المبحثُ الثاني عشر ... 7
هل يترددُ اللهُ تعالى بقبضِ روحِ أوليائهِ ؟ ... 7
المبحث الثالث عشر ... 7
لماذا نكرهُ الموتَ ؟ ... 7
المبحثُ الرابع عشر ... 7
الجوابُ عن الإشكالات السبعة في هذا الحديث ... 7
المبحثُ الخامس عشر ... 7
أهمُّ الدروس والعبر المستفادة من الحديث ... 7
أهم المراجع والمصادر ... 7(1/470)