وقوله:" كانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهليه، فيضحكون ويتبسم"، فيه جواز الخبر والحديث عن أخبار الجاهلية وغيرها من الأمم، وجواز الضحك، وأن التبسم هو المستحسن منه، اللائق بأهل الفضل والسمت، وهو كان أكثر ضحكه - عليه السلام -. ويكره الإكثار من الضحك ؛ لأنه يميت القلب، كما قال لقمان، وهو من خلق أهل البطالة والسفه.
وقوله:" كان إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيها، فربما جاؤوا في الغداة الباردة، فغمس يده فيها، كانوا يفعلون ذلك تبركًا بما لمسه وأدخل يده فيه، وفيه صبره - عليه السلام - وحسن خلقه ومشاركته الجميع، واجابة دعوة الصغير والكبير، قال الله تعالى:{ إنك لعلى خلق عظيم }.
وقوله للحادي - وكان حسن الصوت -:« رويدك سوقًا بالقوارير »، وفي رواية:« رويدًا لا تكسر القوارير »، يعني: ضعفه النساء فسره كذا في الحديث، وقول أبي قلابة:" تكلم بكلمة لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه"، قال الإمام:" رويدك " معناه: رفقك، يقال: سار سيرًا رويدًا، أي سيرًا رفيقًا. وأصله من رادت الريح ترود رودانا: إذا تحركت حركة خفيفة وروبد تصغير رود، وقد يوضع رويد موضع الأمر فيقال: رويد زيدًا، أي أرود زيدًا. والإرواد الرفق في المشي وغيره.
وقوله:« سوقك بالقوارير »، شبهن بها لضعف عزائمهن، والقوارير يسرع إليها الكسر. وكان أنجشة يحدو بهن، وينشد من القريض والرجز ما فيه شبيب، فلم يأمن أن يفتنهن أو يقع بقلوبهن حداؤه، فأمره بالكف عن ذلك.
قال الإمام: وجاء في كتاب مسلم:« لا تكسر القوارير »، يعني ضعفة النساء، فكان هذا يخرج على غير ما تأوله الهروي.(8/6)
قال القاضي: ذهب بعض المفسرين إلى نحو مما أشار إليه، من أن المراد به الرفق في السير، وترك حث الإبل ؛ لئلا يسقط النساء عند قوة حركة السير بالحداء ؛ لقلة ثباتهن في الركوب، بخلاف الرجال، فيسقطن فينكسرن كالقوارير. والتفسير الأول أشبه بمقصده - عليه السلام - وبمقتضى اللفظ.
وقد قيل: الغناء رقية الزنا، وهو الذي يدل عليه كلام أبي قلابة المتقدم آخر الحديث، وإلا فلو عبر بذلك عن الكسر والسقوط لم يغلب على أحد. وانتصب " رويدًا "، هنا على الصفة للمصدر المحذوت، أي سر سيرًا رويدًا، أو سق سوقًا رويدًا. وإما على الرواية الأخرى:« رويدًا سوقك »، فانتصب رويدًا على المصدر، و" سوقك "، منصوب على المفعول به، أي إرود سوقك رويدًا، وقد يكون نصبًا على عدم الخافض، أي ارفق في سوقك. وفيه جواز قول الرجل للآخر: ويحك.
وجاء في رواية أخرى في غيرمسلم " ويلك ". قال سيبويه:/" ويلك " كلمة تقال لمن وقع، وويحك زجر لمن أشرف على الهلاك. وقال الفراء: "ويح " و " ويس " بمعنى: ويل، ويح كلمة لمن وقع في هلكة لا يستحقها فيرثى له ويترحم عليه، وويل بضده، ووسين تصغير، أي هي دونهما. وقد تقدم منه، وقال بعض أهل اللغة: لا يراد بهذه الألفاظ الدعاء، وإنما يراد بها المدح والتعجيب.
فيه جواز الحداء والترنم بالأرجاز في مواضعها ؛ من سوق الإبل، وقطع الأسفار، لم إنشاد الرقيق من الشعر بالأصوات الحسنة.
وفي حديث يحيى بن يحيى في هذا الباب: كانت أم سليم مع نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، كذا لجماعتهم، وعند السمرقندي: كانت أم سليم، والأول أصح. وقوله مع نساء النبي، يصحح، أعني من غير نساء النبي.(8/7)
وقوله: " رأيته - عليه السلام - والحلاق يحلقه، فما يريدون أن يقع شعره إلا في يد رجل "، فيه ما عرف من تبركهم بكل شيء منه - عليه السلام - لا سيما من جسمه وذاته، وفيه حجة على طهارة الشعر من الميت والحي، وقد مضى الكلام فيه، واختلاف العلماء في شعر الحي وشعر الميت.
وقول عائشة:« ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه "، فيه الأخذ بالأيسر والأرفق، وترك التكلف وطلب المطاق، إلا فيما لا يحل الأخذ به كيف كان ويحتمل أن يكون التخيير هنا من الله تعالى مما فيه عقوبتان، أو فيما بينه وبين الكفار من القتال وأخذ الجزية، او فيما يخبره فيه المنافقون من المواعدة والمحاربة، أو أمته من الشدة في العبادة أو القصد. وكان يذهب في كل هذا إلى الأيسر. ويأتى قولها: " مالم يكن إثما " استثناء مما يخبره فيه الكفار والمنافقون على وجه. وإن كان التخيير من الله أو أمته فيكون إستثناء منقطعا ؛ لأنه لا يصح تخييره هنا فيما فيه إثم.
وقولها:" وما ضرب شيئًا قط بيده، ولا امرأة ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله "، فيه دليل على جواز ضرب النساء والخدم للأدب ؛ إذ لو لم يكن مباحًا لم يتحرج بالتنزه عنه. وفيه حجة على أن التنزه عنه أفضل بأهل المروءات والفضل.(8/8)
وقولها:" وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه إلا أن ينتهك حرمة الله "، فيه ما كان عليه - عليه السلام - من الحلم والصبر. وما كان - عليه السلام - من القيام بالحق والصلابة فيه، وهذا هو الخلق الحسن المحمود، فإنه لو كان يترك ذلك كله في حق الله تعالى وفي حق غيره كان ضعفًا ومهانة، ولو كان ينتقم أيضًا لنفسه في كل شيء لم يكن ثتم صبر ولا حلم ولا احتمال، وكان هذا الخلق بطشًا وانتقامًا، فانتفى عنه الطرفان المذمان، وبقي وسطها، وخير الأمور أوسطها، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. ويحتمل قوله:" إلا/ أن تنتهك حرمة الله " استثناء مما تقدم وفي حقه من اذاه - عليه السلام - فيما فيه غضاضة عن الدين، فذلك من انتهاك حرمات الله. قال بعض علمائنا:لا يجوز أن يؤذى النبي بفعل مباح ولا غيره، وأما غيره من الناس فتجوز إذايته بما يباح للانسان فعله،ولا يباح أن يمنع من إذايته، واحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في مراده على تزويج بنت أبي جهل، أي لا أحرم ما أحل الله،« وأن فاطمة يؤذيني ما أذاها، ولا يجتمع ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابنة عدو الله عند رجل أبدًا »، وبقوله:{ إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة } الآية، فأطلق وعمم، وقال:{ والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا ف}، قيد وشرط { بغير ما اكتسبوا }.
قال مالك: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعفو عن شتمه، وقد عفا عن الذي قال له: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله. وهذا لص ان كان فيه غضاضة على الدين فقد يكون عفوه عنه لأنه لم يقصد الطعن عليه في الميل عن الحق، بل اعتقد أنه من رأى مصالح الدنيا الذي يصح الخطأ فيه والصواب، أو كان هذا استئلافًا لمثله كما استالفهم بماله ومال الله رغبة في إسلام مثله، أو تثبيت قومه. وقد مر من هذا عند ذكر هذا الحديث ما فيه كفاية في كتاب الزكاة.(8/9)
وأجمع العلماء أن من سب النبي كفر. واختلفوا هل حكمه حكم المرتد يستتاب ؟ أو حكم الزنديق يقتل لا يستتاب ولا تقبل توبته ؟ وهو مشهور مذهب مالك، وقول الليث والشافعي وأحمد وإسحاق رأوا أن قتله وإن تاب للحد، وأن حد من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - القتل لايدفعه التوبة، كما لا يدفع التوبة حد قذف غيره من المسلمين، وسواء كانت توبته عندهم بعد القدرة عليه، أو جاء معترفًا تائبًا من قبل نفسه. لكن هذا تنفعه قربته عند الله، ولا يسقط حد القتل عنه. كذا بينه شيوخنا رحمهم الله. وقال أبو حنيفة والثوري: هي كفر وردة ويقبل بتوبته إذا تاب، وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك.
واختلفوا إذا سبه الذي بغير الوجه الذي كفر، فعامة العلماء على أنه يقتل لحق النبي كالمسلم. وأبو حنيفة والثررى والكوفيون لا يرون قتله، قالوا: وما هو عليه من الكفر أشد.
واختلف أهل المدينة وأصحاب مالك في قتله إذا كان سبه بالوجه الذي كفر به من تكذيبه أو جحد بنبوته، والأصح والأشهر قتله.
وقد اختلفوا في إسلام الكافر بعد سبه، هل يسقط / ذلك القتل عنه ؟ فالأشهر عندنا سقوطه ؛ لأن الإسلام يجب ما قبله. وحكى أبو محمد بن نصر في درء القتل عنه بإسلامه روايتين.
وقد يكون قوله: إلا أن يكون حرمة الله فينتقم لله منها" استثناء منقطعًا أيضًا، أي لا ينتقم لنفسه وحقوقه الذي له العفو عنها، وإنما ينتقم لحقوق الله وحدوده التي لا خيار له في تركها ولا رخصة. وهذا الحديث أصل مما يجب للحكام وأولى الأمر والقدرة امتثاله بترك الانتقام لأنفسهم، والتجافي عمن أذاهم تأسيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخذا بالفضل والخلق الحسن. وقد أجمع العلماء أن القاضي لا يقضى لنفسه ولا لمن لا يجوز شهادة له.(8/10)
وذكر مسلم في الباب: حدثنا زهير بن حرب وإسحاق، جميعًا عن جرير، حدثنا أحمد بن عبدة، حدثنا فضيل بن عياض كلاهما عن منصور عن محمد. وفي رواية: فضل بن شهاب وفي رواية: جرير عن الزهري عن عروة عن عائشة. كذا رواية الكافة وهو الصواب. ومحمد المذكور هو ابن شهاب، فزاد فضل في روايته شبه ابن شهاب وقال، جرير عن الزهري. وجاء في كتاب ابن الحذاء مشركًا له وهما. قال: وفي رواية فضيك عن ابن شهاب، فزيادة ابن هنا خطأ يؤذن أن واحدًا منهم لم يقل عن محمد كما ذكر أولاً.
قوله:" استقبله ولدان، فجعل يمسح خدي أحدهم واحدًا واحدًا "، فيه حسن خلقه وعشرته مع الصغير والكبير وسيطه لهم.
وقوله:" فوجدت ليده بردًا أو ريحًا كأنما أخرجها من جؤنة عطار "، الجؤنة: بضم الجيم، كالسقط، يجعل فيه العطار متاعه، قاله الحربى: وهو مهموز، وقد يسهل. قال صاحب العين: هي سليلة مستديرة مغشاة أدمى.
وقول أنس:" ما شممت عنبرًا ولا مسكًا أطيب من ريحه - صلى الله عليه وسلم - "، وقول أم سليم في عرقه حين جمعته في قواريرها:" هو من الطيب أطيب "، وفي الرواية الأخرى:" نرجو بركته لصبياننا "، كانت هذه الحالة حالته - عليه السلام - وإن لم يمس طيبًا، نص عليه في الحديث.
وقوله:" إذا مشى مشيًا تكفأ ": بهمزة آخره. قال شمر: أي مال يمينًا وشمالاً كما تكفأ السفينة. قال الأزهري: هذا خطأ، وهذه صفة المختال، ولم تكن صفته - عليه السلام - وإنما معناها: أنه يميل إلى سمته ومقصد مشيه كما قال في الرواية الأخرى:" كما ينحط من صبب ".
قال القاضي: لا بعد فيما قاله شمر إذا كان خلقة وجبلة، والمذموم منه ما كان مستعملاً.
وقوله في حديث أم سليم: أنه كان يدخل عندها فنام على فراشها. ذلك لأنها فيما ذكر على ما تقدم كانت ذات محرم منه من الرضاعة، فيه جواز الخلوة مع المحارم، والنوم عندهن، والتبرك بكل ماكان من النبي - عليه السلام - وجواز النوم على الأنطاع والأدم.(8/11)
وقوله: "ففتحت / عتيدتها، هي منة للمرأة تعد فيها الطيب. قال صاحب "العين": العتاد الذي تعده للأمر فهي عتيد، أي يتعد للركوب ومن عتيدة الطيب.
وقوله: ففزع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:« ما تصنعين ؟» أي هب من نومه، قاله الهروي.
وقولها:" عرقك أذوف به طيبي "، كذا ضبطناه عن أكثر شيوخنا بالذال المعجمة، ومعناه: أخلط. وعندنا في رواية الطبري:" أدوف "، بالمهملة ومعناه أيضًا: أخلط. قال ابن دريد: دفت الدواء وغيره بالماء أدوفه،بالدال المهملة. وقال غيره: وذفته بالمعجمه أيضًا أذيفه، حكى فيه: أذفت رباعي، وقد تقدم أول الكتاب بأتم من هذا. عند بعضهم: " أذك به طيبنًا "، وفي رواية: " الطيب "، وكله متقارب المعنى.
وقوله في صفة نزول الوحي عليه:« أحيانًا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهو أشده على، ثم يفصم عني »، قال الإمام: صلصلة الجرس: صوته.
قال القاضي: قال أنمتنا: معنى هذا: أن صوت الملك النازل أ عليه، بالوحى هو مثل صلصلة الجرس وذلك ليستغرقه عن أمور الدنيا،ويفرغ حواسه الصوت الشديد، حتى لا يسمع غيره فيتخلص لسماعه، ويفهم ما يلقى إليه وهذا فائدة الغط في الحديث الآخر. قال بعضهم: ومثل هذه الحالة تتلقى الملائكة الوحي من الله ؛ بدليل قوله في الحديث الآخر:« إذا قضى الله أمرًا في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كأنها سلسلة على صفوان ».
وقوله:« فيفصم عني »، أي يذهب عنى. ويبين ثم يقلع. يقال منه: فصم وأفصم، قال الله تعالى:{ لا انفصام لها }، أي: لا انقطاع وانصداع. الفصم: الانصداع دون بينونة، القصم بالقاف: إذا بان.
وقال لنا الوزير أبو الحسين عن أبيه الحافظ أبي مروان: عبر عن حاله هنا مع الملك بالقصم بهذا لأن الملك وإن بأن عنه وزال فهو غير انفصال بأن، بل الاتصال بينهما موجود والرجل خزلته وتركته، وأتْلَت كل أنثى تبعها ولدها، فالرجل أعطيته التلا وهو الذمة، وأيضًا جعلته تاليًا لك.(8/12)
قال القاضي: اختلف شيوخنا في ضبط هذا الحرف علينا في كتاب مسلم فضبطناه من طريق العذري:" أثل ": بثاء مثلثة مكسورة، ولام مطلقة مفتوحة، وهمزة مضمومة. وعند الفارسي:" أثلى "، بثاء مثلثة أيضًا ساكنه، وبعد اللام ياء، وعند القاضي التميمى عن الجياني مثله، إلا أنه بتاء باثنتين. وكان عند القاضي الصرفي:" أجلى " بالجيم، وعند ابن ماهان، وكذا عند البخاري. ورواه بعضهم:" أثلى ".
وأكبر هذه الألفاظ معبرة غير صحيحة المعنى ولا واقعة موقعها في هذا الحديث إلا قوله: انجلى وأجلى، أي أفرج عنه ما به أو فارقه الملك. يقال: أجليت عنه الهم، أي: فرجته عنه. وأجلوا عن قتيل: أفرجوا عنه وتركوه. قال بعضهم: لعله:" فلما أوتلى "، أي: قصر عنه وأمسك فصحف " اجلى وانجلى "، وكذا رواه ابن أبي خيثمة، أي ينجر عنه. ومنه قول أبي جهل: "أعل عني "، أي: تنح عني.
وقوله:" كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب مرافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، فسدل ناصيته ثم فرق بعد، سدل الشعر: إرساله، والمراد به هنا عند العلماء: إرساله على الجبين واتخاذه كالقصة، يقال: سدل شعره وثوبه إذا أرسله ولم يضم جوانبه. والفرق: تفريق الشعر بعضه من بعض.
والفرق: تفريقك من كل شيئين قال الحربي: والفرق موضع المفرق، والفرق في الشعر سنة ؛ لأنه الذي رجع النبي - عليه السلام - والظاهر أنه بوحي لقوله: " إنه كان يوافق أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء فسدل ثم فرق بعد "، فظاهره أنه لأمر حتى جعله بعضهم نسخًا، وعلى هذا لا يجوز السدل واتخاذ الناصية والجمة.
وقد روي: أن عمر بن عبد العزيز كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرسًا، يجيزون كل من لم يفرق شعره.(8/13)
ويحتمل أن يدل / على إجازة الفرق ولا على وجوبه. ويحتمل أن يكون الأمر باجتهاد منه - عليه السلام - في مخالفة أهل الكتاب آخرًا، ورجوعه عن موافقتهم أولاً، ويكون الفرق هنا على الاستحباب والندب بدليل اختلاف السبب في ذلك، ففرق منهم جماعة، واتخذ اللمة منهم آخرون. وقد جاءت الرواية أنه كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - لمة، فإن انفرقت فرقها وإلا تركها. وقال مالك: فرق شعر الرأس للرجال أحب إلي.
واختلف تأويل العلماء في قوله:" يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فيه شيء "، فقيل: كان هذا ائتلافًا لهم أول الإسلام، وموافقة لهم على مخالفة سيرة آهل الأوثان، فلما أغنى الله عن استئلافهم، وأظهر الإسلام على الدين كله، أمر بمخالفتهم في غير شيء، وحض على ذلك. وقال بعضهم: بل يحتمل أنه شرع له اتباع شرائع من قبله فيمالم ينزل عليه فيه شيء.
ولعله - عليه السلام - علم أن هذا مما لم يبدلوه من شرائعهم ؛ ولهذا استدل بعض الأصوليين بهذا الحديث على أن شرع من قبلنا لازم لنا مالم يرد خلافه. والأظهر أن هذه الحجة حجة على قائل هذا القول، وحجة المخالفة ممن لايقول ذلك، لأنه لو كان هذا لازما له - عليه السلام - وإنما لم يقل في هذا الحديث: يحب موافقة أهل الكتاب، بل ذلك كان يكون اللازم له.
وقوله في صفته - عليه السلام -:" عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه "، وفي حديث آخر:" يضرب شعره منكبيه "، وفي آخر:" بين أذنيه وعاتقه "، وفي آخر: "إلى أنصاف أذنيه "، وفي آخر:" ما رأيت من ذي لمة أحسن في حلة حمراء منه "، قال الإمام: قال شمر: الجمة أكبر من الوفرة، وهي الجمة إذا سقطت على المنكبين، والوفرة إلى شحمة الأذنين، واللمة هي التي ألمت بالمنكبين.(8/14)
قال القاضي: وجميع هذه الألفاظ وتأليفها: أن ما يلى الأذن، هي التي تبلغ شحمة أذنيه، هو الذي بين أذنيه وعاتقه، وما خلفه منها هو الذي يضرب منكبيه. وقيل: بل ذلك لاختلاف الأوقات، وإذا غفل عن تقصيرها بلغت المنكب، وإذا قصر كانت إلى أنصاف الأذنين، ويحسب ذلك بقصر وبطول. والعاتق: ما بين المنكب والعنق. وشحمة الأذن: ما لان من أسفلها، وهو معلق القرط.
ويوضح معنى اختلاف هذه الألفاظ ما جاء في رواية الحربي: كان شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوق الوفرة ودون الجمة.
وقوله " كان شعره رجلاً "، قال الإمام: يقال: شعر مرجل: مسرح. قال القاضي: المرجل هنا غير المرحل، وإن كان في اللغة بمعنى. قال الأصمعي: شعر رجل، بفتح الراء / وكسر الجيم، ورجل ورجل ثلاث لغات إذا كان بين السبوطة والجعودة. قال بعضهم: كأنما رجل بالمشط.
قال الإمام:" ضليع الفم "، قال شمر: يعني عظام الأسنان وتراضعها. ويقال للرجل: إنه لضليع الثنايا، أي غليظها وشديدها، ويقال: إنه لضليع الخلق، أي شديده. قال أبو بكر الرازي: سألت ثعلبًا عن ضليع الفم، فقال: واسع الفم. قال غيره:" ضليع الفم "، أي: عظيم الفم، والعرب تحمد ذلك وتذم صغير الفم، ومنه قوله في وصف منطقه: كان يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، وذلك لرحب شدقيه. ويقال للرجل إذا كان كذلك: أشدق.
وقوله:" أشكل العين ": قال أبو عبيد: الشهلة: حمرة في سواد العين، والشكلة: حمرة في بياض العين، وهو محمود، قال الشاعر:
ولا عيب فيها غير شكلة عينها كذاك عتاق الخيل شكلى عيرنها
ويروى: شكل. قال صاحب الأفعال: يقال: شكلت العين، بكسر الكاف، شكلة وشكلاً: خالط بياضها حمرة.(8/15)
وقوله: " منهوس العقب "، قال ابن الأعرابي: يقال: رجل منهوس القدمين، ومنهوش القدمين. وقال أبو العباس: النهس: بأطراف الأسنان، والنهش: بالأضراس. قال سماك في كتاب مسلم:" منهوس العقب "، أي قليل لحم العقب، وكذلك قال أيضًا: إن " ضليع الفم، معناه: عظيم الفم. وقال أيضًا: إن أشكل العينين، معناه: طويل شق العينين.
قوله:" كان أبيض مليحًا مقصدًا "، المقصد: الذي ليس بجسيم ولا قصير. وقال شمر: هر المقصد من الرجال نحو الربعة.
قال القاضي: تفسير سماك الشكلة في العين بما ذكر وهم عند جميعهم، وصوابه ما تقدم لغيره من الشارحين أنها حمرة تخالط بياض العين.
وقوله في حديث البراء:" كان أحسن الناس وجهًا وأحسنه خلقًا " بسكون اللام ضبطناه هنا ؛ لأنه إنما قصد فيما ذكره من صفات جسمه وأما في حديث أنس فبضم اللام ؛ لأنه إنما أخبر عن حسن معاشرته، وقوله: "وأحسنه خلقًا "، قال أبو حاتم: العرب تقول: فلان أجمل الناس.
وقوله:" وأحسنه " يريدون أحسنهم ولا يتكلمون به وإنما كلامهم وأحسنه. قال: النحويون: يذهبون إلى أن " و " أحسن من " ثم "، ومنه في الحديث:« خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أشفقه على ولد، وأعطفه على زوج في ذات يده »، ومنه قول أبي سفيان: أحسن نساء العرب وأجمله.
وقوله: " في حلة حمراء "، حجة لجواز لباس الثياب الحمر والصبغ بالحمرة، وقد تقدم منه في اللباس.
ذكر مسلم أحاديث في الاختلاف في شيب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقول أنس في حديث:" ما شانه الله ببيضاء "، أي ما عابه الله.
وقوله في حديث آخر:" لو شئت أن أعد شمطات كن في رأسه فعلت ".
وقوله:" إنما كان البياض في عنفقته وفي الصدغين وفي الرأس نبذ "، أي شيء يسير متفرق.
وقوله:" لم يكن رأى من الشيب إلا يسيره "، في الحديث الآخر: " إلا قليلا "، وقول أبي جحيفة:" رأيت هذه / منه بيضاء "، يعني: عنفقته، وفي حديث آخر:" رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبيض قد شاب ".(8/16)
وقول جابر ابن سمرة: " كان قد شمط مقدم رأسه ولحيته، وإذا دهن رأسه لم ير منه شيء، وإذا لم يدهن رئي منه، يعني دهنه بالطيب. وذكر قول أنس: أنه لم يخضب. وروى عن أم سلمة أنها أخرجت لهم شعرات من شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمراء مخضوبة بالحناء والكتم .
فاختلف الناس، هل خضب النبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟ فمنعه الأكثر لحديث أنس، وهو قول مالك. وذهب بعض أصحاب الحديث أنه خضب، واحتجوا بحديث أم سلمة هذا، وبقول ابن عمر: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بالصفرة. وقد تقدم اختلاف التأويل في هذا، لكن الطبري رواه: " يصفر لحيته ".
وجمع بعضهم بين هذا بما أشار إليه أنس من قوله في حديث أم سلمة: "ما أدري ما هذا الذي يحدثون إلا أن يكون ذلك من الطيب الذي يطيب به شعره "، وذلك أنه كان - عليه السلام - كثيرًا ما يستعمل الطيب وهو يغير لون الشعر ويزيل سواده، ويعجل فيه الشيب لمن أدامه، لا سيما بعض أنواعه مثل الكافور. فأشار أنس أن تغيير ذلك ليس بصبغ، وإنما هو ضعف لون سواد شعره من أجل الطيب.
وقيل: قد يكون خضابه ليس لأجل الشيب لكن لتليين الشعر وتحسينه لا لتغيير الشيب فيه. فمن نفى الخضاب أراد الذي هو الصبغ للشيب، ومن أثبته فمعناه ما ذكرناه. ويحتمل أن تلك الشعرات تغيرت بعد موته لكثرة تطييب أم سلمة لها إكرامًا لها، والله أعلم.
وأما الاختلاف في ذكر شيبه، فمد بين أنس أيضًا أنها كانت شعرات لو شاء عدها، ولأبى ذر نحو حديث أنس، وقد جاء في بعض حديث أنس: "وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء ". وفي حديث أنس:" ما كنت أدري، هل عد خمس عشرة شيبة ؟ وأخبر في حديثه الأخر: أنه ما شانه الله ببيضاء، نفي عنه الشيب الأبيض الناصع، وأنه كان ذلك الشيء الذي ذكر على قلته مما تغير لونه عن السواد لأجل الطيب أو غيره الخضاب لأجل تليين الشعر.(8/17)
ومن روى أنه قد شاب فغير مخالف ؛ إذ ينطلق ذلك على ما قل منه، ويكون ذلك في عنفقته على ما جاء في الحديث الأخر، ويكون ذلك الشيب ما يغير منه بالحمرة والانكسار غير لون السواد لا بنصوع البياض فيتلفق ألفاظ الأحاديث على هذا. وقد يتلفق أيضًا على ما جاء في حديث جابر بن سمرة: " كان إذا دهن رأسه لم ير منه شيء، وإذا لم يدهن رئي منه "، فاتفق أبو جحيفة له في وقت بعد عنه الوهم فظهرت تلك الشعرات له في عنفقته / كما قال أنس: " إنما كان البياض في عنفقته "، وقد يكون قول أنس: " ما شانه الله ببيضاء "، أي: لم يكن في حقه يعد شينًا، ولا نقصت من جمال شانه وحسن ردانه، بل زاد به وقارًا وجمالاً وهيبة، أو لم يكثر في شعره حتى تدهن بجماله ويكون الغالب عليه، فيفي الشين بها لهذا.
ومعنى قوله: " شمط "، أي: ابتدأه الشيب.
قال الإمام: قال ابن الأنباري: الشمط في كلام العرب: اختلاط البياض بالسواد، فإذا كان نصفين أو شبها بهما، قيل: أحلس الشعر منه فهو محلس، فإذا غلب السواد فهو أعثم.
قال القاضي: قال الأصمعي: إذا رأى الرجل البياض فهو أشمط وقد شمط. وأشمط، قال الخليل: الشمط: اختلاط الشعر بالشيب. قال أبو حاتم: هو الذي علا بياضه سواده. وقال: بانت كل لونين اختلطًا فهو شمط، والمحمول هنا هو الذي ابتدأه، كما قال الأصمعي ؛ لموافقة الأحاديث الأخر.
وقوله:" وفي رأس نبذ " بسكون النون، وسكون الباء:أي شيء قليل مشد.(8/18)
وقوله:" اختضب أبو بكر بالحناء والكتم "، الحناء ممدود قال أبو علي: وهو جمع حناه. والكتم مخفف التاء. وأبو عبيد يقولها مشددة، ولم يأت على فعل إلا ستة أحرف هذا منها، وهو نبات يصبغ به الشعر يكسر بياضه أو حمرته إلى الدهمة. قيل: وهي الموسمة. وقيل: بل غيرها وربما سود صبغه، وقيل: يخلط معها. قال أبو حنيفة: الوسمة الخضر والعظلم والملح والثومة، وكلها يصبغ به السواد. وقال أبو عبيد البكري: هو النبات الذي يسمى عندنا الحناء المحنوت. واختلف اختيار السلف في الصبغ بالحمرة والصفرة والسواد أو تركه، وقد تقدم.
وقوله " يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته "، قال الإمام: المذهب عندنا: أنه ليس بحرام وإن كان تركه أحب. وقد ذكر في بعض الأحاديث أنه - عليه السلام - نهى عن نتف الشيب. وقال:" إنه من نور الإسلام"، رواه ابن شعبان في "الزاهي".
قال القاضي: وقوله في صفة وجهه:" كان مستديرًا "، وجاء في غير هذا الحديث: أنه ليس بالمطهم ولا بالمكلثم "، وفسر بعضهم:" المكلثم": بالمستدير الوجه، لكن هذا مع قصر الذقن. وقال شمر: هو القصير الحنك الداني الجبهة المستدير الوجه، ولا يكون هذا إلا مع كثرة اللحم.
قال القاضي: وهذا معيب، والاستدارة المحمودة المستحسنة بخلافه، مع شمط الوجه والذقن، كما جاء: أسبل الخدين.(8/19)
وقوله: في صفة خاتم النبوة: مثل بيضة الحمامة، شبه جسده، وفي الحديث الآخر "ناغض كتفه اليسرى جمعًا، عليه خيلان، كأمثال الثاليل "، وفي الحديث الآخر:" مثل زر الحجلة "، كذا روبناه بتقديم الزاى، وفتح الحاء والجيم، ومعناه: الزر الذي يعقد النساء به عرى خجالهن كازرار القميص / والحجلة هنا واحد الحجال، وهي توردات سجون. وقال البخاري في تفسيرها: الحجلة من حجل الفرس الذي بين عينيه . كذا قيدناه بضم الحاء، وسكون الجيم، وفسره الترمذي: بمثل زر بيض، وهذا غير معروف، كأنه يريد بيض الحجل الطائر المعلوم المزرقي لبيض غير معلوم. لكن الخطابي رواه " رز "، بتقديم الراي على الزاي، فهذا قد يستقيم تفسيره بالبيض، يقال: ازرت الجرادة: أي أدخلت ذنبها في الأرض لتبيض. وقد جاء في البخاري: " كانت بضعة ناشزة " أي مرتفعة عن جسده، وفي حديث آخر: " مثل السلعة ".
وقوله: " جمعًا " يعني الكف إذا جمع، يقال فيه: ضربته بجمع كفي، وجميع كفي، وهذا كله متقارب، مجمع على أنها ناشزة عن جسده. وقدر بيض الحمامة، أو بيضة الحجلة، أو زر الحجال متقارب، وليس فيها مخالف إلا من جعلها كجمع الكف في القدر، والأحاديث الأخر أكثر وأصح والأشبه، وهذا الخاتم هو ترث الملك بين كتفيه.
وقوله: " وعند ناغض كتفه ". قال الإمام: قال شمر: الناغض من الإنسان أصل العنق، حيث تبيض رأسه ونغض الكهتف: هو المعظم الرقيق على طرفها. قال غيره: الناغض: فرع الكتف، سمى ناغضًا لتحركه. ومنه قيل للزليم نغض ؛ لأنه يحرك رأسه إذا غدًا.
وقوله: " ليس بالطويل البائن ولا بالقصير "، أي ليس بالطويل المتفاوت ولا بالقصير، كان ربع القامة.(8/20)
قال القاضي: قيل: الطويل البائن: المضطرب المفرط في طوله، ويدل على هذا قوله في الرواية الأخرى:" ليس بالطويل الذاهب " أي الزائد في الطول، وفي الحديث الآخر:" أطول من المربوع وأقصر من المشذب "، وهو البائن الطول في نحافة. والأشبه هنا أن المراد به أنه لم يكن طويلاً يبين طوله، بدليل ما جاء في الحديث الآخر:" ليس بالطويل الممغط ولا بالقصير المتردد كان ربعة "، وفي آخر:" لا طويل ولا قصير ".
قال الإمام: وقوله:" ليس بالأبيض الأمهق ولا بالآدم "، يعني: لم يكن بالشديد البياض الذي يترهم الناظر إليه برصًا، كان بياضه مشربًا بحمرة.
قال القاضي: الأمهق: هو البياض الناصع الذي لا يخالطه حمرة ولا إشراق لبياضه ولا صفرة، كأنه برص. وقد قال في الحديث الآخر:" أبيض مشرب "، يريد بحمرة. قال الخليل: المهق: بياض في زرقة، والمغت مثله. وقيل: أشد منه، والآدم: الأسمر ؛ سمى لشبه لونه بأدمة الأرض. وقيل: لذلك سمى آدم. قال الإمام: أي ليس الشديد السمرة، ولا بالجعد القطط " يعني: الشديد الجعودة "ولا بالسبط " يعني: المرسل الشعر.
قال القاضي: هو الشديد الجعودة الذي لا يطول مثل شعر السودان، والسبط: المسترسل الذي ليس فيه لكسر، والذي بين هاتين الصبغتين هي التي تقدمت في قوله:" رجل الشعر "، أي: فيه كسر قليل كأنه قد رجل أي مشط.(8/21)
وقوله:" بعثه الله / على رأس أربعين سنة، وأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتوفاه الله على رأس ستين سنة "، وذكر في الرواية الأخرى عن أنس:" قبض وهو ابن ثلاث وستين "، وذكر مثله عن عائشة ومعاوية، وعن ابن عباس مثله، وأنه إأقام بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، وفي الأخرى:" بضع عشرة "، وفي الرواية الأخرى عنه:" أربعين بعث وخمسة عشر بمكة يأمن ويخاف، وعشرة بالمدينة "، وفي رواية أخرى عنه: "يسمع الصوت، ويرى الضوء سبع سنين، ولا يرى شيئًا، وثمان سنين يوحى إليه "، وذكر عن ابن عباس أيضًا:" أنه توفي وهو ابن خمس وستين "، هذا ما في جملة كتاب مسلم من الاختلاف، وقد اختلفت الآثار عن أصحابه بهذه الأقاويل، وجاء عن ابن عباس:" أنه بعث على رأس ثلاث وأربعين"، وهو قول سعيد بن المسيب، وروي عنه:" أربعين" أيضًا. وقد روي عن أنس وغيره أنه:" توفي وهو ابن خمس وستين سنة "، مثل إحدى الروايتين عن ابن عباس. وقال البخاري في رواية من روى عن أنس:" ثلاث وستين "، هذه أصح ممن قال: "ستين "، فيتفق على ثلاث وستين كل من قال: إنه بعث على رأس ثلاث وأربعين، وأقام بمكة عشرًا. ومن قال: إنه بعث على رأس أربعين، وأقام بمكة ثلاث عشرة. ولا خلاف أنه ولد - عليه السلام - عام الفيل.(8/22)
وقوله عروة لما سئل: كم لبث - عليه السلام - بمكة، فقال: عشرًا، فقيل له: إن ابن عباس قال: بضع عشرة، فصغره، وقال: إنما أخذه من قول الشاعر: كذا فى بعض الأصول:" فصغره "، وهى رواية ابن ماهان، ورواه الجلودي: " فغفره "، وفى كتاب شيخنا الصدفي:" فغفروه "، ومعناه - والله أعلم -: دعا له بالغفران، كأنه وهمه فيما قال وخطاه، كما قالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، إنه لم يكذب ولكنه وهل، أى وهم. والوجه الأول عندي أظهر، أي استصغر سنه لذلك، عن الضبط لذلك، لكونه مدة كون النبي بمكة لم يخلق أولاً، وفي آخرها صغيرًا ليس فى سن من يضبط قيل: إنه ولد فى الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين.
وقوله:" إنما أخذه من قول الشاعر "، يدل عليه أنه لم يدرك ذلك بنفسه ولا علمه بمشاهدته، وانما سمعه من غيره. والشاعر هنا هو: أبو قيس صرمة بن أنس، حيث يقول:
ثوى فى قريش بضع عشرة حجة يذكر لو يلقى صديقًا مواتيا
وقوله: " يسمع الصوت "، أي: صوت الهاتف به من الملائكة، "ويرى الضوء": أي نور الملك وأنوار آيات الله حتى رأى الملك بعينه وشافهه بوحي ربه. قوله في بعض الروايات: من طريق ابن مثنى وابن يسار في قول معاوية: مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ابن ثلاث وستين سنة، ومات أبو بكر وعمر وهما ابنا ثلاث وستين، نحو هذا قيل عن معاوية في الحديث الآخر، وجاء في رواية معظم شيوخنا عندنا، ومات أبو بكر وعمر وأنا ابن ثلاث وستين. وكذا قيدناه هنا، وإن لم يكن وهما، ولعل معناه على الحذف، أي مات أبو بكر وعمر مثله، ثم أخبر عن نفسه، وأنه مستشعر قضاء مدته وأمد وفاته بموافقته وفاته.(8/23)
وقوله:« أنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي »، وفي الرواية الأخرى:« عقبي، وأنا العاقب الذي ليس بعدى »، فسره في الحديث بما تقدم. قال العلماء في بيان هذا التفسير: محو الكفر إما من مكة وبلاد العرب وما زوى له من الأرض، ووعد أن يبلغه ملك أمته، أو يكون المحو عامًا بمعنى الظهور والغلبة كما قال:{ ليظهره على الدين كله }، وقد جاء في حديث آخر يفسره أن معناه: الذي محيت به سيئات من اتبعه، فقد يكون المراد بالكفر هذا لقوله: "الإسلام يجب ما قبله".
وقوله:« الذي يحشر الناس على عقبي»، أو « قدمي »، على الرواية الأخرى، قيل: على زماني وعهدي، أي ليس بعدي نبي. وقيل: "على قدمي"، أي: أمامي وقدامي، كأنهم يجتمعون إليه يوم القيامة، ويكونون أمامه وخلفه وحوله. وقيل: "على قدمى": على ساقي، قال الله تعالى: {أن لهم قدم صدق عند ربهم }، وقيل:" على قدمي": على سنتي. وقيل: يتبعوني، وقيل: يحشر الناس بمشاهدتي، كما قال تعالى:{ ويكون الرسول عليكم شهيدًا }.
وقوله في الحديث الآخر:« أنا محمد، وأحمد، وأنا المقفى »، فمعناه معنى العاقب، قال: شمر: هما بمعنى، يقال: قفى عليه، أي ذهب به، فكان معناه: أنا آخر الأنبياء. وقال ابن الأعرابي: المنتقى: المتبع للنييين، يقال: قفوته أقفره وقفيته: إذا تبعته، ومثله: قفته أقوفه، قال تعالى:{ ثم ققينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم } الآية، وقال تعالى:{ ولا تقف ما ليس لك به علم }، وقافية كل شيء وقفاه آخره، ومنه: قافية الشعر.
قال الإمام: ومعنى العاقب: آخر المرسلين، وأنه أرسل عقبهم.
قال القاضي: قال ابن الأعرابي: العاقب والعقوب: الذي يخلف من كان قبله في الخبر. قال أبو عبيد: ومن هذا سمى عقب الرجل لولده بعده.(8/24)
وقوله:« ونبي التوبة ونبي الرحمة »، ويروى:" المرحمة "، ومعنى هذا متقارب، قال الله تعالى في صفته:{ بالمؤمنين رءوف رحيم }، وقال: {ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة }، { ويهديهم إلى صراط مستقيم }، وقال:{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }، ووصف أمته بأنها مرحومة ورحماء، وبأنهم تواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة }. ووقع في بعض روايات مسلم مكان " الرحمة " " الملحمة أ . وهذا -. أيضًا - صحيح المعنى،?فقد جاء مفسرًا في حديث حذيفة"، "ونبي الملاحم "؛ لأنه - عليه السلام - بعث بالسيف والحرب، وأمر أن يقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. وخص هذه الأسماء ما جاء في أسمائه في أحاديث أخر، وفي كتاب الله وسائر الكتب مع قوله في "الصحيح": " لي خمسة أسماء »، وتخصيصه لهذه الأسماء دون غيرها، فقيأ، لأنها موجودة في الكتب المتقدمة، معروفة عند الأمم السالفه، والله أعلم. وقد جمعنا من أسمائه - عليه السلام - كثرًا مما جاء في كتاب الله وسماه الله به ونقل عن الكتب المتقدمة وعرفه بأنه للعرب والصحابة، وسماه به المسلمون عددًا وأفرادًا وتكلمنا /عليها كلامًا بالغًا في كتاب:" الشفا بتعريف حقوق المصطفى ".
ذكر مسلم في الباب في حديث جبير بن مطعم: حدثنا عبدالملك بن شعيب بن الليث، حدثنا أبي، عن جدي، حدثنا عقيل، إلى قوله: وفي حديث: قلت للزهري، كذا لابن ماهان، وعند غيره: وفي حديث معمر. وفي حديث إسحاق بن إبراهيم بعده: عن أبي عبيدة، عن أبي موسى، كذا لهم. وعند الطبري: عند أبي عبيد.(8/25)
وقوله: صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرًا فترخص فيه، فتنزه عنه ناس، فبلغه ذلك، فغضب حتى بأن الغضب في وجهه، وقام خطيبًا فقال - صلى الله عليه وسلم -:« ما بال أقوام بلغهم عني أني قد ترخصت في أمر فكرهوه وتنزهوا عنه، فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية »، وفي الرواية الأخرى:« عما رخص لي فيه»، هذا من تعريضه - عليه السلام - وأنه كان لا يؤاخذ الناس بالكتاب إنما يقول: «ما بال أقوام »، و « ما بال الناس »، وكان هذا من حسن معاشرته - عليه السلام - ورفقه بامته ومحبته - عليه السلام - أن يؤتى بالرخص ويستن به في ذلك. وقد جاء:« أن الله يحب أن يؤتى رخصه كما يجب أن يؤتى عزائمه ».
وفيه النهي عن التنطع في الدين، والأخذ بالشدائد في جميع الأمور ؛ فإن الدين يسر، والشريعة حنيفة سمحة، وذكر الانسان نفسه بالخير، وثناؤه على نفسه إذا احتيج إلى ذلك، وكانت فيه منفعة لغيره ولم يقصد به الكبر والفخر.
وقولهم في الحديث الآخر:" لسنا نهتبل "، حرص منهم على التزيد في الخير. وفيه أن على التائب والصالح من التقوى والخير والخشية مثل ما على المذنب، قال الله تعالى:{ إنما يخشى الله من عباده العلماء }، وقال - عليه السلام -: « أفلا أكون عبدًا شكورًا }.
وفيه حجة بينة على جواز الاقتداء بجميع أفعال الأنبياء أو أن مواقعة الصغائر لا تصح منهم، وكذلك مواقعة المكروهات، وإذا كان - عليه السلام - لا يقر على منكر باتفاق الجميع كان من قوأى أو فعل، وأن متى رأى شيئًا فأقره دل على إباحته. وكانت هذه حالة في حق غيره، فكيف يصح وقوعه منه من صغيرة أو فعل مكروه، مع علمنا من دين الصحابة قطعًا بالنقل المتواتر والاقتداء فعاله وسماته في جميع أموره، وقال لعائشة:« هلا خبرتيها أني أقبل وأنا صائم »، وغضبه على الذي قال: يحل الله لرسوله ما شاء.(8/26)
ويلزم الاقتداء بأفعاله، قال جمهور الفقهاء من المالكية والحنفية والشافعية، ولم يشترطوا مع ذلك قرينة ولا دليلاً، وإن اختلفوا في حكم ذلك هل هو على الوجوب، وحكى عن مالك، وهو قول أكثر أصحابنا أو العراقيين وبعض الشافعية. أو على الندب، وهو قول أصحابنا وأكثر أصحاب الشافعي. وذهب طائفة إلى أنه على الإباحة، وقيد بعضهم لزوم الاتباع بما يختص بالأمور الدينية وعلم به مقصد القربة وقرينة الطاعة، وإليه أشار حذاق المتكلمين منهم.
وقوله:" أن رجلاً خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون منها النخل"، الشراج مسايل الجدار إلى السيول، قالها الأصمعي. وقال غيره: السراج لما سوقه الرجل من الماء إلى مائه، واحدها سرج.
وقوله:« اسق حتى يبلغ / الجدر »، الجدر: بالدال المهملة، والجدر: بفتح الجيم وكسرها: الجدار، وجمع الجدر جدور، وجمع الجدار جدر. واختلف في المراد به هنا، فقيل: أصل الحائط. وقيل: أصول الشجر، ويحتمل أن يريد به جدر الشرجات، وهي حفر يجعل حول النخل يجمع فيها الماء. وقال الداودى: هي أعلى الجسور تحفر حول الشجر والزرع.
قال الإمام: تقدم الكلام على هذا الحديث، وذكرنا الاختلاف في مراعاة بلوغ الماء إلى الكعبين، هل إذا بلغ الماء إليهما أرسل الجميع أو حبس هذا المقدار منه وأرسل ما زاد. والواجب أن يعين لكل أرض بقدر كفايتها. وتحمل قصة الزبير على أنه كان على قدر كفاية أرضه، وهل يراعى بلوغ الكعبين في الساقية أو في أرض الحائط، وذكرنا قضاءه - صلى الله عليه وسلم - مع غضبه، وقد نهى عن ذلك وذكرنا أنه معصوم في الغضب والرضا، إلى غير ذلك من الأعذار التي ذكرناها، وإنما أذكر تلك بهذه الجملة لتطالعها هناك.(8/27)
قال القاضي: ذكر البخاري عن الزهري قال: فقدر بالأنصار والناس. قوله:" ثم احبس حتى يبلغ الجدر فكان ذلك إلى الكعبين "، قال الداودى: وقد روى في حديث آخر: أنه قال للزبير أولاً:« اسق إلى الكعبين »، فلما رد عليه الأنصاري قال له:« اسق حتى يبلغ الجدر »، فيه صبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأذى والاحتمال للجفاء، ويجب التاسى به على ما تقدم، ومثل هذا لو صدر اليوم من أحد في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - من تهمته في الحكم، ورميه فيه بالهواء والميل، لكان كفرا يجب قتل قائله، لكنه - عليه السلام - كان أول الإسلام يؤلف ويدفع بالتى هي أحسن، وكان يصبر للمنافقين ومن في قلبه مرض على أكثر من هذا من التصريح والتعريض، وكان يقول:« يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا»، « ولا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه »، وقال الله تعالى: { ولا تزال تطّلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين }.
وقوله: إنى لأحسب هذه الآية في ذلك نزلت:{ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } الآية، اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية، فقيل: في شأن الزبير كما تقدم. وقيل: في رجلين تحاكما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحكم على أحدهما، فقال له: ادفعني إلى عمر بن الخطاب. وقيل: في قصة اليهودى والمنافق اللذين اختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يرض المنافق بحكمه وطلب الحكم عند الكاهن، قالوا: وهو قول مجاهد، وأشبه بسياق الآية وما قبلها. وقال الطبري: لا ينكر أن تكون نزلت في الجميع. وحكى الداودي: أن الذي خاصم الزبير كان منافقًا.
وقوله عنه: " من الأنصار "، أي: من قبيلهم لا منهم.(8/28)
قوله:« أعظم الناس جرمًا من يسأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته »، وفي رواية:" ونقَّر عنه "، وقوله:« إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم عن مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم »، المراد بالجرم هنا الحدث على المسلمين، لا أنه / من الجرائم والآثام المعاقب عليها، إذ كان السؤال أولاً مباحًا، ولولا ذلك لما قال - عليه السلام -:« سلونى ».
وقوله في الحديث الآخر: " فنزلت:{ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم }، فيه الأدب مع العالم، وترك الإلحاح عليه في السؤال، وترك التكلف. قيل: نزلت الأية في سؤالهم إياه عما عفا الله عنه من أمور الجاهلية، فحذرهم الله عقباها، والسؤال عما لا فائدة فيه، ولم ينزل بهم وما سكت عنهم، وقد كره السلف السؤال عما لم ينزل. وقيل: نهى عن السؤال في الآية مما لم يذكر في القرآن مما عفا الله عنه.
وأما قوله:" فنقر عنه "، أي بحث، وهي رواية الجمهور، ووجه الكلام. وعند السمرقندي:" فبعث عنه "، بالباء، وهو متقارب المعنى. يقال: إنه لنقاب، أي عالم باحث عن الأشياء، قال الله تعالى:{ فنقبوا في البلاد} أي: جالوا فيها وبحثوا وتفرقوا { هل من محيص}، أي معدل. وفي رواية: " نفر "، بالفاء والراء، وهو خطأ. وقوله:" غطوا رؤوسهم ولهم خنين "، رويناه عن العذري بالحاء المهملة، وعن غيره بالمعجمة وهو الصحيح في هذا الموضع. والخنين: بكاء له صوت. قال الخليل: الخنة: ضرب من الغنة. قال الأصمعي: إذا تردد بكاء الرجل فصار في صوته غنة، قيل: خن. وقال أبو زيد: الخنين مثل الحنين وهو الشديد من البكاء، وقد جاء في بعض الروايات:" فأكثر الناس من البكاء ". قال ابن دريد: الخنين: تردد البكاء من الأنف، والحنين تردده من الصدر.(8/29)
احتج به من أنكر على الصوفية واصحاب الرقة ما يصدر منهم من الحركات، والزعق، والغشيان عند سماع الوعظ والتخويف، والأمور المحركات الذي يسمونها الوجد. وقال أبو بكر الاجرى: كان النبي - عليه السلام - أصدق الناس موعظة، وأنصح الأمة لها، وأصحابه أدق الناس قلوبًا، وخير من جاء بعدهم، ما صرخوا ولا زعقوا عند موعظته، ولو كان صحيحًا كانوا أحق الناس به أن يفعلوه بين يديه، ولكنه بدعة و ضلا لة.
وفي سند هذا الحديث: حدثنا محمد بن غيلان، حدثنا محمد بن قدامة السلمي، كذا لكافتهم، ولابن ماهان عند بعض الرواة:"الكلبي"، والصواب الأول.
وقوله: في هذا الحديث: « من أراد أن يسألني عن شيء فليسأل، فوالله لا تسألونني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي »، هذا مما لا يمكنه منه - عليه السلام - أن يقوله إلا عن وحي، إذ لا يعلم من أمور المغيبات إلا ما علمه الله.
وقول عمر:" رضينا بالله ربا "، الحديث، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال ذلك: يبين أن النبي إنما قال ذلك لهم غضبًا، كما قال في رواية أخرى: " وسكن غضبه "، ومذهبه واختياره لهم خلافه من ترك المسألة لكن ساعدهم على ذلك لجوازه لهم، ولما رأى من حرصهم فيه، وليبين قدر ما علمه الله به، ويغيظ بذلك الكفار والمنافقين، ويقطع بهم في منزعهم في تعنيته في السؤال، ومعاقبته لهم بكثرة سؤالهم، وباعلامهم بكل ما سألوا عنه. وفيه ما يسوء بعضهم إن كانوا قد أكثروا عليه وأخفوه في السؤال كما جاء في الحديث الآخر بعده،/ وكما قال في الرواية الأخرى للذى سأله: أين أنا ؟ قال:" في النار "، ويحتمل أنه من المنافقين المستوجبين لها والعاصين. وقيل: بل قاله - عليه السلام - عقابا وغضبًا لتعنيته إياه بسؤاله، فاستوجب به النار.
ومعنى " سكت " هنا: صمت ويحتمل أنه بمعنى: سكن، كما جاء في الحديث الآخر، وكما قيل في قوله تعالى:{ ولما سكت عن موسى الغضب}.(8/30)
قوله: - عليه السلام -:« والذي نفسي بيده، لقد عرضت على الجنة »، أدنى كلمة تهدد وتلهف، وقوله:« لقد عرضت على الجنة والنار عرض هذا الحائط » بضم العين، أي جانبه،وقيل: وسطه يحتمل وجهين: أحدهما: أنه عرضت له حقيقة في جهة الحائط، وإلا فالجنة والنار لا يتسع في الحائط ولا يحل فيه، ويدل على هذا التأويل من عرضها له حقيقة قوله في الحديث الأخر: " فتناولت منها عنقودًا»، أو يكون ضرب لها مثلها وشرح له أمرها بإمراريه في الحائط وجهته، ويدل أيضًا على صحة هذا التأويل قوله لمن الرواية الأخرى:« صورت لي الجنة »، وعليه يدل لفظه في الحديث الآخر بعده:" صورت لي الجنة والنار، فرأيتهما دون هذا الحائط ».
وقول أم حذافة:" أأمنت أن تكون أمك قارفت بعض ما تقارف نساء الجاهلية فتفضحها "، أي: عملت ذنبا، يريد الزنا، واكتسبته، قال الله تعالى:{ وليقترفوا ما هم فقترفون }، وكان سبب سؤال حذافة أن بعض الناس كان يطعن في نسبه، وقد بين ذلك في الحديث الآخر، ولم يسمه، فقال:" كان يلاحى ويدعى لغير أبيه "، أي يخاصم ويشاتم. والملاحاة: الخصام والسباب.
وقوله:" سألوه حتى أحفوه "، أي كثروا عليه في المسألة والإلحاح: وأخطأ في السؤال وألحف بمعنى: ألح وبالغ.
وقوله:" فلما سمع ذلك القوم أرموا "، قال الإمام: سكتوا. قال صاحب "الأفعال": أرم القوم: سكتوا لشيء هابره، والعظم صار فيه رم وهو المخ، والأرض صار شجرها رميمًا من الجدب.
قال القاضي: وأصله من المرمة وهي الشفة، أي ضموا شفاههم بعضها على بعض ولم يتكلموا. وأصل المرمة في ذوات الأظلاف بمنزلة الشفة من الإنسان، يقال منه: رمت الشاة النبات: إذا تناولته بشفتيها. وفي الحديث في ذكر سمن البقر: فإنها ترم من كل الشجر.(8/31)
وقوله - عليه السلام - في إنكار التذكير للنخل:« لو لم تفعلوا لصلح وكان خيرًا، وما أظن يغنى ذلك شيئًا »، فتركوه، فنقصت، فقال:« إنما أنا بشر، وإنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن، فإذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا، فإني لن أكذب على الله، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر »، وفي الرواية الأخرى: فخرجت شيصًا، فقال:« أنتم أعلم بأمر دنياكم »، فمعنى قوله هنا:" من أمري "، يعني في أمر الدنيا، لا فيما راه أو قاله من قبل نفسه في اجتهاده في الشرع والسير على القول بجواز الاجتهاد منه ؛ لأن القسم الذي قد أمر بالأخذ به بقوله: " من دينكم وعن الله "، وهذا اللفظ الذي قال فيه: "من رأيي "، إنما أذى به عكرمة في الحديث على المعنى لقوله آخر الحديث /أو نحو هذا، فلم يأت به بلفظ النبي مخففًا فلا يحيل به من لا تحقيق عنده.
وقول النبي هاهنا للأنصار في النخل ليس على وجه الخبر الذي يدخله الصدق والكذب فينزه النبي عن الحلف فيه، وإنما كان على طريق الرأي منه ؛ ولذلك قال لهم:« إنما ظننت ظنًّا، وأنتم أعلم بأمر دنياكم »، وحكم الأنبياء وآراؤهم في حكم أمور الدنيا حكم غيرهم من اعتقاد بعض الأمور على خلاف ما هي عليه، ولا وصم عليهم في ذلك ؛ إذ هممهم متعلقة بالآخرة والملأ الأعلى وأوامر الشريعة ونواهيها وأمور الدنيا يضادها ؛ بخلاف غيرهم من أهل الدنيا الذين يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون.
وقوله:" يأبرون النخل "، فسره في الحديث بقوله: "يلقحون يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح "، يقال: أبرت النخل أبرها وأبرها وأبرتها أيضًا، والاسم الأبار والأبر.
وقوله:" فخرج شيصا "، قال الإمام: الشيص: البسر الذي لا نوى له. قال القاضي: وهو رديء البسر الذي إذا يبس صار حشفًا.
وقوله في الرواية الأخرى: " فنفضت " أي سقطت ثمرها.(8/32)
وقوله:« والذي نفس محمد بيده، ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني، ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم »، وفي بعض الروايات:" معه"، وليس عند شيوخنا. قيل: معناه على التقديم والتأخير:« لأن يراني معهم، أو معه أحب إليه من أهله وماله، ثم لا يراني »، وكذا جاء في مسند سعيد بن منصور:« ليأتين على أحدكم يوم لأن يراني أحب إليه من أن يكون له مثل أهله وماله ».
وقد جاء نحو هذا في بعض نسخ مسلم من كلام ابن سفيان، وثبت عند الجياني، ونصه: قال أبو إسحاق: معناه عندي: لأن يراني معهم أحب إليه من أهله وماله، وهو عندي مقدم ومؤخر، ولم تكن هذه الزيادة عند أكثر شيوخنا.
وقوله:« أنا أولى الناس بابن مريم في الأولى والأخرة »، قالوا: كيف يا رسول الله ؟ قال:« الأنبياء إخوة من علات »، وفي الرواية الأخرى:« أولاد علات، وأمهاتهم شتى ودينهم واحد، فليس بيننا نبي »، أولاد العلات: هم الذين ليسوا لأم واحدة، والعلات: الضرائر. قال الهروي في هذا الحديث معناه: أنهم لأمهات مختلفات ودينهم واحد.(8/33)
قال القاضي: لم يرد على ما ذكر في الحديث، وهذا غير مراد الحديث بدليل آخره، وإلا فما اختصاص عيسى حينئذ من بينهم، وما خص الأمهات من بين الآباء في حق الأنبياء وليسوا لأب واحد، كما ليسوا لأم واحدة، والظاهر في معناه: أن الأنبياء يختلفون في أزمانهم، وبعضهم بعيد الوقت من بعض، وبين بعضهم وبعض أنبياء أخر، وإن شملتهم النبوة وكأنهم أولاد علات، إذ لم يجمعهم زمن واحد كما لم يجمع أولاد العلات / بطن واحد. وعيسى لما كان قريب الزمن منه ولم يكن بينهما نبي، فكأنهما في زمن واحد وابني أم واحدة فكان بخلاف غيرهما، فلذلك قال:« أنا أولى به »، وفسر ذلك بقوله:« وليس بينى وبينه نبي »، وإنما ذكر في الحديث عندي: «أمهاتهم شتى ودينهم واحد »، لشبههم بأولاد العلات لما ذكرنا. " وأولى " هنا بمعنى: أخص وأقرب وأقعد ؛ لقوله:« فلأولى رجل ذكر »، ولقوله: «مزينة وجهينة موالي دون الناس »، أي المختصون بي.
وقوله:« ودينهم واحد »، إنما يرجع إلى الترحيد الذي هم مجمعون عليه، أو على طاعة الله واتباع شرائعه على الجملة، وأما شرائعهم فمختلفة. وهذا مثل قوله تعالى:{ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا } الآية. وقوله: «ما من مولود إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخًا من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه »، ثم قال أبو هريرة: فاقرؤوا إن شنتم:{ وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم }، ظاهره أنه منع من ذلك إجابة لدعوة زكريا - عليه السلام -، وأيضًا فإن الأنبياء معصومون من الشيطان بكل وجه، وقد جاء في هذا الحديث في غير مسلم:« فذهب الشيطان ليطعن في خاصرته فطعن في الحجاب ».
وقوله:« صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان »، كذا روايتنا، وفي بعض النسخ:" فزعة " بالفاء والعير المهملة. الفزع: الإغواء والوسوسة والإفساد. قيل في قوله:« نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي }، أي أفسد، كأنه يريد هنا من فعلة فعلها الشيطان رام بها ضرًّا بالمولود.(8/34)
وقوله:« رأى عيسى رجلاً يسرق، فقال: سرقت ؟ قال: لا، والذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت نفسي »، ظاهره: صدقت من حلف بالله، وكذبت ما ظهر لي من ظاهر سرقة الآخر، فلعله أخذ ما له فيه حق أو بإذن صاحبه ولم يقصد الأخذ، إلا التغليب والنظر وصرفه إلى موضعه، وظهر لعيسى أولاً بظاهر مد يده وإدخالها في متاع غيره أنه أخذ منه شيئًا، فلما حلف له أسقط ظنه، وتوكد، والله أعلم.
وقوله - عليه السلام - للذى قاله: يا خير البرية، فقال:« ذاك إبراهيم »، قال الإمام: قد ثبت أنه - عليه السلام - أفضل من سائر المرسلين، فيحتمل أن يكون هذا منه - صلى الله عليه وسلم - على جهة التواضع، واشتغالاً ؛ لأن ينادى بهذا، وقد كان إبراهيم - عليه السلام - في آبائه - صلى الله عليه وسلم -، ويكره إظهار المطاولة على الأباء. وقد يكون فهم من ثنائه غير هذا المعنى وأخبر في موضع آخر بكونه سيد ولد آ دم، غير قاصد للتعاظم والتطاول على من تقدمه - صلى الله عليه وسلم -، بل ليبين ما أمره الله تبارك وتعالى ببيانه، ولهذا عقب / كلامه بأن قال:« ولا فخر »، ليزيل ما قد أطلة، هذا الكلام إذا أطلقه غيره من الناس في نفسه. وقد يحتمل قوله:« ذاك إبراهيم » قبل أن يوحى إليه بأنه هو خير منه. فإن قيل: هذا خبر ولا يقع إلا صدقًا،والنسخ لا يصح فيه، فلا وجه لعذركم هذا، قلنا: قد يريد - صلى الله عليه وسلم - أن إبراهيم خير البرية فيما يدل عليه ظاهر حاله عنده، وقد يقال: فلان خير قومه وأصلح أهل بلده، والمراد فيما يقتضيه ظاهر حاله. وقد مال إلى هذه الطريقة بعض العلماء في تفضيل الفاضل من الصحابة، أنه يفضل على الظاهر لا على القطع على الباطن.(8/35)
وقد يكون لإبراهيم - عليه السلام - فضيلة يميز فيها عن سائر المسلمين، ولكن نبينا - صلى الله عليه وسلم - له من مجموع الفضائل ما يربى عليها حتى يكون أفضل على الإطلاق، ولا يكون المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - في إبراهيم - عليه السلام -:« خير البرية » على الإطلاق، ولكن في معنى اختص به.
قال القاضي: هذا وإن كان خبر من النوع الذي يدخله النسخ لأن أمر الفضائل والمنازل مما منحه الله عبيده، وتعظيمًا لمن شاء، وأخبر - عليه السلام - أولاً بما اعتقده وظهر له من منزلة إبراهيم، ثم إن الله أعلمه بمنزلته هو وأنه خير البرية، فلزمه اعتقاد هذا ويعبد الله بذلك، ونسخ ما كان أمرنا به - عليه السلام - قبل من ترك التفضيل من الأنبياء، واعتقاد ما لزمناه اتباع النبي في اعتقاده في تفضيل إبراهيم، فقد تعلق بهذين الخبرين عبادتان، إحداهما ناسخة للأخرى.
وقوله:« اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم »، كذا رويناه مخففًا هنا، وفسرها بعضهم بآلة النجار، وهو قول محمد بن المواز وغيره. وقيل: هو موضع يثقل ويخففه آخرون. حكى الباجي فيه الوجهين، وبالتخفيف رواه بعض رواة البخاري، وضبطه المروزى بالتشديد، وأنكر يعقوب بن أبي شيبة فيه التشديد، وقال الهروي: هو مقيل له. وقيل: قرية بالشام. ولم يحك فيه غير التخفيف. وحكى أبو عبيد البكري " قدوم، مخفف ثنية بالسراة. وقاله ابن دريد، قال: والمحدثون يشددونه.(8/36)
قال البكري: وأما في حديث إبراهيم فمشدد، ورواه أبو الزناد بالتخفيف، وهو قول أكثر اللغويين. وحكاه البخاري عن سعيد. واختلفت الرواية فيه عن أبي الزناد في حديث أبي هريرة بالتخفيف والتشديد، وحكى البكري عن محمد بن جعفر اللغوي /، أن " قدوم " المكان مشدد معرفة، لا يدخله الألف واللام. قال: ومن رواه في حديث إبراهيم مخففا فانما عنى الآلة التي ينجر بها. قال القاضي: من هنا شرع الختان في العرب في ولد إسماعيل، وفي اليهود ولد إسحاق بن إبراهيم، وتقدم الكلام في الاختتان بأول الكتاب. وقد قيل: إن هذا من الكلمات التي ابتلاه الله بها.
وقوله:« وهو ابن ثمانين سنة »، كذا في كتاب مسلم، وقد جاء هذا الحديث من رواية مالك والأوزاعي، وفيه:« اختتن إبراهيم وهو ابن مائة وعشرين سنة، ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة »، إلا أن مالكًا ومن تبعه أوقفه على أبي هريرة. وكذا ذكره في "الموطأ" من رواية القعنبي وبعض رواة "الموطأ"، ولم يكن الحديكث عند غير واحد منهم رواة "الموطأ". وذكر غيره عكس هذا أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة، كما ق ل مسلم. وعاش مائة وعشرين سنة.
وقوله - عليه السلام -:« نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال:{ رب أرني كيف تخي الموتى }» ا الأية، قال الإمام: من الناس من ذهب إلى أن إبراهيم - عليه السلام - إنما أراد بهذا اختبار منزلته واستعلام قبول دعوته، فنسأل الباري جلت قدرته في أن يخرق له العادة ويحيي الموتى ؛ ليعلم بذلك قدر منزلته عند الله سبحانه، ويحمل هؤلاء قوله:{ أولم تؤمن } على أن المراد به: بقربك مني ولفضلك لدي، فيكون التقدير - لو ثبت حمل الآية على هذا المعنى -: نحن أولى أن يختبر حالنا عند الله من إبراهيم على جهة الإشفاق منه ظظ والتواضع لله سبحانه.(8/37)
وإن قلنا بما يقتضيه أصل المحققين، وأن المراد أن ينتقل من اعتقاد إلى اعتقاد آخر هو أبعد من طريان الشك ونزغات الشيطان ؛ لأنا نساوي بين العلوم الضرورية والعلوم النظرية، ونمغ التفاضل بينهما في نفس التعلق، وإنما يصرف التفاضل إلى أن الشك ألا أن يطرأ على الضروري، في العادة، والنظرى قد يطرأ عليه، فيكون إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - سأل زيادة في الطمانينة وسكون النفس، حتى ينتفي الشكوك أصلاً. أو يكون المراد من نبيناء: إنما نحن أحق بالسؤال في هذا منه على جهة الإشفاق، وأيضًا أو يكون المراد بذلك أمته - صلى الله عليه وسلم -، ليحضهم على الابتهال إلى الله عز وجل بالتعوذ من نزغات الشيطان في عقائد الدين.
قال القاضي: في هذا الحديث تأويلات، منها الوجهان اللذان ذكر.
وثالث: أنه إنما سال مشاهدة ألاحياء واطمئنان القلب بمشاهدة ذلك، وترك منارعته هذه الأفية، فيحصل له العلم أولاً بالجواز والوقوع، والثاني بالمشاهدة والكيفية.
ووجه رابع: أنه لما احتج على المشركين بأن ربه يحيي ويميت طلب ذلك من ربه ليصحح احتجاجه عيانًا.
ووجه خامس: أنه سؤال على طريق الأدب، / والمراد: أقدرني على إحياء الموتى ليطمئن قلبي بهذه الأمنية.
ووجه سادس: وهو أنه أرى من نفسه الشك وما شك، لكن ليجاوب فيزداد قربة. وهذا هو تي اض في اللفظ والمعنى.
وقيل في قوله:« نحن أحق بالشك من إبراهيم »، هذا نفي لشك إبراهيم لا إثبات له، وإبعادًا للخواطر الضعيفة أن تظن أن بإبراهيم الشك، فكأنه قال: نحن موقنون بالبعث وإحياء الموتى، فلو نشك لكنا أولى منه على طريق الأدب واكثار حال إبراهيم لا على تجويزه على واحد منهما. قيل: إنما جاوب بذلك من سمعه بترك شك إبراهيم ولم يشك نبينا.(8/38)
وقوله:« لو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعى »، المراد به قوله تعالى:{ وقال الملك ائثوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك} الآية . هذا منه - صلى الله عليه وسلم - أيضًا غاية في الأدب والتواضع وإظهار منزلة يوسف - عليه السلام - في التثبت والصبر، وألا يخرج إلى الملك حتى يظهر براءته ولا تناله عنده حجلة التهمة، ودعوى المرأة ما ادعته عليه من مراودته لها عن نفسها، وأنه - عليه السلام - لو امتحن هو بهذا أو مثله من طول السجن، لكان التخليص إليه منه لأول دث أحب إليه للنجاة من عذابه وبقانه، ولأخذ بالحزم في الأمر ؛ مخافة حوادث تطوى وإشغال للملك بضرورة، فينساه كما نسيه ويشتغل عنه، فيبقى في سجنه كما كان حاله معه. قيل: ولا يظن أن مراده باجابة الداعى هنا دعوة المرأة، وهذا مما لا يجوز على يوسف ولا محمد عليهما ا لسلام.
وقوله:« يغفر الله للوط، إنه أوى إلى ركن شديد »، يعني الله تعالى، كأنه - عليه السلام - أخذ عليه في قوله:{ لو أن لي بكم قوة آو آوي إلى ركن شديد }، يريدك لو كان مع عشيرته ليمنعوه من قومه ويحموا أضيافه، فيرحم - عليه السلام - لقوله - عليه السلام - وسهوه عن الاعتصام بالله تعالى عن ضيق صدره بما لقي من قومه حتى قال هذا، وإنه بالحقيقة كان يأوى إلى ركن شديد وهو الله تعالى، أشد الأركان وأقواها. والركن يوضع لما استند إليه ويشد به لأن أركان البناء أقوى ما فيه، وعليها اعتماد، وبها انتظامه. والركن الناحية من الجبل يلجأ إليها. وقد تقدم من هذا أول الكتاب.(8/39)
وقوله:« لم يكذب قط إبراهيم إلا ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله، قوله:{ إني سقيم }، وقوله:{ بل فعله كبيرهم هذا }، وواحدة في شأن سارة، قوله: إن سألكِ فأخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام »، قال الإمام: أما الأنبياء معصومون من الكذب فيما طريقه البلاغ عن الله سبحانه وتعالى، قل ذلك أو جل ؛ لأن المعجزة تدل على صدقهم في ذلك. وأما ما لا يتعلق بالبلاغ ويعد من الصغائر كالكذبة الواحدة في شيء من أمور الدنيا فيجزى ذلك على الخلاف في عصمتهم من الصغائر، وقد تقدم الكلام عليه.
