الخلاصة
في شرح الخمسين الشامية
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الطبعة الأولى
1430 هـ -2009 م
(( بهانج - دار المعمور ))
حقوق الطبع لكل مسلم(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد ألَّف كثيرٌ من العلماء أحاديث سموها الأربعين ، يعني حديثا ، وهي في العقيدة أو العبادة أو مكارم الأخلاق أو الزهد ، وأشهرها الأربعون النووية للإمام النووي رحمه الله ، وقد لقيت القبول لدى عامة أهل العلم ، ومن ثم فقد كثرت شروحها قديما وحديثا ، وقد زاد ابن رجب الحنبلي رحمه الله عدد الأحاديث فصارت خمسين حديثا وقام بشرحها في كتبه القيِّم " جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم ".
وقد عنَّ لي أن أجمع خمسين حديثاً من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، مما رواه في الغالب أهل الشام ، وهي شاملة ومنوعة ، وكانت خطني فيه كما يلي :
الأول - وضع عنوان مناسب للحديث يعبِّرُ عنه بشكل دقيق .
الثاني - ترقيم الأحاديث من الحديث رقم (1) حتى الحديث (50)
ثالثا- ذكر نص الحديث من عند الصحابي أو التابعي .
رابعاً - تخريج الحديث من مصادره الأساسية ، والحكم عليه بما يناسبه جرحا وتعديلاً ،بشكل معتدل ، إذا لم يكن في الصحيحين أوأحدهما .
خامسا- ذكر الطرق والمتابعات التي بلفظه أو معناه بعده مباشرة ، بحيث صار الحديث بكافة طرقه ومتابعاته في ذيل كل حديث ، والغاية من ذلك عدة أهداف :
-منها بيان كيف رويت السنَّة النبوية
-ومنها كيف جمعت السنة النبوية
-ومنها يفهم الحديث من خلال طرقه فهما دقيقاً
-ومنها بيان سبب ورود الحديث
-ومنها سهولة استنباط الأحكام الشرعية منه وغير ذلك(1/1)
فالأحاديث من حيث الناحية النظرية خمسون ، ومن حيث الناحية العملية أكثر من مائتين وخمسين حديثاً .
سادسا- شرح غريب الحديث بشكل مختصر من مظانه .
سابعاً - شرح الحديث من خلال كتب الشروح الأساسية بشكل متوسط .
ثامناً - التعليق الموسع على بعض الموضوعات التي اشتمل عليها الحديث لمسيس الحاجة لها اليوم .
تاسعاً -ذكر مصدر كل قول في الهامش ، وقد نافت مصادره على المئتين .
وأما عناوين الأحاديث الخمسين فهي :
1-تحريم الظلم
2-جزاء من فرج عن مسلم كربة
3-جواز الاجتهاد في الإسلام
4-يحشرُ المرءُ معَ منْ أحبَّ
5- سلوني سلوني
6-فضل عتق الرقاب
7-المفلس الحقيقي
8- أشياء عديدة تمنع دخول النار
9- العمل الذي يقرّبُ من الجنة ويباعد عن النار
10- جزاء الصبر على موت الأولاد
11- بعض الخصال المنجية من النار
12- الإكثار من ذكر الله
13-أهمية مجالس الذكر
14- كلمة التوحيد آخر الزمان
15- اسم الله الأعظم
16-العبرة بالخواتيم(1/2)
17- الوتر ليست بفرض
18- أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّهُمْ عَذَابًا لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا
19- بعض علامات الساعة الصغرى
20-بعض الفتن ومنها القتل
21-تحريم الكِبر
22- متابعة الإمام في الصلاة
23- فضل التهجير للجمعة
24- ثلاث لا بد أن تكون في قلب كل مؤمن
25- المقام المحمود للرسول - صلى الله عليه وسلم -
26- الهم بالحسنات والسيئات
27- قتال الناس حتى يؤمنوا بالله وحده
28- مثل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومثل الأنبياء قبله
29- مثله - صلى الله عليه وسلم - ومثل أمته
30- صفات أول دفعة يدخلون الجنة
31- نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ...
32- فضائل فاتحة الكتاب
33- من فضائل عثمان رضي الله عنه
34- الرحلة في طلب الحديث الواحد
35- الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ عَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ
36- فضل إفشاء السلام
37- الوصية بالوالدين
38- فضل الشهادة في سبيل الله
39- الهداية للعمل الصالح قبل الموت
40- ثواب الغازي في سبيل الله(1/3)
41- فضل الجهاد في سبيل الله
42- إلى متى تقبل التوبة ؟
43- من طبيعة البشر الوقوع في المعاصي
44- أهمية الدعاء
45- فضل ليلة النصف من شعبان
46- فتن قبل قيام الساعة
47- بم بعث به النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟
48- فضل عبد الله بن مسعود
49- لا قيمة لأمة لا يقام العدل فيها
50-فضيلة الشام والسكنى بها
وإنْ مدَّ الله تعالى في أعمارنا ، فسوف نفصِّلُ شرح هذه الأحاديث حديثيًّا وفقهيًّا وتربويًّا بعونه تعالى .
أسأل الله تعالى أن ينفع بها جامعها وقارئها وناشرها والدال عليها في الدارين .
قال تعالى : {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } (83) سورة القصص .
جمعه وأعدَّه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 1 جمادى الأولى لعام 1430 هـ الموافق ل 25/4/2009 م
- - - - - - - - - - - - - -(1/4)
تحريم الظلم
1- عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ جِبْرَئِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَنَّهُ قَالَ: " يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحْرِمًا فَلَا تَظْلِمُوا، يَا عِبَادِي إِنَّكُمُ الَّذِينَ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا الَّذِي أَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلَا أُبَالِي ، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ لَمْ يَزِدْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمُ، اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ مَا سَأَلَ لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْبَحْرُ أَنْ يُغْمَسَ فِيهِ الْمِخْيَطُ غَمْسَةً وَاحِدَةً، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أَحْفَظُهَا عَلَيْكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ " . قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَكَانَ أَبُو أُوَيْسٍ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ إِعْظَامًا لَهُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ , عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : " إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ يَا عِبَادِي عَلَى نَفْسِي أَلَا فَلَا تَظَالَمُوا , كُلُّ ابْنِ آدَمَ يُخْطِئُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُنِي , فَأَغْفِرُ لَهُ وَلَا أُبَالِي , يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ كَانَ ضَالًّا إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ , وَكُلُّكُمْ كَانَ عَارِيًا إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ , وَكُلُّكُمْ كَانَ جَائِعًا إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ , وَكُلُّكُمْ كَانَ ظَمْآنًا إِلَّا مَنْ سَقَيْتُهُ , فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ , وَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ , وَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ , وَاسْتَسْقُونِي أَسْقِكُمْ يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ , وَجِنَّكُمْ وَإِنْسَكُمْ , وَذَكَرَكُمْ وَأُنْثَاكُمْ , وَصَغِيرَكُمْ وَكَبِيرَكُمْ , وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ عَلَى قَلْبِ أَتْقَاكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا لَمْ يَزِيدُوا فِي مُلْكِي شَيْئًا , وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ , وَجِنَّكُمْ وَإِنْسَكُمْ , وَذَكَرَكُمْ وَأُنْثَاكُمْ , وَصَغِيرَكُمْ
__________
(1) - شعب الإيمان - (9 / 301)(6686 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6737 )(1/5)
وَكَبِيرَكُمْ , عَلَى قَلْبِ أَكْفَرِكُمْ رَجُلًا لَمْ يَنْقُصْ فِي مُلْكِي شَيْئًا , إِلَّا مَا يَنْقُصُ رَأْسُ الْمِخْيَطِ مِنَ الْبَحْرِ " (1)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ : " يَا عِبَادِي ، إِنِّي قَدْ حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي ، وَجَعَلْتُهُ مُحَرَّمًا بَيْنَكُمْ فَلَا تَظَالَمُوا . يَا عِبَادِي ، إِنَّكُمُ الَّذِينَ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ ، وَلَا أُبَالِي ، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ . يَا عِبَادِي ، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ . يَا عِبَادِي ، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مِنْ كَسَوْتُهُ ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ . يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ عَبْدٍ مِنْكُمْ ، لَمْ يَزِدْ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا ، وَلَوْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ ، لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَا سَأَلَ ، لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ، إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْبَحْرُ أَنْ يُغْمَسَ فِيهِ الْخَيْطُ غَمْسَةً وَاحِدَةً . يَا عِبَادِي ، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أَجْعَلُهَا عَلَيْكُمْ ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومُ إِلَّا نَفْسَهُ " كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَى عَلَى رُكْبَتَيْهِ " (2)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، عَنْ جِبْرِيلَ ، عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : " يَا عِبَادِي ، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا ؛ فَلَا تَظَالَمُوا ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمُ الَّذِينَ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا الَّذِي أَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلَا أُبَالِي ؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ لَمْ يَزِدْ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ
__________
(1) - صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ(621 ) والْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ لِلْبَيْهَقِيِّ (325 ) صحيح
(2) - الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ (508 ) صحيح(1/6)
كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْبَحْرُ أَنْ يُغْمَسَ الْمِخْيَطُ غَمْسَةً وَاحِدَةً ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ " . قَالَ أَبُو مِسْهِرٍ : قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ " (1)
قَوْله تَعَالَى : { إِنِّي حَرَّمْت الظُّلْم عَلَى نَفْسِي } قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ تَقَدَّسْت عَنْهُ وَتَعَالَيْت ، وَالظُّلْم مُسْتَحِيل فِي حَقِّ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى . كَيْف يُجَاوِز سُبْحَانه حَدًّا وَلَيْسَ فَوْقه مَنْ يُطِيعهُ ؟ وَكَيْف يَتَصَرَّف فِي غَيْر مُلْك ، وَالْعَالَم كُلّه فِي مُلْكه وَسُلْطَانه ؟ وَأَصْل التَّحْرِيم فِي اللُّغَة الْمَنْع ، فَسَمَّى تَقَدُّسه عَنْ الظُّلْم تَحْرِيمًا لِمُشَابَهَتِهِ لِلْمَمْنُوعِ فِي أَصْل عَدَم الشَّيْء .
قَوْله تَعَالَى : { وَجَعَلْته بَيْنكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا } هُوَ بِفَتْحِ التَّاء أَيْ لَا تَتَظَالَمُوا ، وَالْمُرَاد لَا يَظْلِم بَعْضكُمْ بَعْضًا ، وَهَذَا تَوْكِيد لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا عِبَادِي وَجَعَلْته بَيْنكُمْ مُحَرَّمًا } وَزِيَادَة تَغْلِيظ فِي تَحْرِيمه .
قَوْله تَعَالَى : { كُلّكُمْ ضَالّ إِلَّا مَنْ هَدَيْته } قَالَ الْمَازِرِيُّ : ظَاهِر هَذَا أَنَّهُمْ خُلِقُوا عَلَى الضَّلَال إِلَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّه تَعَالَى . وَفِي الْحَدِيث الْمَشْهُور " كُلّ مَوْلُود يُولَد عَلَى الْفِطْرَة " قَالَ : فَقَدْ يَكُون الْمُرَاد بِالْأَوَّلِ وَصْفهمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْل مَبْعَث النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَنَّهُمْ لَوْ تُرِكُوا وَمَا فِي طِبَاعهمْ مِنْ إِيثَار الشَّهَوَات وَالرَّاحَة وَإِهْمَال النَّظَر لَضَلُّوا . وَهَذَا الثَّانِي أَظْهَر . وَفِي هَذَا دَلِيل لِمَذْهَبِ أَصْحَابنَا وَسَائِر أَهْل السُّنَّة أَنَّ الْمُهْتَدِي هُوَ مَنْ هَدَاهُ اللَّه ، وَبِهُدَى اللَّه اِهْتَدَى ، وَبِإِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى إِنَّمَا أَرَادَ هِدَايَة بَعْض عِبَاده وَهُمْ الْمُهْتَدُونَ ، وَلَمْ يُرِدْ هِدَايَة الْآخَرِينَ ، وَلَوْ أَرَادَهَا لَاهْتَدَوْا ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلهمْ الْفَاسِد : أَنَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى أَرَادَ هِدَايَة الْجَمِيع . جَلَّ اللَّه أَنْ يُرِيد مَا لَا يَقَع ، أَوْ يَقَع مَا لَا يُرِيد .
قَوْله تَعَالَى : { مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُص الْمِخْيَط إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْر } الْمِخْيَط بِكَسْرِ الْمِيم وَفَتْح الْيَاء هُوَ الْإِبْرَة : قَالَ الْعُلَمَاء : هَذَا تَقْرِيب إِلَى الْأَفْهَام ، وَمَعْنَاهُ
__________
(1) - نُسْخَةُ أَبِي مِسْهِرٍ وَغَيْرِهِ (1 ) صحيح(1/7)
لَا يَنْقُص شَيْئًا أَصْلًا كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيث الْآخَر : " لَا يَغِيضهَا نَفَقَة " أَيْ لَا يَنْقُصهَا نَفَقَة ؛ لِأَنَّ مَا عِنْد اللَّه لَا يَدْخُلهُ نَقْص ، وَإِنَّمَا يَدْخُل النَّقْص الْمَحْدُود الْفَانِي ، وَعَطَاء اللَّه تَعَالَى مِنْ رَحْمَته وَكَرَمه ، وَهُمَا صِفَتَانِ قَدِيمَتَانِ لَا يَتَطَرَّق إِلَيْهِمَا نَقْص ، فَضَرَبَ الْمَثَل بِالْمِخْيَطِ فِي الْبَحْر ، لِأَنَّهُ غَايَة مَا يُضْرَب بِهِ الْمَثَل فِي الْقِلَّة ، وَالْمَقْصُود التَّقْرِيب إِلَى الْإِفْهَام بِمَا شَاهَدُوهُ ؛ فَإِنَّ الْبَحْر مِنْ أَعْظَم الْمَرْئِيَّات عَيَانًا ، وَأَكْبَرهَا ، وَالْإِبْرَة مِنْ أَصْغَر الْمَوْجُودَات ، مَعَ أَنَّهَا صَقِيلَة لَا يَتَعَلَّق بِهَا مَاء . وَاَللَّه أَعْلَم . (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (8 / 384)(1/8)
جزاء من فرج عن مسلم كربة
2- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا ، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ ، يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا ، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا ، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ " رواه مسلم (1)
السكينة : فعيلة من السكون والطمأنينة. -حفتهم الملائكة : أي : أحاطت بهم.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ سَتَرَ أَخَاهُ فِي الدُّنْيَا ، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَمَنْ نَفَّسَ عَنْ أَخِيهِ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا ، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ ، مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ " (2) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فِي الدُّنْيَا، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يومِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُسْلِمٍ، سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُسْلِمٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللَّهُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ". (3)
وَفِيهِ : فَضْل قَضَاء حَوَائِج الْمُسْلِمِينَ ، وَنَفْعهمْ بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ عِلْم أَوْ مَال أَوْ مُعَاوَنَة أَوْ إِشَارَة بِمَصْلَحَةٍ أَوْ نَصِيحَة وَغَيْر ذَلِكَ ، وَفَضْل السَّتْر عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيله ، وَفَضْل إِنْظَار الْمُعْسِر ، وَفَضْل الْمَشْي فِي طَلَب الْعِلْم ، وَيَلْزَم مِنْ ذَلِكَ الِاشْتِغَال بِالْعِلْمِ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (7028 ) و سنن أبي داود - المكنز - (4948) وسنن ابن ماجه- المكنز - (230) وسنن الترمذى- المكنز - (2055 و3197) وشعب الإيمان - (3 / 218) (1572 ) و(13 / 533)(10737) وصحيح ابن حبان - (2 / 292) (534)
(2) - المستدرك للحاكم (8159) صحيح
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (19 / 109) (245 ) صحيح لغيره(1/9)
الشَّرْعِيّ ، بِشَرْطِ أَنْ يَقْصِد بِهِ وَجْه اللَّه تَعَالَى ، إِنْ كَانَ هَذَا شَرْطًا فِي كُلّ عِبَادَة ، لَكِنَّ عَادَة الْعُلَمَاء يُقَيِّدُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَة بِهِ ، لِكَوْنِهِ قَدْ يَتَسَاهَل فِيهِ بَعْض النَّاس ، وَيَغْفُل عَنْهُ بَعْض الْمُبْتَدِئِينَ وَنَحْوهمْ .
قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( وَمَا اِجْتَمَعَ قَوْم فِي بَيْت مِنْ بُيُوت اللَّه يَتْلُونَ كِتَاب اللَّه تَعَالَى وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنهمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَة ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَة ) قِيلَ : الْمُرَاد بِالسَّكِينَةِ هُنَا : الرَّحْمَة ، وَهُوَ الَّذِي اِخْتَارَهُ الْقَاضِي عِيَاض ، وَهُوَ ضَعِيف ، لِعَطْفِ الرَّحْمَة عَلَيْهِ ، وَقِيلَ : الطُّمَأْنِينَة وَالْوَقَار وَهُوَ أَحْسَن ، وَفِي هَذَا : دَلِيل لِفَضْلِ الِاجْتِمَاع عَلَى تِلَاوَة الْقُرْآن فِي الْمَسْجِد ، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور ، وَقَالَ مَالِك : يُكْرَه ، وَتَأَوَّلَهُ بَعْض أَصْحَابه ، وَيُلْحَق بِالْمَسْجِدِ فِي تَحْصِيل هَذِهِ الْفَضِيلَة الِاجْتِمَاع فِي مَدْرَسَة وَرِبَاط وَنَحْوهمَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى ، وَيَدُلّ عَلَيْهِ الْحَدِيث الَّذِي بَعْده فَإِنَّهُ مُطْلَق يَتَنَاوَل جَمِيع الْمَوَاضِع ، وَيَكُون التَّقْيِيد فِي الْحَدِيث الْأَوَّل خَرَجَ عَلَى الْغَالِب ، لَا سِيَّمَا فِي ذَلِكَ الزَّمَان ، فَلَا يَكُون لَهُ مَفْهُوم يُعْمَل بِهِ .
قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَله لَمْ يُسْرِع بِهِ نَسَبه ) مَعْنَاهُ : مَنْ كَانَ عَمَله نَاقِصًا ، لَمْ يُلْحِقهُ بِمَرْتَبَةِ أَصْحَاب الْأَعْمَال ، فَيَنْبَغِي أَلَّا يَتَّكِل عَلَى شَرَف النَّسَب ، وَفَضِيلَة الْآبَاء ، وَيُقَصِّر فِي الْعَمَل . (1)
وعَنْ سَالِمٍ , عَنْ أَبِيهِ , أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , قَالَ:الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ , وَلا يُسْلِمُهُ , مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ , وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فِي الدُّنْيَا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ." (2)
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (9 / 63)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6743) وسنن أبي داود - المكنز - (4895) وسنن الترمذى- المكنز - (1493 ) وشعب الإيمان - (10 / 88) (7208 و9203و10636) وصحيح ابن حبان - (2 / 291) (533) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 68) (7427) 7421-
والمعجم الكبير للطبراني - (10 / 428) (12959 )(1/10)
وعَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مُخَلَّدٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا فِي الدُّنْيَا ، سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَمَنْ نَجَّى مَكْرُوبًا فَكَّ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي حَاجَتِهِ." (1)
فِي هَذَا فَضْل إِعَانَة الْمُسْلِم ، وَتَفْرِيج الْكُرَب عَنْهُ ، وَسَتْر زَلَّاته . وَيَدْخُل فِي كَشْف الْكُرْبَة وَتَفْرِيجهَا مَنْ أَزَالَهَا بِمَالِهِ أَوْ جَاهِهِ أَوْ مُسَاعَدَته ، وَالظَّاهِر أَنَّهُ يَدْخُل فِيهِ مَنْ أَزَالَهَا بِإِشَارَاتِهِ وَرَأْيه وَدَلَالَته . وَأَمَّا السَّتْر الْمَنْدُوب إِلَيْهِ هُنَا فَالْمُرَاد بِهِ السَّتْر عَلَى ذَوِي الْهَيْئَات وَنَحْوهمْ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ مَعْرُوفًا بِالْأَذَى وَالْفَسَاد . فَأَمَّا الْمَعْرُوف بِذَلِكَ فَيُسْتَحَبّ أَلَّا يُسْتَر عَلَيْهِ ، بَلْ تُرْفَع قَضِيَّته إِلَى وَلِيّ الْأَمْر إِنْ لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ مَفْسَدَة ؛ لِأَنَّ السَّتْر عَلَى هَذَا يُطْمِعهُ فِي الْإِيذَاء وَالْفَسَاد ، وَانْتَهَاك الْحُرُمَات ، وَجَسَارَة غَيْره عَلَى مِثْل فِعْله . هَذَا كُلّه فِي سَتْر مَعْصِيَة وَقَعَتْ وَانْقَضَتْ ، وَأَمَّا مَعْصِيَة رَآهُ عَلَيْهَا ، وَهُوَ بَعْد مُتَلَبِّس بِهَا ، فَتَجِب الْمُبَادَرَة بِإِنْكَارِهَا عَلَيْهِ ، وَمَنْعه مِنْهَا عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا يَحِلّ تَأْخِيرهَا فَإِنْ عَجَزَ لَزِمَهُ رَفْعهَا إِلَى وَلِيّ الْأَمْر إِذَا لَمْ تَتَرَتَّب عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَة . وَأَمَّا جُرْح الرُّوَاة وَالشُّهُود وَالْأُمَنَاء عَلَى الصَّدَقَات وَالْأَوْقَاف وَالْأَيْتَام وَنَحْوهمْ فَيَجِب جُرْحهمْ عِنْد الْحَاجَة ، وَلَا يَحِلّ السَّتْر عَلَيْهِمْ إِذَا رَأَى مِنْهُمْ مَا يَقْدَح فِي أَهْلِيَّتهمْ ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْغِيبَة الْمُحَرَّمَة ، بَلْ مِنْ النَّصِيحَة الْوَاجِبَة ، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ . قَالَ الْعُلَمَاء فِي الْقِسْم الْأَوَّل الَّذِي يُسْتَر فِيهِ : هَذَا السَّتْر مَنْدُوب ، فَلَوْ رَفَعَهُ إِلَى السُّلْطَان وَنَحْوه لَمْ يَأْثَم بِالْإِجْمَاعِ ، لَكِنْ هَذَا خِلَاف الْأَوْلَى ، وَقَدْ يَكُون فِي بَعْض صُوَره مَا هُوَ مَكْرُوه . وَاَللَّه أَعْلَم . (2)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 785) (16959) 17084- صحيح
(2) - شرح النووي على مسلم - (8 / 387)(1/11)
جواز الاجتهاد في الإسلام
3- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ « لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ » . فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِى الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نُصَلِّى حَتَّى نَأْتِيَهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّى لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ . فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ ." رواه البخارى (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَادَى فِيهِمْ يَوْمَ انْصَرَفَ عَنْهُمُ الأَحْزَابُ : أَلاَ لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الظُّهْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ، فَأَبْطَأَ نَاسٌ ، فَتَخَوَّفُوا فَوْتَ وَقْتِ الصَّلاَةِ فَصَلُّوا ، وَقَالَ آخَرُونَ : لاَ نُصَلِّي إِلاَّ حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ ، فَمَا عَنَّفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : لَوْ كَانَ تَأْخِيرُ الْمَرْءِ لِلصَّلاَةِ عَنْ وَقْتِهَا إِلَى أَنْ يَدْخُلَ وَقْتُ الصَّلاَةِ الْأُخْرَى يَلْزَمُهُ بِذَلِكَ اسْمُ الْكُفْرِ ، لَمَّا أَمَرَ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - أُمَّتَهُ بِالشَّيْءِ الَّذِي يَكْفُرُونَ بِفِعْلِهِ ، وَلَعَنَّفَ فَاعِلَ ذَلِكَ ، فَلَمَّا لَمْ يُعَنِّفْ فَاعِلَهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكْفُرْ كُفْرًا يُشْبِهُ الاِرْتِدَادِ. (2)
وعَنْ كَعْبِ بن مَالِكٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،"لَمَّا رَجَعَ مِنْ طَلَبِ الأَحْزَابِ، نَزَعَ لأُمَّتِهِ، وَاغْتَسَلَ، وَاسْتَجْمَرَ".
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"فَتَبَدَّا لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: عَذِيرَكَ مِنْ مُحَارِبٍ، أَلا أَرَاكَ قَدْ وَضَعَتَ اللأْمَةَ وَمَا وَضَعْنَاهَا بَعْدُ، فَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَزِعًا، فَعَزَمَ عَلَى النَّاسِ أَلا يُصَلُّوا الْعَصْرَ إِلا فِي بني قُرَيْظَةَ، فَلَبِسَ السِّلاحَ، وَخَرَجُوا فَلَمْ يَأْتُوا بني قُرَيْظَةَ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، فَاخْتَصَمَ النَّاسُ فِي غَزْوَتِهَا فِي صَلاةِ الْعَصْرِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ عَزَمَ عَلَيْنَا أَنْ لا نُصَلِّيَ الْعَصْرَ حَتَّى نَأْتِيَ بني قُرَيْظَةَ، وَإِنَّمَا نَحْنُ فِي عَزْمَةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَيْسَ عَلَيْنَا إِثْمٌ، فَصَلَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْعَصْرَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ تُصَلِّ حَتَّى أَتَوْا بني
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (946 )
(2) - صحيح ابن حبان - (4 / 320) (1462) صحيح(1/12)
قُرَيْظَةَ بَعْدَمَا غَابَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّوْهَا، إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، فَلَمْ يُعَنِّفْ رَسُولُ اللَّهِ وَاحِدَةً مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ". (1)
قلت : الصواب أنها صلاة العصر وليس الظهر كما في بعض الروايات
قَالَ اِبْن إِسْحَق : لَمَّا اِنْصَرَفَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْخَنْدَق رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَة أَتَاهُ جِبْرِيل الظُّهْر فَقَالَ : إِنَّ اللَّه يَأْمُرك أَنْ تَسِير إِلَى بَنِي قُرَيْظَة ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّن فِي النَّاس : مَنْ كَانَ سَامِعًا فَلَا يُصَلِّيَنَّ الْعَصْر إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِل " بِإِسْنَادٍ صَحِيح إِلَى الزُّهْرِيّّ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد اللَّه بْن كَعْب بْن مَالِك عَنْ عَمّه عَبِيد اللَّه بْن كَعْب " أَنَّ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا رَجَعَ مِنْ طَلَبِ الْأَحْزَاب وَجَمَعَ عَلَيْهِ اللَّأْمَة وَاغْتَسَلَ وَاسْتَجْمَرَ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيل فَقَالَ : عَذِيرك مِنْ مُحَارِب ، فَوَثَبَ فَزِعًا ، فَعَزَمَ عَلَى النَّاس أَنْ لَا يُصَلُّوا الْعَصْر حَتَّى يَأْتُوا بَنِي قُرَيْظَة ، قَالَ فَلَبِسَ النَّاس السِّلَاح فَلَمْ يَأْتُوا قُرَيْظَة حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْس ، قَالَ فَاخْتَصَمُوا عِنْد غُرُوب الشَّمْس فَصَلَّتْ طَائِفَة الْعَصْر وَتَرَكَتْهَا طَائِفَة وَقَالَتْ : إِنَّا فِي عَزْمَة رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَلَيْسَ عَلَيْنَا إِثْم ، فَلَمْ يُعَنِّف وَاحِدًا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ " وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْه مَوْصُولًا بِذِكْرِ كَعْب بْن مَالِك فِيهِ ، وَلِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيق الْقَاسِم بْن مُحَمَّد عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا نَحْوه مُطَوَّلًا وَفِيهِ " فَصَلَّتْ طَائِفَة إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَتَرَكَتْ طَائِفَة إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا " وَهَذَا كُلّه يُؤَيِّد رِوَايَة الْبُخَارِيّ فِي أَنَّهَا الْعَصْر ، وَقَدْ جَمَع بَعْض الْعُلَمَاء بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون بَعْضهمْ قَبْل الْأَمْر كَانَ صَلَّى الظُّهْر وَبَعْضهمْ لَمْ يُصَلِّهَا فَقِيلَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّهَا لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَد الظُّهْر وَلِمَنْ صَلَّاهَا لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَد الْعَصْر . وَجَمَعَ بَعْضهمْ بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُون طَائِفَة مِنْهُمْ رَاحَتْ بَعْد طَائِفَة فَقِيلَ لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى الظُّهْر وَقِيلَ لِلطَّائِفَةِ الَّتِي بَعْدهَا الْعَصْر ، وَكِلَاهُمَا جَمْع لَا بَأْس بِهِ ، لَكِنْ يُبْعِدهُ اِتِّحَاد مَخْرَج الْحَدِيث لِأَنَّهُ عِنْد الشَّيْخَيْنِ كَمَا بَيَّنَّاهُ بِإِسْنَادٍ وَاحِد مِنْ مَبْدَئِهِ إِلَى مُنْتَهَاهُ ، فَيَبْعُد أَنْ يَكُون كُلّ مِنْ رِجَال إِسْنَاده قَدْ حَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَحَمَلَهُ وَاحِد مِنْهُمْ عَنْ بَعْض رُوَاته عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَلَمْ يُوجَد ذَلِكَ . ثُمَّ تَأَكَّد عِنْدِي أَنَّ الِاخْتِلَاف فِي اللَّفْظ الْمَذْكُور مِنْ حِفْظِ بَعْض رُوَاته فَإِنَّ سِيَاق الْبُخَارِيّ وَحْدَه
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (13 / 425) (15509و15510) صحيح(1/13)
مُخَالِف لِسِيَاقِ كُلّ مَنْ رَوَاهُ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن أَسْمَاء وَعَنْ عَمّه جُوَيْرِيَة ، وَلَفْظ الْبُخَارِيّ " قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَد الْعَصْر إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة ، فَأَدْرَكَ بَعْضهمْ الْعَصْر فِي الطَّرِيق فَقَالَ بَعْضهمْ : لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيهَا . وَقَالَ بَعْضهمْ : بَلْ نُصَلِّي ، لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ . فَذُكِر لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّف وَاحِدًا مِنْهُمْ " وَلَفْظ مُسْلِم وَسَائِر مِنْ رَوَاهُ " نَادَى فِينَا رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَوْم اِنْصَرَفَ عَنْ الْأَحْزَاب أَنَّ لَا يُصَلِّينَّ أَحَد الظُّهْر إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة ، فَتَخَوَّف نَاس فَوْتَ الْوَقْت فَصَلَّوْا دُون بَنِي قُرَيْظَة ، وَقَالَ آخَرُونَ : لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْت ، قَالَ فَمَا عُنّف وَاحِدًا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ " فَاَلَّذِي يَظْهَر مِنْ تَغَايُر اللَّفْظَيْنِ أَنَّ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن أَسْمَاء شَيْخ الشَّيْخَيْنِ فِيهِ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ الْبُخَارِيّ حَدَّثَ بِهِ عَلَى هَذَا اللَّفْظ ، وَلَمَّا حَدَّثَ بِهِ الْبَاقِينَ حَدَّثَهُمْ بِهِ عَلَى اللَّفْظ الْأَخِير وَهُوَ اللَّفْظ الَّذِي حَدَّثَ بِهِ جُوَيْرِيَّة ، بِدَلِيلِ مُوَافَقَة أَبِي عِتْبَان لَهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ اللَّفْظ الَّذِي حَدَّثَ بِهِ الْبُخَارِيّ أَوْ أَنَّ الْبُخَارِيّ كَتَبَهُ مِنْ حِفْظه وَلَمْ يُرَاعِ اللَّفْظ كَمَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبه فِي تَجْوِيز ذَلِكَ ، بِخِلَافِ مُسْلِم فَإِنَّهُ يُحَافِظ عَلَى اللَّفْظ كَثِيرًا ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُوز عَكْسُهُ لِمُوَافَقَةِ مَنْ وَافَقَ مُسْلِمًا عَلَى لَفْظه بِخِلَافِ الْبُخَارِيّ ، لَكِنْ مُوَافَقَة أَبِي حَفْص السُّلَمِيّ لَهُ تُؤَيِّد الِاحْتِمَال الْأَوَّل ، وَهَذَا كُلّه مِنْ حَيْثُ حَدِيث اِبْن عُمَر ، أَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى حَدِيث غَيْره فَالِاحْتِمَالَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ فِي كَوْنه قَالَ الظُّهْر لِطَائِفَةِ وَالْعَصْر لِطَائِفَةِ مُتَّجَه فَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون رِوَايَة الظُّهْر هِيَ الَّتِي سَمِعَهَا اِبْن عُمَر وَرِوَايَة الْعَصْر هِيَ الَّتِي سَمِعَهَا كَعْب بْن مَالِك وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْره . فِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْفِقْه أَنَّهُ لَا يُعَاب عَلَى مِنْ أَخَذ بِظَاهِرِ حَدِيث أَوْ آيَة ، وَلَا عَلَى مِنْ اِسْتَنْبَطَ مِنْ النَّصّ مَعْنَى يُخَصّصْهُ ، وَفِيهِ أَنَّ كُلّ مُخْتَلِفَيْن فِي الْفُرُوع مِنْ الْمُجْتَهِدَيْن مُصِيب ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ : وَلَا يَسْتَحِيل أَنْ يَكُون الشَّيْء صَوَابًا فِي حَقّ إِنْسَان وَخَطَأ فِي حَقّ غَيْره وَإِنَّمَا الْمُحَال أَنْ يَحْكُم فِي النَّازِلَة بِحُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْن فِي حَقّ شَخْص وَاحِد ، قَالَ : وَالْأَصْل فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَظْر وَالْإِبَاحَة صِفَات أَحْكَام لَا أَعْيَان قَالَ : فَكُلّ مُجْتَهِد وَافَقَ اِجْتِهَاده وَجْهًا مِنْ التَّأْوِيل فَهُوَ مُصِيب اِنْتَهَى . وَالْمَشْهُور أَنَّ الْجُمْهُور ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمُصِيب فِي الْقَطْعِيَّات وَاحِد ، وَخَالَفَ الْجَاحِظ وَالْعَنْبَرِيّ . وَأَمَّا مَا لَا قَطْع فِيهِ فَقَالَ الْجُمْهُور أَيْضًا : الْمُصِيب(1/14)
وَاحِد ، وَقَدْ ذَكَر ذَلِكَ الشَّافِعِيّ وَقَرَّرَهُ ، وَنُقِلَ عَنْ الْأَشْعَرِيّ أَنَّ كُلّ مُجْتَهِد مُصِيب ، وَأَنَّ حُكْم اللَّه تَابِع لِظَنِّ الْمُجْتَهِد . وَقَالَ بَعْض الْحَنَفِيَّة وَبَعْض الشَّافِعِيَّة . وَهُوَ مُصِيب بِاجْتِهَادِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ مَا فِي نَفْس الْأَمْر فَهُوَ مُخْطِئ وَلَهُ أَجْر وَاحِد ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي كِتَاب الْأَحْكَام إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . ثُمَّ الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْقِصَّة عَلَى أَنَّ كُلّ مُجْتَهِد مُصِيب عَلَى الْإِطْلَاق لَيْسَ بِوَاضِحِ . وَإِنَّمَا فِيهِ تَرْكُ تَعْنِيف مَنْ بَذَل وُسْعَهُ وَاجْتَهَدَ ، فَيُسْتَفَاد مِنْهُ عَدَم تَأْثِيمه . وَحَاصِل مَا وَقَعَ فِي الْقِصَّة أَنَّ بَعْض الصَّحَابَة حَمَلُوا النَّهْي عَلَى حَقِيقَته ، وَلَمْ يُبَالُوا بِخُرُوجِ الْوَقْت تَرْجِيحًا لِلنَّهْيِ الثَّانِي عَلَى النَّهْي الْأَوَّل وَهُوَ تَرْكُ تَأْخِير الصَّلَاة عَنْ وَقْتهَا ، وَاسْتَدَلُّوا بِجَوَازِ التَّأْخِير لِمَنْ اُشْتُغِلَ بِأَمْرِ الْحَرْب بِنَظِيرِ مَا وَقَعَ فِي تِلْكَ الْأَيَّام بِالْخَنْدَقِ فَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيث جَابِر الْمُصَرِّح بِأَنَّهُمْ صَلَّوْا الْعَصْر بَعْدَمَا غَرَبَتْ الشَّمْس وَذَلِك لِشَغْلِهِمْ بِأَمْرِ الْحَرْب ، فَجَوَّزُوا أَنْ يَكُون ذَلِكَ عَامًّا فِي كُلّ شُغْل يَتَعَلَّق بِأَمْرِ الْحَرْب وَلَا سِيَّمَا وَالزَّمَان زَمَان التَّشْرِيع ، وَالْبَعْض الْآخَر حَمَلُوا النَّهْي عَلَى غَيْر الْحَقِيقَة وَأَنَّهُ كِنَايَة عَنْ الْحَثّ وَالِاسْتِعْجَال وَالْإِسْرَاع إِلَى بَنِي قُرَيْظَة . وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُور عَلَى عَدَم تَأْثِيم مِنْ اُجْتُهِدَ لِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُعَنِّف أَحَدًا مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ ، فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ إِثْم لَعَنّفَ مَنْ أَثِمَ ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ اِبْن حِبَّان عَلَى أَنَّ تَارِك الصَّلَاة حَتَّى يَخْرُج وَقْتهَا لَا يُكَفَّر ، وَفِيهِ نَظَر لَا يَخْفَى . وَاسْتَدَلَّ بِهِ غَيْره عَلَى جَوَاز الصَّلَاة عَلَى الدَّوَابّ فِي شِدَّة الْخَوْف ، وَفِيهِ نَظَر قَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي بَاب صَلَاة الْخَوْف . وَعَلَى أَنَّ الَّذِي يَتَعَمَّد تَأْخِير الصَّلَاة حَتَّى يَخْرُج وَقْتهَا يَقْضِيهَا بَعْد ذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا الْعَصْر صَلَّوْهَا بَعْد ذَلِكَ كَمَا وَقَعَ عِنْد اِبْن إِسْحَاق أَنَّهُمْ صَلَّوْهَا فِي وَقْت الْعِشَاء ، وَعِنْد مُوسَى بْن عُقْبة أَنَّهُمْ صَلَّوْهَا بَعْد أَنْ غَابَتْ الشَّمْس ، وَكَذَا فِي حَدِيث كَعْب بْن مَالِك ، وَفِيهِ نَظَر أَيْضًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤَخِّرُوهَا إِلَّا لِعُذْر تَأَوَّلُوهُ ، وَالنِّزَاع إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ أَخَّرَ عَمْدًا بِغَيْرِ تَأْوِيل ، وَأَغْرَب اِبْن الْمُنِير فَادَّعَى أَنَّ الطَّائِفَة الَّذِينَ صَلَّوْا الْعَصْر لَمَّا أَدْرَكَتْهُمْ فِي الطَّرِيق إِنَّمَا صَلَّوْهَا وَهُمْ عَلَى الدَّوَابّ ، وَاسْتَنَدَ إِلَى أَنَّ النُّزُول إِلَى الصَّلَاة يُنَافِي مَقْصُود الْإِسْرَاع فِي الْوُصُول ، قَالَ : فَإِنَّ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا عَمَدُوا بِالدَّلِيلِ الْخَاصّ وَهُوَ الْأَمْر بِالْإِسْرَاعِ فَتَرَكُوا عُمُوم إِيقَاع الْعَصْر فِي وَقْتهَا إِلَى أَنْ فَاتَ ، وَاَلَّذِينَ صَلَّوْا جَمَعُوا بَيْن دَلِيلَيْ وُجُوب الصَّلَاة وَوُجُوب(1/15)
الْإِسْرَاع فَصَلَّوْا رُكْبَانًا ، لِأَنَّهُمْ لَوْ صَلَّوْا نُزُولًا لَكَانَ مُضَادَّة لِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْإِسْرَاع وَلَا يَظُنّ ذَلِكَ بِهِمْ مَعَ ثُقُوب أَفْهَامهمْ اِنْتَهَى . وَفِيهِ نَظَر لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّح لَهُمْ بِتَرْكِ النُّزُول ، فَلَعَلَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ الْمُرَاد بِأَمْرِهِمْ أَنْ لَا يُصَلُّوا الْعَصْر إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة الْمُبَالَغَة فِي الْأَمْر بِالْإِسْرَاعِ فَبَادَرُوا إِلَى اِمْتِثَال أَمْرِهِ ، وَخَصُّوا وَقْت الصَّلَاة مِنْ ذَلِكَ لِمَا تَقَرّرَ عِنْدهمْ مِنْ تَأْكِيد أَمْرِهَا ، فَلَا يَمْتَنِع أَنْ يَنْزِلُوا فَيُصَلُّوا وَلَا يَكُون فِي ذَلِكَ مُضَادَّة لِمَا أُمِرُوا بِهِ ، وَدَعْوَى أَنَّهُمْ صَلَّوْا رُكْبَانًا يَحْتَاج إِلَى دَلِيل وَلَمْ أَرَهُ صَرِيحًا فِي شَيْء مِنْ طُرُق هَذِهِ الْقِصَّة ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَحْث اِبْن بَطّالٍ فِي ذَلِكَ فِي " بَاب صَلَاة الْخَوْف " . وَقَالَ اِبْن الْقَيِّم فِي الْهَدْي مَا حَاصِله : كُلّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مَأْجُور بِقَصْدِهِ ، إِلَّا أَنَّ مَنْ صَلَّى حَازَ الْفَضِيلَتَيْنِ : اِمْتِثَال الْأَمْر فِي الْإِسْرَاع ، وَامْتِثَال الْأَمْر فِي الْمُحَافَظَة عَلَى الْوَقْت وَلَا سِيَّمَا مَا فِي هَذِهِ الصَّلَاة بِعَيْنِهَا مِنْ الْحَثّ عَلَى الْمُحَافَظَة عَلَيْهَا وَأَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ حَبَطَ عَمَله ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَنِّف الَّذِينَ أَخَّرُوهَا لِقِيَامِ عُذْرهمْ فِي اِلْتَمَسَك بِظَاهِرِ الْأَمْر ، وَلِأَنَّهُمْ اِجْتَهَدُوا فَأَخَّرُوا لِامْتِثَالِهِمْ الْأَمْر . لَكِنّهُمْ لَمْ يُصَلُّوا إِلَى أَنْ يَكُون اِجْتِهَادهمْ أَصْوَبُ مِنْ اِجْتِهَاد الطَّائِفَة الْأُخْرَى . وَأَمَّا مَنْ اِحْتَجَّ لِمَنْ أَخَّرَ بِأَنَّ الصَّلَاة حِينَئِذٍ كَانَتْ تُؤَخَّر كَمَا فِي الْخَنْدَق وَكَانَ ذَلِكَ بَيّن فِي قَوْله - صلى الله عليه وسلم - لِعُمَر لَمَّا قَالَ لَهُ مَا كِدْت أُصَلِّي الْعَصْر حَتَّى كَادَتْ الشَّمْس أَنْ تَغْرُب ، فَقَالَ : وَاَللَّه مَا صَلَّيْتهَا . لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَاكِرًا لَهَا لَبَادَرَ إِلَيْهَا كَمَا صَنَعَ عُمَر اِنْتَهَى . وَقَدْ تَقَدَّمَ تَأْخِير الصَّلَاة فِي الْخَنْدَق فِي كِتَاب الصَّلَاة بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَته . (1)
هل المصيب واحد من المجتهدين والباقي مخطئ ؟
قلت : ومما يرد على قول من قال بأن المصيب واحد وما سواه مخطئ ، أنه لا يستقيم القول به إلا عندما يكون في المسألة اختلاف تضاد ، فلا يمكن في هذه الحال أن يكون لله تعالى فيها حكمان متناقضان ، ولاسيما إذا استند أحد القولين لدليل ضعيف مرجوح ، أو لدليل ظنه صحيحا ، فتبين لمن بعده أنه غير صحيح ، أو عمل بالقياس ولم يصله النص المرفوع الصحيح ، ولكنه وصل إلى غيره ، و نحو ذلك .
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (11 / 452)(1/16)
وأمَّا المسائل الخلافية التي يعود الخلاف فيها إلى اختلاف التنوع وليس التضاد ، فالصواب أن الجميع مصيب .
أمثلة على اختلاف التنوع :
أولا- كلُّ نصِّ في القرآن أو السنَّة احتمل معنيين فهو من اختلاف التنوع ، لأن المراد به رفع الحرج عن المكلفين:
أمثلة من القرآن الكريم ، كقوله تعالى في القرآن الكريم : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ..} (228) سورة البقرة
فالقروء وردت في اللغة وعن الصحابة أنها تعني ثلاثة أطهار أو ثلاث حيض ، فأي القولين أخذنا به فهو صواب ، وليس فيه خطأ ، وذلك لأن الآية محتملة لهما ، ولم يرد نصٌّ صحيح صريح عن الشارع الحكيم يحدد أي المعنيين مراد (1) .
وكقوله تعالى حول اللمس : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (43) سورة النساء
فما هو المقصود باللمس هنا ، أهو الجماع أم هو الملاصقة ؟ يعني هل يعني الحقيقة أم المجاز ؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ لَمْسِ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ لِنَقْضِ الْوُضُوءِ . فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ لَمْسَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ وَالْمَرْأَةِ الرَّجُل لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَمَسْرُوقٍ (2) .
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُبَاشَرَةِ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ أَنْ يُبَاشِرَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ بِشَهْوَةٍ وَيَنْتَشِرُ لَهَا وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ وَلَمْ يَرَ بَلَلاً ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ حَدَثًا اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لاَ يَكُونَ حَدَثًا وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ ، وَهَل تُشْتَرَطُ مُلاَقَاةُ الْفَرْجَيْنِ
__________
(1) - انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 677)
(2) - الفتاوى الهندية 1 / 13 ، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 187 .(1/17)
وَهِيَ مُمَاسَّتُهُمَا ؟ عَلَى قَوْلِهِمَا لاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَشَرَطَهُ فِي النَّوَادِرِ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مُلاَقَاةَ الْفَرْجَيْنِ أَيْضًا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِ الْمُتَوَضِّئِ الْبَالِغِ لِشَخْصٍ يَلْتَذُّ بِهِ عَادَةً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَلَوْ كَانَ الْمَلْمُوسُ غَيْرَ بَالِغٍ سَوَاءٌ أَكَانَ اللَّمْسُ لِزَوْجَتِهِ أَوْ أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ مَحْرَمًا أَمْ كَانَ اللَّمْسُ لِظُفُرٍ أَوْ شَعَرٍ أَمْ مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ كَثَوْبٍ ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْحَائِل خَفِيفًا يُحِسُّ اللاَّمِسُ مَعَهُ بِطَرَاوَةِ الْبَدَنِ أَمْ كَانَ كَثِيفًا ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ اللَّمْسُ بَيْنَ الرِّجَال أَمْ بَيْنَ النِّسَاءِ ، فَاللَّمْسُ بِلَذَّةٍ نَاقِضٌ .
وَالنَّقْضُ بِاللَّمْسِ مَشْرُوطٌ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ : أَنْ يَكُونَ اللاَّمِسُ بَالِغًا ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَلْمُوسُ مِمَّنْ يُشْتَهَى عَادَةً ، وَأَنْ يَقْصِدَ اللاَّمِسُ اللَّذَّةَ أَوْ يَجِدَهَا .
وَلاَ يُنْقَضُ الْوُضُوءُ بِلَذَّةٍ مِنْ نَظَرٍ أَوْ فِكْرٍ ، وَلَوْ حَدَثَ إِنْعَاظٌ مَا لَمْ يُمْذِ بِالْفِعْل ، وَلاَ بِلَمْسِ صَغِيرَةٍ لاَ تُشْتَهَى أَوْ بَهِيمَةٍ أَوْ رَجُلٍ مُلْتَحٍ ، إِذِ الشَّأْنُ عَدَمُ التَّلَذُّذِ بِهِ عَادَةً إِذَا كَمَلَتْ لِحْيَتُهُ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا الْتَقَتْ بَشَرَتَا رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ تُشْتَهَى ، انْتَقَضَ وُضُوءُ اللاَّمِسِ مِنْهُمَا ، سَوَاءٌ كَانَ اللاَّمِسُ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةَ ، وَسَوَاءٌ كَانَ اللَّمْسُ بِشَهْوَةٍ أَمْ لاَ ، تَعْقُبُهُ لَذَّةٌ أَمْ لاَ ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ ذَلِكَ أَمْ حَصَل سَهْوًا أَوِ اتِّفَاقًا ، وَسَوَاءٌ اسْتَدَامَ اللَّمْسَ أَمْ فَارَقَ بِمُجَرَّدِ الْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ ، وَسَوَاءٌ لَمَسَ بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ أَوْ بِغَيْرِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَلْمُوسُ أَوِ الْمَلْمُوسُ بِهِ صَحِيحًا أَوْ أَشَل ، زَائِدًا أَوْ أَصْلِيًّا ، فَكُل ذَلِكَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ، وَهَل يَنْقُضُ وُضُوءَ الْمَلْمُوسِ ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ مَشْهُورَانِ ، وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمْ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ مَبْنِيَّانِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ ، فَمَنْ قَرَأَ ( لَمَسْتُمْ ) لَمْ يُنْقَضِ الْمَلْمُوسُ لأَِنَّهُ لَمْ يَلْمِسْ ، وَمَنْ قَرَأَ ( لاَمَسْتُمْ ) نَقَضَهُ لأَِنَّهَا مُفَاعَلَةٌ ، وَاخْتُلِفَ فِي الأَْصَحِّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَصَحَّحَ الرُّويَانِيُّ - وَالشَّاشِيُّ عَدَمَ الاِنْتِقَاضِ ، وَصَحَّحَ الأَْكْثَرُونَ الاِنْتِقَاضَ (3) .
__________
(1) - بدائع الصنائع 1 / 147 ط . الإمام ، والفتاوى الهندية 1 / 13 ، والمبسوط 1 / 68 .
(2) - حاشية الدسوقي 1 / 119 .
(3) - المجموع 2 / 26 نشر المكتبة العلمية .(1/18)
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ لَمْسَ النِّسَاءِ لِشَهْوَةٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَلاَ يَنْقُضُهُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ ، وَهَذَا قَوْل عَلْقَمَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالشَّعْبِيِّ (1) .
وَلاَ يَنْقُضُ مَسُّ الرَّجُل الطِّفْلَةَ وَلاَ الْمَرْأَةِ الطِّفْل ، أَيْ مَنْ دُونَ سَبْعٍ (2) .
وَلاَ يَخْتَصُّ اللَّمْسُ النَّاقِضُ بِالْيَدِ بَل أَيُّ شَيْءٍ مِنْهُ لاَقَى شَيْئًا مِنْ بَشَرَتِهَا مَعَ الشَّهْوَةِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ عُضْوًا أَصْلِيًّا أَوْ زَائِدًا .
وَلاَ يَنْقُضُ مَسُّ شَعَرِ الْمَرْأَةِ وَلاَ ظُفُرُهَا وَلاَ سِنُّهَا وَلاَ يَنْقُضُ لَمْسُهَا لِشَعَرِهِ وَلاَ سِنِّهِ وَلاَ ظُفُرِهِ (3) .
قلت : وربما استدل البعض بحديث عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ نَبِىُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُنِى إِذَا خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ وَمَا يَتَوَضَّأُ.
وظن أنه نصٌّ في محل النزاع ، فيقال له ما يلي :
أولا- لم يثبت من وجه صحيح سليم من العلل ، وقد ذكره الدارقطني في سننه (495- 521) وذكر جميع طرقه المرفوعة وردها ، وبين عللها جميعاً .
ثانيا- لو صح لما كان فيه حجة ،لأنه يحتمل هل قبَّلها بشهوة أم لا ، وهل النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلنا في هذا الأمر أم لا ؟
ثالثا- المشهور أنه قد ورد في الصوم ، كما في مسند أحمد (26347) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ حَدَّثَنِى أَبِى قَالَ أَخْبَرْتِنِى عَائِشَةُ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ وَهُوَ صَائِمٌ.( وهو صحيح على شرطهما)
وفي صحيح البخاري( 1927 ) ومسلم (2635) عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ ، وَهُوَ صَائِمٌ ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ
وفي صحيح مسلم (2635 )عَنِ الأَسْوَدِ قَالَ انْطَلَقْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ إِلَى عَائِشَةَ - رضى الله عنها - فَقُلْنَا لَهَا أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ قَالَتْ نَعَمْ وَلَكِنَّهُ كَانَ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ أَوْ مِنْ أَمْلَكِكُمْ لإِرْبِهِ.
__________
(1) - المغني مع الشرح الكبير 1 / 186 - 187 .
(2) - كشاف القناع 1 / 129 .
(3) - المغني مع الشرح الكبير 1 / 190 وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 35 / ص 331)(1/19)
ومن ثم نقول : إن المسالة محتملة لكل ما قاله الفقهاء ، وأي قول منها صواب ، ولا نستطيع تخطئة واحد منهم .
أمثلة من السنَّة، كما في صحيحي البخارى(946) ومسلم (4701 ) عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ :« لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ » . فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِى الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نُصَلِّى حَتَّى نَأْتِيَهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّى لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ . فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ .
فقد انقسم الصحابة إلى قسمين في فهم هذا الحديث - وهم الذين عاصروا التنزيل- وكلاهما عمل باجتهاده ، فقسم صلاها قبل مغيب الشمس استنادا لفحوى النص ، والقسم الآخر صلاهما بعد وصوله لبني قريظة ، بعد مغيب الشمس استنادا لظاهر النص، ولما ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - َلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ ، أي أنَ كلا منهما كان اجتهاده صحيحاً ، وصواباً ،بدليل أنه لم ينكر على أي الفريقين .
وقد أثنى - صلى الله عليه وسلم - في مواقف أخرى على أحد الفريقين ، ففي مصنف ابن أبي شيبة (ج 12 / ص 357)(33708) حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُيُونًا لِمُسَيْلِمَةَ أَخَذُوا رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَتَوْهُ بِهِمَا ، فَقَالَ لأَحَدِهِمَا : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ ؟ قَالَ : فَأَهْوَى إلَى أُذُنَيْهِ ، فَقَالَ : إنِّي أَصَمُّ ، قَالَ : مَا لَكَ إذَا قُلْتُ لَكَ : تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ , قُلْتُ إنِّي أَصَمُ , فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ ، وَقَالَ لِلآخَرِ : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : أَتَشَهَّدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ ، قَالَ : نَعَمْ , فَأَرْسَلَهُ , فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ : هَلَكْت ، قَالَ : وَمَا شَأْنُك فَأَخْبَرُوهُ بِقِصَّتِهِ وَقِصَّةِ صَاحِبِهِ ، فَقَالَ : أَمَّا صَاحِبُك فَمَضَى عَلَى إيمَانِهِ , وَأَمَّا أَنْتَ فَأَخَذْتَ بِالرُّخْصَةِ.( وهو صحيح مرسل)
فبين أن الأول أخذ بالعزيمة ، والثاني بالرخصة ، وفرقُ كبير بين المرتبتين.
وفي سنن ابن ماجه(234 ) والطيالسي(2365) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : دَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَسْجِدَ وَقَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَقَوْمٌ يَتَذَاكَرُونَ الْفِقْهَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : كِلاَ الْمَجْلِسَيْنِ إِلَى خَيْرٍ ، أَمَّا الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ فَإِنْ شَاءَ(1/20)
أَعْطَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ ، وَهَؤُلاَءِ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ وَيَتَعَلَّمُونَ ، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا ، وَهَذَا أَفْضَلُ فَقَعَدَ مَعَهُمْ."
وفي مسند البزار(2458)عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِمَجْلِسَيْنِ فِي مَسْجِدِهِ ، وَأَحَدُ الْمَجْلِسَيْنِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَرْغَبُونَ إِلَيْهِ وَالآخَرُ يَتَعَلَّمُونَ الْفِقْهَ وَيُعَلِّمُونَهُ ، فَقَالَ : كِلا الْمَجْلِسَيْنِ عَلَى خَيْرٍ وَأَحَدُهُمَا أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِهِ ، أَمَّا هَؤُلاءِ فَيَدْعُونَ اللَّهَ وَيَرْغَبُونَ ، إِلَيْهِ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ ، وَأَمَّا هَؤُلاءِ فَيَعْلَمُونَ الْعِلْمَ وَيُعَلِّمُونَ الْجَاهِلَ ، فَهُمْ أَفْضَلُ وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا ثُمَّ جَلَسَ مَعَهُمْ.( وهو حسن لغيره)
فهنا تكلَّم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بحق المجلسين ، وبين الأفضل منهما .
وهكذا كثير من الأوامر والنواهي ، فمن حمل الأمر على الوجوب ، لا ينافي من حمله على الاستحباب، ومن حمل النهي على التحريم لا ينافي من حمله على الكراهة ، ولاسيما إذا لم يكن ثمة دليل قويٌّ يرجِّح أحد الاحتمالين.
مثال على الأمر :
ففي صحيح مسلم (4063 ) عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ. (1) وهناك أحاديث كثيرة متعارضة في هذا الموضوع
فقد اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الثَّمَرَة إِذَا بِيعَتْ بَعْد بُدُوّ الصَّلَاح ، وَسَلَّمَهَا الْبَائِع إِلَى الْمُشْتَرِي بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنه وَبَيْنهَا ، ثُمَّ تَلِفَتْ قَبْل أَوَان الْجُذَاذ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّة ، هَلْ تَكُون مِنْ ضَمَان الْبَائِع أَوْ الْمُشْتَرِي ؟
فَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي أَصَحّ قَوْلَيْهِ ، وَأَبُو حَنِيفَة وَاللَّيْث بْن سَعْد وَآخَرُونَ : هِيَ فِي ضَمَان الْمُشْتَرِي ، وَلَا يَجِب وَضْع الْجَائِحَة ، لَكِنْ يُسْتَحَبّ .أي أنهم حملوا الأمر على الاستحباب .
وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم وَطَائِفَة : هِيَ فِي ضَمَان الْبَائِع ، وَيَجِب وَضْع الْجَائِحَة ، واحتجوا بما في صحيح مسلم (4062 )عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إِنْ لَمْ يُثْمِرْهَا اللَّهُ فَبِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ ؟».
__________
(1) - الجوائح : جمع الجائحة وهى الآفة التى تهلك الثمار والأموال(1/21)
وَقَالَ مَالِك : إِنْ كَانَتْ دُون الثُّلُث لَمْ يَجِب وَضْعهَا ، وَإِنْ كَانَت الثُّلُث فَأَكْثَر وَجَبَ وَضْعهَا وَكَانَتْ مِنْ ضَمَان الْبَائِع ، واحتج بالجمع بين الروايات ، وبالقياس.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِوَضْعِهَا بِقَوْلِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ ، وبما في صحيح مسلم(4058 )عَنْ أَبِى الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ ». وَلِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبَاقِيَة فِي يَد الْبَائِع مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَلْزَمهُ سَقْيهَا ، فَكَأَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْل الْقَبْض فَكَانَتْ مِنْ ضَمَان الْبَائِع .
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَجِب وَضْعهَا بما في صحيح مسلم(4064) عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ ». فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِغُرَمَائِهِ: « خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ ». فَأَمَرَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بِالصَّدَقَةِ عَلَيْهِ ، وَدَفَعَهُ إِلَى غُرَمَائِهِ ؛ فَلَوْ كَانَتْ تُوضَع لَمْ يُفْتَقَر إِلَى ذَلِكَ . وَحَمَلُوا الْأَمْر بِوَضْعِ الْجَوَائِح عَلَى الِاسْتِحْبَاب " (1)
والصواب أن الكلَ مصيبٌ ، لأنه لا يوجد دليل قاطع يفصِّل في هذه المسألة.
مثال على النهي :
ففي صحيح البخارى(1962)عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْوِصَالِ . قَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ . قَالَ « إِنِّى لَسْتُ مِثْلَكُمْ ، إِنِّى أُطْعَمُ وَأُسْقَى » .
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْوِصَال فِي الصَّوْمِ :
فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ) إِلَى أَنَّ الْوِصَال فِي الصَّوْمِ مَكْرُوهٌ فِي حَقِّ الأُْمَّةِ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاصَل فِي رَمَضَانَ ، فَوَاصَل النَّاسُ ، فَنَهَاهُمْ . قِيل لَهُ : أَنْتَ تُوَاصِل ، قَال : إِنِّي لَسْتُ
__________
(1) - انظر شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 399)(1/22)
مِثْلَكُمْ ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى ، وَلأَِنَّ النَّهْيَ وَقَعَ رِفْقًا وَرَحْمَةً ؛ وَلِهَذَا وَاصَل رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَوَاصَلُوا بَعْدَهُ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ الْوِصَال حَرَامٌ عَلَى الأُْمَّةِ - نَفْلاً كَانَ الصَّوْمُ أَوْ فَرْضًا - مُبَاحٌ لَهُ - صلى الله عليه وسلم - ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - " نَهَى عَنِ الْوِصَال (2) أَيْ نَهْيَ تَحْرِيمٍ فِي الأَْصَحِّ".
فحديث النهى عن الوصال ، يحتمل التحريم ، ويحتمل الكراهة ، ولا نستطيع القطع بواحد منهما ، فالصواب أن كلا الاحتمالين صحيح .
مثال آخر : كما في صحيح البخارى(2159 ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ . وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ .
حُكْمُ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي (3) :
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ مَعَ صِحَّتِهِ ، وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ (4) وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِالْكَرَاهَةِ ، وَهِيَ لِلتَّحْرِيمِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ . كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ، لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ صَحِيحٌ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ ، كَمَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ .
وَالنَّهْيُ عَنْهُ لاَ يَسْتَلْزِمُ الْفَسَادَ وَالْبُطْلاَنَ ، لأَِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِ الْبَيْعِ ، لأَِنَّهُ لَمْ يَفْقِدْ رُكْنًا ، وَلاَ إِلَى لاَزِمِهِ ، لأَِنَّهُ لَمْ يَفْقِدْ شَرْطًا ، بَل هُوَ رَاجِعٌ لأَِمْرٍ خَارِجٍ غَيْرِ لاَزِمٍ ، كَالتَّضْيِيقِ وَالإِْيذَاءِ (5) .
قَال الْمَحَلِّيُّ : وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ : فَيَأْثَمُ بِارْتِكَابِهِ الْعَالِمُ بِهِ ، وَيَصِحُّ الْبَيْعُ (6) .
__________
(1) - الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 201 ، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 274 ، وَشَرْح الْخَرَشِيّ وَحَاشِيَة الْعَدَوِيّ 3 / 163 ، وَالشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 213 ، وَالْمَجْمُوعِ شَرْح الْمُهَذَّب 6 / 356 - 359 ، وَدَلِيل الْفَالِحِينَ لِطُرُقِ رِيَاض الصَّالِحِينَ 4 / 586 - 587 ، والقليوبي عَلَى الْمَحَلِّيِّ 2 / 61 ، وَأَسْنَى الْمَطَالِب ، وَحَاشِيَة الرَّمْلِيّ 1 / 419 ، 3 / 101 ، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 434 ، وَكَشَّاف الْقِنَاع ( 2 / 332 ، 2 / 342 ) ، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 2 / 221 .
(2) - انظر الفتح ،الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 43 / ص 161)
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 9 / ص 84)
(4) - حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 68 ، والدر المختار 4 / 132 ، والهداية بشروحها 6 / 108
(5) - شرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي عليه 2 / 182 وقارن بالمغني 4 / 280
(6) - المرجع السابق(1/23)
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَلاَ كَرَاهَةَ فِيهِ ، وَأَنَّ النَّهْيَ اخْتُصَّ بِأَوَّل الإِْسْلاَمِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنَ الضِّيقِ ، قَال أَحْمَدُ : كَانَ ذَلِكَ مَرَّةً (1) .
مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَهُمْ ، أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ حَرَامٌ ، وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا وَفَاسِدٌ ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْخِرَقِيُّ ، لأَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ (2)
وَكَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْبُهُوتِيُّ بِقَوْلِهِ : فَيَحْرُمُ ، وَلاَ يَصِحُّ لِبَقَاءِ النَّهْيِ عَنْهُ (3) .
وَقَال أَحْمَدُ لَمَّا سُئِل عَنْ هَذَا الْبَيْعِ : أَكْرَهُ ذَلِكَ ، وَأَرُدُّ الْبَيْعَ فِي ذَلِكَ (4) " .
فهنا نلاحظ اختلافهم حول هذه القاعدة : هل النهي يقتضي الفساد والبطلان أم لا ؟ فلا نستطيع الجزم بواحد منهما ؛لأن الأدلة محتملة ، فالكلُّ - فيما أرى- صوابٌ .
ثانيا- ما وردت فيه روايات صحيحة متعددة مرادة من الشارع، مراعاة لأحوال المكلفين ، لرفع الحرج عنهم ، فيما لو أخذوا بهذا أو ذاك.
أمثلة على ذلك :
الأول- في قراءة القرآن ، ففي صحيح البخارى(2410 )عن عَبْد اللَّهِ قالَ :سَمِعْتُ رَجُلاً قَرَأَ آيَةً سَمِعْتُ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - خِلاَفَهَا ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ ، فَأَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ » . قَالَ شُعْبَةُ أَظُنُّهُ قَالَ « لاَ تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا » .
وفي صحيح البخارى(4992 )عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ الْقَارِىَّ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِى الصَّلاَةِ
__________
(1) - المغني 4 / 280 ، والإنصاف 4 / 333
(2) - المغني 4 / 280
(3) - كشاف القناع 3 / 18 ، والشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي عليه 3 / 69
(4) - المغني 4 / 280(1/24)
فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِى سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ . قَالَ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقُلْتُ كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ إِنِّى سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَرْسِلْهُ اقْرَأْ يَا هِشَامُ » . فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِى سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ » . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ » . ثُمَّ قَالَ « اقْرَأْ يَا عُمَرُ » . فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِى أَقْرَأَنِى ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ » (1) .
وفي مسند أحمد (21747) عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ قَرَأْتُ آيَةً وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ خِلاَفَهَا فَأُتِيتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ أَلَمْ تُقْرِئْنِى آيَةَ كَذَا وَكَذَا قَالَ « بَلَى ». فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَلَمْ تُقْرِئْنِيهَا كَذَا وَكَذَا فَقَالَ « بَلَى كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ مُجْمِلٌ ». قَالَ فَقُلْتُ لَهُ فَضَرَبَ صَدْرِى فَقَالَ « يَا أُبَىُّ بْنَ كَعْبٍ إِنِّى أُقْرِئْتُ الْقُرْآنَ فَقِيلَ لِى عَلَى حَرْفٍ أَوْ عَلَى حَرْفَيْنِ قَالَ فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِى مَعِى عَلَى حَرْفَيْنِ. فَقُلْتُ عَلَى حَرْفَيْنِ،فَقَالَ عَلَى حَرْفَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ. فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِى مَعِى عَلَى ثَلاَثَةٍ. فَقُلْتُ عَلَى ثَلاَثَةٍ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ لَيْسَ مِنْهَا إِلاَّ شَافٍ كَافٍ إِنْ قُلْتَ غَفُوراً رَحِيماً أَوْ قُلْتَ سَمِيعاً عَلِيماً أَوْ عَلِيماً سَمِيعاً فَاللَّهُ كَذَلِكَ مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ ». ( صحيح)
فهذه القراءات المنوعة كلها صحيحة ، وأي قراءة متواترة قرأنا بها فنحن مصيبون جميعاً بلا ريب.
الثاني - أدعية الاستفتاح للصلاة ، فقد وردت روايات صحيحة عديدة ، ففي صحيح مسلم(1848 )عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ قَالَ « وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ. أَنْتَ رَبِّى وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِى وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِى فَاغْفِرْ لِى ذُنُوبِى جَمِيعًا إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ وَاهْدِنِى لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ لاَ
__________
(1) - أساور : أواثب وأقاتل - لبب : جمع ثيابه عند صدره ثم جره(1/25)
يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِى يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ ». وَإِذَا رَكَعَ قَالَ « اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ خَشَعَ لَكَ سَمْعِى وَبَصَرِى وَمُخِّى وَعَظْمِى وَعَصَبِى ». وَإِذَا رَفَعَ قَالَ « اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَىْءٍ بَعْدُ ». وَإِذَا سَجَدَ قَالَ « اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ سَجَدَ وَجْهِى لِلَّذِى خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ». ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ».
وفي سنن أبى داود(775 )عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ كَبَّرَ ثُمَّ يَقُولُ « سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ ». ثُمَّ يَقُولُ « لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ». ثَلاَثًا ثُمَّ يَقُولُ « اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا ». ثَلاَثًا « أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ». ثُمَّ يَقْرَأُ. (صحيح)
وفي السنن الكبرى للبيهقي (ج 2 / ص 34)(2445) عَنِ الأَسْوَدِ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ كَبَّرَ ثُمَّ قَالَ :« سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ ، وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ » ( صحيح) وروي من طرق عنه وعن بعض الصحابة.
وفي مصنف ابن أبي شيبة(ج 1 / ص 231)(2411) عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ ، قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، ثَلاَثًا ، الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا ، ثَلاَثًا ، سُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ، ثَلاَثًا ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرجيم ، مِنْ هَمْزِهِ ، وَنَفْخِهِ ، وَنَفْثِهِ.(حسن)
وفي مصنف ابن أبي شيبة (ج 1 / ص 232)(2420)عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي الْخَلِيلِ ، عَنْ عَلِيٍّ ، قَالَ : سَمِعْتُهُ حِينَ كَبَّرَ فِي الصَّلاَةِ ، قَالَ : لاَ إلَهَ أَنْتَ سُبْحَانَك ، إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي ، إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ.(حسن)(1/26)
وفي السنن الكبرى للبيهقي (ج 2 / ص 35)(2446) عن بِشْرَ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِى حَمْزَةَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلاَةَ قَالَ :« سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ تَبَارَكَ اسْمُكَ ، وَتَعَالَى جَدُّكَ ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ ، وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، إِنَّ صَلاَتِىَ وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لاَ شَرِيكَ لَهُ ».(حسن)
فأي رواية أخذنا بها فهو صحيح وصواب ، ولا حرج في ذلك .
الثالث- صلاة المسبوق، ففي مصنف ابن أبي شيبة(ج 2 / ص 490)(8569) عَنْ إبْرَاهِيمَ ، قَالَ : أَدْرَكَ مَسْرُوقٌ وَجُنْدُبٌ رَكْعَةً مِنَ الْمَغْرِبِ ، فَلَمَّا سَلَّمَ الإِمَام قَامَ مَسْرُوقٌ فَأَضَافَ إلَيْهَا رَكْعَةً ، ثُمَّ جَلَسَ وَقَامَ جُنْدُبٌ فِيهَما جَمِيعًا ، ثُمَّ جَلَسَ فِي آخِرِهَا فَذَكَرَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللهِ ، فَقَالَ : كِلاَهُمَا قَدْ أَحْسَنَ وَأَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ مَسْرُوقٌ أَحَبُّ إلَيَّ.( صحيح)
وفيه (8570) عَنْ إبْرَاهِيمَ : أَنَّ جُنْدُبًا وَمَسْرُوقًا خَرَجَا يُرِيدَانِ صَلاَةَ الْمَغْرِبِ فَأَدْرَكَا مَعَ الإِمَامِ رَكْعَةً ، فَلَمَّا سَلَّمَ الإِمَام جَلَسَ مَسْرُوقٌ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ ، وَلَمْ يَجْلِسْ جُنْدُبٌ ، قَالَ وَقَرَأَ جُنْدُبٌ فِي الرَّكْعَةِ الَّتِي أَدْرَكَ وَلَمْ يَقْرَأْ مَسْرُوقٌ ، فَأَتَيَا ابْنَ مَسْعُودٍ فَذَكَرَا لَهُ مَا صَنَعَا ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ : كِلاَكُمَا قَدْ أَحْسَنَ وَأَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ مَسْرُوقٌ.(صحيح)
الرابع- في التشهد، فقد وردت صيغ عديدة له أشهرها عن ابن مسعود وابن عباس وعائشة وعمر ، وجابر وغيرهم والكلُّ صحيحٌ ، فيمكن الأخذ بأيِّ تشهدٍ منها ، وكلُّها صواب ، فهذا وأمثاله من اختلاف التنوع ، فكلُّ ما دخل تحت هذا الباب فلا يقال فيه صواب وخطأ ، بل الكلُّ المصيبٌ ، والتنوعُ مرادٌ .والله أعلم (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - انظر التفاصيل في كتابي (( الخلاصة في أحكام الاجتهاد والتقليد ))(1/27)
يحشرُ المرءُ معَ منْ أحبَّ
4- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَتَى قِيَامُ السَّاعَةِ ؟ فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الصَّلاَةِ ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ ، قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ سَاعَتِهِ ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : مَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ قَالَ : مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ شَيْءٍ ، وَلاَ صَلاَةٍ ، وَلاَ صِيَامٍ ، أَوْ قَالَ : مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ عَمَلٍ ، إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ ، أَوْ قَالَ : أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ أَنَسٌ : فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بِشَيْءٍ بَعْدَ الإِسْلاَمِ مِثْلَ فَرَحِهِمْ بِهَذَا. (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَتَى السَّاعَةُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا أَعْدَدْتَ لَهَا ». قَالَ حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ « أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ».
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ « وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا ». فَلَمْ يَذْكُرْ كَبِيرًا. قَالَ وَلَكِنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ « فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ».
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ « وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ ». قَالَ حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ « فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ». قَالَ أَنَسٌ فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الإِسْلاَمِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - « فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ». قَالَ أَنَسٌ فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ.
وعَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِى الْجَعْدِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَارِجَيْنِ مِنَ الْمَسْجِدِ فَلَقِينَا رَجُلاً عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا أَعْدَدْتَ لَهَا ». قَالَ فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صَلاَةٍ وَلاَ صِيَامٍ وَلاَ صَدَقَةٍ وَلَكِنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ « فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ». (2)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 308) (105) صحيح
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6878 - 6883)
السدة : الظلال المسقفة عند باب المسجد وحوله وأصله الباب والظلة تجعل فوقه(1/28)
عنوان هذا الحديث متواتر وهذه بعض طرقه :
فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : هَاجَرَتُ مَعَ أَبِي إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ لَهُ أَبِي : إِنَّ هَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ، هَاجَرَ إِلَيْكَ لِيَرَى حُسْنَ وَجْهِكَ قَالَ : هُوَ مَعِي ، إِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" . (1)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ قُدَامَةَ ، قَالَ : هَاجَرَ أَبِي صَفْوَانُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَبَايَعَهُ عَلَى الإِسْلامِ ، فَمَدَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ ، فَمَسَحَ عَلَيْهَا ، فَقَالَ صَفْوَانُ : إِنِّي أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " (2)
وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ الطَّائِيِّ ، أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " (3)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ:الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ." (4)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ فَبَالَ فِى الْمَسْجِدِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَانِهِ فَاحْتُفِرَ فَصُبَّ عَلَيْهِ دَلْوٌ مِنْ مَاءٍ فَقَالَ الأَعْرَابِىُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمَرْءُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَعْمَلْ بِعَمَلِهِمْ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ ». (5)
وعَنْ أَبِى وَائِلٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رضى الله عنه جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَقُولُ فِى رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ » (6) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِى رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ » (7) .
وعَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ:"الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " (8)
__________
(1) - الآحاد والمثاني - (2 / 409) (1221) حسن
(2) - المعجم الصغير للطبراني - (1 / 98) (133) و المعجم الكبير للطبراني - (7 / 74) (7270 ) صحيح
(3) - المعجم الصغير للطبراني - (1 / 57) (59) و المعجم الكبير للطبراني - (12 / 96) (13838) صحيح
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (6168 ) والمعجم الكبير للطبراني - (8 / 321) (9661)
(5) - سنن الدارقطنى- المكنز -1/132 (488 ) سَمْعَانُ مَجْهُولٌ.
(6) - صحيح البخارى- المكنز - (6169 )
(7) - صحيح مسلم- المكنز - (6888 )
(8) - المعجم الكبير للطبراني - (20 / 170) (1578و 1622 ) صحيح(1/29)
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِمْ. قَالَ :« أَنْتَ يَا أَبَا ذَرٍّ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ». قُلْتُ : فَإِنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ :« أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ». (1)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْمَلَ كَعَمَلِهِمْ ؟ قَالَ : إِنَّكَ يَا أَبَا ذَرٍّ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ، قَالَ : فَإِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، قَالَ : أَنْتَ يَا أَبَا ذَرٍّ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ." (2)
وعَنْ أَنَسٍ ، عَن ِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " (3)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ وَلَهُ مَا اكْتَسَبَ ». وَفِى الْبَابِ عَنْ عَلِىٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَصَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ وَأَبِى هُرَيْرَةَ وَأَبِى مُوسَى. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ الْبَصْرِىِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . وَقَدْ رُوِىَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . (4)
وعَنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" (5)
وعن جَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ فَقَالَ وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا فَقَالَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَضَعِيفُ الْعَمَلِ وَإِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ " (6)
وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ جَهْوَرِىُّ الصَّوْتِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (7)
__________
(1) - سنن الدارمى- المكنز - (2843) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 316)(556) صحيح
(3) - المعجم الصغير للطبراني - (1 / 109) (154) صحيح لغيره
(4) - سنن الترمذى- المكنز - (2561 ) صحيح
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (14 / 477) (16562 ) صحيح
(6) - بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث - (2 / 990) (1106) صحيح
(7) - سنن الترمذى- المكنز - (2562 ) صحيح(1/30)
وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالِ الْمُرَادِيِّ ، عَن ِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " (1)
وعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ أَتَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ الْمُرَادِىَّ أَسْأَلُهُ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَالَ مَا جَاءَ بِكَ يَا زِرُّ فَقُلْتُ ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ فَقَالَ إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ. قُلْتُ إِنَّهُ حَكَّ فِى صَدْرِى الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَعْدَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَكُنْتَ امْرَأً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجِئْتُ أَسْأَلُكَ هَلْ سَمِعْتَهُ يَذْكُرُ فِى ذَلِكَ شَيْئًا قَالَ نَعَمْ كَانَ يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَرًا أَوْ مُسَافِرِيِنَ أَنْ لاَ نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ إِلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ. فَقُلْتُ هَلْ سَمِعْتَهُ يَذْكُرُ فِى الْهَوَى شَيْئًا قَالَ نَعَمْ كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَفَرٍ فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ إِذْ نَادَاهُ أَعْرَابِىٌّ بِصَوْتٍ لَهُ جَهْوَرِىٍّ يَا مُحَمَّدُ. فَأَجَابَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى نَحْوٍ مِنْ صَوْتِهِ هَاؤُمُ وَقُلْنَا لَهُ وَيْحَكَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ فَإِنَّكَ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ نُهِيتَ عَنْ هَذَا. فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَغْضُضُ. قَالَ الأَعْرَابِىُّ الْمَرْءُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ.
قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». فَمَازَالَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى ذَكَرَ بَابًا مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ مَسِيرَةُ عَرْضِهِ أَوْ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِى عَرْضِهِ أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ عَامًا قَالَ سُفْيَانُ قِبَلَ الشَّامِ خَلَقَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مَفْتُوحًا يَعْنِى لِلتَّوْبَةِ لاَ يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (2)
وعَنْ صَفْوَانَ بن عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فِي سَفَرٍ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَالُوا: اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ، وَلَمْ يَرَهُمْ، قَالَ:"الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ".
ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَ:"ثَلاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمٌ وَلَيْلَةٌ لِلْمُقِيمِ، لا يَنْزِعُهُ مِنْ بَوْلٍ، وَلا نَوْمٍ، وَلا غَائِطٍ، إِلا مِنْ جَنَابَةٍ".
ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ التَّوْبَةِ، فَقَالَ:"لِلتَّوْبَةِ بَابٌ بِالْمَغْرِبِ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا، لا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا". (3)
__________
(1) - المعجم الصغير للطبراني - (1 / 161) (250) صحيح لغيره
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (3878 و 3879 ) صحيح
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (7 / 50) (7198 -7200 ) صحيح(1/31)
وعَنْ زِرِّ بن حُبَيْشٍ، قَالَ: أَتَيْتُ صَفْوَانَ بن عَسَّالٍ، وَقَدْ حَكَّ فِي صَدْرِي مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ قَدْ حَكَّ فِي صَدْرِي مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ شَيْءٌ قَالَ: نَعَمْ،"أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا كُنَّا سَفَرًا، أَوْ مُسَافِرِينَ أَنْ لا نَنْزِعَ، أَوْ نَخْلَعَ خِفَافَنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ مِنْ غَائِطٍ، وَلا بَوْلٍ، وَلا نَوْمٍ إِلا الْجَنَابَةَ".
وإِنَّ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِ بِصَوْتٍ لَهُ جَهْوَرِيٌّ، أَيَا مُحَمَّدُ، أَيَا مُحَمَّدُ، فَقُلْنَا لَهُ: وَيْحَكَ اخْفِضْ، أَوِ اغْضُضْ، مِنْ صَوْتِكَ، فَإِنَّكَ قَدْ نُهِيتَ مِنْ هَذَا، قَالَ: لا وَاللَّهِ حَتَّى أَسْمَعَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"هَاؤُمُ"، قَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلا أَحَبَّ قَوْمًا، وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ قَالَ:"ذَلِكَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ". (1)
وعَنْ زِرِّ بن حُبَيْشٍ، قَالَ: غَدَوْتُ عَلَى صَفْوَانَ بن عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ، فَقُلْتُ: ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ، فَقَالَ: أَلا أُبَشِّرُكَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، فَرَفَعَ الْحَدِيثَ، قَالَ:"إِنَّ الْمَلائِكَةَ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًى بِمَا يَطْلُبُ".
ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:"يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ مِنْ: بَوْلٍ، أَوْ غَائِطٍ، أَوْ نَوْمٍ، لا مِنْ جَنَابَةٍ".
ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا، فَقَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ، إِذْ نَادَاهُ أَعْرَابِيٌّ بِصَوْتٍ لَهُ جَهْوَرِيٌّ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فَقُلْتُ: اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ، فَإِنَّكَ نُهِيتَ أَنْ تَرْفَعَ صَوْتَكَ، فَأَجَابَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى نَحْوٍ مِمَّا سَمِعَ مِنْهُ، فَقَالَ:"هَاؤُمُ"، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ الْهَوَى، عَنِ الْمَرْءِ يُحِبُّ الْقَوْمَ لَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ".
ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا، فَقَالَ:"بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ، وَعَرْضُهُ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا، لا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ قِبَلِهِ"ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ "{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (33) سورة النحل." (2)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (7 / 54) (7213 و7214 ) صحيح
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (7 / 55) (7215 -7218) صحيح(1/32)
وعَنْ زِرِّ بن حُبَيْشٍ، قَالَ: أَتَيْتُ صَفْوَانَ بن عَسَّالٍ الْمُرَادِيَّ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا أَصْلَعُ؟ فَقُلْتُ: ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الْمَلائِكَةَ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًى بِمَا يَصْنَعُ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ حَاكَ، أَوْ حَالَ، فِي نَفْسِي الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَهَلْ حَفِظْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنَّا إِذَا كُنَّا سَفَرًا أَوْ مُسَافِرِينَ"أَمَرَنَا أَنْ لا نَخْلَعَ خِفَافَنَا ثَلاثًا إِلا مِنْ جَنَابَةٍ، لَكِنْ مِنْ: غَائِطٍ، وَبَوْلٍ، وَنَوْمٍ".
قُلْتُ: فَهَلْ حَفِظْتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْهَوَى شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي كَذَا وَكَذَا، فَنَادَاهُ رَجُلٌ فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ، بِصَوْتٍ لَهُ جَهْوَرِيٍّ أَعْرَابِيٍّ، جِلْفٍ جَافٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: مَهْ، فَإِنَّكَ قَدْ نُهِيتَ عَنْ هَذَا، فَأَجَابَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى نَحْوٍ مِنْ صَوْتِهِ، فَقَالَ:"هَاؤُمُ"، قَالَ: الْمَرْءُ يُحِبُّ الْقَوْمَ، وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ، قَالَ:"الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ".
قَالَ فَمَا بَرِحَ يُحَدِّثُنِي حَتَّى حَدَّثَنِي:"أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ بِالْمَغْرِبِ بَابًا مَسِيرَةُ عَرْضِهِ سَبْعُونَ عَامًا لِلتَّوْبَةِ، لا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ قِبَلِهِ"، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} (158) سورة الأنعام .
وعَنْ زِرِّ بن حُبَيْشٍ، قَالَ: وَفَدْتُ فِي خِلافَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَإِنَّمَا حَمَلَنِي عَلَى الْوِفَادَةِ لُقْيُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: فَلَقِيتُ صَفْوَانَ بن عَسَّالٍ الْمُرَادِيَّ، فَقُلْتُ: لَقِيتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَغَزَوْتُ مَعَهُ ثِنْتَيْ عَشَرَ غَزْوَةً، فَقُلْتُ: حَدِّثْنِي عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،"يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَرًا، أَوْ مُسَافِرِينَ أَنْ نَمْسَحَ عَلَى خِفَافِنَا ثَلاثَ لَيَالٍ وَأَيَّامَهُنَّ مِنْ: بَوْلٍ، أَوْ غَائِطٍ، أَوْ نَوْمٍ، فَأَمَّا مِنْ جَنَابَةٍ فَلا".
قَالَ: وَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَذَكَرَ بَابًا مِنْ قِبَلِ مَغْرِبِ الشَّمْسِ مَسِيرَةُ عَرْضِهِ سَبْعِينَ عَامًا مَفْتُوحٌ لِلتَّوْبَةِ، لا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ قِبَلَهِ قَالَ، وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى(1/33)
رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُنَادِيهِ بِصَوْتٍ لَهُ جَهْوَرِيٍّ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يُحِبُّ الْقَوْمَ، وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ، فَأَجَابَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بنحْوٍ مِنْ صَوْتِهِ:"الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ". (1)
وعَنْ زِرِّ بن حُبَيْشٍ، قَالَ: كُنْتُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَلَقِيتُ صَفْوَانَ بن عَسَّالٍ الْمُرَادِيَّ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: مَا غَدَا بِكَ؟ قُلْتُ: طَلَبُ الْعِلْمِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ غَدَا يَطْلُبُ عِلْمًا كَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ، وَالْمَلائِكَةُ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ".
قَالَ: وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ:"إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَتَحَ بَابًا مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ لِلتَّوْبَةِ، مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْهِ سَبْعِينَ عَامًا لا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ قِبَلِهِ".
قَالَ: قُلْتُ زِدْنِي رَحِمَكَ اللَّهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ، إِذْ نَادَاهُ أَعْرَابِيٌّ جَهْوَرِيُّ الصَّوْتِ، أَنْ يَا مُحَمَّدُ، قِفْ لِنَسْأَلَكَ ثَلاثًا، فَأَجَابَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بنحْوٍ مِنْ قَوْلِهِ:"هَاؤُمُ"، فَجَاءَ الأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ: الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَعْمَلْ بِعَمَلِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ".
فَمَا فَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحَدِيثٍ مَا فَرِحُوا بِهِ، قُلْتُ: حَدِّثْنِي عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، قَالَ:"كُنَّا إِذَا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ مَسَحْنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ" (2)
وقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: " خَرَجْتُ يَوْمًا إِلَى الْمَقَابِرِ فَإِذَا شَابَّانِ جَالِسَانِ يَكْتُبَانِ شَيْئًا، فَقُلْتُ لَهُمَا: رَحِمَكُمُ اللهُ مَنْ أَنْتُمَا ؟ فَقَالَا: مَلَكَانِ نَكْتُبُ الْمُحِبِّينَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقُلْتُ لَهُمَا: سَأَلْتُكُمَا بِاللهِ أَنَا مِمَّنْ كَتَبْتُمَا ؟ فَقَالَا: لَا فَسَقَطَ مَالِكٌ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: نَشَدْتُكُمَا بِاللهِ لِمَا كَتَبْتُمَاني فِي أَسْفَلِ سَطْرٍ: مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ طُفَيْلِيٌّ يُحِبُّ الْمُحِبِّينَ لِلَّهِ ؟ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أُتِيتُ فِي مَنَامِي فَقِيلَ: قَدْ كُتِبْتَ مِنْهُمُ الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " (3)
وعَنْ أَبِي مُوسَى ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " (4)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (7 / 56) (7219 -7223 ) صحيح
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (7 / 68) (7252 -7255 ) صحيح
(3) - شعب الإيمان - (2 / 36) (460 )
(4) - المعجم الصغير للطبراني - (2 / 87) (831) صحيح(1/34)
وعَنْ أَبِي مُوسَى ، قَالَ : أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ ، فقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ رَجُلاً يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ ؟ قَالَ : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ. (1)
وعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقٍ بِهِمْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْرَابِيٌّ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، إِنِّي لَأُحِبُّكَ ـ أَحْسَبُهُ ـ قَالَ : وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ هَذَا الْحَالِفُ عَلَى مَا حَلَفَ ؟ " ، فَقَالَ الرَّجُلُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : " انْطَلِقْ فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ، وَعَلَيْكَ مَا اكْتَسَبْتَ ، وَعَلَى اللَّهِ مَا احْتَسَبْتَ " (3)
فِيهِ فَضْل حُبّ اللَّه وَرَسُوله - صلى الله عليه وسلم - وَالصَّالِحِينَ ، وَأَهْل الْخَيْر ، الْأَحْيَاء وَالْأَمْوَات . وَمِنْ فَضْل مَحَبَّة اللَّه وَرَسُوله اِمْتِثَال أَمْرهمَا ، وَاجْتِنَاب نَهْيهمَا ، وَالتَّأَدُّب بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّة . وَلَا يُشْتَرَط فِي الِانْتِفَاع بِمَحَبَّةِ الصَّالِحِينَ أَنْ يَعْمَل عَمَلهمْ ؛ إِذْ لَوْ عَمِلَهُ لَكَانَ مِنْهُمْ وَمِثْلهمْ ، وَقَدْ صُرِّحَ فِي الْحَدِيث الَّذِي بَعْد هَذَا بِذَلِكَ ، فَقَالَ : أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمَّا يَلْحَق بِهِمْ . قَالَ أَهْل الْعَرَبِيَّة : ( لَمَّا ) نَفْي لِلْمَاضِي الْمُسْتَمِرّ ، فَيَدُلّ عَلَى نَفْيه فِي الْمَاضِي ، وَفِي الْحَال . بِخِلَافِ ( لَمْ ) فَإِنَّهَا تَدُلّ عَلَى الْمَاضِي فَقَطْ ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَلْزَم مِنْ كَوْنه مَعَهُمْ أَنْ تَكُون مَنْزِلَته وَجَزَاؤُهُ مِثْلهمْ مِنْ كُلّ وَجْه . (4)
المَحَبَّةُ (5) :
الْمَحَبَّةُ فِي اللُّغَةِ : الْمَيْل إِلَى الشَّيْءِ السَّارِّ .
قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ : الْمَحَبَّةُ إِرَادَةُ مَا تَرَاهُ أَوْ تَظُنُّهُ خَيْرًا ، وَهِيَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ : مَحَبَّةٌ لِلَّذَّةٍ كَمَحَبَّةِ الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ ، وَمَحَبَّةٌ لِلنَّفْعِ كَمَحَبَّةِ شَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 317) (557) صحيح
(2) - شعب الإيمان - (2 / 47) (496 ) وصحيح البخارى- المكنز - (6170 ) وصحيح مسلم- المكنز (6890 )
(3) - الْبَحْرُ الزَّخَّارُ مُسْنَدُ الْبَزَّارِ(1725 ) حسن
(4) -شرح النووي على مسلم - (8 / 483)
(5) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (36 / 186)(1/35)
: { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } (1 سورة الصف / 13 ) ، وَمَحَبَّةٌ لِلْفَضْل كَمَحَبَّةِ أَهْل الْعِلْمِ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ لأَِجْل الْعِلْمِ . (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ .
أ - الْمَوَدَّةُ :
الْمَوَدَّةُ فِي اللُّغَةِ : مَحَبَّةُ الشَّيْءِ وَتَمَنِّي كَوْنِهِ ، وَيُسْتَعْمَل فِي كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى أَنَّ التَّمَنِّي يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْوُدِّ ؛ لأَِنَّ التَّمَنِّيَ هُوَ تَشَهِّي حُصُول مَا تَوَدُّهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَل بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } (سورة الروم / 21 ) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ ، أَنَّ الْحُبَّ يَكُونُ فِيمَا يُوجِبُهُ مَيْل الطِّبَاعِ وَالْحِكْمَةِ جَمِيعًا ، وَالْوُدُّ مِنْ جِهَةِ مَيْل الطِّبَاعِ فَقَطْ (2) ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَحَبَّةُ أَعَمُّ مِنَ الْمَوَدَّةِ .
ب - الْعِشْقُ :
الْعِشْقُ فِي اللُّغَةِ : الإِْغْرَامُ بِالنِّسَاءِ وَالإِْفْرَاطُ فِي الْمَحَبَّةِ (3) ، وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ ، وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْعِشْقِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ أَعَمُّ مِنَ الْعِشْقِ .
ج - الإِْرَادَةُ :
الإِْرَادَةُ فِي الأَْصْل قُوَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ شَهْوَةٍ وَحَاجَةٍ وَأَمَلٍ ، وَجُعِل اسْمًا لِنَزُوعِ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ مَعَ الْحُكْمِ فِيهِ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَل أَوْ لاَ يُفْعَل ، ثُمَّ يُسْتَعْمَل مَرَّةً فِي الْمَبْدَأِ وَهُوَ نُزُوعُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ ، وَتَارَةً فِي الْمُنْتَهَى وَهُوَ الْحُكْمُ فِيهِ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَل ، أَوْ لاَ يُفْعَل .وَقَدْ تُذْكَرُ الإِْرَادَةُ وَيُرَادُ بِهَا الْقَصْدُ (4) ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَْرْضِ } ( سورة القصص / 83 ) أَيْ لاَ يَقْصِدُونَهُ وَلاَ يَطْلُبُونَهُ .وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ .وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالإِْرَادَةِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ أَعَمُّ مِنَ الإِْرَادَةِ .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَحَبَّةِ :
__________
(1) - المفردات للأصفهاني والمعجم الوسيط ، وتفسير القرطبي 4 / 59 - 60 ، 11 / 160 - 161 .
(2) - الفروق اللغوية / 99 ، والمفردات للأصفهاني والمعجم الوسيط .
(3) - المصباح المنير ، والمعجم الوسيط ، والفروق اللغوية / 99 .
(4) - المصادر السابقة ، والمفردات لمعاني القرآن .(1/36)
أ - مَحَبَّةُ اللَّهِ وَمَحَبَّةُ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم -
أَجَمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّ حُبَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحُبَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرْضٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ مِنْ شُرُوطِ الإِْيمَانِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } ( سورة البقرة / 165 ) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } ( سورة المائدة / 54 ) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ » (1) .
وعَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، إِلاَّ نَفْسِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ . قَالَ عُمَرُ : فَأَنْتَ الآنَ وَاللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : الآنَ يَا عُمَرُ." (2)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ " (3) .
كَمَا أَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَنْجَاةٌ مِنَ النَّارِ وَمُوجِبَةٌ لِلْجَنَّةِ (4) ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - مَتَّى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « مَا أَعْدَدْتَ لَهَا » . قَالَ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاَةٍ وَلاَ صَوْمٍ وَلاَ صَدَقَةٍ ، وَلَكِنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ . قَالَ « أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ » (5) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (14 )
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 441)(18961) 19169- حسن
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (15 ) وصحيح مسلم- المكنز - (178)
(4) - إحياء علوم الدين 4 / 428 وما بعدها ، وتفسير القرطبي 4 / 60 وما بعدها ، وشرح العقيدة الطحاوية / 294 ، والآداب الشرعية 1 / 173 ، ودليل الفالحين شرح رياض الصالحين 2 / 233 .
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (6171 )(1/37)
ب - مَحَبَّةُ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَعُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ أَفْضَل الأَْعْمَال الَّتِي تُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ حُبَّ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَأَهْل الْعَدْل وَالْخَيْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (28) سورة الكهف .وَقَوْلِهِ : {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (9) سورة الحشر
وعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقٍ بِهِمْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُوقَدَ لَهُ نَارٌ فَيُقْذَفَ فِيهَا " (2)
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: " فَأَبَانَ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا أَنَّ حُبَّ اللهِ، وَحُبَّ رَسُولِهِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَبَانَ بِمَا قَبْلَهُ أَنَّ تَرْكَ مُتَابَعَتِهِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الْمَحَبَّةِ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْمَحَبَّةِ، وَوُجُوبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَحَبَّةِ مِنَ الْمُتَابَعَةِ وَالْمُوَافَقَةِ "
كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُبْغِضَ أَهْل الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ ؛ لأَِنَّ هَذَا مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ ، فَإِنَّ عَلَى الْمُحِبِّ أَنْ يُحِبَّ مَا يُحِبُّ مَحْبُوبُهُ وَيُبْغِضَ مَا يُبْغِضُ مَحْبُوبُهُ ، لِحَدِيثِ : وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ (3) .
ج - عَلاَمَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ لِعَبْدِهِ:
قَال الْعُلَمَاءُ : إِنَّ مِنْ عَلاَمَاتِ مَحَبَّةِ اللَّهِ لِعَبْدِهِ أَنْ يَضَعَ لَهُ الْقَبُول فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ ، وَأَنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ بِالْمَغْفِرَةِ ، وَأَنْ يَقْبَل تَوْبَتَهُ ، وَأَنْ يَتَوَلاَّهُ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَالتَّوْفِيقِ لِمَا يُحِبُّهُ
__________
(1) - شعب الإيمان - (2 / 47) (496) وصحيح البخارى- المكنز - (6170 )
(2) - شعب الإيمان - (2 / 7) (401 ) وصحيح مسلم- المكنز - (174)
(3) - إحياء علوم الدين 4 / 436 ، ودليل الفالحين 2 / 231 ، 246 وما بعدها ، والعقيدة الطحاوية / 383 .(1/38)
وَيَرْضَاهُ ، وَأَنْ يَحْفَظَ جَوَارِحَهُ وَأَعْضَاءَهُ حَتَّى يُقْلِعَ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَيَسْتَغْرِقَ فِي الطَّاعَاتِ بِجَعْلِهِ لَهُ وَاعِظًا مِنْ نَفْسِهِ وَزَاجِرًا مِنْ قَلْبِهِ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَل لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } ( سورة مريم / 96 ) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (54) سورة المائدة.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِى بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا وَلَئِنْ سَأَلَنِى عَبْدِى أَعْطَيْتُهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ». رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ فِى الصَّحِيحِ (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ، ثُمَّ يُنَادِى جِبْرِيلُ فِى السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى أَهْلِ الأَرْضِ » (3) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ : إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ ، قَالَ : فَيَقُولُ جِبْرِيلُ لأَهْلِ السَّمَاءِ : إِنَّ رَبَّكُمْ أَحَبَّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ، قَالَ : وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا فَمِثْلُ ذَلِكَ. (4)
__________
(1) - إحياء علوم الدين 4 / 473 - 476 ، وتفسير القرطبي 4 / 59 ، وما بعدها ، 11 / 160 - 161 ، دليل الفالحين 2 / 260 ، وما بعدها ، الآداب الشرعية 1 / 173 .
(2) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (10 / 219) (21508) وصحيح البخارى- المكنز - ( 6502 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (7485 )
(4) - صحيح ابن حبان - (2 / 85) (364) صحيح(1/39)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ ، قَالَ : فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ قَالَ : ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا ، قَالَ : فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ ، فَقَالَ : يَا جِبْرِيلُ ، إِنِّي أُبْغِضُ فُلاَنًا فَأَبْغِضْهُ ، قَالَ : فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ ، قَالَ : ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ : إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلاَنًا فَأَبْغِضُوهُ ، قَالَ : فَيُبْغِضُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الأَرْضِ." (1)
الأعمال التي توصل المسلم لمصاحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -
لا شك أن درجة الأنبياء في الجنة هي أرفع الدرجات ومنزلتهم أعلى المنازل، والصحابة رضوان الله عليهم لما عرفوا هذه الحقيقة، واستشعروا أن تلك المنازل العالية لا يستحقها غير الأنبياء، خافوا أن يكون علو درجته - صلى الله عليه وسلم - سبباً مانعاً من رؤيته ومجاورته، وهو حبيبهم وأنيسهم والذي لا يستطيعون أن يفارقوه لحظة، فجاء رجل منهم فقال: يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي، وأحب إلي من أهلي، وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل قول الله تعالى: ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ) [النساء: 69] أخرجه الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والضياء المقدسي وحسنه عن عائشة [تفسير ابن كثير] ومعنى قوله تعالى: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم) أنه معهم في دار واحدة ونعيم واحد، يستمتع برؤيتهم والحضور معهم، وهذا عام فلا يخص عصراً دون عصر، ولا جيلا دون جيل، فمن أطاع الله ورسوله الطاعة التامة امتثالاً واجتناباً فسوف يكون بفضل الله ومنه وكرمه مجاوراً ورفيقاً للذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ... وعد الله لا يخلف الله وعده.
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 486) (9352) 9341- صحيح(1/40)
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال:" كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة". وأشار مالك بالسبابة والوسطى، وفيه أيضاً من حديث ربيعة بن مالك الأسلمي رضي الله عنه قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : " سل" فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة فقال: "أو غير ذلك؟" فقلت :هو ذاك قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود".
وفي الصحيحين عن أنس أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة، فقال: متى الساعة ؟ قال: " وما أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله، فقال: "أنت مع من أحببت" قال أنس: فما فرحنا بشيء أشد فرحاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنت مع من أحببت"
فالحاصل أن كفالة اليتيم، وكثرة السجود، وحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وحب أصحابه وتابعيهم بإحسان، والإكثار من أعمال البر، كل ذلك من الأعمال التي ترتقي بصاحبها إلى مجاورة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ،ومنهم وأفضلهم محمد - صلى الله عليه وسلم - . (1)
علامات صدق المحبة
إن محبة أهل الإيمان من الإيمان. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواها، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" متفق عليه.
ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " المرء مع من أحب، وله ما اكتسب " رواه الترمذي وحسنه . وفي الترمذي أيضاً من حديث صفوان بن عسال قال جاء أعرابي جهوري الصوت قال : يا محمد، الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم. فقال الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " المرء مع من أحب "
وفي الترمذي أيضا من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله عزوجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء"
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (2 / 1978) -رقم الفتوى 4539 الأعمال التي توصل المسلم لمصاحبة النبي صلى الله عليه و سلم -تاريخ الفتوى : 16 صفر 1420(1/41)
واعلم أخي الكريم أن من علامة صدق المحبة الاقتداء بأفعال من أحببت، ولذا يقول الله تعالى ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) [آل عمران:31]
وطاعة أمره ، وصدق من قال :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ==== هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ==== إن المحب لمن يحب مطيع
وقال الحسن البصري رحمه الله : لا تغتر يا ابن آدم بقوله: أنت مع من أحببت. فإنه من أحب قوما تبع آثارهم، واعلم أنك لا تلحق بالأخيار حتى تتبع آثارهم وحتى تأخذ بهديهم وتقتدي بسنتهم وتصبح وتمسي على مناهجهم حرصاً على أن تكون منهم. (1)
الهمة وبلوغ منازل الأنبياء
إن الشارع قد حث على علو الهمة والحرص على معالي الأمور، وقد كان الصحابة يبحثون عن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله ليعملوا بها، ففي الحديث: إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها. رواه الحاكم والبيهقي وصححه الألباني .
وفي البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده . وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها، قالوا: يا رسول الله، أفلا ننبئ الناس بذلك، قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة .
فعلى المسلم أن يحرص على اتباع الأنبياء والقيام بأفضل الأعمال، وليعلم أنه مهما بلغ من العمل لن يساوي أحداً من الصحابة فأحرى الأنبياء، ففي الصحيحين عن أبي سعيد
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (3 / 4476) -رقم الفتوى 17747 -علامات صدق المحبة
تاريخ الفتوى : 04 ربيع الثاني 1423(1/42)
الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه .
ومن المعلوم أن الأنبياء أفضل من الصحابة لما في المسند عن علي رضي الله عنه قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقبل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة وشبابها بعد النبيين والمرسلين . قال شعيب الأرناؤوط : صحيح وهذا إسناد حسن .
وأما المعية المذكورة في الآية فإنها تفيد الصحبة والمرافقة والمشاركة في دخول الطائعين الجنة مع النبيين ولا تستلزم بلوغ منزلتهم، ويدل لذلك سبب نزول الآية، قال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. أي: من عمل بما أمره الله به وترك ما نهاه الله عنه ورسوله، فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته ويجعله مرافقاً للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة وهم الصديقون، ثم الشهداء والصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم.
وقال البغوي في تفسيرها: قوله تعالى: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. نزلت في ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان شديد الحب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - ، ما غير لونك؟ فقال: يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك لأنك ترفع مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبداً، فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة : قال بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : كيف يكون الحال في الجنة وأنت في الدرجات العليا ونحن أسفل منك؟ فكيف نراك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: وَمَن يُطِعِ اللّهَ -في أداء الفرائض- وَالرَّسُولَ -في السنن- فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ -أي لا تفوتهم رؤية الأنبياء ومجالستهم لا لأنهم يرفعون إلى درجة الأنبياء والصديقين.(1/43)
وفي البخاري عن أنس رضي الله عنه: أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها، قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: أنت مع من أحببت، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنت مع من أحببت، قال أنس: فأنا أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم.