وقد وصف - صلى الله عليه وسلم - أن اثنتين من كذبات إبراهيم - عليه السلام - كانتا في ذات الله سبحانه، والكذب إنما يترك لله، فإذا كان إنما يفعل لله انقلب حكمه في بعض المواضع أ على حسب ما ورد / في الشريعة، فالقصد بهذا التقييد منه - صلى الله عليه وسلم - نفى مذمة الكذب عنه لجلال قدره في الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وقد تأول بعض الناس كلماته هؤلاء حتى يخرج عن كونها كذبًا، ولا معنى لأن يتحاشا العلماء مما لم يتحاش منه النبي ث، ولكن قد يقال: إن المراد بتسميتها كذبًا على ظاهرها عندكم في مقتضى إطلاقكم عند استعمالكم اللفظ على حقيقته، ألا تراه يحكى عن إبراهيم - عليه السلام - أنه قال لسارة:« أخبريه أنك أختى، فإنك أختى في الاسلام »، ومن سمى المسلمة أختًا له قاصدًا أخوة الإسلام فليس بكاذب، لكنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أطلق عليه لفظة الكذب لما قلناه من أن الأخت في الحقيقة المشاركة في النسب وأما المشاركة في الدين فأخت على المجاز، فاراد بها كذبة على مقتضى حقيقة اللفظ في اللغة، وعلى أن قوله: "إنها أختى "، قد يكون في ذات الله، إذ أراد بها كف الظلم وصيانة الحريم، لكن لما كان له فيها منفعة ميزهاء عن الأولتين اللتين لا منفعة له فيهما، وهذا اللفظ يظهر ما في تأويل هذا الحديث.(8/40)
قال القاضي: الصحيح علي القولين من تجويز الصغائر على الأنبياء، ومنها أن الكذب وإن قل فيما طريقه البلاغ لا يجوز عليهم وأن ينصب النبوة، فحاشًا معصوم من قليله وكثيره، سهوه وعمده، وعمدة النبوة البلاغ والخبر عن الله وشرعه وتجويز كلام منه على خلاف مخبره قادح في صدقه مناقض لمعجزته، ونحن نعلم قطعا من مذاهب الصحابة وسيرة السلف الصالح، مبادرتهم إلى تصديق أقواله، والثقة بجميع أخباره في أي باب كانت وعلى أي وجه جاءت، ولم يحفظ عنهم تردد ولا توقف ولا سؤال ولا استثبات عن حاله عند ذلك، هل وقع منه على سهو أو ضجر أو غيره، ولا حفظ عنه أنه استدرك شيئًا قاله، أو اعترف بوهم فيما أخبر به.
ولو كان شيء من ذلك لنقل كما نقل رجوعه عن أشياء من أفعاله وآرائه وما ليس طريقه الخبر ؛ كرجوعه عن رأيه في ترك تلقيح النخل، وكقوله:« والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها، إلا فعلت الذي حلفت عليه وكفرت عن يميني »، وكقوله:« إنكم تختصمون إلي » الحديث إلى قوله:« قضيت له من حق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار »، وكقوله: « إنى لأنسى، أو أنسى لأسن »، ولم يأت عنه استدراك لشيء مما قاله أو يتبع لسهو فيه، أو غلط صدر عنه فيه.(8/41)
وقوله:« ثنتان في ذات الله، وواحدة في شأن سارة »، / إشارة أن تلك في ذات الله وتبليغ رسالاته ومجادلة الكفرة عداه، فخصهما هنا لذلك. وقصة سارة فقد كانت في ذات الله أيضًا لكافه مسلمة أذى مشرك وعصيان الله تعالى ومواقعة محارمه، وقد جاء ذلك مبينا في غير مسلم فقال: ما فيها كذبة إلا بما جل قيها عن الإسلام، أي يماكر ويجادل ويدافع. وقد قيل: في قوله:{ إني سقيم } تأويلات، منها: أنه ورى بقوله ذلك سأسقم، فإن ابن ادم عرضة للأسقام، واعتذر بقوله عن الخروج معهم إلى غيرهم بهذا القول المحتمل الظاهر. وقيل: سقيم بما قدر على من الموت. وقيل: سقيم القلب بما أشاهد من كفركم وعنادكم. وقيل: بل كانت الحمى تأخذه عند طلوع نجم معلوم، فلما رآه اعترض بعاديه، وهو معنى قوله عند هذا: { فنظر نظرة في النجوم ( فقال إني سقيم }. وقيل: بل عرض بسقم حجته عليهم وضعف ما أراد بيانه لهم من جهة النجوم التي كانوا يشتغلون بها، وأنه إما نظره في ذلك وقبل استقامة حجته عليه في حال سقم ومرض حال، مع أنه لم يشك ولا ضعف إيمانه، ولكن ضعف في استدلاله وسقم نظره، كما يقال: حجة سقيمة، ونظر معلول، حتى ألهمه الله صحة حجته عليهم بالكوكب والقمر والشمس مما نصه.(8/42)
وكذلك قوله:{ بل فعله كبيرهم هذا }، فإنه علق خبره بشرط نطقه، كأنه قال: إن كان ينطق وهو فعله على طريق التنكيت لقومه، وهذا كله ليس بكذب وخارج عن حد الكذب في حق المخبر، داخل في باب المعاريض التي جعلها الشرخ مندوحة عن الكذب عند الضرائر، ولكن سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - كذبات ؛ لأنه أتى بها لمن خاطبه على ظاهرها ومعتمده خلاف ذلك، فلما كان في حقي المخبر والخبر ظاهرها بخلاف باطنها جاءت في صورة الكذب، وان لم يكن كذبًا في الباطن. وهذه على صورة المعاريض. ولما جاءت بهذه الصورة سماها النبي محمد وإبراهيم عليهما السلام كذبات، أشفق إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - من المؤاخذة بها يوم القيامة في الحديث المعروف في الشفاعة.
قال أهل العلم: وهذا أصل في جواز المعاريض، قالوا: والمعاريض شيء يتخلص به الرجل من المكروه إلى الجائز، ومن الحرام إلى الحلال، ومن دفع ما يضره. وإنما يكره له التحيل في حق فيبطله، أو باطل فيموه به. وفي هذا الحديث في قصة سارة، إجابة دعوة إبراهيم، وعلامات نبوته، ومنع الكافر ما أراده. وقوله في هاجر:« فتلك أمكم يا بني ماء السماء »، قال الخطابي /: إن المراد بهذا العرب ؛ لأنتجاعهم المطر وماء السماء للعير ؛ لأن أكثرهم أصحاب مواشي، وصلاحهم بالخصب والرعي، وسيرتهم في ذلك معلومة.
قال القاضي: والأظهر عندي أن المراد بذلك الأنصار، ونسبهم إلى جدهم عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وكان يعرف بماء السماء، وهو مشهور. والأنصار كلهم بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر المذكور، ويكون ذلك على قول من جعل العرب من ولد إسماعيل، وهذا مثل قوله في الحديث الآخر لا لمسلم:« ارموا يابني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا »، وكله حجة لمن يجعل اليمن والعرب كليهما من ذرية إسماعيل. وقد ترجم البخاري على هذا الحديث " باب نسبة اليمن إلى إسماعيل ".(8/43)
وقيل: أراد بـ " بني ماء السماء ": العرب ؛ لخلوص نسبهم وصفائه. وفي الحديث قبول هدية المشرك، وقد تقدم الكلام فيها.
وقوله: " مهيم "، قال الخليل: هي كلمة لأهل اليمن خاصة، معناها: ما هذا ؟ قال الطبري: معناها: ما شأنك وما أمرك.
قوله:« كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى رجلاً حييًا يغتسل وحده، فقال بنو إسرائيل: ما يمنعه أن يغتسل معنا إلا أنه آدر. فاغتسل »، قال في الحديث الآخر:« عند مشربه »، وفي رواية العذري:« عند مويه، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فجمح موسى بإثره يقول: ثوبى حجر »، وفي الحديث الآخر:« واتبعه بعصاه يضربه، حتى نظرت بنو إسرائيل إليه، فقالوا: والله ما بموسى من بأس »، قال أبو هريرة:" والله، إنه الحجر ندب "، الأنبياء منزهون عن النقائص في الخلق والخلق سالمون من المعايب، ولا يلتفت إلى ما قاله من لا تحقيق عنده في هذا الباب من أصحاب التواريخ في صفات بعضهم، وإضافة بعض العاهات إليهم، فالله تعالى قد نزههم عن ذلك ورفعهم عن كل ما هو عيب ونقص مما يغض العيرن وبنفر القلوب.
وفيه ما ابتلي به الأنبياء والصالحون من أذى السفهاء وصبرهم على الجهال، وقد قال الله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } الآية، وقال نبينا - عليه السلام -:« إن موسى أوذى بأكبر من هذا فصبر ».
وفيه أن ستر العورة لم يكن وحيًا في شرع موسى؛ إذ ذكر فإنه إنما فعل ذلك حياء، وإنه لم ينكر على قومه ما كانوا يفعلونه، وإن الله تعالى أظهر ذلك منه لقومه حتى نظروا إليه. وفيه خرق العادة في الجماد. وآيتان لموسى في هذا الحجر عظيمتان: إحداهما: مشي الحجر بثوبه، والثانية: حصول الندب في الحجر من ضربه بعصاه، والندب هنا: الأثر بفتح الدال، وأصله: أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد.(8/44)
قال الإمام: ومعنى: " جمح موسى بإثره "، أي: اسرع في مشيه إسراعًا، لا يرد وجهه. ومنه قوله تعالى:{ وهم بجمحون }، /قال القاضي: أسرع وراء ثوبه. وفرس جموح: أي سريع، وهو مدح. وقد يكون ذمًّا، وهو الذي يركب رأسه ولا يرده لجام، وكل شيء مض لوجهه فقد جمح كذا. وعلق وجعل وأقبل وظل معناه كله: ما زال يفعل، ويقال: طفق وطفق، بفتح الفاء وكسرها.
والمشربة هنا - والله أعلم - بفتح الميم، المراد بها: الشربة، وهي حفرة في أصل النخلة، يجتمع فيها الماء لسقيها. والمشربة: بكسر الميم: الذي يشرب، فسمي مشربة. والمشربة أيضًا: أرض لبنة فيها نبت. والمشربة: الغرفة، هذه بفتح الراء وضمها، ومن رواه:" مويه "، فهو تصغير ماء، وأراه مصحفًا من المشربة، والله أعلم، وهي روايتأ من طريق العذري.
قال الإمام: جعل بعض المحدثين هذا الحديث حجة في جواز نزول الرجل الماء عريانًا، وجمهور العلماء على إجازته. ونهى عنه ابن أبي ليلى وقال: إن للماء سكانًا، واحتج للنهي بحديث ضعفه أهل العلم.(8/45)
وقوله:« جاء ملك الموت إلى موسى فقال: أجب ربك، فلطم موسى عين ملك الموت عليهما السلام ففقاها. قال: فرجع الملك إلى الله تعالى، فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، قال: فرد الله إليه عينه وقال: ارجع إلى عبدي فقل: الحياة تريد، فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما توارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة. قال: ثم مه، قال: ثم تموت. قال: فالآن من قريب "، قال الإمام: هذا الحديث مما يطعن به الملحدة ويتلاعب بنقله الآثار بسببه، ويقول: كيف يجوز على نبي مثل موسى أن يفقأ عين ملك الموت ؟ وكيف تنفقئ عين الملك؟ ولعله لما جاء عيسى أذهب عينه الأخرى فعمى ؟ ولأصحابنا عن هذا ثلاثة أجوبة: قال بعضهم: إن الملك يتصور في أي الصور شاء مما يقدره الله عليها، وقد قال الله تعالى:{ فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرًا سويًّا }، قيل:إنه تمثل لها في صورة رجل يسمى تقيًّا ؛ ولهذا قالت:{ إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًّا }، وقد تمثل جبريل - عليه السلام - بصورة دحية. وقال أصحاب هذه الطريقة: إن هذه الصور قد يكون تخييلاً، فيكون موسى - عليه السلام - فقئ عينًا فخيله لا عينًا حقيقة.
وهذا الجواب عندي قد لا يقنعهم، وقد يقولون: إن علم أنه ملك وأن ذلك تخيل فكيف يصكه ويقابله بهذه المقابلة وهذا لا يليق بالنبيين ؟
وقال آخرون من أصحابنا: الحديث في " تجوز، إذا حمل عليه اندفع طعن الملحدة. ومحمله عندنا: أن موسى - عليه السلام - حاجه فاوضح الحجة لديه. وقد يقال / في مثل هذا: فقع فلان عين فلان ؛ إذ غلبه بالحجة. ويقال: عورت هذا الأمر إذا أدخلت نقصا فيه، فإذا صرف ذلك إلى غلبة موسى - عليه السلام - بالحجة سهتط الاعتراض. وهذا أيضًا قد يبعد من ظاهر اللقظ ؟ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فرد الله إليه عينه "، وإن قالرا معناه: فرد الله إليه حجته، كان بعيدا عن مقتض سياق اللفظ.(8/46)
وجواب ثالث، مال إليه بعض أئمتنا من المتكلمين وهذا مثل ما قالوا فيه، وهو أنه لا يبعد أن يكون موسى ئ أذن الله له في هذه اللطمة محنة للملطوم، وهو سبحانه يتعبد خلقه بما شاء، ولا أحد من عباده تمنعه فضيلته بأن يتصرف بحكم التكليف فيما ساء وسر، ونفع وضر، فإذا سلمنا لهج حقيقة الحديث وحملناه على هذه الطريقة لم يبق لهم تعلق.
ويظهر لي جواب رابع وهو: أن يكون موسى - عليه السلام - لم يعلم أنه ملك من قبل الله عز وجل، وظن أنه رجل أتاه يريد نفسه، فدافعه عنها مدافعة أدت إلى فقئ عينه، وهذا سائغ في شريعتنا: أن يدافع الإنسان عن نفسه من أراد قتله، وإن أدى إلى قتل الطالب له، فضلا عن فقئ عينه. وقد قدمنا في كتاب مسلم إباحته - صلى الله عليه وسلم - فقء عين من اطلع على قوم، وأنه حلال لهم فقء عينه إذا اطلع عليهم بغير إذنهم، على ما تقدم بيانه، ومعنى الحديث فيه ؛ فكيف بهذا ؟
وإنما يبقى على هذا الجواب أن يقال: قد رجع إليه ثانية واستسلم موسى إليه، فدل على معرفته به. قلنا: قد يكون أتاه في الثانية بآية وعلامة علم بها أنه ملك الموت، وأنه من قبل الله عز وجل فاستسلم لأمر الله، ولم يأته أولاً بآية يعرفه بها، وكان منه ما كان، وأحسن ما اعتمد عليه في المسألة هذا الجواب الذي ظهر لنا، أو كالجواب الثالث الذي ذكرناه عن بعض أئمتنا، وعندى أن جوابنا أرجح منه.(8/47)
قال القاضي: قال بعض الشيوخ: ليس في لطم موسى لملك الموت ما يعظم ويشنع، وليس ذلك بأعظم من أخذه برأس أخيه ولحيته وجره إياه وهو نبي مكرم كما ذاك ملك معظم، والنبي عند المحققين أفضل من ملك، وقد نص الله تعالى على ذلك فأخبر عنهما به في كتابه العزيز، ولم يعده على موسى ذنبًا، ولا استغفر منه موسى، ولا أظهر الندم عليه، ولا عتب الله ولا أخبرنا بالعتب من غيره عليه، بل نص اعتذار هارون لموسى عليهما السلام لا غير، وموسى في كل ذلك فاعل في ذات الله تعالى ما رآه، من جر هذا إليه ودفع ذاك عنه.
وأما فقؤه عينه، فلم يتعمد ذلك ولا في الحديث ما دل عليه، ولكن لما لطمه حدث بقدرة الله ومشيئته عند تلك اللطمة فقء عينه، فهو الفعال لما يريد. والوجه الذي ذكر الشيخ الإمام رحمه الله: أنه ظهر له وحسنه وهو حسن، وهو تأويل الإمام أبي بكر ابن خزيمة وغيره من المتقدمين، وبنصه احتجاجه، وأرى الشيخ لم يكن رآه لغيره، والله أعلم.
قوله: " فرد الله عينه ": ظاهره: أن الحديث من لطمه وفقء عينه على وجهه قد بكون على ذلك التأويل الآخر ؛ رد العين: إلهامه الحجة التي جاء بها بعده، والله اعلم.
وقول موسى - عليه السلام - لما خيره الله في الحياة وتطويلها فقال:« ثم مه ؟ قال: ثم تموت. قال: فالأن من قريب، رب أمتني من الأرض المقدسة رمية بحجر»،: قال أبو القاسم بن أبي صفرة: إنما سأل ذلك لتقرب عليه المشي إلى المحشر فتسقط عنه المشقة على من بعد عنه، وقيل: لينال فضل مجاورة من دفن فيه من الأنبياء والصالحين وفضل البقعة، وهذا أظهر، وقيل في قوله: قدر رمية بحجر: لئلا يكون فيها فيشتهر، بل لئلا يعرف قبره فيعبده جهال ملته.
وفيه الترغيب في الدفن في المواضع المباركة، والمواطن الفاضلة، والمشاهد الشريفة، والدفن في مدافن الصالحين.
وقوله:« فما توارت يدك من شعرة »، معناه: فما وارت / أي سترت.(8/48)
وقوله في الذي لطم وجه اليهودي إذ قال: والذي اصطفى موسى على البشر، وقال له: تقول هذا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا ؟ الحديث.
وقوله: فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك ثم قال:« لا تفضلوا بين الأنبياء »، وفي الرواية الأخرى:« لا تفضلوني على موسى »، قال الاممام: أما قوله: " لا تفضلوا بين الأنبياء "، فيحتمل أن يكون ذلك قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وكان بعض شيوخي يقول: يحتمل أن يريد: لا تفضلوا بين أنبياء الله تفضيلاً يؤدي إلى نقص بعضهم. وقد خرج الحديث على سبب، وهو لطم الأنصاري وجه اليهودي، فقد يكون - عليه السلام - خاف أن يفهم من هذه الفعلة انتقاص حق موسى - عليه السلام - فنهى عن التفضيل المؤدي إلى نقص الحقوق.
قال القاضي: وقد قيل: إن هذا منه - عليه السلام - على طريق التواضع والبر بغيره من الأنبياء. وتد يحتمل أن يقول هذا وإن علم بفضله عليهم وأعلم به أمته، لكن نهى عن الخوض فيه والمجادلة به ؛ إذ قد يكون ذلك ذريعة إلى ذكر ما لا يجب منهم عند الجدال، وما يحدث في النفس لهم بحكم الضجر والمراء، فكان نهيه عن المماراة في ذلك، كما نهى عنه في القرآن وغير ذلك. وقيل: لا يفضل بينهم في حق النبوة والرسالة، فان الأنبياء فيها على حد واحد، إذ لا تفاضل في ذاتها وإنما التفاضل في زيادة الأحوال، والخصوص والكرامات والرتب ؛ فلذلك منهم الرسل، وأولي العزم من الرسل، ومن رفع مكانًا عليًّا، ومن أوتي الحكم صبيًّا، وأوتي بعضهم الزبر، وبعضهم الكتاب، ومنهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات.
تم الجزء الخامس بحمد الله وعونه، يتلوه في الجزء السادس قوله:
{ ونفخ في الصور }.
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على من لا نبي بعده(8/49)
وقوله:« إنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من يبعث - أو في أول من يبعث -، فإذا موسى عليه الصلاة والسلام آخذ بالعرش، فلا أدري أحوسب بصعقة يوم الطور، أو بعث قبلى ؟ » وفي الرواية الأخرى:« فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو ممن كان استثنى الله »، الصعق: الهلاك والموت، وهو الصعق والصاعقة والصعقة. وقيل: كل عذاب مهلك، ويكون أيضًا الغشية تعترى من فزع وخوف لسماع صوت وهول. وأصله: صوت النار وصوت الرعد الشديد، ونحوه. يقال منه: صق الرجل وصعق، وأنكر بعضهم الضم، وصقتهم الصاعقة، بالفتح، وأصعقتهم. وتميم تقول: الصاقعة بتقديم القاف، وهذا من أشكل الحديث ؛ لأن موسى قد مات قبل، فكيف تدركه صيحة الصعق وإنما تصعق الأحياء ؟ !
وقوله:« ممن استثنى الله »، يدل أنه كان حيًّا، فلم يأت أن موسى ممن رجع إلى الحياة ؛ ولأنه حي كما جاء في عيسى. وقد قال - عليه السلام -:« لو شئتم أريتكم قبره إلى جانب الطور عند الكثيب الأحمر »، على أن بعض أصحاب المعاني قال: يحتمل أن موسى ممن لم يمت من الأنبياء، وهذه الأحاديث ترد قوله.
ويحتمل أن المراد بهذه الصعقة صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السموات والأرضون فتستقل معانى الأحاديث والآيات وتطرد على الوجه المفهوم.
وقوله:« أفاق، فلما أقاق »، يدل غير صعقة موت ؛ لأنه إنما يقال: أفاق من الغشي، وبعث من الموت. وصعقة الطور لم تكن موتًا. وقد ذهب إلى هذا بعض المتأولين، وقال الداودى عن بعضم نحوه: إن هذه الصعقة في الموقف وأن المسثثنى منها الشهداء، وقال: وهذا بعيد أن تصعق الأنبياء وهم أكرم.(8/50)
وأما قوله:« فلا أدري أفاق قبلي »، فيحتمل أن يكون قبل أن يعلم أنه أول من تنشق عنه الأرض، إن حمل اللفظ على ظاهره وانفراده بذلك وتخصيصه، وإن يحمل على أنه من الزمرة الذين هم أول من تنشق عنهم الأرض، لاسيما على رواية أكثرهم بزيادة قوله:« أو في أول من تنشق يبعث»، فيكون موسى أيضًا من تلك الزمرة، وهي - والله أعلم - زمرة الأنبياء.
وقوله:« مررت على موسى ليلة أسرى بي وهو يصلي في قبره »، قد تقدم الكلام عليه أول الكتاب، عند ذكره وذكر عيسى وحجتهما، بما يغنى عن إعادته.
وقوله:« ولا أقول: إن أحدا أفضل من يونس بن متى »، وفي الحديث الآخر - فيما يذكر عن الله تعالى -:« لا ينبغي لعبد أن يقول:أنا خير من يونس بن متى »، وفي حديث آخر هو من قوله - عليه السلام -، قال الإمام: يحتمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا أن يكون قبل أن يوحى إليه بأن غير يونس بن متى أفضل منه ؛ فلهذا امتنع أن يقول بالتفضيل ولم يوح إليه به، وهو - عليه السلام - لم يقل هنا: إن يونس أفضل من سائر المرسلين حتى يكون ذلك معارضًا في ظاهره لقوله: « أنا سيد ولد آدم »، فيفتقر إلى التأويل، ولكنه إذا قال:« لا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس ابن متى »، وحملناه على / ذلك قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، ثم أوحى إليه بالتفضيل. يقال له: لم يكن في ذلك من التعارض ما يغمض فيفتقر إلى التأويل.
قال القاضي: ويدخل في هذا من التأويلات ما تقدم في قصة موسى، ويحتمل أن يكون قوله:" أنا "، راجعًا إلى تأويل ذلك ويعني نفسه، أي لا يظن أحد ولم يبلغ من الذكاء والفضائل ما بلغ، أن يكون خيرًا من يونس لأجل ما حكاه الله عنه، فإن درجة النبوة لا تلحق، وما جرى على يونس من الأقدار لم يحطه عن رتبة النبوة ذرة .(8/51)
وقوله:« أكرم الناس أتقاهم »، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: «فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله »، وفي غير هذا الحديث:« نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي ) أربعًا، وفي الرواية الأخرى في الرابعة: « ابن خليل الله »، وهذا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فهم أربعة انبياء على نسق. وأصل الكرم الجمع وكثرة الخير، فيوسف - عليه السلام - قد جمع كل مكارم الأخلاق التي تفضل بها الأنبياء إلى شرف النبوة، رشرف النسب، وعلم الرؤيا وغيرها، وشرف الرئاسة في الدنيا، وكونه على خزائن الأرض وحياطته وعمارتها بما أمر به من جمعه الطعام، وادخاره لنفقتهم، وكونه على خزائنهم وأرزاقهم.(8/52)
وقوله:« عن معادن العرب تسألوني، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا »، أصل الكرم - كما قدمناه -: كثرة الخير والمنفعة. والكرم: عظم القدر، ومنه: أرض كريمة: طيبة النبات، ونخلة كريمة: لا تخلف حملها، وناقة كريمة: غزيرة اللبن، ولذلك سموا العنب كرمًا لكثرة حمله وسهولة جباها. ومن كثر خيره ونفعه عظم قدره، فلما سئل - عليه السلام - عن أكرم الناس قدرًا، وفهم النبي عليه الصلاة والسلام منهم العموم، التفت إلى الكرم الصحيح الصادق ورفعة القدر العلية بالتقوى المؤدية باتصال الرفعة الأبدية في الآخرة في الدرجات العلا، فقال:« أتقاهم »، ثم لما راجعوه فهم التعيين، فقال لهم:« يوسف »، لتردد رفعة القدر فيه وفي إبانه في أربعة قرون بالنبوة، التي هي غاية رفعة البشر وأرفع درجات الرفعة في الدنيا والىخرة وكثرة الخير وجماع منافع العاجلة والآجلة، ويجمع يوسف خصال الشرف الدنيوية والأخروية التي قدمناها، فلما بينوا له مرادهم، وفهم منهم السؤال عن قبائل العرب، أجابهم بمراعاة الأصول والأحساب، وأن الخيار في الجاهلية من حاملي الأخلاق الحميدة، لذلك هم في الاسلام إذا اتصفوا بكرم الدين والفقه في الشريعة، ففي تنبيهه عليه الصلاة والسلام إلى ذلك إرشاد إلى مراعاة الأصول والأحساب، والجري على الأعراق، وأن مراعاة ذلك بالدين وتمامه شريفة بالفقه، فيتضمن من كلامه في الأجوبة الثلاث أن الكرم كله عامًا وخاصًّا، مجملاً ومعينًا، إنما هو بالدين من التقوى والنبوة والأعراق فيها والإسلام والفقه، فإذا تم ذلك أو ما حصل منه مع شرف الأب المعهود عند الناس، فقد كأن شرف الشريف وكرم الكريم.
ومعنى:« معادن العرب »: / أصولها. وأصل المعدن، والعدن: الإقامة، ومنه: جنة عدن.
وقوله:« كان زكريا رجلاً نجارًا »، فيه جواز اتخاذ الصنع وتعليمها، وفضل صناعة النجارة.(8/53)
وقوله:" إن نوفًا البكالي "، كذا ضبطناه عن القاضي الشهيد أبي علي بكسر الباء وتخفيف الكاف، وكذا رده علينا الحافظ أبو الحسن في غير هذا الكتاب، وضبطناه على الفقيه أبي بحر الخشيني، والشيخ أبي بحر الأسدي بفتح الباء وتشديد الكاف، وهو ضبط الشيوخ وأصحاب الحديث، والصواب الأول. وبنو بكال من حمير، وقيل: من همدان، وإليه نسب نوف بن فضالة هذا، كذا قال ابن دريد وغيره، وهو فيما قيل: ابن امرأة كعب الأحبار، وقيل: ابن أخته، يكنى بابن يزيد، وكان عالما قاضيًا، وإمامًا لأهل دمشق.
وقوله:" كذب عدو الله "، على طريق الإغلاظ والضجر على من قال: لا يصح، وقد قال قول نوف وغيره، والصحيح قول ابن عباس: " إن صاحب الخضر موسى نبي بني إسرائيل " لا غير.
وقوله:« سئل موسى: أي الناس أعلم ؟ قال: أنا، فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه »، الحديث، وفي الرواية الأخرى:« بينما موسى في قومه يذكرهم أيام الله، وأيام الله: نعماؤه وبلاؤه ؛ إذ قال: ما أعلم في الأرض رجلاً خيرًا أو أعلم مني، فأوحى الله إليه: إنى أعلم بالخير منه - أو عند من هو - إن في الأرض رجلاً أعلم منك »، قال الإمام: وقع في بعض الأحاديث: "هل تعلم أحدًا أعلم منك "، فعلى هذا لا يكون عليه عتب ؛ إذ حكى عما يعلم. وأما على هذه الرواية:« أي الناس أعلم ؟ فقال: أنا أعلم »، والنبي لا يقع منه الكذب، وقد أوحى الله عز وجل إليه أن عبدًا من عباده أعلم منه، فيكون المحمل أنه أراد: أنا أعلم فيما يظهر لي، ويقتضيه شاهد الحال، ودلالة نبوته عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه كان من النبوة بالمكان الرفيع والعلم من أعظم المراتب، فقد يعتقد أنه أعلم الناس لهذه الجهة، وإذا كان قوله: "أنا أعلم "، مراده به في اعتقادي لم يكن خبره به كذبًا.(8/54)
وقد اضطرب العلماء في الخضر، هل هو نبي أم لا ؟ واحتج من قال بنبوته بقوله:{ وما فعلته عن أمري }، فدل على أن الله عز وجل يوحي إليه بالأمر وهذه النبوة. وفصل الآخرون عن هذا بأنه يحتمل أن يكون نبي غيره أمره بذلك عن الله تعالى، وقصارى ما في الأية أنه ما فعله عن أمره، ولكن إذا كان المراد عن أمر الله تعالى فمن المبلغ له ليس في الآية تعيين فيه، وقد يحتج بنبوته بكونه أعلم من موسى، ويبعد أن يكون الولي أعلم من النبي.
وقوله:« عتب الله عليه »، يشبه أن يراد به أنه لم يرض قوله شرعًا ودينًا. وأما العتب بمعنى المؤاخذة وتغير النفس، فلا يجوز على الله سبحانه.
قال القاضي: وقيل: إن مراد موسى بقوله:« أنا أعلم »؛ بما تقتضيه وظائف النبوة، وأمور الشريعة وسياسة الأمة، والخضر أعلم منه بأمور أخر مما لا يعلمها أحد إلا بإعلام الله، من علوم غيبه بالقصص المذكورة في خبرها، وكان موسى أعلم على الجملة والعموم بما تقدم مما لا يمكن جهل الأنبياء لشيء منه، والخضر أعلم على الخصوص بما أعلم من ب محنات الغيب، وحوادث القدر، وقصص الناس مما لا يعلم منه الأنبياء إلا /ما أعلموا به، مما استاثر الله به من غيبه، وما قدره وسبق في علمه مما كان، ويكون في خلفه، ولذلك قال الخضر في الحديث:« أنت على علم من علم الله علمكه لا تعلمه»، ألا تراه كيف لم يعرف أنه موسى نبي بني إسرائيل حتى عرفه بنفسه أفلم يعرفه الله به، وهذا مثل قول نبينا - عليه السلام -:« إني لا أعلم إلا ما علمني ربي }، وقد قال تعالى:{ وعلمناه من لدنا علمًا }.(8/55)
وقيل في قوله:« وعتب الله عليه »، أي: إذ لم يرد العلم إليه كما ردته الملائكة لقولهم:{ لا علم لنا إلا ما علمتنا }، ولئلا يقتدى به غيره في تزكية نفسه، والعجب بحاله فيهلك. وقيل: كان موسى أعلم من الخضر فيما أخذ عن الله، والخضر أعلم فيما دفع إليه موسى، وقيل: إنما ألجى موسى إلى الخضر للتأديب لا للتعليم. وفي حديث الخضر وموسى جواز إخبار الرجل عن نفسه بالفضل والعلم، إذا احتاج إلى ذلك لمعنى ديني، أو لمصلحة دنيوية، لا ليقصد به الفخر والكبر، كما قال - عليه الصلاة والسلام -:« أنا سيد ولد آدم ولا فخر »، وكما قال:« أنا أتقاكم لله، وأعلمكم بما اتقي، وأشدكم له خشية ».
ومعنى:« يعتب الله عليه »، أي وأخذه به وعنفه عليه. وأصل العتب: المؤاخذة، يقال منه: عتب عليه إذا واخذه بذلك، وذكره له، قيل: عاتبه.
وسؤال موسى ربه لقيا الخضر، استدل به أهل العلم على الرحلة في طلب العلم، وازدياد العالم لعلمه منه، وفيه فضل طلب العلم والتزيد منه، ومعرفة حق من عنده زيادة علم.
وفي تزوده بالحوت، جواز اتخاذ الزاد في السفر، وكان له في طي ذلك آية وعلامة للقاء الخضر.
وفي شرط الخضر عليه ألا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرًا، الأدب مع العالم وترك سؤاله ؛ إذا نهاه عنه لسبب يقتضيه، وأخذ العغو منه، والوقوف عند حده.
وفي اعتذار موسى له بالنسيان في الأولى والتزامه له في الثانية إن سأله ثالثة فراق، دليل على لزوم الوقوف عند حد العلماء، وترك الاعتراض على المشايخ، ولزوم الأدب معهم، والتسليم لهم، لاسيما إذا حققوا قصورهم عن معرفة ما عندهم، كما كان حال موسى من عدم علم ما علمه الخضر من ذلك.
وفيه حرص مرسى على العلم، وأن حرصه على ذلك ومحبته له وتعجيل فاندته أوجب تبيانه لشرط الخضر في ترك السؤال، ولذلك قال - عليه السلام - في الحديث:« وددت أن موسى صبر حتى يقص الله علينا من أخبارهما ».(8/56)
وفي قول الخضر لموسى:{ إنك لن تستطيع معي صبرًا }، احتج به مشايخنا على أن الاستطاعة لا تتقدم الفعل، خلافًا للقدرية، وهو مما يحتج به من قال بثبوته، أو من يقول بالكرامات للأولياء وصدق فراستهم، لإخباره عن حاله من قلة الصبر. وكان كذلك حين قال له:{ إنك لن تستطيع معي صبرًا }، ومثله قوله في الحائط وكان مائلاً فأقامه بيده، وأن تحته كنز اليتيمين هذا فأقامه.
وفي إعلامه بأن وراء السفينة ملكًا يأخذ كل سفينة غصبًا، وما أخبر من حال الغلام وقصة أبويه، وكله مما لا يعلمه إلا نبي أو ولي صفي بوحي من الله، أو إلهام وبحديث ملَك.
وفي فراقهما بعد ثلاث قصص، حجة على أن ثلاثة مجالس أو ثلاث مقالات أو ثلاثة أيام، أو ثلاثة آجال، في الاعتذارات، والانتظار، والتلوم، والإحسار، والعهد، وغير ذلك منها في ضرب الأجل، وكذلك في / استتابة المرتدين، وتكرار الخصومات مع الوكيل، واجتناب المضرات وأصل الخيار عند بعض العلماء، وإنذار حيات البيوت، والاستئذان، وتشميت العاطس، وأمد المهاجرة، وإقامة المسافر مما جاء منه في كتاب الله تعالى، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وارتضاه أئمة الفقهاء لمصالح الأمة.
وفي خبرهما جواز الاستطعام والسؤال عند الحاجة، والاستئجار على البناء، وأكل مثل ذلك لقوله:{ لو شئت لاتخذت عليه أجرًا }، وجواز استئجار السفن لقوله:« أدخلونا بغير نول »، فدل على جواز النول.
وفيه إكرام الفاضل، والعالم وخدمته، وجواز محاشاته مما يلزم غيره، وترفيهه عما لا يرق به غيره.
وفيه الحكم بالظاهر في الأمور حتى يتبين خلافها ؛ لقوله:{ أقتلت نفسًا زكية }.
وفيه إنكار المنكر والشدة فيه، والغلظة على فاعله ؛ لقوله:{ لقد جئت شيئًا نكرًا }.
وفيه استقباح الإساءة للمحسن ؛ لقوله في أصحاب السفينة إذ خرقها: « حملونا بغير نول ».(8/57)
وإنكار مكافأة المسلمين بالإحسان في بعض الأمور، لاسيما عند الحاجة، وأن المعروف إنما يجب أن يوضع عند العلة لقوله:« قوم أتيناهم فلم يضيفونا لو شئت لاتخذت عليه أجرًا ».
وفي قول الخضر أولاً:{ ألم أقل إنك }، وفي الثانية:{ ألم أقل لك }، وفي الثالثة:{ هذا فراق يني وبينك }؛ لين الكلمة، والإغضاء للمتعلم أولاً وإن خالفه واعترض، وكذلك الصفح عن ذى المظلمة ممن لم يعرف منه قبل، فإن عاد زجر وأغلظ له القول، وهو كقوله له في الثانية:{ ألم أقل لك }، قال في الحديث:« وهذه أشد من الأولى »، فإن عاد الثالثة عوقب بالهجر والإبعاد أو غيره من العقاب.
واختلف العلماء في أيهما أشد من قول موسى:{ لقد جئت شيئًا إمرًا }، وهو نكرًا ؟ فقيل:" إمرًا " أشد من:" نكرًا "؛ لأن الشيء الأمر العظيم، فإن في خرق السفينة هلاك جماعة وإفساد أموالهم، وليس في قتل الغلام إلا هلاك واحد. وقيل: النكر أشد ؛ لأنه قاله عند مباشرة القتل، وتحقق وفاة النفس، والأولى مظنونه، وقد يسلمون كما كان، وليس فيه تحقق إلا إفساد المال من خرق السفينة.
وقوله:« فحمل حوتًا في مكتل »، المكتل، بكسر الميم: الزنبيل وهي القفة. وقوله:« فأمسك الله عنه جرية الماء حتى كان مثل الطاق »، الطاق: عقد البناء، وجمعه طيقان وأطواق، وهي الأزاج والأقواس، وما عقد أعلاه من العلو وتحته خاليًا، كما قال تعالي:{ فاتخذ سبيله في البحر سربا }، والسرب: شق تحت الأرض، ومنه سرب الثعلب، وهذا مثل قوله في الحديث الآخر:« فاضطرب الحوت، فجعل لا يلتئم عليه الماء صار مثل الكوة »، الكوة: بفتح الكاف أشهر منها بضمها، وقد حكى الضم، وأخبرنا بعض مشايخنا عن أبي العلاء المعري أنه كان يقول: إذا كانت نافذة فهي بالفتح، وإذا كانت غير نافذة فهي بالضم.(8/58)
وقوله:{ نسيا حوتهما }، قيل: المراد بذلك موسى، فأضيف النسيان إليه، كما قال:{ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان }، فإنما يخرج من الملح لابن الجلود، قيل: نسيان موسى هنا أنه لم يتقدم ليوشع فتاه بالتعهد له ومن يوشع حقيقة.
وقوله:{ نصبا }: أي تعبًا.
وقوله:« فإذا هو بالخضر مسجى ثوبًا »، أي: مغطى به كله، كتغطية الميت لوجهه ورجليه وجميعه، ألا تراه /كيف قال:« فكشف الثوب عن وجهه »، وأصله من سجا الليل: إذا غطى سواده النهار، وقد جاء في كتاب البخاري مبينًا، قال:« قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه تحت رأسه ».
وقوله:« مستلقيًا على القفا، أو قال: على حلاوة القفا » بفتح الحاء. قال صاحب "العين": هو وسطه، فيه جواز النوم كذلك وهو الاستلقاء. والاستلقاء بل هو مستحب عند بعضهم للتفكير في ملكوت السموات والأرض. يقال: حلاوة القفا وحلاوة القفا، بالفتح والضم. وقال أبو عبيد: بالضم، قال: ويجوز بالفتح وليس بمعروف، وحلاوة القفا بالفتح ممدود، وحلاوى بالضم مقصور. وحكى أبو علي: حلاوا القفا ممدود أيضًا. وفي بعض روايات البخاري:« أنه وجده على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه »، وكبد البحر: وسطه، وكبد كل شيء: وسطه، والطنفسة: بساط صغير كالنمرقة، يقال بكسر الطاء والفاء وضمهما، وبكسر الطاء وفتح الفاء، وهو الأصح. وحكى أبو حاتم فتح الطاء وكسرها.
وقوله:« فقال - يعني موسى -: عليكم السلام »، فيه تسليم الماشي والمجتاز على المقيم، والقاعد والمضطجع. ورد الخضر عليه، ثم قال:« أنى بأرضك السلام ؟» أي من أين يأتي، بمعنى حيث وكيف وأين ومتى. وهذا يدل أن السلام لم يكن عندهم معروفًا إلا في خاصة الأنبياء والأولياء، أو كان موضع لقياهم ببلاد الكفر ومن لا يعرف السلام.(8/59)
وقوله:« يجئ ما جاء بك »، كذا ضبطناه مرفوعًا غير منون عن أبي بحر، ومنونًا عند غيره، وتنوينه أظهر، ومعناه: أي يجئ لأمر عظيم جاء بك، وقد تجئ "ما " للتعظيم والتهويل لقوله:" لأمر ما تدرعت الدروع، ولأمر ما سود من سود "، ويكون " جاء بك "، خبر هذا المبتدأ.
وقوله: " فحملوهما بغير نول،، قال الإمام: يعني بغير جعل. والنول والنوال: العطاء.
وقوله:{ لقد جئت شيئًا إمرًا }، الإمر: العجب، والإمر من أسماء الدواهي.
قال القاضي: وقيل: النوال : الجعل. والنال والنيل والنوال: العطاء ابتداء.
وقوله:« فانتحى عليها »، يريد السفينة، يريد: اعتمد عليها وقصد خرقها، قيل: وفي خرقه السفينة مخافة أخذ الغاصب لها حجة في النظر في المصالح للخلق في أخف الشرّين، والإغضاء على بعض المناكر مخافة أن يتولد من تغييرها ما هو أشد وأكبر، وجواز فساد بعض المال لصلاح بقيته.
وفيه خصاء بعض الأنعام لسمنها وقطع بعض آذانها لتتميز، وفي قتل الغلام دليل على مراعاة الذرائع وقطع أسباب الشر.
وقوله:{ غلامًا فقتله }، دليل على أنه كان غير بالغ، قال أهل اللغة: الغلام: اسم للمولود من حين يولد إلى أن يبلغ، فينقطع عنه اسم الغلام، وهذا يرد على من ذكر أن الغلام صاحب الخضر كان بالغًا واحتج بقوله: {بغير نفس }؛ إذ لا يقتص إلا من بالغ، ولا حجة له في ذلك ؛ إذ لا يعلم كيف كان شرعهم في ذلك، ولعله كان عمومًا في كل نفس، بل الظاهر أن قوله:{ بغير نفس } تنبيه على إنكار قتله لمن لا يجب قتله عنده إلا للقصاص وحده. واحتج أيضًا قائل ذلك بقوله:« وكان كافرًا »، في قراءة من قرأ كذلك، ولا حجة فيه ؛ إذ لم يثبت في المصحف، ولأنه سماه بمآل أمره. وفي قوله:{ بغير نفس } دليل على القصاص، وأنه كان في شرع من / قبلنا مشروعًا.(8/60)
وقوله في الرواية الأخرى:{ فانطلقا حتى إذا لقيا غلامًا }، غلمانًا يلعبون، فانطلق إلى أحدهم بادي الرأي فقتله، كذا عند شيوخنا، قال الله تعالى:{ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي }، قرئ بالهمز والتسهيل، فمن همز فمعناه: ابتداء الرأي وأوله، ومعناه في هذا الحديث: أنه انطلق إليه مسارعًا لقتله دون روية، ومن لم يهمز فمعناه في الآية: ظاهر الرأي، وهنا أيضًا ظهر له رأى في قتله من البداء، وهو ظهور رأى بعد آخر، ويُمَدّ البداء وبقصر، يقال: بدا لي أن أفعل كذا: أي ظهر.
وقوله:{ أقتلت نفسًا زاكية } وقرئ:{ زكية }: أي طاهرة لم تذنب ولم يبلغ الخطايا. وهذا يصحح كونه غير بالغ.
وقوله:{ فخشينا أن يرهقهما طغيانًا وكفرًا }، قيل: هو من قول الخضر، والخشية هنا على بابها، وقيل: هو في قول الله عز وجل، ومعنى: { خشينا }: علمنا، وقيل: كرهنا. ومعنى:{ يرهقهما طغيانًا وكفرًا }: أي يلحق ذلك بهما. وقيل: يحملهما عليه، ومعنى:{ طغيانًا }: أي زيادة في الكفر واستكثارًا منه، وأصل اللفظة الزيادة، قال الله تعالى:{ إنا لما طغا الماء }.
وقوله:{ خير منه زكاة }، قيل: إسلامًا، وقيل: صلاحًا،{ وأقرب رحمًا }، قيل: رحمة بوالديه وبرًّا، وقيل: ترحمًا به، وقيل: هو من الرحم والقرابة. قيل: كانت أنثى، وقيل: ذكرًا.(8/61)
وقوله:« وكان الغلام طبع يوم طبع كافرًا »، فيه حجة بينة لأهل السنة ومذهبهم في الطبع والدين والأكنة والأغشية والحجب والسد، واشتباه هذه الألفاظ الواردة في الشرع من أفعال الله تعالى بقلوب أهل الكفر والضلال. ومعنى ذلك عندهم: خلق الله فيها ضد الايمان وضد الهدى، وهذا على أصلهم في أن العبد لا قدرة له إلا ما أراده الله وقدره عليه وخلقه له، خلافًا للمعتزلة والقدرية القائلين بفعل العبد من قبل نفسه، وقدرته على الهدى والضلال، والخير والشر، والإيمان والكفر. وأن معنى هذه الألفاظ تسمية الله لأصحابها وحكمه عليهم بذلك، أو خلقه تعالى على مذهب آخرين منهم علامة لذلك في قلوبهم، أو كتبه كتابة بذلك فيها تعلم منها الملائكة الفرق بين المؤمن والكافر، أو تيسير أسباب الكفر والضلال المفضية لما قدر عليه من ذلك عند آخرين، أو خلقه ذلك عند المعتزلة في الكفار بعد كفرهم؛ عقوبة لهم على ما ارتكبوه من كفرهم، ومنعهم من الرجوع إلى الإيمان بعده، ويخرجون عندهم عن أن يؤمروا بالإيمان أو ينهوا عن الكفر، وهذا الهوس لا ينجيهم، ولا يخلصهم من نقض أصلهم في التعديل والتجويز ومخالفة مذهبهم فيه الذي بنوا عليه ضلالتهم.
والحق الذي لا امتراء فيه أن الله يفعل ما شاء كما في مبتدأ الذرء: «هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي »، فالذى قضى أنهم للنار طبع وختم على قلوبهم وغشاها وأكنها، وجعل من بين أيديها سدًّا ومن خلفها سدًّا وحجابصا مستورًا، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا، وفي قلوبهم مرضًا ؛ ليتم سابقته فيهم وتمضي كلمة قضاء عليهم، لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه سبحانه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا يشاؤون إلا أن يشاء الله.(8/62)
/ وقوله:{ جدارًا يريد أن ينقض }، أي: يسقط بسرعة، قال الكسائي: إرادة الجدار هنا ميله، وقيل: هو على مجاز كلام العرب، واستعارتنا اللفظ هنا ميله، وقيل: هو لما يطابق معناه، وتشبيه منتهاه، فلما قرب الحائط من الانقضاض كان كمن يريد أن يفعل ذلك.
وقوله:« ولكن أخذته من صاحبه ذمامة »، بفتح الذال المعجمة. قيل: معناه: استحياء، وقيل: هو من الذمام، أي لما كان شرطه عليه من الفراق، وأنه لا يسأله عن شيء بعدها، قال ذو الرمة: أو تقض ذمامة صاحب، ويقال: أخذته من مذمة بالفتح والكسر معًا، وقيل: في ذمتك هذا، أو يقضي ذمامة، ويكافئه عليه ويطرح عنه الذم لترك مكافاته، وهذا حسن هنا لائق بهذا المكان، وذلك أنه اعتذر له أولاً بالنسيان، كما قال الله تعالى عنه، وكما جاء في الحديث:« كانت الأولى من موسى نسيانًا »، وقيل: إنه لم ينس، ولكنه من معاريض الكلام، قاله أبي ابن كعب، ولم ينس في الثانية فلم يعتذر بذلك واستحيى منه، وقال له:{ إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني }.
هذه معنى الذمامة، أي الاستحياء من تكرار مخالفته، وقد روى مثل هذا عن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال:« استحى نبي الله موسى »، ويكون من الذم بمعنى اللوم، قال صاحب العين: وذممته ذمًّا: لمته، ويعضده قول الخضر هنا:{ هذا فراق بيني وبينك }.
وقوله:{ وكان تحته كنز لهما }، قيل: كان لوحًا من ذهب، فيه مكتوب في جانب منه:« بسم الله الرحمن الرحيم. عجبت لمن أيقن بالقدر ثم يغضب، عجبت لمن أيقن بالموت ثم يضحك »، وفي رواية:« عجبت لمن أيقن بالموت ثم أمن »، وفي الرواية الأخرى:« عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها »، وفي الرواية الأخرى:« أنا الله لا إله إلا أنا، محمد عبدي ورسولي »، وفي الشق الآخر:« أنا الله الذي لا إله إلا أنا وحدي، لا شريك لي، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير وأخدمته على يديه، والويل لمن خلقته للشر وأخدمته على يديه ».(8/63)
وقيل: كان الكنز مالاً مدفونًا، وقيل: الموضع الذي التقيا فيه وهو مجمع البحرين، الذي نص الله عليه. قال أبي بن كعب: إفريقية. وقال ابن سيرين: القرية هي الأيلة، ورأيت في الكتاب المظفري أنها قرية خلف الأندلس، ورواه عن الطبري.
وقوله آخر الحديث:« وجاء عصفور حتى وقف على حرف السفينة، ثم نقر في البحر، فقال له الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر »، هذا على طريق التمثيل، وعلم الله لا يدخله النقص والزيادة، والمراد هنا راجع إلى ما أخذ العصفور لا يظهر أنه نقص من البحر شيئًا لقلته في كثرة ماء البحر وعظمته، كما لا يظهر هذا ولا يبين، حتى كأنه لم يأخذ شيئًا، كذلك ما أعلمه أنا وتعلمه أنت من معلومات الله، لا تجزئ هذه النقطة التي أخذ العصفور من البحر، ونسبة ذلك إلى معلومات الله في التمثيل نسبة تلك إلى البحر، وهذا كقوله:{ قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي }.
وذكر النقص هاهنا على المجاز، أو يرجع في حقهما، أي ما نقص علمنا مما جهلنا من /معلومات الله إلا مثل هذا في التقدير والقلة. وقد جاء نحو ما أشرنا إليه من التمثيل مفسرًا في حديث ابن جريج في البخاري، فقال:« ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور بمنقاره من البحر»، فاوقع العلم هنا موقع المعلوم، وقد يؤتى بالمصدر مكان المفعول كقولهم: درهم ضرب الأمير.
وقال بعض من أشكل عليه هذا اللفظ: والمعنى المراد بإلا هنا ولا: أي ما نقص علمي وعلمك من علم الله، ولا ما أخذ هذا العصفور من البحر، أي أن علم الله لا ينقص ولا يجوز ذلك عليه وهذا لا يضطر إليه لما بيناه.(8/64)
وقوله:« رحمة الله علينا وعلى أخي موسى »، وقوله: وكان إذا ذكر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه:« رحمة الله علينا وعلى أخي فلان »، فيه جواز بداية الإنسان بنفسه في الأدعية وأشباهها، بخلاف ما يكون من أمور الدنيا، فإن تأخير الإنسان فيه نفسه وتقديم اسم غيره أدب.
واختلف السلف في البداية بعنوان الكتاب، فذهب كثير منهم إلى تقديم الكاتب اسمه على اسم المكتوب إليه ما كان. وذهب آخرون إلى تقديم اسم المخاطب المكتوب إليه،، إلا مثل الأمير إذا كتب لمن دونه، والأب لابنه أو عبده، وما أشبه هذا.
قال بعض العلماء: وفي قصة موسى والخضر أصل من أصول الشريعة عظيم، في أنه لا حجة للعقول عليها، وأن لله أسرار فيها يطلع على بعضها، ويخفى ما شاء منها، وحكما هو أعلم بمراده بها، فلا يجب الاعتراض بالعقول على ما لا يفهم منها، ولا ردها كما فعل أهل البدع؛ بل يجب التسليم لما صح وثبت من ذلك.
وفيه أنه لا تحسن العقول ولا تقبح، وإنما ذلك للشرع، ألا ترى إلى ظهور قبح قتل الغلام، وخرق السفينة في الظاهر، ولهذا اشتد نكير موسى لذلك، فلما أطلعه الخضر على سر ذلك ومراد الله فيه، وأن ذلك لم يقضه عن أمره، بأن له وجه الحكم فيه، وكل ذلك محنة من الله وابتلاء لعباده ؛ ليميز الخبيث من الطيب، وليبلو إسرارهم. وفي إخباره عن حالة السفينة لو لم تخرق من غصب الملك لها، وحالة إلغلام لو لم يقتل وكبر، من إرهاق أبويه طغيانًا وكفرًا ؛ دليل على أن مذهب أهل الحق في علم الله بما لا يكون.
وفي جملة هذه القصة علامات كثيرة وآيات بينة للأنبياء والأولياء، وخرق العادة لهم، لاسيما على من لا يقول بنبوة الخضر، ويرى أنه ولي من أولياء الله وصفي من أصفيائه.
**************?
كتاب فضائل الصحابة(8/65)
قال الإمام أبو عبد الله: أما تفضيل الصحابة بعضهم على بعض، فقد ذهب فرقة إلى الإمساك عن هذا، وأنه لا يفضل بعضهم على بعض، وقالت: هم كالأصابع في الكف، فلا ينبغى أن نتعرض للتفضيل بينهم، وقال من سوى هؤلاء بالتفضيل، واختلفوا فيه اختلافًا كثيرًا. فالخطابية تفضل عمر بن الخطاب، والراوندية تفضل العباس، والشيعة تفضل عليًّا، وأهل السنة تفضل أبا بكر - رضي الله عنهم -.
واختلف القائلون بالتفضيل، هل الذي يذهبون إليه من مقطوع به أم لا؟ وهل هو في الظاهر والباطن أم في الظاهر خاصة ؟ فذهبت طائفة إلى أن المسألة مقطوع بها، وحكى عن أبي الحسن الأشعري ميل إلى هذا، وأن الفضل / مرتب في الأربعة على حسب ترتيبهم في الإمامة.
وأما القاضي أبو بكر بن الطيب فإنه يراها مسألة اجتهاد، ولو أهمل أحد العلماء النظر فيها أصلاً حتى لم يعرف فاضلاً من مفضول ما حرج ولا إثم، بخلاف سائر الأصول التي الحق فيها واحد، ويقطع على خطأ المخالف، وهذه لا يقطع فيها على خطأ من خالف من المجتهدين. وفي "المدونة": سئل مالك: أي الناس أفضل بعد نبيهم عليه الصلاة والسلام ؟ فقال: أبو بكر. ثم قال: أو في ذلك شك ؟ فقيل له: فعلي وعثمان ؟ قال: ما أدركنا أحدًا ممن اقتدى به يفضل أحدهما على صاحبه، ونرى الكف عن ذلك.
وقول مالك:" أو في ذلك شك ؟" كان يشير به إلى المذهب الذي حكيناه عن القائلين بالقطع، ولكنه أشار إلى التوفيق بين علي وعثمان، وهذا
مساهمة لمن حكينا عن الوقف في الكل، وللمرخصة مالك بهذين.
وقد مال إلى قريب من هذا أبو المعالى فقال: أبو بكر ثم عمر، ويتحالج الطيور في عثمان وعلي - رضي الله عنهم -، وهذا اللفظ نحر ما وقع لمالك.
وأما الحكم بالتفضيل ظاهرًا خاصة أو باطنًا وظاهرًا، فإن في ذلك قولين للعلماء. والقاضى أبو الطيب نصر كل واحد من المذهبين واحتج له، ولكن تعويله في ظاهر كلامه على أنه حكم بالظاهر لا بالباطن عند الله سبحانه.(8/66)
وقد يكون من يظهر لنا أنه أفضل من غيره ذلك الغير عند الله أفضل منه، ولذلك وقع الاختلاف بين العلماء في عالشة وفاطمة رضى الله عنهما أيتهما أفضل ؟ واحتجت كل طائفة بما وقع من التفضيل لمن فضلته في بعض الأحاديث، والمسألة لا تبلغ القطع. وقد وقف الشيخ أبو الحسن الأشعري في هاتين وتردد فيهما.
ولا معنى للتعريل على تعدية عانشة لكونها مع النبي عليه الصلاة والسلام في الجنة في درجته، وكون فاطمة مع علي رضى الله عنهما في درجته، ودرجة النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلى من درجة علي ؛ لأن ذلك إنما حصلت عليه لاءجل النبي عليه الصلاة والسلام، وكون الزوجة تابعة لزوجها لا لأجل نفسها لو انفردت. وكذلك قوله في عائشة رضى الله عنها: " إنها فضلت على النساء كالثريد على الطعام » الحديث، كما وقع ؛ لأنه من أخبار الآحاد.
وقد يعارض أيضًا بما وقع في فاطمة رضى الله عنها وأرضاها من الأحاديث، وقوله عليه الصلاة والسلام لها:« أما ترضين أن تكونين سيدة نساء هذه الأمة »، الحديث كما وقع.
وأما عثمان - رضي الله عنه - فخلافته صحيحة وقتلته فسقة ظلمة، بغت عليه أنه حمال الحما، وفضل أقاربه في العطاء، وآوى طريد النبي عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر العلماء المخرج من هذا كله ولو كان مما ينقم به، ولا عذر فيه لم يوجب إراقة دمه - رضي الله عنه -، وقد وقف المعتزلة فيه وفي قتله، وهذا من جهلهم بالآثار وقلة رجوعهم إلى الأخبار، وإضرابهم عن تأويلها واتباع العلماء في مسالكهم فيها.
وكذلك علي - رضي الله عنه - العقد له وقع بوجه صحيح، والعقد لغيره في أيام خلافته وحياته لا ينعقد ولا يصح، ولو اتفق لمعاوية رحمه الله تعالى العقد في زمنه لم يكن ذلك بعقد يعول عليه حتى يجدد له بعد موته - رضي الله عنه - ومعاوية / من عدول الصحابة وأفاضلهم، وما وقع من حروب بينه وبين على وما جرى بين الصحابة من الدماء فعلى التأويل والاجتهاد وكل يعتقد أن ما فعله صواب وسداد.(8/67)
وقد يختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة في مسائل من الدماء حتى يوجب بعضهم إراقة دم رجل ويحرمه آخر، ولا يستنكر هذا عند المسلمين ولا يستبشع لما كان أصله الاجتهاد وبه يعبد الله تعالى العلماء، وكذلك ما جرى بين الصحابة - رضي الله عنهم - في هذه الدماء، ومن حاول بسط طرق اجتهاده فيما وقع لهم طالع ذلك من الكتب المصنفة فيه، فقد أفرد القاضي فيه كتابًا، وذكره في كتبه وغيره من العلماء المصنفين.
قال القاضي: اعلم أن الفضائل والتفضيل عند العلماء مما لا يدركه القياس، إنما مل اره على التوقيف. ومعنى: فلان أفضل من فلان: أي أكثر ثوابا عند الله، وأرفع منزلة لربه، وهذا مما لا يعلم إلا بتوقيف، ولا يستدل عليه بكثرة الطاعات الظاهرة ؛ إذ قد يكون الثواب من الله على اليسير الخفي منها، أكثر من الكثير الظاهر وعلى صحة الإيمان وكثرة الذكر والفكر والخشية، وإن كانت الأعمال الظاهرة فيها مجال لغلبات الظنون بالتفضيل، قال الله تعالى:{ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } الآية.
والمشهور عن مالك وسفيان، وكافة أئمة الحديث والفقهاء، وكثير من المتكلمين ترتيب الأربعة في الفضل حسب ترتيبهم في الخلافة.
واختلفت الرواية في المدونة، ففى رواية بعضهم: أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان، وقال: أوفي ذلك شك ؟ وسقط: ثم عثمان من رواية أكثرهم.
واختلف في تأويل قوله في الكف عن عثمان وعلى، وما تقدم في ذلك قبل، فقيل: هو على ظاهره. وقيل: إنه رجع عنه إلى القول الأول. ويحتمل أن يكون كفه وكف من اقتدى به لما كان شجر في ذلك من الاختلاف والتعصب حتى كان الناس فرقتين ؛ علوية وعثمانية لهذا. وقد قيل: إن سبب قوله بالتفضيل بينهما، طلبته العلوية حتى امتحن بما امتحن به رحمه الله.(8/68)
وذهبت طائفة من العلماء إلى أن من مات من الصحابة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام أفضل ممن بقي بعده، وهو اختيار أبي عمر بن عبد البر. فقوله عليه الصلاة والسلام في بعضهم:« أنا شهيد على هؤلاء »، وتزكيته لبعضهم وصلاته عليهم، وقول النبي عليه الصلاة والسلام لأبي بكر:« ما ظنك باثنين الله ثالثها »، ظاهر في قوة توكل النبي عليه الصلاة والسلام وجلال مكانة أبي بكر، وعظيم منزلته وفضله بالغار، وما له فيها من المزية بهده اللقطة وغيرها.
وقوله:« إن أمن الناس على في ماله وصحبته أبو بكر »، معناه: أكثرهم جودًا وسماحة لنا بنفسه وذات يده، كما جاء في الحديث الآخر، وكما قال الله تعالى:{ هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب }، وليس يعد هذا من المن الذي هو اعتداد الصنعة، فإن المنة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجميع، وقد سماه الله أذى وجعله مبطلاً للصدقة ومفسدًا للصنعة. وفيه شكر الإحسان من الصاحب وغيره.
وقوله:« عبد خيره الله بين أن يؤتيه الله زهرة الدنيا »، ليريد نعيمها وعرضها، شبه بزهر الروض لحسنه.
وقول أبي بكر:" فديناك بآبائنا وأمهاتنا "، وبكاؤه، فيه جواز / قول الرجل لآخر: أفديتك بأبي وأمي. وقد كره ذلك الحسن وعمر وبعض السلف، وقال بعضهم: لا يفتدي أحد بمسلم، وأجازه غيرهم، وهو الذي اختار الطبري، وتأويل ما جاء في كراهة ذلك مرة وضعفه. وجاءت الآثار بخلاف قوله.
وقوله:" وكان أبو بكر أعلمنا "، فيه شهادة السلف لأبي بكر بذلك، وفيه التعريض بالعلم للناس وإلقاء مجملاته عليهم ؛ لاختبار أفهامهم.
وقوله:« لو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، لكن أخوة الإسلام »، وفي الرواية الأخرى:« لكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا ».(8/69)
اختلف المفسرون والعلماء المتكلمون في تفسير الخلة واشتقاقها، وحقيقة معناها، ولم سمى إبراهيم الخليل خليل الله ؟ ومعنى ثباتها هنا في نبينا عليه السلام ؟ وما هي الخلة التي نفى اتخاذها مع الناس وأثبتها لنفسه مع الله تعالى؟ فقيل: أصل الخلة: الافتقار والانقطاع. والخلة: الحاجة، فخليل الله: المنقطع إليه، وقيل: لقصره حاجته على ربه، وقوله لجبريل وهو في المنجنيق ليرمى به في النار، قال له:« ألك حاجة ؟ قال: أما إليك فلا »، وقيل: الاختصاص، واختاره غير واحد، وقيل: الاستصفاء.
وسمى إبراهيم خليلاً، لأنه يوالي في الله ويعادي فيه، إذا جعلناه فعيلاً بمعنى فاعل، وقيل: سمي بذلك لتخلقه بخلاق حسنة، وأخلاق كريمة شريفة، وخلة الله له: نصره، وجعله إمامًا لمن بعده. وقال ابن فورك: الخلة: صفاء المودة بتخلل الأسرار، كما قال الشاعر:
قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمى الخليل خليلاً
وقيل: أصلها: المحبة. ومعناه: الإسعاف والألطاف والتشفيع والترفيع. وقال بعضهم: الخليل من لا يتسع قلبه لسواه. قال: وهو معنى الحديث بأن حب الله تعالى لم يتوق قلبي مرضعًا لسواه. وقد جاء في أحاديث أخر أنه قال عليه الصلاة والسلام:« ألا وأنا حبيب الله».
ثم اختلف المتكلمون أيهما أرفع درجة المحبة أو الخلة؟ أو هما سواء ومفترقان؟ فذهبت طائفة إلى أنهما بمعنى واحد، وأن الحبيب لا يكون إلا خليلاً، والخليل لا يكون إلا حبيبًا. وقال بعضهم: درجة المحبة أرفع، ويحتج بالحديث المتقدم من قوله:« وأنا حبيب الرحمن »، وإنما درجة نبينا عليه الصلاة والسلام أرفع من درجة الخليل وسائر الأنبياء.
وقيل: درجة الخلة أرفع، وقد ثبت لنبينا عليه الصلاة والسلام بالحديث الأول ونفاها عن بقيته مع غير الله، وقد أثبت المحبة من خديجة وعائشة وأبيها، ولأسامة وأبيه، وفاطمة وابنيها، وغيرهم. وقال:« اتبعوني يحببكم الله ». وفي حديث:« على يحبه الله ».(8/70)
ومحبة الله لعبده: تمكينه من سعادته وعصمته وتوفيقه وتسيير ألطافه لهدايته وإضافة رحمته عليه، هذه مبادئها، وغايتها كشف الحجب عن قلبه حتى يراه ببصيرته، فيكون كما قال في الحديث الآخر:« فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به »، ومعنى هذا ما جاء في حديث عائشة في صفته عليه الصلاة والسلام:" كان خلقه القرآن، يسخط بسخطه ويرضى برضاه "، وعبر عنه الشاعر فقال:
/ فإذا ما نطقت كنت حديثي وأذا ما سكت كنت الخليلا(8/71)
وقوله:« ولكن أخوة الإسلام »، كذا رواية العذري، ولغيره: "إخوة"، وكذلك اختلف فيه رواة البخاري، ورواه بعضهم:" خلة "، وهذا اللفظ لم نجده في كلام العرب، ولا من تكلم عليه من الشارحين وخرج له نحوها، والذي عندي إن صحت الرواية: ولم يكن مغيره من أخوه، وأن الألف سقطت في اللفظ لما نقلت كتها على نرن " لكن " الساكنة فنطق بها: " لكن أخوة الإسلام " بضم النون، فلما سقطت في اللفظ كتبها من لم يحسن بغير ألف وسكن النون، أو سكنها من يعرف قصد التوصل إلى الخروج من كسرة الكاف بضم الخاء بعد، والا فلا وجه له ا عندي ! إلا هذا - والله أعلم. لكن بعفر شيوخنا من النحاة كان يذهب فيه مذهبا آخر ويقول: إنه نقل حركة الهمزة إلى نون " لكن " تشبيها بالتقاء الساكنين، ثم جاء منه الخروج من الكسرة إلى الضمة فسكن النون، ومثله قوله تعالى:{ ا لكئا هو الئه رتجي، المعنى: لكن أنا، فنقل الهمزة ثم سكن وأدغم لاجتماع المثلين. وقال أبو عبيد في الآية: لما حذفت الألف التقت نونان، فجاء التشديد لذلك. وقوله: " لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر " بفتح الخاءين، وهو هنا الباب الصغير أ يكون م بين المسكنين أ وشبه، ذلك. فيه دليل على أن المساجد لا تتطرق إلى الدور ولا غيرها، واختصاصه لأبي بكر بهذا دليل على فضيلته، وقد استدل به على صحة إمامته واستخلافه للصلاة، وعلى خلافته بعده. وقوله: ا ألا إنى أبرأ إلى كل خل من خله ". كذا هو مقيد في كتاب بعض شيوخى: " من خله، بكسر الخاء، وغالب ظني أنا سمعناه وقرأناه بكسرها هكذا على جميعهم. والصواب إن شاء الله والأوجه هنا فتحها. والخلة والخل والخلال والمخالة والمخاللة والخلالة والخلوة: الإخاء والصداقة، أي من صحبته، ومودته التي تقتضى المخاللة، وقد قال أبو إسحاق الحربي عن الأصمعى: يقال: فلان كريم الخلة، والخل والمخاللة، أي الصحبة.(8/72)
وفي هذا الحديث بعد حديث محمد بن مسلم وابن بشار بسندهما عن عبدالله قال: وحدثنا أبو جعفر بن عون، عن ابن أبي مليكة، عن عبدالله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« لو كنت متخذًا خليلاً »، بسند حميد هنا عند الطبري وحده فسقط للباقين. وقوله: من أحب إليك ؟ قال:« عائشة »، قلت: من الرجال ؟ قال:« أبوها »، قلت: ثم من ؟ قال:« عمر »، فعد رجالاً، وقوله في الحديث الآخر: من كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخلفا لو استخلف ؟ قالت: أبو بكر، فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر ؟ قالت: عمر ؟ ثم قيل لها: ثم من بعد عمر ؟ قالت: أبو عبيدة ".
قال الإمام: اختلف الناس فيمن يستحق الإمامة بعد النبي عليه الصلاة والسلام فذهب أهل السنة إلى أنه الصديق، وذهبت الشيعة إلى أنه على، وذهبت الراوندية إلى أنه العباس.