وقال ابن حجر في الفتح عند شرح هذا الحديث: قوله: إنك مع من أحببت أي ملحق بهم حتى تكون في زمرتهم وبهذا يندفع إيراد أن منازلهم متفاوتة فكيف تصح المعية، فيقال إن المعية تحصل بمجرد الاجتماع في شيء ما ولا تلزم في جميع الأشياء، فإذا اتفق أن الجميع دخلوا الجنة صدقت المعية وإن تفاوتت الدرجات. (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (9 / 931) -رقم الفتوى 61088 الهمة وبلوغ منازل الأنبياء -تاريخ الفتوى : 08 ربيع الأول 1426(1/44)
سلوني سلوني
5- عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ ، فَصَلَّى لَهُمْ صَلاَةَ الظُّهْرِ ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَذَكَرَ السَّاعَةَ ، وَذَكَرَ أَنْ قَبْلَهَا أُمُورًا عِظَامًا ، ثُمَّ قَالَ : مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْنِي عَنْهُ ، فَوَاللَّهِ لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : فَأَكْثَرَ النَّاسُ الْبُكَاءَ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقُولَ : سَلُونِي سَلُونِي ، فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ ، فَقَالَ : مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : أَبُوكَ حُذَافَةُ ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَنْ يَقُولَ : سَلُونِي بَرَكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا ، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - رَسُولاً ، قَالَ : فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ." صحيح ابن حبان (1)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى لَهُمْ صَلاَةَ الظُّهْرِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ السَّاعَةَ وَذَكَرَ أَنَّ قَبْلَهَا أُمُورًا عِظَامًا ثُمَّ قَالَ « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَنِى عَنْ شَىْءٍ فَلْيَسْأَلْنِى عَنْهُ فَوَاللَّهِ لاَ تَسْأَلُونَنِى عَنْ شَىْءٍ إِلاَّ أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْتُ فِى مَقَامِى هَذَا ». قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَأَكْثَرَ النَّاسُ الْبُكَاءَ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقُولَ « سَلُونِى ». فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « أَبُوكَ حُذَافَةُ ». فَلَمَّا أَكْثَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَنْ يَقُولَ « سَلُونِى ». بَرَكَ عُمَرُ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً - قَالَ - فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَوْلَى وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَىَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِى عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 309)( 106) صحيح(1/45)
اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ قَالَتْ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ مَا سَمِعْتُ بِابْنٍ قَطُّ أَعَقَّ مِنْكَ أَأَمِنْتَ أَنْ تَكُونَ أُمُّكَ قَدْ قَارَفَتْ بَعْضَ مَا تُقَارِفُ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَفْضَحَهَا عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ وَاللَّهِ لَوْ أَلْحَقَنِى بِعَبْدٍ أَسْوَدَ لَلَحِقْتُهُ." (1)
وعَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رضى الله عنه . أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ السَّاعَةَ ، وَذَكَرَ أَنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا أُمُورًا عِظَامًا ثُمَّ قَالَ « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَىْءٍ فَلْيَسْأَلْ عَنْهُ ، فَوَاللَّهِ لاَ تَسْأَلُونِى عَنْ شَىْءٍ إِلاَّ أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ ، مَا دُمْتُ فِى مَقَامِى هَذَا » . قَالَ أَنَسٌ فَأَكْثَرَ النَّاسُ الْبُكَاءَ ، وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقُولَ « سَلُونِى » . فَقَالَ أَنَسٌ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ أَيْنَ مَدْخَلِى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « النَّارُ » . فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « أَبُوكَ حُذَافَةُ » . قَالَ ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ « سَلُونِى سَلُونِى » . فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا ، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - رَسُولاً . قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَىَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِى عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ وَأَنَا أُصَلِّى ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ » (2) .
وعَنِ الزُّهْرِيِّ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ ، فَصَلَّى الظُّهْرَ ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَذَكَرَ السَّاعَةَ ، وَذَكَرَ أَنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا أُمُورًا عِظَامًا ، ثُمَّ قَالَ : مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ ، فَلْيَسْأَلْ عَنْهُ ، فَوَاللَّهِ لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَخْبَرْتُكُمْ عَنْهُ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا قَالَ أَنَسٌ : فَأَكْثَرَ النَّاسُ الْبُكَاءَ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقُولَ : سَلُونِي قَالَ أَنَسٌ : فَقَامَ رَجُلٌ ، فَقَالَ : أَيْنَ مَدْخَلِي يَا رَسُولَ اللهِ ؟ فَقَالَ : النَّارُ ، قَالَ : فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ ، فَقَالَ : مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : أَبُوكَ حُذَافَةُ . قَالَ : ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ : سَلُونِي قَالَ : فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ، فَقَالَ : رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا ، وَبِالإِِسْلاَمِ دِينًا ،
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6270)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (7294 ) أطرافه 93 ، 540 ، 749 ، 4621 ، 6362 ، 6468 ، 6486 ، 7089 ، 7090 ، 7091 ، 7295(1/46)
وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً . قَالَ : فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ وَأَنَا أُصَلِّي ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ." (1)
آنفا : فعلت الشيء آنفا ، أي : الآن. -الخنين : بالخاء المعجمة ، شبيه بالبكاء مع مشاركة في الصوت من الأنف.-عرض : عرض الشيء : جانبه.-المقارفة : ها هنا : الزنا ، وهي في الأصل : الكسب والعمل.-أحفوه : الإحفاء في السؤال : الاستقصاء والإكثار. -أرموا : أرم الإنسان : إذا أطرق ساكتا من الخوف.-رهبة : الرهبة : الخوف والفزع.
فِيهِ أَنَّ الْجَنَّة وَالنَّار مَخْلُوقَتَانِ ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْح عَرْضهمَا . وَمَعْنَى الْحَدِيث لَمْ أَرَ خَيْرًا أَكْثَر مِمَّا رَأَيْته الْيَوْم فِي الْجَنَّة ، وَلَا شَرًّا أَكْثَر مِمَّا رَأَيْته الْيَوْم فِي النَّار ، وَلَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْت ، وَعَلِمْتُمْ مَا عَلِمْت مِمَّا رَأَيْته الْيَوْم ، وَقَبْل الْيَوْم ، لَأَشْفَقْتُمْ إِشْفَاقًا بَلِيغًا ، وَلَقَلَّ ضَحِكُكُمْ ، وَكَثُرَ بُكَاؤُكُمْ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَة فِي اِسْتِعْمَال لَفْظَة ( لَوْ ) فِي مِثْل هَذَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وقَالَ الْعُلَمَاء : هَذَا الْقَوْل مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ ، وَإِلَّا فَلَا يَعْلَم كُلّ مَا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ الْمُغَيِّبَات إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّه تَعَالَى . قَالَ الْقَاضِي : وَظَاهِر الْحَدِيث أَنَّ قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( سَلُونِي ) إِنَّمَا كَانَ غَضَبًا كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى : سُئِلَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَشْيَاء كَرِهَهَا ، فَلَمَّا أَكْثَر عَلَيْهِ غَضِبَ ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ " سَلُونِي " وَكَانَ اِخْتِيَاره - صلى الله عليه وسلم - تَرْك تِلْكَ الْمَسَائِل ، لَكِنْ وَافَقَهُمْ فِي جَوَابهَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِن رَدّ السُّؤَال ، وَلِمَا رَآهُ مِنْ حِرْصهمْ عَلَيْهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا بُرُوك عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَقَوْله فَإِنَّمَا فَعَلَهُ أَدَبًا وَإِكْرَامًا لِرَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وَشَفَقَة عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يُؤْذُوا النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَهْلَكُوا . وَمَعْنَى كَلَامه رَضِينَا بِمَا عِنْدنَا مِنْ كِتَاب اللَّه تَعَالَى ، وَسُنَّة نَبِيّنَا مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - ، وَاكْتَفَيْنَا بِهِ عَنْ السُّؤَال ، فَفِيهِ أَبْلَغُ كِفَايَة .
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 419) (12659) 12688- و مسند الشاميين (3 / 9) (1698) و (4 / 151) (2978) صحيح(1/47)
قَوْلهمْ : ( قَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : أَوْلَى وَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَقَدْ عُرِضْت عَلَيَّ الْجَنَّة وَالنَّار آنِفًا فِي عُرْض هَذَا الْحَائِط )
أَمَّا لَفْظَة ( أَوْلَى ) فَهِيَ تَهْدِيد وَوَعِيد ، وَقِيلَ : كَلِمَة تَلَهُّف ، فَعَلَى هَذَا يَسْتَعْمِلهَا مَنْ نَجَا مِنْ أَمْر عَظِيم . وَالصَّحِيح الْمَشْهُور أَنَّهَا لِلتَّهْدِيدِ ، وَمَعْنَاهَا قَرُبَ مِنْكُمْ مَا تَكْرَهُونَهُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { أَوْلَى لَك فَأَوْلَى } أَيْ قَارَبَك مَا تَكْرَهُ فَاحْذَرْهُ ، مَأْخُوذ مِنْ الْوَلِيّ ، وَهُوَ الْقُرْب . وَأَمَّا ( آنِفًا ) فَمَعْنَاهُ قَرِيبًا السَّاعَة ، وَالْمَشْهُور فِيهِ الْمَدّ ، وَيُقَالُ بِالْقَصْرِ ، وَقُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْع ، الْأَكْثَرُونَ بِالْمَدِّ . وَ ( عُرْض الْحَائِط ) بِضَمِّ الْعَيْن جَانِبه .
قَوْله : ( أَنَّ أُمّ عَبْد اللَّه بْن حُذَافَة قَالَتْ لَهُ : أَأَمِنْت أَنْ تَكُونَ أُمّك قَدْ قَارَفَتْ بَعْض مَا يُقَارِفُ نِسَاء الْجَاهِلِيَّة فَتَفْضَحهَا عَلَى أَعْيُن النَّاس ؟ فَقَالَ اِبْنهَا : وَاَللَّه لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ أَسْوَد لَلَحِقْته )
. أَمَّا قَوْلهَا : ( قَارَفَتْ ) مَعْنَاهُ عَمِلَتْ سُوءًا ، وَالْمُرَاد الزِّنَا ، وَالْجَاهِلِيَّة هُمْ مِنْ قِبَل النُّبُوَّة ، سُمُّوا بِهِ لِكَثْرَةِ جَهَالَاتهمْ . وَكَانَ سَبَب سُؤَاله أَنَّ بَعْض النَّاس كَانَ يَطْعَن فِي نَسَبه عَلَى عَادَة الْجَاهِلِيَّة مِنْ الطَّعْن فِي الْأَنْسَاب ، وَقَدْ بُيِّنَ هَذَا فِي الْحَدِيث الْآخَر بِقَوْلِهِ : ( كَانَ يُلَاحَى ، فَيُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ ) ، وَالْمُلَاحَاة الْمُخَاصَمَة وَالسِّبَاب . وَقَوْلهَا : ( فَتَفْضَحهَا ) مَعْنَاهُ لَوْ كُنْت مِنْ زِنَا فَنَفَاك عَنْ أَبِيك حُذَافَة فَضَحْتنِي ، وَأَمَّا قَوْله : ( لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ لَلَحِقْته ) فَقَدْ يُقَالُ : هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ ، لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَب . وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا أَنَّ اِبْن حُذَافَة مَا كَانَ بَلَغَهُ هَذَا الْحُكْم ، وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّ وَلَد الزِّنَا يَلْحَق الزَّانِي ، وَقَدْ خَفِيَ هَذَا عَلَى أَكْبَرَ مِنْهُ ، وَهُوَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص حِين خَاصَمَ فِي اِبْن وَلِيدَة زَمْعَة ، فَظَنَّ أَنَّهُ يَلْحَق أَخَاهُ بِالزِّنَا . وَالثَّانِي أَنَّهُ يُتَصَوَّر الْإِلْحَاق بَعْد وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ ، فَيَثْبُتُ النَّسَب مِنْهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . (1)
وقال الحافظ في الفتح :
" قَوْله ( فَقَامَ رَجُل فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه مَنْ أَبِي ) بَيَّنَ فِي حَدِيث أَنَس مِنْ رِوَايَة الزُّهْرِيِّ اِسْمه ، وَفِي رِوَايَة قَتَادَةَ سَبَب سُؤَاله ، قَالَ : فَقَامَ رَجُل كَانَ إِذَا لَاحَى - أَيْ خَاصَمَ -
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (8 / 81)(1/48)
دُعِيَ إِلَى غَيْر أَبِيهِ ، وَذَكَرْت اِسْم السَّائِل الثَّانِي ، وَأَنَّهُ سَعْد وَإِنِّي نَقَلْته مِنْ تَرْجَمَة سُهَيْل بْن أَبِي صَالِح مِنْ تَمْهِيد اِبْن عَبْد الْبَرّ وَزَادَ فِي رِوَايَة الزُّهْرِيِّ الْآتِيَة بَعْد حَدِيثَيْنِ ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُل فَقَالَ : أَيْنَ مُدْخَلِي يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ النَّار ، وَلَمْ أَقِف عَلَى اِسْم هَذَا الرَّجُل فِي شَيْء مِنْ الطُّرُق ، كَأَنَّهُمْ أَبْهَمُوهُ عَمْدًا لِلسَّتْرِ عَلَيْهِ ولِلطَّبَرَانِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي فِرَاس الْأَسْلَمِيّ نَحْوه وَزَادَ " وَسَأَلَهُ رَجُل فِي الْجَنَّة أَنَا ؟ قَالَ فِي الْجَنَّة " وَلَمْ أَقِف عَلَى اِسْم هَذَا الْآخَر ، وَنَقَلَ اِبْن عَبْد الْبَرّ عَنْ رِوَايَة مُسْلِم أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي خُطْبَته ، لَا يَسْأَلنِي أَحَد عَنْ شَيْء إِلَّا أَخْبَرْته ، وَلَوْ سَأَلَنِي عَنْ أَبِيهِ ، فَقَامَ عَبْد اللَّه بْن حُذَافَة وَذَكَرَ فِيهِ عِتَاب أُمّه لَهُ وَجَوَابه . وَذَكَرَ فِيهِ " فَقَامَ رَجُل فَسَأَلَ عَنْ الْحَجّ " فَذَكَرَهُ وَفِيهِ فَقَامَ سَعْد مَوْلَى شَيْبَة فَقَالَ : مَنْ أَنَا يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ أَنْتَ سَعْد بْن سَالِم مَوْلَى شَيْبَة ، وَفِيهِ فَقَامَ رَجُل مِنْ بَنِي أَسَد فَقَالَ : أَيْنَ أَنَا ؟ قَالَ فِي النَّار . فَذَكَرَ قِصَّة عُمَر قَالَ : فَنَزَلَتْ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء ) الْآيَة " وَنَهَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَة السُّؤَال " وَبِهَذِهِ الزِّيَادَة يَتَّضِح أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّة سَبَب نُزُول ( لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) فَإِنَّ الْمُسَاءَة فِي حَقّ هَذَا جَاءَتْ صَرِيحَة ، بِخِلَافِهَا فِي حَقّ عَبْد اللَّه بْن حُذَافَة فَإِنَّهَا بِطَرِيقِ الْجَوَاز ، أَيْ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ فِي نَفْس الْأَمْر لَمْ يَكُنْ لِأَبِيهِ فَبَيَّنَ أَبَاهُ الْحَقِيقِيّ لَافْتَضَحَتْ أُمّه ، كَمَا صَرَّحَتْ بِذَلِكَ أُمّه حِين عَاتَبَتْهُ عَلَى هَذَا السُّؤَال كَمَا تَقَدَّمَ فِي " كِتَاب الْفِتَن " .
قَوْله ( فَلَمَّا رَأَى عُمَر مَا بِوَجْهِ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْغَضَب ) بَيَّنَ فِي حَدِيث أَنَس أَنَّ الصَّحَابَة كُلّهمْ فَهِمُوا ذَلِكَ ، فَفِي رِوَايَة هِشَام " فَإِذَا كُلّ رَجُل لَافًّا رَأْسه فِي ثَوْبه يَبْكِي " وَزَادَ فِي رِوَايَة سَعِيد اِبْن بَشِير " وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ بَيْن يَدَيْ أَمْر قَدْ حَضَرَ " وَفِي رِوَايَة مُوسَى بْن أَنَس عَنْ أَنَس الْمَاضِيَة فِي تَفْسِير الْمَائِدَة " فَغَضُّوا رُءُوسهمْ لَهُمْ خَنِين " زَادَ مُسْلِم مِنْ هَذَا الْوَجْه " فَمَا أَتَى عَلَى أَصْحَاب رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَوْم كَانَ أَشَدّ مِنْهُ " .
قَوْله ( فَقَالَ : إِنَّا نَتُوب إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ) زَادَ فِي رِوَايَة الزُّهْرِيِّ " فَبَرَكَ عُمَر عَلَى رُكْبَته فَقَالَ : رَضِينَا بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا " وَفِي رِوَايَة قَتَادَةَ مِنْ الزِّيَادَة " نَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ شَرّ الْفِتَن " وَفِي مُرْسَل السُّدِّيّ عِنْد الطَّبَرِيِّ فِي نَحْو هَذِهِ الْقِصَّة " فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَر فَقَبَّلَ رِجْله وَقَالَ : رَضِينَا بِاَللَّهِ رَبًّا " . فَذَكَرَ مِثْله وَزَادَ " وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا ، فَاعْفُ عَفَا(1/49)
اللَّه عَنْك فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى رَضِيَ " وَفِي هَذَا الْحَدِيث غَيْر مَا يَتَعَلَّق بِالتَّرْجَمَةِ ، مُرَاقَبَة الصَّحَابَة أَحْوَال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وَشِدَّة إِشْفَاقهمْ إِذَا غَضِبَ ، خَشْيَة أَنْ يَكُون لِأَمْرٍ يَعُمّ فَيَعُمّهُمْ ، وَإِدْلَال عُمَر عَلَيْهِ ، وَجَوَاز تَقْبِيل رِجْل الرَّجُل ، وَجَوَاز الْغَضَب فِي الْمَوْعِظَة ، وَبُرُوك الطَّالِب بَيْن يَدَيْ مَنْ يَسْتَفِيد مِنْهُ ، وَكَذَا التَّابِع بَيْن يَدَيْ الْمَتْبُوع إِذَا سَأَلَهُ فِي حَاجَة ، وَمَشْرُوعِيَّة التَّعَوُّذ مِنْ الْفِتَن عِنْد وُجُود شَيْء قَدْ يَظْهَر مِنْهُ قَرِينَة وُقُوعهَا ، وَاسْتِعْمَال الْمُزَاوَجَة فِي الدُّعَاء فِي قَوْله " اُعْفُ عَفَا اللَّه عَنْك " وَإِلَّا فَالنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مَعْفُوّ عَنْهُ قَبْل ذَلِكَ . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ سُئِلَ مَالِك عَنْ مَعْنَى النَّهْي عَنْ كَثْرَة السُّؤَال ، فَقَالَ مَا أَدْرِي أَنَهَى عَنْ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ السُّؤَال عَنْ النَّوَازِل ، أَوْ عَنْ مَسْأَلَة النَّاس الْمَال ، قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : الظَّاهِر الْأَوَّل ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا مَعْنَى لِلتَّفْرِقَةِ بَيْن كَثْرَته وَقِلَّته لَا حَيْثُ يَجُوز وَلَا حَيْثُ لَا يَجُوز قَالَ : وَقِيلَ كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنْ الشَّيْء وَيُلِحُّونَ فِيهِ إِلَى أَنْ يُحَرَّم ، قَالَ : وَأَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمُرَاد كَثْرَة السُّؤَال عَنْ النَّوَازِل وَالْأُغْلُوطَات وَالتَّوْلِيدَات كَذَا قَالَ : وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِلْمَام بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي " كِتَاب الْعِلْم " (1) .
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (20 / 343)(1/50)
فضل عتق الرقاب
6- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً ، أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ ، حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ » (1) .
وعن سَعِيدَ بْنِ مَرْجَانَةَ صَاحِبِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ. قَالَ: فَانْطَلَقْتُ حِينَ سَمِعْتُ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرْتُهُ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَأَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ قَدْ أَعْطَاهُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَشَرَةَ آلافٍ أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ. (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ مِنَ النَّارِ، حَتَّى الْفَرَجَ بِالْفَرَجِ. (3)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ مَرْجَانَةَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ إِرَبٍ مِنْهَا إِرَبًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَعْتِقُ الْيَدَ بِالْيَدِ وَالرِّجْلَ بِالرَّجُلِ وَالْفَرْجَ بِالْفَرَجِ. فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ: يَا سَعِيدُ بْنَ مَرْجَانَةَ أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: ادْعُوا لِي أَحَدَ غِلْمَانِي مُطَرِّفًا، فَأَعْتَقَهُ فَلَمَّا قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ. (4)
قلت :
في هذا الحديث الشريف دلالة قاطعة على حرص الإسلام على عتق الرقاب ، قال تعالى :{ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) } [البلد : 11 - 18]
__________
(1) - صحيح البخارى (6715 ) وصحيح مسلم(3869)
(2) - مسند أبي عوانة ( 3908 ) صحيح
(3) - مسند أبي عوانة ( 3909 ) صحيح
(4) - مسند أبي عوانة ( 3911 ) صحيح(1/51)
إن الإنسان ـ مطلق الإنسان ـ له حرمته عند اللّه ، وإن الاستخفاف بهذه الحرمة عدوان على حمى اللّه .. ولهذا كان من أعظم القربات عند اللّه سبحانه وتعالى ، هو رد اعتبار هذا الإنسان ، وتصحيح وجوده بين الناس ..إنه خليفة اللّه فى الأرض! (1)
وقد نزل هذا النص والإسلام في مكة محاصر وليست له دولة تقوم على شريعته. وكان الرق عاما في الجزيرة العربية وفي العالم من حولها. وكان الرقيق يعاملون معاملة قاسية على الإطلاق. فلما أن أسلم بعضهم كعمار بن ياسر وأسرته ، وبلال بن رباح ، وصهيب .. وغيرهم - رضي اللّه عنهم جميعا - اشتد عليهم البلاء من سادتهم العتاة ، وأسلموهم إلى تعذيب لا يطاق. وبدا أن طريق الخلاص لهم هو تحريرهم بشرائهم من سادتهم القساة ، فكان أبو بكر - رضي اللّه عنه - هو السابق كعادته دائما إلى التلبية والاستجابة في ثبات وطمأنينة واستقامة .. (2)
فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ : حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يَمُرُّ بِبِلَالٍ وَهُوَ يُعَذَّبُ ، وَهُوَ يَقُولُ : أَحَدٌ ، أَحَدٌ ، فَيَقُولُ : أَحَدٌ أَحَدٌ اللَّهُ يَا بِلَالُ ، ثُمَّ يُقْبِلُ وَرَقَةُ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَمَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِبِلَالٍ مِنْ بَنِي جُمَحَ ، فَيَقُولُ : أَحْلِفُ بِاللَّهِ إِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذَا لَاتَّخَذْتُهُ حَنَانًا ، حَتَّى مَرَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ يَوْمًا ، وَهُمْ يَصْنَعُونَ بِهِ ذَلِكَ ، وَكَانَتْ دَارُ أَبِي بَكْرٍ فِي بَنِي جُمَحَ ، فَقَالَ لِأُمَيَّةَ : أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذَا الْمِسْكِينِ ، حَتَّى مَتَى ؟ قَالَ : أَنْتَ أَفْسَدْتَهُ فَأَنْقِذْهُ مِمَّا تَرَى ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَفْعَلُ ، عِنْدِي غُلَامٌ أَسْوَدُ أَجْلَدُ مِنْهُ وَأَقْوَى عَلَى دِينِكَ ، أُعْطِيكَهُ بِهِ ، قَالَ : قَدْ قَبِلْتُ ، قَالَ : هُوَ لَكَ . فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ غُلَامَهُ ذَلِكَ ، وَأَخَذَ بِلَالًا فَأَعْتَقَهُ ، ثُمَّ أَعْتَقَ مَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ مِنْ مَكَّةَ سِتَّ رِقَابٍ - بِلَالٌ سَابِعُهُمْ - عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا ، وَأُمَّ عُبَيْسٍ ، وَزِنَّيْرَةَ ، فَأُصِيبَ بَصَرُهَا حِينَ أَعْتَقَهَا ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : مَا أَذْهَبْ بَصَرَهَا إِلَّا اللَّاتُ وَالْعُزَّى ، فَقَالَتْ : حُرِقُوا ، وَبَيْتِ اللَّهِ مَا يَضُرُّ اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَا يَنْفَعَانِ ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهَا بَصَرَهَا ، وَأَعْتَقَ النَّهْدِيَّةَ وَابْنَتَهَا ، وَكَانَتَا
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1578)
(2) - الفى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3912)(1/52)
لِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ ، فَمَرَّ بِهِمَا وَقَدْ بَعَثَتْهُمَا سَيِّدَتُهُمَا تَطْحَنَانِ لَهَا ، وَهِيَ تَقُولُ : وَاللَّهِ لَا أَعْتِقُكُمَا أَبَدًا ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : حِلًّا يَا أُمَّ فُلَانٍ ، قَالَتْ : حِلًّا ، أَنْتَ أَفْسَدْتَهُمَا فَأَعْتِقْهُمَا ، قَالَ : فَبِكَمْ هُمَا ؟ قَالَتْ : بِكَذَا وَكَذَا ، قَالَ : قَدْ أَخَذْتُهُمَا وَهُمَا حُرَّتَانِ ، أَرْجِعَا إِلَيْهَا طَحِينَهَا ، قَالَتَا : أَوَنَفْرُغَ مِنْهُ يَا أَبَا بَكْرٍ ، ثُمَّ نَرُدُّهُ عَلَيْهَا ؟ قَالَ : أَوَذَاكَ إِنْ شِئْتُمَا . وَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ بِجَارِيَةِ بَنِي مُؤَمَّلٍ ، حَيٍّ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُعَذِّبُهَا لَتَتْرُكَ الْإِسْلَامَ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ ، وَهُوَ يَضْرِبُهَا حَتَّى إِذَا مَلَّ قَالَ : إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكِ ، إِنِّي لَمْ أَتْرُكْكِ إِلَّا مَلَالَةً ، فَعَلَ اللَّهُ بِكِ ، فَتَقُولُ كَذَلِكَ فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ، فَابْتَاعَهَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْتَقَهَا ، فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، وَهُوَ يَذْكُرُ بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ ، وَإِعْتَاقَ أَبِي بَكْرٍ إِيَّاهُمْ ، وَكَانَ اسْمُ أَبِي بَكْرٍ عَتِيقًا :
جَزَى اللَّهُ خَيْرًا عَنْ بِلَالٍ وَصَحْبِهِ عَتِيقًا وَأَخْزَى فَاكِهًا وَأَبَا جَهْلِ
عَشِيَّةَ هُمَا فِي بِلَالٍ بِسَوْءَةٍ وَلَمْ يَحْذَرَا مَا يَحْذَرُ الْمَرْءُ ذُو الْعَقْلِ
بِتَوْحِيدِهِ رَبَّ الْأَنَامِ وَقَوْلِهِ شَهِدْتُ بِأَنَّ اللَّهَ رَبِّي عَلَى مَهْلِ
فَإِنْ يَقْتُلُونِي يَقْتُلُونِي وَلَمْ أَكُنْ لِأُشْرِكَ بِالرَّحْمَنِ مِنْ خِيفَةِ الْقَتْلِ
فَيَا رَبَّ إِبْرَاهِيمَ وَالْعَبْدِ يُونُسَ وَمُوسَى وَعِيسَى نَجِّنِي ثُمَّ لَا تُمْلِ
لِمَنْ ظَلَّ يَهْوَى الْغَيَّ مِنْ آلِ غَالِبٍ عَلَى غَيْرِ بِرٍّ كَانَ مِنْهُ وَلَا عَدْل (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فَضَائِلُ الصِّحَابَةِ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (83 ) صحيح مرسل(1/53)
المفلس الحقيقي
7- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " قَالَ أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ ؟ " قَالُوا: الْمُفْلِسُ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، فَقَالَ: " إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ ، وَلاَ مَتَاعَ لَهُ ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ ، فَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا ، فَيَقْعُدُ ، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ ، فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ." (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " أَتَدْرُونَ مَنْ مُفْلِسُ أُمَّتِي ؟ " ، قُلْنَا : لَا . قَالَ : " الْمُفْلِسُ الَّذِي يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، قَدْ ضَرَبَ هَذَا ، وَشَتَمَ هَذَا ، وَأَخَذَ مَالَ هَذَا ، فَتُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَتُوضَعُ عَلَى حَسَنَاتِ الْآخَرِ ، فَإِنْ فَضَلَ عَلَيْهِ ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْآخَرِ ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ يُلْقَى فِي النَّارِ " (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ , قَالَ : " أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا يَمْلِكُ دِرْهَمًا لَهُ ، قَالَ : " الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ , وَيَأْتِي قَدْ قَذَفَ هَذَا ، وَشَتَمَ عِرْضَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، فَيَقْعُدُ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الَّذِي عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحْنَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ " (4)
__________
(1) - شعب الإيمان - (1 / 136) (33) و(1 / 522) (338 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6744 )
(2) - صحيح ابن حبان - (16 / 359) (7359) صحيح
(3) - مَسَاوِئُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (37 ) صحيح
(4) - الْجَامِعُ فِي الْحَدِيثِ لِابْنِ وَهْبٍ(548 ) و المعجم الكبير للطبراني - (19 / 229) (561 ) صحيح(1/54)
المتاع : كل ما يُنْتَفَعُ به وَيُسْتَمْتَعُ ، أو يُتَبَلَّغُ بِهِ ويتُزَوَدَّ من سلعة أو مال أو زوج أو أثاث أو ثياب أو مأكل وغير ذلك - القذف : الاتهام بالزنا دون شهود ولا بينة - قَصَّ منه أو اقتص : عاقبه بالمثل
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: " فَهَذَا إِنَّمَا يحْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: بِإِحْبَاطِ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةِ، وَوَجْهُهُ عِنْدِي - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ يُعْطَى خُصَمَاؤُهُ مِنْ أَجْرِ حَسَنَاتِهِ، مَا يُوَازِي عُقُوبَةَ سَيِّئَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ أَيْ أَجْرُ حَسَنَاتِهِ الَّذِي قُوبِلَ بِعُقُوبَةِ سَيِّئَاتِهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثم طُرِحَ فِي النَّارِ حتى يُعَذَّبَ بِهَا إِنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ عُقُوبَةُ تِلْكَ الْخَطَايَا رُدَّ إِلَى الْجَنَّةِ بِمَا كُتِبَ لَهُ مِنَ الْخُلُودِ، وَلَا يُعْطَى خُصَمَاؤُهُ مَا زَادَ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى مَا قَابَلَ عُقُوبَةَ سَيِّئَاتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى يَخُصُّ بِهِ مَنْ وَافَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُؤْمِنًا، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ "
وفي بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ :
" وَأَمَّا فَقْرُ الْآخِرَةِ فَهُوَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ ؟ ...فَهُوَ الْفَقْرُ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنَاهُ ، وَأَمَرَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهُ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقِسْمَيْنِ وَأَمَّا الْقِلَّةُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّكَثُّرَ بِالْمَالِ وَالِاسْتِغْنَاءَ بِالثَّرْوَةِ ، وَالسُّكُونَ إِلَيْهِ ، وَالِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ قَالَ الْحَكِيمُ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَنِ اسْتَغْنَى بِمَالِهِ قَلَّ ، وَمَنِ اعْتَزَّ بِمَخْلُوقٍ ذَلَّ ، فَمَنْ أَقَلُّ مِمَّنِ اسْتَكْثَرَ بِالْقَلِيلِ ، وَاسْتَغْنَى مِنَ النَّذْرِ الْحَقِيرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقِلَّةُ الْقِلَّةَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَمَا عُمِلَ مِنْهَا مَدْخُولٌ فِيهَا ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي صِفَةِ قَوْمٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا قَالَ : قَلَّتْ أَذْكَارُهُمْ ، وَمَا وَقَعَ مِنْهَا فَمُرَاءَاةٌ ، وَالْقَلِيلُ مَعَ الْإِخْلَاصِ كَثِيرٌ ، وَالْكَثِيرُ دُونَ الْإِخْلَاصِ قَلِيلٌ ، وَأَمَّا الذِّلَّةُ فَالتَّعَزُّزُ بِالْمَخْلُوقِ ، وَالِاسْتِظْهَارُ بِالنَّادِي وَالْعَشِيرِ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ، فَكَانَ الْأَذَلُّ هُوَ الْأَعَزَّ عِنْدَ نَفْسِهِ بِكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ وَكَثْرَةِ أَنْصَارِهِ ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنِ اعْتَزَّ بِالْمَخْلُوقِ أَذَلَّهُ اللَّهُ " ، وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنِ اعْتَزَّ بِمَخْلُوقٍ ذَلَّ ، وَمَنِ اهْتَدَى بِرَأْيِهِ ضَلَّ " ، فَالذِّلَّةُ هِيَ التَّعَزُّزُ بِمَنْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ، وَلَا يَمْلِكُ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ، فَهُوَ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ضَعُفَ(1/55)
الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الذِّلَّةُ الشُّذُوذَ عَنِ الْجَمَاعَةِ ، وَالِاعْتِزَالَ عَنِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ ، وَاتِّبَاعَ الْهَوَى بِمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَالِاتِّبَاعَ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ، فَلَا أَذَلَّ مِمَّنْ رُدَّ إِلَى نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ ، وَانْفَرَدَ فِي مُتَابَعَةِ هَوَاهُ ، وَظُلْمَةِ رَأْيِهِ ، وَانْقَطَعَ عَمَّنْ لَهُ الْعِزَّةُ ، فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ ، وَلِرَسُولِهِ ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ ، فَمَنِ انْقَطَعَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِإِعْرَاضِهِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأَعْرَضَ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِتَرْكِهِ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَخَالَفَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِاتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ ، فَهُوَ الْوَحِيدُ الْعَزِيزُ ، الشَّرِيدُ ، الطَّرِيدُ ، الْحَقِيرُ ، الذَّلِيلُ ، النَّذْرُ ، الْقَلِيلُ ، جَلِيسُ الشَّيْطَانِ ، وَبَغِيضُ الرَّحْمَنِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ ، فَإِنَّ الذِّئْبَ يَأْخُذُ الشَّاةَ وَالْعَاصِيَةَ " فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الذِّلَّةُ الَّتِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالتَّعَوُّذِ مِنْهَا مُتَابَعَةَ الْهَوَى فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالتَّعَزُّزَ بِمَا دُونَ اللَّهِ تَعَالَى : إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَقَوْلُهُ : " أَنْ تَظْلِمَ ، أَوْ تُظْلَمَ " ، وَالظُّلْمُ أَنْوَاعٌ ، مِنْهَا : الشِّرْكُ ، وَهُوَ أَعْظَمُهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَمِنْهَا ظُلْمُ عِبَادِ اللَّهِ ، وَهُوَ الْإِفْلَاسُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ، وَالْمَصِيرُ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمِنْهَا ظُلْمُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ ، وَهُوَ الْحَيْرَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ؛ لِأَنَّ مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ مَنَعَهَا حَقَّهَا الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ لَهَا مِنْ إِتْيَانِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ، فَأَتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِلْوًا عَنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي نُورُهَا يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ، وَبِأَيْمَانِهِمْ ، فَبَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ ، فَإِنْ قِيلَ : ارْجِعْ وَرَاءَكَ ، فَالْتَمِسْ نُورًا ، فَقَدْ خَابَ ، وَضَلَّ ، وَإِنْ تَدَارَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ أَضَاءَ لَهُ إِيمَانَهُ ، وَأَنَارَ لَهُ تَوْحِيدَهُ ، فَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فَمَنْ ظَلَمَ فَاتَتْهُ آَخِرَتُهُ الَّتِي لَهَا مَعَادُهُ ، فَخَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ، وَضَلَّ فِي النَّارِ ضَلَالًا بَعِيدًا ، إِذَا ضَرَّ بِهَا ، فَنُوقِشَ ، وَعُذِّبَ ، أَوْ يَرْحَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى ، إِنْ شَاءَ بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ، وَإِنْ ظَلَمَ أَحَلَّ بِدُنْيَاهُ الَّتِي فِيهَا مَعَاشُهُ ، فَشَقِيَ ، وَتَعِبَ ، أَوْ يَرْفُقُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ، وَاللَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ . فَفِي أَمْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالتَّعَوُّذِ مِنْ أَنْ تَظْلِمَ ، أَوْ تُظْلَمَ إِشَارَةٌ إِلَى ضِعْفِ الْعَبْدِ ، وَفَقْرِهِ ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ مُرَافَقَةِ الَّتِي يَصْلُحُ بِهَا دِينُهُ ، وَتَقُومُ بِهَا نَفْسُهُ ، وَيَصُونُ بِهَا عِرْضَهُ ، قَالَ(1/56)
اللَّهُ تَعَالَى : وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ، وَلَا بُدَّ لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَشَفَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ قَدَّمَهُ لِيَنَالَ بِهِ ثَوَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ " (1)
وقال النووي : " مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا حَقِيقَة الْمُفْلِس ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ مَال ، وَمَنْ قَلَّ مَاله ، فَالنَّاس يُسَمُّونَهُ مُفْلِسًا ، وَلَيْسَ هُوَ حَقِيقَة الْمُفْلِس ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْر يَزُول ، وَيَنْقَطِع بِمَوْتِهِ ، وَرُبَّمَا يَنْقَطِع بِيَسَارٍ يَحْصُل لَهُ بَعْد ذَلِكَ فِي حَيَاته ، وَإِنَّمَا حَقِيقَة الْمُفْلِس هَذَا الْمَذْكُور فِي الْحَدِيث فَهُوَ الْهَالِك الْهَلَاك التَّامّ ، وَالْمَعْدُوم الْإِعْدَام الْمُقَطَّع ، فَتُؤْخَذ حَسَنَاته لِغُرَمَائِهِ ، فَإِذَا فَرَغَتْ حَسَنَاته أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتهمْ ، فَوُضِعَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّار فَتَمَّتْ خَسَارَته وَهَلَاكه وَإِفْلَاسه . قَالَ الْمَازِرِيُّ وَزَعَمَ بَعْض الْمُبْتَدِعَة أَنَّ هَذَا الْحَدِيث مُعَارِض لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى } وَهَذَا الِاعْتِرَاض غَلَط مِنْهُ وَجَهَالَة بَيِّنَة ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا عُوقِبَ بِفِعْلِهِ وَوِزْره وَظُلْمه ، فَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ حُقُوق لِغُرَمَائِهِ ، فَدُفِعَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ حَسَنَاته ، فَلَمَّا فَرَغَتْ وَبَقِيَتْ بَقِيَّة قُوبِلَتْ عَلَى حَسَب مَا اِقْتَضَتْهُ حِكْمَة اللَّه تَعَالَى فِي خَلْقه ، وَعَدْله فِي عِبَاده ، فَأُخِذَ قَدْرهَا مِنْ سَيِّئَات خُصُومه ، فَوُضِعَ عَلَيْهِ ، فَعُوقِبَ بِهِ فِي النَّار . فَحَقِيقَة الْعُقُوبَة إِنَّمَا هِيَ بِسَبَبِ ظُلْمه ، وَلَمْ يُعَاقَب بِغَيْرِ جِنَايَة وَظُلْم مِنْهُ ، وَهَذَا كُلّه مَذْهَب أَهْل السُّنَّة . وَاَللَّه أَعْلَم (2) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَىْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ ».
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَمَالِهِ ، فَلْيَسْتَحِلَّهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِهِ حِينَ لاَ دِينَارَ وَلاَ دِرْهَمَ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَجُعِلَتْ عَلَيْهِ.
__________
(1) - بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ ( 116)
(2) - شرح النووي على مسلم - (8 / 388)(1/57)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا كَانَتْ لأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَأَتَاهُ ، فَاسْتَحَلَّ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ ، فَتُوضَعُ فِي سَيِّئَاتِهِ." (1)
قال ابن المنير: إنما وقع في الحديث التقدير حيث يقتص المظلوم من الظالم حتى يأخذ منه بقدر حقه، وهذا متفق عليه، والخلاف إنما هو فيما إذا أسقط المظلوم حقه في الدنيا هل يشترط أن يعرف قدره أم لا؟ وقد أطلق ذلك في الحديث. نعم قام الإجماع على صحة التحليل من المعين المعلوم، فإن كانت العين موجودة صحت هبتها دون الإبراء منها. قوله: "من كانت له مظلمة لأخيه" اللام في قوله: "له" بمعنى على، أي من كانت عليه مظلمة لأخيه، وسيأتي في الرقاق من رواية مالك عن المقبري بلفظ: "من كانت عنده مظلمة لأخيه" ، والترمذي من طريق زيد بن أبي أنيسة عن المقبري "رحم الله عبدا كانت له عند أخيه مظلمة". قوله: "من عرضه أو شيء" أي من الأشياء، وهو من عطف العام على الخاص فيدخل فيه المال بأصنافه والجراحات حتى اللطمة ونحوها. وفي رواية الترمذي "من عرض أو مال" . قوله: "قبل أن لا يكون دينار ولا درهم" أي يوم القيامة، وثبت ذلك في رواية علي بن الجعد عن ابن أبي ذئب عند الإسماعيلي. قوله: "أخذ من سيئات صاحبه" أي صاحب المظلمة "فحمل عليه" أي على الظالم، وفي رواية مالك "فطرحت عليه" ، وهذا الحديث قد أخرج مسلم معناه من وجه آخر وهو أوضح سياقا من هذا ولفظه: "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وسفك دم هذا وأكل مال هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه وطرح في النار" ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لأنه إنما يعاقب بسبب فعله وظلمه ولم يعاقب بغير جناية منه بل بجنايته، فقوبلت الحسنات بالسيئات على ما اقتضاه عدل الله تعالى في عباده (2)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (16 / 362) (7361و7362) صحيح
(2) - فتح الباري لابن حجر - (5 / 101)(1/58)
قال الطحاوي : " بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَمْرِهِ مَنْ قِبَلَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فِي عِرْضٍ أَوْ فِي مَالٍ أَنْ يَتَحَلَّلَهُ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ مِنْ أَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ حِينَ لَا يَكُونُ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ فَإِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ وَإِلَّا أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَتْ عَلَيْهِ "
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فِي عِرْضٍ أَوْ فِي مَالٍ فَلْيَأْتِهِ فَلْيُحَلِّلْهُ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ "
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأَمَّلْنَا هَذَا الْحَدِيثَ فَكَانَ مَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ مِنْهُ " مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ مِنْ أَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ . فَكَانَ مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَنَا وَاللهُ أَعْلَمُ فَلْيَتَحَلَّلْهُ بِمَا يَتَحَلَّلُ بِهِ مِنْ مِثْلِهِ مِنْ دَفْعِ مَالٍ مَكَانَ مَالٍ وَمِنْ عَفْوٍ عَنْ عُقُوبَةٍ وَجَبَتْ فِي انْتِهَاكِهِ عِرْضَهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الِانْتِهَاكَ يُوجِبُ عَلَى الْمُنْتَهِكِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ: يَا فَاسِقُ أَوْ يَا خَبِيثُ أَوْ يَا سَارِقُ وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ لَهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَذَلِكَ فَعَلَى ذَلِكَ الْقَائِلِ الْعُقُوبَةُ وَلِلْوَاجِبَةِ لَهُ تِلْكَ الْعُقُوبَةُ الْعَفْوُ عَنْهُ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ , وَذَلِكَ التَّحْلِيلُ الَّذِي يُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ وَاللهُ أَعْلَمُ . وَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ مَكَانَ ذَلِكَ فَلْيَأْتِهِ فَلْيُحَلِّلْهُ مِنْهَا فَذَلِكَ عَلَى إتْيَانِ مَنْ لَهُ الْمَظْلِمَةُ لَا عَلَى إتْيَانِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ , وَذَلِكَ بَعِيدٌ فِي الْمَعْنَى ; لِأَنَّ الَّذِي لَهُ الْمَظْلِمَةُ غَيْرُ مَخُوفٍ عَلَيْهِ مِنْهَا فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّمَا الْخَوْفُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَنْ هِيَ قِبَلَهُ فَبَانَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَوْلَى مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ مَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ مَا رَوَاهُ عَلَيْهِ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ لَا مَا رَوَاهُ عَلَيْهِ مَالِكٌ , ثُمَّ رَجَعْنَا إلَى مَا فِي حَدِيثِهِمَا جَمِيعًا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ حِينَ لَا يَكُونُ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ فَإِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ وَإِلَّا أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَتْ عَلَيْهِ " . فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَنَا , وَاللهُ أَعْلَمُ رَاجِعًا عَلَى الْمَظْلِمَةِ فِي الْمَالِ لَا عَلَى الْمَظْلِمَةِ فِي الْعِرْضِ ; لِأَنَّ الْمَظْلِمَةَ فِي الْمَالِ تُوجِبُ مَالًا , وَهُوَ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ فَإِذَا كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِمَا عَادَ صَاحِبُ الْمَظْلِمَةِ فِي حَقِّهِ بِمَظْلِمَتِهِ إلَى حَسَنَاتِ ظَالِمِهِ(1/59)
وَأُخِذَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ فَأُلْقِيَ عَلَى ظَالِمِهِ بِمِقْدَارِ مَظْلِمَتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَظْلِمَةُ فِي الْعِرْضِ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِهَا هُوَ الْعُقُوبَةُ فِي بَدَنِ الظَّالِمِ بِجَلْدِهِ عَلَيْهَا , وَذَلِكَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ بَدَنِهِ كَمَا كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا . وَمِمَّا يُقَوِّي مَا قُلْنَاهُ فِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيُّ التَّوْبَةِ: " مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِزِنًى بَرِيئًا مِمَّا قَالَهُ لَهُ أَقَامَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَدًّا إلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ "
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ نَبِيُّ التَّوْبَةِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِزِنًى بَرِيئًا مِمَّا قَالَ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ "
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكًا , وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَالَ جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ كَانَ الْعَبْدُ فِي الدُّنْيَا عَاجِزًا أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ مِنْ مَوْلَاهُ وَمِمَّنْ سِوَاهُ بِالرِّقِّ الَّذِي فِيهِ وَلَمَّا أَزَالَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ وَرَدَّهُ إلَى أَحْكَامِ مَنْ سِوَاهُ مِنْ بَنِي آدَمَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْحُدُودِ عَلَى قَاذِفِيهِمْ ذَهَبَ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ أَخْذِهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا فَأَخَذَهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا كَانَ يَأْخُذُهُ فِي الدُّنْيَا لَوِ انْطَلَقَ لَهُ الْأَخْذُ بِهِ فِيهَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَقَدْ جَاءَ الْخِطَابُ فِي حَدِيثِ التَّحْلِيلِ مِنَ الْغِيبَةِ الَّذِي رَوَيْتُهُ بِالْمَظْلِمَةِ فِي الْعِرْضِ وَالْمَالِ جَمِيعًا فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ عَلَى بَعْضِ مَا ابْتُدِئَ بِهِ دُونَ بَقِيَّتِهِ ؟ قِيلَ لَهُ: الْعَرَبُ تَفْعَلُ هَذَا كَثِيرًا تُخَاطِبُ بِالشَّيْءِ بِعَقِبِ ذِكْرِ شَيْئَيْنِ تُرِيدُ بِخِطَابِهَا أَحَدَ ذَيْنِكَ الشَّيْئَيْنِ جَمِيعًا وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ } [الرحمن: 20] . ثُمَّ قَالَ: { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [الرحمن: 22] . وَإِنَّمَا يَخْرُجَانِ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } [الأنعام: 130] . وَالرُّسُلُ فَإنَّمَا كَانُوا مِنَ الْإِنْسِ لَا مِنَ الْجِنِّ وَمِنْ ذَلِكَ مَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فعَنْ عُبَادَةَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَجْلِسٍ فَقَالَ: " تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا الْآيَةَ فَمَنْ أَوْفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَعُوقِبَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ فَأَمْرُهُ إلَى اللهِ إنْ(1/60)
شَاءَ عَذَّبَهُ , وَإِنْ شَاءَ رَحِمَهُ " [ص:182] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ فَعُوقِبَ عَلَى شِرْكِهِ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْعُقُوبَةُ كَفَّارَةً لَهُ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: { إنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء: 48]، وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يُعَاقَبْ وَسُتِرَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُ فَكَانَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " فَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا " . إنَّمَا هُوَ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ لَا عَلَى كُلِّهَا , فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي تَحْوِيلِ بَعْضِ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ إلَى الْمَظْلُومِ وَفِي تَحْوِيلِ بَعْضِ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ إلَى الظَّالِمِ لَيْسَ ذَلِكَ فِي الظُّلْمِ فِي الْأَعْرَاضِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الظُّلْمِ فِي الْأَمْوَالِ لَا الظُّلْمِ فِي الْأَعْرَاضِ وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ " (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (1 / 177) (187 -194 )(1/61)
أشياء عديدة تمنع دخول النار
8- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : " إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ عَجَبًا ، رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدِ احْتَوَشَتْهُ مَلَائِكَةٌ ، فَجَاءَهُ وُضُوءُهُ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ ذَلِكَ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدْ سُلِّطَ عَلَيْهِ عَذَابُ الْقَبْرِ ، فَجَاءَتْهُ صِلَاتُهُ فَاسْتَنْقَذَتْهُ مِنْ ذَلِكَ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدِ احْتَوَشَتْهُ الشَّيَاطِينُ ، فَجَاءَهُ ذِكْرُ اللَّهِ فَخَلَّصَهُ مِنْهُمْ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَلْهَثُ مِنَ الْعَطَشِ ، فَجَاءَهُ صِيَامُ رَمَضَانَ فَسَقَاهُ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ظُلْمَةٌ وَمِنْ خَلْفِهِ ظُلْمَةٌ ، وَعَنْ يَمِينِهِ ظُلْمَةٌ ، وَعَنْ شِمَالِهِ ظُلْمَةٌ ، وَمِنْ فَوْقِهِ ظُلْمَةٌ ، وَمِنْ تَحْتِهِ ظُلْمَةٌ ، فَجَاءَهُ حَجُّهُ ، وَعُمْرَتُهُ ، فَاسْتَخْرَجَاهُ مِنَ الظُّلْمَةِ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ ، فَجَاءَتْهُ صِلَةُ الرَّحِمِ ، فَقَالَتْ : إِنَّ هَذَا كَانَ وَاصِلًا لِرَحِمِهِ فَكَلَّمَهُمْ ، وَكَلَّمُوهُ وَصَارَ مَعَهُمْ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَتَّقِي وَهَجَ النَّارِ عَنْ وَجْهِهِ ، فَجَاءَتْهُ صَدَقَتُهُ ، فَصَارَتْ ظِلًّا عَلَى رَأْسِهِ وَسِتْرًا عَنْ وَجْهِهِ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي جَاءَتْهُ زَبَانِيَةُ الْعَذَابِ ، فَجَاءَهُ أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُهُ عَنِ الْمُنْكَرِ ، فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ ذَلِكَ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي هَوَى فِي النَّارِ ، فَجَاءَتْهُ دُمُوعُهُ الَّتِي بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فَأَخْرَجَتْهُ مِنَ النَّارِ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدْ هَوَتْ صَحِيفَتُهُ إِلَى شِمَالِهِ ، فَجَاءَهُ خَوْفُهُ مِنَ اللَّهِ فَأَخَذَ صَحِيفَتَهُ فِي يَمِينِهِ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدْ خَفَّ مِيزَانُهُ ، فَجَاءَهُ إِقْرَاضُهُ فَثَقُلَ مِيزَانُهُ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يُرْعِدُ كَمَا تُرْعِدُ الزَّعْفَةُ ، فَجَاءَهُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِاللَّهِ فَسَكَّنَ رِعْدَتَهُ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَزْحَفُ عَلَى الصِّرَاطِ مَرَّةً وَيَجْثُو مَرَّةً وَيَتَعَلَّقُ مَرَّةً ، فَجَاءَتْهُ صَلَاتُهُ عَلَيَّ فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَأَقَامَتْهُ عَلَى الصِّرَاطِ حَتَّى جَاوَزَ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي انْتَهَى إِلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَغُلِّقَتِ الْأَبْوَابُ دُونَهُ ، فَجَاءَتْهُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ " (1)
__________
(1) - مجمع الزوائد ( 11746 ) والْأَحَادِيثُ الطِّوَالُ (41 ) وأَمَالِي ابْنِ بِشْرَانَ(249 ) و التَّرْغِيبُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَثَوَابُ ذَلِكَ لِابْنِ شَاهِينَ (526 ) و الدعاء للطبراني -العلمية - (1 / 437) ( 1488 ) حسن لغيره.(1/62)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ عَجَبًا ، رَأَيْتُ مِنَ أُمَّتِي رَجُلًا نَزَلَ بِهِ عَذَابُ الْقَبْرِ فَجَاءَهُ وُضُوءُهُ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي احْتَوَشَتْهُ الشَّيَاطِينُ فَجَاءَهُ ذِكْرُ اللَّهِ فَخَلَّصَهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدِ احْتَوَشَتْهُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَجَاءَتْهُ صَلَاتُهُ فَاسْتَنْقَذَتْهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَتَلَهَّفُ عَطَشًا فَكُلَّمَا قَصَدَ حَوْضًا مُنِعَ , فَجَاءَ صِيَامُهُ شَهْرَ رَمَضَانَ فَاسْتَنْقَذَهُ وَأَرْوَاهُ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي وَالنَّبِيُّونَ حِلَقًا حِلَقًا كُلَّمَا دَنَا إِلَى حَلْقَةٍ طُرِدَ , فَجَاءَهُ اغْتِسَالُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَجْلَسَهُ إِلَى جَنْبِهِمْ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي أَحَاطَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَتَحَيَّرَ فِيهَا فَجَاءَتْهُ حَجَّتُهُ وَعُمْرَتُهُ فَاسْتَخْرَجَاهُ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَأَدْخَلَاهُ النُّورَ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يُكَلِّمُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُكَلِّمُوهُ فَجَاءَتْهُ صِلَةُ الرَّحِمِ ، فَقَالَتْ : يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ كَلِّمُوهُ فَقَدْ كَانَ وَاصِلًا لِرَحِمِهِ فَكَلَّمَهُ الْمُؤْمِنُونَ وَصَافَحُوهُ وَكَانَ مَعَهُمْ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَتَّقِي حَرَّ النَّارِ وَشَرَرَهَا بِيَدِهِ وَوَجْهِهِ فَجَاءَتْ صَدَقَتُهُ فَصَارَتْ ظِلًّا عَلَى رَأْسِهِ وَسِتْرًا عَلَى وَجْهِهِ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي احْتَوَشَتْهُ الزَّبَانِيَةُ فَجَاءَهُ أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُهُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حُجُبٌ فَجَاءَ حُسْنُ خُلُقِهِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدْ هَوَتْ صَحِيفَتُهُ إِلَى شِمَالِهِ فَجَاءَ خَوْفُهُ مِنَ اللَّهِ فَأَخَذَ صَحِيفَتَهُ فَجَعَلَهَا فِي يَمِينِهِ , وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَائِمًا عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَجَاءَهُ وَجَلُهُ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَضَى , وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي خَفَّ مِيزَانُهُ فَجَاءَهُ أَفْرَاطُهُ فَثَقَّلُوا مِيزَانَهُ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي هَوَى فِي النَّارِ فَجَاءَهُ دُمُوعُهُ الَّذِي سَالَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَائِمًا عَلَى الصِّرَاطِ يُرْعِدُ كَمَا يُرْعِدُ السَّعَفُ فِي يَوْمِ رِيحٍ عَاصِفٍ فَجَاءَهُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِاللَّهِ فَكَفَّ عَنْهُ رُعْبَتَهُ وَمَضَى عَلَى الصِّرَاطِ , وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَزْحَفُ أَحْيَانًا وَيَنْطَلِقُ أَحْيَانًا فَجَاءَتْهُ صَلَاتُهُ عَلَيَّ فَأَقَامَتْهُ عَلَى رِجْلِهِ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي انْتَهَى إِلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَغُلِّقَتْ دُونَهُ فَجَاءَتْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَفَتَحَتْ لَهُ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ فَوَلَجَ " (1)
__________
(1) - التَّرْغِيبُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَثَوَابُ ذَلِكَ لِابْنِ شَاهِينَ (526 ) حسن لغيره
-الجثو : الجلوس على الركبتين -الشفير : الحرف والجانب والناحية(1/63)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ ، قَالَ : كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : " إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ عَجَبًا ، رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِجَابٌ ، فَجَاءَ حُسْنُ الْخُلُقِ خَلْفَهُ ، فَأَدْخَلَهُ عَلَى اللَّهِ " (1)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ ، قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ وَنَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ : " إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ عَجَبًا ، رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَقْبِضُ رُوحَهُ ، فَجَاءَهُ بِرُّهُ بِوَالِدَيْهِ فَرَدَّ عَنْهُ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قُسِطَ عَلَيْهِ عَذَابُ الْقَبْرِ ، فَجَاءَ وُضُوؤُهُ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَلْهَثُ عَطَشًا ، كُلَّمَا وَرَدَ حَوْضًا مُنِعَ ، فَجَاءَهُ صِيَامُهُ رَمَضَانَ فَاسْتَنْقَذَهُ وَسَقَاهُ وَأَرْوَاهُ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي وَالنَّبِيُّونَ قُعُودٌ حِلَقًا حِلَقًا فَجَاءَهُ غُسْلُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَقْعَدَهُ إِلَى جَانِبِي ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي بَيْنَ يَدَيْهِ ظُلْمَةٌ ، وَمِنْ خَلْفِهِ ظُلْمَةٌ ، وَعَنْ يَمِينِهِ ظُلْمَةٌ ، وَعَنْ يَسَارِهِ ظُلْمَةٌ ، وَمِنْ فَوْقِهِ ظُلْمَةٌ ، وَمِنْ تَحْتِهِ ظُلْمَةٌ ، وَهُوَ مُتَحَيِّرٌ فِي الظُّلْمَةِ ؛ فَجَاءَهُ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ فَاسْتَخْرَجَاهُ مِنَ الظُّلْمَةِ وَأَدْخَلَاهُ النُّورَ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي لَا يُكَلِّمُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُكَلِّمُونَهُ ، فَجَاءَهُ صِلَتُهُ لِلرَّحِمِ فَقَالَتْ : يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ ، كَلِّمُوهُ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَصِلُ رَحِمَهُ ؛ فَكَلَّمَهُ الْمُؤْمِنُونَ ، فَكَانَ مَعَهُمْ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَقِي وَهَجَ النَّارِ عَنْ وَجْهِهِ ، فَجَاءَتْهُ صَدَقَتُهُ فَكَانَتْ سِتْرًا عَلَى وَجْهِهِ ، وَظِلًّا عَلَى رَأْسِهِ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي أَخَذَتْهُ الزَّبَانِيَةُ بِكُلِّ مَكَانٍ ، فَجَاءَ أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَنَهْيُهُ عَنِ الْمُنْكَرِ ، فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ ، وَأَدْخَلُوهُ مَعَ المَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ ، فَصَارَ مَعَهُمْ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِجَابٌ ، فَجَاءَ حُسْنُ خُلُقِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدْ هَوَتْ صَحِيفَتُهُ قِبَلَ شِمَالِهِ ، فَجَاءَ خَوْفُهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَخَذَ صَحِيفَتَهُ فَجَعَلَهَا فِي يَمِينِهِ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قُرِّبَ إِلَى الْمِيزَانِ ، فَخَفَّتْ مَوَازِينُهُ ، فَجَاءَ أَفْرَاطُهُ فَثَقَّلُوا مِيزَانَهُ ، يَعْنِي أَطْفَالَهُ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَائِمًا عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ ، فَجَاءَ وَجَلُهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَضَى ، وَرَأَيْتُ
__________
(1) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (49 ) حسن(1/64)
رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَائِمًا عَلَى الصِّرَاطِ يَرْعَدُ كَمَا تَرْعَدُ السَّعَفَةُ فِي رِيحٍ عَاصِفٍ ، فَجَاءَ حُسْنُ ظَنِّهِ بِاللَّهِ فَسَكَّنَ رَوْعَتَهُ فَمَضَى عَلَى الصِّرَاطِ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَزْحَفُ عَلَى الصِّرَاطِ ، زَحْفًا أَحْيَانًا وَيَجْثُو أَحْيَانًا ، فَجَاءَتْهُ صَلَاتُهُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَأَقَامَتْهُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَمَضَى عَلَى الصِّرَاطِ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي انْتَهَى إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَغُلِّقَتِ الْأَبْوَابُ دُونَهُ ، فَجَاءَتْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي هَوَى فِي النَّارِ فَجَاءَتْ دُمُوعُهُ الَّتِي بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاسْتَنْقَذَتْهُ مِنَ النَّارِ ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي احْتَوَشَتْهُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ ، فَجَاءَتْ صَلَاتُهُ فَاسْتَنْقَذَتْهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ " (1)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ , قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : " رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ عَجَبًا , رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَلْهَثُ عَطَشًا , كُلَّمَا وَرَدَ حَوْضًا مُنِعَ , فَجَاءَهُ صِيَامُ رَمَضَانَ فَسَقَاهُ وَأَرْوَاهُ " (2)
الجُنُب : الذي يجب عليه الغُسْل بالجِماع وخُروجِ المّنيّ، والجنَابة الاسْم، وهي في الأصل : البُعْد. وسُمّي الإنسان جُنُبا لأنه نُهِيَ أن يَقْرَب مواضع الصلاة ما لم يَتَطَهَّر. وقيل لمُجَانَبَتِه الناسَ حتى يَغْتَسل - الارتعاد : الرجفة والاضطرب من الخوف - السعف : هو ورق النخل وجريده - جاوز الشيء : مر عليه وعبره وتخطاه
ــــــــــــــــ
__________
(1) - أَمَالِي ابْنِ بِشْرَانَ (249 ) حسن
(2) - طَبَقَاتُ الْمُحَدِّثِينَ بِأَصْبَهَانَ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ (452 ) وأخْبَارُ أَصْبَهَانَ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبهَانِيِّ (1971 ) صحيح(1/65)
العمل الذي يقرّبُ من الجنة ويباعد عن النار
9- عن سويد بن حجير، حَدَّثَنِي خَالِي قَالَ : لَقِيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ ، فَأَخَذْتُ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ ، فَقُلْتُ : مَاذَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ ؟ قَالَ : أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتَ أَوْجَزْتَ فِي الْمَسْأَلَةِ لَقَدْ أَعْظَمْتَ وَأَطْوَلْتَ ، أَقِمِ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ ، وَأَدِّ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ، وَحُجَّ الْبَيْتَ ، وَمَا أَحْبَبْتَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِكَ النَّاسُ فَافْعَلْ بِهِمْ ، وَمَا تَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ النَّاسُ إِلَيْكَ فَدَعِ النَّاسَ ، خَلِّ سَبِيلَ النَّاقَةِ" (1)
وعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَوْ عَنْ عَمِّهِ ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَفَةَ ، فَأَخَذْتُ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ ، أَوْ بِخِطَامِهَا ، فَدُفِعْتُ عَنْهُ ، فَقَالَ : دَعُوهُ ، فَأَرَبٌ مَا جَاءَ بِهِ ، قُلْتُ : نَبِّئْنِي بِعَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى الْجَنَّةِ ، وَيُبْعِدُنِي مِنَ النَّارِ ؟ قَالَ : فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ ، ثُمَّ قَالَ : لَئِنْ كُنْتَ أَوْجَزْتَ فِي الْخُطْبَةِ ، لَقَدْ أَعْظَمْتَ وَأَطْوَلْتَ ، تَعَبْد اللهِ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ ، وَتَأْتِي إِلَى النَّاسِ مَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتُوهُ إِلَيْكَ ، وَمَا كَرِهْتَ لِنَفْسِكَ ، فَدَعِ النَّاسَ مِنْهُ ، خَلِّ عَنْ زِمَامِ النَّاقَةِ. (2)
الزمام : الخيط الذي يشد في البُرَة أو في الخِشاش ثم يشد إلى طرف المقود - خلى : ترك وابتعد وأفسح - الزمام : الحبل الذي يقاد به البعير
وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا، عَرَضَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَسِيرِهِ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: " تَعْبُدُ اللهَ، وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ (3)
وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَىالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : دُلَّنِي عَلَى عَمِلٍ يُدْنِينِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ ، قَالَ : تَعْبُدُ اللَّهَ وَلا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ ، وَتُؤْتِي
__________
(1) - الآحاد والمثاني (1259) وشعب الإيمان - (13 / 462) (10619 ) صحيح لغيره
(2) - مسند أحمد (17160) حسن
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (115 ) وشعب الإيمان - (4 / 294)(2543 ) و الأدب المفرد - ( 49 ) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 774) (23538) 23935-(1/66)
الزَّكَاةَ ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ ، فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ ." (1)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، قَالَ : كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ ، قَالَ : " لَقَدْ سَأَلْتَ عَظِيمًا ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ " ثُمَّ قَالَ : " أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ النَّارَ الْمَاءُ ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ ، ثُمَّ قَرَأَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ حَتَّى بَلَغَ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " ثُمَّ قَالَ : " أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ ، وَعَمُودِهِ ، وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ ؟ الْجِهَادُ " ثُمَّ قَالَ : " أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ " قُلْتُ : بَلَى ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ ، فَقَالَ : " تَكُفُّ عَلَيْكَ هَذَا " قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ قَالَ : " ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ ، إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ؟ " (2)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَقَدْ أَصَابَ الْحَرُّ فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ حَتَّى نَظَرْتُ ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَقْرَبُهُمْ مِنِّي قَالَ : فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنْبِئْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ . قَالَ : " لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ " قَالَ : " وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِأَبْوَابِ الْجَنَّةِ " قُلْتُ : أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : " الصَّوْمُ جُنَّةٌ ، وَالصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ ، وَقِيَامُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ يَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ " قَالَ : ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ قَالَ : " وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ " قَالَ : قُلْتُ : أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : " أَمَّا رَأْسُ الْأَمْرِ فَالْإِسْلَامُ ، وَأَمَّا عَمُودُهُ فَالصَّلَاةُ ، وَأَمَّا ذِرْوَةُ سَنَامِهِ فَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (4 / 188) (3827- 3829) صحيح
(2) - سُنَنُ ابْنِ مَاجَهْ (4001 ) صحيح لغيره(1/67)
اللَّهِ ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ " فَسَكَتَ فَإِذَا رَاكِبَانِ يُوضِعَانَ قِبَلَنَا ، فَخَشِيتُ أَنْ يَشْغَلَاهُ عَنْ حَاجَتِي قَالَ : فَقُلْتُ : مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " فَأَهْوَى بِإِصْبَعِهِ إِلَى فِيهِ " قَالَ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنَّا لَنُؤَاخَذُ بِمَا نَقُولُ بِأَلْسِنَتِنَا ؟ قَالَ : " ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ ابْنَ جَبَلٍ هَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ؟ " (1)
وعَنْ أبِي إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنِي كُدَيْرٌ الضَّبِّيُّ، أَنَّ رَجُلا أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي بِعَمَلٍ يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"أَوَهُمَا أَهَملَّتَاكَ؟"، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:"تَقُولُ الْعَدْلَ وَتُعْطِي الْفَضْلَ"، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ الْعَدْلَ كُلَّ سَاعَةٍ، وَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُعْطِيَ فَضْلَ مَالِي، قَالَ:"تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتُفْشِي السَّلامَ"، قَالَ: هَذِهِ أَيْضًا شَدِيدَةٌ، فَقَالَ:"فَهَلْ لَكَ إِبِلٌ؟"، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:"فَانْظُرْ إِلَى بَعِيرٍ مِنْ إِبِلِكَ وَسِقَاءٍ ثُمَّ اعْمِدْ إِلَى أَهْلَ بَيْتٍ لا يَشْرَبُونَ الْمَاءَ إِلا غِبًّا فَاسِقِهِمْ، فَلَعَلَّكَ لا تُهْلِكُ بَعِيرَكَ وَلا تَخْرِقُ سِقَاءَكَ حَتَّى تَجِبَ لَكَ الْجَنَّةُ"، فَانْطَلَقَ الأَعْرَابِيُّ يُكَبِّرُ، فَمَا انْخَرَقَ سِقَاؤُهُ وَلا هَلَكَ بَعِيرُهُ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا ). (2)
أعملتاك أي بعثتاك واستعملتاك وحملتاك على الإتيان والسؤال وقوله لا يشربون الماء إلا غبا بكسر الغين المعجمة وتشديد الباء الموحدة أي يوما دون يوم
وعَنْ مَعْنِ بن يَزِيدَ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ:"لَقَدْ أَوْجَزْتَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَقَدْ أَعْرَضْتَ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُصَلِّي الْخَمْسَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَمَا كَرِهْتَ أَنْ يَأْتِيَهُ النَّاسُ إِلَيْكَ فَاكْرَهَهُ لَهُمْ" (3)
وعَنِ الْبَرَاءِ , قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَالَ : دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ , قَالَ : " لَئِنْ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ أَعْتِقِ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةِ " , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوَلَيْسَا وَاحِدًا ؟ , فَقَالَ : " لَا عِتْقُ
__________
(1) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ(3507 ) صحيح لغيره
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (14 / 67) (15753 ) صحيح
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (14 / 377) (16414 ) صحيح لغيره(1/68)
النَّسَمَةِ أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا , وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا , وَالْمَنِحَةُ الْوَكُوفُ وَالْفَيْءُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الظَّالِمِ , فَإِنْ لَمْ تُطِقْ فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ ". (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ ، قَالَ : تَعْبُدُ اللَّهَ وَلا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ الْحَدِيثَ ، قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا وَلا أَنْقُصُ مِنْهُ ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا ." (2)
وعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : جَاءَ النُّعْمَانُ بْنُ قَوْقَلٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَات ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلال ، َوَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ قَوْقَلٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَاتِ ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلالَ ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا أَدْخُلُ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . (3)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي عَمَلًا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ ، فَقَالَ : " إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَاعْمَلْ حَسَنَةً فَإِنَّهَا عَشْرُ أَمْثَالِهَا " قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ ؟ قَالَ : " هِيَ أَحْسَنُ الْحَسَنَاتِ " (4)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ . قَالَ : " إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَاعْمَلْ حَسَنَةً عَلَى أَثَرُهَا فَإِنَّهَا عَشْرُ أَمْثَالِهَا " . قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مِنَ الْحَسَنَاتِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟ قَالَ : " مِنْ أَكْبَرِ الْحَسَنَاتِ " (5)
__________
(1) - سنن الدارقطنى- المكنز - (2079 ) صحيح
الوكوف : الغزيرة اللبن وقيل التى لا ينقطع لبنها سنتها جميعها -الفىء : الظل
(2) - مسند أبي عوانة (3) صحيح
(3) - مسند أبي عوانة (4و5) صحيح
(4) - الدُّعَاءُ لِلطَّبَرَانِيِّ (1395 ) صحيح لغيره
(5) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (5622 ) صحيح(1/69)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ , رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي عَمَلًا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَأَتْبِعْهَا حَسَنَةً " , قَالَ : قُلْتُ : مِنَ الْحَسَنَاتِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟ , قَالَ : " نَعَمْ , هِيَ أَحْسَنُ الْحَسَنَاتِ " (1)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، عَلِّمْنِي عَمَلًا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ . قَالَ : " إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَاعْمَلْ حَسَنَةً فَإِنَّهَا عَشْرُ أَمْثَالِهَا " . قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ ؟ قَالَ : " هِيَ أَحْسَنُ الْحَسَنَاتِ كُفُؤًا " (2)
وعَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَى أُمِّ هَانِئٍ ، فَقَالَتْ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، دُلُّنِي عَلَى عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ ؟ فَقَالَ لَهَا : " صَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي يَوْمٍ ، يَسْتَغْفِرُ لَكِ بِهِنَّ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إِلَى الْغَدِ مِثْلَهُنَّ ، فَإِنْ أَتْمَمْتِهُنَّ سِتَّ رَكَعَاتٍ تُقْرَأُ فِيهِنَّ بِسُورَةِ يَسِ وَحَمِ الدُّخَانِ وَتَنْزِيلِ السَّجْدَةِ وَتَبَارَكَ الْمُلْكِ وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ الْمُوَحَّدَةِ بَنَى اللَّهُ بِهِنَّ قُبَّةً فِي الْجَنَّةِ عَلَى يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ ، لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ جُمِعُوا فِي صَعِيدٍ ، فَرَمَوْهَا بِبَصَرٍ وَاحِدٍ ، لَمْ يَبْلُغُوا طَرَفَهَا " (3)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - الأسماء والصفات للبيهقي - (200) صحيح
(2) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (5621 ) صحيح بغيره
(3) - أَخْبَارُ أَصْبَهَانَ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبهَانِيِّ (770 ) ضعيف - الصعيد : الأرض الواسعة المستوية(1/70)
جزاء الصبر على موت الأولاد
10- عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ السُّلَمِيِّ ، قَالَ : قُلْتُ : لَهُ : حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، لَيْسَ فِيهِ انْتِقَاصٌ ، وَلاَ وَهْمٌ ، قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ وُلِدَ لَهُ ثَلاثَةُ أَوْلاَدٍ فِي الإِسْلاَمِ ، فَمَاتُوا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ ، أَدْخَلَهُ اللهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، بَلَغَ بِهِ الْعَدُوَّ ، أَصَابَ ، أَوْ أَخْطَأَ، كَانَ لَهُ كَعِدْلِ رَقَبَةٍ ، وَمنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً ، أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ ، مِنَ النَّارِ ، وَمَنْ أَنْفَقَ زَوْجيْنِ فِي سَبِيلِ اللهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، فَإِنَّ لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ ، يُدْخِلُهُ اللهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ مِنْهَا الْجَنَّةَ. (1)
وعَنْ أَبِي ظبية ، قَالَ : إِنَّ شُرَحْبِيلَ بْنَ السِّمْطِ دَعَا عَمْرَو بْنَ عَبَسَةَ السُّلَمِيَّ ، فَقَالَ : يَا ابْنَ عَبَسَةَ ، هَلْ أَنْتَ مُحَدِّثِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ أَنْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، لَيْسَ فِيهِ تَزَيُّدٌ ، وَلاَ كَذِبٌ ، وَلاَ تُحَدِّثْنِيهِ عَنْ آخَرَ سَمِعَهُ مِنْهُ غَيْرُكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِنَّ اللهَ ، عَزَّ وَجَلَّ ، يَقُولُ : قَدْ حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَحَابُّونَ مِنْ أَجْلِي ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَصَافُّونَ مِنْ أَجْلِي ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَزَاوَرُونَ مِنْ أَجْلِي ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَبَاذَلُونَ مِنْ أَجْلِي ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَنَاصَرُونَ مِنْ أَجْلِي.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: أَيُّمَا رَجُلٍ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، فَبَلَغَ مُخْطِئًا ، أَوْ مُصِيبًا ، فَلَهُ مِنَ الأَجْرِ كَرَقَبَةٍ يُعْتِقُهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللهِ ، فَهِيَ لَهُ نُورٌ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ رَجُلاً مُسْلِمًا ، فَكُلُّ عُضْوٍ مِنَ الْمُعْتَقِ بِعُضْوٍ مِنَ الْمُعْتِقِ ، فِدَاءً لَهُ مِنَ النَّارِ ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً ، فَكُلُّ عُضْوٍ مِنَ الْمُعْتَقَةِ بِعُضْوٍ مِنَ الْمُعْتِقَةِ ، فِدَاءً لَهَا مِنَ النَّارِ ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ قَدَّمَ ِللهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، مِنْ صُلْبِهِ ثَلاَثَةً ، لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ ، أَوِ امْرَأَةٍ ، فَهُمْ لَهُ سُتْرَةٌ مِنَ النَّارِ ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ قَامَ إِلَى وَضُوءٍ ، يُرِيدُ الصَّلاَةَ ، فَأَحْصَى الْوَضُوءَ إِلَى أَمَاكِنِهِ ، سَلِمَ
__________
(1) - مسند أحمد (19965) صحيح لغيره(1/71)
مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ، أَوْ خَطِيئَةٍ لَهُ ، فَإِنْ قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ رَفَعَهُ اللهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، بِهَا دَرَجَةً ، وَإِنْ قَعَدَ قَعَدَ سَالِمًا.
فَقَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ : آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَا ابْنَ عَبَسَةَ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَالَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ، لَوْ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - غَيْرَ مَرَّةٍ ، أَوْ مَرَّتَيْنِ ، أَوْ ثَلاَثٍ ، أَوْ أَرْبَعٍ ، أَوْ خَمْسٍ ، أَوْ سِتٍّ ، أَوْ سَبْعٍ ، فَانْتَهَى عِنْدَ سَبْعٍ ، مَا حَلَفْتُ ، يَعْنِي مَا بَالَيْتُ ، أَنْ لاَ أُحَدِّثَ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ ، وَلَكِنِّي وَاللهِ ، مَا أَدْرِي عَدَدَ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - . (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - مسند أحمد(19966) حسن(1/72)
بعض الخصال المنجية من النار
11- عَنْ مَالِكِ بن مَرْثَدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ أَبُو ذَرٍّ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا يُنَجِّي الْعَبْدَ مِنَ النَّارِ ؟ قَالَ : الإِيمَانُ بِاللَّهِ ، قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، إِنَّ مَعَ الإِيمَانِ عَمِلٌ ، قَالَ : يُرْضَخُ مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فَقِيرًا ، لا يَجِدُ مَا يُرْضَخُ بِهِ ؟ قَالَ : يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَيِيًّا لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ؟ قَالَ : يَصْنَعُ لأَخْرَقَ ، قُلْتُ : أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ أَخْرَقَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا ؟ قَالَ : يُعِينُ مَغْلُوبًا ، قُلْتُ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ ضَعِيفًا ، لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُعِينَ مَظْلُومًا ؟ فَقَالَ : مَا تُرِيدُ أَنْ تَتْرُكَ فِي صَاحِبِكَ ، مِنْ خَيْرٍ تُمْسِكُ الأَذَى ، عَنِ النَّاسِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ دَخَلَ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ : مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَفْعَلُ خَصْلَةً مِنْ هَؤُلاءِ ، إِلا أَخَذَتْ بِيَدِهِ حَتَّى تُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ. (1)
العي : العجز عن التعبير اللفظي بما يفيد المعنى المقصود - الخُرْق بالضم : الجهل والحُمقُ - الخصلة : خلق في الإنسان يكون فضيلة أو رزيلة
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ، يَرْفَعُهُ قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا رَفَعَهُ: " وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَةُ الْحَجَرِ وَالشَّوْكِ وَالْعَظْمِ عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ صَدَقَةٌ، وَهِدَايَتُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّالَّةِ صَدَقَةٌ "
وقَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَاذَا يُنَجِّي الْعَبْدَ مِنَ النَّارِ ؟ قَالَ: " الْإِيمَانُ بِاللهِ " فقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ مَعَ الْإِيمَانِ عَمَلٌ، قَالَ: " أَنْ تَرْضَخَ مِمَّا خَوَّلَكَ اللهُ أَوْ تَرْضَخَ مِمَا رَزَقَكَ اللهُ " قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَا يَجِدُ مَا يَرْضَخُ ؟ قَالَ: " يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ " قُلْتُ: إِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ؟ قَالَ: " فَلْيُعِنِ الْأَخْرَقَ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَصْنَعَ ؟ قَالَ: " فَلْيُعِنْ مَظْلُومًا " قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُعِينَ مَظْلُومًا ؟ قَالَ: " مَا تُرِيدُ أَنْ تَتْرُكَ لِصَاحِبِكَ مِنْ خَيْرٍ لِيُمْسِكْ أَذَاهُ عَنِ النَّاسِ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 2 / ص 213)(1627) صحيح لغيره(1/73)
فَعَلَ هَذَا يَدْخُلِ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ: " مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُصِيبُ خَصْلَةً مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ إِلَّا أَخَذَتْ بِيَدِهِ حَتَّى تُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ " (1)
الأعمال الصالحة
هي ما كانت موافقة للشرع ، ويكون صاحبها مُخلصاً لربه تبارك وتعالى ، وقد عرف شيخ الإسلام العبادة بأنها : " اسم جامعٌ لكل ما يحبه ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة " ، وهي متنوعة وكثيرة ، ولا يمكننا حصرها فضلاً عن تعدادها ، لكننا نذكر منها :
1. الإيمان بالله
ويشمل : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشرِّه .
2. والصلاة لوقتها
وهي خمس صلوات فرضهن الله في اليوم والليلة ، وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على كفر من تركها.
ولا يحل تأخيرها عن أوقاتها ، ويجب أداء أركانها وواجباتها ، وأن يصلِّي المسلم كما صلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
3. وحج مبرور .
والحج المبرور معناه :
أ- أن يكون من مالٍ حلال .
ب- أن يبتعد عن الفسق والإثم والجدال فيه .
ج- أن يأتي بالمناسك وفق السنَّة النبويَّة .
د- أن لا يرائي بحجه ، بل يخلص فيه لربه .
هـ- أن لا يعقبه بمعصية أو إثم .
4. بر الوالدين
__________
(1) - شعب الإيمان - (5 / 33) (3056 و357) صحيح لغيره(1/74)
وهو طاعتهما في طاعة الله تعالى ، ولا يجوز طاعتهما في معصية ، ومن البرِّ بهما عدم رفع الصوت عليهما ، ولا إيذاؤهما بكلام قبيح . ومن البرِّ بهما الإنفاق عليهما ، والقيام على خدمتهما .
5. الجهاد في سبيل الله
وقد شرع الله تعالى الجهاد لإقامة التوحيد ، ونشر الإسلام في الأرض ، وقد أعدَّ الله تعالى للمجاهدين في سبيله أجراً عظيماً .
6. الحب في الله والبغض في الله
وهو أن يحبَّ المسلمُ أخاه المسلم لله تعالى لا للونه ولا لجنسه ولا لماله ، بل لطاعته لربه ولقربه منه تعالى. كما أنه يبغض العاصي لأنه عصى الله تعالى .
7. قراءة القرآن
سواء كان ذلك في حزبه اليومي أو في صلاته بالليل .
8. المداومة على الطاعات وإن قلَّت
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب الأعمال الدائمة ولو كانت قليلة ، وقليل دائم خير من كثيرٍ منقطع .
9. أداء الأمانة
وهي من الواجبات ومن أفضل الأعمال ، وقد عُلم في الشرع أن المنافق هو الذي يخون الأمانة ولا يؤديها لأهلها .
10. العفو عن الناس
وهو التنازل عن الحق الشخصي ، والعفو عن الظالم إن كان ذلك العفو يصلحه ، أو أنه تاب وندم على ظلمه ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما ازداد عبدٌ بعفوٍ إلا عزّاً " رواه مسلم ( 2588 )
11. الصدق في الحديث(1/75)
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صِدِّيقاً " ، والصدق منجاة لصاحبه ، وهو خلق عظيم تخلَّق به الأنبياء وأتباعهم بحقٍّ " رواه مسلم ( 2607 )
12. النفقة في سبيل الله
وتشمل النفقة في الجهاد ، وعلى الوالدين والفقراء والمساكين والمحتاجين ، وفي بناء المساجد ، وفي طباعة المصاحف والكتب الإسلاميَّة ، والنفقة على الأهل والأولاد .
13. أن يسلم المسلمون من لسانه ويده .
وذلك بالكف عن الغيبة والنميمة والقذف والسب واللعن ، وكذا الكف عن البطش والضرب لمن لا يستحق .
14. إطعام الطعام
ويشمل إطعام الإنسان والبهائم .
15. إفشاء السلام على من عرفت ومن لم تعرف
إلا من ورد النص بالمنع من ابتدائه بالسلام وهم الكفار .
16. تعين ضائعاً أو تصنع لأخرق .
والضائع هو ذو الحاجة من فقر أو عيال ، والأخرق هو الجاهل الذي لا صنعة له .
17. تدع الناس من الشر فإنها صدقة تصدق بها على نفسك .
وغير ذلك كثير . . . (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (1 / 2786) سؤال رقم 26242- الأعمال الصالحة(1/76)
الإكثار من ذكر الله
12- عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ، وَأَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ ؟ قَالُوا : وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ وَقَالَ : ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ : مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" (1)
وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِى دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ ». قَالُوا بَلَى. قَالَ « ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى ». فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضى الله عنه مَا شَىْءٌ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. " (2)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَرْضَاهَا لَكُمْ عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِمَّنْ أُعْطِيَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ، وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُونَ أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُونَ أَعْنَاقَكُمْ ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ . قَالَ: " ذِكْرُ اللهِ " وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: " مَا عَمِلَ امْرُؤٌ بِعَمَلٍ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ " (3)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَمَلٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ وَلَا أَنْجَى لِعَبْدِهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " (4)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللهِ فإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ، وَلَا أَنْجَى لِلْعَبْدِ مِنْ حَسَنَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ، وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا
__________
(1) - المستدرك للحاكم(1825) حسن
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (3704 ) وسنن ابن ماجه- المكنز - (3922 ) صحيح - الورق : الفضة
(3) - شعب الإيمان - (2 / 60) (516 ) صحيح
(4) - شعب الإيمان - (2 / 61) (517 ) صحيح(1/77)
عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ لَمْ نَكُنْ نُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ " " تَفَرَّدَ بِهِ مَرْوَانَ بْنِ سَالِمٍ وَاللهُ أَعْلَمُ، وَزَادَ فِيهِ غَيْرِهِ، وَإِنَّ الْجِهَادَ شُعْبَةٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ "
قَالَ الْحَلِيمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: " وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ لَيْسَ هُوَ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ، وَلَكِنَّهُ جَامِعٌ لِلِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَالذِّكْرُ بِالْقَلْبِ أَفْضَلُ لِأَنَّ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ لَا يَرْدَعُ عَنْ شَيْءٍ، وَالذِّكْرَ بِالْقَلْبِ يَرْدَعُ عَنِ التَّقْصِيرِ فِي الطَّاعَاتِ وَالتَّهَافُتِ فِي الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ " (1)
قَوْلُهُ : " أَلَا أُنَبِّئُكُمْ" أَيْ أَلَا أُخْبِرُكُمْ
" وَأَزْكَاهَا" أَيْ أَنْمَاهَا وَأَنْقَاهَا ، وَالزَّكَاءُ النَّمَاءُ وَالْبَرَكَةُ
" عِنْدَ مَلِيكِكُمْ" الْمَلِيكُ بِمَعْنَى الْمَالِكُ لِلْمُبَالَغَةِ ، وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ الْمَلِكُ كَكَتِفٍ وَأَمِيرٍ وَصَاحِبِ الْمُلْكِ
" وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ" بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ الْفِضَّةُ ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ : قَوْلُهُ وَخَيْرٍ مَجْرُورٌ عَطْفًا عَلَى خَيْرِ أَعْمَالِكُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَذْلِ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اِنْتَهَى ، وَقِيلَ عَطْفٌ عَلَى خَيْرِ أَعْمَالِكُمْ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ لِأَنَّ الْأَوَّلَ خَيْرُ الْأَعْمَالِ مُطْلَقًا وَهَذَا خَيْرٌ مِنْ بَذْلِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ أَوْ عَطْفٌ مُغَايِرٌ بِأَنْ يُرَادَ بِالْأَعْمَالِ الْأَعْمَالُ اللِّسَانِيَّةُ فَيَكُونُ ضِدَّ هَذَا لِأَنَّ بَذْلَ الْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْفِعْلِيَّةِ
( قَالَ ذِكْرُ اللَّهِ ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوَاعِدِهِ : هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَدْرِ النَّصْبِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ بَلْ قَدْ يَأْجُرُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَلِيلِ الْأَعْمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْجُرُ عَلَى كَثِيرِهَا فَإِذَا الثَّوَابُ يَتَرَتَّبُ عَلَى تَفَاوُتِ الرُّتَبِ فِي الشَّرَفِ اِنْتَهَى . (2)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - شعب الإيمان - (2 / 62) (518) ضعيف
(2) - تحفة الأحوذي - (8 / 274)(1/78)
أهمية مجالس الذكر
13- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا : هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ " قَالَ : " فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا " قَالَ : " فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ ، مَا يَقُولُ عِبَادِي ؟ قَالُوا : يَقُولُونَ : يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ " قَالَ : " فَيَقُولُ : هَلْ رَأَوْنِي ؟ " قَالَ : " فَيَقُولُونَ : لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ ؟ " قَالَ : " فَيَقُولُ : وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي ؟ " قَالَ : " يَقُولُونَ : لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً ، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا ، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا " قَالَ : " يَقُولُ : فَمَا يَسْأَلُونِي ؟ " قَالَ : " يَسْأَلُونَكَ الجَنَّةَ " قَالَ : " يَقُولُ : وَهَلْ رَأَوْهَا ؟ " قَالَ : " يَقُولُونَ : لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا " قَالَ : " يَقُولُ : فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا ؟ " قَالَ : " يَقُولُونَ : لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا ، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا ، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً ، قَالَ : فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ ؟ " قَالَ : " يَقُولُونَ : مِنَ النَّارِ " قَالَ : " يَقُولُ : وَهَلْ رَأَوْهَا ؟ " قَالَ : " يَقُولُونَ : لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا " قَالَ : " يَقُولُ : فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا ؟ " قَالَ : " يَقُولُونَ : لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا ، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً " قَالَ : " فَيَقُولُ : فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ " قَالَ : " يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ المَلاَئِكَةِ : فِيهِمْ فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ . قَالَ : هُمُ الجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ " (1) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً فُضُلاً عَنْ كُتَّابِ النَّاسِ ، يَمْشُونَ فِي الطُّرُقِ ، يَلْتَمِسُونَ الذِّكْرَ ، فَإِذَا رَأَوْا أَقْوَامًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَنَادَوْا : هَلُمُّوا إِلَى حَاجَاتِكُمْ ، فَيَحُفُّونَ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ ، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ جَلَّ وَعَلاَ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ ، فَيَقُولُ : عِبَادِي مَا يَقُولُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : يَا رَبِّ ، يُسَبِّحُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ ، فَيَقُولُ : هَلْ رَأَوْنِي ؟ فَيَقُولُونَ : لاَ ، فَيَقُولُ : كَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي ؟ فَيَقُولُونَ : لَوْ رَأَوْكَ لَكَانُوا أَشَدَّ تَسْبِيحًا وَتَمْجِيدًا وَتَكْبِيرًا وَتَحْمِيدًا ، فَيَقُولُ : مَاذَا يَسْأَلُونَ ؟ فَيَقُولُونَ :
__________
(1) - صحيح البخارى 108/8(6408 )(1/79)
يَسْأَلُونَكَ يَا رَبِّ الْجَنَّةَ ، فَيَقُولُ لَهُمْ : هَلْ رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ : لاَ ، فَيَقُولُ : كَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ : لَوْ قَدْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ طَلَبًا وَأَشَدَّ حِرْصًا ، فَيَقُولُ : فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : يَتَعَوَّذُونَ بِكَ مِنَ النَّارِ ، فَيَقُولُ : فَهَلْ رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ : لاَ ، فَيَقُولُ : كَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ : لَوْ قَدْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ تَعَوُّذًا ، فَيَقُولُ : فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً فُضُلاً عَنْ كُتَّابِ النَّاسِ ، يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا : هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ ، فَيَحُفُّونَ بِهِمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ ، فَيَقُولُ : مَا يَقُولُ عِبَادِي ؟ فَيَقُولُونَ : يُكَبِّرُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ وَيُسَبِّحُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ ، فَيَقُولُ : هَلْ رَأَوْنِي ؟ فَيَقُولُونَ : لاَ ، فَيَقُولُ : فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي ؟ فَيَقُولُونَ : لَوْ رَأَوْكَ لَكَانُوا لَكَ أَشَدَّ عِبَادَةً وَأَكْثَرَ تَسْبِيحًا وَتَحْمِيدًا وَتَمْجِيدًا ، فَيَقُولُ : وَمَا يَسْأَلُونِي ؟ قَالَ : فَيَقُولُونَ : يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ ، فَيَقُولُ : فَهَلْ رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ : لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ : فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ : لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا عَلَيْهَا أَشَدَّ حِرْصًا وَأَشَدَّ طَلَبًا ، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً ،فَيَقُولُ : وَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : مِنَ النَّارِ ، فَيَقُولُ : وَهَلْ رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ : لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ : فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ : لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا مِنْهَا أَشَدَّ فِرَارًا ، وَأَشَدَّ هَرَبًا ، وَأَشَدَّ خَوْفًا ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ : أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ." (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَلاَئِكَةً سَيَّارَةً فُضُلاً ، يَبْتَغُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ ، وَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ ، قَعَدُوا مَعَهُمْ ، فَحَضَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ ، حَتَّى يَمْلؤُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا ، أَوْ صَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ ، قَالَ : فَيَسْأَلُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَمُ ، مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الأَرْضِ يُسَبِّحُونَكَ ، وَيُكَبِّرُونَكَ ، وَيَحْمَدُونَكَ ، وَيُهَلِّلُونَكَ ، وَيَسْأَلُونَكَ ، قَالَ : وَمَاذَا يَسْأَلُونِي ؟ قَالُوا : يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ ، قَالَ : وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي ؟
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (3 / 137) (856و857) صحيح(1/80)
قَالُوا : لاَ ، أَيْ رَبِّ ، قَالَ : فَكَيْفَ لَوْ قَدْ رَأَوْا جَنَّتِي ؟ قَالُوا : وَيَسْتَجِيرُونَكَ ، قَالَ : مِمَّ يَسْتَجِيرُونِي ؟ قَالُوا : مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ ، قَالَ : وَهَلْ رَأَوْا نَارِي ؟ قَالُوا : لاَ ، قَالُوا : وَيَسْتَغْفِرُونَكَ ، قَالَ : فَيَقُولُ : قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ، وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا ، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا ، قَالَ : فَيَقُولُونَ : رَبِّ ، فِيهِمْ فُلاَنٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ ، إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ ، قَالَ : فَيَقُولُ : قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ، هُمُ الْقَوْمُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ." (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَلاَئِكَةً فُضُلاً ، يَتَّبِعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ ، يَجْتَمِعُونَ عِنْدَ الذِّكْرِ ، فَإِذَا مَرُّوا بِمَجْلِسٍ عَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى يَبْلُغُوا الْعَرْشَ ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ ، وَهُوَ أَعْلَمُ : مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : مِنْ عِنْدِ عَبِيدٍ لَكَ ، يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ ، وَيَتَعَوَّذُونَ بِكَ مِنَ النَّارِ ، وَيَسْتَغْفِرُونَكَ ، فَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ : يَسْأَلُونِي جَنَّتِي ، هَلْ رَأَوْهَا ؟ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا ؟ وَيَتَعَوَّذُونَ مِنْ نَارِي ، فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا ؟ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ، فَيَقُولُونَ : رَبَّنَا إِنَّ فِيهِمْ عَبْدَكَ الْخَطَّاءَ فُلاَنًا ، مَرَّ بِهِمْ لِحَاجَةٍ لَهُ فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أُولَئِكَ الْجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ." (2)
هلموا : هلم: تعال ، وهلموا : تعالوا ، ومنهم من يقولها للواحد والاثنين والجمع : هلم ، فلا يُثنِّى ولا يجمع.
فيحفونهم : أي: يطوفون بهم ، ويدورون حولهم من جوانبهم.
يمجدونك : التمجيد: التعظيم ، والمجيد :الشريف العظيم.
فُضُلا : أي: زيادة فاضلا عن الملائكة المرتبين مع الخلائق.
عرجوا : عرج يعرج : إذا صعد إلى فوق.
قال أبو بكر : فمما حوى حديث الأعمش من المعاني ودل عليها الندب إلى الاجتماع على الذكر وفضل الذكر والاجتماع عليه لقوله - صلى الله عليه وسلم - : » حفتهم الملائكة بأجنحتها « ودل على أن الله عز وجل في السماء وعلمه في الأرض وفي كل موضع لقوله : من أين جئتم ؟ ودل على أن الله عز وجل يرى وأنه سوف يراه أولياؤه لقوله عز وجل : » هل
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 405)(8972) 8960- صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 344) (8704) 8689- صحيح(1/81)
رأوني ؟ « وقولهم : » لا « ولو كان جل ثناؤه لم ير لما كان لقوله : » هل رأوني « وفي قوله : » كيف لو رأوني ؟ « ولو كان لا يراه أولياؤه في حال لما كان في قوله : » كيف لو رأوني ؟ « معنى وفي قوله : » لو رأوك كانوا أشد لك تحميدا وتسبيحا وتمجيدا « مؤكد للرؤية ودل على أن المعاينة أكثر من الخبر وفي قوله في سؤالهم الجنة : » كيف لو رأوها ؟ « دليل على أن الجنة موجودة مخلوقة لقوله جل ثناؤه : » كيف لو رأوها ؟ « وكذلك النار وأن الخبر عن الشيء وصفته ليس كمعاينته ، ودليل على أن أهل الخير والفقه والعلم يسعد بمجالستهم وفي قوله : » اشهدوا أني قد غفرت لهم « تأكيد لما تفضل عليهم به من مغفرته " (1)
يستجيرونك : الاستجارة : طلب الجوار ، والإجارة: الحماية والدفاع والمنعة عن الإنسان. (2)
والمراد بالذكر هنا الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها مثل الباقيات الصالحات وهي "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" وما يلتحق بها من الحوقلة والبسملة والحسبلة والاستغفار ونحو ذلك والدعاء بخيري الدنيا والآخرة، ويطلق ذكر الله أيضا ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه أو ندب إليه كتلاوة القرآن وقراءة الحديث ومدارسة العلم والتنفل بالصلاة، ثم الذكر يقع تارة باللسان ويؤجر عليه الناطق، ولا يشترط استحضاره لمعناه ولكن يشترط أن لا يقصد به غير معناه، وإن انضاف إلى النطق الذكر بالقلب فهو أكمل، فإن انضاف إلى ذلك استحضار معنى الذكر وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى ونفي النقائص عنه ازداد كمالا، فإن وقع ذلك في عمل صالح مهما فرض من صلاة أو جهاد أو غيرهما ازداد كمالا، فإن صحيح التوجه وأخلص لله تعالى في ذلك فهو أبلغ الكمال. وقال الفخر الرازي: المراد بذكر اللسان الألفاظ الدالة على التسبيح والتحميد والتمجيد، والذكر بالقلب التفكر في أدلة الذات والصفات وفي أدلة التكاليف من الأمر والنهي حتى يطلع على أحكامها، وفي أسرار مخلوقات الله.
__________
(1) - المذكر والتذكير لابن أبي عاصم - (1 / 3)
(2) - جامع الأصول في أحاديث الرسول - (4 / 471)(1/82)
والذكر بالجوارح هو أن تصير مستغرقة في الطاعات، ومن ثم سمى الله الصلاة ذكرا فقال: "فاسعوا إلى ذكر الله" ونقل عن بعض العارفين قال: الذكر على سبعة أنحاء: فذكر العينين بالبكاء، وذكر الأذنين بالإصغاء، وذكر اللسان بالثناء، وذكر اليدين بالعطاء، وذكر البدن بالوفاء، وذكر القلب بالخوف والرجاء، وذكر الروح بالتسليم والرضاء. وورد في فضل الذكر أحاديث أخرى منها ما أخرجه المصنف في أواخر كتاب التوحيد عن أبي هريرة "قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" الحديث. ومنها ما أخرجه في صلاة الليل من حديث أبي هريرة أيضا رفعه: "يعقد الشيطان" الحديث وفيه: "فإن قام فذكر الله انحلت عقدة" ومنها ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد مرفوعا: "لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة" الحديث. ومن حديث أبي ذر رفعه: "أحب الكلام إلى الله ما اصطفى لملائكته: سبحان ربي وبحمده" الحديث. ومن حديث معاوية رفعه أنه قال لجماعة جلسوا يذكرون الله تعالى "أتاني جبريل فأخبرنيأن الله يباهي بكم الملائكة". ومن حديث سمرة رفعه: "أحب الكلام إلى الله أربع: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله لا يضرك بأيهن بدأت" ومن حديث أبي هريرة رفعه: "لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" وأخرج الترمذي والنسائي وصححه الحاكم عن الحارث بن الحارث الأشعري حديث طويل وفيه: "فآمركم أن تذكروا الله، وإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين أحرز نفسه منهم، فكذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى" . وعن عبد الله بن بسر "أن رجلا قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي. فأخبرني بشيء أتشبث به. قال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله" أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم. وأخرج ابن حبان نحوه أيضا من حديث معاذ بن جبل وفيه أنه السائل عن ذلك. وأخرج الترمذي من حديث أنس رفعه: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر" وأخرج الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء مرفوعا: "ألا(1/83)
أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى. قال: ذكر الله عز وجل" وقد أشرت إليه مستشكلا في أوائل الجهاد مع ما ورد في فضل المجاهد أنه كالصائم لا يفطر وكالقائم لا يفتر وغير ذلك مما يدل على أفضليته على غيره من الأعمال الصالحة، وطريق الجمع - والله أعلم - أن المراد بذكر الله في حديث أبي الدرداء الذكر الكامل وهو ما يجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالتفكر في المعنى واستحضار عظمة الله تعالى، وأن الذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممن يقاتل الكفار مثلا من غير استحضار لذلك. وأن أفضلية الجهاد إنما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد، فمن اتفق له أنه جمع ذلك كمن يذكر الله بلسانه وقلبه واستحضاره، وكل ذلك حال صلاته أو في صيامه أو تصدقه. أو قتاله الكفار مثلا فهو الذي بلغ الغاية القصوى، والعلم عند الله تعالى. وأجاب القاضي أبو بكر بن العربي بأنه ما من عمل صالح إلا والذكر مشترط في تصحيحه، فمن لم يذكر الله بقلبه عند صدقته أو صيامه مثلا فليس عمله كاملا، فصار الذكر أفضل الأعمال من هذه الحيثية. ويشير إلى ذلك حديث: "نية المؤمن أبلغ من عمله". قوله: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت" سقط لفظ: "ربه" الثانية من رواية غير أبي ذر، هكذا وقع في جميع نسخ البخاري، وقد أخرجه مسلم عن أبي كريب وهو محمد بن العلاء شيخ البخاري فيه بسنده المذكور بلفظ: "مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت "وكذا أخرجه الإسماعيلي وابن حبان صحيحه جميعا عن أبي يعلى عن أبي كريب، وكذا أخرجه أبو عوانة عن أحمد بن عبد الحميد والإسماعيلي أيضا عن الحسن بن سفيان عن عبد الله بن براد، وعن القاسم ابن زكريا عن يوسف بن موسى وإبراهيم بن سعيد الجوهري وموسى بن عبد الرحمن المسروقي والقاسم بن دينار كلهم عن أبي أسامة، فتوارد هؤلاء على هذا اللفظ يدل على أنه هو الذي حدث به بريد بن عبد الله شيخ أبي أسامة، وانفراد البخاري باللفظ المذكور دون بقية أصحاب أبي كريب وأصحاب أبي أسامة يشعر بأنه رواه من حفظه أو تجوز في روايته بالمعنى الذي وقع له وهو أن الذي يوصف بالحياة(1/84)
والموت حقيقة هو الساكن لا السكن وإن إطلاق الحي والميت في وصف البيت إنما يراد به ساكن البيت فشبه الذاكر بالحي الذي ظاهره متزين بنور الحياة وباطنه بنور المعرفة وغير الذاكر بالبيت الذي ظاهره عاطل وباطنه باطل؛ وقيل موقع التشبيه بالحي والميت لما في الحي من النفع لمن يواليه والضر لمن يعاديه وليس ذلك في الميت. قوله: "حدثنا قتيبة" هو ابن سعيد، وصرح بذلك في غير رواية أبي ذر. قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد. قوله: "عن أبي صالح" لم أره من حديث الأعمش إلا بالعنعنة لكن اعتمد البخاري على وصله لكون شعبة رواه عن الأعمش كما سأذكره. فإن شعبة كان لا يحدث عن شيوخه المنسوبين للتدليس إلا بما تحقق أنهم سمعوه. قوله: "عن أبي هريرة" كذا قال جرير، وتابعه الفضيل بن عياض عند ابن حبان وأبو بكر بن عياش عند الإسماعيلي كلاهما عن الأعمش، وأخرجه الترمذي عن أبي كريب عن أبي معاوية عن الأعمش فقال: "عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد" هكذا بالشك للأكثر، وفي نسخة "وعن أبي سعيد" بواو العطف، والأول هو المعتمد، فقد أخرجه أحمد عن أبي معاوية بالشك وقال: شك الأعمش، وكذا قال ابن أبي الدنيا عن إسحاق، بن إسماعيل عن أبي معاوية، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد وقال شك سليمان يعني الأعمش، قال الترمذي: حسن صحيح، وقد روى عن أبي هريرة من غير هذا الوجه يعني كما تقدم بغير تردد.قوله بعد سياق المتن "رواه شعبة عن الأعمش" يعني بسنده المذكور. قوله: "ولم يرفعه" هكذا وصله أحمد قال حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال بنحوه ولم يرفعه، وهكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية بشر بن خالد عن محمد بن جعفر موقوفا. قوله: "ورواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " وصله مسلم وأحمد من طريقه، وسأذكر ما في روايته من فائدة. قوله: "إن لله ملائكة" زاد الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة وابن حبان من طريق إسحاق بن راهويه كلاهما عن جرير "فضلا" وكذا لابن حبان من طريق فضيل بن عياض، وكذا لمسلم من رواية سهيل، قال عياض في "المشارق" ما نصه: في روايتنا عن أكثرهم بسكون الضاد المعجمة وهو الصواب، ورواه العذري والهوزني "فضل" بالضم وبعضهم بضم(1/85)
الضاد، ومعناه زيادة على كتاب الناس هكذا جاء مفسرا في البخاري، قال: وكان هذا الحرف في كتاب ابن عيسى "فضلاء" بضم أوله وفتح الضاد والمد وهو وهم هنا وإن كانت هذه صفتهم عليهم السلام. وقال في "الإكمال" الرواية فيه عند جمهور شيوخنا في مسلم والبخاري بفتح الفاء وسكون الضاد فذكر نحو ما تقدم وزاد: هكذا جاء مفسرا في البخاري في رواية أبي معاوية الضرير. وقال ابن الأثير في "النهاية" فضلا أي زيادة عن الملائكة المرتبين مع الخلائق، ويروي بسكون الضاد وبضمها قال بعضهم والسكون أكثر وأصوب. وقال النووي: ضبطوا فضلا على أوجه أرجحها بضم الفاء والضاد والثاني بضم الفاء وسكون الضاد ورجحه بعضهم وادعى أنها أكثر وأصوب، والثالث بفتح الفاء وسكون الضاد، قال القاضي عياض: هكذا الرواية عند جمهور شيوخنا في البخاري ومسلم، والرابع بضم الفاء والضاد كالأول لكن برفع اللام يعني على أنه خبر إن، والخامس فضلاء بالمد جمع فاضل قال العلماء ومعناه على جميع الروايات أنهم زائدون على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق لا وظيفة لهم إلا حلق الذكر. وقال الطيبي فضلا بضم الفاء وسكون الضاد جمع فاضل كنزل ونازل انتهى، ونسبة عياض هذه اللفظة للبخاري وهم فإنها ليست في صحيح البخاري هنا في جميع الروايات إلا أن تكون خارج الصحيح، ولم يخرج البخاري الحديث المذكور عن أبي معاوية أصلا وإنما أخرجه من طريقه الترمذي، وزاد ابن أبي الدنيا والطبراني رواية جرير فضلا عن كتاب الناس، ومثله لابن حبان من رواية فضيل ابن عياض وزاد: "سياحين في الأرض" وكذا هو في رواية أبي معاوية عند الترمذي والإسماعيلي عن كتاب الأيدي، ولمسلم من رواية سهيل عن أبيه "سيارة فضلا". قوله: "يطوفون في الطريق يلتمسون أهل الذكر" في رواية سهيل "يتبعون مجالس الذكر". وفي حديث جابر بن أبي يعلى "إن لله سرايا من الملائكة تقف وتحل بمجالس الذكر في الأرض". قوله: "فإذا وجدوا قوما" في رواية فضيل بن عياض "فإذا رأوا قوما" وفي رواية سهيل "فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر". قوله: "تنادوا" في رواية الإسماعيلي: "يتنادون". قوله: "هلموا إلى حاجتكم" في رواية أبي معاوية "بغيتكم" وقوله: "هلموا" على لغة أهل نجد، وأما أهل الحجاز فيقولون للواحد والاثنين والجمع هلم بلفظ الإفراد، وقد(1/86)
تقدم تقرير ذلك في التفسير.واختلف في أصل هذه الكلمة فقيل هل لك في الأكل أم، أي اقصد، وقيل أصله لم بضم اللام وتشديد الميم وها للتنبيه حذفت ألفها تخفيفا. قوله: "فيحفونهم بأجنحتهم" أي يدنون بأجنحتهم حول الذاكرين، والباء للتعدية وقيل للاستعانة. قوله: "إلى السماء الدنيا" في رواية الكشميهني: "إلى سماء الدنيا" وفي رواية سهيل "قعدوا معهم وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم حتى يملؤوا ما بينهم وبين سماء الدنيا". قوله: "قال فيسألهم ربهم عز وجل وهو أعلم منهم" في رواية الكشميهني: "بهم" كذا للإسماعيلي، وهي جملة معترضة وردت لرفع التوهم، زاد في رواية سهيل "من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض" وفي رواية الترمذي "فيقول الله: أي شيء تركتم عبادي يصنعون". قوله: "ما يقول عبادي؟ قال: تقول يسبحونك" كذا لأبي ذر بالإفراد فيهما، ولغيره: "قالوا يقولون" ولابن أبي الدنيا "قال يقولون" وزاد سهيل في روايته: "فإذا تفرقوا" أي أهل المجلس "عرجوا" أي الملائكة "وصعدوا إلى السماء". قوله: "يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك" زاد إسحاق وعثمان عن جرير "ويمجدونك" وكذا لابن أبي الدنيا. وفي رواية أبي معاوية "فيقولون تركناهم يحمدونك ويمجدونك ويذكرونك" وفي رواية الإسماعيلي: "قالوا ربنا مررنا بهم وهم يذكرونك إلخ" وفي رواية سهيل "جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك" وفي حديث أنس عند البزار "ويعظمون آلاءك ويتلون كتابك ويصلون على نبيك ويسألونك لآخرتهم ودنياهم" ويؤخذ من مجموع هذه الطرق المراد بمجالس الذكر وأنها التي تشتمل على ذكر الله بأنواع الذكر الواردة من تسبيح وتكبير وغيرهما وعلى تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى وعلى الدعاء بخيري الدنيا والآخرة، وفي دخول قراءة الحديث النبوي ومدارسة العلم الشرعي ومذاكرته والاجتماع على صلاة النافلة في هذه المجالس نظر، والأشبه اختصاص ذلك بمجالس التسبيح والتكبير ونحوهما والتلاوة حسب، وإن كانت قراءة الحديث ومدارسة العلم والمناظرة فيه من جملة ما يدخل تحت مسمى ذكر الله تعالى. قوله: "قال فيقول هل رأوني؟ قال فيقولون لا والله ما رأوك" كذا ثبت لفظ الجلالة في جميع نسخ البخاري وكذا في بقية المواضع، وسقط لغيره. قوله: "كانوا(1/87)
أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدا" زاد أبو ذر في روايته: "وتحميدا" وكذا لابن أبي الدنيا، وزاد في رواية الإسماعيلي: "وأشد لك ذكرا" وفي رواية ابن أبي الدنيا "وأكثر لك تسبيحا".قوله: "قال يقول" في رواية أبي ذر "فيقول". قوله: "فما يسألوني" في رواية أبي معاوية "فأي شيء يطلبون". قوله: "يسألونك الجنة" في رواية سهيل "يسألونك جنتك". قوله: "كانوا أشد عليها حرصا" زاد أبو معاوية في روايته: "عليها" وفي رواية ابن أبي الدنيا "كانوا أشد حرصا وأشد طلبة وأعظم لها رغبة". قوله: "قال فمم يتعوذون؟ قال يقولون من النار" في رواية أبي معاوية "فمن أي شيء يتعوذون؟ فيقولون من النار" وفي رواية سهيل "قالوا ويستجيرونك. وقال ومم يستجيرونني؟ قالوا من نارك". قوله: "كانوا أشد منها فرارا وأشد لها مخافة" في رواية أبي معاوية "كانوا أشد منها هربا وأشد منها تعوذا وخوفا" وزاد سهيل في روايته: "قالوا ويستغفرونك" قال فيقول: قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا" وفي حديث أنس "فيقول غشوهم رحمتي".قوله: "يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة" في رواية أبي معاوية "فيقولون إن فيهم فلانا الخطاء لم يردهم إنما جاء لحاجة" وفي رواية سهيل "قال يقولون: رب فيهم فلان عبد خطاء إنما مر فجلس معهم" وزاد في روايته: "قال وله قد غفرت". قوله: "هم الجلساء" في رواية أبي معاوية وكذا في رواية سهيل "هم القوم" وفي اللام إشعار بالكمال أي هم القوم كل القوم. قوله: "لا يشقى جليسهم" كذا لأبي ذر، ولغيره: "لا يشقى بهم جليسهم" وللترمذي "لا يشقى لهم جليس" وهذه الجملة مستأنفة لبيان المقتضى لكونهم أهل الكمال، وقد أخرج جعفر في الذكر من طريق أبي الأشهب عن الحسن البصري قال: "بينما قوم يذكرون الله إذ أتاهم رجل فقعد إليهم، قال فنزلت الرحمة ثم ارتفعت، فقالوا ربنا فيهم عبدك فلان، قال غشوهم رحمتي، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم" وفي هذه العبارة مبالغة في نفي الشقاء عن جليس الذاكرين، فلو قيل لسعد بهم جليسهم لكان ذلك في غاية الفضل، لكن التصريح بنفي الشقاء أبلغ في حصول المقصود. "تنبيه": اختصر أبو زيد المروزي في روايته عن الفربري متن هذا الحديث فساق منه إلى قوله: "هلموا إلى حاجتكم" ثم قال: فذكر الحديث. وفي الحديث فضل مجالس الذكر والذاكرين؛ وفضل(1/88)
الاجتماع على ذلك، وأن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل الله تعالى به عليهم إكراما لهم ولو لم يشاركهم في أصل الذكر. وفيه محبة الملائكة بني آدم واعتناؤهم بهم، وفيه أن السؤال قد يصدر من السائل وهو أعلم بالمسئول عنه من المسئول لإظهار العناية بالمسئول عنه والتنوية بقدره والإعلان بشرف منزلته. وقيل إن في خصوص سؤال الله الملائكة عن أهل الذكر الإشارة إلى قولهم {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فكأنه قيل لهم: انظروا إلى ما حصل منهم من التسبيح والتقديس مع ما سلط عليهم من الشهوات ووساوس الشيطان، وكيف عالجوا ذلك وضاهوكم في التسبيح والتقديس، وقيل إنه يؤخذ من هذا الحديث أن الذكر الحاصل من بني آدم أعلى وأشرف من الذكر الحاصل من الملائكة لحصول ذكر الآدميين مع كثرة الشواغل ووجود الصوارف وصدوره في عالم الغيب، بخلاف الملائكة في ذلك كله. وفيه بيان كذب من ادعى من الزنادقة أنه يرى الله تعالى جهرا في دار الدنيا، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة رفعه: "واعلموا أنكم لم تروا ربكم حتى تموتوا" . وفيه جواز القسم في الأمر المحقق تأكيدا له وتنويها به. وفيه أن الذي اشتملت عليه الجنة من أنواع الخيرات والنار من أنواع المكروهات فوق ما وصفتا به، وإن الرغبة والطلب من الله والمبالغة في ذلك من أسباب الحصول. (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (11 / 209)(1/89)
كلمة التوحيد آخر الزمان
14- عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَدْرُسُ الإِسْلامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ ، حَتَّى لاَ يُدْرَى مَا صِيَامٌ ، وَلا صَدَقَةٌ ، وَلا نُسُكٌ ، وَيُسَرَّى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فِي لَيْلَةٍ ، فَلا يَبْقَى فِي الأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ ، وَيَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ ، وَالْعَجُوزُ الْكَبِيرَةُ ، يَقُولُونَ : أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَنَحْنُ نَقُولُهَا قَالَ صِلَةُ بْنُ زُفَرَ لِحُذَيْفَةَ : فَمَا تُغْنِي عَنْهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَهُمْ لاَ يَدْرُونَ مَا صِيَامٌ ، وَلا صَدَقَةٌ ، وَلا نُسُكٌ ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حُذَيْفَةُ ، فَرَدَّدَهَا عَلَيْهِ ثَلاثًا ، كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ حُذَيْفَةُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ ، فَقَالَ : يَا صِلَةُ ، تُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ" (1)
عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ حَتَّى لَا يُدْرَى صِيَامٌ، وَلَا صَدَقَةٌ، وَلَا نُسُكٌ وَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللهِ فِي لَيْلَةٍ، فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ، وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ يَقُولُ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَنَحْنُ نَقُولُهَا " قَالَ لَهُ صِلَةُ: فَمَا تُغْنِي عَنْهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ صياماً، وَلَا صَدَقَةٌ، وَلَا نُسُكًا، فأَعْرَضَ عَنْهُ حُذَيْفَةُ فَرَدُّوهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ حُذَيْفَةُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ، ثُمَّ قَالَ: " يَا صِلَةُ تُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ، تُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ " " (2)
وعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَدْرُسُ الإِسْلاَمُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْىُ الثَّوْبِ حَتَّى لاَ يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلاَ صَلاَةٌ وَلاَ نُسُكٌ وَلاَ صَدَقَةٌ وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى لَيْلَةٍ فَلاَ يَبْقَى فِى الأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ يَقُولُونَ أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَنَحْنُ نَقُولُهَا ». فَقَالَ لَهُ صِلَةُ مَا تُغْنِى عَنْهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَهُمْ لاَ يَدْرُونَ مَا صَلاَةٌ وَلاَ صِيَامٌ وَلاَ نُسُكٌ وَلاَ صَدَقَةٌ
__________
(1) - المستدرك للحاكم (8460) صحيح
(2) - شعب الإيمان - (3 / 399) (1870 ) والمستدرك للحاكم (8636) صحيح(1/90)
فَأَعْرَضَ عَنْهُ حُذَيْفَةُ ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ ثَلاَثًا كُلَّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ حُذَيْفَةُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فِى الثَّالِثَةِ فَقَالَ يَا صِلَةُ تُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ. ثَلاَثًا (1) .