فمن خالف أهل السنة رأى الترجيح بالقرابة، فقال بعضهم: علي - رضي الله عنه - لقربه ومصاهرته، وما ظهر من علمه وشجاعته. وقال بعضهم: العباس ؛ لأنه المستحق للميراث، وهو أولى به من على، فكان أولى بالخلافة. وأنكر أهل السنة أن يكون مجرد القرابة / يوجب الخلافة، وإنما يوجبها الحصول على مرتبة من الدين والعلم، وغير ذلك من الأوصاف التي ذكرها العلماء قى كتب الإمامة، وقد قال عز وجل:{ إني جاعلك للناس إمامًا قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين }، ولسنا نقول: إن أحدًا من قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظالم، ولكن وجه الاستدلال أن مجرد القرابة لا يوجب الولاية إذا منع منها مانع، وهو الظلم، فكذلك إذا منع منها مانع وهو وجوبًا للأفضل.(8/73)
وأما غلو الشيعة بقولهم: فإن عليًّا - رضي الله عنه - وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فباطل لا أصل له. وأما الصديق - رضي الله عنه - إذا أثبتنا ولايته باتفاق الصحابة عليه على وجه يوجب إمامته، فإن المحققين من أئمتنا أنكروا أن يكون ذلك بنص قاطع منه عليه الصلاة والسلام على إمامته، وقالوا: لو كان النص عند الصحابة لم يقع منها ما وقع عند إمامته والعقد له، ولا كان ما كان من الاختلاف، فدل ذلك على أنه رأى منهم وقع فيه تردد من طائفة ثم استقر الأمر فانجزم الرأي عليه ويجعل هؤلاء ما وقع في هذا الحديث:« ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»، مع ما وقع من أمثاله من الظواهر التي لا تبلغ النص الجلي القاطع الذي لا يسوغ خلافه ولا الاجتهاد معه.
قال القاضي: في هذا الحديث حجة لأهل السنة أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يستخلف أبا بكر ولا نص عليه، خلافًا لابن أخت عبد الواحد بن زيد من قوله بالنص على أبي بكر، وخلافًا لمن يقول بالنص على غيره. ولو كان نصًّا لما خفى عن الأنصار في طلبهم الخلافة فيه، ولا على غيرهم من قريش ممن طلبها أولاً لنفسه إذا كانوا ممن لا يليق بهم خلافه ما عهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما تخالفوا فيما وكل إلى اجتهادهم.
وقول عائشة بعد ذكر عمر:" ثم أبو عبيدة بن الجراح "، إنما أخبرت عن ظنها في ذلك لا عن خبر روته عنه عليه الصلاة والسلام، فلا حجة فيه في تقديمه وتفضيله على عثمان وعلي، وأيضًا فإن التقديم للخلافة ليس من شرطه تقديم الأفضل، بل الاعتبار غر المحققين الأصلح للحال والأولى بالوقت إما للحاجة لشجاعته ومنته، أو لكثرة علمه ووفور معرفته، أو لأنه أكثر قولاً ومحبة عند رعيته، أو حذار شغب يتشضب، لتقديم الأفضل وفتنة تحدث.
وإن عقدت للمفضول دون الفاضل لغير عذر انعقدت عند الجمهور، خلافًا لعباد ابن سليمان والجاحظ: فيه أنه لا ينعقد إلا الأفضل.(8/74)
وقد استدل بعض العلماء بتقل يم الخلفاء الأربعة وترتيبهم في الخلافة على رتبة درجاتهم ومناصبهم في التفضيل. وهذا إنما يستقيم على القول بوجوب تقديم الأفضل بكل حال، فأما مع القول بجواز تقديم المفضول مع وجود الفاضل فلا دليل فيه على ذلك، لكنا علمنا تقديمهم وترتيبهم في الفضائل بغير هذه الطريق وما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من فضائلهم، وكثرة مناقبهم، وقدمهم في الإسلام، وتقدمهم على ما تقدم من الاختلات، هل ذلك على القطع أو غلبة الظن ؟ وما روي عن جمهور السلف الصالح في ذلك.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن تقديمهم للخلافة بحسب ما قدر الله تعالى من أنهم الأربعة سيكونون خلفاء وأئمة ومتباينة آجالهم، وأن الخلافة كما قال عليه الصلاة والسلام بعده ثلاثون سنة، فيقدم أبو بكر إذا كان أولهم موتًا، فلو تقدم أحد الثلاثة لم يل الخلافة، ولا كانت مدتها واحدة وقد سبق له أن يلي، وكذلك عمر مع من بعده، وكذلك عثمان مع علي، ولو تقدم على أولاً لم يل واحد منهم لموت جميعهم في بقية عمره.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام للمرأة:« إن لم تجديني ائت أبا بكر »، مما استدل به من يقول بالنص على أبي بكر. ولا حجة فيه، بل فيه من الحجة صحة إمامته، وأن النبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر أنه سيكون إمامًا بعده، ولو لم يكن لها أهلاً لما أمر بالمجيء إليه.
وقوله في هذا الحديث: " قال أبي: كأنها تعني الموت "، قائل هذا هو جبير بن مطعم راوي الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام كذا رواية بعضهم بياء ساكنة باثنين تحتها، وعند الفارسي والسجزي:" قال أبي "، بباء بواحدة مكسورة.(8/75)
وقائل هذا عن أبيه محمد بن جبير لعائشة في مرضه:« ادع لي أباك وأخاك حتى اكتب كتابًا، فإنى أخاف أن يتمنى متن، ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمسلمين إلا أبا بكر »، فيه حجة بينة لصحة إمامته وعظم فضيلته عند الله تعالى وعند المسلمين، وتقديمه على الجميع، وعدم النص في الإشارة لغيره جملة واحدة.
ولا حجة فيه للنص عليه ؛ لأنة أمرٌ هم به ولم يفعله، ودعوته لأخيها لكتاب الكتاب بذلك، والله أعلم. ومثله في كتاب البخاري:« لقد هممت أن أوجه إلى أبي بكر وابنه وأعهد »، وفي رواية أبي ذر الهروي:« أو ابنه » مكان:« أبيه ». وقال بعضهم: هو الصواب، وما في كتاب مسلم مما لا اختلاف فيه مما قدمناه بين الصواب في غيره، وإنما صوب ذلك وأنكر ذكر ابنه ؛ إذ لم يفهم المراد بإحضاره، وقد بينه في هذا الكتاب بقوله:« حتى اكتب كتابًا »، مع إتيانه عليه الصلاة والسلام حينئذ متعذر عليه، أو غير ممكن إذ كان في مرضه - عليه السلام - وتخلفه عن حضور الجماعة، والصلاة بالناس، والدور على أزواجه فكيف لغيره ؟!
وقوله:« فإني أخاف أن يتمنى متمن »، يريد الخلافة.
وقوله:« ويقول قائل: أنا أولى »، كذا للهوزني، وبعضهم عن ابن ماهان، وعند أبي العباس الدلائي:" أنى ولاه " بتشديد النون، بمعنى كيف. وعند السمرقندي والسجزي: " أنا ولى " بتخفيف النون. وعند الطبري: "أنا ولا "، والأول أولى، إنى أنا أولى بالأمر. وأما الدعوى بذلك وتقديم النبي لمن لم يقدم ولا يليق بأحد منهم.
وقوله: حتى سأل:« من أصبح اليوم صائمًا ؟ ومن اتبع اليوم جنازة ؟ ومن أطعم اليوم مسكينًا ؟» وقول أبي بكر في جميعه: أنا، فقال عليه الصلاة والسلام:« ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة »، معناه والله أعلم: دون محاسبة ولا مجازاة على شيء من عمل، وإلا فمجرد الإيمان يوجب بفضل الله دخول الجنة. واجتماعها في يوم يدل على دوام السعادة، وحسن الخاتمة، ووجوب الجنة بذلك.(8/76)
وقوله في كلام البقرة، وكلام الذئب، وتعجب الناس من ذلك:« آمنت به أنا وأبو بكر وعمر »، وما هما في القوم: ثقة منه - عليه السلام - وتحقيقًا لصحة إيمانهما، وقرة يقينهما، ومعرفتهما بسلطان الله، وعظيم قدرته على ما يشاء. وفيه خرق العوائد إذا شاءها الله لمن أراد.
وقوله عن الذئب:« من لها يوم السبع يوم لا راعى لها غيرى ؟» كذا الرواية بضم الباء، قال الإمام: بعض أهل اللغة يقولون :" يوم السبع " بإسكان الباء، وتفسيره بأنه أراد يوم القيامة. قال بعضهم: " من لها يوم السبع "، السبع: الموضع الذي عنده المحشر يوم القيامة، أراد من لها يوم القيامة.
قال الإمام: وقد سألت بعض أئمة اللغة عن هذا، فقال لي: ما أعرف لتسمية يوم القيامة بهذا الاسم وجهًا، لكني أعرف في اللغة: سبعت الرجل سبعة سبعًا: إذا طعنت عليه، فلعله لما كان يوم القيامة يوم الكشف عن المساوئ سمي بذلك اليوم سبعًا، هذا الذي ذكر لي من سألته. وقد رأيت في بعض كتب اللغة: يقال: سبعت الأسد: إذا دعوته. قال الطرماح:
فلما عوا ليث السماك سبعته كما أني أحيانًا لهن سبوع
يصف الذئب، ويكون المعنى على هذا: من لها يوم الفزع، ويوم القيامة أيضًا يوم الفزع، وحكى صاحب الأفعال: سبعت الرجل سبعًا: وقعت فيه، والقوم صرت سابعهم، وأيضًا أخذت سبع أموالهم، والذئاب الغنم أكلتها، وأسبعت الرجل: أهملته، وأيضًا أطعمته السبع، والراعي وقع السبع في غنمه، والمرأة ولدت لسبعة أشهر، والقوم صاروا سبعة. هذا جملة ما حكاه من تصريف هذه اللفظة في معان مختلفة. ويحتمل مما ذكره أن يريد يوم السبع: يوم أكلي لها، لقوله: سبع الذئب الغنم: أكلها.(8/77)
وإن صح أن يشتمل الثلاثي هاهنا مكان الرباعي كما قال عز وجل: {والله أنبتكم من الأرض نباتًا }، صح أن يريد: من لها يوم الإهمال، كما حكى: أسبعته أهملته، ويكون المراد به نحو ما يراد برواية من روى:" من لها يوم السبع يوم لا راعي لها سواي "، إذا كان المعنى فقد الحارس لها، والمانع منها.
قال القاضي: قال بعضهم: " يوم السبع ": يريد بالسكون، عيد كان في الجاهلية يشتغلون فيه بلعبهم، فيكل الذئب فيه غنمهم. وقال غيره: إنما هو البيع، بياء باثنتين تحتها، أي يوم الضياع أسبعت، وأمنعت بمعناه. وقال الداودي: معنى " يوم السبع ": إذا طردك عنها السبع وبقيت أنا فيها، أتحكم لفرارك منه. قال الحربي: وقد قرأ الحسن:" وما أكل السبع "، وكذا رواه بعضهم في الحديث:" يوم السبع ".
وقوله في الباب في حديث محمد بن عباد: رفعه عن الأعرج عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. كذا هو عند جميع شيوخنا وأكثر الرواة، وسقط عند بعض الرواة عن أبي هريرة، وإثباته في هذا الحديث الصواب.
وقوله في عمر:" وضع على سريره فتكنفه الناس يدعون له "، أي أحاطوا بكتافه، أي جهاته، والسرير هنا النعش.
وقوله:" فلم يرعني إلا رجل أخذ بمنكبي فإذا هو علي، فترحم على عمر" إلى آخر الحديث، يعني: فلم يرعني، أي لم ينبهني مما كنت فيه ولم يلهمني لغيره، ومنه في الحديث:« إن منكم محدثين ومروعين »، أي ملهمين. وفي هذا الحديث حجة على الشيعة وتكذيب دعواهم على علي في / عمر، وسوء اعتقادهم فيه، وشهادته بفضله وفضل أبي بكر، وبفضل النبي عليه الصلاة والسلام لهما، وتخصيصه لهما. وفيه صدق ظن علي - رضي الله عنه - وصحة حسبانه في أن يدفن عمر مع صاحبيه لما ذكر في الحديث.(8/78)
قوله في رؤياه عليه الصلاة والسلام:« ومر عليه عمر وعليه قميص يجره»، وذكر أنه تأوله:" الدين "، قال أهل العبارة: تأويل القميص بالدين من قوله تعالى:{ وثيابك فطهر }، يريد نفسك وعملك وإصلاح عملك ودينك، من تأويل بعضهم لأن العرب تعبر عن العفة بنقاء الثوب والمئزر ؛ لأن الله تعالى يسمي الثياب لباس التقوى، وجره لها في النوم عبارة عما فضل عن صاحبه منها فانتفع الناس به بعده واقتفوا به. من الاقتداء به أثره، وفارق ذم جره في الدنيا له احتيال المذموم.
وقوله في رؤياه شرب اللبن:« ودفع فضله بعد ربه إلى عمر »، وأنه تأوله العلم ؛ لما كان اللبن فيه صلاح الأبدان وغذاء بنى آدم وما شابههم وفطرتهم، عبر في المنام بالعلم الذي فيه صلاح أمورهم في دينهم ودنياهم. وقد تدل على الحياة ؛ إذ به كانت أولاً في الدنيا، ويدل على الثواب لأنه مذكور في أنهار الجنة.
وقوله:« رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة - في رواية: ليروحني - نزع بها ذنوبًا أو ذنوبين وفي نزعه، والله يغفر له ضعف، ثم استحالت غربًا، فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقريًّا يبرئ قربة »، وفي الرواية الأخرى:« فلم أر عبقريًّا من الناس ينزع نزع عمر، حتى روى الناس وضربوا العطن »، وفي الرواية الأخرى:« حتى تولى الناس والحوض ملأن يتفجر »، القليب: البئر غير مطوى. والغرب: الدلو الكبير، والذنوب: الدلو إذا كانت ملأى ماء، والنزع الإشقاء وجبذ الدلو باليد، ولا يقال: النزع، إلا لما هو باليد، يقال منه: نزع بالفتح ينزع.(8/79)
هذا ضرب مثل لحاله عليه الصلاة والسلام مع أمته وقيامه بأمرهم، وقيام أبي بكر وعمر بعده، وصفة حالتهم في الخلافة واستقرار الأمور واتساع الإسلام، وكثرة الفئ والخير، واستقرار الشريعة والعلم والفقه في الدين أيام عمر. فعبر القليب والبئر والحوض على اختلاف ألفاظ الحديث بأمر المسلمين لما فيها من الماء الذي به حياتهم وصلاحهم، وجمع الماء فيها كما جمع من الأموال والكنوز، وشبه وليهم بالمستقي منها، وسقيه للناس بقيامه بمصالحهم وتدبيره أمورهم. وذكر: نزع أبو بكر ذنوبًا أو ذنوبين، إشارة إلى سني خلافته. ولعل هذا شك من الراوي، والصحيح:" ذنوبين "، لكون خلافته سنتين ؛ ولذا جاء بغير شك في الرواية ا لأخرى:" فنزع ذنوبين ".
وقوله:« وفي نزعه ضعف »، ليس أن ذلك مما حط من فضله ولا أثبت فضل عمر عليه بقوة نزعه، وإنما هو إخبار عن حالتي ولايتهما وصفة الأمة معهما وقصر ولاية أبي بكر وطول ولاية عمر، وأن مدة أبي بكر كان فيها من تفرق كلمة العرب بعده بالردة، وشغل المسلمين بحربهم أكثر أيامه ما لم يتفرغوا معه لقتال غيرهم، وفتوح بلاد الكفرة، وغنائم أموالهم إلا في أخريات أيامه ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:« والله يغفر له »، عند بعضهم تعريفًا بأن الله قد غفر له، وجازاه على ما عاناه من حرب أهل الردة، والأشبه عندي في هذا أنه دعم للكلام وصلة له.
وقد جاء في الحديث: كانت كلمته يقولها المسلمون:" افعل كذا والله يغفر لك "، ثم اتسع ذلك أيام عمر وطالت مدته، وكثرت الفتوحات معه وكثرت الجبايات، واتسع نطاق الإسلام، وامتلأت أيديهم من الغنائم، ومصرت الأمصار، ودونت الدواوين.
وفي قوله هذا كله إشارة لخلافتهما، وإعلام بولايتهما وإتباعه في صلاح / حال المسلمين وتدبير أمورهم ورضاة حالهم.(8/80)
وفي قوله:« ثم أخذها ابن أبي قحافة ليروحني »، تنبيه على نيابته عنه وخلافته بعده وأحقه عليه الصلاة والسلام بموته من تعب الدنيا، ومعاناة الأمة، ومقاساة تدبيرهم.
وقوله:« فاستحالت غربًا »، أي صارت وتحولت عن حالها الأول من الصغر إلى الكبر.
وقوله:« فلم أر عبقريًّا »، قال الإمام: قال أبو عبيد: قالى الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن العبقري فقال: يقال: هذا عبقري قومه،?كقولهم: سيد قومه وكبيرهم وقويهم.
قال القاضي: قال أبو عبيد: وأصله فيما يقال: إنه نسب إلى عبقر، أرض يسكنها الجن، فصارت مثلاً لكل منسوب إلى شيء رفيع، ويقال: بل هي أرض يعمل فيها الوشى والبرود، وينسب إليها الوشى العبقري، قال الله تعالى:{ متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان }، قال ابن دريد: فإذا عجبوا من شدة شيء ومصابه واستحسنوه نسبوه إلى عبقر. قال الحربي عن بعضهم: عبقر أرض الحجاز. وفي البارع عن أبي عبيدة: العبقري من الرجال: الذي ليس فوقه شيء.
وقوله: " يفري فريه "، بكسر الراء وتشديد الياء وسكون الراء أيضًا، وبالوجهين ضبطناه عن شيوخنا أبي الحسين وغيره، وأنكر الخليل التثقيل وغلط قائله. معناه: يعمل عمله، ويقوي قوته.
قال الإمام: أي يعمل عمله، ويقطع قطعه، والعرب تقول: تركته يفرى الفرى: إذا عمل العمل فاجاد.
قال القاضي: يقال: فلان يفري الفري، أي يعمل العمل البالغ، ومنه قوله:{ لقد جئت شيئًا فريًّا }، أي عظيما عجبًا، يقال: فريت إلى قطعت وشققت على جهة الاصلاح، وأفريت إذا فعلته للإفساد، ومنه قول حسان: " لأفريتهم فري الأديم "، قال الإمام: وقوله:« حتى ضرب الناس بعطن »، قال ابن الأنباري: معناه: رووا إبلهم فأبركرها، فضربوا لها عطنًا، يقال: عطنت الإبل فهي عاطنة وعواطن: إذا بركت عند الحياض لتعاد إلى الشرب مرة أخرى، وأعطنتها أنا.(8/81)
قال القاضي: ظاهره أنه راجع إلى سياسة عمر وخلافته، وقيل: هذا عائد إلى نظر أبي بكر وعمر، وأن ينظرهما معًا، ثم هذا وضرب الناس بعطن ؛ لأن أبا بكر - رضي الله عنه - قمع أهل الردة وألف شمل المسلمين، ونظم أمرهم، وابتدأ الفتوح، ثم تمت إمرة عزة المسلمين، وظهورهم على فارس والروم، واستمرت وامتدت أيام عمر.
وقوله:« حتى روى الناس »، بكسر الواو، ويفسر معنى:"ضرب الناس / بعطن ". يقال: روى من الشراب والماء: إذا أخذ منه حاجته.
قوله:« دخلت الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر »، كذا رويناه في جميع الأصول إلا في غريب ابن قتيبة، فإنه رواه:" شعرها "، من كان يتوضأ. وفسرها بالحسنة، وقد ذكر ثعلب عن ابن الأعرابي: أن الشوهاء: الحسنة والقبيحة من حروف الأضداد، ولكن المعروت في هذا الحديث تتوضأ كما ذكرناه. وفي قوله:« فذكرت غيرتك »، فضل الغيرة ؛ فإنها من خلق الفضلاء المحمودة. وجاء في الحديث:" إنما كانت رؤياه في المنام "، وهذه من رؤيا الوحي التي هي على وجهها دون تأويل.
وقوله:" وعند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساء يسألنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن"، معنى "يستكثرنه " أي يطلبن كثيرًا من كلامه، وجوابه وحوائجهن عنده، أو يكثرن عليه من السؤال والكلام.
وقوله:"ا عالية أصواتهن "، يحتمل أنه قبل النهي عن رفع الصوت فوق صوته، وقيل: قد تكون علو أصواتهن لإجتماع كلامهن وكثرة أصواتهن لكثرة عددهن، لأن كلام كل راحدة أعلى من كلامه عليه الصلاة والسلام.(8/82)
وقولهن:" أنت أغلظ وأفظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، هما بمعنى، وهو عبارة عن شدة الخلق وخشرنة الجانب، ولا يكون " أفعل هنا للمفاضلة، بل بمعنى: فظ غليظ، وقد يصح وصفها للمبالغة، وأن القدر الذي منها في حق النبي عليه الصلاة والسلام في ذات الله على الكفار، كما قال:{ واغلظ عليهم}، وفي تعبير انتهاد حرمة الله تعالى معتدل، وعلى قدر ذلك، وعند عمر زيادة في ذلك، وفي معاملة الناس وعشرتهم.
وفيه دليل على أن خفض الجناح ولين الجانب والإغضاء أفضل ؛ إذ كان خلقه عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى:{ ش بالمؤمنين ر 4 وف زحيم }، وقال:{ ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك }، وأن الغلظة والفظاظة في ذات الله تعالى غير مذمومة.
وقوله:« ما لقيك الشيطان سالكًا قط فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجك »، الفج: الطريق الواسع، وهو أيضًا المكان المنحرف بين الجبلين، يحتمل أن يكون الكلام على وجهه، وأن الشيطان يهابه ويرهبه ويهرب متى لقيه أمامه، وسياق الحديث يدل على أن المقصود هيبته.
ويحتمل أنه ضرب مثلاً لبعد الشيطان وأعوانه منه ومن مذاهبه، وأنه في جميع أموره سالك طريق الهدى والدين وما يقرب من الله، خلاف ما يامر به الشيطان ويحض عليه.
وقد يحتمل أن يكون المراد به عصمته من الشيطان وإغوائه إياه، وأن جميع مسالكه على الهدى بعيدة من زيغ الشيطان.
ذكر مسلم حديث أبي الطاهر عن ابن وهب، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه عن أبي سلمة، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:« قد كان في الأمم محدثون» الحديث، قال الإمام: ذكر مسلم عن ابن وهب أن تفسيره: مهموز، وقال غيره:" محدثون ": قوم مصيبون إذا ظنوا، فكأنهم حدثوا بشيء فقالوه.
قال القاضي: وقال ابن القابس وغيره:معناه: تكلمهم الملائكة، كما جاء في الحديث الآخر:" يكلمون "، وقال البخاري: معناه: يجرى على /ألسنتهم الصواب.(8/83)
وهذا الحديث مما تتبعه الدارقطني على مسلم، وقال: المشهور عن إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن أبي سلمة، بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه البخاري من هذا الطريق عن أبي سلمة عن أبي هريرة.
قوله:" وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسرى بدر "، ثم ذكر في الحديث الأخر موافقته في الصلاة على المنافقين ؛ هذه الأمور مما كان رآها عمر برأيه واستحسنها بداية بحسن نظره، ووافق ذلك من وحى الله فيها بعد، وشروعه فيها ومذهبه، وكل هذا مطابق للحديث قبله ؛ ولهذا جاء به مسلم إثر الحديث الأول.
وقوله:" أن عبد الله بن عبد الله بن أبي لما توفى أبوه، سأل النبي عليه الصلاة والسلام أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه "، قيل: فعل هذا لسؤال ابنه إياه ومكانته منه، وصحة إسلامه، ولكنه كان عليه الصلاة والسلام لا يسال شيئًا فيمنعه، وقيل: فعل ذلك مكافاة له ؛ لأنه كان ألبس العباس حين أسر قميصًا، وقيل: تطييبًا لقلب ابنه.
والذي هنا أظهر لتفسير سببه في الحديث وسؤال ابنه ذلك، ولذلك بين سبب صلاته عليه لسؤال ابنه إياه، ولم يكن ورد نهى بالصلاة على المنافقين.
قيل: إنما ورد أن الله لا يغفر لهم، فبقى حكم الصلاة والاستغفار، وهو معنى قوله:" نهاك أن تصلي عليه "؛ لأن أصل الصلاة الدعاء، فرد عليه الصلاة والسلام على عمر قوله، وقال له:« بل خيرني ربي، وسأزيده على السبعين »، ظاهر قوله تعالي:{ إن تستغفر لهم سبعين مرة }، المبالغة في التكثير ومنع الاستغفار، والعرب تضع التسبيع أبدًا موضع التضيف، وإن جاوزه، وقد تقدم من هذا، لكن النبي عليه الصلاة والسلام مع علمه بمقاصد الكلام رجاه، لعل الله يرحمه، إذ الاحتمال فيما بعد السبعين محال يخالف الظاهر.(8/84)
ويحتمل أنه طمع أن يكون له عند الموت إنابة فحمله محمل المؤمنين، ولهذا أمر بإخراجه من قبره وأجلسه في حجرة وتفت عليه من ربقه، كل ذلك رجاء رحمة الله له بذلك، ومنفعته، وتطييبًا لقلب ابنه ومبرة به، حتى جلّى الله له الأمر ورفع ألاحتمال، وقطع منه الرجاء، بنهيه عن الصلاة عليه وعلى أمثاله، ممن ظهر نفاقه، والقيام على قبورهم، وأعلمه بأنهم كفروا بالله وماتوا على ذلك.
وقوله: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضطجعًا في بيته كاشفا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحال،، وذكر عن عمر نحوه، الحديث إلى قوله:" فاستأذن عثمان فجلس وسوى ثيابه "، وفي الحديث الآخر وقال لعائشة:" اجمعي عليك ثيابك "، وسؤال عائشة له بعد ذلك عن هذا فقال:« إن عثمان رجل حيي، فإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال ألا يبلغ إلى في حاجته »، فقد بين العلة التي خالف فعله مع عثمان فعله مع أبي بكر.
وقد يحتج بهذا الحديث من لا يرى الفخذ عورة وقد قدمنا الكلام عليه أول الكتاب والاختلاف فيه، وإن لم يكن في هذا الحديث حجة قوية في / ذلك لشكها في كشف الفخذ أو الساق، لكن يخرج منه مذهبنا في تسوية ذلك، وأنه لو كان الفخذ عورة لما صح منه انكشافه - عليه السلام -، وقد مر من هذا في الجهاد أيضًا.
قول عائشة:" دخل أبو بكر فلم تهتش له - ويروى: تهس - ولم تباله"، بفتح الهاء، أي تنشط وتتحرك، وتحتفل له وتستبشر، يقال: هش: إذا استبشر، وهش له المعروف: نشط وخف، ومثله بش. والهشاشة والبشاشة: المبرة والملاطفة والنشاط. كذلك يقال منه: هش يهش بالفتح، فأما من خبط ورق الشجر فيهش يهش بالضم، قال الله تعالى:{ وأهش بها على غنمي }.(8/85)
"ولم تباله ": أي تكثرت بدخوله. وفي الرواية الأخرى:" لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان "، كذا رواية الأكثرين، أي لسؤله معناه ونبهت بنحيه وبينت له قريب من معنى هش، والفزع يكون بمعنى هذا، ومنه فزع من نومه: إذا هب، ويكون بمعنى الإغاثة، وبمعنى الذعر. وفي كتاب شيخنا القاضي أبي علي بالراء المهملة والغين المعجمة، ومعناه: قصدت وعمدت، أو تفزعت له من كل شيء وأخليت له بالك، والفراغ يكون بالمعنيين جميعًا، وأنهما متقاربان راجعان إلى التهمم بالشيء والاهتبال به.
والمرط: كساء من صوف. وقال الخليل: كساء من صوف، أو كتان، أو حرير، وقال ابن الأعرابى وأبو زبد: هو الإزار، وقد فسرناه.
وقوله:" وهو متكئ يركز بعود معه بين الماء والطين " بضم الكاف، ويروى:"يضرب"، وهما متقاربان، من ركزت الرمح: إذا أثبت طرفه في الأرض.
وقوله:" دخل حائطًا فأمرني أن أحفظ الباب "، وقوله بعد:" لأكون بواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وفي الحديث الأخر:" لم يكن له بواب "، إنما أمره به أولاً - عليه السلام - بحفظ الباب لأنه ذكر في الحديث أنه - عليه السلام - دخلها لقضاء حاجته وتوضأ، وهذا يحتاج إلى استتار، فلما قضى حاجته حينئذ دخل وسلم عليه، فيحتمل أن يكون أمره بحفظ الباب أولاً لذلك لأول ما أحس به، وأنه حفظه هو بعد آخر، ومن قبل نفسه، ويحتمل أنه إنما أمره بذلك ليبشر من يبشره بالجنة، ويدخل عليهم هذه المسرة.
وقوله:" خرج وجه ههنا "، كذا يقوله الرواة، وكذا ضبطناه عن بعضهم، وضبطناه عن الأسدى:"وجه" بسكون الجيم، أي قصد هذه الجهة، وصوبه بعضهم وهو وجه الكلام مع خرج.
وقوله:" فتوسط قفها وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر "، قال الإمام: القف: شجر النخل، والقف أيضًا الشجرة اليابسة، والقف أيضًا: شبه الدنبل من الحوض. والمراد بهذا الحديث في الظاهر: القف الذي يسقط فيه الدلو، ثم يمضي فيه إلى الصغيرة، وهي محتبس الماء كالصهريج.(8/86)
قال القاضي: لا يستقيم أن يجعل القف هنا مسقط الدلو، ولا شيئًا لما ذكر ولا ما ذكره غيره أنه أول القف بالحجر الذي وسط البئر، وكيف يصح جلوس النبي عليه الصلاة والسلام وتوسطه وتدليته رجليه منها في البئر، ثم جلوس أبي بكر وعمر فيه حوله كذلك، وجلوس عثمان أمامهم من الشق الآخر، والأشبه بالقف هنا البناء الذي حول البئر.
/ قال ابن دريد: القف: الغليظ المرتفع من الأرض،ومثل هذا هو الذي يهتفق للجماعة الجلوس عليه وتدلي أرجلهم منه في البئر، ومقابلة أحدهم من الجانب الآخر لا في مسقط الدلو، وقد فسره بعضهم بأنه شقة البئر، وهو نحو ما ذكرناه.
وأما قوله: القف الشجر، والقف يشبه الزنبيل، وإنما عرفنا هذين الحرفين القفة بالهاء فيهما، وكذا ذكرهما الناس، لكن يقال للشجر اليابس: قف بالفتح، جمع قفة.
وقوله:" على رسلك "، بفتح الراء وكسرها، وهما بمعنى التثبت والسكون. وقيل بالفتح، أي على رفقك ولينك، وأصله من السير اللين، وبالكسر: على تؤدتك وترك العجلة، وهما متقاربان.
وقوله:" فجلس وجاهه "، بكسر الواو، ويقال بضمها، أي قبالة وجهه. وقوله في عثمان: " بشره بالجنة على بلوى تصيبه، وقوله هو:" اللهم صبرًا، والله المستعان "، إعلام من النبي عليه الصلاة والسلام بأن أبا بكر وعمر وعثمان من أهل الجنة، والقطع لهم بمثل ما أعلمنا بمعنى ذلك، وإعلامه بما يصيب عثمان من البلاء من الناس وهو خلعه وقتله.
وقول عثمان:" اللهم صبرًا، والله المستعان "، تسليم لمراد الله، ولعل هذا هو الذي منع عثمان من القتال والمدافعة عن نفسه ؛ إذ قد أعلمه النبي عليه الصلاة والسلام بحلول ذلك، وأنه قد سبق القدر له بذلك.
وفيه من علامات نبوة نبينا - عليه السلام - وفضائل هؤلاء الخلفاء البيان.التام.(8/87)
وقول ابن المسيب:" فأولتها قبورهم "، يريد أنه تفرس في تلك الحالة من جلوسهم واجتماع الثلاثة في جهة وانفراد عثمان عنهم، دفن أولئك الثلاثة بمكان واحد، وليس تلك رؤيا تحمل على التأويل، وإنما هو من باب التفرس ومما يقع في القلب.
ذكر مسلم في فضانل علي: حدثنا يوسف أبو سلمة الماجشون، كذا عند شيوخنا، وفي بعض الروايات: يوسف بن أبي سلمة، وكلاهما صحيح، هو أبو سلمة يوسف بن يعقوب بن عبد الله بن أبي سلمة، واسم أبي سلمة: دينار، والماجشون لقب يعقوب بن عبيد الله وغيره. ومعنى الماجشون: المورد، سمى بذلك لحمرة وجهه. والماجشون: المورد بالفارسية، وقيل غير هذا في معناه.
قوله عليه الصلاة والسلام لعلي:« أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي »، مما تعلقت به الروافض والإمامية وسائر فرق الشيعة وبعض المعتزلة في أن الخلافة كانت حسمًا لعلي، واستخلاف النبي عليه الصلاة والسلام له لذلك بهذا الحديث وأشباهه مما احتجوا به.
ثم اختلفوا بعد في تقديم غيره، فكفرت الروافض سائر الصحابة في تقديمهم غيره، ثم كفر بعضهم عليًّا لأنه لم يقم في طلب حقه، وهؤلاء استحق مذهبنا من أن يرد عليهم، وقد قالوا بأشنع من هذا فيمن هو أفضل مما ذكرنا، ولا امتراء في كفر القائلين بهذا ؛ لأن من كفر الأمة كلها والصدر الأول فقد أبطل نقل الشريعة وهدم الإسلام، وأما من عداهم فإنهم لا يسلكون هذا. فأما الإمامية وبعض المعتزلة فتخطئهم، وأما بعض المعتزلة / فلا يقول ذلك لقولها بجواز تقديم المفضول على الفاضل في الإمامة على ما تقدم من الخلات في ذلك.(8/88)
وهذا الحديث بكل حال لا حجة فيه لأحد منهم، بل فيه من فضائل على ومنزلته ما لا يحط من منزلة غيره، وليس في قوله هذا دليل على استخلافه بعده ؛ لأنه إنما قال له حين استخلفه على المدينة في غزوة تبوك، فقال له ذلك لا لاستخلافه بعده، بدليل أن هرون الذي يستشهد به لم يكن خليفة بعد موسى، وإنما مات في حياته، وقبل موت موسى بنحو أربعين سنة على ما قال أهل الخبر، إنما استخلفه موسى حين ذهب لمناجاة ربه فقال له: { اخلفني في قومي } كما نص الله تعالى.
وقوله:« غير أنه لا نبي بعدي »، معناه - والله أعلم - لما ذكر.
قوله:« أنت مني بمنزلة هرون من موسى »، يريد في تقديمه على من يخلفه، استثنى من حال هارون بعض صفاته وهي النبوة ؛ لأن هارون كان نبيا، وقد أعلم النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا نبي بعده، ومعناه منذ بعث، أي بعد مبعثه انقطعت النبوة فلا نبي حتى تقوم الساعة.
وفي طي ذلك تنبيهه عليه الصلاة والسلام على ما اقترفه غلاة الرافضة على علي من النبوة حتى ترقى بعضهم فيه إلى دعوى ألوهيته من زمنه - رضي الله عنه - إلى أيامنا هذه، وقد حرق بعضهم - رضي الله عنه - على هذه الدعوة، فزادهم ذلك ضلالاً، وقالوا: الآن تحققنا أنه الله ؛ لأنه لا يعذب بالنار إلا الله ؛ فلهذا خص هذا الكلام في شأن علي دون أبي بكر وعمر وغيرهم ؛ إذ لم يدع ذلك أحد لهم ولا اعتقده فيهم.
وفيه بيان أن عيسى حين نزوله لا يكون رسولاً لهذه الأمة ولا مجددًا شريعة، وإنما يأتي بالحكم بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام.
و" خما "، بضم الخاء وتشديد الميم فسره في الأم، وهو ما بين مكة والمدينة، على ثلاثة أميال، من الجحفة. و" خم " اسم الغيض التي هناك بها غدير مشهور، أضيف إلى الغيضة فقيل: غدير خم.(8/89)
وقول سعد:" سمعته - ووضع أصبعيه على أذنيه - وإلا فاستكتا " معناه: صمتا وضاقا عن سماع الكلام، وأصل السكك ضيق الصماخ، والسكك أيضًا صغر الأذنين، وكل ضيق من الأشياء سكك، وقد يكون معنى استكتا: اصطمتا، يقال: سكه يسكه: إذا اصطلم أذنيه.
قال الإمام: وقول معاوية لسعد:" ما منعك أن تسب أبا تراب "، فذكر سعد رحمه الله فضائل علي - رضي الله عنه -، وأنه عليه الصلاة والسلام قال له:« أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى عليهما السلام ».
وقوله:« لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله»، فأعطاها عليًّا - رضي الله عنه -، ولما نزلت:{ ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم } دعاه - عليه الصلاة والسلام - وفاطمة وابنيهما عليهما السلام، فقال: «اللهم هؤلاء أهلي »، الحديث، قال الإمام وفقه الله: مذهب أفاضل العلماء أن ما وقع من الأحاديث القادحة في أحاديث عدالة بعض الصحابة، والمضيفة إليهم ما لا يليق بهم، فأنها ترد ولا تقبل إذا /كان رواتها غير ثقات، فمان أحب بعض العلماء تأويلها قطعًا للشغب نزل وراح، وإن رواها الثقات تأولت على الوجه اللائق بهم إذا أمكن التأوبل، ولا يقع في روايات الثقات إلا ما يمكن تأويله، ولابد أن يتأول قول معاوية هذا، فتقول: ليس فيه تصريح بأنه أمره بسبه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب، وقد سئل عن مثل هذا السؤال من يستجيز سب المسؤول عنه وسئل عنه من لا يستخبره.(8/90)
فقد يكون معاوية رأى سعدًا بين قوم يسبونه، ولا يمكن الإنكار عليهم، فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب ؟ ليستخرج منه مثل ما استخرج مما حكاه عن النبي عليه الصلاة والسلام، فيكون له حجة على من سبه ممن ينضاف إليه من غوغاء جنده، فيحصل على المراد على لسان غيره من الصحابة، ولو لم يسلك هذا المسلك وحملنا عليه أنه قصد ضد هذا مما يثيره عنه الموجدة، ويقع في حين الحنق، لأمكن أن يريد السب الذي هو بمعنى التغيير للمذهب والرأى، وقد سمى ذلك في العرف سبًّا، ويقال في فرقة: إنها تسب أخرى إذا سمع منهم أنهم أخطؤوا في مذاهبهم، وحادوا عن الصواب، وأكثروا من التشنيع عليهم، فس الممكن أن يريد معاوية من سعد بقوله: "ما منعك أن تسب أبا تراب "، أي يظهر للناس خطاه في رأيه، وان رأينا ما نحن عليه أشد وأصوب. هذا مما لا يمكن أحد أن يمغ من احتمال قوله له، وقد ذكرنا ما يمكن أن يحمل قوله عليه ورأيه فيه جميل أو غير جميل في هذين الجوابين. فمثل هذا المعنى ينبغى أن يسلك فيما وقع في أمثال هذا.
وقوله:" فبات الناس يدوكون ليلتهم "، أي يخوضون، يقال: الناس في دوكة، أي في اختلاط وخوض.
قال القاضي: في هذا الخبر علامتان من علامات نبوته عليه الصلاة والسلام ؛ قولية وفعلية، فالقولية: إعلامه عليه الصلاة والسلام أن الله يفتح على يدي علي فكان كذلك. والفعلية: بصاق النبي عليه الصلاة والسلام في عينيه، وكان أرمد فبرأ.(8/91)
وقول عمر في قوله عليه الصلاة والسلام:« لأعطين الراية غدًا رجلاً يحبه الله ورسرله وبحب الله ورسوله »، فتساورت لها رجاء أن أدعى لها، بمعنى: تطاولت، وفي الرواية الأخرى: أي حرصت على ذلك حتى أظهرت وجهى وتصديت لذلك ؛ ليتذكر مكاني فأعطاها، كما قال: " رجاء أن أدعى لها"، وكما قال:" فما أحببت الإمارة إلا يومئذ "، وذلك للوصف الذي وصف به من يعطاها من حبه الله ورسوله وحبهما له، وهذه من أعظم فضائل على وأكرم مناقبه. السورة : البطش، والمشاورة: المواثبة أيضًا، كأنه استعجل الدعاء لها وأعطاها إياه، وتصدى له وأشرف له بمعنى.
وقوله:« امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك »، حض على التقدم وترك التأني، ويكون الالتفات هنا من نظر العين يمنة ويسرة، وقد يكون على وجهه مبالغة في التقدم، وبدل عليه قوله:" فصار على فوقف فلم يلتفت "، فيه التزام أوامره - عليه السلام - والأخذ بظاهرها ما أمكن ولم يصرفها عنه صارف، أو لقصر فحوى كلام علم من المتكلم به.
وقد يكون:" لا يلتفت " هنا بمعنى: لا ينصرف. يقال: التفت: إذا انصرف، ولفته: إذا صرفته.
وقوله:« ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله »، فيه وجوب الدعوة قبل القتال، وقد تقدم في الجهاد الكلام فيها، وفي كتاب الإيمان على قوله:« ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله ».
وقوله:« انفذ على رسلك »، أي: سر على تزدتك، ولين سيرك، وقد تقدم معنى:« خير لك من حمر النعم »، وتمثيل أعراض الدنيا بثواب الآخرة وحمر النعم تقدم أيضًا، وهي الإبل، والحمر من الألوان أشرفها، والإبل أفضل أموال العرب.
وقوله في علي:" وكان رمدًا "، وأرمد: أي أصابه مرض الرمد بعينيه، ويفسره قوله في الحديث الآخر:" يشتكي عينيه ".(8/92)
وقوله:« وأنا تارك فيكم كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا كتاب الله » الحديث، ثم قال:« وأهل بيتي، الله الله في أهل بيتي » الحديث، قال الإمام: قال ثعلب: سماهما ثقلين ؛ لأن الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل، والعرب تقول لكل شيء خطير: نفس ثقيل، فجعلهما ثقلين إعظامًا لقدرهما وتفخيمًا لشانهما.
قال القاضي: وقول زيد بن أرقم:" أهل بيته من حرم الصدقة بعده ؛ آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، كل هؤلاء حرم الصدقة "، وفي الرواية الأخرى:" أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده "، ظاهره الذين منعهم خلفاء بني أمية صدقة النبي عليه الصلاة والسلام، مما كان خصه الله به التي كانت تقسم عليهم أيامه وأيام الخلفاء الأربعة ؛ لقوله: " بعده "، والله أعلم ؛ لأن زيدًا ممن عاش حتى أدرك ذلك، فتوفي سنة ثمان وستين. ويحتمل أن المراد به الذين حرم الله عليهم صدقة الأموال ونزههم عن أكل أوساخ الناس، وهو مبين عن زيد بن أرقم في غير هذا الحديث، وقيل له: من آل محمد الذين لا يحل لهم الصدقة ؟ فقال: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس. ففيه حجة مالك ومن قال بقوله في اخغصاص تحريمها ببنى هاشم ؛ إذ لم يذكر سواهم، خلافًا للشافعى في عده بنى المطلب معهم، لقوله عليه الصلاة والسلام:« إنما نحن وبنو المطلب شيء واحد ».
وقد مال إليه بعض متأخري شيوخنا، وخلافًا لمن قال من أصحابنا وغيرهم: إنهم جماعة قريش كلها، أو بنو قصي، على ما قدمناه في كتاب الزكاة وشرحناه.
وقوله في كتاب الله:" هو حبل الله "، أي عهده الذي يعتصم به، وقيل في قوله:{ واعتصموا بحبل الله جميعًا }، أي: بعهده. قال أبو عبيد: هو القرآن، وترك الفرقة. ومنه قول عبد الله: عليك بحبل الله، فإنه كتابه، ويكون - أيضًا- بمعنى عهده هنا، أي أمانته من عذابه.(8/93)
ومنه قوله:{ ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من التاس }، أي: عهد وأمان، ويكون الحبل هنا بمعنى: السبب الموصل إليه، أي إلى طاعته ب ورضاه ورحمته، استعارة من الحبل المعروف / للتوصل إلى استقاء الماء، والصعود تجاه النخل وغير ذلك من المنافع.
ويكون أيضًا تسمية القرآن حبل الله، أي نوره الذي هدى به، كما قال في الحديث بعده:" فيه الهدى والنور "، وكما قال تعالى:{ وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا }.
وقد جاء الحديث الآخر:" كتاب الله حبل ممدود بين السماء والأرض"، والعرب تسمي كل مستطيل حبلاً، وكل نور ممتد حبلاً، قال الله تعالى: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر }.
وقوله:" ليس يا زيد نساؤه من أهل بيته "، قال في حديث زهير بن حرب:" نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة "، وفي حديث محمد بن بكار:" قال: لا، وايم الله "، ثم قال: " أهل بيته أصله وعصبته "، وهذا هو المعروف في الأحاديث غيرها، أنه لم يجد نساءه من أهل بيته، وقد يرجع معنى الحديث الأول إلى هذا، أي نساؤه من أهل بيته الذين يساكنونه، ئم قال: " لكن أهل بيته "، المراد بقوله:" أهل بيته ": من حرم الصدقة، ونساؤه ليس منهم. وفيه حجة مثل ما تقدم على تخصيص تحريم الصدقة لبني هاشم إذ كان في نسائه جماعة قرشيات، فلم يجعلهم ممن حرم عليهم الصدقة.
وقوله:" أرق النبي - عليه السلام - ذات ليلة "، أي: سهر ولم يأته نوم.
وقوله:« ليت رجلاً صالحًا يحرسني »، فيه جواز الاحتراس من العدو والتحفظ، والأخذ بالحزم، وكراهة إلقاء اليد للعدو والمخاطرة بالنفس، وهذا كان قبل أن ينزل عليه:{ والله يعصمك من الناس }. فقد روي أنه لما نزلت عاليه الآية أمر أصحابه بالافتراق عن حراسته.
وقوله:" حتى سمعت غطيطه "، الغطيط: صوت النائم المرتفع، وهو أعلى من الشخير.(8/94)
وقوله:" فسمعت خشخشة السلاح "، أي: صوت حك بعضه لبعض. قال الإمام: خرَّج مسلم في فضائل سعد - رضي الله عنه -، قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، قال: وحدثنا أبو بكر بن كريب واسحاق، عن محمد ابن بشر، عن مسعر، قال: وحدثنا ابن أبي عمر، عن سفيان، عن مسعر، كلهم عن سعيد بن إبراهيم. قال بعضهم: قال أبو مسعود الدمشقي: هكذا رواه مسلم: حدثنا أبو بكر، حدثنا وكيع، وأسقط منه سفيان، وتوهم أنه وكيع عن مسعر، وإنما رواه أبو بكر في المسند والمغازي وغير موضع عن وكيع، عن سفيان، عن مسعر.
قال القاضي: وقول سعد: ما جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبويه لأحد غيري، فإنه جعل يقول لي:« ارم، فداك أبي وأمي »، تقدم الكلام في الخلاف في التفدية، وما روى في كراهة ذلك عن عمر والحسن، وجوازه لغيرهما. وهذا الحديث يدل على جوازه، ولا حجة فيه من قولهم ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يفده بمسلمين، فقد جاء في الحديث: أن عائشة فدت النبي عليه الصلاة والسلام وأبواها مسلمان.
وقول سعد:" ما جمعهما لأحد غيري "، ذلك بمبلغ علمه، وقد جاء أنه قال ذلك للزبير بعد هذا ولغيره، وفيه الحض على الرمي وفضيلته.
وقوله:" وكان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين "، أي: أثخن فيهم، وعمل فيهم / ما تفعله اك ر فيما تحرقه. وقد يكون معناه: أغاظهم، ومن قولهم: فلان يحرق عليك الأزم، أي يصرف بأنيابه تغيظًا، وكأنه صير المسلمين بما فعله بهم بهذه الحالة.
وقوله: " فنزعت لهم بسهم ليس فيه نصل أ: أي رميته بسهم لا حديدة فيه.
وقوله:" فأصبت جنبه "، كذا لأكثر الرواة بالجيم والنون، والباء بعدهما بواحدة، وهي عند القاضي الشهيد:" حبته " بحاء مهملة بعدها باء بواحدة مشددة، بعدها تاء مثناة باثنتين فوقها. ومعناه، إن لم يكن تغيير: أصاب قلبه. قال صاحب العين: حبة القلب: ثمرته. قال الشاعر:
فأصاب حبة قلبها وطحالها(8/95)
وقوله:" سقط فانكشفت عورته، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، ضحك النبي عليه الصلاة والسلام سرورًا بقتله، لا لما انكشف منه، فهو المنزه عن ذلك، وفيه من آياته - عليه السلام - إصابة السهم الذي أمر بالرمي به من غير حديدة، وقتله عدوه.
وقوله:" فأردت أن ألقيه في القبض "، بفتح الباء، هو ما يجمع من المغانم. والقبض: كل ما قبض من مال وغيره. وأصله من الغطاء، قبضت الرجل،كذا مخففًا: إذا أعطيته إياه، وتقدم الكلام على بقية الحديث من الأنفال والوصية وتفسير الأربع آيات التي ذكر أنها نزلت فيه، وهي منصوصة في الحديث، وتقدم الكلام على تحريم الخمر، والميسر: والقمار، والأزلام: قداح، وقيل: حصياته كانت الجاهلية تستقسم بها وتمضي الأمور على ما يخرج فيها، وقد فسرت قبل، والأنصاب: جمع نصب، وهو ما ينصب من الأصنام ليعبد، وهي أيضًا حجارة نصبت ليذبحوا عندها لطواغيتهم.
ومعنى رجس: أي إثم ومثله، أو لحم خنزير فإنه رجس، والرجس يأتي بمعنى الإثم، والكفر وبمعنى النجس، ولما يستقذر، ومنه قوله في لحوم الحمر:" إنها رجس، أو نجس "، وفي الرواية الأخرى:" إنها رجس أو ركس "، والرجس أيضًا: بمعنى اللعنة والعذاب، ومنه:{ ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون }، وفي قصة سعد وأمه حين حلفت لا تكلمه، ولا تأكل ولا تشرب حتى يكفر، فأنزل الله تعالى:{ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما }، بيان شاف أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وقوله:" فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجوا فاها بعصا ثم أوجروها " بالشين المعجمة بعدها جيم، أي فتحوه، وأدخلوا فيه العصا لئلا يعلقه حتى يوجروها الغذاء. والرجور، بفتح الواو: ما صب من وسط الفم في الحلق. واللذوذ: ما صب من أحد جانبيه.
قال الإمام:" شجوا "، أي: فتحوا، ويقال: وجرته وأوجرته: إذا ألقيت الوجور في فيه، وهو الدواء .(8/96)
وقوله: " فأتيتهم في حش "، الحش: بستان النخل، وفيه لغتان بضم الحاء وفتحها، ويقال في جمعه: حشان. قال ابن الأنباري: والحش أيضًا: موضع الخلاء، وسميت حشا ؛ لقضاء حوائجهم في البستان. قال أبو عبيد: الحاش جماعة النخل، وهو البستان أيضًا.
قال القاضي: ورواه بعضهم:" شحوا فاها "، بحاء مهملة دون راء، ومعناه قريب من الأول، أي أوسعوه وفتحوه، والشحو: التوسع في المشي، والدابة الشحواء: الواسعة الخطر. قال ثعلب: يقال: شحا فلان فاه، وشحا فوه، يريد معدى ولازمًا.
وقوله:" ففزره - مخفف الزاي - وكان أنف سعد مفزورًا "، مخفف، بتقديم / الزاي على الراء فيها، أي مشقوقًا.
وقوله:" ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس يوم الخندق فانتدب الزبير ثلاث مرات، أي دعاهم ورغبهم في بعض أمورهم، فأجابه الزبير. يقال: ندبته للجهاد فانتدب، دعوته فاجاب والندب التحضيض والرغبة في الشيء بسكون الدال.
قال الإمام: قال صاحب الأفعال: ندبتهم للحرب والأمر: وجهتهم له، وإلى الشيء: دعوتهم.
وقوله:" لكل نبي حواري، وحواري الزبير "، أي: خاصتي والمفضل عندي وناصري. قال الأزهري: يقال لكل ناصر نبيه: حواري، تشبيها بحوارى عيسى - عليه السلام -. قال ابن الأنباري: وحواري عيسى هم المفضلون عنده وخاصته. وقال الأزهري: الحواريون: خلصان الأنبياء - عليه السلام -. وتأويله: الذين أخلصوا واتقوا من كل عيب. والدقيق الحواري: الذي سبك ونخل، كأنه رجوع في اختياره مرة بعد أخرى. قال ابن ولاد: حواري الرجل: خلصانه وخاصته. ورجل حواري: أي نظيف. وسمي القصار حوارًا ؛ لتنظيفه الثياب. قال الهروي: وسمي خبز الحواري ؛ لأنه أشرف الخبز وأنقاه.(8/97)
قال القاضي: قد ذكرنا من هذا أول الكتاب كفاية وجميع ما قيل فيه، واختلف في ضبط الشيوخ في الحرف الآخر، فيروى:" وحواري الزبير " بالفتح في آخره وتشديده، وكذا قرأته على أبي الحسين ووقفته عليه، فقال لي: هو مثل مصرجي. قال أبو على الجبائي: وكذا ذكره على أبو مروان بن سراج منسوبًا إلى حوار مخفف، وأكثرهم يضبطه:" وحواري الزبير" بالكسر منسوبًا إلى حواري. وأشبه ما يقال في معناه هنا: الناصر، أو الخاصة، أو المفضل عنده، أو من يصلح للخلافة بعده، أو الصاحب والخليل، مما قيل في معنى الحوارى.
ويروى عن ابن عباس أنه اسم خاص للزبير دون غيره، خصه به عليه الصلاة والسلام، كما خص أبا بكر بالصديق، وعمر بالفاروق.
وقوله:" في أطم حسان "، بضم الهمزة والطاء، قال الإمام: هو بناء مرتفع، وجمعه آطام، ومنه الحديث:" حتى توارت بإطام المدينة "، يعني أبنيتها المرتفعة.
قال القاضي: هو هاهنا الحصن، وجمعه آطام بالمد، وإطام بالكسر مثل آكام وإكام. وقول مسلم في حديث أبي كريب في حله يث الزبير بمعنى حديث ابن مسهر، ولم يذكر عبد الله بن عروة في الحديث، ولكن أدرج القصة في حديث هشام، عن أبيه، يعني أن في حديث ابن مسهر قبله عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، الحديث، إلى قوله: وأخبرني عبدالله بن عروة، عن عبد الله بن الزبير، قال: فذكرت ذلك لأبي، فقال: رأيتني يا بنيى، الحديث، ثم جاء بحديث أبي كريب عن أبي سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير بمعناه، يريد: ولم يذكر قوله: وأخبرني عبد الله بن عروة، عن عبد الله بن الزبير، تمام الحديث، لكنه جاء به كله مدرجًا في حديث هشام بن عروة ومداخلاً فيه، كأنه من حديث هشام.
قوله:" كان على حراء "، وحراء يذكر ويؤنث، ويصرف ولا يصرف، مكسور الحاء ممدود، ووقع في رواية السمرقندي مقصورًا وليس بشيء، وكذلك من رواه بفتح الحاء. وهو جبل بمكة معروف.(8/98)
وتحرك الجبل وكلام النبي عليه الصلاة والسلام وقوله:« اهدأ، فإنما عليك نبي أو صديق أو شهيد »، كله من آيات نبوته وإخباره بالغيوب، وانخراق العادات له. فكل من كان عليه بعد النبي والصديق ماتوا شهداء. وفيه كرامة عظيمة لهؤلاء الذين كانوا عليه معه، وهو أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير. وفيه أن من قتل ظلمًا في غير معترك شهيد، له اسم الشهيد وأجره، وإن لم يكن حكمه في الصلاة والغسل حكمه. وكذلك كان جميع هؤلاء عمر وعثمان وعلي، وكذلك الزبير قتل منصرفًا تاركًا للحرب، وطلحة كذلك انعزل عن الناس تاركًا للقتال، فأصابه سهم فقتله، وكان علي ذكَّرهما أشياء بأن لهما الخطأ في قتاله، فانصرفا عن رأيهما في ذلك. والخبر لذلك معروف فيهما، وشعر طلحة مشهور.
وزاد في الرواية الأخرى معهم: سعد بن أبي وقاص، فيكون تسميته شهيدا ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام شهد له بالجنة، وهو أحد المعاني، كتسمية الشهيد شهيدًا، وقد ذكرنا ذلك قبل هذا. وأما الصديق فقيل: هو تابع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: هو فعيل من الصدق. والتصديق المبالغة في ذلك، وقيل: من كثرة الصدقة.
وقول عائشة لعروة:" أبواك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، فسره في الحديث، يعني أبا بكر والزبير ؛ لأن أمه أسماء بنت أبي بكر.
قوله:« وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة »، بالرفع على النداء، والأعرف والأفصح أن تكون في موضع نصب على الاختصاص، حكى سيبوبه: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. وتسميته أمينًا، وحق الأمانة الثقة بالشىء، ومنه ناقة أمون: أي وثيقة الخلق قد أمنت، وإن كانت الأمانة من صفات غيره من الصحابة، والنبى عليه الصلاة والسلام خص بعضهم بصفات كانت الغالب عليهم، وكانوا بها أخص من غيرهم.(8/99)
وقوله:" استشرف لها الناس "، أي تطلعوا وتعرضوا لمن يظهر اتصافه بهذه الصفة بتوجيهه معهم، وحرص كل واحد أن يكون هو. والاستشراف للشىء: التعرض له، وأصله من الارتفاع والعلو، وكأنهم رفعوا رؤوسهم لذلك، كما قال عمر في الحديث المتقدم في فضائل علي:" فتطاولت لها".
وقوله:" أتى خباء فاطمة "، يعني منزلها وحجرتها. وأصله: بيت من بيوت الأعراب، ثم استعمل في غيره ؛ لأن هذا إنما كان في المدينة.
وقوله:« أثم لكع، أثم لكع »، يعني حسنًا، قال الإمام: قال الهروي: سئل بلال بن جرير عن اللكع، فقال: هو في لغتنا: الصغير. قال الأصمعي: الأصل في لكع من الملاكع، وهي التي تخرج مع السلاء على الولد. وفي حديث الحسن أنه قال لإنسان: يا لكع، يريد: يا صغير العلم.
قال القاضي: قيل: اللكع هنا الصغير في لغة تميم، وهي كلمة تستعمل للتحقير والتجهيل. واللكع: العبد والرغد من الرجال والقليل العقل، ويقال للأنثى: لكاع، مكسور. ويشبه أن يكون أراد النبي في الحسن بن على ذلك، على طريق الممازحة، وبمعنى ما في الصبيان من نقص العقل والإدراك، كما يقال له: يا أحمق، ليس على سبيل السب ولكن تدليلاً وتعليلاً، وقد يكون على القلب، ويريد: يا سيد، يا شريف، كما سميت الجميلة شوهاء، وسموها قبيحة. وقالوا للغراب أعور ؛ لحدة بصره.
وقال الهروي: ما قاله في تأويل قول الحسن فليس بشيء ؛ لأن الحسن لم يرد بذلك إنسانًا معينًا / وإنما قاله في وعظه يخاطب المطرف من الناس، والمقصر المتمني على الله ونحو هذا، فتشبه بقوله هذا، وصغر له نفسه. واللكع: الوغد أو الأحمق، كأنه قال له: يا وغد، يا أحمق، كأنه يخاطبه.(8/100)
وقوله:" فظننا أن أمه تحبسه لأن تغسله وتلبسه سخابًا "، السخاب: خيط فيه خرز، ينظم في أعناق الصبيان والجوارى،وقيل: هو من العود، وقيل: سمي سخابًا لصوت خرزه عند حركتها، واصطكاكها، من الصخب وهو اختلاط الأصوات، يقال بالسين والصاد. قيل: ولهذا يلبسه الصبيان الصغار، تشغلهم صوتها وتلهيهم اللعب بها عن غيره، وقيل: الصخاب: ما اتخذ من القلائد من القرنفل والمسك دون الجواهر. فيه استحباب النظافة والتجمل في جميع الأمور، لا سيما للقاء من يكبر ويعظم، وتنظيف الصبيان وتربيتهم، وجواز لبسهم القلائد والسخب والعود.
وقوله:" فجاء حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه "، وفي الحديث الآخر:" رأيته واضعًا الحسن بن على على عاتقه "، فيه ما كان - عليه السلام - من حسن الخلق والعشرة والتواضع، وحبه للحسن وحمله له، ورحمته للصبيان والرجال.
وقد اختلف العلماء في معانقة الرجال للسلام، فلم يره مالك، وقال: هو بدعة، وراه سفيان وغيره. واحتج بفعل النبي عليه الصلاة والسلام ذلك لجعفر. فقال مالك: هو خاص له، وقال سفيان: ما يخصه يعمنا، فسكت مالك، وسكوته دليل على ظهور قول سفيان له وتصويبه وهو الحق، حتى يدل دليل على تخصيص جعفر بذلك.
وقوله:" رأيت النبي عليه الصلاة والسلام واضعًا الحسن بن علي على عاتقه "، العاتق: من المنكب إلى العنق، وقيل: موضع الرداء من المنكب، وهما بمعنى. فيه حمل الأطفال على الطهارة إلا ما شوهد عين النجاسة فيهم، كما حمل أمامة في الصلاة، وقد يعرت الطفل إذا حمل، ويصيب بعض جسده من بصاقه ورطوبات وجهه مما يبل ثيابه، فلم يأت عن السلف التحفظ من ذلك ولا الوسوسة فيه. واستحب مالك لأمه أن تصلي في غير الثوب الذي تربيه فيه ؛ لأن ذلك بكثرة ملازمته لها لا يخلو أن يصيبه شيء من أقذار، فان لم تجد غيره صلت فيه ودرأت عنها النجاسة ما استطاعت، يعني ما شاهدته وتحققته.(8/101)
وقوله: " اللهم، إنى أحبه فأحبه وأحب من يحبه "، حب آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام واجب على الجملة، ويختمر منهم من حض النبي على حبه، ودعا بحب الله له، وحب من أحبه درجة جعلها الله لمن أحبهم حقيقة حبهم، ولعن من يبهغضهم وبعاديهم، وقد ظهرت إجابة هذه الدعوة وبركتها فيه بحقن دماء الأمة بسببه، وتنزهه عن عرض الدنيا وفتنتها، وتسليمه ما يمكن له من الخلافة والملك، حذار الفتنة وحيطة على الأمة ونظرًا لدينه.
وقوله:" لقد قُدْتُ بنبي الله عليه الصلاة والسلام والحسن والحسين بغلته، هذا قدَّامه، وهذا خلفه "، دليل على جواز ركوب ثلاثة على دابة إذا لم يقدحها، ورد على من كره ذلك جملة، وإنما يكره إذا لم تتحمل ذلك الدابة، كما يكره من سمل أقل من ذلك إذا قدحها. وعلى هذا يحمل / الحديث الوارد في النهي عن ركوب أكثر من اثنين على الدابة، وما روى عن علي وغيره في منع ذلك.
وقوله: " وعليه مرط مرحل " بالحاء، كذا عند الخشني والصدفي من شيوخنا، وعند الأسدي بالجيم. قال الإمام: المرط: كساء، وجمعه مروط. والمرحل، بالراء والحاء المهملتين: الموشى بذلك ؛ لأن عليه صور الرحال أو صور المراحل، ويقال: " المراجل " بالجيم.
قال القاضي: سمى بذلك لأن فيه صور الرحال، أو صور المراجل وهي القدور. ويقال: له ثوب مراجل مضاف وثوب المرجل. وقال صاحب العين: المراجل: ثياب وقد تقدم في كتاب اللباس. والرجس في هذا الحديث في قوله:{ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت }، قيل: الشك: ويقع أيضًا على الكفر وعلى العمل الذي يؤدي إلى العذاب، وعلى اللعنة والعذاب، وعلى المأثم، قال الأزهرى: والرجس: اسم كل ما يستقذر من عمل.(8/102)
وقوله:" ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزل: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله }، هذا لأن النبي - عليه السلام - كان تبناه، وكانت العرب تفعل ذلك، تبني الرجل مولاه أو الرجل من غير قومه، فيكون ابنا له، يواريه وينسب إليه، كما تبنى الأسود بن عبد يغوث مقداد بن عمرو، فكان يقال له: المقداد بن الأسود، وقد غلب ذلك عليه إلى الآن عند الناس إلى أن نزلت الآية، فرجع كل أحد إلى نسبه، إلا من لم يكن له نسب معروف فرجع إلى مواليه كما قال تعالى:{ فإن لم تعلموا آباءهم } الآية. وتقدم تفسير قوله:" وايم الله ".
وقوله: " إنه لخليق للأمارة "، أي: حقيق بها ومستوجب لها. في هذا كله جواز إمارة المولى وقضائه، وتقديمه على العرب وغيرهم، ولهذا كان يطعن عليها، ولصغر سن أسامة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام توفي وهو ابن ثماني عشرة سنة، وقيل: ابن عشرين.
وفيه جواز تقديم المفضول على الفاضل في الإمارة والخلافة، وقد قدمنا ذلك، وإن كان الحال إذا لم يدع إلى ذلك ضرورة، ولا نظر يقتض تقديم الأفضل والأسن. فقد فعل النبي عليه الصلاة والسلام هذا في هذه القصة وغيرها لمعنى رآه من مصالح الأمة وليبين جواز هذا ويوسع فيه على أمته.
وقوله:« إن تطعنوا في إمرته، فقد طعنتم في إمرة أبيه من قبل »، كذا ضبطناه هنا بكسر الهمزة، وفي الرواية الأخرى:" إمارته "، وهما بمعنى، وقال أبو عبيد: يقال: على القوم أمرة مطاعة، بالفتح، كأنها الفعلة الواحدة والمرة المخصوصة من الأمر من ذلك. قال العتبي: لك على أمرة مطاعة، بالفتح، يريد: المرة الواحدة من الأمر، فأما الإمرة، بالكسر، فالولاية.(8/103)
وقوله: في حديث ابى بكر بن أبي شيبة: قال عبد الله بن جعفر لابن الزبير:" أتذكر إذ تلقانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنا وأنت وابن عباس، فحملنا وتركك"، كذا هنا، وظاهره أن قاتل هذا ابن الزبير، وأن ابن جعفر المتروك، ونحوه في مسند ابن أبي شيبة، لكن البخاري والنسائي ذكرا الخبر على خلاف هذا مما هو الأشبه، وأن القائل أولاً:" أتذكر إذ تلقينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنما هو ابن الزبير، ويكون القائل / له:" نعم، حملنا وتركك " ابن جعفر، ويدل صحته ما ذكر مسلم بعده من الأحاديث عن عبد الله بن جعفر فانظرها، وإن لم يكن فيها لابن الزبير ذكر.
قوله:« خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة »، وأشار وكيع إلى السماء والأرض، وكأنه يفسر ضمير الهاء في لإ نسائها،، أنه يريد الدنيا والأرض، وذكره لهما بذلك يحتمل أن يريد أن كل واحدة خير نساء أهل الأرض في وقتها، أو أنها من خير نسائها وأفضلهن، وإن كانت المزايا بعد بينهما وبين غيرهما ممن هو خير النساء متفاضلة.
وقوله:« كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران »، يستدل به من يقول بنبوة النساء ونبوة آسية ومريم، والأكثر على أنهما صذيقتان ووليتان من أولياء الله تعالى، والكمال المتناهي للشيء وتمامه في بابه. والمراد هاهنا: التناهي في جو الفضائل وخصال البر والتقوى. يقال منه كمل وكمل، بالفتح والضم، وليس يشعر الحديث بانه لم يكمل ولا يكمل ممن يكون في هذه الأمة غيرهما. فإذا قلنا بنبوتهما أو سلمنا ذلك لقائله، فلا شك أنه لا يلحق درجتهما في النبوة غيرهما، وإاذا قلنا: إنهما صدّيقتان، لم يمنع أن يكمل من هذه الأمة غيرهما.(8/104)
وقوله:« وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام »، لسرعة إساغته والاستلذاذ به واشباعه، وتقديمه على غيره من الأطعمة التي لا تقوم مقامه، وليس في هذا نص بتفضيلها على من ذكر من مريم وآسية، ويحتمل أن المراد نساء وقتها أو مثلها، وليس فيه ما يشعر بتفضيلها على فاطمة، إذ قد يكون تمثيل تفضل فاطمة لو مثلها بما هو أرفع من هذا، وبالجملة بين هذا الحديث أن عائشة مفضلة على النساء تفضيلاً كثيرًا، وليس فيه عموم جميع النساء.
وقوله في فاطمة:« سيدة نساء أهل الجنة »، أعم وأظهر في التفضيل، والله اعلم.
وقوله في خديجة:« بشرها في الجنة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب »، قال الإمام: قال الهروي: ببيت من فضة، هو في الحديث:« لؤلؤ مجوف واسع، كالقصر المنيف »، والصخب: الصوت المرتفع، وأيضًا اختلاط الأصوات. والنصب: المشقة والعناء والتعب، وفيه لغتان: نصب ونصب، مثل حزن وحزن. قال صاحب الأفعال: نصب الرجل، بفتح النون وكسر الصاد، إعياء من التعب.
قال القاضي: قيل: المراد بالبيت هنا: القصر، يقال: هذا بيت فلان، أي قصره، قاله الخطابي. والقصب قصب اللؤلؤ، ما استطال منه في تجويف، يقال لكل مجوف قصب، وقد جاء في الحديث مفسرًا في بيت من لؤلؤ محباة. قال ابن وهب: أي مجوفة. قيل: أراد محوبة، فقدم الباء وأخر الواو وأبدلها ألفا.
وقال بعض أصحاب المعاني: معنى قوله:" لا صخب فيه "، أى لا منازعة، وأنه مخصوص بهما لا يشاركها فيه غيرها فينازعها، فيفضي ذلك إلى الصخب. وقيل في قوله:" ولا نصب "، أي: لم تجازيه لنصبها في العبادة والعمل لله، لكن فضل من الله وزيادة بعد ما أثابها على أعمالها. والمعنى الأول أظهر.
وقوله: " وإن كان ليذبح الشاة فيهدي لخلائلها "، أي لصواحبها وأصدقالها، جمع خليلة، كما جاء مفسرًا في /الحديث الآخر:« أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة ». والخلة: الصداقة. فالخل والخلة والخليل الصديق.(8/105)
وقوله: فارتاح لها، وقال:" اللهم هالة بنت خويلد "، أي هش لبرها، ونشطت نفسه سرورًا بها، وفي هذا كله منه عليه الصلاة والسلام حسن عهد، وحفاظ على رعاية حق خديجة، وبرها وودها بعدها، وهو من حسن الإيمان.