يدرس : لا يبقى منه شىء -يسرى : يذهب بالليل -الوشى : النقش
فالموصوفون بشرار الناس الذين يبقون بعد أن تقبض الريح من تقبضه، يكونون مثلا ببعض البلاد كالمشرق الذي هو أصل الفتن، والموصوفون بأنهم على الحق يكونون مثلا ببعض البلاد كبيت المقدس لقوله في حديث معاذ " إنهم بالشام " وفي لفظ: "ببيت المقدس " وما قاله وإن كان محتملا يرده قوله في حديث أنس في صحيح مسلم: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله " إلى غير ذلك من الأحاديث التي تقدم ذكرها في معنى ذلك والله أعلم. ويمكن أن تنزل هذه الأحاديث على الترتيب في الواقع فيكون أولا: رفع العلم بقبض العلماء المجتهدين الاجتهاد المطلق ثم المقيد، ثانيا: فإذا لم يبق مجتهد استووا في التقليد لكن ربما كان بعض المقلدين أقرب إلى بلوغ درجة الاجتهاد المقيد من بعض، ولا سيما إن فرعنا على جواز تجزئ الاجتهاد ولكن لغلبة الجهل يقدم أهل الجهل أمثالهم، وإليه الإشارة بقوله: "اتخذ الناس رءوسا جهالا " وهذا لا ينفي ترئيس بعض من لم يتصف بالجهل التام، كما لا يمتنع ترئيس من ينسب إلى الجهل في الجملة في زمن أهل الاجتهاد، وقد أخرج ابن عبد البر في " كتاب العلم " من طريق عبد الله بن وهب سمعت خلاد بن سلمان الحضرمي يقول حدثنا دراج أبو السمح يقول: "يأتي على الناس زمان يسمن الرجل راحلته حتى يسير عليها في الأمصار يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها، فلا يجد إلا من يفتيه بالظن " فيحمل على أن المراد الأغلب الأكثر في الحالين، وقد وجد هذا مشاهدا ثم يجوز أن يقبض أهل تلك الصفة ولا يبقى إلا المقلد الصرف، وحينئذ يتصور خلو الزمان عن مجتهد حتى في بعض الأبواب بل في بعض المسائل، ولكن يبقى من له نسبة إلى العلم في الجملة، ثم يزداد حينئذ غلبة الجهل وترئيس أهله، ثم يجوز أن يقبض أولئك حتى لا يبقى منهم أحد، وذلك جدير بأن يكون عند خروج الدجال أو بعد موت عيسى عليه السلام، وحينئذ يتصور خلو الزمان عمن ينسب إلى العلم أصلا، ثم تهب الريح فتقبض كل مؤمن،
__________
(1) - سنن ابن ماجه- المكنز - (4185 ) صحيح(1/91)
وهناك يتحقق خلو الأرض عن مسلم فضلا عن عالم فضلا عن مجتهد ويبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، والعلم عند الله تعالى. وقد تقدم في أوائل " كتاب الفتن " كثير من المباحث والنقول المتعلقة بقبض العلم والله المستعان.وفي الحديث الزجر عن ترئيس الجاهل لما يترتب عليه من المفسدة. وقد يتمسك به من لا يجيز تولية الجاهل بالحكم، ولو كان عاقلا عفيفا، لكن إذا دار الأمر بين العالم الفاسق والجاهل العفيف، فالجاهل العفيف أولى لأن ورعه يمنعه عن الحكم بغير علم فيحمله على البحث والسؤال. وفي الحديث أيضا حض أهل العلم وطلبته على أخذ بعضهم عن بعض، وفيه شهادة بعضهم لبعض بالحفظ والفضل، وفيه حض العالم طالبه على الأخذ عن غيره ليستفيد ما ليس عنده، وفيه التثبت فيما يحدث به المحدث إذا قامت قرينة الذهول ومراعاة الفاضل من جهة قول عائشة " اذهب إليه ففاتحه " حتى تسأله عن الحديث ولم تقل له سله عنه ابتداء خشية من استيحاشه.
وقال ابن بطال التوفيق بين الآية والحديث في ذم العمل بالرأي وبين ما فعله السلف من استنباط الأحكام، أن نص الآية ذم القول بغير علم، فخص به من تكلم برأي محمود عن استناد إلى أصل، ومعنى الحديث ذم من أفتى مع الجهل، ولذلك وصفهم بالضلال والإضلال، وإلا فقد مدح من استنبط من الأصل لقوله لعلمه الذين يستنبطونه منهم،فالرأي إذا كان مستندا إلى أصل من الكتاب أو السنة أو الإجماع فهو المحمود، وإذا كان لا يستند إلى شيء منها فهو المذموم، قال وحديث سهل بن حنيف وعمر بن الخطاب وإن كان يدل على ذم الرأي لكنه مخصوص بما إذا كان معارضا للنص، فكأنه قال اتهموا الرأي إذا خالف السنة، كما وقع لنا حيث أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتحلل فأحببنا الاستمرار على الإجرام، وأردنا القتال لنكمل نسكنا ونقهر عدونا، وخفي عنا حينئذ ما ظهر للنبي - صلى الله عليه وسلم - مما حمدت عقباه، وعمر هو الذي كتب إلى شريح " انظر ما تبين لك من كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا، فإن لم يتبين لك من كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما لم يتبين لك من السنة فاجتهد فيه رأيك " هذه رواية سيار عن الشعبي وفي رواية الشيباني عن الشعبي عن شريح أن عمر كتب إليه نحوه. وقال في آخره:(1/92)
"اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله، فإن لم يكن فبما قضى به الصالحون، فإن لم يكن فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيرا لك " فهذا عمر أمر بالاجتهاد؛ فدل على أن الرأي الذي ذمه ما خالف الكتاب أو السنة. وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن مسعود نحو حديث عمر من رواية الشيباني. وقال في آخره: "فإن جاءه ما ليس في ذلك فليجتهد رأيه فإن الحلال بين والحرام بين، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك". (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (13 / 287)(1/93)
اسم الله الأعظم
15-عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، قَالَ : مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ , وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ , الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ذُو الْجَلاَلِ وَالْإِكْرَامِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ , وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى " (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسًا فِي الْحَلْقَةِ ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي ، فَلَمَّا رَكَعَ سَجَدَ وَتَشَهَّدَ ، دَعَا ، فَقَالَ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ، يَا حَيُّ يَا قَيَّامُ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ. ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَتَدْرُونَ بِمَا دَعَا ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، فَقَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَقَدْ دَعَا بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى." (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : سَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ : " " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ " " ، قَالَ : فَقَالَ : " " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى " (3)
وعَنِ ابْنِ سَابِطٍ ، أَنَّ دَاعِيًا دَعَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِاسْمِكَ الله الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الرَّحْمَن الرَّحِيمُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَإِذَا أَرَدْت أَمْرًا فَإِنَّمَا
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 39) (27) والمستدرك للحاكم (1856) والمسند الجامع - (1 / 590) (411) والمعجم الكبير للطبراني - (5 / 1) (4589) وسنن أبي داود - المكنز - (1497) وسنن ابن ماجه- المكنز - (3991) وسنن النسائي- المكنز - (1308) وصحيح ابن حبان - (3 / 175) (893) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (3 / 175) (893) صحيح
(3) - سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ ـ الْجَامِعُ الصَّحِيحُ (3551 ) صحيح(1/94)
تَقُولُ لَهُ : كُنْ ، فَيَكُونُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : لَقَدْ كِدْت ، أَوْ كَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الأَعْظَمِ. (1)
وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ : {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (163) سورة البقرة، وَفَاتِحَةِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ : {اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (2) سورة آل عمران . (2)
وعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ : قرَأَ رَجُلٌ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فَقَالَ كَعْبٌ : قَدْ قَرَأَ سُورَتَيْنِ إنَّ فِيهِمَا لِلاسْمِ الَّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ اسْتَجَابَ. (3)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولانِ : اسْمُ اللهِ الأَكْبَرُ رَبِّ رَبِّ." (4)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ اللَّهُ. (5)
وعَن مِسْعَرٍ عَمَّنْ سَمِعَ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ : اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ الله , ثُمَّ قَرَأَ ، أَوْ قَرَأْت عَلَيْهِ {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (24) سورة الحشر (6)
قَالَ الْحَلِيمِيُّ فِي مَعْنَى " الْبَدِيعِ " : إِنَّهُ الْمُبْدِعُ وَهُوَ مُحْدِثُ مَا لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ قَطُّ , قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ مُبْدِعُهُمَا وَالْمُبْدِعُ مَنْ لَهُ إِبْدَاعٌ فَلَمَّا ثَبَتَ وُجُودُ الْإِبْدَاعِ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ لِعَامَّةِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ , اسْتَحَقَّ أَنْ يُسَمَّى بَدِيعًا أَوْ مُبْدِعًا وَمِنْهَا " الْبَارِئُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ وَقَدْ رُوِّينَاهُ فِي خَبَرِ الْأَسَامِي قَالَ الْحَلِيمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا الِاسْمُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمُوجِدُ لِمَا كَانَ فِي مَعْلُومِهِ مِنْ أَصْنَافِ الْخَلَائِقِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ : مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ إِثْبَاتَ الْإِبْدَاعِ
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة - (10 / 272) (29975) صحيح مرسل
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (10 / 272) (29976) حسن
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (10 / 272) (29977) صحيح مقطوع
(4) - مصنف ابن أبي شيبة - (10 / 272) (29978) حسن
(5) - مصنف ابن أبي شيبة - (10 / 272) (29979) صحيح مقطوع
(6) - مصنف ابن أبي شيبة - (10 / 272) (29980) فيه انقطاع(1/95)
وَالِاعْتِرَافَ بِهِ لِلْبَارِي جَلَّ وَعَزَّ لَيْسَ يَكُونُ عَلَى أَنَّهُ أَبْدَعَ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ سَبَقَ لَهُ بِمَا هُوَ مُبْدِعُهُ , لَكِنْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِمَا أَبْدَعَ قَبْلَ أَنْ يُبْدَعَ , فَكَمَا وَجَبَ لَهُ عِنْدَ الْإِبْدَاعِ اسْمُ الْبَدِيعِ , وَجَبَ لَهُ اسْمُ الْبَارِئُ وَالْآخَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَارِئِ قَالِبُ الْأَعْيَانِ , أَيْ أَنَّهُ أَبْدَعَ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ وَالنَّارَ وَالْهَوَاءَ لَا مِنْ شَيْءٍ , ثُمَّ خَلَقَ مِنْهَا الْأَجْسَامَ الْمُخْتَلِفَةَ كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ وَقَالَ : إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ , وَقَالَ : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ , وَقَالَ : خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ , وَقَالَ : خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ , وَقَالَ : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ بَرَأَ الْقَوَّاسُ الْقَوْسَ إِذَا صَنَعَهَا مِنْ مَوَادِّهَا الَّتِي كَانَتْ لَهَا فَجَاءَتْ مِنْهَا لَا كَهَيْئَتِهَا , وَالِاعْتِرَافُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْإِبْدَاعِ يَقْتَضِي الِاعْتِرَافَ لَهُ بِالْبَرْءِ إِذْ كَانَ الْمُعْتَرِفُ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ , إِلَى أَنْ صَارَ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَالِاعْتِرَافِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَمِنْهَا " الذَّارِئُ " قَالَ الْحَلِيمِيُّ : وَمَعْنَاهُ الْمُنْشِئُ وَالْمُنَمِّي , قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ أَيْ جَعَلَ لَكُمْ أَزْوَاجًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا لِيُنْشِئَكُمْ وَيُكَثِّرَكُمْ وَيُنَمِّيكُمْ , فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الذَّرْءَ مَا قُلْنَا , وَصَارَ الِاعْتِرَافُ بِالْإِبْدَاعِ يُلْزِمُ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالذَّرْءِ مَا أَلْزَمَ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالْبَرْءِ " (1)
وقال الطحاوي : " بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي اسْمِ اللهِ الْأَعْظَمِ أَيُّ أَسْمَائِهِ هُوَ ؟ ...
عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجُلًا يَقُولُ: اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَقَالَ: " لَقَدْ سَأَلَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بِاسْمِهِ الَّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى "
__________
(1) - الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ لِلْبَيْهَقِيِّ (33 )(1/96)
وعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ يُصَلِّي , وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ يَا مَنَّانُ يَا بَدِيعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: " تَدْرُونَ مَا دَعَا الرَّجُلُ ؟ " قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: " دَعَا رَبَّهُ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى "
وعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَلْقَةٍ فَقَامَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَلَمَّا رَكَعَ وَسَجَدَ وَقَعَدَ فَتَشَهَّدَ دَعَا فَقَالَ: اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أَتَدْرُونَ مَا دَعَا ؟ " قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: " إنَّهُ دَعَا بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى "
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَهَذِهِ الْآثَارُ قَدْ رُوِيَتْ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَّفِقَةً فِي اسْمِ اللهِ الْأَعْظَمِ أَنَّهُ اللهُ جَلَّ وَعَزَّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا شَيْءٌ نَحْنُ ذَاكِرُوهُ فِي هَذَا الْبَابِ
فعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: " اسْمُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الْأَكْبَرُ هُوَ اللهُ " قَالَ مُحَمَّدٌ: أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّحْمَنَ اشْتُقَّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالرَّبَّ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ نَحْوَ هَذَا وَاللهُ غَيْرُ مُشْتَقٍّ مِنْ شَيْءٍ . قَالَ هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ الرَّازِيُّ: فَمَا أَدْرِي أَفَسَّرَ مُحَمَّدٌ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ أَمْ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ قَائِلٌ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآثَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا فِي هَذِهِ الْآثَارِ فَذَكَرَ
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ يَرْفَعُهُ قَالَ: " اسْمُ اللهِ الْأَعْظَمُ الَّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ فِي سُوَرٍ ثَلَاثٍ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَطه "
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " إنَّ اسْمَ اللهِ الْأَعْظَمَ لَفِي ثَلَاثِ سُوَرٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْبَقَرَةِ , وَآلِ عِمْرَانَ، وَطَهَ " قَالَ أَبُو حَفْصٍ: فَنَظَرْتُ فِي هَذِهِ السُّوَرِ الثَّلَاثِ فَرَأَيْتُ فِيهَا أَشْيَاءَ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ { اللهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [البقرة: 255] . وَفِي آلِ عِمْرَانَ { اللهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [البقرة: 255] . وَفِي طه { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } [طه: 111] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ أَنَّ مَا اسْتَخْرَجَهُ أَبُو حَفْصٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِيهِ اللهُ وَالَّذِي اسْتَخْرَجَهُ مِنْ آلِ(1/97)
عِمْرَانَ كَذَلِكَ أَيْضًا فِيهِ اللهُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خَارِجًا مِنَ الْآثَارِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَا مُخَالِفًا لِمَا فِيهَا وَكَانَ مَا اسْتَخْرَجَهُ مِمَّا فِي طه قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَمَا اسْتَخْرَجَهُ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اسْمَ اللهِ الْأَعْظَمَ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مَا فِي طه سِوَى ذَلِكَ , وَهُوَ قَوْلُ اللهِ فِيهَا: { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } [طه: 8] . الْآيَةَ فَيَرْجِعُ مَا فِي طه إلَى مِثْلِ مَا رَجَعَ إلَيْهِ مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَمَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ أَنَّهُ اللهُ تَعَالَى وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيَّةِ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ مَا يُخَالِفُ الْحَدِيثَ الَّذِي اسْتَخْرَجَ مِنْهُ أَبُو حَفْصٍ مَا اسْتَخْرَجَ
فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: " إنَّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اسْمَ اللهِ الْأَعْظَمَ { وَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } [البقرة: 163] , وَ { الم اللهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [آل عمران: 2] "
فَكَانَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مَوْضِعُ اسْمِ اللهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَمِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بِمَا لَيْسَ فِي إحْدَاهُمَا ذِكْرُ الْحَيِّ الْقَيُّومِ وَفِيهِمَا جَمِيعًا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَكَانَ فِي ذَلِكَ مَا يَجِبُ بِهِ أَنْ يُعْقَلَ أَنَّ الَّذِي فِي سُورَةِ طه هُوَ ذَلِكَ أَيْضًا لَا مَا ذَكَرَهُ أَبُو حَفْصٍ وَكَانَ فِيمَا ذَكَرْنَا مَا قَدْ وَافَقَهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ فَكَانَ قَوْلُهُمُ: اللهُمَّ , إنَّمَا كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ يَا اللهُ فَلَمَّا حَذَفُوا الْيَاءَ مِنْ أَوَّلِ الْحَرْفِ زَادُوا الْمِيمَ فِي آخِرِهِ لِيَرْجِعَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي يَا اللهُ وَفِيمَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَصْدِيقُ بَعْضِهِ بَعْضًا وَانْتَفَى الِاخْتِلَافُ مِنْهُ " (1)
قَالَ الطِّيبِيُّ : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى اِسْمًا أَعْظَمَ إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَأَنَّ ذَلِكَ مُذَكَّرٌ هَهُنَا ، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ كُلُّ اِسْمٍ ذُكِرَ بِإِخْلَاصٍ تَامٍّ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ هُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ إِذْ لَا شَرَفَ لِلْحُرُوفِ ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ مِثْلُ ذَلِكَ وَفِيهَا أَسْمَاءٌ لَيْسَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّ لَفْظَ اللَّهِ مَذْكُورٌ فِي الْكُلِّ فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ اِنْتَهَى
( الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ) السُّؤَالُ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ أَعْطِنِي الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ فَيُعْطِيَ ، وَالدُّعَاءُ أَنْ يُنَادِيَ وَيَقُولَ يَا رَبِّ فَيُجِيبُ الرَّبُّ تَعَالَى وَيَقُولُ لَبَّيْكَ يَا
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (1 / 160) (173-179)(1/98)
عَبْدِي ، فَفِي مُقَابَلَةِ السُّؤَالِ الْإِعْطَاءُ وَفِي مُقَابَلَةِ الدُّعَاءِ الْإِجَابَةُ وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ، وَيَذْكُرُ أَحَدَهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ أَيْضًا . وَقَالَ الطِّيبِيُّ : إِجَابَةُ الدُّعَاءِ وَتَدُلُّ عَلَى وَجَاهَةِ الدَّاعِي عِنْدَ الْمُجِيبِ فَيَتَضَمَّنُ قَضَاءَ الْحَاجَةِ بِخِلَافِ الْإِعْطَاءِ فَالْأَخِيرُ أَبْلَغُ" (1)
هل الذكر أفضل أم الدعاء ؟
روى الترمذي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الرب عز وجل: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه". قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وقال: المباركفوري في شرح الترمذي ( قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: رجاله ثقات، إلا عطية العوفي ففيه ضعف. انتهى. قلت: وفي سنده محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني وهو أيضاً ضعيف. قال الحافظ في التهذيب في ترجمته. قال الذهبي: حسن الترمذي حديثه فلم يحسن. انتهى. والحديث أخرجه أيضاً الدارمي والبيهقي في شعب الإيمان) انتهى من شرح الترمذي.
والحديث ورد أيضاً من حديث عمر رضي الله عنه رواه الطبراني قال الحافظ في الفتح ( رواه الطبراني بسند لين ).
لكن نقل ابن عراق في تنزيه الشريعة عن الحافظ ابن حجر قوله في أماليه: ( هذا حديث حسن أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد، ولم يصب ابن الجوزي في إيراده في الموضوعات، وإنما استند إلى ابن حبان في ذكره لصفوان في الضعفاء، ولم يستمر ابن حبان على ذلك بل رجع فذكره في الثقات، وكذا ذكره في الثقات ابن شاهين وابن خلفون وقال ابن خلفون: إن ابن معين وثقه، وذكره البخاري في التاريخ فلم يحك فيه جرحاً، وقد ورد الحديث أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الترمذي وحسنه، ومن حديث جابر أخرجه البيهقي في الشعب) انتهى.
والحاصل أن الحديث مختلف في تضعيفه وتحسينه.
__________
(1) - تحفة الأحوذي - (8 / 375)(1/99)
وقد ثبت في الكتاب والسنة الترغيب في الدعاء والأمر به، بل جاء عند أحمد بسند لا بأس به " من لم يدع الله غضب عليه" ولهذا استشكل بعض أهل العلم هذا الحديث القدسي ورأوا أن في ظاهره معارضة لذلك.
قال الزرقاني في شرح الموطأ: ( واستُشكل حديث " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" المقتضي لفضل ترك الدعاء حينئذ، مع الآية المقتضية للوعيد الشديد على تركه.
[يعني قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60] وأجيب بأن العقل إذا استغرق في الثناء كان أفضل من الدعاء، لأن الدعاء طلب الجنة، والاستغراق في معرفة جلال الله أفضل من الجنة، أما إذا لم يحصل الاستغراق فالدعاء أولى لاشتماله على معرفة الربوية وذل العبودية، والصحيح استحباب الدعاء) انتهى.
والتحقيق أنه لا تعارض، فإن الدعاء نوعان: دعاء الثناء ودعاء الطلب، فذكر الله تعالى والثناء عليه دعاء، والمشتغل به محقق لقول الله (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ولهذا جاء في الحديث أفضل الدعاء" لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" فسمي هذا الثناء والتوحيد دعاء، وكذلك دعاء الكرب، ودعاء أيوب عليه السلام. وهذا الثناء متضمن لدعاء الطلب.
والعبد بحاجة إلى هذين النوعين من الدعاء، والأفضل له أن يجمع بينهما، يبدأ بالثناء ثم يثني بالطلب والسؤال. ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام طويل نافع جداً في الكلام على دعاء الثناء والمسألة، ننقله هنا بلفظه، من دقائق التفسير له، قال رحمه الله :
(والمقصود هنا أن لفظ الدعوة والدعاء يتناول هذا وهذا قال الله تعالى (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) وفي الحديث "أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله " رواه ابن ماجة وابن أبي الدنيا ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره " دعوة أخي ذي النون لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته" سماها دعوة لأنها تتضمن نوعي الدعاء فقوله "لا إله إلا أنت " اعتراف(1/100)
بتوحيد الإلهية ، وتوحيد الإلهية يتضمن أحد نوعي الدعاء فإن الإله هو المستحق لأن يدعى دعاء عباده ودعاء مسألة وهو الله لا إله إلا هو، وقوله (إني كنت من الظالمين) اعتراف بالذنب، وهو يتضمن طلب المغفرة. فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة الطلب وتارة يسأل بصيغة الخبر. إما بوصف حاله وإما بوصف حال المسؤول وإما بوصف الحالين كقول نوح عليه السلام (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) فهذا ليس صيغة طلب وإنما هو إخبار عن الله أنه إن لم يغفر له ويرحمه خسر، ولكن هذا الخبر يتضمن سؤال المغفرة، وكذلك قول آدم عليه السلام (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) هو من هذا الباب ومن ذلك قول موسى عليه السلام (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) فإن هذا وصف لحاله بأنه فقير إلى ما أنزل الله إليه من الخير، وهو متضمن لسؤال الله إنزال الخير إليه ، وقد روى الترمذي وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" رواه الترمذي وقال حديث حسن ورواه مالك بن الحويرث وقال من "شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" وأظن البيهقي رواه مرفوعا بهذا اللفظ، ، وقد سئل سفيان بن عيينة عن قوله "أفضل الدعاء يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد
وهو على كل شيء قدير" فذكر هذا الحديث وأنشد قول أمية بن أبي الصلت يمدح ابن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني * حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما * كفاه من تعرضه الثناء
قال : فهذا مخلوق يخاطب مخلوقا فكيف بالخالق تعالى ، ومن هذا الباب الدعاء المأثور عن موسى عليه السلام اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان، فهذا خبر يتضمن السؤال. ومن هذا الباب قول أيوب عليه السلام (أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) فوصف نفسه ووصف ربه بوصف يتضمن سؤال رحمته بكشف ضره ، وهي صيغة خبر تضمنت السؤال ، وهذا من باب حسن الأدب في(1/101)
السؤال والدعاء ، فقول القائل لمن يعظمه ويرغب إليه : أنا جائع أنا مريض ، حسن أدب في السؤال ، وإن كان في قوله أطعمني وداوني ونحو ذلك مما هو بصيغة الطلب، طلب جازم من المسؤول فذاك فيه إظهار حاله وإخباره على وجه الذل والافتقار المتضمن لسؤال الحال ، وهذا فيه الرغبة التامة والسؤال المحض بصيغة الطلب ... ووصف الحاجة والافتقار هو سؤال بالحال وهو أبلغ من جهة العلم والبيان، وذلك أظهر من جهة القصد والإرادة ، فلهذا كان غالب الدعاء من القسم الثاني لأن الطالب السائل يتصور مقصوده ومراده فيطلبه ويسأله فهو سؤال بالمطابقة والقصد الأول وتصريح به باللفظ وإن لم يكن فيه وصف لحال السائل والمسؤول، فإن تضمن وصف حالهما كان أكمل من النوعين فإنه يتضمن الخبر والعلم المقتضي للسؤال والإجابة، ويتضمن القصد والطلب الذي هو نفس السؤال فيتضمن السؤال والمقتضي له والإجابة كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لما قال له علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم". أخرجاه في الصحيحين ، فهذا فيه وصف العبد لحال نفسه المقتضي حاجته إلى المغفرة، وفيه وصف
ربه الذي يوجب أنه لا يقدر على هذا المطلوب غيره وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه وفيه بيان المقتضي للإجابة وهو وصف الرب بالمغفرة والرحمة فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب، وكثير من الأدعية يتضمن بعض ذلك كقول موسى عليه السلام (أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين) فهذا طلب ووصف للمولى بما يقتضي الإجابة وقوله: (رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي) فيه وصف حال النفس والطلب، وقوله: (إني لما أنزلت إلي من خير فقير) فيه الوصف المتضمن للسؤال بالحال.
فهذه أنواع ، لكل نوع منها خاصة. بقي أن يقال: فصاحب الحوت ومن أشبهه لماذا ناسب حالهم صيغة الوصف والخبر دون صيغة الطلب؟
فيقال: لأن المقام مقام اعتراف بأن ما أصابني من الشر كان بذنبي فأصل الشر هو الذنب، والمقصود دفع الضر والاستغفار جاء بالقصد الثاني ، فلم يذكر صيغة طلب كشف الضر(1/102)
لاستشعاره أنه مسيء ظالم وهو الذي أدخل الضر على نفسه فناسب حاله أن يذكر ما يرفع سببه من الاعتراف بظلمه ، ولم يذكر صيغة طلب المغفرة لأنه مقصود للعبد المكروب بالقصد الثاني بخلاف كشف الكرب، فإنه مقصود له في حال وجوده بالقصدالأول؛ إذ النفس بطبعها تطلب ما هي محتاجة إليه من زوال الضرر الحاصل من الحال قبل طلبها زوال ما تخاف وجوده من الضرر في المستقبل بالقصد الثاني، والمقصود الأول في هذا المقام هو المغفرة وطلب كشف الضر، فهذا مقدم في قصده وإرادته، وأبلغ ما ينال به رفع سببه فجاء بما يحصل مقصوده ). انتهى كلامه رحمه الله.
فالجمع بين الثناء والدعاء أفضل وأكمل من الاقتصار على الدعاء وحده .
وقال ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب:
(الفصل الثاني: الذكر أفضل من الدعاء ، الذكر ثناء على الله عز وجل بجميل أوصافه وآلائه وأسمائه، والدعاء سؤال العبد حاجته فأين هذا من هذا ؟!
ولهذا جاء في الحديث "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين" ولهذا كان المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله تعالى والثناء عليه بين يدي حاجته ثم يسال حاجته كما في حديث فضالة بن عبيد أن رسول الله سمع رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله تعالى ولم يصل على النبي فقال رسول الله "عجل هذا، ثم دعاه فقال له أو لغيره : إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه عز وجل والثناء عليه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بعد بما شاء" رواه الامام احمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح ورواه الحاكم في صحيحه وهكذا دعاء ذي النون عليه السلام قال فيه النبي "دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" وفي الترمذي "دعوة أخي ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لا اله إلا أنت سبحانك أني كنت من الظالمين فانه لم يدع بها مسلم قط إلا استجاب له" وهكذا عامة الأدعية النبوية على قائلها أفضل الصلاة والسلام ، ومنه قوله في دعاء الكرب "لا اله إلا الله العظيم الحليم لا اله إلا الله رب العرش العظيم لا اله إلا رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم" ومنه حديث بريدة الأسلمي الذي رواه أهل السنن وابن(1/103)
حبان في صحيحه أن رسول الله سمع رجلا يدعو وهو يقول: "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا اله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال: "والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى" وروى أبو داود والنسائي من حديث أنس أنه كان مع النبي جالسا ورجل يصلي ثم دعا اللهم إنى أسالك بأن لك الحمد لا اله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام يا حي ياقيوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم"لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى" فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الدعاء يستجاب
إذا تقدمه هذا الثناء والذكر، وأنه اسم الله الأعظم ، فكان ذكر الله عز وجل والثناء عليه أنجح ما طلب به العبد حوائجه، وهذه فائدة أخرى من فوائد الذكر والثناء أنه يجعل الدعاء مستجابا فالدعاء الذي تقدمه الذكر والثناء أفضل وأقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرد فإن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته وافتقاره واعترافه كان أبلغ في الإجابة وأفضل، فإنه يكون قد توسل المدعو بصفات كماله وإحسانه وفضله، وعرض بل صرح بشدة حاجته وضرورته وفقره ومسكنته فهذا المقتضي منه، وأوصاف المسؤول مقتضي من الله فاجتمع المقتضي من السائل والمقتضي من المسؤول في الدعاء وكان أبلغ وألطف موقعا وأتم معرفة وعبودية ، وأنت ترى في المشاهد - ولله المثل الأعلى- أن الرجل إذا توسل إلى من يريد معروفه بكرمه وجوده وبره، وذكر حاجته هو وفقره ومسكنته كان أعطف لقلب المسؤول وأقرب لقضاء حاجته فإذا قال له: أنت جودك قد سارت به الركبان، وفضلك كالشمس لا تنكر، ونحو ذلك وقد بلغت بي الحاجة والضرورة مبلغا لا صبر معه ونحو ذلك، كان أبلغ في قضاء حاجته من أن يقول ابتداء: أعطني كذا وكذا،
فإذا عرفت هذا فتأمل قول موسى في دعائه (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) وقول ذي النون في دعائه (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) وقول أبينا آدم (ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكون من الخاسرين) وفي الصحيحين أن أبا بكر(1/104)
الصديق قال يارسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" فجمع في هذا الدعاء الشريف العظيم القدر بين الاعتراف بحاله والتوسل إلى ربه عز وجل بفضله وجوده وأنه المنفرد بغفران الذنوب ثم سأل حاجته بعد التوسل بالأمرين معا فهكذا أدب الدعاء وآداب العبودية) انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
وينبغي أن توازني بين محافظتك على الذكر ، وبين قيامك بمهام البيت ، والقصد القصد تبلغوا.والله أعلم. (1)
من الدعاء المستجاب
إن الدعاء هو لب العبادة وأساسها وإليه يلجأ المسلم في وقت الشدة ويذكره أيضاً في وقت الرخاء ومن الدعاء ما ثبت بالدليل الشرعي أنه مستجاب من ذلك:
1- دعوة ذي النون: فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وغيرهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له.
2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت جالساً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجل قائم يصلي فلما ركع وسجد تشهد ودعا فقال في دعائه: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم إني أسألك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه أتدرون بم دعا، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سُئل به أعطى. رواه النسائي والإمام أحمد.
وهناك مواطن يستجاب فيها الدعاء ومنها:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (2 / 4501) -رقم الفتوى 9202 هل الذكر أفضل أم الدعاء ؟ تاريخ الفتوى : 25 ربيع الثاني 1422(1/105)
1- أثناء السجود، فقد أخرج مسلم وأصحاب السنن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فَقَمِنُُ أن يستجاب لكم.
2- ساعة من يوم الجمعة، ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر يوم الجمعة فقال: فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها.
3- ثلث الليل الآخير، فقد أخرج مسلم وأصحاب السنن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل يُعطى، هل من داع يُستجاب له، هل من مستغفر يُغفر له، حتى ينفجر الصبح.
وعليك بالإلحاح في الدعاء دائماً فإن الله يستجيب لك ولا تترك الدعاء إذا لم تجد أمارة لاستجابة الدعاء فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يُستجب لي. متفق عليه.
ولكن للدعاء موانع تمنع استجابة الدعاء فعلى المسلم أن يحذر منها، من ذلك:
- تناول الحرام أكلاً وشربا ولبسا فقد ذكر الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء ويقول يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك.
- الدعاء بالإثم أو قطيعة الرحم أو الاستعجال وترك الدعاء فقد أخرج مسلم أيضاً في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يزال يستجاب للعبد ما لم يَدْعُ بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل يا رسول الله: ما الاستعجال، قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر ويدع الدعاء.والله أعلم. (1)
من خصائص لفظ الجلالة ((الله))
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (5 / 2905) -رقم الفتوى 32655 من الدعاء المستجاب تاريخ الفتوى : 26 ربيع الأول 1424(1/106)
إنَّ لفظ الجلالة علم الذات " الله " قد تميز عن غيره من أسماء الله سبحانه وتعالى بخصائص كثيرة ومنها كونه (علم على الذات العلية الواجبة الوجود المستحقة لجميع المحامد، أنزله على آدم في جملة الأسماء وهو أشهر أسمائه، ولهذا تأتي بعده أوصافا له، وقد قبض الله تعالى عنه الألسن فلم يسم به سواه عز وجل. قال تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا {مريم:65 } أي هل تعلم أحدا تسمى الله استفهاما بمعنى النفي، وقد ذكر في القرآن الكريم ألفين وثلاث مائة وستين مرة. وهو أعرف المعارف وأتمها. نقلا عن مقدمة الإتقان والأحكام بتصرف.
ومن خصائصه أيضا كونه اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى فالراجح من أقوال العلماء - والله أعلم- أن اسم الله الأعظم هو "الله" وذلك لثبوته في أغلب الأحاديث الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيان الاسم الأعظم، ، وممن صرح بأن اسم الله الأعظم هو "الله" الخطيب الشربيني -رحمه الله- حيث قال في شرحه لمتن الإقناع لأبي شجاع : وعند المحققين أنه اسم الله الأعظم، وقد ذكر في القرآن العزيز في ألفين وثلاثمائة وستين موضعاً. انتهى
وقال ابن عابدين في رد المحتار: وروى هشام عن محمد عن أبي حنيفة أنه اسم الله الأعظم، وبه قال الطحاوي وكثير من العلماء. انتهى
ومن خصائصه أنه أبر أسماء الله تعالى وأجمعها، قال القرطبي : الله: هذا الاسم أبر أسمائه سبحانه وأجمعها. وقال ابن كثير : الله: علم على الرب تبارك وتعالى، وقال في المقصد الأسنى 1/61: واسم الله أعظم أسماء الله التسعة والتسعين.
- لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها، بينما سائر الأسماء لا يدل آحادها إلا على آحاد المعاني من علم وقدرة أو فعل أو غيره.
- لأنه أخص الأسماء إذ لا يطلقه أحدُ على غيره لا حقيقة ولا مجازاً، وسائر الأسماء قد يسمى بها غيره كالقادر والعليم والرحيم وغيره.
- ولأن معاني سائر الأسماء يتصور أن يتصف العبد بشيء منها كالرحيم والعليم والحليم والصبور والشكور وغيره، وإن كان إطلاق الاسم عليه على وجه آخر يباين إطلاقه على(1/107)
الله عز وجل، وأما معنى هذا الأسم فخاص خصوصاً لا تتصور فيه مشاركة لا بالمجاز ولا بالحقيقة.
- ولأجل هذه الخصوصية توصف سائر الأسماء بأنها اسم الله عز وجل فيقال الصبور والشكور والملك والبار من أسماء الله، ولا يقال الله من أسماء الصبور والشكور لأن ذلك من حيث هو أدل على كنه المعاني الإلهية وأخص بها، فكان أشهر وأظهر فاستغني عن التعريف بغيره وعرف غيره بالإضافة إليه . انتهى
وهذه جملة من خصائص هذا الاسم . والله أعلم . (1)
مشروعية الدعاء بجميع أسماء الله الحسنى
إن الدعاء يشرع بجميع أسماء الله الحسنى، ويدل لذلك عموم قوله تعالى : وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا {الأعراف :180 } وروى الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان عن أنس رضي الله عنه: أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا ورجل يصلي ثم دعا: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لقد دعا الله باسمه الأعظم, الذي إذا دعي به أجاب, وإذا سئل به أعطى . ومن المعلوم أن المنان ليست من الأسماء الواردة في القرآن الكريم .والله أعلم . (2)
اسم الله الأعظم
اسم الله الأعظم ثبت في حديث بريدة قال: سَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. قَالَ: فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى". أخرجه أبو داود (1493) والترمذي (3475)، وابن ماجة (3857). فمن العلماء من حدّد، وقال: إنه كما ثبت في هذا
__________
(1) -فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (10 / 2273) -رقم الفتوى 72571 من خصائص لفظ الجلالة ((الله)) -تاريخ الفتوى : 15 صفر 1427
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (10 / 4059) -رقم الفتوى 74692 مشروعية الدعاء بجميع أسماء الله الحسنى -تاريخ الفتوى : 25 ربيع الثاني 1427(1/108)
الحديث. ومنهم من قال: اسم الله الأعظم "الحي القيوم". وقد جمع الله بينهما في ثلاث آيات من كتابه؛ آية الكرسي: (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ)[البقرة: 255]. وفي أول سورة آل عمران: ( آلم* اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ) [1، 2]. وفي سورة طه: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)[111]. وقالوا إن هذا فيه جمع بين اسمين عظيمين، اسم الحي، واسم القيوم، وإليهما ترجع جميع أسماء الله الحسنى، الحي المتصف بالحياة، والقيوم المتصف بالقيومية، فهو الحي، سبحانه وتعالى، الذي له الحياة الكاملة لا يعتريها نوم ولا سِنة، ولا ضعف ولا فساد، وهو القيوم القائم بنفسه المقيم لغيره. ومن العلماء من قال: كل أسماء الله عظيمة، والمراد باسم الله الأعظم المراد العظيم وكل أسماء الله عظيمة. والله أعلم. (1)
التفاضل في كلام الله تعالى
قال ابن تيمية : " وَالنُّصُوصُ وَالْآثَارُ فِي تَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ - بَلْ وَتَفْضِيلُ بَعْضِ صِفَاتِهِ - عَلَى بَعْضٍ مُتَعَدِّدَةٌ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ " صِفَاتُ اللَّهِ كُلُّهَا فَاضِلَةٌ فِي غَايَةِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ لَيْسَ فِيهَا نَقْصُ " كَلَامٍ صَحِيحٍ لَكِنَّ تَوَهُّمَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ كَانَ الْمَفْضُولُ مَعِيبًا مَنْقُوصًا خَطَأٌ مِنْهُ فَإِنَّ النُّصُوصَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَسْمَائِهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَلِهَذَا يُقَالُ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ . وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ صِفَاتِهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ وَبَعْضُ أَفْعَالِهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ فَفِي الْآثَارِ ذَكَرَ اسْمَهُ الْعَظِيمَ وَاسْمَهُ الْأَعْظَمَ وَاسْمَهُ الْكَبِيرَ وَالْأَكْبَرَ كَمَا فِي السُّنَنِ وَرَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ { عَنْ ابْنِ بريدة عَنْ أَبِيهِ قَالَ : دَخَلْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي يَدْعُو : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّك أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ . فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ } . { وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : كُنْت جَالِسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَلْقَةِ وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فَلَمَّا رَكَعَ وَسَجَدَ تَشَهَّدَ وَدَعَا فَقَالَ فِي فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنَّ لَك الْحَمْدُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ دَعَا بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ
__________
(1) - فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (2 / 221) -اسم الله الأعظم(1/109)
أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ : إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي } وَفِي رِوَايَةٍ { سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي } فَوَصَفَ رَحْمَتَهُ بِأَنَّهَا تَغْلِبُ وَتَسْبِقُ غَضَبَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ رَحْمَتِهِ عَلَى غَضَبِهِ مِنْ جِهَةِ سَبْقِهَا وَغَلَبَتِهَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَأَعُوذُ بِك مِنْك } . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِي وِتْرِهِ لَكِنَّ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِدِ مِنْ غَيْرِ وَجْهِ الِاسْتِعَاذَةِ بِكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ كَقَوْلِهِ { أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَمِنْ شَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ خَوْلَةَ أَنَّهُ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ } . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانِ بْنِ أَبِي العاص : { قُلْ : أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ فَقَدْ اسْتَعَاذَ بِرِضَاهُ مِنْ سَخَطِهِ وَبِمُعَافَاتِهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ . وَأَمَّا اسْتِعَاذَتُهُ بِهِ مِنْهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ جِهَتَيْنِ : يَسْتَعِيذُ بِهِ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْجِهَةِ وَمِنْهُ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْجِهَةِ لِيَتَغَايَرَ الْمُسْتَعَاذُ بِهِ وَالْمُسْتَعَاذُ مِنْهُ إذْ أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ مُخَوِّفٌ مَرْهُوبٌ مِنْهُ وَالْمُسْتَعَاذُ بِهِ مَدْعُوٌّ مُسْتَجَارٌ بِهِ مُلْتَجَأٌ إلَيْهِ وَالْجِهَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تَكُونُ مَطْلُوبَةً مَهْرُوبًا مِنْهَا لَكِنْ بِاعْتِبَارِ جِهَتَيْنِ تَصِحُّ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ { أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ عِنْدَ النَّوْمِ اللَّهُمَّ أَسْلَمْت نَفَسِي إلَيْك وَوَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك وَأَلْجَأْت ظَهْرِي إلَيْك وَفَوَّضْت أَمْرِي إلَيْك رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْك لَا مَنْجَا وَلَا مَلْجَأَ مِنْك إلَّا إلَيْك . آمَنْت بِكِتَابِك الَّذِي أَنْزَلْت وَبِنَبِيِّك الَّذِي أَرْسَلْت } فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُنْجِي مِنْهُ إلَّا هُوَ وَلَا يُلْتَجَأُ مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ . وَأَعْمَلَ الْفِعْلَ الثَّانِيَ لَمَّا تَنَازَعَ الْفِعْلَانِ فِي الْعَمَلِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ جِهَةَ كَوْنِهِ مُنْجِيًا غَيْرَ جِهَةِ كَوْنِهِ مُنْجِيًا مِنْهُ وَكَذَلِكَ جِهَةُ كَوْنِهِ مُلْتَجَأً إلَيْهِ غَيْرَ كَوْنِهِ مُلْتَجَأً مِنْهُ سَوَاءٌ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِمَفْعُولَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ بِذَاتِهِ بِاعْتِبَارَيْنِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ { الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا(1/110)
يَدَيْهِ يَمِينٌ : الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَمَا وَلُوا } . وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الْيَدَيْنِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ وَيَذْكُرُ فِيهَا أَنَّ كِلْتَاهُمَا يَمِينٌ مَعَ تَفْضِيلِ الْيَمِينِ . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمَّا كَانَتْ صِفَاتُ الْمَخْلُوقِينَ مُتَضَمِّنَةً لِلنَّقْصِ فَكَانَتْ يَسَارُ أَحَدِهِمْ نَاقِصَةً فِي الْقُوَّةِ نَاقِصَةً فِي الْفِعْلِ بِحَيْثُ تَفْعَلُ بِمَيَاسِرِهَا كُلَّ مَا يُذَمُّ - كَمَا يُبَاشِرُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى النَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارَ - بَيَّنَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ كِلْتَا يَمِينِ الرَّبِّ مُبَارَكَةٌ لَيْسَ فِيهَا نَقْصٌ وَلَا عَيْبٌ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ كَمَا فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مَعَ أَنَّ الْيَمِينَ أَفَضْلُهُمَا كَمَا فِي حَدِيثِ آدَمَ قَالَ { اخْتَرْت يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ } فَإِنَّهُ لَا نَقْصٌ فِي صِفَاتِهِ وَلَا ذَمٌّ فِي أَفْعَالِهِ بَلْ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا إمَّا فَضْلٌ وَإِمَّا عَدْلٌ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : { يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ . وَالْقِسْطُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ } فَبَيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَالْعَدْلُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَعَ أَنَّ كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ فَالْفَضْلُ أَعْلَى مِنْ الْعَدْلِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَرَحْمَتُهُ أَفْضَلُ مِنْ نِقْمَتِهِ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَلَمْ يَكُونُوا عَنْ يَدِهِ الْأُخْرَى . وَجَعَلَهُمْ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ تَفْضِيلٌ لَهُمْ كَمَا فَضَّلَ فِي الْقُرْآنِ أَهْلَ الْيَمِينِ وَأَهْلَ الْمَيْمَنَةِ عَلَى أَصْحَابِ الشِّمَالِ وَأَصْحَابِ الْمَشْأَمَةِ وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا عَذَّبَهُمْ بِعَدْلِهِ . وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ جَاءَتْ بِأَنَّ أَهْلَ قَبْضَةِ الْيَمِينِ هُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ وَأَهْلَ الْقَبْضَةِ الْأُخْرَى هُمْ أَهْلُ الشَّقَاوَةِ.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الشَّرَّ لَمْ يَرِدْ فِي أَسْمَائِهِ وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي مَفْعُولَاتِهِ وَلَمْ يُضِفْ إلَيْهِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ وَأَضَافَهُ إلَى السَّبَبِ الْمَخْلُوقِ أَوْ بِحَذْفِ فَاعِلِهِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } و { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } وَكَأَسْمَائِهِ الْمُقْتَرِنَةِ مِثْلَ الْمُعْطِي الْمَانِعِ الضَّارِّ النَّافِعِ الْمُعِزِّ الْمُذِلِّ الْخَافِضِ الرَّافِعِ وَكَقَوْلِهِ : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } وَكَقَوْلِهِ : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } وَكَقَوْلِ الْجِنِّ : { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك(1/111)
} وَسَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ : أَنَّهُ لَا يُضَافُ إلَيْك وَلَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَيْك أَوْ قِيلَ إنَّ الشَّرَّ إمَّا عَدَمٌ وَإِمَّا مِنْ لَوَازِمِ الْعَدَمِ وَكِلَاهُمَا لَيْسَ إلَى اللَّهِ فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا يُضَافُ إلَيْهِ الْخَيْرُ وَأَسْمَاؤُهُ تَدُلُّ عَلَى صِفَاتِهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ خَيْرٌ حَسَنٌ جَمِيلٌ لَيْسَ فِيهِ شَرٌّ وَإِنَّمَا وَقَعَ الشَّرُّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ قَالَ تَعَالَى { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } { وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } وَقَالَ تَعَالَى : { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } فَجَعَلَ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ مِنْ مَعَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الَّتِي يُسَمِّي بِهَا نَفْسَهُ فَتَكُونُ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَمَّا الْعِقَابُ الَّذِي يَتَّصِلُ بِالْعِبَادِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْأَلِيمُ فَلَمْ يَقُلْ : وَإِنِّي أَنَا الْمُعَذِّبُ وَلَا فِي أَسْمَائِهِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - اسْمُ الْمُنْتَقِمِ وَإِنَّمَا جَاءَ الْمُنْتَقِمُ فِي الْقُرْآنِ مُقَيَّدًا كَقَوْلِهِ { إنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ } وَجَاءَ مَعْنَاهُ مُضَافًا إلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } وَهَذِهِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ مُطْلَقَةٌ لَيْسَ فِيهَا عُمُومٌ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَكِيمٌ رَحِيمٌ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ الْمَخْلُوقَاتِ إلَّا بِحِكْمَتِهِ كَمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ } { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } وَقَالَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى : { مَا خَلَقْنَاهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ : ( بِالْحَقِّ هُوَ لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي يَتَضَمَّنُ حِكْمَتَهُ كَمَا قَالَ : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ } وَقَوْلُهُ : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } { إنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } . وَبَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ قَوْلَهُ { هُوَ الْخَلَّاقُ } إشَارَةً إلَى أَنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَلَا يَنْبَغِي التَّشْدِيدُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بَلْ يَصْفَحُ عَنْهُمْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ لِأَجْلِ الْقَدَرِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ عَاقَبَ(1/112)
الْمُخَالِفِينَ لَهُ وَلِرُسُلِهِ . وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ بِمُعَاقَبَتِهِمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ مِنْ الْعَذَابِ مَا يُنَافِي قَوْلَ هَؤُلَاءِ الْمُعَطِّلِينَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ . وَقَوْلُهُ { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } تَعَلَّقَ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ { وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } فَإِنَّ لَهُمْ مَوْعِدًا يُجْزَوْنَ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } { فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ } { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } { إلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ } { فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ } { إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ } { ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } وَقَوْلُهُ : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ } وَقَوْلُهُ { فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } وَلَمْ يَعْذُرْ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ بِالْقَدَرِ وَلَوْ عَذَرَ بِهِ لَكَانَ أَنْبِيَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِذَلِكَ وَآدَمُ إنَّمَا حَجَّ مُوسَى لِأَنَّهُ لَامَهُ عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي أَصَابَتْ الذُّرِّيَّةَ فَقَالَ لَهُ : لِمَاذَا أَخَرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ ؟ وَمَا أَصَابَ الْعَبْدُ مِنْ الْمَصَائِبِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ فِيهَا لِلَّهِ وَيَعْلَمَ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } قَالَ عَلْقَمَةُ - وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ : فَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ فَالتَّقْوَى فِعْلُ مَا أَمَرَ بِهِ وَمِنْ الصَّبْرِ الصَّبْرُ عَلَى مَا أَصَابَهُ وَهَذَا هُوَ صَاحِبُ الْعَاقِبَةِ الْمَحْمُودَةِ كَمَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَقَالَ : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } وَقَالَ : { بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } . وَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَيُبْتَلَى بِمَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى الصَّبْرِ فَلِهَذَا يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ كَمَا قِيلَ لِأَفْضَلِ الْخَلْقِ : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى مُنَاظَرَةِ آدَمَ وَمُوسَى ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ حَمَلُوهَا عَلَى مُحَامِلَ مُخَالَفَةٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَذَّبَ بِالْحَدِيثِ لِعَدَمِ فَهْمِهِ لَهُ وَالْحَدِيثُ حَقٌّ يُوجِبُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا جَرَتْ عَلَيْهِ مُصِيبَةٌ بِفِعْلِ غَيْرِهِ مِثْلَ أَبِيهِ أَوْ غَيْرِ أَبِيهِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ أَبُوهُ قَدْ تَابَ مِنْهَا فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَبِعَةٌ كَمَا جَرَى لِآدَمَ صَلَوَاتُ(1/113)
اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } وَقَالَ : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } وَكَانَ آدَمَ وَمُوسَى أَعْلَمَ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ يَحْتَجَّ أَحَدُهُمَا لِذَنْبِهِ بِالْقَدَرِ وَيُوَافِقُهُ الْآخَرُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ آدَمَ إلَى تَوْبَةٍ وَلَا أُهْبِطَ مِنْ الْجَنَّةِ وَمُوسَى هُوَ الْقَائِلُ : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } وَهُوَ الْقَائِلُ : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } وَهُوَ الْقَائِلُ : { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } وَهُوَ الْقَائِلُ لِقَوْمِهِ : { فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } فَلَوْ كَانَ الْمُذْنِبُ يُعْذَرُ بِالْقَدَرِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى هَذَا بَلْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ لَمَّا حَصَلَ مِنْ مُوسَى مَلَامٌ عَلَى مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُصِيبَةِ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ وَقَدَّرَهَا . وَمِنْ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ فَالْمُؤْمِنُ يَصْبِرُ عَلَى الْمَصَائِبِ وَيَسْتَغْفِرُ مِنْ الذُّنُوبِ والمعائب وَالْجَاهِلُ الظَّالِمُ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ عَلَى ذُنُوبِهِ وَسَيِّئَاتِهِ وَلَا يَعْذُرُ بِالْقَدَرِ مَنْ أَسَاءَ إلَيْهِ وَلَا يَذْكُرُ الْقَدَرَ عِنْدَ مَا يُيَسِّرُهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ فَعَكْسُ الْقَضِيَّةِ بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ إذَا عَمِلَ حَسَنَةً أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ هُوَ يَسَّرَهَا وَتَفَضَّلَ بِهَا فَلَا يَجِبُ بِهَا وَلَا يُضِيفُهَا إلَى نَفْسِهِ كَأَنَّهُ الْخَالِقُ لَهَا وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً اسْتَغْفَرَ وَتَابَ مِنْهَا وَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ سَمَاوِيَّةٌ أَوْ بِفِعْلِ الْعِبَادِ يَعْلَمُ أَنَّهَا كَانَتْ مُقَدَّرَةً مَقْضِيَّةً عَلَيْهِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . (1)
هل يجوز الدعاء بغير التسعين تسعين اسماً؟
َسُئِلَ ابن تيمية :عَمَّنْ قَالَ : لَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ إلَّا بِالتِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ اسْمًا وَلَا يَقُولُ : يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ وَلَا يَقُولُ : يَا دَلِيلَ الْحَائِرِينَ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِهِ وَعَلَى ذَلِكَ مَضَى سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَهُوَ الصَّوَابُ لِوُجُوهِ .
__________
(1) - مجموع الفتاوى لابن تيمية - (17 / 89)(1/114)
أَحَدُهَا أَنَّ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ اسْمًا لَمْ يَرِدْ فِي تَعْيِينِهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . وَأَشْهَرُ مَا عِنْدَ النَّاسِ فِيهَا حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ الَّذِي رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ وَحُفَّاظُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ : هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِمَّا جَمَعَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ شُيُوخِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَفِيهَا حَدِيثٌ ثَانٍ أَضْعَفُ مِنْ هَذَا . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه . وَقَدْ رُوِيَ فِي عَدَدِهَا غَيْرُ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنْ جَمْعِ بَعْضِ السَّلَفِ . وَهَذَا الْقَائِلُ الَّذِي حَصَرَ أَسْمَاءَ اللَّهِ فِي تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ لَمْ يُمْكِنْهُ اسْتِخْرَاجُهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَإِذَا لَمْ يَقُمْ عَلَى تَعْيِينِهَا دَلِيلٌ يَجِبُ الْقَوْلُ بِهِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ هِيَ الَّتِي يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَمْيِيزِ الْمَأْمُورِ مِنْ الْمَحْظُورِ فَكُلُّ اسْمٍ يُجْهَلُ حَالُهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَأْمُورِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَحْظُورِ وَإِنْ قِيلَ : لَا تَدْعُوا إلَّا بِاسْمِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . قِيلَ : هَذَا أَكْثَرُ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا قِيلَ تَعْيِينُهَا عَلَى مَا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ مَثَلًا فَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَسْمَاءٌ لَيْسَتْ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ مِثْلَ اسْمِ " الرَّبِّ " فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَأَكْثَرُ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ إنَّمَا هُوَ بِهَذَا الِاسْمِ كَقَوْلِ آدَمَ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } . وَقَوْلِ نُوحٍ : { رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } وَقَوْلِ إبْرَاهِيمَ : { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } وَقَوْلِ مُوسَى : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } وَقَوْلِ الْمَسِيحِ : { اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . حَتَّى أَنَّهُ يُذْكَرُ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يُقَالَ يَا سَيِّدِي بَلْ يُقَالُ : يَا رَبِّ لِأَنَّهُ دُعَاءُ النَّبِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ . وَكَذَلِكَ اسْمُ " الْمَنَّانِ " فَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ { أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ دَاعِيًا يَدْعُو : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنَّ لَك الْمُلْكُ أَنْتَ اللَّهُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى } وَهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِي أَسْمَائِهِ الْمَنَّانُ . وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِرَجُلِ وَدَّعَهُ قُلْ : يَا دَلِيلَ الْحَائِرِينَ دُلَّنِي عَلَى طَرِيقِ الصَّادِقِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِك الصَّالِحِينَ . وَقَدْ أَنْكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ : كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْوَفَاءِ ابْنِ عَقِيلٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَسْمَائِهِ الدَّلِيلُ ؛(1/115)
لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ الدَّلَالَةُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْمُعَرِّفُ لِلْمَدْلُولِ وَلَوْ كَانَ الدَّلِيلُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فَالْعَبْدُ يُسْتَدَلُّ بِهِ أَيْضًا فَهُوَ دَلِيلٌ مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ } . وَلَيْسَ هَذَا الِاسْمُ فِي هَذِهِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ " قَالَ : { إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ } وَلَيْسَ هُوَ فِيهَا وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ } وَلَيْسَ هَذَا فِيهَا وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا } وَلَيْسَ هَذَا فِيهَا . وَتَتَبُّعُ هَذَا يَطُولُ . وَلَفْظُ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ النَّاسِ فِي التِّرْمِذِيِّ : اللَّهُ . الرَّحْمَنُ . الرَّحِيمُ . الْمَلِكُ . الْقُدُّوسُ . السَّلَامُ . الْمُؤْمِنُ . الْمُهَيْمِنُ . الْعَزِيزُ . الْحَبَّارُ . الْمُتَكَبِّرُ . الْخَالِقُ . الْبَارِئُ . الْمُصَوِّرُ . الْغَفَّارُ . الْقَهَّارُ . الْوَهَّابُ . الرَّزَّاقُ . الْفَتَّاحُ . الْعَلِيمُ . الْقَابِضُ . الْبَاسِطُ . الْخَافِضُ . الرَّافِعُ . الْمُعِزُّ . الْمُذِلُّ . السَّمِيعُ . الْبَصِيرُ . الْحَكَمُ . الْعَدْلُ . اللَّطِيفُ . الْخَبِيرُ . الْحَلِيمُ . الْعَظِيمُ . الْغَفُورُ . الشَّكُورُ . الْعَلِيُّ . الْكَبِيرُ . الْحَفِيظُ . الْمُقِيتُ . الْحَسِيبُ . الْجَلِيلُ . الْكَرِيمُ . الرَّقِيبُ . الْمُجِيبُ . الْوَاسِعُ . الْحَكِيمُ . الْوَدُودُ . الْمَجِيدُ . الْبَاعِثُ . الشَّهِيدُ . الْحَقُّ . الْوَكِيلُ . الْقَوِيُّ الْمَتِينُ . الْوَلِيُّ . الْحَمِيدُ . الْمُحْصِي . الْمُبْدِئُ . الْمُعِيدُ . الْمُحْيِي . الْمُمِيتُ . الْحَيُّ الْقَيُّومُ . الْوَاجِدُ . الْمَاجِدُ . الْأَحَدُ - وَيُرْوَى الْوَاحِدُ - الصَّمَدُ الْقَادِرُ . الْمُقْتَدِرُ . الْمُقَدِّمُ . الْمُؤَخِّرُ . الْأَوَّلُ . الْآخِرُ . الظَّاهِرُ . الْبَاطِنُ . الْوَالِي . الْمُتَعَالِي . الْبَرُّ . التَّوَّابُ . الْمُنْتَقِمُ . الْعَفُوُّ . الرَّءُوفُ . مَالِكُ الْمُلْكِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ . الْمُقْسِطُ . الْجَامِعُ . الْغَنِيُّ . الْمُغْنِي . الْمُعْطِي . الْمَانِعُ . الضَّارُّ . النَّافِعُ . النُّورُ . الْهَادِي . الْبَدِيعُ . الْبَاقِي . الْوَارِثُ . الرَّشِيدُ . الصَّبُورُ . الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " . وَمِنْ أَسْمَائِهِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي هَذِهِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ اسْمُهُ : السُّبُّوحُ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ } وَاسْمُهُ " الشَّافِي " كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شَافِيَ إلَّا أَنْتَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا } وَكَذَلِكَ أَسْمَاؤُهُ الْمُضَافَةُ مِثْلَ : أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَخَيْرُ الْغَافِرِينَ وَرَبُّ الْعَالَمِينَ وَمَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ وَأَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وَجَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمِ لَا(1/116)
رَيْبَ فِيهِ وَمُقَلِّبُ الْقُلُوبِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَثَبَتَ فِي الدُّعَاءِ بِهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ مِنْ هَذِهِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : مَا احْتَجَّ بِهِ الخطابي وَغَيْرُهُ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَصَابَ عَبْدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك وَابْنُ أَمَتِك نَاصِيَتِي بِيَدِك مَاضٍ فِيَّ حُكْمُك عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُك . أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مَنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرَتْ بِهِ فِي عِلْمِ فِي الْغَيْبِ عِنْدَك أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي وَشِفَاءَ صَدْرِي وَجَلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ غَمِّي وَهَمِّي إلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَعَلَّمُهُنَّ ؟ قَالَ : بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ وَأَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ . قَالَ الخطابي وَغَيْرُهُ : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَسْمَاءً اسْتَأْثَرَ بِهَا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : { إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ } أَنَّ فِي أَسْمَائِهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : إنَّ لِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَعْدَدْتهَا لِلصَّدَقَةِ وَإِنْ كَانَ مَالُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } فَأَمَرَ أَنْ يُدْعَى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مُطْلَقًا وَلَمْ يَقُلْ : لَيْسَتْ أَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى إلَّا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا وَالْحَدِيثُ قَدْ سَلِمَ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - مجموع الفتاوى لابن تيمية - (22 / 481)(1/117)
العبرة بالخواتيم
16-عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ الْعُرْسَ ، - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ الْمَرْءَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ الْبُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ ثُمَّ تُعْرَضُ لَهُ الْجَادَّةُ مِنْ جَوَادِّ الْجَنَّةِ فَيَعْمَلُ بِهَا حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ لِمَا كُتِبَ لَهُ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ ، ثُمَّ تُعْرَضُ لَهُ الْجَادَّةُ مِنْ جَوَادِّ النَّارِ ، فَيَعْمَلُ بِهَا حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ لِمَا كُتِبَ لَهُ " (1)
وعَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ ، قَالَ : سَمِعْتُ الْعُرْسَ ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ : " إِنَّ الْمَرْءَ لِيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ ، ثُمَّ تَعْرِضُ لَهُ الْجَادَّةُ مِنْ جَوَادِّ النَّارِ ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِهَا حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ مَا كُتِبَ لَهُ ، وَإِنَّ الْمَرْءَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ الْبُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ ، ثُمَّ تَعْرِضُ لَهُ الْجَادَّةُ مِنْ جَوَادِّ الْجَنَّةِ ، فَيَعْمَلُ بِهَا حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ مَا كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى " ، أَحْسَبُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ." (2)
وعَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ الْعُرْسَ بْنَ عُمَيْرَةَ ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلِّي اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِنَّ الْعَبْدَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ ، فَتُعْرَضُ لَهُ الْجَادَّةُ مِنْ جَوَادِّ النَّارِ ، فَيَعْمَلُ بِهَا حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ مَا كُتِبَ لَهُ . وَإِنَّ الْعَبْدَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ الْبُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ ، فَتُعْرَضُ لَهُ الْجَادَّةُ مِنْ جَوَادِّ الْجَنَّةِ ، فَيَعْمَلُ بِهَا حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ لِمَا كُتِبَ لَهُ " (3)
وعَنْ عَدِيِّ بن عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْعَرْسَ بن عُمَيْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ:"إِنَّ الْمَرْءَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ الْبُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ، ثُمَّ تَعْرِضُ لَهُ الْجَادَّةُ مِنْ جَوَادِّ الْجَنَّةِ، فَيَعْمَلُ بِهَا حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ لَمَّا
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 40) (29) والمعجم الكبير للطبراني - (12 / 70) (13785) صحيح
(2) - السُّنَّةُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ (105 ) صحيح
(3) - الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ لِلْبَيْهَقِيِّ (82 ) صحيح(1/118)
كُتِبَ لَهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ، ثُمَّ تَعْرِضُ لَهُ الْجَادَّةُ مِنْ جَوَادِّ النَّارِ، فَيَعْمَلُ بِهَا حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ لَمَّا كُتِبَ لَهُ" (1) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ فَقَالَ : أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الْكِتَابَانِ ؟ قَالَ : قُلْنَا : لاَ ، إِلاَّ أَنْ تُخْبِرَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى : هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، بِأَسْمَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ ، لاَ يُزَادُ فِيهِمْ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي يَسَارِهِ : هَذَا كِتَابُ أَهْلِ النَّارِ ، بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ ، لاَ يُزَادُ فِيهِمْ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : فَلأَيِّ شَيْءٍ إِذَنْ نَعْمَلُ إِنْ كَانَ هَذَا أَمْرًا قَدْ فُرِغَ مِنْهُ ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ ، وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ لَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ ثُمَّ قَالَ : بِيَدِهِ فَقَبَضَهَا ثُمَّ قَالَ : فَرَغَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْعِبَادِ ثُمَّ قَالَ بِالْيُمْنَى : فَنَبَذَ بِهَا ، فَقَالَ : فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَنَبَذَ بِالْيُسْرَى ، فَقَالَ : فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ." (2)
وعن زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ : إِنَّ أَحَدَكُمْ يَمْكُثُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ : فَيَكْتُبُ عَمَلَهُ ، وَأَجَلَهُ ، وَرِزْقَهُ ، وَشَقِيُّ أَمْ سَعِيدٌ ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ، يَعْنِي فَيَدْخُلُ النَّارَ.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ : إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (12 / 70) (13785) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 607)6563- وصحيح الجامع (88) و سنن الترمذى- المكنز - (2291 ) صحيح(1/119)
، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ الْمَلِكَ فَيَأْمُرُهُ أَنْ يَكْتُبَ أَرْبَعًا : أَجَلَهُ ، وَرِزْقَهُ ، وَشَقِيُّ أَوْ سَعِيدٌ ، فَوَالَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الشَّقَاءُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ، فَيَمُوتُ فَيَدْخُلُهَا ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ السَّعَادَةُ ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَيَمُوتُ فَيَدْخُلُهَا.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ : إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، قَالَ : ثُمَّ يَأْتِيهِ مَلَكٌ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ : فَيَكْتُبُ أَجَلَهُ ، وَرِزْقَهُ ، وَعَمَلَهُ ، وَشَقِيُّ أَوْ سَعِيدٌ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ ، ثُمَّ يَصِيرُ إِلَى كِتَابِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ ، ثُمَّ يَصِيرُ إِلَى كِتَابِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ." (1)
الْمُرَاد بِالذِّرَاعِ التَّمْثِيل لِلْقُرْبِ مِنْ مَوْته وَدُخُوله عَقِبه ، وَأَنَّ تِلْكَ الدَّار مَا بَقِيَ بَيْنه وَبَيْن أَنْ يَصِلهَا إِلَّا كَمَنْ بَقِيَ بَيْنه وَبَيْن مَوْضِع مِنْ الْأَرْض ذِرَاع ، وَالْمُرَاد بِهَذَا الْحَدِيث أَنَّ هَذَا قَدْ يَقَع فِي نَادِر مِنْ النَّاس ، لَا أَنَّهُ غَالِب فِيهِمْ ، ثُمَّ أَنَّهُ مِنْ لُطْف اللَّه تَعَالَى وَسَعَة رَحْمَته اِنْقِلَاب النَّاس مِنْ الشَّرّ إِلَى الْخَيْر فِي كَثْرَة ، وَأَمَّا اِنْقِلَابهمْ مِنْ الْخَيْر إِلَى الشَّرّ فَفِي غَايَة النُّدُور ، وَنِهَايَة الْقِلَّة ، وَهُوَ نَحْو قَوْله تَعَالَى : { إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي وَغَلَبَتْ غَضَبِي } وَيَدْخُل فِي هَذَا مَنْ اِنْقَلَبَ إِلَى عَمَل النَّار بِكُفْرٍ أَوْ مَعْصِيَة ، لَكِنْ يَخْتَلِفَانِ فِي التَّخْلِيد وَعَدَمه ؛ فَالْكَافِر يُخَلَّد فِي النَّار ، وَالْعَاصِي الَّذِي مَاتَ مُوَحِّدًا لَا يُخَلَّد فِيهَا كَمَا سَبَقَ تَقْرِيره .
__________
(1) - الفوائد لتمام 414 - (1 / 181) (316-320) وسنن أبي داود - المكنز - (4710) وسنن ابن ماجه- المكنز - (80) وسنن الترمذى- المكنز - (2284) وصحيح ابن حبان - (14 / 48) (6174) وصحيح البخارى- المكنز - (3332 ،3208 ، 6594 ، 7454) وصحيح مسلم- المكنز - (6893) والمسند الجامع - (11 / 812)(8978)(1/120)
وَفِي هَذَا الْحَدِيث تَصْرِيح بِإِثْبَاتِ الْقَدَر ، وَأَنَّ التَّوْبَة تَهْدِم الذُّنُوب قَبْلهَا ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى شَيْء حُكِمَ لَهُ بِهِ مِنْ خَيْر أَوْ شَرّ ، إِلَّا أَنَّ أَصْحَاب الْمَعَاصِي غَيْر الْكُفْر فِي الْمَشِيئَة . وَاَللَّه أَعْلَم . (1)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. (2)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ وَإِنَّهُ لِمَنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ وَإِنَّهُ لِمَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. (3)
وعَنْ سَهْلِ بن سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ".
وعَنْ سَهْلِ بن سَعْدٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ:"إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ".
وعَنْ سَهْلِ بن سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ:"إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا تَرَوْنَ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا تَرَوْنَ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ".
وعنه قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ" (4) .
وعَنْ أَكْثَمَ بن أَبِي الْجَوْنٍ ، قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فُلانٌ يَجْرِي فِي الْقِتَالِ ؟ ، قَالَ : هُوَ فِي النَّارِ ، قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِذَا كَانَ فُلانٌ فِي عِبَادَتِهِ وَاجْتِهَادِهِ وَلِينِ جَانِبِهِ
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (8 / 489)
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 58) (346) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (14 / 50) (6175) صحيح
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (5 / 427) (5674و5693 و5758و5819 ) صحيح(1/121)
فِي النَّارِ ، فَأَيْنَ نَحْنُ ؟ ، قَالَ : إِنَّمَا ذَلِكَ إِخْبَاتُ النِّفَاقِ ، وَهُوَ فِي النَّارِ ، قَالَ : كُنَّا نَتَحَفَّظُ عَلَيْهِ فِي الْقِتَالِ ، كَانَ لا يَمُرُّ بِهِ فَارِسٌ ، وَلا رَاجِلٌ إِلا وَثَبَ عَلَيْهِ ، فَكَثُرَ عَلَيْهِ جِرَاحُهُ ، فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اسْتُشْهِدَ فُلانٌ ، قَالَ : هُوَ فِي النَّارِ ، فَلَمَّا اشْتَدَّ بِهِ أَلَمُ الْجِرَاحِ أَخَذَ سَيْفَهُ فَوَضَعَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ، ثُمَّ اتَّكَأَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقُلْتُ : أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّهُ لِمَنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ تُدْرِكُهُ الشِّقْوَةُ أَوِ السَّعَادَةُ عِنْدَ خُرُوجِ نَفْسِهِ ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِهَا." (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً، فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً، فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ" (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ " (3)
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث كُلّهَا دَلَالَات ظَاهِرَة لِمَذْهَبِ أَهْل السُّنَّة فِي إِثْبَات الْقَدَر ، وَأَنَّ جَمِيع الْوَاقِعَات بِقَضَاءِ اللَّه تَعَالَى وَقَدَرِه ؛ خَيْرهَا وَشَرّهَا ، وَنَفْعهَا وَضَرّهَا ، وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّل كِتَاب الْإِيمَان قِطْعَة صَالِحَة مِنْ هَذَا . قَالَ اللَّه تَعَالَى : { لَا يُسْأَل عَمَّا يَفْعَل وَهُمْ يُسْأَلُونَ } فَهُوَ مِلْك لِلَّهِ تَعَالَى يَفْعَل مَا يَشَاء ، وَلَا اِعْتِرَاض عَلَى الْمَالِك فِي مِلْكه ، وَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا عِلَّة لِأَفْعَالِهِ . قَالَ الْإِمَام أَبُو الْمُظَفَّر السَّمْعَانِيّ : سَبِيل مَعْرِفَة هَذَا الْبَاب التَّوْقِيف مِنْ الْكِتَاب وَالسُّنَّة دُون مَحْض الْقِيَاس وَمُجَرَّد الْعُقُول ، فَمَنْ عَدَلَ عَنْ التَّوْقِيف فِيهِ ضَلَّ وَتَاهَ فِي بِحَار الْحَيْرَة ، وَلَمْ يَبْلُغ شِفَاء النَّفْس ، وَلَا يَصِل إِلَى مَا يَطْمَئِنّ بِهِ الْقَلْب ؛ لِأَنَّ الْقَدَر سِرّ مِنْ أَسْرَار اللَّه تَعَالَى الَّتِي ضُرِبَتْ مِنْ دُونهَا الْأَسْتَار ، وَاخْتَصَّ اللَّه بِهِ ، وَحَجَبَهُ عَنْ عُقُول الْخَلْق وَمَعَارِفهمْ ؛ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ الْحِكْمَة . وَوَاجِبنَا أَنْ نَقِف حَيْثُ حَدَّ لَنَا ،
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (1 / 375) (869) صحيح لغيره
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (19 / 209) (523 ) صحيح
(3) - صَحِيحُ مُسْلِمٍ (4920 )(1/122)
وَلَا نَتَجَاوَزهُ ، وَقَدْ طَوَى اللَّه تَعَالَى عِلْم الْقَدَر عَلَى الْعَالَم ، فَلَمْ يَعْلَمهُ نَبِيّ مُرْسَل ، وَلَا مَلَك مُقَرَّب . وَقِيلَ : إِنَّ سِرّ الْقَدَر يَنْكَشِف لَهُمْ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّة ، وَلَا يَنْكَشِف قَبْل دُخُولهَا . وَاَللَّه أَعْلَم . وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث النَّهْي عَنْ تَرْك الْعَمَل وَالِاتِّكَال عَلَى مَا سَبَقَ بِهِ الْقَدَر ، بَلْ تَجِب الْأَعْمَال وَالتَّكَالِيف الَّتِي وَرَدَ الشَّرْع بِهَا ، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ لَا يَقْدِر عَلَى غَيْره ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل السَّعَادَة يَسَّرَهُ اللَّه لِعَمَلِ السَّعَادَة ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الشَّقَاوَة يَسَّرَهُ اللَّه لِعَمَلِهِمْ كَمَا قَالَ : قَالَ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَلِلْعُسْرَى ، وَكَمَا صَرَّحَتْ بِهِ هَذِهِ الْأَحَادِيث . (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (8 / 494)(1/123)
الوتر ليست بفرض
17-عَنِ الْمُخْدَجِيِّ ، قَالَ : تَنَازَعْتُ أَنَا وَرَجُلٌ ، مِنَ الأَنْصَارِ فِي الْوِتْرِ , فَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هُوَ فَرِيضَةٌ كَفَرِيضَةِ الصَّلاَةِ فَقُلْتُ : لاَ بَلْ سُنَّةٌ لاَ يَنْبَغِي تَرْكُهَا , فَرَكِبْتُ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ بِطَبَرَيَّةَ , فَحَدَّثْتُهُ مَا قُلْتُ وَمَا قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ , فَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ : كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَقَالَ لِي مِنْ فِيهِ إِلَى أُذُنِي لاَ أَقُولُ لَكَ حَدَّثَنِي فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ : يَا عُبَادَةُ , خَمْسُ صَلَوَاتٍ فَرَضَهُنَّ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ , فَمَنْ لَقِيَهُ لَمْ يَنْتَقِصْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ لَقِيَ اللَّهَ وَلَهُ عِنْدَهُ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ , وَمَنْ لَقِيَهُ قَدِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ لَقِيَ اللَّهَ فَلاَ عَهْدَ لَهُ عِنْدَهُ إِنْ شَاءَ أَنْ يُعَذِّبَهُ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ غَفَرَ لَهُ. (1)
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ , عَنْ أَبِيهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ , قَالَ : امْتَرَى رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : الْوَتْرُ بَعْدَ الْعِشَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْفَرِيضَةِ , وَقَالَ الآخَرُ : هِيَ سَنَةٌ , فَخَرَجْنَا حَتَّى أَتَيْنَا ابْنَ مُحَيْرِيزٍ فَذَكَرْنَا لَهُ الَّذِي امْتَرَيْنَا فَقَالَ لَهُمَا ابْنُ مُحَيْرِيزٍ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْفَرِيضَةِ . فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِينَا عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَذَكَرْنَا لَهُ ذَلِكَ الَّذِي امْتَرَيْنَا فِيهِ , وَالَّذِي رَدَّ عَلَيْهِمُ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ , فَقَالَ : كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ , أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ , لاَ أَقُولُ حَدَّثَ فُلاَنٌ وَلاَ مِنْ فُلاَنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : افْتَرَضَ اللَّهُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ عَلَى خَلْقِهِ مِنْ أَدَّاهُنَّ كَمَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ لَمْ يَنْتَقِصْ مِنْ حَقِّهِنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا فَإِنَّهُ لَقِيَ اللَّهَ وَلَهُ عِنْدَهُ عَهْدٌ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ , وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْ حَقِّهِنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا فَإِنَّهُ لَقِيَ اللَّهَ وَلاَ عَهْدَ لَهُ , إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَلَكِنَّهَا سُنَّةٌ لاَ يَنْبَغِي تَرْكُهَا." (2)
كذب أبو محمد : لم يرد بقوله : كذب أبو محمد : تعمد الكذب الذي هو ضد الصدق ، لأن الكذب إنما يجيء في الإخبار ، وأبو محمد إنما أفتى فتيا، رأى فيها رأيا ، وأخطأ فيه ،
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 43) (35, 2188 ) والسنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (2 / 215) (3291) والمسند الجامع - (8 / 79) (5538) وسنن أبي داود - المكنز - (425 ) صحيح
(2) - مسند الشاشي 335 - (2 / 296) (1273) صحيح(1/124)
وهو رجل من الأنصار ، له صحبة ، ولا يجوز أن يكذب في الإخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والعرب من عادتها أن تضع الكذب موضع الخطأ، فتقول : كذب سمعي ، وكذب بصري ، أي أخطأ. (1)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : قَوْلُ عُبَادَةَ : كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ ، يُرِيدُ بِهِ أَخْطَأَ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَةَ ، حَيْثُ قَالَتْ لأَبِي هُرَيْرَةَ. وَهَذِهِ لَفْظَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ لأَهْلِ الْحِجَازِ إِذَا أَخْطَأَ أَحَدُهُمْ يُقَالُ لَهُ : كَذَبَ ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ نَزَّهَ أَقْدَارَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ إِلْزَاقِ الْقَدْحِ بِهِمْ حَيْثُ قَالَ : {يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ} [التحريم] فَمَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ أَنَّهُ لاَ يُخْزِيهِ فِي الْقِيَامَةِ فَبِالْحَرِيِّ أَنْ لاَ يُجْرَحَ.وَالرَّجُلُ الَّذِي سَأَلَ عُبَادَةَ هَذَا : هُوَ أَبُو رُفَيْعٍ الْمُخْدَجِيُّ. (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيّ ، قَالَ : زَعَمَ أَبُو مُحَمَّدٍ أَنَّ الْوِتْرَ ، وَاجِبٌ ، فَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ : كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ ، أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ مَنْ أَحْسَنَ وضُوءَهُنَّ وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ جَاءَ وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ "
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ وَجَعَلُوهَا مُعَارِضَةً لِتِلْكَ الْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ فِي إِكْفَارِ تَارِكِ الصَّلَاةِ . قَالُوا : فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ حَتَّى تُجَاوِزَ وَقْتَهَا غَيْرَ كَافِرٍ . قَالُوا : وَفِي اتِّفَاقِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ التَّارِكَ لِلصَّلَاةِ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا مُتَعَمِّدًا يُعِيدُهَا قَضَاءً ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُؤْمَرُ بِقَضَاءِ مَا تَرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ . وَكَانَ مِمَّنْ ذَهَبَ هَذَا الْمَذْهَبَ مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَصْحَابُهُ أَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ فِي مُوَافِقِيهِمْ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ ، يَتْرُكُ الصَّلَاةَ ؟ قَالَ
__________
(1) - جامع الأصول في أحاديث الرسول - (6 / 45)
(2) - صحيح ابن حبان - (5 / 24)(1/125)
: " إِنْ كَانَ إِنَّمَا تَرَكَهَا أَنَّهُ ابْتَدَعَ دِينًا غَيْرَ دِينِ الْإِسْلَامِ قُتِلَ ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا هُوَ فَاسِقٌ ضُرِبَ ضَرْبًا مُبَرِّحًا وَسُجِنَ "
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : فَقَالَ مَنِ احْتَجَّ لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي احْتَجَجْتُمْ بِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ عَمْدًا حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا لَا يَكْفُرُ مُتَعَمِّدِينَ لِتَرْكِهَا حَتَّى يَذْهَبَ وَقْتُهَا ، إِنَّمَا قَالَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ : " يَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يَشْغَلُهُمْ أَشْيَاءُ عَنِ الصَّلَاةِ " فَإِنَّمَا أَخَّرُوهَا عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ تُصَلَّى فِيهِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي نَخْتَارُ فَكَانُوا يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ إِلَى وَقْتِ أَصْحَابِ الْعُذْرِ اشْتِغَالًا مِنْهُمْ بِقِرَاءَةِ الْكُتُبِ الَّتِي كَانُوا يَقْرَءُونَهَا ، وَمَنْ نِيَّتُهُمْ أَنْ يُصَلُّوهَا إِذَا فَرَغُوا مِنْ قِرَاءَةِ الْكُتُبِ فَكَانَتْ قِرَاءَةُ الْكُتُبِ تَشْغَلُهُمْ حَتَّى يَصِيرُوا إِلَى آخِرِ وَقْتِ أَصْحَابِ الْعُذْرِ ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَفْرُغُونَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكُتُبِ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ أَنَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ عُذْرًا لِأَنَّهُمْ مَشْغُولُونَ بِأُمُورِ الرَّعِيَّةِ كَمَا رُوِي عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ فَلَمْ يَقْرَأْ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ اشْتِغَالًا مِنْهُ بِالتَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ الرَّعِيَّةِ ،فعَنْ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ فَلَمْ يَقْرَأْ فَلَمَّا انْصَرَفَ قِيلَ لَهُ ، قَالَ : إِذْ حَدَّثْتُ نَفْسِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ بَعِيرًا جَهَّزْتُهَا مِنَ الْمَدِينَةِ فَلَمْ أَزَلْ أُنْزِلُهَا حَتَّى دَخَلَتِ الشَّامَ فَأَعَادَ الصَّلَاةَ ، وَأَعَادَ الْقِرَاءَةَ " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَكَانُوا لَا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْ وَقْتِ أَصْحَابِ الْعُذْرِ كُلِّهِ ، أَلَا تَرَى إِلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ يَخْنُقُونَهَا إِلَى شَرَقِ الْمَوْتَى ، وَشَرَقُ الْمَوْتَى إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ " (1)
قال الخطابي :
"قوله كذب أبو محمد يريد أخطأ أبو محمد لم يرد به تعمد الكذب الذى هو ضد الصدق لأن الكذب إنما يجري في الأ خبار . وأبو محمد هذا إنما افتى فتيا ورأى رأيا فأخطأ فيما افتى به وهو رجل من الأنصار له صحبة والكذب عليه في الأخبار غير جائز والعرب تضع
__________
(1) - تَعْظِيمُ قَدْرِ الصَّلَاةِ لِمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ (886 ) صحيح(1/126)
الكذب موضع الخطأ في كلامها فتقول كذب سمعي وكذب بصري أي زل ولم يدرك ما رأى وما سمع ولم يحط به قال الأخطل :
كذبتك عينُك أم رأيت بواسط ... ملس الظلام من الرطب خيالا
ومن هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذى وصف له العسل صدق الله وكذب بطن أخيك . وإنما أنكر عبادة أن يكون الوتر واجبا وجوب فرض كالصلوات الخمس دون أن يكون واجبا في السنة ولذلك استشهد بالصلوات الخمس المفروضات في اليوم والليلة. " (1)
وقال : " قلت معنى هذا الكلام التحريض على الوتر والترغيب فيه وقوله ليس منا معناه من لم يوتر رغبة عن السنة فليس منا.
وقد دلت الأخبار الصحيحة على أنه لم يرد بالحق الوجوب الذي لا يسع غيره منها خبر عبادة بن الصامت لما بلغه أن أبا محمد رجلا من الأنصار يقول الوتر حق ، فقال كذب أبو محمد ثم روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عدد الصلوات الخمس ، ومنها خبر طلحة بن عبيد الله في سؤال الأعرابي؛ ومنها خبر أنس بن مالك في فرض الصلوات ليلة الإسراء.
وقد أجمع أهل العلم على أن الوتر ليس بفريضة إلاّ أنه يقال إن في رواية الحسن بن زياد ، عَن أبي حنيفة أنه قال هو فريضة وأصحابه لا يقولون بذلك فإن صحت هذه الرواية فإنه مسبوق بالإجماع فيه." (2)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - معالم السنن للخطابي 288 - (1 / 134)
(2) - معالم السنن للخطابي 288 - (1 / 286) وانظر : الموسوعة الفقهية الكويتية - (27 / 289) فما بعدها(1/127)
أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّهُمْ عَذَابًا لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا
18-عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ ، قَالَ : كَانَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ عَلَى بَعْثٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَمَعَهُ مَوْلَىً لَهُ , فَغَضِبَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ فَحَجَزَهُ هِشَامُ بْنُ حَكِيمٍ الْقُرَشِيُّ , وَكِلاَهُمَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَانْطَلَقَ عِيَاضٌ , إِلَى فُسْطَاطِهِ غَضْبَانَ , فَأَمْهَلَهُ هِشَامٌ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ أَتَاهُ فَاسْتَأْذَنَ فَقَالَ : لِلَّهِ أَبُوكَ , مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي فَعَلْتَ ؟ فَقَالَ هِشَامٌ : لِمَ ؟ وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ شَيْئًا لَمْ تَسْمَعْهُ قَالَ : فَمَا سَمِعْتَ ؟ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّهُمْ عَذَابًا لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا " (1)
وعَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّهُمْ عَذَابًا لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا. " (2)
وعَنْ خَالِدِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ، أَنَّهُ أَتَى أَبَا عُبَيْدَةَ وَإِذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ بِشَمْسٍ ، فَنَهَاهُ عَنْهُ خَالِدٌ فَقَالُوا لِخَالِدٍ : أَغْضَبْتَ أَبَا عُبَيْدَةَ فَقَالَ : إِنِّي لَمْ أُغْضِبْهُ ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا ، أَشَدُّهُمْ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (3)
وعَنْ خَالِدِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ، أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ ، تَنَاوَلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَكَلَّمَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَالُوا لِخَالِدٍ : أَغْضَبْتَ الْأَمِيرَ . فَقَالَ : إِنِّي لَمْ أُرِدْ أَنْ أُغْضِبَهُ ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّهُمْ عَذَابًا لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا " (4)
وعَنْ خَالِدِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ : تَنَاوَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ بِشَيْءٍ فَكَلَّمَهُ فِيهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقِيلَ لَهُ : أَغْضَبْتَ الْأَمِيرَ فَقَالَ خَالِدٌ : إِنِّي لَمْ أُرِدْ أَنْ
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 44) (36) والآحاد والمثاني - (876) صحيح
(2) - مسند الطيالسي - (2 / 474) (1253) صحيح لغيره
(3) - الْآحَادُ وَالْمَثَانِي لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ (563 ) صحيح
(4) - الْأَمْوَالُ لِابْنِ زَنْجُوَيْهِ (146 ) صحيح(1/128)
أُغْضِبَهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّهُمْ عَذَابًا لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا " (1)
وعَنْ خَالِدِ بْنِ حَكِيمٍ، أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ، ضَرَبَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَنَهَاهُ خَالِدٌ، فَقِيلَ لَهُ: أَغْضَبْتَ أَبَا عُبَيْدَةَ فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أُرِدْ أَنْ أُغْضِبَهُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّهُمْ عَذَابًا لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا " (2) .
وعَنْ أَبِي نَجِيحٍ ، أَنَّ خَالِدَ بن حَكِيمٍ مَرَّ بِأَبِي عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ وَهُوَ يُعَذِّبُ النَّاسَ فِي الْجِزْيَةِ ، فَقَالَ لَهُ : أَمَا سَمِعْت َرَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ : إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّهُمْ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا ، فَقَالَ : اذْهَبْ فَخَلِّ سَبِيلَهُمْ " (3) .
وعَنِ الزُّهْرِيِّ ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ، وَجَدَ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ وَهُوَ عَلَى حِمْصَ ، شَمَّسَ أُنَاسًا مِنَ النَّبَطِ فِي أَدَاءِ الْجِزْيَةِ ، فَقَالَ لَهُ هِشَامٌ مَا هَذَا يَا عِيَاضُ ؟ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا " (4)
وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ ، رَأَى نَبَطًا يُشَمَّسُونَ فِي الْجِزْيَةِ ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِمْ : إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا " (5)
وعَنْ رَجُلٍ ، مِنْ كِنَانَةَ ، أَنَّ عَدِيَّ بْنَ أَرْطَاةَ ، كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ : أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ أُنَاسًا قِبَلَنَا ، لَا يُؤَدُّونَ مَا قِبَلَهُمْ إِلَّا أَنْ يَمَسَّهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْعَذَابِ . فَكَتَبَ إِلَيْهِ : " أَمَّا بَعْدُ ، فَالْعَجَبُ كُلَّ الْعَجَبِ اسْتِئْذَانُكَ إِيَّايَ فِي عَذَابِ الْبَشَرِ كَأَنَّنِي جُنَّةٌ لَكَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ ، أَوْ كَأَنَّ رِضَايَ يُنْجِيكَ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ . فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا ، فَمَنْ أَعْطَاكَ مَا قِبَلَهُ
__________
(1) - مُسْنَدُ الْحُمَيْدِيِّ (546 ) صحيح
(2) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (2 / 951) (2459 ) صحيح
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (4 / 265) (4014و4015 ) ومعرفة الصحابة لأبي نعيم - (2 / 951) (2460 ) صحيح
(4) - الْأَمْوَالُ لِابْنِ زَنْجُوَيْهِ (144 ) صحيح
(5) - الْأَمْوَالُ لِابْنِ زَنْجُوَيْهِ (145 ) صحيح(1/129)
عَفُوًّا فَاقْبَلْهُ مِنْهُ ، وَإِلَّا فَاسْتَحْلِفْهُ بِاللَّهِ . فَوَاللَّهِ لَئِنْ يَلْقُوا اللَّهَ بَخِيَانَتِهِمْ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِعَذَابِهِمْ ، وَالسَّلَامُ " (1)
وعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ ، عَنْ رَجُلٍ ، مِنْ ثَقِيفٍ قَالَ : اسْتَعْمَلَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى عُكْبَرَا ، فَقَالَ لِي وَأَهْلُ الْأَرْضِ عِنْدِي : إِنَّ أَهْلَ السَّوَادِ قَوْمٌ خُدَعٌ فَلَا يَخْدَعُنَّكَ ، فَاسْتَوْفِ مَا عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ قَالَ لِي : رُحْ إِلَيَّ ، فَلَمَّا رُحْتُ إِلَيْهِ ، قَالَ لِي : إِنَّمَا قُلْتُ لَكَ الَّذِي قُلْتُ لِأُسْمِعَهُمْ ، لَا تَضْرُبَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ سَوْطًا فِي طَلَبِ دِرْهَمٍ وَلَا تُقِمْهُ قَائِمًا ، وَلَا تَأْخُذَنَّ مِنْهُمْ شَاةً وَلَا بَقَرَةً ، إِنَّمَا أُمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنْهُمُ الْعَفْوَ ؟ أَتَدْرِي مَا الْعَفْوُ ؟ الطَّاقَةُ " (2)
وعن سَعِيدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، قَالَ : قَدِمَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرِ بْنُ حِذْيَمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَلَمَّا أَتَاهُ عَلَاهُ بِالدِّرَّةِ فَقَالَ سَعِيدٌ : سَبَقَ سَيْلُكَ مَطَرَكَ . إِنْ تُعَاقِبْ نَصْبِرْ ، وَإِنْ تَعْفُ نَشْكُرْ ، وَإِنْ تَسْتَعْتِبْ نَعْتِبْ ، فَقَالَ : " مَا عَلَى الْمُسْلِمِ إِلَّا هَذَا ، مَالَكَ تُبْطِئُ بِالْخَرَاجِ ؟ " فَقَالَ : أَمَرْتَنَا أَلَّا نَزِيدَ الْفَلَّاحِينَ عَلَى أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ ، فَلَسْنَا نَزِيدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَكِنَّا نُؤَخِّرُهُمْ إِلَى غَلَّاتِهِمْ . فَقَالَ عُمَرُ : " لَا عَزَلْتُكَ مَا حَيَيْتُ " (3) .
وعَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ ، قَالَ : كَانَ عَلِيٌّ يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِنْ كُلِّ ذِي صَنَعٍ ، مِنْ صَاحِبِ الْأَبَرِ أَبَرٌ ، وَمِنْ صَاحِبِ الْمَسَالِّ مَسَالٌّ ، وَمِنْ صَاحِبِ الْحِبَالِ حِبَالٌ ، ثُمَّ يَدْعُو الْعُرَفَاءَ فُيُعْطِيهِمُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ، فَيَقْسِمُونَهُ ، ثُمَّ يَقُولُ : " خُذُوا هَذَا فَاقْتَسِمُوهُ " ، فَيَقُولُونَ : لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ فَيَقُولُ : " أَخَذْتُمْ خِيَارَهُ وَتَرَكْتُمْ عَلَيَّ شِرَارَهُ ، لِتُحْمَلَنَّ " .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَإِنَّمَا تُوُجِّهَ هَذَا مِنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَأْخُذُ مِنْهُمْ هَذِهِ الْأَمْتِعَةَ بِقِيمَتِهَا مِنَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي عَلَيْهِمْ مِنْ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ ، وَلَا يَحْمِلُهُمْ إِلَى بَيْعِهَا ، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنَ الثَّمَنِ إِرَادَةَ الرِّفْقِ بِهِمْ ، وَالتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ ، وَهَذَا مِثْلُ حَدِيثِ مُعَاذٍ حِينَ قَالَ : بِالْيَمَنِ : ائْتُونِي
__________
(1) - الْأَمْوَالُ لِابْنِ زَنْجُوَيْهِ (147 ) فيه جهالة
(2) - الْأَمْوَالُ لِابْنِ زَنْجُوَيْهِ(148 ) فيه جهالة
(3) - الْأَمْوَالُ لِابْنِ زَنْجُوَيْهِ (149 )(1/130)
بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الصَّدَقَةِ ؛ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ ، وَأَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ . وَكَذَلِكَ فَعَلَ عُمَرُ حِينَ كَانَ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فِي الْجِزْيَةِ " (1)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ عُمَرَ ، كَانَ يُؤْتَى بِنَعَمٍ كَثِيرَةٍ مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ . قَالَ مَالِكٌ : أُرَاهَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي جِزْيَتِهِمْ .
وقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ ، أَنَّ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مِنَ الْمَعَافِرِ ، تَقْوِيَةً لِفِعْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَمُعَاذٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، أَلَا تَرَاهُ قَدْ أَخَذَ مِنْهُمُ الثِّيَابَ ، وَهِيَ الْمَعَافِرُ ، مَكَانَ الدَّنَانِيرِ ؟ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَذَا كُلِّهِ ، الرِّفْقُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَأَنْ لَا يُبَاعَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَتَاعِهِمْ شَيْءٌ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِمَّا سَهُلَ عَلَيْهِمْ بِالْقِيمَةِ ، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ عَدْلُهُ مِنَ الْمَعَافِرِ ، فَقَدْ بَيَّنَ لَكَ ذِكْرَ الْعَدْلِ أَنَّهُ الْقِيمَةُ " (2)
وعَنْ جِسْرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ ، قَالَ : شَهِدْتُ كِتَابَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ ، قُرِئَ عَلَيْنَا بِالْبَصْرَةِ : " أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ، إِنَّمَا أَمَرَ أَنْ تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ مِمَّنْ رَغِبَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَاخْتَارَ الْكُفْرَ عُتُوًا وَخُسْرَانًا مُبِينًا ، فَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ أَطَاقَ حِمْلَهَا . وَخَلِّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عِمَارَةِ الْأَرْضِ ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ صَلَاحًا لِمَعَاشِ الْمُسْلِمِينَ ، وَقُوَّةً عَلَى عَدُوِّهِمْ ، وَانْظُرْ مَنْ قِبَلَكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، قَدْ كَبِرَتْ سِنُّهُ ، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ ، وَوَلَّتْ عَنْهُ الْمَكَاسِبُ ، فَأَجْرِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُصْلِحُهُ . فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، كَانَ لَهُ مَمْلُوكٌ كَبُرَتْ سِنُّهُ ، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ ، وَوَلَّتْ عَنْهُ الْمَكَاسِبُ ، كَانَ مِنَ الْحَقِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقُوتَهُ أَوْ يُقَوِّيَهُ ، حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ عِتْقٌ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ مَرَّ بِشَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، يَسْأَلُ عَلَى أَبْوَابِ النَّاسِ ، فَقَالَ : مَا أَنْصَفْنَاكَ إِنْ كُنَّا أَخَذْنَا مِنْكَ الْجِزْيَةَ فِي شَبِيبَتِكَ ، ثُمَّ ضَيَّعْنَاكَ فِي كِبَرِكَ . قَالَ : ثُمَّ أَجْرَى عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يُصْلِحُهُ " (3)
__________
(1) - الْأَمْوَالُ لِابْنِ زَنْجُوَيْهِ ( 150 )
(2) - الْأَمْوَالُ لِابْنِ زَنْجُوَيْهِ (151 ) صحيح
(3) - الْأَمْوَالُ لِابْنِ زَنْجُوَيْهِ(152 )(1/131)
وعَنْ دَاوُدَ بْنِ سُلَيْمَانَ ، قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : " مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَلَامٌ عَلَيْكَ . فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَوْمٌ قَدْ أَصَابَهُمْ بَلَاءٌ وَشِدَّةٌ وَجَوْرٌ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ , وَسُنَنٌ خَبِيثَةٌ اسْتَنَّهَا عَلَيْهِمْ عَامَلُ سُوءٍ . وَإِنَّ أَقْوَمَ الدِّينِ الْعَدْلُ وَالْإِحْسَانُ ، فَلَا تَكُونَنَّ بِشَيْءٍ أَهَمَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكِ ، أَنْ تُوَطِّنَهَا الطَّاعَةَ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ لَا قَلِيلَ مِنَ الْإِثْمِ . وَأَمَرْتُكَ أَنْ تُطَرِّزَ عَلَيْهِمْ أَرَضِيَهُمْ . وَأَنْ لَا تَحْمِلَ خَرَابًا عَلَى عَامِرٍ ، وَلَا عَامِرًا عَلَى خَرَابٍ ، وَانْظُرِ الْخَرَابَ فَخُذْ مِنْهُ مَا أَطَاقَ وَأَصْلِحْهُ حَتَّى يَعْمُرَ . وَلَا تَأْخُذْ مِنَ الْعَامِرِ إِلَّا وَظِيفَةَ الْخَرَاجِ فِي رِفْقٍ وَتَسْكِينٍ لِأَهْلِ الْأَرْضِ ، وَلَا تَأْخُذْ مِنَ الْخَرَاجِ إِلَّا وَزْنَ سَبْعَةٍ لَيْسَ لَهَا أَبْيَنُ وَلَا أُجُورَ الضَّرَابِينَ وَلَا إِذَابَةَ الْفِضَّةِ ، وَلَا هَدِيَّةَ النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ وَلَا ثَمَنَ الصُّحُفِ ، وَلَا أُجُورَ الْبُيُوتِ وَلَا دَرَاهِمَ النِّكَاحِ ، وَلَا خَرَاجَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ . فَاتَّبِعْ فِي ذَلِكَ أَمْرِي ، فَإِنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ مِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ وَلَّانِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَا تَعْجَلْ دُونِي بِقَطْعٍ وَلَا صَلْبٍ حَتَّى تُرَاجِعَنِي فِيهِ وَانْظُرْ فَمَنْ أَرَادَ مِنَ الذُّرِّيَّةِ الْحَجَّ ، فَعَجِّلْ لَهُ مِائَتَهُ فَلْيَتَهَجَّرْ بِهَا إَنْ شَاءَ اللَّهُ وَالسَّلَامُ " . قَالَ هَاشِمٌ : خَلَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ بِمُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ فَمَا زَالَ يَسْتَعِيدُهُ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى حِفِظَهُ . حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ قَالَ : قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَقَوْلُهُ مِنَ الذُّرِّيَّةِ يَعْنِي مَنْ كَانَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ " (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - الْأَمْوَالُ لِابْنِ زَنْجُوَيْهِ (153 )(1/132)
بعض علامات الساعة الصغرى
19-عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنُونَ خَوَادِعُ ، يُتَّهَمُ فِيهَا الأَمِينُ ، وَيُؤْتَمَنُ الْخَائِنُ ، وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ ، وَيَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ النَّاسِ الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ : السَّفِيهُ يَنْطِقُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ.
وفي رواية عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : تَكُونُ أَمَامَ الدَّجَّالِ سِنُونَ خَوَادِعُ يَكْثُرُ فِيهَا الْمَطَرُ وَيَقِلُّ فِيهَا النَّبْتُ , وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ : مَنْ لاَ يُؤْبَهُ لَهُ." (1)
وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنِينَ خَدَّاعَةً يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ " ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ ، قَالَ : " الْمَرْؤُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ " (2)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ أَمَامَ الدَّجَّالِ سِنِينَ خَدَّاعَةً ، يُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ ، وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ ، وَيَتَكَلَّمُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ . قِيلَ : وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ : الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ". (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ الْقَوْمَ ، جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ ، فَقَالَ : مَتَى السَّاعَةُ ؟ فَمَضَى - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : سَمِعَ مَا قَالَ ، وَكَرِهَ مَا قَالَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ لَمْ يَسْمَعْ. حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ ، قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ ؟ قَالَ : هَا
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (12 / 438) (14551 ) ومسند الشاميين 360 - (1 / 50) (47-48) والمطالب العالية للحافظ ابن حجر العسقلاني - (13 / 28)(4642 ) صحيح
(2) - الْبَحْرُ الزَّخَّارُ مُسْنَدُ الْبَزَّارِ (2376 ) صحيح
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (12 / 438) (14551 ) ومسند الشاميين 360 - (1 / 50) (47-48) والمطالب العالية للحافظ ابن حجر العسقلاني - (13 / 28)(4642 ) صحيح(1/133)
أَنَا ذَا ، قَالَ : إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ، قَالَ : فَمَا إِضَاعَتُهَا ؟ قَالَ : إِذَ اشْتَدَّ الأَمْرُ ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ." (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ ، وَالْبُخْلُ ، وَيُخَوَّنَ الأَمِينُ ، وَيُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ ، وَيَهْلِكَ الْوُعُولُ ، وَتَظْهَرَ التَّحُوتُ. قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَمَا الْوُعُولُ وَالتَّحُوتُ ؟ قَالَ : الْوُعُولُ : وجُوهُ النَّاسِ وَأَشْرَافُهُمْ ، وَالتَّحُوتُ : الَّذِينَ كَانُوا تَحْتَ أَقْدَامِ النَّاسِ لاَ يُعْلَمُ بِهِمْ." (2)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : " مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَظْهَرَ الشُّحُّ وَالْفُحْشُ ، وَيُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ ، وَيُخَوَّنَ الْأَمِينُ ، وَتَظْهَرَ ثِيَابٌ تَلْبَسُهَا نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ ، وَيَعْلُو التُّحُوتُ الْوُعُولَ " ، أَكَذَاكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ سَمِعْتَهُ مِنْ حِبِّي ؟ قَالَ : نَعَمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ . قُلْنَا : وَمَا التُّحُوتُ ؟ قَالَ : فُسُولُ الرِّجَالِ وَأَهْلُ الْبُيُوتِ الْغَامِضَةِ يُرْفَعُونَ فَوْقَ صَالِحِهِمْ ، وَالْوُعُولُ أَهْلُ الْبُيُوتِ الصَّالِحَةِ ." (3)
قال ابن بطال: ليس في هذا الحديث ما يتقارب الزمان ومعناه والله أعلم تقارب أحوال أهله في قلة الدين حتى لا يكون فيهم من يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر لغلبة الفسق وظهور أهله، وقد جاء في الحديث لا يزال الناس بخير ما تفاضلوا فإذا تساووا هلكوا يعني لا يزالون بخير ما كان فيهم أهل فضل وصلاح وخوف من الله يلجأ إليهم عند الشدائد ويستشفى بآرائهم ويتبرك بدعائهم ويؤخذ بتقويمهم وآثارهم. وقال الطحاوي: قد يكون معناه في ترك طلب العلم خاصة والرضا بالجهل، وذلك لأن الناس لا يتساوون في العلم لأن درج العلم تتفاوت قال تعالى:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} وإنما يتساوون إذا كانوا جهالا، وكأنه يريد غلبة الجهل وكثرته بحيث يفقد العلم بفقد العلماء قال ابن بطال: وجميع ما تضمنه هذا الحديث من الأشراط قد رأيناها عيانا فقد نقص العلم وظهر الجهل وألقي الشح في القلوب وعمت الفتن وكثر القتل قلت: الذي يظهر أن الذي شاهده كان
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 307) (104) وصحيح البخارى- المكنز - (6496 )
(2) - صحيح ابن حبان - (15 / 258) (6844) والمعجم الكبير للطبراني - (19 / 308)(754) وفتح الباري لابن حجر - (13 / 15) حسن
(3) - المعجم الأوسط للطبراني - (759 ) حسن(1/134)
منه الكثير مع وجود مقابله، والمراد من الحديث استحكام ذلك حتى لا يبقى مما يقابله إلا النادر، وإليه الإشارة بالتعبير بقبض العلم فلا يبقى إلا الجهل الصرف، ولا يمنع من ذلك وجود طائفة من أهل العلم لأنهم يكونون حينئذ مغمورين في أولئك، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن ماجه بسند قوي عن حذيفة قال: "يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة ويسري على الكتاب في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية " الحديث وسأذكر مزيدا لذلك في أواخر كتاب الفتن، وعند الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: "ولينزعن القرآن من بين أظهركم يسري عليه ليلا فيذهب من أجواف الرجال فلا يبقى في الأرض منه شيء " وسنده صحيح لكنه موقوف وسيأتي بيان معارضه ظاهرا في كتاب الأحكام والجمع بينهما، وكذا القول في باقي الصفات، والواقع أن الصفات المذكورة وجدت مباديها من عهد الصحابة ثم صارت تكثر في بعض الأماكن دون بعض، والذي يعقبه قيام الساعة استحكام ذلك كما قررته، وقد مضى من الوقت الذي قال فيه ابن بطال ما قال نحو ثلاثمائة وخمسين سنة والصفات المذكورة في ازدياد في جميع البلاد لكن يقل بعضها في بعض ويكثر بعضها في بعض، وكلما مضت طبقة ظهر النقص الكثير في التي تليها، وإلى ذلك الإشارة بقوله في حديث الباب الذي بعده " لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه " ثم نقل ابن بطال عن الخطابي في معنى تقارب الزمان المذكور في الحديث الآخر يعني الذي أخرجه الترمذي من حديث أنس وأحمد من حديث أبي هريرة مرفوعا: "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة وتكون الساعة كاحتراق السعفة " قال الخطابي هو من استلذاذ العيش، يريد والله أعلم أنه يقع عند خروج المهدي ووقوع الأمنة في الأرض وغلبة العدل فيها فيستلذ العيش عند ذلك وتستقصر مدته، وما زال الناس يستقصرون مدة أيام الرخاء وإن طالت ويستطيلون مدة المكروه وإن قصرت، وتعقبه الكرماني بأنه لا يناسب أخواته من ظهور الفتن وكثرة الهرج وغيرهما." (1)
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (13 / 15)(1/135)
وقال الطحاوي : " بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الرُّوَيْبِضَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي وَصْفِهِ السِّنِينَ الَّتِي أَمَامَ الدَّجَّالِ مَنْ هُوَ مِنَ النَّاسِ ؟
َعنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ أَمَامَ الدَّجَّالِ سِنِينَ خَوَادِعَ يَكْثُرُ فِيهَا الْمَطَرُ وَيَقِلُّ فِيهَا النَّبْتُ وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ مَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ "
وعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنِينَ خَدَّاعَةً يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَتَكَلَّمُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ " فَلَمْ يَكُنْ فِيمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ مِنْ ذِكْرِ الرُّوَيْبِضَةِ مَا يُوجِبُ اخْتِلَافًا فِيهِ مَنْ هُوَ مِنَ النَّاسِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ;لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفُهُ إيَّاهُ بِالْفِسْقِ الَّذِي يَمْنَعُ مِثْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ يَنْطَلِقُ لَهُ فِي الدَّهْرِ الْمَذْمُومِ الْكَلَامُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ كَمَا يَكُونُ فِيهِ تَصْدِيقُ الْكَاذِبِ وَتَكْذِيبُ الصَّادِقِ وَائْتِمَانُ الْخَائِنِ وَيَكُونُ وَصْفُهُ إيَّاهُ بِأَنَّهُ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لِعَلَنِهِ بِفِسْقِهِ وَلِأَنَّهُ مِمَّنْ لَا حَاجَةَ بِالنَّاسِ إلَيْهِ فَيَكُونُ بِذَلِكَ خَامِلًا لَا يُؤْبَهُ لَهُ فَاتَّفَقَ بِحَمْدِ اللهِ الْمَعْنَيَانِ اللَّذَانِ رَوَيْنَا فِي تَفْسِيرِ الرُّوَيْبِضَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذَا الْبَابِ وَلَمْ يَخْتَلِفَا . وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ" (1)
وقال ابن بطال :
"وقوله: « إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة » هو كلام مجمل أحب الأعرابى السائل النبى - صلى الله عليه وسلم - شرحه له فقال له: « كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله » فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بجواب عام دخل فيه تضييع الأمانة، وما كان فى معناها مما لا يجرى على طريق الحق، كاتخاذ العلماء الجهال عند موت أهل العلم، واتخاذ ولاة الجور وحكام الجور عند غلبة الباطل وأهله، وقد ذكر ابن أبى شيبة من حديث المقبرى عن أبى هريرة قال: قال النبى - صلى الله عليه وسلم - : « سيأتى على الناس سنوات خداّعات
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (1 / 404)(464 -466)(1/136)
يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه فى أمر العامة » وقد رأينا أكثر هذه العلامات وما بقى منها فغير بعيد، روى ابن عيينة عن عبد العزيز بن رفيع قال: سمعت شداد بن معقل قال: سمعت ابن مسعود يقول: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة.
وروى يونس بن زيد، عن الزهرى، عن الصنابحى، عن حذيفة قال: لتنقضن عُرى الإسلام عروة عروة، ويكون أول نقضه الخشوع. وقد تقدّم معنى حديث حذيفة وما فيه من غرائب اللغة فى باب إذا بقى فى حثالة من الناس فى كتاب الفتن.
وقوله: « الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة » يريد - صلى الله عليه وسلم - أن الناس كثير والمَرْضِّى منهم قليل، كما أن المائة من الإبل لا تكاد تصاب فيها الراحلة الواحدة وهذا الحديث إنما يراد به القرون المذمومة فى آخر الزمان، ولذلك ذكره البخارى فى رفع الأمانة، ولم يرد به - صلى الله عليه وسلم - زمن أصحابه وتابعيهم؛ لأنه قد شهد لهم بالفضل فقال: « خير القرون قرنى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئ بعدهم قوم يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون.. » الحديث، فهؤلاء أراد بقوله: « الناس كإبل مائة » والله الموفق. " (1)
معنى "لكع بن لكع.
لكع بن لكع هو: اللئيم ابن اللئيم، أو هو: رديء النسب والحسب، وقيل: من لا يعرف له أصل ولا يحمد له خلق.قاله في تحفة الأحوذي، وقال في النهاية: اللكع عند العرب العبد، ثم استعمل في الحمق والذم.
والمعنى أن الذين يتولون أمور المسلمين في آخر الزمان ويتصرفون في أموالهم هم أخس الناس وأحقرهم، ويدل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون
__________
(1) - شرح ابن بطال - (19 / 274)(1/137)
فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه في أمر العامة" رواه ابن ماجه وأحمد، وله رواية بلفظ: "السفيه يتكلم في أمر العامة".والله أعلم. (1)
في آخر الزمان يخوَن الأمين
قد أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق بأن آخر الزمان ستنقلب فيه المقاييس، وسيخوَّن الأمينُ ويؤتمن الخائن. قال صلى الله عليه وسلم: سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه في أمر العامة " رواه ابن ماجه وأحمد، وله رواية بلفظ: السفيه يتكلم في أمر العامة .
واعلم أن الأمانة التي تنفع المرء هي التي يراد بها وجه الله، فإذا وجدت منك تلك الأمانة، فإن الله تعالى سيكون مطلعا عليها، ولا ضرر عليك حينئذ إذا خونك قومك وكانوا لا يعلمون أنك في الحقيقة أمين.والله أعلم. (2)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (3 / 5030) -رقم الفتوى 18510 معنى "لكع بن لكع.." الوارد بالحديث -تاريخ الفتوى : 20 ربيع الثاني 1423
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (9 / 4604) -رقم الفتوى 65523 في آخر الزمان يخوَن الأمين -تاريخ الفتوى : 01 رجب 1426(1/138)
بعض الفتن ومنها القتل
20-عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ ، قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يُوحَى إِلَيَّ أَنِّي مَقْبُوضٌ غَيْرَ مُلَبَثٍ وَإِنَّكُمْ مُتَّبِعِيَّ أَفْنَادًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ , وَلاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي نَاسٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ وَيُزِيغُ اللَّهُ بِهِمْ قُلُوبَ أَقْوَامٍ وَيَرْزُقُهُمْ مِنْهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ وَحَتَّى يَأْتِيَ وَعَدُ اللَّهِ , وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِالشَّامِ " (1)
وعَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ الْكِنْدِىِّ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذَالَ النَّاسُ الْخَيْلَ وَوَضَعُوا السِّلاَحَ وَقَالُوا لاَ جِهَادَ قَدْ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِوَجْهِهِ وَقَالَ « كَذَبُوا الآنَ الآنَ جَاءَ الْقِتَالُ وَلاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِى أُمَّةٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ وَيُزِيغُ اللَّهُ لَهُمْ قُلُوبَ أَقْوَامٍ وَيَرْزُقُهُمْ مِنْهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ وَحَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللَّهِ وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِى نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يُوحَى إِلَىَّ أَنِّى مَقْبُوضٌ غَيْرَ مُلَبَّثٍ وَأَنْتُمْ تَتَّبِعُونِى أَفْنَادًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ ». (2)
وعن وَاثِلَةَ بن الأَسْقَعِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ:إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنِّي آخِرُكُمْ مَوْتًا، وَأَنِّي أَوَّلُكُمْ ذَهَابًا، ثُمَّ تَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي أَفْنَادًا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
وعَنْ رَبِيعَةَ بن يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ وَاثِلَةَ بن الأَسْقَعَ، يَقُولُ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ:إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنِّي مِنْ آخِرِكُمْ وَفَاةً، وَأَنِّي مِنْ أَوَّلِكُمْ وَفَاةً، فَتَتْبَعُونِي أَفْنَادًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ.
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 56) (57) والسنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة - (3 / 251) (4386) والمسند الجامع - (7 / 187) (4938) والمعجم الكبير للطبراني - (6 / 155) (6231) وسنن النسائي- المكنز - (3576 ) صحيح
(2) -سنن النسائي- المكنز - (3576 ) والسنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة - (3 / 251)(4386) صحيح
الأفناد : جمع الفند أى جماعات متفرقين قوما بعد قوم(1/139)
وعَنْ وَاثِلَةَ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ:تَزْعُمُونَ أَنِّي مِنْ آخِرِكُمْ وَفَاةً، وَإِنِّي أَوَّلُكُمْ وَفَاةً، وَتَتْبَعُونِي أَفْنَادًا يُهْلِكُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا." (1)
وعن رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ ، قَالَ : سَمِعْتُ وَاثِلَةَ بْنَ الأَسْقَعِ ، يَقُولُ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : تَزْعُمُونَ أَنِّي مِنْ آخِرِكُمْ وَفَاةً ، إِنِّي مِنْ أَوَّلِكُمْ وَفَاةً ، وَتَتْبَعُونِي أَفْنَادًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ." (2)
وعَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " أَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ " قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَسَكَتَ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ: " أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ ؟ " قَالُوا: بَلَى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ " قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: " أَلَيْسَ الْبَلَدَ الْحَرَامَ ؟ " قُلْنَا: بَلَى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ " قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: " أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ ؟ " قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - " فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأُرَاهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، فَلَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَلَعَلَّ مَنْ يَبْلُغُهُ أَوْعَى مِنْ بَعْضِ مَنْ يَسْمَعُهُ " قَالَ: فَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا ذَكَرَهُ يَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ كَانَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ؟ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ؟ " (3)
وعَنْ حُجَيْرِ بْنِ مَخْشِي، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، أَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ قَالُوا : بَلَدٌ حَرَامٌ قَالَ : فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ قَالُوا : شَهْرٌ حَرَامٌ قَالَ : فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ قَالُوا : يَوْمٌ حَرَامٌ قَالَ : أَلا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (15 / 444) (17631 -17633 ) وصحيح ابن حبان - (15 / 21) (6646) والمسند الجامع - (15 / 1029)(12064) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (15 / 21) (6646) صحيح
(3) - أخبار مكة للفاكهي - (3 / 126) (1890 ) صحيح(1/140)
شَهْرِكُمْ هَذَا ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، كَحُرْمَةِ بَلَدِكُمْ هَذَا ، فَلْيُبَلِّغْ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ ، لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ" (1)
وعَنْ كُرْزِ بْنِ عَلْقَمَةَ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، هَلْ لِلإِسْلامِ مِنْ مُنْتَهًى ؟ قَالَ : نَعَمْ ، إِنَّمَا أَهْلُ بَيْتٍ مِنَ الْعَرَبِ ، أَوِ الْعَجَمِ أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمْ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الإِسْلامَ قَالَ : ثُمَّ مَهْ ؟ قَالَ : ثُمَّ الْفِتَنُ تَقَعُ كَالظُّلَلِ يَعُودُونَ فِيهَا أَسَاوِدَ صَبَا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ قَالَ : سَمِعْتُ حَامِدَ بْنَ يَحْيَى يَذْكُرُ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَسَاوِدَ صَبَا قَالَ : هُوَ الْحَيَّةُ الأَسْوَدُ تَأْخُذُ الشَّيْءَ بِأَنْيَابِها ، ثُمَّ تَقُومُ قَائِمَةً ، فَتَصُبُّ فِيهِ مِنَ السُّمِّ فِي نَابِها " (2)
وعَنْ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ « اسْتَنْصِتِ النَّاسَ » فَقَالَ « لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ » (3) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ . أَىُّ يَوْمٍ هَذَا » . قَالُوا يَوْمٌ حَرَامٌ . قَالَ « فَأَىُّ بَلَدٍ هَذَا » . قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ . قَالَ « فَأَىُّ شَهْرٍ هَذَا » . قَالُوا شَهْرٌ حَرَامٌ . قَالَ « فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا » . فَأَعَادَهَا مِرَارًا ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ « اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ » . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ - « فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ » (4) .
وعَنْ أَبِى بَكْرَةَ ، وَرَجُلٌ أَفْضَلُ فِى نَفْسِى مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِى بَكْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ خَطَبَنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ النَّحْرِ ، قَالَ « أَتَدْرُونَ أَىُّ يَوْمٍ هَذَا » . قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ . قَالَ « أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ » . قُلْنَا بَلَى . قَالَ « أَىُّ شَهْرٍ هَذَا » . قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَسَكَتَ حَتَّى
__________
(1) - الآحاد والمثاني - (3 / 178) (1682) صحيح
(2) - الآحاد والمثاني - (4 / 147) (2305) صحيح
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (121 )
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (1739)(1/141)
ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ . فَقَالَ « أَلَيْسَ ذُو الْحَجَّةِ » . قُلْنَا بَلَى . قَالَ « أَىُّ بَلَدٍ هَذَا » . قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ . قَالَ « أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ » . قُلْنَا بَلَى . قَالَ « فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا ، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا ، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ . أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ » . قَالُوا نَعَمْ . قَالَ « اللَّهُمَّ اشْهَدْ ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ ، فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ » (1)
قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِب بَعْضكُمْ رِقَاب بَعْض ) قِيلَ فِي مَعْنَاهُ سَبْعَة أَقْوَال :
أَحَدهَا : أَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ فِي حَقّ الْمُسْتَحِلِّ بِغَيْرِ حَقٍّ ،
وَالثَّانِي : الْمُرَاد كُفْر النِّعْمَة وَحَقّ الْإِسْلَام ،
وَالثَّالِث : أَنَّهُ يُقَرِّبُ مِنْ الْكُفْر وَيُؤَدِّي إِلَيْهِ ،
وَالرَّابِع : أَنَّهُ فِعْلٌ كَفِعْلِ الْكُفَّار ،
وَالْخَامِس : الْمُرَاد حَقِيقَة الْكُفْر وَمَعْنَاهُ لَا تَكْفُرُوا بَلْ دُومُوا مُسْلِمِينَ ،
وَالسَّادِس : حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره أَنَّ الْمُرَاد بِالْكُفَّارِ الْمُتَكَفِّرُونَ بِالسِّلَاحِ ، يُقَال تَكَفَّرَ الرَّجُل بِسِلَاحِهِ إِذَا لَبِسَهُ . قَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي كِتَابه " تَهْذِيب اللُّغَة " يُقَال لِلَابِسِ السِّلَاح كَافِرٌ ،
وَالسَّابِع : قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ لَا يُكَفِّرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَتَسْتَحِلُّوا قِتَالَ بَعْضِكُمْ بَعْضًا .
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَال الرَّابِع وَهُوَ اِخْتِيَار الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه . ثُمَّ إِنَّ الرِّوَايَة ( يَضْرِبُ ) بِرَفْعِ الْبَاء هَكَذَا هُوَ الصَّوَاب ، وَكَذَا رَوَاهُ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ ، وَبِهِ يَصِحُّ الْمَقْصُود هُنَا . وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ بَعْض الْعُلَمَاء ضَبَطَهُ بِإِسْكَانِ الْبَاء قَالَ الْقَاضِي : وَهُوَ إِحَالَةٌ لِلْمَعْنَى ، وَالصَّوَاب الضَّمُّ . قُلْت : وَكَذَا قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ أَنَّهُ يَجُوز جَزْم الْبَاء عَلَى تَقْدِير شَرْطٍ مُضْمِرٍ أَيْ إِنْ تَرْجِعُوا يَضْرِبْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1741 )(1/142)
وَأَمَّا قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا ) فَقَالَ الْقَاضِي قَالَ الصُّبَرِيُّ : مَعْنَاهُ بَعْد فِرَاقِي مِنْ مَوْقِفِي هَذَا ، وَكَانَ هَذَا يَوْم النَّحْر بِمِنًى فِي حِجَّة الْوَدَاع ، أَوْ يَكُون بَعْدِي أَيْ خِلَافِي أَيْ لَا تَخْلُفُونِي فِي أَنْفُسكُمْ بِغَيْرِ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ ، أَوْ يَكُون تَحَقَّقَ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ فِي حَيَاته فَنَهَاهُمْ عَنْهُ بَعْد مَمَاته . (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (1 / 160)(1/143)
تحريم الكبر
21-عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، قَالَ : الْتَقَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى الْمَرْوَةِ , فَتَحَدَّثَا ثُمَّ مَضَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَبَقِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَبْكِي , فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؟ قَالَ : هَذَا , يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو زَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ " (1)
المثقال : المقدار من الموزونات ، قليلا كان أو كثيرا ، تقول : مثقال حبة ، ومثقال ألف ، والناس يجعلونه للدينار خاصة ، وليس كذلك. (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ ». (3)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ، وَلا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ." (4)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ ». وَفِى الْبَابِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ وَأَبِى سَعِيدٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (5)
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 60) (62) وإتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة - (8 / 82)[7830] والمسند الجامع - (11 / 318) (8570) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 705) 7015 - صحيح
(2) - جامع الأصول في أحاديث الرسول - (9 / 358)
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (4093) والمعجم الكبير للطبراني - (8 / 402) (9858 ) صحيح
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (8 / 402) (9858 ) صحيح
(5) - سنن الترمذى- المكنز - (2129 ) صحيح(1/144)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ ، وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : فِي هَذَا الْخَبَرِ مَعْنَيَانِ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الَّذِي نَوَّعْنَا لَهُ النَّوْعَ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ أَرَادَ بِهِ جَنَّةً عَالِيَةً يَدْخُلُهَا غَيْرُ الْمُتَكَبِّرِينَ ، وَقَوْلُهُ : وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ أَرَادَ بِهِ نَارًا سَافِلَةً يَدْخُلُهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي : لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَصْلاً مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ ، أَرَادَ بِالْكِبْرِ الشِّرْكَ ، إِذِ الْمُشْرِكُ لاَ يَدْخُلُ جَنَّةً مِنَ الْجِنَّانِ أَصْلاً ، وَقَوْلُهُ : لاَ يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلِ مِنْ إِيمَانٍ أَرَادَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْخُلُودِ ، حَتَّى يَصِحَّ الْمَعْنَيَانِ مَعًا. (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :لا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي غَسِيلا، وَرَأْسِي دَهِينًا، وَشِرَاكُ نَعْلِي جَدِيدًا، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ حَتَّى ذَكَرَ عِلاقَةَ السَّوْطِ، أَفَمِنَ الْكِبْرِ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:لا، ذَاكَ الْجَمَالُ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ سَفَهَ الْحَقَّ وَازْدَرَى النَّاسَ." (2)
معنى الحديث
وَأَمَّا قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( لَا يَدْخُل الْجَنَّة مَنْ فِي قَلْبه مِثْقَال ذَرَّة مِنْ كِبْر ) فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيله . فَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ أَحَدهمَا : أَنَّ الْمُرَاد التَّكَبُّر عَنْ الْإِيمَان فَصَاحِبه لَا يَدْخُل الْجَنَّة أَصْلًا إِذَا مَاتَ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَكُون فِي قَلْبه كِبْر حَال دُخُوله الْجَنَّة ، كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ فِيهِمَا بُعْد فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيث وَرَدَ فِي سِيَاق النَّهْيِ عَنْ الْكِبْرِ الْمَعْرُوف وَهُوَ الِارْتِفَاع عَلَى النَّاس ، وَاحْتِقَارهمْ ، وَدَفْع الْحَقِّ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَل عَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ الْمُخْرِجَيْنِ لَهُ عَنْ الْمَطْلُوب . بَلْ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (12 / 493)(5680) صحيح
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (9 / 73) (10382 ) صحيح(1/145)
الظَّاهِر مَا اِخْتَارَهُ الْقَاضِي عِيَاض وَغَيْره مِنْ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ لَا يَدْخُل الْجَنَّة دُون مُجَازَاةٍ إِنْ جَازَاهُ . وَقِيلَ : هَذَا جَزَاؤُهُ لَوْ جَازَاهُ ، وَقَدْ يَتَكَرَّم بِأَنَّهُ لَا يُجَازِيه ، بَلْ لَا بُدّ أَنْ يَدْخُل كُلّ الْمُوَحِّدِينَ الْجَنَّة إِمَّا أَوَّلًا ، وَإِمَّا ثَانِيًا بَعْد تَعْذِيب بَعْض أَصْحَاب الْكَبَائِر الَّذِينَ مَاتُوا مُصِرِّينَ عَلَيْهَا . وَقِيلَ : لَا يَدْخُل مَعَ الْمُتَّقِينَ أَوَّل وَهْلَة ." (1)
وسُئِلَ شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ } هَلْ هَذَا الْحَدِيثُ مَخْصُوصٌ بِالْمُؤْمِنِينَ أَمْ بِالْكُفَّارِ ؟ فَإِنْ قُلْنَا مَخْصُوصٌ بِالْمُؤْمِنِينَ فَقَوْلُنَا لَيْسَ بِشَيْءِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِالْإِيمَانِ . وَإِنْ قُلْنَا مَخْصُوصٌ بِالْكَافِرِينَ فَمَا فَائِدَةُ الْحَدِيثِ ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحِ : { لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ، وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. } (2) .
فَالْكِبْرُ الْمُبَايِنُ لِلْإِيمَانِ لَا يَدْخُلُ صَاحِبُهُ الْجَنَّةَ كَمَا فِي قَوْلِهِ : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60) سورة غافر، وَمِنْ هَذَا كِبْرُ إبْلِيسَ وَكِبْرُ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ كَانَ كِبْرُهُ مُنَافِيًا لِلْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ كِبْرُ الْيَهُودِ وَاَلَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} (87) سورة البقرة .
وَالْكِبْرُ كُلُّهُ مُبَايِنٌ لِلْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَمَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ لَا يَفْعَلُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيَتْرُكُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ بَلْ كِبْرُهُ يُوجِبُ لَهُ جَحْدَ الْحَقِّ وَاحْتِقَارَ الْخَلْقِ وَهَذَا هُوَ " الْكِبْرُ " الَّذِي فَسَّرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَيْثُ سُئِلَ فِي تَمَامِ الْحَدِيثِ . { فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: " إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ مَنْ بَطِرَ الْحَقَّ، وَغَمَطَ النَّاسِ " } وَبَطَرُ الْحَقِّ جَحْدُهُ وَدَفْعُهُ وَغَمْطُ النَّاسِ
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (1 / 194)
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 94)3913- صحيح(1/146)
ازْدِرَاؤُهُمْ وَاحْتِقَارُهُمْ فَمَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ هَذَا يُوجِبُ لَهُ أَنْ يَجْحَدَ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقِرَّ بِهِ وَأَنْ يَحْتَقِرَ النَّاسَ فَيَكُونُ ظَالِمًا لَهُمْ مُعْتَدِيًا عَلَيْهِمْ فَمَنْ كَانَ مُضَيِّعًا لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ ؛ ظَالِمًا لِلْخَلْقِ . لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَا مُسْتَحِقًّا لَهَا ؛ بَلْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ . فَقَوْلُهُ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ } مُتَضَمِّنٌ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا وَلَا مُسْتَحِقًّا لَهَا لَكِنْ إنْ تَابَ أَوْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ مَاحِيَةٌ لِذَنْبِهِ أَوْ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِمَصَائِبَ كَفَّرَ بِهَا خَطَايَاهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ زَالَ ثَمَرَةُ هَذَا الْكِبْرِ الْمَانِعِ لَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ؛ فَيَدْخُلُهَا أَوْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ مِنْ ذَلِكَ الْكِبْرِ مِنْ نَفْسِهِ ؛ فَلَا يَدْخُلُهَا وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْكِبْرِ وَلِهَذَا قَالَ : مَنْ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ : إنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الدُّخُولُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعَهُ عَذَابٌ ؛ لَا الدُّخُولُ الْمُقَيَّدُ الَّذِي يَحْصُلُ لِمَنْ دَخَلَ النَّارَ ثُمَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ ؛ فَإِنَّهُ إذَا أُطْلِقَ فِي الْحَدِيثِ فُلَانٌ فِي الْجَنَّةِ أَوْ فُلَانٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَانَ الْمَفْهُومُ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ . فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَا يَدْخُلُهَا بِلَا عَذَابٍ بَلْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ لِكِبْرِهِ كَمَا يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَلَكِنْ قَدْ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ مَا شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ } وَقَوْلِهِ : { لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ } وَأَمْثَالُ هَذَا مِنْ أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ وَعَلَى هَذَا فَالْحَدِيثُ عَامٌّ فِي الْكُفَّارِ وَفِي الْمُسْلِمِينَ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِالْإِسْلَامِ فَيُقَالُ لَهُ : لَيْسَ كُلُّ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا عَذَابٍ بَلْ أَهْلُ الْوَعِيدِ يَدْخُلُونَ النَّارَ وَيَمْكُثُونَ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ مَعَ كَوْنِهِمْ لَيْسُوا كُفَّارًا فَالرَّجُلُ الَّذِي مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَهُ كَبَائِرُ قَدْ يَدْخُلُ النَّارَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا : إمَّا بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ ؛ كَمَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم - « شَفَاعَتِى لأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِى » (1) . وَكَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَمِنُوا ، فَمَا مُجَادَلَةُ أَحَدِكُمْ لِصَاحِبِهِ فِي الْحَقِّ يَكُونُ لَهُ فِي الدُّنْيَا ، بِأَشَدَّ مُجَادَلَةً لَهُ ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ فِي إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ أُدْخِلُوا النَّارَ
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (10 / 190) (21293) صحيح(1/147)
" قَالَ : " يَقُولُونَ : رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا ، وَيَصُومُونَ مَعَنَا ، وَيَحُجُّونَ مَعَنَا ، فَأَدْخَلْتَهُمُ النَّارَ " قَالَ : فَيَقُولُ : " اذْهَبُوا فَأَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ ، فَيَأْتُونَهُمْ فَيَعْرِفُونَهُمْ بِصُوَرِهِمْ ، لَا تَأْكُلُ النَّارُ صُوَرَهُمْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ النَّارُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى كَعْبَيْهِ ، فَيُخْرِجُونَهُمْ ، فَيَقُولُونَ : رَبَّنَا أَخْرَجْنَا مَنْ أَمَرْتَنَا ، ثُمَّ يَقُولُ : أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ وَزْنُ دِينَارٍ مِنَ الْإِيمَانِ ، ثُمَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ وَزْنُ نِصْفِ دِينَارٍ ، حَتَّى يَقُولَ : مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ " . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِهَذَا ، فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ : إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا قَالَ : " فَيَقُولُونَ : رَبَّنَا قَدْ أَخْرَجْنَا مَنْ أَمَرْتَنَا ، فَلَمْ يَبْقَ فِي النَّارِ أَحَدٌ فِيهِ خَيْرٌ " قَالَ : " ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ : شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ ، وَشَفَعَ الْأَنْبِيَاءُ ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ ، وَبَقِيَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ " ، قَالَ : " فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ ، - أَوْ قَالَ : قَبْضَتَيْنِ - نَاسٌ لَمْ يَعْمَلُوا لِلَّهِ خَيْرًا قَطُّ قَدِ احْتَرَقُوا حَتَّى صَارُوا حُمَمًا " ، قَالَ : " فَيُؤْتَى بِهِمْ إِلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ : مَاءُ الْحَيَاةِ ، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ، فَيَخْرُجُونَ مِنْ أَجْسَادِهِمْ مِثْلَ اللُّؤْلُؤِ ، فِي أَعْنَاقِهِمُ الْخَاتَمُ : عُتَقَاءُ اللَّهِ " ، قَالَ : " فَيُقَالُ لَهُمْ : ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ، فَمَا تَمَنَّيْتُمْ أَوْ رَأَيْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا " ، قَالَ : " فَيَقُولُونَ : رَبَّنَا وَمَا أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ ؟ " قَالَ : " فَيَقُولُ رِضَائِي عَلَيْكُمْ فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَدًا " (1)
وَهَكَذَا الْوَعِيدُ فِي قَاتِلِ النَّفْسِ وَالزَّانِي وَشَارِبِ الْخَمْرِ وَآكِلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَشَاهِدِ الزُّورِ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ - وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا - لَكِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْجَنَّةِ الْمَوْعُودِينَ بِهَا بِلَا عِقَابٍ . وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ : أَنَّ فُسَّاقَ أَهْلِ الْمِلَّةِ لَيْسُوا مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ كَمَا قَالَتْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَلَيْسُوا كَامِلِينَ فِي الدِّينِ وَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ ؛ بَلْ لَهُمْ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ يَسْتَحِقُّونَ بِهَذَا الْعِقَابَ وَبِهَذَا الثَّوَابَ ؛ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . (2)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - مُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (11721 ) صحيح
(2) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (2 / 184)(1/148)
متابعة الإمام في الصلاة
22-عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكِبَ فَرَسًا فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ فَصَلَّى لَنَا يَوْمًا صَلاَةً مِنَ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ قَاعِدٌ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا ثُمَّ قَالَ حِينَ سَلَّمَ : إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ , فَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا , وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا , وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا , وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا , وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا , وَإِذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا : رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. (1)
- الصرع : السقوط والوقوع -جحش : قشر جلده وانخدش - الشق : الجانب
وقال الطحاوي : " بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قَوْلِهِ فِي الْإِمَامِ: " إِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعِينَ "، هَلْ ذَلِكَ الْحُكْمُ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ، أَوْ قَدْ نُسِخَ بِوَفَاةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِغَيْرِهِ ؟
عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ ، فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا "
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ، وَأَبُو بَكْرٍ خَلْفَهُ، إِذَا كَبَّرَ رَسُولُ اللهِ، كَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُنَا، فَبَصُرَ بِنَا قِيَامًا، فَقَالَ: اجْلِسُوا، أَوْمَأَ بِذَلِكَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ: " كِدْتُمْ أَنْ تَفْعَلُوا فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ بِعُظَمَائِهِمْ، ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ، فَإِنْ صَلَّوْا قِيَامًا، فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِنْ صَلَّوْا جُلُوسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا "
وعن ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكِبَ فَرَسًا، فَصَرَعَهُ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ جَالِسٌ، فَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ جُلُوسًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا "
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 63) (66) وصحيح البخارى- المكنز - (732 ) ومسند أبي عوانة (1284)(1/149)
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: رَكِبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَسًا بِالْمَدِينَةِ، فَصَرَعَهُ عَلَى جِذْمِ نَخْلَةٍ، فَانْفَلَتَ فَرَسُهُ، فَأَتَيْنَا نَعُودُهُ، فَوَجَدْنَاهُ فِي مَشْرُبَةٍ لِعَائِشَةَ يُسَبِّحُ جَالِسًا، فَقُمْنَا خَلْفَهُ، فَسَكَتَ عَنَّا، ثُمَّ أَتَيْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى نَعُودُهُ، فَوَجَدْنَاهُ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ جَالِسًا، فَقُمْنَا خَلْفَهُ، فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا، فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ قَالَ: " إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا، وَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ قَائِمًا، فَصَلُّوا قِيَامًا، وَلَا تَفْعَلُوا كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ فَارِسَ بِعُظَمَائِهِمْ "
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَصَلَّيْنَا وَهُوَ قَاعِدٌ، وَأَبُو بَكْرٍ يُكَبِّرُ يُسْمِعُ النَّاسَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا، فَأَوْمَأَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ، فَلَا تَفْعَلُوا، ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ، فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ قَائِمًا، فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا، فَصَلُّوا قُعُودًا "
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِنْ صَلَّى قَائِمًا، فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِنْ صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعِينَ "
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّمَا الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ "
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ أَطَاعَ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا، فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا، فَصَلُّوا قُعُودًا "
وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: " أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ ؟ "، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ قَالَ: " أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ: أَنَّ مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ ؟ "، قَالُوا: بَلَى نَشْهَدُ أَنَّ مَنْ أَطَاعَكَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ قَالَ: " فَإِنَّ مِنْ طَاعَتِي أَنْ تُطِيعُوا أَئِمَّتَكُمْ، فَإِنْ صَلَّوْا قُعُودًا، فَصَلُّوا قُعُودًا " فَقَالَ قَائِلٌ: فَهَذِهِ الْآثَارُ قَدْ جَاءَتْ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَجِيئًا مُتَوَاتِرًا مِنْ وُجُوهٍ صِحَاحٍ مَقْبُولَةٍ، ثُمَّ قَدْ عَمِلَ بِهِ بَعْدَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، مِنْهُمْ: أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ(1/150)
كَمَا حَدَّثَنَا يُونُسُ، أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ شَكْوِهِ، فَأَمَرُوهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ فَيُصَلِّيَ بِهِمْ، فَقَالَ: " إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُصَلِّيَ قَائِمًا، فَصَلَّى قَاعِدًا، وَصَلَّوْا قُعُودًا " وَمِنْهُمْ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ
فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ " أَنَّهُ اشْتَكَى بِمَكَّةَ، ثُمَّ خَرَجَ بُعَيْدُ، فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ جُلُوسًا " فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ قَدْ رُوِّينَا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا ذَكَرَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ بَعْدَهَا خِلَافَ مَا اسْتَعْمَلَهُ فِيهَا فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ
وعَنْ أَرْقَمَ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: سَافَرْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ كَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، فَقَالَ: " ادْعُ لِي عَلِيًّا "، فَقَالَتْ: أَلَا نَدْعُو لَكَ أَبَا بَكْرٍ ؟ قَالَ: " ادْعُوهُ "، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: أَلَا نَدْعُو لَكَ عُمَرَ ؟، فَقَالَ: " ادْعُوهُ "، فَقَالَتْ أُمُّ الْفَضْلِ: أَلَا نَدْعُو لَكَ الْعَبَّاسَ ؟ قَالَ: " ادْعُوهُ "، فَلَمَّا حَضَرُوا رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: " لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ "، فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، وَوَجَدَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خِفَّةً، فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ سَبَّحُوا، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَأَخَّرُ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَكَانَكَ، فَاسْتَمَرَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ حَيْثُ انْتَهَى أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمٌ، وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ، فَائْتَمَّ أَبُو بَكْرٍ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلَاةَ حَتَّى ثَقُلَ، فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَإِنَّ رِجْلَيْهِ لَتَخُطَّانِ بِالْأَرْضِ، فَمَاتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ يَوْمٍ فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسًا، وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمٌ، وَالنَّاسُ أَيْضًا كَذَلِكَ
وعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ يَعْنِي ابْنَ عُتْبَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: أَلَا تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَتْ: بَلَى، كَانَ النَّاسُ عُكُوفًا فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسَ، فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الْأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ(1/151)
أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ، وَقَالَ لَهُمَا: " أَجْلِسَانِي جَنْبَهُ "، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قَائِمٌ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ "
فَكَانَ فِي هَذِهِ الْآثَارِ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَاعِدًا بِالنَّاسِ وَهُمْ قِيَامٌ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى نَسْخِ مَا كَانَ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْآثَارِ الْأُوَلِ . فَقَالَ قَائِلٌ: إِنَّ مَا كَانَ فِي هَذِهِ الْآثَارِ الَّتِي بَدَأْتَ بِذِكْرِهَا كَانَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مَأْمُومٌ لَا إِمَامٌ، وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ
عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ قَاعِدًا "
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، " أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ بُرْدٍ يُخَالِفُ بَيْنَ طَرَفَيْهِ، فَكَانَتْ آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا "
قَالَ: فَكَانَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَأَنَسٍ هَذَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ مَأْمُومًا لَا إِمَامًا . فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَوْلَى بِنَا فِي الْآثَارِ إِذَا وَقَعَ مِثْلُ مَا وَقَعَ فِي هَذَا أَنْ نَحْمِلَهَا عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَأَنْ نَصْرِفَ وُجُوهَهَا إِلَى مَا احْتَمَلَتْ صَرْفَهَا إِلَيْهِ، وَأَنْ لَا نَحْمِلَهَا عَلَى التَّضَادِّ وَالتَّبَايُنِ مَا وَجَدْنَا السَّبِيلَ إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ فِي حَدِيثِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ تِلْكَ الْأَيَّامَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِيهَا مُتَخَلِّفًا عَنِ الصَّلَاةِ لِمَرَضِهِ الْقَاطِعِ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَا كَانَ مِنْهُ فِي حَدِيثَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْأَسْوَدِ، وَعُبَيْدِ اللهِ، عَنْ عَائِشَةَ عَلَى صَلَاةٍ كَانَ مِنْهُ مَا كَانَ مِنْهُ فِيهَا وَهُوَ الْإِمَامُ، وَأَبُو بَكْرٍ مَأْمُومٌ . وَكَانَ الَّذِي فِي حَدِيثَيْ أَنَسٍ وَمَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى مِنْ تِلْكَ الصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّى بِهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَلَمَّا تَوَجَّهَ هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآثَارِ، عَقَلْنَا بِذَلِكَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ كَانَ صَلَّى لِلنَّاسِ جَالِسًا، وَكَانُوا خَلْفَهُ قِيَامًا، وَحَقَّقَ ذَلِكَ مَا فِي حَدِيثِ الْأَرْقَمِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِنْ أَخْذِهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ حَدِيثٍ كَانَ انْتَهَى إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ الْإِمَامُ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ عَلَيْهِ بِمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ انْتَهَى إِلَيْهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِيهَا، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا إِمَامًا لَا مَأْمُومًا ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يَقْرَأُ(1/152)
خَلْفَ الْإِمَامِ فِيمَا يُجْهَرُ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَتْ طَائِفَةٌ: يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ خَاصَّةً، وَفِي حَدِيثِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ جُلُوسَهُ كَانَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ جُلُوسَ الْإِمَامِ لَا جُلُوسَ الْمَأْمُومِ ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَادَ بِهِ إِلَى يَمِينِهِ، وَذَلِكَ مَقَامُ الْمَأْمُومِ لَا مَقَامُ الْإِمَامِ، وَكَانَ مَعْقُولًا بِجُلُوسِهِ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ لَا خَلْفَهُ، عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْإِمَامَةَ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ لَا الِائْتِمَامَ فِيهَا، وَلَوْ أَرَادَ الِائْتِمَامَ بِغَيْرِهِ لَجَلَسَ خَلْفَهُ كَمَا فَعَلَ فِي يَوْمَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، لَمَّا ذَهَبَ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ كما روي عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: فَحَدَّثَنِي بِمَا أَنْكَرْتُهُ - يَعْنِي أَبَا حَازِمٍ - قَالَ: حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ قَالَ: كَانَ قِتَالٌ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَتَاهُمْ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: " يَا بِلَالُ، إِنْ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَمْ آتِ، فَمُرْ أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ "، فَلَمَّا حَضَرَ الْعَصْرُ، وَلَمْ يَجِئْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَذَّنَ بِلَالٌ، ثُمَّ أَقَامَ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ تَقَدَّمْ، فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُصَفِّقُونَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَلْتَفِتْ، فَلَمَّا رَأَى التَّصْفِيقَ لَا يُمْسِكُ الْتَفَتَ، فَرَأَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ أَنِ امْكُثْ، فَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَقَدَّمَ , فَصَلَّى بِالْقَوْمِ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَوْمَأْتُ إِلَيْكَ ؟ "
قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَؤُمَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَقَالَ لِلْقَوْمِ: " إِذَا نَابَكُمْ فِي صَلَاتِكُمْ شَيْءٌ، فَالتَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ "
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، فَجَاءَتِ الصَّلَاةُ، فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: أَتُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَأُقِيمَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ، فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ، فَصَفَّقَ النَّاسُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ، الْتَفَتَ، فَرَأَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ أَنِ امْكُثْ مَكَانَكَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللهَ عَلَى مَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى بِالصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ ؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ(1/153)
رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمُ التَّصْفِيقَ، مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ، فَإِذَا سَبَّحَ الْتَفَتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ "
وقَالَ أَبُو حَازِمٍ : سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصْلِحُ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ , وَالتَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، فَمَنْ نَابَهُ مِنْ صَلَاتِهِ شَيْءٌ، فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللهِ " .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَفَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مَأْمُومًا فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ قَامَ مَقَامَ الْمَأْمُومِ، فَدَلَّ ذَلِكَ: أَنَّهُ كَانَ فِي صَلَاتِهِ فِي مَرَضِهِ لَمَّا أَمَرَهُمْ أَنْ يُقْعِدُوهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، كَانَ ذَلِكَ لِإِرَادَتِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْإِمَامَ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ لَا مَأْمُومًا فِيهَا، وَكَذَلِكَ كَانَ مِنْهُ لَمَّا كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ،فعَنِ ابْنِ سِيرِينَ، يَرْفَعُهُ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ السَّحَرِ، أَنَاخَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَاحِلَتَهُ، ثُمَّ نَزَلَ فَتَوَارَى عَنِّي قَدْرَ مَا يَقْضِي الرَّجُلُ حَاجَتَهُ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ لِي: " أَمَعَكَ مَاءٌ ؟ "، قُلْتُ: نَعَمْ، إِدَاوَةٌ أَوْ سَطِيحَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ لَهُ شَامِيَّةٌ، فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَهُ مِنْهَا، فَضَاقَ كُمَّا الْجُبَّةِ، فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ، وَرُبَّمَا رَمَى بِالْجُبَّةِ عَنْ يَدَيْهِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ، وَمَسَحَ عِمَامَتَهُ، وَدَلَكَ النَّاصِيَةَ بِشَيْءٍ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ رَكِبْنَا فَأَدْرَكَ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَؤُمُّهُمْ، وَقَدْ صَلَّى رَكْعَةً، فَذَهَبْتُ لِأُوذِنَهُ، فَنَهَانِي، وَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ رَكْعَةً، وَقَضَيْنَا الرَّكْعَةَ الَّتِي سُبِقْنَا بِهَا "
وعَنِ الشَّعْبِيِّ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا فِي مَسِيرٍ، فَقَرَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ظَهْرِي بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ، فَذَهَبْتُ مَعَهُ، فَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا ثَنِيَّةً مِنَ الْأَرْضِ، فَنَزَلَ، فَانْطَلَقَ حَتَّى تَوَارَى عَنِّي، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: " أَمَعَكَ مَاءٌ ؟ " قَالَ: وَمَعِي سَطِيحَةُ مَاءٍ، فَأَفْرَغْتُ مِنْهَا عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَهُمَا، وَغَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ، فَأَدْرَكَنَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَقَدْ أَمَّ النَّاسَ، وَصَلَّى رَكْعَةً، فَذَهَبْتُ لِأُوذِنَهُ، فَمَنَعَنِي، وَصَلَّيْنَا مَا أَدْرَكْنَا، وَقَضَيْنَا مَا سُبِقْنَا ".(1/154)
أَفَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مَأْمُومًا فِيهَا قَامَ مَقَامَ الْمَأْمُومِ، وَلَمْ يَتَجَاوَرْ إِلَى جَنْبِ الْإِمَامِ، فَدَلَّ ذَلِكَ: أَنَّ مَا كَانَ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ جُلُوسِهِ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَؤُمُّ النَّاسَ فِيهَا، أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْإِمَامَ فِيهَا، وَمَا فِي حَدِيثِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، وَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، عَنْ صَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ، فَذَلِكَ عِنْدَنَا - وَاللهُ أَعْلَمُ - فِي صَلَاةٍ أُخْرَى - وَاللهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ تِلْكَ الْأَيَّامَ، فَدَلَّ ذَلِكَ: أَنَّهُ كَانَ صَلَّى بِهِمْ صَلَوَاتٍ لَهَا عَدَدٌ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ صَلَّى بَعْضَهَا خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، وَبَعْضَهَا بِأَبِي بَكْرٍ وَبِالنَّاسِ، حَتَّى تَتَّفِقَ الْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُضَادَّ شَيْءٌ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِنَّ فِيمَا قَدْ بَيَّنَّا مِنْ إِمَامَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسًا وَالنَّاسُ قِيَامٌ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَزُفَرُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ فِي إِجَازَةِ إِمَامَةِ الْقَاعِدِ الَّذِي يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ لِلْقَائِمِينَ الَّذِينَ يَرْكَعُونَ وَيَسْجُدُونَ ؛ لِأَنَّ الْقُعُودَ الَّذِي فِيهِ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ لَمَّا كَانَ بَدَلًا عَنِ الْقِيَامِ كَانَ الْبَدَلُ كَالْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَكَانَ فَاعِلُ الْبَدَلِ كَفَاعِلِ الْمُبْدَلِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لِأَهْلِهِ، هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يَذْهَبَانِ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا يَؤُمَّ قَاعِدٌ قَائِمًا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَيَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ خَاصًّا لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ ذَلِكَ سِوَاهُ . وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخُصَّ شَيْئًا كَانَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا بِمَا يُوجِبُ لَهُ مِنْ تَوْقِيفٍ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ عَلَيْهِ، وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ" (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (14 / 305) (5634-5654)(1/155)
فضل التهجير للجمعة
23-عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ، أَخْبَرَهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : مَثَلُ الَّذِي يُهَجِّرُ إِلَى الصَّلاَةِ يَعْنِي الْجُمُعَةَ كَمَثَلِ الَّذِي يَهْدِي النَّاقَةَ , ثُمَّ الَّذِي عَلَى إِثْرِهِ كَالَّذِي يَهْدِي الْبَقَرَةَ , ثُمَّ الَّذِي عَلَى إِثْرِهِ كَالَّذِي يَهْدِي الْكَبْشَ , ثُمَّ الَّذِي عَلَى إِثْرِهِ كَالَّذِي يَهْدِي الدَّجَاجَةَ , ثُمَّ الَّذِي عَلَى إِثْرِهِ كَالَّذِي يَهْدِي الْبَيْضَةَ." (1)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلاَئِكَةٌ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ فَإِذَا جَلَسَ الإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ وَجَاءُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ فَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ كَالَّذِى يُهْدِى بَدَنَةً ثُمَّ كَالَّذِى يُهْدِى بَقَرَةً ثُمَّ كَالَّذِى يُهْدِى الْكَبْشَ ثُمَّ كَالَّذِى يُهْدِى الدَّجَاجَةَ ثُمَّ كَالَّذِى يُهْدِى الْبَيْضَةَ ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ " (3)
راح في الساعة الأولى : قال الخطابي : قال مالك بن أنس : الرواح لا يكون إلا بعد الزوال ، فحينئذ لا تكون هذه الساعات التي عددها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث إلا في ساعة واحدة من يوم الجمعة ، وهي بعد الزوال، كقولك : قعدت عندك ساعة ، إنا تريد
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 66) (74) والمعجم الأوسط للطبراني - (3777 ) صحيح
(2) - المسند الجامع - (16 / 1472) (13107) وصحيح مسلم- المكنز - (2021) وسنن النسائي- المكنز - (872) والسنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (5 / 229)(10446 ) والسنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (10 / 84) (20637)
(3) - شعب الإيمان - (4 / 410)(2733 ) وصحيح ابن حبان - (7 / 13) (2775)وصحيح البخارى- المكنز - (881 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2001)(1/156)
جزءا من الزمان ، وإن لم تكن ساعة من النهار حقيقة التي هي جزء من أربعة وعشرين جزءا ، قال : وقيل : معناه : أنه أراد بالرواح : المضي إلى الجمعة بعد طلوع الشمس وما بعدها إلى ما بعد الزوال ، فإن الصلاة ،وإن كانت لاتصلى إلا بعد الزوال ، فإنه قد جعل القصد إليها رواحا ، وزعم بعضهم : أن الرائح :هو الخارج عن أهله ، وكل من خرج في وقت من الأوقات فقد راح ،وعلى هذا يقولون : إذا أرادوا الرحيل أي وقت كان في ليل أو نهار : الرواح الرواح ، و الأصل في الرواح الأول ، وإن جاز هذا المعنى فعلى المجاز.
قرب بدنة : البدنة : مايهدى إلى بيت الله الحرام من الإبل والبقر وقيل :من الإبل خاصة ، أي :كأنما أهدى ذلك إلى الله عز وجل ، وأما جعله الدجاجة والبيضة من الهدي وليسا بهدي إجماعا ، فإنما حمله على ماقبله تشبيها به وأعطاه حكمه مجازا ، وإلا فالهدي لايكون إلا بقرة أو بدنة ، والشاة فيها خلاف.
كبش أقرن : له قرنان.
المهجر : هو الذي يمشى إلى الصلاة في أول وقتها.
الجزور : البعير ،ويقع على الذكر والأنثى. (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - جامع الأصول في أحاديث الرسول - (9 / 426)(1/157)
ثلاث لا بد أن تكون في قلب كل مؤمن
24-عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ثَلاَثٌ لاَ يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ : إِخْلاَصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ , وَمُنَاصَحَةُ وُلاَةِ الأَمْرِ , وَلُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ." (1)
هذا الحديث متواتر فقد روي من طرق كثيرة وهذه بعضها :
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبٌ مُؤْمِنٌ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أُولِي الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ" (2)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ : نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي هَذِهِ ، ثُمَّ وَعَاهَا وَحَمَلَهَا ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ، ثَلاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ : إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ ، وَمُنَاصَحَةُ وُلاةِ الأُمُورِ ، وَالاعْتِصَامُ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ." (3)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرٍ ، قَالَ : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْخَيْفِ ، فَقَالَ : نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لاَ فِقْهَ لَهُ ، وَرَبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ، ثَلاثٌ لاَ يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ : إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ ، وَالطَّاعَةُ لِذَوِي الأَمْرِ ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ "
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى ، فَقَالَ : نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لاَ فِقْهَ لَهُ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ، ثَلاثٌ لاَ يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ :
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 71) (87) متواتر
(2) - شعب الإيمان - (10 / 20) (7108 ) صحيح
(3) - الفوائد لتمام 414 - (1 / 7) (9) صحيح لغيره(1/158)
إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ ، وَالنَّصِيحَةُ لأُولِي الأَمْرِ ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تَكُونُ مِنْ وَرَائِهِمْ "
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ وَهُوَ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى : رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لاَ فِقْهَ لَهُ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ثَلاثٌ لاَ يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ : إِخْلاصُ الْعَمَلِ ، وَمُنَاصَحَةُ ذَوِي الأَمْرِ ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تَكُونُ مِنٍ وَرَائِهِمْ " (1)
وعَنْ مُحَمَّدِ بن جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ بِالْخَيْفِ خَيْفِ مِنًى : نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَها وَوَعَاهَا وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لا فِقْهَ لَهُ وَرُبُّ حَامِلِ فِقْهٍ ، إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ، ثَلاثٌ لا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ : إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالنَّصِيحَةُ لأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ ، تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ "
وعَنْ مُحَمَّدِ بن جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِخَيْفِ مِنًى ، يَقُولُ : نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا ، سَمِعَ مَقَالَتِي ، فَحَفِظَها ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى ، مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لا فِقْهَ لَهُ ، وَرُبُّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ، ثَلاثٌ لا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ : إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ ، وَطَاعَةُ ذَوِي الأَمْرِ ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تَكُونُ مِنْ وَرَائِهِمْ ."
وعَنْ مُحَمَّدِ بن جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْخَيْفِ ، قَالَ : نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا ، سَمِعَ مَقَالَتِي ، فَوَعَاهَا ، وأَدَّاها ، إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَرُبُّ حَامِلِ ، فِقْهٍ لا فِقْهَ لَهُ ، وَرُبُّ حَامِلِ فِقْهٍ ، إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ، ثَلاثٌ لا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ : إِخْلاصُ
__________
(1) - المستدرك للحاكم (294-296) صحيح - قال :وَفِي الْبَابِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عُمَرُ ، وَعُثْمَانُ ، وَعَلِيٌّ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَأَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَغَيْرُهُمْ عِدَّةٌ وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مِنْ شَرْطِ الصَّحِيحِ(1/159)
الْعَمَلِ لِلَّهِ ، وَالطَّاعَةُ لِذَوِي الأَمْرِ ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ ." (1)
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَ امْرِئٍ سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَمَلَهَا ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ثَلاثٌ لاَ يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ : إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَمُنَاصَحَةُ وُلاةِ الأَمْرِ ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ " (2)
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " رَحِمَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ " (3)
وعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ مِنْ مِنًى، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: " نَضَّرَ اللهُ أَمْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ، ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِلْأَئِمَّةِ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ " (4)
وعَنْ شَيْبَةَ بن عُثْمَانَ، قَالَ: صَلَّى بنا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ، فَقَالَ:"ثَلاثٌ لا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ: إِخْلاصُ الْعَمَلِ، وَالنُّصْحُ لأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ". (5)
وعَنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ كَلامِي، ثُمَّ لَمْ يَزِدْ فِيهِ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى أَوْعَى مِنْهُ"
"ثَلاثٌ لا يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ: إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالْمُنَاصَحَةُ لأُولِي الأَمْرِ، وَالاعْتِصَامُ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ وَرَاءَهُمْ" (6)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (2 / 164) (1522-1524) وسنن ابن ماجه- المكنز - (3172 ) صحيح
(2) - المستدرك للحاكم (297) صحيح
(3) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (1 / 398) (1115 ) صحيح
(4) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (2 / 1101) (2777 ) صحيح لغيره
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (6 / 459) (7044) صحيح
(6) - المعجم الكبير للطبراني - (14 / 488) (16581 و16582) صحيح لغيره(1/160)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِى فَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ،ثَلاَثٌ لاَ يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِخْلاَصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالنُّصْحُ لأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ ». (1)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِى فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ. ثَلاَثٌ لاَ يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ إِخْلاَصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومِ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ » (2) .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِيَ فَوَعَاهَا وَبَلَّغَهَا غَيْرَهُ , فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ , وَرَبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ , ثَلاَثٌ لاَ يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ الْمُؤْمِنُ : إِخْلاَصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ , وَمُنَاصَحَةُ الْمُسْلِمِينَ , وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ , فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تَأْتِي مِنْ وَرَاءِهِمْ , وَقَالَ : يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ , فَمَنْ شَذَّ عَنْ يَدِ اللَّهِ لَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شُذُوذُهُ" (3)
لا يغل : من الغل والإغلال وهو الخيانة في كل شيء ، والمعنى أن هذه الثلاث تستصلح بها القلوب فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدغل والشر
( لَا يَغُلّ ) مِنْ غَلَّ إِذَا خَانَ أَوْ مِنْ غَلَّ يَغِلّ بِالْكَسْرِ إِذَا صَارَ ذَا حِقْد وَعَدَاوَة وَعَلَيْهِنَّ فِي مَوْضِع الْحَال أَيْ ثَلَاث لَا يَحْوِي قَلْب الْمُؤْمِن وَلَا يَدْخُل فِيهِ الْحِقْد كَائِنًا عَلَيْهِنَّ أَيْ دَوَام الْمُؤْمِن عَلَى هَذِهِ الْخِصَال لَا يَدْخُل فِي قَلْبه خِيَانَة أَوْ حِقْد يَمْنَعهُ مِنْ تَبْلِيغ الْعِلْم أَيْ فَيَنْبَغِي لَهُ الثَّبَات عَلَى هَذِهِ الْخِصَال (4)
وقال ابن تيمية : " قَالَ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ فَقِيهَيْ الصَّحَابَةِ : عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ { ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ
__________
(1) - أخرجه ابن ماجه ( 235 ) وأبو داود (3662 ) صحيح
(2) - سنن الترمذى ( 2870 ) صحيح
(3) - مسند الشاميين( 1302) صحيح
(4) - حاشية السندي على ابن ماجه - (6 / 111)(1/161)
، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ } وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَحْفُوظِ : { إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا : أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ } . فَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ ؛ إخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَلُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ تَجْمَعُ أُصُولَ الدِّينِ وَقَوَاعِدَهُ وَتَجْمَعُ الْحُقُوقَ الَّتِي لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ ، وَتَنْتَظِمُ مَصَالِحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُقُوقَ قِسْمَانِ : حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِعِبَادِهِ ، فَحَقُّ اللَّهِ أَنْ نَعْبُدَهُ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ، كَمَا جَاءَ لَفْظُهُ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ ؛ وَهَذَا مَعْنَى إخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ . وَحُقُوقُ الْعِبَادِ قِسْمَانِ : خَاصٌّ وَعَامٌّ ؛ أَمَّا الْخَاصُّ فَمِثْلُ بِرِّ كُلِّ إنْسَانٍ وَالِدَيْهِ ، وَحَقِّ زَوْجَتِهِ وَجَارِهِ ؛ فَهَذِهِ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ قَدْ يَخْلُو عَنْ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ مَصْلَحَتَهَا خَاصَّةٌ فَرْدِيَّةٌ . وَأَمَّا الْحُقُوقُ الْعَامَّةُ فَالنَّاسُ نَوْعَانِ : رُعَاةٌ وَرَعِيَّةٌ ؛ فَحُقُوقُ الرُّعَاةِ مُنَاصَحَتُهُمْ ؛ وَحُقُوقُ الرَّعِيَّةِ لُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ ؛ فَإِنَّ مَصْلَحَتَهُمْ لَا تَتِمُّ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ ، وَهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ ؛ بَلْ مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فِي اجْتِمَاعِهِمْ وَاعْتِصَامِهِمْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ؛ فَهَذِهِ الْخِصَالُ تَجْمَعُ أُصُولَ الدِّينِ . وَقَدْ جَاءَتْ مُفَسَّرَةً فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ تَمِيمٍ الداري قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا : لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } . فَالنَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ تَدْخُلُ فِي حَقِّ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَالنَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ هِيَ مُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ ، فَإِنَّ لُزُومَ جَمَاعَتِهِمْ هِيَ نَصِيحَتُهُمْ الْعَامَّةُ ، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ الْخَاصَّةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ ، فَهَذِهِ يُمْكِنُ بَعْضُهَا وَيَتَعَذَّرُ اسْتِيعَابُهَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ" (1) .
ــــــــــــــــ
__________
(1) - مجموع الفتاوى لابن تيمية - (1 / 18)(1/162)
المقام المحمود للرسول - صلى الله عليه وسلم -
25-عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَاهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ : يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً , كَهَيْئَتِهِمْ يَوْمَ وُلِدُوا وَقَدْ هَالَهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ , وَكَظَمَهُمُ الْكَرْبُ الْعَظِيمُ وَبَلَغَ الرَّشْحُ أَفْوَاهَهُمْ وَبَلَغَ بِهِمُ الْجَهْدُ وَالشِّدَّةُ , فَأَكُونُ أَوَّلَ مَدْعُوٍّ وَأَوَّلَ مُعْطًى , ثُمَّ يُدْعَى إِبْرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم - فَيُكْسَى ثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ مِنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُؤْمَرُ فَيَجْلِسُ بِي قِبَلَ الْكُرْسِيِّ وَأَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْكُرْسِيِّ فَمَا مِنَ الْخَلاَئِقِ قَائِمٌ غَيْرِي فَأَتَكَلَّمُ فَيَسْمَعُونَ وَأَشْهَدُ فَيُصَدِّقُونَ فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَكَانَتْ شَدِيدَةَ الْحَيَاءِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَمَكْرُوبَةٌ لِشِدَّةِ حَيَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمَ , قَالَ : {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} قَالَ لَهُ الأَنْصَارِيُّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الْحَوْضُ الَّذِي قَالَ حَوْضُكَ ؟ قَالَ هُوَ خَلِيجٌ مِنَ الْكَوْثَرِ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْكَوْثَرُ ؟ قَالَ : نَهَرٌ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ عَرْضُهُ مَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَعَدَنٍ , قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَهُ حَالٌ أَوْ طِينٌ قَالَ : نَعَمْ وَحَالُهُ الْمِسْكُ الأَبْيَضُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَهُ رَضْرَاضٌ وَحَصَا ؟ قَالَ : نَعَمْ رَضْرَاضُهُ الْجَوْهَرُ وَحَصَاهُ اللُّؤْلُؤُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَهُ شَجَرٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ حَافَّتَاهُ قُضْبَانُ ذَهَبٍ رَطْبَةٍ شَارِعَةٍ عَلَيْهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُنْبِتُ الْقُضْبَانُ ثِمَارًا ؟ قَالَ : نَعَمْ تُنْبِتُ أَصْنَافَ الْيَاقُوتِ الأَحْمَرِ وَالزَّبَرَّجَدِ الأَخْضَرِ مَعَ أَكْوَابٍ وَآنِيَةٍ وَأَقْدَاحٍ تَسْعَى إِلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ بِهَا مَنْثُورَةٌ فِي وَسَطِهِ كَأَنَّهَا الْكَوَاكِبُ " (1)
وقال تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (79) سورة الإسراء
وقوله( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) وعسى من الله واجبة، وإنما وجه قول أهل العلم: عسى من الله واجبة، لعلم المؤمنين أن الله لا يدع أن يفعل بعباده ما أطمعهم فيه من الجزاء على أعمالهم والعوض على طاعتهم إياه ليس من صفته الغرور، ولا شكّ أنه قد
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 76) (95) صحيح لغيره(1/163)
أطمع من قال ذلك له في نفعه، إذا هو تعاهده ولزمه، فإن لزم المقول له ذلك وتعاهده ثم لم ينفعه، ولا سبب يحول بينه وبين نفعه إياه مع الأطماع الذي تقدم منه لصاحبه على تعاهده إياه ولزومه ، فإنه لصاحبه غارّ بما كان من إخلافه إياه فيما كان أطمعه فيه بقوله الذي قال له. وإذ كان ذلك كذلك، وكان غير جائز أن يكون جلّ ثناؤه من صفته الغرور لعباده صحّ ووجب أن كلّ ما أطمعهم فيه من طمع على طاعته، أو على فعل من الأفعال، أو أمر أو نهى أمرهم به، أو نهاهم عنه، فإنه موف لهم به، وإنهم منه كالعدة التي لا يخلف الوفاء بها، قالوا: عسى ولعلّ من الله واجبة.
وتأويل الكلام: أقم الصلاة المفروضة يا محمد في هذه الأوقات التي أمرتك بإقامتها فيها، ومن الليل فتهجد فرضا فرضته عليك، لعل ربك أن يبعثك يوم القيامة مقاما تقوم فيه محمودا تحمده، وتغبط فيه.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى ذلك المقام المحمود، فقال أكثر أهل العلم: ذلك هو المقام الذي هو يقومه - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدّة ذلك اليوم.
* ذكر من قال ذلك:
فعن حُذيفة، قال: يجمع الناس في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، حفاة عراة كما خُلقوا، قياما لا تكلَّم نفس إلا بإذنه، ينادى: يا محمد، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، والشرّ ليس إليك، والمهديّ من هَدَيت، عبدك بين يديك، وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، تبارك وتعاليت، سبحانك ربّ هذا البيت ؛ فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله تعالى.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زُفر، عن حُذيفة، قال: يُجْمع الناس في صعيد واحد. فلا تكَلَّم نفس، فأوّل ما يدعو محمد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، فيقوم محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقول: لبيك، ثم ذكر مثله.(1/164)
حدثنا سليمان بن عمرو بن خالد الرقي، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن رشدين بن كريب، عن أبيه عن ابن عباس، قوله( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال: المقام المحمود: مقام الشفاعة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، قال: ثنا أبو الزعراء، عن عبد الله في قصة ذكرها، قال: ثم يؤمر بالصراط فيضرب على جسر جهنم، فيمرّ الناس بقدر أعمالهم ؛ يمرّ أولهم كالبرق، وكمرّ الريح، وكمرّ الطير، وكأسرع البهائم، ثم كذلك حتى يمرّ الرجل سعيا، ثم مشيا، حتى يجيء آخرهم يتلبَّط على بطنه، فيقول: ربّ لما أبطأت بي، فيقول : إني لم أبطأ بك، إنما أبطأ بك عملك، قال: ثم يأذن الله في الشفاعة، فيكون أوّل شافع يوم القيامة جبرائيل عليه السلام، روح القُدس، ثم إبراهيم خليل الرحمن، ثم موسى، أو عيسى قال أبو الزعراء: لا أدري أيهما قال، قال: ثم يقوم نبيّكم - صلى الله عليه وسلم - رابعا، فلا يشفع أحد بعده فيما يشفع فيه، وهو المقام المحمود الذي ذكر الله( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) .
وعن الحسن في قول الله تعالى( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال: المقام المحمود: مقام الشفاعة يوم القيامة.
وعن مجاهد، في قول الله تعالى( مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال: شفاعة محمد يوم القيامة.
وعن أبي عثمان، عن سلمان، قال: هو الشفاعة، يشفعه الله في أمته، فهو المقام المحمود.
وعن قتادة، قوله( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) وقد ذُكر لنا أن نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - خير بين أن يكون نبيّا عبدا، أو ملكا نبيّا، فأومأ إليه جبرائيل عليه السلام: أن تَوَاضَعْ، فاختار نبيّ الله أن يكون عبدا نبيّا، فأُعْطِي به نبيّ الله ثنتين: إنه أوّل من تنشقّ عنه الأرض، وأوّل شافع. وكان أهل العلم يَرَوْن أنه المقام المحمود الذي قال الله تبارك وتعالى( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) شفاعة يوم القيامة.
وعن قتادة( مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال : هي الشفاعة، يشفِّعه الله في أمته.
وعن صلة بن زُفَر، قال: سمعت حُذيفة يقول في قوله( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال: يجمع الله الناس في صعيد واحد حيث يُسْمعهم الداعي، فَيَنْفُذُهم البصر(1/165)
حُفاة عُراة، كما خُلِقوا سكوتا لا تكلَّم نفس إلا بإذنه، قال: فينادَى محمد، فيقول: لَبَّيك وسَعْديك، والخيرُ في يديك، والشرّ ليس إليك، والمهديّ من هَدَيت، وعبدُك بين يديك، ولك وإليك، لا ملْجَأَ ولا منجَى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك ربّ البيت، قال: فذلك المقامُ المحمودُ الذي ذكر الله( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) .
وعن صلة بن زُفَر، قال حُذيفة: يجمع الله الناس في صعيد واحد، حيث يَنْفُذُهم البصر، ويُسْمعهم الداعي، حُفاة عُراة كما خُلقوا أوّل مرّة، ثم يقوم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيقول: "لبيك وسعديك"، ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال: هو المقام المحمود.
وقال آخرون: بل ذلك المقام المحمود الذي وعد الله نبيّه أن يبعثه إياه، هو أن يقاعده معه على عرشه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي، قال: ثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، في قوله( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال: يُجْلسه معه على عرشه. (1)
وأولى القولين في ذلك بالصواب ما صحّ به الخبر عن رسول الله.
فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) سئل عنها، قال: "هِىَ الشَّفاعَةُ".
وعن أبي هريرة ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال: "هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي".
وعن كعب بن مالك، أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ فَيَكْسُونِي رَبِّي حُلَّةً خَضْرَاءَ ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي ، فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ ، فَذَاكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ".
وعن عبيد الله بن أبي جعفر، أنه قال: سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر يقول: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الشَّمْسَ لتَدْنُو حَتَّى يَبْلُغَ
__________
(1) - لا يصح بحال عن مجاهد ،كما أنه مقطوع ومخالف للمتواتر وللوارد عن مجاهد بسند صحيح فلا يجوز القول به(1/166)
الْعَرَقُ نِصْفَ الأذُنِ ، فَبَيْنَما هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ، فَيَقُولُ لَسْتُ صَاحِبَ ذَلِكَ ثُمَّ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ، فَيَقُولُ كَذلكَ ، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ فَيَشْفَعُ بين الخلق حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْجنة فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا".
وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لأقُومُ المَقَامَ المَحْمُودَ" فقال رجل: يا رسول الله، وما ذلك المقام المحمود؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذَاكَ إِذَا جِيءَ بِكُمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلام ، فَيُؤْتَى بِرَيْطَتَيْنِ بَيْضَاوَيْنِ ، فَيَلْبِسْهُمَا ، ثُمَّ يَقْعُدُ مُسْتَقْبِلَ الْعَرْشِ ، ثُمَّ أُوتَى بِكِسْوَتِي فَأَلْبَسُهَا ، فَأَقُومُ عَنْ يَمِينِهِ مَقَامًا لا يَقُومُهُ غَيْرِي يَغْبِطُنِي فِيهِ الأوَّلُونَ وَالآخِرُونَ ، ثُمَّ يُفْتَحُ نَهَرٌ مِنْ الْكَوْثَرِ إِلَى الْحَوْضِ " .
وعن عليّ بن الحسين، أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ مَدَّ الله الأرضَ مَدَّ الأدِيمِ حتى لا يَكُونَ لِبَشَر مِنَ النَّاسِ إلا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: فَأَكُونُ أوَّلَ مَنْ يُدْعَى وجَبْرَائِيل عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، والله ما رآهُ قَبْلَها، فَأَقُولُ: أيْ ربّ إنَّ هذَا أخْبَرَنِي أنَّك أرْسَلْتَهُ إليَّ، فَيَقُولُ الله عَزَّ وجَلَّ: صَدَقَ، ثُمَّ أَشْفَعُ، قال: فَهُوَ المَقامُ المَحْمُودُ".
وعن عليّ بن الحسين، قال : قال النبيّ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ"، فذكر نحوه، وزاد فيه: "ثُمَّ أشْفَعُ فَأَقُولُ: يا ربّ عِبادُكَ عَبَدُوكَ في أطْرافِ الأرْضِ، وَهُوَ المَقامُ المَحْمُودُ".
وعن عليّ، قال: سمعت ابن عمر يقول: إن الناس يحشرون يوم القيامة، فيجئ مع كلّ نبيّ أمته، ثم يجيء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الأمم هو وأمته، فيرقى هو وأمته على كَوم فوق الناس، فيقول: يا فلان اشفع، ويا فلان اشفع، ويا فلان اشفع، فما زال يردّها بعضهم على بعض يرجع ذلك إليه، وهو المقام المحمود الذي وعده الله إياه.
وعن كعب بن مالك، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلّ ، فَيَكْسُونِي رَبِي عَزَّ وَجَلَّ حُلَّةً خَضْرَاءَ ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ ، فَذَاكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ". (1)
__________
(1) - تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة - (17 / 526)(1/167)
" وفى قوله تعالى : « وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً » ـ دعوة خاصة إلى النبي الكريم ، أن يتهجّد بالقرآن .. إلى جانب إقامة الصلاة المفروضة .. وقد كانت تلاوة القرآن هى عبادة النبىّ فى أول الدعوة ، حيث جاء أمر اللّه سبحانه وتعالى إليه بقوله : « يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا .. » فلما فرضت الصلاة ، ظلت تلاوة القرآن فريضة واجبة على النبىّ ، مندوبة ، للمؤمنين ..
والتهجّد : اليقظة بالليل بعد النوم ..
ومن الليل : أي من بعض الليل ، لا كلّه .. فحرف الجرّ « من » للتبعيض.
والنافلة : الزيادة ، على المطلوب ..
فالنبىّ - صلى الله عليه وسلم - ، مطالب فى هذا ، بما لم تطالب به أمته ، وهو أن يقوم من الليل ، بعد أن ينزع عنه لباس النوم ، وأن يصحب القرآن معه ،يصلّى به ما شاء اللّه له أن يصلّى .. وذلك واجب عليه هو ، مندوب لأمّته ..
ـ وفى قوله تعالى : « عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً » شرح لصدر النبىّ ، وإغراء له بهذا التهجّد الذي تحمل فيه النفس ما تحمل من عناء ومشقة ، فذلك قليل فى سبيل مرضاة اللّه سبحانه ، والقرب منه ، والفوز بالمقام المحمود عنده ..
والمقام المحمود ، هو مجمع المحامد كلّها ، حيث لا يناله إلا من جمع المحامد جميعها ..
وفى التعبير عن الرفع إلى المقام المحمود ، وإحلال النبىّ به ـ فى التعبير عنه بالبعث ، إشعار بأنّ هذا المقام هو مرتبة لن تصل إليها البشرية ، إذ لم تؤهلها لها طبيعتها .. فالإنسان الذي ينال هذا المقام كأنما خلق خلقا جديدا. وانسلخ انسلاخا يكاد يكون تامّا عن طبيعة البشر ..! وهذا هو سرّ من أسرار تصدير هذا الوعد الكريم من ربّ العالمين بفعل الرجاء « عسى » ليظل النبي ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ متطلعا إلى هذا المقام ، طامعا فيه ، راجيا أن يبلغه .. وقد بلغه ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ كما أخبر اللّه سبحانه وتعالى بقوله : « وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى » ولا يتحقق رضاه ـ صلوات اللّه وسلامه(1/168)
عليه ـ إلا إذا تحقق له هذا الرجاء ، الذي تعلّقت به نفسه ، وهو أن يبعثه ربّه مقاما محمودا .. " (1)
وقال البيهقي :
" وَقَدْ وَرَدَ عَنْ سَيِّدِنَا الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - فِي إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ وَإِخْرَاجِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنَ النَّارِ وَإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ صريحة قَدْ صَارَتْ مِنَ الِاسْتفَاضَةِ، وَالشُّهْرَةِ بِحَيْثُ قَارَنتِ الْأَخْبَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ، وَكَذَلِكَ فِي مَغْفِرَةِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ دُونَ الشِّرْكِ مِنْ غَيْرِ تَعْذِيبٍ فَضْلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً، وَاللهُ وَاسِعٌ كَرِيمٌ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:" وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْأَخْبَارَ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَنَحْنُ نُشِيرُ هَهُنَا إِلَى طَرَفٍ مِنْهَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [الإسراء: 79] وَرُوِّينَا فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الشَّفَاعَةِ وَكَذَلِكَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ
فعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ، سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " تُمَدُّ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِعَظَمَةِ الرَّحْمَنِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَلَا يَكُونُ فِيهَا لِأَحَدٍ إِلَّا مَوْضِعُ قَدَمِهِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُدْعَى فَأَجِدُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا رَأَى اللهُ قَبْلَهَا قَالَ: فَأَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ هَذَا جَاءَنِي فَزَعَمَ أَنَّكَ أَرْسَلْتَهُ إِلَيَّ قَالَ وَجِبْرِيلُ سَاكِتٌ قَالَ فَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: صَدَقَ أَنَا أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكَ حَاجَتَكَ ؟ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ إِنِّي تَرَكْتُ عِبَادًا مِنْ عِبَادِكَ قَدْ عَبَدُوكَ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ، وَذَكَرُوكَ فِي شُعَبِ الْآكَامِ يَنْتَظِرُونَ جَوَابَ مَا أَجِيءُ بِهِ مِنْ عِنْدِكَ، فَيَقُولُ: أَمَا إِنِّي لَا أَخْزِيكَ فِيهِمْ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [الإسراء: 79] " رَوَاهُ جَمَاعَةٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: " وَتَمَامُهُ فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الشَّفَاعَةِ، وَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } [الضحى: 5] "
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (8 / 533)(1/169)
وَرُوِّينَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَلَا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } [إبراهيم: 36]، وَقَالَ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } [المائدة: 118] الْآيَةَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: " اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي، وَبَكَى قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ "
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَرُوِّينَا عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي " فَذَكَّرَهُنَّ، وَقَالَ فِيهِنَّ: " وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ "
وعَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ فَذَكَرَهُ، وَهُوَ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً قَدْ دَعَا بِهَا فِي أُمَّتِهِ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي " رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَوَاهُ أَيْضًا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَقِيلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قِصَّةِ الْقِرَاءَةِ .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: " وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي " وَتَأْخِيرِ الدَّعْوَةِ الثَّالِثَةِ إِلَى يَوْمِ يَرْغَبُ إِلَيْهِ فِيهِ الْخَلْقُ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ "
وعن أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَبَعًا يَجِيءُ النَّبِيُّ، وَلَيْسَ مَعَهُ مُصَدِّقٌ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ أَوْجُهٍ أُخَر
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: " وَقَدْ رُوِّينَا فِي مَعْنَاهُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - " وَهَذَا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُخْتَصُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْجَمْعِ حَتَّى يُرِيحَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ مَكَانِهِمِ الَّذِي أُقِيمُوا فِيهِ، ثُمَّ يُشَارِكُ(1/170)
غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالصِّدِّيقِينَ فِي الشَّفَاعَةِ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ مَخْصُوصٌ أَيْضًا مِنْ بَيْنَهُمْ بِالشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ "
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يُجْمَعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْتَمُّونَ لذلك فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا فَيَأْتُونَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، وَلَكِنِ ايتُوا نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَأْتُونَ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، وَلَكِنِ ايتُوا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطَايَاهُ، وَلَكِنِ ايتُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَبْدًا آتَاهُ اللهُ التَّوْرَاةَ، وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا فَيَأْتُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، وَلَكِنِ ايتُوا عِيسَى عليه السلام عَبْدَ اللهِ وَرَسُولَهُ، وَكَلِمَةَ اللهِ وَرُوحَهُ فَيَأْتُونَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَلَكِنِ ايتُوا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ عَبْدًا غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِي فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَيُؤْذَنَ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ اشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَرْجِعُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَرْجِعُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ تُسْمَعُ وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ اشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ حَتَّى أَرْجِعَ فَأَقُولُ يَا رَبِّ مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ أَي وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ .(1/171)
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: " يَجْمَعُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيَسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ، وَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُونَ " ثُمَّ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: " وَهَذَا الْحَدِيثُ يَجْمَعُ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِأَهْلِ الْجَمْعِ حَتَّى يُرِيحَهُمْ مِنْ مَكَانِهِمْ، الَّذِي بَلَغُوا فِيهِ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ فِي الشَّمْسِ، ثُمَّ شَفَاعَتَهُ لِأَهْلِ الذُّنُوبِ مِنْ أُمَّتِهِ " وَفِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ فَإِنَّهُ قَالَ: فِي حَدِيثِهِ: " فَأَقُولُ رَبِّي أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ بُرَّةٍ، أَوْ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا " . وَقَالَ: فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ: " مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ " . وَفِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ: " فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِنْ مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُهُ مِنَ النَّارِ " وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: " يَشْفَعُ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يُخْرِجَ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، ثُمَّ يَشْفَعُ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يُخْرِجَ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ خَرْدَلَةٍ مِنْ خَيْرٍ، ثُمَّ يَشْفَعُ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يُخْرِجَ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى مِنْ شَطْرِ خَرْدَلَةٍ مِنْ خَيْرٍ "
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: " وَفِي كُلِّ ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ "
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي " وَرُوِي ذَلِكَ عَنْ أَشْعَثَ الْحُدَّانِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، وَثَابِتٍ، وَقَتَادَةَ، وَزِيَادٍ النُّمَيْرِيِّ، وَيَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، فعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي " قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَزَادَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [الأنبياء: 28] فَقَالَ: " إِنَّ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي "
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةَ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا " رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:(1/172)
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَبِمَعْنَاهُ رَوَى أَبُو ذَرٍّ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَبُو مُوسَى، وَعَوْفُ بْنُ مَالِكٍ، وَغَيْرُهُمْ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللهَ يُخْرِجُ قَوْمًا مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ فَيَنْبُتُونَ كَأَنَّهُمُ الثَّعَارِيرُ " قَالَ: قِيلَ: لِعَمْرٍو: " وَمَا الثَّعَارِيرُ ؟ قَالَ: الضَّغَابِيسُ " قَالَ حَمَّادٌ: " وَكَانَ سَقَطَ فمه " قَالَ حَمَّادٌ: قُلْتُ لِعَمْرٍو: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: يُخْرِجُ قَوْمًا مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ، قَالَ: نَعَمْ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَاهُ أَيْضًا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَغَيْرُهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِبَعْضِ مَعْنَاهُ ، وعن يَزِيدَ الْفَقِيرِ قَالَ: كُنْتُ قَدْ شَغَفَنِي رَأْيٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ، وَكُنْتُ رَجُلًا شَابًّا فَخَرَجْنَا فِي عِصَابَةٍ ذَوِي عَدَدٍ نُرِيدُ الْحَجَّ، ثُمَّ نَخْرُجُ عَلَى النَّاسِ، فَمَرَرْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَإِذَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسًا إِلَى سَارِيَةٍ ، وَإِذَا قَدْ ذَكَرَ الْجَهَنَّمِيِّينَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُونَ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: { إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } [آل عمران: 192]، وَ { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا } [السجدة: 20]، فَمَا هَذَا الَّذِي تَقُولُونَ ؟ فَقَالَ: " أَيْ بُنَيَّ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ " فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: " هَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - الْمَحْمُودِ الَّذِي يَبْعَثُهُ اللهُ فِيهِ ؟ " فقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: " فَإِنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ الْمَحْمُودُ الَّذِي يُخْرِجُ اللهُ بِهِ مَنْ يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ " . قَالَ: ثُمَّ نَعَتَ وَضْعَ الصِّرَاطِ، وَمَرَّ النَّاسِ عَلَيْهِ فَأَخَافُ أَنْ لَا أَكُونَ حَفِظْتُ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُ قد زَعَمَ أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِيهَا قَالَ: " فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ فَيَدْخُلُونَ نَهْرًا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ " . قَالَ: " فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ الْقَرَاطِيسُ الْبِيضُ " . قَالَ فَرَجَعْنَا، فَقُلْنَا: وَيْحَكُمْ تَرَوْنَ هَذَا الشَّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " . قَالَ: فَرَجَعْنَا فَوَاللهِ مَا خَرَجَ مِنَّا غير رَجُلٌ وَاحِدٌ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ" " (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - شعب الإيمان - (1 / 475) (297-310 )(1/173)
الهم بالحسنات والسيئات
26-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَلاَ تَكْتُبُوهَا , وَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا وَاحِدَةً , وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً , وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً , وَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ." (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , قَالَ: " قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا , وَإِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَلَا تَكْتُبُوهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ هُوَ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً "
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: سَمِعْتُ يُونُسَ يَقُولُ: ثُمَّ قَرَأْتُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى سُفْيَانَ , بَعْدَ أَنْ حَدَّثَنَا بِهِ , فَزَادَنِي فِي الْحَسَنَةِ: " فَاكْتُبُوهَا إلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ " , وَزَادَنِي فِي السَّيِّئَةِ: " فَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ خَشْيَتِي " فَانْتَفَى بِذَلِكَ مَا ادَّعَاهُ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى الْمُحَدِّثِينَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ , مِمَّا قَدْ ذَكَرْنَاهُ مَعَهُمْ , وَعَادَ الْحَدِيثُ إلَى مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا بِالنَّصْبِ , كَمَا نَقَلُوهُ إلَيْنَا , لَا بِالرَّفْعِ , وَاللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ اللهِ جَلَّ وَعَلاَ ، قَالَ : إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ ، فَإِذَا عَمِلَهَا ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً ، فَأَنَا أَغْفِرُهَا مَا لَمْ يَفْعَلْهَا ، فَإِذَا فَعَلَهَا ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا مِثْلَهَا.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ ، فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً ، فَإِذَا عَمِلَهَا ، فَاكْتُبُوهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، وَإِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ ، فَلاَ تَكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا ، فَإِنْ تَرَكَهَا ، فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، عَنِ اللهِ جَلَّ وَعَلاَ ، قَالَ : إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا ، فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً ، فَإِنْ عَمِلَهَا ، فَاكْتُبُوهَا لَهُ سَيِّئَةً ، فَإِنْ تَابَ مِنْهَا ،
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 88) (123) والمعجم الكبير للطبراني - (19 / 339) (825 ) صحيح
(2) - شرح مشكل الآثار - (4 / 327) (1641 ) صحيح(1/174)
فَامْحُوهَا عَنْهُ ، وَإِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا ، فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً ، فَإِنْ عَمِلَهَا ، فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ قَالَ : إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً ، فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلْهَا ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا مِثْلَهَا ، فَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي ، فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً ، فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ عَشْرَةَ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : عنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِالْحَسَنَةِ فَلَمْ يَعْمَلْهَا ، كَتَبْتُهَا لَهُ حَسَنَةً ، فَإِنْ عَمِلَهَا ، كَتَبْتُهَا لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ ، وَإِنْ هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا ، لَمْ أَكْتُبْهَا عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَمِلَهَا ، كَتَبْتُهَا وَاحِدَةً.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، عَنِ اللهِ جَلَّ وَعَلاَ ، قَالَ : مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا ، كَتَبْتُ لَهُ حَسَنَةً ، فَإِنْ عَمِلَهَا ، كَتَبْتُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةٍ وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا ، لَمْ أَكْتُبْ عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَمِلَهَا ، كَتَبْتُهَا عَلَيْهِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلاَ : إِذَا هَمَّ عَبْدِي أَرَادَ بِهِ إِذَا عَزَمَ ، فَسَمَّى الْعَزْمَ هَمًّا ، لأَنَّ الْعَزْمَ نِهَايَةُ الْهَمِّ ، وَالْعَرَبُ فِي لُغَتِهَا تُطْلِقُ اسْمَ الْبَدَاءَةِ عَلَى النِّهَايَةِ ، وَاسْمَ النِّهَايَةِ عَلَى الْبَدَاءَةِ ، لأَنَّ الْهَمَّ لاَ يُكْتَبُ عَلَى الْمَرْءِ ، لأَنَّهُ خَاطِرٌ لاَ حُكْمَ لَهُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَكْتُبُ لِمَنْ هَمَّ بِالْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِ وَلاَ عَمِلَهُ لِفَضْلِ الإِسْلاَمِ ، فَتَوْفِيقُ اللهِ الْعَبْدَ لِلإِسْلاَمِ فَضْلٌ تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِ ، وَكِتْبَتُهُ مَا هَمَّ بِهِ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَلَمَّا يَعْمَلْهَا فَضْلٌ ، وَكِتْبَتُهُ مَا هَمَّ بِهِ مِنَ السَّيِّئَاتِ وَلَمَّا يَعْمَلْهَا لَوْ كَتَبَهَا ، لَكَانَ عَدْلاً ، وَفَضْلُهُ قَدْ سَبَقَ عَدْلَهُ ، كَمَا أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ ، فَمِنْ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ مَا لَمْ يُكْتَبْ عَلَى صِبْيَانِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَعْمَلُونَ مِنْ سَيِّئَةٍ قَبْلَ الْبُلُوغِ ، وَكَتَبَ لَهُمْ مَا يَعْمَلُونَهُ مِنْ حَسَنَةٍ ، كَذَلِكَ هَذَا وَلاَ فَرْقَ. (1)
َقَالَ الْإِمَام الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّه : مَذْهَب الْقَاضِي أَبِي بَكْر بْن الطَّيِّب أَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَة بِقَلْبِهِ ، وَوَطَّنَ نَفْسه عَلَيْهَا ، أَثِمَ فِي اِعْتِقَاده وَعَزْمه ، وَيُحْمَل مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 103) (379- 384) صحيح(1/175)
الْأَحَادِيث وَأَمْثَالهَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يُوَطِّن نَفْسه عَلَى الْمَعْصِيَة ، وَإِنَّمَا مَرَّ ذَلِكَ بِفِكْرِهِ مِنْ غَيْر اِسْتِقْرَار ، وَيُسَمَّى هَذَا هَمًّا وَيُفَرَّق بَيْنَ الْهَمّ وَالْعَزْم .
هَذَا مَذْهَب الْقَاضِي أَبِي بَكْر ، وَخَالَفَهُ كَثِير مِنْ الْفُقَهَاء وَالْمُحَدِّثِينَ وَأَخَذُوا بِظَاهِرِ الْحَدِيث . قَالَ الْقَاضِي عِيَاض - رَحِمَهُ اللَّه - : عَامَّة السَّلَف وَأَهْل الْعِلْم مِنْ الْفُقَهَاء وَالْمُحَدِّثِينَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْر لِلْأَحَادِيثِ الدَّالَّة عَلَى الْمُؤَاخَذَة بِأَعْمَالِ الْقُلُوب ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا : إِنَّ هَذَا الْعَزْم يُكْتَب سَيِّئَة وَلَيْسَتْ السَّيِّئَة الَّتِي هَمَّ بِهَا لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْمَلهَا وَقَطَعَهُ عَنْهَا قَاطِعٌ غَيْر خَوْف اللَّه تَعَالَى وَالْإِنَابَة . لَكِنَّ نَفْس الْإِصْرَار وَالْعَزْم مَعْصِيَة فَتُكْتَب مَعْصِيَة فَإِذَا عَمِلَهَا كُتِبَتْ مَعْصِيَة ثَانِيَة ، فَإِنْ تَرَكَهَا خَشْيَة لِلَّهِ تَعَالَى كُتِبَتْ حَسَنَة كَمَا فِي الْحَدِيث : " إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ " فَصَارَ تَرْكه لَهَا لِخَوْفِ اللَّه تَعَالَى وَمُجَاهَدَته نَفْسه الْأَمَّارَة بِالسُّوءِ فِي ذَلِكَ وَعِصْيَانه هَوَاهُ حَسَنَة . فَأَمَّا الْهَمّ الَّذِي لَا يُكْتَب فَهِيَ الْخَوَاطِر الَّتِي لَا تُوَطَّن النَّفْس عَلَيْهَا ، وَلَا يَصْحَبهَا عَقْد وَلَا نِيَّة وَعَزْم .
وَذَكَرَ بَعْض الْمُتَكَلِّمِينَ خِلَافًا فِيمَا إِذَا تَرَكَهَا لِغَيْرِ خَوْف اللَّه تَعَالَى ، بَلْ لِخَوْفِ النَّاس . هَلْ تُكْتَب حَسَنَة ؟ قَالَ : لَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى تَرْكهَا الْحَيَاء . وَهَذَا ضَعِيف لَا وَجْه لَهُ . هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي وَهُوَ ظَاهِر حَسَن لَا مَزِيد عَلَيْهِ ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ نُصُوص الشَّرْع بِالْمُؤَاخَذَةِ بِعَزْمِ الْقَلْب الْمُسْتَقِرّ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } الْآيَة وَقَوْله تَعَالَى : { اِجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } وَالْآيَات فِي هَذَا كَثِيرَة . وَقَدْ تَظَاهَرَتْ نُصُوص الشَّرْع وَإِجْمَاع الْعُلَمَاء عَلَى تَحْرِيم الْحَسَد وَاحْتِقَار الْمُسْلِمِينَ وَإِرَادَة الْمَكْرُوه بِهِمْ وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ أَعْمَال الْقُلُوب وَعَزْمهَا وَاَللَّه أَعْلَم . (1)
الخلاصة في أحكام الهم بالخير والشر (2)
الهَمُّ :
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (1 / 246)
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (42 / 299)(1/176)
الْهَمُّ فِي اللُّغَةِ بِالْفَتْحِ : أَوَّل الْعَزِيمَةِ ، وَهُوَ أَيْضًا : الْحُزْنُ ، وَقَال ابْنُ فَارِسٍ : الْهَمُّ : مَا هَمَمْتُ بِهِ ، وَهَمَمْتُ بِالشَّيْءِ هَمًّا مِنْ بَابِ قَتَل : إِذَا أَرَدْتَهُ وَلَمْ تَفْعَلْهُ .
وَقَدْ تُطْلَقُ الْهِمَّةُ عَلَى الْعَزْمِ الْقَوِيِّ ، فَيُقَال : هِمَّةٌ عَالِيَةٌ وَهِيَ : تَوَجُّهُ الْقَلْبِ وَقَصْدُهُ بِجَمِيعِ قُوَاهُ الرُّوحَانِيَّةِ إِلَى جَانِبِ الْحَقِّ لِحُصُول الْكَمَال لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ (1)
وَالْهَمُّ فِي الاِصْطِلاَحِ : عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى فِعْل شَيْءٍ قَبْل أَنْ يُفْعَل مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ . (2)
وَقَال ابْنُ حَجْرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ : الْهَمُّ تَرْجِيحُ قَصْدِ الْفِعْل ، وَهُوَ فَوْقَ مُجَرَّدِ خُطُورِ الشَّيْءِ بِالْقَلْبِ (3) .
أ - الْخَاطِرُ :
الْخَاطِرُ فِي اللُّغَةِ : مَا يَخْطُرُ فِي الْقَلْبِ مِنْ تَدْبِيرِ أَمْرٍ أَوْ رَأْيٍ أَوْ مَعْنًى ، يُقَال : خَطَرَ بِبَالِي وَعَلَى بَالِي ، مِنْ بَابَيْ ضَرَبَ وَقَعَدَ ، وَيُقَال : خَطَرَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ الإِْنْسَانِ وَقَلْبِهِ : أَوْصَل وَسَاوِسَهُ إِلَى قَلْبِهِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا نُودِيَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ ، فَإِذَا قُضِيَ أَقْبَل ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ ، فَإِذَا قُضِيَ أَقْبَل حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الإِْنْسَانِ وَقَلْبِهِ (4) ، وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْهَمِّ وَالْخَاطِرِ مِنْ أَعْمَال الْقُلُوبِ (5) .
ب - الْفِكْرُ :
الْفِكْرُ فِي اللُّغَةِ : تَرَدُّدُ الْقَلْبِ بِالنَّظَرِ وَالتَّدَبُّرِ لِطَلَبِ الْمَعَانِي ، يُقَال : لِي فِي الأَْمْرِ فِكْرٌ : أَيْ نَظَرٌ وَرَوِيَّةٌ . وَالْفِكْرُ أَيْضًا : هُوَ تَرْتِيبُ أُمُورٍ فِي الذِّهْنِ يُتَوَصَّل بِهَا إِلَى مَطْلُوبٍ يَكُونُ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا (6) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (7) .
__________
(1) - الْمِصْبَاح الْمُنِير ، والمفردات فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ .
(2) - التَّعْرِيفَات للجرجاني ، وقواعد الْفِقْه لِلْبَرَكَتِي .
(3) - فَتْح الْبَارِي شَرْح صَحِيح الْبُخَارِيّ 11 / 323 .
(4) - أَخْرَجَهُ البخاري ( فَتْح الْبَارِي 6 / 337 ط السَّلَفِيَّة ) ، ومسلم ( 1 / 291 - 292 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ .
(5) - الْمِصْبَاح الْمُنِير ، والمغرب فِي تَرْتِيبِ الْمُعْرِبِ ، والمعجم الْوَسِيط .
(6) - الْمِصْبَاح الْمُنِير
(7) - قَوَاعِد الْفِقْهِ للبركتي والتعريفات للجرجاني .(1/177)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهَمِّ وَالْفِكْرِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ أَعْمَال الْقُلُوبِ .
ج - النِّيَّةُ :
مِنْ مَعَاني النِّيَّةِ فِي اللُّغَةِ : الْقَصْدُ ، وَهُوَ عَزْمُ الْقَلْبِ عَلَى الشَّيْءِ ، وَالنِّيَّةُ أَيْضًا : الْوَجْهُ الَّذِي يُذْهَبُ فِيهِ ، وَالنِّيَّةُ وَالنَّوَى : الْبُعْدُ (1) .
وَالنِّيَّةُ اصْطِلاَحًا عَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ : بِأَنَّهَا قَصْدُ الإِْنْسَانِ بِقَلْبِهِ مَا يُرِيدُهُ بِفِعْلِهِ . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهَمِّ وَالنِّيَّةِ أَنَّ مَحَل كُلٍّ مِنْهُمَا الْقَلْبُ . (2)
د - الْعَزْمُ :
الْعَزْمُ فِي اللُّغَةِ : عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِمْضَاءِ الأَْمْرِ . وَعَزَمَ عَزِيمَةً وَعَزْمَةً : اجْتَهَدَ وَجَدَّ فِي أَمْرِهِ .
وَالْعَزْمُ فِي الاِصْطِلاَحِ : تَصْمِيمٌ عَلَى إِيقَاعِ الْفِعْل ، وَالنِّيَّةُ تَمْيِيزٌ لَهُ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْهَمَّ أَوَّل مَرَاتِبِ الْعَزْمِ .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْهَمِّ :
تَتَعَلَّقُ بِالْهَمِّ أَحْكَامٌ مِنْهَا :
أ - حُكْمُ الْهَمِّ بِالْحَسَنَةِ :
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنَةً كَامِلَةً (4) ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَل قَال : " إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ
__________
(1) - الْمِصْبَاح الْمُنِير ، ولسان الْعَرَب ، والقاموس الْمُحِيط .
(2) - مَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 230 ، والذخيرة 1 / 240 .
(3) - الْمِصْبَاح الْمُنِير ، والمفردات فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ ، والتعريفات للجرجاني ، وقواعد الْفِقْه لِلْبَرَكَتِي ، ومواهب الْجَلِيل 1 / 231 ، والأشباه لاِبْنِ نَجِيم ص 49 .
(4) - فَتْح الْبَارِي 11 / 323 - 329 ، وصحيح مُسْلِم بِشَرْح النَّوَوِيّ 2 / 128 ، 129 ، وشرح الأَْرْبَعِينَ النَّوَوِيَّة لاِبْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ ص 60 - 63 ، وشرح الأَْرْبَعِينَ لِلنَّوَوِيِّ ص 65 .(1/178)
حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً (1) .
وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال : قَال رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل : إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً ، وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا (2)
وَذَلِكَ لأَِنَّ الْهَمَّ بِالْحَسَنَةِ سَبَبٌ وَبِدَايَةٌ إِلَى عَمَلِهَا . وَسَبَبُ الْخَيْرِ خَيْرٌ ؛ قَال أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " مَنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِسَاعَةٍ مِنَ اللَّيْل يُصَلِّيهَا فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ فَنَامَ كَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ ، وَكُتِبَ لَهُ مِثْل مَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ " (3)
وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : مَنْ هَمَّ بِصَلاَةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ غَزْوَةٍ ، فَحِيل بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَا نَوَى (4) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : تُكْتَبُ الْحَسَنَةُ بِمُجَرَّدِ الإِْرَادَةِ ، ثُمَّ قَال : نَعَمْ ، وَرَدَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْهَمِّ وَالإِْرَادَةِ لاَ يَكْفِي ، فَفِي حَدِيثِ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ رَفَعَهُ : وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَ بِهَا قَلَبَهُ وَحَرَصَ عَلَيْهَا (5) ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ ابْنُ حِبَّانَ ، فَقَال بَعْدَ إِيرَادِ حَدِيثِ الْبَابِ فِي صَحِيحِهِ : الْمُرَادُ بِالْهَمِّ هُنَا الْعَزْمُ ، ثُمَّ قَال : وَيُحْتَمَل أَنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ الْحَسَنَةَ بِمُجَرَّدِ الْهَمِّ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهَا زِيَادَةً فِي الْفَضْل .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ : يَتَفَاوَتُ عِظَمُ الْحَسَنَةِ بِحَسَبِ الْمَانِعِ ، فَإِنْ كَانَ خَارِجِيًّا مَعَ بَقَاءِ قَصْدِ الَّذِي هَمَّ بِفِعْل الْحَسَنَةِ فَهِيَ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ ، وَلاَ سِيَّمَا إِنْ قَارَنَهَا نَدَمٌ عَلَى تَفْوِيتِهَا وَاسْتَمَرَّتِ النِّيَّةُ عَلَى فِعْلِهَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ مِنَ الَّذِي هَمَّ مِنْ قِبَل نَفْسِهِ فَهِيَ
__________
(1) - أَخْرَجَهُ البخاري ( فَتْح الْبَارِي 11 / 323 ط السَّلَفِيَّة ) ، ومسلم ( 1 / 118 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ ) ، وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ .
(2) - أَخْرَجَهُ مُسْلِم ( 1 / 117 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ " .
(3) - أَخْرَجَهُ ابْن خُزَيْمَة ( 2 / 195 - 196 ط الْمَكْتَب الإِْسْلاَمِيّ ) .
(4) - فَتْح الْبَارِي 11 / 324 - 326 ، وشرح الأَْرْبَعِينَ النَّوَوِيَّة لاِبْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ ص 61 ، 62 .
(5) - أَخْرَجَهُ أَحْمَد ( 4 / 346 - ط الميمنية )(1/179)
دُونَ ذَلِكَ إِلاَّ إِنْ قَارَنَهَا قَصْدُ الإِْعْرَاضِ عَنْهَا جُمْلَةً ، وَالرَّغْبَةُ عَنْ فِعْلِهَا ، وَلاَ سِيَّمَا إِنْ وَقَعَ الْعَمَل فِي عَكْسِهَا كَأَنْ يُرِيدَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ مَثَلاً ، فَصَرَفَهُ بِعَيْنِهِ فِي مَعْصِيَةٍ ، فَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الأَْخِيرِ أَنْ لاَ تُكْتَبَ لَهُ حَسَنَةٌ أَصْلاً ، وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ فَعَلَى الاِحْتِمَال (1) .
ب - حُكْمُ الْهَمِّ بِالسَّيِّئَةِ :
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ، إِذَا كَانَ قَدْ تَرَكَهَا لأَِجْل اللَّهِ تَعَالَى ، لِقَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ : وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً (2) .
وَهَل يُثَابُ التَّارِكُ عَنِ السَّيِّئَةِ الَّتِي هَمَّ بِهَا بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ أَمْ بِشَرْطِ أَنْ يَتْرُكَهَا لِمَخَافَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ .
فَقَال بَعْضُهُمْ : يُثَابُ عَلَيْهِ لِمُجَرَّدِ تَرْكِ مَا هَمَّ بِهِ مِنَ السَّيِّئَةِ ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِخَوْفٍ مِنَ اللَّهِ أَوْ لِخَوْفٍ مِنَ النَّاسِ ، أَوْ لِعَجْزٍ عَنِ الإِْتْيَانِ بِهِ لِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ ، كَمَنْ يَمْشِي مَثَلاً إِلَى امْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا ، فَيَجِدُ الْبَابَ مُغْلَقًا وَيَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ فَتْحُهُ ، وَمِثْلُهُ مَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الزِّنَا فَلَمْ يَنْتَشِرْ ، أَوْ طَرَقَهُ مَا يَخَافُ مِنْ أَذَاهُ عَاجِلاً ، وَذَلِكَ لِظَاهِرِ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَل فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ : وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً . . . الْحَدِيثَ " (3)
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ : " حَسَنَةً كَامِلَةً " الْمُرَادُ بِالْكَمَال عِظَمُ الْقَدْرِ ، لاَ التَّضْعِيفُ إِلَى الْعَشَرَةِ ، وَظَاهِرُ الإِْطْلاَقِ كِتَابَةُ الْحَسَنَةِ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ ، وَلأَِنَّ تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ كَفٌّ عَنِ الشَّرِّ وَالْكَفُّ عَنِ الشَّرِّ خَيْرٌ (4) ، لِقَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : :« عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ
__________
(1) - فَتْح الْبَارِي شَرْح صَحِيح الْبُخَارِيّ ( 11 / 324 ، 325 ) ، وانظر صَحِيح ابْن حِبَّانَ ( 2 / 107 - الإِْحْسَان - ط الرِّسَالَة ) .
(2) - فَتْح الْبَارِي 11 / 323 ، 329 ، وشرح صَحِيح مُسْلِم لِلنَّوَوِيِّ 2 / 128 ، وشرح الأَْرْبَعِينَ النَّوَوِيَّة ص 61 .
(3) - سَبَقَ تَخْرِيجه
(4) - فَتْح الْبَارِي 11 / 323 ، 329 ، وشرح صَحِيح مُسْلِم لِلنَّوَوِيِّ 2 / 128 ، وشرح الأَْرْبَعِينَ النَّوَوِيَّة ص 61 .(1/180)
صَدَقَةٌ ». قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ :« فَيَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ ». قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ :« فَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ ». قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ :« فَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ أَوْ قَالَ بِالْمَعْرُوفِ ». قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ :« فَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ » (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِكِتَابَةِ الْحَسَنَةِ لِمَنْ تَرَكَ مَا هَمَّ بِهِ مِنْ سَيِّئَةٍ أَنْ يَتْرُكَهَا لِمَخَافَةِ اللَّهِ وَطَلَبِ رِضَائِهِ ، فَأَمَّا إِذَا تَرَكَ السَّيِّئَةَ مُكْرَهًا عَلَى تَرْكِهَا أَوْ عَاجِزًا عَنْهَا فَلاَ تُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةً ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا :
- قَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ : رَبِّ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَل سَيِّئَةً - وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ - فَقَال : ارْقُبُوهُ ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا ، وَإِنْ تَرْكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ (2) .
- قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ : إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَل سَيِّئَةً فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا ، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً (3) .
قَال الْخَطَّابِيُّ : مَحَل كِتَابَةِ الْحَسَنَةِ عَلَى التَّرْكِ أَنْ يَكُونَ التَّارِكُ قَدْ قَدَرَ عَلَى الْفِعْل ثُمَّ تَرَكَهُ ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يُسَمَّى تَارِكًا إِلاَّ مَعَ الْقُدْرَةِ (4) .
وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ وَآخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْهَمَّ الْمَقْصُودَ الَّذِي لاَ يُكْتَبُ هُوَ الْمُجَرَّدُ الْوَارِدُ عَلَى الْخَاطِرِ الَّذِي يَمُرُّ بِالْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْرَارٍ وَلاَ عَقْدٍ وَلاَ نِيَّةٍ ، فَإِذَا حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالْمَعْصِيَةِ مَثَلاً مِنْ غَيْرِ مُصَاحَبَةِ عَزْمٍ وَلاَ تَصْمِيمٍ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ ، لِظَاهِرِ قَوْل اللَّهِ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ : إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا
__________
(1) - أَخْرَجَهُ البخاري ( فَتْح الْبَارِي 10 / 447 ط السَّلَفِيَّة ) ، ومسلم ( 2 / 699 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ ) ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ والسنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (4 / 188) (8073)
(2) - أَخْرَجَهُ مُسْلِم ( 1 / 118 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ ) .
(3) - أَخْرَجَهُ البخاري ( فَتْح الْبَارِي 13 / 465 ط السَّلَفِيَّة ) ، ومسلم ( 1 / 117 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ ) ، وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ .
(4) - فَتْح الْبَارِي 11 / 326 - 329 ، وشرح صَحِيح مُسْلِم لِلنَّوَوِيِّ 2 / 128 ، وشرح الأَْرْبَعِينَ النَّوَوِيَّة ص 61 .(1/181)
سَيِّئَةً (1) ،وَلِحَدِيثِ : إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَل سَيِّئَةً فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا ، وَلِحَدِيثِ : إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَل حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَل ، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَل سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا" (2) ،فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَمَل هُنَا عَمَل الْجَارِحَةِ بِالْمَعْصِيَةِ الْمَهْمُومِ بِهَا .
أَمَّا إِذَا عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِقَلْبِهِ وَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، وَيَكُونُ آثِمًا بِعَزْمِ الْقَلْبِ وَاسْتِقْرَارِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، قَالُوا : وَهَذَا زَائِدٌ عَلَى حَدِيثِ النَّفْسِ وَالْخَوَاطِرِ الَّتِي تَخْطُرُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْرَارٍ ، وَهُوَ مِنْ عَمَل الْقَلْبِ ، وَهُوَ يُكْتَبُ عَلَى صَاحِبِهِ وَيُؤَاخَذُ عَلَيْهِ مِثْل النِّفَاقِ وَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالْغِل وَالْحِقْدِ وَالْبَغْيِ وَالْغَضَبِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْبُخْل وَالإِْعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ وَالْعُجْبِ وَالْمَكْرِ ، فَمَنْ وَجَدَ فِي قَلْبِهِ مَرَضًا مِنْ هَذِهِ الأَْمْرَاضِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنَّ يُعَالِجَهُ حَتَّى يَزُول ، فَإِنْ لَمْ يُعَالِجْهُ أَثِمَ ، وَإِنَّمَا يَأْثَمُ مِنْ هَذِهِ الأَْمْرَاضِ عَلَى مَا نَوَاهُ وَقَصَدَهُ بِقَلْبِهِ دُونَ مَا خَطَرَ بِقَلْبِهِ أَوْ سَبَقَ إِلَيْهِ لِسَانُهُ وَوَهِمَهُ (3)
ج - الْعِقَابُ عَلَى الْهَمِّ الْمَقْرُونِ بِالْعَزْمِ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعِقَابِ عَلَى الْهَمِّ الْمَقْرُونِ بِالْعَزْمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ .
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ (4) : قَسَّمَ بَعْضُهُمْ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ أَقْسَامًا :
أَضْعَفُهَا : أَنْ يَخْطُرَ لَهُ ثُمَّ يَذْهَبُ فِي الْحَال ، وَهَذَا مِنَ الْوَسْوَسَةِ ، وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ ، وَهُوَ دُونَ التَّرَدُّدِ .
وَفَوْقَهُ : أَنْ يَتَرَدَّدَ فِيهِ ، فَيَهُمُّ بِهِ ثُمَّ يَنْفِرُ عَنْهُ فَيَتْرُكُهُ ، ثُمَّ يَهُمُّ بِهِ ثُمَّ يَتْرُكُ كَذَلِكَ ، وَلاَ يَسْتَمِرُّ عَلَى قَصْدِهِ وَهَذَا هُوَ التَّرَدُّدُ ، فَيُعْفَى عَنْهُ أَيْضًا .
__________
(1) - سَبَقَ تَخْرِيجه
(2) - أَخْرَجَهُ مُسْلِم ( 1 / 117 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ ) .
(3) - فَتْح الْبَارِي 11 / 326 وَمَا بَعْدَهَا ، وشرح صَحِيح مُسْلِم لِلنَّوَوِيِّ 2 / 128 ، والزواجر عَنِ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ لاِبْنِ حَجَر الهيتمي 1 / 79 .
(4) - فَتْح الْبَارِي 5 / 69 ، 10 / 486 ، 11 / 327 ، 13 / 34 ، 470 - 472 ، 475 ، تفسير الْقُرْطُبِيّ 3 / 102 ، 6 / 266 وَمَا بَعْدَهَا ، وأحكام الْقُرْآن لاِبْنِ الْعَرَبِيِّ 1 / 241 ، 242 .(1/182)
وَفَوْقَهُ : أَنْ يَمِيل إِلَيْهِ وَلاَ يَنْفِرَ مِنْهُ لَكِنْ لاَ يُصَمِّمُ عَلَى فِعْلِهِ ، وَهَذَا هُوَ الْهَمُّ ، فَيُعْفَى عَنْهُ أَيْضًا .
وَفَوْقَهُ : أَنْ يَمِيل إِلَيْهِ وَلاَ يَنْفِرَ مِنْهُ بَل يُصَمِّمُ عَلَى فِعْلِهِ ، فَهَذَا هُوَ الْعَزْمُ ، وَهُوَ مُنْتَهَى الْهَمِّ ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ :
الْقِسْمُ الأَْوَّل : أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْمَال الْقُلُوبِ صِرْفًا ، كَالشَّكِّ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ أَوِ النُّبُوَّةِ أَوِ الْبَعْثِ ، فَهَذَا كُفْرٌ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ جَزْمًا .
وَدُونَهُ الْمَعْصِيَةُ الَّتِي لاَ تَصِل إِلَى الْكُفْرِ ، كَمَنْ يُحِبُّ مَا يُبْغِضُ اللَّهُ ، وَيُبْغِضُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَيُحِبُّ لِلْمُسْلِمِ الأَْذَى بِغَيْرِ مُوجِبٍ لِذَلِكَ ، فَهَذَا يَأْثَمُ .
وَيَلْتَحِقُ بِهِ الْكِبْرُ وَالْعُجْبُ وَالْبَغْيُ وَالْمَكْرُ وَالْحَسَدُ ، وَفِي بَعْضِ هَذَا خِلاَفٌ ، فَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ وَحَسَدَهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ ، وَحَمَلُوهُ عَلَى مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ مِمَّا لاَ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ ، لَكِنْ مَنْ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِمُجَاهَدَتِهِ النَّفْسَ عَلَى تَرْكِهِ .
الْقِسْمُ الثَّانِي :أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْمَال الْجَوَارِحِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ ، فَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ :
فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِالْعَزْمِ الْمُصَمَّمِ . وَسَأَل ابْنُ الْمُبَارَكِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ: أَيُؤَاخَذُ الْعَبْدُ بِمَا يَهُمُّ بِهِ ؟ قَال : إِذَا جَزَمَ بِذَلِكَ ، وَاسْتَدَل كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (225) سورة البقرة
وَحَمَلُوا حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُِمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَل بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ وَنَحْوُهُ مِنَ الأَْحَادِيثِ عَلَى الْخَطَرَاتِ (1) .
ثُمَّ افْتَرَقَ هَؤُلاَءِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : يُعَاقَبُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ فِي الدُّنْيَا خَاصَّةً بِنَحْوِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : بَل يُعَاقَبُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، لَكِنْ بِالْعِتَابِ لاَ بِالْعَذَابِ ، وَهَذَا قَوْل ابْنِ
__________
(1) - أَخْرَجَهُ البخاري ( فَتْح الْبَارِي 5 / 160 ط السَّلَفِيَّة ) ، ومسلم ( 1 / 116 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ ) ، وَاللَّفْظ لِمُسْلِم .(1/183)
جُرَيْجٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَطَائِفَةٍ ، وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا (1) ، ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ النَّجْوَى وَهُوَ : أَنَّ رَجُلاً سَأَل ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي النَّجْوَى ؟ قَال : سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول : إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ ، فَيَقُول : أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا ؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا ؟ فَيَقُول : نَعَمْ أَيْ رَبِّ ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَال : سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُول الأَْشْهَادُ : هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ ، أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (2) .
د - الْهَمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فِي الْحَرَمِ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ مُؤَاخَذَةِ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ الْهَمُّ بِالْمَعْصِيَةِ عَلَى حُكْمِ مَنْ يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ :
فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ مَنْ يَهْتَمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فِي الْحَرَمِ يُؤَاخَذُ بِهَا وَلَوْ لَمْ يَصِل ذَلِكَ إِلَى دَرَجَةِ التَّصْمِيمِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيل اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (سُورَة الْحَجّ / 25 ) } . وَلأَِنَّ الْحَرَمَ يَجِبُ اعْتِقَادُ تَعْظِيمِهِ ، فَمَنْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ فِيهِ خَالَفَ الْوَاجِبَ بِانْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ ، وَلأَِنَّ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ الْحَرَمِ بِالْمَعْصِيَةِ تَسْتَلْزِمُ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ اللَّهِ ؛ لأَِنَّ تَعْظِيمَ الْحَرَمِ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ ، فَصَارَتِ الْمَعْصِيَةُ فِي الْحَرَمِ أَشَدَّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فِي غَيْرِهِ ، وَإِنِ اشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي تَرْكِ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى .
قَال شِهَابُ الدِّينِ الأَْلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَعِيدَ عَلَى إِرَادَةِ ذَلِكَ مُطْلَقًا ، فَيُفِيدُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ سَيِّئَةً فِي مَكَّةَ - وَلَمْ يَعْمَلْهَا - يُحَاسَبُ عَلَى مُجَرَّدِ الإِْرَادَةِ ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي الْحَجَّاجِ .
__________
(1) - فَتْح الْبَارِي 11 / 326 وَمَا بَعْدَهَا ، وتحفة الأَْحْوَذِيّ شَرْح التِّرْمِذِيّ 6 / 616 ، ودليل الْفَالِحِينَ شَرْح رِيَاض الصَّالِحِينَ 2 / 549 ، 550
(2) - أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ ! ( فَتْح الْبَارِي 5 / 96 ط السَّلَفِيَّة ) ، ومسلم ( 4 / 2125 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ ) ، وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ .(1/184)
وَقَال إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ : قُلْتُ لأَِحْمَدَ : هَل وَرَدَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ السَّيِّئَةَ تُكْتَبُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ ؟ قَال : لاَ ، مَا سَمِعْتُ إِلاَّ بِمَكَّةَ لِتَعْظِيمِ الْبَلَدِ .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْهَمِّ بِالْمَعْصِيَةِ وَعَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ عَامَّةٌ فِي النَّاسِ جَمِيعًا ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ أَمْ فِي غَيْرِهِ ؛ لأَِنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ لَمْ تُفَرِّقْ لاَ فِي الأَْزْمِنَةِ وَلاَ فِي الأَْمْكِنَةِ ، وَإِنَّمَا عَمَّمَتْ (1) ، كَقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً (2) .
هـ - الْهَمُّ بِالْكُفْرِ يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ :
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا هَمَّ الشَّخْصُ الْمُسْلِمُ بِالْكُفْرِ ، أَوْ شَكَّ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ أَوِ النُّبُوَّةِ أَوِ الْبَعْثِ ، أَوْ نَوَى قَطْعَ إِسْلاَمِهِ ، أَوْ تَرَدَّدَ أَيَكْفُرُ أَوْ لاَ ، أَوْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ غَدًا أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَل ، خَرَجَ مِنَ الإِْسْلاَمِ وَأَصْبَحَ مُرْتَدًّا فِي الْحَال ؛ لأَِنَّ طَرَيَانَ الشَّكِّ يُنَاقِضُ جَزْمَ النِّيَّةِ بِالإِْسْلاَمِ .
قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْعَزْمُ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَل كُفْرٌ فِي الْحَال ، وَكَذَا التَّرَدُّدُ فِي أَنَّهُ يَكْفُرُ أَمْ لاَ ؟ فَهُوَ كُفْرٌ فِي الْحَال ، وَكَذَا لَوْ عَلَّقَ كُفْرَهُ بِأَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ كَقَوْلِهِ : إِنْ هَلَكَ مَالِي أَوْ وَلَدِي تَهَوَّدْتُ أَوْ تَنَصَّرْتُ . قَال : وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ ، حَتَّى لَوْ سَأَلَهُ كَافِرٌ يُرِيدُ الإِْسْلاَمَ أَنْ يُلَقِّنَهُ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ ، فَلَمْ يَفْعَل ، أَوْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ لاَ يُسْلِمَ ، أَوْ عَلَى مُسْلِمٍ بِأَنْ يَرْتَدَّ فَهُوَ كَافِرٌ ؛ لأَِنَّهُ رَضِيَ بِالْكُفْرِ (3) ،، وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ : مَنْ هَمَّ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ قَاصِدًا الاِسْتِخْفَافَ بِاللَّهِ كَفَرَ ، وَإِنَّمَا الْمَعْفُوُّ عَنْهُ مَنْ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ ذَاهِلاً عَنْ قَصْدِ الاِسْتِخْفَافِ .
__________
(1) - فَتْح الْبَارِي 11 / 328 ، 329 ، وتفسير الْقُرْطُبِيّ 12 / 34 ، 35 ، 18 / 224 ، وتفسير رُوح الْمَعَانِي 9 / 134 ، وأحكام الْقُرْآن لاِبْنِ الْعَرَبِيِّ 3 / 277
(2) - سَبَقَ تَخْرِيجه
(3) - رَوْضَة الطَّالِبِينَ 10 65 .(1/185)
أَمَّا إِذَا خَطَرَ فِي بَالِهِ الْكُفْرُ ، أَوْ جَرَى فِي قَلْبِهِ دُونَ أَنْ يَصِل إِلَى مَرْحَلَةِ الْعَزْمِ ، فَلاَ يَكْفُرُ ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْوَسْوَسَةِ .قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ : فَإِنْ لَمْ يُنَاقِضْ جَزْمَ النِّيَّةِ بِالإِْسْلاَمِ كَالَّذِي يَجْرِي فِي الْكِنِّ ( أَيْ فِي الْخَاطِرِ ) فَهُوَ مِمَّا يُبْتَلَى بِهِ الْمُوَسْوَسُ ، وَلاَ اعْتِبَارَ بِهِ كَمَا قَالَهُ الإِْمَامُ (1) .
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فَتْح الْبَارِي 11 / 327 ، 328 ، وحاشية ابْن عَابِدِينَ 3 / 283 ، ونهاية الْمُحْتَاج 7 / 393 - 395 ، ومغني الْمُحْتَاج 4 / 136 ، وكشاف الْقِنَاع 6 / 168 وَمَا بَعْدَهَا ، وجواهر الإِْكْلِيل 2 / 278 ، والقوانين الْفِقْهِيَّة ص 356 ، وروضة الطَّالِبِينَ 10 / 65 ، والزواجر عَنِ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ 1 / 81 .(1/186)
قتال الناس حتى يؤمنوا بالله وحده
27-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ،قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ أَزَالُ أُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ , فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا , وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ. (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلاَمِ ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ » (2) .
وعَنِ الزُّهْرِيِّ ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَمَنْ قَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، فَذَكَرَ قَوْمًا اسْتَكْبَرُوا ، فَقَالَ : {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات : ] ، وَقَالَ : {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح : ] ، وَهِيَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ، اسْتَكْبَرَ عَنْهَا الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. (3)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلاَتَنَا ، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا ، وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا ، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ » (4) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 90) (129و3334) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 226) (8163) 8148 ومسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 669) (10254) 10259 ومسند الشافعي - (2 / 202) ( 758و759و887 و933) صحيح مشهور
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (25) و صحيح مسلم- المكنز - (138 )
(3) - صحيح ابن حبان - (1 / 451) (218) صحيح
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (392 )(1/187)
اللهِ ، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا ، وَأَكَلُوا ذَبِيحَتَنَا ، وَصَلُّوا صَلاَتَنَا ، فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ ، لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ " (1)
وعَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ فَقَالَ عُمَرُ - رضى الله عنه كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ » .
فَقَالَ وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا . قَالَ عُمَرُ - رضى الله عنه - فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنه - فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ . (2)
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَإِذَا قَالُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ». ثُمَّ قَرَأَ ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) [الغاشية : 21 - 22] ) (3)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : تَفَرَّدَ بِهِ شُعْبَةُ. وَفِي هَذَا الْخَبَرِ بَيَانٌ وَاضِحٌ بِأَنَّ الإِيمَانَ أَجْزَاءٌ ، وَشُعَبٌ تَتَبَايَنُ أَحْوَالُ الْمُخَاطَبِينَ فِيهَا ، لأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ : حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ ، فَهَذَا هُوَ الإِشَارَةُ إِلَى الشُّعْبَةِ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ ، ثُمَّ قَالَ : وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ ، فَذَكَرَ الشَّيْءَ الَّذِي هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ ، ثُمَّ قَالَ : وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ، فَذَكَرَ الشَّيْءَ الَّذِي هُوَ فَرْضٌ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (13 / 215) (5895) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1399 و1400) و صحيح مسلم- المكنز - (133 )
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (137 )(1/188)
عَلَى الْمُخَاطَبِينَ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الأَشْيَاءَ الثَّلاَثَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنَ الإِيمَانِ. (1)
وعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ ، قَالَ : لَمَّا ارْتَدَّ أَهْلُ الرِّدَّةِ فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ عُمَرُ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ يَا أَبَا بَكْرٍ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهَا ، قَالَ عُمَرُ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. (2)
وعَنِ النُّعْمَانِ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَوْسًا ، يَقُولُ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ ، فَكُنَّا فِي قُبَّةٍ ، فَقَامَ مَنْ كَانَ فِيهَا غَيْرِي وَغَيْرَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَسَارَّهُ ، فَقَالَ : اذْهَبْ فَاقْتُلْهُ ثُمَّ قَالَ : أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ؟ قَالَ : بَلَى ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُهَا تَعَوُّذًا فَقَالَ : رُدَّهُ ثُمَّ قَالَ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا حُرِّمَتْ عَلَيَّ دِمَاؤُهُمْ ، وَأَمْوَالُهُمْ ، إِلاَّ بِحَقِّهَا. (3)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ بِالنَّاسِ قِبَلَ غَزْوَةِ تَبُوكَ ، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ صَلَّى بِالنَّاسِ صَلاَةَ الصُّبْحِ ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَكِبُوا ، فَلَمَّا أَنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ نَعَسَ النَّاسُ عَلَى أَثَرِ الدُّلْجَةِ ، وَلَزِمَ مُعَاذٌ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتْلُو أَثَرَهُ ، وَالنَّاسُ تَفَرَّقَتْ بِهِمْ رِكَابُهُمْ عَلَى جَوَادِّ الطَّرِيقِ تَأْكُلُ وَتَسِيرُ ، فَبَيْنَمَا مُعَاذٌ عَلَى أَثَرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَنَاقَتُهُ تَأْكُلُ مَرَّةً وَتَسِيرُ أُخْرَى عَثَرَتْ نَاقَةُ مُعَاذٍ ، فَكَبَحَهَا بِالزِّمَامِ ، فَهَبَّتْ حَتَّى نَفَرَتْ مِنْهَا نَاقَةُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَشْفَ عَنْهُ قِنَاعَهُ ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا لَيْسَ مِنَ الْجَيْشِ رَجُلٌ أَدْنَى إِلَيْهِ مِنْ مُعَاذٍ ، فَنَادَاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا مُعَاذُ . قَالَ : لَبَّيْكَ يَا نَبِيَّ اللهِ . قَالَ : ادْنُ دُونَكَ . فَدَنَا مِنْهُ حَتَّى لَصِقَتْ رَاحِلَتَاهُمَا إِحْدَاهُمَا بِالأُخْرَى ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا كُنْتُ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 401)
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 150)239- صحيح لغيره
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 542)(16160) 16260- صحيح(1/189)
أَحْسِبُ النَّاسَ مِنَّا كَمَكَانِهِمْ مِنَ الْبُعْدِ . فَقَالَ مُعَاذٌ : يَا نَبِيَّ اللهِ نَعَسَ النَّاسُ ، فَتَفَرَّقَتْ بِهِمْ رِكَابُهُمْ تَرْتَعُ وَتَسِيرُ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَأَنَا كُنْتُ نَاعِسًا . فَلَمَّا رَأَى مُعَاذٌ بُشْرَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِ وَخَلْوَتَهُ لَهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، ائْذَنْ لِي أَسْأَلْكَ عَنْ كَلِمَةٍ قَدْ أَمْرَضَتْنِي وَأَسْقَمَتْنِي وَأَحْزَنَتْنِي . فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : سَلْنِي عَمَّ شِئْتَ . قَالَ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، حَدِّثْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ لاَ أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ غَيْرِهَا . قَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : بَخٍ بَخٍ بَخٍ لَقَدْ سَأَلْتَ بِعَظِيمٍ ، لَقَدْ سَأَلْتَ بِعَظِيمٍ ، ثَلاَثًا ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ الْخَيْرَ ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ الْخَيْرَ ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ الْخَيْرَ ، فَلَمْ يُحَدِّثْهُ بِشَيْءٍ إِلاَّ قَالَهُ لَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، يَعْنِي أَعَادَهُ عَلَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ؛ حِرْصًا لِكَيْ مَا يُتْقِنَهُ عَنْهُ ، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ ، وَتَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا حَتَّى تَمُوتَ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ ، فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، أَعِدْ لِي فَأَعَادَهَا لَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ قَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُكَ يَا مُعَاذُ بِرَأْسِ هَذَا الأَمْرِ ، وَقَوَامِ هَذَا الأَمْرِ وَ ذُرْوَةِ السَّنَامِ . فَقَالَ مُعَاذٌ : بَلَى بِأَبِي وَأُمِّي أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللهِ فَحَدِّثْنِي . فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ رَأْسَ هَذَا الأَمْرِ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَإِنَّ قَوَامَ هَذَا الأَمْرِ إِقَامُ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ ، وَإِنَّ ذُرْوَةَ السَّنَامِ مِنْهُ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ، إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ، وَيَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدِ اعْتَصَمُوا وَعَصَمُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا شَحَبَ وَجْهٌ ، وَلاَ اغْبَرَّتْ قَدَمٌ فِي عَمَلٍ تُبْتَغَى فِيهِ دَرَجَاتُ الْجَنَّةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ كَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلاَ ثَقُلَ مِيزَانُ عَبْدٍ كَدَابَّةٍ تَنْفُقُ لَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ ، أَوْ يَحْمِلُ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ." (1)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 381)(22122) 22473- حسن(1/190)
وعَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوا مَنَعُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ. (1)
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا مَنَعُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا. (2)
وعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : لَمَّا اسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ ارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْعَرَبِ ، فَقَالُوا : نَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَنُصَلِّي وَلاَ نُغْصَبُ أَمْوَالَنَا ، فَقَالَ عُمَرُ : يَا أَبَا بَكْرٍ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَمَنْ قَالَهَا عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهَا ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَقَاتَلُوهُمْ عَلَى مَنْعِهَا ، قَالَ : فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ عَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. (3)
وقال الطحاوي : " بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: " وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا أَوْ عِقَالًا، - عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ -، مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " قَالَ: " فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ الرِّدَّةِ حَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا بَكْرٍ " فَقَالَ: " لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ " فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: " لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا قَبَضَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ، اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، فَارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْعَرَبِ قَالَ: فَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ لِقِتَالِ مَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ
__________
(1) - مسند البزار كاملا - (1 / 425) (2769) صحيح
(2) - مسند البزار كاملا - (1 / 483) (3227) صحيح
(3) - مسند الشاميين 360 - (4 / 130) (2916) صحيح(1/191)
"؟ . فَقَالَ: " أَلَا أُقَاتِلُ أَقْوَامًا فِي فَرَائِضِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؟، وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ " قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ اللهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِقِتَالِ الْقَوْمِ عَلِمْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: " لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا "، وَكَانَ مَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: " لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا " فَوَقَفْنَا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ قِبَلِ مَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ مِنْ أَبِي الْوَلِيدِ، وَمِنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْهَا عِنْدَهُ .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: " لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا " . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَا نَعْلَمُ عَنْ صَالِحٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، فَوَقَفْنَا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ، لَا مِنْ كَلَامِ أَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، غَيْرَ أَنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ رُوَاتِهِ هُمُ الَّذِينَ رَوَوْا عَنْهُ، " لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا " وَكَانَ الْعِقَالُ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعِقَالَ الْمُرَادُ بِهِ فِي هَذَا الْحَبْلِ الَّذِي تُعْقَلُ بِهِ الْفَرِيضَةُ مِنَ الصَّدَقَةِ، كَذَلِكَ ذَكَرَ لَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ قَالَ: وَهَذَا رَأْيُ مَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَكَانَ هَذَا غَيْرَ مَعْرُوفٍ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى مُؤَدِّي الْفَرِيضَةِ مِنَ الْمَوَاشِي أَنَّهُ يُؤَدِّي مَعَهَا عِقَالًا فِي الْقِيَاسِ، لَكَانَ عَلَى مَنْ كَانَ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ مِنْ صَدَقَةِ الدَّرَاهِمِ، وَمِنَ الدَّنَانِيرِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَعَهَا كِيسًا تَكُونُ مَحْفُوظَةً فِيهِ، وَلَكَانَ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي نَخْلِهِ الصَّدَقَةُ أَنْ يُعْطِيَ مَعَهَا قَوَاصِرَ حَتَّى يَجْعَلَهَا فِيهِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعِقَالُ هُوَ صَدَقَةُ عَامٍ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ مِنَ الْعِلَّةِ بِمَا حَكَاهُ لَنَا عَلِيُّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ الْكَلْبِيِّ قَالَ: اسْتَعْمَلَ مُعَاوِيَةُ ابْنَ أَخِيهِ عَمْرَو بْنَ عُتْبَةَ عَلَى صَدَقَاتِ كَلْبٍ، فَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَدَّاءِ الْكَلْبِيُّ فِي ذَلِكَ:
[البحر البسيط]
سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكَ لَنَا سَبَدًا ... فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْنِ
لَأَصْبَحَ الْحَيُّ أَوْبَادًا وَلَمْ يَجِدُوا ... عِنْدَ التَّفَرُّقِ فِي الْهَيْجَا جِمَالَيْنِ(1/192)
وَكَانَ هَذَا التَّأْوِيلُ أَيْضًا عِنْدَنَا فَاسِدًا، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِنَّمَا قَالَ مَا قَالَ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ مَنَعُوهُ قَلِيلًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الصَّدَقَةِ كُلِّهَا، وَلَمْ نَجِدْ فِي تَأْوِيلِ الْعِقَالِ قَوْلًا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ غَيْرَ شَيْءٍ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: الْمُصَدِّقُ إِذَا أَخَذَ مِنَ الصَّدَقَةِ غَيْرَ مَا فِيهَا، قِيلَ: أَخَذَ عِقَالًا، وَإِذَا أَخَذَ ثَمَنًا، قِيلَ: أَخَذَهُ نَقْدًا، وَأَنْشَدَ:
فَأَمَّا أَبُو الْخَطَّابِ يَضْرِبُ طَبْلَهُ ... قَرِينٌ وَلَا يَأْخُذْ عِقَالًا وَلَا نَقْدًا
وَكَانَ الْأَوْلَى بِهَذَا الْحَدِيثِ هُوَ: الْعَنَاقُ، لَا: الْعِقَالُ، وَفِي ذَلِكَ بَابٌ مِنَ الْفِقْهِ يَجِبُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ . وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَخْتَلِفُونَ فِي الْغَنَمِ إِذَا كَانَتْ سَوَائِمَ فَضْلٍ، لَا مُسِنَّةَ فِيهَا، فَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ تَقُولُ: لَا شَيْءَ فِيهَا، وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ تَقُولُ: فِيهَا وَاحِدٌ مِنْهَا، وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلُ كُلُّهَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَمَاعَةَ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِرُجُوعِهِ مِنْ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، قَالَ: فَإِنَّ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ مِنْهَا: إِنَّ فِيهَا مُسِنَّةً . وَكَانَ زُفَرُ قَدْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ وَثَبَتْ عَلَيْهِ، كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَلْمَانَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ زُفَرَ . وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ بِقَوْلِهِ: فِيهَا وَاحِدٌ مِنْهَا . كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يَقُولُ فِي ذَلِكَ: إِنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهَا . كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ . وَكَانَ الْأَوْلَى مِنْ أَقَاوِيلِهِ هَذِهِ عِنْدَنَا فِي هَذَا الْبَابِ مَا قَدْ وَافَقَهُ أَبُو يُوسُفَ عَلَيْهِ لِإِخْبَارِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ النَّاسَ أَنَّهُمْ لَوْ مَنَعُوهُ عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الصَّدَقَةِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا لَا مُسِنَّةَ فِيهِ، وَفِي ثُبُوتِ مَا قَدْ قَالَ أَهْلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ " (1)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّه - فِي شَرْح هَذَا الْكَلَام كَلَامًا حَسَنًا لَا بُدّ مِنْ ذِكْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَوَائِد . قَالَ رَحِمَهُ اللَّه : مِمَّا يَجِب تَقْدِيمه فِي هَذَا أَنْ يُعْلَم أَنَّ أَهْل الرِّدَّة كَانُوا صِنْفَيْنِ : صِنْفٌ اِرْتَدُّوا عَنْ الدِّين وَنَابَذُوا الْمِلَّة وَعَادُوا إِلَى الْكُفْر وَهُمْ الَّذِينَ عَنَاهُمْ أَبُو هُرَيْرَة بِقَوْلِهِ : وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَب . وَهَذِهِ الْفِرْقَة طَائِفَتَانِ إِحْدَاهُمَا أَصْحَاب
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (15 / 82) (5851 -5861 )(1/193)
مُسَيْلِمَة مِنْ بَنِي حَنِيفَة وَغَيْرهمْ الَّذِينَ صَدَّقُوهُ عَلَى دَعْوَاهُ فِي النُّبُوَّة ، وَأَصْحَاب الْأَسْوَد الْعَنْسِيّ وَمَنْ كَانَ مِنْ مُسْتَجِيبِيهِ مِنْ أَهْل الْيَمَن وَغَيْرهمْ . وَهَذِهِ الْفِرْقَة بِأَسْرِهَا مُنْكِرَة لِنُبُوَّةِ نَبِيّنَا مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - مُدَّعِيَة النُّبُوَّة لِغَيْرِهِ . فَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حَتَّى قَتَلَ اللَّه مُسَيْلِمَة بِالْيَمَامَةِ ، وَالْعَنْسِيّ بِصَنْعَاء وَانْفَضَّتْ جُمُوعهمْ وَهَلَكَ أَكْثَرهمْ . وَالطَّائِفَة الْأُخْرَى اِرْتَدُّوا عَنْ الدِّين وَأَنْكَرُوا الشَّرَائِع وَتَرَكُوا الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَغَيْرهَا مِنْ أُمُور الدِّين وَعَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة فَلَمْ يَكُنْ يَسْجُد لِلَّهِ تَعَالَى فِي بَسِيط الْأَرْض إِلَّا فِي ثَلَاثَة مَسَاجِد مَسْجِد مَكَّة وَمَسْجِد الْمَدِينَة وَمَسْجِد عَبْد الْقَيْس فِي الْبَحْرَيْنِ فِي قَرْيَة يُقَال لَهَا جُوَاثَا فَفِي ذَلِكَ يَقُول الْأَعْوَر الشَّنِّيّ يَفْتَخِر بِذَلِكَ : وَالْمَسْجِد الثَّالِث الشَّرْقِيّ كَانَ لَنَا وَالْمِنْبَرَانِ وَفَصْل الْقَوْل فِي الْخُطَب أَيَّام لَا مِنْبَر لِلنَّاسِ نَعْرِفهُ إِلَّا بِطِيبَة وَالْمَحْجُوب ذِي الْحُجُب وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْمُتَمَسِّكُونَ بِدِينِهِمْ مِنْ الْأَزْدِ مَحْصُورِينَ بِجُوَاثَا إِلَى أَنْ فَتَحَ اللَّه سُبْحَانه عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْيَمَامَة فَقَالَ بَعْضهمْ وَهُوَ رَجُل مِنْ بَنِي أَبِي بَكْر بْن كِلَاب يَسْتَنْجِد أَبَا بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . أَلَا أَبْلِغْ أَبَا بَكْر رَسُولًا وَفِتْيَان الْمَدِينَة أَجْمَعِينَا فَهَلْ لَكُمْ إِلَى قَوْم كِرَام قُعُود فِي جُوَاثَا مُحْصِرِينَا كَأَنَّ دِمَاءَهُمْ فِي كُلّ فَجّ دِمَاء الْبُدْن تَغْشَى النَّاظِرِينَ تَوَكَّلْنَا عَلَى الرَّحْمَن إِنَّا وَجَدْنَا النَّصْر لَلْمُتَوَكِّلِينَا وَالصِّنْف الْآخَر هُمْ الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْن الصَّلَاة وَالزَّكَاة فَأَقَرُّوا بِالصَّلَاةِ ، وَأَنْكَرُوا فَرْضَ الزَّكَاة وَوُجُوب أَدَائِهَا إِلَى الْإِمَام . وَهَؤُلَاءِ عَلَى الْحَقِيقَة أَهْل بَغْي وَإِنَّمَا لَمْ يَدْعُوَا بِهَذَا الِاسْم فِي ذَلِكَ الزَّمَان خُصُوصًا لِدُخُولِهِمْ فِي غِمَار أَهْل الرِّدَّة فَأُضِيفَ الِاسْم فِي الْجُمْلَة إِلَى الرِّدَّة إِذْ كَانَتْ أَعْظَم الْأَمْرَيْنِ وَأَهَمَّهُمَا .
وَأُرِّخَ قِتَال أَهْل الْبَغْي فِي زَمَن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِذْ كَانُوا مُنْفَرِدِينَ فِي زَمَانه لَمْ يَخْتَلِطُوا بِأَهْلِ الشِّرْك وَقَدْ كَانَ فِي ضِمْن هَؤُلَاءِ الْمَانِعِينَ لِلزَّكَاةِ مَنْ كَانَ يَسْمَح بِالزَّكَاةِ وَلَا يَمْنَعهَا إِلَّا أَنَّ رُؤَسَاءَهُمْ صَدُّوهُمْ عَنْ ذَلِكَ الرَّأْي وَقَبَضُوا عَلَى أَيْدِيهمْ فِي ذَلِكَ كَبَنِي يَرْبُوع ، فَإِنَّهُمْ قَدْ جَمَعُوا صَدَقَاتهمْ وَأَرَادُوا أَنْ يَبْعَثُوا بِهَا إِلَى أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ، فَمَنَعَهُمْ مَالِك بْن نُوَيْرَة مِنْ ذَلِكَ وَفَرَّقَهَا فِيهِمْ وَفِي أَمْر هَؤُلَاءِ عَرَضَ الْخِلَاف وَوَقَعَتْ الشُّبْهَة لِعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَرَاجَعَ أَبَا بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ، وَنَاظَرَهُ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ النَّبِيّ(1/194)
- صلى الله عليه وسلم - : " أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه . فَمَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَقَدْ عَصَمَ نَفْسه وَمَاله " . وَكَانَ هَذَا مِنْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ الْكَلَام قَبْل أَنْ يَنْظُر فِي آخِره وَيَتَأَمَّل شَرَائِطه . فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِنَّ الزَّكَاة حَقّ الْمَال ، يُرِيد أَنَّ الْقَضِيَّة قَدْ تَضَمَّنَتْ عِصْمَة دَم وَمَال مُعَلَّقَة بِإِيفَاءِ شَرَائِطهَا . وَالْحُكْم الْمُعَلَّق بِشَرْطَيْنِ لَا يَحْصُل بِأَحَدِهِمَا وَالْآخَر مَعْدُوم . ثُمَّ قَايَسَهُ بِالصَّلَاةِ وَرَدّ الزَّكَاة إِلَيْهَا وَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْله دَلِيل عَلَى أَنَّ قِتَال الْمُمْتَنِع مِنْ الصَّلَاة كَانَ إِجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَة وَكَذَلِكَ رَدّ الْمُخْتَلَف فِيهِ إِلَى الْمُتَّفَق عَلَيْهِ فَاجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّة الِاحْتِجَاج مِنْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِالْعُمُومِ وَمِنْ أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِالْقِيَاسِ . وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعُمُوم يُخَصّ بِالْقِيَاسِ ، وَأَنَّ جَمِيع مَا تَضَمَّنَهُ الْخِطَاب الْوَارِد فِي الْحُكْم الْوَاحِد مِنْ شَرْط وَاسْتِثْنَاء مُرَاعًى فِيهِ وَمُعْتَبَر صِحَّته بِهِ . فَلَمَّا اِسْتَقَرَّ عِنْد عُمَر صِحَّة رَأْي أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَبَانَ لَهُ صَوَابه تَابَعَهُ عَلَى قِتَال الْقَوْم وَهُوَ مَعْنَى قَوْله ( فَلَمَّا رَأَيْت اللَّه قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْر لِلْقِتَالِ عَرَفْت أَنَّهُ الْحَقّ ) يُشِير إِلَى اِنْشِرَاح صَدْره بِالْحُجَّةِ الَّتِي أَدْلَى بِهَا ، وَالْبُرْهَان الَّذِي أَقَامَهُ نَصًّا وَدَلَالَة . وَقَدْ زَعَمَ زَاعِمُونَ مِنْ الرَّافِضَة أَنَّ أَبَا بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَوَّل مَنْ سَبَى الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنَّ الْقَوْم كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ فِي مَنْعِ الصَّدَقَة ، وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْخِطَاب فِي قَوْله تَعَالَى ( خُذْ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة تُطَهِّرهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتك سَكَنٌ لَهُمْ ) خِطَاب خَاصّ فِي مُوَاجِهَة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - دُون غَيْره وَأَنَّهُ مُقَيَّد بِشَرَائِط لَا تُوجَد فِيمَنْ سِوَاهُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ التَّطْهِير وَالتَّزْكِيَة وَالصَّلَاة عَلَى الْمُتَصَدِّق مَا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمِثْل هَذِهِ الشُّبْهَة إِذَا وُجِدَ كَانَ مِمَّا يُعْذَر فِيهِ أَمْثَالهمْ ، وَيُرْفَع بِهِ السَّيْف عَنْهُمْ ، وَزَعَمُوا أَنَّ قِتَالهمْ كَانَ عَسْفًا . قَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّه : وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمُوا مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْم لَا خَلَاق لَهُمْ فِي الدِّين وَإِنَّمَا رَأْس مَالهمْ الْبُهُت وَالتَّكْذِيب وَالْوَقِيعَة فِي السَّلَف وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَهْل الرِّدَّة كَانُوا أَصْنَافًا مِنْهُمْ مَنْ اِرْتَدَّ عَنْ الْمِلَّة وَدَعَا إِلَى نُبُوَّة مُسَيْلَمَة وَغَيْره ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَأَنْكَرَ الشَّرَائِع كُلّهَا . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ الصَّحَابَة كُفَّارًا وَلِذَلِكَ رَأَى أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سَبْي ذَرَارِيّهمْ وَسَاعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَر الصَّحَابَة . وَاسْتَوْلَدَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ جَارِيَة مِنْ سَبْي بَنِي حَنِيفَة فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدًا(1/195)
الَّذِي يُدْعَى اِبْن الْحَنَفِيَّة . ثُمَّ لَمْ يَنْقَضِ عَصْر الصَّحَابَة حَتَّى أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدّ لَا يُسْبَى . فَأَمَّا مَانِعُوا الزَّكَاة مِنْهُمْ الْمُقِيمُونَ عَلَى أَصْل الدِّين فَإِنَّهُمْ أَهْل بَغْي وَلَمْ يُسَمُّوا عَلَى الِانْفِرَاد مِنْهُمْ كُفَّارًا وَإِنْ كَانَتْ الرِّدَّة قَدْ أُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ لِمُشَارَكَتِهِمْ الْمُرْتَدِّينَ فِي مَنْعِ بَعْض مَا مَنَعُوهُ مِنْ حُقُوق الدِّين ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الرِّدَّة اِسْم لُغَوِيّ وَكُلّ مِنْ اِنْصَرَفَ عَنْ أَمْر كَانَ مُقْبِلًا عَلَيْهِ فَقَدْ اِرْتَدَّ عَنْهُ وَقَدْ وُجِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْم الِانْصِرَاف عَنْ الطَّاعَة ، وَمَنْعُ الْحَقّ ، وَانْقَطَعَ عَنْهُمْ اِسْم الثَّنَاء وَالْمَدْح بِالدِّينِ وَعَلَقَ بِهِمْ الِاسْم الْقَبِيح لِمُشَارَكَتِهِمْ الْقَوْم الَّذِينَ كَانَ اِرْتِدَادهمْ حَقًّا .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة } وَمَا اِدَّعَوْهُ مِنْ كَوْن الْخِطَاب خَاصًّا لِرَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّ خِطَاب كِتَاب اللَّه تَعَالَى عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُه : خِطَاب عَام كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاة ) الْآيَة وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَام } وَخِطَاب خَاصّ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُشْرِكهُ فِيهِ غَيْره وَهُوَ مَا أُبِينَ بِهِ عَنْ غَيْره بِسِمَةِ التَّخْصِيص وَقَطْعِ التَّشْرِيك كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمِنْ اللَّيْل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة لَك } وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { خَالِصَة لَك مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ } وَخِطَاب مُوَاجَهَة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ وَجَمِيع أُمَّته فِي الْمُرَاد بِهِ سَوَاء كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَقِمْ الصَّلَاة لِدُلُوك الشَّمْس } . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآن فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم ) وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاة } وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ خِطَاب الْمُوَاجَهَة . فَكُلّ ذَلِكَ غَيْر مُخْتَصّ بِرَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بَلْ تُشَارِكهُ فِيهِ الْأُمَّة فَكَذَا قَوْله تَعَالَى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة } فَعَلَى الْقَائِم بَعْده - صلى الله عليه وسلم - بِأَمْرِ الْأُمَّة أَنْ يَحْتَذِيَ حَذْوه فِي أَخْذهَا مِنْهُمْ وَإِنَّمَا الْفَائِدَة فِي مُوَاجَهَة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْخِطَابِ أَنَّهُ هُوَ الدَّاعِي إِلَى اللَّه تَعَالَى وَالْمُبَيِّن عَنْهُ مَعْنَى مَا أَرَادَ فَقَدَّمَ اِسْمه فِي الْخِطَاب لِيَكُونَ سُلُوك الْأَمْر فِي شَرَائِع الدِّين عَلَى حَسَب مَا يَنْهَجهُ وَيُبَيِّنهُ لَهُمْ . وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } فَافْتَتَحَ الْخِطَاب بِالنُّبُوَّةِ بِاسْمِهِ خُصُوصًا ثُمَّ خَاطَبَهُ وَسَائِر أُمَّته بِالْحُكْمِ عُمُومًا وَرُبَّمَا كَانَ الْخِطَاب لَهُ مُوَاجَهَة وَالْمُرَاد غَيْره كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ كُنْت فِي شَكّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْك فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَاب مِنْ قَبْلِك ) إِلَى قَوْله : { فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ } وَلَا(1/196)
يَجُوز أَنْ يَكُون - صلى الله عليه وسلم - قَدْ شَكّ قَطُّ فِي شَيْء مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْهِ . فَأَمَّا التَّطْهِير وَالتَّزْكِيَة وَالدُّعَاء مِنْ الْإِمَام لِصَاحِبِ الصَّدَقَة فَإِنَّ الْفَاعِل فِيهَا قَدْ يَنَال ذَلِكَ كُلّه بِطَاعَةِ اللَّه وَطَاعَة رَسُوله - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا وَكُلّ ثَوَاب مَوْعُود عَلَى عَمَل فِي زَمَنه - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّهُ بَاقٍ غَيْر مُنْقَطِع . وَيُسْتَحَبّ لِلْإِمَامِ وَعَامِل الصَّدَقَة أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُصَدِّقِ بِالنَّمَاءِ وَالْبَرَكَة فِي مَاله ، وَيُرْجَى أَنْ يَسْتَجِيب اللَّه ذَلِكَ وَلَا يُخَيِّبَ مَسْأَلَته . فَإِنْ قِيلَ كَيْف تَأَوَّلْت أَمْر الطَّائِفَة الَّتِي مَنَعَتْ الزَّكَاة عَلَى الْوَجْه الَّذِي ذَهَبْت إِلَيْهِ وَجَعَلْتهمْ أَهْل بَغْي ؟ وَهَلْ إِذَا أَنْكَرَت طَائِفَة مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَاننَا فَرْض الزَّكَاة وَامْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهَا يَكُون حُكْمهمْ حُكْم أَهْل الْبَغْي ؟ قُلْنَا : لَا فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ فَرْضَ الزَّكَاة فِي هَذِهِ الْأَزْمَان كَانَ كَافِرًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَالْفَرْق بَيْن هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا عُذِرُوا لِأَسْبَابٍ وَأُمُور لَا يَحْدُث مِثْلهَا فِي هَذَا الزَّمَان ، مِنْهَا قُرْبُ الْعَهْد بِزَمَانِ الشَّرِيعَة الَّذِي كَانَ يَقَع فِيهِ تَبْدِيل الْأَحْكَام بِالنَّسْخِ ، وَمِنْهَا أَنَّ الْقَوْم كَانُوا جُهَّالًا بِأُمُورِ الدِّين وَكَانَ عَهْدهمْ بِالْإِسْلَامِ قَرِيبًا فَدَخَلَتْهُمْ الشُّبْهَة فَعُذِرُوا . فَأَمَّا الْيَوْم وَقَدْ شَاعَ دِينُ الْإِسْلَام وَاسْتَفَاضَ فِي الْمُسْلِمِينَ عِلْمُ وُجُوب الزَّكَاة حَتَّى عَرَفَهَا الْخَاصّ وَالْعَامّ ، وَاشْتَرَكَ فِيهِ الْعَالِم وَالْجَاهِل ، فَلَا يُعْذَر أَحَد بِتَأْوِيلِ يَتَأَوَّلهُ فِي إِنْكَارهَا . وَكَذَلِكَ الْأَمْر فِي كُلّ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَيْهِ مِنْ أُمُور الدِّين إِذَا كَانَ عِلْمه مُنْتَشِرًا كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْس وَصَوْم شَهْر رَمَضَان وَالِاغْتِسَال مِنْ الْجَنَابَة وَتَحْرِيم الزِّنَا وَالْخَمْر وَنِكَاح ذَوَات الْمَحَارِم وَنَحْوهَا مِنْ الْأَحْكَام إِلَّا أَنْ يَكُون رَجُلًا حَدِيث عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَلَا يَعْرِف حُدُوده فَإِنَّهُ إِذَا أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْهَا جَهْلًا بِهِ لَمْ يَكْفُر ، وَكَانَ سَبِيله سَبِيل أُولَئِكَ الْقَوْم فِي بَقَاء اِسْم الدِّين عَلَيْهِ . فَأَمَّا مَا كَانَ الْإِجْمَاع فِيهِ مَعْلُومًا مِنْ طَرِيق عِلْم الْخَاصَّة كَتَحْرِيمِ نِكَاح الْمَرْأَة عَلَى عَمَّتهَا وَخَالَتهَا ، وَأَنَّ الْقَاتِل عَمْدًا لَا يَرِث وَأَنَّ لِلْجَدَّةِ السُّدُس ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَام فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَهَا لَا يَكْفُر ، بَلْ يُعْذَر فِيهَا لِعَدَمِ اِسْتِفَاضَة عِلْمهَا فِي الْعَامَّة . قَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّه : وَإِنَّمَا عَرَضَتْ الشُّبْهَة لِمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْوَجْه الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُ لِكَثْرَةِ مَا دَخَلَهُ مِنْ الْحَذْف فِي رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَصْد بِهِ لَمْ يَكُنْ سِيَاق الْحَدِيث عَلَى وَجْهه وَذَكَرَ الْقِصَّة فِي كَيْفِيَّة الرِّدَّة مِنْهُمْ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ حِكَايَة مَا جَرَى بَيْن أَبِي بَكْرٍ وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَمَا تَنَازَعَاهُ فِي اِسْتِبَاحَة قِتَالهمْ وَيُشْبِه أَنْ(1/197)
يَكُون أَبُو هُرَيْرَة إِنَّمَا لَمْ يَعْنِ بِذِكْرِ جَمِيع الْقِصَّة اِعْتِمَادًا عَلَى مَعْرِفَة الْمُخَاطَبِينَ بِهَا إِذْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا كَيْفِيَّة الْقِصَّة وَيُبَيِّن لَك أَنَّ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة مُخْتَصَر أَنَّ عَبْد اللَّه بْن عُمَر وَأَنَسًا رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ رَوَيَاهُ بِزِيَادَةٍ لَمْ يَذْكُرْهَا أَبُو هُرَيْرَة . فَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاة وَيُؤْتُوا الزَّكَاة فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَام وَحِسَابهمْ عَلَى اللَّه " وَفِي رِوَايَة أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ " أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُوله ، وَأَنْ يَسْتَقْبِلُوا قِبْلَتنَا ، وَأَنْ يَأْكُلُوا ذَبِيحَتنَا ، وَأَنْ يُصَلُّوا صَلَاتنَا . فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا . لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَاللَّهُ أَعْلَم . هَذَا آخِر كَلَام الْخَطَّابِيّ رَحِمَهُ اللَّه .
قُلْت : وَقَدْ ثَبَتَ فِي الطَّرِيق الثَّالِث الْمَذْكُور فِي الْكِتَاب مِنْ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ، وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْت بِهِ . فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا " وَفِي اِسْتِدْلَال أَبِي بَكْر وَاعْتِرَاض عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَحْفَظَا عَنْ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مَا رَوَاهُ اِبْن عُمَر وَأَنَس وَأَبُو هُرَيْرَة وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة سَمِعُوا هَذِهِ الزِّيَادَات الَّتِي فِي رِوَايَاتهمْ فِي مَجْلِس آخَرَ ، فَإِنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَوْ سَمِعَ ذَلِكَ لَمَا خَالَفَ ، وَلَمَا كَانَ اِحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ ؛ فَإِنَّهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَة حُجَّة عَلَيْهِ . وَلَوْ سَمِعَ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ هَذِهِ الزِّيَادَة لَاحْتَجَّ بِهَا ، وَلَمَا اِحْتَجَّ بِالْقِيَاسِ وَالْعُمُوم . وَاللَّهُ أَعْلَم .
قَوْله : ( وَاَللَّه لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لَقَاتَلْتهمْ عَلَى مَنْعه ) هَكَذَا فِي مُسْلِم ( عِقَالًا ) وَكَذَا فِي بَعْض رِوَايَات الْبُخَارِيّ وَفِي بَعْضهَا ( عَنَاقًا ) بِفَتْحِ الْعَيْن وَبِالنُّونِ وَهِيَ الْأُنْثَى مِنْ وَلَد الْمَعْز وَكِلَاهُمَا صَحِيح وَهُوَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ كَرَّرَ الْكَلَام مَرَّتَيْنِ فَقَالَ فِي مَرَّة عِقَالًا وَفِي الْأُخْرَى عَنَاقًا فَرُوِيَ عَنْهُ اللَّفْظَانِ . فَأَمَّا رِوَايَة الْعَنَاق فَهِيَ مَحْمُولَة عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ الْغَنَم صِغَارًا كُلّهَا بِأَنْ مَاتَتْ فِي بَعْض الْحَوْل فَإِذَا حَال حَوْل الْأُمَّهَات زَكَّى السِّخَال بِحَوْلِ الْأُمَّهَات سَوَاء بَقِيَ مِنْ الْأُمَّهَات شَيْء أَمْ لَا . هَذَا هُوَ(1/198)
الصَّحِيح الْمَشْهُور . وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الْأَنْمَاطِيّ مِنْ أَصْحَابنَا : لَا يُزَكَّى الْأَوْلَاد بِحَوْلِ الْأُمَّهَات إِلَّا أَنْ يَبْقَى مِنْ الْأُمَّهَات نِصَاب .
وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : أَنْ لَا يَبْقَى مِنْ الْأُمَّهَات شَيْء . وَيُتَصَوَّر ذَلِكَ فِيمَا إِذَا مَاتَ مُعْظَم الْكِبَار وَحَدَثَتْ صِغَار فَحَال حَوْل الْكِبَار عَلَى بَقِيَّتهَا وَعَلَى الصِّغَار . وَاللَّهُ أَعْلَم .
وَأَمَّا رِوَايَة ( عِقَالًا ) فَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِيهَا ؛ فَذَهَبَ جَمَاعَة مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْعِقَالِ زَكَاة عَام وَهُوَ مَعْرُوف فِي اللُّغَة بِذَلِكَ . وَهَذَا قَوْل النَّسَائِيِّ وَالنَّضْر بْن شُمَيْلٍ وَأَبِي عُبَيْدَة وَالْمُبَرِّد وَغَيْرهمْ مِنْ أَهْل اللُّغَة ، وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة مِنْ الْفُقَهَاء ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ الْعِقَال يُطْلَق عَلَى زَكَاة الْعَام بِقَوْلِ عَمْرو بْن الْعَدَّاء . سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُك لَنَا سَبْدًا فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرو عِقَالَيْنِ أَرَادَ مُدَّة عِقَال فَنَصَبَهُ عَلَى الظَّرْف وَعَمْرو هَذَا السَّاعِي هُوَ عَمْرو بْن عُتْبَةَ بْن أَبِي سُفْيَان وَلَّاهُ عَمّه مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا صَدَقَات كَلْب فَقَالَ فِيهِ قَائِلهمْ ذَلِكَ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الْعِقَال الَّذِي هُوَ الْحَبْل الَّذِي يُعْقَل بِهِ الْبَعِير لَا يَجِب دَفْعه فِي الزَّكَاة فَلَا يَجُوز الْقِتَال عَلَيْهِ ، فَلَا يَصِحّ حَمْلُ الْحَدِيث عَلَيْهِ .
وَذَهَبَ كَثِيرُونَ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْعِقَالِ الْحَبْل الَّذِي يُعْقَل بِهِ الْبَعِير وَهَذَا الْقَوْل يُحْكَى عَنْ مَالِك وَابْن أَبِي ذِئْب وَغَيْرهمَا . وَهُوَ اِخْتِيَار صَاحِب التَّحْرِير وَجَمَاعَة مِنْ حُذَّاق الْمُتَأَخِّرِينَ .
قَالَ صَاحِب التَّحْرِير : قَوْل مَنْ قَالَ الْمُرَاد صَدَقَة عَام تَعَسُّف وَذَهَاب عَنْ طَرِيقَة الْعَرَب ، لِأَنَّ الْكَلَام خَرَجَ مَخْرَج التَّضْيِيق وَالتَّشْدِيد وَالْمُبَالَغَة ، فَتَقْتَضِي قِلَّة مَا عَلَّقَ بِهِ الْقِتَال وَحَقَارَته . وَإِذَا حُمِلَ عَلَى صَدَقَة الْعَام لَمْ يَحْصُل هَذَا الْمَعْنَى . قَالَ : وَلَسْت أُشَبِّه هَذَا إِلَّا بِتَعَسُّفِ مَنْ قَالَ فِي قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : " لَعَنَ اللَّه السَّارِق يَسْرِق الْبَيْضَة فَتُقْطَع يَده وَيَسْرِق الْحَبْلَ فَتُقْطَع يَده " إِنَّ الْمُرَاد بِالْبَيْضَةِ بَيْضَة الْحَدِيد الَّتِي يُغَطَّى بِهَا الرَّأْس فِي الْحَرْب وَبِالْحَبْلِ الْوَاحِد مِنْ حِبَال السَّفِينَة وَكُلّ وَاحِد مِنْ هَذَيْنِ يَبْلُغ دَنَانِير كَثِيرَة .
قَالَ بَعْض الْمُحَقِّقِينَ : إِنَّ هَذَا الْقَوْل لَا يَجُوز عِنْد مَنْ يَعْرِف اللُّغَة وَمَخَارِج كَلَام الْعَرَب لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِع تَكْثِير لِمَا يَسْرِقهُ فَيَصْرِف إِلَيْهِ بَيْضَة تُسَاوِي دَنَانِير وَحَبْل لَا يَقْدِر السَّارِق عَلَى حَمْله . وَلَيْسَ مِنْ عَادَة الْعَرَب وَالْعَجَم أَنْ يَقُولُوا قَبَّحَ اللَّه فُلَانًا عَرَّضَ نَفْسه(1/199)
لِلضَّرْبِ فِي عِقْدِ جَوْهَر ، وَتَعَرَّضَ لِعُقُوبَةِ الْغُلُول فِي جِرَاب مِسْكٍ . وَإِنَّمَا الْعَادَة فِي مِثْل هَذَا أَنْ يُقَال : لَعَنَهُ اللَّه تَعَرَّضَ لِقَطْعِ الْيَد فِي حَبْل رَثّ أَوْ فِي كُبَّة شَعْر . وَكُلّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا أَحْقَر كَانَ أَبْلَغَ . فَالصَّحِيح هُنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْعِقَال الَّذِي يُعْقَل بِهِ الْبَعِير ، وَلَمْ يُرِدْ عَيْنه وَإِنَّمَا أَرَادَ قَدْرَ قِيمَته .
وَالدَّلِيل عَلَى هَذَا أَنَّ الْمُرَاد بِهِ الْمُبَالَغَة . وَلِهَذَا قَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى ( عَنَاقًا ) . وَفِي بَعْضهَا ( لَوْ مَنَعُونِي جَدْيًا أَذْوَطَ ) . وَالْأَذْوَط صَغِير الْفَكّ وَالذَّقَن . هَذَا آخِر كَلَام صَاحِب التَّحْرِير . وَهَذَا الَّذِي اِخْتَارَهُ هُوَ الصَّحِيح الَّذِي لَا يَنْبَغِي غَيْره . وَعَلَى هَذَا اِخْتَلَفُوا فِي الْمُرَاد بِمَنَعُونِي عِقَالًا فَقِيلَ : قَدْرُ قِيمَته وَهُوَ ظَاهِر مُتَصَوَّر فِي زَكَاة الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْمُعَشَّرَات وَالْمَعْدِن وَالزَّكَاة وَزَكَاة الْفِطْر وَفِي الْمَوَاشِي أَيْضًا فِي بَعْض أَحْوَالهَا كَمَا إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ سِنّ فَلَمْ يَكُنْ عِنْده وَنَزَلَ إِلَى سِنّ دُونهَا وَاخْتَارَ أَنْ يَرُدّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَمَنَعَ مِنْ الْعِشْرِينَ قِيمَة عِقَال ، وَكَمَا إِذَا كَانَتْ غَنَمه سِخَالًا وَفِيهَا سَخْلَة فَمَنَعَهَا وَهِيَ تُسَاوِي عِقَالًا . وَنَظَائِر مَا ذَكَرْته كَثِيرَة مَعْرُوفَة فِي كُتُب الْفِقْه . وَإِنَّمَا ذَكَرْت هَذِهِ الصُّورَة تَنْبِيهًا بِهَا عَلَى غَيْرهَا ، وَعَلَى أَنَّهُ مُتَصَوَّر وَلَيْسَ بِصَعْبٍ ؛ فَإِنِّي رَأَيْت كَثِيرِينَ مِمَّنْ لَمْ يُعَان الْفِقْه يُسْتَصْعَب تَصَوُّرُهُ حَتَّى حَمَلَهُ بَعْضهمْ وَرُبَّمَا وَافَقَهُ بَعْض الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ وَلَيْسَ مُتَصَوَّرًا . وَهَذَا غَلَط قَبِيح وَجَهْل صَرِيح .
وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء أَنَّ مَعْنَاهُ مَنَعُونِي زَكَاة لِعِقَالٍ إِذَا كَانَ مِنْ عُرُوض التِّجَارَة . وَهَذَا تَأْوِيل صَحِيح أَيْضًا وَيَجُوز أَنْ يُرَاد مَنَعُونِي عِقَالًا أَيْ مَنَعُونِي الْحَبْل نَفْسه عَلَى مَذْهَب مَنْ يُجَوِّز الْقِيمَة وَيَتَصَوَّر عَلَى مَذْهَب الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه عَلَى أَحَد أَقْوَاله . فَإِنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْوَاجِب فِي عُرُوض التِّجَارَة ثَلَاثَة أَقْوَال أَحَدهَا : يَتَعَيَّن أَنْ يَأْخُذ مِنْهَا عَرَضًا حَبْلًا أَوْ غَيْره كَمَا يَأْخُذ مِنْ الْمَاشِيَة مِنْ جِنْسهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَأْخُذ إِلَّا دَرَاهِم أَوْ دَنَانِير رُبْع عُشْر قِيمَته كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّة .
وَالثَّالِث : يَتَخَيَّر بَيْن الْعَرَضِ وَالنَّقْد . وَاللَّهُ أَعْلَم .
وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ بَعْض أَهْل الْعِلْم أَنَّ الْعِقَال يُؤْخَذ مَعَ الْفَرِيضَة لِأَنَّ عَلَى صَاحِبهَا تَسْلِيمهَا وَإِنَّمَا يَقَع قَبْضهَا التَّامّ بِرِبَاطِهَا . قَالَ الْخَطَّابِيُّ : قَالَ اِبْن عَائِشَة : كَانَ مِنْ عَادَة(1/200)
الْمُصَدِّق إِذَا أَخَذَ الصَّدَقَة أَنْ يَعْمِد إِلَى قَرَنٍ وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَاف وَالرَّاء وَهُوَ حَبْل فَيُقْرَن بِهِ بَيْن بَعِيرَيْنِ أَيْ يَشُدّهُ فِي أَعْنَاقهمَا لِئَلَّا تَشْرُد الْإِبِل .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ عَلَى الصَّدَقَة فَكَانَ يَأْخُذ مَعَ كُلّ فَرِيضَتَيْنِ عِقَالهمَا وَقِرَانهمَا . وَكَانَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَيْضًا يَأْخُذ مَعَ كُلّ فَرِيضَة عِقَالًا وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْت اللَّه تَعَالَى قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْر لِلْقِتَالِ فَعَرَفْت أَنَّهُ الْحَقّ ) مَعْنَى رَأَيْت : عَلِمْت ، وَأَيْقَنْت . وَمَعْنَى شَرَحَ : فَتَحَ ، وَوَسَّعَ ، وَلَيَّنَ وَمَعْنَاهُ : عَلِمْت بِأَنَّهُ جَازِم بِالْقِتَالِ لِمَا أَلْقَى اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى فِي قَلْبه مِنْ الطُّمَأْنِينَة لِذَلِكَ ، وَاسْتِصْوَابه ذَلِكَ . وَمَعْنَى قَوْله ( عَرَفْت أَنَّهُ الْحَقّ ) أَيْ بِمَا أَظْهَرَ مِنْ الدَّلِيل ، وَأَقَامَهُ مِنْ الْحُجَّة ، فَعَرَفْت بِذَلِكَ أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هُوَ الْحَقّ لَا أَنَّ عُمَر قَلَّدَ أَبَا بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا ؛ فَإِنَّ الْمُجْتَهِد لَا يُقَلِّد الْمُجْتَهِد .
وَقَدْ زَعَمَتْ الرَّافِضَة أَنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِنَّمَا وَافَقَ أَبَا بَكْر تَقْلِيدًا ، وَبَنَوْهُ عَلَى مَذْهَبهمْ الْفَاسِد فِي وُجُوب عِصْمَة الْأَئِمَّة . وَهَذِهِ جَهَالَة ظَاهِرَة مِنْهُمْ . وَاللَّهُ أَعْلَم . (1)
تَدَرُّجُ مَشْرُوعِيَّةِ الْجِهَادِ (2)
الْجِهَادُ مَشْرُوعٌ بِالإِْجْمَاعِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (216) سورة البقرة إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآْيَاتِ ، وَلِفِعْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمْرِهِ بِهِ (3)
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ : مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ (4) .
وَقَدْ كَانَ الْجِهَادُ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبْل الْهِجْرَةِ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ ؛ لأَِنَّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوَّل الأَْمْرِ هُوَ التَّبْلِيغُ وَالإِْنْذَارُ ، وَالصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ ، وَالصَّفْحُ وَالإِْعْرَاضُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ، وَبَدَأَ الأَْمْرَ بِالدَّعْوَةِ سِرًّا ثُمَّ جَهْرًا (5) .
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (1 / 91)
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (16 / 125)
(3) - المغني 8 / 346 ، وكشاف القناع 3 / 32 .
(4) - أخرجه مسلم ( 3 / 1517 - ط الحلبي ) من حديث أبي هريرة .
(5) - القرطبي 1 / 722 ، وعمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير 2 / 46 ، وإمتاع الأسماع للمقريزي 1 / 51 .(1/201)
قَال اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (85) سورة الحجر ، وَقَال أَيْضًا : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل
وَقَال أَيْضًا : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (94) سورة الحجر ، ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَال إِذَا ابْتَدَأَهُمُ الْكُفَّارُ بِالْقِتَال ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ . وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (39) سورة الحج .
ثُمَّ شَرَعَ اللَّهُ الاِبْتِدَاءَ بِالْقِتَال عَلَى الإِْطْلاَقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {{انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (41) سورة التوبة، وَقَوْلِهِ : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (36) سورة التوبة، وَتُسَمَّى هَذِهِ آيَةُ السَّيْفِ ، وَقِيل : هِيَ قَوْله تَعَالَى : {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (5) سورة التوبة.
وَقَال رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لاَ يُتْرَكَ الْجِهَادُ كُل سَنَةٍ مَرَّةً عَلَى الأَْقَل . (2)
وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يُوَجِّهَ الإِْمَامُ كُل سَنَةٍ طَائِفَةً ، وَيَزُجَّ بِنَفْسِهِ مَعَهَا أَوْ يُخْرِجَ بَدَلَهُ مَنْ يَثِقُ بِهِ ؛ لِيَدْعُوَ الْكُفَّارَ لِلإِْسْلاَمِ ، وَيُرَغِّبَهُمْ فِيهِ ، ثُمَّ يُقَاتِلَهُمْ إِذَا أَبَوْا ؛ لأَِنَّ فِي تَعْطِيلِهِ أَكْثَر مِنْ
__________
(1) - أخرجه البخاري ( الفتح 3 / 262 - ط السلفية ) من حديث عمر بن الخطاب . وانظر : المبسوط للسرخسي 10 / 2 ، وروضة الطالبين 10 / 204 ، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 4 / 175 .
(2) - ابن عابدين 3 / 218 ، والدسوقي 2 / 173 ، وجواهر الإكليل 1 / 251 ، والمهذب 2 / 226 ، وروضة الطالبين 10 / 208 ، والمغني 8 / 348 ، وكشاف القناع 3 / 36 ، والإنصاف 4 / 116 .(1/202)
سَنَةٍ مَا يُطَمِّعُ الْعَدُوَّ فِي الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ فِي السَّنَةِ إِلَى أَكْثَر مِنْ مَرَّةٍ وَجَبَ ؛ لأَِنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فَوَجَبَ مِنْهُ مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ ، فَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى تَأْخِيرِهِ لِضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ قِلَّةِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي قِتَالِهِمْ مِنَ الْعُدَّةِ ، أَوِ الْمَدَدِ الَّذِي يَسْتَعِينُ بِهِ ، أَوْ يَكُونُ الطَّرِيقُ إِلَيْهِمْ فِيهَا مَانِعٌ ، أَوْ لَيْسَ هُنَا مُؤَنٌ ، أَوْ لِلطَّمَعِ فِي إِسْلاَمِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الأَْعْذَارِ ، جَازَ تَأْخِيرُهُ ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَالَحَ قُرَيْشًا عَشْرَ سِنِينَ (1) ، وَأَخَّرَ قِتَالَهُمْ حَتَّى نَقَضُوا الْهُدْنَةَ ، وَأَخَّرَ قِتَال غَيْرِهِمْ مِنَ الْقَبَائِل بِغَيْرِ هُدْنَةٍ ؛ وَلأَِنَّهُ إِذَا كَانَ يُرْجَى مِنَ النَّفْعِ بِتَأْخِيرِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يُرْجَى مِنَ النَّفْعِ بِتَقْدِيمِهِ وَجَبَ تَأْخِيرُهُ (2) .
فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَدْعُو إِلَى تَأْخِيرِ الْجِهَادِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ الإِْكْثَارُ مِنْهُ ؛ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنْ أُقْتَل فِي سَبِيل اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ، ثُمَّ أُقْتَل ثُمَّ أُحْيَا ، ثُمَّ أُقْتَل (3)
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - غَزَا سَبْعًا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً ، وَبَعَثَ خَمْسًا وَثَلاَثِينَ سَرِيَّةً (4) .
ــــــــــــــــ
__________
(1) - أخرجه ابن إسحاق مرسلا عن الزهري كما في سيرة ابن هشام ( 2 / 317 - ط الحلبي ) .
(2) - المهذب 2 / 226 ، والمغني 8 / 348 ، وكشاف القناع 3 / 36 ، والإنصاف 4 / 116 .
(3) - أخرجه البخاري ( الفتح 6 / 16 - ط السلفية ) من حديث أبي هريرة .
(4) - المبسوط 10 / 3 ، والمهذب 2 / 277 .(1/203)
مثل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومثل الأنبياء قبله
28-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ وَأَكْمَلَهُ إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يُطِيفُونَ بِهِ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ : مَا رَأَيْنَا بَيْتًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا إِلاَّ مَوْضِعَ هَذِهِ اللَّبِنَةِ فَكُنْتُ أَنَا تِلْكَ اللَّبِنَةَ. (1)
وعَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَثَلِى فِى النَّبِيِّينَ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَحْسَنَهَا وَأَكْمَلَهَا وَأَجْمَلَهَا وَتَرَكَ مِنْهَا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِالْبِنَاءِ وَيَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ لَوْ تَمَّ مَوْضِعُ تِلْكَ اللَّبِنَةِ وَأَنَا فِى النَّبِيِّينَ مَوْضِعُ تِلْكَ اللَّبِنَةِ ». (2)
وعن جَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« مَثَلِى وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِى كَمَثَلِ رَجُلٍ ابْتَنَى دَارًا وفي رواية بَنَى دَارًا فَأَحْسَنَهَا وَأَكْمَلَهَا إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا وَيَقُولُونَ لَوْلاَ مَوْضِعُ هَذِهِ اللَّبِنَةِ ». قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« فَأَنَا مَوْضِعُ تِلْكَ اللَّبِنَةِ جِئْتُ فَخَتَمْتُ الأَنْبِيَاءَ » (3) .
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذَا مَثَلُ نُبُوَّتِهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَنَّهُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَبِهِ تَتِمُّ حُجَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى خَلْقِهِ ، وَمَثَّلَ ذَلِكَ بِالْبُنْيَانِ الَّذِي يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ، وَهُوَ نَاقِصُ الْكَمَالِ بِنُقْصَانِ بَعْضِهِ ، فَأَكْمَلَ اللَّهُ بِهِ دِينَهُ ، وَخَتَمَ بِهِ وَحْيَهُ . وَالْعَرَبُ تُمَثِّلُ مَا يُبَالِغُونَ فِيهِ مِنَ الْوَثَاقَةِ وَالْأَصَالَةِ وَعُقْدَةِ الْمَكَارِمِ وَالْمَفَاخِرِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ بِالْبُنْيَانِ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ . يَعْنِي : لَا يَزُولُ وَلَا يَتَخَلْخَلُ ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ بَنَى السَّمَاءَ فَرَفَعَ سَمْكَهَا ، وَهُوَ بِنَاءُ الْقُدْرَةِ لَا إِنَّ ثَمَّ شَيْئًا مِنْ آلَةِ الصَّنْعَةِ . قَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّيِّبِ يَذْكُرُ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ :
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 91) (130) والمسند الجامع - (18 / 202) (14731) وصحيح ابن حبان - (14 / 317) (6407) ومسند الحميدي - المكنز - (1085) و صحيح مسلم- المكنز - (6099 -6102 )
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (3972 ) صحيح
(3) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (9 / 5) (18175) وصحيح مسلم- المكنز - (6103)(1/204)
فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
وَقَالَ آخَرُ :
أُولَئِكَ قَوْمٌ إِنْ بَنَوْا أَحْسَنُوا الْبُنَى وَإِنْ عَاهَدُوا أَوْفَوْا وَإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا
الْبُنَى : مَقْصُورٌ بِضَمِّ الْبَاءِ جَمْعُ بُنْيَةٍ ، هَكَذَا قَالَ لَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ ، يَعْنِي الزَّجَّاجَ ، كَمَا تَقُولُ : لِحْيَةٌ وَلِحًى ، وَحِلْيَةٌ وَحِلًى وَأَنْشَدَ ابْنُ دُرَيْدٍ :
تَبَوَّأْتُ بَيْتًا فِي الْمَكَارِمِ وَالْعُلَا رَفِيعَ الْبِنَا بَيْنَ الْمَجَرَّةِ وَالنَّجْمِ
وَقَالَ زِيَادُ بْنُ حَمَلٍ التَّمِيمِيُّ :
غَمْرُ النَّدَى لَا يَبِيتُ الْحَقُّ يَثْمُلُهُ إِلَّا غَدَا وَهْوَ سَامِي الطَّرْفِ مُبْتَسِمُ
إِنَّ الْمَكَارِمَ يَبْنِيهَا وَيَعْمُرُهَا حَتَّى يَنَالَ أُمُورًا دُونَهُ قُحَمُ
يَعْنِي لَا يَلِجُ عَلَيْهِ الْحَقُّ إِلَّا سُرَّ بِهِ ، وَقُحَمٌ : تَكَلُّفٌ وَتَعَبٌ وَأَخْبَرَنَا أَبُو خَلِيفَةَ , عَنِ ابْنِ سَلَّامٍ قَالَ : لَمَّا أَرَادَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ - وَإِنَّمَا هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَلَيْسَ هُوَ الْوَلِيدُ - أَنْ يُبَايِعَ لِابْنِهِ يَزِيدَ قَالَ جَرِيرٌ :
وَمَاذَا تَنْظُرُونَ بِهَا وَفِيكُمْ نُهُوضٌ بِالْعَظَائِمِ وَاعْتِلَاءُ
وَلَوْ قَدْ بَايَعُوكَ وَلِيَّ عَهْدٍ لَقَامَ الْوَزْنُ وَاعْتَدَلَ الْبِنَاءُ
وَقَالَ آخَرُ مِنَ الْعَرَبِ يَمْدَحُ قَوْمًا :
هُمْ حَلُّوا مِنَ الشُّرَفِ الْمُعَلَّى وَمِنْ حَسَبِ الْعَشِيرَةِ حَيْثُ شَاءُوا
بُنَاةُ مَكَارِمٍ وَأُسَاةُ كَلْمٍ دِمَاؤُهُمُ مِنَ الْكَلِبِ الشِّفَاءُ
فَأَمَّا بَيْتُكُمْ - إِنْ عُدَّ - بَيْتٌ فَطَالَ السَّمْكُ وَاتَّسَعَ الْفِنَاءُ
وَأَمَّا أُسُّهُ فَعَلَى قَدِيمٍ مِنَ الْعَادِيِّ إِنْ ذُكِرَ الْبِنَاءُ
فَلَوْ أَنَّ السَّمَاءَ دَنَتْ لِمَجْدٍ وَمَكْرُمَةٍ دَنَتْ لَكُمُ السَّمَاءُ
قَوْلُهُ : دِمَاؤُهُمُ مِنَ الْكَلِبِ الشِّفَاءُ : الْكَلِبُ دَاءٌ يَأْخُذُ الْكَلْبَ ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ الْكَلْبَ الْكَلِبَ - وَهُوَ الَّذِي يَأْخُذُهُ هَذَا الدَّاءُ - إِذَا عَضَّ تَلِفَ الْمَعْضُوضُ ، وَإِذَا اسْتَشْفَى الْمَعْضُوضُ بِدَمِ الشَّرِيفِ بَرِئَ (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - أَمْثَالُ الْحَدِيثِ لِلرَّامَهُرْمِزِيِّ (2 )(1/205)
مثله - صلى الله عليه وسلم - ومثل أمته
29-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَرَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَالدَّوَابُّ الَّتِي يَقْتَحِمْنَ فِي النَّارِ يَقْتَحِمْنَ فِيهَا فَإِذَا أَخَذَ بِحُجَزِهِمْ عَنِ النَّارِ وَهُمْ يَغْلِبُونَ فَيَقْتَحِمُونَ فِيهَا. " (1)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا ، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا ، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ ، وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا " (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُ جَعَلَ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَتَقَحَّمُونَ فِيهَا ، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَقْتَحِمُونَ فِيهَا ». (3)
الحجز : جمع حجزة وهى معقد الإزار والسراويل
وعَنْ أَبِي حَازِمٍ التَّمَّارِ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ ، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَالذُّبَابُ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا ، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَقْتَحِمُونَ فِيهَا " قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : اسْتَوْقَدَ بِمَعْنَى أَوَقَدَ كَمَا قَالُوا : اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَقَالَ : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا . وَقَالَ الْغَنَوِيُّ :
وَدَاعٍ دَعَا إِذْ نَحْنُ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
وَالْحُجَزُ وَاحِدَتُهَا حُجَزَةٌ ، تَقُولُ : حُجَزَةٌ وَحُجَزٌ وَحُجَزَاتٍ ، وَهِيَ مَعْقِدُ الْإِزَارِ وَحَيْثُ يُثْنَى طَرَفُهُ قَالَ النَّابِغَةُ :
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 91) (131) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6483 )
(3) - مسند الحميدي - المكنز - (1086) صحيح(1/206)
رِقَاقُ النِّعَالِ طَيِّبٌ حُجَزَاتُهُمْ يُحَيُّونَ بِالرَّيْحَانِ يَوْمَ السَّبَاسِبِ
وَهَذَا تَمْثِيلٌ مِنْ أَوْجَزِ الْكَلَامِ وَأَبْلَغِهِ وَأَشَدِّهِ اخْتِصَارًا تَقُولُ : أَخَذْتُ بِحُجَزَتِهِ عَنْ كَذَا إِذَا صَدَدْتَهُ عَنْهُ وَمَنَعْتَهُ مِنْهُ ، وَتَقُولُ : أَخَذْتُ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى كَذَا إِذَا قُدْتَهُ إِلَيْهِ وَقَهَرْتَهُ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا . أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا ، مَالِكٌ لَهَا . وَالنَّاصِيَةُ تَنَاهِي شَعْرِ الرَّأْسِ مِمَّا يَلِي الْوَجْهَ وَقَالَ : يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ . أَيْ يُسَاقُونَ إِلَى النَّارِ قَهْرًا . وَيَقُولُ الْقَائِلُ : نَاصِيَتِي بِيَدِكَ ، فِي مَعْنَى الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ . وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ :
عَشِيَّةَ أَعْطَتْنَا عُمَانُ أُمُورَهَا وَقُدْنَا مَعَدًّا عَنْوَةً بِالْخَزَائِمِ
يُرِيدُ أَنَّهُمْ غَلَبُوهُمْ وَسَاقُوهُمْ قَهْرًا . وَقَوْلُهُ : " أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ " . يَقُولُ : أُحَذِّرُكُمُوهَا ، وَأَصُدُّكُمْ عَنْهَا ، وَأُرَغِّبُكُمْ فِي الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا ، وَأَنْتُمْ فِي غَفْلَةٍ سَاهُونَ لَا تَشْعُرُونَ ، كَمَا يَقْتَحِمُ الْفَرَاشُ النَّارَ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ ، لِمَيْلِكُمْ إِلَى الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا ، وَإِيثَارِكُمْ لَهَا عَلَى ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا عِنْدَهُ ، الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ، فَهَذِهِ مَوْعِظَةٌ لِبَعْضِ مَنْ أَجَابُوا الدَّعْوَةَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَعِيدًا لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - أَمْثَالُ الْحَدِيثِ لِلرَّامَهُرْمِزِيِّ (11 ) صحيح(1/207)
صفات أول دفعة يدخلون الجنة
30-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ وَإِضَاءَةً , قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ لاَ تَبَاغُضَ بَيْنَهُمْ وَلاَ حَسَدَ , لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ اثْنَتَانِ , كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ لَحْمِهَا مِنَ الْحُسْنِ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا , لاَ يَتَمَخَّطُونَ , آنِيَتُهُمُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَأَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ وَرِيحُهُمُ الْمِسْكُ." (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، وَالَّذِينَ عَلَى إِثْرِهِمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إِضَاءَةً ، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ وَلاَ تَبَاغُضَ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ لَحْمِهَا مِنَ الْحُسْنِ ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا ، لاَ يَسْقَمُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ ، وَلاَ يَبْصُقُونَ ، آنِيَتُهُمُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ ، وَأَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ ، وَقُودُ مَجَامِرِهِمُ الأُلُوَّةُ - قَالَ أَبُو الْيَمَانِ يَعْنِى الْعُودَ - وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ » . وَقَالَ مُجَاهِدٌ الإِبْكَارُ أَوَّلُ الْفَجْرِ ، وَالْعَشِىُّ مَيْلُ الشَّمْسِ أَنْ تُرَاهُ تَغْرُبَ . (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - « أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، وَالَّذِينَ عَلَى آثَارِهِمْ كَأَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّىٍّ فِى السَّمَاءِ إِضَاءَةً ، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، لاَ تَبَاغُضَ بَيْنَهُمْ وَلاَ تَحَاسُدَ ، لِكُلِّ امْرِئٍ زَوْجَتَانِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِنَّ مِنْ وَرَاءِ الْعَظْمِ وَاللَّحْمِ » (3) .
وعَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ إِمَّا تَفَاخَرُوا وَإِمَّا تَذَاكَرُوا الرِّجَالُ فِى الْجَنَّةِ أَكْثَرُ أَمِ النِّسَاءُ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَوَلَمْ يَقُلْ أَبُو الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 92) (132) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3246 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (3254 )(1/208)
الْبَدْرِ وَالَّتِى تَلِيهَا عَلَى أَضْوَإِ كَوْكَبٍ دُرِّىٍّ فِى السَّمَاءِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ اثْنَتَانِ يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ وَمَا فِى الْجَنَّةِ أَعْزَبُ ». (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ نَجْمٍ فِى السَّمَاءِ إِضَاءَةً ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنَازِلُ لاَ يَتَغَوَّطُونَ وَلاَ يَبُولُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ وَلاَ يَبْزُقُونَ أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ أَخْلاَقُهُمْ عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى طُولِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا ». (2)
التغوُّط : التبرُّز - امتخط : أخرج ما في أنفه من المخاط وألقى به - بزق : بصق - المجمر : إناء توضع فيه النار للبخور
قَوْلُهُ : ( صُورَتهمْ عَلَى صُورَة الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر ) أَيْ فِي الْإِضَاءَة ، وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِكَ فِي الرِّقَاق بِلَفْظِ " يَدْخُل الْجَنَّة مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا تُضِيء وُجُوههمْ إِضَاءَة الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر " وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة هُنَا : " وَالَّذِينَ عَلَى أَثَرهمْ كَأَشَدّ كَوْكَب إِضَاءَة " زَادَ مُسْلِم فِي رِوَايَة أُخْرَى " ثُمَّ هُمْ بَعْد ذَلِكَ مَنَازِل " .
قَوْلُهُ : ( لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلَا يَمْتَخِطُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ ) زَادَ فِي صِفَة آدَم " وَلَا يَبُولُونَ وَلَا يَتْفُلُونَ " وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة " لَا يَسْقَمُونَ " وَقَدْ اِشْتَمَلَ ذَلِكَ عَلَى نَفْي جَمِيع صِفَات النَّقْص عَنْهُمْ . وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيث جَابِر : " يَأْكُل أَهْل الْجَنَّة وَيَشْرَبُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ طَعَامهمْ ، ذَلِكَ جُشَاء كَرِيحِ الْمِسْك " وَكَأَنَّهُ مُخْتَصَر مِمَّا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث زَيْد بْن أَرْقَم قَالَ : " جَاءَ رَجُل مِنْ أَهْل الْكِتَاب فَقَالَ : يَا أَبَا الْقَاسِم تَزْعُم أَنَّ أَهْل الْجَنَّة يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ ، قَالَ نَعَمْ ، إِنَّ أَحَدهمْ لَيُعْطَى قُوَّة مِائَة رَجُل فِي الْأَكْل وَالشُّرْب وَالْجِمَاع ، قَالَ : الَّذِي يَأْكُل وَيَشْرَب تَكُون لَهُ الْحَاجَة وَلَيْسَ فِي الْجَنَّة أَذًى ، قَالَ : تَكُون حَاجَة أَحَدهمْ رَشْحًا يُفِيض مِنْ جُلُودهمْ كَرَشْحِ الْمِسْك " وَسَمَّى الطَّبَرَانِيُّ فِي رِوَايَته هَذَا السَّائِل ثَعْلَبَة بْن الْحَارِث ، قَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ : لَمَّا كَانَتْ أَغْذِيَة أَهْل الْجَنَّة فِي
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (7325 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (7329 ) -الألوة : العود الذى يتبخر به(1/209)
غَايَة اللَّطَافَة وَالِاعْتِدَال لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَذًى وَلَا فَضْلَة تُسْتَقْذَر ، بَلْ يَتَوَلَّد عَنْ تِلْكَ الْأَغْذِيَة أَطْيَب رِيح وَأَحْسَنه .
قَوْلُهُ : ( آنِيَتهمْ فِيهَا الذَّهَب ) زَادَ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة " وَالْفِضَّة " وَقَالَ فِي الْأَمْشَاط عَكْس ذَلِكَ ، وَكَأَنَّهُ اِكْتَفَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِذِكْرِ أَحَدهمَا عَنْ الْآخَر فَإِنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الصِّنْفَانِ لِكُلٍّ مِنْهُمْ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَحَد الصِّنْفَيْنِ لِبَعْضِهِمْ وَالْآخَر لِلْبَعْضِ الْآخَر ، وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا " جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبَ آنِيَتهمَا وَمَا فِيهِمَا وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّة آنِيَتهمَا وَمَا فِيهِمَا " الْحَدِيث مُتَّفَق عَلَيْهِ ، وَيُؤَيِّد الْأَوَّل مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْ أَنَس مَرْفُوعًا إِنَّ أَدْنَى أَهْل الْجَنَّة دَرَجَة لَمَنْ يَقُوم عَلَى رَأْسه عَشَرَة آلَاف خَادِم بِيَدِ كُلّ وَاحِد صَحْفَتَانِ وَاحِدَة مِنْ ذَهَبَ وَالْأُخْرَى مِنْ فِضَّة الْحَدِيث .
قَوْلُهُ : ( وَمَجَامِرهمْ الْأَلُوَّة ) الْأَلُوَّة الْعُود الَّذِي يُبَخَّر بِهِ ، قِيلَ جُعِلَتْ مَجَامِرهمْ نَفْس الْعُود ، لَكِنْ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة " وَوُقُود مَجَامِرهمْ الْأَلُوَّة " فَعَلَى هَذَا فِي رِوَايَة الْبَاب تَجَوُّز ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الصَّغَانِيِّ بَعْد قَوْله الْأَلُوَّة . قَالَ أَبُو الْيَمَان يَعْنِي الْعُود " وَالْمَجَامِر جَمْع مِجْمَرَة وَهِيَ الْمِبْخَرَة سُمِّيَتْ مِجْمَرَة لِأَنَّهَا يُوضَع فِيهَا الْجَمْر لِيَفُوحَ بِهِ مَا يُوضَع فِيهَا مِنْ الْبَخُور ، وَالْأَلُوَّة بِفَتْح الْهَمْزَة وَيَجُوز ضَمّهَا وَبِضَمِّ اللَّام وَتَشْدِيد الْوَاو وَحَكَى اِبْن التِّين كَسْر الْهَمْزَة وَتَخْفِيف الْوَاو وَالْهَمْزَة أَصْلِيَّة وَقِيلَ زَائِدَة ، قَالَ الْأَصْمَعِيّ أَرَاهَا فَارِسِيَّة عُرِّبَتْ . وَقَدْ يُقَال إِنَّ رَائِحَة الْعُود إِنَّمَا تَفُوح بِوَضْعِهِ فِي النَّار وَالْجَنَّة لَا نَار فِيهَا وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ بَعْد تَخْرِيج الْحَدِيث الْمَذْكُور : يُنْظَر هَلْ فِي الْجَنَّة نَار ؟ وَيُجَاب بِاحْتِمَالِ أَنْ يَشْتَعِل بِغَيْرِ نَار بَلْ بِقَوْلِهِ : كُنْ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ مِجْمَرَة بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ فِي الْأَصْل ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَشْتَعِل بِنَارٍ لَا ضَرَر فِيهَا وَلَا إِحْرَاق ، أَوْ يَفُوح بِغَيْرِ اِشْتِعَال ، وَنَحْو ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود مَرْفُوعًا " إِنَّ الرَّجُل فِي الْجَنَّة لَيَشْتَهِي الطَّيْر فَيَخِرّ بَيْن يَدَيْهِ مَشْوِيًّا " وَفِيهِ الِاحْتِمَالَات الْمَذْكُورَة ، وَفْد ذَكَرَ نَحْو ذَلِكَ اِبْن الْقَيِّم فِي الْبَاب الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ مِنْ " حَادِي الْأَرْوَاح " وَزَادَ فِي الطَّيْر أَوْ يُشْوَى خَارِج الْجَنَّة أَوْ بِأَسْبَابٍ قُدِّرَتْ لِإِنْضَاجِهِ وَلَا تَتَعَيَّن النَّار ، قَالَ : وَقَرِيب مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : ( هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ) وَهِيَ لَا شَمْس فِيهَا ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : قَدْ يُقَال(1/210)
أَيّ حَاجَة لَهُمْ إِلَى الْمُشْط وَهُمْ مُرْد وَشُعُورهمْ لَا تَتَّسِخ ؟ وَأَيّ حَاجَة لَهُمْ إِلَى الْبَخُور وَرِيحهمْ أَطْيَب مِنْ الْمِسْك ؟ قَالَ : وَيُجَاب بِأَنَّ نَعِيم أَهْل الْجَنَّة مِنْ أَكْل وَشُرْب وَكِسْوَة وَطِيب وَلَيْسَ عَنْ أَلَم جُوع أَوْ ظَمَأ أَوْ عُرْي أَوْ نَتْن ، وَإِنَّمَا هِيَ لَذَّات مُتَتَالِيَة وَنِعَم مُتَوَالِيَة ، وَالْحِكْمَة فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُنَعَّمُونَ بِنَوْعِ مَا كَانُوا يَتَنَعَّمُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا . وَقَالَ النَّوَوِيّ : مَذْهَب أَهْل السُّنَّة أَنَّ تَنَعُّم أَهْل الْجَنَّة عَلَى هَيْئَة تَنَعُّم أَهْل الدُّنْيَا إِلَّا مَا بَيْنهمَا مِنْ التَّفَاضُل فِي اللَّذَّة ، وَدَلَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّة عَلَى أَنَّ نَعِيمهمْ لَا اِنْقِطَاع لَهُ .
قَوْلُهُ : ( وَلِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ ) أَيْ مِنْ نِسَاء الدُّنْيَا ، فَقَدْ رَوَى أَحْمَد مِنْ وَجْه آخَر عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مَرْفُوعًا فِي صِفَة أَدْنَى أَهْل الْجَنَّة مَنْزِلَة " وَإِنَّ لَهُ مِنْ الْحُور الْعِين لَاثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَة سِوَى أَزْوَاجه مِنْ الدُّنْيَا " وَفِي سَنَده شَهْر بْن حَوْشَبٍ وَفِيهِ مَقَال ، وَلِأَبِي يَعْلَى فِي حَدِيث الصُّوَر الطَّوِيل مِنْ وَجْه آخَر عَنْ أَبِي هُرَيْرَة فِي حَدِيث مَرْفُوع " فَيَدْخُل الرَّجُل عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَة مِمَّا يُنْشِئ اللَّه وَزَوْجَتَيْنِ مِنْ وَلَد آدَم " ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد رَفْعه " إِنَّ أَدْنَى أَهْل الْجَنَّة الَّذِي لَهُ ثَمَانُونَ أَلْف خَادِم وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ زَوْجَة " وَقَالَ غَرِيب ، وَمِنْ حَدِيث الْمِقْدَام بْن مَعْدِي كَرِبَ عِنْده " لِلشَّهِيدِ سِتّ خِصَال " الْحَدِيث وَفِيهِ " وَيَتَزَوَّج ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَة مِنْ الْحُور الْعِين " وَفِي حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ عِنْد اِبْن مَاجَهْ وَالدَّارِمِيّ رَفْعه " مَا أَحَد يَدْخُل الْجَنَّة إِلَّا زَوَّجَهُ اللَّه ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنْ الْحُور الْعِين وَسَبْعِينَ وَثِنْتَيْنِ مِنْ أَهْل الدُّنْيَا " وَسَنَده ضَعِيف جِدًّا ، وَأَكْثَر مَا وَقَفْت عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخ فِي " الْعَظَمَة " وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " الْبَعْث " مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن أَبِي أَوْفَى رَفْعه " إِنَّ الرَّجُل مِنْ أَهْل الْجَنَّة لَيُزَوَّج خَمْسمِائَةِ حَوْرَاء أَوْ أَنَّهُ لَيُفْضِي إِلَى أَرْبَعَة آلَاف بِكْر وَثَمَانِيَة آلَاف ثَيِّب " وَفِيهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ ، وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس " إِنَّ الرَّجُل مِنْ أَهْل الْجَنَّة لَيُفْضِي إِلَى مِائَة عَذْرَاء " وَقَالَ اِبْن الْقَيِّم : لَيْسَ فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة زِيَادَة عَلَى زَوْجَتَيْنِ سِوَى مَا فِي حَدِيث أَبِي مُوسَى " إِنَّ فِي الْجَنَّة لِلْمُؤْمِنِ لَخَيْمَة مِنْ لُؤْلُؤَة لَهُ فِيهَا أَهْلُونَ يَطُوف عَلَيْهِمْ " . قُلْت : الْحَدِيث الْأَخِير صَحَّحَهُ الضِّيَاء ، وَفِي حَدِيث أَبِي سَعِيد عِنْد مُسْلِم فِي صِفَة أَدْنَى أَهْل الْجَنَّة ثُمَّ يَدْخُل عَلَيْهِ زَوْجَتَاهُ ، وَالَّذِي يَظْهَر أَنَّ الْمُرَاد أَنَّ أَقَلّ مَا لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمْ(1/211)
زَوْجَتَانِ ، وَقَدْ أَجَابَ بَعْضهمْ بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُون التَّثْنِيَة تَنْظِيرًا لِقَوْلِهِ جَنَّتَانِ وَعَيْنَانِ وَنَحْو ذَلِكَ ، أَوْ الْمُرَاد تَثْنِيَة التَّكْثِير وَالتَّعْظِيم نَحْو لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ . وَاسْتَدَلَّ أَبُو هُرَيْرَة بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ النِّسَاء فِي الْجَنَّة أَكْثَر مِنْ الرِّجَال كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ طَرِيق اِبْن سِيرِينَ عَنْهُ ، وَهُوَ وَاضِح لَكِنْ يُعَارِضهُ قَوْله - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيث الْكُسُوف الْمُتَقَدِّم " رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَر أَهْل النَّار " وَيُجَاب بِأَنَّهُ لَا يَلْزَم مِنْ أَكْثَرِيَّتهنَّ فِي النَّار نَفْي أَكْثَرِيَّتهنَّ فِي الْجَنَّة ، لَكِنْ يَشْكُل عَلَى ذَلِكَ قَوْله - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَدِيث الْآخَر اِطَّلَعْت فِي الْجَنَّة فَرَأَيْت أَقَلّ سَاكِنهَا النِّسَاء ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الرَّاوِي رَوَاهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَهِمَهُ مِنْ أَنَّ كَوْنهنَّ أَكْثَر سَاكِنِي النَّار يَلْزَم مِنْهُ أَنْ يَكُنَّ أَقَلّ سَاكِنِي الْجَنَّة ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِم لِمَا قَدَّمْته ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون ذَلِكَ فِي أَوَّل الْأَمْر قَبْل خُرُوج الْعُصَاة مِنْ النَّار بِالشَّفَاعَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَم .
قَوْلُهُ : ( مُخّ سُوقهمَا مِنْ وَرَاء اللَّحْم ) فِي الرِّوَايَة الثَّالِثَة " وَالْعَظْم " ، وَالْمُخّ بِضَمِّ الْمِيم وَتَشْدِيد الْمُعْجَمَة مَا فِي دَاخِل الْعَظْم ، وَالْمُرَاد بِهِ وَصْفهَا بِالصَّفَاءِ الْبَالِغ وَأَنَّ مَا فِي دَاخِل الْعَظْم لَا يَسْتَتِر بِالْعَظْمِ وَاللَّحْم وَالْجِلْد . وَوَقَعَ عِنْد التِّرْمِذِيّ " لَيُرَى بَيَاض سَاقهَا مِنْ وَرَاء سَبْعِينَ حُلَّة حَتَّى يُرَى مُخّهَا " وَنَحْوه لِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيث أَبُو سَعِيد وَزَادَ " يَنْظُر وَجْهه فِي خَدّهَا أَصْفَى مِنْ الْمِرْآة " .قَوْلُهُ : ( قَلْب وَاحِد ) فِي رِوَايَة الْأَكْثَر بِالْإِضَافَةِ ، وَلِلْمُسْتَمْلِي بِالتَّنْوِينِ " قَلْب وَاحِد " وَهُوَ مِنْ التَّشْبِيه الَّذِي حُذِفَتْ أَدَاته أَيْ كَقَلْبِ رَجُل وَاحِد ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ : " لَا تَحَاسُد بَيْنهمْ وَلَا اِخْتِلَاف " أَيْ أَنَّ قُلُوبهمْ طَهُرَتْ عَنْ مَذْمُوم الْأَخْلَاق
قَوْلُهُ : ( يُسَبِّحُونَ اللَّه بُكْرَة وَعَشِيًّا ) أَيْ قَدْرهمَا ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ : هَذَا التَّسْبِيح لَيْسَ عَنْ تَكْلِيف وَإِلْزَام ، وَقَدْ فَسَّرَهُ جَابِر فِي حَدِيثه عِنْد مُسْلِم بِقَوْلِهِ : " يُلْهَمُونَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير كَمَا يُلْهَمُون النَّفَس " وَوَجْه التَّشْبِيه أَنَّ تَنَفُّس الْإِنْسَان لَا كُلْفَة عَلَيْهِ فِيهِ وَلَا بُدّ لَهُ مِنْهُ ، فَجَعَلَ تَنَفُّسهمْ تَسْبِيحًا ، وَسَبَبه أَنَّ قُلُوبهمْ تَنَوَّرَتْ بِمَعْرِفَةِ الرَّبّ سُبْحَانه وَامْتَلَأَتْ بِحُبِّهِ ، وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْره . وَقَدْ وَقَعَ فِي خَبَر ضَعِيف " إِنَّ تَحْت الْعَرْش سِتَارَة مُعَلَّقَة فِيهِ ثُمَّ تُطْوَى ، فَإِذَا نُشِرَتْ كَانَتْ عَلَامَة الْبُكُور ، وَإِذَا طُوِيَتْ كَانَتْ عَلَامَة الْعَشِيّ " . (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (10 / 30) (3006 )(1/212)
نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
31-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَا مِنْ بَعْدَهِمْ , ثُمَّ كَانَ هَذَا يَوْمَهُمُ الَّذِي فُرِضِ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا وَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ , وَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ , الْيَهُوَدُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ. " (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، بَيْدَ كُلُّ أُمَّةٍ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَا مِنْ بَعْدِهِمْ ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا ، فَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى » (2) .