وقول عائشة: " فغرت وقلت: ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين "، إشارة إلى كبر سنها، ومبالغة في ذلك، أي: إنها قد سقطت أسنانها من الكبر، فلم يبق لشدقيها بياض إلا حمرة لثاتها. قالته لما طبع عليه نساء البشر من الغيرة. قال الطبري وغيره: الغيرة من النساء مسموح لهن فيها، وغير منكر من أخلاقهن، ولا معاقب لها، لما جبلن عليه من ذلك، وأنهن لا يملكن أنفسهن عندها، ولهذا لم يزجر النبي عليه الصلاة والسلام عائشة ولا رد عليها.
وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: أن الغيراء لا تدري أعلى الوادي من أسفله، وعذرها لما علم من فطرتها على ذلك، وشدة غيرتها.
قال القاضي: وذلك عندي من عائشة أيضًا مع صغر سنها وأول حالها وسورة تشبيهها، ولعلها كانت حينئذ لم تبلغ، والله أعلم.
قوله لعائشة رضى الله عنها:« أرأيتك في المنام ثلاث ليال - وعند البخاري: مرتين - جاءني بك الملك في سرقة من حرير، فقلت: إن يك هذا من عند الله يمضه »، قال القاضي: يحتمل قوله: " إن يك هذا من عند الله لم أي رؤيا حق وقبل النبوة. وقبل:تخليصه أحلامه من الأضغاث، وإن كانت بعد النبوة فلها ثلاث معان:
إحداها: أن يكون مراده أن تكرن الرؤيا على وجهها. وقول الملك: هذه امرأتك غير معبرة، فسيمضيه الله وينفذه، ويكون شكه في هذا هل هي رؤيا تعبر، أو هي على رجهها لا تحتاج إلى عبارة، كما كانت.
الثاني: أن يكون هذا في الدنيا، ويكون شكه من هذا، وأنها من نسائه في الآخرة.(8/106)
والثالث: لم يشك، ولكنه أخبر على التحقيق، وجاء بصورة الشك. كما قال: أنت أم أم سالم، وهو نوع من البديع عند أهل البلاغة، يسميه أهلها: تجاهل العارف، وسماه بعضهم: مزج الشك باليقين، وعليه حمل بعضهم قوله تعالى:{ وإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك }، وقوله:{ وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}، وقوله:{ وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين }.
وقوله:« في سرقة من حرير »، قال الإمام: قال أبو عبيد: هي الشقق، إلا أنها هي البيض منها خاصة، الواحدة منها سرقة وأحسبها فارسية، أصلها: سرة، وهو الجيد، وأنشد غير أبي عبيد للعجاح:
ونسجت لوامع الحرير سباسبا كسرق الحرير
قال القاضي: الصواب: سبائبا، وهي مارق من الثياب كالخمر ونحوها، وأما السباسب بالقفار والأراضي المستوية، وقيل: السرق الجيد من الحرير، حكاه الهروي ونحوه عن أبي عبيد، وقال المهلب: السرقة كالكلة والهودج، ولم يقل: سبا.
وقوله:« إنى لأعلم إذا كنت عنى راضية وإذا كنت على غضبانة » إلى قولها /:" أجل، ما أهجر إلا اسمك "، معنى " أجل " هنا: نعم. مغاضبة عائشة للنبى عليه الصلاة والسلام، هو مما تقدم للغيرة التي عفا عنها لها من أجلها، وعن النساء في كثير من الأحكام، حتى قد ذهب مالك وغيره من علماء أهل المدينة إلى إسقاط الحد عنها إذا رمت زوجها بالفاحشة على جهة الغيرة. واحتج لذلك بما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام:« ما تدري الغيراء أعلى الوادي من أسفله »، ولولا هذا لكان على عائشة في ذلك من الحرج ما فيه ؛ لأن الغضب على النبي عليه الصلاة والسلام وهجره كبيرة لمن فعله واعتقده وعظمه، ألا ترى قولها:" إنما أهجر اسمك " فدل أن قلبها وحبها له كما كان مليء، الغيرة إنما هي في النساء لفرط المحبة.(8/107)
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى الاستدلال بهذا الحديث على أن مثل هذا من ترك ذكر الاسم، وبسط الوجه، وترك السلام، والإعراض هو الذي يباح عند المغاضبة بين المسلمين، والوجه عليه في أمور الدنيا، ولا يحل ذلك بعد ثلاث، وأما مازاد على ذلك من الاجتناب وقطع الكلام جملة، فهذا لأهل الفسوق والمعاصى تاديبا لهم ؛ ولهذا ترجم البخاري على هذا الحديث وحديث المتخلفين:" باب ما يجوز من الهجران لمن عصى"، وأدخل حديث المتخلفين الثلاثة، ونهى النبي - عليه السلام - عن كلامهم، وذكر خمسين ليلة، ثم ذكر هذا الحديث ليس مما يجوز لغيرهم.
واستدل بعضهم بقولها:" إنما أهجر اسمك " بأن الاسم غير المسمى، قال: إذ لو كان الاسم هو المسمى لكانت الهجرة له، قال: ولكن إنما هذا في المخلوقين، وأما الخالق فالاسم هو المسمى وحده ؛ لأنه تعالى في صفاته وأسمائه وذاته لا يشبه ذوات المخلوقين، ولا أسماءهم، ولا صفاتهم، في كلام طويل ذكره بعض من يعزى إلى العلم، وممن كثر كلامه فيه وشرح الحديث، وهذا كله كلام من لا تحقيق عنده من معنى المسألة، وتحقيق الكلام فيها لغة أو نظرا.
ولا امتراء عند القائلين بأن الاسم هو المسمى من أهل السنة وجماهير أئمة أهل اللغة، أو مخالفيهم من المعتزلة أن الاسم يقع أحيانًا، والمراد به التسمية حيث كان في خالق أو مخلوق، ففي حق الخالق تسمية المخلوق له باسمه وفعله ذلك بكلامه وعباراته المخلوقة.
وأما أسماؤه تعالى التي سمى بها نفسه فقديمة، كما أن ذاته وصفاته قديمة. وكذلك لا يختلفون أن لفظة الاسم إذا تكلم بها البشر فتلك اللفظة والحروف والأصوات المقطعة المتوهم منها الاسم أنها غير الذات وهي التسمية أو إنما الاسم الذي هو الذات، ما يفهم عنه من خالق أو مخلوق، ولهذه المسألة موضع ولها في أصول الدين موقع.(8/108)
وقولها:" كنت ألعب بالبنات عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، فيه جواز اللعب بهن، وتخصيصهم من الصور المنهى عنها لهذا الحديث، ولما في ذلك من تدريب النساء في صغرهن على النظر لأنفسهن وبيوتهن وأبنائهن. وقد أجاز العلماء بيعهن وشراءهن، ولم يعبروا أسواقها. وروى عن مالك كراهة شرائها، وهذا عندي محمول على كراهة الاكتساب بها للبائع، وتنزيه أولى المروءات عن تولى ذلك من بيع وشراء لا كراهة/اللعب بهن، وعلى الجواز بلعب الجوارى بهن جمهور العلماء، وذهبت فرقة إلى أنه منسوخ بالنهى عن الصور.
وقوله: " فكن - يعني صواحبها - ينقمعن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، أي يدخلن البيت يتغيبن حياء وهيبة له.
وقولها:" فكان يسربهن إلي "، أي: يرسلهن.
وقوله:" كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة يبتغون ذلك مرضاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيه جواز مخلة الزوج بعض نسائه، ومحبة الخير لها أكثر من غيرها، وإنما أمر بالعدل في أفعاله، وأما في القلب فليس من قدرته. وقد مر هذا في النكاح، ويأتي منه بعد هذا، وذكرنا أن العدل بينهن لم يكن واجبًا في حقه عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان يلتزم ذلك لتستن به أمته.
وفي إرسال أزواج النبي عليه الصلاة والسلام فاطمة إلى أبيها في شأن عائشة يسألنه العدل فيها، على طريق الرغبة في الحظ لأنفسهن، والحرص على الاستكثار منه، لا على طريق التحويز له والتظلم منه.
وقولها:" ينشدنك "، أي: يسألنك برفع صوت. ودخول فاطمة ثم زينب على النبي عليه الصلاة والسلام وهو مضطجع مع عائشة في مرطها، دليل على أن مثل هذا مباح ؛ إذ ليس فيه كشف عورة من فعل مستتر به عن الناس.(8/109)
وقولها عن زينب:" وهي التي تساميني في المنزلة عنده "، أي: تعادلني وتضاهيني في الحظوة، وعلو المنزلة، والمكانة منه، مأخوذ من السمو وهو الارتفاع، ورأيت بعضهم فسر هذا الحرف في هذا الحديث أنه من سوم الخسف، وتجشم الإنسان ما يشق عليه ويكرهه، وتلازمه ذلك، وكأنها تريد: تغيظني وتؤذينى، ولا يصح هذا من جهة العربية أن يأتي في باب المفاعلة ولا من سامى، وإنما فعله سامه، وبنى عليه مساومة، وسامني إنما هو من سما، يقال منه: سما فلان أي ارتفع، وهو سموه إلى المعالي، والمساماة في هذا من المعاندة صحيحة وأثبت عليها بما أثبت من الخصال المحمودة من التقى والصدق والصدقه وصلة الرحم. وفيها جواز اعتمال المرأة بيدها وكسبها في بيت زوجها كالصدقة باذنه أو بغير إذنه.
وقولها:" ما عدا سررة حَدّ " بفتح الحاء، ويروى:" من حدة " بكسرها " تسرع منها الفيئة "، تريد: ما خلا هذه الخصلة فيها من حدة الخلق، وسورة الشيء، بفتح الشين: ثورانه، والسورة: البطش، وسورة التراب: قوته، وحدته. وسواره، بضم السين: دبيبه في الرأس، وهو منه، قال الحربي: تريد يعتريها ما يعترى الشارب من الثراب، وقيل: " سورة حد ": سراعة غضب. والفيئة: الرجوع، تريد: أنها سريعة الغضب، سريعة الرجوع.(8/110)
وقولها:" ثم وقعت بي فاستطالت علي، وأنا أرقب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأرقب على طرفه، هل يأذن لي، حتى عرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكره أن أنتصر "، ليس فيه دليل أنه أذن لها ولا غمزها، وإن قالت أنها كانت ترقب طرفه، فقد قال عليه الصلاة والسلام:« ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين »، لكن لما رأى تطلعها لذلك ولم ينهها فهمت أنه لا ينكر انتصارها كما كان، ألا تراه كيف قال:« إنها بنت أبي بكر »، وهذا يدل على أنه وافقها لأنها ابتدأتها،{ولمن انتصر بعد ظلمه / فأولئك ما عليهم من سبيل }، وقيل: بل لينتصف منها فلا يبقى على زينب تباعة، ولا في نفس عائشة خيفة بانتصافها، ثم يرجعان إلى حسن الصحبة بعده.
ومعنى " وقعت بي " بمعنى ما بعده، أي استطالت على وناولتني بمؤذ كلامها، والوقعة: موضع المعركة، وأوقع القوم بآخرين إذا فعلوا بهم فعلة منكرة، من قتل أو سبي، وكأنه - والله أعلم - من الوقع بفتح القاف، وهو جرح الرجل من الجفاء، ويغير موقع إذا كان مطهرًا إثر الدبر.
وقولها:" فلم أنشبها "، أي: أدع أمرها لشيء آخر، ولم أتركها.
وقولها:" حتى أنحيت عليها "، ويروى:" حين أنحيت عليها "، وهو أشبه هنا وأوجه، ومعناه: حين قصدتها واعتمدتها بمعارضتها وبجواب كلامها. يقال: أنحيت عليه ضربًا، وفي الرواية الأخرى بعده:" لم أنشبها أن اثخنتها غلبة "، ويحتمل أن هذه الرواية أصح، وأن الأولى مغيرة مصحفة عنها، والله أعلم.
ومعنى " أثخنتها غلبة "، أي: بالغت في الرد عليها وأثقلتها وقهرتها. وقد قيل في قوله تعالى:{ حتى إذا أثخنتموهم }: أي أثقلتموهم بالقتل، وقيل: أكثرتم فيهم بالقتل، وقيل: بالغنم فيه.(8/111)
وقوله:« أين أنا اليوم أين أنا غدًا »، استبطاء ليوم عائشة: هذا لمحبته فيها، وحرصه على أن يكون عندها، حتى استأذن أزواجه في تمريضه عندها، ليكون عن طيمب أنفسهن فيبلغ غرضه مع تطييبه أنفسهن، مع التزامه ما التزمه من العدل بينهن.
وقولها:" قبضه الله بين سحري ونحري "، بفتح السين، السحر: الرئة وما تعلق بها، ويقال: سحر بالضم، وكلاهما بالسين والحاء المهملتين، هذا المشهور في الرواية.وحكى أبو علي القالي عن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير عن قول عائشة هذا فقال: إنما هو:" شجرى " بالشين المعجمة والجيم، وشبك بين أصابعه، وأوما أنها ضمته إلى نحرها مشبكة يديها عليه، والله أعلم.
وقولها:" وأخذته بحة "، بضم الباء وتشديد الحاء، هي خشونة الصوت وحدته وصفاؤه، والاسم البحح، بفتح الباء والحاء.
وقوله:" فأشخص بصره إلى السقف "، قال الإمام: أي رفعه. قال القاضي: كذا قال صاحب العين وغيره، وقال صاحب الأفعال: شخص: خرج من موضع إلى غيره، والسهم جاوز الهدف، والبصر لم يطرف، كله بفتح الحاء، فمعناه على هذا: حدد بصره إلى السقف ولم يطرف، وهي صفة شخوص بصر الميت.
وقوله:« اللهم الرفيق الأعلى »، وفي رواية:« في الرفيق »، وفي رواية: « ألحقني بالرفيق »، وفي رواية:« مع الرفيق »، قيل:هو اسم من أسماء الله تعالى، وخطأ هذا الأزهرى، وكذلك يبعد لا سيما مع رواية "مع" و "في". وقيل: بل هم جماعة الأنبياء، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر:{ مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصّدّيقين والشهداء والصالحين} إلى قوله: {وحسن أولئك رفيقًا }، وهو لفظ يقع للواحد والجميع. وقيل: أراد رفق الرفيق، وقيل: أراد مرتفق الجنة. وقال الداوودي: هو اسم لكل سماء، وأراد الأعلى ؛ لأن الجنة فوق ذلك. ولم يعرف هذا أهل اللغة ووهموا فيه، وإنما اسم السماء الرفيع، بالعين. ويبعد أيضًا / مع رواية: "مع الرفيق ".(8/112)
وقوله:" كان إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة على عائشة وحفصة "، بناء منه في العدل عليه الصلاة والسلام بينهن، وتطييب نفوسهن.
وقد اختلف العلماء في إيجاب ذلك، فقيل: ليس له أن يخرج لسفر بإحداهن إلا بقرعة، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحد قولي مالك. وقال مالك أيضًا: له أن يسافر بمن شاء منهن بغير قرعة. وهذا الحديث حجة للقول الأول.
وحجة القول الثاني: أن العدل لم يكن واجبًا على النبي عليه الصلاة والسلام، لكن ذلك من حسن العشرة، وتطييب النفرس، وأن النساء يختلفن، فقد تكون إحداهن أخف محملاً وأقل عناء في النظر فيما يخلفه، والأخرى أحسن نظرًا في ماله وأقوم بما يخلفه بعده، والواحدة ذات بنين وصنعة والأخرى متفردة.
وفيه جواز العمل بالقرعة، ولم يختلف العلماء أن الحاضرة لا تحاسب المسافرة بالمضي لها مع زوجها في سفرها.
وقول حفصة لعائشة:" ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك "، الحديث: قال المهلب: في تحيل حفصة على عائشة دليل على أن القسمة لم تكن واجبة ؛ إذ لم تكن تفعل ما لا يحل لها من الاستكثار من النبي عليه الصلاة والسلام إلا ما أباحه لها من نفسه.
قال القاضي: وليس قوله ببين ؛ لأن في الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسير من الليل مع عائشة يتحدث معها، فقد استبان أنها قصدت ذلك، وليس هذا حق لعائشة ولا قسم، ولو كان ذلك لكان لحفصة مثله، وليس عليها في هذا درك ؛ لأنها طلبت الخير لنفسها وآثرتها به. ولم يكن ذلك حقًّا واجبًا لغيرها أوجب لها، فاحتالت عليها، ومسير النبي عليه الصلاة والسلام معها وتحدثه معها بعد معرفته بها ؛ دليل على جوازه لها وإباحة ذلك من نفسه لها، ولو كان غير جائز لما أقرها عليه، ولا سامحها فيه كما لم يسامح في تمريضه في بيت عائشة، مع جواز ذلك له لو شاء إلا بإذنهن.(8/113)
ودعاء عائشة على نفسها من الغيرة وما فعلته كذلك غير مؤاخذة به عند الحرج ؛ لأنه بغيبر نية ولا معاقبًا به، ولا يجاب غالبًا، قال تعالى:{ ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير }.
قوله:« إن جبريل يقرأ عليك السلام »، يقال: أقرأته السلام، وهو يقرئك السلام بضم الياء رباعي، فإذا قلت: يقرأ عليك، بالفتح لا غير، وقيل: هما لغتان.
وقولها:" وعليه السلام ورحمة الله "، فيه أن صورة الرد هكذا. وهو اختيار ابن عمر: عليك السلام. وقال بعضهم: أما إذا اقتصر على رد مثلها فيقول كما قيل له: السلام عليك. وقد تقدم الكلام على أحكام السلام وأحاديثه.
حديث أم زرع
قال في أوله: جلس إحدى عشرة امرأة، وعند الطبري: جلسن، وهي لغة بعض العرب بإظهار علامة نون الجماعة مع تقدم الفعل، فيقولون: ضربوني القوم، وأكلوني البراغيث، وعليه تأول بعضهم قوله تعالى: {وأسروا النجوى الذين ظلموا }، في الحديث الآخر:« يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار». والأحسن في الكلام والأفصح والأشهر حذفه وإفراد الفعل، وبهذا تكرر في الكتاب العزيز، وصحيح الحديث ومشهور أشعار / العرب، وقد جاء في بعضها تقديمه، وهو قليل. وقد يكون أيضًا "إحدى عشرة " بدلاً من الضمير في "اجتمعن"، وهو تأويل سيبويه في قوله:{ وأسروا النجوى }، كأنه قيل: من هم ؟ قال:{ الذين ظلموا }، وتكون النون هنا ضميرًا لا علامة تأنيث جماعة، وما بعدها بدلاً منها، ولها وجوه أخر كلها تخرج على ما ذكره المفسرون في الآية.(8/114)
قال الإمام: قول الأولى من النسوة اللاتي اجتمعن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئًا:" زوجي لحم جمل غث "، يعني المهذول على رأس جبل وغث تصف قلة خيره، وبعده مع القلة كالمشي في قبلة الجبل الصعب لا ينال إلا بالمشقة. قال الخطابي: معنى البعير في هذا أن يكون قد وصفته بسوء الخلق، والترفع لنفسه، والذهاب بها زهوا وكبرا، يريد أنه مع قلة خيره وبر أدبه قد يتكبر على العيش ويجمع إلى منع الرفد الأذى وسوء الخلق.
قال أبو عبيد: وقولها:" لاسمين فينقى "، أي يستخرج نقيه، والنقى: المخ. يقال: نقوت العظم ونقيته وأنقيته: إذا استخرجت نقيه. ومن رواه: " فينتقل " أي ليس سمينا ينقله الناس إلى بيوتهم يأكلونه، ولكنهم يزهدون فيه. قال الخطابي: يريد أنه ليس في جانبه طرف فيحمل سوء عشرته لذلك. يقال: أنقلت الشيء، أي نقلته.
قال أبو عبيد: وقول الثانية:" أذكر عجره وبجره "، العجر: أن يتعقد العصب أو العروق حتى تراها ناتئة من الجسد، والبجر نحوه، إلا أنها في البطن خاصة وواحدتها بجرة. ومنه قيل: رجل أبجر، إذا كان عظم البطن، وامرأة بجراء، الجمع بجر، ايقال: رجل أبجر، إذا كان - ناتف السرة عظيمها، قال الهروي : قال ابن الأعرابي: العجرة: نفخة في الظهر، فإذا كانت في السرة فهي بجرة. ثم ينقلان إلى الهموم والأحزان. قال الخطابي: أرادت بالعجر والبجر عيوبه الباطنة وأسراره الكامنة. وقال الأصمعى في قول على - رضي الله عنه -: " إلى الله أشكو عجري وبجري "، أي همومي وأحزاني.
قال القاضي: وقال ابن السكيت: معنى " عجره وبجره "، أي: أسراره.
وفي قولها:" أخاف ألا أذره " تأويلان: أحدهما ذهب إليه ابن السكيت: أن الهاء عائدة على ذكره وصبره لطوله وكثرته وإن بدأته لم يقدر على تمامه، وقيل: إنها عائدة على الزوج وهو المراد، وكأنها خشيت فراقه إذا ذكرته وبلغه، ووكأنها كانت تحبه وتكون "لا " هنا زائدة، كما قال تعالى:{ ما منعك ألا تسجد }.(8/115)
قال الإمام: قال أبو عبيد: وقول الثالثة:" زوجي العشنق "، هو الطويل، تقول: ليس عنده أكثر من طوله بلا نفع، إن ذكرت ما فيه من العيوب إن نطقت طلقني، وإن سكت تركني معلقة، لا أيم ولا ذات بعل، ومنه قوله تعالى:{ فتذروها كالمعلقة }.
وقول الرابعة:" زوجي كليل تهامة "، تقول: ليس عنده أذى ولا مكروه، وإنما هو أمثل ؛ لأن الحر والبرد كلاهما فيه أذى إذا اشتد.
وقولها:" لا مخافة ولا سامة "، تقول: ليس عنده غائلة ولا شر أخاف، ولا يسألني فيمل صحبتي.
وقول الخامسة:" زوجي إن دخل فهد "، تصفه بكثرة النوم والغفلة في منزله، على وجه المدح له، وذلك أن الفهد كثير النوم. يقال: أنوم من فهد / والذي أرادت: أنه ليس يتفقد ما ذهب من ماله، ولا يلتفت إلى جانب البيت وما فيه، فهو كأنه ساه عن ذلك، ويبينه قولها:" ولا يسأل عما عهد"، يعني: عما كان عندي مثل ذلك.
وقولها:" أسد "، تصفه بالشجاعة. تقول: إذا خرج إلى الناس لمباشرة الحرب ولقاء العدو أسد فيها، يقال: أسد الرجل واستأسد بمعنى.
قال القاضي: قولها:" فهد وأسد "، كذا الرواية فيه، بكسر الهاء والسين، فاما أن يكونا فعلين مشتقين من أسمائهما، أو يكونا اسمين، ويكون فهد وفهد مثل فخذ وفخذ، ويأتي أسد على الاتباع لفهد، وقد قال ابن أبي أويس في معناه: أنه إذا دخل وثب على وثوب الفهد، فيحتمل أنه يريد بذلك ضرابها والمبادرة لجماعها.
قال الإمام: وقول السادسة:" إن أكل لف، وإن شرب اشتف "، اللف في الإطعام: الإكثار منه مع التخليط من صنوفه حتى لا يتبين منه شيئًا، والإشفاف في الشرب: أن يستقصى ما في الإناء ولا يستر شيئًا، وإنما أخذ من الشفافة وهي البقية في الإناء من الشراب، فإذا شربها صاحبها قيل: أشفها.(8/116)
قولها:" ولا يولج الكف ليعلم البث "، قال أبو عبيد: أحسبه أنها كان بجسدها عيب أو داء كنت به ؛ لأن البث، هو الحزن، فكان لا يدخل يده في ثوبها ليمس ذلك العيب فيشق عليها، تصفه بالكرم. قال الهروي: قال ابن الأعرابى: هذا ذم لزوجها، وإنما أرادت وإن رقد التف في ناحية ولم يضاجعني ليعلم ما عندي من محبتى لقربه. قال: ولا بث هاهنا إلا محبتها الدنو من زوجها، فسمت ذلك بثًّا؛ لأن البث من جهته يكون. وقال أحمد بن عبيد: أرادت أنه لا يفتقد أمورى ومصالح أنسابي، وهو قولهم: ما أدخل يد، في الأمر، أي لم يتفقده. قال ابن الأنباري: رد ابن قتيبة على أبي عبيد تأويله لهذا الحرف. قال: وكيف تمدحه بهذا وقد ذمته في صدر الكلام. قال ابن الأنباري: ولا حجة على أبي عبيد فيه ؛ لأن النسوة كن تعاهدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئًا، ومنهن من كانت أمور زوجها كلها حسنة فوصفتها. ومنهن من كانت أمور زوجها كلها قبيحة فبينتها، ومنهن من كان بعض أمور زوجها حسنة وبعضها قبيحة فأخبرت به.
قال الإمام: وإلى قول ابن الأعرابي وابن قتيبة ذهب الخطابي في تفسير هذا.
قال القاضي: قولها:" إذا اضطجع التف "، تريد نام ناحية عنها. وهذا يؤيد خلات قول أبي عبيد في البث، وموافقة من تأوله على قلة الاشتغال بها، وقد تريد وصفه بالفشولة والعجز، فهذه نومة العاجز الوكل الزميل، وبهذه الضجعة سمى، ويؤيد تأويل مخالفي أبي عبيد في هذا ما جاء عن عروة في بعض طرق هذا الحديث، وذكر خمسة منهن هذه إحداهن، فقال: هؤلاء خمسة يشكون " أو غياياء طباقاء ".
قال الإمام: قال أبو عبيد: وقول السابعة:" زوجي عياياء طباقاء "، العيا، بالعين المهملة: هو الذي لا يضرب ولا يلقح من الإبل، وكذلك هو في الرجال، العيايا هنا في كتاب ابن ولاد، العى: الأحمق القدم. قال الخطابي: أصل الطباقاء ما قاله الأصمعي، وهو الذي أمره مطبق عليه.(8/117)
قال ابن ولاد: يقال: فلان طباقًا، إذا لم يكن صاحب غزو ولا سفر، إنما شرح بهذا ابن ولاد بقية وصف الطباق في البيت الذي استشهد به لا الطباقا، والبيت:
/طباقاء لم يشهد خصومًا ولم يُنج قلاصًا إلى اكوارها حين تعكف
قال: يريد أنه ليس صاحب غزو ولا سفر.
قال: والعياياء من الإبل الذي لا يحسن الضراب، ولا يقال ذلك للرجل، وأما الطباقا فيقال في الإبل والرجال، وهو الذي لا يحسن الضراب أيضًا.
قال أبو عبيد: قولها:" كل داء له داء "، أي كل شيء من دواء الناس فهو فيه ومن أدوائه.
قال القاضي: ما حكاه عن ابن ولاد في تفسير الطباقا والعيايا لم نجده كذلك في كتابه بعضه معبر وبعضه مفسر للفظ آخر فانظره. والطباقا: الذي لا يلقح ولا يضرب النوق. قاله الأصمعي، والخليل، وحكاه أبو علي عن بعضهم: أنه الثقيل الصدر، الذي لا يطبق صدره على صدر المرأة عند الحاجة لها وهو من مذام الرجال. وأنكر أبو عبيد رواية غياياء بالمعجمة، وقال: ليس بشيء ويظهر له وجه حسن بين لاسيما وأكثر الرواة أثبتوه، ولم يشكوا فيه، وهو أن يكون مأخوذا من الغياية، وهو كل ما أظل الإنسان فوق رأسه، فوكأنه غطى عليه وسترت أموره، وبكون بمعنى طباقا، وقد تقدم من تفسيره بهذا النحو ما يؤيده. أو يكون غيايا من الغي، وهو الانهماك في الشر، ومن الغى وهو الخيبة قال الله تعالى:{ فسوف يلقون غيًّا }، قيل: خيبة.
وقولها: " شجك أو فلك أو جمع كلالك،: شجك: جرحك. والشجاج: مما يخهتص بالرأس، والجراح فيه وفي سائر الجسد والقلب مثله.
وقول الثامنة:" المس مس أرنب، والريح ريح زرنب "، قال الإمام: تصفه بحسن الخلق ولين الجانب، كمس الأرنب إذا وضعت يدك عليها. وقولها:" والريح ريح زرنب "، معناه: يمكن أن تريد به طيب ريح جسده، ويمكن أنها تريد به، طيب ثيابه في الناس في انتشاره فيهم كريح الزرنب، وهو نوع من أنواع الطيب معروف.(8/118)
قال القاضي: ومعنى ثالث: إنما أرادت به لين خلقه، وحسن عشرته، فيكون بمعنى الفقرة الأولى.
قال الإمام: وقول التاسعة:" زوجي رفيع العماد "، تصفه بالشرف وسناء الذكر، وأصل العماد: عماد البيت، وجمعه عمد. وهي العيدان التي تعمد بها البيوت، وإنما هذا مثل، تقول: إن بيته في حسنه رفيع في قومه.
وأما قولها:" طويل النجاد "، فإنما تصفه بامتداد القامة. والنجاد: حمائل السيف، فهو يحتاج إلى قدر ذلك من طوله، وهذا مما تمدح به الشعراء.
وقولها:" عظيم الرماد "، تصفه بالجود، وكثرة الضيافة من لحم الإبل ومن غيرها من اللحوم، فإذا فعلت ذلك عظمت ناره وكثر وقودها، فيكون الرماد في الكثرة على قدر ذلد. قال الخطابي: قد يكون إيقاد النار بمعالجة الطعام، واشتواء اللحم ليطعمه الأضياف كرمًا، وأمدح له أن يكون ناره لا تطفأ لئلا يهتدي به الضيفان فيكثر عشاؤهم إليه. والأجواد يَطعمون ويُطعمون النيران في ظلم الليل، ويوقدونها على التلال ومشارف الأرض، ويرفعون على الأيدي الأقباس ليهتدى بسنائها الأضياف.
قال القاضي: قد قيل في:" رفيع العماد " إيهامًا، وأرادت به ظاهره، وهو عماد بيته، وصفته بالعلو والكبر، وكذلك بيوت الأشراف وأهل السؤدد ؟ لسعة أحوالهم، وكثرة من يغشاهم فيها ولترى وتقصد / وقد وصف غيرهم بضد ذلك، فقيل: قصار البيوت لا يرى أصواتها من اللؤم يجتاحون عند الشدائد، وقيل: أرادت برفيع العماد: أنه طويل في نفسه، كما جاء في رواية " طويل العماد "، وكما قالت:" طويل النجاد "، وهو مما كانت تتمادح به العرب وتهجر بضده، قال الشاعر:
كأنما عمامته بين الرجال لواء(8/119)
وقولها:" قريب البيت من النادي "، النادي، والندى، والمنتدى: مجلس القوم، قال الله تعالى:{ وتأتون في ناديكم المنكر }، وبذلك سميت دار الندوة للاجتماع للمشورة فيها. ووصفته بالكرم والسؤدد ؛ لأنه لا يقرب من النادي إلا من هو بهذه الصفة ؛ لأن المجتمع عنده يكون في فناء بيته بثبات، وإليه هو يعتمد في ذلك ولأن الضيفان إنما يقصدون مجتمع الحي ليقوم بهم كرماؤهم، واللئام يبعدون بيوتهم عن ذلك ويخفونها لئلا ترى وتظهر ناره فيقصد كما قال الشاعر:
له نار تشب على بقاع إذا النيران ألبست القناعا
أي: سترته بوقودها في الغيطان، وبطون الأرض.
قال الإمام: وقول العاشرة:" زوجي مالك " الحديث، تقول: إنه لا يوجه إبله تسرح نهارًا إلا قليلاً ولكنهن يتركن بفنائه فإن نزل به ضيف لم تكن الإبل غائبة عنه، ولكنها بحضرته فيقريهم من ألبانها ولحومها. والمزهر: العود الذي يضرب به، أرادت: أن زوجها عود إبله إذا نزل به الضيفان أن ينحر لهم ويسقيهم الشراب، ويأيتهم بالمعازف، فإذا سمعت الإبل ذلك الصوت علمن أنهن منحورات فذلك قولها:" أيقن أنهن هوالك ".
قال القاضي: المسارح: المراعى البعيدة، يقال: سرحت الإبل فسرحت اللازم والواقع واحد فعلت فيها، قال الله تعالى:{ وحين تسرحون }، قال بعضهم في معنى قولها:" كثيرات المبارك، قليلات المسارح "، أنها كثيرة في حال بروكها، قليلة إذا سرحت لكثرة ما تسار فتحلب ثم تعزل، فلكثرة ما يفعل ذلك بها كثرت مباركها، وهي "قليلات المسارح "، لقلتها في ذاتها، وقيل: بل مباركها كثيرة ما ينحر منها للأضياف. قال: ولو كان كما تقدم لماتت هزالاً، وقيل: بل معناها:" كثيرة المبارك "، أي مباركها في الحقوق والعطايا والحملان والأضياف كثيرة. ومراعيها قليلة، أي أنها تكثر في مباركها بمن ينتابها من الضيفان والمعمقين، وإلى هذا ذهب يعقوب بن السكيت واحتج عليه بقول عروة بن الورد:
بريح على الليل قربان ماجد كريم ومالي سارحًا مال معسر(8/120)
قال: تقول: إذا راحت بالعشي راح فيها الضيفان، وإذا سرحت كانت قليلة ؛ لأنه لا أحد فيهها منهم يكثر سوادها، ونحوه لابن الأنباري.
وذهب أبو سعيد النيسابوري في قولها:" إذا سمعن صوت مزهر "، أنه مزهر النار للأضياف، أي موقدها، ويكون بضم الميم، تريد صوت معمعة النار في وقيدها به للضيفان. قال: ولم تكن العرب تعرف المزهر الذي هو العود، إلا من خالط الحضر منهم، ولم يقل:" سامع "، أنه لم يروه أحد بضم الميم، وقد جاء ذكر المزهر والعود والكيران في أشعار العرب كثير. ومن يقول: إن هؤلاء النسوة من غير أهل الحضر، فكيف وفي بعفر الروايات: أنهن من قرية من قرى اليمن، فهؤلاء أهل حاضرة.
وقول " الحادية عشرة " كذا في رواية بعض / شيوخنا، وهو ضبط الجياني، وعند السجزي:" الحادية عشر" بغيرها، وعند العذري والسمرقندي: " الحادي عشرة "، ووجه الكلام والمعروف والصحيح الرواية الأولى. وفي الشين وجهان: الإسكان والكسر . والكلمتان مفتوحتان الآخر ؛ لأنهما كالكلمة الواحدة كحضرموت، واختلف أهل العربية إذا لم تدخل عليها الألف واللام، فاجاز بعضهم أحد الإعراب في الكلمة الأولى وأباه سيبويه.
قال الإمام: قال أبو عبيد: قول الحادية عشر:" أناس من حلي أذني"، تريد حلاني قرطة وشنوفًا، فهي تنوس بأذني، والنوس: الحركة من كل شيء متدل، يقال منه: ناس ينوس نوسًا وأناسه غيره أناس. قال ابن الكلبي: إنما سمي ملك اليمن: دانواس، لضفيرتين كانتا له تنوسان على عاتقه.
وقولها:" وملأ من شحم عضدي"، لم ترد العضد خاصة، إنما أرادت الجسد كله، تقول: إنه أسمنني بإحسانه إلى، فإذا سمن العضد سمن سائر الجسد.
وقولها:"وبجحني فبجحت "، أي: فرحني ففرحت. وقال ابن الأنباري: معناه: عظمني فعظمت عند نفسي، يقال: فلان يتبجح بكذا، أي يتعظم ويترفع ويفتخر، قال: ومنه قول الشاعر:
وما الفقر من أرض العشيرة ساقنا إليك ولكنا بقرباك نبجح
أي: نفخر ونعظم بقرابنا منك.(8/121)
قال أبو عبيد: وقولها:" وجدني في أهل غنيمة بشق "، يعني أن أهلها كانوا أصحاب غنم ليسوا باصحاب خيل ولا إبل ؛ لأن الصهيل أصوات الخيل والأطيط أصوات منى. وقولها:" وأشرب فاتقمح "، النقح في الشرب مأخوذ من الناقة المقامح. قال الأصمعي: وهي التي ترد الحوض فلا تشرب. قال أبو عبيد: وأحسب قولها:" ما يقمح "، أي: أروى حتى أدع الشراب من شدة الري. قال: ولا أراها قالت هذا إلا من عزة الماء عندهم. قال: وبعض الناس يروى هذا الحرف " فاتقنح " بالنون، ولا أعرف هذا الحرف ولا أرى المحفوظ إلا بالميم.
قال القاضي: لم نروه في كتاب مسلم والبخاري إلا بالنون، وقال البخاري في حاشية الكتاب: وقال بعضهم:" فاتقمح " بالميم وهو أصح.
قال القاضي: والنون صحيحة. قال أبو على القالي في كتابيه " البارع والآمال " وشمر بن حميدويه: قنحت الإبل قنحًا: إذا كرهت الشرب، وأكثر كلامهم: تقنحت نقحًا. قاله أبو زيد. وقال نحوه ابن السكيت وأبو حنيفة، فالميم إذا والنون بمعنى، وكثيرًا ما يتوارد كقولهم: امتقع وانتقع، وقال شمر: التقنح الشرب فوق الري، قال ابن حبيب: عن ابن أبي أويس: هو الذي بعد الري، وقال النيسابوري: هو الشرب على رسل لكثرة اللبن فليس يتاميها غيرها، وقال يعقوب:" فاتقنح:، أي فلا يقطع على شربي.
وقولها:" وأرقد فاتصبح "، أي أنام الصبحة، وهي يوم أول النهار، تريد أنها مرفهة، عندها من يخدمها ويكفيها مؤونة بيتها، إذ لا ينام الصبحة إلا من هو بهذه الصفة. قال امرؤ القيس:
نؤوم الضحى لم تنطق عن تفضل
وقولها:" أم أبي زرع فما أم أبي زرع "، وفي رواية العذري:" أم زرع"، وهو وهم.
وقولها:" عكومها رداح "، قال الإمام: قال أبو عبيد: العكوم: الأحمال والأوعية والأعدال، التي فيها طرف الأطعمة والمتاع، واحدها عكم، "ورداح": عظام كثيرة الحشو، ومنه قيل للمرأة إذا كانت عظيمة الأكفال: رداح، وللكثيبة إذا عظمت: رداح.(8/122)
قال القاضي: قد يحتمل أنه أراد بعكومها هنا كفلها وعظمه.
وقولها:" رداح "، وهو واحد خبرًا عن العكوم، وهي جمع والجمع لا يوصف بالمفرد، ولا يخبر به عنه، والمراد كل عكم منها رداح، أو يكون رداح هنا مصدرًا كالذهاب والطلاق، أو يكون على التشبيه، كقوله تعالى: { ا السماء فنفطر به }، أي: ذات انفطار، على مذهب من قال ذلك، أو تكون أرادت الكفل فوصفته برداح، حملاً على المعنى، كما قال:" ثلاث شخوص كأعبان ومعصر ".
وقولها:" وبيتها فساح "، يعني متسع، يقال: بيت فسح وفساح، وقد يحتمل أن تريد أنها كثيرة الخير والنعمة، فكنت بالبيت عن ذلك.
وقولها في ابن أبي زرع:" مضجعه كمسل المشطبة " بفتح الشين والميم، قال الإمام: المشطبة: أصلها ما شطب من جريد النخل، وهو سعفه، وذلك أنه يشقق منه قضبان رقاق ينسج منه الحصر، فأخبرت المرأة أنه مهفهف ضرب اللحم، شبه بتلك الشطبة، وهو مما يمدح منه به الرجال.
وقولها:" تشبعه ذراع الجفرة ": الأنثى من أولاد الغنم، والذكر جفر، والعرب تمدح بقلة الأكل والشرب.
قال القاضي: قال ابن الأعرابي وغيره: أراد تمثيل الشطبة هنا بالسيف يستل من غمده /. واختلف أهل اللغة في الجفر، هل هو من ولد الضأن، وهو قول ابن الأنباري، وابن دريد، أو ولد المعز، وهو قول أبي عبيد وغيره، وهو إذا استجفر وفصل عن أمه، وأخذ في الرعي وصار له بطن.
وقولها: في ابنة أبي زرع:" ملء كسائها "، أي: أنها ممتلئة الجسم.
وقولها في الحديث الأخر:" صفر ردائها "، أي: خالية، والصفر: الشيء الفارغ. قال الهروي: أي ضامرة البطن، والرداء ينتهى إلى البطن، وقال غيره: تريد أنها خفيفة أعلى اليد من البدن، وهو موضع الرداء ممتلئة أسفله، وهو موضع الكساء والإزار، ويؤيد هذا قولها في بعض روايات الحديث:" ملء إزارها "، والأولى أنها أرادت أن امتلاء منكبيها، وقيام نهديها يرفعان الرداء عن أعلى جسدها، فهو لا يمسه، فهو كالفارغ منها، بخلاف أسفلها كما قال الشاعر:(8/123)
أبت الروادف والثدى لقمصها مس البطون وأن تمس ظهورًا
وقولها: " وغيظ جارتها "، تريد ضرتها، يغيظها ما ترى من حسنها وجمالها وعفتها، وفي الرواية الأخرى:"وعقر جارتها "، كذا ضبطناه عن جميع شيوخنا بفتح العين والقاف، وقيده الجياني:" عبر "، بضم العين وسكون الباء، وكذا ذكره ابن الأنباري، وأرى الجياني أصلحه من كتابه، وفسره ابن الأنباري بوجهين:
أحدهما: أنه من الاعتبار أي إنما يرى من عفتها وحسنها ما تعتبر به.
والثاني: من العبرة والبكاء أي يرى من ذلك ما يبكه عينها حسدًا وغيظًا لذلك، كما تقدم في الرواية الأخرى، وعلى رواية:" عقر "، فمن هذا، أي دهش جارتها، يقال: عقر إذا دهش، أي: أن ذلك يدهشها. أو يكون من القتل أو الجرح، ومنه: صيد عقير، أي قتيل أو مجروح. وعقر فلان إبله: قتلها، وكلب عقور: أي جارح.
وقولها في جارية أبي زرع:" لا تبث حديثنا تبثيثًا "، رويناه هنا بالباء، قال الإمام: معناه: لا تشيعه ولا تظهره، ويروى:" لا تنبث " بالنون، ومعناه قريب من الأول، أي لا تظهر سرنا.
وقولها:" ولا تنقث ميرتنا تنقيثًا "، يعني الطعام، لا تأخذه فتذهب به، تصفها بالأمانة، والتنقيث: ا لإسراع بالشىء.
قال القاضي: روايتنا فيه هنا في الحديث الأول بضم التاء، وفتح النون وكسر القاف، وفي الحديث بعده بفتح التاء وضم القاف لكافتهم. قال ابن حبيب: ومعناه: لا تفسده وتفرقه وتسرع فيه، وليس من الإسراع في السير. والميرة: ما يمتاره البدوي من الحضر من طعام، ولبعض شيوخنا في هذا الحديث عندنا ضبط غير ما تقدم، وكله تصحيف ووهم.
وقولها:" ولا تملأ بيتنا تعشيشًا "، قال الإمام: قال الخطابي: لم يفسره أبو عبيد، والتعشش - بالعين المهملة - مأخوذ من قولهم: عشش الخبز: إذا فسد، يريد أنها تحسن مراعاة الطعام والمخبوز.(8/124)
قال القاضي: إنما يصح هذا على رواية من يروى:" ولا تفسد ميرتنا ثعششًا "، وأما على ما في "الأم": " ولا تملأ بيتنا تعشيشًا " بالعين المهملة فيهما، فمعناه: أنها مصلحة للبيت معتنية بتنظيفه، وإلقاء كناسته، ولا تتركها فيه مجتمعة هنا وهنا كاعشاش الطير، وقال: إنها تكنسه وتنظفه ولا تتركه مثل عش الطائر/ في قذره، وقيل: لا تخوننا في طعامنا فتخبزه في زوايا المنزل كأعشاش الطيور، ومن روى:" تغشيشًا " بالمعجمة فمن الغش والخيانة، قيل: في الطعام، وقيل: من النميمة. وقولها:" والأوطاب تمخض"، جمع هنا وطبا على أوطاب، وهو نادر، ولم يأت فعل على أفعال إلا في حروف قليلة في الصحيح، وهي في المعتل كثير، وجمع وطب في المعلوم وطاب في القلة، وأوطب في الكثرة. وقد جاء في رواية ابن السكيت: وطاب، على الأصل. وفي "النسائي":" أطاب بالتمر "، كأنه بدل من الواو، وكما قالوا: وشاح وأشاح، ووكاف وأكاف.
قال الإمام: قال أبو عبيد: الأوطاب أسقية اللبن، واحدها وطب. وقولها: " يلعبان من تحت خصرها برمانتين ": يعني أنها ذات كفل عظيم، فإذا استلقت نتا الكفل بها من الأرض حتى تصير تحت خصرها فجوة يجرى فيها الرمان.
قال القاضي: ذهب بعضهم أن المراد بالرمانتين هنا الثديين. ورد أبو عبيد هذا وقال: ليس هنا موضعه، وذكر نحو ما تقدم. وما أنكره أبو عبيد عندي أظهر وأشبه، لاسيما وقد روى: " من تحت صدرها ومن تحت درعها "؛ ولأن العادة لم تجر برمى الصبيان الرمان أصلاب أمهاتهم ولا استلقاء النساء لهن لذلك حتى يشاهد ذلك منهم الرجال، والأشبه أنها رمانتا النهدين، شبهها كذلك لنهودها. ودل ذلك على صغرها وقياسها.
وقولها:" فنكحت بعده رجلاً سريًا "، أي شريفًا، وقيل: سخيًّا. وسراة كل شيء خياره، فهذه بالسين المحملة، ويقال بالشين المعجمة أيضًا، حكاهما يعقوب.(8/125)
وقولها:" ركب شريا "، هنا بالمعجمة لا غير، قال الإمام: الشرى يعني به الفرس الذي يستشرى في سيره، أي يلح ويمضى بلا فتور وانكسار. والخطى: الرمح، يقال له ذلك لأنه يأتي من بلاد ناحية البحرين يقال لها الحظ.
قال القاضي: قال يعقوب: فرس شرى: خيار فائق، وقيل: الخط الساحلي، وكل الساحل خط، وفي "الجمهرة" نحوه، وقال عن بعض اللغويين: الخط سيف البحرين وعمان، وقيل: إن سفينته في أول الزمان مملؤة رماحًا قذفها البحر مرة إلى ناحية البحرين، فخرجت رماحها فيها، فنسبت إليها. ولا يصح قول من قال: إن الخط منبت الرماح.
وقولها:" أراح على نعماء "، أي: أتى بها إلى منزلى للمراح، وهو موضع مبيتها، ومنه: وأعطاني من كل رائحة لحهلم أي مما يروح من إبل وبقر وغنم وعبيد زوجًا، والزوج يعني اثنين، وهذا يرد على من أنكر أنه لا يقع على الاثنين ؛ لأنه يعلم أنها لم ترد هنا واحدا، وقد يقع الزوج على الفرد، ولكن إذا ثني قيل: زوجان. وقد يريد بقولها زوجها صنفا، والزوج الصنف، ومنه قوله تعالى:{ وكنتم أزواجًا ثلاثة }.
وأما قولها:" من كل ذي رائحة "، ولا يضاف " ذو " عند أهل العربية إلا إلى الأجناس، يقال: ذو مال، وذو إبل، وذو غنم. ولا يجيزون: ذو عاقل، ولا ذو عالم ؛ لأنهم استغنوا بوصفها بعاقل عن زيادة ذى، وأما ذو عقل فأجروه مجرى عاقل، لكنه قد جاء ذو عين وذو كلاع ونحوه، وهو عندهم شاذ ؛ ولذلك قالوا: ذا صباح وذا مساء، وذو رائحة من هذا، وكأنه / جاء دعما للكلام وصلة له، والمعنى: من كل رائحة، ولا أعلم في الشعر ولا في كلام العرب لهذه الفظة التي جاءت في الحديث مثلا.
وقد يكون كل ذى رائحة بمعنى الذي يأتي من كل الذي هو رائحة، كما قالوا: افعل بذى تسلم، أي سلامتك، أي الذي هو سلامتك. والنعم، بفتح النون: الإبل خاصة، هذا قول اكثرهم، وذهب بعضهم إلى أنه يطلق على جماعة المواشي إذا كان فيها إبل، وقال بعضهم: النعم والأنعام بمعنى واحد.(8/126)
وقولها: " ثريًّا "، قال الإمام: الثرى الكثير من المال وغيره، ومنه: الثروة في المال، وهو الوفور والكثرة فيه.
قال القاضي: وقوله:" ميرى أهلك "، أي تفضلي عليهم وصليهم من الميرة، وقد تقدم.
وقوله عليه الصلاة والسلام:« كنت لك كأبي زرع لأم زرع »، تطييبًا لنفسها، ومبالغة في حسن عشرتها، ومعناه: أنا لك، وتكون " كان " زائدة، أو تكون على بابها، ويراد بها الاتصال، أي كنت لك فيما مضى وأنا كذلك، أو على بابها. أو كنت لك في قضاء الله وسابق علمه كأبي زرع في إحسانه ومحبته لها.
قال الإمام: قال بعضهم: فيه من الفقه حسن العشرة مع الأهل، واستحباب محادثتهن، بما لا إثم فيه، وفيه أن بعضهم بعضهن قد ذكر عيوب أزواجهن فلم يكن ذلك غيبة إذا كانوا لا يعرفون بأعيانهم وأسمائهم، وإنما الغيبة أن يقصدن عيان من الناس فيذكروا بما يكرهرن من القول ويتأذون به، وإنما يفتفر عندي إلى الاعتذار عندي في القول عن هذا لو كان سمع إليه عليه الصلاة والسلام امرأة تغتاب زوجها من غير تسمية فأقرها على ذلك.
فأما حكاية عائشة رضى الله عنها عن نساء مجهولات لا تدري من هن في العالم، أو ليس بحاضرات ينكر عليهن، فلا يكون حجة على جواز ذلك وحالها في ذلك كحال من يقول: في العالم من يعصي الله، ومن سرق، فإن ذلك لا يكون غيبة لرجل معين، وهذا يغني عن الاعتذار الذي حكيناه عن بعضهم. لكن المسألة لو تركت ووصفت امرأة زوجها بما هو غيبة وهو معروف عند السامعين فإن ذلك ممنوع، ولا فرق بين قولها: فلان ابن فلان من صفته كذا وكذا وهو معروف، لكن لو كان مجهولا وممن لا يعرف بعد البحث عنه، وهذا الذي لا حرج فيه على رأى بعضهم الذي قدمناه، ووكأنه ينزل عنده بمنزلة من قال: في العالم من يعصى ويسرق، وللنظر فيما قال مجال.(8/127)
قال القاضي: قد صدق فيما قال: إن تحقيق مسألة الغيبة تؤذى المغتاب بما قيل عنه وينقص به لى اذا كان مجهولا عند القائل والسامع أو ممن يبلغه الحديث عنه فليس بغيبة ج إذ لا يتاذى إلا بتعيينه، وقد قال إبراهيم: لا تكون غيبة مالم يسم صاحبها، يريد أن ينبه بامر يفهم عينه. وهؤلاء نساء مجهولات الأعيان والأزواج بائدات الزمان لم يثبت لهم إيمان يحكم فيهم بالغيبة لو تعين جميعهم، فكيف مع الجهالة بهم، ولو كن معروفات مؤمنات لكان ذكرهن لأزواجهن - وإن جهلوا - غيبة ؛ إذ قد تعينوا بهن، كما لو قيل: إن ابن فلان ولم يسم لكان غيبة، وإن جهله السامع.
/ قال القاضي: قد ألفنا كتابًا في حديث أم زرع قديمًا، كتابًا مفردًا كبيرًا، وذكرنا فيه، وجميع زياداته، وبسطنا شرح معانيه اختلاف رواياته وتسمية رواته ولغاته، وخرجنا فيه من مسائل الفقه نحو عشرين مسألة، ومن غريب العربية مثلها، وهو كثير بأيدي الناس. وقد ترجم البخاري عليه: "باب حسن المعاشرة مع الأهل ".
وفيه أيضًا جواز الحديث عن الأمم الخاليه والأجيال الماضية بملح الأخبار وطرف الحكايات ؛ لتسلية النفس. وكذا ترجم عليه الترمذي في شمائله: "باب ما جاء في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السمر ".
وفيه من الفقه أن المشبه بالشيء لا ينزل منزلته في كل شيء، وأن اللازم بكنايات الطلاق والعتق ونحوه إنما ذلك مع النيات، أو الألفاظ الصريحة، والكنايات البينة. والنبى عليه الصلاة والسلام شبه نفسه النقية مع عائشة في حسن الصحبة بأبي زرع مع أم زرع، ومن أفعال أبي زرع معها الطلاق يدخل فيه، ولا أراده، ولو أن رجلاً ذكر امرأة له طلقها فوصفها لزوجة أخرى باوصافها المحمودة والمكروهة، ثم ذكر أنه قد طلقها، وقال لها: أنت كذلك لم يلزمه الطلاق، إلا أن يريد ذلك، ويفهم من مقصوده بقرينة الحال، أو لم يذكر شيئًا سوى طلاقه لها، ثم قال لها: وأنت كذلك.(8/128)
وذكر مسلم خطبة النبي عليه الصلاة والسلام في شأن فاطمة، وخطبة على بنت أبي جهل، وقوله:« لا آذن، ثم لا أذن، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي »، وقوله:« فإنها ابنتي، بضعة مني، يؤذيني ما آذاها »، وقوله في الحديث الأخر:« إني لست أحل حرامًا ولا أحرم حلالاً، ولكن والله، لا تجتمع بنت عدو الله وابنة رسول الله مكانًا واحدًا أبدًا »، وقوله:« وإنما أخاف أن تفتن في دينها »، قال أهل العلم: فيه تحريم أذى النبي عليه الصلاة والسلام بكل وجه وإن كان ما يباح للرجل في الشرع فعله، وأنه في ذلك بخلاف غيره ؛ لأنه من فعل ما يجوز له فتأذى به غيره فلا حرج عليه، وحق النبي عليه الصلاة والسلام بخلاف هذا، لا يحل فعل شيء يتأذى به، ولو كان مباحًا فعله في حق المؤذي.
وفيه غيرة الرجل وجواز غضبه لقريبه وحرمته، وزبه عما يؤذيها بما يقدر عليه. وقد أعلم عليه الصلاة والسلام بإباحة هذا لعلي، لكنه منع جمعهما ستين:
إحداهما: أن ذلك يؤدي إلى أذى فاطمة فيتاذى النبي عليه الصلاة والسلام بأذاها،كما قال.
والأخرى: كراهة فتنتها في دينها ؛ لفرط ما تحملها الغيرة عليه، وعداوة بنت عدو أبيها ومشاركتها لها.
وفيه في أن الشيء وإن لم يكن محرما في نفسه ولكن يخشى أن يكون ذريعة إلى ما لا يجوز فينبغي اجتنابه وترك الوقوع فيه ومنعه. وفيه أن ولد العدو عدو، وأن أولاد المتعاديين لهم حكم ابائهم، وابنة أبي جهل وإن كانت مسلمة فقد خاف منها النبي عليه الصلاة والسلام على ابنته.
وقد اختلف المذهب عندنا في ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها: إطلاق حكم العداوة لولد العدو ؛ لعداوة أبيه في حياة أبيه وموته.
الآخر: أن ذلك غير مراع في الولد، إلا أن تظهر في نفسه عداوة.
الثالث: مراعاة ذلك في حياة أبيه دون موته.(8/129)
قال: وفيه من الفقه مراعاة الكفاءة في المناكح ؛ إذ لم ير عليه السلام/ جواز اجتماع هاتين لتباين مراتبهما ؛ لكون هذه بنت نبي الله، وهذه بنت عدو الله. وإن كانتا حرتين مسلمتين فقس عليهما من تباين منازلهما كالحرة مع الأمة، وفي هذا الماخذ عندي ضعف شديد.
وقوله:« إنما فاطمة بضعة مني »، بفتح الباء، وفي الرواية الأخرى: "مضغة " بضم الميم، وهما بمعنى، المضغة: قطعة من اللحم.
وقوله:« يريبني ما رابها »، قال الحربي: الريب: ما رابك من شيء خفت عقباه. وقال الفراء: راب وأراب بمعنى. وقال أبو زيد: رافي الأمر: تيقنت منه الريبة، وأرابني: شككنى وأوهمني، ولم أستيقنه، وحكى عن أبي زيد مثل قول الفراء.
وقول فاطمة:" إنه - عليه السلام - أخبرها أنها أول من تتبعه من أهله "، من علامات نبوته عليه الصلاة والسلام وإخباره بالغيوب، فكانت كما أخبر: «ونعم السلف أنا لك »، السلف: المتقدم في الشيء، أي: تقدمني قبلك بالموت، لا مشفع لك وتردين علي، ومنه سلف الرجل متقدمو بابه، وضحكها لذلك سرورًا بلحاقها به، ودليل على إيثارهم الآخرة على الأولى.
وقوله:" كان جبريل يعارضه القرآن في كل سنة مرة - أو مرتين -وأنه عارضني الآن مرتين "، ذكر "أو مرتين" هذا وهم ليس في الحديث، والصواب إسقاطه كما جاء في الحديث بعده وفي سائر الأحاديث ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام إنما استدل على اقتراب أجله مخالفته عادته، قيل: في معارضته مرة ومعارضته الآن مرتين.
وقوله في السوق:« معركة الشيطان »، المعركة: موضع القتال ؛ لتعارك الأبطال فيها، ومصارعة بعضهم بعضًا، يشبه السوق وفعل الشيطان بأهلها، ونيله منهم فيها أكثر مما ينال في غيرها، من حمله على الخديعة، والخلابة، والعقود الفاسدة، والأيمان الكاذبة، وبلوغه أهله فيهم بمعركة الحرب، ومن يصرع فيها.
وقوله:« وبها ينصب رايته »، إعلامًا بثبوته هناك ومجتمع أعوانه إليك، وأن السوق مطية إغوائه، ومقام نزغه وكيده.(8/130)
ورؤية أم سلمة جبريل في صورة دحية الكلبي دليل على جواز رؤية بعض البشر للملائكة، ووجود ذلك، ولكن لا يعلمون حينئذ أنهم الملائكة، وأن رؤيتهم لهم إذا كانوا على صورة الآدميين ؛ إذ لا تحتمل القوى البشرية الضعيفة غالبًا رؤيتهم على غير ذلك، قال الله تعالى:{ ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلاً }.
وفيه أن الملائكة يجبل الله خلقها متى شاء، في أي صورة شاء، وأن لهم في ذاتهم صورًا خلقهم الله عليها، وهذا النبي عليه الصلاة والسلام أكثر ما كان يرى الملائكة في صورة الإنس ليأنس إليه، وتطمئن نفسه، ولا يهوله عظيم صورته الحقيقية، وإنما رأى جبريل في صورته كما قال في الحديث "مرتين ".
وقولها:" ايم الله ! ما حسبته إلا دحية، حتى سمعت خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر جبريل "، كذا في رواية الكسائي وابن الحذاء، وعند العذري والسمرقندي مكان " يخبر جبريل " " يخبر خبرنا "، والصواب الأول ؛ بدليل سياق الكلام والحديث. وعلى الصواب وقع في كتاب البخاري، وتقدم الكلام على " ايم الله " فقها ولغة.
وقوله:« أسرعكن لحاقًا بي أطولكن يدًا »، بين أنه أراد بالصدقة، وهذا اللفظ يعبر به عن الكرم والجود. قال الإمام: قال أبو عبيد الهروي: يقال: فلان طويل اليد طويل الباع: إذا كان سمحًا جوادًا، وفي ضده: قصير اليد والباع، وجعد الأنامل.
قال القاضي: فكن يتطاولن: يريد: أن يتقايسن أيتهن أطول يدًا، أي جارحة، وكانت سودة أطولهن يدًا، وكانت تحسب ذلك حتى انكشف ذلك بموت زينب. وفيه من علامات نبرته أيضًا، وإعلامه بما يكون فكان كذلك.(8/131)
وقوله في حديث أم أيمن حين ناولت النبي عليه الصلاة والسلام إناء فيه شراب:" فلا أدري أصادفته صائِمًا أو لم يرده، فجعلت تصخب عليه وتذمر عليه "، معنى اتصخب: تصيح وترفع صوتها، وتذمر: أي تتكلم بكلام مغضب. قال الأصمعى: تذمر الرجل: إذا تغضب وتكلم أثناء ذلك. وقال غيره: تذمر الرجل: لام نفسه، يريد بالحديث أنها غضبت ولامته إذ ردّ ذلك عليها، ولم يشربه، وكانت منزلتها منه حيث علم، وحيث كان يقول: « أم أيمن أمي بعد أمي »؛ لأنها ربته وحضنته بعد موت أمه. وفي زيارة أبي بكر وعمر لها اقتداء بفعل النبي عليه الصلاة والسلام ومراعاة لأنسابه - عليه السلام - وحفظا لأهل وده. وفيه جواز زيارة النساء جماعة، وزيارة المتخالات منهن، ومحادثتهن.
وفي قوله:" كان عليه الصلاة والسلام لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزراجه إلا أم سليم "، فعل ذلك عليه الصلاة والسلام لتقتدي به أمته في تجنبه زيارة النساء والخلوة بهن، وأما أم سليم فقد جاء أنها كانت ذات محرم منه من الرضاع. وقد بينا هذا في الجهاد عند ذكر أختها أم حرام.
وقوله:" إني أرحمها، قتل أخوها معي »، مما كد عنده حقها، وأوجب تأسيها ور عا يتها.
وقوله فيها:« هذه الغميضاء »، كانت أم سليم تعرف بذلك بالرميصاء أيضًا، وكذا ذكره البخاري. قال الدارقطني: ويقال بالسين. قال أبو عمر بن عبد البر: أم سليم هي الغميضاء والرميصاء، وقيل: مشهور فيها الغين، وأما بالراء فاختها أم حرام بنت ملحان. وذكر أبو داود في رواية معمر في غزو البحر: أن أخت أم سليم الرميصاء . قال أبو داود: الرميصاء أخت أم سليم من الرضاعة، وهذا وهم، والأول الصواب، ولعله وصف لها ومعناهما متقارب.
قال صاحب العين: الغمص في العين غمص أبيض، تلفظه العين. وقال ابن دريد: غمصت العين من البكاء: إذا كثرت منه حتى انكسرت. والرمص: قذا يابس يجف في هدب العين.(8/132)
قوله:" فسمعت خشفة "، بسكرن الشين المعجمة، وبالخاء المعجمة، هي: حركة المشي وصوته، ومثله في حديث بلال الأخر:« سمعت خشف نعليك في الجنة »، وفي الرواية الأخرى:« ثم سمعت خشخشة أمامي، فإذا بلال »، الخشخشة: صوت الشيء اليابس إذا حك بعضه بعضًا.
قال الإمام: قال أبو عبيد: الخشفة: الصوت ليس بالشديد، يقال: خشف يخشف خشفًا: إذا سمعت له صوتًا أو حركة. وقال شمر: يقال: خشفة وخشفة. وقال الفراء: الخشفة الصوت الواحد، والخشفة: الحركة إذا وقع السيف على اللحم.
وقوله:« ثم سمعت خشخشة »، أي: حركة، قال الهروي: في حديث علي وفاطمة رضى الله / عنهما -: دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتخشخشنا، أي تحركنا.
قال القاضي: وحديث أبي طلحة مع زوجه أم سليم تقدم الكلام عليه في كتاب الأدب. وضربها له المثل بمن أعار عارية وما فعلته دليل على علمها وفضلها وصحة إيمانها ووفور عقلها. ويقال: إن الغلام الذي مات لها هو أبو عمير صاحب النفير.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام:« بارك الله لكما في غابر ليلتكما »، أي ماضيها. وفيه إجابة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام فيما ولد لهما في ذلك الوقت في الولد المذكور في الحديث الذي سماه النبي عليه الصلاة والسلام عبد الله، وولد لعبد الله عشرة كلهم حمل عنهم العلم، منهم إسحاق بن عبد الله الفقيه شيخ مالك بن أنس، ونالهم دعاء النبي عليه الصلاة والسلام لهما بالبركة في ليلتهما.
وقوله:" كان إذا أتى المدينة من سفر لا يطرقها طروقًا "، هو المجيء بالليل، وقد تقدم الكلام عليه والنهي عنه.
وقوله:" فضربها المخاض ": هو طلق الولادة. ومناجاة أبي طلحة ربه في ذلك وكراهيته تخلفه بعد النبي عليه الصلاة والسلام بسبب ذلك، وذهاب ما تجد امرأته حتى دخل مع النبي عليه الصلاة والسلام كرامة عظيمة لأبي طلحة. وبقية الحديث مض الكلام عليه.(8/133)
قال الإمام: وقوله:" ومعه ميسم "، والميسم: ما يوسم به البعير. والسمة: العلامة، ومنه قوله تعالى:{ سنسمه على الخرطوم }، أي سنجعل على أنفه سوادًا يوم القيامة يعرف به. وقيل: عبر عن الوجه بالخرطوم ؛ لأنه منه. والمعنى: سنسم وجهه. والخرطرم من الإنسان الأنف، ومن السباع موضع الشفة.
وذكر مسلم في فضائل بلال: حدثنا عبيد بن يعيش ومحمد بن العلاء، كذا لهم. وعند العذري: عبيد الله بن يعيش، وهو خطأ، إنما هو عبيد بن يعيش الكوفي أبو محمد. وسؤال النبي عليه الصلاة والسلام لبلال عن أرجى عمل عمله في الاسلام، وقوله:" إني لا أتطهر طهورًا تامًّا من ليل أو نهار، إلا صليت بذلك الطهر كما كتب لي"، دليل على فضل الصلاة وعظيم ثوابها.
وقوله:" فكنا حينًا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل البيت من كثرة دخولهم ولزومهم له "، قال الإمام: الحين: اسم كالوقت، يصلح لجميع الأزمان كلها، طالت أو قصرت. وقال ابن عرفة: هو القطعة من الدهر، كالساعة فما فوقها.
قال القاضي: وقوله: لما نزلت:{ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" قيل لي: أنت منهم "، يعني عبد الله بن مسعود، وله قال عليه الصلاة والسلام:« أنت منهم»، أي: من الذين امنوا وعملوا الصالحات الموصوفين بما في الآية.
وقوله: " في حلق أصحاب محمد " بفتح الحاء و اللام جمع حَلْقة بسكون اللام، قال الخطابي في جمعها: حِلق بكسر الحاء، مثل ندرة وندر. وقال الحربي: حلق بالفتح والسكون، مثل تمرة وتمر، والواحدة بالسكون وفتح الحاء لا غير، هذا المعروف، وحكى فيها فتح اللام.(8/134)
ذكر مسلم حديث ابن مسعرد أنه قال:{ ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة }، قال: على قراءة من تأمروني أن أقرأ، لقد قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعًا وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب محمد أني أعلمهم بكتاب الله، ولو أعلم أن أحدًا أعلم به مني لرحلت إليه "، فيه / ذكر الرجل حال نفسه، ومنزلته من العلم وشبهه من الفضائل إذا دعت إلى ذلك ضرورة. وليس من باب ثناء الإنسان على نفسه والإعجاب بها، وفيه الرحلة في العلم والتزيد منه.
قال القاضي: وهذا الحديث ملفق مختصر محذوف مبتور في "الأم"، إنما ذكر منه أطرافًا لا تشرح مقصد الحديث وبيانه في سياق آخر ذكره غيره بها يفهم المراد بقوله:{ ومن يغلل }، وبقوله:" ولقد قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعين سورة "، وقد كان ممن جمع القرآن، فروى ابن أبي خيثمة بسنده عن أبي وائل، وهو شقيق راوي الحديث في "الأم"، لما أمر في المصاحف بما أمر، يعني أمر عثمان بتحريقها، ما عدا المصحف المجتمع عليه الذي وجه منه النسخ إلى الآفاق، ورأى هو والصحابة أن بقاء تلك تُدخل اللبس والاختلاف.
ذكر ابن مسعود الغلول وتلا الآية، ثم قال: غلوا المصاحف، وفي طريق: إنِّي غال مصحفي، فمن استطاع أن يغل مصحفه فليفعل، فإن الله تعالى يقول:{ ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة }، ثم قال: على قراءة من تأمروني، أقرأ على قراءة زيد بن ثابت ؟ لقد أخذت من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعًا وسبعين سورة، وزيد بن ثابت له ذؤابتان يلعب مع الغلمان. وفي رواية أخرى: صبي من الصبيان، ودخل بعض الحديث في الآخر، فبتمام هذا الحديث يفهم كلام عبد الله وما في الكتاب لا يفهم منه هذا.(8/135)
قال الإمام: قوله: " قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعًا وسبعين سورة "، البضع والبضعة واحد، ومعناهما: القطعة من العدد، قال ابن السكيت: البضع والبضع لغتان بمعنى واحد في العدد، بكسر الباء وفتحها، وقال الهروي: العرب تستعمل البضع فيما بين الثلاث إلى التسع. وقال ابن الأنباري: قال قتادة: البضع يكون بين الثلاث والتسع والعشرة. وقال أبو عبيد: البضع ما بين ثلاث وخمس. وحكى عنه غير ابن الأنباري: البضع من الواحد إلى الأربعة. قال ابن الأنباري: وقال الأخفش: البضع من واحد إلى عشر. وقال الفراء: البضع ما دون العشرة. قال غير ابن الأنباري: قال ابن عباس: البضع من الثلاث إلى العشر. وقال مجاهد: من الثلاث إلى السبع.
وحكى ابن الأنباري: أن رسول الله ط قال لأبي بكر - رضي الله عنه - لما نزلت: {سيغلبون ( في بضع سنين }، البضع ما بين السبع والتسع. وقال ابن سلام في التفسير: فلما مضت سبع سنين ظفرت الروم على فارس. قال ابن الأنباري: ويقال في عدد المؤنث: بضع، وفي عدد المذكر: بضعة، فمجراه مجرى خمس وخمسة وست وستة. وقال: وأما البضعة من اللحم فمفتوحة الباء، وجمعها بضع وبضع. قال الهروي: البضاعة: القطعة من المال يتجر فيها. يقال: بضعت الشيء: أي قطعته. قال الزجاجى: البضانع: قطع الأموال، مثتق من البضع وهو القطع.