بيد أنهم : البيد بمعنى غير ، تقول : هو كثير المال ، بيد أنه بخيل ،أي : غير أنه بخيل.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« نَحْنُ الآخِرُونَ وَنَحْنُ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَحَدُهُمَا بَايْدَ وَقَال الآخَرُ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ، ثُمَّ هَذَا الْيَوْمُ الَّذِى كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ. فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ وَالنَّاس لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ » (3) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : نَحْنُ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهُمْ ، فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ ، فَهُمْ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ ، الْيَهُودُ غَدًا ، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ." (4)
وعَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْ رِبْعِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَضَلَّ اللهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ، فَجَاءَ اللهُ بِنَا فَهَدَانَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالْأَحَدَ وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 93) (136) والسنن الصغرى للبيهقي - (1 / 201) (600) وصحيح البخارى- المكنز - (876 ،896 ، 2956 ، 3486 ، 6624 ، 6887 ، 7036 ، 7495 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2018)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3486 )
(3) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (3 / 170) (5777) وصحيح مسلم- المكنز - (2018)
(4) - صحيح ابن حبان - (7 / 23) (2784) صحيح(1/213)
الْقِيَامَةِ نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ (1)
وعَنْ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعَنْ رِبْعِيٍّ ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا ، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ ، وَلِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ ، فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ ، فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالْأَحَدَ ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، نَحْنُ الْآخِرُونَ فِي الدُّنْيَا ، الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْخَلَائِقِ ، يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَ تُزْلَفُ الْجَنَّةُ مَنْ يَسْتَفْتِحُ لَنَا الْجَنَّةَ ؟ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ : يَا آدَمُ اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ ، ، فَيَقُولُ : وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ ، لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اعْمِدُوا إِلَى أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ رَبِّهِ ، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ : يَا إِبْرَاهِيمُ اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ ، فَيَقُولُ : لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ اعْمِدُوا إِلَى أَخِي مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا فَيَأْتُونَ مُوسَى ، فَيَقُولُ : لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اذْهَبُوا إِلَى كَلِمَةِ اللَّهِ وَرُوحِهِ عِيسَى فَيَأْتُونَهُ ، فَيَقُولُ : لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَسْتَأْذِنُ فَيُؤْذَنُ لَهُ ، فَتُرْسَلُ مَعَهُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَتَقِفَانِ بِجَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَمَرِّ الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ ، ثُمَّ يَرْجِعُ فِي طَرْفَةٍ ، ثُمَّ يَمُرُّ كَمَرِّ الرِّيحِ ، ثُمَّ يَمُرُّ كَمَرِّ الطَّيْرِ ، ثُمَّ كَشَدِّ الرِّجَالِ تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ ، وَنَبِيُّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ سَلِّمْ ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ النَّاسِ ، حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمُرَّ إِلَّا زَحْفًا ، وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ تَأْخُذُ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ فَنَاجٍ مَخْدُوشٌ وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ " ، وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ تِسْعِينَ خَرِيفًا " (2)
قَالَ الْقَاضِي : الظَّاهِر أَنَّهُ فُرِضَ عَلَيْهِمْ تَعْظِيم يَوْم الْجُمُعَة بِغَيْرِ تَعْيِين وَوُكِّلَ إِلَى اِجْتِهَادهمْ ، لِإِقَامَةِ شَرَائِعهمْ فِيهِ ، فَاخْتَلَفَ اِجْتِهَادهمْ فِي تَعْيِينه وَلَمْ يَهْدِهِمْ اللَّه لَهُ ، وَفَرَضَهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّة مُبَيَّنًا ، وَلَمْ يَكِلهُ إِلَى اِجْتِهَادهمْ فَفَازُوا بِتَفْضِيلِهِ . قَالَ : وَقَدْ جَاءَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ
__________
(1) - مسند أبي عوانة (2041-2048) وصحيح مسلم- المكنز - (2019) وشعب الإيمان - (4 / 391) (2706)
(2) - مُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ(6087 ) صحيح(1/214)
السَّلَام أَمَرَهُمْ بِالْجُمْعَةِ وَأَعْلَمَهُمْ بِفَضْلِهَا فَنَاظَرُوهُ أَنَّ السَّبْت أَفْضَل ، فَقِيلَ لَهُ : دَعْهُمْ . قَالَ الْقَاضِي : وَلَوْ كَانَ مَنْصُوصًا لَمْ يَصِحّ اِخْتِلَافهمْ فِيهِ ، بَلْ كَانَ يَقُول : خَالِفُوا فِيهِ ، قُلْت : وَيُمْكِن أَنْ يَكُون أُمِرُوا بِهِ صَرِيحًا وَنُصَّ عَلَى عَيْنه فَاخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ يَلْزَم تَعْيِينه أَمْ لَهُمْ إِبْدَاله ؟ وَأَبْدَلُوهُ وَغَلِطُوا فِي إِبْدَاله (1) .
قوله: "نحن الآخرون السابقون" في رواية ابن عيينة عن أبي الزناد عند مسلم: "نحن الآخرون ونحن السابقون " أي الآخرون زمانا الأولون منزلة، والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية فهي سابقة لهم في الآخرة بأنهم أول من يحشر وأول من يحاسب وأول من يقضي بينهم وأول من يدخل الجنة. وفي حديث حذيفة عند مسلم: "نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق" . وقيل: المراد بالسبق هنا إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل، وهو يوم الجمعة، ويوم الجمعة وإن كان مسبوقا بسبت قبله أو أحد لكن لا يتصور اجتماع الأيام الثلاثة متوالية إلا ويكون يوم الجمعة سابقا. وقيل المراد بالسبق أي إلى القبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب فقالوا سمعنا وعصينا، والأول أقوى، قوله: "بيد" بموحدة ثم تحتانية ساكنة مثل غير وزنا ومعنى، وبه جزم الخليل والكسائي ورجحه ابن سيده، وروى ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن الربيع عنه أن معنى " بيد " من أجل، وكذا ذكره ابن حبان والبغوي عن المزني عن الشافعي. وقد استبعده عياض ولا بعد فيه، بل معناه أنا سبقنا بالفضل هدينا للجمعة مع تأخرنا في الزمان، بسبب أنهم ضلوا عنها مع تقدمهم، ويشهد له ما وقع في فوائد ابن المقري من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "نحن الآخرون في الدنيا ونحن السابقون أول من يدخل الجنة لأنهم أوتوا الكتاب من قبلنا " وفي موطأ سعيد بن عفير عن مالك عن أبي الزناد بلفظ: "ذلك بأنهم أوتوا الكتاب " وقال الداودي: هي بمعنى على أو مع، قال القرطبي: إن كانت بمعنى غير فنصب على الاستثناء، وإن كانت بمعنى مع فنصب على الظرف. وقال الطيبي: هي للاستثناء، وهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم، والمعنى نحن السابقون للفضل غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ووجه التأكيد فيه ما أدمج
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (3 / 224)(1/215)
فيه من معنى النسخ، لأن الناسخ هو السابق في الفضل وإن كان متأخرا في الوجود، وبهذا التقرير يظهر موقع قوله: "نحن الآخرون " مع كونه أمرا واضحا. قوله: "أوتوا الكتاب" اللام للجنس، والمراد التوراة والإنجيل، والضمير في " أوتيناه " للقرآن. وقال القرطبي: المراد بالكتاب التوراة، وفيه نظر لقوله: "وأوتيناه من بعدهم " فأعاد الضمير على الكتاب، فلو كان المراد التوراة لما صح الإخبار، لأنا إنما أوتينا القرآن. وسقط من الأصل قوله: "وأوتيناه من بعدهم " وهي ثابتة في رواية أبي زرعة الدمشقي عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه، أخرجه الطبراني في مسند الشاميين عنه، وكذا لمسلم من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد، وسيأتي تاما عند المصنف بعد أبواب من وجه آخر عن أبي هريرة. قوله: "ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم" كذا للأكثر، وللحموي " الذي فرض الله عليهم " والمراد باليوم يوم الجمعة، والمراد باليوم بفرضه فرض تعظيمه، وأشير إليه بهذا لكونه ذكر في أول الكلام كما عند مسلم من طريق آخر عن أبي هريرة، ومن حديث حذيفة قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا " الحديث. قال ابن بطال: ليس المراد أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه فتركوه، لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما فرض الله عليه وهو مؤمن، وإنما يدل - والله أعلم - أنه فرض عليهم يوم من الجمعة وكل إلى اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم، فاختلفوا في أي الأيام هو ولم يهتدوا ليوم الجمعة، ومال عياض إلى هذا ورشحه بأنه لو كان فرض عليهم بعينه لقيل فخالفوا بدل فاختلفوا. وقال النووي: يمكن أن يكونوا أمروا به صريحا فاختلفوا هل يلزم تعينه أم يسوغ إبداله بيوم آخر فاجتهدوا في ذلك فأخطئوا. انتهى. ويشهد له ما رواه الطبري بإسناد صحيح عن مجاهد في قوله تعالى:{إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه" قال: أرادوا الجمعة فأخطئوا وأخذوا السبت مكانه. ويحتمل أن يراد بالاختلاف اختلاف اليهود والنصارى في ذلك، وقد روى ابن أبي حاتم من طريق أسباط بن نصر عن السدي التصريح بأنهم فرض عليهم يوم الجمعة بعينه فأبوا، ولفظه: "إن الله فرض على اليهود الجمعة فأبوا وقالوا: يا موسى إن الله لم يخلق يوم السبت شيئا فاجعله لنا، فجعل عليهم " وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم كما وقع لهم في قوله تعالى: {ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} وغير ذلك، وكيف لا(1/216)
وهم القائلون {سمعنا وعصينا} . قوله: "فهدانا الله له" يحتمل أن يراد بأن نص لنا عليه، وأن يراد الهداية إليه بالاجتهاد، ويشهد للثاني ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيربن قال: "جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبل أن تنزل الجمعة، فقالت الأنصار: إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى كذلك، فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونصلي ونشكره. فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ، وأنزل الله تعالى بعد ذلك: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} الآية، وهذا وإن كان مرسلا فله شاهد بإسناد حسن أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وغير واحد من حديث كعب بن مالك قال: "كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أسعد بن زرارة " الحديث. فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد، ولا يمنع ذلك أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه بالوحي وهو بمكة فلم يتمكن من إقامتها، ثم فقد ورد فيه حديث عن ابن عباس عند الدار قطني، ولذلك جمع بهم أول ما قدم المدينة كما حكاه ابن إسحاق وغيره، وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق. وقيل في الحكمة في اختيارهم الجمعة وقوع خلق آدم فيه، والإنسان إنما خلق للعبادة فناسب أن يشتغل بالعبادة فيه، ولأن الله تعالى أكمل فيه الموجودات وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها فناسب أن يشكر على ذلك بالعبادة فيه. قوله: "اليهود غدا والنصارى بعد غد" في رواية أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عند ابن خزيمة: "فهو لنا، ولليهود يوم السبت والنصارى يوم الأحد " والمعنى أنه لنا بهداية الله تعالى ولهم باعتبار اختيارهم وخطئهم في اجتهادهم. قال القرطبي: غدا هنا منصوب على الظرف، وهو متعلق بمحذوف وتقديره اليهود يعظمون غدا، وكذا قوله: "بعد غد " ولا بد من هذا التقدير لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة. انتهى. وقال ابن مالك: الأصل أن يكون المخبر عنه بظرف الزمان من أسماء المعاني كقولك غدا للتأهب وبعد غد للرحيل فيقدر هنا مضافان يكون ظرفا الزمان خبرين عنهما، أي تعييد اليهود غدا وتعييد النصارى بعد غد ا هـ. وسبقه إلى نحو ذلك عياض، وهو أوجه من كلام القرطبي. وفي الحديث دليل على فرضية الجمعة كما قال(1/217)
النووي، لقوله: "فرض عليهم فهدانا الله له " فإن التقدير فرض عليهم وعلينا فضلوا وهدينا، وقد وقع في رواية سفيان عن أبي الزناد عند مسلم بلفظ: "كتب علينا" . وفيه أن الهداية والإضلال من الله تعالى كما هو قول أهل السنة، وأن سلامة الإجماع من الخطأ مخصوص بهذه الأمة، وأن استنباط معنى من الأصل يعود عليه بالإبطال باطل، وأن القياس مع وجود النص فاسد، وأن الاجتهاد في زمن نزول الوحي جائز، وأن الجمعة أول الأسبوع شرعا، ويدل على ذلك تسمية الأسبوع كله جمعة وكانوا يسمون الأسبوع سبتا كما سيأتي في الاستسقاء في حديث أنس، وذلك أنهم كانوا مجاورين لليهود فتبعوهم في ذلك، وفيه بيان واضح لمزيد فضل هذه الأمة على الأمم السابقة زادها الله تعالى." (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (2 / 354)(1/218)
فضائل فاتحة الكتاب
32-عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَمَّنْ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ مِثْلُهَا وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي يَعْنِي فَاتِحَةَ الْكِتَابِ " (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَادَى أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَلَمْ يُجِبْهُ ، فَقَالَ : " مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي يَا أُبَيُّ " فَقَالَ : كُنْتُ أُصَلِّي ، فَقَالَ : " أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لَا تَخْرُجْ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُعَلِّمَكَ سُورَةً مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ مِثْلَهَا ، وَإِنَّهَا السَّبْعُ الَّذِي أُوتِيتُ الطُّوَلَ ، وَإِنَّهَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ " (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَسُورَةٌ مَا أُنْزَلَ عَلِي مِثْلُهَا " فَسَأَلَهُ أُبَيُّ عَنْهَا , فَقَالَ : " إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنَ الْبَابِ حَتَّى تَعْلَمَهَا " فَجَعَلْتُ أَتَبَاطَأُ , ثُمَّ سَأَلَهُ أُبَيُّ عَنْهَا فَقَالَ : " كَيْفَ تَقْرَأُ إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ ؟ " فَقَرَأْتُ أُمَّ الْكِتَابِ فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ , مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ , أَوْ قَالَ : الْفُرْقَانِ , مِثْلُهَا إِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطَيْتُهُ " (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ : مَرَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي , فَصَرَخَ بِهِ فَقَالَ : " تَعَالَ يَا أُبَيُّ " فَعَجَّلَ أُبَيُّ فِي صَلَاتِهِ , ثُمَّ جَاءَ إِلَى رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : " يَا أُبَيُّ , مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي إِذْ دَعَوْتُكَ ؟ أَلَيْسَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ؟ " الْآيَةُ قَالَ أُبَيُّ : جَرَمَ يَا رَسُول اللَّهِ لَا تَدْعُونِي إِلَّا أُجِيبُكَ وَإِنْ كُنْتُ مُصَلِّيًا قَالَ : " تُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ سُورَةً لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا ؟ " فَقَالَ أُبَيُّ : نَعَمْ يَا رَسُول اللَّهِ فَقَالَ : " لَا
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 97) (144) صحيح لغيره
(2) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (2008) صحيح
(3) - الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ لِلْبَيْهَقِيِّ (89 ) صحيح(1/219)
تَخْرُجْ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ حتَّى تَعْلَمَهَا " وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَمْشِي يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ , فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ لِيَخْرُجَ , قَالَ لَهُ أُبَيُّ : السُّورَةُ يَا رَسُول اللَّهِ فَوَقَفَ فَقَالَ : " نَعَمْ , كَيْفَ تَقْرَأُ فِي صَلَاتِكَ ؟ " فَقَرَأَ أُبَيُّ أُمَّ الْقُرْآنِ فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ , مَا أُنْزَلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا , وَإِنَّهَا لَهِيَ السَّبْعُ مِنَ الْمَثَانِي الَّتِي آتَانِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "
وفي رواية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ : خَرَجَ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَقَالَ فِيهِ : قُلْتُ : يَا رَسُول اللَّهِ , مَا السُّورَةُ الَّتِي وَعَدْتَنِي ؟ قَالَ : " كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ ؟ قَالَ : فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ أُمَّ الْقُرْآنِ وَكَذَا " (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ، وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أُمَّ الْقُرْآنِ : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، وَلَا فِي الزَّبُورِ ، وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهَا ، وَإِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي ، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُ " (2)
وعَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحُرَقِيِّ , أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ , مَوْلَى بَنِي عَامِرِ بْنِ كَرِيزٍ أَخْبَرَهُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ : مَوْلَى عَامِرِ بْنِ كَرِيزٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَادَى أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَهُوَ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ لَحِقَهُ , قَالَ : فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدَي وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ : " إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ حتَّى أُعَلِّمَكَ سُورَةً مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا " فَقَالَ أُبَيُّ : فَجَعَلْتُ أُبْطِئُ فِي الْمَشْيِ رَجَاءَ ذَلِكَ , ثُمَّ قُلْتُ : يَا رَسُول اللَّهِ , السُّورَةُ الَّتِي وَعَدْتَنِي فَقَالَ : " كَيْفَ تَقْرَأُ إِذَا افْتُتِحَتِ الصَّلَاةُ ؟ " قَالَ : فَقَرَأْتُ : الْحمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " هِيَ هَذِهِ السُّورَةُ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطَيْتُ "
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَحِينَ قَالَ : الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَيْفَ تَقْرَأُ فِي صَلَاتِكَ ؟ فَأَجَابَهُ : بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ
__________
(1) - الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ لِلْبَيْهَقِيِّ (90 ) صحيح
(2) - أحَادِيثُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ (292 ) صحيح(1/220)
مُنْفَرِدًا دَلَّ عَلَى أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِ قِرَاءَتِها عَلَى مَنْ أَحْسَنَهَا مِنْهُم فِي صَلَاتِهِ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُسْتَفِيضًا شَائِعًا فِيمَا بَيْنَهُمْ تَعْيِينُ الْقِرَاءَةِ بِالْفَاتِحَة حتَّى أَحَالَهُ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا أَرَادَ أَنْ يَعَلِّمَهُ مِنَ السُّورَةِ عَلَى مَا يَقْرَأُ فِي صَلَاتِهِ وَأَجَابَهُ أُبَيُّ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ مَعَ اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ غَيْرِهَا فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ (1)
معنى الفاتحة
يردد المسلم هذه السورة القصيرة ذات الآيات السبع ، سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنن وإلى غير حد إذا هو رغب في أن يقف بين يدي ربه متنفلا ، غير الفرائض والسنن. ولا تقوم صلاة بغير هذه السورة لما ورد في الصحيحين عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من حديث عبادة بن الصامت : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية ، وكليات التصور الإسلامي ، وكليات المشاعر والتوجهات ، ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة ، وحكمة بطلان كل صلاة لا تذكر فيها ..
تبدأ السورة : «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .. ومع الخلاف حول البسملة : أهي آية من كل سورة أم هي آية من القرآن تفتتح بها عند القراءة كل سورة ، فإن الأرجح أنها آية من سورة الفاتحة ، وبها تحتسب آياتها سبعا. وهناك قول بأن المقصود بقوله تعالى : «وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» .. وهو سورة الفاتحة بوصفها سبع آيات «مِنَ الْمَثانِي» لأنها يثنى بها وتكرر في الصلاة.
والبدء باسم اللّه هو الأدب الذي أوحى اللّه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في أول ما نزل من القرآن باتفاق ، وهو قوله تعالى : «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ...» .. وهو الذي يتفق مع قاعدة التصور الإسلامي الكبرى من أن اللّه «هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ» .. فهو - سبحانه - الموجود الحق الذي يستمد منه كلّ موجود وجوده ، ويبدأ منه كل مبدوء بدأه. فباسمه إذن يكون كل ابتداء. وباسمه إذن تكون كل حركة وكل اتجاه.
__________
(1) - الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ لِلْبَيْهَقِيِّ(91 )صحيح(1/221)
ووصفه - سبحانه - في البدء بالرحمن الرحيم ، يستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها .. وهو المختص وحده باجتماع هاتين الصفتين ، كما أنه المختص وحده بصفة الرحمن. فمن الجائز أن يوصف عبد من عباده بأنه رحيم ولكن من الممتنع من الناحية الإيمانية أن يوصف عبد من عباده بأنه رحمن. ومن باب أولى أن تجتمع له الصفتان .. ومهما يختلف في معنى الصفتين : أيتهما تدل على مدى أوسع من الرحمة ، فهذا الاختلاف ليس مما يعنينا تقصيه في هذه الظلال إنما نخلص منه إلى استغراق هاتين الصفتين مجتمعتين لكل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها.
وإذا كان البدء باسم اللّه وما ينطوي عليه من توحيد اللّه وأدب معه يمثل الكلية الأولى في التصور الإسلامي ..
فإن استغراق معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها في صفتي «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» يمثل الكلية الثانية في هذا التصور ، ويقرر حقيقة العلاقة بين اللّه والعباد.
وعقب البدء باسم اللّه الرحمن الرحيم يجيء التوجه إلى اللّه بالحمد ووصفه بالربوبية المطلقة للعالمين : «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..والحمد للّه هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره للّه .. فإن وجوده ابتداء ليس إلا فيضا من فيوضات النعمة الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء. وفي كل لمحة وفي كل لحظة وفي كل خطوة تتوالى آلاء اللّه وتتواكب وتتجمع ، وتغمر خلائقه كلها وبخاصة هذا الإنسان .. ومن ثم كان الحمد للّه ابتداء ، وكان الحمد للّه ختاما قاعدة من قواعد التصور الإسلامي المباشر : «وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ ...».
ومع هذا يبلغ من فضل اللّه - سبحانه - وفيضه على عبده المؤمن ، أنه إذا قال : الحمد للّه. كتبها له حسنة ترجح كل الموازين .. في سنن ابن ماجه عن ابن عمر - رضي اللّه عنهما - أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حدثهم أن عبدا من عباد اللّه قال : «يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك».
فعضلت الملكين فلم يدريا كيف يكتبانها. فصعدا إلى اللّه فقالا : يا ربنا ، إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها. قال اللّه - وهو أعلم بما قال عبده - : «وما الذي قال(1/222)
عبدي؟» قالا : يا رب ، إنه قال : لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. فقال اللّه لهما : «اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها» ..
والتوجه إلى اللّه بالحمد يمثل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره للّه - كما أسلفنا - أما شطر الآية الأخير : «رَبِّ الْعالَمِينَ» فهو يمثل قاعدة التصور الإسلامي ، فالربوبية المطلقة الشاملة هي إحدى كليات العقيدة الإسلامية .. والرب هو المالك المتصرف ، ويطلق في اللغة على السيد وعلى المتصرف للإصلاح والتربية ..
والتصرف للإصلاح والتربية يشمل العالمين - أي جميع الخلائق - واللّه - سبحانه - لم يخلق الكون ثم يتركه هملا. إنما هو يتصرف فيه بالإصلاح ويرعاه ويربيه. وكل العوالم والخلائق تحفظ وتتعهد برعاية اللّه رب العالمين.
والصلة بين الخالق والخلائق دائمة ممتدة قائمة في كل وقت وفي كل حالة.
والربوبية المطلقة هي مفرق الطريق بين وضوح التوحيد الكامل الشامل ، والغبش الذي ينشأ من عدم وضوح هذه الحقيقة بصورتها القاطعة. وكثيرا ما كان الناس يجمعون بين الاعتراف باللّه بوصفه الموجد الواحد للكون ، والاعتقاد بتعدد الأرباب الذين يتحكمون في الحياة. ولقد يبدو هذا غريبا مضحكا. ولكنه كان وما يزال.
ولقد حكى لنا القرآن الكريم عن جماعة من المشركين كانوا يقولون عن أربابهم المتفرقة : «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى »
.. كما قال عن جماعة من أهل الكتاب : «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» .. وكانت عقائد الجاهليات السائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام ، تعج بالأرباب المختلفة ، بوصفها أربابا صغارا تقوم إلى جانب كبير الآلهة كما يزعمون! فإطلاق الربوبية في هذه السورة ، وشمول هذه الربوبية للعالمين جميعا ، هي مفرق الطريق بين النظام والفوضى في العقيدة. لتتجه العوالم كلها إلى رب واحد ، تقر له بالسيادة المطلقة ، وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة ، وعنت الحيرة كذلك بين شتى الأرباب .. ثم ليطمئن ضمير هذه العوالم إلى رعاية اللّه الدائمة وربوبيته القائمة. وإلى أن هذه الرعاية لا تنقطع أبدا ولا تفتر ولا تغيب ، لا كما كان أرقى تصور فلسفي لأرسطو(1/223)
مثلا يقول بأن اللّه أوجد هذا الكون ثم لم يعد يهتم به ، لأن اللّه أرقى من أن يفكر فيما هو دونه! فهو لا يفكر إلا في ذاته! وأرسطو - وهذا تصوره - هو أكبر الفلاسفة ، وعقله هو أكبر العقول! لقد جاء الإسلام وفي العالم ركام من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار ..
يختلط فيها الحق بالباطل ، والصحيح بالزائف ، والدين بالخرافة ، والفلسفة بالأسطورة .. والضمير الإنساني تحت هذا الركام الهائل يتخبط في ظلمات وظنون ، ولا يستقر منها على يقين.
وكان التيه الذي لا قرار فيه ولا يقين ولا نور ، هو ذلك الذي يحيط بتصور البشرية لإلهها ، وصفاته وعلاقته بخلائقه ، ونوع الصلة بين اللّه والإنسان على وجه الخصوص.
ولم يكن مستطاعا أن يستقر الضمير البشري على قرار في أمر هذا الكون ، وفي أمر نفسه وفي منهج حياته ، قبل أن يستقر على قرار في أمر عقيدته وتصوره لإلهه وصفاته ، وقبل أن ينتهي إلى يقين واضح مستقيم في وسط هذا العماء وهذا التيه وهذا الركام الثقيل.
ولا يدرك الإنسان ضرورة هذا الاستقرار حتى يطلع على ضخامة هذا الركام ، وحتى يرود هذا التيه من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار التي جاء الإسلام فوجدها ترين على الضمير البشري ، والتي أشرنا إلى طرف منها فيما تقدم صغير. (و سيجيء في استعراض سور القرآن الكثير منها ، مما عالجه القرآن علاجا وافيا شاملا كاملا).
ومن ثم كانت عناية الإسلام الأولى موجهة إلى تحرير أمر العقيدة ، وتحديد التصور الذي يستقر عليه الضمير في أمر اللّه وصفاته ، وعلاقته بالخلائق ، وعلاقة الخلائق به على وجه القطع واليقين.
ومن ثم كان التوحيد الكامل الخالص المجرد الشامل ، الذي لا تشوبه شائبة من قريب ولا من بعيد .. هو قاعدة التصور التي جاء بها الإسلام ، وظل يجلوها في الضمير ، ويتتبع فيه كل هاجسة وكل شائبة حول حقيقة التوحيد ، حتى يخلصها من كل غبش. ويدعها مكينة راكزة لا يتطرق إليها وهم في صورة من الصور ..(1/224)
كذلك قال الإسلام كلمة الفصل بمثل هذا الوضوح في صفات اللّه وبخاصة ما يتعلق منها بالربوبية المطلقة.
فقد كان معظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه الفلسفات والعقائد كما تخبط فيه الأوهام والأساطير ..
مما يتعلق بهذا الأمر الخطير ، العظيم الأثر في الضمير الإنساني. وفي السلوك البشري سواء.
والذي يراجع لجهد المتطاول الذي بذله الإسلام لتقرير كلمة الفصل في ذات اللّه وصفاته وعلاقته بمخلوقاته ، هذا الجهد الذي تمثله النصوص القرآنية الكثيرة .. الذي يراجع هذا الجهد المتطاول دون أن يراجع ذلك الركام الثقيل في ذلك التيه الشامل الذي كانت البشرية كلها تهيم فيه .. قد لا يدرك مدى الحاجة إلى كل هذا البيان المؤكد المكرر ، وإلى كل هذا التدقيق الذي يتتبع كل مسالك الضمير .. ولكن مراجعة ذلك الركام تكشف عن ضرورة ذلك الجهد المتطاول ، كما تكشف عن مدى عظمة الدور الذي قامت به هذه العقيدة - وتقوم في تحرير الضمير البشري وإعتاقه وإطلاقه من عناء التخبط بين شتى الأرباب وشتى الأوهام والأساطير! وإن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها .. كل هذا لا ينجلى للقلب والعقل كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية من العقائد والتصورات ، والأساطير والفلسفات! وبخاصة موضوع الحقيقة الإلهية وعلاقتها بالعالم .. عندئذ تبدو العقيدة الإسلامية رحمة. رحمة حقيقية للقلب والعقل ، رحمة بما فيها من جمال وبساطة ، ووضوح وتناسق ، وقرب وأنس ، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق.
«الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .. هذه الصفة التي تستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها تتكرر هنا في صلب السورة ، في آية مستقلة ، لتؤكد السمة البارزة في تلك الربوبية الشاملة ولتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الرب ومربوبيه. وبين الخالق ومخلوقاته .. إنها صلة الرحمة والرعاية التي تستجيش الحمد والثناء. إنها الصلة التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة ، فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة الندية.(1/225)
إن الرب الإله في الإسلام لا يطارد عباده مطاردة الخصوم والأعداء كآلهة الأولمب في نزواتها وثوراتها كما تصورها أساطير الإغريق. ولا يدبر لهم المكائد الانتقامية كما تزعم الأساطير المزورة في «العهد القديم» كالذي جاء في أسطورة برج بابل في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين .
«مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» .. وهذه تمثل الكلية الضخمة العميقة التأثير في الحياة البشرية كلها ، كلية الاعتقاد بالآخرة .. والملك أقصى درجات الاستيلاء والسيطرة. ويوم الدين هو يوما الجزاء في الآخرة .. وكثيرا ما اعتقد الناس بألوهية اللّه ، وخلقه للكون أول مرة ولكنهم مع هذا لم يعتقدوا بيوم الجزاء .. والقرآن يقول عن بعض هؤلاء : «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ : اللَّهُ» .. ثم يحكي عنهم في موضع آخر : «بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون : هذا شيء عجيب. أإذا متنا وكنا ترابا؟
ذلك رجع بعيد»! والاعتقاد بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية ذات قيمة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم آخر بعد عالم الأرض فلا تستبد بهم ضرورات الأرض. وعندئذ يملكون الاستعلاء على هذه الضرورات. ولا يستبد بهم القلق على تحقيق جزاء سعيهم في عمرهم القصير المحدود ، وفي مجال الأرض المحصور. وعندئذ يملكون العمل لوجه اللّه وانتظار الجزاء حيث يقدره اللّه ، في الأرض أو في الدار الآخرة سواء ، في طمأنينة للّه ، وفي ثقة بالخير ، وفي إصرار على الحق ، وفي سعة وسماحة ويقين .. ومن ثم فإن هذه الكلية تعد مفرق الطريق بين العبودية للنزوات والرغائب ، والطلاقة الإنسانية اللائقة ببني الإنسان. بين الخضوع لتصورات الأرض وقيمها وموازينها والتعلق بالقيم الربانية والاستعلاء على منطق الجاهلية. مفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا التي أرادها اللّه الرب لعباده ، والصور المشوهة المنحرفة التي لم يقدر لها الكمال.
وما تستقيم الحياة البشرية على منهج اللّه الرفيع ما لم تتحقق هذه الكلية في تصور البشر. وما لم تطمئن قلوبهم إلى أن جزاءهم على الأرض ليس هو نصيبهم الأخير. وما لم يثق الفرد المحدود العمر بأن له حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها ، وأن يضحي لنصرة الحق والخير معتمدا على العوض الذي يلقاه فيها ..(1/226)
وما يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها في شعور ولا خلق ولا سلوك ولا عمل. فهما صنفان مختلفان من الخلق. وطبيعتان متميزتان لا تلتقيان في الأرض في عمل ولا تلتقيان في الآخرة في جزاء .. وهذا هو مفرق الطريق ..
«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» .. وهذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ عن الكليات السابقة في السورة. فلا عبادة إلا للّه ، ولا استعانة إلا باللّه.
وهنا كذلك مفرق طريق .. مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية ، وبين العبودية المطلقة للعبيد! وهذه الكلية تعلن ميلاد التحرر البشري الكامل الشامل. التحرر من عبودية الأوهام. والتحرر من عبودية النظم ، والتحرر من عبودية الأوضاع. وإذا كان اللّه وحده هو الذي يعبد ، واللّه وحده هو الذي يستعان ، فقد تخلص الضمير البشري من استذلال النظم والأوضاع والأشخاص ، كما تخلص من استذلال الأساطير والأوهام والخرافات ..
وهنا يعرض موقف المسلم من القوى الإنسانية ، ومن القوى الطبيعية ..
فأما القوى الإنسانية - بالقياس إلى المسلم - فهي نوعان : قوة مهتدية ، تؤمن باللّه ، وتتبع منهج اللّه ..
وهذه يجب أن يؤازرها ، ويتعاون معها على الخير والحق والصلاح .. وقوة ضالة لا تتصل باللّه ولا تتبع منهجه. وهذه يجب أن يحاربها ويكافحها ويغير عليها.
ولا يهولن المسلم أن تكون هذه القوة الضالة ضخمة أو عاتية. فهي بضلالها عن مصدرها الأول - قوة اللّه - تفقد قوتها الحقيقية. تفقد الغذاء الدائم الذي يحفظ لها طاقتها. وذلك كما ينفصل جرم ضخم من نجم ملتهب ، فما يلبث أن ينطفىء ويبرد ويفقد ناره ونوره ، مهما كانت كتلته من الضخامة. على حين تبقى لأية ذرة متصلة بمصدرها المشع قوتها وحرارتها ونورها : «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ» ..غلبتها باتصالها بمصدر القوة الأول ، وباستمدادها من النبع الواحد للقوة وللعزة جميعا.(1/227)
وأما القوى الطبيعية فموقف المسلم منها هو موقف التعرف والصداقة ، لا موقف التخوف والعداء. ذلك أن قوة الإنسان وقوة الطبيعة صادرتان عن إرادة اللّه ومشيئته. محكومتان بإرادة اللّه ومشيئته ، متناسقتان متعاونتان في الحركة والاتجاه.
إن عقيدة المسلم توحي إليه أن اللّه ربه قد خلق هذه القوى كلها لتكون له صديقا مساعدا متعاونا وأن سبيله إلى كسب هذه الصداقة أن يتأمل فيها. ويتعرف إليها ، ويتعاون وإياها ، ويتجه معها إلى اللّه ربه وربها.
وإذا كانت هذه القوى تؤذيه أحيانا ، فإنما تؤذيه لأنه لم يتدبرها ولم يتعرف إليها ، ولم يهتد إلى الناموس الذي يسيرها.
ولقد درج الغربيون - ورثة الجاهلية الرومانية - على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم : «قهر الطبيعة» .. ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية المقطوعة الصلة باللّه ، وبروح الكون المستجيب للّه.
فأما المسلم الموصول القلب بربه الرحمن الرحيم ، الموصول الروح بروح هذا الوجود المسبحة للّه رب العالمين ..
فيؤمن بأن هنالك علاقة أخرى غير علاقة القهر والجفوة. إنه يعتقد أن اللّه هو مبدع هذه القوى جميعا. خلقها كلها وفق ناموس واحد ، لتتعاون على بلوغ الأهداف المقدرة لها بحسب هذا الناموس. وأنه سخرها للإنسان ابتداء ويسر له كشف أسرارها ومعرفة قوانينها. وأن على الإنسان أن يشكر اللّه كلما هيأ له أن يظفر بمعونة من إحداها. فاللّه هو الذي يسخرها له ، وليس هو الذي يقهرها : «سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» ..
وإذن فإن الأوهام لن تملأ حسه تجاه قوى الطبيعة ولن تقوم بينه وبينها المخاوف .. إنه يؤمن باللّه وحده ، ويعبد اللّه وحده ، ويستعين باللّه وحده. وهذه القوى من خلق ربه. وهو يتأملها ويألفها ويتعرف أسرارها ، فتبذل له معونتها ، وتكشف له عن أسرارها. فيعيش معها في كون مأنوس صديق ودود .. وما أروع قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو ينظر إلى جبل أحد : «هذا جبل يحبنا ونحبه» .. ففي هذه الكلمات كل ما يحمله قلب(1/228)
المسلم الأول محمد - صلى الله عليه وسلم - من ود وألفة وتجاوب ، بينه وبين الطبيعة في أضخم وأخشن مجاليها.
وبعد تقرير تلك الكليات الأساسية في التصور الإسلامي وتقرير الاتجاه إلى اللّه وحده بالعبادة والاستعانة ..
يبدأ في التطبيق العملي لها بالتوجه إلى اللّه بالدعاء على صورة كلية تناسب جو السورة وطبيعتها : «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ» ..«اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» .. وفقنا إلى معرفة الطريق المستقيم الواصل ووفقنا للاستقامة عليه بعد معرفته .. فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية اللّه ورعايته ورحمته. والتوجه إلى اللّه في هذا الأمر هو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين. وهذا الأمر هو أعظم وأول ما يطلب المؤمن من ربه العون فيه. فالهداية إلى الطريق المستقيم هي ضمان السعادة في الدنيا والآخرة عن يقين .. وهي في حقيقتها هداية فطرة الإنسان إلى ناموس اللّه الذي ينسق بين حركة الإنسان وحركة الوجود كله في الاتجاه إلى اللّه رب العالمين.
ويكشف عن طبيعة هذا الصراط المستقيم : «صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ» ..
فهو طريق الذين قسم لهم نعمته. لا طريق الذين غضب عليهم لمعرفتهم الحق ثم حيدتهم عنه. أو الذين ضلوا عن الحق فلم يهتدوا أصلا إليه .. إنه صراط السعداء المهتدين الواصلين ..
وبعد فهذه هي السورة المختارة للتكرار في كل صلاة ، والتي لا تصح بدونها صلاة. وفيها على قصرها تلك الكليات الأساسية في التصور الإسلامي وتلك التوجهات الشعورية المنبثقة من ذلك التصور. (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 21)(1/229)
من فضائل عثمان رضي الله عنه
33- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ ، جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوْجُ فَاطِمَةَ خَيْرٌ مِنْ زَوْجِي ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ : " زَوْجُكِ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَأَرَأَيْتُكِ لَوْ قَدْ دَخَلْتِ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتِ مَنْزِلَهُ لَمْ تَرَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يَعْلُوهُ فِي مَنْزِلِهِ " (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، زَوْجُ فَاطِمَةَ خَيْرٌ مِنْ زَوْجِي . فَأَسْكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَلِيًّا ، ثُمَّ قَالَ : " زَوْجُكِ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَيُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَأَزِيدُكِ : لَوْ قَدْ دَخَلْتِ الْجَنَّةَ ، فَرَأَيْتِ مَنْزِلَهُ ، لَمْ تَرَيْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي يَعْلُوهُ فِي مَنْزِلَتِهِ " (2)
مليا : وقتا طويلا
قلت : وردت أحاديث كثيرة في فضائله رضي الله عنه أفردها عبد الله بن الإمام أحمد بكتاب قيم ، وسأذكر قيلاً منها :
وعَنْ عَطَاءٍ ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِهِ كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ ، فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ ، فَتَحَدَّثَ ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ ، فَأَذِنَ لَهُ ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ ، فَتَحَدَّثَ ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسَوَّى ثِيَابَهُ ، فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ ، فَلَمَّا خَرَجَ ، قَالَتْ عَائِشَةُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ ، فَلَمْ تَهَشَّ لَهُ ، وَلَمْ تُبَالِ بِهِ ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ ، فَلَمْ تَهَشَّ لَهُ ، وَلَمْ تُبَالِ بِهِ ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ ، فَجَلَسْتَ فَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَلاَ أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ." (3)
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 99) (148) حسن
(2) - صحيح ابن حبان - (15 / 336) (6907) وصحيح مسلم- المكنز - (6362 )
(3) - الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ(1831 ) حسن(1/230)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ ، قَالَ : جَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَمَا جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ بِصُرَّةٍ فِيهَا أَلْفُ دِينَارٍ , فَوَضَعَهَا فِي حُجْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُقَلِّبُهَا وَيَقُولُ : مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ , يُرَدِّدُهَا مِرَارًا. " (1)
وقَالَ حُصَيْنٌ : قُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ جَأْوَانَ : لِمَ اعْتَزَلَ الْأَحْنَفُ ؟ قَالَ : قَالَ الْأَحْنَفُ : انْطَلَقْنَا حُجَّاجًا فَمَرَرْنَا بِالْمَدِينَةِ ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ بِمَنْزِلِنَا إِذْ جَاءَنَا آتٍ فَقَالَ : إِنَّ النَّاسَ قَدْ فَزِعُوا إِلَى الْمَسْجِدِ . فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَصَاحِبِي ، فَإِذَا النَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَى نَفَرٍ وَسَطَ الْمَسْجِدِ ، فَتَخَلَّلْتُهُمْ حَتَّى قُمْتُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا عَلِيٌّ , وَطَلْحَةُ ، وَالزُّبَيْرُ ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قُعُودٌ ، فَلَمْ يَكُ ذَاكَ بِأَسْرَعَ أَنْ جَاءَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَمْشِي فِي الْمَسْجِدِ عَلَيْهِ مُلَاءَةٌ لَهُ صَفْرَاءُ قَدْ رَفَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ ، قَالَ : فَقُلْتُ لِصَاحِبِي : كَمَا أَنْتَ حَتَّى نَنْظُرُ مَا جَاءَ بِهِ . فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ قَالُوا : هَذَا ابْنُ عَفَّانَ . قَالَ : أَهَاهُنَا عَلِيٌّ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : أَهَاهُنَا الزُّبَيْرُ ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : أَهَاهُنَا طَلْحَةُ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : أَهَاهُنَا سَعْدٌ ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَنْ يَبْتَاعُ مِرْبَدَ بَنِي فُلَانٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ " . قَالَ : فَابْتَعْتُهُ بِعِشْرِينَ ، أَوْ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - , فَقُلْتُ لَهُ : إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُ مِرْبَدَ بَنِي فُلَانٍ . قَالَ : " اجْعَلْهُ فِي الْمَسْجِدِ وَأَجْرُهُ لَكَ " ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، وَلَكِنَّكَ بَدَّلْتَ . قَالَ : أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَنْ يَبْتَاعُ بِئْرَ رُومَةَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ " فَابْتَعْتُهَا بِكَذَا وَكَذَا ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ : إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُ بِئْرَ رُومَةَ . فَقَالَ : " اجْعَلْهَا سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَأَجْرُهَا لَكَ " ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، وَلَكِنَّكَ بَدَّلْتَ . قَالَ : أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمٍ يَوْمَ جَيْشِ الْعُسْرَةِ فَقَالَ : " مَنْ يُجَهِّزْ هَؤُلَاءِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ " فَجَهَّزْتُهُمْ حَتَّى مَا يَفْقِدُونَ خِطَامًا وَلَا عِقَالًا ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، وَلَكِنَّكَ بَدَّلْتَ . قَالَ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - ثُمَّ انْصَرَفَ " (2)
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (2 / 245) (1274) صحيح
(2) - تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ (1801 ) صحيح(1/231)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ جَاوَانَ ، رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ، ذَلِكَ أَنِّي قُلْتُ لَهُ : أَرَأَيْتَ اعْتِزَالَ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ ، مَا كَانَ ؟ ، قَالَ : سَمِعْتُ الْأَحْنَفَ يَقُولُ : أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ وَأَنَا حَاجٌّ ، فَبَيْنَا نَحْنُ فِي مَنَازِلِنَا نَضَعُ رِحَالَنَا إِذْ أَتَانَا آتٍ ، فَقَالَ : قَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَانْطَلَقْتُ ، فَإِذَا النَّاسُ مُجْتَمِعُونَ ، وَإِذَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ نَفَرٌ قُعُودٌ ، فَإِذَا هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَالزُّبَيْرُ ، وَطَلْحَةُ ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ قِيلَ : هَذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ قَدْ جَاءَ ، قَالَ : فَجَاءَ وَعَلَيْهِ مُلَيَّةٌ صَفْرَاءُ ، قُلْتُ لِصَاحِبِي : كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَنْظُرَ مَا جَاءَ بِهِ ، فَقَالَ عُثْمَانُ : أَهَاهُنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ؟ ، أَهَاهُنَا الزُّبَيْرُ ؟ ، أَهَاهُنَا طَلْحَةُ ؟ ، أَهَاهُنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ؟ ، قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَنْ يَبْتَاعُ مِرْبَدَ بَنِي فُلَانٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ " ، فَابْتَعْتُهُ ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقُلْتُ : إِنِّي ابْتَعْتُ مِرْبَدَ بَنِي فُلَانٍ ، قَالَ : " فَاجْعَلْهُ فِي مَسْجِدِنَا ، وَأَجْرُهُ لَكَ " ؟ ، قَالُوا : نَعَمْ ، فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَنْ يَبْتَاعُ بِئْرَ رُومَةَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ " ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقُلْتُ : قَدِ ابْتَعْتُ بِئْرَ رُومَةَ ، قَالَ : " فَاجْعَلْهَا سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ ، وَأَجْرُهَا لَكَ " ؟ ، قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَنْ يُجَهِّزْ جَيْشَ الْعُسْرَةِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ " ، فَجَهَّزْتُهُمْ حَتَّى مَا يَفْقِدُونَ عِقَالًا وَلَا خِطَامًا ؟ ، قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ " (1)
وعَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ ، قَالَ : خَرَجْنَا حُجَّاجًا ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَنَحْنُ نُرِيدُ الْحَجَّ ، فَبَيْنَا نَحْنُ فِي مَنَازِلِنَا نَضَعُ رِحَالَنَا إِذْ أَتَانَا آتٍ ، قَالَ : إِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ ، وَفَزِعُوا . فَانْطَلَقْنَا وَإِذَا النَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَى نَفَرٍ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ ، وَإِذَا عَلِيٌّ ، وَالزُّبَيْرُ ، وَطَلْحَةُ ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، فَإِنَّا لَكَذَلِكَ إِذْ جَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَيْهِ مُلَاءٌ صَفْرَاءُ قَدْ قَنَّعَ بِهَا رَأْسَهُ ، فَقَالَ : هَاهُنَا عَلِيٌّ ؟ ، أَهَاهُنَا طَلْحَةُ ، أَهَاهُنَا الزُّبَيْرُ ؟ ، أَهَاهُنَا سَعْدٌ ؟ ، قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : فَإِنِّي أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَنْ يَبْتَاعُ مِرْبَدَ بَنِي فُلَانٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ " ، فَابْتَعْتُهُ بِعِشْرِينَ أَلْفًا ، أَوْ بِخَمْسَةٍ
__________
(1) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي(5279 ) صحيح(1/232)
وَعِشْرِينَ أَلْفًا ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : " اجْعَلْهُ فِي مَسْجِدِنَا ، وَأَجْرُهُ لَكَ " ؟ ، قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ ، قَالَ : أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَنْ يَبْتَاعُ بِئْرَ رُومَةَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ " ، فَابْتَعْتُهُ بِكَذَا وَكَذَا ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقُلْتُ : قَدِ ابْتَعْتَهَا بِكَذَا وَكَذَا ، قَالَ : " اجْعَلْهَا سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ ، وَأَجْرُهَا لَكَ " ؟ ، قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ ، قَالَ : فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَقَالَ : مَنْ جَهَّزَ هَؤُلَاءِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ " ، يَعْنِي جَيْشَ الْعُسْرَةِ ، فَجَهَّزْتُهُمْ حَتَّى لَمْ يَفْقِدُوا عِقَالًا وَلَا خِطَامًا ؟ ، قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ ، قَالَ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ " (1)
وعَنْ أَبِى مُوسَى - رضى الله عنه - قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَفْتَحَ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ » .فَفَتَحْتُ لَهُ ، فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ ، فَبَشَّرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَحَمِدَ اللَّهَ ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَفْتَحَ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ » . فَفَتَحْتُ لَهُ ، فَإِذَا هُوَ عُمَرُ ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَحَمِدَ اللَّهَ ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ ، فَقَالَ لِى « افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ » . فَإِذَا عُثْمَانُ ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ . (2)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ؛ قَالَتْ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مُخْلِيًا بِعُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، وَهُوَ يَقُولُ لَهُ : « إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مُقَمِّصُكَ قَمِيصًا أَوْ مُسَرْبِلُكَ سِرْبَالا ، فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ ؛ فَلا تَخْلَعْهُ ، وَلا كَرَامَةَ » (3) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ ، أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ ، حَدَّثَهُ قَالَ : كَتَبَ مَعِي مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ قَالَ : فَقَدِمْتُ عَلَى عَائِشَةَ ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهَا كِتَابَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَتْ : يَا بُنَيَّ ، أَلاَ
__________
(1) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (5280 ) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3693 ) - الحائط : البستان
(3) - المجالسة وجواهر العلم - (6 / 390) (2805 ) والمستدرك للحاكم (4544) وسنن الترمذى- المكنز - (4070) من طرق وهو صحيح(1/233)
أُحَدِّثُكَ بِشَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قُلْتُ : بَلَى ، قَالَتْ : فَإِنِّي كُنْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ يَوْمًا مِنْ ذَاكَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : لَوْ كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ يُحَدِّثُنَا فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَلاَ أَبْعَثُ لَكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ ؟ فَسَكَتَ ، ثُمَّ قَالَ : لَوْ كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ يُحَدِّثُنَا فَقَالَتْ حَفْصَةُ : أَلاَ أُرْسِلُ لَكَ إِلَى عُمَرَ ؟ فَسَكَتَ ، ثُمَّ قَالَ : لاَ ثُمَّ دَعَا رَجُلاً فَسَارَّهُ بِشَيْءٍ ، فَمَا كَانَ إِلاَّ أَنْ أَقْبَلَ عُثْمَانُ ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ وَحَدِيثِهِ ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لَهُ : يَا عُثْمَانُ ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَعَلَّهُ أَنْ يُقَمِّصَكَ قَمِيصًا ، فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ فَلاَ تَخْلَعْهُ ثَلاَثَ مِرَارٍ قَالَ : فَقُلْتُ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، فَأَيْنَ كُنْتِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ؟ فَقَالَتْ : يَا بُنَيَّ ، وَاللَّهِ لَقَدْ أُنْسِيتُهُ حَتَّى مَا ظَنَنْتُ أَنِّي سَمِعْتُهُ. (1)
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا رَأَيْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَقْبَلَتْ إِحْدَانَا عَلَى الأُخْرَى ، فَكَانَ مِنْ آخِرِ كَلاَمٍ كَلَّمَهُ ، أَنْ ضَرَبَ مَنْكِبَهُ ، وَقَالَ : يَا عُثْمَانُ ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصًا ، فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ ، فَلاَ تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِي ، يَا عُثْمَانُ ، إِنَّ اللَّهَ عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصًا ، فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ ، فَلاَ تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِي ثَلاَثًا ، فَقُلْتُ لَهَا : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، فَأَيْنَ كَانَ هَذَا عَنْكِ ؟ قَالَتْ : نَسِيتُهُ ، وَاللَّهِ فَمَا ذَكَرْتُهُ . قَالَ : فَأَخْبَرْتُهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ ، فَلَمْ يَرْضَ بِالَّذِي أَخْبَرْتُهُ حَتَّى كَتَبَ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ اكْتُبِي إِلَيَّ بِهِ ، فَكَتَبَتْ إِلَيْهِ بِهِ كِتَابًا." (2)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (15 / 346) (6915 ) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 275) (25162) 25677- صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 135) (24566) 25073- صحيح(1/234)
الرحلة في طلب الحديث الواحد
34- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : كَانَ يَبْلُغْنِي عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثٌ فِي الْقِصَاصِ , وَكَانَ صَاحِبُ الْحَدِيثِ بِمِصْرَ , فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا فَشَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلًا فَسِرْتُ حَتَّى وَرَدْتُ مِصْرَ , فَقَصَدْتُ إِلَى بَابِ الرَّجُلِ الَّذِي بَلَغَنِي عَنْهُ الْحَدِيثُ , فَقَرَعْتُ الْبَابَ فَخَرَجَ إِلَيَّ مَمْلُوكٌ لَهُ فَنَظَرَ فِي وَجْهِيَ وَلَمْ يُكَلِّمْنِي , فَقَالَ : أَعْرَابِيُّ بِالْبَابِ فَقَالَ : سَلْهُ مَنْ أَنْتَ ؟ فَقُلْتُ : جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ فَخَرَجَ إِلَيَّ مَوْلاَهُ فَلَمَّا تَرَاءَيْنَا اعْتَنَقَ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ , فَقَالَ : يَا جَابِرُ مَا جَاءَكَ ؟ فَقُلْتُ : حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْقِصَاصِ وَلاَ أَظُنُّ أَحَدًا مِمَّنْ مَضَى وَمِمَّنْ بَقِيَ أَفْهَمَ لَهُ مِنْكَ , قَالَ : نَعَمْ يَا جَابِرُ , سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُبُورِكُمْ حُفَاةً عُرَاةً بُهْمًا , يُنَادِي بِصَوْتٍ رَفِيعٍ غَيْرِ فَظِيعٍ , يَسْمَعُ مَنْ بَعُدَ كَمَنْ قَرُبَ , فَيَقُولُ : أَنَا الدَّيَّانُ لاَ تَظَالُمَ الْيَوْمَ وَعِزَّتِي لاَ يُجَاوِزُنِي الْيَوْمَ ظُلْمُ ظَالِمٍ وَلَوْ لَطْمَةَ كَفٍّ بِكَفٍّ أَوْ يَدٍ عَلَى يَدٍ , أَلاَ وَإِنَّ أَشَدَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ , فَلْتَرْتَقِبْ أُمَّتِي الْعَذَابَ , إِذَا تَكَافَأَ النِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ وَالرِّجَالُ بِالرِّجَالِ قَالَ : وَالرَّجُلُ الَّذِي حَدَّثَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسِ " (1)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : بَلَغَنِي عَنْ رَجُلٍ مَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثٌ فِي الْقِصَاصِ لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ فَابْتَعْتُ بَعِيرًا فَشَدَدْتُ رَحْلِي ، ثُمَّ سِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ مِصْرَ - أَوْ قَالَ : الشَّامَ - فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ فَقُلْتُ : حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ تُحَدِّثُ بِهِ سَمِعْتَهُ مَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ أَسْمَعْهُ فِي الْقِصَاصِ خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ : " يَوْمَ يُحْشَرُ الْعِبَادُ - أَوْ قَالَ : النَّاسُ - حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ : أَنَا الْمَلِكُ ، أَنَا الدَّيَّانُ ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ ، وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عَلَيْهِ مَظْلِمَةٌ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مَنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلِأَحَدٍ مَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ حَتَّى اللَّطْمَةَ " قَالَ
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 105) (156) حسن(1/235)
: قُلْنَا : كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عُرَاةً حُفَاةً غُرْلًا بُهْمًا ، قَالَ : " بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ " " (1)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ ، قَالَ جَابِرٌ : بَلَغَنِي عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثٌ فِي الْقِصَاصِ وَكَانَ صَاحِبُ الْحَدِيثِ بِمِصْرَ ، فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا فَشَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلًا فَسِرْتُ عَلَيْهِ حَتَّى وَرَدَتْ مِصْرَ فَقَصَدْتُ إِلَى بَابِ الرَّجُلِ الَّذِي بَلَغَنِي عَنْهُ الْحَدِيثُ فَقَرَعْتُ الْبَابَ فَخَرَجَ إِلَيَّ مَمْلُوكٌ لَهُ ، فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِي وَلَمْ يُكَلِّمْنِي ، فَدَخَلَ عَلَى سَيِّدِهِ وَقَالَ : أَعْرَابِيٌّ بِالْبَابِ ، فَقَالَ : سَلْهُ مَنْ أَنْتَ ، فَقُلْتُ : جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ ، فَخَرَجَ إِلَيَّ مَوْلَاهُ ، فَلَمَّا تَرَاءَيْنَا اعْتَنَقَ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ ، فَقَالَ : يَا جَابِرُ مَا جِئْتَ تَعْرِفُ ، فَقُلْتُ : حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْقِصَاصِ وَلَا أَظُنُّ أَحَدًا مِمَّنْ مَضَى أَوْ مِمَّنْ بَقِيَ أَحْفَظَ لَهُ مِنْكَ ، قَالَ : نَعَمْ يَا جَابِرُ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَبْعَثُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُبُورِكُمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا ، ثُمَّ يُنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ غَيْرِ فَظِيعٍ يُسْمِعُ مَنْ بَعُدَ ، كَمَنْ قَرُبَ فَيَقُولُ : أَنَا الدَّيَّانُ ، لَا تَظَالُمَ الْيَوْمَ ، أَمَا وَعِزَّتِي لَا يُجَاوِزُنِي الْيَوْمَ ظَالِمٌ ، وَلَوْ لَطْمَةَ كَفٍّ بِكَفٍّ أَوْ يَدٍ عَلَى يَدٍ ، وَإِنَّ أَشَدَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ ، فَلْتَرْتَقِبْ أُمَّتِي الْعَذَابَ إِذَا تَكَافَأَ النِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ ، وَالرِّجَالُ بِالرِّجَالِ " (2)
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَهُ قَالَ : " بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ قَالَ : فَابْتَعْتُ بَعِيرًا وَشَدَدْتُ رَحْلِي وَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى أَتَيْتُ الشَّامَ فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَرْسَلَتُ إِلَيْهِ أَنَّ جَابِرًا عَلَى الْبَابِ فَرَجَعَ إِلَيَّ رَسُولُهُ فَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : قُلْتُ : نَعَمْ فَدَخَلَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ فَخَرَجَ إِلَيَّ فَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْتُهُ فَقُلْتُ : حَدِيثًا بَلَغَنِي أَنَّكَ سَمِعَتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَظَالِمِ لَمْ أَسْمَعْهُ فَخَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ أَوْ تَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " يَحْشُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ النَّاسَ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْوَ الشَّامِ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا " قُلْتُ : مَا بُهْمًا ؟ قَالَ
__________
(1) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (8866 ) حسن
(2) - فَوَائِدُ تَمَّامٍ (858) صحيح(1/236)
: لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ فَيُنَادِي بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَكَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يُطَالِبُهُ بِمَظْلِمَةٍ حَتَّى اللَّطْمَةِ " قِيلَ : وَكَيْفَ وَإِنَّا نَأْتِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا قَالَ : " بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ " (1)
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ ، قَالَ : خَرَجْتُ إِلَى الشَّامِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ ، فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " يَحْشُرُ اللَّهُ تَعَالَى الْعِبَادَ " - أَوْ قَالَ : " يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ " - قَالَ : وَأَوْمَى بِيَدِهِ إِلَى الشَّامِ ، " عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا " . قَالَ : قُلْتُ : مَا بُهْمًا ؟ قَالَ : " لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ ، فَيُنَادِي بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ : أَنَا الْمَلِكُ ، أَنَا الدَّيَّانُ ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يُطَالِبُهُ بِمَظْلَمَةٍ ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُطَالِبُهُ بِمَظْلَمَةٍ " . قَالُوا : وَكَيْفَ وَإِنَّا نَأْتِي اللَّهَ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا ؟ قَالَ : " بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ " (2)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيُّ وَكَانَ عِدَادُهُ فِي الْأَنْصَارِ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا فِي الْقِصَاصِ ، قَالَ جَابِرٌ : فَخَرَجْتُ إِلَى السُّوقِ فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا ، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلًا ، ثُمَّ سِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَيْهِ مِصْرَ سَأَلْتُ عَنْهُ ، حَتَّى وَقَفْتُ عَلَى بَابِهِ فَسَلَّمْتُ ، فَخَرَجَ إِلَيَّ غُلَامٌ أَسْوَدُ لَهُ ، فَقَالَ : مَنْ أَنْتَ ؟ فَقُلْتُ : جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ . فَدَخَلَ عَلَيْهِ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ ، فَقَالَ : قُلْ لَهُ : أَصَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ ؟ ، فَخَرَجَ الْغُلَامُ ، فَقَالَ ذَلِكَ لِي ، فَقُلْتُ : نَعَمْ ، فَخَرَجَ إِلَيَّ فَالْتَزَمَنِي ، وَالْتَزَمْتُهُ ، فَقَالَ : مَا حَاجَتُكَ يَا ابْنَ أَخِي ؟ فَقُلْتُ : حَدِيثٌ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْقِصَاصِ ، لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ غَيْرُكَ ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْكَ قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ أَوْ أَمُوتَ ، فَقَالَ : نَعَمْ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ حُشِرَ النَّاسُ عُرَاةً حُفَاةً غُرْلًا ، ثُمَّ يَجْلِسُ اللَّهُ عَلَى كُرْسِيِّهِ ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا
__________
(1) - الْآحَادُ وَالْمَثَانِي لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ(1796 ) حسن
(2) - السُّنَّةُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ(414 ) حسن(1/237)
يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ ، فَيَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ الدَّيَّانُ ؛ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ؛ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَدْخُلُ النَّارَ ، وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عِنْدَهُ مُظْلِمَةٌ حَتَّى اللَّطْمَةُ بِالْيَدِ " ، فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُرَاةً حُفَاةً غُرْلًا بُهْمًا ، قَالَ : " مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ؟ " ، قَالَ : قُلْتُ لَهُ : فَمَا الْبُهْمُ ؟ ، قَالَ : سَأَلْتُ عَنْهَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ : الَّذِينَ لَا شَيْءَ مَعَهُمْ " (1)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : رَكِبْتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ ، إِلَى مِصْرَ ، أَسْأَلُهُ عَنْ حَدِيثِ الْقِصَاصِ ، فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " يُجْمَعُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ، يَسْمَعُ الصَّوْتَ أَقْصَاهُمْ كَمَا يَسْمَعُ أَدْنَاهُمْ ، يَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ ، وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ يَطْلُبُهُ بِلَطْمَةٍ فَمَا سِوَاهَا " ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَيْفَ وَنَحْنُ حُفَاةً عُرَاةً غَزْلًا ؟ قَالَ : " مِنْ أَعْمَالِكُمْ " (2)
وعن جَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : بَلَغَنِي عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ ، فَخَشِيتُ أَنْ يَمُوتَ أَوْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعْهُ ، فَابْتَعْتُ بَعِيرًا ، فَشَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي ، ثُمَّ سِرْتُ عَلَيْهِ شَهْرًا ، حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ ، فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ الْأَنْصَارِيَّ ، فَقُمْتُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ ، فَقُلْتُ : جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، فَخَرَجَ إِلَيَّ فَعَانَقَنِي وَعَانَقْتُهُ ، قَالَ : قُلْتُ : حَدِيثًا بَلَغَنِي أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَظَالِمِ ، خَشِيتُ أَنْ تَمُوتَ أَوْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ : " يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ قِبَلَ الشَّامِ ، عُرَاةً حُفَاةً غُرْلًا بُهْمًا " ، قَالَ : قُلْتُ : مَا بُهْمًا ؟ ، قَالَ : " لَيْسَ مَعَهُمْ شَىءٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ بِصَوْتٍ يَسْمَعْهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ ، أَنَا الْمَلِكُ الدَّيَّانُ ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ، وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَدْخُلُ النَّارَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ ،
__________
(1) - مُسْنَدُ الرُّويَانِيِّ(1478 ) حسن
(2) - الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ(8831 ) حسن(1/238)
حَتَّى اللَّطْمَةِ " ، قَالَ : قُلْتُ : وَكَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا ؟ ، قَالَ : " الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ " (1)
وعن جَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ الْأَنْصَارِيُّ , فَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى أَتَيْتُ الشَّأْمَ , فَسَأَلْتُهُ قَالَ : نَعَمْ , سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " يُحْشَرُ النَّاسُ - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّأْمِ - عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا , قُلْتُ : مَا بُهْمًا ؟ قَالَ : " لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ , فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعْهُ مِنْ بَعُدَ , كَمَا يَسْمَعْهُ مَنْ قَرُبَ : " أَنَا الْمَلِكُ , لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ , وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَدْخُلُ النَّارَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ " قَالَ : قُلْنَا : وَكَيْفَ ؟ إِنَّمَا نَأْتِي عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا ؟ قَالَ : بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ " (2)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْقِصَاصِ لَمْ أَسْمَعْهُ , فَابْتَعْتُ بَعِيرًا فَشَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي ثُمَّ سِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ مِصْرَ فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ قُلْ لَهُ : جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ : ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ , فَأَتَاهُ فَأَخْبَرَهُ فَقَامَ يَطَأُ ثَوْبَهُ حَتَّى خَرَجَ إِلَيَّ فَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْتُهُ , فَقُلْتُ لَهُ : حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ أَسْمَعْهُ فِي الْقِصَاصِ فَخَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ أَوْ تَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ , فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " يَحْشُرُ اللَّهُ تَعَالَى الْعِبَادَ - أَوْ قَالَ النَّاسَ - عُرَاةً بُهْمًا " , قَالَ : قُلْنَا مَا بُهْمًا ؟ , قَالَ : لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ , ثُمَّ يُنَادِيهِمْ فَذَكَرَ كَلِمَةً أَرَادَ بِهَا نِدَاءً يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَعِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ حَتَّى اللَّطْمَةُ " قَالَ : قُلْنَا كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ تَعَالَى غُرْلًا بُهْمًا ؟ قَالَ : " بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ " قَالَ : وَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ " (3)
__________
(1) - الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ (13798 ) حسن
(2) - مُعْجَمُ الصِّحَابِةِ لِابْنِ قَانِعٍ (942 ) حسن
(3) - الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ لِلْبَيْهَقِيِّ (131و590 ) حسن
وقال : وَهَذَا حَدِيثٌ تَفَرَّدَ بِهِ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ ؛ وَابْنُ عَقِيلٍ ، وَالْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ الْمَكِّيُّ لَمْ يُحْتَجَّ بِهِمَا الشَّيْخَانِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ النَّيْسَابُورِيُّ ، وَلَمْ يُخْرِجَا هَذَا الْحَدِيثَ فِي الصَّحِيحِ بِإِسْنَادِهِ ، وَإِنَّمَا أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَيْهِ فِي تَرْجَمَةِ الْبَابِ وَاخْتَلَفَ الْحُفَّاظُ فِي الِاحْتِجَاجِ بِرِوَايَاتِ ابْنِ عَقِيلٍ لِسُوءِ حِفْظِهِ ، وَلَمْ تَثْبُتْ صِفَةُ الصَّوْتِ فِي كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ حَدِيثِهِ ، وَلَيْسَ بِنَا ضَرُورَةٌ إِلَى إِثْبَاتِهِ . وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ فِيهِ إِنْ كَانَ ثَابِتًا رَاجِعًا إِلَى غَيْرِهِ كَمَا رُوِّينَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا " إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسَلَةِ عَلَى الصَّفَا " . وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانَ " . فَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ عِنْدَ الْوَحْيِ صَوْتًا لَكِنْ لِلسَّمَاءِ ، وَلِأَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقِينَ عُلُوًّا كَبِيرًا . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَقُولُ اللَّهُ : يَا آدَمُ ، فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ، فَيُنَادِي بِصَوْتٍ : إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ " . فَهَذَا لَفْظٌ تَفَرَّدَ بِهِ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ ، وَخَالَفَهُ وَكِيعٌ وَجَرِيرٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْمَشِ فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ لَفْظَ الصَّوْتِ ، وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ حَفْصٍ ، فَقَالَ : كَانَ يُخْلِطُ فِي حَدِيثِهِ ، ثُمَّ إِنْ كَانَ حَفِظَهُ فَفِيهِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لِآدَمَ يَكُونُ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ يُنَادِيهِ بِصَوْتٍ : " إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَأْمُرُكَ " . فَيَكُونُ قَوْلُهُ : " فَيُنَادِي بِصَوْتٍ " . يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ : يُنَادِيهِ مَلَكٌ بِصَوْتٍ . وَهَذَا ظَاهَرٌ فِي الْخَبَرِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ "(1/239)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : بَلَغَنِي عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا لَمْ أَسْمَعْهُ فَابْتَعْتُ بَعِيرًا فَشَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي فَسِرْتُ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ ، فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ : قُلْ لَهُ : جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ ، فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ : جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ : جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، فَأَتَانِي فَقَالَ لِي ، فَقُلْتُ : نَعَمْ ، فَرَجَعَ فَأَخْبَرَهُ ، فَقَامَ يَطَأُ ثَوْبَهُ حَتَّى لَقِيَنِي فَاعْتَنَقَنِي فَقُلْتُ : حَدِيثًا بَلَغَنِي عَنْكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ أَسْمَعْهُ خَشِيتُ أَنْ تَمُوتَ ، أَوْ أَمُوتَ وَلَمْ أَسْمَعْهُ قَالَ : سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ - أَوْ قَالَ - النَّاسَ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمَا " قُلْنَا : وَمَا بُهْمَا ؟ قَالَ : " لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ : أَنَا الْمَلِكُ الدَّيَّانُ ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارِ وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ حَتَّى أَقْتَصَّهُ مِنْهُ حَتَّى اللَّطْمَةَ " قِيلَ : كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عُرَاةٌ غُرْلًا بُهْمًا ؟ قَالَ : " بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ " (1)
__________
(1) - مَعْرِفَةُ الصِّحَابَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ (3542 ) حسن(1/240)
وعن جَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : بَلَغَنِي عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثٌ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ قَالَ : فَابْتَعْتُ بَعِيرًا فَشَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي فَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى أتَيْتُ الشَّامَ ، فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ الْأَنْصَارِيُّ ، قَالَ : فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ أن جَابِرًا عَلَى الْبَابِ ، قَالَ : فَرَجَعَ إِلَيَّ الرَّسُولُ فَقَالَ : جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ؟ ، فَقُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَرَجَعَ الرَّسُولُ إِلَيْهِ ، فَخَرَجَ إِلَيَّ فَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْتُهُ ، قَالَ : قُلْتُ : حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَظَالِمِ لَمْ أَسْمَعْهُ فَخَشِيتُ أَنْ أَمُوتُ أَوْ تَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ ، فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ أَوْ قَالَ يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ قَالَ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّامِ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا قُلْتُ : مَا بُهْمًا ؟ قَالَ : لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ ، قَالَ : فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مِنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ : أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ ، وَأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارُ يَطْلُبُهُ بِمَظْلِمَةٍ ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَدْخُلُ النَّارَ ، وَأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلِمَةٍ حَتَّى اللَّطْمَةِ ، قَالَ : قُلْنَا كَيْفَ هُوَ ؟ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ تَعَالَى عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا قَالَ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ " (1)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ ، مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا فَشَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلًا ، ثُمَّ سِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ مِصْرَ ، قَالَ : فَخَرَجَ إِلَيَّ غُلَامٌ أَسْوَدُ فَقُلْتُ : اسْتَأْذِنْ لِي عَلَى فُلَانٍ ، قَالَ : فَدَخَلَ ، فَقَالَ : إِنَّ أَعْرَابِيًّا بِالْبَابِ يَسْتَأْذِنُ ، قَالَ فَاخْرُجْ إِلَيْهِ ، فَقُلْ لَهُ مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : فَقَالَ لَهُ : أَخْبِرْهُ أَنِّي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : فَخَرَجَ إِلَيْهِ ، فَالْتَزَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ قَالَ : فَقَالَ : مَا جَاءَ بِكَ ، قَالَ حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْقِصَاصِ ، وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا يَحْفَظُهُ غَيْرَكَ فَأَحْبَبْتُ أَنْ تُذَاكِرَنِيهِ ، فَقَالَ : نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ حَشَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ مِنْهُمْ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ : أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ لَا تَظَالَمُوا الْيَوْمَ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ ، وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قِبَلَهُ مَظْلِمَةٌ ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ
__________
(1) - الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ (31 ) حسن(1/241)
يَدْخُلَ النَّارَ ، وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قِبَلَهُ مَظْلِمَةٌ حَتَّى اللَّطْمَةِ بِالْيَدِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَيْفَ ؟ ، وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا ، قَالَ : " مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ " (1)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ أَسْمَعْهُ فَابْتَعْتُ بَعِيرًا فَشَدَدْتُ رَحْلِي وَسِرْتُ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ : قُلْ لَهُ : جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ فَأَتَاهُ فَقَالَ : جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ؟ فَأَتَانِي فَقَالَ لِي : فَقُلْتُ : نَعَمْ فَرَجَعَ فَأَخْبَرَهُ فَقَامَ يَطَأُ ثَوْبَهُ حَتَّى لَقِيَنِي فَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْتُهُ فَقُلْتُ : حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْقِصَاصِ لَمْ أَسْمَعْهُ فَحَسِبْتُ أَنْ تَمُوتَ أَوْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " يَحْشُرُ اللَّهُ تَعَالَى الْعِبَادَ أَوْ قَالَ النَّاسَ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا قَالَ : قُلْنَا : مَا بُهْمًا ؟ قَالَ : لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ ثُمَّ يُنَادِيهِمْ رَبُّهُمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ حَتَّى اللَّطْمَةَ قُلْنَا : كَيْفَ ؟ وَإِنَّمَا نأَتِي اللَّهَ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا قَالَ : بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ " (2)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَابْتَعْتُ بَعِيرًا فَشَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي ثُمَّ سِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ الْأَنْصَارِيُّ فَأَتَيْتُ مَنْزِلَهُ وَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ أَنَّ جَابِرًا عَلَى الْبَابِ فَرَجَعَ إِلَى الرَّسُولِ فَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : قُلْتُ : نَعَمْ فَخَرَجَ إِلَيَّ فَاعْتَنَقْتُهُ وَاعْتَنَقَنِي ، قَالَ : قُلْتُ : حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَظَالِمِ لَمْ أَسْمَعْهُ أَنَا مِنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ " يَحْشُرُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْعِبَادَ " أَوْ قَالَ : " النَّاسَ " شَكَّ هَمَّامٌ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّامِ " عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا " قَالَ : قُلْنَا " مَا بُهْمًا ؟ قَالَ : " لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ وَيَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ : أَنَا الْمَالِكُ أَنَا الدَّيَّانُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ حَتَّى اللَّطْمَةَ وَلَا يَنْبَغِي
__________
(1) - الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ (32 )حسن
(2) - الْجَامِعُ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي وَآدَابِ السَّامِعِ لِلْخَطِيِبِ الْبَغْدَادِيِّ (1698 ) حسن(1/242)
لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ حَتَّى اللَّطْمَةَ " قَالَ : قُلْنَا لَهُ :كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عُرَاةً حُفَاةً غُرْلًا ؟ قَالَ : " مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ " (1)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ , وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ , حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ , حَتَّى اللَّطْمَةُ " , قُلْنَا : وَكَيْفَ , وَإِنَّا إِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا ؟ قَالَ : " بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ "
قَالَ : فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَأْخُذُ فِي الْآخِرَةِ اللَّطْمَةَ لِمَنْ لَطَمَهَا فِي الدُّنْيَا مِمَّنْ لَطَمَهُ إِيَّاهَا فِيهَا . وَفِي ذَلِكَ مَا قَدْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ , كَانَ عَلَيْهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا . فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ : أَنَّهُ لَا حُجَّةَ عَلَيْنَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا , إِذْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ رَفَعَ عَنِ اللَّاطِمِ فِي الدُّنْيَا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ فِي لَطَمَتِهِ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ مِنْ قِصَاصٍ,وَمِنْ غَيْرِهِ لِلَّذِي لَطَمَهَا إِيَّاهُ , إِذْ كَانَ حَدُّهَا غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ,وَالْحُكُومَةُ فِيهَا غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا ,فَرَفَعَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا , وَكَانَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْآخِرَةِ قَادِرًا عَلَى الْوُقُوفِ عَلَى حَدِّهَا ,إِذْ كَانَ فِي الْآخِرَةِ يَتَوَلَّى الْحُكْمَ فِيهَا , وَكَانَ الْمُتَوَلِّي لِلْحُكْمِ فِيهَا غَيْرَهُ مِنْ عِبَادِهِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ مِنْهَا .فَقَالَ قَائِلٌ : فَقَدْ وَجَدْنَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِي اللَّطْمَةِ " (2)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ(420) حسن
(2) - مُشْكِلُ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ (3007 ) حسن(1/243)
الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ عَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ
35-عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ , مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ عَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ , وَذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالاَهُ " (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ رَفَعَهُ ، قَالَ : الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ ، أَوْ نَهْيًا عَنِ الْمُنْكَرِ ، أَوْ ذِكْرَ اللهِ." (2)
وعَنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ ضَمْرَةَ السَّلُولِيِّ، حدثنا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرَ اللهِ أَوْ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا " (3)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا مَا كَانَ مِنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " . (4)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: " الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللهِ وَمَا أَدَّى إِلَيْهِ " (5)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : الدُّنْيَا مَلْعُونَةُ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " (6)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، قَالَ : الدُّنْيَا مَلْعُونَةُ ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، أَوْ آوَى إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ . قَالَ مُعَاوِيَةُ : وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ يَرْفَعُهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى الْمِنْبَرِ . " (7)
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 108) (163) والمعجم الأوسط للطبراني - (4220) والمعجم الكبير للطبراني - (20 / 215) (1680 ) صحيح
(2) - مسند البزار كاملا - (1 / 284) (1736) وكشف الأستار - (4 / 108) (3310) صحيح
(3) - شعب الإيمان - (3 / 228) (1580 ) وسنن ابن ماجه- المكنز - (4251 ) وسنن الترمذى- المكنز - (2492 ) صحيح
(4) - شعب الإيمان - (13 / 110) (10031 ) صحيح
(5) - شعب الإيمان - (13 / 110) (10033 ) صحيح
(6) - مسند الشاميين 360 - (1 / 353) (612) صحيح
(7) - الزهد أبي داود 275 - (1 / 200) (222) صحيح(1/244)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، وَالْعَالِمُ وَالْمُتَعَلِّمُ شَرِيكَانِ فِي الْأَجْرِ ، وَسَائِرُ النَّاسِ هَمَجٌ لَا خَيْرَ فِيهِ " (1)
وعَنْ كَعْبٍ قَالَ : الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ مُتَعَلِّمَ خَيْرٍ أَوْ مُعَلِّمَهُ. " (2)
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الدُّنْيَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَلَاذَّ النُّفُوسِ ، وَشَهَوَاتِهَا ، وَجَمِيعَ حُطَامِهَا ، وَزَهْرَاتِهَا ، وَمَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ، وَحُبَّ الْبَقَاءِ فِيهَا ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ هِيَ الْمَلْعُونَةَ إِذَا كَانَتْ لِلنُّفُوسِ وَشَهَوَاتِهَا وَلَذَّةِ الطَّبْعِ ، وَالتَّلَهِّي بِهَا ، وَالشُّغْلِ فِيهَا ، وَالْحُبِّ لَهَا ، وَلَمْ تَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا فِيهِ ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأُولَى الَّتِي يَلِيهَا الْمَوْتُ وَالْفَنَاءُ ، وَالْآخِرَةُ هِيَ الْحَيَاةُ الْبَاقِيَةُ ، الَّتِي لَيْسَ لَهَا زَوَالٌ وَلَا فَنَاءٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ : " الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ " أَيْ : مَرْفُوضَةٌ مَتْرُوكَةٌ ، وَمَا فِيهَا أَيْ : مَا فِي الْحَيَاةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ ، وَالْمَلَاذِّ ، وَالْحُطَامِ ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ مَلْعُونٌ ، أَيْ : مَتْرُوكٌ يَجِبُ تَرْكُهَا ، وَرَفْضُهَا ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى هَذَا حَثَّ ، وَإِلَيْهِ نَدَبَ ، وَفِيهِ رَغَّبَ ، وَعَنْهَا زَهَّدَ ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ، وَقَالَ إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ، وَقَالَ تَعَالَى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَيُّكُمْ أَحْسَنُ لِلدُّنْيَا تَرْكًا ، وَعَنْهَا إِعْرَاضًا ، وَاللَّعْنُ عِنْدَ الْعَرَبِ التَّرْكُ ، وَالْمَلْعُونُ الْمَتْرُوكُ ، كَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ ، وَأَنْشَدَ يَصِفُ الْمَغَارَةَ :
غَوْرِيَّةٌ نَجْدِيَّةٌ تَصْعِيدُهُ تَصْوِيبُهُ مُتَشَابِهٌ مَلْعُونُ
__________
(1) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ (108 ) وقال :هَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ الْمِصِّيصِيُّ ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ مُسْنَدًا ، وَرَوَاهُ عَبْدَانُ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ ، عَنْ ثَوْرٍ ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ مِنْ قَوْلِ أَبِي الدَّرْدَاءِ " قلت : وهو صحيح
(2) - سنن الدارمى- المكنز - (328) صحيح مقطوع(1/245)
يَصِفُ طَرِيقًا تَرَكَ سُلُوكَهُ ، حَتَّى اشْتَبَهَ ، وَصَارَ مَا ارْتَفَعَ مِنْهُ وَانْخَفَضَ شَيْئًا وَاحِدًا , فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ " أَيْ : مَتْرُوكَةٌ يَجِبُ تَرْكُهَا إِلَّا مَا كَانَ مِنْهَا لِلَّهِ ، وَهُوَ مَا كَانَ عَدْوُهُ لِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَعَوْنًا عَلَى إِقَامَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ : " مَتْرُوكٌ " أَيْ : هِيَ مَتْرُوكُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْأَفَاضِلِ مِنَ النَّاسِ ، فَإِنَّهُمْ تَرَكُوهَا ، وَرَفَضُوهَا ، وَأَعْرَضُوا عَنْهَا " (1)
ويقول العلامة محمد قطب حفظه الله :
" ولا شك أنه ورد فى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ذم للدنيا أو لعن لها.
ولكن مراجعة السياق الذى ورد فيه مثل هذا الذم تكشف لنا بوضوح أن الدنيا تذم أو تلعن فى مجالين اثنين ، حين تصدُّ الإنسانَ عن الإيمان بالله وتدفعه إلى الكفر به ، أو تصدُّه عن الجهاد فى سبيل الله: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)} [سورة النحل 16/106-107] { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [سورة التوبة 9/24]
أما فى غير هذين المجالين فليست الدنيا مذمومة ولا ملعونة ، ما دامت لا تصدُّ عن الإيمان بالله أو الجهاد فى سبيل الله.
{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة الأعراف 7/32]
{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [سورة القصص 28/77]
__________
(1) - بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ (135 )(1/246)
صحيح أن التعلق بالدنيا يؤدي إلى معصية الله. وهذا هو المعنى الذى ركز عليه بعض الزهاد الوعاظ أشد التركيز ، وجعلوا الدنيا ملعونة من أجله ، ولكن قتل النفس من جهة أخرى مخافة الوقوع فى المعصية يوقع فى معصية من نوع آخر ، هي القعودُ عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وعن مجالدة الباطل والعمل على إزهاقه ، وعن عمارة الأرض بمقتضى منهج الله.
وحين يعمل الإنسانُ فى هذا الحقل ، وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والجهادُ لتكون كلمةُ الله هي العليا ، وعمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني ، ثم تقع منه الأخطاء والمعاصي غير متعمد لها ولا متبجح بها ، ثم يستغفر الله عنها ويجاهد لكي لا يقع فيها ، فذلك هو الذي قال الله فيه: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} [سورة آل 3/135-136]
وقال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" والذى نفسى بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم!" .
وحين تجلس ساكناً وتحمل فوق رأسك سلة مملوءة بالأشياء فلا يقع منها شيء ، فقد حافظت على ما في السلَّة بالفعل ، ولكنك في سبيل المحافظة عليها تعطلت عن الحركة المطلوبة منك وليست هذه هي البراعة إنما البراعة أن تتحرك وأنت تحملُ السلَّة على رأسك وتحاول جاهدا ألا يسقط منها شيء. فإن تساقط منها شيء أسرعت إلى إعادته فى السلة وعاودت المسير.
ولمثل هذا خلق الله الإنسان. حمله الأمانة ثم أمره بالسير فى مناكب الأرض وهو يحملُ الأمانة ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويجاهد لكي يقوم الناس بالقسط ، ولكي تكون كلمة الله هي العليا ، ويعمر الأرض بمقتضى المنهج الرباني.. ثم كان من رحمته سبحانه وتعالى وهو يعلم ضعف الإنسان أنه يغفر ما يقع فى أثناء ذلك من الذنوب ما دام(1/247)
العبد لا يصرُّ عليها ، وما دام يستغفر ويتوب ، فيتم " الإنتاج " المطلوب والإنسان في أرفع حالاته ، وأقربها إلى رضوان الله.
أمَّا القعود عن الإنتاج ، أو حصره في أضيق نطاق ممكن بحجة تجنب المزالق ، فليس هو الذي أمر به الله..
ومن جهة أخرى فإن حصر الإنتاج فى أضيق نطاق ممكن وهو نطاق الكفاف يجعل الدولة كلها تعيش في حالة الكفاف ، ولا يجعل لديها " الفائض " الذى تنفقه في متطلبات " التمكين في الأرض ".
إن التمكين في الأرض هبة الله للمؤمنين: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [سورة النور 24/55]
ولكن له تكاليف...
فإلى جانب عبادة الله وحده بلا شريك، وتحكيم شريعته وحده، وهما المقتضى العملي للإيمان الصحيح، فهناك تكاليف حسية ومادية :
{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)} [سورة الأنفال 8/60]
فإذا عاش مجموع الناس عيشة الكفاف، ولم ينتجوا إلا في حدود الكفاف، فكيف للدولة المسلمة أن تعدَّ ما استطاعت من قوة لإرهاب أعداء الله، تلك القوة التي لا يستمرُّ التمكين في الأرض إلا بها؟
إنما يحتاج الأمر إلى الإنتاج الوفير والاستهلاك القليل.. وهذه هي المعادلة التي يتم بها التمكين في الأرض والمحافظة عليه. أما الإنتاج القليل على قدر الاستهلاك القيل فلا يؤدي إلا إلى فقر مجموع الأمة، الفقر الذي يؤدي إلى الضعف، والضعف يحرك شهوة الأعداء الذين ينتظرون الفرصة السانحة للانقضاض.(1/248)
وإلى جانب ذلك كله، فحين يعتزلُ المتطهرون المجتمع وينعزلون عنه ليزكوا أرواحهم بعيدا عن الدنس فمن يبقى في المجتمع؟ ومن يديرُ شئونه؟ ومن يتحركُ فيه؟
أليست هذه العزلة مشجعا للفاسدين أن ينفردوا بالعمل دون تدخل ولا اعتراض؟ بينما كان الواجب الأول لأولئك المتطهرين أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويأطروا الحاكم على الحكم على الحق أطرا ويأصروه عليه أصرا كما أمرهم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ؟ " (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - واقعنا المعاصر - (1 / 169) بتصرف قليل(1/249)
فضل إفشاء السلام
36- عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ , وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُو [ نَ ] الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا , وَلَا تُؤْمِنُو [ نَ ] حَتَّى تَحَابُّوا وَلَا تَحَابُّو [ نَ ] حَتَّى يَذْهَبَ الْغِلُّ مِنْ صُدُورِكُمْ , أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ : قَالُوا : بَلَى قَالَ : " أَفْشُوا السَّلَامَ " (1)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، وَلَا تَحَابُّوا حَتَّى يَذْهَبَ الْغِلُّ مِنْ صُدُورِكُمْ ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ " . قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : " أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ حَتَّى يَعْلُوَكُمُ السَّلَامُ ، وَمَنْ لَقِيَ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ حَالَ بَيْنَهُمَا جِذْعٌ ، ثُمَّ لَقِيَهَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ " (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَىْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ ». (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا.أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَىْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ ». (4)
وعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، أَنَّ يَعِيشَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ هِشَامٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ مَوْلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ، أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ حَدَّثَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ مِنْ قِبَلِكُمُ: الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنَّهُ يَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 113) (172) والمعجم الكبير للطبراني -(7 / 215) (7702 ) صحيح لغيره
(2) - مُسْنَدُ الرُّويَانِيِّ (1189 ) حسن لغيره
(3) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (10 / 232) (21595) وشعب الإيمان - (11 / 180) (8371 ) وسنن أبي داود - المكنز - (5195 ) وسنن ابن ماجه- المكنز - (71 و3823 ) وسنن الترمذى- المكنز - (2904) صحيح مشهور وقال الترمذي : وَفِى الْبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ وَشُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ عَنْ أَبِيهِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَالْبَرَاءِ وَأَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (203 ) ومسند أبي عوانة (66 ) و صحيح ابن حبان - (1 / 472) (236)(1/250)
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكَ لَكُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ " (1) .
قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ) مَعْنَاهُ لَا يَكْمُل إِيمَانكُمْ وَلَا يَصْلُح حَالُكُمْ فِي الْإِيمَان إِلَّا بِالتَّحَابِّ .
وَأَمَّا قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّة حَتَّى تُؤْمِنُوا ) فَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِطْلَاقِهِ فَلَا يَدْخُل الْجَنَّةِ إِلَّا مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَامِل الْإِيمَان ، فَهَذَا هُوَ الظَّاهِر مِنْ الْحَدِيث .
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو رَحِمَهُ اللَّه . مَعْنَى الْحَدِيث لَا يَكْمُل إِيمَانُكُمْ إِلَّا بِالتَّحَابِّ . وَلَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّة عِنْدَ دُخُول أَهْلهَا إِذَا لَمْ تَكُونُوا كَذَلِكَ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحْتَمَل . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَأَمَّا قَوْله : ( أَفْشُوا السَّلَام بَيْنكُمْ ) فَهُوَ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ . وَفِيهِ الْحَثُّ الْعَظِيمُ عَلَى إِفْشَاء السَّلَام وَبَذْله لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ ؛ مَنْ عَرَفْت ، وَمَنْ لَمْ تَعْرِف ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيث الْآخَر . وَالسَّلَامُ أَوَّل أَسْبَاب التَّأَلُّف ، وَمِفْتَاح اِسْتِجْلَاب الْمَوَدَّة . وَفِي إِفْشَائِهِ تَمَكَّنُ أُلْفَة الْمُسْلِمِينَ بَعْضهمْ لِبَعْضِ ، وَإِظْهَار شِعَارهمْ الْمُمَيِّز لَهُمْ مِنْ غَيْرهمْ مِنْ أَهْل الْمِلَل ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ رِيَاضَة النَّفْس ، وَلُزُوم التَّوَاضُع ، وَإِعْظَام حُرُمَات الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فِي صَحِيحه عَنْ عَمَّار بْن يَاسِر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : ( ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَان : الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسك ، وَبَذْل السَّلَام لِلْعَالَمِ ، وَالْإِنْفَاق مِنْ الْإِقْتَار . رَوَى غَيْر الْبُخَارِيِّ هَذَا الْكَلَام مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . وَبَذْل السَّلَام لِلْعَالَمِ ، وَالسَّلَام عَلَى مَنْ عَرَفْت وَمَنْ لَمْ تَعْرِف ، وَإِفْشَاء السَّلَام كُلّهَا بِمَعْنَى وَاحِد . وَفِيهَا لَطِيفَة أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ رَفْع التَّقَاطُع وَالتَّهَاجُر وَالشَّحْنَاء وَفَسَاد ذَات الْبَيْن الَّتِي هِيَ الْحَالِقَة ، وَأَنَّ سَلَامه لِلَّهِ لَا يَتْبَع فِيهِ هَوَاهُ ، وَلَا يَخُصّ أَصْحَابه وَأَحْبَابه بِهِ . وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ . (2)
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (2699 ) و شعب الإيمان - (11 / 182) (8373 ) صحيح لغيره
(2) - شرح النووي على مسلم - (1 / 143)(1/251)
قوله : لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ؛ كذا صحَّت الروايةُ هنا : وَلاَ تُؤْمِنُوا ؛ بإسقاطِ النون ، والصوابُ : إثباتها كما قد وقع في بعض النسخ ؛ لأنَّ لا نَفْيٌ لا نهْيٌ ؛ فلزم إثباتها.
والإيمانُ المذكورُ أوَّلاً هو : التصديقُ الشرعيُّ المذكورُ في حديث جبريل ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ، والإيمانُ المذكور ثانياً هو : الإيمانُ العمليُّ المذكورُ في قوله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ : الإيمانُ بِضْعٌ وسبعون بابًا ، ولو كان الثاني هو الأوَّلَ ، لَلَزِمَ منه ألاَّ يدخلَ الجَنَّةَ مَنْ أبغَضَ أحدًا من المؤمنين ، وذلك باطلٌ قطعًا ؛ فتعيَّنَ التأويلُ الذي ذكرناه.
وإِفْشَاءُ السَّلاَمِ إظهارُهُ وإشاعته ، وإقراؤُهُ على المعروفِ وغيرِ المعروف.
ومعنى قولِهِ : لاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أي : لا يكمُلُ إيمانكم ولا يكونُ حالُكم حالَ مَنْ كَمُلَ إيمانُهُ ؛ حتى تُفْشُوا السلامَ الجالبَ للمحبَّة الدينيَّة ، والألفةِ الشرعيَّة. (1)
قوله: [ (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة) ]. هذا ليس نهياً وإنما هو إخبار، والأصل أن تكون النون موجودة فيقول: (لا تدخلون الجنة) لأن (لا) هذه ليست ناهية، فيكون هذا من قبيل الخبر الذي هو بمعنى النهي، كما يأتي عكسه وهو أن يكون النهي بمعنى الخبر مثل: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة:197] يعني: فلا يرفث ولا يفسق؛ لأنه خبر بمعنى النهي. والحديث يدلنا على فضل إفشاء السلام، وعظم شأنه، وأنه من أسباب المحبة، وفيه الدعاء للمسلمين بعضهم لبعض. وقد سبق أن مر بنا الحديث الذي فيه أن سعد بن عبادة رضي الله عنه لم يرد على الرسول - صلى الله عليه وسلم - جهراً، يريد أن يكثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من السلام عليه، لأنه دعاء. (2)
وفي فتاوى الإسلام سؤال وجواب :
" كان من عادة الناس الجارية بينهم أن يحيي بعضهم بعضاً بتحيات فيما بينهم وكان لكل طائفة منهم تحية تخصهم عن غيرهم من الناس .
__________
(1) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (2 / 8)
(2) - شرح سنن أبي داود ـ عبد المحسن العباد - (29 / 282)(1/252)
فقد كانت العرب تقول في تحيتهم أنعم صباحاً أو أنعموا صباحا فيأتون بلفظ النعمة وهي طيب العيش بعد الصباح ويصلونها به لأن الصباح هو أول ما يبدأ به الإنسان نهاره فإذا حصلت فيه النعمة والخير استصحب ذلك طول نهاره .
ولما جاء الإسلام الحنيف شرع الله عز وجل فيه تحية للمسلمين فيما بينهم وشعارا لهم وهي السلام عليكم وجعلها خاصة لهم عن غيرهم من الأمم ومعنى السلام هو البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب ، والسلام أيضا اسم عظيم من أسماء الله عز وجل وعلى هذا فإنّ قول السلام عليكم أي هو يراقبكم ويطّلع عليكم فيكون فيها موعظة ويدخل في المعنى كذلك : نزلت عليكم بركة اسمه تعالى وحصلت عليكم .
قال ابن القيم بدائع الفوائد (144) : فشرع الله الملك القدوس السلام لأهل الإسلام تحية بينهم سلام عليكم وكانت أولى من جميع تحيات الأمم التي فيها ما هو محال وكذب نحو قولهم تعيش ألف سنة وما هو قاصر المعنى مثل أنعم صباحاً ومنها ما لا ينبغي مثل السجود فكانت التحية بالسلام أولى من ذلك كله لتضمنها السلامة التي لا حياة ولا فلاح إلا بها فهي الأصل المقدم على كل مقصود ومقصود العبد من الحياة يحصل بشيئين : بسلامته من الشر وحصول الخير عليه والسلامة من الشر مقدمة على حصول الخير وهي الصلة ) انتهى
هذا وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إفشاء السلام من الإيمان فروى البخاري (12).(28) و(6236) ومسلم (39) وأحمد (2/169) وأبو داود (5494) والنسائي (8/107) وابن حبان (505) عن عبد الله بن عمر قال : أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي الإسلام خير ؟ قال : تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ) قال ابن حجر في الفتح (1/56) أي لا تخص أحداً تكبراً أو تصنعا ، بل تعظيماً لشعار الإسلام ومراعاة لاخوة المسلم .
قال ابن رجب في الفتح (1/43 ) : وجمع في الحديث بين إطعام الطعام وإفشاء السلام لأنه به يجتمع الإحسان بالقول والفعل وهو أكمل الإحسان ، وإنما كان هذا خير الإسلام بعد الإتيان بفرائض الإسلام وواجباته .(1/253)
قال السنوسي في إكمال المعلم (1/244) : ( المراد بالسلام التحية بين الناس وهو مما يزرع الود والمحبة في القلوب كما يفعل الطعام وقد يكون في قلب المحبين ضعف فيزول بالتحية وقد يكون عدواً فينقلب بها صديقاً ) .أهـ
قال القاضي في إكمال المعلم (1:276) : وهذا حض منه - صلى الله عليه وسلم - على تأليف قلوب المؤمنين وإن أفضل خلقهم الإسلامية ألفة بعضهم بعضاً وتحيتهم وتوادهم واستجلاب ذلك بينهم بالقول والفعل وقد حض - صلى الله عليه وسلم - على التحابب والتودد وعلى أسبابهما من التهادي وإطعام الطعام وإفشاء السلام ونهي عن أضدادها من التقاطع والتدابر والتجسس والتحسس والنميمة وذوي الوجهين .
والألفة أحد فرائض الدين وأركان الشريعة ونظام شمل الإسلام وفي بذل السلام على من عرف ومن لم يعرف إخلاص العمل به لله تعالى لا مصانعة ولا مَلَقاً لمن تعرف دون من لا تعرف وفيه مع ذلك استعمال خلق التواضع وإفشاء شعار هذه الأمة من لفظ السلام ) انتهى .
ولذلك بين - صلى الله عليه وسلم - أن بالسلام يحصل الود المحبة والإخاء فيما رواه مسلم (54) أحمد (2/391) والترمذي (2513) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشو السلام بينكم ) .
هذا وقد بين - صلى الله عليه وسلم - جزاء وثواب من قال السلام عليكم كما روى النسائي في عمل اليوم والليلة (368) والبخاري في الأدب المفرد (586) وابن حبان (493) عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رجلاً مر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في مجلس فقال سلام عليكم فقال عشر حسنات ثم مر رجل آخر قال سلام عليكم ورحمة الله فقال عشرون حسنة فمر رجلا آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال ثلاثون حسنة ).
وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بردّ السلام وجعله حقاً فروى أحمد (2/540) والبخاري (1240) ومسلم (2792) والنسائي في اليوم والليلة (221) وأبو داود(5031) عن أبي هريرة رضي الله(1/254)
عنه رفعه (حق المسلم على المسلم خمس : ردّ السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز ، وإجابة الداعي وتشميت العاطس ) .
وظاهر الأمر الوجوب فيجب رد السلام ذلك أن المسلم قد أعطاك الأمان فواجب عليك إعطاؤه الأمن والسلامة مقابل ذلك وكأنه يقول لك : أعطيك الأمان والسلامة والأمن فكان لا بد من إعطائه نفس الأمان والسلامة حتى لا يظن ولا يدخل في نفسه أن من سلّم عليه قد يغدر به أو أنه هاجر له ولذلك فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الهجرة بين المتهاجرين يقطعها السلام فروى البخاري (6233) عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام " . هذه نبذة عن أهمية السّلام وردّه والله تعالى أعلم . (1)
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية :
" إن إلقاء السلام سنة عند جمهور العلماء، وهو سنة عين على المنفرد، وسنة كفاية على الجماعة، والأفضل السلام من جميعهم لتحصيل الأجر، وأما رد السلام ففرض بالإجماع.
قال النووي رحمه الله في المجموع: وأما جواب السلام فهو فرض بالإجماع، فإن كان السلام على واحد، فالجواب: فرض عين في حقه، وإن كان على جميع فهو فرض كفاية، فإذا أجاب واحد منهم أجزأ عنهم، وسقط الحرج عن جميعهم، وإن أجابوا كلهم كانوا كلهم مؤدين للفرض، سواء ردوا معاً أو متعاقبين، فلو لم يجبه أحد منهم أثموا كلهم، ولو رد غير الذين سلم عليهم لم يسقط الفرض والحرج عن الباقين.
وقال أيضاً: قال أصحابنا: يشترط في ابتداء السلام وجوابه رفع الصوت بحيث يحصل الاستماع، وينبغي أن يرفع صوته رفعاً يسمعه المسلَّم عليهم، والمردود عليهم سماعا محققاً، ولا يزيد في رفعه على ذلك، فإن شك في سماعهم زاد واستظهر. انتهى
وقد دل على استحباب إلقاء السلام قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم. رواه مسلم.
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (1 / 4570) -سؤال رقم 4596- أهمية السلام ورده(1/255)
ودل على وجود الرد قوله تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86].
فأمر بالرد بمثلها أو بأحسن منها، والأصل في الأمر أن يكون للوجوب ما لم يوجد صارف إلى الندب ولا صارف هنا.
ولا شك أن ابتداء السلام مأمور به كذلك، لكن حمل الجمهور الأمر فيه للندب، وأخذ الحنفية بظاهره فأوجبوا إلقاء السلام، وهو قول للمالكية والمشهور عنهم موافقتهم للجمهور.
وهذا الذي ذكرناه هنا هو في السلام الواقع بين الرجال (1)
وإن السلام من طبع الأتقياء، وديدن الأصفياء، روى الترمذي عن أبي أمامة قال: قيل: يا رسول الله: الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام؟ فقال: أولاهما بالله، قال الترمذي: هذا حديث حسن، وأن السلام من أسباب حصول التعارف والألفة وزيادة المودة والمحبة، ومن أسباب دخول الجنات، قال - صلى الله عليه وسلم - : لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم. رواه مسلم.
والسلام يدل على تواضع المسلم ومحبته لغيره، وينبئ عن نزاهة قلبه من الحسد والحقد والبغض والكبر والاحتقار، وهو من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، قال عليه الصلاة والسلام: خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز. رواه مسلم .
وكان الصحابة يحرصون على أن يبدأوا من لقيهم بالسلام، أخرج الطبراني عن الأغر المزني قال: قال لي أبو بكر: لا يسبقك إلى السلام أحد، فكنا إذا طلع الرجل بادرناه بالسلام قبل أن يسلم علينا، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يغدو إلى السوق ويقول: إنما نغدو من أجل السلام، فنسلم على من لقيناه. رواه مالك في "الموطأ" والبخاري في "الأدب المفرد".
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (4 / 2332) -رقم الفتوى 22278 حكم إلقاء السلام والرد عليه(1/256)
وكذلك المصافحة مندوب إليها، وهي سبب لغفران الذنوب، فقد جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: أحدنا يلقى صديقه أينحني له؟ قال: لا، قال: فيلتزمه ويقبله؟ قال: لا، قال: فيصافحه؟ قال: نعم. رواه أحمد والترمذي من حديث أنس رضي الله عنه، وحسنه الألباني .
وروى الطبراني عن أنس رضي الله عنه قال: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تلاقوا تصافحوا. حسنه الألباني .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا. رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وصححه الأرناؤوط والألباني .
فإذا كان إفشاء السلام والبداءة به والمصافحة بهذه المثابة من الخير والفضل، فجدير به أن يبادر إليه، ولا يحرم نفسه من فضله وثمراته، وليحذر أن يكون الحامل له على ترك السلام والمصافحة الكبر، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. رواه مسلم . (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (6 / 1870) رقم الفتوى 42715 الأهمية البالغة لإفشاء السلام في المجتمع(1/257)
الوصية بالوالدين
37-عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ , إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ , إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ , إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِالأَقْرَبِ فَالأَقْرَبِ." (1)
وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُوصِيكُمْ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ وَبَنَاتِكُمْ وَأَخَوَاتِكُمْ وَعَمَّاتِكُمْ وَخَالاتِكُمْ إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْكَنَائِسِ لَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ وَمَا يَعْلَمُ مَا لَهُ بِهَا مِنَ الْخَيْرِ فَمَا يَرْغَبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ حَتَّى يَمُوتَا هَرَمًا قَالَ أَبُو سَلَمَةَ فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْعَلاءَ بْنَ سُفْيَانَ الْغَسَّانِيَّ فَقَالَ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ مِنَ الْفَوَاحِشِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ مِمَّا بَطُنَ مِمَّا لَمْ يُبَيَّنْ ذِكْرُهَا فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ فَإِذَا قَدِمْتَ صُحْبَتُهَا وَطَالَ عَهْدُهَا وَنَفَضَتْ مَا فِي بَطْنِهَا طَلَّقَهَا مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ " (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ" " (3) .
الخلاصة في أحكام بر الوالدين (4)
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 116) (177و1128 ) والأدب المفرد - ( 60) والسنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (4 / 179) (8017) والمعجم الكبير للطبراني - (15 / 206) ( 17028 -17031 ) وسنن ابن ماجه- المكنز - (3792) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 854)
(17187) 17319 - صحيح
(2) - بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث - (1 / 549) (495) فيه انقطاع
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (5971 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6664)
(4) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (8 / 63)(1/258)
تعريفه :
مِنْ مَعَانِي الْبِرِّ فِي اللُّغَةِ : الْخَيْرُ وَالْفَضْل وَالصِّدْقُ وَالطَّاعَةُ وَالصَّلاَحُ (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ : يُطْلَقُ فِي الأَْغْلَبِ عَلَى الإِْحْسَانِ بِالْقَوْل اللَّيِّنِ اللَّطِيفِ الدَّال عَلَى الرِّفْقِ وَالْمَحَبَّةِ ، وَتَجَنُّبِ غَلِيظِ الْقَوْل الْمُوجِبِ لِلنُّفْرَةِ ، وَاقْتِرَانِ ذَلِكَ بِالشَّفَقَةِ وَالْعَطْفِ وَالتَّوَدُّدِ وَالإِْحْسَانِ بِالْمَال وَغَيْرِهِ مِنَ الأَْفْعَال الصَّالِحَاتِ (2) . وَالأَْبَوَانِ : هُمَا الأَْبُ وَالأُْمُّ (3) .وَيَشْمَل لَفْظُ ( الأَْبَوَيْنِ ) الأَْجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ (4) .