وقول شقيق:" فجلست في حلق أصحاب محمد، فما سمعت أحدًا يرد ذلك عليه ولا يعيبه "، يعني:يعيب فيه اعتراف الصحابة له بما قال ؛ من أنه لا يعلم أحدًا أعلم منه بكتاب الله.(8/136)
وقوله: " ما أعلم ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده أعلم بما أنزل إليه من هذا، يعني: ابن مسعود إنما خصه بما أنزله الله، كما قال، ويعلم القرآن. ولا يقال: إنه أعلم من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، على الجملة / وقد يكون أحد الرجلين أعلم من الآخر بالجملة، والأقل علمًا أعلم بباب من العلم، ألا تراه كيف قال عن نفسه في الحديث الآخر:" ولقد علم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أعلم بكتاب الله، وما من كتاب الله آية إلا أعلم فيمن نزلت، ولا سورة إلا أعلم حيث نزلت ".
وقوله:" خذوا القرآن من أربعة، وسماهم، ذلك - والله أعلم - لعلمه عليه الصلاة والسلام أن هؤلاء أضبط لألفاظه وأتقن لآدابه، وإن كان غيرهم من المتقنين فيه أيضًا، وأكثر فقها فيه منهم، أو يكون هؤلاء تفرغوا لأخذه عنه مشافهة عليه الصلاة والسلام، وبعضهم اقتصر على أخذه بعضهم من بعض، أو يكون هؤلاء انتصبوا لأن يؤخذ عنهم وتفرغوا لذلك، وغيرهم شغل نفسه بغير ذلك، وقد يكون هذا من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام وأمره بما أفضت إليه أحوال أصحابه، وإن كانوا في حياته يأخذون عنه القرآن كلهم، وباخذ بعضهم عن بعض، فاعلم أن هؤلاء بعده ممن يلجأ الناس إليهم في أخذ ألقرآن والقراءة عليهم، ومنتصبون لذلك رحم الله جميعهم.(8/137)
وقوله:" جمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة "، وذكر معاذًا وأبيًّا وزيد بن ثابت وأبا زيد، قال الإمام: هذا الحديث مما ذكره بعض الملحدة في مطاعنها وحاولت بذلك القدح في الئقة بنقل القرآن، ولا مستروح لها في ذلك ؛ لأنا لو سلمنا أن الأمر كما ظنوه وأنه لم يكمل القرآن سوى أربعة، فانه قد حفظ جميع أجزائه فيكون لا يحصون وما من شرط كونه متواترًا أن يحفظ الكل الكل، بل الشيء الكثير إذا روى عن جزء منه خلق كثير علم ضرورة وحصل متواترا، ولو أن ( قفا نبك، روى كل بيت مائه رجل مثلاً لم يحفظ كل مائة سوى البيت الذي روته لكانت متواترة، فهذا الجواب عن قدحهم.
وأما الجواب عن سؤال من سال عن وجه الحديث من الاسلاميين، فانه يقال له: قد علم ضرورة من تدين الصحابة - رضي الله عنهم - ومبادرتهم إلى الطاعات والقرب - التي هي أدنى منزلة من حفظ القرآن - ما يعلم منه أنه محال مع كثرتهم ألا يحفظه منهم إلا أربعة، كيف ونحن نرى أهل عصرنا يحفظه منهم ألوف لا تحصى مع نقص رغبتهم في الخير عن رغبة الصحابة - رضي الله عنهم -، فكيف بالصحابة على جلالة أقدارهم ؟ هذا معلوم بالعادة.
ووجه ثان وهو: أنا نعلم أن القرآن كان عندهم من البلاغة بحيث هو، وكان الكافرون في الجاهلية يعجبون من بلاغته ويحارون فيها، حتى ينسبوها تارة إلى السحر، وتارة إلى أساطير الأولين، ونحن نعلم من عادة العرب شدة حرصهم على الكلام البليغ وتحفظها له، ولم يكن لها شغل ولا صناعة سوى ذلك، فلو لم يكن للصحابة باعث على حفظ القرآن سوى هذا، لكان من أدل الدلائل على أن الخبر ليس على ظاهره.(8/138)
فإذا ثبت بهذين العادتين أن الخبر متأول، وثبت ذلك أيضًا بطريقة أخرى، وهي ما نقله أهل السير، وذكره أهل الأخبار ؛ من كثرة الحافظين له في زمان النبي عليه الصلاة والسلام، وقد عددنا من حفظنا منهم وسمينا نحو خمسة عشر صاحبًا، ممن نقل عنهم حفظ جميع القرآن في كتابنا " المترجم بقطع لسان النابح / في المترجم بالواضح "، وهو كتاب نقضنا فيه كلام رجل وصف نفسه بأنه كان من علماء المسلمين، ثم ارتد وأخذ يلفق قوادح في الاسلام، فنقضنا أقواله في هذا الكتاب، وأشبعنا القول في هذه المسألة، وضبطناه في أوراق، فمن أراد مطالعته فليقف عليه هناك.
وقد أشرنا فيه إلى تأويلات لهذا الخبر، وذكرنا اضطراب الرواة في هذا المعنى، فمنهم من زاد في هذا العدد، ومنهم من نقص منه ومنهم من أنكر أن يجمعه أحد، وأنه قد يتاول على أن المراد يعلم بجميعه: بجميع قراءاته السبع، وفقهه، وأحكامه والمنسوخ منه سرى أربعة.
ويحتمل أيضًا أن يراد به أنه لم يذكر أحد عن نفسه أنه أكمله في حياة النبي عليه الصلاة والسلام سوى هؤلاء الأربعة ؛ لأن من أكمله سواهم كان يتوقع نزول القرآن ما دام عليه الصلاة والسلام حيًّا، فقد لا يستجيز النطق بأنه أكمله واستجازه هؤلاء، ومرادهم أنهم أكملوا الحاصل منه.(8/139)
ويحتمل أيضًا أن يكون من سواهم لم ينطق بإكماله خوفًا من المراء اة به، واحتياطًا على النيات، كما يفعل الصالحون في كئير من العبادات، وأظهر هؤلاء الأربعة ذلك؛ لأنهم أمنوا على أنفسهم، أو لرأي اقتضى ذلك عندهم، وكيف تعرف النقلة أنه لم يكمله سوى أربعة ؟ وكيف يتصور الإحاطة بهذا وأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام متفرقون في البلاد ؟ وهذا لا يتصور حتى يلقى الناقل كل رجل منهم فيخبره عن نفسه أنه لم يكمل القرآن، وهذا بعيد تصوره في العادة، كيف وقد نقل الرواة إكمال بعض النساء لقراءته، رقد اشتهر حديث عائشة رضي الله عنها، وقولها:" كنت جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن"، ولم يذكر في هؤلاء الأربعة أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب رضى الله عنهما، وكيف يظن بهذين اللذين هما أفضل الصحابة أنهما لم يحفظاه وحفظه من سواهما ؟ وهذا كله يؤكد ما قلناه ؛ على أن الذي رواه مسلم ليس بنص جلي فيما أراده القادح، وذلك أنه قصارى ما ذكر أن أنسًا قال: " جمع القرآن على عهد النبي عليه الصلاة والسلام أربعة، كلهم من الأنصار " فقد يكون المراد: أنى لا أعلم سوى هؤلاء الأربعة، ولا يلزمه أن يعلم كل الحافظين لكتاب الله، أو يكون أراد من أكمله من الأنصار، وإن كان قد أكمله من المهاجرين خلق كثير، فإذا كان في الخبر هذه الطرانق الكثيرة التي أوضحناها لم يبق للخصم تعلق.
قال القاضي: لو لم يكن في بيان الغرض من هذا الحديث ورفع إشكاله إلا ما تواتر به الخبر أنه قتل يوم اليمامة في خلافة أبي بكر سبعون ممن جمع القرآن، وهي سنة وفاة النبي عليه الصلاة والسلام أول سنين خلافة أبي بكر الصديق، فانظر من بقى ممن جمعه ممن لم يقتل فيها، وممن لم يحضرها وبقي بالمدينة ومكة وغيرها من أرض الإسلام حيننذ.(8/140)
وقوله:" قلت لأنس: من أبو زيد ؟ قال: أحد عمومتي"، أبو زيد هذا هو سعد ابن عبيد بن النعمان الأوسي من بنى عمرو بن عوف، بدريًّا، يعرف بسعد القارئ، توفي شهيدًا بالقادسية سنة خمس عشرة، قال أبو عمر: هذا قول أهل الكوفة، وخالفهم غيرهم. قال أبو زيد: هذا هو قيس بن سكن الخزرجي، من بني عدي ابن النجار، بدري قال ابن عقبة /: قتل يوم جسر أبي عبيد سنة خمس عشرة.
وقوله عليه الصلاة والسلام لأبي - رضي الله عنه -:« إن الله قد أمرني أن أقرأ عليك القرآن »، الحديث، قال الإمام: مجمل هذا الحديث على أن الله سبحانه أمره أن يقرأ عليه ليعلمه لا ليعلم منه، س قد يعلم المعلم القرآن ويروي المحدث الحديث إما بقراءته على المتعلم، وتكرير ذلك عليه حتى يضبطه وهو أصل التعليم، أو بقراءة المتعلم عليه، وهي الحالة الثانية في التعليم، الذي يكون للضبط وأخبار حال المتعلم أو يكون المراد: أن الله عز وجل أمره بالقراءة عليه ليعلمه زينة القراءة، ومواضع المراقف، وصنعه النغم، فان نغمات القرآن على أسلوب ونظام قد ألفه أهل الشرع، وقرأه عليه، بخلاف ما سواها من النغم المستعملة فيما سواه، ولكل حزب من النغم تأثير في النفس يختص به، والى هذا أشار بعض أهل العلم في تأويل هذا الحديث.
قال القاضي: يرفع الاحتمال ما رواه ابن مجاهد عن ابن أبي سند رفعه، أنه قال: ليقرأ علي، فأخذ ألفاظه، فتفسير أبي له بذلك يقطع كل احتمال ؛ إذ هو المسمى المأمور به، المقروء عليه، العارف بسبب ذلك ومعناه، وبكى أبي لذلك بكاء سرور.(8/141)
وقوله:" اهتز عرش الرحمن "، قال الإمام: ذهب بعض أهل العلم إلى إجراء هذا الحديث عن حقيقته، وزعم أن العرش تحرك لموته، وهذا الذي قال لا ينكر من ناحية العقل ؛ لأن العرش جسم من الأجسام يقبل الحركة والسكون، ولكنه لا يحصل المراد به من تفضيل سعد، إلا أن نقول بأن حركة العرش علم على فضله عند الله تعالى، وأن الله سبحانه يحركه على عظمته ؛ إشعارا للملائكة بفضل هذا الميت فيصح.
وحمله بعض أهل العلم على أن المراد به حملة العرش، وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كما قال تعالى:{ واسأل القرية }، وقال عليه الصلاة والسلام في أحد:« جبل يحبنا ونحبه »، والمراد بهذين الأهل، ويكون الاهتزاز بمعنى الاستشعار والقبول، والعرب تقول: فلأن يهتز للمكارم، ولا يعني اضطراب جسمه، وإنما يعني ارتياحه إليها وقبوله عليها، وذلك مشهور في الأشعار.
وقال بعض أهل العلم: إن المراد بذلك السرير الذي حمل عليه سعد، وسمى ذلك عرشًا.
وما أدري هؤلاء تأولوا هذا إلا على ما وقع في بعض الروايات:" اهتز العرش "، فحذف اسم الرحمن جلت قدرته، وأما مع ذكر اسمه سبحانه وتعالى كما رواه مسلم فيبعد هذا التأويل.
قال القاضي: روى عن ابن عمر هنا: أن العرش هنا هو سرير الميت. وكذلك جاء في حديث البراء في الصحيح:" اهتز السرير "، وتأوله الهروي فراح بحمله عليه، وقد أنكر جابر بن عبد الله هذه اللفظة قديمًا في الحديث على قائلها، وتأول الحربي اهتز العرش، على تعظيم شأن وفاته، قال: والعرب تنسب الأمر إذا عظمته لأعظم الأشياء فيقولون: قامت لموت فلان القيامة، وأظلمت له الأرض. فحمله على مجاز الكلام.(8/142)
وقوله:" اهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلة حرير "، كذا جاء في حديث محمد بن المثنى وابن بشار بالحاء واللام، وفي غيره: " جبة " بالجيم والباء، وهو أوجه في كلام العرب، وعلى مذهب من يرى الحلة إنما هو لباس ثوبين يحل احدهما على الآخر، وأن الثوب المفرد لا يسمى حلة. ومن يذهب إلى أن الحلة هو الثوب الجديد / الذي حل من طيه فيصح، لكن جاء في السير: إنما قباء من ديباج مخوص بالذهب، وقد روى البخاري الوجهين " جبة "، و "حلة ".
وقوله:« لمناديل سعد في الجنة خير منها وألين »، إشارة إلى أن أدنى ثيابه هناك، لأن المناديل هو ما يمسح بها الأيدى وغيرها من الدنس والوسخ. والندل: الوسخ، ومنها اشتق اسمها.
وقوله:" وكان ينهى عن الحرير "، تقدم الكلام عليه و " أكيدر دومة " بفتح الدال وضمها، وأنكر ابن دريد في الجمهرة الفتح. وقال أهل اللغة بالضم، والمحدثون بالفتح، وهو خطأ، قيدناهما عن ابن سراج. قال ابن دريد:" ودومة الجندل "، مجتمعة ومستدارة. وقد ذكر الواقدي في هذا الحرف في حديثه:" دوما الجندل " هكذا.
قال القاضي: وهو من بلاد الشام، قرب تبوك، وكان أكيدر ملكها، وهو أكيدر بن عبد الملك الكندي، أسره خالد بن الوليد في غزوة تبوك، وسلبه هذه الحلة وكانت قباء من ديباح مخومر بالذهب، فأمنه النبي عليه الصلاة والسلام ورده إلى موضعه، وضرب عليه الجزية. وذكر الواقدي أنه أسلم، وكتب له النبي عليه الصلاة والسلام حين أسلم كتابًا ذكره.
وقوله:" فأجحم القوم "، الرواية هنا بتقديم الجيم، وتقول العرب أيضًا بتقديم الحاء، رهما بمعنى، قال الإمام: " أحجم القوم "، أي: تأخروا، ويقال: أجحمت عن الأمر: إذا تأخرت عنه.
قال القاضي: وقوله:" جيء مسجى "، أي: مغطى الجسد والرأس.
وقوله:" مجدعًا "، أي: مقطوع الأنف والأذن.(8/143)
وقوله:" تبكيه "، أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه، ظاهره أنه نص لفظ النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه قال للثالثة عليه:« ابكيه، أو لا تبكيه »، فقد حصل له من الفضل ما ذكر، على طريق التسلية لها والتسوية لفعلها، أو يكون المراد ب " تبكيه " لمصابك بمثله وزرتك به " أولاً تبكيه " لسرورك بما حصل له من الفضل. وقد يحتمل أن النبي عليه الصلاة والسلام، قال أحد اللفظين على هذا المعنى، وضك الراوي في أيهما قال.
وقوله:« تظله بأجنحتها »، يحتمل أن المراد: تزاحمها عليه ؛ لبشارته بفضل الله ورضاه وماله عنده ولكثرته، والكرامة له، أو لتظليله من حر الشمس لئلا يتغير جسمه وريحه.
قال الإمام: خرج مسلم في فضائل عبد الله بن حرام قال مسلم: حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا زكرياء، حدثنا عبيد الله، عن عبد الكريم، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، هكذا روى عن الجلودي والكسائي، وعند أبي العلاء وابن ماهان: عبد الكريم، عن محمد بن على، عن جابر، جعل بدل "محمد بن المنكدر " " محمد بن علي"، وهو ابن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ومن حديث محمد بن المنكدر، عن جابر خرَّجه أبو مسعود الدمشقي، قال بعضهم: وهو الصواب.
قال القاضي: قوله:" كان في مغزى له "، أي في سفر غزو.
وقوله في حديث جليبيب هذا:" فوضع في قبره ولم يذكر غسلاً "، حجة أنه لا يغسل الشهيد ؛ ولذلك لم يذكر فيه صلاة أيضًا.
قال الإمام: قوله:" فنثا علينا الذي قيل له "، أي أشاعه، يقاك: ثبوت الحديث أثبوه: إذا أذعته وأشعته /.
وقوله:" فقربنا صرمتنا "، الصرمة: القطعة من الإبل، وصاحبك مصرم. وقد تكون الصرمة في غير هذا القطعة من النخل، قال ابن السكيت: والصرم أبيات مجتمعة.(8/144)
وقوله: " نافر أنيس "، قال أبو عبيد: في هذا الحديث المنافرة: أن يفتخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه، ثم يحكما بينهما رجلان، وقال غيره: المنافرة: المحاكمة، تنافرنا فلان، أي تحاكمنا إليه أينا أعز نفرًا وأخير.
وقوله:" كأني خفاء "، قال أبو عبيد: الخفاء بمدود وهو الغطاء، وكل شيء غطيته بشيء من كساء أو ثوب أو غيره فذلك الغطاء، وهو الخفاء، وجمعه خفية.
وقوله:" على أقراء الشعر "، أي على طرقه وأنواعه، واحدها قرء، وهذا الشعر على قرء هذا أي على طريقته.
وقوله:" ليلة قمراء إضحيان "، أي مضيئة، حكى ابن عاصم في كتاب الأنوار: يقال: قمر إضحيان وليلة إضحيان، إذا كانت مضيئة بالقمر قال الهروي: وضحيا أيضًا، ويوم ضحيان.
وقوله:" فقدعني صاحبه "، أي كفني، يقال: قدعته وأقدعته، إذا كففته ومنعته.
وقوله:"قد شنفوا له "، أي أبغضوه، يقال: شنف له شنفًا: إذا أبغضه، والشنف:الشاني المبغض. قال صاحب الأفعال: شنفته بكسر النون، أي أبغضه، وأشنفت الجارية جعلت لها شنافًا.
وقوله: " فتنافرا إلى رجل من الكهان "، أي فتحاكما، يقال: نافرته نفارًا، أي حاكمته، قال زهير:
فإن الحق مقطعة ثلاث يمين أو نفار أو جلاء
وقوله:" كما أخذ سخفة الجوع "، يعني رقته وهزاله. قال أبو عمرو: السخف: رقة العيش، وأيضًا رقة العقل.(8/145)
وقوله:" فغار القوم "، يقال: ثار القوم يثورون. قال القاضي: أ معغاه هاجوا ونهضوا وتحركوا، وأثرت الأسد هجته، وأما ما ذكر عن أبي عمرو فإنما قيدناه في كتاب الهروي على شيخنا أبو الحسين، السخف: رقة العيش بالفتح، والسخف رقة العقل بالضم، وبالوجهين ضبطنا الحرف في الحديث في كتاب مسلم، وبقى في حديثه من الغريب والشرح ما يذكره من ذلك في الكاهن، فخير أنسيا - يعني عليه - على الآخر الذي تنافر معه وجعله خيرًا منه كما تقدم في شرح المنافرة. وعند العذري هنا:" فخبر " بباء بواحدة، وقيل:كذا في أصل الجلودي، وهو تصحيف. وكذلك قوله:" كأني خفا"، ورواه بعضهم عن ابن ماهان:"جفا "، بالجيم مضمومة، هو ما ألقاه السيل من غثائه وما احتمله، وله وجه لكن الأول أوجه وقد شرح. وقال ابن الأنباري: الخفا: كساء يلقى على الوطب.
وقوله:" على أقراء الشعر " بالراء، تقدم تفسيره، وكذا رواية السمرقندي والسجزي فيه وهو الصواب، وعند العذري والهروي:" إقوا " بالواو، قد رواه بعضهم بالواو وكسر الهمزة، ولا وجه له.
وقوله:" فما يلتئم على لسان أحد بعدي "، كذا الرواية عند جميع شيوخنا وفي أصولهم، وكتبنا عن بعضهم فجه: " تترى " في نسخة نجتح التاء، وهو خير، وأحسن منه يقرى بضمها، وهو مما تقدم، يقال: أقرأت في الشعر وهذا الشعر على قرئ هذا، وقرأته أي علي قافيته، وجمعها أقراء، وفي بعض النسخ أيضًا على لسان أحد يعزى إلى شعر ينسب إليه ويوصف به وله معنى، وللروايات كلها وجه.
وقوله:" فأتيت مكة فتضف رجلاً منهم، فقلت: أين هذا الذي تدعونه الصابئ ؟ " كذا رواية الجلودي، وعند ابن ماهان:" تضيف " بالياء ولا معنى لها في هذا الحديث، ورواه البزار في مسنده:" تصفحت "، والرواية الأولى أوجه، وهي الرواية التي ذكرها الشارحون.(8/146)
قال الهروي: معناه: استضعفته. قال القتبي: قد يدخل " استفعلت على بعض حروف " تفعلت " نحو تعظم واستعظم، وتكبر واستكبر، ومعناه: أنه لم يقدم على سؤال من يخشى منه ويتوقع أذاه، ألا تراه كيف لم يسلم منه مع هذا لما سم له ونبه الناس عليه، فقال: الصابئ، قال: فمال على أهل الوادي وأصحابه. الصباة: جمع صاب، مثل رام ورماة، ومن همز الصابئ جمعه صباه، مثل كاتب وكتبة، وكافر وكفرة، وكأنهم سهلوا الهمزة الأخرى ثم حذفوها. وكانت قريش لا تهمز، وقد قرئ بالوجهين: الصابون، والصابئون بالهمز وتركه، ومعناه: الخارج من دين إلى دين.
وقوله:" خررت مغشيًا علي، فارتفعت حين ارتفعت، كأني نصب أحمر "، يعني أنه سقط لما ناله من الضرب والرمي، وصار كأنه يصب من كثرة الرمي، وهي الحجارة التي كانت الجاهلية تذبح عليها لآلهتهم، وهي الأنصاب، والواحد نصب، ونصيب مسكن، ونصيب بالفتح أيضًا، ومعنى " ارتفعت " هنا: قمت. وقيل: معناه: ارتفع عني. فيه ما كان يلقى المؤمنون من أذى المشركين وصبرهم عليه، وفضل أبي ذر واستبصاره في الإسلام، وهداية الله له إليه من عنده وعنايته به.
وقوله:" لقد لبثت ثلاثين ما بين ليلة ويوم مالي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، أي: انطوت طاقات لحم بطنه، وهذا من بركة زمزم وفضلها.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك:« إنها طعام طعم »، هو من أسماء زمزم، ومعناه: يغنى شاربها عن الطعام، أي أنها تصلح للأكل. والطعم بالضم مصدر، وقيل: لعله طعم بالفتح، أي طعم شيئًا. والطعم شهوة الطعام، وقيل: لعله طعم بضم الطاء والعين، أي طعام طاعمين كثير في الأكل، ويكون طعم جمع طعوم، أي أنها تشبع من كثر أكله.
وقيل: يكون معناه: طعام مسمن، ومن أسمائها أيضًا: شفاء السقم، ومصونة، وبرة وطيبة، وشراب الأبرار، وهمزة جبريل أي غمزته بعقبه.?(8/147)
وقوله:" ليلة قمراء إضحيان "، أي: مقمرة، وهو إنما سمي قمرًا من الليلة الثالثة إلى أن يبدي، فإذا أخذ في النقص فهو قمير، قاله ابن دريد، وقد تقدم تفسير إضحيان وهو بمعناه، ورواه بعض شيوخنا: " ليلة قمر إضحيان" على الإضافة.
وقوله: " إذا ضرب على أصمختهم، أي: آذانهم، يريد بأصوات ناموا، قال الله تعالى:{ فضربنا على آذانهم }، أي: أنمناهم. وأصله: منعناهم السمع بنومهم ؛ لأن من نام لا يسمع، وواحدها صماخ، وهو ثقبها الغائر، ويقال بالسين أيضًا، حكاهما صاحب العين.
وقوله:" فما تناهتا عن قولهما "، أي: صرفهما وردهما.
وقوله:" هن مثل الخشبة غير أني لا أكني "، المعنى: / والهنة يعبر بها عن كل شيء وعن العورة، والمراد هنا الذكر، وإنما أراد بذلك سب أساف ونائلة وإاغاظة الكافرين بذلك.
وقوله:" فانصرفتا تولولان "، الولولة: صوت الدعاء بالويل، قاله صاحب العين.
وقوله:" لو كان أحد من أنفارنا "، جمع نفير أو نفر، أي من أنصارنا ورجالنا الذين ينفرون لدعائنا ونصرنا، وكذا جاء في رواية السمرقندي: "أنصارنا ".
وقوله:" فاستقبلهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وهما هابطان، قال: مالكما ؟ كذا في الأصل، وفي غيره مفسر " هابطان من الجبل "، وكذا ذكره البزار في مسنده.
وقوله:" قال له كلمة تملأ الفم "، أي عظيمة لاشيء بعدها، كالشيء الذي يملأ الشيء، ولا يسع معه غيره، أو يكون معناه: لايمكن ذكرها وحكايتها، وكأنها تسد فم حاكيها وتملؤه بالاستعظام لها فلا يقدر على حكايتها.
وقوله:" ثم غبرت ما غبرت "، أي: بقيت مابقيت.
وقوله:" أنه قد وجهت لي الأرض "، أي أريت جهتها.
وقوله:" ما بي رغبة عن دينك "، أي كراهة. رغبت عن كذا: كرهته وتركته، ورغبت فيه: حرصت عليه وأحببته.(8/148)
وقوله:" فاحتملنا حتى أتينا قومنا "، أي سرنا، وأصله من الحمولة والحملان، وهو ما يحمل عليه من الإبل، وإنما أمن رخصة بفتح الهمزة، ويقال: بكسرها أيضًا ممدود، ورحضه بفتح الراء والحاء المهملة والضاد المعجمة.
وقوله في الرواية الأخرى:" فلم يزل أخي أنيس يمدحه ويثنى عليه، قال: فأخفنا صرمته "، كذا للعذري، وفي رواية السمرقندي والسجزي:" يمدحه حتى غلبه "، قال بعض شيوخنا: هو الصواب، كأنه تصحيف من قوله: "ويثني عليه " وهو بمعنى قوله في الأولى:" فخبر أنيسًا "، وهو أحسن من رواية العذري ؛ إذ ليس فيها مايؤلف الكلام بعضه ببعض.
وقوله: فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال:« وعليك »، فيه جواز مثل هذا في الرد، رالمستحب ما استمر من عمله عليه الصلاة والسلام وعمل الصحابة، وما جاء في رد الملائكة على آدم من قولهم: " وعليك السلام "، ويستحب زيادة الرحمة والبركة على ما جاء في الحديث، قال الله تعالى:{ وإذا حييتم بتحية فحيوا بماحسن منها أو ردوها }، على تأويل الأكثر أنها تنزلت في السلام، وإن كان مالك قال: إنها في تشميت العاطس. قيل: يخبر منها قوله: عليك السلام ورحمة الله وبركاته،{ أو ردوها}، قيل: عليك السلام، كما قيل لك، وقيل غير هذا، وقد تقدم في حديث عائشة:« هذا جبريل يقرئك السلام »، فقالت: وعليه السلام ورحمة الله، واختار ابن عمر في الرد مثل فعل عائشة: عليك السلام. وقد تقدم الكلام على هذا في أحاديث السلام.
وقوله في الحديث الآخر لأخيه:" اركب إلى هذا الوادي "، يعني مكة فاعلم لي هذا الرجل، إلى قوله: " فانطلق الآخر "، كذا عنه لأكثر شيوخنا، وعند الجيانى:" فانطلق الأخ الآخر "، وهذا وهم والأشبه أنه الأخ عوضًا من الآخر، واجتماعهما بعيد الوجه ؛ لأنه إنما ذكر لأبي ذر في الخبر أخ واحد، فهذه الرواية تنبى أنهما اثنان غير أبي ذر.(8/149)
وقوله:" ما شفيتني فيما أردت "، كذا ذكره مسلم، ورواه البخاري: "مما أوردت "، أي: ما بلغتني غرض وسكنت نفسي مما أردته من معرفة النبي عليه الصلاة والسلام، وهي أوجه في الكلام ولرواية مسلم وجه: أي ما شفيتني من التقصي فيما وجهتك فيه، والشنة: القربة البالية.
وقوله:" فأدركه الليل "، أي: غثيه.
وقوله:" فرآه على فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه "، كذا هنا. وفي كتاب البخاري من رواية الأصيلي:" اتبعه "، وهو عندي أليق، وأشبه بمساق الكلام، أي قال له: اتبعني، ويكون بسكون التاء، قال: " وإذا اتبع أحدكم على ملئ ".
وقول علي له:" أما آن للرجل "، وعند بعضهم:" أنى للرجل "، وهما بمعنى، أي ما حان، قال الله تعالى:{ ألم يأن للذين آمنوا }، أي: ألم يحن، يقال: أنى الشيء، وآن: حان، ونال أيضًا بمعنى.
وقوله:" فانطلق يقفوه "، أي: يتبعه.
وقوله:" لأصرخن بها بين ظهرانيهم "، أي: بينهم، ويقال: " بين ظهريهم " أيضًا.
وقولة أبي بكر:" أتحفني بضيافته الليلة "، أي خصني بذلك كما يخص الإنسان بالتحفة والطرفة.
وقوله: ذو " الخلصة " بفتح الخاء واللام، ويقال أيضًا: " الخلصة " بضمها، وبالوجهين ضبطناه على أبي الحسين، وضبطناه على أبي بكر بفتح الخاء وسكون اللام. فسره في الحديث: " بيت لخثعم، كان يدعى الكعبة اليمانية "، وفي غير مسلم:" فيه صنم لها "، وفي البخاري:" بيت لخثعم، فيه نصب لها ".(8/150)
وقوله في حديث عبد الحميد بن بيان عن خالد عن البيان: كان في الجاهلية، بيت يقال له: ذو الخلصة، وكان يقال له الكعبة اليمانية والكعبة الشامية، ثم قال: " هل أنت مريحى من ذى الخلصة والكعبة اليمانية والكعبة الشامية، فيه حذف أولاً، ووهم آخرًا، وصوابه: ولا يقال له الكعبة اليمانية والكعبة الشامية، أي وسمى الكعبة التي بمكة الكعبة الشامية وهذه الكعبة الشامية بدليل قوله في الرواية الأخرى:" وكانت تدعى الكعبة اليمانية" ولم يزد، وأما ذكره آخر الكعبة اليمانية والشامية فوهم وغلط، وزيادة كلها خطأ، وقد ذكره البخاري بهذا السند، وليس فيه هذه الزيادة والوهم.
وقوله:" ثم بعث جرير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يبشره "، فيه توجيه البشر.
وقوله:" ما جئتك حتى تركناها وكأنها جمل أجرب "، أي مطلي بالقطران لأجل ما به من الجرب، فصار أسود لذلك، يعني أنها سوداء من إحراقها بالنار. وفيه إجابة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام لجرير بأن يثبته الله إذ شكا إليه أنه لا يثبت على الخيل .
وقوله:" ما حجبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي"، فيه بر أشراف الناس وحسن لقائهم؛ لأن جريرًا كان كبيرًا في قومه.
قال الإمام: وخرج مسلم أيضًا فضائل جرير بن عبد الله البجلي قال فجاء بشير جرير أبو أرطاة حسين بن ربيعة، هكذا وقع في بعض النسخ بالسين، وكذا وقع عند الجلودي والكسائي، وروايتهما: " حسين " بالسين أيضًا. قال بعضهم: وليس بشيء ووقع عند ابن ماهان وحد:" حصين " بالصاد المهملة وهو الصواب.
وقال القاضي: وفي فضائل ابن عباس حديث زهير بن حرب وأبو بكر بن النضر، كذا / لهم، وعند العذري بن أبي النضر، وكلاهما صحيح، هو أبو بكر بن النضر بن أبي النضر هاشم بن القاسم، واختلف في اسمه، فسماه الحاكم أحمد وسماه الكلاباذي محمدًا.(8/151)
وفي فضائل أنس دعوة النبي عليه الصلاة والسلام له بأن يكثر الله ماله وولده، وقول أنس: فإن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون في نحو المائة اليوم، فيه جواز الدعاء بهذا، وحجة لفضل الغني ومن يفضله، لم أجابة دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، ومعنى " يتعادون ": يتفاعلون من العدد.
وقوله: " قطعة إستبرق "، وهو ما غلظ من الديباج، وقيل: هو فارسي معرب.
قوله:" قرنا البئر "، الخشبتان اللتان عليهما الخطاف، وهو الحديدة التي في جانب البكرة. قال ابن دريد: قال الخليل: هو ما يبني حول البئر فيوضع عليه الخشبة التي يدور عليها المحور، وهي الحديدة التي تدور عليها البكرة، وهو نحو ما تقدم.
وقوله: حدثنا موسى بن خالد ختن الفريابي، كذا عند شيوخنا، ورواه بعضهم: موسى بن خالد بن الفرياني، وهو خطم، يقال: الغرياني والفريابي، منسوب إلى مدينه فرياب.
وقوله:" لم يرع "، أي لم يخف، ولا يرى فزعًا. هذا ظاهره، لكن روى بقى بن مخلد عن ابن أبي شيبة، وفيه:" فرأى كان ملكًا انطلق به إلى النار، فلقيه آخر فقال: لم ترع، ولا أرى هذه الرواية إلا وهما. " ورع " بمعنى كف، ولا وجه له هنا.
وقوله في فضائل عبد الله بن سلام: " فصلى ركعتين يتجوز فيهما ثم خرج فالبعته "، كذا رواه مسلم، وفيه نقص ، وصوابه وتمامه ما في كتاب البخاري: "ركعتين تجوز فيهما "، وعند ابن ماهان: يعني تجوز فيهما، ومعناه: خففهما.
وقوله: " فجاءني منصف لما بكسر الميم وفتح الصاد، ويقال بفتح الميم أيضًا، فسره في الحديث بالخادم والوصيف، وهو صحيح. قالوا: هو الوصيف الصغير المدرك للخدمة.(8/152)
وقوله: " فرقيت " بكسر القاف: اى صعدت، وهي اللغة الفصيحة في هذا، وقد قيل فيه بفتح القاف، وقد جاء في الروايتين في "مسلم" و"الموطأ" وغيرهما في غير هذا الموضع، وشهادة هؤلاء لعبد الله بن سلام أنه من أهل الجنة وليس في الحديث الذي ذكره عن النبي عليه الصلاة والسلام إلا أنه أخبر أنه يموت على الإسلام والاعتصام بعروته الوثقى، حجة على اتفاقهم على مذهب أهل السنة، أنه من مات على الإسلام فهو من أهل الجنة على كل حال، وان كان من العاصين، وأن الله لا يحرم عليه الجنة، وأمره بعد إلى الله تعالى، إن شاء عاقبه قبل دخوله الجنة، وإن شاء عفا عنه.
وفيه أنه لا يقطع بالجنة إلا لمن أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بحاله في ذلك، من موته على الإسلام، وأنه من أهل الجنة إذ الخاتمة مغيبة عنا، لكن قد ذكر مسلم من رواية سعد ابن أبي وقاص:" ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحي يمشى أنه من أهل الجنة، إلا لعبد الله بن سلام "، فلعل هؤلاء بلغهم خبر سعد ولم يبلغ ذلك عبد الله بن سلام، أو لم يرد ذكره خبرًا وتسترا.
وقول عبد الله بن سلام:" ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم "، على طريق التواضع وكراهة الشهرة، أو لقطعهم على ذلك من جهة الدليل لا من جهة النص، كما تقدم.
وقوله:" فإذا أنا بجواد "، جمع جادة، وهي الطرق البينة المسلوكة، مشددة الدال، وقد تخفف، قاله صاحب العين.
وقوله: " جواد منهج "، أي ظاهرة، وطريق منهج ومنهاج ونهج، أي ظاهرة بينة.
وقوله:" فزجل بي " بالزاى والجيم، أي:رماني، وأكثر ما يستعمل في الشيء الدحور . " وزحل " بالحاء المهملة قريب فه، رحلت الشيء: نحيته وأبعدته.(8/153)
قوله عن حسان وإنشاده الشعر في المسجد، وقوله لعمر: " كنت أنشد، وفيه خير منك "، يعني النبي عليه الصلاة والسلام، فيه جواز مثل هذا إذا كان لوجه من وجوه الدين، فإنشاد حسان فيه إنما كان مما يهجو به عدو الإسلام، ويمدح به النبي عليه الصلاة والسلام وينافح به عنه عليه الصلاة والسلام بالتأييد في ذلك، وما كان بعده أيضًا عليه الصلاة والسلام فمن هذا ونحوه. لكنه يكره الإكثار منه من غير ما ذكرنا قبل، ومما ليس فيه ذكر الله، ولا هو من باب العلم للاستشهاد على تفسير القرآن والحديث، ولهذا ماكره عمر ذلك من حسان إذ أراه من لنو الكلام، ولم يكن مما قدمناه، وحسان احتج بقول النبي عليه الصلاة والسلام له:« أجب عني، اللهم أيده بروح القدس »، يعني جبريل، وذلك كان في حياته عليه الصلاة والسلام المرجوة التي ذكرناها، وللإجابة عنه لمن تعرض له بالأذى، ولقوله:" اهجهم أوهاجهم وجبريل معك ".
وفيه جواز الانتصار من الغرض وغيره، مما يقدر عليه من الكفار وغيرهم. وقد قال تعالى:{ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به }، وقال: { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل }.
وقوله:" كان ينافح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، أي: يخاصم ويناضل، من النفح وهو الرفع. قال الإمام: أي يدافع ويذب، يقال: نفحت الدابة برجلها: إذا رمحت.
قال القاضي: وفي قوله: " ينافح " دليل على أنه إنما كان انتصارًا لتقدم هجوهم للنبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين.
و قول حسان:
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
قال الإمام: يقال: أمرأة حصان بفتح الحاء: بينة الحصن، إذا كانت عفيفة. وقوله:" حصان " بكسرها بين التحصين، إذا كان نحيبًا وبناء حصين: بين الحصانة، إذا كان محكما منيعا، أو يقال: رجل رزين، أي: خصيف العقل، وامرأة رزان.(8/154)
وقوله:" لا تزن بريبة "، أي لا تتهم بريبة، يقال: أزننت الرجل بالشراء: إذا اتهمته به، قال صاحب الأفعال: يقال: زننت الرجل وأزننته: إذا، ?ظننت به خيرًا أو شرًّا أو بنسبتهما إليه.
وقوله:" غرثى "، يعني جائعة، يقال: رجل غرثان وامرأة غرثاء، يريد انها لا تغتاب الناس فتكون بمنزلة من تكل لحومهم وتشبع منها، لكنها غرثى جائعة منها.
قال القاضي: وقول حسان في أبي سفيان بن الحارث:
وإن سنام المجد من آل هاشم بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
ولم يذكر منها مسلم إلا هذا البيت، ولا تتم به الفائدة، وبعده قوله:
ومن ولدت أبناء زهرة منهموا كرام ولم يقرب عجائزك المجد
يريد بابنة مخزوم: فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم أم عبدالله والزبير وأبي طالب.
وقوله:" ومن ولدت أبناء زهرة منهم "، يريد: هالة بنت وهيب بن عبدمناف بن زهرة أم حمزة وصفية.
وأما قوله:" ووالدك العبد "، يريد: أن أم الحارث بن عبد المطلب والد أبي سفيان / هنا سمية بنت موهوب، وكانت سمية من بنى سراة بن عامر بن صصعة، وموهب غلام لبنى عبد مناف، وقيل: إن سمية أم أبي سفيان نفسه وسمراء أم أبيه، وهو مراده بقوله:" ولم يقرب عجائزك المجد ".
وقوله:" لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من الخمير"، يريد: العجين المخمر، وقد قال في رواية أخرى:" العجين " يريد: لا تلطفن في تخليص نسبك منهم حتى لا يغمك هجرى لهم، ولا يلحق لا بك سبي إياهم، كما يتلطف في إخراج الشعرة من العجين ؛ لئلا ينقطع فيبقى فيه. وخص الخمير لأنه ألين وأهيا لإخراج الشعرة منه من الفطير لقرحته وشدة عجينه.
وقوله:« اهجهم، فهي أشد عليهم من رشق النبل »، بفتح الراء، هو رميها، والاسم من ذلك بكسر الراء، وهو رمى السهام على يد واحدة، لا يتقدم منها شيء على الأخر. وفيه جواز هجو المشركين وأذاهم بكل ما يقدر عليه، وجواز سبهم وشتمهم في وجوههم وظهورهم. وأنه لا غيبة في كافر، ولا فاسق معلن بفسقه.(8/155)
وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك وتوجيهه فيهم وأنه لم يرضه قول بعضهم حتى وجه لحسان فكلمه في طلب النكاية فيهم، وكف أذاهم بهجوهم المسلمين إذا علموا أنهم يجازون على قولهم، ويجابون عن أشعارهم، وإلا فلم يكن عليه الصلاة والسلام فحاشا، ولا يأمر بالفحش، لكن لما ذكرناه من كف أذاهم ونكايتهم بذلك، وقد قال تعالى:{ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم }، ولذلك يجب ألا يبتدأ المشركين بالسب والهجاء مخافة هذا، وتنزيها لألسنة المسلمين عن الفحش، إلا أن يدعوا إلى ذلك ضرورة لابتدائهم به لكف أذاهم ومجازاتهم.
وقوله:" قد آن لكم "، أي حان لكم " أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه "، يريد: لسانه. وشبهه بانتقامه وبطشه بالأسد إذا ضرب واغتاظ، وحينئذ يضرب بذنبه جنبيه كما مثل حسان ذلك بلسانه بقوله: "ثم ادلع لسانه فجعل يحركه "، وهذا يدل أن مراده بالأسد اللسان، وقد يحتمل أنه أراد بالأسد نفسه، وبذنبه لسانه. ومعنى:" أدلع لسانه ": أخرجه، يقال: أدلع لسانه ودلعه، ودلع اللسان نفسه إذا اخرجه عن الشفتين.
وقوله:" لأفرينهم بلساني فري الأديم "، أي: لأمزقن أعراضهم تمزيقًا وتقطيعًا كقطع الجلد.
قال الإمام: أي لأقطعنهم قطع الجلد، قال صاحب الأفعال: فريت الأديم: قطعته على جهة الإصلاح، والتغدير: فأفريت الشيء، قطعته على جهة الإفساد. وأفريت أيضًا: شققته.
قال القاضي: وقوله - عليه السلام -:" هجاهم حسان، فشفى واشتفى "، أي شفى المؤمنين من الغم والهم بهجوهم لهم وكف أذاهم، وشفي هو أيضًا نفسه من ذلك. وأصله في المرض، ويستعمل في غيره، ورواه أبو عبيد الهروي:" وأشفى"، أي جعل هجوه شفاء للمؤمنين، يقال: أشفيت المريض: إذا جعلت له دواء يشفيه وطلبته له.
وقوله في شعرة المهموز الذي ذكره مسلم:
هجوت محمدًا برًّا تقيًا
ويروى:
هجوت مباركًا برًّا حنيفًا(8/156)
والبر: الواسع الخير والنفع، وهو من البر بالكسر، وهو الاتساع في الإحسان، وهو اسم جامع للخير كله، ويكون البر هنا أيضًا بمعنى التقي المنزه عن المأثم، ومنه بيع مبرور: إذا لم يخالطه كذب ولا غش، وحج مبرور: إذا لم يخالطه مأثم، ومعنى:"حنيفًا" في الرواية الأخرى: أي مستقيمًا، والحنف: الاستقامة، وسمي المائل الرجل: أحنف، على طريق التفاؤل، وقيل: بل أصل الحنف: الميل، والحنيف: المائل إلى الشيء، والمسلم حنف وملة إبراهيم الحنيفية، لميلها إلى الرشد والخير، والحنيف أيضًا: الذي على دين إبراهيم وملته.
وقوله: شيمته الوفاء، أي: خلقه، والشيمة: الخلق. وقوله: فإن أبي ووالده وعرضس لعرض محمد منكم وفاء مما احتج به ابن قتيبة على أن عرض الرجل نفسه لا أسلافه لأنه قد ذكر اسلافه مع عرضه وغيره يأبى ذلك، ويذهب إلى أن عرض الرجل اموره كلها التي يحمد بها ويذم من نفسه وأسلافه وكل ما لحقه نقص يعيبه، وحجتهم: قول مسكين الدارمي:
رُبّ مهزول سمين عرضه وسمين الجسم مهزول الحسب
فقد أراد هنا بالعرض الحسب، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام: «كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه »، فالدم كناية عن النفس، والعرض كناية عن أذاه بالقول. ومعنى "وقاء ": الوقاء ممدود، والوقاية ما وقيت به الشيء وسترته مما يصيبه.
وقوله:" ثكلت وفقدت نفسي"، أي: عدمت وفقدت، و" تثير النقع": أي يقيم الغبار ويهيجه.
وقوله:" موعدها كداء "، كذا رواه العذري ولغيره:" من كنفي كداء"، اى من جانبيها. ورواه بعضهم:" غايتها كداء ". وكداء موضع ذكرناه في الحج.
وقوله: " ينازعن الأعنة "، ويروى:" يبارين "، وهو الذي عند أكثر شيوخنا، والمراد أنها لصرامتها وقوة نفوسها تضاهي أعنتها بقوة جبذها لها، وهي منازعتها لها أيضًا، كما قال الآخر:
وعض على بلس اللجام وعزنى على أمره اذود اهل الحقائق(8/157)
وقد يكون ذلك في معنى علكها لها ومضغها إياها، وحمل قوتها لقوة الحديد، ومباراة صلابة أضراسها وقوة رؤوسها لصلابته، كما قال: وخيل تهلك اللجماء، وقد تكون مباراتها لها في انعطافها لينها وصبورها. ووقع في رواية ابن الحذاء:" مبارين الأسنة ": وهي الرماح. فإن صحت هذه الرواية بمعناها أنهن يضاهين قوامها واعتدالها وعلو هوادجها.
وقوله:" مصعدات "، أي مقبلات إليكم متوجهات، يقال: يصعد في الأرض، إذا ذهب مبتديًا للذهاب، ولا يقال ذلك في الرجوع، ومنه:{ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد }، أما في صعود الجبل فيقال: صعد وأصعد، ووقع في بعض الروايات: "مصغات "، وله وجه من الإصغاء والاستماع، أي إنها لحدة نفوسها مستمعة، والخيل ترصف بذلك، وفي المثل: أسمع من فرس. وقد جاء بهذا اللفظ في شعر كعب بن مالك:
ينازعن الأعنة مصغيات إذا نادى إلى الفزع المنادي
وقوله:
على أكتافها الأسل الظماء
الأسل: الرماح، ومعنى الظماء هنا: الرقاق، واللدنة كما سموها ذو إبل، يقال: عير ظمى، أي رقيقة الخفر، ووجه ظمآن: قليل اللحم والماء، وأصله من الظماء، وهو العطش، فكانت هذه لقلة مائها عاطشة. وقد يكون مراده بالأسل الظماء هاهنا: العاطشة بدماء الأعادى، وهذا مما استعمله العرب في الرماح والسيوف، كما قال:
وقد نهلت منا المنفقة بالشمر
ووقع في بعض الروايات:.الأسد الظما: أ أي الرجال المشبهون بالأسد الظمأ إلى دمائكم.
وقوله:" متمطرات"، أي سراع يسابق بعضها بعض.
وقوله:
تلطمهن بالخمر النساء
أي: تضربنها بخمرهن ليذهبن الغبار عنها، ويمسحنها بذلك لعزتها، والخمر: جمع خمار، كذا رويناه. رذكره الخليل:" تطلمهن "، بتقدة الطاء، بمعنى ما تقدم من نفض الغبار عنها، قال ابن دريد: الطلم: ضم الخبزة بيدك لتنفض ما عليها من غبار. قال لي شيخي أبو الحسين:ويروى:" بالخمر " بفتح الميم جمع خمرة، وهي شبه حصير صغير تخمر وجه المصلى إذا سجد عليها.(8/158)
وقوله:" عرضتها اللقاء " بضم العين: أي قصدها ومذهبها، يقال: اعترضت عرضه، أي قصدت قصده ونحوت نحوه. وقد يكون "عرضها " بمعنى صولتها وقوتها في اللقاء، يقال: فلان عرضه لكذا، أي قرى عليه.
وقوله في حديث أبي هريرة:" فإذا الباب مجاف "، أي مغلق، و" خشف قدمي"، أي: صوت وقعهما بالأرض، وقد فسرناه قبل، و" خضخضة الماء": صوت تحريكه، وفي خبر أبي هريرة إجابة دعوة النبي عليه الصلاة والسلام لأمه.
وقول عائشة:" ألا يعجبك أبو هريرة جاء الحديث "، وكذا ضبطناه عن بعض شيوخنا، ومعناه: ألا نريك العجب أو نسمعك العجب من شأن أبي هريرة، وأبو هريرة هنا مبتدأ، وفي بعض الروايات: " يعجبك أبو هريرة "، وهو هنا فاعل أي تريد العجب من شأنه، والأول أصح. وقد رويناه في "البخاري":" ألا أعجبك ".
وقولها: " كنت أسبح فقام قبل أن أقض سبحتي "، تعنى سبحة الضحى.
قولها:" إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسرد الحديث كسردكم "، يعني يكثره ويتابعه.
وقول أبي هريرة: " والله الموعد "، أي لقاء الله ومجازاة الله، ويحتمل أن يريد: وعند الله المجتمع لموعده الحق. وهناك تفتضح السرائر، ويجازى كل أحد بعمله.
وقوله:" وينصفه من صاحبه "، وذلك لما قيل: إنه أكثر وعيًا بذلك. قال الإمام: وقوله:" شغلهم الصفق بالأسواق "، قال الهروي: يقال: صفق القوم على الأمر، وصفقوا بالسعي والسعة.
قال القاضي: أصله من تصفيق الأيدي بعضها على بعض بين المتبايعين، أو عاقدي البيعة عند عقدهم.
وقوله عليه الصلاة والسلام:« من يبسط ثوبه فيأخذ مني حديثي هذا ثم يجمعه إلى صدره، فإنه لن ينسى شيئًا سمعه »، وفعل أبو هريرة ذلك، زاد في البخاري:" وجعل يغرف لي بثوبه "، ثم قال:" فما نسيت شيئًا بعد "، من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام.
وقول أبي هريرة:" فبسطت بردة على "، قال الإمام: قال شمر: البردة هي الشملة المخططة، وجمعها برد، وهي النمرة.(8/159)
قال القاضي: وقوله:" كنت ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني "، أي: ألازمه ليطعمني مما عنده ؛ إذ لم يكن له مال، وكان من ضعفاء المسلمين وأهل الصفة.
وقوله:" حتى يأتوا روضة خاخ "، بخائين معجمتين: موضع قرب حمراء الأسد من المدينة. وحكا بعضهم أنه قرب مكة، ورواه البخاري من رواية أبي عوانة:" روضة حاج " بالحاء المهملة والجيم، وهو وهم، والصواب ما تقدم أولاً، " فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه "، يريد امرأة، واسمها سارة، مولاة عمران بن أبي صيفي.
قال الإمام: الظعينة: الهودج، وسميت المرأة ظعينة لأنها تكون فيه. قال القاضي: فيه علم من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام. وفيه جواز التجسس على الجواسيس، وممن يبغى ضرر المسلمين، وجواز الاطلاع على كتبهم.
وقوله:" فانطلقنا تعادي بنا خيلنا "، أي: تجرى. والعادية: الخيل تعدو عدوًا، أي تجري، والعداء ممدود بفتح العين وكسرها: الطلق من الجري.
وقولها:" فأخرجته من عقاصها "، أي: من ضفير رأسها. وقول عمر: " دعنى اضرب عنقه "، حجة في جواز قتل الجاسوس المسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر ذلك من قول عمر، وإنما عذره بغفران الله لأهل بدر ذنوبهم ؛ ولأنه لم يكن منه قبل مثلها، فيه حجة لمن لا يرى أن حده القتل بكل حال، وأن للإمام اجتهاد فيه ألا يقتله، وهو قول مالك.(8/160)
قال الإمام: اختلف المذهب في المسلم يطلع عليه أنه جاسوس على المسلمين. فقال مالك: يجتهد فيه الإمام، وقال ابن وهب: يقتل إلا أن يتوب. وقال ابن القاسم: يقتل ولا أعرف له توبة. وفرق عبد الملك بين من عرف بالغفلة وكانت منه مرة، وليس من أهل الطعن على أهل الإسلام، وبين المعتاد كذلك، فقتل من اعتاد ذلك، ونكل الآخر. وقال سحنون: قال بعض أصحابنا: يجلد جلدًا منكلاً، ويطال حبسه، وينفى عن موضع يقرب فيه من المشركين. واختار بعض شيوخنا اعتبار ما كان من فعله، فإن قتل المسلمون بفعله ولولاه لم يقتلوا، قيل: وإن لم يقتلوا عوقب، وإن خشى أن يعود لمثلها خلد في السجن.
ومذهب الشافعي: التجافي عن ذى الهيئة الغير متهم، الفاعل ذلك بجهالة، ويحتج في مثل هذه الصورة بحديث حاطب، ولعل من أمر بقتله من أصحابنا رآه كالمحارب الذي طال أمره، وأراق الدماء لعظيم ضرر هذا بالمسلمين، فيقتل إلا ان يتوب، ومن لم تثبت التوبة له رآه كالزنديق والساحر، لما كانا مصرين لفعلهما لم يقبل توبتهما، وكذلك هذا لما كان مصرا لفعله ومن يره بالمحارب ؛ لأنه لم يباشر الفعل، وإنما صار كالمغري بذلك، أو الامر به من لا يلزمه طاعته فلا يستوجب القتل.
ومن فرق بين المعتاد وغيره رأى أن باعتياده يعظم جرمه، ويشتد ضرره، فيحسن قياسه على المحارب لم اذا كانت منه الغلبة لم يحسن قياسها على المحارب، وتجافي الشافعي عن ذى الهيئة الغير متهم أخذا بظاهر حديث حاطب ؛ ولأن الاجتهاد إذا أدى إلى إقالة عثرة مثل هذا لم يكن تضييعًا ولا تفريطًا.(8/161)
ولما رأى مالك تفاوت الجرم بتفاوت أحوال ما يجني من ثمرته لم يمكنه تعيين حد فيه، رصرفه للاجتهاد على حسب ما حكيناه عنه، هذا وجه اختلاف هذه الأقوال، والذي يظهر وإن حديث حاطب لا يستقل حجة فيما نحن فيه؛ لأنه اعتذر عن نفسه بالعذر الذي ذكر، فقال عليه الصلاة والسلام: "صدق "، فقطع على تصديق حاطب لتصديق النبي عليه الصلاة والسلام له، وغيره من يتجسس لا يقطع على سلامة باطنه، ولا يتيقن صدقه فيما يعتذر به، فصار ما وقع في الحديث قصة مقصورة لا تجرى فيما سواها ؛ إذ لم يعلم الصدق فيه كما علم فيها، و يتنزل هذا عندي منزلة ما قاله العلماء من أهل الأصول في الحكم إذا كان معللاً بعلة معينة ج فإنه لا يقاس عليه لتعليله عليه الصلاة والسلام في المحرم، فإنه يحشر ملبيًا، إلى غير ذلك مما ذكرناه في موضعه مما تقدم في هذا الكتاب.
ولو كان من اطلع على تجسسه كافرًا، فإن كان ذميًّا علم أنه عين لهم مكاتبهم بأمر المسلمين انتقض عهده. وقال سحنون: يقتل ليكون نكالاً، وإن كان حربيًّا نزل بأمان سقط ما كان له من الأمان، وللإمام قتله أو استرقاقه. قال سحنون: ولا يخير فيه إلا أن يسلم، ولا يقتل ويبقى كأسير أسلم.
قال القاضي: وقوله:« وما يدريك، لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شنتم فقد غفرت لكم »، لا دليل فيه أن غفران الذنب في الآخرة لا يسقطه حده في الدنيا، بدليل حد النبي عليه الصلاة والسلام ماعزًا والغامدية، وقد أخبر بتوبتهما، والتوبة مسقطة للعقاب، وبإجماع الأمة على إقامة الحدود على كل مذنب، فأقام عمر الحد على بعضهم، وضرب النبي عليه الصلاة والسلام مسطحًا الحد وكان بدريًّا. قال الطبري: ومن ظن أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما ترك إقامة الحد؛ لأن الله أعلمه بصدقه فقد ظن خطأ؛ لأن أحكامه إنما كانت تجرى على الظاهر، كما حكم بالظاهر في المنافقين وقد أعلمه الله بنفاقهم، وأطلعه عليه من سرائرهم.(8/162)
وفيه من الفقه: هتك ستر المذنب، إذا كان في ذلك بعض عقوبته، وفيه أن التجسس لا يخرج عن الإيمان، وأنه لا يتسور أحد على إقامة حد، ولا قتل من وجب قتله إلا بإذن الإمام، وفيه إشارة الوزير على السلطان بالرأي، والاشتداد على أهل المعاصي بالقول والفعل وتاديبهم بالذنب واباحه ذلك.
وقول النبي - عليه الصلاة والسلام -: " لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد على معنى القطع لهم بذلك، بدليل قوله بعد:« لا يدخلها من شهد بدرًا والحديبية »، يعني النار، فهو أقطع منه عليه الصلاة والسلام بالجنة لها ولا على كل حال.
ومعنى قوله:« وإنا إن شاء الله بكم لاحقون »، قد تكلمنا عليه وعلى وجوهه، ولقوله:{ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا ( إلا أن يشاء الله}.
وقول حفصة: بلى، وانتهار النبي عليه الصلاة والسلام لها، وقولها: {وإن منكم إلا واردها }، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« قد قال الله:{ ثم ننجي الذين اتقوا }»، كله دليل على المناظرة في العلم، وجواز الاعتراض والسؤال فيه لاستخراج الفائدة، وهو مقصد حفصة إن شاء الله، لا أنها قصدت رد مقال النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن قولها:" بلى " جاء طلبًا لشأن ما أشكل هذا عليها، واحتاجت إلى تفسيره من هذا الظاهر المخالف، لما سمعته منه عليه الصلاة والسلام.
زوقد اختلف العلماء في معنى قوله تعالى:{ وإن منكم إلا واردها }، وأحسن الوجوه أن معناه: أي مواف، وليس كل مواف داخلاً عند العرب، ويدل عليه ظاهر هذا الحديث، وحجته بقوله:{ ثم ننجي الذين اتقوا }، وقوله في حديث عائشة أنه ليس بدخول، وقوله تعالى:{ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون }، وأن ورودهم وموافاتهم أجمع عليها جوازهم على متنها على الصراط فينجو من سبقت له الحسنى من المؤمنين، ويوقف الكافرون ومن أراد الله سبحانه امتحانهم من المذنبين.(8/163)
وقوله في حديث قتل أبي عامر: حدثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبيه. قال: لما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من حنين. كذا لكافة الرواة، وعند العذري: عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبيه: لما فرغ النبي من حنين، الحديث. وكلاهما صحيح. وكذا ذكره البخاري عن أبي بردة، وهو جد يزيد. وقوله: عن أبيه، هو أبو موسى، وهذا أبين. وكذا جاءت أسانيد، هذه في غير هذا الحديث مبينة قبل هذا وبعده: يزيد بن عبد الله بن أبي بردة، عن جده أبي بردة، عن أبي موسى. وقد جاء مثل ما هنا أيضًا في باب الإملاء للظالم، قال: حدثنا يزيد بن أبي بردة، عن أبيه، فنسبه إلى جده، ثم قال: عن أبيه، يعني جده، كما قلنا هنا. لكنه قد تصح الرواية الأخرى: يزيد عن أبيه، عن جده أبي بردة، ويريد بأبيه جده أبا بردة، ثم ذكر أبو بردة قصة ابن أبي موسى وسماعه منه معلوم، فيتصل السند وتصح الروايتان، وأنه لم يذكز في هذه سماعه منه ولا حديثه به وقوله:" فنزا منه الماء"، أي ظهر وارتفع.
وقوله:" وهو على سرير مرمل "، بسكون الراء " عليه فرش، وقد أثر رمال السرير بظهره " هو الذي نسج في وجهه بالسعف وشبهه وشد شراكه أو شريط، يقال منه: أرملت، وقيل رملت فهو مرمول.
وقوله: " قد أثر رمال السرير في ظهره "، أي: طرق نسجه من الشريط وشبهه. وهذا يدل أنه لم يكن عليه فراش، وأن في هذا الحديث يبدأ في قوله: " وعليه فراش "، وكذا جاء في البخاري.
قال القاضي: الذي أحفظ في غير هذا السند:" ما عليه فراش "، وأحسبها سقطت عن أبي زيد.
قال القاضي: إن كان قائمًا سقطت على من تقدم على أبي أسامة شيخ شيوخ مسلم والبخاري ؛ لاتفاقهما وروايتهما على إسقاطهما وقد ذكر الخبر، وكذا جاء في حديث عمر في تخيير النبي عليه الصلاة والسلام أزواجه على رمال سرير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه.(8/164)
وقوله:« إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن، حين يدخلون بالليل »، من الدخول، كذا لكافة شيوخنا، وعند بعضهم:" يرحلون " من الرحيل، وبالوجهين كانا في كتاب الجياني، وصوبوا الرواية الأخرى. وكذا اختلف فيه رواة البخاري أيضًا.
قوله:" ومنهم حكيم إذا لقى الخيل - أو قال العدو - قال لهم: إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم "، أي تنتظروهم، واختلف شيوخنا في قوله: " حكيم "، فكان الحافظ أبو علي الجياني يقول: هو اسم رجل. وأما القاضي أبو على الصدفي فقال لنا: هي صفة من الحكمة.
وقوله:« إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم في المدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم بالسوية »، قال الإمام: معنى " أرملوا "، أي: فنى زادهم، يقال: أرمل الرجل وأقوى وأنقص: إذا فنى زاده.
قال القاضي: وفي هذا الحديث فضل المواساة والسماحة، وأنها كانت خلق نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وخلق صدر هذه الأمة، وأشراف الناس.
وقول أبي سفيان حين سأل النبي - عليه السلام - بعد إسلامه أن يزوجه ابنته أم حبيبة، كذا ذكره مسلم من رواية أبي زميل عن ابن عباس. والمعروف أن تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - / لها كان قبل الفتح.
واختلف أين كان ؟ فقيل: بالمدينة /وهو الأكثر، واختلف فيمن عقد عليها هناك، فقيل: عثمان، وقيل: خالد بن سعيد بن العاص بتقديمها، وقيل: بل عقد عليها عنها، وعن النبي عليه الصلاة والسلام النجاشي لأنه كان أمير الموضع وسلطانه، والذي وقع في مسلم من هذا غريب جدًّا عند أهل الخبر، وخبرهما مع أبي سفيان عند ورود المدينة في حال شركه وهي بعد زوج النبي عليه الصلاة والسلام معروف، والله أعلم.(8/165)
وقوله:" عندي أحسن العرب وأجمله "، هذا مثل قوله في صفته عليه الصلاة والسلام:" كان أحسن الناس وجهًا، وأحسنه خلقًا ". قال أبو حاتم: هذا كلام العرب، أي وأحسنهم ولا يتكلمون به، يريد: إذا عطفوه. والنحاة يذهبون أن معناه: أحسن من ثمة، وقد تقدم من هذا ومثله، قوله في الحديث بعد هذا:« أحناه على ولد وأرعاه لزوج ».
قول أسماء:" ولنا في أرض البعداء البغضاء في الحبشة "، إما بعدًا في النسب، وإما بغضًا في الدين ؛ لأنهم كانوا نصارى ولم يكن فيهم مسلم إلا النجاشي أميرهم مستخفي بذلك عندهم، وخبره معهم في توريته عن الإسلام معروف.
وقولها لعمر:" كذبت " معناه: أخطات، وقد استعملوا الكذب بمعنى الخطأ.
وقولها:" ولقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالاً يسألوني عن هذا الحديث "، قال الإمام: يعني: أفواجًا فرقًا منقطعة، يقال: أورد إبله أرسالاً: إذا أوردها منقطعة، وأوردها عراكًا: إذا اوردها جماعة.
قال القاضي: وقوله:" إن هذا رد على البُشرى " للأعرابي الذي قال له: أكثرت على من أبشر، قول من لم يتمكن الإيمان من قلبه ممن كان يستألفه النبي عليه الصلاة والسلام من أشراف العرب، يستالف بهم قومهم وأمثالهم. وقد جاء معنا أنه من بنى تميم وهو - والله أعلم - الذين نادوه من وراء الحجرات وأمثالهم، وقد قال الله تعالى في أولئك:{ أكثرهم لا يعقلون }، ولو صدر مثل هذا الكلام من مسلم لكان قوله هذا كفرا ورذة ؛ لأن فيه تهمة للنبي عليه الصلاة والسلام واستخفافًا بصدق قوله ووعده.(8/166)
وقول أبي بكر لسلمان وأصحابه:" يا إخوتاه، أغضبتكم ؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي "، كذا جاء في هذا الحديث، وقد روى عن أبي بكر أنه نهى عن مثل هذا، وقال: قل: عافاك الله، رحمك الله، لا يريد: إلا تقدم " لا " قبل الدعاء ؛ لاقتضائها نفيه في الظاهر، ولأنه قد يكون مثل هذا ذريعة للمجان وغيرهم من قصدهم هذا في صورة الدعاء. وقد قال بعضهم: قل: لا، ويغفر الله لك، فيزول الإيهام والاحتمال.
وبنو سلمة - بكسر اللام - في الأنصار.
وقوله:" رأى صبيانا مقبلين من عرس فقام ممثلاً "، كذا بفتح الثاء لجمهور الرواة، وصححه بعضهم، وضبطناه عن بعضهم، وفي البخاري بكسر الثاء، ومعناه: قائما منتصبا. وعند الجياني وبعض رواة ابن ماهان: "مقبلا "، وذكره البخاري في كتاب النكاح:" ممتنًا "، وصوبه بعضهم وقال: هذا الوجه، أي متفضلاً عليهم بفعله من المنة. وضبطه بعض المتقنين: "ممتنا" بكسر التاء وتخفيف النون، وفسره: مطيلاً، أي أطال قيامه لهم. والأشبه عندي " متمثلاً "، بدليل قوله في الرواية الأخرى: فمثل /قائمًا، يقال: مثل يمثل مثولاً: إذا انتصب. واسم الفاعل منه: ماثل. لكنه يكون ممثلاً أي متمثلاً، اى مكلفا ذلك نفسه وطالبًا ذلك منها. فعدى فعله، والله أعلم.
والعرس عند العرب الابتناء بالزوجات، ومنه العروس، يقال للرجل والمرأة.
وقوله:« الأنصار كرشي وعيبتي »، قال الإمام: أي جماعتي وخاصتي، الذين أتق بهم وأعتمدهم في أموري، قال الخطابي: ضرب المثل بالكرش لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون به بقاؤه. والعيبة: أ هي أ التي يختزن فيها المدخر ثيابه ويصونها،ضرب المثل بها لأنه يريد أنهم موضع سره، قال: والكرش أيضًا عيال الرجل وأهله.
وقوله عليه الصلاة والسلام:« وفي كل دور الأنصار خير »، قال الهروي: الدور هنا قبائل اجتمعت في محلة، فسميت المحلة دارًا، ومنه الحديث الآخر: " فما بقيت دار إلا بني فيها مسجد، أي ما بقيت قبيلة.(8/167)
قال القاضي: وتفضيل النبي عليه الصلاة والسلام دور الأنصار على قدر سبقهم إلى الإسلام، فيه جواز التفضيل، وأنه ليس بعينه، ويدل أن مراده قبائلهم. وقوله في أكثر الروايات: بنو فلان، ثم بنو فلان، وقول سعد: فضل علينا، وخلفنا، أي جعلنا من آخر الناس، يقال: خلف فلان فلانًا: إذا أخره في آخر الناس ولم يقدمه.
وقوله: " سمع أبو أسيد خطيبًا عند ابن عتبة "، في أصل القاضي أبي عبدالله تميمي: ابن عتيبة، مصغرًا وكتبت عليه. قال الجياني: صوابه: ابن عتبة، وهو الوليد ابن عتبة بن أبي سفيان، عامل عمه معاوية على المدينة. وأبو أسيد هذا بضم الهمزة، وهو أبر أسيد الساعدى، واسمه مالك بن ربيعة، وهو الصواب المعروف في كنيته. وقد ذكر ابن حنبل فيه عن ابن مهدى الفتح وصوب الضم.
قوله:« أسلم سالمها الله - الحديث - ما أنا قلته، ولكن قالها الله »، ظاهره أن هذا اللفظ أوحي إليه، ويحتمل معناه دون لفظه.
قوله: " الأنصار ومزينة وجهينة وغفار وأشجع، ومن كان من بنى عبد الله موالى دون الناس، والله ورسوله مولاهم ": أي وليهم والمتكفل بهم والمولى يكون الولي، والقائم بأمر الرجل، والناصر له، وعصبته ومعتقه، ومن هو أولى به وأخص.
قال أحمد بن نصر: معنى قوله:« هم موالي، لا مولى لهم إلا الله ورسوله »، أي لا ولاء على من سبى منهم، خصهم بذلك كما قال في قريش: الطلقاء، وقال لغيرهم: العتقاء، لما لم يجر عليهم ملك ولا عتق.
وقوله: " من بني عبدالله "، يريد بني عبدالعزى من غطفان، وكذلك جاء ذكره من بعد هذا، سماهم النبي بني عبدالله، فسمتهم العرب بني محولة ؛ لتحويلهم اسم أبيهم.(8/168)
وقوله في سند هذا الحديث: وحدثنا عبيدالله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، بهذا الإسناد مثله، غير أن في الحديث: "قال سعد في بعض هذا فيما أعلم "، كذا لسائر الرواة، وعند العذري: قال شعبة، وهو وهم عندهم، والصواب الأول، وأن سعدا زاد في هذه الرواية في بعض هذه الكلمات:" قريشا "، وبعض كلمات:" فقال فيما أعلم "، وكأنه شكك فيها، أو خالفه غيره فيها، فأخبر بما علمه.
وقوله:" إنه لأخير منهم "، كذا الرواية هنا /، وأهل العربية يقولون: لا يقال: أخير ولا أشر، إنما وجه الكلام: خير وشر، وقد جاء أخير وأشر في غير حديث. وتفضيل هذه القبائل لسبقها إلى الإسلام دون تلك، وقد تقدم هذا كله قبل.
وقوله: " والحليفتين أسد وغطفان " بالحاء المهملة من الحلف والتعاهد الذي كان في الجاهلية.
وقوله في الباب: حدثنا سيد بني تميم محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب الضبي، كذا وقع هنا. وضبة لا يجتمع مع بني تميم، إنما ضبة بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر، وفي قريش أيضًا ضبة بن الحارث بن فهر، نسبه البخاري في "التاريخ" على ما قال مسلم، فانظره.
وقول عدي:" أول صدقة بيضت وجه النبي عليه الصلاة والسلام ووجوه أصحابه صدقة طيئ: أي فرحتهم وسرتهم، وضده سواد الوجه عند الحزن والغم بما يكره، والملاحم: معارك، وحيث يستلحم الناس، أي يقتتلون.
وقوله:« تجدون الناس معادن، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا »، تقدم الكلام عليه، وأصل المعادن الأصول الشريفة، تعقب أمثالها ويسري كرم أخلاقها إلى نسلها، ولكن لا خيار في الإسلام إلا بالتقى والفقه، ولا فضيلة إلا بخصال الشريعة، لكن من اتفق له ذلك مع أصل في الجاهلية حميد الأخلاق، شريف الطباع وهو الحسب، كملت فضيلته، وبانت مرتبته.
وأما قوله:" إذا فقهوا " بضم القاف، من الفقه، ويقال فيه أيضًا بكسرها، وأما من الفهم فبالكسر.(8/169)
وقوله:" وتجدون من خير الناس في هذا الأمر أكرههم له فيحتمل أن يريد به الإسلام كما كان من عمر وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وسهيل ابن عمرر، وغيرهم من مسلمة الفتح وقبلهم، من عرفت كراهته للأسلام، ثم لما حصل خلص فيه وأحبه، وجاهد فيه حق جهاده. ويحتمل أنه، يريد بالأمر ها هنا: الولايات والإمارة، كما جاء: " من جاء به من غير مسألة أعين عليها ". وقوله:" إن إخوتكم ممن طلبه ".
وأما قوله في ذي الوجهين: أنه " من شرار الناس "، فكما قال ؛ لأنه نفاق محض وكذب، ومخادعة. قال بعضهم: هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها خيرًا كان أو شرًا، ويظهر لكل أحد من أهل باطل وغيره رضاه لفعلهم وحالهم وهذه هي المداهنة المحرمة.
وقوله:« خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده »، فيه أن هذه خصال حميدة في النساء من الحنو على أولادهن، وذلك يقتضى حسن تربيتهم، والرفق بهم، والإحسان والقيام عليهم في بيتهم، وترك التزويج بعد موت أبيهم، ألا ترى الحديث بعده وقول أم هانئ حين خطبها عليه الصلاة والسلام، فقالت:« قد كبرت ولي عيال، يشير إلى هذا والله أعلم، ومراعاة ذات يد زوجها، وذلك يقتضي الحيطة على ماله والأمانة عليه، وحسن تدبيره في الإنفاق، وصفة مواضه. وتخصيصه بقوله:" ركبن الإبل "، لهن أن المراد نساء العرب ؛ ولذلك قال أبو هريرة في الحديث:« لم تركب مريم بنت عمران بعيرًا قط »، ومعنى " ذات يده "، أي: ماله، وتقديره على الشيء الذي يملكه.
قال الإمام:« وأحناه على ولد »، يعني: أشفقه. قال / الهروي: يقال: حنا عليه يحنو، وحنا يحنى وأحنا يحنى: إذا أشفق عليه وعطف. قال الهروي في الحديث:«أنا وسعفاء الخدين الحانية على ولدها كهاتين يوم القيامة »، الحانية: التي تقيم على ولدها لا تتزوج، يقال: حنت عليهم، فإن تزوجت فليست بحانية.(8/170)
قال القاضي: وذكر مسلم مؤاخاة النبي عليه الصلاة والسلام بين الأنصار وقريش وحديث لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة وقول أنس:" قد حالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين قريش والأنصار في داره بالمدينة "، قال الطبري: لا يجوز الحلف اليوم في الإسلام. قال ابن عباس: نسخ حلف الجاهلية وحلف الإسلام، مؤاخاة النبي عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار، وأنهم كانوا يتوارثون بذلك.
قوله:{ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله }، في رد المواريث إلى القرابات. وقال الحسن: كان هذا يعني الموارثة بالحلف، قيل: إنه الميراث. ومعنى قوله:" فلم يزده الإسلام إلا شدة ": يعني في التناصر والتعاون على الحق، وهو تأويل ابن عباس في قوله:{ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم }، يعني من النصر والنصيحة، وقيل: هذه الأية منسوخة بآية المواريث.
وقوله:« النجوم أمنة للسماء،فإذا ذهب النجوم أتى السماء ما توعدون»، يعني في القيامة أنها حينئذ تلحقها الانفطار والتغيير وهلاك ساكنها عند تناثر النجوم منها، وإنما هذا تمثيل لقوله بعده:« وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون »، يريد من الفتن، وارتداد من ارتد بعده من الأعراب وجهلة الناس، واختلاف قلوبهم، وهو ما أنذر به عليه الصلاة والسلام بقوله:« لا ترجعوا بعدي كفارًا »، وقوله:« لم يزالوا مرتدين على أعقابهم بعدك »، يعني أهل الردة.
وقوله:« وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون »، يريد من ظهور البدع، والتخالف، والفتن، وطلوع قرن الشيطان، وظهور الروم وغيرهم عليهم، وتخريب المدينة مثله، وغير ذلك مما أنذر به، مما كان أكثره، وما بقي لابد من كونه، فإنه لا يقول إلا حقًّا، ودلائل بقاياه ظاهرة بينة. الأمنة بفتح الهمزة والميم: الأمن والأمان، وهو بمعنى ضد الخوف.(8/171)
وقوله:« يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس »، مهموز ويسهل وفي المهموز ذكره غير واحد، وذكره صاحب العين في حرف الياء في غير المهموز، وهو بكسر الفاء، هذا المشهور، وفتحها بعضهم، حكاه الخليل. ولا تشدد الياء عند من سهلها، ومعناه: جماعة. قال ثابت بن قاسم: هو مأخوذ من القيام كالقطعة من الشيء.
وقوله:« خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم »، الحديث، قد تقدم الكلام على هذا قبل. وعقيدة جمهور العلماء: أن من رآه عليه الصلاة والسلام، وكان في عداد أصحابه فقد حصل فضيلة لا يدركها أفضل كل من يأتي بعده.
واختلف الناس في القرن ما هو ؟ وما المراد بقرني هنا ؟ فقال المغيرة: قرنه: أصحابه، والذي يليه: أبناؤه، والثالث: أبناء أبنائهم. وقال شمر: قرنه: ما بفيت نفس رأته والثاني: ما بقيت نفس رأت من راه، ثم كذلك. وقال غير واحد:/ القرن: كل طبقتين مقترنتين في وقت. وقيل ذلك لأهل كل مدة بعث فيها نبى طالت أو قصرت. واشتقاقه من الاقتران.
واختلف في لفظ " القرن "، وذكر فيه الحربي الاختلاف من عشر سنين إلى مائة وعشرين، ثم قال: وليس منه شيء واضح. وأربى القرن: كل أمة هلكت فلم يبق منها أحد. والحسن وغيره يقول: القرن عشر سنين. وقتادة يقول: سبعون، ونحوه عن على ابن أبي طالب، وغيرهما يقول: ستون. وعن زرارة بن أوفى: فهو مائة وعشرون سنة، وقيل: ثمانون، وقيل: أربعون، وهو قول النخعى، وحكى هذان القولان أيضًا عن الحسن. وقيل: مائة سنة، وذكر عن عبد الملك بن عمير وقال ابن الأعرابى: القرن الوقت من الزمان. قال غيره: لأنه يقرن أمة بأمة.
وقوله:« ثم يتخلف بعدهم خلف »، وفي الرواية الأخرى:" يخلف "، أي: يأتون بعدهم، والخلف: ما صار عوضًا عن غيره، بفتح اللام في الخير والشر، وأما بسكون اللام ففى الشر خاصة، قال الله تعالى:{ فخلف من بعدهم خلف }، وتجد قيل فيهما بالوجهين أيضًا.(8/172)
وقوله:« تبدر شهادة أحدهم يمينه، وتبدر يمينه شهادته »، أي تسبق كما جاء في الحديث الآخر، احتج به من يبطل الشهادة إذا حلف معها، وهو الذي في كتاب ابن شعبان، ولا يعرف في غيره. والجمهور على أن ذلك غير قادح فيها، وهو قول مالك وسائر من يروى عنه العلم، وقد قال تعالى:{ أحق هو قل إي وربي }، ومثل هذا كثير في القرآن والحديث.
وأما قوله في الحديث الأخر:" يحبون الشهادة "، ويروى: " السمانة " وكلاهما صحيح، فقد جاء الوصفان في الحديث.
وقوله:« يفشو فيهم السمن »، وقوله:« يشهدون قبل أن يستشهدوا»، احتج به من قالى بقول ابن شبرمة في منع هذه الشهادة على الإقرار حتى يشهده المقر، والجمهور على خلافه وأنه متى استوفى الكلام من إقرار وغيره في دين أو طلاق أو حرابة، شهد به. وهو معنى ما وقع في "المدونة"، وإليه يرجع كلام مالك وابن القاسم، ويفسر بعضه بعضًا، وإن كان بعضهم أراد تخريج خلاف منه على ظاهره، وقوله في قوله الأول، وله تأويل قد بسطناه في تعليقنا على المدونة،وأما ظاهره في ذم شهادة من لا يستشهد ولم يطلب منه الشهادة، فحمله قوم على ظاهره، وقالوا: فعل ذلك مذموم، والجمهور على خلافه، وأنه محمود، وأن معناها في هذا الحديث: أن يشهد شهادة زور كاذبًا ويحلف كاذبًا، ألا تراه كيف قال:« ويفشو فيهم الكذب »، وقيل: يحتمل أن تكون هذه الشهادة قبل سؤالها المذمومة في الحدود، ورفع الشاهد ذلك من قبل نفسه إلى الإمام ؛ إذ ليس فيه حق لمسلم، وإنما فيه حق لله تعالى، وقد أمر الله تعالى بستر المسلم عورة أخيه، وإلا ينتهك حرمته، وقد جاء في الصحيح:« خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها »، وفسره مالك بالرجل يكون عنده الشهادة في الحق تكون للرجل لا يعلمها، فيخبره بها ويرفعها إلى السلطان. قال الطحاوى رحمه الله تعالى: والأولى بنا أن نحمل الأحاديث على هذا التأويل حتى لا يتضاد ولا يختلف.(8/173)
وقد قيل: معنى " يشهدون ولا يستشهدون "، أنها من شهادة اليمين بمعنى قوله في الرواية الأخرى:" يحلفون ولا يستحلفون "، وقد جاء في تفسير الحديث: قال إبراهيم:" وكانوا ينهونا ونحن غلمان عن العهد والشهادات "، وفي البخاري:" كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد "، وفي الرواية الأخرى: "أن يحلف بالشهادة والعهد "، قالوا: معناها: الحلف بعهد الله ويشهد بالله.
قال بعضهم: فدل أن الشهادة المذمومة هي المحلوف بها، التي يجعلها الإنسان عادته، كما قال تعالى:{ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم }؛ ولأن اليمين بالعهد وازودة من مغلظ الأيمان، قالوا: لأن في " أشهد بالله " مقتضى القطع والعلم بما حلف عليه، والعهد لا يقدر أحد على التزامه، والقيام به.
والشهادة تاتى بمعنى اليمين، ومنه قوله تعالى:{ فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } الآية. وقيل: معناه: أن يحلف إذا شهد وإذا عاهد. و"عهد الله "، يمين عند مالك وأبي حنيفة والأوزاعي، نوى بها اليمين أم لا، وليست عند جماعة من السلف من التابعين يمين، إلا أن ينوي بها اليمين وهو قول الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد. وأما ة أشهد بالله، فهي عند مالك يمين، وقال الشافعي: ليست بيمين إلا أن ينوى بها اليمين، وعنه أيضًا إذا قال: "اشهد " فإن لم يقل:" بالله " فهي يمين، وهو قول النخعى والثوري وأبي حنيفة.
وكذلك عند جميعهم:" أحلف " وإن لم يقل:" بالله "، ومالك لا يرى " أشهد " يمينًا حتى يقول: " بالله "، وكذلك " اقسم ا. ويقول في "أحلف وأعزم ": إنه إن أراد بها "بالله " فهي يمين. واختلف عنه في " أعزم "، في كتاب ابن جويز منداد، وفي "أقسم وأحلف "، في كتاب ابن شعبان.
وفي قوله:« ويفشو فيهم السمن، ويحبون السمانة »، قالوا: دليل على حرص هؤلاء على الدنيا والتنعم فيها، ومحبة الأكل والشهوات.(8/174)
وقوله:« وينذرون ولا يوفون »، دليل على وجوب الوفاء بالنذر ولزومه، وذم من لم يفعل ذلك. وقوله في الرواية الأخرى:« يفون » صحيحان، يقال: وفَّي وأوفى، وفي هذا الحديث كله دليل وعلم على نبوته عليه الصلاة والسلام لوجود ما قاله عيانًا.
وقوله في سند هذا من طريق ابن أبي شيبة وابن مثنى وابن يسار: حدثنا شعبة، قال: سمعت أبا جمرة قال: حدثنا زهدم بن مضرب، كذا ضبطناه بالجيم والراء، وجاء في بعض النسخ عن ابن الحذاء بالحاء المهملة، وهو وهم، والصواب الأول. وهو أبو جمرة نصر بن عمران الضبعي.
وقوله في الباب: عن السدي، عن عبد الله البهي، عن عائشة. هذا السند مما استدركه الدارقطني على مسلم وغيره في إدخاله، قال: وإنما روى البهي عن عروة عن عائشة.
قال القاضي: قد صححوا روايته عن عائشة وفاطمة بنت قيس، وقد ذكر البخاري روايته عن عائشة، واسمه عبد الله مولى مصعب بن الزبير، واسم أبيه يسار يكنى أبا محمد، وقيل: مولى الزبير، ونزل الكوفة.
وقوله:« أرأيتكم هذه، فإن على رأس مائة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد »، تفسيره في الحديث، أي ممن هو اليوم حي، وهو معنى الحديث الآخر:« ما على الأرض من نفس منفوسة، أي مولودة يأتي عليها مائة سنة »، وبينه قوله في الحديث الآخر:« ما من نفس منفوسة اليوم »، وفسرها بقصر العمر، وكل نفس مخلوقة / يومئذ.
وقوله في الباب: ورواه الليث بن سعد عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، من جملة مقطوعات مسلم الأربعة عشر، وقد نبه عليها الإمام أبو عبد الله في هذا الموضع.
قال القاضي: وأما قوله في الباب بعد هذا باثر حديث عمر بن حبيب، ثم قال: وعن عبد الرحمن صاحب السقايا، عن جابر بن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل ذلك، وليس بمقطوع، وإنما هو معطوف على قول معتمر بن سليمان التميمى: سمعت أبي قال: حدثناه وأبو نضرة، ثم قال بعد تمام الحديث: وعن عبد الرحمن قائله. سليمان التميمى والد معتمر بسنده قبل.(8/175)
وقوله:" فوهل الناس "، قال الإمام:وهل بفتح الهاء يهل وهلا، مثل ضرب يضرب ضربًا، ومعناه: غلط. وأيضًا: الوهل بإسكان الهاء: أن يذهب وهمك إلى الشيء، وليس كذلك. وأما وهلت بكسر الهاء أوهل وهلا، على مثال حذرت أحذر حذرا فمعناه: فزعت، قال: والوهل بفتح الهاء: الفزع.
قال القاضي: ويقال في الغلظ أيضًا: وهل بالكسر، وقيدناه في المصنف على أبي الحسين: هل إذا ذهب همه إلى الشيء بالكسر، وقيدناه في غير المصنف بالفتح.
قال الإمام: وخرَّج مسلم في الفضائل أيضًا: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شبية ومحمد بن العلاء، كلهم عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن ابى هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« لا تسبوا أصحابي » الحديث هكذا، قال مسلم في إسناده هذا الحديث عن شيوخه عن أبي هريرة، قال أبو مسعود الدمشقي، هذا وهم، والصواب: من حديث أبي معاوية، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، لا عن أبي هريرة، وكذلك رواه يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب. وسئل الدارقطني عن إسناد هذا الحديث فقال: يرويه الأعمش، واختلف عنه، فرواه زيد بن أبي أنيس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال ابو مسعود عن أبي داود، عن سعيد، عن الاعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، كذلك أيضًا واختلف على أبي عوانة، فرواه عفان ويحيى بن حمادة، عن أبي عوانة، عن الأعمش، وأبو كامل وشيبان، عن أبي عوانة فقالوا: عن أبي هريرة وأبي سعيد، وكذلك قال نصر بن على عن أبي داود الحربي عن الأعمش. وقال مسدد عن الحربي، عن أبي سعيد وحده بغير شك، وهو الصواب: عن الأعمش، ورواه زائدة عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، والصحيح عن أبي صالح، عن أبي سعيد.
قال القاضي: كان في النسخ من المعلم في بعض ما ذكر تغيير حياته على نصه من موضع نقله من كتاب أبي علي الجياني وأصلحناه.(8/176)
قال الإمام قوله عليه الصلاة والسلام:« ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه»، العرب تسمى النصف: النصيف، كما قالوا في العشر عشير، وفي الخمس:خميس، وفي الثمن: ثمين، وفي التسع: تسيع، قال أبو زيد والأصمعي: قال أبو عبيد: واختلفوا في السبع والسدس والربع، فمنهم من يقول: سبع وسدس، وربيع. ومنهم من لا يقول ذلك، ولا أسمع أحدًا منهم يقول في الثلث شيئًا.
قال القاضي: يقال: نصف ونصف ونصف ونصيف، ومعناه: نصيفه، أي نصف مدة المذكور في الصدقة، أي أجرهم هم مضاعف / لمكانهم من الصحبة، حتى لا يوازى إنفاق مثل أحد ذهبًا صدقة أحدهم بنصف مد، وما بين هذا التقدير لا يحص. وهذا يقتضى ما قدمناه من قول جمهور الأمة من تفضيلهم على من سواهم بتضعيف أجورهم ؛ ولأن اتفاقهم كان في وقت الحاجة والضرورة واقامة الأمر وبدء الإسلام، وإيثار النفس، وقلة ذات اليد ونفقة غيرهم بعد الاستغناء عن كئير منها مع سعة الحال، وكثرة ذات اليد، ولأن إنفاقهم كان في نصرة ذات النبي عليه الصلاة والسلام وحمايته، وذلك معدوم بعده، وكذلك جهادهم وأعمالهم كلها، وقد قال تعالى:{ إلا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم } الآية . هذا فرق ما فيهم أنفسهم من الفضل وبينهم من البون، فكيف لمن يأتي بعدهم، فإن فضيلة الصحبة واللقاء ولو لحظة لا يوازيها عمل ولا ينال درجتها شيء، والفضائل لا تؤخذ بقياس،{ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء }، وقد ذهب بعض أصحاب الحديث والنظر إلى هذا كله في خاصة أصحابه، وجوز هذه الفضيلة لمن أنفق معه وقاتل، وهاجر، ونصر، لا لمن زاره مرة ولقيه مرة من القبائل أو صحبه آخر مرة وبعد فتح مكة، واستقرار الإسلام ممن لم يقر بهجرة ولا حض بنصرة ولا اشتهر بمقام محمود في الدين، ولا عرف باستقلالى بامر من أمور الشريعة ومنفعة المسلمين والقول الأول لظاهر الآثار أظهر، وعليه الأكثر. وسب أصحاب النبي - عليه السلام - وتنقصهم أو أحد منهم من الكبائر المحرمة، وقد لعن(8/177)
النبي عليه الصلاة والسلام فاعل ذلك، وذكر أنه من آذاه وآذى الله فإنه لا يقبل منه صرف ولا عدل.
واختلف العلماء: ما يجب عليه ؟ فعند مالك ومشهور مذهبه إنما فيه الاجتهاد بقدر قوله والمقول فيه قال: وليس له في الفئ حق، وأما من قال فيهم: إنهم كانوا على ضلالة وكفر، وحكى عن سحنون مثل هذا فيمن قاله في الأئمة الأربعة، قال: وينكل في غيرهم. وحكى عنه: يقتل في الجميع لقول مالك.
قصة أويس القرني هي من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، وإخباره عنه بما وجد حقيقة، ذكر مسلم في نسبه في الحديث: أويس بن عامر. قال الأمير أبو نصر: ويقال: ابن عمرو، قال غيره: ويكنى بأبي عمر، وقتل بصفين.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة:« فمن لقيه منكم فليستغفر لكم »، يحتج به من ذكرناه من أهل الحديث والنظر إلى أن في التابعين والقرن الثاني من يفضل بعض من في القرن الأول.
وقوله:" أكون في غبراء الناس "، كذا قيدناه عن شيوخنا بفتح الغين المعجمة، وسكون الباء الموحدة ممدودة، ومعناه: ضعفاؤهم وأخلاطهم ومن لا يؤبه به منهم، يقال للفقراء: بني غبرا، وغثرا بالناس أيضًا مثلثة مثله عامتهم وجهلتهم. والغثرة والغبرة واحد بمعنى الجهالة. ورواه بعض من رواة مسلم:" غبر للناس " بضم الغين وتشديد الباء الموحدة أي بقاياهم.، والأول أوجه وأصح معنى. وقال أبو علي القالي: غبراء الناس: الصعاليك.
قال الإمام: و" قرن " بفتح القاف والراء: حى من مراد، وهو قرن بن رومان بن ناجية بن مراد. قال الكلبي: ومراد اسم لجابر بن مالك بن أرد بن محب بن يعرب بن زيد ابن كهلان بن سبأ.
قال القاضي: وقوله:" وفيهم رجل ممن كان / يسخر بأويس "، أي يستحقره ويستهزئ به، وكذلك قول الآخر:" تركته رث الهيئة قليل المتاع " كله دليل على احتقار أويس نفسه وستره أمره.(8/178)
وقول النبي عليه الصلاة والسلام فيه:« له والدة، هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره »، إشارة إلى إجابة دعوته وعظيم مكانته عند ربه، وأنه لا يخيب أمله فيه، ولا يكذب ظنه به، ولا يرد دعوته ورغبته وعزيمته وقسمه في سؤاله بصدق توكله عليه وتفويضه إليه، وقيل: معنى:" أقسم على الله ": وعى، و" أبره ": أجابه، وفيه فضل بر الوالدين، وعظيم أجر البر بهما.
وقوله في آخر خبره:" ففطن له الناس، فانطلق على وجهه "، أي أخفى أمر نفسه لئلا يشتهر مخافة الفتنة.
وقوله:" أنت أحدث عهد بسفر صالح، فاستغفر لي "، فيه رجاء قبول من جاء من جهاد أو حج أو سفر طاعة.
وقوله:" رث البيت "، بمعنى قوله بعده:" قليل المتاع "، ورثاثة الثياب: خلقها ورداءتها. والرثاثة والبذاذة بمعنى.
قوله:« وستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط »، يريد مصر. والقيراط: وزن من أوزان الأشياء، وهو هنا بعض الدرهم.
وقوله:« فإن لهم ذمة ورحمًا »، أو قال:« صهرا »، فأما الذمة، فيحتمل أن الذمام للرحم وللصهر الذي ذكر، ويحتمل أنه أراد ذمة العهد التي دخلوا بها في ذمة الإسلام أيام عمر، فإن مصر فتحت صلحًا إلا الأسكندرية، وقد تكون الذمة من الذمام للصهر والرحم المذكور في الحديث.
فأما الرحم، فيكون هاجر أم إسماعيل - عليه السلام - أبي العرب منهم.
وأما الصهر، فيكون مارية أم إبراهيم، ولد النبي - عليه السلام - منهم، قاله الزهري.
وفي هذا الحديث أعلام من نبوته ثلاثة وجدت كلها، منها افتتاحها، ومنها إعطاء أهلها العهد، ودخولهم في الذمة، ومنها قوله:« فإذا رأيتم رجلين يختصمان في لبنة فاخرج منها » فكان ذلك.
ومعنى قوله في الرواية الأخرى:" يقتتلان ": أي يختصمان كما قال في الأخرى، وقوله في سند الحديث: عن عبد الرحمن بن شماسة، عن أبي بصرة عن أبي ذر، كذا لهم بياء بواحدة وصاد مهملة وهو الصواب. وعند العذري: عن أبي نضرة، بنون وضاد معجمة، وهو خطأ.(8/179)
وقوله:« لو أن أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك »، بفتح العين وتشديد الميم ضبطنا هنا هذا الحرف على القاضي الشهيد، وقيدناه عن غيره بضم العين وتخفيف الميم، وهما " بلدان " قد ذكرناهما في حديث الحوض.
وقول ابن عمر في حديث ابن الزبير:" السلام عليك أبا خبيب ": هي كنية عبد الله ابن الزبير، بخاء معجمة مضمومة، هي إحدى كناه، كنى بابن خبيب، وكان أكبر ولده، ويكن أيضًا بأبي بكر، وقال أبو أحمد الحافظ: أبو بكير. وقد ذكر البخاري في "تاريخه": كناه الثلاث.
فيه جواز السلام على الموتى وشبهه، وقد مض هذا في الطهارة، والجنائز، وثناوه عليه لما علمه منه في جواز الثناء على الميت بما يعلم منه من خير.
وقوله فيه:" وصولاً للرحم "، أصح من قول من بخله ونسبه لذلك من أصحاب الأخبار، لإمساكه مال الله عمن لا يستحق، وقد عده صاحب كتاب الأجواد فيهم، وهو الذي يشبه أفعاله وشيمته، وفيه قول ابن عمر للحق، وقلة خوفه من الحجاج وهو يعلم أنه سيبلغه مقامه كما بلغه، كما جاء في الحديث. وأنه لم يصده بسطوة الحجاج عن شهادته بالحق وقوله ؛ ليبين للناس أنه مظلوم، ويكذب وصف الحجاج وأصحابه له بعدو الله وبالكافر والمحل، وغير ذلك مما كانوا يصفونه به.
قوله:" لأمَّة أنت شرها لأمة خيار "، ويروى:" خير "، يريد ما كانوا يصفونه به، وفي رواية السمرقندي:" لأمة سوء "، وهو خطأ وتصحيف.
وقوله:" من يسحبك بقرونك "، أي: يجرك بشعر رأسك.
وقوله:" أروني سبتي "، أي: نعلي، بكسر السين، وهي النعال التي لا شعر عليها، وقد مضى تفسيرها في الحج بأشبع من هذا والخلاف فيها.
قال الإمام: وقوله:" فانطلق يتوذف "، قال أبو عبيد: معناه: يسرع، والتوذف: الإسراع. وقال أبو عمرو: هو التبختر.
قال القاضي: حكى ابن السكيت عن أبي عمرو أنها مشية فيها تقارب وتبجح وهو قريب مما تقدم، قال: يقال منه: ذاف يذوف، لم انما يصح يذوف منه على القلب.(8/180)
وقول أسماء في تفسير:" ذات النطاقين " ما قالته في الحديث من أن أحدهما: الذي أرفع فيه طعام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، والثاني: نطاق المرأة، وقد وقع مفسرًا أبين من هذا في البخاري وغيره. وأنها لما صنعت سفرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر حين هاجرا شقت نطاقها بنصفين، فربطت السفرة بأحدهما وانتطقت بالآخر.
وقولها:" إن في ثقيف كذابًا ومبيرًا، أما الكذاب فرأيناه "، تعنى المختار بن أبي عبيد،" وأما المبير فأخالك هو "، تريد لكثرة قتله. والمبير: المهلك. والبوار: الهلاك، وفيها تأول الناس الحديث، وبذلك فسره أبو عيسى الترمذي .
قوله:« تجدون الناس كإبل مائة، لايجد الرجل فيها راحلة »، قال الإمام: قال القتبي: الراحلة: هي التي يختارها الرجل لمركبه، ورحله على النجابة، وتمام الخلق وحسن المنظر، فإذا كانت في جماعة الإبل عرفت. يقول: فالناس متساوون ليس لأحد منهم فضل في النسب، ولكنهم أشباه كابل مائة ليس فيها راحلة. قال الأزهرى: الراحلة عند العرب تكون للجمل النجيب، والناقة النجيبة، والهاء فيها للمبالغة، كما يقال: رجل داهية ونسابة، قال: وليس المعنى الذي ذهب إليه ابن قتيبة من التساوى في النسب شيء، والمعنى عندي: أنه اراد عليه الصلاة والسلام أن الزهد في النادر القليل من الناس، والكامل منهم في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة قليل. قال: والراحلة سميت بذلك لأنها ترحل، فهي فاعلة بمعنى مفعولة، كعيشة راضية، أي: مرضية، وماء دافق، أي: مدفوق.
****************
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب البر والصلة والأدب(8/181)
قال القاضي: قوله للذى قال له: من أحى الناس بحسن صحابتي قال: « أمك ». قال: ثم من ؟ قال:« أمك » قالها ثلاثًا، قال ثم من ؟ قال: «ابوك »، ثم أدناك فأدناك لما لكنه تكيد حق الأم وأمانة مبرلها على مبرة الأب؛ لكثرة تكلفها له من الحمل، ومشقة الوضع، ومعاناة الرضاع والتربية، ثم الأب، ثم تنزيل ذلك في القرابة على الأقرب فالأقرب.
وفيه تنزيل الناس منازلهم، وأن يوفى كل أحد حقه على قدر قرباه وحرمته ورحمه. / وقد اختلف العلماء فيما بين الأب والأم، فقيل: يجب أن يكون برهما سواء، وتأول أن هذا اختيار مالك، ومذهبه، وروى الليث ان حق الأم آكد، وأن لها ثلثي البر. وذكر المحاسبي أن تفضيل الأم على الأب في البر إجماع العلماء. ولا خلاف أن الآباء والأمهات آكد حرمة في البر ممن عداهما.
وتردد بعضهم بين الأجداد والأخوة لقوله:« ثم أدناك فأدناك »، قال الإمام أبو بكر الطرطوشي: ولم أجد نصًّا للعلماء في الأجداد، والذي عندي أنهم لا يبلغون مبلغ الآباء، واستدل سلف اسم الأبوة عنهم في الحقيقة، ولقوله تعالى:{ أحدهما أو كلاهما }، ولو كان حكم الأجداد حكم الآباء لقاله بلفظ الجمع، ولقوله:« أمك، ثم أباك فأدناك »، وفي حديث آخر: «أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك، ثم أدناك فأدناك»، قال: فتقبل عليه الصلاة والسلام الجواب ورتب الأخوة بعد الآباء. واحتج أيضًا بقوله:
{ كما ربياني صغيرًا }، قال: والتربية لا تكون إلا للوالدين.
قال القاضي: والذي عندي خلاف ما ذهب إليه كله، والمعروف من قول مالك ومن وافقه من أهل العلم من أصحابه وغيرهم لزوم بر الأجداد، وتقديمهم وقربهم من بر الآباء، وقد رأى مالك وأصحابه أنه لا يقتص من الجد في ابن ابنه إلا أن يفعل به مالا يشك في قصده قتله كالأب سواء. وكذلك قالوا في الجهاد بغير إذنهما لا يجوز كالآباء.(8/182)
وكذلك اختلفوا في تغليظ الدية عليه في عمد قتله، وفي قطعهم في السرقة من مال فقرائهم. وأما الحديث الذي احتج به من قوله:« أمك وأباك، وأختك وأخاك ومولاك »، فهو حجة عليه ؛ لأنه لما لم يذكر الأجداد وقد ذكر الموالي، دل أنهم داخلون في عموم الآباء.
قوله - عليه السلام - للذى قال له: أبايعك على الهجرة والجهاد، وقوله له: أبتغي الأجر،« ارجع إلى والديك، فأحسن صحبتهما »، وفي الحديث الآخر: «وفيهما فجاهد »، يحتمل أن هذا كان بعد الفتح وسقوط فرض الهجرة والجهاد، وظهور الدين، أو كان ذلك من الأعراب وغيره كانت تجب عليه الهجرة، فرجح بر والديه وعظيم حقهما، وكثرة الأجر على برهما، وأن ذلك أفضل من الجهاد، وحسبك بهذا، ولم ير أهل العلم الجهاد إلا بإذنهما.
واختلف إذا كانا مشركين. فقال الثوري: هما كالمسلمين. وقال الشافعي: له الغزو بغير إذنهما. قال أهل العلم: وهذا ما لم يتعين فرضه ويلزم النفير. وهذا لا إذن فيه لهما. ولا خلاف في وجوب بر الوالدين وأن عقوقهما من الكبائر. وقد مر منه أول الكتاب. وقوله في الباب حديث أبي كريب: أنبأنا ابن بشر عن مسعر. كذا لهم، وفي كتاب بشر بن أبي على عن العذري: حدثنا ابن يونس، وهو وهم وغلط. وابن بشر هذا هو محمد بن بشر بن الفرافضة أبو عبد الله العبدى، من عبد قيس كوفي، خرج عنه البخاري ومسلم.(8/183)
قوله: وذكر مسلم حديث جريج العابد وأن أمه دعته ليكلمها وهو يصلى، فلم يقطع صلاته، وأنها فعلت ذلك ثلاثه أيام، فدعت عليه، قال الإمام: ذكر أنها دعت عليه أنه لا يموت حتى تريه المومسات. قال:« ولو دعت عليه أن يفتن لفتن »، وهذا مما ينبغي أن يتأصل ؛ لأنه إن كان تماديه على الصلاة / هو أولى من إجابة أمه، فإنه غير عاص في فعله، ولا ملوم فكيف تدعو عليه فيستجاب دعوتها فيه، وهو لم يظلمها، وإن كان عنده أن قطع الصلاة هو الواجب في شرعه، فحينئذ يكون ملومًا ؛ على أن قوله: "اللهم أمي وصلاتي" يؤذن بتردده في هذا، وإنه لم يكن ذلك عنده شرعًا بينا، ولعل أمه تأولت أنه عقها، فدعت عليه فوافق القدر.
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام:« لو دعت عليه أن يفتتن لفتن » يكون ذلك بمعنى أنه كان سبق في معلوم الله تعالى أن يفتن بدعائها، إلا أن يكون عاصيًا بالتمادي فلا يحتاج ذلك إلى اعتذار. وهذا الحديث على صحته يؤكد قول الأشعرية في إثبات كرامات الأولياء، وانخراقه العادة لهم.
قال القاضي: ليس في الحديث أنه كان في فريضة من صلاته، أو لعل شرعهم كان لا يحل فيه قطع النافلة لشىء من الأشياء، ودليله قوله: " أمي وصلاتي "، وظاهره عندي تقابل الفرضين عنده من إيثار الصلاة. وقد كان يقدر على تخفيف ذلك واجابتها لو لم يكن كلامها، لكنه لعله خشى أن يدعوه إلى النزول عن صومعته وكونه معها. أو خشى أن مفاتحتها بالكلام تسبب الأنس لغير من انقطع له، ويحل عزمه ويضعف عقده فيما التزمه. ولعل شرعه كان حنيئذ يوافق ذلك أو يخالفه. ولا شك عندنا أن بر أمه فرض، والعزلة وصلوات النوافل طول نهاره وليله ليست بفرض، والفرض مقدم. ولعله غلط في إيثار صلاته وعزلته على إجابة أمه، فكذلك أجاب الله دعوتها فيه عقابًا له.(8/184)
وقوله:" ديره "، الديرة: كنائس ينقطع فيها عباد النصارى، وهو نحو من قوله:" صومعته "، والصومعة: منارة للرهبان، ينفردون فيها وينقطعون عن الوصول إليهم والدخول عليهم. والمومسات: الفواجر مجاهرة، واحدها مومسة، ويجمع مياميس أيضًا.
وقوله:" امرأة يتمثل بحسنها "، أي: يضرب به المثل.
وقولهم: " نبني لك صومعتك بالذهب والفضة. قال: لا، ولكن أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا »، احتج به من يرى أن في المتلفات كلها أمثالها، وأن من هدم حائطًا فعليه بناء مثله، وهو مذهب الكوفيين والشافعي وأبي ثور في الحائط. وفي العتبية عن مالك مثله. ومذهب أهل الظاهر في كل متلف. هذا ومشهور مذهب مالك وأصحابه، وجماعة من العلماء إلى أن فيه وفي سائر المتلفات المضمونات القيمة، إلا ما يرجع إلى الوزن والكيل.
ولا حجة لأولئك بهذا الحديث ؛ لأنه في شرع غيرنا، وليس فيه أن نبينا أمر بذلك. ولعله بتراضيهما، ألا ترى قولهم:" نبنيها لك بالذهب "، وهذا كان من طيب أنفسهم، وكذلك بناؤها بالطين. واحتج بعضهم به على المطالبة بالدعوة ولا دليل فيه ؛ إذ لم يطلب بذلك نبي ولا من يقتدى به، ولو كان ذلك لعله في شرع غيرنا.
والظاهر من الحديث ظلم جميعهم له أولاً، وأن من سعى في ذلك لم يكن ممن يتقي الله، فلا حجة فيه، ألا ترى كيف قالت لهم البني:" إن شئتم لأفتننه لكم "، فلم ينكروا عليها، ومثل هذا لا يرضاه ذو دين في أحد من الناس، ولا يحل له المساعدة عليه، فكيف في عابد متبتل، ألا تراهم كيف بادروا إلى تصديقها وضربوه وآذوه، ولم يسمعوا / قوله حتى أراهم الآية ؟!
ولو ادعت امرأة مثل هذا عندنا على أحد من المسلمين حدت له ؛ للقذف ولزناها، ولم يقبل منها دعواها، ولم يلحقه تبعة بقولها، إلا أن تأتي به متعلقة تدمي مستغيثة لأول حالها، وكان ممن لم يشهر بخير ولا عرف بزنا. وأما إن جاءت متعلقة بمن لا يليق به ذلك فلا شيء عليه.(8/185)
واختلف عندنا في حدها لقذفه، فقيل: تحد، وقيل: لا تحد لما بلغت من فضيحة نفسها، ولا حد عليها للزنا، ولبعض أصحابنا في المشتهرة بذلك - مثل صاحبة جريج - أنها تحد للزنا على كل حال، ولا تصدق بتعلقها وفضيحتها نفسها ؛ لأنها لم تزل مفتضحة بحالها وهذا صحيح بين في النظر.
وفي حديث جريج: استنقاذ الله عباده الصالحين من أيدى ظلمتهم بآية يظهرها لهم، وفيه: أن الكرامات تأتي باختيار الأولياء وطلبهم لها، خلاف مقالة من قال: إنها تكون على غير الاختيار.
واختلف شيوخنا: هل يصح أن يأتي التحدي على الولاية ؟ فمنعه بعضهم لإختصاص التحدي بالنبوة، وأجازه آخرون، والصحيح جوازه ؛ لأن التحدي الذي هو من شرط آية النبوة إنما هو تحدٍّ على النبوة، وهذا إنما هو تحدٍّ على الولاية، فلا يشبهه في ذلك، وكل مختص ببابه.
وفيه: إن الكرامات تجرى على أيدي الأولياء بخرق العادات وغيرها، في أمتنا وغيرها خلافًا لمن ذهب من شيوخنا، أنها لا تصح في أمتنا منها ما كان من خرق العادات وقلب الأعيان، له إنما يصح في مثلها إجابة الدعوة، وأن زمن بني إسرائيل كان زمن خرق عادة وأيام نبوة ولا نبي بعد محمد، وهذا ولا تحقيق ورائه.
وفيه: إجابة دعوة الآباء والأمهات، وتشديد الحذر من ذلك، ومن سخطهم، وفي هذا الحديث في كتاب البخاري:" فتوضأ وصلى "؛ ففيه حجة أن الوضوء كان في غير هذه الأمة، وردٌّ على من ذهب إلى أنه مختص بها، وتصحيح لتأويل اختصاصهم بالغرة والتحجيل به دون غيرهم، وقد بيناه في كتاب الوضوء.
قوله:" مر راكب على دابة فارهة وشارة حسنة "، قال الإمام: الشارة: الهيئة واللباس، يقال: ما أحسن شوار الرجل وشارته، أي لباسه وهيئته. قال ابن الأعرابى: الشورة: الجمال بضم الشين. والشورة بالفتح: الخجل.
وقوله: " حلقى "، مر تفسيره في الحج.(8/186)
قال القاضي: الشوار هنا بالفتح كما يفسر، وأما الشورة: الجمال، بالفتح والضم معا. وشوار البيت: متاعه بالكسر، وشوار الرجل: مذاكيره بالفتح.
وفي تمثيل النبي رضاع الصبي ودعاء أم جريج له، جواز حكايات الأحوال ؛ إذ لم يكن على طريق السخرية والمجون، وكان لبيان علم وزيادة فائدة.
وقوله:" رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كلاهما، فلم يدخل الجنة "، فيه فضل البر وعظيم أجره، وأن برهما يدخله الجنة. فمن فاته ذلك وقصر فيه فقد فاته خير كثير. وظاهره أن برهما مكفر لكبير من السيئات وراجح بها، وأنه لا يمنعه دخول الجنة إلا التقصير في حقهما، أو التكثير من الكبائر التي ترجح برهما في ميزانه، لاسيما إذا أدركهما عند الكبر/، وضعفا عن الكسب والتصرف، واحتاجا إلى خدمتهما والقيام عليهما.
قال الإمام:" رغم أنف "، أي: ذل. قال ابن الأنباري: الرغم: كل ما أصاب الأنف مما يؤذيه، وقال ابن الأعرابى وأبو عمرو: " رغم أنفه ": أي لصق بالرغام، وهو تراب مختلط برمل. والرغم أيضًا: المساءة والغضب. يقال: فعلت ذلك على رغم فلان، أي على غضبته ومساءته.
قال القاضي: ويقال: رغم معناه: كره، وقيل: ذل وخزى. ويقال: رغم أنفه، بالكسر والفتح، وهو الرغم والرغم والرغم بالفتح والضم والكسر.
وقوله:" إن أبا هذا كان ودًّا لعمر "، رويناه بالكسر والضم. يقال: هو ود بالكسر، و " ود " بدل، أي ذو مودة، مثل حبة وحبيبة. والود، والود كله مصدر ووددت ا لرجل، ومثله مودة مودودة، وودادة، وودادًا ودادٍ.
وقوله:" كان له حمار يتروح عليه إذا مل ركوب الراحلة " بالراء والحاء المهملة، قال الإمام: أي يسير عليه، يقال: تروح القوم: إذا ساروا أي وقت كان. وفي الحديث: "من راح إلى الجمعة "، أي من خف إليها. ولم يرد " رواح النهار ". وهكذا قال الهروي، وقد قدمنا نحن الكلام على مقتض قوله:" من راح "، واختلاف المذهب فيه في موضعه من الكتاب.(8/187)
قال القاضي: الأشبه عندي في هذا الموضع أن يكون من الاستراحة، ألا تراه كيف قال: " إذا مل ركوب الراحلة "، وأنه يستريح بتبديل مركبه، وهذا موجود معلوم، والراحة والررح والرواح بمعنى. قاله صاحب العين والجمهرة.
وقوله:" إن أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه ": هو مما تقدم، والصلة واللطف والتحفى أحد معانى البر على ما تقدم. ومن أبر البر الوفاء لمن يلزم بره بصلة من كان يبره، هو كما قال - عليه السلام - في خبر خليلة خديجة: " إن حسن العهد من الإيمان "، وفي الرواية الأخرى:" أن يصل ود أبيه "، بضم الواو، أي وداده.
قوله: عن النواس بن سمعان الأنصارى، كذا في النسخ كلها في هذا الحديث، وقد جاء في غير هذا الموضع "الكلائي". قال الحافظ أبو على الجيانى: هذا وهم، وصوابه: الكلابي. قال الإمام: المشهور في نسب بن سمعان " الكلابي "، إلا أن يكون حليفًا للأنصار، وهو النواس بن سمعان بن خالد بن عمرو بن قريط بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب، كذا نسب العلائي عن يحيى بن معين.
وقوله: " ما حاك في صدرك "، قال الليث: الحيك: أخذ القول قلبك، يفال: ما يحيك القول في فلان، ولا يحيك الفاس والقدوم في هذه الشجرة. قال شمر: الكلام الحانك: الراسخ في القلب.
قال القاضي: قيل: معنى:" ما حاك ": رسخ، وقيل: تحرك. وقال الحربى: هو ما يقع في القلب، ولا ينشرح له الصدر، ويخاف فيه الإثم. كذا الرواية: حاك يحيك، ويقال: حك يحك، واحتك يحتك. قال الخليل: والحكاكات المآثم، وما حاك كلامك في فلان: أي ما يحصل ولا أثر. و"أحاك " لغة، قالها صاحب العين، وأنكرها ابن دريد. وقال أبو عبيد: "الإثم ما حك في صدرك " يقال:حك الشيء في صدري، أي لم ينشرح به، وبقي في قلبك منه شيء. وقال بعضهم: حاك ورسخ وحك: وقع ولم يطمئن إليه قلبك. وقد جاء في حديث آخر:" الإثم ما حاك في نفسك /، وكرهت أن يطلع عليه الناس "، إشارة إلى ما استقبحته نفسك، ولم ينشرح لك، على ما تقدم.(8/188)
وقوله:" والبر حسن الخلق "، البر بمعنى الصلة كما تقدم، وبمعنى الصدق، بمعنى اللطف والمبرة، والتحفي وحسن الصحبة والعشرة، وبمعنى الطاعة. وهذه جماع حسن الخلق. وأما قول النواس: " ما منعنى من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء "، فمعناه عندي - والله أعلم -: أن من لم يهاجر من الأعراب كانوا يجهلون، ويجعلهم المهاجرون يسألون لحملهم على الجفاء، وكونهم أعراب، وقد جاء نحو هذا مفسرًا في حديث ضمام.
وقوله:" قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة "، وقوله: "الرحم معلقة بالعرش "، اعلم أن الرحم التي توصل وتقطع ويتوجه فيها البر والإثم إنما هي معنى من المعاني، وليست بجسم، وإنما هي القرابة والنسب، واتصال مخصوص تجمعه رحم والدة، فسمى ذلك الاتصال بها. والمعاني لا توصف بقيام ولا كلام ولا يصح منها. وذكر مقامها وتعلقها هنا ضرب مثل، وحسن استعارة على مجاراة كلام العرب لتعظيم شأن حقها، وصلة المتصفين بها المتواصلين بسببها، وعظم إثم مقاطعتهم وعقوقهم ؛ ولذلك سمى عقوقها قطعًا وهو معنى العقوق. والعق: الشق، كأنه قطع ذلك النسب الذي يصلهم به، أو قيام ملك من ملائكة الله تعالى وتشبثه بالعرش وكلامه عنها ذلك الكلام لأمر الله تعالى.
وأما قوله: " لا يدخل الجنة قاطع رحم "، فمعناه: أمرًا ما أن جازاه الله وعاقبه، كما جاء في غير حديث في أصحاب الذنوب حتى يعاقبوا عليها إما بدخول النار أولاً، وإما بإمساكه مع أصحاب الأعراف، أو بطول حسابه ومناقشته على ذلك، والسابقون وأصحاب الجنة يتنعمون حينئذ، أو يكون فعل ذلك مستحلاً، كما قيل في غير ذلك من قاتل النفس، وغيره من المذنبين.(8/189)
وقوله:" من وصلها وصلته، ومن لخعها قطعته "، الصلة: العطف والحنان والرحمة. وصلة الله لعباده رحمته لهم وعطفه بإحسانه، ونعمه عليهم، أو صلته له بأهل ملكوته، والرفيق الأعلى، وقربه منهم جل اسمه بعظيم منزلته عنده، وشرح صدره لمعرفته. ولا خلاف أن صلة الرحم واجبة على الجملة، وقطعها كبيرة. والأحاديث في هذا الباب من منعه الجنة يشهد لذلك، ولكن الصلة درجات، بعضها فوق بعض، وأدناها ترك المهاجرة. وصلتها ولو بالسلام كما قال عليه الصلاة والسلام. وهذا بحكم القدرة على الصلة وحاجتها إليها، فمنها ما يتعين ويلزم، ومنها ما يستحب ويرغب فيه، وليس من لم يبلغ أقصى الصلة يسمى قاطعًا، ولا من قصر عما ينبغى له ويقدر عليه يسمى واصلاً.
واختلف في حد الرحم التي يجب صلتها، فقال بعض أهل العلم: هي كل رحم محرمية مما لو كان أحدهما ذكرًا حرم عليه نكاح الآخر، فعلى هذا لا يجب في بني الأعمام وبني الأخوال وبني العمات. واستدل على قوله بتحريم الجمع بين الأختين والمرأة وعمتها وخالتها مخافة التقاطع، وجواز ذلك /بين بني العم والخال. وقيل: بل هذا في كل ذي رحم ممن ينطلق عليه ذلك في ذوي الأرحام في المواريث، محرميًا كان أو غيره. وقد جاء في أثر: أن الله يسأل عن الرحم ولو بأربعين، ويدل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام: " ومولاك، ثم أدناك فادناك ".(8/190)
وقوله:" من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ في أثره، فليصل رحمه "، بسط الرزق: سعته، قيل ذلك بتكثيره، وهو الأظهر، وقيل بالبركة فيه. والنسأ: التأخير. والأثر: الأجل. سمى بذلك لأنه تابع الحياة. ومعنى التأخير هنا في الأجل ؛ مع أن الآجال لا يزاد فيها ولا ينقص، وهي مقدرة في علم الله، قيل: هو بقاء ذكره الجميل بعده على الألسنة موجودًا، فكأنه لم يمت، وقيل: هذا على ما سبق به العلم والقدر أنه إن وصل رحمه فأجله كذا، وإن لم يصل فكذا. وفي علم الله تعالى أنه لابد له من أحد الحالين، على ما سبق له في أم الكتاب. وهذا مثل ما سبق من السعادة والشقاوة، مع تكليف العمل والطاعة، ونهيه عن المعصية، وقد سبق له في أم الكتاب ما سبق من سعادة أبي شقاوة ؛ ولذلك قال العامل: فلم العمل ؟ فقال عليه الصلاة والسلام:" اعملوا فكل ميسر لما خلق له ". وهذا هو الوجه الصحيح في الحديث.
قوله في الذي قطعه أهل رحمه رهو يصلهم:" كأنما تسفهم المل "، أي يسقيهم الرماد، أي الحار. سفهم من السفوف، كذا ضبطنا هذا الحرف عن شيوخنا، وفي بعض نسخ مسلم القديمة:" كأنما يسقيهم الماء "، وهو خطأ وتصحيف لا معنى له. والمل: التراب المحمي الذي يدفن فيه الخبز، وهو المل أيضًا. وقيل: المل: الجمر.
وروي في غير هذا الحرف:" كأنما يسفيهم " بالفاء، أي يرمي في وجوههم ذلك، يريد: أنك بإحسانك إليهم تخزيهم وتحقرهم في أنفسهم، وتبلى قلوبهم برؤيتهم حسن فعلك معهم، وقبح مكافاتهم، فهم من الخزي عند أنفسهم عند ذلك كمن يرمي في وجهه التراب والرماد المحمي. ونكاية القلوب كمن سقا الجمر أو الرماد المحمي، أو أن ذلك الذي يأكلونه من رفدك وإحسانك كمن يأكل ذلك ويحرق به أحشاءه.
وقوله:" ولا يزال معك ظهير من الله عليهم "، أي معين وكاف لأذاهم. وقوله:" وأحلم عنهم ويجهلون "، أي يسبونني. والجهل: القبح من القول في مثل هذا.(8/191)
قوله:" لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا " الحديث، قال الإمام: قوله عليه الصلاة والسلام:" لا تباغضوا، ولا تدابروا "، التدابر: المعاداة، يقال: دابرت الرجل: عاديته. وقيل: معناه: لا تقاطعوا ولا تهاجروا ؛ لأن المتهاجرين إذا ولى أحدهما عن صاحبه فقد ولاه دبره.
وقوله: " ولا تجسسوا، ولا تحسسوا "، التحسس عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال في الشر. والجاسوس: صاحب سر الشر. فال ثعلب: التحسس بالحاء: أن تطلبه لنفسك، وبالجيم طلبه لغيرك. وقال غيره: التجسس بالجيم: البحث عن العورات، وبالحاء: الاستماع.
قال القاضي: قال بعض أصحاب المعاني:" لا تباغضوا " إشارة إلى النهي عن الأهواء المضلة الموجبة للتباغض والتخالف.
ومعنى:" تنافسوا "، أي: ساروا في الحرص على الدنيا وأسبابها والرغبة في ذلك لا في غيرها من سبل الخير.
وقيل:" لا تدابروا "، أي: لا تجادلوا / ولا يبغي بعضكم لبعض الغوائل، بل تعاونوا على البر والتقوى، وكونوا عباد الله إخوانًا في التعاون على ذلك، لا يترفع بعضكم على بعض. وقيل: التحسس والتجسس سواء، وفي المنافسة معنى من معانى المحاسدة.
وفيه: " لا تناجشوا " من النجش، وهو هنا - والله أعلم - في غير البيع ؛ لأنه في البيع: الزيادة في ثمن السلعة ولا يريد شراءها، فإنما هو من ذم بعضهم بعضًا. وقد قيل: النجش: التنفير عن الشيء. والنجش: الإطراء. ومنه: نجش الوحش، وهو تنفيرها من مكان إلى غيره، فكأنه ينفر القلوب عنه، أو يكون بمعنى تتنافر قلوبكم، مثل تقاطعوا وتدابروا سواء. لكن في بعضها: " ولا يبع بعضكم على بيع بعض لا فهذا يوافق معناه ؛ لمناجشته، ويكون من الزيادة أو من التنفير عن سلعة غيره بإطراء سلعته.(8/192)
قوله: " لا تهاجروا "، كذا عند ابن ماهان، ورويناه من طرقنا عن الجلودي: "تهجروا "، وضبطناه عن أبي بحر: " تهجروا " بكسر التاء والهاء والجيم. ومعنى الكلمة: لا تهتجروا، أو يكون تقولوا من الهجر بمعنى: تهاجروا، ومن هجر الكلام وهو الفحش منه، أي لا تتسابوا وتتفاخروا ؛ ولذلك جاء بعد هذا في رواية قتيبة:" إلا المتهاجرين "، على ماذكرناه، وعند الهوزني:" المتهجرين ".
وقوله: " لا هجرة بعد ثلاث "، " ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث "، مقتضاه من دليل الخطاب ان الهجرة في الثلاث معفو عنها، وإنما الحرج فيما بعد ثلاث ؛ إذ لابد للبشر من مغاضبة، وسوء خلق، ووجد لأمر يقع بينهم، فعفى عن الثلاث. وقد يحتمل السكوت عن حكمها لتتلطف في الشرع والنهي على ما ورائها، وهذا على من لا يقول بدليل الخطاب من الأصوليين.
وقوله: " وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ": يحتج به من يرى ان السلام يقطع الهجرة، ويزيل الحرج، وان لم يكلمه. وهو قول مالك وغيره. وقال أحمد بن حنبل وابن القاسم: إن كان يؤذيه فلا يقطع السلام هجرته. وعندنا أنه إذا اعتزل كلامه لم تقبل شهادته عليه وإن سلم عليه. ومعنى قوله: "وخيرهما الذي يبدأ بالسلام "، أي: أفضلهما وأكثرهما ثوابًا.
وقوله:" يصد هذا ويصد هذا "، مثل قوله:" يعرض هذا ويعرض هذا "، وأصله أن يولي كل واحد منهما الآخر عرضه، وهو جانبه. والصد أيضًا: الجانب والناحية.
وقوله:" إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث "، قيل: يريد الظن السوء بالناس. قال الخطابي: هو تحقيق الظن وتصديقه دون ما يهجس في النفس، فإن ذلك لا يملك، وقال سفيان: الظن الذي يأثم به أن يظن ظنًّا ويتكلم به، فإن لم يتكلم لم يأثم. وقيل: يحتمل الحكم في دين الله بالظن المجرد دون بناء على أصل ولا تحقيق نظر واستدلال.(8/193)
قال الإمام: خرج مسلم في بعض طرق هذا الحديث: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:" لا تحاسدوا "، ثم عقب بعد بقوله: حدثنيه علي بن نصر الجهضمي، كذا عند أبي أحمد وهو الصواب، وفي نسخة أبي العلاء: حدثنيه نصر بن علي، جعل بدل /"على بن نصر" "ابن علي".
وذكر مسلم بعد هذا بأحاديث: حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ثم أردف على هذا حديث على بن نصر: حدثنا وهب بن جرير، ولم يختلف الشيخ في هذا الموضع. في هذه المتابعة أنها عن علي بن نصر، وهو أبو الحسن علي بن نصر بن علي بن نصر الجهضمي،ومات على بن نصر هذا مع أبيه نصر بن علي في سنة واحدة سنة خمسين ومائتين، مات الأب في ربيع الآخر، ومات ابنه في شعبان من السنة المذكورة.
قال الفاضى: هذا ما لخصه من كلام الجياني رحمه الله، وقد وافق ابن ماهان على الرواية الأولى فيما قيدناه عن شيوخنا العذري عن الرازي، والطبري عن الفارسي، كلاهما عن الجلودي. وإنما قيدنا على بن نصر عن السمرقندي عن الفارسي عن السجزي عن الجلودي. وأما الحديث الآخر الذي لم تختلف عنده فيه النسخ في علي بن نصر عن وهب بن جرير، فكثر الرواة فيها على ما قال، لكن قيدنا وسمعنا هذا الموضع على القاضي أبي علي عن العذري، وعلي الفقيه أبي محمد عن الطبري: نصر بن علي، كما تقدم لابن ماهان والعذري والطبري. قيل: وهم يخطئون قول من قال في هذين الحديثين: نصر بن علي، وإن كان مسلم يروى عن نصر بن علي والد علي بن نصر كثيرًا، ولم يقع له عن أبيه إلا مواضع قليلة، وروى عن والده علي بن نصر أيضًا، وروى البخاري عن علي الأسفل نظر، وعلى هذا الأسفل هو علي بن نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي. وله ذكر قبل وفاة علي هذا وابنه نصر وأما جده علي بن نصر، فتوفي سنة تسع وثمانين ومائة. ومات أبوه نصر بن علي جدهم الأعلى في آخر أيام أبي جعفر المنصور. ذكر ذلك كله البخاري.(8/194)
وقد كتبنا عن شيوخنا توهيم من قال في هذين الحديثين: نصر بن علي، ولا أدرى لم ذلك. ومسلم قد روى عنهما جميعًا إلا ألا يجعلوا لنصر سماعًا لابن وهب، فليس هذا، وهو مذهب مسلم وهو معاصر لوهب، وقد سمع منه ابنه على ووفاتهما واحدة على ما تقدم، ففى توهيمهم لهذه الرواية نظر. وقد جاء عنه أيضًا في حديث:" عذبت امرأة في هرة ": حدثنا نصر بن علي، حدثنا عبدالأعلى. كذا في كتاب أبي عيسى، وعند أبي بحر وغيره: حدثنا علي بن نصر، وفي الباب: حدثنا أبو كامل، حدثنا يزيد بن زريع، وحدثنا محمد بن رافع. وعند ابن حميد كلاهما عن عبد الرزاق وعن معمر عن الزهري بهدا الإسناد. وأما في رواية يزيد عنه كذا لاكثر شيوخنا: يزيد عن معمر، وعند الهوزنى وهي رواية ابن ماهان. وأما في رواية يزيد وعبد بن حميد فالأول إن شاء الله الصواب ؛ لقوله: وأما حديث عبد الرزاق. وعنه إنما روي عن عبد الرزاق، فدل أنه لم يذكره قبل. ونهيه عن الهجرة وتأكيده في ذلك ؛ لأنها على الجملة بين المؤمنين محرمة، والألفة واجبة، وفي تقاطعهم فساد أمرهم، وانحلال عقدهم، واضطراب أمر دينهم ودنياهم.
وقوله: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله "، أي: لا يترك نصره إذا احتاج إليه، ومعونته في الحق. وقوله: لا ولا يحقره ": كذا رواية السجزي والسمرقندي بالحاء المهملة والقاف، أي لا يتكبر عليه ويستصغره ويذله. ورواه العذري: " يخفره " بالخاء المعجمة والفاء، وضم الياء أوله. ومعناه: يغدره. يقال: خفرت الرجل إذا أجرته وأمنته، وأخفرته إذا لم تف بذمته وأسلمته وغدرته. وبحسب ذلك اختلفوا في قوله آخر الحديث: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه "، والصواب من ذلك أن يكون بالقاف من الاستحقار، وكذلك وقع في غير مسلم بغير خلاف. وروى: "يحتقر ".(8/195)
وقوله: " التقوى هاهنا " واشار إلى صدره، وفي الحديث الآخر بعده: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم "، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، نظر الله هنا: هو رؤية الله لذلك ليجازي عليه ويثيبه، ونظر الله ورؤيته محيطة بكل شيء، وإنما المراد من ذلك هنا بالتخصيص ما يثيب عليه ويجازى من ذلك، فكل هذا إشارة إلى النيات والمقاصد، وأن المجازي عليه ما كان للقلب فيه عمل من قصد ونية وذكر.
قال الإمام: جعل بعض الناس هذا الكلام حجة على أن الفعل محله القلب، وقد تقدم الكلام عليه وذكر كلام الناس فيه مبسوطًا.
قوله:" تفتح أبواب الجنة يوم الخميس، فيغفر لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء "، قال القاضي: قال الباجي: معنى فتح أبوابها: كثرة الصفح والغفران في هذين اليومين، ورفعة المنازل، وإعطاء الجزيل من الثواب، ويحتمل أن يكون على ظاهره، وأن فتح أبوابها علامة على ذلك ودليل عليه.
وقوله:" اركوا هذين حتى يفيئا "، قال الإمام: أي اخروهما. قال ابن الأعرابى: يقال: ركاه يركوه: إذا أخره.
قال القاضي: يؤيد هذا ما في الرواية الأخرى:" أنظروا " بمعنى: أخروا. وقد رواه السمرقندي هنا:" اتركوا "، وفي "الموطأ": " اركوا واتركوا ". والشحناء: العداوة والشنان، كانه شجن.قلبه بغضا له، أي ولاه.
قوله:" أين المتحابون لجلالي "، أي لعظيم حقي وطاعتي، لا لغرض كساء.(8/196)
وقوله:" اليوم أظلهم في ظلي، يوم لا ظل إلا ظلي لما إضافة ملك وتشريف. والظلال كلها لله. وقد جاء مفسرًا:" ظل عرشي "، وظاهره كونه في ظله من الحر والشمس، ووهج الموقف، وأنفاس الخلق، وهو تأويل الأكثر. وذهب عيسى بن كيسان: أن معناه: كفه عن المكاره وإكرامه، وجعله في كنفه وستره. ومنه قولهم: السلطان ظل الله في الأرض. وقيل: خاصته. وقد يصح في الحديث الأول هذا التأويل أيضًا، يقال: فلان في ظل فلان، أي في كنفه وعزته. وقد يكون هذا الظل عبارة عن الراحة والتنعم، يقال: هو في عيش ظليل، أي طيب.
وقوله: " إن أخا زار أخا له، فأرصد الله له ملكًا على مدرجته "، أي: جعله يرقبه على طريقه حتى يمر به، ومدرجة الطريق: قارعته. وقوله:" هل لك عليه من نعمة تربها "، أي: تقوم عليها وتسعى في صلاحها، وتنهض له بسبب ذلك. فقال: لا. وقوله:" فإن الله أحبك كما أحببته "، فيه : محبة الله - تغالى - لعبيده رحمته لهم، ورضاه عنهم، وإرادته لهم، وفعله بهم في ذلك فعل المحب بحبيبه، ومراده له من الخير. وأصل المحبة: الميل، والله تعالى منزه عن ذلك.
قوله:" عائد المريض في مخرفة الجنة "، بفتح الميم والراء، وفي الرواية الأخرى: " في خرفة الجنة " بضم الخاء، وجاء في الأم من تفسيره: قيل: ما خرفة الجنة يارسول الله ؟ قال:" جناها "، قال الإمام: قال أبو عبيد: قال الأصمعى: واحد المخارف مخرف. وهو جناء النخل، سمى بذلك لأنه يخترف، أي يجنى. قال شمر: المخرفة: سكة بين صفين من نخل يخترف من أيهما شاء. وقال غيره: المخرفة: الطريق، فمعنى الحديث: أنه على طريق تؤديه إلى الجنة، ومنه قول عمر:" تركتكم على مثل مخرفة النعم "، أي مثل طريقتها.(8/197)
قال القاضي: وقد قيل: المخرف: البستان الذي فيه الفاكهة تخترف. وقيل: القطعة من النخل. وقال الخطابي: المخرف بالفتح: الفاكهة نفسها. والمخرف بالكسر: وعاء يجمع فيه ذلك. ومنهم من يفتح الميم فيجعله كالمسجد، والمسجد لموضع السجود، ومنهم من يكسرها فيجعله كالمربد.
وعيادة المريض من الطاعات المرغب فيها، العظيمة الأجر، وقد جاء فيها هذا الحديث وغيره. وقد يكون من فروض الكفاية، لا سيما المرضى من الغرباء ومن لا قائم عليهم ولا كافل لهم، فلو تركت عيادتهم لهلكوا، وماتوا ضرًّا وعطشًا وجوعًا، فعيادتهم تطلع على أحوالهم ويتذرع بها إلى معونتهم، واعانتهم، وهي كإغاثة الملهوف، وإنجاء الهالك، وتخليص الغريق. من حضرها لزمته، فمتى لم يعادوا لم يعلم حالهم في ذلك.
ولفظة " العيادة " تقتضى التكرار والعود والرجوع إليه مرة بعد أخرى لافتقاد حاله. والعودة: الرجوع، ومنه: العود أحمد. وجاء: عودًا بعد بدء، أي رجع. ويقال: عدت المريض عودا وعيادة، والياء عندهم منقلبة عن واو.
قال الإمام: خرج مسلم حديث:" من عاد مريضًا لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع "، خرجه عن حماد بن زيد عن أبي قلابة، ومن حديث هاشم ويزيد بن زريع كلاهما عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة أيضًا، عن أبي أسماء.
وذكره مسلم أيضًا من حديث يزيد بن هارون عن عاصم الأحول، عن قلابة، عن أبي أسماء. قال الترمذي: سألت البخاري عن إسناد هذا الحديث فقال: رواه عن عاصم الأحول وأبي غفار، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن أبي أسماء، قال: وأحاديث أبي قلابة عن أبي أسماء ليس فيها أبو الأشعث إلا هذا الحديث الواحد.
قال الإمام: وذكر الأثرم عن أحمد بن حنبل أنه قال: وقع أبو قلابة إلى الشام وهو يروي عن أبي الأشعث وأبي اسماء، وأراه قد سمع منهما، وروى أيضًا عن أبي الأشعث عن أبي أسماء.(8/198)
وقوله عليه الصلاة والسلام:" إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا بن آدم مرضت فلم تعدني. قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده. يا بن آدم، استطعمتك فلم تطعمنى ؟ قال: يا رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال: أما علمت أنه استطعمك فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي "، قال الإمام: قد فسر في هذا الحديث معنى المرض، وأن المراد به مرض العبد المخلوق. وإضافة الباري سبحانه ذلك إلى نفسه تشريفًا للعبد، وتقريبًا له. والعرب إذا أرادت تشريف أحد حلته محلها، وعبرت عنه كما تعبر عن نفسها.
وأما قوله:" لو عدته لوجدتني عنده "، فإنه يريد ثوابي وكرامتي، وعبر عن ذلك بوجوده على جهة التجوز والاستعارة، وكلاهما سائغ شائع في لسان العرب. وقد قدمنا ذكر أمثاله. وعلى هذا المعنى يحمل قوله تعالى: {ووجد الله عنده }، يعني مجازاة الله تعالى، ومثل هذا كثير.
قال القاضي: وقد جاء في آخر الحديث في الإطعام:" لو أطعمته لوجدت ذلك عندي"، وكذلك قال في السقي، أي ثواب ذلك وجزاؤه. وهذا تفسير:" لوجدتني عنده ".
وقوله: " ما رأيت رجلاً أشد عليه الوجع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، تريد المرض. والعرب تسمى كل مرض وجعًا، وهذا يفسره قوله في الحديث الآخر: ذلك بأن لك أجرين قال:" أجل "، وقوله في الحديث الآخر: " أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل " إلى قوله:" فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض ما عليه خطيئة ".(8/199)
وقوله:" إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف الأجر "، قالوا: فخص الله أنبياءه وأولياءه بذلك بحسب ما خصهم به من قوة العزم والصبر والاحتساب ليتم لهم الخير، ويعظم لهم به الأجر، ويستخرج منهم حالات الصبر والرضى والشكر والتسليم، والتوكل والتفويض، والتضرع والدعاء، إعظامًا لأجرهم، وتوفية لثوابهم، وتأكيدًا لتصابرهم في رحمة الممتحنين، والشفقة على المبتلين، ويذكره به عن دونهم، وموعظة لمن ليس في درجتهم ليتأسوا بهم ويقتدوا برضاهم وصبرهم. ومحو السيئات التي سلفت منهم، لاسيما لمن اجترأ الصغائر على الأنبياء.
وقول عائشة للذين ضحكوا من الذي سقط:" لا تضحكوا "، الضجك في مثل هذا غير مستحسن ولا مباح، إلا أن يكون من غلبة مما طبع عليه البشر. وأما قصدًا ففيه شماتة بالمسلم وسخرية بمصابه، والمؤمنون إنما وصفهم الله بالرحمة والتراخم بينهم ومن خلقهم الشفقة بعضهم لبعض.
قوله: " وطنب الفسطاط ": حباله التي يشتد بها. والفسطاط: الخباء ونحوه، ويقال: بضم الفاء وكسرها، ويقال أيضًا: فسياط بضم الفاء وكسرها فيهما أيضًا.