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَالأَْجْدَادُ آبَاءٌ ،وَالْجَدَّاتُ أُمَّهَاتٌ ، فَلاَ يَغْزُو الْمَرْءُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ ، وَلاَ أَعْلَمُ دَلاَلَةً تُوجِبُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الإِْخْوَةِ وَسَائِرِ الْقَرَابَاتِ . (5)
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ :
اهْتَمَّ الإِْسْلاَمُ بِالْوَالِدَيْنِ اهْتِمَامًا بَالِغًا . وَجَعَل طَاعَتَهُمَا وَالْبِرَّ بِهِمَا مِنْ أَفْضَل الْقُرُبَاتِ . وَنَهَى عَنْ عُقُوقِهِمَا وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ غَايَةَ التَّشْدِيدِ . كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } ( سورة الإسراء / 23 ، 24 ) ، فَقَدْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَجَعَل بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونًا بِذَلِكَ ، وَالْقَضَاءُ هُنَا : بِمَعْنَى الأَْمْرِ وَالإِْلْزَامِ وَالْوُجُوبِ .
__________
(1) - لسان العرب ، والمصباح المنير ، الصحاح مادة " برر " ، والكليات لأبي البقاء 1 / 398 ط دمشق ، وزارة الثقافة 1974
(2) - الفواكه الدواني على رسالة القيرواني 2 / 382 ـ 383 ، والزواجر عن اقتراف الكبائر للهيثمي 2 / 66 ط دار المعرفة ببيروت
(3) - لسان العرب ، والصحاح 1 / 5
(4) - حاشية ابن عابدين 3 / 220 ( التعليق على قول الشارح له أبوان ) ، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 3 / 242 ، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 230 ، وتحفة المحتاج بشرح المنهاج 9 / 232ـ 233 ومطالب أولي النهى 2 / 513
(5) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 241 .(1/259)
كَمَا قَرَنَ شُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } ( سورة لقمان / 14) . فَالشُّكْرُ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الإِْيمَانِ ، وَلِلْوَالِدَيْنِ عَلَى نِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ . وَقَال سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ : مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَدْ شَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَمَنْ دَعَا لِوَالِدَيْهِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ فَقَدْ شَكَرَهُمَا.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَال : سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - : أَيُّ الأَْعْمَال أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل ؟ قَال : الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا قَال : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَال : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَال : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَال : الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ " (1) ، فَأَخْبَرَ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ أَفْضَل الأَْعْمَال بَعْدَ الصَّلاَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ دَعَائِمِ الإِْسْلاَمِ (2) .
وَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْجِهَادِ ؛ لأَِنَّ بِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ ، وَلاَ يَنُوبُ عَنْهُ فِيهِ غَيْرُهُ . فَقَدْ قَال رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَغْزُوَ الرُّومَ ، وَإِنَّ أَبَوَيَّ مَنَعَانِي . فَقَال : أَطِعْ أَبَوَيْكَ ، فَإِنَّ الرُّومَ سَتَجِدُ مَنْ يَغْزُوهَا غَيْرَكَ (3)
وَالْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ ، وَفَرْضُ الْعَيْنِ أَقْوَى مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ . وَفِي خُصُوصِ ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَال : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْغَزْوِ .فَقَال : أَحَيٌّ وَالِدَاكَ ؟ قَال : نَعَمْ . قَال فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ (4) .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ . جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال : جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ ، وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ فَقَال : ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا (5) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (527 ) وصحيح مسلم- المكنز - (264)
(2) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 237ـ 238 .
(3) - المهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 230 .
(4) - أخرجه البخاري ( الفتح 1 / 403 ـ ط السلفية )
(5) - أخرجه أبو داود ( 3 / 38 ـ ط عزت عبيد دعاس ) والحاكم ( 4 / 152 ـ ط دائرة المعارف العثمانية ) ، وصححه ، ووافقه الذهبي .(1/260)
وَفِيهِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ : أَنَّ رَجُلاً هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ : « هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ ». قَالَ : أَبَوَاىَ. قَالَ : « أَذِنَا لَكَ ». قَالَ : لاَ. قَالَ : « ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَاسْتَأْذِنْهُمَا فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ وَإِلاَّ فَبِرَّهُمَا ». (1) .
هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّفِيرُ عَامًّا . وَإِلاَّ أَصْبَحَ خُرُوجُهُ فَرْضَ عَيْنٍ ؛ إِذْ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْجَمِيعِ الدَّفْعُ وَالْخُرُوجُ لِلْعَدُوِّ . (2)
وَإِذَا كَانَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضَ عَيْنٍ ، فَإِنَّ خِلاَفَهُ يَكُونُ حَرَامًا ، مَا لَمْ يَكُنْ عَنْ أَمْرٍ بِشِرْكٍ أَوِ ارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ ، حَيْثُ لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ (3) .
الْبِرُّ بِالْوَالِدَيْنِ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ :
الْبِرُّ بِالْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ ، وَلاَ يَخْتَصُّ بِكَوْنِهِمَا مُسْلِمَيْنِ ، بَل حَتَّى لَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ يَجِبُ بِرُّهُمَا وَالإِْحْسَانُ إِلَيْهِمَا مَا لَمْ يَأْمُرَا ابْنَهُمَا بِشِرْكٍ أَوِ ارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ . قَال تَعَالَى : { لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }(سورة الممتحنة / 8 )
فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُول لَهُمَا قَوْلاً لَيِّنًا لَطِيفًا دَالًّا عَلَى الرِّفْقِ بِهِمَا وَالْمَحَبَّةِ لَهُمَا ، وَيَجْتَنِبَ غَلِيظَ الْقَوْل الْمُوجِبَ لِنُفْرَتِهِمَا ، وَيُنَادِيَهُمَا بِأَحَبِّ الأَْلْفَاظِ إِلَيْهِمَا ، وَلْيَقُل لَهُمَا مَا يَنْفَعُهُمَا فِي أَمْرِ دِينِهِمَا وَدُنْيَاهُمَا ، وَلاَ يَتَبَرَّمُ بِهِمَا بِالضَّجَرِ وَالْمَلَل وَالتَّأَفُّفِ ، وَلاَ يَنْهَرُهُمَا ، وَلْيَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنهما - قَالَتْ قَدِمَتْ عَلَىَّ أُمِّى وَهْىَ مُشْرِكَةٌ ، فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ { إِنَّ أُمِّى قَدِمَتْ } وَهْىَ رَاغِبَةٌ ، أَفَأَصِلُ أُمِّى قَالَ « نَعَمْ صِلِى أُمَّكِ » (4)
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهَا قَالَتْ : أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَأَصِلُهَا ؟ قَال : نَعَمْ قَال ابْنُ عُيَيْنَةَ : فَأَنْزَل اللَّهُ عَزَّ وَجَل فِيهَا {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (2532 ) صحيح لغيره
(2) - فتح القدير على الهداية 5 / 149 ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 240 .
(3) - ابن عابدين 3 / 220 ، والشرح الصغير 4 / 739 ـ 741 ، والفروق للقرافي 1 / 145 .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (2620 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2372 )(1/261)
يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (8) سورة الممتحنة (1)
وَفِي هَذَا الْمَقَامِ قَال اللَّهُ تَعَالَى : { وَوَصَّيْنَا الإِْنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ( سورة العنكبوت / 8 ) . قِيل : نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ . فعَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ، قَالَ : قَالَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ : " نَزَلَتْ فِيَّ : وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا قَالَ : لَمَّا أَسْلَمْتُ ، حَلَفَتْ أُمِّي لَا تَأْكُلُ طَعَامًا وَلَا تَشْرَبُ شَرَابًا ، قَالَ : فَنَاشَدْتُهَا أَوَّلَ يَوْمٍ ، فَأَبَتْ وَصَبَرَتْ ؛ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي نَاشَدْتُهَا ، فَأَبَتْ ؛ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ نَاشَدْتُهَا فَأَبَتْ ، فَقُلْتُ : وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ لَخَرَجَتْ قَبْلَ أَنْ أَدَعَ دِينِي هَذَا ؛ فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ ، وَعَرَفَتْ أَنِّي لَسْتُ فَاعِلًا أَكَلَتْ " (2)
هَذَا وَفِي الدُّعَاءِ بِالرَّحْمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ حَال حَيَاتِهِمَا خِلاَفٌ ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ .
أَمَّا الاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا فَمَمْنُوعٌ ، اسْتِنَادًا إِلَى قَوْله تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (113) سورة التوبة فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي اسْتِغْفَارِهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَاسْتِغْفَارِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لأَِبَوَيْهِ الْمُشْرِكَيْنِ . وَانْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ الاِسْتِغْفَارِ لَهُمَا بَعْدَ وَفَاتِهِمَا وَحُرْمَتِهِ ، وَعَلَى عَدَمِ التَّصَدُّقِ عَلَى رُوحِهِمَا (3) .
أَمَّا الاِسْتِغْفَارُ لِلأَْبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ حَال الْحَيَاةِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ ؛ إِذْ قَدْ يُسْلِمَانِ .
__________
(1) - وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 239 ، 14 / 63 - 65 ، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 9 / 40 ، والفروق للقرافي 1 / 145 ، الفواكه الدواني 2 / 382 ، والشرح الصغير 4 / 740 ، والزواجر عن اقتراف الكبائر للهيثمي 2 / 75 ط دار المعرفة .
(2) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (25765 ) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13 / 328 صحيح
(3) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 245 ، والفواكه الدواني 2 / 384 ، والشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 4 / 741 ، وشرح إحياء علوم الدين 6 / 316 .(1/262)
وَلَوْ مَنَعَهُ أَبَوَاهُ الْكَافِرَانِ عَنِ الْخُرُوجِ لِلْجِهَادِ الْكِفَائِيِّ ، مَخَافَةً عَلَيْهِ ، وَمَشَقَّةً لَهُمَا بِخُرُوجِهِ وَتَرْكِهِمَا ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : لَهُمَا ذَلِكَ ، وَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا بِرًّا بِهِمَا وَطَاعَةً لَهُمَا ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مَنْعُهُمَا لَهُ لِكَرَاهَةِ قِتَال أَهْل دِينِهِمَا ، فَإِنَّهُ لاَ يُطِيعُهُمَا وَيَخْرُجُ لَهُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ لِلْجِهَادِ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا ؛ لأَِنَّهُمَا مُتَّهَمَانِ فِي الدِّينِ ، إِلاَّ بِقَرِينَةٍ تُفِيدُ الشَّفَقَةَ وَنَحْوَهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . وَقَال الثَّوْرِيُّ : لاَ يَغْزُو إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا إِذَا كَانَ الْجِهَادُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ . أَمَّا إِذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ لِحُضُورِ الصَّفِّ ، أَوْ حَصْرِ الْعَدُوِّ ، أَوِ اسْتِنْفَارِ الإِْمَامِ لَهُ بِإِعْلاَنِ النَّفِيرِ الْعَامِّ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الإِْذْنُ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا ؛ إِذْ أَصْبَحَ وَاجِبًا عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ ؛ لِصَيْرُورَتِهِ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْجَمِيعِ (2) .
التَّعَارُضُ بَيْنَ بِرِّ الأَْبِ وَبِرِّ الأُْمِّ :
لَمَّا كَانَ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الأَْوْلاَدِ عَظِيمًا ، فَقَدْ نَزَل بِهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ، وَوَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ ، وَيَقْضِي ذَلِكَ بِلُزُومِ بِرِّهِمَا وَطَاعَتِهِمَا وَرِعَايَةِ شُئُونِهِمَا وَالاِمْتِثَال لأَِمْرِهِمَا ، فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ ، عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ بَيَانُهُ .
وَنَظَرًا لِقِيَامِ الأُْمِّ بِالْعِبْءِ الأَْكْبَرِ فِي تَرْبِيَةِ الْوَلَدِ اخْتَصَّهَا الشَّارِعُ بِمَزِيدٍ مِنَ الْبِرِّ ، بَعْدَ أَنْ أَوْصَى بِبِرِّهِمَا ، فَقَال تَعَالَى : {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (14) سورة لقمان
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال : يَا رَسُول اللَّهِ : مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ قَال : أُمُّكَ قَال : ثُمَّ مَنْ ؟ قَال : أُمُّكَ قَال : ثُمَّ مَنْ ؟ قَال : أُمُّكَ قَال : ثُمَّ مَنْ ؟ قَال : أَبُوكَ . (3)
__________
(1) - ابن عابدين 3 / 220 .
(2) - المهذب 2 / 230 ، وتحفة المحتاج بشرح المنهاج 9 / 232 ، ومطالب أولي النهى 2 / 513 ، والمغني 8 / 359 ط الرياض الحديثة ، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 175 ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 240 .
(3) - أخرجه البخاري ( الفتح 10 / 401ـ ط السلفية ) . وقد مر(1/263)
وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِالأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ . (1)
وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - : أَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الْمَرْأَةِ ؟ قَال : زَوْجُهَا . قُلْتُ : فَعَلَى الرَّجُل ؟ قَال أُمُّهُ . (2)
فَفِيمَا ذُكِرَ - وَغَيْرُهُ كَثِيرٌ - مِمَّا سَبَقَ بَيَانُهُ دَلِيلٌ عَلَى مَنْزِلَةِ الأَْبَوَيْنِ ، وَتَقْدِيمِ الأُْمِّ فِي الْبِرِّ عَلَى الأَْبِ فِي ذَلِكَ ؛ لِصُعُوبَةِ الْحَمْل ، ثُمَّ الْوَضْعِ وَآلاَمِهِ ، ثُمَّ الرَّضَاعِ وَمَتَاعِبِهِ ، وَهَذِهِ أُمُورٌ تَنْفَرِدُ بِهَا الأُْمُّ وَتَشْقَى بِهَا ، ثُمَّ تُشَارِكُ الأَْبَ فِي التَّرْبِيَةِ ، فَضْلاً عَنْ أَنَّ الأُْمَّ أَحْوَجُ إِلَى الرِّعَايَةِ مِنَ الأَْبِ ، وَلاَ سِيَّمَا حَال الْكِبَرِ . (3)
وَفِي تَقْدِيمِ هَذَا الْحَقِّ أَيْضًا : أَنَّهُ لَوْ وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَى الْوَلَدِ لأَِبَوَيْهِ ، وَلَمْ يَقْدِرْ إِلاَّ عَلَى نَفَقَةِ أَحَدِهِمَا ، فَتُقَدَّمُ الأُْمُّ عَلَى الأَْبِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ،وَذَلِكَ لِمَا لَهَا مِنْ مَشَقَّةِ الْحَمْل وَالرَّضَاعِ وَالتَّرْبِيَةِ وَزِيَادَةِ الشَّفَقَةِ ، وَأَنَّهَا أَضْعَفُ وَأَعْجَزُ . هَذَا مَا لَمْ يَتَعَارَضَا فِي بِرِّهِمَا (4) .
فَإِنْ تَعَارَضَا فِيهِ ، بِأَنْ كَانَ فِي طَاعَةِ أَحَدِهِمَا مَعْصِيَةُ الآْخَرِ ، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ : إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَأْمُرُ بِطَاعَةٍ وَالآْخَرُ يَأْمُرُ بِمَعْصِيَةٍ ، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ الآْمِرَ بِالطَّاعَةِ مِنْهُمَا دُونَ الآْمِرِ بِالْمَعْصِيَةِ ، فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ مَعْصِيَةٍ . لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ (5) ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُصَاحِبَهُ بِالْمَعْرُوفِ لِلأَْمْرِ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا
__________
(1) - مر تخريجه
(2) - أخرجه الحاكم برقم(7244) وقال الحافظ فى " الفتح " 10 / 402 : صححه الحاكم .
واتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة - ( 3205) وقال : هذا إسناد حسن.
وقد نص الحافظ في التقريب على أن أبي عتبة مجهول ، وذكر تصحيح الحاكم في الفتح والظاهر أنه كما قال البوصيري
(3) - فتح الباري بشرح صحيح البخاري 10 / 401 - 402 ، وشرح إحياء علوم الدين للغزالي 6 / 315 ، والزواجر عن اقتراف الكبائر للهيثمي 2 / 71 ط دائرة المعارف ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14 / 63ـ 65 .
(4) - رد المحتار على الدر المختار 2 / 673 ، والفواكه الدواني 2 / 384 ، وروضة الطالبين 9 / 95 ، والمكتب الإسلامي والمغني لابن قدامة 7 / 594 ط الرياض الحديثة .
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (13 / 60) (14795 ) صحيح(1/264)
مَعْرُوفًا } (سورة لقمان / 15 ) وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي الأَْبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ ، إِلاَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لاَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ
أَمَّا إِنْ تَعَارَضَ بِرُّهُمَا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ ، وَحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ إِيصَال الْبِرِّ إِلَيْهِمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً ، فَقَدْ قَال الْجُمْهُورُ : طَاعَةُ الأُْمِّ مُقَدَّمَةٌ ؛ لأَِنَّهَا تَفْضُل الأَْبَ فِي الْبِرِّ (1) .
وَقِيل : هُمَا فِي الْبِرِّ سَوَاءٌ ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً قَال لِمَالِكٍ : وَالِدِي فِي السُّودَانِ ، كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَقْدُمَ عَلَيْهِ ، وَأُمِّي تَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ ، فَقَال لَهُ مَالِكٌ : أَطِعْ أَبَاكَ وَلاَ تَعْصِ أُمَّكَ . يَعْنِي أَنَّهُ يُبَالِغُ فِي رِضَى أُمِّهِ بِسَفَرِهِ لِوَالِدِهِ ، وَلَوْ بِأَخْذِهَا مَعَهُ ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ طَاعَةِ أَبِيهِ وَعَدَمِ عِصْيَانِ أُمِّهِ .
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّيْثَ حِينَ سُئِل عَنِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا قَال : أَطِعْ أُمَّكَ ، فَإِنَّ لَهَا ثُلُثَيِ الْبِرِّ . كَمَا حَكَى الْبَاجِيُّ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى زَوْجِهَا ، فَأَفْتَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ابْنَهَا : بِأَنْ يَتَوَكَّل لَهَا عَلَى أَبِيهِ ، فَكَانَ يُحَاكِمُهُ ، وَيُخَاصِمُهُ فِي الْمَجَالِسِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الأُْمِّ . وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ ، قَال : لأَِنَّهُ عُقُوقٌ لِلأَْبِ ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّمَا دَل عَلَى أَنَّ بِرَّهُ أَقَل مِنْ بِرِّ الأُْمِّ ، لاَ أَنَّ الأَْبَ يُعَقُّ . وَنَقَل الْمُحَاسِبِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الأُْمَّ مُقَدَّمَةٌ فِي الْبِرِّ عَلَى الأَْبِ . (2)
بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَالأَْقَارِبِ الْمُقِيمِينَ بِدَارِ الْحَرْبِ :
قَال ابْنُ جَرِيرٍ : إِنَّ بِرَّ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ ، مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةُ نَسَبٍ ، أَوْ مَنْ لاَ قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَلاَ نَسَبَ ، غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَلاَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَقْوِيَةٌ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ دَلاَلَةٌ عَلَى عَوْرَةٍ لأَِهْل الإِْسْلاَمِ ، أَوْ تَقْوِيَةٌ لَهُمْ بِكُرَاعٍ أَوْ سِلاَحٍ . (3) ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا نُقِل عَنِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ الْحَنْبَلِيِّ فِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَلاَ يَخْتَلِفُ عَمَّا ذُكِرَ ، وَاسْتَدَل لَهُ بِإِهْدَاءِ عُمَرَ الْحُلَّةَ الْحَرِيرِيَّةَ إِلَى أَخِيهِ الْمُشْرِكِ . وَبِحَدِيثِ أَسْمَاءَ
__________
(1) - الفواكه الدواني 2 / 384 .
(2) - الفروق للقرافي 1 / 143 ، وتهذيب الفروق بهامشه ص 161 ، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 10 / 402 - 403 .
(3) - جامع البيان للطبري 28 / 66 ط مصطفى الحلبي .(1/265)
وَفِيهِمَا صِلَةُ أَهْل الْحَرْبِ وَبِرُّهُمْ وَصِلَةُ الْقَرِيبِ الْمُشْرِكِ ، وَمِنَ الْبِرِّ لِلْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا ؛ لأَِنَّهُمَا لاَ يَرِثَانِ ابْنَهُمَا الْمُسْلِمَ (1) .
بِمَ يَكُونُ الْبِرُّ
يَكُونُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ بِالإِْحْسَانِ إِلَيْهِمَا بِالْقَوْل اللَّيِّنِ الدَّال عَلَى الرِّفْقِ بِهِمَا وَالْمَحَبَّةِ لَهُمَا ، وَتَجَنُّبِ غَلِيظِ الْقَوْل الْمُوجِبِ لِنُفْرَتِهِمَا ، وَبِمُنَادَاتِهِمَا بِأَحَبِّ الأَْلْفَاظِ إِلَيْهِمَا ، كَيَا أُمِّي وَيَا أَبِي ، وَلْيَقُل لَهُمَا مَا يَنْفَعُهُمَا فِي أَمْرِ دِينِهِمَا وَدُنْيَاهُمَا ، وَيُعَلِّمْهُمَا مَا يَحْتَاجَانِ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمَا ، وَلْيُعَاشِرْهُمَا بِالْمَعْرُوفِ . أَيْ بِكُل مَا عُرِفَ مِنَ الشَّرْعِ جَوَازُهُ ، فَيُطِيعُهُمَا فِي فِعْل جَمِيعِ مَا يَأْمُرَانِهِ بِهِ ، مِنْ وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ ، وَفِي تَرْكِ مَا لاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ ، وَلاَ يُحَاذِيهِمَا فِي الْمَشْيِ ، فَضْلاً عَنِ التَّقَدُّمِ عَلَيْهِمَا ، إِلاَّ لِضَرُورَةٍ نَحْوِ ظَلاَمٍ ، وَإِذَا دَخَل عَلَيْهِمَا لاَ يَجْلِسُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا ، وَإِذَا قَعَدَ لاَ يَقُومُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا ، وَلاَ يَسْتَقْبِحُ مِنْهُمَا نَحْوَ الْبَوْل عِنْدَ كِبَرِهِمَا أَوْ مَرَضِهِمَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَذِيَّتِهِمَا ، قَال تَعَالَى : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } (سورة النساء / 36 )
قَال ابْنُ عَبَّاسٍ : يُرِيدُ الْبِرَّ بِهِمَا مَعَ اللُّطْفِ وَلِينِ الْجَانِبِ ، فَلاَ يُغْلِظُ لَهُمَا فِي الْجَوَابِ ، وَلاَ يُحِدُّ النَّظَرَ إِلَيْهِمَا ، وَلاَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَيْهِمَا . (2)
وَمِنَ الْبِرِّ بِهِمَا وَالإِْحْسَانِ إِلَيْهَا : أَلاَّ يُسِيءَ إِلَيْهِمَا بِسَبٍّ أَوْ شَتْمٍ أَوْ إِيذَاءٍ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ ، فَإِنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ بِلاَ خِلاَفٍ . فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال : إِنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمَ الرَّجُل وَالِدَيْهِ ، قَالُوا . يَا رَسُول اللَّهِ : وَهَل يَشْتُمُ الرَّجُل وَالِدَيْهِ ؟ قَال : نَعَمْ ، يَسُبُّ الرَّجُل أَبَا الرَّجُل فَيَسُبُّ أَبَاهُ ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُل وَالِدَيْهِ . قِيل : يَا رَسُول اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُل وَالِدَيْهِ ؟ . قَال : يَسُبُّ أَبَا الرَّجُل فَيَسُبُّ الرَّجُل أَبَاهُ . (3)
__________
(1) - الآداب الشرعية 1 / 492 - 493 .
(2) - الفواكه الدواني 2 / 382 - 383 ، الزواجر عن اقترف الكبائر 2 / 66 .
(3) - الزواجر عن اقتراف الكبائر 2 / 66 ، والفواكه الدواني 2 / 383 ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 238 ، حديث : " إن من أكبر الكبائر أن يلعن . . . " أخرجه البخاري ( الفتح 10 / 403 ـ ط السلفية ) ومسلم ( 1 / 92 ـ ط الحلبي ) .(1/266)
وَمِنْ بِرِّهِمَا صِلَةُ أَهْل وُدِّهِمَا ، فَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ كَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوَّحُ عَلَيْهِ إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلَةِ وَعِمَامَةٌ يَشُدُّ بِهَا رَأْسَهُ فَبَيْنَا هُوَ يَوْمًا عَلَى ذَلِكَ الْحِمَارِ إِذْ مَرَّ بِهِ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ أَلَسْتَ ابْنَ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ قَالَ بَلَى. فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ وَقَالَ ارْكَبْ هَذَا وَالْعِمَامَةَ - قَالَ - اشْدُدْ بِهَا رَأْسَكَ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ أَعْطَيْتَ هَذَا الأَعْرَابِىَّ حِمَارًا كُنْتَ تَرَوَّحُ عَلَيْهِ وَعِمَامَةً كُنْتَ تَشُدُّ بِهَا رَأْسَكَ. فَقَالَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّىَ ». وَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ صَدِيقًا لِعُمَرَ. (1)
فَإِنْ غَابَ أَوْ مَاتَ يَحْفَظُ أَهْل وُدِّهِ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ ، فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الإِْحْسَانِ إِلَيْهِ .فعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ - وَكَانَ بَدْرِيًّا - قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسًا، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ وَالِدَيَّ فِي مَوْتِهِمَا شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ ؟ فَقَالَ: " نَعَمْ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، والِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا رَحِمَ لَكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِمَا، فَهَذَا الَّذِي بَقِيَ عَلَيْكَ " (2)
وَكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يُهْدِي لِصَدَائِقِ خَدِيجَةَ بِرًّا بِهَا وَوَفَاءً لَهَا، وَهِيَ زَوْجَتُهُ ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْوَالِدَيْنِ (3) .
اسْتِئْذَانُهُمَا لِلسَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِطَلَبِ الْعِلْمِ :
وَضَعَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ لِذَلِكَ قَاعِدَةً حَاصِلُهَا : أَنَّ كُل سَفَرٍ لاَ يُؤْمَنُ فِيهِ الْهَلاَكُ ، وَيَشْتَدُّ فِيهِ الْخَطَرُ ، فَلَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَالِدَيْهِ ؛ لأَِنَّهُمَا يُشْفِقَانِ عَلَى وَلَدِهِمَا ، فَيَتَضَرَّرَانِ بِذَلِكَ . وَكُل سَفَرٍ لاَ يَشْتَدُّ فِيهِ الْخَطَرُ يَحِل لَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا ، إِذَا لَمْ يُضَيِّعْهُمَا ؛ لاِنْعِدَامِ الضَّرَرِ .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6679 )
(2) - شعب الإيمان - (10 / 293)(7514 ) حسن - إنفاذ العهد : إتمامه وإمضاؤه والوفاء به
(3) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 241 ( المسألة العاشرة ) ، إحياء علوم الدين 6 / 316 ، والفواكه الدواني 2 / 383 ، وحديث : " كان يهدي لصدائق خديجة . . . " أخرجه البخاري ( الفتح 9 / 133 ـ ط السلفية ) .(1/267)
وَبِذَا لاَ يَلْزَمُهُ إِذْنُهُمَا لِلسَّفَرِ لِلتَّعَلُّمِ ، إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ ذَلِكَ فِي بَلَدِهِ ، وَكَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا ، وَلَمْ يَخَفْ عَلَيْهِمَا الضَّيَاعَ ؛ لأَِنَّهُمَا لاَ يَتَضَرَّرَانِ بِذَلِكَ ، بَل يَنْتَفِعَانِ بِهِ ، فَلاَ تَلْحَقُهُ سِمَةُ الْعُقُوقِ . أَمَّا إِذَا كَانَ السَّفَرُ لِلتِّجَارَةِ ، وَكَانَا مُسْتَغْنِيَيْنِ عَنْ خِدْمَةِ ابْنِهِمَا ، وَيُؤْمَنُ عَلَيْهِمَا الضَّيَاعُ ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ إِلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا . أَمَّا إِذَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ إِلَيْهِ وَإِلَى خِدْمَتِهِ ، فَإِنَّهُ لاَ يُسَافِرُ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا . (1)
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي السَّفَرِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ ، بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لِتَحْصِيل دَرَجَةٍ مِنَ الْعِلْمِ لاَ تَتَوَفَّرُ فِي بَلَدِهِ ، كَالتَّفَقُّهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَعْرِفَةِ الإِْجْمَاعِ وَمَوَاضِعِ الْخِلاَفِ وَمَرَاتِبِ الْقِيَاسِ ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا إِنْ كَانَ فِيهِ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ ، وَلاَ طَاعَةَ لَهُمَا فِي مَنْعِهِ ؛ لأَِنَّ تَحْصِيل دَرَجَةِ الْمُجْتَهِدِينَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ . قَال تَعَالَى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } (سورة آل عمران / 104 ) ، أَمَّا إِنْ كَانَ لِلتَّفَقُّهِ عَلَى طَرِيقِ التَّقْلِيدِ ، وَفِي بَلَدِهِ ذَلِكَ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ السَّفَرُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا . وَإِذَا أَرَادَ سَفَرًا لِلتِّجَارَةِ يَرْجُو بِهِ مَا يَحْصُل لَهُ فِي الإِْقَامَةِ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا (2) .
حُكْمُ طَاعَتِهِمَا فِي تَرْكِ النَّوَافِل أَوْ قَطْعِهَا :
قَال الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ فِي كِتَابِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ : لاَ طَاعَةَ لَهُمَا فِي تَرْكِ سُنَّةٍ رَاتِبَةٍ ، كَحُضُورِ الْجَمَاعَاتِ ، وَتَرْكِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، إِذَا سَأَلاَهُ تَرْكَ ذَلِكَ عَلَى الدَّوَامِ ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ دَعَوَاهُ لأَِوَّل وَقْتِ الصَّلاَةِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُمَا ، وَإِنْ فَاتَتْهُ فَضِيلَةُ أَوَّل الْوَقْتِ (3) .
حُكْمُ طَاعَتِهِمَا فِي تَرْكِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ :
__________
(1) - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 7 / 98 ، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 3 / 242 ، وابن عابدين 3 / 220 .
(2) - الفروق للقرافي 1 / 145 ، 146 ، والدسوقي 2 / 172ـ 176 ، وجواهر الإكليل 1 / 252 .
(3) - مطالب أولي النهى 2 / 513 ، والمغني لابن قدامة 8 / 359 ، وكشاف القناع عن متن الإقناع 3 / 45 ، والفروق للقرافي 1 / 143 ، 144 ، والشرح الصغير 4 / 739 ، والفواكه الدواني 2 / 383 ، والزواجر 2 / 67 ، 73 .(1/268)
سَبَقَ حَدِيثُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِيمَنْ أَرَادَ الْبَيْعَةَ وَأَحَدُ وَالِدَيْهِ حَيٌّ ، وَفِيهِ دَلاَلَةٌ عَلَى تَقْدِيمِ صُحْبَتِهِمَا عَلَى صُحْبَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . وَتَقْدِيمِ خِدْمَتِهِمَا - الَّتِي هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ وُجُوبًا عَيْنِيًّا - عَلَى فُرُوضِ الْكِفَايَةِ ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ طَاعَتَهُمَا وَبِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ ، وَالْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، وَفَرْضُ الْعَيْنِ أَقْوَى (1) .
حُكْمُ طَاعَتِهِمَا فِي طَلَبِهِمَا تَطْلِيقَ زَوْجَتِهِ :
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال : كَانَتْ تَحْتِي امْرَأَةٌ أُحِبُّهَا ، وَكَانَ أَبِي يَكْرَهُهَا ، فَأَمَرَنِي أَنْ أُطَلِّقَهَا ، فَأَبَيْتُ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال : يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ طَلِّقِ امْرَأَتَكَ (2) .
وَسَأَل رَجُلٌ الإِْمَامَ أَحْمَدَ فَقَال : إِنَّ أَبِي يَأْمُرُنِي أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي . قَال : لاَ تُطَلِّقْهَا . قَال : أَلَيْسَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ ؟ قَال : حَتَّى يَكُونَ أَبُوكَ مِثْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . يَعْنِي لاَ تُطَلِّقْهَا بِأَمْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ مِثْل عُمَرَ فِي تَحَرِّيهِ الْحَقَّ وَالْعَدْل ، وَعَدَمِ اتِّبَاعِ هَوَاهُ فِي مِثْل هَذَا الأَْمْرِ .
وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجِبُ ؛ لأَِمْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لاِبْنِ عُمَرَ . وَقَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَةَ فِيمَنْ تَأْمُرُهُ أُمُّهُ بِطَلاَقِ امْرَأَتِهِ . قَال : لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا . بَل عَلَيْهِ أَنْ يَبَرَّهَا . وَلَيْسَ تَطْلِيقُ امْرَأَتِهِ مِنْ بِرِّهَا . (3)
حُكْمُ طَاعَتِهِمَا فِيمَا لَوْ أَمَرَاهُ بِمَعْصِيَةٍ أَوْ بِتَرْكِ وَاجِبٍ :
قَال تَعَالَى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (8) سورة العنكبوت وَقَال : {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (15) سورة الأحقاف فَفِيهِمَا وُجُوبُ بِرِّهِمَا وَطَاعَتِهِمَا وَالإِْحْسَانِ إِلَيْهِمَا ،
__________
(1) - الفروق للقرافي 1 / 144ـ 145 ، 150 ، والزواجر 2 / 67 ، 73 .
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (1227 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
(3) - الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح المقدسي الحنبلي 1 / 503 ، والزواجر 2 / 72 .(1/269)
وَحُرْمَةُ عُقُوقِهِمَا وَمُخَالَفَتِهِمَا ، إِلاَّ فِيمَا يَأْمُرَانِهِ بِهِ مِنْ شِرْكٍ أَوِ ارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ ، فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يُطِيعُهُمَا وَلاَ يَمْتَثِل لأَِوَامِرِهِمَا ؛ لِوُجُوبِ مُخَالَفَتِهِمَا وَحُرْمَةِ طَاعَتِهِمَا فِي ذَلِكَ ، يُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةٍ الْخَالِقِ ،وَلِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَعَ أُمِّهِ فَقَدْ عَصَى أَمْرَهَا ، حِينَ طَلَبَتْ إِلَيْهِ تَرْكَ دِينِهِ ، وَبَقِيَ عَلَى مُصَاحَبَتِهَا بِالْمَعْرُوفِ بِرًّا بِهَا . وَعِصْيَانُهُ لَهَا فِيمَا أَمَرَتْهُ بِهِ وَاجِبٌ ، فَلاَ تُطَاعُ فِي أَمْرِهَا لَهُ بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ (1) .
عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَزَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ :
بِالإِْضَافَةِ إِلَى الْعُقُوقِ السَّلْبِيِّ بِتَرْكِ بِرِّهِمَا ، فَإِنَّ هُنَاكَ صُوَرًا مُخْتَلِفَةً لِلْعُقُوقِ بَعْضُهَا فِعْلِيٌّ وَبَعْضُهَا قَوْلِيٌّ .
وَمِنَ الْعُقُوقِ مَا يُبْدِيهِ الْوَلَدُ لأَِبَوَيْهِ مِنْ مَلَلٍ وَضَجَرٍ وَغَضَبٍ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ ، وَاسْتِطَالَتِهِ عَلَيْهِمَا بِدَالَّةِ الْبُنُوَّةِ وَقِلَّةِ الدِّيَانَةِ خَاصَّةً فِي حَال كِبَرِهِمَا . وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يُقَابِلَهُمَا بِالْحُسْنَى وَاللِّينِ وَالْمَوَدَّةِ ، وَالْقَوْل الْمَوْصُوفِ بِالْكَرَامَةِ ، السَّالِمِ مِنْ كُل عَيْبٍ ، فَقَال تَعَالَى : {{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} (23) سورة الإسراء، فَنُهِيَ عَنْ أَنْ يَقُول لَهُمَا مَا يَكُونُ فِيهِ أَدْنَى تَبَرُّمٍ .
وَضَابِطُ عُقُوقِهِمَا - أَوْ أَحَدِهِمَا - هُوَ أَنْ يُؤْذِيَ الْوَلَدُ أَحَدَ وَالِدَيْهِ بِمَا لَوْ فَعَلَهُ مَعَ غَيْرِهِمَا كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ جُمْلَةِ الصَّغَائِرِ ، فَيَنْتَقِل بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحَدِ الْوَالِدَيْنِ إِلَى الْكَبَائِرِ . (2)
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ » . ثَلاَثًا . قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ » . وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ « أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ » . قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ (3) .
__________
(1) - الشرح الصغير 4 / 739 ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 238 ( المسألة الرابعة ) ، و 13 / 8 من سورة العنكبوت ، و 14 / 63 - 65 ، والفروق للقرافي 1 / 145 .
(2) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 238 ، 241ـ 245 .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2654 ) وصحيح مسلم- المكنز - (269)(1/270)
وعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْكَبَائِرَ ، أَوْ سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ فَقَالَ « الشِّرْكُ بِاللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ » . فَقَالَ « أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ - قَالَ - قَوْلُ الزُّورِ - أَوْ قَالَ - شَهَادَةُ الزُّورِ » (1) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " رِضَا اللهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ " (2)
وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : كُلُّ الذُّنُوبِ يُؤَخِّرُ اللَّهُ مِنْهَا مَا شَاءَ ، إِلاَّ الْبَغْيَ وَقَطِيعَةَ الرَّحِمِ يُعَجِّلُهُ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ قَبْلَ الْمَمَاتِ." (3)
جَزَاءُ الْعُقُوقِ :
جَزَاءُ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ أُخْرَوِيًّا سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْهُ ، وَأَمَّا جَزَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّعْزِيرِ ، وَيَخْتَلِفُ قَدْرُهُ بِاخْتِلاَفِ حَالِهِ وَحَال فَاعِلِهِ .
فَإِنْ تَعَدَّى عَلَى أَبَوَيْهِ ، أَوْ أَحَدِهِمَا ، بِالشَّتْمِ أَوِ الضَّرْبِ مَثَلاً عَزَّرَاهُ ، أَوْ عَزَّرَهُ الإِْمَامُ - بِطَلَبِهِمَا - إِنْ كَانَا مَشْتُومَيْنِ أَوْ مَضْرُوبَيْنِ مَعًا ، أَوْ بِطَلَبِ مَنْ كَانَ مِنْهُمَا مُعْتَدًى عَلَيْهِ بِذَلِكَ . فَإِنْ عَفَا الْمَشْتُومُ أَوِ الْمَضْرُوبُ كَانَ وَلِيُّ الأَْمْرِ بَعْدَ عَفْوِهِ عَلَى خِيَارِهِ فِي فِعْل الأَْصْلَحِ مِنَ التَّعْزِيرِ تَقْوِيمًا ، وَالصَّفْحِ عَنْهُ عَفْوًا ، فَإِنْ تَعَافَوْا عَنِ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ قَبْل التَّرَافُعِ إِلَى الإِْمَامِ سَقَطَ التَّعْزِيرُ . وَيَكُونُ تَعْزِيرُهُ بِالْحَبْسِ عَلَى حَسَبِ الذَّنْبِ وَالْهَفْوَةِ ، أَوْ بِالضَّرْبِ أَوِ التَّأْنِيبِ بِالْكَلاَمِ الْعَنِيفِ ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا بِهِ يَنْزَجِرُ وَيَرْتَدِعُ (4) .
ــــــــــــــــ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5977 ) وصحيح مسلم- المكنز - (271)
(2) - شعب الإيمان - (10 / 246)(7446 ) حسن
(3) - مسند البزار كاملا - (2 / 48) (3693) حسن
(4) - ابن عابدين 3 / 177ـ 178 ، 181ـ 182 ، 186 ، 189 ، وكشاف القناع 6 / 121ـ 122 ، 124ـ 125 ، والأحكام السلطانية للماوردي 236ـ 238 والشرح الكبير 4 / 354ـ355 .وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (9 / 5258) -رقم الفتوى 66308 كلمة جامعة في بر الوالدين(1/271)
فضل الشهادة في سبيل الله
38-عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ وَلَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ تُحِبُّ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْكُمْ وَلَهَا نَعِيمُ الدُّنْيَا إِلاَّ الْقَتِيلَ فَإِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلُ مَرَّةً أُخْرَى." (1)
وعَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ وَلَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ تُحِبُّ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْكُمْ وَلَهَا الدُّنْيَا إِلاَّ الْقَتِيلُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى ». (2)
وعَنْ قَتَادَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ، يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا ، وَأَنَّ لَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ ، غَيْرُ الشَّهِيدِ ، فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ ، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ ، لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ." (3)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا إِلاَّ الشَّهِيدُ ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ لِيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى." (4)
وعَنْ حُمَيْدٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ ، يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا ، وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، إِلاَّ الشَّهِيدَ ، لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا ، فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى. (5)
قَوْله ( مَا عَلَى الْأَرْض مِنْ نَفْس إِلَخْ ) مِنْ زَائِدَة وَنَفْس اِسْم مَا وَالْجَار وَالْمَجْرُور أَعْنِي عَلَى الْأَرْض لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَة لِنَفْسِ فَحِين تَقَدَّمَ يَكُون حَالًا وَفَائِدَته تَعْمِيم الْحُكْم لِأَهْلِ الْأَرْض وَالِاحْتِرَاز عَنْ أَهْل السَّمَاء وَجُمْلَة تَمُوت صِفَة نَفْس وَجُمْلَة وَلَهَا خَيْر حَال مِنْ
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 118) (181و3525) وصحيح الجامع ( 5638) صحيح
(2) - سنن النسائي- المكنز - (3172 ) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 548) (22710) 23086- صحيح
(3) - المسند الجامع - (2 / 680) (1229) وصحيح مسلم- المكنز - (4976 )
(4) - صحيح ابن حبان - (10 / 518) (4661و4662) صحيح
(5) - أخرجه البُخَارِي 4/20(2795) والمسند الجامع - (2 / 679) (1228)(1/272)
ضَمِير تَمُوت وَجُمْلَة تُحِبّ خَبَر مَا وَجُمْلَة وَلَهَا الدُّنْيَا حَال مِنْ فَاعِل تَرْجِع وَالْمَعْنَى مَنْ مَاتَ وَلَهُ خَيْر عِنْد اللَّه لَا يُحِبّ الرُّجُوع إِلَى الدُّنْيَا وَلَوْ جُعِلَ لَهُ تَمَام الدُّنْيَا بَعْد الرُّجُوع فَفِيهِ أَنَّ الْآخِرَة خَيْر مِنْ الدُّنْيَا فَمَنْ لَهُ نَصِيب مِنْهَا لَا يَرْضَى بِتَرْكِهِ إِيَّاهَا بِتَمَامِ الدُّنْيَا و
قَوْله ( إِلَّا الْقَتِيل ) أَيْ أَنَّهُ يُحِبّ الرُّجُوع حِرْصًا عَلَى تَحْصِيل فَضْل الشَّهَادَة مِرَارًا لَا لِاخْتِيَارِ نَفْس الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَة . (1)
قال المهلب: إنما أورد حديث أنس هذا ليبين المعنى الذي من أجله يتمنى الشهيد أن يرجع إلى الدنيا ليقتل مرة أخرى في سبيل الله، لكونه يرى من الكرامة بالشهادة فوق ما في نفسه، إذ كل واحدة يعطاها من الحور العين لو اطلعت على الدنيا لأضاءت كلها انتهى. وروى ابن ماجه من طريق عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّهُ قَالَ : ذُكِرَ الشَّهِيدُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : لاَ تَجِفُّ الأَرْضُ مِنْ دَمِ الشَّهِيدِ حَتَّى يَبْتَدِرَهُ زَوْجَتَاهُ ، كَأَنَّهُمَا ظِئْرَانِ أَظَلَّتَا ، أَوْ أَضَلَّتَا ، فَصِيلَيْهِمَا بِبَرَاحٍ مِنَ الأَرْضِ ، بِيَدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ ، أَوْ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ ، مِنْهُمَا حُلَّةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. " (2) ولأحمد والطبراني عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَ الْحَكَمُ : سِتَّ خِصَالٍ ، أَنْ يُغْفَرَ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ ، وَيَرَى ، قَالَ الْحَكَمُ : وَيُرَى ، مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَيُحَلَّى حُلَّةَ الإِِيمَانِ ، وَيُزَوَّجَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ ، وَيُجَارَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَيَأْمَنَ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ ، قَالَ الْحَكَمُ : يَوْمَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ ، وَيُوضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، وَيُزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ ، وَيُشَفَّعَ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ." (3) إسناده حسن، وأخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب وصححه. (4)
__________
(1) - شرح سنن النسائي - (4 / 426)
(2) - سنن ابن ماجه- المكنز - (2904 ) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 179) (7955) 7942- حسن
البراح : المتسع من الأرض -الظئر : المرضعة غير ولدها ويقع على الرجل والمرأة -الفصيل : ولد الناقة إذا فصل عن أمه
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 853) (17182) 17314- وشعب الإيمان - (6 / 114)(3949 ) صحيح
(4) - فتح الباري لابن حجر - (6 / 15)(1/273)
وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " إِنَّ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سَبْعَ خِصَالٍ : يُغْفَرُ لَهُ عِنْدَ أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ ، وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ ، وَيُزَوَّجُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ ، وَيُجَارُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ ، وَيَأْمَنُ يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، وَيُزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ " (1)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَا مِنْ عَبْدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا وَيُزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً ثِنْتَانِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ ، وَسَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ مِيرَاثِهِ مِنَ أَهْلِ الدُّنْيَا ، لَيْسَ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَلَهَا قُبُلٌ شَهِيُّ وَلَهُ ذَكَرٌ لَا يَنْثَنِي " (2)
وعَنْ أَبِي يَزِيدَ الْخَوْلانِيِّ ، أَنَّهُ سَمِعَ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : الشُّهَدَاءُ ثَلاثَةٌ : رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الإِِيمَانِ لَقِيَ الْعَدُوَّ ، فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ ، فَذَلِكَ الَّذِي يَرْفَعُ إِلَيْهِ النَّاسُ أَعْنَاقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ حَتَّى وَقَعَتْ قَلَنْسُوَتُهُ ، أَوْ قَلَنْسُوَةُ عُمَرَ ، وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الإِِيمَانِ لَقِيَ الْعَدُوَّ ، فَكَأَنَّمَا يُضْرَبُ جِلْدُهُ بِشَوْكِ الطَّلْحِ ، أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ ، هُوَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ ، وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الإِِيمَانِ خَلَطَ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ، لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ ، فَذَلِكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ." (3)
طلحا : الطلح : نوع من أشجار الشوك.
سهم غرب : أصابه سهم غرب بالإضافة، وبغير الإضافة ،وبفتح الراء وسكونها : إذا لم يدر من أين جاء أسرف الرجل على نفسه : إذا أكثر من اعتقاب الأوزار والآثام. (4)
__________
(1) - الْجِهَادُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ (165 ) صحيح - الخصال : جمع خصلة وهي خلق في الإنسان يكون فضيلة أو رزيلة
(2) - صِفَةُ الْجَنَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبهَانِيِّ (394 ) حسن
(3) -المسند الجامع - (14 / 21) (10609) و أخرجه أحمد 1/22(146) قال : حدَّثنا أبو سَعِيد . وفي 1/23(150) قال : حدَّثنا يَحيى بن إِسْحَاق . و"عَبد بن حُميد"27 قال : أَخْبَرنا سُلَيْمان بن داود ، عن عَبْد اللهِ بن المُبَارك . و"التِّرمِذي"1644 أربعتهم (أبو سَعِيد ، ويَحيى بن إِسْحَاق ، وعَبْد اللهِ بن المُبَارك ، وقُتَيْبَة) عن عَبْد اللهِ بن لَهِيعَة بن عُقْبَة الحَضْرَمِي ، عن عَطَاء بن دِينَار ، عن أَبي يَزِيد الخَوْلاَنِي ، قال : سَمِعْتُ فَضَالة بن عُبَيْد ، فذكره. وهو حديث حسن
(4) - جامع الأصول في أحاديث الرسول - (9 / 506)(1/274)
وعن قَيْسٍ الْجُذَامِيِّ ,أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ : يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ كُلَّ خَطِيئَةٍ , وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ , وَيُحَلَّى بِحِلْيَةِ الْإِيمَانِ , وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ , وَيُؤَمَّنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ , وَيُزَوَّجُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ." (1)
وعَنْ قَيْسٍ الْجُذَامِيِّ، ؛ رَجُلٌ كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خِصَالٍ : يَغْفِرُ لَهُ عِنْدَ أَوَّلِ دَفْقَةٍ مِنْ دَمِهِ كُلَّ خَطِيئَةٍ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُؤَمَّنُ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُزَوَّجُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ "
وعَنْ قَيْسٍ الْجُذَامِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: " لِلْقَتِيلِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خِصَالٍ : يَغْفِرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْقَةٍ مِنْ دَمِهِ كُلَّ خَطِيئَةٍ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيُحَلَّى عَلَيْهِ حُلَّةَ الْإِيمَانِ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُؤَمَّنُ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُزَوَّجُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ " (2)
الحور : جمع حوراء ، وهي الشديدة بياض العين في شدة سوادها.-والعين : جمع عيناء ، وهي الواسعة العين.
وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ يُغْفَرُ لَهُ فِى أَوَّلِ دَفْعَةٍ وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَيُشَفَّعُ فِى سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ » (3) .
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ : لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خِصَالٍ يُغْفَرُ لَهُ بِأَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ ، وَيُحَلُّ عَلَيْهِ حُلَّةُ الْكَرَامَةِ أَوْ قَالَ : حُلَّةُ الإِيمَانِ ، وَيُؤَمَّنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَيُزَوَّجُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَأَظُنُّهُ وَيُهَوَّنُ عَلَيْهِ الْمَوْتُ. (4)
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 129) (204) صحيح
(2) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (4 / 2326) (5722 -5723) صحيح
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (1764 ) وسنن ابن ماجه- المكنز - (2905 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
(4) - مسند البزار كاملا - (1 / 416) (2696) و كشف الأستار - (2 / 281) (1709) صحيح(1/275)
الخصال : جمع خصلة وهي خلق في الإنسان يكون فضيلة أو رزيلة
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ، قَالَ : لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ : يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ , وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ , وَيُحَلَّى بِحُلْيَةِ الْإِيمَانِ , وَيُزَوَّجُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ , وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ , وَيَأْمَنُ الْفَزَعَ الأَكْبَرَ , وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ , وَالْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا , وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ , وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. (1)
وعَنْ مَكْحُولٍ ، قَالَ : لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خِصَالٍ : يَغْفِرُ اللَّهُ ذَنْبَهُ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ تُصِيبُ الأَرْضَ مِنْ دَمِهِ , وَيُحَلَّى حُلَّةَ الإِيمَانِ , وَيُزَوَّجُ الْحُورَ الْعِينِ , وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنَ الْجَنَّةِ , وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ , وَيُؤَمَّنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ أوْ فَزِعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (2)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (2 / 189) (1163) صحيح
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (5 / 330) (19815) صحيح مرسل(1/276)
الهداية للعمل الصالح قبل الموت
39- عن عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَّلَهُ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ وَمَا عَسَّلَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : يَهْدِيهِ لِعَمَلٍ صَالِحٍ يَعْمَلُهُ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَى ذَلِكَ." (1)
وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ : سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْحَمِقِ الْخُزَاعِيَّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ قِيلَ : وَمَا عَسَلُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ ؟ قَالَ : يُفْتَحُ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ." (2)
وعَنْ عَمْرِو بن الْحَمِقِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ:"إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَّلَهُ"، قَالَ:"وَهَلْ تَدْرِي مَا عَسَّلَهُ؟"، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:"يَفْتَحُ لَهُ عَمَلا صَالِحًا بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ، حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ حَبِيبُهُ وَمَنْ حَوْلَهُ" (3)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَّلَهُ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَمَا عَسَّلَهُ؟ قَالَ:"يُفْتَحُ لَهُ عَمَلا صَالِحًا، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ". (4)
وعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَّلَهُ " . قُلْتُ : وَكَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يُعَسِّلُهُ ؟ قَالَ : " يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ ، فَيَقْبِضُهُ عَلَيْهِ " (5)
وقال الطحاوي :
" بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قَوْلِهِ: " إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ بِامْرِئٍ خَيْرًا عَسَلَهُ "
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 119) (183) والمسند الجامع - (14 / 223) (10737) والمعجم الأوسط للطبراني - (3426 ) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 54) (342و343 ) صحيح
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (20 / 223) (1694) صحيح
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (7 / 117) (7398 ) صحيح لغيره
(5) - المعجم الأوسط للطبراني - (4812 ) صحيح(1/277)
عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا عَسَلَهُ " قَالُوا: وَكَيْفَ يَعْسِلُهُ ؟ قَالَ: " يَهْدِيهِ إِلَى عَمَلٍ صَالِحٍ حَتَّى يَقْبِضَهُ عَلَيْهِ "
وعَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ وَهَلْ تَدْرُونَ مَا عَسَلُهُ ؟ " قَالُوا: اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: " يَفْتَحُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ جِيرَانُهُ أَوْ مَنْ حَوْلَهُ "
قَالَ فَطَلَبْنَا مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا هُوَ فَوَجَدْنَا الْعَرَبَ تَقُولُ هَذَا رُمْحٌ فِيهِ عَسَلٌ يُرِيدُونَ فِيهِ اضْطِرَابٌ فَشَبَّهُ سُرْعَتَهُ الَّتِي هِيَ اضْطِرَابُهُ بِاضْطِرَابِ مَا سِوَاهُ مِنَ الرُّمْحِ وَمِنْ غَيْرِهِ فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِمَيْلِهِ إِيَّاهُ إِلَى مَا يُحِبُّ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِدْخَالِهِ إِيَّاهُ جَنَّتَهُ وَاللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ" (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (7 / 52)(2640و2641)(1/278)
ثواب الغازي في سبيل الله
40- عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : مَنِ انْتَدَبَ خَارِجًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ غَازِيًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ , وَتَصْدِيقَ وَعْدِهِ , وَإِيمَانًا بِرُسُلِهِ , فَإِنَّهُ عَلَى اللَّهِ ضَامِنٌ , إِمَّا أَنْ يَتَوَفَّاهُ فِي الْجَيْشِ بِأَيِّ حَتْفٍ شَاءَ فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ , وَإِمَّا أَنْ يَسِيحَ فِي ضَمَانِ اللَّهِ وَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ فَرَدَّهُ إِلَى أَهْلِهِ سَالِمًا مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ وَإِنْ وَقَصَهُ فَرَسُهُ أَوْ بَعِيرُهُ أَوْ لَدَغَتْهُ هَامَّةٌ أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ بِأَيِّ حَتْفٍ شَاءَ." (1)
الابتغاء : الاجتهاد في الطلب والمراد طلب ثواب الله وفضله - ضامن على الله : في ضمان الله وحمايته والمعنى أنه ينجيه من أهوال القيامة ويدخله الجنة
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِى سَبِيلِهِ ، لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ ، بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِى خَرَجَ مِنْهُ { مَعَ مَا نَالَ } مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ » (2) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِى سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ جِهَادًا فِى سَبِيلِى وَإِيمَانًا بِى وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِى فَهُوَ عَلَىَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِى خَرَجَ مِنْهُ نَائِلاً مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ. وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ وَرِيحُهُ مِسْكٌ وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلاَفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا وَلَكِنْ لاَ أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ وَلاَ يَجِدُونَ سَعَةً وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّى وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّى أَغْزُو فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ » (3) ..
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 121) (188و3539) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3123 و7457) وصحيح مسلم- المكنز - (4969)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (4967 )(1/279)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ ، لاَ يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلاَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ ، أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرِ أَوْ غَنِيمَةٍ." (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ جِهَادٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، أَوْ يَرُدَّهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِى خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ ». (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ: لا يَخْرُجُ إِلا جِهَادًا، وَإِيمَانًا بِي، وَتَصْدِيقًا بِرَسُولِي، فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ أُرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ." (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ" (4)
قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( تَضَمَّنَ اللَّه لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيله لَا يُخْرِجهُ إِلَّا جِهَادًا - إِلَى قَوْله : - أَنْ أُدْخِلهُ الْجَنَّة ) وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى : ( تَكَفَّلَ اللَّه ) وَمَعْنَاهُمَا : أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى لَهُ الْجَنَّة بِفَضْلِهِ وَكَرَمه سُبْحَانه وَتَعَالَى ، وَهَذَا الضَّمَان وَالْكَفَالَة مُوَافِق لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّه اِشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسهمْ وَأَمْوَالهمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّة ... } الْآيَة .
قَوْله : ( لَا يُخْرِجهُ إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِي ) مَعْنَاهُ : لَا يَخْرِجُه إِلَا مَحْضُ الْإِيمَان وَالْإِخْلَاص لِلَّهِ تَعَالَى .
قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى : ( وَتَصْدِيق كَلِمَته ) أَيْ : كَلِمَة الشَّهَادَتَيْنِ ، وَقِيلَ : تَصْدِيق كَلَام اللَّه فِي الْإِخْبَار بِمَا لِلْمُجَاهِدِ مِنْ عَظِيم ثَوَابه .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (10 / 470) (4610) صحيح
(2) - سنن الدارمى- المكنز - (2446) وسنن النسائي- المكنز - (3135 ) صحيح
(3) - مسند أبي عوانة (5881 ) صحيح
(4) - مسند أبي عوانة (5884) صحيح(1/280)
قَوْله تَعَالَى : ( فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِن ) ذَكَرُوا فِي ( ضَامِن ) هُنَا وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ بِمَعْنَى : مَضْمُون كَمَاءٍ دَافِق وَمَدْفُوق ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ بِمَعْنَى : ذُو ضَمَان .
قَوْله تَعَالَى : ( أَنْ أُدْخِلهُ الْجَنَّة ) قَالَ الْقَاضِي : يَحْتَمِل أَنْ يَدْخُل عِنْد مَوْته كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الشُّهَدَاء : { أَحْيَاء عِنْد رَبّهمْ يُرْزَقُونَ } وَفِي الْحَدِيث : " أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي الْجَنَّة " قَالَ : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد دُخُوله الْجَنَّة عِنْد دُخُول السَّابِقِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ بِلَا حِسَاب وَلَا عَذَاب وَلَا مُؤَاخَذَة بِذَنْبٍ ، وَتَكُون الشَّهَادَة مُكَفِّرَة لِذُنُوبِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح .
قَوْله : ( أَوْ أَرْجِعهُ إِلَى مَسْكَنه نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْر أَوْ غَنِيمَة ) قَالُوا : مَعْنَاهُ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَجْر بِلَا غَنِيمَة إِنْ لَمْ يَغْنَم أَوْ مِنْ الْأَجْر وَالْغَنِيمَة مَعًا إِنْ غَنِمُوا وَقِيلَ : إِنَّ ( أَوْ ) هُنَا بِمَعْنَى الْوَاو ، أَيْ : مِنْ أَجْر وَغَنِيمَة ، وَكَذَا وَقَعَ بِالْوَاوِ فِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ ، وَكَذَا وَقَعَ فِي مُسْلِم فِي رِوَايَة يَحْيَى بْن يَحْيَى الَّتِي بَعْد هَذِهِ بِالْوَاوِ .
وَمَعْنَى الْحَدِيث : أَنَّ اللَّه تَعَالَى ضَمِنَ أَنَّ الْخَارِج لِلْجِهَادِ يَنَال خَيْرًا بِكُلِّ حَال ، فَإِمَّا أَنْ يُسْتَشْهَد فَيَدْخُل الْجَنَّة ، وَإِمَّا أَنْ يَرْجِع بِأَجْرٍ ، وَإِمَّا أَنْ يَرْجِع بِأَجْرٍ وَغَنِيمَة .
قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( وَالَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ ، مَا مِنْ كَلْم يُكْلَم فِي سَبِيل اللَّه إِلَّا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة كَهَيْئَتِهِ حِين كُلِمَ ، لَوْنه لَوْن دَم وَرِيحه مِسْك ) أَمَّا ( الْكَلْم ) بِفَتْحِ الْكَاف وَإِسْكَان اللَّام ، فَهُوَ : الْجُرْح ، وَيُكْلَم بِإِسْكَانِ الْكَاف ، أَيْ : يُجْرَح ، وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الشَّهِيد لَا يَزُول عَنْهُ الدَّم بِغُسْلٍ وَلَا غَيْره ، وَالْحِكْمَة فِي مَجِيئِهِ يَوْم الْقِيَامَة عَلَى هَيْئَته أَنْ يَكُون مَعَهُ شَاهِد فَضِيلَته ، وَبَذْله نَفْسه فِي طَاعَة اللَّه تَعَالَى ، وَفِيهِ : دَلِيل عَلَى جَوَاز الْيَمِين وَانْعِقَادهَا بِقَوْلِهِ : ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ) وَنَحْو هَذِهِ الصِّيغَة ، مِنْ الْحَلِف بِمَا يَدُلّ عَلَى الذَّات ، وَلَا خِلَاف فِي هَذَا ، قَالَ أَصْحَابنَا : الْيَمِين تَكُون بِأَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى وَصِفَاته ، أَوْ مَا دَلَّ عَلَى ذَاته ، قَالَ الْقَاضِي : وَالْيَد هُنَا بِمَعْنَى الْقُدْرَة وَالْمُلْك .
قَوْله : ( وَالَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ يُشَقّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْت خِلَاف سَرِيَّة تَغْزُو فِي سَبِيل اللَّه ) أَيْ : خَلْفهَا وَبَعْدهَا . وَفِيهِ : مَا كَانَ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الشَّفَقَة عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالرَّأْفَة بِهِمْ ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتْرُك بَعْض مَا يَخْتَارهُ لِلرِّفْقِ بِالْمُسْلِمِينَ ، وَأَنَّهُ إِذَا(1/281)
تَعَارَضَتْ الْمَصَالِح بَدَأَ بِأَهَمِّهَا . وَفِيهِ : مُرَاعَاة الرِّفْق بِالْمُسْلِمِينَ ، وَالسَّعْي فِي زَوَال الْمَكْرُوه وَالْمَشَقَّة عَنْهُمْ .
قَوْله : ( لَوَدِدْت أَنْ أَغْزُو فِي سَبِيل اللَّه فَأُقْتَل ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَل ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَل ) فِيهِ : فَضِيلَة الْغَزْو وَالشَّهَادَة ، وَفِيهِ : تَمَنِّي الشَّهَادَة وَالْخَيْر ، وَتَمَنِّي مَا لَا يُمْكِن فِي الْعَادَة مِنْ الْخَيْرَات ، وَفِيهِ : أَنَّ الْجِهَاد فَرْض كِفَايَة لَا فَرْض عَيْن . (1)
قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( وَاللَّهُ أَعْلَم بِمَنْ يُكْلَم فِي سَبِيله ) هَذَا تَنْبِيه عَلَى الْإِخْلَاص فِي الْغَزْو ، وَأَنَّ الثَّوَاب الْمَذْكُور فِيهِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَخْلَص فِيهِ ، وَقَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا ، قَالُوا : وَهَذَا الْفَضْل ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِره أَنَّهُ فِي قِتَال الْكُفَّار ، فَيَدْخُل فِيهِ مَنْ خَرَجَ فِي سَبِيل اللَّه فِي قِتَال الْبُغَاة ، وَقُطَّاع الطَّرِيق ، وَفِي إِقَامَة الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر وَنَحْو ذَلِكَ . وَاللَّهُ أَعْلَم . (2)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (6 / 353)
(2) - شرح النووي على مسلم - (6 / 354)(1/282)
فضل الجهاد في سبيل الله
41- عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ , وَمَنْ سَأَلَ الْقَتْلَ صَادِقًا مِنْ نَفْسِهِ ثُمَّ مَاتَ أَوْ قُتِلَ كَانَ لَهُ أَجْرُ شَهِيَدٍ وَمَنْ جُرِحَ جُرْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً فَإِنَّهَا تَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ , لَوْنُهَا كَالزَّعْفَرَانِ وَرِيحُهَا كَالْمِسْكِ." (1)
فواق ناقة : قَدْرُ ما بين الحلبتين من الوقت -وجب : ثبت وحُقَّ ولزم
وعَنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ، عَن ِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ"وَفُوَاقُ نَاقَةٍ: قَدْرُ مَا تَدِرُّ لَبَنَهَا لِمَنْ حَلَبَهَا .
وعَنْ سُلَيْمَانَ بن مُوسَى، حَدَّثَنَا مَالِكُ بن يُخَامِرَ السَّكْسَكِيُّ، أن مُعَاذَ بن جَبَلٍ حَدَّثَهُمْ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:"مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فُوَاقَ نَاقَةٍ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْقَتْلَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ صَادِقًا، ثُمَّ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَلَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ، وَإِنْ جُرِحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً، فَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْنُهَا كَالزَّعْفَرَانِ، وَرِيحُهَا كَالْمِسْكِ، وَمَنْ جُرِحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَعَلَيْهِ طَابَعُ الشُّهَدَاءِ".
وعَنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْقَتْلَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ صَادِقًا، ثُمَّ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَلَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ، وَمَنْ جُرِحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً، فَإِنَّهَا تَجِئُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْنُهَا كَالزَّعْفَرَانِ، وَرِيحُهَا كَالْمِسْكِ، وَمَنْ جُرِحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَعَلَيْهِ طَابَعُ الشُّهَدَاءِ"
وعَنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ سَأَلَ الْقَتْلَ مِنْ نَفْسِهِ صَادِقًا، ثُمَّ مَاتَ أَوْ قُتِلَ كَانَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ، وَمَنْ جُرِحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً، فَإِنَّهَا تَجِئُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ، لَوْنُهَا كَالزَّعْفَرَانِ وَرِيحُهَا كَالْمِسْكِ".
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 122) (189و3537 ) والسنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (9 / 0)( 19030) وصحيح ابن حبان - (10 / 479) (4618) صحيح(1/283)
وعَنْ مَالِكِ بن يُخَامِرَ، أن مُعَاذَ بن جَبَلٍ حَدَّثَهُمْ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:"مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ جُرِحَ جُرْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً، فَإِنَّهَا تَجِئُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَغْزَرِ مَا كَانَتْ، لَوْنُهَا كَالزَّعْفَرَانِ وَرِيحُهَا كَالْمِسْكِ، وَمَنْ خَرَجَ بِهِ جِرَاحٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ طُبِعَ عَلَيْهِ بِطَابَعِ الشُّهَدَاءِ". (1)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: " مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَوَاقَ نَاقَة وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ سَأَلَ الْقَتْلَ مِنْ قَلْبِهِ صَادِقًا ثُمَّ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، فَلَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ . وَمَنْ جُرِحَ جُرْحًا، أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً فِي سَبِيلِ اللهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ لَوْنُهَا زَعْفَرَانٌ، وَرِيحُهَا كَالْمِسْكِ، وَمَنْ جُرِحَ جُرْحًا فِي سَبِيلِ اللهِ كَانَ عَلَيْهِ طَابَعُ الشُّهَدَاءِ " .
قَالَ الْحَلِيمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: " وَالْمَعْنَى فِي الشُّهَدَاءِ أَنَّهُمْ سَوَاءٌ بِمَا بَذَلُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ إِيمَانَهُمْ، وَصِدْقَهُمْ، وَإِخْلَاصَهُمْ، وَاسْتِوَاءِ ظَوَاهِرِهِمْ وَبوَاطِنِهِمْ فِي طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَصْلُ الشَّهَادَةِ التَّبْيِينُ . قَالَ اللهُ تَعَالَى: { شَهِدَ اللهُ } [آل عمران: 18] أَيْ بَيَّنَ اللهُ لِعِبَادِهِ أَنَّهُ إِلَهُهُمْ وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ بِمَا أَلْزَمَ خَلْقَهُ مِنْ دَلَائِلِ الْحَدَثِ، وَوَضَعَ فِي عُقُولِهِمْ مِنْ إِدْرَاكِهَا وَالِاسْتِبْصَارِ بِهَا وَقِيلَ لِشَهَادَةِ الشُّهُودِ بَيْنَهُ كَذَلِكَ، وَقِيلَ مَعْنَى الشَّهِيدِ أَنَّهُ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَنْزِلَةِ الرُّسُلِ، فَيَشْهَدُ عَلَى غَيْرِهِ بِمِثْلِ مَا يَشْهَدُ الرَّسُولُ . قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } [الزمر: 69] . فَالشَّهِيدُ مِنْ يَكُونُ لَهُ شَهَادَةٌ " . وَقَالَ غَيْرُ الْحَلِيمِيِّ: " الشَّهِيدُ الْمَقبُولُ لَهُ مُعَانٍ مِنْهَا: أَنَّهُ مَشْهُودٌ عَلَيْهِ بِالْجَنَّةِ وَيَلْقَى الرَّوْحَ وَالرَّيْحَانَ . وَمِنْهَا أَنَّهُ مَشْهُودٌ: تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ . وَمِنْهَا أَنَّ الشَّهِيدَ بِمَعْنَى الشَّاهِدِ أَيْ أَنَّهُ يَشْهَدُ مَشَاهِدَ الْجَنَّةِ بِرَحْمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " (2)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (15 / 15) (16629 -16633 ) صحيح
(2) - شعب الإيمان - (6 / 111)(3945 -3946) صحيح(1/284)
إلى متى تقبل التوبة ؟
42- عَنْ أُسَامَةَ بْنِ سَلْمَانَ ، أَنَّ أَبَا ذَرٍّ ، حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَقَعِ الْحِجَابُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا وقُوعُ الْحِجَابِ ؟ قَالَ : أَنْ تَمُوتَ النَّفْسُ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ." (1)
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ سَلْمَانَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِعَبْدِهِ مَا لَمْ يَقَعِ الْحِجَابُ قِيلَ : وَمَا يَقَعُ الْحِجَابُ ؟ قَالَ : أَنْ تَمُوتَ النَّفْسُ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ." (2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ. (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. " (4)
قَالَ الْعُلَمَاء : هَذَا حَدٌّ لِقَبُولِ التَّوْبَة ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح : إِنَّ لِلتَّوْبَةِ بَابًا مَفْتُوحًا ، فَلَا تَزَال مَقْبُولَة حَتَّى يُغْلَق ، فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا أُغْلِقَ ، وَامْتَنَعَتْ التَّوْبَة عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ تَابَ قَبْل ذَلِكَ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { يَوْم يَأْتِي بَعْض آيَات رَبّك لَا يَنْفَع نَفْسًا إِيمَانهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْل أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانهَا خَيْرًا } وَمَعْنَى ( تَابَ اللَّه عَلَيْهِ ) : قَبِلَ تَوْبَته ، وَرَضِيَ بِهَا . وَلِلتَّوْبَةِ شَرْط آخَر وَهُوَ : أَنْ يَتُوب قَبْل الْغَرْغَرَة ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح ، وَأَمَّا فِي حَالَة الْغَرْغَرَة وَهِيَ حَالَة النَّزْع ، فَلَا تُقْبَل تَوْبَته وَلَا غَيْرهَا ، وَلَا تُنَفَّذ وَصِيَّته وَلَا غَيْرهَا . (5)
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 124) (195) وكشف الأستار - (4 / 78) (3241) والأحاديث المرفوعة من التاريخ الكبير للبخاري - (357) والمسند الجامع - (16 / 289) (12335) ومسند البزار كاملا - (2 / 106) (4055) حسن
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 393) (626و627) حسن
(3) - صحيح ابن حبان - (2 / 395) (628) صحيح
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (7036) وصحيح ابن حبان - (2 / 396) (629)
(5) - شرح النووي على مسلم - (9 / 67)(1/285)
وَقْتُ التَّوْبَةِ
إِذَا أَخَّرَ الْمُذْنِبُ التَّوْبَةَ إِلَى آخِرِ حَيَاتِهِ ، فَإِنْ ظَل آمِلاً فِي الْحَيَاةِ غَيْرَ يَائِسٍ بِحَيْثُ لاَ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْمَوْتَ يُدْرِكُهُ لاَ مَحَالَةَ فَتَوْبَتُهُ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمَوْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (25) سورة الشورى، وَلِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللَّهَ يَقْبَل تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ (1) .
وَإِنْ قَطَعَ الأَْمَل مِنَ الْحَيَاةِ وَكَانَ فِي حَالَةِ الْيَأْسِ ( مُشَاهَدَةُ دَلاَئِل الْمَوْتِ ) فَاخْتَلَفُوا فِيهِ :
قَال الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ : وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ، وَرَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَنُسِبَ إِلَى مَذْهَبِ الأَْشَاعِرَةِ : إِنَّهُ لاَ تُقْبَل تَوْبَةُ الْيَائِسِ الَّذِي يُشَاهِدُ دَلاَئِل الْمَوْتِ ، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى : {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (18) سورة النساء .
قَالُوا : إِنَّ الآْيَةَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ الذُّنُوبَ وَيُؤَخِّرُونَ التَّوْبَةَ إِلَى وَقْتِ الْغَرْغَرَةِ ، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى بَعْدَهُ : { وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } لأَِنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَ مَنْ أَخَّرَ التَّوْبَةَ إِلَى حُضُورِ الْمَوْتِ مِنَ الْفَسَقَةِ وَبَيْنَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ كَافِرٌ ، فَلاَ تُقْبَل تَوْبَةُ الْيَائِسِ كَمَا لاَ يُقْبَل إِيمَانُهُ . وَلِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللَّهَ يَقْبَل التَّوْبَةَ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطْ لِصِحَّةِ التَّوْبَةِ صُدُورُهَا قَبْل الْغَرْغَرَةِ ، وَهِيَ حَالَةُ الْيَأْسِ وَبُلُوغُ الرُّوحِ الْحُلْقُومَ (2) .
وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إِلَى مَذْهَبِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِيَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ وَلَوْ فِي حَالَةِ الْغَرْغَرَةِ ، بِخِلاَفِ إِيمَانِ الْيَائِسِ فَإِنَّهُ لاَ يُقْبَل ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ عَارِفٍ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَيَبْدَأُ إِيمَانًا وَعِرْفَانًا ، وَالْفَاسِقُ
__________
(1) - سنن الترمذى(3880) صحيح لغيره
(2) - ابن عابدين 1 / 571 ، 3 / 289 ، والفواكه الدواني 1 / 90 ، وتفسير الماوردي 1 / 372 ، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 127 .(1/286)
عَارِفٌ وَحَالُهُ حَال الْبَقَاءِ ، وَالْبَقَاءُ أَسْهَل مِنَ الاِبْتِدَاءِ (1) وَلإِِطْلاَقِ قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (25) سورة الشورى
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ قَبُول تَوْبَةِ الْكَافِرِ بِإِسْلاَمِهِ فِي حَالَةِ الْيَأْسِ (2) بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ حَال فِرْعَوْنَ : { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (90) سورة يونس .
ــــــــــــــــ
__________
(1) - المراجع السابقة .
(2) - تفسير الطبري 8 / 96 ، 97 ، وانظر أيضا تفسير الماوردي 1 / 372 ، 373 .(1/287)
من طبيعة البشر الوقوع في المعاصي
43- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَجُلًا ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا كُنَّا عِنْدَكَ تَطِيبُ أَنْفُسُنَا وَتَطْمَئِنُّ , فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ غَشِينَا الأَهْلِينَ حَتَّى تَظُنَّ أَنَّا قَدْ هَلَكْنَا فَقَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّكُمْ لاَ تُذْنِبُونَ لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَغْفِرَ لَهُمْ." (1)
وعن أبي الْمُدِلَّةِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، كُنَّا إِذَا كُنَّا عِنْدَكَ رَقَّتْ قُلُوبُنَا، وَكُنَّا مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّا إِذَا فَارَقْنَاكَ أَعْجَبَتْنَا الدُّنْيَا وَشَمَمْنَا النِّسَاءَ وَالْأَوْلَادَ ؟، فَقَالَ: " لَوْ تَكُونُونَ - أَوْ لَوْ أَنَّكُمْ - تَكُونُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ عِنْدِي لَصَافَحْتُمُ الْمَلَائِكَةَ بَأَكُفِّكُمْ، وَلَزَارَتْكُمْ فِي بُيوتِكُمْ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ "، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، حَدِّثْنَا عَنِ الْجَنَّةِ، مَا بِنَاؤُهَا ؟، قَالَ: " لَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَلَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، مِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ، مَنْ يَدْخُلْهَا يَنْعَمُ، وَلَا يَبْؤُسُ، وَيَخْلُدُ وَلَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ " (2)
اللَّبِنَة : واحدة اللَّبِن وهي التي يُبْنَى بها الجِدَار - الملاط : الطين الذي يكون بين اللبنتين ، أو التراب الذي يخالطه الماء- أذفر : جيد إلى الغاية رائحته شديدة
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ." (3)
وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ. (4)
وعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَوْلَا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ " (5)
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 127) (199و1207و3538 ) حسن
(2) - شعب الإيمان - (9 / 311) (6699 ) ومسند إسحاق بن راهويه - (1 / 267)(254) حسن
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (10 / 316) (12623) صحيح
(4) - مصنف ابن أبي شيبة - (13 / 180) (35342) صحيح
(5) - الدُّعَاءُ لِلطَّبَرَانِيِّ (1691) صحيح(1/288)
دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَذْنَبَ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ ، وَتَابَ ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ، وَتَضَرَّعَ وَاسْتَكَانَ ، وَعَلِقَ لَهُ ، فَاللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ هَذَا مِنَ الْعَبْدِ ، وَخَبَايَتُهُ لَا تَقْدَحُ فِي مَحَبَّتِهِ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْخِبَايَةَ مِنَ الْعَبْدِ ، وَالْمَحَبَّةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ ، وَلَا تَقْدَحُ أَوْصَافُ الْمُحْدِثِ الضَّعِيفِ الْحَقِيرِ فِي أَوْصَافِ الْقَدِيمِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ (1)
َقَالَ بَعْضُ الْكُبَرَاءِ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَفِيهِ شُمُوخٌ وَعُلُوٌّ وَتَرَفُّعٌ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ أَبَدًا ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ لِنَفْسِهِ ، وَخَلَقَ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ لَهُ فَأَحَبَّ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَظَرَهُ إِلَى رَبِّهِ ، وَإِعْرَاضَهُ عَمَّا سِوَاهُ لِذَلِكَ سَخَّرَ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ لِيَرْجِعَ عَنْ مَصَالِحِ نَفْسِهِ ، وَالشُّغْلِ بِهَا إِلَى رَبِّهِ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ ، وَالْخَدْمَةِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ بِمَصَالِحِهِ قَوْمًا هُمْ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْهُ ، وَأَهْدَى لِمَصَالِحِهِ ، وَأَعْلَمُ لِمَرَافِقِهِ مِنَ الْعَبْدِ ، وَجَعَلَ لَهُ حَظَّهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مُعَقِّبَاتٍ فَكَفَاهُ رَبُّهُ كُلَّ مُؤْنَةٍ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَاوِيَّةٍ ، بَعَثَ رُسُلًا ، وَأَنْزَلَ كُتُبًا ، وَأَقَامَ شَرِيعَةً ، وَنَصَبَ لَهُ دُعَاةً ، وَجَعَلَ لَهُ شُفَعَاءَ مِنْ حَمَلَةِ عَرْشِهِ ، وَكِرَامِ مَلَائِكَتِهِ ، لِيَتَفَرَّغَ الْعَبْدُ لِرَبِّهِ تَعَالَى إِقْبَالًا عَلَيْهِ ، وَنَظَرًا إِلَيْهِ ، وَعَلِمَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ مَعَ هَذَا كُلِّهِ يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ ، وَيُقْبِلُ عَلَيْهَا إِعْجَابًا بِهَا ، وَعُكُوفًا عَلَيْهَا فَكَتَبَ عَلَيْهِ مَا يَصْرِفُهُ إِلَيْهِ ، وَقَدَّرَ لَهُ مَا يَشْغَلُهُ بِهِ ، إِذَا شُغِلَ عَنْهُ وَصُرِفَ مِنْهُ مِنْ شَرٍّ يَعْمَلُهُ ، وَسُوءٍ يَأْتِيهِ ، وَمَعْصِيَةٍ يَرْتَكِبُهَا ، وَكَبِيرَهٍ يُوَاقِعُهَا ، وَصَغِيرَةٍ لَا يَمْتَنِعُ مِنْهَا . يُنَبِّهُهُ لِنَظَرِهِ إِلَيْهِ ، وَيَبْعَثُهُ عَلَى إِقْبَالِهِ عَلَيْهِ : فَقَالَ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ، وَقَالَ تَعَالَى تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ يَجِدُهَا بِأَرْضٍ فَلَاةٍ " ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ " ، وَقَالَ : " السِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ " . أَخْبَرَ أَنَّ الشَّرَّ الَّذِي يَعْمَلُهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ ، وَفِي حَالَيْنِ سِرًّا وَجَهْرًا ، فَالسِّرُّ أَفْعَالُ الْقُلُوبِ وَالْعَلَانِيَةُ أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ ، كَأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : إِذَا عَمِلْتَ شَرًّا بِسِرِّكَ فَأَحْدِثْ تَوْبَةً بِسِرِّكَ ، وَإِذَا عَمِلْتَ شَرًّا بِجَوَارِحِكَ
__________
(1) - بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ(134 )(1/289)
فَأَحْدِثْ تَوْبَةً بِجَوَارِحِكَ ، فَأَفْعَالُ السِّرِّ مِنَ الذُّنُوبِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ طَمَعٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ ، وَمَخَافَةٌ مِنْهُ وَرَجَاءٌ إِلَيْهِ وَمُعَادَاةُ أَوْلِيَائِهِ ، وَمُوَالَاةُ أَعْدَائِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ . وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِ اللَّهِ حَسَدٌ لِمُؤْمِنٍ ، وَتُهْمَةٌ لِبَرِيءٍ ، وَبَغْيٌ عَلَى مُسْلِمٍ ، وَحِقْدٌ يُضْمِرُهُ ، وَسُوءٌ يُرِيدُهُ بِهِ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْدِثَ تَوْبَةً مِنْهَا بِسِرِّهِ بِاكْتِسَابِ مَا يُزِيلُهَا وَيُثَبِّتُ أَضْدَادَهَا ؛ لِأَنَّ سَائِرَ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَحَجٍّ وَغَزْوٍ وَأَمْثَالِهَا لَا يُجْدِي عَلَيْهِ كَثِيرُ نَفْعٍ مِنْهَا مَعَ فَسَادِ السِّرِّ وَنَجَاسَةِ الْقَلْبِ ، فَإِنَّ الْقَلْبَ لَا يَكَادُ يُطَهِّرُهَا بِأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ . قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَكَمُ لِأَبِي بَكْرٍ الْوَرَّاقِ رَحِمَهُ اللَّهُ :
إِنَّ الْجَرَائِمَ أَقْفَلَتْ بَابَ الْهُدَى فَالْعِلْمُ لَيْسَ بِفَاتِحٍ أَقْفَالِهَا
إِنَّ الْقُلُوبَ تَنَجَّسَتْ بِبَطَالَةٍ فَالسَّعْيُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ أَفْعَالَهَا
وَذُنُوبُ الْعَلَانِيَةِ فِيمَا بَيْنَ اللَّهِ وَالْعَبْدِ تَرْكُ مَا أَمَرَ بِهِ ، وَارْتِكَابُ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ تَضْيِيعِ فَرْضٍ وَإِضَاعَةِ حَقٍّ ، وَمُجَاوَزَةِ حَدٍّ ، وَقُصُورٍ عَنْهُ . وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى : الْمَظَالِمُ وَالْجِنَايَاتُ قَوْلًا وَفِعْلًا ، وَتَوْبَةُ الْعَبْدِ مِنْهَا عَلَانِيَةٌ مِنْ رَدِّ الْمَظَالِمِ وَالِاسْتِحْلَالِ مِنْ أَرْبَابِهَا ، وَالْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ مَحَالَتُهُمْ عَلَيْهِ ، وَقَضَاءِ مَا فَاتَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ ، وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ وَإِخْرَاجِ مَا حَصَّلَ مِنْ مَالٍ ، أَوْ مَتَاعٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَدُّوا الْخَائِطَ وَالْمِخْيَطَ " ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ نَدَمُهُ بِسِرِّهِ عَلَى مَا مَضَى مَعَ إِقَامَتِهِ عَلَى مِثْلِهِ فِي الْوَقْتِ ، وَتَوْبَتُهُ مِنِ ارْتِكَابِ الْمَظَالِمِ بِسِرِّهِ مَعَ تَمَسُّكِهِ بِمَا فِي يَدَيْهِ . رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ : " إِذَا قَالَ الْمُلَبِّي : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، وَعِنْدَهُ مَالٌ حَرَامٌ قِيلَ لَهُ : لَا لَبَّيْكَ ، وَلَا سَعْدَيْكَ حَتَّى تَرُدَّ مَا فِي يَدَيْكَ " لِذَلِكَ قَالَ السِّرُّ بِالسِّرِّ ، وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ (327 )(1/290)
أهمية الدعاء
44- عن جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ , أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ ، حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا , أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِالْإِثْمِ أَوْ قَطِيعَةَ رَحِمٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : إِذَنْ نُكَثِّرُ قَالَ : اللَّهُ أَكْثَرُ. " (1)
وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ، أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ حَدَّثَهُمْ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا ، أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ " (2)
وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ، أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ ، حَدَّثَهُمْ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " " مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ " " ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ : إِذًا نُكْثِرُ ، قَالَ : " " اللَّهُ أَكْثَرُ " " (3)
وقال الطحاوي : " بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ: " يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ فَيَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي "
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ فَيَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي "
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَعْجَلْ " قِيلَ: وَمَا عَجَلَتُهُ ؟ قَالَ: " يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ اللهَ، فَمَا اسْتَجَابَ وَدَعَوْتُ اللهَ فَمَا اسْتَجَابَ "
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَهُ . فَقَالَ قَائِلٌ: وَجَدْنَا الرَّجُلَ يَدْعُو فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ إِنَّهُ يُمْنَعُ بِهِ مِنَ الِاسْتِجَابَةِ لَهُ . فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَهُوَ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ لَا خُلْفَ لِقَوْلِهِ، وَلَكِنِ الِاسْتِجَابَةُ فِي ذَلِكَ لَمْ تُبَيَّنْ لَنَا مَا هِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 118) (182) صحيح
(2) - مُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (22277 ) صحيح
(3) - سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ ـ الْجَامِعُ الصَّحِيحُ (3654 ) وقال :َهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ(1/291)
وَثَبَتَتْ لَنَا فِي غَيْرِهِ وَذُكِرَ لَنَا فِيهِ مَا هِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بِدَعْوَةٍ إلَّا آتَاهُ اللهُ إيَّاهَا، أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ " فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إذًا نُكْثِرُ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ: " اللهُ أَكْثَرُ "
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " دَعْوَةُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لَا تُرَدُّ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَإِمَّا أَنْ يُصْرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ بِقَدْرِ مَا دَعَا "
فَبَيَّنَ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ الِاسْتِجَابَةَ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِمَنْ يَدْعُوهُ مَا هِيَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَا يَدْعُوهُ بِهِ لَيْسَ بِإِثْمٍ وَلَا بِقَطِيعَةِ رَحِمٍ وَأَنَّهَا أَنْ يُعْطِيَ مَنْ دَعَاهُ مَا دَعَا فَيَعْلَمَ ذَلِكَ أَوْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِمَّا دَعَا فَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ، فَبَانَ بِمَا ذَكَرْنَا مَعْنَى مَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَأَنَّ الِاسْتِجَابَةَ مِنَ اللهِ لِمَنْ يَدْعُوهُ مِنْ عِبَادِهِ بِمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْعُوَهُ بِهِ يُعْطَاهَا لَا مَحَالَةَ غَيْرَ أَنَّهَا مِمَّا قَدْ نَعْلَمُهُ بِالْمُوَافَقَةِ الْعَطِيَّةُ الْمَدْعُوَّةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ قَدِ اسْتُجِيبَ لَهُ أَوْ يُعْطِيهِ مَا سِوَى مَا دَعَا بِهِ مِنْ صَرْفِ مَا يَصْرِفُهُ عَنْهُ فَتَكُونُ الِاسْتِجَابَةُ قَدْ كَانَتْ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَإِنَّمَا لَمْ يَعْلَمْهَا، فَخَرَجَ بِمَا ذَكَرْنَا بَيَانُ وَجْهِ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ " (1)
وقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ اللَّهُ أَكْثَرُ إِجَابَةً مِنْ دُعَائِكُمْ وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَاهُ فَضْلُ اللَّهِ أَكْثَرُ أَيْ مَا يُعْطِيهِ مِنْ فَضْلِهِ وَسَعَةِ كَرَمِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يُعْطِيكُمْ فِي مُقَابَلَةِ دُعَائِكُمْ ، وَقِيلَ اللَّهُ أَغْلَبُ فِي الْكَثْرَةِ فَلَا تُعْجِزُونَهُ فِي الِاسْتِكْثَارِ فَإِنَّ خَزَائِنَهُ لَا تَنْفَدُ وَعَطَايَاهُ لَا تَفْنَى ، وَقِيلَ اللَّهُ أَكْثَرُ ثَوَابًا وَعَطَاءً مِمَّا فِي نُفُوسِكُمْ فَأَكْثِرُوا مَا شِئْتُمْ فَإِنَّهُ تَعَالَى يُقَابِلُ أَدْعِيَتَكُمْ بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهَا وَأَجَلُّ . (2)
فضل الدعاء وفوائده
إن الدعاء عبادة لله بل هو من أعظم العبادات وأجلها لما فيه من التجاء العبد إلى ربه وتضرعه إليه وارتباطه به، وقد أمر الله عباده بدعائه ووعدهم بالإجابة، إضافة إلى ذلك
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (2 / 334) ( 877-882)
(2) - تحفة الأحوذي - (8 / 471)(1/292)
فإنه سبب لحصول المطلوب، إذاً فالدعاء قد شرع لأنه عبادة لله، ونفع هذه العبادة عائد على العبد، لأن الله تعالى غني عن عبادة الناس له، الأمر الثاني: أن من حكمة تشريعه أنه سبب لحصول الأمر المطلوب.
قال ابن القيم بعد أن ذكر أمثلة من أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأسباب: وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس حتى آل ذلك ببعضهم إلى أن ترك الدعاء وزعم أنه لا فائدة فيه؛ لأن المسؤول إن كان قد قدر ناله ولا بد، وإن لم يقدر لم ينله، فأي فائدة في الاشتغال بالدعاء؟ ثم تكايس في الجواب بأن قال: الدعاء عبادة فيقال لهذا الغالط بقي عليك قسم آخر وهو الحق أنه قد قدر له مطلوبه بسبب إن تعاطاه حصل له المطلوب، وإن عطل السبب فاته المطلوب، والدعاء من أعظم الأسباب في حصول المطلوب. انتهى.
فتحصل من هذا أن من حكمة تشريع الدعاء أنه عبادة لله ينتفع بها العبد، ويرد لله عنه بها البلاء والمحن وغير ذلك من المكروهات، كما يعطيه بسبب الدعاء أيضاً المطالب التي يدعو الله تعالى أن يعطيه إياها .." (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (9 / 7717) -رقم الفتوى 69140 فوائد الدعاء وثماره والحكمة منه -تاريخ الفتوى : 12 شوال 1426(1/293)
فضل ليلة النصف من شعبان
45- عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللَّهَ يَطَّلِعُ إِلَى خَلْقِهِ فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ." (1)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : يَطْلُعُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ." (2)
المشاحن : المعادي والمخاصم على ضغينة
وعَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِى لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ ». (3)
وعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، قَالَ : " مَا مِنْ لَيْلَةٍ بَعْدَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَفْضَلُ مِنْهَا , يَعْنِي لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَغْفِرُ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ أَوْ قَاطَعِ رَحِمٍ " (4)
إِحْيَاءُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ (5) :
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى نَدْبِ إِحْيَاءِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ (6) ، للأحاديث الآنفة الذكر
وَبَيَّنَ الْغَزَالِيُّ فِي الإِْحْيَاءِ كَيْفِيَّةً خَاصَّةً لإِِحْيَائِهَا ، وَقَدْ أَنْكَرَ الشَّافِعِيَّةُ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةَ وَاعْتَبَرُوهَا بِدْعَةً قَبِيحَةً (7) ، وَقَال الثَّوْرِيُّ :هَذِهِ الصَّلاَةُ بِدْعَةٌ مَوْضُوعَةٌ قَبِيحَةٌ مُنْكَرَةٌ . (8)
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 130) ( 198 و200 و3497) صحيح لغيره
(2) -صحيح ابن حبان - (12 / 481) (5665) وشُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (6352 ) صحيح لغيره
(3) - سنن ابن ماجه- المكنز - (1453 ) حسن لغيره
(4) - شَرْحُ أُصُولِ الاعْتِقَادِ ( 596 ) حسم مقطوع
(5) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (2 / 235)
(6) - البحر الرائق 2 / 56 ، وحاشية ابن عابدين 1 / 460 ومراقي الفلاح ص 219 ، وشرح الإحياء للزبيدي 3 / 425 ، ومواهب الجليل 1 / 74 ، والخرشي 1 / 366 ، والفروع 1 / 440
(7) - إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين 3 / 423
(8) - إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين 3 / 423(1/294)
وفي الموسوعة الفقهية :
" اخْتُصَّتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِاسْتِحْبَابِ قِيَامِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ ؛ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ فِي فَضْلِهَا " (1)
وفيها أيضاً : ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى نَدْبِ قِيَامِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ (2)
وقال الفاكهي :
" ذِكْرُ عَمَلِ أَهْلِ مَكَّةَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَاجْتِهَادِهِمْ فِيهَا لِفَضْلِهَا وَأَهْلُ مَكَّةَ فِيمَا مَضَى إِلَى الْيَوْمِ إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، خَرَجَ عَامَّةُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَصَلَّوْا، وَطَافُوا، وَأَحْيَوْا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى الصَّبَاحَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، حَتَّى يَخْتِمُوا الْقُرْآنَ كُلَّهُ، وَيُصَلُّوا، وَمَنْ صَلَّى مِنْهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِائَةَ رَكْعَةٍ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِالْحَمْدُ، وَقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَأَخَذُوا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَشَرِبُوهُ، وَاغْتَسَلُوا بِهِ، وَخَبَّؤُوهُ عِنْدَهُمْ لِلْمَرْضَى، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَيُرْوَى فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ " (3)
الاِجْتِمَاعُ لإِِحْيَاءِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ :
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى كَرَاهَةِ الاِجْتِمَاعِ لإِِحْيَاءِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الاِجْتِمَاعَ عَلَيْهَا بِدْعَةٌ وَعَلَى الأَْئِمَّةِ الْمَنْعُ مِنْهُ (4) .
وَهُوَ قَوْل عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ . وَذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ إِلَى كَرَاهَةِ الاِجْتِمَاعِ لَهَا فِي الْمَسَاجِدِ لِلصَّلاَةِ ؛ لأَِنَّ الاِجْتِمَاعَ عَلَى إِحْيَاءِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ لَمْ يُنْقَل عَنِ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ . وَذَهَبَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ وَلُقْمَانُ بْنُ عَامِرٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ إِلَى اسْتِحْبَابِ إِحْيَائِهَا فِي جَمَاعَةٍ . (5)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (2 / 270)
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (34 / 123) ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص219 ، ومواهب الجليل 1 / 74 ، والفروع 1 / 440 ، وإحياء علوم الدين 3 / 423 .
(3) - أخبار مكة للفاكهي - (3 / 84) (1837 - 1841)
(4) - مواهب الجليل 1 / 74 دار الفكر بيروت ) والخرشي 1 / 366
(5) - مراقي الفلاح ص 219 - 220(1/295)
حكم صلاة الرَغَائِبِ (1)
الرَّغَائِبُ جَمْعُ رَغِيبَةٍ وَهِيَ لُغَةً الْعَطَاءُ الْكَثِيرُ ، أَوْ مَا حُضَّ عَلَيْهِ مِنْ فِعْل الْخَيْرِ (2)
وَالرَّغِيبَةُ اصْطِلاَحًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا قَالَهُ الدُّسُوقِيُّ هِيَ : مَا رَغَّبَ فِيهِ الشَّارِعُ وَحْدَهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ فِي جَمَاعَةٍ . وَقَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ : صَارَتِ الرَّغِيبَةُ كَالْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ .
وَقَالُوا أَيْضًا : الرَّغِيبَةُ هِيَ مَا دَاوَمَ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - عَلَى فِعْلِهِ بِصِفَةِ النَّوَافِل ، أَوْ رَغَّبَ فِيهِ بِقَوْلِهِ : مَنْ فَعَل كَذَا فَلَهُ كَذَا ، قَال الْحَطَّابُ : وَلاَ خِلاَفَ أَنَّ أَعْلَى الْمَنْدُوبَاتِ يُسَمَّى سُنَّةً وَسَمَّى ابْنُ رُشْدٍ النَّوْعَ الثَّانِيَ رَغَائِبَ ، وَسَمَّاهُ الْمَازِرِيُّ فَضَائِل ، وَسَمَّوُا النَّوْعَ الثَّالِثَ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ نَوَافِل. (3)
وَالرَّغَائِبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ : صَلاَةٌ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ تُفْعَل أَوَّل رَجَبٍ أَوْ فِي مُنْتَصَفِ شَعْبَانَ،ونَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ صَلاَةَ الرَّغَائِبِ فِي أَوَّل جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ ، أَوْ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ ، أَوْ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الرَّكَعَاتِ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ . (4)
قَال النَّوَوِيُّ : وَهَاتَانِ الصَّلاَتَانِ بِدْعَتَانِ مَذْمُومَتَانِ مُنْكَرَتَانِ قَبِيحَتَانِ ، وَلاَ تَغْتَرَّ بِذِكْرِهِمَا فِي كِتَابِ قُوتِ الْقُلُوبِ وَالإِْحْيَاءِ ، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَسْتَدِل عَلَى شَرْعِيَّتِهِمَا بِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَال : الصَّلاَةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ (5) فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِصَلاَةٍ لاَ تُخَالِفُ الشَّرْعَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ . (6)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (8 / 32)
(2) - لسان العرب والأضداد للجاحظ مادة : ( رغب )
(3) - الحطاب 1 / 39، الدسوقي 1 / 318، والموسوعة 8 / 32، مصطلح ( بدعة ) فقرة 23
(4) - القليوبي وعميرة 1 / 216، غنية الْمُتَمَليِّ في شرح منية المصلي - حلبي كبير - ص 433
(5) - أخرجه أحمد ( 5 / 178 - ط الميمنية ) من حديث أبي ذر، وأورده الهيثمي في المجمع ( 1 / 160 - ط القدسي ) حسن
(6) - المجموع للنووي 4 / 256 .(1/296)
قَال إِبْرَاهِيمُ الْحَلَبِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ : قَدْ حَكَمَ الأَْئِمَّةُ عَلَيْهَا بِالْوَضْعِ قَال فِي الْعِلْمِ الْمَشْهُورِ : حَدِيثُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ مَوْضُوعٌ (1)
قَال أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ : كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ يَضَعُ الْحَدِيثَ عَلَى رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَحَدِيثُ أَنَسٍ مَوْضُوعٌ ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ إِسْحَاقَ قَال أَبُو حَاتِمٍ : كَانَ يُقَلِّبُ الأَْخْبَارَ وَيَسُوقُ الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ وَهْبُ بْنُ وَهْبٍ الْقَاضِي أَكْذَبُ النَّاسِ ذَكَرَهُ فِي الْعِلْمِ الْمَشْهُورِ ، وَقَال أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ : صَلاَةُ الرَّغَائِبِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَذِبٌ عَلَيْهِ . (2)
قَال : وَقَدْ ذَكَرُوا عَلَى بِدْعِيَّتِهِمَا وَكَرَاهِيَتِهِمَا عِدَّةَ وُجُوهٍ مِنْهَا : أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الأَْئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ لَمْ يُنْقَل عَنْهُمْ هَاتَانِ الصَّلاَتَانِ ، فَلَوْ كَانَتَا مَشْرُوعَتَيْنِ لَمَا فَاتَتَا السَّلَفَ ، وَإِنَّمَا حَدَثَتَا بَعْدَ الأَْرْبَعِمِائَةِ ، قَال الطُّرْطُوشِيُّ أَخْبَرَنِي الْمَقْدِسِيُّ قَال : لَمْ يَكُنْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قَطُّ صَلاَةُ الرَّغَائِبِ فِي رَجَبٍ وَلاَ صَلاَةُ نِصْفِ شَعْبَانَ ، فَحَدَثَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ أَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ نَابُلُسَ يُعْرَفُ بِابْنِ الْحَيِّ ، وَكَانَ حَسَنَ التِّلاَوَةِ فَقَامَ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَأَحْرَمَ خَلْفَهُ رَجُلٌ ، ثُمَّ انْضَافَ ثَالِثٌ وَرَابِعٌ فَمَا خَتَمَ إِلاَّ وَهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ ، ثُمَّ جَاءَ فِي الْعَامِ الْقَابِل فَصَلَّى مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ ، وَانْتَشَرَتْ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى وَبُيُوتِ النَّاسِ وَمَنَازِلِهِمْ ، ثُمَّ اسْتَقَرَّتْ كَأَنَّهَا سُنَّةٌ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا . أ هـ . (3)
الْبِدْعَةُ الإِْضَافِيَّةُ :
وَهِيَ الَّتِي لَهَا شَائِبَتَانِ : إِحْدَاهُمَا لَهَا مِنَ الأَْدِلَّةِ مُتَعَلِّقٌ ، فَلاَ تَكُونُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِدْعَةً ، وَالثَّانِيَةُ لَيْسَ لَهَا مُتَعَلِّقٌ إِلاَّ مِثْل مَا لِلْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ . وَلَمَّا كَانَ الْعَمَل لَهُ شَائِبَتَانِ ، وَلَمْ يَتَخَلَّصْ لأَِحَدٍ الطَّرَفَيْنِ ، وُضِعَتْ لَهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ ؛ لأَِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ سُنَّةٌ
__________
(1) - حلبي كبير ص 434 للشيخ إبراهيم الحلبي - ط دار سعادت، عارف أفندي مطبعة سنده أولنمشدر سنة 1325 هـ ، حاشية ابن عابدين 1 / 461 - 476، القليوبي وعميرة 1 / 216، الفروع 1 / 569 - 570، الاعتصام للشاطبي 1 / 232، إنكار البدع والحوادث ص 63 - 67
(2) - الموضوعات لابن الجوزي 2 / 124 - 126 نشر دار السلفية .
(3) - ( ر : بِدْعَة ف 23 ) وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ ( صَلاَةُ الرَّغَائِبِ ) .(1/297)
لاِسْتِنَادِهَا إِلَى دَلِيلٍ ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِهَةِ الأُْخْرَى بِدْعَةٌ لاِسْتِنَادِهَا إِلَى شُبْهَةٍ لاَ إِلَى دَلِيلٍ ، أَوْ لأَِنَّهَا غَيْرُ مُسْتَنِدَةٍ إِلَى شَيْءٍ ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبِدَعِ هُوَ مَثَارُ الْخِلاَفِ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْبِدَعِ وَالسُّنَنِ . وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ ، مِنْهَا : صَلاَةُ الرَّغَائِبِ ، وَهِيَ : اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ الأُْولَى مِنْ رَجَبٍ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ ، وَقَدْ قَال الْعُلَمَاءُ : إِنَّهَا بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ مُنْكَرَةٌ . وَكَذَا صَلاَةُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ ، وَهِيَ : مِائَةُ رَكْعَةٍ بِكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ . وَصَلاَةُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ .
وَوَجْهُ كَوْنِهَا بِدْعَةً إِضَافِيَّةً : أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ ، بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ إِلَى أَصْل الصَّلاَةِ ، لِحَدِيثٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَْوْسَطِ الصَّلاَةُ خَيْرٌ مَوْضُوعٌ (1)
وَغَيْرُ مَشْرُوعَةٍ بِاعْتِبَارِ مَا عَرَضَ لَهَا مِنَ الْتِزَامِ الْوَقْتِ الْمَخْصُوصِ وَالْكَيْفِيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ . فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا ، مُبْتَدَعَةٌ بِاعْتِبَارِ مَا عَرَضَ لَهَا . (2)
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية :
"قد ورد ما يدل على أن ليلة النصف من شعبان من الليالي الفاضلة المباركة ... ثم قالوا :فهذان الحديثان فيهما بيان فضيلة هذه الليلة؛ لكن لا ينبغي أن تخص هذه الليلة بقيام أو عبادة ، إلا إذا كان ذلك موافقاً لعادة له ، ومن قامها ظاناً أن لها فضيلة تختصُّ بها، فقد قام بأمر لم يردْ في الشرع، والحديثُ السالف لا يلزم منه أن يخصَّ هذا اليوم بصيام أو أي نوع من أنواع العبادات إلا أن يوافق عادةً له ومن غير قصد. فإذا قصد هذا اليوم بصيام أو بعبادة وخصه عن سائر الأيام فهذا يدخل تحت البدع المحدثة.
وأما ما ورد في فضل هذه الليلة من الروايات وتخصيصها بعبادة خاصة دون غيرها فقد ضعفها العلماء وقال بعضهم بوضع كثير من تلك الروايات، لذلك فلا نتقرب إلى الله بمثل هذه الأمور، بل بما صح وثبت عن صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم - ، ونقله عنه الثقات ورضوا به. روى الترمذي في سننه بسند صحيح عن الحسن بن علي رضى الله عنهما قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب
__________
(1) - أخرجه ابن حبان ( ص 52 - موارد الظمآن ط السلفية ) . وهو حديث حسن
(2) - ابن عابدين 1 / 461 ، والاعتصام للشاطبي 1 / 232 ، والمجموع للنووي 4 / 56 ، إنكار البدع والحوادث ص 63 - 67 .(1/298)
ريبة". فلا بد في العبادة من اليقين والطمأنينة والتثبت ليكون القلب في راحة وأمن وسلامة. والله تعالى أعلم. " (1)
وقالوا أيضا:
" لذلك استحب بعض الفقهاء قيام هذه الليلة لتعرض المؤمن إلى رحمة الله ومغفرته. وقد ذكر الإمام ابن تيمية أن طوائف من السلف كانوا يقومونها، وإنما كره بعض السلف الاجتماع لها في المسجد، وعدُّوا ذلك من البدع. أما ما يفعله كثيرٌ من المسلمين من إحداث صلاة فيها بعدد مخصوص وقراءة مخصوصة فهو بدعة محدثة. يقول الإمام النووي: الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب، وهي ثنتا عشرة ركعة تصلى بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة في رجب، وصلاة ليلة نصف شعبان مائة ركعة، وهاتان الصلاتان بدعتان ومنكران قبيحان، ولا يغتر بذكرهما في كتاب قوت القلوب، وإحياء علوم الدين، ولا بالحديث المذكور فيهما فإن كل ذلك باطل . اهـ. من المجموع.
والحديث الذي أشار إليه رحمه الله هو ما يروونه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من صلى في هذه الليلة خمس عشرة من شعبان مائة ركعة أرسل الله إليه مائة ملك، ثلاثون يبشرونه بالجنة، وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا، وعشرة يدفعون عنه مكائد الشيطان" وهو حديث باطل، كما قال الإمام النووي رحمه الله.