وقوله: " ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة "، وفي الرواية الأخرى: "رفعه الله بها درجة "، وفي الأخرى: " إلا كتب الله له بها حسنة "، أي تصيبه شوكة وهو أدنى الأذى. ومصائب الدنيا ورفعة الدرجات وزيادة الحسنات بذلك خلاف، من ذهب أنها تكفر فقط، وقد روى نحوه عن ابن مسعود، قال: الوجع لا يكتب به الأجر ولكن يكفر به الخطايا، واعتمد على الأحاديث التي جاءت فيها تكفير الخطايا فقط، ولعله لم يبلغه قوله في هذا الحديث:" إلا كتب الله له بها حسنة ".
وقوله:" إلا قص الله بها من خطيتمه "، وفي رواية السمرقنذى:"نقص" " وكلاهما متقارب المعنى، أي حوسب بقدرها وحط عنه مثلها، كما جاء في الرواية الأخرى: لا حط وكفر ا وأصل القص: الأخذ، ومنه: القصاص أخذ حق المقتص من صاحبه.(8/200)
وقوله:" لا يصيب المؤمن من وصب ولا نصب "، قال الإمام: الوصب: لزوم الوجع، ومنه قوله تعالى:{ ولهم عذابٌ واصب }، أي: لازم ثابت، والنصب: التعب. قال القاضي: الأشبه هنا أن يكون النصب بمعنى الوصب. قال الخليل: النصب: الداء، يعني بسكون الصاد، ففتحه على اتباع وصب، والله أعلم، وليس هذا موضع الإعياء.
وقوله:" حتى الهم يهمه " بضم الياء وفتح الهاء على ما لم يسم فاعله. وقوله: حدثنا سفيان - يعني ابن عيينة -، عن ابن محيصن شيخ من قريش. كذا هو بتنوين الصاد في رواية كثرهم في سند الحديث. وعند العذري: ابن محيص بغير نون في آخره. قال مسلم: عمر بن عبد الرحمن بن محيصة من أهل مكة، كذا رواية السمرقندي والعذري: عبد الرحمن بن محيص، كذا لكافة شيوخنا عنه. وعند ابن عيسى: " ابن محيصن " بزيادة نون، وصوابه: عمر بن عبد الرحمن أ بن محيص، كذا ذكره البخاري، وقال: هو أبو حفص المكى السهمي القرشي روى عنه سفيان بن عيينة وعبد الله بن مؤمل، وقال عن ابن جريج: أخبرنى عمر بن عبد الرحمن، وكانت أمه بنت المطلب بن أبي وداعة.
وقوله:" نزلت:{ من يعمل سوءًا يجز به } بلغت من المسلمين مبلغًا شديدًا، فقال عليه الصلاة والسلام:" قاربوا وسددوا، ففى كل ما يصاب به المؤمن كفارة " الحديث، قيل في معنى الآية: ما جاء في هذا الحديث، من أن المسلم يجزى عن سيئاته بالمصائب في الدنيا. وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين. وقال الحسن: نزلت في الكفار خاصة.
وقوله:" قاربوا "، أي: اقتصدوا ولا تغلوا ولا تقصروا، ولكن حالاً بين حالين: "وسددوا": أي اقتصدوا السداد، وهو الصواب.
وقوله:" حتى النكبة ينكبها "، وهي مثل العثرة بالرجل، وقد ينجرح منه أصبعه. وأصل النكب: القلب، وهو مثل اللب.(8/201)
وقوله:" مالك يا أم السائب تزفزفين " بالزاي المعجمة، والفاء فيهما والتاء مضمومة ومفتوحة معًا،كذا روينا في هذا الحرف هنا عن جميع رواة مسلم، وقد رواه بعض الرواة بالقاف والراء. قال أبو مروان بن سراج: بالقاف والفاء معا بمعنى واحد صحيحان، بمعنى: ترعدين. والزفزفة بالزاى والفاء: صوت خفيف الريح، ومنه زفزفت الريح الحشيش: حركته، وزفزف النعام في طيرانه: حرك جناحيه.
قال الإمام: قوله:" ترفرفين "، قال أبو عبيد: قوله في الحديث: " إن الشمس ترفرف " معناه: تدور وتجىء وتذهب، ورفرفت الثريد بالسمن: كثرته. قال القاضي: كأنه فسر بهذا الحديث المتقدم على رواية من رواه بالقاف، ولعله لم يرو الأخرى المشهورة، وفه: رفراف السحاب، وهو ما اضطرب منه. ورفرف الخمر بالماء مزجها به. وهو من الاضطراب.
وقوله تعالى:" يا عبادي، إنى حرمت الظلم على نفسي" الحديث، قال الإمام: معنى قوله:" حرمت الظلم على نفسى ": أي لقدست عنه وتعاليت، والظلم مستحيل منه سبحانه وتعالى جده ؛ لأنه إنما يكون إذا تعديت الحدود وتجوزت المراسم، والباري جلت قدرته ليس فوقه أحد يحد له حدًّا أو يرسم له رسمًا، حتى يكون متجاوزًا لذلك ظالِمًا، ولا فوقه من يستحق أن يطيعه حتى يحلل له الحلال ويحرم عليه الحرام، ولكن تحريم الشيء يقتضي المنع منه والكف عنه، فسمى الباري تقدسه عن الظلم بهذا اللفظ فقال: " حرمت على نفسى الظلم.(8/202)
أما قوله: " يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته "، فكان ظاهره أن الناس على الضلال يخلقون إلا من هداه الله سبحانه، وقد ذكر في الحديث أنهم على الفطرة مولدون، وقد يراد بهذا هاهنا: وصفهم بما كانوا عليه قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام إليهم، أو إنهم إن تركوا وما في طباعهم من إيثار الراحة لاعمال النظر ضلوا، إلا من هداه الله سبحانه. وظاهر هذا يطابق مذهب الأشعرية في قولهم: إن المهتدي بهدي الله اهتدى، وأنه سبحانه إنما أراد هداية من اهتدى من خلقه خاصة. والمعتزلة تقول: بأنه سبحانه أراد من سائر الخليقة أن يهتدوا، ولكن منهم من استحب العمى على الهدى.
وقوله عليه الصلاة والسلام هاهنا:" كلكم ضال إلا من هديته "، فجعل من هداه مستثنى من الجملة يدل على بطلان قولهم: إنه أراد أ هدايته بالجملة. قال القاضي: وقول أبي ذر في أول الحديث: فيما يرويه عن ربه، وقد جاء مثل هذا في غير حديث عن ابن عباس وغيره، حجة في جواز إطلاق هذا اللفظ في حق النبي عليه الصلاة والسلام فيما أوحى إليه.
وقوله: " ما نقص ذلك مما عندي إلا كما نقص المخيط إذا أدخل في البحر "، معناه: إنه لم ينقص شيئًا، كما قال في الحديث الآخر له:" لا يغيضها نفقة "، أي لا ينقصها ؛ لأن ما عند الله لا يدخله نقص، وإنما يدخل النقص المقدر المحدد الفاني، وما عند الله هو رحمته وإفضاله على عباده، وهي صفاته الباقية التي لا تفنى، ولا يأخذها حد ولا حصر.
وقوله:" إلا ما ينقص المخيط إذا أدخل البحر "، غاية في باب التمثيل في هذا، ويقرب لك أفهام بما يشاهد ؛ فان ماء البحر من أعظم المرئيات عيانًا وأكثرها. ودخول المخيط فيه، وهي الإبرة التي يخاط بها، وخروجها لا ينقص شيئًا ؛ إذ لا يعلق بها من ماء البحر شيء لصقالتها.(8/203)
قوله: " الظلم ظلمات يوم القيامة ": قيل: ظاهره أنه ظلمات على صاحبه حتى لا يهتدي يوم القيامة سبيلاً حيث يسعى نور المؤمنين بين أيديهم وبأيمانهم. وقد تكون الظلمات هنا: الشدائد، وبه فسروا قوله تعالى:{ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر }، أي شدائدهما.
وقد تكون الظلمات هاهنا عبارة عن الاتكال بالعقوبات عليه، وقابل بهذه اللفظة قوله: " الظلم " لمجانسة الكلام،كما قال تعالى:{ مستهزئون ( الله يستهزئ بهم }.
وقوله:" اتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم "، يحتمل أن هذا هو الهلاك الذي أخبر عنهم في الدنيا، ويحتمل أنه أراد هلاك الآخرة، وهذا الشح: الحرص على ما ليس عندك والبخل بما عندك، قال الله تعالى:{ أشحة عليكم }، قيل: يأتون الحرب معكم لأجل الغنيمة.
وقوله:" من فرخ عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة "، في هذا فضل معونة المسلم للمسلم في كل خير، وفعله المعروف إليه، وستره عليه. وهذا الستر في غير المستهترين، وأما المنكشفون المستهترون الذين يقدم إليهم في الستر وستروا غير مرة فلم يرعوا وتمادوا، فكشف أمرهم وقمع شرهم مما يجب ؛ لأن كثرة الستر عليهم من المهادنة على معاصى الله تعالى ومصانعة أهلها. وهذا أيضًا في ستر معصية أ انقضت وفاتت، وأما إذا عرف انفراد رجل بعمل معصية واجتماعهم لذلك فليس الستر هاهنا السكوت على ذلك وتركهم إياها، بل يتعين على من عرف ذلك إذا أمكنه بتغييرهم عن ذلك كل حال وتغييره، وان لم يتفق ذلك إلا بكشفه لمن يعينه أو للسلطان. وأما إيصاء حال من يضطر إلى كشف حاله من الشهود والأمناء والمحدثين، فبيان حالهم ممن يقبل منه ذلك وينتفع به مما يجب على أهله. فأما في الشاهد فعند طلب ذلك منه لتجريحه، أو إذا رأى حكما يقطع بشهادته وقد علم منه مايسقطها، فيجب رفعها.(8/204)
وأما في أصحاب الحديث وحملة العلم المقلدين فيه، فيجب كشف أحوالهم السيئة لمن عرفها ممن يقلد في ذلك، ويلتفت إلى قوله ؛ لئلا يغتر بهم ويقلد في دين الله من لا يجب. على هذا اجتمع رأى الأنمة قديمًا وحديثًا. وليس الستر هنا بمرغب فيه ولا مباح. وفيه أن المجازاة في الآخرة قد لكون من جنس العمل في الدنيا من خير أو شر. وليس في الحديث ما يدل على الإثم في كشفه ورفعه إلى السلطان، وإنما فيه الترغيب على ستره. ولا خلاف أن رفعه له وكشفه معصية الله مباح له غير مكروه ولا ممنوع، إن كانت له نية من أجل عصيانه لله، ولم يقصد كشف ستره والانتقام منه مجردا فهذا يكون له.
وقوله: في المفلس:" هو الذي يأتي بصلاة وصيام وزكاة، وقد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا " الحديث، يعني: أن هذا هو حقيقة المفلس خاصة؛ لأنه في استعمال الناس فيمن قل ماله وعدمه حتى صار فلوسًا، وهذا لمن ينقطع وقد تنقلت به الحال، ويرجو الانجبار لحاله، وإذا بقيت له صحته وسلم له دينه لم يهلك في الدنيا ولا في الأخرة. فاعلمهم أن حقيقة المفلس هو الهلاك التام والعدم المتصل المهلك، مثل هذا الذي كانت له حسنات وللناس عليه تباعات، فاخذوا حسناته كما يؤخذ من الغريم ما بيده، ثم لما لم يكن له حسنات طرحت عليه سيئاتهم، وطرح في النار ؛ ليتم هلاكه وتأبد فلسه، وأيى من فلاحه وانجبار حاله، إلا ما يكون بعد، مما تفضل الله به من إخراج المذنبين لي ادخالهم الجنة، بعد الأمر الذي قدره الله في هذا البوار، نعوذ بالله من فلس الدنيا والآخرة.(8/205)
وقد ردت المبتدعة هذا الحديث، وقالوا: يعارضه قوله:{ ولا تزر وازرة وزر أخرى }، وقد غلطوا في النظر والتأويل، وهذا إنما عوقب بوزره وظلمه أخاه ولا حبط عمله، كما احتجت به المعتزلة لمذهبها، لكنه سقطت حسناته لما قوبلت سيئاته ومظالمه وزادت عليها في الوزر، واستوجب العقوبة بما زاد وكان ئواب حسناته الساقطة في الوزن للمظلوم ثوابًا على صبره ومحنته به، وفضلاً زاده الله من عنده. وإنما عوقب بما اجترح وعلى وزره، ولم يظلم، ولا أخذ شيء من عمله، ولا أحبط إلا بحكم الموازنة والمحاسبة، ورجحان السيئات، قال الله تعالى:{ ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون }، فمعنى أخذ الحسنات وطرح السيئات نوع من العقوبات التي أعدها الله للظالمين، وزيادة في ثواب المظلومين الصابرين، لا أنه مؤاخذ بذنب لم يعمله من ذنوب غيره، ولا أحبطت حسناته لسيئاته، ولا دفعت لغيره، بل زيد المظلوم على أجره مثل ثواب حسنات ظالمه، فضلا من الله تعالى. هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وعليه يتأول ظاهر هذا الحديث، حتى لا يجد ملحد فيه مطعنًا ولا له به حجة.
وقوله: " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء "، قال الإمام: اضطرب العلماء في إعادة البهائم، ووقف الشيخ أبو الحسن الأشعري في ذلك، وجوز أن يعاد المجانين ومن لم يبلغه الدعوة وجواز أن يعادوا ولم يرد عنده قطع في ذلك. والمسألة موقوفة على السمع.(8/206)
وأقوى ما يتعلق به من يقطع بإعادة البهائم قوله عزوجل:{ وإذا الوحوش حشرت }، ومن لم يقطع على الإعادة يقول: معنى:{ حشرت}: أي ماتت، والأحاديث الواردة في ذلك عنده من أخبار الآحاد إنما توجب الظن، والمراد من المسألة القطع. وقد قال بعض شيوخنا في قوله: " تقاد الشاة الجلحاء من الشاة القرناء ": أن المراد به ضرب مثل ؛ ليشعر الباري سبحانه الخليقة أنها دار قصاص ومجازاة، وأنه لا يبقى لأحد عند أحد حق، فضرب المثل بالبهائم التي ليست مكلفة حتى يستحق فيها القصاص، ليفهم منه أن بني آدم المكلفين أحق وأولى بالقصاص منهم. ويصح عندي أن يخلق الباري سبحانه هذه الحركة في البهائم في الأخرة ليشعر أهل المحشر بما هم صائرون إليه من العدل بينهم، وسمى ذلك قصاصًا لا على معنى قصاص التكليف، ولكن على معنى قصاص المجازاة، والقطع في هذا لا سبيل إليه، وإجراء الكلام على ظاهره إذا لم يمنع منه عقل ولا سمع أولى وأوجب.
والجلحاء: هي الجماء التي لا قرن لها، ويقال: قرية جلحاء لا حصن لها. والأجلح من الناس: الذي انحسر الشعر عن جانبى رأسه، وسطح أجلح: الذي لم يحجب بجدار ولا غيره، ومنه حديث أبي أيوب:" من بات على سطح أجلح فلا دية له "، وهودج أجلح: الذي لا رأس له.
قال القاضي: توقف من توقف من الأئمة في إعادتها، إنما هو على القطع بذلك على الله، كما يقطع بإعادة أهل الثواب والعقاب ومن يجازى، ولم تكن الظواهر الواردة في ذلك نصًّا ولا أخبارًا متواترة، ولا هي مما تحتها عمل، فيجب العمل بها، كما يجب بالظواهر وأخبار الآحاد، والمسألة علمية مجردة، والأظهر حشر المخلوقات كلها مجموع ظواهر الآيات والأحاديث، وانه ليس من شرط الإعادة المجازاة والعقاب والثواب، فقد وقع الإجماع على أن أولاد الأنبياء في الجنة ولا مجازاة على الأطفال.(8/207)
واختلف الناس فيمن بعدهم اختلافًا كثيرًا بإمضاء ذكره، ويأتي منه إن شاء الله. قال الإمام: وقوله:" إن الله يملى للظالم ": أي يمهل ويؤخر ويطيل له المدة. قال ابن الأنباري: اشتقاقه من الملوة، وهي المدة والزمان قال غيره: يقال:" ملوة " بفتح الميم وضمها وكسرها.
وقوله:" حتى إذا أخذه لم يفلته "، قال القاضي: قيل: أي لم ينفلت منه، وقيل: يكون معناه: أي لم يخلصه أحد منه. يقال: انفلت الرجل من الآخر وأفلت وأفلته أنا.
وقوله عليه الصلاة والسلام حين سمع: يا للأنصار، يا للمهاجرين، من الرجلين اللذين اقتتلا:" ما هذا ؟ أدعوى الجاهلية "، نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدعوى بالقبائل كما كانت الجاهلية تفعل، وأن تناصفها إنما كان بالعصبة. والإسلام جاء بالقضاء والفصل بالحق في الأمور، وقد قال عليه الصلاة والسلام:" دعوها، فإنها منتنة "، أي: قبيحة ودنيئة. لكن قوله هاهنا لما قيل له القصة: " لا بأس " دليل على الرخصة في ذلك إذا كان لنصرة الحق، كما قال في حلف الفضول:" لو دعيت فيه لأجبت ". وقد يكون قوله:" لا بأس "، أي: لم يقع تحت هذه الدعوة بأس كان خافه قبل، وهو أظهر.
وقوله:" فكسع أحدهما الآخر "، قال الإمام: كسعت الرجل: إذا ضربت مؤخره فاكتسع، أي سقط على قفاه. وفي حديث آخر:" فضرب عرقوب فرسه حتى اكتسعت "، أي سقطت من مؤخرها. قال الهروي: "كسع رجل من الأنصار ": أي ضرب دبره.
قال القاضي: قال الطبري: والكسع: هو ضرب الرجل عجزة الآخر بظهر الرجل. وقال: هو ضرب الدبر. وقيل: هو ضربه بالسيف على مؤخره. وقال الخليل: هو ضربك دبر الرجل بيدك أو رجلك.(8/208)
وقوله:" ولينصر الرجل أخاه ظالِمًا أو مظلومًا، إن كان ظالما فلينهه، فإنه له نصر، وإن كان مظلومًا فلينصره "، وفسره في الحديث كما تراه. قال بعضهم: هذا من فصيح الكلام ووجيزه، وتسمية الشيء بما يؤول إليه ؛ لأنه لو لم ينهه ففعل ما لا يجب أدى ذلك إلى القصاص منه، فنهيه له كمنعه أن يقض منه، ونصره على ذلك، وليس عندي هذا والكلام أبين من أن يحتاج إلى هذا التكلف، وهو على وجهه. فنصره بكفه عن الظلم ونهيه عنه نصره له بالحقيقة على الشيطان، والهوى، وخلق السوء الذي يحمل على الظلم، ومعونة لدينه وعقله، ونصره على الرجوع إلى الحق والوقوف عنده.
وقوله: " لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه "، فيه ترك تغيير بعض الأمور التي يجب تغييرها، مخافة أن يؤدى تغييرها إلى ممثر منها. وقد مضى من ذلك أول الكتاب.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يستألف على الإسلام النافرين عنه، فكان يعفو عن أشياء كثيرة أول الإسلام لذلك ؛ لئلا يزدادوا نفارًا، وكانت العرب من حمية الأنف، وإباءة الضيم، حيث كانوا، فكان عليه الصلاة والسلام يستألفهم بطلاقة وجهه، ولين كلمته، وبسط المال لهم، والإغضاء عن هناتهم، حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم، ويراهم أمثالهم فيدخل في الإسلام ويتبعهم أتباعهم عليه. ولهذا لم يقتل المنافقين، ووكل أمرهم إلى ظواهرهم، مع علمه ببواطن كثير منهم، واطلاع الله تعالى إياه على ذلك. ولما كانوا معدودين في الظاهر في جملة أنصاره وأصحابه ومن تبعه، وقاتلوا معه غيرهم حمية أو طلب دنيا أو عصبية لمن معهم من عشائرهم، وعلمت بذلك العرب، فلو قتلهم لارتاب بذلك من يريد الدخول في الإسلام ونفره ذلك عنه، وتوقع أن يكون ذلك لأمنه وعرض آخر.(8/209)
وقد اختلف: هل بقي حكم جواز ترك قتلهم والإغضاء عنهم ؟ أو نسخ ذلك آخرًا عند ظهور الإسلام عند قوله تعالى:{ جاهد الكفار والمنافقين } وأنها ناسخة لما كان قبلها ؟ وقيل: إنما العفو عنهم ما لم يظهروا نفاقهم، فإذا أظهروه قتلوا، قاله غير واحد من أئمتنا وغيرهم، واستدلوا بقوله تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض } إلى قوله:{ وقتلوا تقتيلاً }.
وقوله:" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا "، فيه الحض على تعاون المسلمين، وتناصرهم، وتآلفهم، وتوددهم، وتراحمهم.
وتمثيله عليه الصلاة والسلام في ذلك في البيان، وفي الحديث الآخر: "بالجسد إذا شكا بعضه شكا سائره كله " تمثيل صحيح، وتقريب للأفهام في إظهار المعاني في الصور المرتبة، فيجب على المسلمين امتثال ما حض - عليه السلام - عليه من ذلك والتخلق به.(8/210)
وقوله:" المستبان ما قالا "، فعلى البادئ، ما لم يعتد المظلوم "، أي يجاوز القدر الذي قال الآخر له، قال الله تعالى:{ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت }، قيل: جاوزوا المقدار الذي حد لهم. فيه جواز الانتصار من الظالم، وقد قالى تعالى:{ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل }، وقال:{ الذين إذا اصابهم البغي هم ينتصرون }، قيل: هذا على ظاهره، والآية محكمة والانتصار من الظالم محمود حسن، وقيل: نسختها آية السيف، فهي منسوخة، وأبعد بعضهم النسخ في مثل هذا، قال: لأنه خبر ولا يبعد النسخ فيه ؛ لأنه وإن كان خبرًا لمدح من هو بهذه الصفة، فقد حض على العمل بها قوله، ثم نسخ ذلك، وأن الخبر الذي لا يدخله النسخ فهو ما كان خبرًا عن شيء وقع وأمر كان لا مثل هذا. ومع هذا كله فالعفو والصفح أفضل، قال الله تعالى:{ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}، وقال:{ وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم }، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث بعد هذا:" ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزًّا"، وسباب المؤمن فسوق محرم، كما قال - عليه السلام -.(8/211)
جعل هذا الإثم على البادئ إذا لم يتعد الثاني، ومعناه: أن الثاني رد عليه من سبه مثله ما لم يتعدى إلى غيره من سلف، وإنما سبه في نفسه بمثل ما سبه به ونحوه، مما هو أيضًا غير بهتان ولا كذب. وقد يكون التعدى الذي منع منه هذا من ذكر ما لا يباح له ذكره بحال من سبه بكذب وبهتان، وإن كان الأول قد رماه به، أو من ذكر سلفه وغير نفسه في سبه، أو بالزيادة في نوع سبه، لان كان مما قد يجوز سب المربى عند التأديب كالأحمق والجاهل والظالم ؛ لأن أحدًا لا ينفك من بعض هذه الصفات إلا الأنبياء والأولياء فهو إذا كافاه بسبه فلا حرج عليه، وبقي الإثم على الأول بابتدائه وتعرضه بذلك. وقد يقال: إنما يرتفع عنه حق صاحبه وتباعته، ويبقى حق الله تعالى في تعديه لعرض أخيه. وقد يقال: إن الإثم يرتفع بانتصاف هذا منه،ويكون قوله: " على البادئ ": أي اللوم والذم لتعرضه لذلك.
قوله:" ما نقصت صدقة من مال "، فيه وجهان:
أحدهما: أنه بقدر ما نقص منه يزيده الله فيه وينميه ويكثره.
والثاني: أنه وإن نقص في نفسه ففي الثواب والأجر عنها ما يجبر ذلك النقص بإضعافه.
وقوله:" ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا "، فيه أيضًا وجهان:
أحدهما: ظاهره أن من عرف بالصفح والعفو ساد وعظم في القلوب وزاد عزه.
الثاني: أن يكون أجره على ذلك في الآخرة وعزته هناك.
" وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله "، فيه وجهان كذلك:
أحدهما: أن الله تعالى يمنحه ذلك في الدنيا جزاء على تواضعه له، وأن تواضعه يثبت له في القلوب محبة ومكانة وعزة.
والثاني: أن يكون ذلك ثوابه في الآخرة على تواضعه.
وهذه الوجوه كلها في الدنيا ظاهرة موجودة، وقد ضدق - عليه السلام - فيما أخبر منها. وقد يكون جمع الوجهين في جميعها. وكان هذا كله تنبيهًا على رد قول من يقول: الصبر والحلم الذل. ومن قاله من الجملة فإنما أراد به شبهه في الاحتمال وعدم الانتصار.(8/212)
قوله:" أتدرون ما الغيبة ؟" إلى قوله: " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه، فقد بهته "، كذا هو بفتح الهاء مخففة، وأخطا من شددها.
قال الإمام: يقال: بهت فلان فلانًا: إذا كذب عليه فبهته، أي يخبر في كذبه عليه { فبهت الذي كفر }، أي: قطع حجته فتحير. والبهتان: الباطل الذي يتحير في بطلانه.
قال القاضي: والأولى في تفسير هذا الحديث أن يكون من البهتان، أي قلت فيه البهتان، ويفسره الحديث الآخر:" وإن قلت باطلاً فذلك البهتان ". وقيل: بهته وأبهته بما لم يفعل، وهو قريب من الأول. قال صاحب الأفعال: بهت الرجل دهش، على ما لم يسم فاعله، وهي لغة القرآن الفصيحة. وبهت بضم الهاء حائز. وبهته بهتا وبهتانا: قذفه.
الاغتياب محرم، وأصله: ذكر الإنسان بما يسوؤه في غيبته، والبهت في وجهه، وكلاهما مذموم كان بحق أو باطل، إلا أن يكون لوجه شرعي، أن يقول له ذلك في وجهه على طريق الوعظ والنصيحة. ويستحب فيمن كانت منه زلة التعريض دون التصريح ؛ لأن التصريح يهتك حجاب الهيبة، وقد كان عليه الصلاة والسلام كثيرًا ما يقول:" ما بال أقوام يفعلون كذا ". ولا يواجه به. وأما في الظهر والغيبة ففى مثل تجريح الشاهد والعالم المقتدى به إذا دعت إليه ضرورة، أو في النصيحة عند المشورة، وإن اكتفى في المشورة بالتعريض وتركه تعيين العيب فحسن.
قوله:" لا يستر الله عبدًا في الدنيا إلا ستره يوم القيامة "، يكون ستره له ستر عيوبه ومعاصيه عن إذاعتها على أهل المحشر، وقد يكون ترك محاسبته عليها وذكرها له. والأول أظهر ؟ لما جاء في الحديث الآخر: " سترك بذنوبه"، يقول: " سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم ".(8/213)
قوله عليه الصلاة والسلام للذى قال له:" بئس ابن العشيرة "، فيه أنه لا غيبة فيمن جاهر بفسقه، ولا كافر، ولا أمير جائر، ولا صاحب بدعة، وهذا الرجل هو عيينة ابن حصن، وكان حينئذ - والله أعلم - لم يسلم، فلم يكن القول فيه غيبة، أو أراد عليه الصلاة والسلام إن كان قد أظهر الإسلام أن يبين حاله لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه، وقد كان منه في حياة النبي عليه الصلاة والسلام وبعده من هذه الأمور ما دلت على ضعف إيمانه.
وإلانة النبي عليه الصلاة والسلام له بالقول بعد هذا القول، تألفًا لمثله على الإسلام، بل فيه من أعلام النبوة قول النبي أنه:" بئس ابن العشيرة "، علم من أعلام نبوته، وقد ظهر ذلك منه ؛ إذ هو ممن ارتد وجىء به أسيرًا إلى أبي بكر، وله مع عمر بن الخطاب خبر- والله أعلم - بما ختم له به. هذا من المداراة وهو بذل الدنيا أ لصلاح الدنيا والدين. وهي مباحة مستحسنة في بعض الأحوال، خلاف المداهنة المذمومة المحرمة، وهو بذل الدين لصلاح الدنيا، والنبى عليه الصلاة والسلام هنا بذل له من دنياه حسن عشيرته، ولاسيما كلمته وطلاقة وجهه، ولم يمدحه بقول، ولا روى ذلك في حديث فيكون خلاف قوله فيه لعائشة، فلا يعترض على هذا بالمداهنة ولا بحديث ذى الوجهين، والنبى عليه الصلاة والسلام منزه عن هذا كله، وحديثه أصل في المداراة وغيبة أهل الفسوق والكفار وأهل البدع والمجاهرة.
ومعنى قوله:" ابن العشيرة وأخو العشيرة "، أي: القبيلة والجماعة، والعرب تستعمل مثل هذا القول: نعم ابن العشيرة وأخو العشيرة، يريدون قومه. وعشيرة الرجل: جماعته وقومه. وقد مضى تفسيره قبل.
وقوله - عليه السلام -:" إن من شر الناس منزلة عند الله، من ودعه الناس أو - تركه - اتقاء فحشه "، قال الإمام: قال شمر: زعمت النحوية أن العرب أماتوا مصدر يدع وماضيه، والنبى عليه الصلاة والسلام أفصح العرب، وقال:" لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعة "، أي تركهم.(8/214)
قال القاضي: مذهب النحوية في قولهم:" أماتوه "، لم يكثروا استعماله، واستعملوا أمثال من ترك ورفض والرفض والنزل. وقولهم: " أماتوه " يدل عليه، فان تكلم به متكلم منهم فليس لكثرة كلامهم بعده، ألا ترى أن هذين اللفظين من المصدر والفعل لا يكاد يوجد عن النبي عليه الصلاة والسلام في غير هذين الحديثين، مع شك الراوي في لفظ النبي كيف كان على ما في الحديث، ولم يقل النحوية: إنه خطأ ؛ إذ لا يجوز قوله فيكن منهم الاعتراض. قوله: " اتقاء فحشة "، أي: قبيح كلامه ؛ لأنه كان من جفاة الأعراب بى حمقائها وسادتها، وكان يسمى الأحمق المطاع.
قوله:" من يحرم الرفق يحرم الخير "، دل أن الرفق خير كله، ودليل على فضله ج لأنه سبب كل خير، وجالب كل نفع، بضد الخوف والعنف، قال الله تعالى:{ ولوكنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك }. وقد ذكر في الحديث أن الله يعطى على الرفق ما لا يعط على العنف "، أي يتأتى به من الأعراض ويسهل من المطالب به ما لا يتأتى بغير ه. وقال في الحديث الآخر: " ما يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه "؛ لأن التهور ليس من محاسن الأخلاق، وهو من مذامها. والعنف هو ضد الرفق بضم العين. قال أبو مروان بن سراج: ويقال بفتحها وكسرها.
وقوله في حديث جابر في هذا الباب: حدثنا يحيى بن يحيى، أنبأنا عبدالواحد بن زياد عن محمد بن إسماعيل. كذا عند جماعة شيوخنا وسائر النسخ، وفي كتاب القاضي أبو عبدالله بن عيسى: عبدالرحمن بن زياد، والأول الصواب، وعبدالواحد ذكره البخاري والحاكم، قد اتفقنا عليه، وهو أبو بشر العبدي.(8/215)
وقوله في هذا الحديث:" إن الله رفيق يحب الرفق "، قال الإمام: الباري سبحانه وتعالى لا يوصف إلا بما سمى به نفسه، أو سماه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أجمعت الأمة عليه. قال الشيخ أبو الحسن الأشعري: أو على معنى وما لم يرد فيه إذن في إطلاقه، ولا ورد فيه منع ولم يستحل وصف الباري تعالى به، ففيه اختلاف، هل يبقى على حكم العقل لا يوصف بتحليل ولا تحريم، أو يمتنع لقوله تعالى:{ ولله الأسماء الحسنى } فأثبت كون أسمائه حسنى، ولا حسن إلا ما ورد الشرع به.
وبيّن المتأخرين والأصوليين اختلاف أيضًا في تسمية الباري سبحانه بما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جهة أخبار الآحاد، فقال بعض المتأخرين من حذاق الأشعرية: يجوز أن يسمى بذلك ؛ لأن خبر الواحد عنده يقتضي العمل، وهذا عنده من باب العمليات، لكن يمنع من استعمال الأقسية الشرعية، وإن كانت يعمل بها في المسائل الفقهية.
ومال بعض المتأخرين منهم إلى المنع من ذلك، ولم ير خبر الواحد عائدًا عن الواحد بخبر إطلاق التسمية على الله سبحانه.
والأصل في قبول خبر الواحد والعمل به إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -، وما فهم عنهم في المسائل منقولة عنهم استعمال خبر الواحد فيها، فكان من أجاز قبول خبر الواحد في تسمية الله سبحانه، فهم من مسالك الصحابة قبولهم ذلك في مثل هذا، ومن منع منه لم يفهم من مسالكهم قبول مثل هذا، ولا يثبت الإجماع عنده على قبوله ملحق ما لم يقم عليه دليل. فقوله في هذا الحديث: " إن الله رفيق " أنه لم يرد في الشريعة بإطلاقه، سواء هذا جرى على ما أصلته لك هاهنا من الاختلاف، ويحتمل أن يكون رفيق بعبد صفة فعل، وهو ما يخلقه الله تعالى من الرفق لعباده، كأحد التأويلين في تسميته لطيف أنه بمعنى ملطف. وإلى هذا مال بعض أصحابنا. وقال بعضهم: يحتمل أن يريد: أنه ليس بعجول. وهذا يقارب معنى الحلم.(8/216)
وقوله في الناقة التي لعنتها المرأة:" دعوها فإنها ملعونة "، ولا تصاحبنا ناقة عليها لعنة "،" خذوا ما عليها وأعروها فإنها ملعونة "، وقول عمران بن حصين:" فكأني أنظر إليها ناقة ورقاء، تمشى في الناس وما يعرض لها أحد"، قال القاضي: الورقاء من النوق التي يخالط بياضها سواد، والذكر أورق.
وقوله: فقالت:" حل "، هي كلمة يزجر بها الإبل. يقال: حل يحل بسكون اللام فيهما، ويقال: حل حل بكسر اللام وتنوينها وبغير تنوين أيضًا. وأمر النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الناقة بما أمر من أخذ ما عليها وإعرائها من أداتها ؛ لأنها لعنتها صاحبتها لأمر أطلعه الله عليه فيها من لزوم اللعنة لها، أو لمعاقبة صاحبتها ؛ لنهيه قبل عن اللعن. فإن كان هذا وجهه ففيه العقاب في المال ليزجر غيرها عن ذلك. وأصل اللعن: الترك، وقيل: البعد، كذا قال أهل اللغة. فلما دعت عليها باللعنة وكانت غير مكلفة ممن تدركها لعنة العقاب استعمل فيها معنى اللعنة اللغوية من الترك والإبعاد والخروج عن الملك ؛ معاقبة لقائلها، والله أعلم.(8/217)
وقوله:" لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا، ولا يكون اللاعنون شفعاء يوم القيامة ولا بشهداء "، كله تعظيم لإثم اللعن وتجنبه، وأنه ليس من أخلاق المؤمنين والصديقين ولا الشهداء والشفعاء يوم القيامة، وأن من تخلق به فليس من هذه الطبقات العزيزة الرفيعة ؛ لأن اللعنة - وإن كان أصلها في اللغة الترك والإبعاد - فصار استعمالها في الدعاء الإبعاد من رحمة الله،وليس هذه خلق المؤمنين، الذين وصفهم الله بالرحمة بينهم والتعاون على البر، وأنهم كالجسد الواحد، وكالبنيان يشد بعضه بعضًا، وأن المسلم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث بعده: " إنى لم أبعث لعانًا وإنما بعثت رحمة "، فمن دعا على أخيه المسلم باللعنة، وهي: البعد من رحمة الله، وهي بمثابة المقاطعة والعداوة ومحبة الشر أجمعه له، وهو ضد الشفاعة والشهادة المقتضية للإشفاق والرحمة وس غاية ما يرده الكافر، وغاية ماله وعاقبة أمره، فكيف يجوز لمسلم وقر الإيمان في قلبه أن يحبه لأخيه ويدعو عليه به ؟! ولذا جاء في الحديث الآخر: " فكأنه قتله "، قيل: لأن القائل قطع منافعه الدنيوية وحياته فيها عنه، وهذا باللعنة سعى في قطع منافعه الأخروية وحياته في النعيم الدائم، بإبعاده من الجنة ورالحاقه باصحاب النار المبعدين، إذ هي مال الملعونين ودار المبعدين. وفيه يحتمل أن يكون معنى: " فكأنما قتله " في الإثم، أي أن له من الإثم على لعنه كالإثم على قتله، وقد يكون هذا في اللعانين عقابًا لهم ونقصا من منازلهم ؛ لأن الشفاعة في الآخرة والشهادة إنما هي من الشفقة، على المذنبين والرحمة لهم، فحرمها هؤلاء بفعلهم ضدها من اللعنة لهم المقتضية للقسوة عليه. وما روى عن النبي عليه الصلاة والسلام في لعن من لعنه بذكره بعد هذا ومعناه.(8/218)
وقوله في أول هذا الحديث:" بعث إلى أم الدرداء بخادم "، كذا لابن ماهان، وللجلودى: بأنجاد، بفتح الهمزة، وهو جمع نجد، وهو متاع البيت الذي ينجد به من فرش وستور ووسائد. والتنجيد: التزيين، وبيت منجد: مزين بمتاعه.
قوله:" اللهم إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، وإنى اتخذت عند ربى عهدًا لن تخلفنيه، فأى مسلم لعنته أو سببته أو جلدته- وفي رواية: أو آذيتة - فاجعله له زكاة وأجرًا "، وفي رواية: " وكفارة ورحمة وقربة، تقربه إليك يوم القيامة " على اختلاف ألفاظ الحديث، وزيادة بعضها على بعض، قال الإمام: فإن قيل: قوله عليه الصلاة والسلام:" اللهم ! إنى أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، وأيما أحد دعوت عليه من أمتى بدعوة ليس لها بأهل ". الحديث، قال الإمام وفقه الله: إن قيل: كيف يدعو النبي عليه الصلاة والسلام، بدعوة على من ليس لها باهل، وهذا مما لا يليق به - صلى الله عليه وسلم - ؟
قيل: المراد بقوله: ليس لها باهل عندك في باطن أمره، لا على ما يظهر إليه عليه الصلاة والسلام مما يقتضيه حاله حين دعاله عليه، فكأنه عليه الصلاة والسلام يقول: من كان باطن أمره عندك أنه ممن يرضى عنه فاجعل دعوتي عليه الذي اقتضاها ما ظهر إلى من مقتضى حاله حينئذ طهورًا وزكاة ". وهذا معنى صحيح لا إحالة فيه وهو عليه الصلاة والسلام متعبد بالظواهر، وحساب الناس في البواطن على الله تعالى.
فإن قيل: معنى قوله:" وأغضب كما يغضب البشر "، وهذا يشير إلى أن تلك الدعوة وقعت بحكم سورة الغضب، لا على أنها من مقتضى الشرع، فبقي السؤال على حاله ؟ قيل: يحتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام أراد ان دعوته عليه الصلاة والسلام أو سبه أو جلده كان مما خير بين فعله له عقوبة به للجانى، أو تركه. والزجر له بما سوى ذلك، فيكون الغضب لله تعالى على لعنته أو جلده، ولا يكون ذلك خارجًا عن شرعه ولا موقعًا له فيما لايجوز.(8/219)
ويحتمل أن يكون خرج هذا مخرج الإشفاق منه عليه الصلاة والسلام وتعليم أمته الخرف من تعدى حدود الله تعالى، فكأنه عليه الصلاة والسلام يظهر الإشفاق من أن يكون الغضب يحمله على زيادة يسيرة في عقوبة الجاني لولا الغضب ما زادها ولا أوقعها، ويكون ذلك من الصغائر على القول بجواز وقوعها من الأنبياء عليهم السلام وإشفاقًا منه عليه الصلاة والسلام وإن لم يقع منه. وقد وقع اللعن والسباب من غير قصد إليه، فلا يكون في ذلك نازل منزلة اللعنة الواقعة رغبة منه إلى الله سبحانه وطلبًا للاستجابة، فمثل هذه الطرائق ينبغي أن تسلك في مثل هذا الحديث.
قال القاضي: قد، يحتمل أن يكون ما ذكره من سب ودعاء غير مقصود ولا منوي، لكن بما جرت به عادة العرب في دغم كلامها وصلة خطابها، وايراد بعض ألفاظها غد حرجها وتأكيدها وعينها، ليس على نية إجابة ذلك، كقوله:" تربت يمينك "، و"عقري حلقى "، ونحوه مما جاء في الحديث من قوله: " لا كبر سنك "، " ولا اشبع الله بطنك "، وقد يسمون السب لعنًا، فاشفق - عليه السلام - من موافقة أمثالها، فعاهد ربه ودعاه ورغب إليه بأن يجعل ذلك القول رحمة وقربة كما قال، ولم يكن صفته - عليه السلام - الفحش ولا التفحش، ولا بعث سبابا ولا لعانًا.
ومثل هذا إنما كان يجرى على لسانه في الليل، وقد تقدم في الحديث أن يدعو على دوس ؛ لأنها كفرت، فقال: " اللهم اهد دوسًا "، وقال للذي جرحه وأدمى وجهه يوم أحد:" اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ".
وقد يكون فعله هذا - عليه السلام - ودعاؤه ربه إشفاقًا على المدعو عليه وتأنيسًا ؛ لئلا يلحقه من الخوف والحذر من ذلك ومن يقبل دعائه ما يحمله على اليأس والقنوط، وقد يكون سؤالاً منه لربه فيمن جلده أو سبه بوجه حق وعقاب على جرم، أن يكون ذلك عقوبة في الدنيا وكفارة له لما فعله، وتمحيصًا له عن عقابه عليه في الآخرة، كما جاء في لخديث الآخر، وهو أحد معاني الصلاة في اللغة.(8/220)
وقوله: " وفدية "، أي اجعل لعنتي وجلدي له فدية من عذابك في الآخرة.
وأما قوله:" أغضب كما يغضب البشر "، فهو عليه الصلاة والسلام لا يقول ولا يفعل في حال غضبه ورضاه إلا صدقًا وحقًا، لكن غضبه لله تعالى قد يحمله على الشدة في أمره، وتعجيل عقوبة مخالفه، وترك ما قد أبيح له من الإغضاء عنه والصفح، فقد جاء في الحديث: أنه " ما انتقم لنفسه قط إلا أن ينتهك حرمة الله ". وفي الباب: عن سالم مولى النصريين، بالصاد المهملة، وعند العذري بالمعجمة، وهو خطأ، والصواب الأول وهو سالم الملقب بسيلان، أبو عبد الله مولى مالك بن أوس ابن الحدثان البصري، ويقال: مولى شداد البصري، وكذا قاله البخاري وغيره.
وقوله: " أو جلده " في حديث ابن أبي عمر، قال: وهي لغة أبي هريرة على إدغام المثلين في جلدته. وقولها: " لا يكبر سني"، أو قالت:" قرني "، السن والقرن بفتح القاف سواء، يقال: هو سنه وقرنه، أي مماثله في المولد، فكأنهما في قوله: " لا كبر سنك ولا كبر قرنك، تقول: لا طال عمرك ؛ لأنه إذا طال عمره طال عمر قرنه وسنه.
وضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - من خوف أم سليم وهيبتها من إجابة دعوته، قيل: إنه عليه الصلاة والسلام لم يقصد الدعاء عليها، إلا كما تقدم من الجاري على لسان العرب.
وقوله:" تلوث خمارها "، أي تديره على رأسها.
وقوله:" كنت ألعب مع الصبيان "، فيه جواز ترك الصبيان لذلك.
وقوله:" فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحطأني حطأة - بحاء وطاء مهملة والطاء ساكنة مهموز - وقال:" اذهب فادع لي معاوية "، فجئت، فقلت: هو يأكل إلي قوله:" لا أشبع الله بطنه "، قال الإمام: يحمل على أنه من القول السابق إلى اللسان من غير قصد إلي وقوعه، ولا رغبة إلى الله تعالى في استجابته.(8/221)
وأما قوله:" فحطأني حطأة " ذكر مسلم عن أمية - يعني ابن خالد - في معناه: "قفدني قفدة " بتقديم القاف. قال الهروي في حديث ابن عباس هذا: " فحطأني حطوة " جاء به الراوي غير مهموز، وقال ابن الأعرابي: الحطو: تحريك الشيء مزعزعًا له، ورواه شمر بالهمز، وحكى عن غيره: لا تكون الحطأة إلا ضربة بالكف على بين الكتفين.
قال القاضي: الحطأة، قيل: لا تكون إلا بالضرب باليد مبسوطة. وتفسير أمية لها بالقفد قريب منه، وهو صفح القفا، وقيل: صفح الرأس، ويحتمل أن فعل النبي به ذلك ليى على طريق الصفع والعقاب ؛ إذ لم يتقدم بالخبر ما يوجب ذلك، ولكنه على طريق ما يفعل بالصغار والشباب من الملاعبة والتأنيس لهم، كما قيل: أذن ابن عباس في الصلاة. ويحتمل أنه تصد تاديبه على أمر فرط فيه لمن أمره واشتغل باللعب عنه.ولذلك يحتمل ان دعاءه على معاوية كان على طريق جد وتحقيق وضجر عليه ؛ إذ لم يبادر بإجابة دعوته المرة بعد الثانية،ولعله ظن أنه أمر على تراخ وغير معجل، أو كان محتاجًا إلى الطعام.
وقوله: " من شر الناس ذو الوجهين ": تقدم الكلام فيه وهو بين وهذا فيما ليس طريقه الإصلاح والخير بل في الباطل والكذب وتزيينه لكل طائفة عملها وتقبيحه عند الأخرى، وذم كل واحدة عند الأخرى بخلاف المداراة والإصلاح المرغب فيه، وإنما يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى، ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى وينقل لها الجميل عنها.(8/222)
وقوله:" لبس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرًا وينمي خيرًا " بعد هذا في الأم يبين ما قلناه. وقول ابن شهاب في الحديث: " لم أسمع أحدًا يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس م، وكذب الرجل امرأته وكذب المرأة زوجها "، قال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذا. واختلف في الصورة الجائزة فيه، وما هو هذا الكذب المباح في هذه الأبواب ؛ فحمله قوم على الإطلاق، وأجازوا قول ما لم يكن في ذلك لما فيه بن الصلاح، وأن الكذب المذموم إنما هو ما فيه مضرة المسلمين، واحتجوا بقول: إبل فعله كبيرهم هذا " وقوله:{ إني سقيم }، وقوله: فإنها أختي "، وقول منادى يوسف:{ أيتها العير إنكم لسارقون }، وقالوا: لا خلاف أن من رأى رجلاً يريد أن يقتل مسلمًا، أو يقدر على أن ينجيه منه بالكذب، أنه واجب عليه مثل أن يقول: ليس هو هاهنا، أو ليس هو فلان، ونحو هذا. فإذا كان واجبًا هنا فهو جائز فيما فيه الصلاح.(8/223)
وقال آخرون - وهو مذهب الطبري -: لا يجوز الكذب في شيء من الأشياء، ولا الخبر عن شيء بخلاف مخبره عن شيء، وما جاء في هذا من الإباحة فإنما هو مما لا يجوز في غيره للضرورة هنا، وإنما هو على التورية وطريق المعاريض لا تصريح الكذب، مثل ان يعد زوجته بأن يغفر لها ويحسن إليها، ونيته في ذلك إن قدر الله أو إلى مدة ذلك وثناؤه وإثابتها في غير هذا بكلمات مشتركة وألفاظ متحملة، يفهم منها ما يطيب قلبها، وكذلك في الإصلاح بين الناس ونقل ما ينقل لها ولا عن هؤلاء من كلام جميل، وقول حسن، وعذر محتمل، وكذلك في الحرب، كما كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها، مثل أن يقول: هل لكم في قتال بني فلان غزو بلد كذا، أو تأهبوا لغزو بلد كذا، وقد وجب غزو بني فلان، أو أنا أغزو بلد كذا ونيته وقتًا آخر، وكذلك أن يقول لمبارزة الخيل: سرجك، ويريد فيما مضى، ويقول للجيش من عدوه: مات إمامكم الأعظم ليدخل الذعر قلوبهم ويريد النوم، وشبه هذا، أو يقول: غدًا يقدم علينا مدد، وهو قد أعد قومًا من عسكره ليأتوا في صورة المدد ؛ فهذا من الخدع الجائزة والمعاريض المباحة، فمثل هذا كله من المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب. وتأولوا قصة إبراهيم ويوسف منها أنها معاريض، ووجوه أخر معروفة.
وأما قوله:" والمرأة تحدث زوجها "، فيحتمل أن هذا فيما يحدث كل واحد منهما الآخر من ودّه له واغتباطه له ؛ وإان كان أكثر مما يعتقده لما في ذلك من الصلاح ودوام الألفة بينهما، والله أعلم. وأما إذا كانت المخادعة مع العدو، أو المراعدة مع الزوجة بالأيمان والعهود، أو أخذ عوض من مال الزوجة على ما وعدها به، فلا يحل شيء من ذلك عند الجميع، وهو عاص كاذب، أثم فيما لم يف به من ذلك.(8/224)
وقوله في هذا الباب: في كتاب مسلم من حديث عمرو الناقد بسنده عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بهذا الإسناد، هذا هو الصواب، وكذا سمعناه في الكتاب،وكان في بعض نسخ مسلم فيه: محمد بن عبد الله بن عبيد الله بن شهاب، وهو خطأ، وعلى الصواب قرأناه وسمعناه من شيوخنا، لكن كتبنا فيه عن أبي بحر الرواية: ابن عبد الله بن عبيد الله، وهو خطأ، والصحيح ما في الكتاب.
وقوله:" ألا أنبئكم ما العضة ؟ هي النميمة القالة بين الناس "، كذا روايتنا عن أكثر شيوخنا:" العضدة " مثل العدة. وعند الجياني:" العضه " مثل الوجه. جاء في الحديث مفسرًا بالنميمة، ثم فسرها بالقالة بين الناس، أي نقل القول بينهم عن بعضهم لبعض.
قال الإمام: قيل في قوله:{ اجعلوا القرآن عضين }، هو جمع عضه، من: عضيت الشيء: أي مزقته. قال ابن عباس: امنوا ببعض وكفروا ببعض، فلعل النميمة سميت عضة ؛ لأنها تفرق بين الناس.
قال القاضي: قد جاء مفسرًا في الحديث بما لا يحتاج إلى غيره. وقد قيل في تفسير العضة: إنها السحر. وقيل: قول البهتان، وقد تقدم تفسيره في قوله: " لا يعضه بعض! بعضًا ". وقد قيل في قوله: { جعلوا القرآن عضين}، أي سحرًا ؛ لقولهم:{ إن هذا إلا سحر يوثر }.(8/225)
قوله:" إن الرجل يصدق حثى يكتب عند الله صديقا، ويكذب حتى يكتب عند الله كذابًا "، فيه تحريض على تحرى الصدق وتجنب الكذب وترك التساهل فيه، فمان ذلك يؤدى إلى أمثاله، ويقع فيه ويكثر منه إذا لم يتحفظ من الكذب حتى يعرف به، ويكتب عند الله بالمبالغة في الصدق إذا اعتاده، أو بالكذب إذا اعتاده، فان فعيل وفعال من " صديق، وكذاب " من ابنية المبالغة والكثرة. ومعنى كتبنا هنا: أي حكم عليه وله بذلد وحق له منزلة الصديقين وثوابهم، أو صفة الكذابين وعقابهم. وقيل في قوله:{ كتب الله لأغلبن }، أي حكم، ويكون هذا إظهار حكمه فيها وانفاذ قدرة له بالشقاوة والسعادة بمقتض الصفتين، أو كتب ذلك في كتاب ليشهر بالصفتين في الملأ الأعلى، أو يلقى ذلك في السنة الناس، كما يوضع القبول والبغضاء، والا فقضاؤه المتقدم وكتابه السابق قد سبق فيه بما كان ويكون فيه هذا. ثم الحديث عندنا في جميع النسخ الواصلة إلينا والروايات المتصلة بمسلم والبخاري عندنا، إلا أن أبا مسعود الدمشقي زاد عن مسلم في حديث ابن المثنى وابن بشار في هذا الباب: وإن شر الروايا روايا بالكذب وأن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا بعد الرجل مبيته ثم يحلفه. وذكر الدمشقى أن مسلمًا أخرج هذه الزيادة وقد ذكرها ايضا في الحديث أبو بكر البرقانى، قال أبو عبيد الله الحميدى: وليست عندنا في كتاب مسلم. ومعنى " الروايا " هنا قيل: جمع روية، وهو ما يرويه المرء يعده أمام عمله أو قوله، وقيل: جمع رواية، أي حامل وناقل له، وقد يكون عندي استعارة من راوية الماء، ومنه سمى راوية الحديث والعلم ؟ لحمله إياه كحمله الماء والانتفاع بما عنده كما ينتفع بمالها، وكما قيل لحامل العلم: وعاء علم وكنيف علم.(8/226)
وقوله:" إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار "، معناه: أن الصدق يهدي إلى البر بالعمل الصالح الخالص من الإثم. والبر اسم جامع للخير كله، وقيل: البر: الجنة، وقيل ذلك في قوله تعالى: ! لن تنالوا البر، ويوصل إليه، والبر يوصل إلى الجنة ويرشد إليها، والكذب يوصل إلى الفجور وأصله الميل عن القصد، وقيل: الانبعاث في المعاصي، ومنه قيل للفاجر: كاذب، وللمكذب بالحق: فاجر. ومعنى:" يتحرى الصدق ويتحرى الأدب "، أي يقصده ويعتمده، والحرى: ناحية الشيء.
قال الإمام: قوله: " ما تعذون الرقوب فيكم ؟" قلنا: الذي لا يولد له قال: " ليس ذلك بالرقوب، ولكنه الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئًا " الحديث. قال أبو عبيد: معناه في كلامهم: فقد الأولاد في الدنيا، فجعله الله فقدهم في الآخرة، فكأنه حول الموضع إلى غيره.
قال القاضي: لما كان الرقوب عندهم ذا مصيبة لفقد بنيه، كثير الأسف على ذلك، أعلمهم - عليه السلام - أن الذي أصيب بفقدهم في الاخرة هو المصاب حقيقة ؟ لما فاته من آخر تقديمهم كما وصل به من قوله:"ما تعدون الصرعة؟" فقالوا: الذي يصرع الرجال، قال: " ليس بذلك، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب "، فكأنه قال: ليس الرقوب بالحقيقة ولا الصرعة بالحقيقة من ذكرتم، لكنه هذان الآخران، ذلك لما فقده في أخراه، وهذا لما ملك نفسه وصرعها عند غضبه، ولم ينف اسم اللغة عن المسمين. قيل: وفي هذا فضل كظم الغيظ وأن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو ؛ لأن النبي - عليه السلام - جعل غلبته لنفسه أشد من غلبته لمناوله، قال تعالى:{ والذين جاهدوا فينا لنهديتهم سبلنا }، قيل فيه: جهاد النفس، وفي الحديث: " رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ".(8/227)
والصرعة: بضم الصاد وفتح الراء الذي يكثر صرع الناس وغلبتهم، وكذلك كل من يكثر منه الشيء، يقال فيه: فعله مثل ضحكه وهزوه وخدعه وصرعه، فإذا سكنت ثانيها فعلى العكس، أي الذي يفعل به ذلك كثيرًا يضحك به ويستهزأ به ويخدع.
قوله في الذي رآه غضب:" إنى لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "، فيه أن الغضب في غير الله من نزغ الشيطان، وما يحمل عليه من موافقته هوى النفس وطبعها المركب فيها، وأن الاستعاذة من الشيطان كفته وسكن غضبه. وقول الآخر:" هل ترى في من جنون " كلام من لم يفقه في دين الله، وظن أنه لا يستعاذ من الشيطان إلا من المس، ولم يعلم ان الغضب من أوائل مسه ج ولهذا يخرج به عن صورته وخلقه، ويحفه بقبح الحركات والكلام والأفعال، حتى يزين له إفساد ماله، وتمزيق ثيابه، وكسر ما حوله من انية، وقتل من نازعه أو غضب عليه، أو إفساده او الحلف والنذر على الانتفاع به، ولعله كان من جفاة الأعراب أو ممن لم يخلص إيمانه من المنافقين.
وقوله:" لما صور الله آدم في الجنة جعل إبليس يطيف حوله "، قال الإمام: يقال: طاف بالشىء طوفًا وأطاف: استدار حوله.
وقوله:" فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقًا لا يتمالك"، قال القاضي: أي ذا جوف، وقد يكون معناه: خالي الداخل، وبه سمى الجوف وكل مقعر أجوف، وجوت كل شيء قعره وداخله.
وقوله: " لا يتمالك "، يعني: يحبس نفسه ويملكها عن الشهوات.
قوله:" إذا قاتل أحدكم أخاه "، وفي رواية أخرى: " إذا ضربه فليتجنب الوجه "، وفي رواية: " فلا يلطمن الوجه "، فيه تشريف هذه الصورة عن الشين ؛ إذ الضرب فيها واللطم مما يظهر الشين فيها سريعًا ؛ ولأن فيها المحاسن وأعضاء نفيسة، وأكثر الإدراكات، فقد يبطلها بفعله والتشويه فيها أشد ؛ لأنها شيما الإنسان والبادى منه والمتميز به من أمثاله، والصورة التي خلقه الله عليها وكرم بها بني آدم وفضلهم على كثير من خلقه تفضيلاً.(8/228)
قوله آخر الحديث:" فإن الله خلق آدم على صورته "، قال الإمام: هذا حديث ثابت عند أهل النقل، وقد رواه بعضهم:" أن الله خلق آدم على صورة الرحمن "، ولا يليق هذا عند أهل النقل، ولعله نقل من رواه بالمعنى الذي يوهمه، وظن أن الضمير عائد على الله سبحانه فأظهره وقال:" على صورة الرحمن "، واعلم أن هذا الحديث غلط فيه ابن قتيبة وأجراه على ظاهره، وقال: فإن الله سبحانه له صور لا كالصور، وأجرى الحديث على ظاهره، والذي قال لا يخفى فساده ؛ لأن الصورة تفيد التركيب، وكل مركب محدث، والباري سبحانه وتعالى ليس بمحدث فليس بمركب، وما ليس بمركب فليس بمصور، وهذا من جنس قول المبتدعة: إن الباري جل وعز جسم لا كالأجسام، لما رأوا أهل السنة قالوا: شيء لا كالأشياء طرد واحد، فقالوا: جسم لا كالأجسام. وقال ابن قتيبة: صورة لا كالصور. والفرق بين ما قلناه وما قالوه: أن لفظة:" شيء " لا تفيد الحدوث ولا تتضمن ما يقتضيه، وقولنا: جسم وصورة يتضمن التأليف والتركيب، وذلك دليل الحدوث. وعجبًا لابن قتيبة في قوله: صورة لا كالصور، مع كون هذا الحديث يقتضي ظاهره عنده خلق آدم على صورته، فقد صارت صورة الباري سبحانه على صورة آدم - عليه السلام - على ظاهر هذا على أصله، فكيف يكون على صورة آدم، ويقول: إنها لا كالصور. وهذا يناقض. ويقال له أيضًا: إن أردت بقولك: صورة لا كالصور أنه ليس بمؤلف ولا مركب، فليس بصورة على الحقيقة، وأنت مثبت تسمية تفيد في اللغة معنى مستحيلاً عليه تعالى، مع نفى ذلك، فلم يعط اللفظ حقه ولم يجره على ظاهره. فإذا سلمت أنه ليس على ظاهره فقد وافقت على افتقاره إلى التأويل وهذا الذي نقول به، فإذا ثبت افتقاره إلى التأويل قلنا: اختلف الناس في تأويله، فمنهم من أعاد الضمير إلى المضروب، وذكر أن في بعض طرق الحديث أنه سمعه يقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبهك، أو نحو هذا، فقال ما قال، أما على هذه الرواية - وهي شتم من أشبهه - فبين وجه(8/229)
هذا التعليل ؛ لأنه إذا شتم من أشبهه وآدم يشبهه فكأنه شتم آدم وغيره من الأنبياء عليهم السلام، وإنما ذكر الأول تنبيها عليه وعلى نبيه.
وأما على هذا الذي وقع في كتاب مسلم فيحتمل أن يكون تعبدا لله سبحانه بتخصيص الوجه لهذه الكرامة لشبهه بآدم هنا إجلالاً لآدم - عليه السلام -.
ولا يبقى على هذا إلا أن يقال: فيجب ان يجتنب ما سواه من الأعضاء المشبهة لآدم، وجواب هذا: أنه لا يبعد أن يكون الله سبحانه يتعبد بما شاء الله، ولا تجعل هذه العلة جارية مطردة. وقد اختص الوجه بأمور جليلة ليست في غيره من الأعضاء ؛ لأن منه السمع والبصر، وبالبصر يدرك العالم ويرى ما فيه من العجائب الدالة على عظم الله سبحانه وبالسمع يدرك الأقوال ويسمع أوامر النبي - عليه السلام - ونواهبه، ويتعلم به سائر العلوم التي منها معرفة الله عز وجل ومعرفة رسله عليهم السلام، وفيه النطق الذي يميز به عن البهائم، وشرف به الانسان عن سائر الحيوان، ومثل هذا التمييز لا يبعد أن يجعل سببًا في تمييزه بهذا الحكم.(8/230)
وقال آخرون: إن الضمير عائد على آدم نفسه. وعورض هؤلاء بأن هذا يجعل الكلام عيًّا لا فائدة تحته، وأى فائدة في قولك: خلق زيد على صورة نفسه، والشجرة على صورتها نفسها ؟ وهذا معلوم بالعقول ولا يقتصر إلى خبر منفول. وأجاب أصحاب هذا التأويل عن هذا الاعتراض بأن الفائدة فيه: التنبيه على من خالف الحق من أصحاب المذاهب كالطبائعيين القائلين بأن تصوير آدم كان عن بعغهر تأثيرات النجوم أو العناصر أو غير ذلك بما يهزؤون به، فأكذبهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. واحتراز الله سبحانه خلق آدم على صورته، او أكذب الدهرية في قولهم: ليس ثم إنسان أول، وإنما إنسان من نطفة ونطفة من إنسان هكذا أبدًا إلى غير أول، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله سبحانه اخترع صورة آدم ولم يكن مصورًا عن أب ولا كائنًا عن تناسل، أو يكون أكذب القدرية في قولهم: إن كثيرًا من أعراض آدم وصفاته خلق لآدم، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مخلوق بجملة صورته.
وهذا التأويل الذي ذهب إليه هؤلاء من إعادة الضمير إلى آدم بنفسه إنما يحسن إذا روى لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - مجردًا من السبب، مقتصرًا منه على قوله:" إن الله خلق آدم على صورته "، وأما ذكر السبب، أو ذكر جميع ما حكاه مسلم عنه - عليه السلام -: " إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته " فإنه لا يحسن صرف الضمير لآدم ؛ لأنه ينفى أن يكون بين السبب أو صدر الكلام وآخره ارتباط وتميز الكلام. وما وقع في كتاب مسلم في معنى المسافر، وقد ذكر أنه روى مختصرًا مقتصرًا فيه على ما قلناه. وقال بعض أنمتنا: هو من اختصار بعض الرواة.
وقال آخرون: إن الضمير يعود إلى الله سبحانه ويكون له وجهان.(8/231)
أحدهما: إن يراد بالصورة الصفة، كما يقال: صورة فلان عند السلطان كذا، بمعنى صفته كذا. ولما كان آدم - عليه السلام - امتاز بصفات من الكمال تميز بالعقل والنطق عن البهائم، والنبوة على سائر بنيه سوى النبيين منهم، وله فضائل اختص بها، فكأنه شبهه من هذه الجهة باختصاص الله سبحانه بالرفعة والجلال، لاسيما وقد أمر الملائكة بالسجود له طاعة لله عز وجل. هذا المعنى ذكره بعض أصحابنا في التشبيه بعد.
والوجه الثاني: عند أصحاب هذا التأويل: أن تكون إضافة الصورة إضافة تشريف واختصاص، كما قيل في الكعبة: بيت الله، وإن كانت البيوت كلها له عز وجل وكما قال تعالى:{ ناقة الله } إلى غير ذلك مما وقع في الشريعة من أمثال هذا. وقد تميز آدم - عليه السلام - بأن خلقه الله جلت قدرته بيده، ولم يقلبه في الأصلاب، ولا درجه من حال إلى حال، فتكون الإضافة إضافة اختصاص لهذا المعنى ولغيره. وأما من صرح بهذا الضمير وخرجه للوجود، فإنه يرد من جهة النيل، وانه ضعيف عند المحدثين.
واختلف أصحابنا في رده من جهة اللسان، فقال بعضهم: ما يحسن مثل هذا في الكلام ؛ لأن اللفظ الظاهر إذا افتتح به، وأعيد ذكره فإنما يعاد بالضمير، ولهذا يقال: زيد ضرب عبده، ولا يقال: ضرب زيد عبد زيد، ومرادهم بزيد الثاني زيد الأول، قالوا: فلو كان ما قالوه صحيحا لكانت العبارة عنه:" خلق آدم على صورته " كما وقع في الطرق الثابتة. وقال بعض أصحابنا: لا يستبعد هذا في اللسان، وقد قال سبحانه وتعالى:{ يوم نحشر المتقين إلى الرحمن } ولم يقل: يوم يحشر المتقين إلينا. وقال بعض النحاة: من هذا أيضًا قوله تعالى:{ فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قبل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزًا }، وأنشد في ذلك قول عدى بن زيد:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء يعض الموت ذا الغنى والفقير
وفي هذا كفاية.(8/232)
قال القاضي: قد جاء في هذا الحديث نفسه ما أغنى عما ذكر في بعض الأحاديث، بأن مسلمًا قد ذكر في هذا: " إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته "، فالهاء هاهنا عائدة على الأخ المنهي أن يضرب وجهه ويستقيم الكلام، وتظهر فائدة الحديث ويزول الإشكال.
وإنما يبقى الإشكال كله في الحديث الآخر الذي لم يذكر فيه هذا السبب مثل حديث البخاري في باب السلام:" إن الله لما خلق آدم على صورته قال: اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة "، وخرجه مسلم أيضًا بعد هذا بنصه في " باب خلق آدم " أومثل هذام، لكن قد تقدم فيه من التأويلات ما يكفى بعضها. وإذا نزهنا الله تعالى عن الصورة الجثمانية فلا يبالى بعد وسلمنا معنى مشكل الحديث للعالم بعينه، على مذهب أكثر السلف من الإيمان بها والتسليم إلى الله في معناها، وتنزيهه عن ظاهرها، أو تأويله على ما عليه من رأى التأويل، وعلى مقتضى كلام النبي العربى ولغته العربية، وكلام العرب ومجازاة كلامها ومقاصدها في استعاراتها وتمثيلاتها التي خوطبنا بها، وجاء الشرع والقرآن بها وعلى تصرف وجوهها.(8/233)
وذكر مسلم في حديث:" إن الله يعذب الذين يعذبون الناس " قال: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد، كذا في النسخ عند شيوخنا، و أكثر الروايات، وكان في كتاب شيخنا القاضي أبي علي: عمر بن سعيد، وقال لنا: هو وهم، وما عند غيره هو الصواب. وعمير بن سعد هذا أنصاري من بني عمرو بن عوف من الأوس، ولاَّه عمر بن الخطاب حمص فكان يقال له: نسيج وحده، هو عمير بن سعد بن عبيد القارئ، أبوه: أبو زيد أحد من جمع القرآن. وقد اختلف في اسم أبي زيد، وقد ذكر مثل هذا أبو عبيدة، وشك فيه مرة فقال: استعمل على طائفة من الشام عمير بن سعد أو سعيد، شك أبو عبيد وذكر خبرًا. وأما عمر بن سعيد فمعدود في الصحابة وهو عمير بن سعد أو سعيد شك أبو عبيد وذكر خبرًا، وأما عمر بن سعيد فمعدود في الصحابة وهو عمير بن سعد أو سعيد، ربيب الجلاس ويتيمه، وصاحب القصة التي أنزل فيها:{ يحلفون بالله ما قالوا } قاله الطبري وغيره، وجعله الطبري غير الأول، وأما ابو عمر فجعل صاحب هذه عمير بن سعد الأول وأنهما واحد، والله أعلم.
وأمره - عليه السلام - للذى مر بالنبل أن يأخذ بنصالها، وفي الرواية الأخرى: بنصولها ؛ جمع نصل، وهي حدائد السهام. بين العلة والصفة في الحديث الآخر فقال: "فليمسك - أو فليقبض - على نصالها بكفه أن يصيب أحدًا من المسلمين منها بشيء "، أي مخافة أن يصيب، ولئلا يصيب.
وقول أبي موسى:" والله ما متنا حتى سددناها بعضنا في وجوه بعض"، أي قومنا الرمي بها وقصدنا ذلك. والسداد: القصد في الشيء. يشير إلى ما كان من الفتن بعده - عليه السلام - وقتالهم على التأويل في الخلافة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خشى عليهم برأفته بالمؤمنين، ورحمة لهم ما يصيب بعضهم منها من خدش وشيء عند مروره من غير قصد، وألا يتأذى بعضهم من بعض بمثل هذا القدر، فجاء بعده ما أخبر به أبو موسى من القصد إلى ذلك على بون ما بين الحالين.(8/234)
وقوله:" من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه ": ظاهر الحديث أنه على غير قصد إلا بجهة اللعب والترويع بالهزل بدليل ذكره، لأخيه لأبيه وأمه الذي لا يبهم عليه، وترويع المسلم حرام، وبدليل فوله في الحديث الآخر:" فإنه لا يدرى لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار "، وكذا رويناه بالعين المهملة، قيل: معناه: يرمي في يده، أي يدفع يده ويحقق ضربته. ومن رواه بالغين المعجمة في الإغواء ونزع الشيطان، أي يحمله على تحقيق الضرب به وقصده وتزيين له ذلك، لاسيما عندما يحدث من جهته عند الملاعبة، أو هجر بغير حال، وأن الهزل قد?يفضي إلى الجد.