فينبغي للمسلم أن يحرص على الطاعة في هذه الليلة بقيامها، والتخلي عن الشرك أكبره وأصغره، والصفح عن إخوانه حتى ينال هذا الفضل، ويجب عليه اجتناب المحدثات: فكل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف. (2)
وقال ابن تيمية :
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (2 / 273) -رقم الفتوى 1554 تخصيص ليلة النصف من شعبان أو يومه بعبادة معينة بدعة -تاريخ الفتوى : 18 شعبان 1422
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (2 / 2563) -رقم الفتوى 6001 ليلة النصف من شعبان وما ورد فيها.6000 تاريخ الفتوى : 16 صفر 1420 وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (2 / 2564) -رقم الفتوى 6002 ليلة النصف من شعبان وما ورد فيها. تاريخ الفتوى : 16 صفر 1420(1/299)
" وَصَلَاةُ الرَّغَائِبِ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ لَمْ يُصَلِّهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ ، وَأَمَّا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَفِيهَا فَضْلٌ ، وَكَانَ فِي السَّلَفِ مَنْ يُصَلِّي فِيهَا ، لَكِنَّ الِاجْتِمَاعَ فِيهَا لِإِحْيَائِهَا فِي الْمَسَاجِدِ بِدْعَةٌ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ الْأَلْفِيَّةُ . " (1)
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية :
" فإن ليلة النصف من شعبان قد ورد في فضلها عدة أحاديث، منها ما هو صالح للاحتجاج، ومنها ما هو ضعيف لا يحتج به . فمما هو صالح للاحتجاج ما رواه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله إلى خلقه، فيغفر للمؤمنين، ويملي للكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه" ورواه الطبراني، وحسنه الألباني- رحمه الله- في صحيح الجامع برقم 771. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشرك أو مشاحن" رواه ابن ماجه، وابن حبان عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
هذا، وقد قال عطاء بن يسار: ما من ليلة بعد ليلة القدر أفضل من ليلة النصف من شعبان، يتنزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيغفر لعباده كلهم، إلا لمشرك أو مشاجر أو قاطع رحم.
فينبغي على العبد أن يتحلى بالطاعات التي تؤهله لمغفرة الرحمن، وأن يبتعد عن المعاصي والذنوب التي تحجبه عن هذه المغفرة. ومن هذه الذنوب: الشرك بالله، فإنه مانع من كل خير. ومنها الشحناء والحقد على المسلمين، وهو يمنع المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس فيغفر الله لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: أنظروا هذين حتى يصطلحا". رواه مسلم. فأفضل الأعمال بعد الإيمان بالله سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلها.
__________
(1) - الفتاوى الكبري لابن تيمية - (8 / 47)(1/300)
ولم يثبت في تخصيص هذه الليلة بصلاة معينة، أو دعاء معين، شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه، وأول ظهور لذلك كان من بعض التابعين. قال ابن رجب في لطائف المعارف: ( وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان، ومكحول، ولقمان بن عامر وغيرهم، يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها. وقد قيل: إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك فمنهم من قَبِلَه منهم ووافقهم على تعظيمها، منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم، وأنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز).
وقال ابن تيمية رحمه الله: ( وأما ليلة النصف من شعبان ففيها فضل، وكان في السلف من يصلي فيها، لكن الاجتماع فيها لإحيائها في المساجد بدعة).
وقال الشافعي رحمه الله: بلغنا أن الدعاء يستجاب في خمس ليال: ليلة الجمعة، والعيدين، وأول رجب ونصف شعبان.
وأما صيام يوم النصف من شعبان فيسن على أنه من الأيام البيض الثلاثة، وهي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، لا على أنه يوم النصف من شعبان، فإن حديث الصيام فيه لا يصلح للاحتجاج، بل هو حديث موضوع، وهو قوله (إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلتها وصوموا يومها. " (1)
وقال ابن رجب :
" خرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه و ابن حبان في صحيحه و الحاكم [ من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان ] وصححه الترمذي وغيره واختلف العلماء في صحة هذا الحديث ثم في العمل به :
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (2 / 2614) -رقم الفتوى 6088 ماورد في ليلة النصف من شعبان ـ إن صح ـ لايقتضي تخصيصها أو يومها بعبادة أو صيام -تاريخ الفتوى : 16 صفر 1420 وانظر فتاوى يسألونك لعفانة1-12 - (1 / 53) -تخصيص ليلة النصف من شعبان بالعبادة بدعة وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (3 / 508) -الاحتفال بليلة النصف من شعبان(1/301)
فأما تصحيحه فصححه غير واحد منهم الترمذي وابن حبان والحاكم والطحاوي وابن عبد البر وتكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم وقالوا : هو حديث منكر منهم الرحمن بن المهدي والإمام أحمد وأبو زرعة الرازي والأثرم وقال الإمام أحمد : لم يرو العلاء حديثا أنكر منه ورده بحديث : [ لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين ] فإن مفهومه جواز التقدم بأكثر من يومين وقال الأثرم الأحاديث كلها تخالفه يشير كلها تخالفه يشير إلى أحاديث صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - شعبان كله ووصله برمضان ونهيه عن التقدم على رمضان بيومين فصار الحديث حينئذ شاذا مخالفا للأحاديث الصحيحة وقال الطحاوي هو منسوخ وحكى الإجماع على ترك العمل به وأكثر العلماء على أنه لا يعمل به وقد أخذ آخرون منهم الشافعي وأصحابه ونهوا عن ابتداء التطوع بالصيام بعد نصف شعبان لمن ليس له عادة ووافقهم بعض المتأخرين من أصحابنا ثم اختلفوا في علة النهي فمنهم من قال : خشية أن يزاد في شهر رمضان ما ليس منه وهذا بعيد جدا فيما بعد النصف وإنما يحتمل هذا في التقديم بيوم أو يومين ومنهم من قال : النهي للتقوى على صيام رمضان شفقة أن يضعفه ذلك عن صيام رمضان وروي ذلك عن وكيع ويرد هذا صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - شعبان كله أو أكثره و صله برمضان هذا كله بالصيام بعد نصف شعبان
وأما صيام يوم النصف منه فغير منهي عنه فإنه من جملة أيام البيض الغر المندوب إلى صيامها من كل شهر وقد ورد الأمر بصيامه من شعبان بخصوصه ففي سنن ابن ماجه بإسناد ضعيف [ عن علي عن النبي صلى الله عليه و سلم : إذا كان ليلة نصف شعبان فقوموا ليلها و صوموا نهارها فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول : ألا مستغفر فأغفر له ألا مسترزق فأرزقه ألا مبتلي فأعافيه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر ] وفي فضل ليلة نصف شعبان أحاديث أخر متعددة وقد اختلف فيها فضعفها الأكثرون وصحح ابن حبان بعضها وخرجه في صحيحه ومن أمثلها [ حديث عائشة قال : فقدت النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرجت فإذا هو بالبقيع رافعا رأسه إلى السماء فقال : أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله فقلت يا رسول الله ظننت أنك أتيت بعض نسائك فقال : إن الله تبارك و تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر(1/302)
غنم كلب ] خرجه الإمام أحمد والترمذي الإمام أحمد ابن ماجه وذكر الترمذي عن البخاري أنه ضعفه وخرج ابن ماجه من حديث [ أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله ليطلع ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن ] وخرج الإمام أحمد من [ حديث عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله ليطلع إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن أو قاتل نفس ] وخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث معاذ مرفوعا
ويروى من حديث عثمان بن أبي العاص مرفوعا : [ إذا كان ليلة النصف من شعبان نادى مناد : هل من مستغفر فأغفر له هل من سائل فأعطيه فلا يسأل أحد شيئا إلا أعطيه إلا زانية بفرجها أو مشركا ] وفي الباب أحاديث أخر فيها ضعف ويروى عن نوف البكالي أن عليا خرج ليلة النصف من شعبان فأكثر الخروج فيها ينظر إلى السماء فقال : إن داود عليه السلام خرج ذات ليلة في مثل هذه الساعة فنظر إلى السماء فقال إن هذه الساعة ما دعى الله أحد إلا أجابه و لا استغفره أحد من هذه الليلة إلا غفر له ما لم يكن عشارا أو ساحرا أو شاعرا أو كاهنا أو عريفا أو شرطيا أو جابيا أو صاحب كوبة أو غرطبة قال نوف : الكوبة الطبل والغرطبة : الطنبور اللهم رب داود اغفر لمن دعاك في هذه الليلة ولمن استغفرك فيها وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها وقد قيل أنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك فمنهم من قبله منهم وافقهم على تعظيمها منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز منهم عطاء وابن أبي مليكة و نقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة وهو قول أصحاب مالك وغيرهم وقالوا : ذلك كله بدعة
واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين :
أحدهما : أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد كان خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويكتحلون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك(1/303)
ووافقهم إسحاق بن راهوية على ذلك وقال في قيامها في المساجد جماعة : ليس ببدعة نقله عنه حرب الكرماني في مسائله
والثاني : أنه يكره الإجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه وهذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامله إلى البصرة عليك بأربع ليال من السنة فإن الله يفرغ فيهن الرحمة إفراغا أول ليلة من رجب وليلة النصف من شعبان وليلة الفطر وليلة الأضحى وفي صحته عنه نظر وقال الشافعي رضي الله عنه : بلغنا أن الدعاء يستجاب في خمس ليال : ليلة الجمعة والعيدين وأول رجب ونصف شعبان قال : وأستحب كل ما حكيت في هذه الليالي ولا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة نصف شعبان ويتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان من الروايتين عنه في قيام ليلتي العيد فإنه في رواية لم يستحب قيامها جماعة لأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه واستحبها في رواية لفعل عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود وهو من التابعين فكذلك قيام ليلة النصف لم يثبت فيها شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه و ثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام وروي عن كعب قال : إن الله تعالى يبعث ليلة النصف من شعبان جبريل عليه السلام إلى الجنة فيأمرها أن تتزين ويقول : إن الله تعالى قد اعتق في ليلتك هذه عدد نجوم السماء وعدد أيام الدنيا و لياليها وعدد ورق الشجر وزنة الجبال وعدد الرمال وروى سعيد بن منصور حدثنا أبو معشر عن أبي حازم ومحمد بن قيس عن عطاء بن يسار قال : ما من ليلة بعد ليلة القدر أفضل من ليلة النصف من ليلة النصف من شعبان ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيغفر لعباده كلهم إلا لمشرك أو مشاحن أو قاطع رحم .فيا من أعتق فيها من النار هنيئا لك المنحة الجسيمة ويا أيها المردود فيها جبر الله مصيبتك هذه فإنها مصيبة عظيمة " (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - لطائف المعارف لابن رجب 112- 118 - المجلس الثاني في نصف شعبان(1/304)
فتن قبل قيام الساعة
46-عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي قُبَّةٍ فَسَمِعَ رِكْزَ رِجْلَيَّ , فَقَالَ : وَمَنْ هَذَا ؟ فَقُلْتُ : عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ , فَقَالَ : ادْخُلْ يَا عَوْفُ فَأَدْخَلْتُ رَأْسِي وَقُلْتُ : كُلِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : يَا عَوْفُ سِتٌّ بَيْنَ يَدَيْ مَا تُوعَدُونَ , أُولاَهُنَّ مَوْتُ نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - قُلْ إِحْدَى فَوَجَمْتُ وَجْمَةً شَدِيدَةً , فَقُلْتُ : إِحْدَى , ثُمَّ فَتْحُ إِيلِيَا قُلْ : اثْنَتَيْنِ قُلْتُ : اثْنَتَيْنِ , ثُمَّ مَوْتٌ يُرْسَلُ إِلَيْكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ قُلْ : ثَلاَثًا قُلْتُ : ثَلاَثًا ثُمَّ يَفْشُو فِيكُمُ الْمَالُ حَتَّى يُعْطَى أَحَدُكُمْ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَسْخَطُهَا قُلْ : أَرْبَعًا , قُلْتُ أَرْبَعًا , ثُمَّ فِتْنَةٌ لاَ تَكَادُ أَنْ تَدَعَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ دَخَلَتْهُ قُلْ خَمْسًا فَقُلْتُ : خَمْسًا , ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرُّومِ تُغْدَرُونَ فِي آخِرِهَا , فَيَجْمَعُونَ لَكُمْ فَيَأْتُونَكُمْ فِي ثَمَانِينَ غَايَةٍ , وَالْغَايَةُ الرَّايَةُ , تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا." (1)
وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي خِبَاءٍ لَهُ مِنْ أَدَمٍ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ قُلْتُ : أَدْخُلُ ؟ قَالَ : ادْخُلْ فَأَدْخَلْتُ رَأْسِي فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ وُضُوءًا مَكِيثًا ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَدْخُلُ كُلِّي ؟ قَالَ : كُلَّكَ فَلَمَّا جَلَسْتُ قَالَ لِي : اعْدُدْ سِتَّ خِصَالٍ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ ، مَوَتُ نَبِيِّكُمْ قَالَ عَوْفٌ : فَوَجَمْتُ لِذَلِكَ وَجْمَةً مَا وَجَمْتُ مِثْلَهَا قَطُّ ، قَالَ : قُلْ : إِحْدَى قُلْتُ : إِحْدَى ، قَالَ : وَفَتَحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَفِتْنَةٌ تَكُونُ فِيكُمْ تَعُمُّ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ ، وَدَاءٌ يَأْخُذُكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ ، وَيَفْشُو الْمَالَ فِيكُمْ ، حَتَّى يُعْطَيَ الرَّجُلُ مِئَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا ، وَهُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ فَيَأْتُونَكُمْ فِي ثَمَانِينَ غَايَةً ، تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا " (2)
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 133)(212) صحيح
(2) - مسند الشاميين 360 - (4 / 350)(3527) صحيح
- الخباء : الخيمة - الخصال : جمع خصلة وهي خلق في الإنسان يكون فضيلة أو رزيلة - الوجوم : السكوت مع الهَمِّ والكآبة والحزن - قط : بمعنى أبدا ، وفيما مضى من الزمان - القُعاص : داء يأخذ الغَنم لا يُلْبِثُها أن تموت -السخط : الغضب أو كراهية الشيء وعدم الرضا به -الغاية : الراية ، سميت بذلك لأنها غاية المتَّبِع إذا وقفت وقف وإذا مشت مشى(1/305)
وعَنْ ثَابِتِ بن ثَوْبَانَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بن الدَّيْلَمِ يَقُولُ: حَدَّثَنِي عَوْفُ بن مَالِكٍ، قَالَ: رُحْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ فَسَمِعَ رِكْزَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ , قُلْتُ عَوْفُ بن مَالِكٍ، فَقَالَ:"ادْخُلْ يَا عَوْفُ"، فَقُلْتُ: أَكُلِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ , فَقَالَ:"نَعَمْ", فَدَخَلْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ وُضُوءًا مَكِينًا، فَقَالَ:"يَا عَوْفُ، سِتٌّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مَا تَعُدُّونَ، أَوَّلُهُنُّ: مَوْتُ نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - , قُلْ: إِحْدَى"، قُلْتُ: إِحْدَى، فَوَجَمْتُ عِنْدَ ذَلِكَ وَجْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ:"فَتْحُ إِيلِيَا , قُلْ: اثْنَتَيْنِ"، قُلْتُ: اثْنَتَيْنِ،"ثُمَّ يُفِيضُ فِيكُمُ الْمَالُ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَسْخَطَهَا، قُلْ: ثَلاثًا"، فَقُلْتُ: ثَلاثًا،"ثُمَّ مُوتَانٌ يُرْسَلُ عَلَيْكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ، قُلْ: أَرْبَعًا"، قُلْتُ: أَرْبَعًا،"ثُمَّ فِتْنَةٌ تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِكُمْ لا تَكَادُ تَدَعُ بَيْتًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلا دَخَلَتْهُ، قُلْ: خَمْسًا"، قُلْتُ: خَمْسًا،"ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرُّومِ يَغْدِرُونَ فِي آخِرِهَا، فَيَجْتَمِعُونَ لَكُمْ حَمَلِ امْرَأَةٍ فَيَأْتُونَكُمْ فِي ثَمَانِينَ غَايَةً تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ ثَمَانُونَ أَلْفًا". (1)
وعَنْ ذِي مِخْمَرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : تُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا ، وَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِهِمْ ، فَتَسْلَمُونَ وَتَغْنَمُونَ ، ثُمَّ تَنْزِلُونَ بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ ، فَيَقُومُ رَجُلٌ مِنَ الرُّومِ ، فَيَرْفَعُ الصَّلِيبَ ، وَيَقُولُ : أَلاَ غَلَبَ الصَّلِيبُ ، فَيَقُومُ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُهُ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ وَتَكُونُ الْمَلاَحِمُ ، فَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْكُمْ ، فَيَأْتُونَكُمْ فِي ثَمَانِينَ غَايَةً ، مَعَ كُلِّ غَايَةٍ عَشْرَةُ آلاَفٍ." (2)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (12 / 436) (14549 ) و الآحاد والمثاني - (2 / 475) (1286) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 752)(16826) 16951- صحيح(1/306)
بم بعث به النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟
47- عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ , وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي , وَجُعِلَتِ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَنِي ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ. (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ ، وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ." (2)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لِيُعْبَدَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ رُمْحِي وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَنِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ " (3)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " بُعِثْتُ بَيْنَ يَدِيِ السَّاعَةِ ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ، وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَنِي ، وَمَنْ تَشَبَّهَ لِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ " (4)
وعَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بِسَيْفِي بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ ، وَجَعَلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ، وَجَعَلَ الذُّلَّ وَالصَّغَارَ عَلَى مَنْ خَالَفَنِي ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ " (5)
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 136) (216) واتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة 5437 وغاية المقصد فى زوائد المسند 2 - (1 / 29)(2675) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 340) ( 5115و5667 ) ومصنف ابن أبي شيبة - (10 / 287) (19747) والفوائد لتمام 414 - (1 / 429) (770) و شعب الإيمان - (2 / 418) (1154 ) صحيح لغيره
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 339) (5114) والمسند الجامع - (10 / 1218) (8127) وصحيح الجامع (2831) وفتح الباري لابن حجر - (6 / 98)
(3) - شرح مشكل الآثار - (1 / 213) (231 ) صحيح لغيره
(4) - أخبار أصبهان - (2 / 85) (427 ) حسن
(5) - سنن سعيد بن منصور(2194 ) صحيح مرسل(1/307)
وعَنْ طَاوُوسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيَ السَّاعَةِ ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَنِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ. (1)
الحكمة من مشروعية الجهاد
فرض الله تعالى على المسلمين الجهاد في سبيله ، وذلك للمصالح العظيمة المترتبة عليه ، ولما في تركه من أضرار ومفاسد سبق ذكر بعضها في السؤال رقم (34830) .
فمن الحكم في مشروعية الجهاد في سبيل الله :
1- الهدف الرئيس للجهاد هو تعبيد الناس لله وحده ، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد. قال الله تعالى : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ) البقرة /193 . وقال : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) الأنفال /39 .
وقال ابن جرير : فقاتلوهم حتى لا يكون شرك ، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له ، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض، وهو الفتنة ويكون الدين كله لله ، وحتى تكون الطاعة والعبادة كلها خالصة دون غيره اهـ .
وقال ابن كثير : أمر تعالى بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة أي شرك ويكون الدين لله أي يكون دين الله هو الظاهر على سائر الأديان اهـ .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّ الإِسْلامِ ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ) رواه البخاري (24) ومسلم (33) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ ، لا شَرِيكَ لَهُ ) . رواه أحمد (4869) . وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2831) .
وقد كان هذا الهدف من الجهاد حاضراً في حس الصحابة رضي الله عنهم أثناء معاركهم مع أعداء الله ، روى البخاري (2925) عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ بَعَثَ عُمَرُ النَّاسَ فِي أَفْنَاءِ
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة - (10 / 304) (19783) و (17 / 522) (33681) صحيح مرسل(1/308)
الأَمْصَارِ يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ ... فَنَدَبَنَا عُمَرُ ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَرْضِ الْعَدُوِّ وَخَرَجَ عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا ، فَقَامَ تَرْجُمَانٌ فَقَالَ : لِيُكَلِّمْنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ . فَقَالَ الْمُغِيرَةُ : سَلْ عَمَّا شِئْتَ . قَالَ : مَا أَنْتُمْ ؟ قَالَ : نَحْنُ أُنَاسٌ مِنْ الْعَرَبِ ، كُنَّا فِي شَقَاءٍ شَدِيدٍ ، وَبَلاءٍ شَدِيدٍ ، نَمَصُّ الْجِلْدَ وَالنَّوَى مِنْ الْجُوعِ ، وَنَلْبَسُ الْوَبَرَ وَالشَّعَرَ ، وَنَعْبُدُ الشَّجَرَ وَالْحَجَرَ ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرَضِينَ ، تَعَالَى ذِكْرُهُ وَجَلَّتْ عَظَمَتُهُ ، إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ ، فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ ، وَأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا - صلى الله عليه وسلم - عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَطُّ ، وَمَنْ بَقِيَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ .
وتلك حقيقة كان يعلنها الصحابة وقادة المسلمين في غزواتهم .
وقال ربعي بن عامر لما سأله رستم أمير جيوش الفرس : ما جاء بكم ؟ فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله .
ولما بلغ عقبة بن نافع طنجة أوطأ فرسه الماء ، حتى بلغ الماء صدرها ، ثم قال : اللهم اشهد أني قد بلغت المجهود ، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بك ، حتى لا يعبد أحدٌ من دونك .
2- رد اعتداء المعتدين على المسلمين .
وقد أجمع العلماء على أن رد اعتداء الكفار على المسلمين فرض عين على القادر عليه . قال الله تعالى : (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) البقرة /190 . وقال تعالى : ( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) التوبة/13 .
3- إزالة الفتنة عن الناس .
والفتنة أنواع :(1/309)
الأول : ما يمارسه الكفار من أشكال التعذيب والتضييق على المسلمين ليرتدوا عن دينهم . وقد ندب الله تعالى المسلمين للجهاد لإنقاذ المستضعفين ، قال تعالى : ( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ) النساء /75 .
الثاني : فتنة الكفار أنفسهم وصدهم عن استماع الحق وقبوله ، وذلك لأن الأنظمة الكفرية تفسد فطر الناس وعقولهم ، وتربيهم على العبودية لغير الله ، وإدمان الخمر ، والتمرغ في وحل الجنس ، والتحلل من الأخلاق الفاضلة ، ومن كان كذلك قَلَّ أن يعرف الحق من الباطل ، والخير من الشر ، والمعروف من المنكر . فشرع الجهاد لإزالة تلك العوائق التي تعوق الناس عن سماع الحق وقبوله والتعرف عليه .
4- حماية الدولة الإسلامية من شر الكفار .
ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل رؤوس الكفر الذي كانوا يألبون الأعداء على المسلمين ، ككعب بن الأشرف ، وابن أبي الحقيق اليهوديين . ومن ذلك : الأمر بحفظ الثغور (الحدود) من الكفار ، وقد رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فقال : ( رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا ) البخاري (2678) .
5- إرهاب الكفار وإذلالهم وإخزاؤهم .
قال تعالى : ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة /14-15 . وقال : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) الأنفال /60 .
ولذلك شرع في القتال ما يسبب الرعب في قلوب الأعداء .
سئل شيخ الإسلام رحمه الله هل يجوز للجندي أن يلبس شيئا من الحرير والذهب والفضة في القتال أو وقت يصل رسل العدو إلي المسلمين ؟(1/310)
فأجاب : الحمد لله ، أما لباس الحرير لإرهاب العدو ففيه للعلماء قولان أظهرهما أن ذلك جائز ، فإن جند الشام كتبوا إلى عمر بن الخطاب إنا إذا لقينا العدو ورأيناهم قد كَفَّرُوا أي غطوا أسلحتهم بالحرير وجدنا لذلك رعبا في قلوبنا ، فكتب إليهم عمر : وأنتم فَكَفِّرُوا أسلحتكم كما يكفرون أسحلتهم . ولأن لبس الحرير فيه خيلاء ، والله يحب الخيلاء حال القتال ، كما في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( إن من الخيلاء ما يحبه الله ، ومن الخيلاء ما يبغضه الله ، فأما الخيلاء التي يحبها الله ، فاختيال الرجل عند الحرب ، وأما الخيلاء التي يبغضها الله فالخيلاء في البغي والفخر ) . ولما كان يوم أحد اختال أبو دجانة الأنصاري بين الصفين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن اهـ . مجموع الفتاوى 28/17 .
6- كشف المنافقين .
قال الله تعالى : ( فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ ) محمد/20 .
فإن المسلمين في حال الرخاء والسعة ، قد ينضم إليهم غيرهم ممن يطمعون في تحقيق مكاسب مادية ، ولا يريدون رفع كلمة الله على كلمة الكفر ، وهؤلاء قد يخفى أمرهم على كثير من المسلمين ، وأكبر كاشف لهم هو الجهاد ، لأن في الجهاد بذلا لروح الإنسان وهو ما نافق إلا ليحفظ روحه . وكان كشف المنافقين إحدى الحكم الجليلة التي أرادها الله عز وجل مما حصل للمؤمنين يوم أحد .
قال الله تعالى : ( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ ) آل عمران/179 . قال ابن القيم : أي ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين ، حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق ، كما ميزهم بالمحنة يوم أحد ، وما كان الله ليطلعكم على الغيب الذي يميز به بين هؤلاء وهؤلاء ، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه ، وهو سبحانه يريد أن يميزهم تمييزا مشهودا ، فيقع معلومُه الذي هو غيبٌ شهادةً اهـ .
7- تمحيص المؤمنين من ذنوبهم .(1/311)
أي : تنقيتهم من ذنوبهم ، وتخليصهم منها . قال الله تعالى : ( وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) آل عمران/140-142 .
8- الحصول على الغنائم .
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ ، لا شَرِيكَ لَهُ ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ) أحمد (4869) . صحيح الجامع (2831) .
قال الحافظ : وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى حِلِّ الْغَنَائِمِ لِهَذِهِ الأُمَّةِ ، وَإِلَى أَنَّ رِزْقَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - جُعِلَ فِيهَا لا فِي غَيْرِهَا مِنْ الْمَكَاسِبِ ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّهَا أَفْضَلُ الْمَكَاسِبِ"
وقال القرطبي : فجعل الله رزق نبيه - صلى الله عليه وسلم - في كسبه لفضله ، وخصه بأفضل أنواع الكسب ، وهو أخذ الغلبة والقهر لشرفه اهـ .
وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر لملاقاة قافلة أبي سفيان .
قال القرطبي : ودل خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلقى العير على جواز النفير للغنيمة لأنها كسب حلال وهو يرد ما كره مالك من ذلك إذ قال ذلك قتال على الدنيا اهـ .
وقال الشوكاني : ( قال ابن أبي جمرة : ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما ينضاف إليه ) اهـ .
9- اتخاذ شهداء .
قال الله تعالى : ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) آل عمران/140-141 .
( فالشهادة عند الله من أعلى مراتب أوليائه ، والشهداء هم خواصه والمقربون من عباده ، وليس بعد درجة الصديقية إلا الشهادة ، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء ، تراق دماؤهم في محبته ومرضاته ، ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم ، ولا سبيل إلى نيل(1/312)
هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو) اهـ . قاله ابن القيم في "زاد المعاد" .
فأين هذه الحكمة العظيمة الجليلة من هؤلاء الذين ينفرون المسلمين من الجهاد ، ويخوفونهم منه ، ويصورون الجهاد على أنه موت ، وترمل للنساء ، ويتم للأطفال ؟!
10- إخلاء العالم من الفساد
قال الله تعالى : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) الحج/40 .
وقال : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) البقرة /251 .
قال مقاتل : لولا دفع الله المشركين بالمسلمين ، لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المسلمين ، وخربوا المساجد اهـ
قال شيخ الإسلام في الجواب الصحيح : 2/216 : فيدفع بالمؤمنين الكفار ، ويدفع شر الطائفتين بخيرهما ، كما دفع المجوس بالروم النصارى ، ثم دفع النصارى بالمؤمنين أمة محمد اهـ .
وقال السعدي : لفسدت الأرض باستيلاء الكفرة والفجار ، وأهل الشر والفساد اهـ .
هذه بعض الحكم الجليلة من مشروعية الجهاد . نسأل الله تعالى أن يرد المسلمين إلى دينهم رداًّ جميلاً . وصلى الله وسلم على نبينا محمد . (1)
: " إن هناك مبررا ذاتيا في طبيعة هذا الدين ذاته وفي إعلانه العام ، وفي منهجه الواقعي لمقابلة الواقع البشري بوسائل مكافئة لكل جوانبه ، في مراحل محددة ، بوسائل متجددة .. وهذا المبرر الذاتي قائم ابتداء - ولو لم يوجد خطر الاعتداء على الأرض الإسلامية وعلى المسلمين فيها - إنه مبرر في طبيعة المنهج وواقعيته ، وطبيعة المعوقات الفعلية في المجتمعات البشرية .. لا من مجرد ملابسات دفاعية محدودة ، وموقوتة!
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (1 / 3428) -سؤال رقم 34647- الحكمة من مشروعية الجهاد(1/313)
وإنه ليكفي أن يخرج المسلم مجاهدا بنفسه وماله .. «فِي سَبِيلِ اللَّهِ». في سبيل هذه القيم التي لا يناله هو من ورائها مغنم ذاتي ولا يخرجه لها مغنم ذاتي ..
إن المسلم قبل أن يتطلق للجهاد في المعركة يكون قد خاض معركة الجهاد الأكبر في نفسه مع الشيطان .. مع هواه وشهواته .. مع مطامعه ورغباته .. مع مصالحه ومصالح عشيرته وقومه .. مع كل شارة غير شارة الإسلام .. ومع كل دافع إلا العبودية للّه ، وتحقيق سلطانه في الأرض وطرد سلطان الطواغيت المغتصبين لسلطان اللّه ..
والذين يبحثون عن مبررات للجهاد الإسلامي في حماية «الوطن الإسلامي» يغضون من شأن «المنهج» ويعتبرونه أقل من «الموطن»!
وهذه ليست نظرة الإسلام إلى هذه الاعتبارات .. إنها نظرة مستحدثة غريبة على الحس الإسلامي ، فالعقيدة والمنهج الذي تتمثل فيه والمجتمع الذي يسود فيه هذا المنهج هي الاعتبارات الوحيدة في الحس الإسلامي. أما الأرض - بذاتها - فلا اعتبار لها ولا وزن! وكل قيمة للأرض في التصور الإسلامي إنما هي مستمدة من سيادة منهج اللّه وسلطانه فيها. وبهذا تكون محضن العقيدة وحقل المنهج و«دار الإسلام» ونقطة الانطلاق لتحرير «الإنسان» ..
وحقيقة أن حماية «دار الإسلام» حماية للعقيدة والمنهج والمجتمع الذي يسود فيه المنهج. ولكنها هي ليست الهدف النهائي. وليست حمايتها هي الغاية الأخيرة لحركة الجهاد الإسلامي. إنما حمايتها هي الوسيلة لقيام مملكة اللّه فيها. ثم لاتخاذها قاعدة انطلاق إلى الأرض كلها ، وإلى النوع الإنساني بجملته. فالنوع الإنساني هو موضوع هذا الدين ، والأرض هي مجاله الكبير! وكما أسلفنا فإن الانطلاق بالمنهج الإلهي تقوم في وجهه عقبات مادية من سلطة الدولة ، ونظام المجتمع ، وأوضاع البيئة .. وهذه كلها هي التي ينطلق الإسلام ليحطمها بالقوة. كي يخلو له وجه الأفراد من الناس ، يخاطب ضمائرهم وأفكارهم ، بعد أن يحررها من الأغلال المادية ويترك لها بعد ذلك حرية الاختيار ..
يجب ألا تخدعنا أو تفزعنا حملات المستشرقين على مبدأ «الجهاد» ، وألا يثقل على عاتقنا ضغط الواقع وثقله في ميزان القوى العالمية ، فنروح نبحث للجهاد الإسلامي عن مبررات(1/314)
أدبية خارجة عن طبيعة هذا الدين ، في ملابسات دفاعية وقتية ، كان الجهاد سينطلق في طريقه سواء وجدت هذه الملابسات أم لم توجد! ويجب ونحن نستعرض الواقع التاريخي ألا نغفل عن الاعتبارات الذاتية في طبيعة هذا الدين وإعلانه العام ومنهجه الواقعي .. وألا نخلط بينها وبين المقتضيات الدفاعية الوقتية ..
حقا إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له. لأن مجرد وجوده ، في صورة إعلان عام لربوبية اللّه للعالمين ، وتحرير الإنسان من العبودية لغير اللّه ، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية ، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية ، لأن الحاكمية فيه للّه وحده .. إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله ، القائمة على قاعدة العبودية للعباد ، أن تحاول سحقه ، دفاعا عن وجودها ذاته. ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفاع عن نفسه ..
هذه ملابسة لا بد منها. تولد مع ميلاد الإسلام ذاته. وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضا ، ولا خيار له في خوضها. وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلا ..
هذا كله حق .. ووفق هذه النظرة يكون لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده. ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضا ..
ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة .. إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء لإنقاذ «الإنسان» في «الأرض» من العبودية لغير اللّه. ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية تاركا «الإنسان» .. نوع الإنسان .. في «الأرض» ..كل الأرض .. للشر والفساد والعبودية لغير اللّه.
إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام ، إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية ورضي أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحريري العام! .. ولكن الإسلام لا يهادنها ، إلا أن(1/315)
تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية ، ضمانا لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها.
هذه طبيعة هذا الدين ، وهذه وظيفته بحكم أنه إعلان عام لربوبية اللّه للعالمين وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير اللّه في الناس أجمعين! وفرق بين تصور الإسلام على هذه الطبيعة ، وتصوره قابعا داخل حدود إقليمية أو عنصرية ، لا يحركه إلا خوف الاعتداء! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرراته الذاتية في الانطلاق! إن مبررات الانطلاق الإسلامي تبرز بوضوح وعمق عند تذكر أن هذا الدين هو منهج اللّه للحياة البشرية ، وليس منهج إنسان ، ولا مذهب شيعة من الناس ، ولا نظام جنس من الأجناس! .. ونحن لا نبحث عن مبررات خارجية إلا حين تفتر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة .. حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية اللّه وعبودية العباد .. إنه لا يمكن أن يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرر آخر للجهاد الإسلامي! والمسافة قد لا تبدو كبيرة عند مفرق الطريق ، بين تصور أن الإسلام كان مضطرا لخوض معركة لا اختيار له فيها ، بحكم وجوده الذاتي ووجود المجتمعات الجاهلية الأخرى التي لا بد أن تهاجمه. وتصور أنه هو بذاته لا بد أن يتحرك ابتداء ، فيدخل في هذه المعركة ..المسافة عند مفرق الطريق قد لا تبدو كبيرة. فهو في كلتا الحالتين سيدخل المعركة حتما. ولكنها في نهاية الطريق تبدو هائلة شاسعة ، تغير المشاعر والمفهومات الإسلامية تغييرا كبيرا .. خطيرا ..
إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام منهجا إلهيا ، جاء ليقرر ألوهية اللّه في الأرض ، وعبودية البشر جميعا لإله واحد ، ويصب هذا التقرير في قالب واقعي ، هو المجتمع الإنساني الذي يتحرر فيه الناس من العبودية للعباد ، بالعبودية لرب العباد ، فلا تحكمهم إلا شريعة اللّه ، التي يتمثل فيها سلطان اللّه ، أو بتعبير آخر تتمثل فيها ألوهيته .. فمن حقه إذن أن يزيل العقبات كلها من طريقه ، ليخاطب وجدان الأفراد وعقولهم دون حواجز ولا موانع مصطنعة من نظام الدولة السياسي ، أو أوضاع الناس الاجتماعية .. إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام على هذا النحو ، واعتباره نظاما محليا في وطن بعينه. فمن حقه فقط أن يدفع الهجوم عليه في داخل حدوده الإقليمية! هذا تصور .. وذاك(1/316)
تصور .. ولو أن الإسلام في كلتا الحالتين سيجاهد .. ولكن التصور الكلي لبواعث هذا الجهاد وأهدافه ونتائجه ، يختلف اختلافا بعيدا ، يدخل في صميم الاعتقاد كما يدخل في صميم الخطة والاتجاه.
إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء. فالإسلام ليس نحلة قوم ، ولا نظام وطن ، ولكنه منهج إله ، ونظام عالم .. ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والأوضاع التي تغل من حرية «الإنسان» في الاختيار.
وحسبه أنه لا يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته. إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من التأثيرات الفاسدة ، المفسدة للفطرة ، المقيدة لحرية الاختيار.
من حق الإسلام أن يخرج «الناس» من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده .. ليحقق إعلانه العام بربوبية اللّه للعالمين ، وتحرير الناس أجمعين .. وعبادة اللّه وحده لا تتحقق - في التصور الإسلامي وفي الواقع العملي - إلا في ظل النظام الإسلامي. فهو وحده النظام الذي يشرع اللّه فيه للعباد كلهم. حاكمهم ومحكومهم.
أسودهم وأبيضهم. قاصيهم ودانيهم. فقيرهم وغنيهم تشريعا واحدا يخضع له الجميع على السواء .. أما في سائر الأنظمة ، فيعبد الناس العباد ، لأنهم يتلقون التشريع لحياتهم من العباد. وهو من خصائص الألوهية.
فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه فقد ادعى الألوهية اختصاصا وعملا ، سواء ادعاها قولا أم لم يعلن هذا الادعاء! وأيما بشر آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق الألوهية ، سواء سماها باسمها أم لم يسمها! والإسلام ليس مجرد عقيدة. حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان. إنما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس. والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو.
ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرر العام. وهذا - كما قلنا من قبل - معنى أن يكون الدين كله للّه. فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته ، كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقوم على عبودية العباد للعباد! إن(1/317)
الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر ، وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر ، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة. لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة. والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيدا أن هذه ليست هي الحقيقة. ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة .. ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام ، بنفي هذا الاتهام! فيلجأون إلى تلمس المبررات الدفاعية! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته ، وحقه في «تحرير الإنسان» ابتداء.
وقد غشى على أفكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة «الدين» .. وأنه مجرد «عقيدة» في الضمير لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة .. ومن ثم يكون الجهاد للدين ، جهادا لفرض العقيدة على الضمير! ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام. فالإسلام منهج اللّه للحياة البشرية. وهو منهج يقوم على إفراد اللّه وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية! فالجهاد له جهاد لتقرير المنهج وإقامة النظام. أما العقيدة فأمرها موكول إلى حرية الاقتناع ، في ظل النظام العام ، بعد رفع جميع المؤثرات .. ومن ثم يختلف الأمر من أساسه ، وتصبح له صورة جديدة كاملة.
وحيثما وجد التجمع الإسلامي ، الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي ، فإن اللّه يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام. مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان .. فإذا كف اللّه أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد ، فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ. مسألة مقتضيات حركة لا مسألة مقررات عقيدة. وعلى هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة ، في المراحل التاريخية المتجددة. ولا نخلط بين دلالالتها المرحلية ، والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الثابت الطويل." (1)
وقال أيضاً: " هذه حدود الجهاد في سبيل اللّه في كل زمان ، لا في ذلك الزمان .. ومع أن النصوص المتعلقة بالجهاد في هذه السورة ، وبقوانين الحرب والسلام ، ليست هي
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1440)(1/318)
النصوص النهائية ، فقد نزلت النصوص الأخيرة في هذا الباب في سورة براءة التي نزلت في السنة التاسعة ومع أن الإسلام - كما قلنا في تقديم السورة - حركة إيجابية تواجه الواقع البشري بوسائل مكافئة ، وأنه حركة ذات مراحل ، كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية ..ومع هذا فإن قوله تعالى : «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» ..يقرر حكما دائما للحركة الإسلامية في مواجهة الواقع الجاهلي الدائم ..ولقد جاء الإسلام - كما سبق في التعريف بالسورة - ليكون إعلانا عاما لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضا وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية اللّه وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين .. وأن معنى هذا الإعلان : الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها ، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض ، الحكم فيه للبشر في صورة من الصور ... إلخ .
ولا بد لتحقيق هذا الهدف الضخم من أمرين أساسيين :
أولهما : دفع الأذى والفتنة عمن يعتنقون هذا الدين ، ويعلنون تحررهم من حاكمية الإنسان ، ويرجعون بعبوديتهم للّه وحده ، ويخرجون من العبودية للعبيد في جميع الصور والأشكال .. وهذا لا يتم إلا بوجود عصبة مؤمنة ذات تجمع حركي تحت قيادة تؤمن بهذا الإعلان العام ، وتنفذه في عالم الواقع ، وتجاهد كل طاغوت يعتدي بالأذى والفتنة على معتنقي هذا الدين ، أو يصد بالقوة وبوسائل الضغط والقهر والتوجيه من يريدون اعتناقه ..
وثانيهما : تحطيم كل قوة في الأرض تقوم على أساس عبودية البشر للبشر - في صورة من الصور - وذلك لضمان الهدف الأول ، ولإعلان ألوهية اللّه وحدها في الأرض كلها ، بحيث لا تكون هناك دينونة إلا للّه وحده - فالدين هنا بمعنى الدينونة لسلطان اللّه - وليس هو مجرد الاعتقاد ..
ولا بد هنا من بيان الشبهة التي قد تحيك في الصدور من هذا القول ، على حين أن اللّه سبحانه يقول : «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» ..(1/319)
ومع أن فيما سبق تقريره عن طبيعة الجهاد في الإسلام - وبخاصة فيما اقتطفناه من كتاب : «الجهاد في سبيل اللّه» للأستاذ أبي الأعلى المودودي ، ما يكفي للبيان الواضح .. إلا أننا نزيد الأمر إيضاحا ، وذلك لكثرة ما لبس الملبسون ومكر الماكرون من أعداء هذا الدين! إن الذي يعنيه هذا النص : «ويكون الدين كله للّه» .. هو إزالة الحواجز المادية ، المتمثلة في سلطان الطواغيت ، وفي الأوضاع القاهرة للأفراد ، فلا يكون هناك - حينئذ - سلطان في الأرض لغير اللّه ، ولا يدين العباد يومئذ لسلطان قاهر إلا سلطان اللّه .. فإذا أزيلت هذه الحواجز المادية ترك الناس أفرادا يختارون عقيدتهم أحرارا من كل ضغط. على ألا تتمثل العقيدة المخالفة للإسلام في تجمع له قوة مادية يضغط بها على الآخرين ، ويحول بها دون اهتداء من يرغبون في الهدى ، ويفتن بها الذين يتحررون فعلا من كل سلطان إلا سلطان اللّه .. إن الناس أحرار في اختيار عقيدتهم ، على أن يعتنقوا هذه العقيدة أفرادا ، فلا يكونون سلطة قاهرة يدين لها العباد. فالعباد لا يدينون إلا لسلطان رب العباد.
ولن تنال البشرية الكرامة التي وهبها لها اللّه ، ولن يتحرر «الإنسان» في «الأرض» ، إلا حين يكون الدين كله للّه ، فلا تكون هنالك دينونة لسلطان سواه. ولهذه الغاية الكبرى تقاتل العصبة المؤمنة : «حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» .. فمن قبل هذا المبدأ وأعلن استسلامه له ، قبل منه المسلمون إعلانه هذا واستسلامه ، ولم يفتشوا عن نيته وما يخفي صدره ، وتركوا هذا للّه :
«فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» .. ومن تولى وأصر على مقاومة سلطان اللّه قاتله المسلمون معتمدين على نصرة اللّه : «وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ. نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» ..
هذه تكاليف هذا الدين وهذه هي جديته وواقعيته وإيجابيته وهو يتحرك لتحقيق ذاته في عالم الواقع ولتقرير ألوهية اللّه وحده في دنيا الناس ..إن هذا الدين ليس نظرية يتعلمها الناس في كتاب للترف الذهني والتكاثر بالعلم والمعرفة! وليس كذلك عقيدة سلبية يعيش بها الناس بينهم وبين ربهم وكفى! كما أنه ليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها الناس لربهم فيما(1/320)
بينهم وبينه! إن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان .. وهو منهج حركي واقعي ، يواجه واقع الناس بوسائل مكافئة ..يواجه حواجز الإدراك والرؤية بالتبليغ والبيان .. ويواجه حواجز الأوضاع والسلطة بالجهاد المادي لتحطيم سلطان الطواغيت وتقرير سلطان اللّه .. والحركة بهذا الدين حركة في واقع بشري. والصراع بينه وبين الجاهلية ليس مجرد صراع نظري يقابل بنظرية! إن الجاهلية تتمثل في مجتمع ووضع وسلطة ، ولا بد - كي يقابلها هذا الدين بوسائل مكافئة - أن يتمثل في مجتمع ووضع وسلطة. ولا بد بعد ذلك أن يجاهد ليكون الدين كله للّه ، فلا تكون هناك دينونة لسواه.هذا هو المنهج الواقعي الحركي الإيجابي لهذا الدين .. لا ما يقوله المهزومون والمخدوعون .. ولو كانوا من المخلصين الطيبين الذين يريدون أن يكونوا من «المسلمين» ، ولكن تغيم في عقولهم وفي قلوبهم صورة هذا الدين! .. والحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه .. " (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1508)(1/321)
فضل عبد الله بن مسعود
48- عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ ، قَالَ : قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ ، فَقَالَ : يَا أَهْلَ الْيَمَنِ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا , إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْكُمْ فَوَقَعَتْ لَهُ فِي قَلْبِي مَحَبَّةٌ ، فَلَمْ أُفَارِقْهُ حَتَّى مَاتَ , فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بَكَيْتُ , فَقَالَ لِي : مَا يُبْكِيكَ ؟ فَقُلْتُ : أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ أَبْكِي إِنَّمَا أَبْكِي عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي يَذْهَبُ مَعَكَ ، قَالَ : إِنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ ثَابِتَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَالْتَمِسِ الْعِلْمَ عِنْدَ أَرْبَعَةٍ , عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ فَإِنَّهُ عَاشِرُ عَشْرَةٍ فِي الْجَنَّةِ , وَسَلْمَانَ الْخَيْرِ ، وَعُوَيْمِرٍ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، فَلَحِقْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَأَمَرَنِي بِمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ صَلِّ الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا وَاجْعَلْ صَلاَتَهُمْ تَسْبِيحًا فَذَكَرْتُ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ فَضَرَبَ عَلَى فَخِذِي وَقَالَ : وَيْحَكَ إِنَّ الْجَمَاعَةَ مَا وَافَقَ طَاعَةَ اللَّهِ " (1)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ , قَالَ : قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَوَقَعَ حُبُّهُ فِي قَلْبِي , فَلَزِمْتُهُ حَتَّى وَارَيْتُهُ فِي التُّرَابِ بِالشَّامِ , ثُمَّ لَزِمْتُ أَفْقَهَ النَّاسِ بَعْدَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ , فَذُكِرَ يَوْمًا عِنْدَهُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا , فَقَالَ : " صَلُّوهَا فِي بُيُوتِكُمْ , وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً " . قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ : " فَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : " وَكَيْفَ لَنَا بِالْجَمَاعَةِ ؟ " فَقَالَ لِي : " يَا عَمْرُو بْنَ مَيْمُونٍ , إِنَّ جُمْهُورَ الْجَمَاعَةِ هِيَ الَّتِي تُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ , إِنَّمَا الْجَمَاعَةُ مَا وَافَقَ طَاعَةَ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتَ وَحْدَكَ " (2)
وعَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: ذَكْرَنَا عَبْدَ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بن عَمْرٍو، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن عَمْرٍو: أَنَّ ذَلِكَ رَجُلٌ لا أَزَالُ أُحِبُّهُ بَعْدَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:"اقْرَءُوا الْقُرْآَنَ مِنْ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ، مِنَ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ"، فَبَدَأَ بِهِ،"وَمِنْ أُبَيِّ بن كَعْبٍ، وَمِنْ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَمِنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ". (3)
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 138) (220) وأخرجه ابن عساكر (46/410) حسن
(2) - شَرْحُ أُصُولِ الاعْتِقَادِ(139 ) حسن
(3) -المعجم الكبير للطبراني - (7 / 451) (8328 -8330 ) صحيح(1/322)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، فَمَرُّوا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ، سَلْ تُعْطَهْ"، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: فَاسْتَبَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ فَمَا اسْتَبَقْنَا إِلَى خَيْرٍ إِلا سَبَقَنِي إِلَيْهِ فَبَشَّرَهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لا أَدْرِي إِلا أَنَّ مِنْ دُعَائِي الَّذِي لا أَكَادُ أَنْ أَدَعَهُ فِي صَلاتِي: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ نَعِيمًا لا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لا تَبِيدُ، وَمُرَافَقَةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَعْلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ دَعَاهُمْ فَخَرَجُوا مِنْ مَنْزِلِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ قَائِمٌ يُصَلِّي وَيَقْرَأُ، ثُمَّ جَلَسَ فَتَشَهَّدَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ كَأَحْسَنِ مَا يُثْنِي رَجُلٌ، وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ ابْتَهَلَ بِالدُّعَاءِ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:"سَلْ تُعْطَهْ"، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَنْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بن أُمِّ عَبْدٍ، فَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآَنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ كَمَا قَرَأَ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ"فَابْتَدَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فَسَبَقَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَذَكَرَ عُمَرُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ سَبَقَهُ، قَالَ عُمَرُ: وَكَانَ سَبَّاقًا بِالْخَيْرَاتِ.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ فَتَعَشَّوْا عِنْدَهُ، فَلَمَّا فَرَغُوا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآَنَ غَضًّا كَمَا أَنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ عَلَى قِرَاءَةٍ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ".
وعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا الَّذِي كُنْتَ دَعَوْتَ بِهِ لَيْلَةَ، قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"سَلْ تُعْطَهْ"، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لا يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا لا يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَعْلَى دَرَجَةِ الْخُلْدِ.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتَاهُ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ يُصَلِّي، وَافْتَتَحَ النِّسَاءَ فَسَجَلَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآَنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ قِرَاءَةَ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ"، ثُمَّ قَعَدَ، ثُمَّ سَأَلَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ:"سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ"، فَقَالَ: فِيمَا سَأَلَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لا يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا لا يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ نَبِيِّكَ - صلى الله عليه وسلم - فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ(1/323)
فَأَتَى عُمَرُ عَبْدَ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ يُبَشِّرُهُ فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ خَارِجًا، وَقَدْ سَبَقَهُ، فَقَالَ:"إِنْ فَعَلْتَ لَقَدْ كُنْتَ سَبَّاقًا بِالْخَيْرَاتِ".
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ مَرَّ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَدْعُو، خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فَلَمَّا حَاذَا بِهِ يَسْمَعُ دُعَاءَهُ وَهُوَ لا يَعْرِفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"سَلْ تُعْطَهْ"، فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: الدُّعَاءُ الَّذِي دَعَوْتَ بِهِ مَا هُوَ؟ قَالَ: حَمِدْتُ اللَّهَ وَمَجَّدْتُهُ، ثُمَّ، قَالَ: اللَّهُمَّ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ وَعْدُكَ حَقٌّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَرُسُلُكَ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حَقٌّ.
وعَنْ عَوْنِ بن عَبْدِ اللَّهِ بن عُتْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَيْنَمَا ابْنُ مَسْعُودٍ فِي الْمَسْجِدِ يَدْعُو بِدُعَاءٍ مَرَّ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا حَاذَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ دُعَاءَهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لا يَعْرِفُهُ، فَقَالَ:"مَنْ هَذَا سَلْ تُعْطَهْ"، فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: الدُّعَاءُ الَّذِي كُنْتَ تَدْعُو بِهِ؟ قَالَ:"حَمِدْتُ اللَّهَ وَمَجَّدْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ: اللَّهُمَّ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، وَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَكِتَابُكَ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَرُسُلُكَ حَقٌّ".
وعَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَقَالَ: إِنِّي جِئْتُكَ مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ يُمْلِي الْمَصَاحِفَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، قَالَ: فَفَزِعَ عُمَرُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ انْظُرْ مَا تَقُولُ وَغَضِبَ، فَقَالَ: مَا جِئْتُكَ إِلا بِالْحَقِّ، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ، قَالَ: مَا أَعْلَمْ أَحَدًا أَحَقٌّ بِذَلِكَ مِنْهُ، وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّا سَمَرْنَا لَيْلَةً فِي بَيْتٍ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي بَعْضِ مَا يَكُونُ مِنْ حَاجَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ خَرَجْنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْشِي بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ إِذَا رَجُلٌ يَقْرَأُ فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَمِعُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَعْتَمْتَ، فَغَمَزَنِي بِيَدِهِ اسْكُتْ، قَالَ: فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ وَجَلَسَ يَدْعُو وَيَسْتَغْفِرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"سَلْ تُعْطَهْ"، ثُمَّ، قَالَ:"مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآَنَ رَطْبًا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ قِرَاءَةَ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ"فَعَلِمْتُ أَنَا وَصَاحِبِي أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، فَلَمَّا(1/324)
أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَيْهِ لأُبَشِّرَهُ، فَقَالَ: سَبَقَكَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ، وَمَا سَابَقْتُهُ إِلَى خَيْرٍ إِلا سَبَقَنِي إِلَيْهِ.
وعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآَنَ غَضًّا فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ".
وعَنْ قَيْسِ بن مَرْوَانَ، قَالا: أَتَى رَجُلٌ عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ تَرَكْتُ بِالْعِرَاقِ رَجُلا يُمْلِي الْمَصَاحِفَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، فَغَضِبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اعْلَمْ مَا تَقُولُهُ مِرَارًا، فَقَالَ: مَا أُنَبِّئُكَ إِلا بِالْحَقِّ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: ابن أُمِّ عَبْدٍ، قَالَ: فَسَكَنَ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ، ثُمَّ قَالَ: مَا أَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَمَرَ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ لِبَعْضِ حَاجَةٍ حَتَّى أَعْتَمَ، ثُمَّ رَجَعَ بَيْنِي، وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، إِذَا رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يُصَلِّي، فَقَامَ يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ مَا أَدْرِي أَنَا وَصَاحِبِي مَنْ هُوَ؟ قَالَ: فَلَمَّا قَامَ سَاعَةً قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يُصَلِّي لَوْ رَجَعْتَ وَقَدْ أَعْتَمْتَ، قَالَ فَغَمَزَنِي وَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ، قَالَ: فَرَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ قَعَدَ يَدْعُو فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:"سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ وَلا أَدْرِي أَنَا وَصَاحِبِي مَنْ هُوَ حَتَّى سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ:"مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآَنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ كَمَا يَقْرَأُ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ"، قَالَ: فَذَلِكَ حِينَ عَلِمْتُ أَنَا وَصَاحِبِي مَنْ هُوَ، قَالَ: فَغَدَوْتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ لأُبَشِّرَهُ، فَقَالَ قَدْ سَبَقَكَ أَبُو بَكْرٍ، وَايْمُ اللَّهِ مَا سَابَقْتُ أَبَا بَكْرٍ إِلَى خَيْرٍ إِلا سَبَقَنِي.
وعَنْ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا مَعَهُ وَأَبُو بَكْرٍ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَقْرَأُ، فَقَامَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ، ثُمَّ رَكَعَ عَبْدُ اللَّهِ وَسَجَدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآَنَ كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ مِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ"، قَالَ: فَأَدْلَجْتُ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ لأُبَشِّرَهُ بِمَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا ضَرَبْتُ الْبَابَ سَمِعَ صَوْتِي، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ فَقُلْتُ: جِئْتُ أُبَشِّرُكَ بِمَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , قَالَ: سَبَقَكَ أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ: أَنْ يَفْعَلْ فَإِنَّهُ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ، مَا اسْتَبَقْنَا إِلَى خَيْرٍ قَطُّ إِلا سَبَقَنِي إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ.(1/325)
وعَنْ زَيْدِ بن وَهْبٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بن الْخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَرَكْتُ بِالْكُوفَةِ رَجُلا يُمْلِي الْمَصَاحِفَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لِلَّهِ أَبُوكَ، وَمَنْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآَنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ". (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَاهْدُوا هَدْيَ عَمَّارٍ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ عَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ". (2)
وعَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: خَطَبَنَا عَبْدُ اللَّهِ حِينَ شُقَّتِ الْمَصَاحِفُ وَالْمَسْجِدُ مُمْتَلِئٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ:"لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهُ"، قَالَ شَقِيقٌ: ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّهُ اسْتَحْيَى مِمَّا قَالَ، فَقَالَ:"وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ، وَلَوْ أعْلَمُ رَجُلا أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهُ مِنِّي تَبْلُغُهُ الإِبِلُ لأَتَيْتُهُ"، قَالَ شَقِيقٌ: فَمَا فَرَغَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ خُطْبَتِهِ قَعَدْتُ فِي الْحِلَقِ لأَسْمَعَ مَا يَقُولُونَ فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا مُنْكَرًا عَلَى ذَلِكَ.
وعَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: لَمَّا أَمَرَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْمَصَاحِفِ بِمَا أَمَرَ، قَامَ عَبْدُ اللَّهِ فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: "وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [آل عمران: 161] أَلا فَغُلُّوا الْمَصَاحِفَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ تَأْمُرُنِي أَنْ أَقْرَأَهُ عَلَى قِرَاءَةِ زَيْدِ بن ثَابِتٍ، فَوَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَزَيْدُ بن ثَابِتٍ لَهُ ذُؤَابَتَانِ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، وَالَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي لأَتَيْتُهُ". (3)
قلت : السبب في استبعاده لأنه كتبه بلهجة هذيل وأضاف له تفسيرا ,وليس عنده العرضة الأخيرة.
ــــــــــــــــ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (7 / 454) (8331 -8343 ) صحيح
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (7 / 460)( 8344 ) صحيح
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (7 / 462)( 8345-8365 ) صحيح مشهور(1/326)
لا قيمة لأمة لا يقام العدل فيها
49- عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ ، قَالَ : كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَسْلَمَةَ بْنِ مُخَلَّدٍ وَهُوَ بِمِصْرَ أَنْ سَلْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ غمرو هَلْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : لاَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لاَ يُقْضَى فِيهَا بِالْحَقِّ وَيَأْخُذُ الضَّعِيفُ حَقَّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُضْطَهَدٍ فَإِنْ أَخْبَرَكَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَابْعَثْهُ عَلَى مَرْكَبِهِ مِنَ الْبَرِيدِ . فَسَأَلَهُ فَقَالَ : نَعَمْ فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْكِتَابَ فَقَدِمَ عَلَى مَرْكَبِهِ مِنَ الْبَرِيدِ وَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُهُ , فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : وَأَنَا سَمِعْتُ كَمَا سَمِعْتَ " (1)
وعَنْ رَبِيعَةَ بن يَزِيدَ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى مَسْلَمَةَ بن مَخْلَدٍ، أَنْ سَلْ عَبْدَ اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ، هَلْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ:"لا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لا يَأْخُذُ ضَعِيفُهَا حَقَّهُ مِنْ قَوِيِّهَا وَهُوَ غَيْرُ مُضْطَهَدٍ"، فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، فَاحْمِلْهُ إِلَيَّ عَلَى الْبَرِيدِ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: نَعَمْ، فَحَمَلَهُ عَلَى الْبَرِيدِ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، فَسَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَأَنَا قَدْ سَمِعْتُهُ، وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَثَّبَتَ ." (2)
وعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْحَبَشَةِ ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَا أَعْجَبُ شَيْءٍ رَأَيْتَهُ ثَمَّ ؟ " قَالَ : رَأَيْتُ امْرَأَةً عَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلٌ مِنْ طَعَامٍ ، فَمَرَّ فَارِسٌ فَأَذْرَاهُ فَقَعَدَتْ تَجْمَعُ طَعَامَهَا ، ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ لَهُ : وَيْلٌ لَكَ يَوْمَ يَضَعُ الْمَلِكُ كُرْسِيَّهُ فَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَصْدِيقًا لِقَوْلِهَا : " لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ ـ أَوْ كَيْفَ تُقَدَّسُ أُمَّةٌ ـ لَا يَأْخُذُ ضَعِيفُهَا حَقَّهُ مِنْ شَدِيدِهَا وَهُوَ غَيْرُ مُتَعْتَعٍ " (3)
وعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ لَقِيَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " أَخْبِرْنِي بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ " فَقَالَ: مَرَّتِ امْرَأَةٌ عَلَى رَأْسِهَا
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 183)(315) صحيح
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (14 / 315) (16275 ) صحيح
(3) - الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ لِلْبَيْهَقِيِّ (829 ) والْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ (5392 ) الْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ (3372 ) صحيح(1/327)
مِكْتَلٌ فِيهِ طَعَامٌ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ فَأَصَابَهَا فَرَمَى بِهَا، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا وَهِيَ تُعِيدُهُ فِي مِكْتَلِهَا وَهِيَ تَقُولُ: وَيْلٌ لَكَ يَوْمَ يَضَعُ الْمَلِكُ كُرْسِيَّهُ فَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فَقَالَ: " كَيْفَ تَقَدَّمُ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهَا مِنْ شَرِيفِهَا حَقَّهُ وَهُوَ غَيْرُ مُتَعْتَعٍ ؟ " (1)
وعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : لَمَّا رَجَعَتْ مُهَاجِرَةُ الْحَبَشَةِ ، إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : أَلاَ تُحَدِّثُونِي بِأَعْجَبَ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ : يَا رَسُولَ اللهِ ، بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ عَلَيْنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِهِمْ ، تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ، ثُمَّ دَفَعَهَا عَلَى رُكْبَتَيْهَا ، فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ ، الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَتْ : سَتَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ ، وَجَمَعَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ ، وَتَكَلَّمَتِ الأَيْدِي وَالأَرْجُلُ بِمَا كَانَا يَكْسِبُونَ ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ أَمْرِي وَأَمْرَكَ عِنْدَهُ غَدًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : صَدَقَتْ ، ثُمَّ صَدَقَتْ ، كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ قَوْمًا لاَ يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ." (2)
المكتل : الزنبيل أي السلة أو القفة الضخمة تصنع من الخوص -غير متعتع : دون أن يصيبه أذى أو ضرر - خرت : سقطت وهوت بسرعة -غدر : كلمة معدولة عن غادر وهي للمبالغة في الغدر
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَاتَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ إِلَى قَصْرِهِمْ فَغَلَبَ عَلَى الأَرْضِ وَالزَّرْعِ وَالنَّخْلِ فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يُجْلَوْا مِنْهَا وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ وَلِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يَكْتُمُوا وَلاَ يُغَيِّبُوا شَيْئًا فَإِنْ فَعَلُوا فَلاَ ذِمَّةَ لَهُمْ وَلاَ عَهْدَ فَغَيَّبُوا مَسْكًا فِيهِ مَالٌ وَحُلِىٌّ لِحُيَىِّ بْنِ أَخْطَبَ كَانَ احْتَمَلَهُ مَعَهُ إِلَى خَيْبَرَ حِينَ أُجْلِيَتِ النَّضِيرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمِّ حُيَىٍّ مَا فَعَلَ مَسْكُ حُيَىٍّ الَّذِى جَاءَ بِهِ مِنَ النَّضِيرِ فَقَالَ أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ فَقَالَ الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الزُّبَيْرِ فَمَسَّهُ
__________
(1) - شعب الإيمان - (10 / 48) (7142 ) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (11 / 443) (5058) صحيح(1/328)
بِعَذَابٍ وَقَدْ كَانَ حُيَىٌّ قَبْلَ ذَلِكَ دَخَلَ خَرِبَةً فَقَالَ قَدْ رَأَيْتُ حُيَيًّا يَطُوفُ فِى خَرِبَةٍ هَا هُنَا فَذَهَبُوا فَطَافُوا فَوَجَدُوا الْمَسْكَ فِى الْخَرِبَةِ فَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ابْنِى حُقَيْقٍ وَأَحَدُهُمَا زَوْجُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَىِّ بْنِ أَخْطَبَ وَسَبَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ وَقَسَمَ أَمْوَالَهُمْ بِالنَّكْثِ الَّذِى نَكَثُوا وَأَرَادَ أَنْ يُجْلِيَهُمْ مِنْهَا فَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ دَعْنَا نَكُونُ فِى هَذِهِ الأَرْضِ نُصْلِحُهَا وَنَقُومُ عَلَيْهَا وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ لأَصْحَابِهِ غِلْمَانٌ يَقُومُونَ عَلَيْهَا وَكَانُوا لاَ يَفْرُغُونَ أَنْ يَقُومُوا عَلَيْهَا فَأَعْطَاهُمْ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّ لَهُمُ الشَّطْرَ مِنْ كُلِّ زَرْعٍ وَنَخْلٍ وَشَىْءٍ مَا بَدَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَأْتِيهِمْ كُلَّ عَامٍ فَيَخْرُصُهَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ يُضَمِّنُهُمُ الشَّطْرَ فَشَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شِدَّةَ خَرْصِهِ وَأَرَادُوا أَنْ يَرْشُوهُ فَقَالَ يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ تُطْعِمُونِى السُّحْتَ وَاللَّهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ وَلأَنْتُمْ أَبْغَضُ إِلَىَّ مِنْ عِدَّتِكُمْ مِنَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ وَلاَ يَحْمِلُنِى بُغْضِى إِيَّاكُمْ وَحُبِّى إِيَّاهُ عَلَى أَنْ لاَ أَعْدِلَ بَيْنَكُمْ فَقَالُوا بِهَذَا قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ قَالَ وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَيْنِ صَفِيَّةَ خُضْرَةً فَقَالَ :« يَا صَفِيَّةُ مَا هَذِهِ الْخُضْرَةُ؟ ». فَقَالَتْ : كَانَ رَأْسِى فِى حَجْرِ ابْنِ حُقَيْقٍ وَأَنَا نَائِمَةٌ فَرَأَيْتُ كَأَنَّ قَمَرًا وَقَعَ فِى حَجْرِى فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَلَطَمَنِى وَقَالَ تَمَنِّينَ مَلِكَ يَثْرِبَ قَالَتْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَبْغَضِ النَّاسِ إِلَىَّ قَتَلَ زَوْجِى وَأَبِى فَمَا زَالَ يَعْتَذِرُ إِلَىَّ وَيَقُولُ إِنَّ أَبَاكِ أَلَّبَ عَلَىَّ الْعَرَبَ وَفَعَلَ وَفَعَلَ حَتَّى ذَهَبَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِى وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِى كُلَّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ ثَمَانِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ كُلَّ عَامٍ وَعِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ غَشُوا الْمُسْلِمِينَ وَأَلْقَوُا ابْنَ عُمَرَ مِنْ فَوْقِ بَيْتِ فَفَدَعُوا يَدَيْهِ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ كَانَ لَهُ سَهْمٌ مِنْ خَيْبَرَ فَلْيَحْضُرْ حَتَّى نَقْسِمَهَا بَيْنَهُمْ فَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ فَقَالَ رَئِيسُهُمْ لاَ تُخْرِجْنَا دَعْنَا نَكُونُ فِيهَا كَمَا أَقَرَّنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ لِرَئِيسِهِمْ أَتُرَاهُ سَقَطَ عَنِّى قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَيْفَ بِكَ إِذَا رَقَصَتْ بِكَ رَاحِلَتُكَ نَحْوَ الشَّامِ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا وَقَسَمَهَا عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ مَنْ كَانَ شَهِدَ خَيْبَرَ مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ." (1)
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (9 / 137) (18851) صحيح(1/329)
حقوق الإنسان بين المفهوم الوضعي والمفهوم الإسلامي
تزايد في العقدين الأخيرين الحديث عن قضية حقوق الإنسان، وأصبحت من أكثر المفاهيم استخداما في الخطاب السياسي المعاصر، ومن أكثر القضايا إثارة للجدل والنزاع بين المنظمات المدنية المدافعة عن هذه الحقوق، والأنظمة السياسية الراعية لها، وأضحت صيانة هذه الحقوق واحترامها مقياسا لتقدم وتحضر الدول ولسيادة الحق والقانون فيها، واكتسبت أهمية وحساسية بالغتين لدى الرأي العام، وتحولت بذلك إلى وسيلة ضغط من طرف الدول الكبرى على الدول المعارضة لهيمنتها وسياساتها، وكوسيلة لتصفية حسابات سياسية بين القوى المتنازعة.
وأهم ما يلفت النظر إلى هذه القضية هو ارتباط مبادئ حقوق الإنسان والدفاع عنها في عصرنا الراهن بالغرب الذي أصبح مرجعاً للحقوق الإنسانية -بالرغم من عدم تجذر هذا المفهوم في الفكر السياسي الغربي ولا في جذوره اليونانية-، مما أتاح له فرض رؤيته الخاصة لهذه الحقوق المنبثقة عن تصوره الخاص للكون والحياة والإنسان، وإقصاء رؤية وتصور حضارات أخرى.
فمفهوم حقوق الإنسان هو نموذج للمفاهيم ذات الخصوصية الحضارية التي يحاول الغرب فرض عالميتها على الشعوب الأخرى في إطار محاولته فرض هيمنته وتحقيق مصالحه القومية، وقد وُجدت نخب عربية علمانية دفعها واقعُ الاستيلاب الذي تعيشه، وعداءُها لكل ما هو ديني إلى تبني هذه الرؤية متجاهلة الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة التي تؤكد على نسبية المفهوم وحدوده الثقافية وعلى أهمية النظر في رؤية حضارات أخرى للإنسان وحقوقه انطلاقًا من الفلسفة التي تسود هذه الدراسات القائمة على وجود تباين وتعددية في الثقافات وخصوصيات حضارية لكل منطقة، ومتجاهلة أيضا واقع الغرب اليوم الذي يعاني من إفلاس نموذجه الاقتصادي الذي قُدم للبشرية على أنه نهاية تاريخ تطور النماذج الاقتصادية، ومتجاهلة أيضا الواقع الأخلاقي للغرب الذي يمارس أبشع الجرائم في التاريخ في حق شعوب العالم الإسلامي والعربي أو يتواطؤ مع مقترفيها، ولا يرى في حقوق الإنسان سوى وسيلة من بين وسائل أخرى عديدة لتحقيق مصالحه السياسية والاقتصادية.(1/330)
إن مفهوم حقوق الإنسان كمصطلح لم يتم تداوله في الفكر السياسي الغربي إلا في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي، حيث صدرت في إنجلترا سنة 1215م وثيقة الحقوق والحريات نتيجة ثورات طبقية وشعبية في أوروبا، تلتها وثائق أخرى كقانون إعلان الحقوق الذي أصدره الملك شارل الأول سنة 1627م، وقانون تحرير الجسد الذي أصدره الملك جان الثاني سنة 1679م، وإعلان فيرجينيا الصادر عام 1776م، وإعلان الثورة الفرنسية الصادر في عام 1790م، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة في عام 1948م إضافة إلى مواثيق وعهود وإعلانات صادرة في أوقات مختلفة.
في حين نجد هذا المفهوم متداولا ومؤصلا في الإسلام الذي لازم بين رعاية حقوق الله وحقوق العباد. ومن الأحاديث النبوية التي تحدثت عن هذا المفهوم بوضوح حديث سلمان مع أبي الدرداء كما رواه البخاري: "آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاما، فقال: كل، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فَأَكَلَ، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : صدق سلمان".
إن مفهوم حقوق الإنسان وفق الرؤية الغربية المهيمنة استند بداية إلى فكرة الحق أو القانون الطبيعي، ونظرا لافتقار هذا القانون إلى الوضوح والتعاقد الذي يتسم به القانون الوضعي، فقد ظهرت وتطورت فكرة العقد الاجتماعي التي تقوم على فصل السياسي عن الديني، وبالتالي استبعاد أي أساس ديني لحقوق الإنسان خاصة بعد فترة من الصراعات المريرة بين الكنيسة والدولة في أوروبا. وقد تطورت هذه الفكرة مع كتابات مفكري نظرية العقد الاجتماعي: هوبز ولوك وروسُّو. واستقر في النهاية تأسيس مفهوم حقوق الإنسان على فكرة المنفعة بدءاً من كتابات "جيريمي بنثام"، و جون ستيوارت ميل، و هربرت سبنسر،(1/331)
و ج.أ. مور... وهي الفكرة التي تقوم عليها الحضارة الغربية اليوم، وجعلت حياة الإنسان الغربي قائمة على التملك، وجعلته يشعر -كما يقول إريك فروم- بأنه خصم للآخرين جميعا، للزبائن الذين يريد أن يخدعهم، وللمنافسين الذين يريد أن يقضي عليهم، وللعمال الذين يريد أن يستغلهم، وللأغنياء الذين يحسدهم لأنهم يملكون أكثر، وللفقراء الذين يخاف منهم.. وكما تقول الدكتورة هبة رؤوف عزت: فكما يبحث الإنسان بشكل عقلاني عن تعظيم منفعته في التبادلات الاقتصادية، كذلك يسعى إلى الوصول إلى "نقطة التوازن" بين منفعته ومنفعة الآخرين في علاقاته الاجتماعية والسياسية، وهو يحترم بذلك حقوق الآخرين كي يضمن احترامهم لحقوقه في ظل مجموعة توازنات واقعية، وقانون وضعي ينظم هذه الحقوق المتبادلة.
إن ما تضمنته المواثيق الدولية لحقوق الإنسان من نصوص لحماية الحريات والممتلكات، وضمان الحاجات المعيشية الأساسية وظروف العيش الكريم، ومنع الإساءة والتعذيب والاستعباد... كلها حقوق مجمع على ضرورة حمايتها والدفاع عنها، ولكن الاقتصار عليها والانغلاق في دائرتها هو تجريد للإنسان من بعده الروحي، مما يجعل هذه الحقوق لا تختلف كثيرًا وجوهريًا عن حقوق الحيوان كما تضمنها الإسلام في نصوصه وقواعده؛ فالاهتمام بحقوق الإنسان يجب أن ينبع من كونه إنسانًا، وليس لأنه كائن من الكائنات وإلا اشتركت معه في هذه الحقوق وبنفس القوة والدرجة الحيوانات والنباتات.
وهذا الخلل الكبير في ثقافة حقوق الإنسان الغربية ناتج عن كونها تستند إلى فلسفة مادية دهرية لا تؤمن باليوم الآخر، (وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) الجاثية 24، فلسفة تجعل للإنسان حقوقا باعتباره مخلوقا مبلغ همه تحقيق رفاهيته في الدنيا والاستمتاع بشهواتها ولذاتها الفانية، وتعتقد أن الإنسان يستطيع أن يستغني عن خالقه في تحصيل سعادته وتنظيم حياته، وبالتالي فهي لا تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الروحية للإنسان.. فلسفة تهبط بالإنسان إلى مرتبة الحيوان كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) محمد 12.(1/332)
كما أن هذه الثقافة الحقوقية الغربية تقوم على مبدأ النسبية الذي يعتبر القيم والأخلاق غير ثابتة، وأن المجتمع هو الذي يحدد قيمه وأخلاقه تبعا لتطور أنساقه الاجتماعية وأنماط معيشته. وهذا ما يفسر اعتبار ممارسات لا أخلاقية كالشذوذ الجنسي حقا من حقوق الإنسان في الغرب. وهذا بطبيعة الحال يتعارض كليا مع الموقف الإسلامي الذي يؤمن بثبات القيم والأخلاق الصادرة عن رب العباد المتصف بالكمال والحكمة. وينسجم هذا المفهوم مع المعنى اللغوي للحق الذي يعني الثابت الذي لا يسوغ إنكاره.
أما الإسلام، وخلافا للرؤية الغربية فيرى أن المدخل الصحيح لحماية حقوق الإنسان وتحقيق سعادته وصون كرامته يتمثل في إيقاف تأله البشر بعضهم على بعض، وعدم القبول بأن يكون الإنسان المخلوق مصدرًا لوضع القيم للآخرين المخلوقين مثله، حتى لا تتحول لتصبح جسرًا لتسلط الأقوياء على الضعفاء.
كما أن استناد هذه الحقوق إلى خالق الإنسان وحده يعطيها قدسية في النفوس تحميها من العبث وترفع الالتزام بها إلى مقام العبادة والواجب المثاب على فعله والمعاقب على تركه.
فالحق الشرعي للإنسان في الإسلام يستند إلى التكريم الإلهي، ويرتبط بمفاهيم الأمانة والاستخلاف والعبودية لله وعمارة الأرض، ولا ينفصل عن حقوق الله، وهو ما يجعله غير قابل للإسقاط بعقد أو صلح أو إبراء، فحقوق الإنسان الشرعية هي ضرورات إنسانية توجب الشريعة الحفاظ عليها من قبل الدولة والجماعة والفرد، فإذا قصَّرت الدولة وجب على الأمة أفرادًا وجماعات تحملها؛ لذا كان مدخل "الواجب الشرعي" في الرؤية الإسلامية هو المدخل الأصح لفهم نظرة الإسلام للإنسان ومكانته وحقوقه.
إن مفهوم حقوق الإنسان في الإسلام يتميز عن المفهوم الغربي لهذه الحقوق بالأسبقية والإلزامية والشمولية. فالإسلام كان له السبق على كافة المواثيق والإعلانات والاتفاقيات الدولية في تناوله وتأصيله لحقوق الإنسان منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان من خلال كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ،وهذه الحقوق كما جاء بها الإسلام هي حقوق أصيلة ملزمة شرعها الخالق سبحانه وتعالى لا تقبل حذفاً ولا تعديلاً ولا نسخاً ولا تعطيلاً، وليس من حق أحد أن يعطلها أو يعتدي عليها، أما الإعلان العالمي لحقوق(1/333)
الإنسان فهو ليس إلا مجرد تصريح صادر عن الأمم المتحدة غير ملزم. بل إن الله جعل التقصير في حقوق الناس على بعضهم البعض أعسر غفرانًا من تقصير العباد في حقوقه عز وجل عليهم إلا الإشراك به سبحانه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من كانت له مظلمة لأخيه مِن عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه..." رواه البخاري. ولما كانت حقوق الإنسان في الإسلام مصدرها الله المحيط بكل شيء كانت أعمق وأشمل من حقوق الإنسان في الوثائق الوضعية، فهي تتناول كل احتياجات البشر دون إغفال أي جانب منها.كما أن المفهوم الإسلامي لحقوق الإنسان يقوم على مبدأي التآخي والتراحم المستندين إلى قوة الإيمان الذي يُولِّد الدافع الداخلي للالتزام بعيدا عن المراقبة والخوف من الزجر. قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الحجرات 10، وعن أبي موسى: أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول: "لَنْ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَرَاحَمُوا"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كُلُّنَا رَحِيمٌ! قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ، وَلَكِنْ رَحْمَةُ الْعَامَّةِ.. رَحْمَةُ الْعَامَّةِ" رواه الحاكم في المستدرك. أما في الغرب، فإن فكرة المنفعة تجعل مفهوم الحقوق يقوم على الصراع، صراع بين الحقوق بعضها البعض، وصراع بين فئات وطبقات الناس، وصراع بين الرجل والمرأة... كل يبحث عن مصلحته ومنفعته.
ولما كانت فكرة المنفعة هذه التي يتأسس عليها مفهوم حقوق الإنسان عند الغرب فكرة نسبية متغيرة بتغير الزمان والمكان والأحوال، فقد كان مفهوم الحقوق عند الغرب مفهوما نسبيا متغيرا. وهذا ما يفسر عدم احترامه لهذه الحقوق عندما يتعلق الأمر بالإنسان غير الغربي -خاصة المسلم- كما وقع في الماضي ويقع اليوم في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وغيرها من البلدان بما فيها الغربية.من جهة أخرى فالإسلام يقدم الحقوق في صورة واجبات يتعين على الآخرين القيام بها كل بحسب موقعه ومسؤولياته، فكل حق مسلوب من جهة هو في الأساس واجب متروك من جهة أخرى. فالأساس الإيماني للحقوق في الإسلام باعتبارها واجبات على المسلم، جعل المسلمين أفرادا وجماعات يتسابقون إلى الوفاء بها، في حين تحولت الحقوق في الغرب إلى أعباء يمكن للفرد أن يتخلص منها متى(1/334)
غابت سلطة المراقبة.إن مبادئ حقوق الإنسان المجمع عليها كالكرامة والحرية والمساواة والعدالة هي مبادئ أكد عليها الإسلام من خلال منظومته الأخلاقية والتشريعية المتكاملة، بل إن الإسلام أكد على حرمة الاعتداء على المدافعين عن هذه الحقوق والمبادئ، وسوى بين جريمة الكفر وجريمة قتل الأنبياء وقتل الآمرين بالقسط، وتوعد المعتدين بعذاب أليم. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاس فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) آل عمران 21.
ورعاية حقوق الإنسان في الإسلام هي من العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض والذي أمر به الله: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) الأعراف 29، والذي من أجله بعث الله الرسل وأنزل الكتب: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسَ بِالْقِسْطِ). وقد قال ابن القيم رحمه الله في تفسير هذه الآية الأخيرة في كتابه إعلام الموقعين: "إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق وقامت أدلة العدل، و أسفر صبحه بأي طريق كان ، فثم شرع الله ودينه ورضاه و أمره".وقال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى، مُبينا أهمية العدل في الإسلام: "وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام... وذلك أن العدل نظام كل شيء؛ فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة".
إن آيات القرآن وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي تحث على العدل وتحرم الظلم وتعتني بحقوق العباد هي كثيرة. وإن سيرته - صلى الله عليه وسلم - وصحبه في هذا المجال لهي تطبيق حي وواقعي لحقيقة هذا الدين القيم.فالإسلام كرم الإنسان وأعلى من شأنه وفضله على كثير من خلقه، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) الإسراء 70، وشرائع الإسلام كلها بنيت على(1/335)
رعاية مصالح العباد في الدنيا و الآخرة.واعتبر الإسلام الحرية قيمة أساسية بدونها لا يصح إيمان و لا تقبل شهادة، ومن ضمنها حرية الاعتقاد وحرية ممارسة الشعائر الدينية، فقال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، قَدْ تَبَيَّنَ اَلرُّشْدُ مِنَ اَلْغَيِّ) البقرة 256، وقال سبحانه: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) الغاشية 22، وقال عز وجل على سبيل الاستفهام الإنكاري: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) يونس 99. وإن أول عبارة يبدأ بها ألإعلان العالمي لحقوق الإنسان مستوحاة من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
وأكد على المساواة بين الناس كل الناس: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات 13، ويقول - صلى الله عليه وسلم - : (لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ وَلا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ إِلا بِالتَّقْوَى، اَلنَّاسُ مِنْ آدَمٍ وَآدَمَ مِنْ تُرَابٍ) رواه الترمذي.وسوى الإسلام بين الرجل والمرأة في الحقوق الإنسانية، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النحل 97، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) التوبة 71، (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) آل عمران 195.
وحمى حق الحياة واعتبر قتل نفس واحدة جريمة في حق الناس جميعا، والمحافظة عليها محافظة على حياة الناس جميعا. قال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعا،ً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) المائدة 32. ويعبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن هذا المعنى أصدق تعبير فيقول: (لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ) سنن الترمذي.
وشرع جملة من الأحكام والعقوبات التي تكفل للإنسان حماية من كل ضرر أو اعتداء عليه، ليتسنى له أن يمارس حقه في الحياة الحرة الآمنة، قال تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ(1/336)
قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المائدة 45.
وتعد خطبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع من أشهر مواثيق حقوق الإنسان في الإسلام، إذ حرص عليه الصلاة والسلام في آخر لقاء له مع صحابته أن يعيد التأكيد على جملة حقوق: (..أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا،... فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا،... أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ لِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقًّا،... أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مَالُ أَخِيهِ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ... أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌٌ، كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمَ مِنْ تُرَابٍ، إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ. لَيْسَ لِعَربِيٍّ فَضْلٌ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلَّا بِالتَّقْوَى...).
وإذا كان واقع حال المسلمين اليوم يشهد خروقات وانتكاسات مستمرة في مجال حقوق الإنسان بما يتعارض ومبادئ الإسلام وقيمه العظيمة، فإن ذلك يعود قطعا إلى بعدهم عن منهج الله في شؤونهم الخاصة والعامة، وابتلاءهم بحكام الجور الذين يعيثون في الأرض فسادا ويوالون من حارب الله ورسوله، ويعادون المؤمنين المصلحين، ويجدون في ذلك من التأييد والعون من أدعياء حقوق الإنسان في الغرب ما يؤكد أن الغرب لا يرى في حقوق الإنسان سوى وسيلة من وسائل تحقيق مصالحه الكبرى. (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - www.siraje.net/showmakal.php?idmak=359 - 60k(1/337)
فضيلة الشام والسكنى بها
50- عن ابْنِ عُمَرَ ، قالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : تُجَنِّدُونَ أَجْنَادًا قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ خِرْ لِي ، قَالَ : عَلَيْكَ بِالشَّامِ فَإِنَّهَا صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ بِلاَدِهِ , بِهَا خِيرَتُهُ مَنْ عِبَادِهِ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ ذَلِكَ فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ وَلْيَسْتَقِ بِغُدَرِهِ , فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ " (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ الأَزْدِيِّ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : سَتُجَنِّدُونَ أَجْنَادًا : جُنْدًا بِالشَّامِ وَجُنْدًا بِالْعِرَاقِ وَجُنْدًا بِالْيَمَنِ فَقُلْتَ : خِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : عَلَيْكَ بِالشَّامِ فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ ، وَلْيَسْتَقِ مِنْ غُدُرِهِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ الأَزْدِيِّ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : إِنَّكُمْ سَتُجَنِّدُونَ أَجْنَادًا فَجُنْدًا بِالشَّامِ وَجُنْدًا بِالْعِرَاقِ , وَجُنْدًا بِالْيَمَنِ فَقَالَ الْحَوَالِيُّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ خِرْ لِي , قَالَ : عَلَيْكَ بِالشَّامِ.
وعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ ، حَدَّثَنِي أَبُو قُتَيْلَةَ ، قَالَ : شَهِدْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى مِنْبَرٍ يَخْطُبُ إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَكَانَ أَوَّلُ مَا اسْتَفْتَحَ إِذْ قَالَ : بَيْنَا أَنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذْ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ فَاتِحٌ لَكُمْ وَمُمَكِّنٌ لَكُمْ فَقَالَ رَجُلٌ : خِرْ لِي قَالَ : عَلَيْكَ بِالشَّامِ فَإِنَّهَا خِيرَةُ اللَّهِ مِنْ بِلاَدِهِ يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ.
وعَنِ ابْنِ حَوَالَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : سَتَكُونُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ ، جُنْدٌ بِالشَّامِ وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ وَجُنْدٌ بِالْعِرَاقِ . قَالَ ابْنُ حَوَالَةَ : فَمَا تَأْمُرُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : عَلَيْكَ بِالشَّامِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ , فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ , وَلْيَسْتَقِ بِغُدَرِهِ.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ الأَزْدِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ خِرْ لِي بَلَدًا أَكُونُ فِيهِ فَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَبْقَى لَمِ اخْتَرْ عَلَى قُرْبِكَ قَالَ : عَلَيْكَ بِالشَّامِ ثَلاَثًا . فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 143) (228) و المعجم الكبير للطبراني - (11 / 240) (477) والمعجم الأوسط للطبراني - (3996 ) وكشف الأستار - (3 / 323) (2852) ومسند البزار كاملا - (2 / 221) (5397 ) واتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة - (7 / 127) [7060/ 1] صحيح(1/338)
كَرَاهِيَتَهُ إِيَّاهَا قَالَ : هَلْ تَدْرِي مَا يَقُولُ اللَّهُ فِي الشَّامِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : يَا شَامُ أَنْتِ صَفْوَتِي مِنْ بِلاَدِي أُدْخِلُ فِيكِ خَيْرَتِي مِنْ عِبَادِي , أَنْتِ سَوْطُ نِقْمَتِي وَسَوْطُ عَذَابِي , أَنْتِ الَّذِي لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرْ , أَنْتِ الأَنْدَرُ وَإِلَيْكِ عَلَيْكِ الْمَحْشَرُ , وَرَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَمُودًا أَبْيَضَ كَأَنَّهُ لُؤْلُؤَةٌ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ قُلْتُ : مَا تَحْمِلُونَ ؟ قَالَ : عَمُودُ الْإِسْلاَمِ أَمَرَنَا أَنَ نَضَعَهُ بِالشَّامِ وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ الْكِتَابَ اخْتُلِسَ مِنْ تَحْتِ وِسَادَتِي , فَظَنَنْتُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ تَخَلَّى مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي فَإِذَا هُوَ نُورٌ بَيْنَ يَدَيَّ حَتَّى وُضِعَ بِالشَّامِ , فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ وَلْيَسْتَقِ مِنْ غُدُرِهِ , فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : سَتُجَنَّدُونَ أَجْنَادًا جُنْدًا بِالشَّامِ ، وَجُنْدًا بِالْعِرَاقِ ، وَجُنْدًا بِالْيَمَنِ ، فَقَالَ الْحَوَالِيُّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، خِرْ لِي ، قَالَ : عَلَيْكَ بِالشَّامِ " (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : يَكُونُ بِالشَّامِ جُنْدٌ ، وَبِالْعِرَاقِ جُنْدٌ ، وَبِالْيَمَنِ جُنْدٌ ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ : خَرْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ : عَلَيْكَ بِالشَّامِ ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ " (2)
وعَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَكُونُ بِالشَّامِ جُنْدٌ ، وَبِالْعِرَاقِ جُنْدٌ ، وَبِالْيَمَنِ جُنْدٌ " ، فَقَالَ : خِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " عَلَيْكَ بِالشَّامِ ، فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ وَلْيَسْتَقِ بِغُدُرِهِ ، فَإنَّ اللَّهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ " قَالَ مَعْمَرٌ : قَالَ قَتَادَةُ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ : " فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ ". (3)
وعن أبي قِلَابَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ حَمَلَتْ عَمُودَ الْكِتَابِ فَوَضَعَتْهُ بِالشَّامِ ، فَأَوَّلْتُهُ أَنَّ الْفِتَنَ إِذَا وَقَعَتْ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِالشَّامِ " وَذُكِرَ لَنَا
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (1 / 172) (292و337 و442 و570 و601 و3515 ) وسنن أبي داود - المكنز - (2485 ) وصحيح ابن حبان - (16 / 295) (7306) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 799)(17005) 17130- و(20356) 20625- واتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة - (8 / 13)[7432] صحيح مشهور
(2) - الآحاد والمثاني - (4 / 585) (2744) صحيح
(3) - جَامِعُ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ(1070 ) صحيح مرسل(1/339)
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَةٍ : " إِنَّهُ كَائِنٌ بِالشَّامِ جُنْدٌ ، وَبِالْعِرَاقِ جُنْدٌ ، وَبِالْيَمَنِ جُنْدٌ " . فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خِرْ لِي فَقَالَ : " عَلَيْكَ بِالشَّامِ , فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ ، فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ , وَلْيَسْقِ بِغُدُرِهِ " . وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : يَا كَعْبُ , أَلَا تَحَوَّلُ إِلَى الْمَدِينَةِ ؟ فَإِنَّهَا مُهَاجِرُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَوْضِعُ قَبْرِهِ ؟ فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنِّي أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ أَنَّ الشَّامَ كَنْزُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ , وَبِهَا كَنْزُهُ مِنْ عِبَادِهِ " (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنِّي " رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ انْتُزِعَ مِنْ تَحْتِ وِسَادَتِي ، فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي ، فَإِذَا هُوَ نُورٌ سَاطِعٌ عُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ ، أَلَا وَإِنَّ الْإِيمَانَ حَيْثُ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّامِ " (2)
وعَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ : خَوْلِيٌّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّكُمْ " سَتَجِدُونَ أَجْنَادًا ، جُنْدًا بِالشَّامِ وَجُنْدًا بِالْيَمَنِ " فَقَالَ لَهُ خَوْلِيُّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ خِرْ لِي قَالَ : " عَلَيْكَ بِالشَّامِ ، فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ ، وَلْيَسْتَقِ بِغُدُرِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ " (3)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (22550 ) صحيح مرسل
(2) - الْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ (4310 ) صحيح
(3) - الْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ (4311 ) صحيح(1/340)
أهم المراجع
1. ... أيسر التفاسير لأسعد حومد
2. ... التحرير والتنوير لابن عاشور
3. ... التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع
4. ... التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع
5. ... التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع
6. ... التفسير الميسر
7. ... التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع
8. ... التفسير الوسيط للقرآن الكريم لطنطاوي
9. ... تفسير ابن أبي حاتم
10. ... تفسير ابن كثير - دار طيبة
11. ... تفسير السعدي
12. ... تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة
13. ... تفسير الطبري -طبع دار هجر
14. ... تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع
15. ... فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع
16. ... أخبار مكة للفاكهي (272)
17. ... اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة
18. ... الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم
19. ... الأدب المفرد
20. ... الترغيب والترهيب للمنري
21. ... السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة
22. ... السنن الكبرى للبيهقي- المكنز
23. ... الشمائل المحمدية للترمذي
24. ... الفوائد لتمام 414
25. ... المجالسة وجواهر العلم (333)
26. ... المستدرك للحاكم مشكلا(1/341)
27. ... المسند الجامع
28. ... المعجم الأوسط للطبراني
29. ... المعجم الصغير للطبراني
30. ... المعجم الكبير للطبراني
31. ... بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث
32. ... تهذيب الآثار للطبري
33. ... جامع الأصول في أحاديث الرسول
34. ... سنن أبي داود - المكنز
35. ... سنن ابن ماجه- المكنز
36. ... سنن الترمذى- المكنز
37. ... سنن الدارقطنى- المكنز
38. ... سنن الدارمى- المكنز
39. ... سنن النسائي- المكنز
40. ... شرح مشكل الآثار (321)
41. ... شرح معاني الآثار (321)
42. ... شعب الإيمان (458)
43. ... صحيح ابن حبان
44. ... صحيح البخارى- المكنز
45. ... صحيح مسلم- المكنز
46. ... غاية المقصد فى زوائد المسند 1
47. ... غاية المقصد فى زوائد المسند 2
48. ... كشف الأستار
49. ... مجمع الزوائد
50. ... مسند أبي عوانة مشكلا
51. ... مسند أبي يعلى الموصلي
52. ... مسند أحمد (عالم الكتب)
53. ... مسند أحمد - المكنز
54. ... مسند البزار كاملا(1/342)
55. ... مسند الحميدي - المكنز
56. ... مسند الشاشي 335
57. ... مسند الشاميين 360
58. ... مسند الطيالسي
59. ... مسند عبد بن حميد
60. ... مصنف ابن أبي شيبة
61. ... مصنف عبد الرزاق مشكل
62. ... معرفة الصحابة لأبي نعيم (430)
63. ... موسوعة السنة النبوية
64. ... موطأ مالك- المكنز
65. ... آداب الصحبة لأبي عبد الرحمن السلمي
66. ... أمالي ابن سمعون
67. ... الأحاديث الطوال للطبراني
68. ... الأسماء والصفات للبيهقي
69. ... الأموال لابن زنجويه
70. ... البعث والنشور للبيهقي
71. ... الجهاد لابن أبي عاصم
72. ... الدعاء للطبراني -العلمية
73. ... الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي
74. ... الزهد أبي داود 275
75. ... الزهد لأحمد بن حنبل
76. ... الزهد لهناد بن السري
77. ... الزهد والرقائق لابن المبارك
78. ... الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي
79. ... الفوائد لتمام 414
80. ... القضاء والقدر للبيهقي
81. ... المطالب العالية للحافظ ابن حجر العسقلاني
82. ... تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي(1/343)
83. ... جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر
84. ... حديث نضر الله امرأ لابن حكيم المديني
85. ... سنن سعيد بن منصور
86. ... شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي
87. ... طبقات المحدثين بأصبهان لأبي الشيخ الأصبهاني
88. ... فضائل الأوقات للبيهقي
89. ... فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل
90. ... مسند إسحاق بن راهويه
91. ... معجم الصحابة لابن قانع
92. ... السلسلة الصحيحة
93. ... سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة
94. ... صحيح الترغيب والترهيب
95. ... صحيح وضعيف الجامع الصغير
96. ... إبراز الحكم من حديث رفع القلم
97. ... التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد
98. ... المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم
99. ... بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخيار للكلاباذي
100. ... تحفة الأحوذي
101. ... شرح ابن بطال
102. ... شرح النووي على مسلم
103. ... شرح رياض الصالحين لابن عثيمين
104. ... شرح سنن أبي داود ـ عبد المحسن العباد
105. ... عون المعبود
106. ... فتح الباري لابن حجر
107. ... فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2
108. ... معالم السنن للخطابي
109. ... أبحاث هيئة كبار العلماء
110. ... الفتاوى الكبري لابن تيمية(1/344)
111. ... الموسوعة الفقهية الكويتية
112. ... فتاوى الإسلام سؤال وجواب
113. ... فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
114. ... فتاوى واستشارات الإسلام اليوم
115. ... فتاوى يسألونك لعفانة1-12
116. ... مجموع الفتاوى لابن تيمية
117. ... لطائف المعارف
118. ... السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث
119. ... زاد المعاد في هدي خير العباد
120. ... سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد
121. ... سيرة ابن هشام
122. ... نُسْخَةُ أَبِي مِسْهِرٍ وَغَيْرِهِ
123. ... الْبَحْرُ الزَّخَّارُ مُسْنَدُ الْبَزَّارِ
124. ... المفردات للأصفهاني
125. ... الفروق اللغوية
126. ... المعجم الوسيط
127. ... المصباح المنير
128. ... شرح العقيدة الطحاوية
129. ... الآداب الشرعية
130. ... دليل الفالحين شرح رياض الصالحين
131. ... إحياء علوم الدين
132. ... مَسَاوِئُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (37 ) صحيح
133. ... الْجَامِعُ فِي الْحَدِيثِ لِابْنِ وَهْبٍ
134. ... التَّرْغِيبُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَثَوَابُ ذَلِكَ لِابْنِ شَاهِينَ
135. ... مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ
136. ... طَبَقَاتُ الْمُحَدِّثِينَ بِأَصْبَهَانَ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ
137. ... حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ
138. ... الأسماء والصفات للبيهقي(1/345)
139. ... السُّنَّةُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ
140. ... حاشية السندي على ابن ماجه
141. ... مَوَاهِب الْجَلِيل
142. ... الذخيرة .
143. ... قواعد الْفِقْه لِلْبَرَكَتِي
144. ... الأشباه لاِبْنِ نَجِيم
145. ... شرح الأَْرْبَعِينَ النَّوَوِيَّة لاِبْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ
146. ... الزواجر عَنِ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ لاِبْنِ حَجَر الهيتمي
147. ... أحكام الْقُرْآن لاِبْنِ الْعَرَبِيِّ
148. ... تفسير رُوح الْمَعَانِي
149. ... رَوْضَة الطَّالِبِينَ
150. ... حاشية ابْن عَابِدِينَ
151. ... نهاية الْمُحْتَاج
152. ... مغني الْمُحْتَاج
153. ... كشاف الْقِنَاع
154. ... جواهر الإِْكْلِيل
155. ... القوانين الْفِقْهِيَّة
156. ... روضة الطَّالِبِينَ
157. ... المغني لابن قدامة
158. ... عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير
159. ... إمتاع الأسماع للمقريزي
160. ... المبسوط للسرخسي
161. ... شرح روض الطالب من أسنى المطالب
162. ... ابن عابدين
163. ... الدسوقي
164. ... المهذب للشبرازي
165. ... الإنصاف
166. ... أَمْثَالُ الْحَدِيثِ لِلرَّامَهُرْمِزِيِّ(1/346)
167. ... السنن الصغرى للبيهقي
168. ... الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ لِلْبَيْهَقِيِّ
169. ... أحَادِيثُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ
170. ... السُّنَّةُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ
171. ... مُسْنَدُ الرُّويَانِيِّ
172. ... الْجَامِعُ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي وَآدَابِ السَّامِعِ لِلْخَطِيِبِ الْبَغْدَادِيِّ
173. ... الكليات لأبي البقاء
174. ... الفواكه الدواني على رسالة القيرواني
175. ... تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق
176. ... تحفة المحتاج بشرح المنهاج
177. ... فتح القدير على الهداية
178. ... الشرح الصغير
179. ... الفروق للقرافي
180. ... الشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه
181. ... شرح إحياء علوم الدين
182. ... تهذيب الفروق بهامشه
183. ... بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
184. ... تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق
185. ... الأحكام السلطانية للماوردي
186. ... الْجِهَادُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ
187. ... صِفَةُ الْجَنَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبهَانِيِّ
188. ... الأحاديث المرفوعة من التاريخ الكبير للبخاري
189. ... تفسير الماوردي
190. ... شَرْحُ أُصُولِ الاعْتِقَادِ
191. ... غنية الْمُتَمَليِّ في شرح منية المصلي - حلبي كبير -
192. ... الاعتصام للشاطبي
193. ... إنكار البدع والحوادث
194. ... الموضوعات لابن الجوزي(1/347)
195. ... المجموع للنووي
196. ... الشاملة 3
197. ... برنامج قالون
198. ... تقريب التهذيب لابن حجر
199. ... الكاسف للذهبي
200. ... ميزان الاعتدال للذهبي
201. ... تهذيب التهذيب لابن حجر
202. ... لسان الميزان له
203. ... تعجيل المنفعة له
204. ... الجرح والتعديل لابن أبي حاتم
205. ... الثقات لابن حبان
206. ... الضعفاء الكبير للعقيلي(1/348)
الفهرس العام
تحريم الظلم ... 5
جزاء من فرج عن مسلم كربة ... 9
جواز الاجتهاد في الإسلام ... 12
هل المصيب واحد من المجتهدين والباقي مخطئ ؟ ... 16
يحشرُ المرءُ معَ منْ أحبَّ ... 28
المَحَبَّةُ : ... 35
أ - الْمَوَدَّةُ : ... 36
ب - الْعِشْقُ : ... 36
ج - الإِْرَادَةُ : ... 36
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَحَبَّةِ : ... 36
أ - مَحَبَّةُ اللَّهِ وَمَحَبَّةُ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - ... 37
ب - مَحَبَّةُ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَعُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ ... 38
ج - عَلاَمَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ لِعَبْدِهِ: ... 38
الأعمال التي توصل المسلم لمصاحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ... 40
علامات صدق المحبة ... 41
الهمة وبلوغ منازل الأنبياء ... 42
سلوني سلوني ... 45
فضل عتق الرقاب ... 51
المفلس الحقيقي ... 54
أشياء عديدة تمنع دخول النار ... 62
العمل الذي يقرّبُ من الجنة ويباعد عن النار ... 66(1/349)
جزاء الصبر على موت الأولاد ... 71
بعض الخصال المنجية من النار ... 73
الإكثار من ذكر الله ... 77
أهمية مجالس الذكر ... 79
كلمة التوحيد آخر الزمان ... 90
اسم الله الأعظم ... 94
هل الذكر أفضل أم الدعاء ؟ ... 99
من الدعاء المستجاب ... 105
من خصائص لفظ الجلالة ((الله)) ... 106
مشروعية الدعاء بجميع أسماء الله الحسنى ... 108
اسم الله الأعظم ... 108
التفاضل في كلام الله تعالى ... 109
هل يجوز الدعاء بغير التسعين تسعين اسماً؟ ... 114
العبرة بالخواتيم ... 118
الوتر ليست بفرض ... 124
أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّهُمْ عَذَابًا لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا ... 128
بعض علامات الساعة الصغرى ... 133
معنى "لكع بن لكع. ... 137
في آخر الزمان يخوَن الأمين ... 138
بعض الفتن ومنها القتل ... 139
تحريم الكبر ... 144
معنى الحديث ... 145
متابعة الإمام في الصلاة ... 149(1/350)
فضل التهجير للجمعة ... 156
ثلاث لا بد أن تكون في قلب كل مؤمن ... 158
المقام المحمود للرسول - صلى الله عليه وسلم - ... 163
الهم بالحسنات والسيئات ... 174
الخلاصة في أحكام الهم بالخير والشر ... 176
الهَمُّ : ... 176
أ - الْخَاطِرُ : ... 177
ب - الْفِكْرُ : ... 177
ج - النِّيَّةُ : ... 178
د - الْعَزْمُ : ... 178
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْهَمِّ : ... 178
أ - حُكْمُ الْهَمِّ بِالْحَسَنَةِ : ... 178
ب - حُكْمُ الْهَمِّ بِالسَّيِّئَةِ : ... 180
ج - الْعِقَابُ عَلَى الْهَمِّ الْمَقْرُونِ بِالْعَزْمِ : ... 182
د - الْهَمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فِي الْحَرَمِ : ... 184
هـ - الْهَمُّ بِالْكُفْرِ يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ : ... 185
قتال الناس حتى يؤمنوا بالله وحده ... 187
تَدَرُّجُ مَشْرُوعِيَّةِ الْجِهَادِ ... 201
مثل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومثل الأنبياء قبله ... 204
مثله - صلى الله عليه وسلم - ومثل أمته ... 206
صفات أول دفعة يدخلون الجنة ... 208
نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ... 213
فضائل فاتحة الكتاب ... 219(1/351)
من فضائل عثمان رضي الله عنه ... 230
الرحلة في طلب الحديث الواحد ... 235
الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ عَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ ... 244
فضل إفشاء السلام ... 250
الوصية بالوالدين ... 258
الخلاصة في أحكام بر الوالدين ... 258
تعريفه : ... 259
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ : ... 259
الْبِرُّ بِالْوَالِدَيْنِ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ : ... 261
التَّعَارُضُ بَيْنَ بِرِّ الأَْبِ وَبِرِّ الأُْمِّ : ... 263
اسْتِئْذَانُهُمَا لِلسَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِطَلَبِ الْعِلْمِ : ... 267
حُكْمُ طَاعَتِهِمَا فِي تَرْكِ النَّوَافِل أَوْ قَطْعِهَا : ... 268
حُكْمُ طَاعَتِهِمَا فِي تَرْكِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ : ... 268
حُكْمُ طَاعَتِهِمَا فِي طَلَبِهِمَا تَطْلِيقَ زَوْجَتِهِ : ... 269
حُكْمُ طَاعَتِهِمَا فِيمَا لَوْ أَمَرَاهُ بِمَعْصِيَةٍ أَوْ بِتَرْكِ وَاجِبٍ : ... 269
عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَزَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ : ... 270
جَزَاءُ الْعُقُوقِ : ... 271
فضل الشهادة في سبيل الله ... 272
الهداية للعمل الصالح قبل الموت ... 277
ثواب الغازي في سبيل الله ... 279
فضل الجهاد في سبيل الله ... 283
إلى متى تقبل التوبة ؟ ... 285
وَقْتُ التَّوْبَةِ ... 286(1/352)
من طبيعة البشر الوقوع في المعاصي ... 288
أهمية الدعاء ... 291
فضل الدعاء وفوائده ... 292
فضل ليلة النصف من شعبان ... 294
إِحْيَاءُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ : ... 294
الاِجْتِمَاعُ لإِِحْيَاءِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ : ... 295
حكم صلاة الرَغَائِبِ ... 296
الْبِدْعَةُ الإِْضَافِيَّةُ : ... 297
فتن قبل قيام الساعة ... 305
بم بعث به النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ ... 307
الحكمة من مشروعية الجهاد ... 308
فضل عبد الله بن مسعود ... 322
لا قيمة لأمة لا يقام العدل فيها ... 327
حقوق الإنسان بين المفهوم الوضعي والمفهوم الإسلامي ... 330
فضيلة الشام والسكنى بها ... 338(1/353)