ذكر مسلم الأحاديث في الثواب على إماطة الأذى وإزالته عن الطريق كمن قطع شجرة كانت تؤذى، وازالة غصن شوك، وقد جاء في الحديث الآخر: أنه من شعب الإيمان، فكل ما أدخل نفعا على المسلمين أو أزال عنهم ضررًا فهو منه، لكنه كله من إلنصيحة الواجبة على المسلمين بعضهم لبعض، التي بايع عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من النصح لكل مسلم بنصحه، في حضرته وغيبته بكل قول، وفعل يعود عليه بمنفعة لدينه ودنياه.
وذكر حديث المغيرة في شان صاحبة الهرة المعذبة التي ربطتها حتى ماتت، وقد تقدم الكلام عليه، وأنه يحتمل أن يكون عذابها حسابها ومناقشتها على فعلها لذلك، كما جاء في حديث العصفور قوله:" سل يارب هذا لم قتلتني؟" أو تكون المرأة كافرة فزيدت في عذابها لذلك.
وقوله: " خشاش الأرض "، يقال بفتح الخاء وكسرها، وهو هوام الأرض. وحكى فيه أبو علي القالي أيضًا ضم الخاء، وقال الجوهري: هو الحية ونحوها مما في الأرض، وقيل صغار الطير، لكنه لا يقال في صغار الطير إلا بفتح الخاء فقط، وفي المعنى: الخشاش شرار الطير، وقيل: خشاش الأرض: نباتها، والمعروف في هذا: حشيشها.(8/235)
وقوله:" من جراء هرة ": أي من أجلها، بمد وبقصر، يقال: من جراك وجراتك وجرار بك وأجلك وأجلك بمعنى. وفي رواية الهوزني:" من أجل " مفسرًا.
وقوله:" لا هي أرسلتها ترمم "، كذا للعذري والسجزي، وضبطناه عن بعض شيوخنا بفتح التاء والميم، وعند بعضهم بضم التاء وكسر الميم، وفي رواية السمرقندي: "ترمرم" بضم التاء وكسر الراء الاخرة، ويصح بفتحها أيضًا، وهما بمعنى.
قال الإمام: قال صاحب الأفعال: رممت الأمر والشيء وما أصلحته، والعظم رمة صار رميمًا، والحبل انقطع، والشاة تناولت النبات بشفتيها. ومنه سميت المرمتان.
قال القاضي: ورمرم منه، بإظهار التضيف في الراء، أو من الرمام وهو الحشيش، أى أكلته فاشتق لها فعلاً، وكله يرجع إلى معنى الأول.
وقوله:" العز إزاري، والكبرياء ردائى فمن نازعنى عذبته "، قال الإمام: هذا مجاز: واتساع على عادة العرب، وهم يقولون: فلان شعاره الزهد والورع، ودثاره التقوى، ولا يريدون بذلك الثوب الذي هو شعار ودثار، دانما يريدون أنه صفته ونعته، ووجه الاستعارة في هذا: أن الرداء والإزار يلصقان بالإنسان و يلزمانه بجملته وفيها ستر له وجمال، فضرب ذلك مثلاً لكون العز والكبرياء بالباري تعالى أحق، وله ألزم وأوجب، واقتضى جلاله لهما آكد. وكذلك العرب يقولون: فلان غمر الرداء، إذا كان واسع العطية تجوزا أيضًا بذلك، فعلى هذا يحمل هذا الحديث ؛ لأن الدليل العقلي قام على أن اللباس من صفات الأجسام، وهو سبحانه ليس بجسم، ولا يمسه جسم، ولا يستره جسم، وهذا واضح لكل متأمل.
قال القاضي: وقوله في الذي قال والله لا يغفر الله لفلان:" من ذا الذي يتألى على الله "، أي يحلف عليه. و التألي: الخلف، والآلية: اليمين.(8/236)
وقوله:" قد غفرت لفلان وأحبطت عملك "، فيه الحجة لمذهب أهل السنة في غفران الله ذنوب عباده، وعفوه عنهم وإن ماتوا مصرين عليها، ولا حجة فيه للمعتزلة ومن يقول بأن الذنوب تحبط الأعمال ؛ لأن هذا المتألي قانط من رحمة الله ومكذب بها، والقنوط كفر، والكفر يحبط العمل، وإن لم يكن هذا قانطًا وإنما كان هذا مذهبه إنفاذ الوعيد للعاصين، فيكون هنا قوله:" أحبط عمله " مجازًا لرجحان معصيته بما قال، فاعتقده بطاعاته حتى كأنه لاحسنة له.
وقوله: " رب اشعث مدفوع بالأبواب "، الأشعث: الملبد شعر الرأس، المغبر غير مدهن ولا مصلح الشعر. و"مدفوع بالأبواب": أي لا قدر له عند الناس فيحجبونه ويردونه عن ابوابهم. وقوله: " لو أقسم على الله لأبره ": أي لفضله، ومنزلته عند الله أنه يجيب رغبته ودعاءه، ولا يخيب أمله وبره لرجائه وعزيمته في رغبته لربه والقسم هنا عبارة عن قوة العزيمة في الرغبة والدعاء، أو يكون عن وجهه فيما أقسم عليه من الأمور ؟ أن الله قد أجرى قدره وتقدم في سابق علمه، أنه ممن لا يخالف مجارى القدر قسمه، ويبر خلقه، ويمض عزيمته. وقيل: معنى القسم هنا: الدعاء، وأبره أجابه.
وقوله:" إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم "، وقول الراوي عن مسلم - وهو أبو إسحاق بن سفيان -: لا أدرى أهلكهم، بالنصب أو بالرفع، قال الإمام: يحمل هذا وعند العلماء أن القائل قال ذلك ازدراء بالناس، واحتقارًا لهم، واعجابًا بنفسه. فاما قوله على جهة التفجع والإشفاق، وذهاب الصالحين ، وتفضيل من مضى من الصالحين، وتفضيل من مضى من الأولين فإنه خارج عن هذا والقصد بغير أحكام اللفظ وتصرفه، قالأول عنوانه الكبر والاستهزاء بالناس، ل وهو مذموم، والثاني: عنوان الإشفاق والتقصير بالنفس وتعظيم السلف، وذلك لا يكون مذمومًا.
قال القاضي: وقيل هذا في الغالين والمبتدعين، الذين يقولون: هلك الناس، أي استوجبوا الخلود في النار بمعاصيهم، والذين يؤيسون الناس من رحمه الله.(8/237)
وقيل: " أهلكهم " أي: أنساهم الله، وقيل: أفشلهم وأرداهم. ومن رواه بالنصب فمعناه: هو الذي قال فيه ذلك، واعتقده فيه من الضلال واستحقاق النار، لا الله تعالى.
ذكر مسلم الأحاديث في الوصية بالجيران ومواساتهم، وأن لهم حقا يزيد على حق غيرهم من المسلمين، وقد مر منه في أول الديوان.
وقوله:" فأصبهم منه بمعروف "، أي ناولهم منه، واجعلهم يصيبون منه، يقال: أصاب من الطعام إذا أكل منه، وأصله من الأخذ أصاب الشيء إذا أخذه.
وقوله:" لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق "، ويروى:" طليق " بكسر اللام فيهما، ويقال: " طلق " بسكونها، وهو المنبسط السهل. فيه الحض على فعل الخير، قل أو كثر، وألا تحقر منه شيئًا، وهذا كما قال تعالى:{ أفمن لعمل مثقال ذرة خيرًا يره }.
وفيه: أن طلاقة الوجه للمسلمين والانبساط إليهم محمود مشروع مثاب عليه، وبخلافه التجهم لهم والإزوراء عنهم إلا لغرض كنبى، وكفى بخلق نبينا - عليه السلام - في ذلك، وبما وصفه الله به ونزهه عنه من قوله:{ ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك }.
وقوله:" اشفعوا فلتؤجروا، ويقضى الله على لسان نبيه ما أحب "، الشفاعة لأصحاب الحوائج والرغبات عند السلطان وغيره مشروعة محمودة مأجور عليها صاحبها بشهادة هذا الحديث، وشهادة كتاب الله بقوله:{ من يشفع شفاعة حسنة } على أحد التأويلين.(8/238)
وفيه أن معونة المسلم في كل حال بفعل أو قول فيها أجر، وفي عموم الشفاعة للمذنبين، رهى جائزة فيما لا حد فيه عند السلطان وغيره، وله قبول الشفاعة فيه والعفو عنه إذا رأى ذلك كما له العفو عنه ابتداء،وهذا فيمن كانت منه الذلة والفلتة، وفي أهل الستر والعفاف، ومن طمع بوقوعه عند السلطان والعفو عنه من العقوبة أن يكون له توبة، وأما المصرون على فسادهم، المستهزئون في باطلهم، فلا تجوز الشفاعة لأمثالهم، ولا ترك السلطان عقوبتهم، ليزدجروا عن ذلك، وليرتدع غيرهم بما يفعل بهم وقد جاء الوعيد في الشفاعة في الحدود.
وقوله: في تمثيل الجليس السوء والجليس الصالح بحامل المسك أو نافخ الكير: فيه تجنب خلطاء السوء ومجالسة الأشرار وأهل البدع والمغتابين للناس ؛ لأن جميع هؤلاء ينفذ أثرهم إلى جليسهم، والحض على مجالسة أهل الخير وتلقى العلم والأدب، وحسن الهدى والأخلاق الحميدة.
وقوله:" فحامل المسك إما أن يحذيك، لم اما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة،، قال الإمام: جمهور الفقهاء على طهارة المسك وجواز بيعه. وقال قوم بنجاسته والدليل عليهم قوله هاهنا: " إما أن تبتاع منه "، والنجس لايباع ؛ ولأنه - صلى الله عليه وسلم - استعمله، ولو كان نجسًا لم يستعمله، والناس في الأعصار الماضية ما أحد منهم ينكر استعماله، فدل ذلك كله على طهارته.
وقوله:" إما أن يحذيك "، يقال: أحذيت فلانًا، بمعنى أعطيته.(8/239)
قال القاضي: قد ذكر بعض أئمتنا الإجماع على طهارة المسك وطهارة فارغه، وهي جلده التي يوجد فيها، وهي قطعة ميتة أو صيد غير مسلم له حكم الميتة. وكذلك توضح قطعها من الغزالة حال الحياة، فما أخذ من الحي وقطع منه فهو ميتة، وكيف ولا يصح أخذها منه حال الحياة، ثم الشيء المجتمع فيه دم متعفن نجس أو مواد حكمها حكم ذلك، كما يجتمع في الجراحات، ولا معقل عند المحققين من الفقهاء على طهارته إلا على الإجماع باستعماله، والثناء عليه وعلى ريحه وبائعه ومبتاعه ومستعمله ؛ ولذلك قال بعض أئمتنا: هي نجسه لكن يصلى بها، يعني أنه مما خص وعفى عنة شرعًا، والقياس يقضي بنجاسته، وصحة الآثار والاقتداء يقضيان باستعماله، وما روي من كراهة العمرين له فليس فيه نص على نجاسته عندهما، ولا يصح الخبر بذلك عنهما، بل صح قسمة عمر بن الخطاب له علي نساء / المسلمين. والمعروف عن ابن عمر استعماله، ولا تعويل على قول من قال من شيوخنا في تعليل طهارته: إنه متولد من الحيوان، يؤخذ منها حال الحياة كالبيض، فهذا قياس فاسد وتمثيل لا يصح ؛ فإن البيض ينفصل بنفسه حال الحياة غير متصل بجسد الحيوان، وهو كالمولود إذا خرج وانفصل كان طاهرًا في نفسه، وأما فارة المسك فقطعة من جلد الحيوان. ولايعول أيضًا على قول من قال: هو جاف ولا يضره المحل النجس، فإن المسك في أصله ليس في صوابه ولو كان جافًّا لكانت جلدة الحيوان تنجسه وإنما أصله رطب وإنما يجففه المكث بعد جلبه وبقائه الزمان في صوابه، ولو كان جافًّا لكانت سجلدة الحيوان تنجسه لأنها رطبة لظاهر جعل في وعاء رطمب نجس ؛ ولذلك لا تعويل على قول من قال: إنه منقلب عن الدم متحول العين كالخل والخمر، فإنا لو سلمنا هذا لبقي علينا تنجيس طرفه وهو قطعة جلد الميتة الرطبة التي فيها، بخلاف دن الخمر ؛ لأن دن الخمر إنما ينجس أولاً بنفس الخمر لا بغير ذلك، فلما انقلبت خلاً انقلبت سائر الأخرى التي داخلته ونجسته. قيل خلاف ذاك(8/240)
الحكم جملة، ولو كان الدن نجسًا بنجاسة أحد لما تطهرت الخمر إذا تخللت فيه ولا الدن أبدًا، فلم يبق للقياس في طهارة المسك وفارته مجال إلا التسليم واتباع السنة، وقبول الرخصة، واسمتناء طهارته من هذه الأبواب، والاقتداء في ذلك بصاحب الشريعة، وإجماع أمته على طهارته.
وقوله:" من ابتلى من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن، كن له سترًا من النار "، و "من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين " وضم أصابعه، يعني يقال: قام عليها ومأنها وأنفق عليها، ولعلها مأخوذة من العول وهو العوب، قال الله تعالى:{ أدنى ألا تعولوا }، وقال عليه السلام:" وابدأ بمن تعول ".
قال الإمام: قال صاحب الأفعال: عال الحاكم عولاً:جار، والسهم عن الهدف والميزان: مالاً، والفريضة: مالت، والرجل قمت بمؤنته عولاً والشيء عول عليك: ثقل، وعال الرجل عليه افتقد، والشيء عيلاً: أعجزك، والضالة عيلاً وعيلانًا: لم أدر أين أطلبها، وعيل الصبر: غلب. والذي يصح أن يراد من هذا الحديث: القيام بالمؤنة.
قال القاضي: قد جعل - عليه السلام - في هذه الأحاديث من الفضل لمن قام على البنات ما جعلن له أو لغيره، وقد جاء في الحديث الثاني في غير الأم: " من عال يتيمًا".
وقوله:" جاء يوم القيامة أنا وهو "، وضم أصابعه، جاء في غير الحديث: "كهاتين " يريد: رفاقته معه في الجنة، أو دخوله معه إياها في أول من يدخل، وكفى بهذا فضلاً ولذلك في الحديث الأخير:" كن له حجابًا من النار ".(8/241)
وقوله:" لايموت لأحد من المسلمين ثلاثة فتمسه النار، إلا تحلة القسم"، أي ما تحلل به القسم وهو اليمين، وجاء تفسير القسم في الحديث، قوله: {وإن منكم إلا واردها } إلى هذا ذهب أبو عبيد وغيره والقاسبم قوله عند بعضهم:{ فوربك لنحشرنهم والشياطين }، أول الآية، وقيل في قوله:{ وإن منكم } أي: فو الله إن منكم، وقيل: يدل عليه قوله:{ حتمًا مقضيًّا} فسره الحسن وابن مسعود قسمًا واجبًا، وقال ابن قتيبة: معناه: التعليل لأمر ورودها." وتحلة القسم " تستعمل في هذا في كلام العرب، واحتج بهذا وقد يحتمل قوله:" إلا تحلة القسم "، أي: ولا تحلة القسم، أي: لا يمسه قليلاً ولا مثل تحلة القسم، كما قيل في قوله:" إلا الفرقدان "، أي: ولا الفرقدان.
وقوله:" فما يتناهى - أو قال: ينتهي - حتى يدخله الله وأبويه الجنة " هما بمعنى، أي: ما يترك أخذه بيد أبويه. قال الإمام: قال بعض أهل العلم: المراد به قوله تعالى:{ وإن منكم إلا واردها }، فالمراد هنا الوقوف عليها، وقيل: يمرون عليها وهي خامدة، وقيل: يمرون على الصراط، وهو جسر عليها، وقيل: هو ما يصيبهم في الدنيا من الحمى، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:" إن الحمى من فيح جهنم ". وجعله أبو عبيد أصلاً في الرجل يحلف ليفعلن كذا بأنه يبوء بالقليل، وهو خلاف مذهب مالك.(8/242)
وأما قوله:" لم يبلغوا الحنث "، قيل: معناه: قبل أن يبلغوا فيكتب عليهم الإثم. وقوله: قلت لأبي هريرة إنه قد مات لي اثنان، فما أنت محدثي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا ؟ قال: نعم " صغارهم دعاميص الجنة "، قال الإمام: أما أطفال المؤمنين الذين لم يبلغوا الحلم فأولاد الأنبياء صلوات الله عليهم منهم، قد تقرر الإجماع على أنهم في الجنة، وكذلك جمهور العلماء على أن أولاد من سواهم من المؤمنين في الجنة، وبعضهم ينكر الخلاف في ذلك ويتعلقون بظاهر القرآن، وما ورد في بعض الأخبار، وقال عز من قائل:{ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم }، وبعض المتكلمين يقف فيهم ولا يرى نصًّا قاطعًا مقطوعًا به ورد بكونهم في الجنة ولم يثبت عنده الإجماع فيقول به.
وقوله: " دعاميص الجنة "، قال: الدعاميص: دابة الماء.
قال القاضي: سيأتى بقية الكلام في الأطفال بعد هذا ما سيبقى منه، والخلاف في أولاد المشركين. وهذا الباب ليس من العمليات التي يلزم التعويل فيها على أخبار الآحاد والظواهر وغلبات الظنون والقطع فيها متعذر، ولا يبعد في دليل العقل على مذهب أهل السنة رحمة الله لجميعهم حتى مؤمنيهم وكافريهم، وتنعيم جميعهم في الجنة وما شاء من ذلك، وإنما يفسر هذا التجويز والقول على مذاهب أهل البدع في تحكيم العقول في هذه الأبواب، وتعويلهم على التحسين والتقبيح والتعديل والتجويز والصلاح والأصلح، وحكمهم على الله بآدابهم في سلطانه وقدرته ومشينته وحكمته وطمعهم في مشاركته في علم قدره وغيبه.
وقوله:" فيأخذ بثوبه كما آخذ بصنفة ثوبك "، وصنفة الثوب: طرفه. وقوله: " فلا يتناهى - أو قال: ينتهى - حتى يدخله الله وأبويه الجنة " أي ما يترك ذلك، يقال: انتهى وتناهى وأنهى بمعنى.(8/243)
وقوله: " احتظرت بحظار شديد من النار " أي: امتنعت منها والحظار كالحائط حول البساتين وغيرها، من عيدان وقضبان يصغر ويخطر بها عليها. وقوله: ثم قال بعد ذلك لما سئل:" أو اثنين "، يحتمل أنه أوحى إليه أولاً بثلاث، ثم بعد ذلك لما سئل باثنين، وقد جاء أثر أنه سئل في واحد فقال: "وواحد "، وعليه يدل معانى غيرها من الأحاديث، ويحتمل أنه - عليه السلام - قاله ابتداء، للأتم لأمته ؛ لأن ثلاثًا أول الكثرة، فأخبرهم بذلك الثلاثة كل من مات له ولد على شفاعته ودخره، وسكت عما وراءه، فلما سئل أعلم بما عنده في ذلك. وفي قولها: أو اثنان بعد ذكر النبىء ذلك في الثلائة، وهي من أهل اللسان، دليل على أن تعلق الحكم بعدد ما لا ينفيه من جهة دليل الخطاب عمن عداه من العدد كان أقل أو كثر.
قوله:" فتحتسبه ": يدل أن هذا الأجر إنما هو لمن احتسب أجره على الله وصبر. والاحتساب والحسبة والحساب بالكسر: ادخار الأجر عند الله وأن يعتد مصابه ويحسبه من حسناته، وهو مأخوذ من الحساب.
وقوله:" إذا أحب الله عبدا دعا جبريل: إنى أحبه فأحبه لا إلى قوله: "فوضع له القبول في الأرض "، وقال مثله في البغض. محبة الله عبده: إرادة الخير به في الدنيا والآخرة، من هدايته له وانعامه عليه ورحمته له، وبغضه له: أراد به شقاء عقابه وشقاوته في الدنيا والآخرة، وقد تكون محبة جبريل والملائكة على وجهها من معنى المحبة وظاهرها التي تليق بالمخلوقين، ويتنزه عنها الخالق، وهو ميل النفس ونزوع الروح والقلب إليه وحبه لقاءه، وأنه لما كان ممن أطاع وأحبه الله كان ممن يجب أن يكون مع جبريل والملائكة متحابين في الله. وقد يكون من جبريل والملائكة استغفارهم له، وذكرهم الجميل في الملأ الأعلى له ودعائهم له.(8/244)
وقوله: " فيوضع له القبول في الأرض "، وهو الرضا والحب في القلوب، أي تقبله وتميل إليه، ولا تنفر عنه ولا ترده، قال الله تعالى:{ فتقبلها ربها بقبول حسن }، أي: رضى. قال أبو عمر: هو مصدر، ولم أسمع غيره بالفتح في المصدر. وقد جاء في رواية القعنبى مفسرًا: فتوضع له المحبة.
وقوله:" وهو على الموسم " يعني الحج بالناس، سمي بذلك من الوسم وهي العلامة، ومنه: مواسم الأسواق: علاماتها التي يجتمع إليها الناس، أو تكون إشارة إلى الإهلال الذي هو علامة الحج.
وقوله: " الأرواح جنود مجندة " أي أجناس مجنسة " فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف "، قيل: معنى:" أجناد مجندة "، أي: جموع مجمعة، وقيل: أجناس مختلفة. هذا التعارف لأمر جعله الله فيها وجبلها عليه، وأشبه ما فيه أن يكون تعارفها موافقة صفاتها التي خلقت عليها، وتشابهها في شيمها التي خلقت بها، وقيل: تعارفها أنها خلقت مجتمعة، ثم فصلت / في أجسادها كل قسم في جسدين، فمن وافق قسمه ألفه، ومن باعده نافره، وقيل: هو ما يعرف الله به إليها من صفاته ودلها به عليه من لطفه وأفعاله، فكل زوج عرف من الإجزاء به تعرف إلى الله بمثل ما تعرف هو به إلفه. وقال الخطابي: تآلفها: هو ما خلقها عليه من السعادة أو الشفاوة في المبدأ الأول. وفيه تقدمها على خلق الأجساد، كما جاء في الحديث، وأخبر أنه قسمها قسمين: مختلفة ومؤتلفة.(8/245)
وقوله في الذي سأله عن الساعة، فقال: " ما أعددت لها ؟ " فقال: ما أعددت لها كثير صيام ولا صلاة ولا صدقة ولكنى أحب الله ورسوله قال: "فانت مع من أحببت "، وفي الحديث الآخر:" المرء مع من أحب "، فيه أن محبة الله ومحبة نبيه الإستقامة على طاعتهما وترك مخالفتهما، وإذا أحبهما تأدب بآدب شريعتهما، ووقف عند حدودهما وفي حبه لله ولنبيه ولمن أحبه من الصالحين وميله بقلبه إليهم، إنما ذلك كله لله تعالى، وطاعة له وثمرة صحة إيمانه، وشرح قلبه، وهو من أعظم الدرجات وأرفع منازل الطاعات، ومن أعمال القلوب التي الأجر عليها أعظم من أجر أعمال الجوارح، وإثابة الله على ذلك أن رفع إلى منزلة من أحبه فيه،وان لم يكن له أعمال مثل أعماله، وهو فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقوله: " ما اعددت لها كثير صلاة ولاصوم ولاصدقة " يزيد فيما زاد على الفرائض،والله أعلم. لكن في حبه لله تعالى ولرسوله بما ذكرناه من أعظم العبادة وأفضل أعمال الطاعات، وهو عمل من أعمال القلب، ومحبة الله تعالى من أفضل مقامات الأولياء وأعلى درجات الأصفياء.
وقوله للرجل يعمل الخير ويحمده الناس:" تلك عاجل بشرى المؤمن "، أي عنوان الخير له، ودليل على رضا الله عنه وحبه له، بدليل الحديث المتقدم:" ثم يوضع له القبول في الأرض "، وهذا كله إذا كان حمد الناس له عليه من غير طلبه ذلك ويعرضه له، فان هذا أصل الرياء وأعظم الآفات لإفساد الأعمال وهلاك العاملين لها وتزيين الشرك.
وقوله:" تلك عاجل بشرى المؤمن "، أي: البشرى المعجلة، ونبه على الموحدة في الآخرة بقوله:{ بشراكم اليوم جنات }.(8/246)
وقوله:" فلقيمت رجلاً عند سدة المسجد فقال: يا رسول الله "، قال الإمام: قال الهروي في حديث المغيرة بن شعبة أنه قال: لا يصلى في سدة المسجد الجامع، يعني الظلال. ومنه سمى إسماعيل السدي ؛ لأنه كان يتبع في سدة الجامع. وفي الحديث: أن أم سلمة قالت لعائشة رضى الله عنها: إنك سدة بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمته، أي باب، فمتى أحبت ذلك الباب بشيء فقد دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حريمه،ومنه الحديث: في الذين يردون?الحوض الذين لا يفتح لهم السد والحديث يقول: " لا يفتح لهم الأبواب".
كتاب القدر?
قال القاضي: وقوله في حديث ابن مسعود:" إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا ثم ذكر أنه علقة مثل ذلك ومضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أو سعيد "، وفي حديث ابن مسعود في الرواية الأخرى فقال:" إذا مر بالنطفة ثلاث وأربعون - ويروى: ثنتان وأربعون - بعث الله لها ملكًا فيصورها " إلى قوله: " يا رب، أذكر أم أنثى ؟ " الحديث، وقال في حديث حذيفة بن أسيد: " يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين، فيقول: يا رب، أشقي أم سعيد ؟ "، وفي الرواية الأخرى:" أن النطفة تقع في الرحم اربعين ليلة، ثم يتسور عليها الملك فيقول: يا رب، أذكر أم انثى "، وفي روايته الأخرى:" لبضع وأربعين "، وفي حديث أنس: "إن الله قد وكل بالرحم ملكًا فيقول:أي رب نطفة، أي رب علقة،أي رب مضغة، فإذا أراد أن يقضي خلقًا قال: أي رب، ذكرًا أو أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ فما الرزق ؟ فما الأجل ؟ ".(8/247)
اختلفت ألفاظ هذا الحديث في مواضع، ولم يختلف أننفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يومًا، وذلك تمام أربعة / أشهر ودخوله في الخامس، وهذا قد جرب بالمشاهدة، وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع وفي وجوب النفقات على حمل المطلقات، وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف.
وقد قيل: إن الحكمة في عدة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وهو الدخول في الخاص ليتحقق براءة الرحم ببلوغها هذه المدة وزيادة من زاد في مجىء الملك أنها بعد زيادة على الأربعين مشعرة أنه لا يأتيها الملك لرأس أربعين، إذ بعدها - كما قال - ثلاث أو خمس أو بضع على اختلاف الروايات، ولم يأت في غيرها من الأحاديث النص على رأس أر بعين.
وذكره أن لكل حالة وانتقال مدة أربعين يومًا، وإنه إنما ينتفل إلى العلقة بعد الأربعين، أصل في أنه لا يعول في السقط إلا إذا كان علقة، وحينئذ يحكم لاءمه بأنها أم ولد، وبه تبرأ العدد، ولا يحكم لذلك بالدم المجتمع، وهو قول ابن القاسم ؛ لأنه لا يتميز أنه سقط إلا بتخلقه إلى العلقة، وأشهب يرى أن كل ما شهد النساء أنه سقط من دم أو علقة أو غيره حكم له بأنه سقط، وهذا لا يعلمه النساء إلا بعد تخلقه إلى العلقة.
وفيه رد على أهل التشريح والطب والطبائعيين، ومن يقول بقولهم ؟ من أن الولد إنما يكون من دم الحيض، فإنه لا حظ للمنى فيه إلا عقدة كما تعقد الأنفحة اللبن، وكتاب الله والأحاديث الصحاح ترده.
وقوله هنا:" ثم إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتسور عليها الملك فيقول: يا رب، أذكر أو أنثى ؟ " ومعنى " يتسور عليها ": أي ينزل، مستعارة من تسورت الدار: إذا نزلت فيها من أعلاها، ولا يكون التسور إلا من فوق.(8/248)
وقوله: " أي رب، نطفة. أي رب، مضغة. أي رب، علقة "، وجاء في بعض الحديث عن ابن مسعود تفسير " يجمع في بطن أمه ": أن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله تعالى أن يخلق منها بشرًا طارت في بشر المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين ليلة، ثم تصير دمًا في الرحم، فذلك جمعها، وهذا هو وقت كونها علقة، وكذلك قوله في الحديث الأخر: " فإذا غلب ماء الرجل ماء المرأة "، وكفى بهذا قوله تعالى:{ هو الذي خلقكم فن تراب ثم من ثطفة }، وقوله تعالى:{ ثم خلقنا النطفة علقة }، وإنما يبقى في هذا الحديث من الإشكال أنه ذكر في حديث ابن مسعود أن سؤال الملك بعد المضغة ونفخ الروح فيه على ما تقدم.(8/249)
وقوله:" ويؤمر حينئذ بأربع كلمات / رزقه وأجله،، وذكر في حديث حذيفة إتيان الملك إليها بعد ما يستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين، فيقول: " يا رب، أشقى أم سعيد ؟ أذكر أم أنثى ؟" وكذلك في الرواية الأخرى عن ابن مسعود:" إذا مر بالنطفة ثلاث وأربعين، بعث الله ملكًا يصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب، أذكر أم أنثى ؟ " ثم ذكر أجله ورزقه، وفي حديث أنس: " إن لمله وكل بالرحم ملكًا، فيقول: أي: رب، نطفة. أي رب علقة. أي: رب، مضغة، فإذا أراد الله أن يقض خلقا قال الملك: أي رب، ذكر أو أنثى ؟ شقى أو سعيد،. يظهر من مجموع هذه الأحاديث أن للملك ملازمة ومراعاة لحال النطفة، وإعلام الله تعالى بانتقال حالاتها وهو أعلم، وأن لتصرف الملك في أمرها أوقاتا ؟ أحدها عند تحركها من النطفة إلى العلقة وهو أول انتقال أحوالها إلى حال الحمل، وعلم الملك بانه ولد ؛ إذ ليس كل نطفة تكون ولدًا ؟ ولهذا رأى أهل العلم أنه ليس لها في الأربعين حكم السقط. ورأى بعضهم أنها ليس لها حرمة ولا لها حكم المراد في الأربعين. خالفه غيره في هذا، ولم ير إباحة إفساد المنى ولا سبب إخراجه بعد حصوله في الرحم بوجه قرب أو بعد، بخلاف العزل قبل حصوله فيه، وهو وقت سؤال الملك ربه حينئذ عن صفة خلقه ورزقه وأجله وشقاوته وسعادته، وذلك قبل تصويره وتخلقه، ألا تراه كيف قال:" أذكر أو أنثى ؟"، فيكتبان وتطوى الصحف، وفي الرواية الأخرى: " فيقض ربك ما شاء ويكتبه "، وليس في حديث ابن مسعود ما يخالفه لذكر ذلك بعد نفخ الروح فيه ؛ لأنه قال: "ويؤمر "، والواو لا تعطى رتبة، فانما أخبر - والله أعلم - عن حال تقدمت ثم يصرف الملك فيه وقت آخر، وذلك أ عند التصوير وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظمه،وكونه ذكرًا أو أنثى، وذلك إنما يكون بعد كونه مضغة في الأربعين الثالثة قبل تمام خلقها ونفخ الروح فيه، إذ لا ينفخ في الروح إلا بعد تمام صورته، لكنه في(8/250)
حديث ابن مسعود من رواية عمرو بن الحارث في قوله: " إذا مر بالنطفة أ ثلاث وأربعين بعث الله إليها ملكًا فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها وعظمها ولحمها ثم قال: يا رب أذكر أو أنثى ؟ فيقض ربك ما شاء ويكتب، ثم يقول: يا رب، أجله " وذكر رزقه، فحمل هذا على ظاهره لا يصح ؛ لأنه قد ذكر أن ذلك ما يقضى الله فيه ما شاء ويكتب، فدل أنه / يوجد بعد، وإنما هو كتاب كما قال: "ثم خرج الملك بالصحيفة في يده ؛ ولأن التصوير بأثر النطفة وأول العلقة وفي الأربعين الثانية غير موجود ولا معهود، وإنما التصوير في الأربعين الثالثة في مدة المضغة، كما قال تعالى:{ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ( ثم جعلناه نطفة في قرارمكين ( ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا }.
فهذا تفسير ما جاء في الحديث على اختلاف ألفاظه، ويكون معنى "نطفة " في هذا الكتاب: تصورها " وخلق سمعها وبصرها، أي: كتب ذلك وما قض الله منه، بدليل قوله بعد: " أذكر أم أنثى ؟"، وفي الحديث الآخر: " سوى أو غير سوى ؟".
وقوله في الحديث:" فيقض ربك ما شاء ": فيرجع الكلام كله إلى هذا؛ ولأن خلقه جميع الأعضاء والذكورية والأنوثة على حد سواء ووقت متفق، وهذا يشاهد فيما يوجد من أجنة الحيوان مشاهدة، وهو الذي يقتضى الخلقة واستواء الصورة، ثم يكون للملك فيه تصرف آخر وهو وقت نفخ الروح فيه، وما ذكره في الحديث من إرسال الملك له فمراده - والله أعلم بمراده -يوجهه للتصرف في هذه الأحوال وامتثال هذه الأفعال، لي الا فقد ذكر في حديث أنس أنه موكل بالرحم وأنه يقول: " يا رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة "، وهو ظاهر حديث ابن مسعود.(8/251)
وقوله في حديث آخر: "فإذا أراد الله أن يقضي خلقًا قال: يا رب، أذكر أم أنثى ؟ شقى أم سعيد؟" ليس يخالف ما تقدم، ولا يدل أنه يقول ذلك بعد المضغة، بل هو ابتداء كلام واخبار عن حالة أخرى، أخبر أولاً. بحال الملك مع النطفة، ثم أخبر أن الله - تعالى - إذا أراد إظهار خلق النطفة علقة وإبقاء أثرها لقوله تعالى:{ فاقض ما أنت قاض }، وذلك يرجع عند تخليق النطفة علقة كما تقدم. ومثل هذا جميع ما ورد في الرزق والأجل من قوله:" فيقض ربك ما شاء من ذلك ويكتب "، أي: يظهر ذلك للملك ويأمره بإنفاذه وكتابته لي إلا فقضاؤه سابق، وعلمه بما يكون من ذلك وإرادته فيه متقدمة أزلية لا أول لها، وعلى هذا تتفق الأحاديث وتطابق الآية، ولا يكون بينهما تخالف ولا تعارض، ولا يجد الملحد للكلام في ذلك سبيلاً.
وقوله:" إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها "، الحديث هذا راجع إلى أن الأمر بالخواتيم، فإذا كل أحد يتوفى على ما سبق له في أم الكتاب، وذهب بعضه إوإن م المراد به الحيف في الوصية، وهذا يبعد عن سياق هذا الحديث ولا يدل عليه، وإنما يدل على سوء الخاتمة، بدليل قوله بعده في حديث أبي هريرة:" إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له بعمل أهل النار "، وفي البخاري:" وإنما الأعمال با لخواتيم ".
وفي هذا أن الثواب والعقاب راجع إلى أمر الخاتمة، وأن التوبة تكفر الذنوب، وأن من مات على شيء حكم عليه به من خير أو شر إلا ما عفا الله عنه من السيئات، وسمح فيه لأهل الإيمان من التبعات.
وقوله: " ما بينه وبينها إلا ذراع " على طريق التمثيل للقرب من موته ودخولها بأثره مثل من وصل إلى شيء بينه وبين هذا القدر ثم منع منه.(8/252)
وقوله في حديث على: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه مخصرة - وفي الرواية الأخرى: وبيده عود -، فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: " ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة، إلا وقد كتب مكانها من الجنة والنار، وقد كتبت شقية أو سعيدة ". فقال رجل: ألا نمكث على كتابنا وندع العمل، وفي الرواية الأخرى: أفلا نتكل ؟ فقال: "من كان من أهل السعادة فيصير إلى عمل أهل السعادة " الحديث، وفيه: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له ".
قال الإمام: قول الرجل للنبى - صلى الله عليه وسلم - لما سمع منه: إن الله سبحانه قد كتب السعادة والشقاوة على ما وقع في هذا الحديث:" أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل ؟" يلاحظ تشنيع المعتزلة علينا بقولهم: إذا قلتم: إن الله سبحانه خلق معصية العاصي فلم يعذبه على ما خلقه فيه وقدره عليه ؟ وما فائدة التخليق، وكيف يطلب الإنسان بفعل غيره ؟ وأى فائدة في العمل وقد وقع في نفس هذا الرجل شبهة من فائدة العمل، وأراد ان يؤكد ما عنده بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجابه هذا الجواب،ودفع اعتراضه ولم يقل له: إنه صحيح، بل أخبره أن الله جلت قدرته يسر أهل السعادة بعمل أهل السعادة،وأهل الشقاوة بعمل أهل الشقاوة، وتلا - صلى الله عليه وسلم - القرآن مصدقًا لما قال، وأخبر أن الله سبحانه وتعالى إذا أنفذ قدره بشقاوة عبد يسر له عمل / أهل الشقاوة وهيأه له وسهله عليه، وأتاح له أسبابه التي تعينه وتبعثه على اكتساب المعاصي، والإنسان عندنا مكتسب لفعله لا مجبورعليه.(8/253)
وتحقيق القول في الكسب يتسع، وموضعه كتب الأصول. ولا يبعد في العقل أن يجعل الله سبحانه وتعالى هذه الأعمال أمارة عليه استحقاق الجنة والنار، ويسهل لكل عبد ما قضى له أو عليه من ذلك، والغرض هاهنا الإشارة إلى ما قلناه من أن الأسلوب الذي يقدح به المعتزلة قد وقع ما يلاحظه من هذا السائل ولم يصححه - صلى الله عليه وسلم -، بل أجاب عنه بما ذكر، ولعل السائل له - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعلم حقيقة الانفعال، أو تأكيد ما وقع في نفسه منه على ما قلناه، ولم يقصد الاعتراض على قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرد والتشكك فيه، كما يقصد المعتزلة باعتراضهم القدح في الحق الذي بيناه.
وكذلك قول الرجلين من مزينة بعد هذا: يا رسول الله ! أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر سابق، أو فيما يستقبلون به مما آتاهم به نبيهم - عليه السلام - وثبتت الحجة عليهم ؟ فقال: "بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم "، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: { ونفس وما سواها ( فألهمها فجورها وتقواها }، هذا مطابق لقول الأشعرية وأهل السنة، في أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن المعاصي قضاها الله وقدرها، ألا ترى قول السائل: أرأيت ما يعمله الناس اليوم ويكدحون فيه ولم يفرق بين خير وشر، ولا طاعة ولا معصية ؛ ولذلك جوابه - عليه السلام - لم يفرق فيه، بل قال:" كل شيء قضي عليهم ومضى فيهم، وتلا كتاب الله تعالى مصدقًا لما قال، ومسويًا بين الفجور والتقوى بقوله: { فألهمها فجورها وتقواها }، فأخبر سبحانه وتعالى عن النفس وما فعل فيها.(8/254)
وكذلك قوله - عليه السلام - في كتاب مسلم بعد هذا:" كل شيء بقدر حتى العجز والكيس "، مطابق أيضًا لقول الأشعرية في هذا. وكذلك قوله: جاء قوم مشركون يخاصمون النبي - صلى الله عليه وسلم -، في القدر فنزل قوله تعالى:{ يوم يسحبون في النار على وجوههم } إلى قوله:{ كل شيء خلقناه بقدر }؛ هكذا الأحاديث كلها مطابقة لقول أهل الحق.
وإنما سميت الأشعرية أهل السنة ؛ لاتباعهم السنن هكذا، وموافقتهم لها، والمعتزلة تتجاسر على ردها وتصغى إلى شيهة في عقولها، فيهون عليها معها ركوب العظام من رد السنن الواردة، والأزدراء على رواتها، وتكذيب الثقات من المحدثين، وهذا مجانب لفعل أهل التحصيل، والذين أعاذنا الله ضلالة الملحدين.
وأما قوله:" ومعه محضرة "، قال الهروي: قال أبو عبيد، وهو ما حضره الإنسان بيده فأمسكه من عصا أو غيرها أو عكازه، وفي الحديث آخر:"فإذا تحضروا بها سجد لهم "، قال القتبي: التحضر، واحدها محضر، وقد خاصرت فلانًا: إذا أخذت بيده وتماشيتما، وفي حديث:" المتخصرون يوم القيامة على وجوههم النور "، قال أبو العباس: مهناه: المصلون بالليل، فإذا تعبوا وضعوا أيديهم على خواصرهم من التعب. قال: ويكون معناه: أنهم يأتون يوم القيامة ومعهم أعمال يتكئون عليها. مأخوذ من الخصرة. أخبرنا بذلك الثقة عن أبي عمر وغيره، وفي حديث أبي هريرة:" نهى أن يصلي الرجل مختصرًا "، قيل: هو أن يأخذ الرجل بيده عصا يتكى عليها، وقيل: معناه: أن يقرأ من آخر السورة آية أو آيتين ولا يقرأ السورة بكمالها في فرضه، هكذا رواه ابن سيرين عنه. ورواه غيره مختصرًا، ومعنى: لأن يصل الرجل واضعًا يده على خصره "، ومنه حديث: " الاختصار راحة أهل النار"،، ونهى عن اختصار السجدة وتفسيرها على وجهين:
أحدهما: أن يختصر الآية التي فيها السجدة، فيسجد فيها.
والثاني: أن يقرا السورة، فإذا انتهى إلى السجدة جاوزها ولم يسجد لها، ومنه أخذ مختصرات الطريق.(8/255)
وقال القاضي: وقوله:" ينكت بها " أي يضرب بها في الأرض ويؤثر. والنكت الأثر، نكت في الأرض ؛ إذا أثر فيها بقضيب أو نحوه.
وقوله:" أفيما جفت به الأقلام "، عبارة عما مضت به المقادير وزم كتابه، وجف القلم الذي كتب به ذلك، أي لم يكتب بها بعد كما عهدنا نحن مما فرغنا من كتابه، فيبقى القلم جافًّا للاستغناء عنه لذلك. وكتاب الله لوهة وقلمه وصحيفته التي ذكر في الحديث من غيبه، وسر علمه الذي يلزمنا الإيمان والتصديق به، وكيفية صفة ذلك في علم الله جل جلاله لا يحاط بشيء / من علمه إلا بما شاء.
وقول عمران بن حصين لأبي الأسود: " أرأيت ما يعمل الناس به ويكدحون فيه "، قال الإمام: الكدح: السعى في العمل لدنيا كان أو آخرة.
قال القاضي: وقوله حين سأله: فيما يعمل الناس ؟ فقال: شيء قضي عليهم ومضى عليهم "، فقال له: أفلا يكون ظلمًا ؟ قال: ففزعت من ذلك فزعًا شديدًا، وقلت: كل شيء خلق الله وملك يده { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون }، وجواب مثل أبي الأسود في علمه وفضله عن اعتراضه عليه بالشبهة التي أضلت القدرية من تحكمهم على حكم الله، والدخول عليه بإرادته في قضائه وملكه، ونزوعه بالآية موضع الجنة لأهل السنة والوزر من شبهة أهل القدر لأن المالك يفعل في ملكه ما يشاء ؟ وإنما يعرض عليه فيما لا يملكه، ولأن الله تعالى لا علة لأفعاله بل إليه تنتهى العلل، وعنده تنقطع الأسئلة لا إله غيره ولا معقب لحكمه. وقول عمران له: إنى لم أرد بما سألتك عنه لأحرز عقلك أي اختبارك ومقدار علمك وثباتك في ذلك، وقوة بصيرتك فيه. وذلك لما كان تحرك هناك من كلام قول القدرية وتشنعهم على أهل السنة.(8/256)
وفيه اختبار العلماء طلبة العلم وإلقاء صعاب المسائل عليهم ليعلموا مقادير علمهم أو ليبينوا لهم مشكل ما تدعوهم ضرورته إليه مما عسماهم لا يهتدون لسؤاله،او يخافون خطاهم وغلطهم فيه. وفيه جواز كلام أهل العلم في هذا الباب، وتحاججهم، ومناظرتهم لإظهار الحجج لا للجدل. والمراد المغالبة. وأما ما ورد من نهى النبي اجمتش عن الجدال إنما هو في مثل هذا الوجه المدفوع،أو لمن ليس من أهل العلم بهذا الشان أو الجدال بالباطل ومقالات أهل البدع فيه.
وفي قوله:" اعملوا فكل ميسر لماخلق له " واحتجاجه بفوله تعالى في الآية: افسنيمعئره لليسرئ " الحجة القاطعة أيضًا على الجبرية، وشرح لقوله:" إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار ".(8/257)
وقوله في الحديث الآخر:" بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم "، قال أئمتنا المحققون: إن هذه الأحاديث اقتضت أن الله لم يزل عالِمًا من يطيعه فيدخله الجنة، ومن يعصيه فيدخله النار، وليس استحقاق من استحق منهم الجنة أو النار من أجل سابق علمه فيه، ولا ذلك عليه / ولا اضطر عليه تعالى أحدًا منهم للعمل الموجب لذلك من طاعة أو معصية الله تعالى جل جلاله. تقدم فيهم علمه وإرادته بما هم عاملون وما هم صائرون إليه قبل خلقهم وبعد خلقهم، وقال في أهل الجنة:{ جزاء بما كانوا يعملون }، وفي أهل انار: {جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون }، {وليجزى الذين أساؤوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى }، فأخبر أن ثوابه وعقابه على أعمالهم، وكل ذلك في سابق علمه فيهم فرحمة من رحمه منهم: بهدايته وتيسيره، وخذلان من خذله منهم بعصيانه وكفره. فأمر تعالى ونهى ليطيع المطيع فيدخل الجنة أو يعصى العاصى فيدخل النار، ابتلاء منه تعالى عباده لينظر كيف يعملون وليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وليتم حجته على خلقه بأمره ونهيه وتيسيره له سبيل هداه أو ضلالته، وتزيينه ذلك له، كما قال تعالى:{ فأما من أعطى واتقى ( وصدق بالحسنى ( فسنيسره لليسرى ( وأما من بخل واستغنى ( وكذب بالحسنى ( فسنيسره للعسرى }، وكما قال في المؤمنين:{ ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزنه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون ( فضلاً من الله ونعمة }، وقال في أهل الشقاء:{ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون }، وقال:{ أفمن زين له سوء عمله فراه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء }. فلم يضطر أحد منهم إلى عمله ذلك، فهذا كما يقول الجبرية، فسقط عنهم اللوم والحجة. وهو العدل الذي لا يحيف، ولا فعلوا مالم يقدره ولم يشأه، ولا سبق في علمه كما يقول القدرية، فيكون في ملكه مالا يريد، ويفعلون مالم يقدره وهو العليم الخبير، الفعال لما يشاء، الذي خلقهم وما(8/258)
يعملون.
وقوله:" احتج آدم وموسى، فقال موسى:أنت أبونا "، قال أبو الحسن القابسي: التقت أرواحهما في السماء، فوقع الحجاج بينها.
قال القاضي: ويحتمل أنه على ظاهره، وأنهما اجتمعا باشخاصهما، وقد جاء في حديث الإسراء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتمع بالأنبياء في السموات وفي بيت المقدس وصلى بهم، ولا يبعد أن الله أحياهم كما جاء في الشهداء. وقيل: يحتمل أن ذلك كان في حياة موسى - صلى الله عليه وسلم -، وأنه سأل ربه أن يريه آدم فحاجه بما ذكر. وذكر الطبري في القصة / أثرًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " قال موسى: رب ! أبونا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فأراه الله إياه، فقال له أنت آدم ؟ قال: نعم " وذكر الحديث.
وقوله:" أنت الذي خيبتنا وأخرجتنا من الجنة "، وفي الرواية الأخرى: "أغويت الناس "، قيل: يحتمل أنك كنت سبب ذلك بإخراجهم من الجنة فعرضهم لإغواء الشياطين، ويحتمل أنه لما غوى هو بمعصيته بقوله:{ فعصى آدم ربه فغوى }، وهم ذريته ؛ سموا غاوين. والغي: الانهماك في الشر. وأما في شأن آدم فقيل: معناه: جهل، وقيل: أخطأ، وقد جاء في الأية الأخرى:{ فنسي }.
وفيه حجة لأهل السنة: أن الجنة التي خرج منها آدم هي جنة الفردوس، والتي يدخلها الناس في الآخرة. خلافًا لقول المبتدعة: إنها جنة أخرى غيرها. وقوله في الحديث في الرواية الأخرى:" أنت الذي خلقك الله بيده "، وقوله أيضًا:" وخط لك بيده "، اختلف أئمتنا فيما ورد من ذكر اليد وشبه ذلك مما لايليق ظاهره بالله تعالى فكثير من السلف يرى إمرارها بتنزيه الله تعالى عن ظاهرها، وترك تأويلها. وذهب أبو الحسن الأشعري في طائفة من أصحابه إلى: أنها صفات سمعية لم نعلمها إلا من جهة الشرع نثبتها صفاتًا ولا نعلم حقيقتها وشرحها. وذهب غير واحد إلى تأويلها على مقتضى اللغة، فيحمل اليد بمعنى القدرة أو النعمة وقد مر من هذا في غير هذا الموضع.(8/259)
وقوله:" أعطاك الله علم كل شيء " عموم، والمراد به الخصوص، أي مما علمك. وقيل: يحتمل مما علمه البشر.
وقوله:" اصطفاك "، أي آثرك بالرسالة واختصك بكلامه "، كما قال في الرواية الأخرى: " وقربك نجيًّا "، أي تكلمه وحدك. وفي محاجته له حجه على جواز المحاجة للعلماء كما قدمناه. وفي قول آدم له هذا تقرير له على ما علمه، مما لا يوجب له لومه على ذنبه لقوله له:" فأعطاك الألواح فيها علم كل شيء، وقربك نجيًّا فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق ؟ قال: بأربعين عامًا. قال: فهل وجدت فيها:{ وعصى آدم ربه فغوى }؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله على أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟ ". قال رسول الله في:" فحج آدم موسى ". / معناه: غلبه بالحجة، وظفر عليه بها. وقيل: بل إن آدم أب لموسى عليهما السلام، ولم يشرع للابن لوم ابيه ومعصيته. وهذا يبعد عن سياق الحديث، ومفهومه تذنيبه على لومه، وعلة ذلك. ويحتمل أن غلبة أباه بالحجة لما علمه من التوراة من تقدير الله تعالى ذلك وإرادته. وأن يكون له نسل في الأرض، وأنبياء، وسعداء، وأتقياء وأن الله تعالى قد شاء ذلك كله وأراده وقدره، فلم يكن منه بد. وهذا إنما كان بتقدير الله إخراجه من الجنة وإرادته ذلك، ولوشاء الله ألا يخرج من الجنة ولا فعل سبب خروجه لم يكن من ذلك شيء ولا بد من كونه. فلا بد من خروجه من الجنة وسببه الموجب لذلك. فإذا كان موسى - عليه السلام - قد علم هذا من التوراة ففيم اللوم ؟ وهذا هو سر القدر الذي أمرنا بالإمساك عنه. فهذا وجه في غلبة آدم بحجته موسى عليهما السلام، وأيضًا فإن اللوم على الذنب شرعى ليس للعقل فيه مجال. وإذا تاب الله تعالى على آدم وغفر له، ورفع اللوم عنه فمن لام فيه محجوج.(8/260)
قال الإمام: قال بعض أهل العلم: لما كان الله سبحانه قد تاب على آدم من معصيته لم يجب لومه عليها، وإلا فالعاصي منا لا ينجيه من اللوم والعقاب. قوله:" إن الله قدر ذلك علي "، لأنه أيضًا قدر عليه العقوبة واللوم إذا وقعا به، ولما كان الله تعالى تاب على آدم - عليه السلام - صار ذكر ذلك له إنما يفيد إذا مباحثته عن السبب الذي دعاه إلى ذلك، فأخبر آدم، - عليه السلام - أن السبب قضاء الله وقدره، وهذا جواب صحيح إذا كانت المباحثة عن الموقع في ذلك. ولم يكن عند آدم مسبب موقع على الحقيقة إلا قضاء الله تعالى وقدره ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -:" فحج آدم موسى "؛ ولهذا قال آدم لموسى عليهما السلام:" أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه "، إنما قصد إلى العبارة بلسان قومه عن معنى ذكر بلسان غيرهم. قال الهروي: والحج الغلبة بالحجة، ومنه الحديث:" فحج آدم موسى " أي غلبه بالحجة.
قال القاضي: وقوله:" وكتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء "، وهذا حد للكتاب لا للمقادير ؛ لأن علم الله تعالى وما قدره على عباده وأراده من خليقته ازلي لا أول له، وقد يكون ذكر الخمسين ألفًا حقيقة على ظاهره، وقد يكون تمثيلاً للتكثير كما قال في قوله:{ وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون }.
وقوله:" وكان عرشه على الماء ": يعني قبل خلق السموات والأرض.(8/261)
وقوله:" قلوب بنى آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء "، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك "، قال الإمام: هذا تجوز وتوسع كما يقول القائل: فلان في قبضتى وبكفى، ولا يريد أنه حال بكفه، وإنما المراد: تحت قدرتي. وكذلك يقال: ما أفعل هذا إلا بإصبعى، أو فلان بين إصبعي أصرفه كيف شئت. ولا يراد: أنه حال بين الإصبعين، لم انما يراد: أنه هين عليه القهر له والغلبة وتصريفه كيف شاء، فكذلك المراد بقوله:" إصبعين من أصابع الرحمن "، أي أنه متصرف بحسب قدرته ومشيئته سبحانه تعالى، لا يعتاض عليه ولا يفوته ما أراده، كما لا يعتاض على الإنسان ما كان بين إصبعيه ولا يفوته. وخاطب العرب من حيث تفهم ومثل بالمعاني المحسوسة تأكيدًا للمعاني في نفوسها. فإن قيل: فإن قدرة الله سبحانه واحدة والإصبعان هاهنا اثنان. قيل: قد اخبرنا أن ذلك مجاز واستعارة وتمثيل، فوقع الكلام على حسب ما اعتادوه في هذا الخطاب غير مقصود منه إلى تثنية أو جمع. ويحتمل أن يراد بالإصبع هاهنا: النعمة، ويقال: عندي لفلان إصبع حسن، أي يد جميلة، ولكن لا يقال على هذا فلم ثنى النعمة ونعم الله لا تحصى آحادها، والأجناس قد تحصى، فيكون المراد بالنعمتين اللتين عبر عنهما بالإصبعين: /نعمة النفع، ونعمة الدفع. فنعمة النفع هي الظاهرة، ونعمة الدفع هي الباطنة. وقد قيل في قوله تعالى:{ وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة }، أن الخماهرة نعمة النفع، والباطنة نعمة الدفع. وقلب العبد للباري سبحانه عليه نعمة نفع ونعمة دفع، فلا يبعد أن يراد بالنعمتين هاتان أو غيرهما من الأجناس التي تليق بهذا.(8/262)
وقوله: " كل شيء بقدر حتى العجز والكيس "، رويناه بالضم على العطف على "كل"، وبالخفض على العطف على " شيء "، ويكون على رواية الخفض بمعنى التي خفض ما بعدها وهو أحد وجوه حتى، والعجز هنا يحتمل أن يكون على ظاهره، وهو عدم القدرة. وقيل: هو ترك ما يجب فعله، والتسويف فيه وتأخيره عن وقته. قيل: ويحتمل أن يريد بذلك عمل الطاعة، ويحتمل أن يريد عموم أمور الدنيا والآخرة. والكيس ضد العجز، وهو النشاط والحذق بالأمور ظاهرة. وإدخال مالك وأهل الصحيح له في كتاب القدر دليل على أن المراد بالقدر هاهنا ما قدره تعالى وأراده من خلقه، ومعناه أن العاجز قد قدر عجزه، والكيس قد قدر كيسه. قال الباجي: ولعله أراد بذلك العجز عن الطاعة والكيس فيها، ويحتمل أنه أراد في أمر الدين والدنيا.
وقوله: جاء مشركو قريش يخاصمون في القدر، فنزلت:{ يوم يسحبون في النارعلى وجوههم } إلى قوله:{ إنا كل شيء خلقناه بقدر } ظاهره أن المراد بالقدر هاهنا: مراد الله ومشيئته وما سبق به قدره من ذلك، وهو دليل مساق القصة التي نزلت بسببها الآية. وقال الباجي: إنه يحتمل من جهة اللغة معانى أخرى: أن يكون القدر هاهنا بمعنى التقدير، أي لا يزاد عليه ولا ينقص، كما قال:{ قد جعل الله لكل شيء قدرًا }، والثاني: أن يكون المراد: تقدير بقدره كما قال:{ بلى قادرين على أن نسوي بنانه }، والثالث: بقدر، أي وقت خلقه فيه.(8/263)
وقوله: ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي على السلام: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة. فزنا العين النظر " إلى قوله: " والفرج يصدق ذلك أو يكذبه "، أي إن الفاحشة العظيمة والزنا التام الموجب للحد في الدنيا وعقاب الزاني في الآخرة هو للفرج، وغيره له حظه من الإثم، وهو عنده تفسير اللمم الذي هو من الصغائر، ويغفر، ثم وهو عنده باجتناب الكبائر. وأصل اللمم: الميل إلى الشيء وصلته من غير مداومة. وقد اختلف الناس في اللمم، فقيل هو الرجل يأتي الذنب ثم لايعاوده. وقيل: هو ما سلف لهم في الجاهلية قبل الإسلام. وقيل: الصغائر. وقيل: أن يلم بالشىء ولا يفعله. وقيل: الميل إلى الذنب ولا يصر عليه. وقيل: هو مادون الشرك. وقيل: هو ما بين الحدين لم يشرع فيه أ حد في الدنيا أولا نص على عقابه في الآخرة، تكفره الصلوات الخمس.(8/264)
قال الإمام: قوله - صلى الله عليه وسلم -:" كل مولود يولد على الفطرة، فابواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل يحس فيها من جدعاء " ثم يقول أبو هريرة:" اقرؤوا إن شئتم:{ فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله }، وفي بعض طرقه: فقال رجل: يارسول الله ! أرأيت لو مات قبل ذلك ؟ قال:" الله أعلم بما كانوا عاملين "، وفي بعض طرقه:" ما من مولود إلا وهو يولد على الملة حتى يعبر عنه لسانه "، وفي بعض طرقه:" من يولد يولد على هذه الفطرة فابواه يهودانه وينصرانه كما تنتجون الإبل، فهل تجدون فيها جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها ". قالوا: يارسول الله ! أفرأيت من يموت صغيرًا ؟ قال:" الله أعلم بما كانوا عاملين "، وفي بعض الطرق: سئل عن أولاد المشركين، فقال: " الله أعلم بما كانوا عاملين "، وفي بعض الطرق:" إن الغلام الذي قتله الخضر - عليه السلام - كان طبع كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا "، وعن عائشة رضى الله عنها: توفي صبي، فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة، فقال - صلى الله عليه وسلم -:" أولا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار، فخلق لهذه أهلاً ولهذه أهلاً "، وفي بعض طرقه:" لم يعمل السوء ولم يدركه "، وفيه: " أن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ".(8/265)
قال الإمام: ذهب بعض الناس إلى أن المراد، بالفطرة المذكورة في الحديث: ما أخذ عليهم وهم في أصلاب آبائهم، وأن الولادة تقع عليها حتى يقع التغيير بالأبوين. وذهب بعض الناس إلى أن الفطرة هي: ما قض عليه من سعادة وشقاوة يصير إليها. وهذا التأويل إنما يليق بما في بعض الطرق وهو قوله: " على الفطرة " مطلقًا، وأما ما وقع / في بعض الطرق وهو قوله: " على هذه الفطرة "، وقوله في أخرى:" إلا وهو على هذه الملة "، فإن هذه الإشارة إلى فطرة معينة وملة معينة يمنع هذا التأويل: وقد يتعلق هؤلاء بقوله: " إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرًا "، وظاهر هذا يمنع من كون كل مولود يولد على هذه الفطرة، وقد ينفصل الآخرون عنه بأن المراد به حالة ثانية طرأت عليه من التهيؤ للكفر وقبوله عليه، غير الفطرة التي ولد عليها.
وقال آخرون: يحتمل ان يريد بالفطرة ما هي له وكان مناسبًا لما وضع في العقول، وفطرة الإسلام صوابها كالموضوع في العقل، وإنما يدفع العقل عن إدراكه افة وتغيير من قبل الأبوين وغيرهما.
وأما قوله:" الله أعلم بما كانوا عاملين "، وقوله مثل هذا لما سئل عن أولاد المشركبن، وقوله لعائشة لما قالت: عصفور من عصافير الجنة:" إن الله خلق للجنة أهلاً " الحديث. فقد قدمنا الكلام في أولاد المؤمنين، وذكرنا أن الإجماع عوإن الصغار من أولاد النبيين في الجنة، وذكرنا أن جمهور العلماء على أن أطفال المؤمنين في الجنة أيضًا، وأن بعض العلماء وقف فيهم، وفي حديث عانشة رضى الله عنها هذا.(8/266)
وقوله - عليه السلام -:" أو غير ذلك إن الله خلق للجنة أهلاً " الحديث، مما يقدح عنده في القطع، كما قطع جمهور العلماء إذا كان الصبي المذكور في الحديث من أولاد المؤمنين. وأما أولاد الكافرين فاضطرب العلماء فيهم، والأحاديث وردت ظواهرها مختلفة، فمنها: قوله هاهنا:" الله أعلم بما كانوا عاملين "، ومنها: " هم من آبائهم "، ومنها:" لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار "، الحديث كما وقع، ومنها: " أنه تتأجج لهم نار، فيقال لهم: اقتحموها " الحديث أيضًا، واختلاف هذه الظواهر بسبب اضطراب العلماء في ذلك، والقطع هاهنا يبعد. وقد حاول بعض الناس بناء هذه الأحاديث فجعل الأصل فيها حديث " تأجج لهم نارًا، ويقال لهم: اقتحموها "، فيكون من عصى ولم يقتحمها هو المراد بقوله:" أسمعتك تضاغيهم في النار "، وبقوله:" من آبائهم"، ويكون قوله: " الله أعلم بما كانوا عاملين "؛ يشير به إلى عملهم هذا من الاقتحام والإحجام.
وأما قوله:" بهيمة جمعاء "، فالجمعاء السليمة من العيوب، سميت بذلك لاجتماع ب سلامة أعضائها، لا جدع فيها ولا كي، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - / شبه السلامة التي يولد عليها المولود من الاعتقادات الفاسدة بالبهيمة الجمع التي هي سليمة من العيوب ثم يطرأ عليها العيب بفعل يفعل فيها، كما يطرأ إفساد الاعتقاد على المولود بتربية يتربى عليها.
قال القاضي: وقوله:" كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحس فيها من جدعاء ؟" أي: تولد مجتمعة الخلق سالمة من النقص والتغيير، لم يلحقها جدع، وهو قطع الأذن ولا غير ذلك، إلا بعد ولادتها.(8/267)
ومعنى قوله: " تحس "، أي: تجد، كما جاء في الرواية الأخرى: "تجدون"، يقال: حسست الشيء كذا وأحسسته: وجدته كذلك، يؤيد تأويل من تأول أن المراد بالفطرة هاهنا: ما فطر عليه العبد في أصل خلقته وابتدائها قبل معرفته بشيء من قبل بني آدم، من التهيؤ لقبول الهداية والسلامة من ضد ذلك، حتى يدخل عليه من أبويه وقريبه ومربية وقرينة ما يغيره عن ذلك، ويحمله على ما سبق عليه في الكتاب، ويجعلانه يعمل بعمل أهل الشقاوة، وكل ذلك مما سبق عليه في الكتاب كما قال في الرواية الأخرى: "حتى تكونوا أنتم تجدعونها ". والفطرة: أول الخلقة وابتداؤها، ويعضد هذا التأويل أيضًا قوله في الحديث الآخر:" حتى يعبر عنه لسانه ". وقيل: معنى " أبواه يهودانه أو ينصرانه "، أي: يحكمان له بحكمهما من ذلك، كما قال - عليه السلام -: " هم من آبائهم "، وقيل: " على الفطرة " على فطرة أبيه، أي على دينه، أي له بالحكم حكمه. واحتجاجه آخر الحديث بقوله:{ فطرت الله التي فطر المناس عليها لا تبديل لخلق الله }؛ يدل على أن مذهب أبي هريرة في الحديث والذي فهم منه أن الفطرة هنا ما سبق له في القدر من شقاء أو سعادة.
وقوله في الرواية الأخرى: " ما من مولود إلا يلد " كذا رواية السمرقندي فيه مثل ضرب، ولغيره: " يولد لا وقد ذكر الهجرى في نوادره يقال: ولد ويلد بمعنى، ويكون على إبدال الواو ياء لانضمامها.
وقوله:" كما ينتجون الإبل " يقال: نتجت الناقة: إذا توليت نتاجها والناتج لها كالقابلة للمرأة ونتجت هي فهي منتوجة، ولا يقال: أنتجت الناقة. وحكى الأخفش أنتجت ونتجت معا.
وقوله:" كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضنيه إلا مريم وابنها"، تقدم الكلام فيه. والحضن: الجنب. وقيل: الخاصرة، ورواه / ابن ماهان: " خصييه " أي أنثييه، وأراه وهما بدليل قوله:" إلا مريم وابنها ".
وقوله في غلام الخضر:" طبع كافرًا "، تكلمنا قبل في حديث الخضر على الطبع.(8/268)
وقوله:" لو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا "، أي حملهم عليه. قال الهروي: لاءلحق ذلك لهما. ذكر مسلم الأحاديث كلها في أطفال المسلمين والمشركين، وقد تقدم من الكلام عليها مجملا ما يكفى، وكل هذا راجع إلى ما قدره الله تعالى في سابق علمه وأزل مشيئته، وأن ظاهر أولاد المشركين موكول إلى علمه.
وقوله: " الله أعلم بما كانوا عاملين "، دليل على علم الله لما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وأن أمرهم إلى الله تعالى، يفعل فيهم ما يشاء.
وقوله في الصبي وهو من ولد الإسلام، قيل له: عصفور من عصافير الجنة:" إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق النار وخلق لها أهلاً "، وفي الرواية الأخرى: ا وهم في أصلاب آبائهم ا: كلام مجمل يحتمل لأنهم مع الآباء والأمهات لم ان لم يعملوا عملا يستوجبون بذلك إذ خلقوا له وكتب عليهم، ويحتمل أنهم وهذه الحال وإن خالفوا حال ابانهم، وليس في قوله: في وهم في أصلاب ابائهم " معارضة لقوله: " ثم يكتب شقى أو سعيد "، في الأحاديث الأخر، وهو في بطن أمه، إذ قد قدمنا ان قدر الله بذلك أزلي لا أول له، وإنما الكتاب هو الذي يكون وهو في بطن أمه. وهذا الحديث إشارة إلى أن هذه صفاتهم، من أن القدر قد مضى فيهم وسبق وهم بعد لم يوجدوا خلقا، ولا حصلوا في بطون الأمهات، ولا حصل لهم اسم الأولاد.(8/269)
وقول أم حبيبة زوج النبي - عليه السلام -: اللهم، أمتعنى بزوجى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبأبي أبي سفيان، وبأخى معاوية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:" سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة أن يعجل شيئًا منها قبل حله، أو يؤخر شيئًا عن حله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب النار أو عذاب القبر كان خيرًا وأفضل "، كذا رويناه " حله " بفتح الحاء في الموضعين، وفي الحديث الآخر بعده بغير خلاف من شيوخنا، ومعناه: وجوبه، يقال: حل الشيء يحل حلاًّ: وجب. وحكاه الإمام أبو عبد الله: قبل أجله وبعد أجله.(8/270)
قال الإمام: إن قال قائل:/ قد أثبت في هذا الحديث أن الأجل لا يزاد فيه ولا ينقص، وقد قال في أحاديث أخر: " إن صلة الرحم تزيد في العمر "، فكيف الجمع بين هذين الحديثين ؟ قلنا: أول ما يجب أن يعلم: أن الأجل عبارة عن الوقت الذي قدر موت الميت فيه، فإذا كان عبارة عن هذا وعليه يتكلم هاهنا، فلابد أن يقال: إن الباري سبحانه يعلم هذا الوقت أو لا يعلمه، فواضح إحالة القول: إنه لا يعمله،فإذا ثبت أنه يعلمه فليأخذ العلم وحقيقته: معرفة المعلوم على ما هو به، فإذا فرضنا أن زيدًا علم الله أنه سيموت سخة خمسمائة، ثم قدرنا أنه مات قبلها أو مات بعدها، أليس يطلب حقيقة ذلك العلم ولم يكن علمًا بل كان جهلاً ؛ لأنه تعلق بالأمر على خلاف ما هو عليه، وقد فرضنا أن الباري سبحانه يستحيل الجهل عليه، فوجب ضرورة من مقتضى هذه المقدمات أن ما علمه الباري عز وجل من الآجال لا يتبدل ولا يتغير. فإن كان السؤال عن الزيادة في الأجل الذي علمه الباري سبحانه أو النقص منه، فالجواب: أن ذلك لا يصح لهذا الذي بيناه. وإن كان السؤال عن الزيادة والنقص في أجل غير الأجل الذي عند الله تعالى وفي غيبه، فذلك مما لا يمنع الزيادة فيه والنقصان ؛ لأن ما سوى الباري وصفاته من سائر الأشياء مخلوق، والمخلوق يتغير ويتبدل ويزيد وينقص. قال الحذاق من أهل العلم بناء على هذا: ما وقع في الظواهر من الزيادة في العمر أو النقصان منه فيحمل ذلك على ما عند ملك الموت أو من وكله الباري سبحانه بقبض الأرواح، وأمره فيها بآجال محدودة، فإنه سبحانه بغد أن يامره بذلك أو يثبته في اللوح المحفوظ، لملك الموت ينقص منه ويزيد فيه، على حسب ما شاء حتى يقع الموت على حسب ما علم تعالى في الأزل، وقد قال عز من قائل:{ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب }، فأثبت المحو والإثبات وأخبر أن عنده أم الكتاب، وهذا يشير إلى ما قلناه، وإن كان قد قيل في الآية: محو الليل بالنهار أو محو النهار(8/271)
بالليل. وقيل: محو الأحكام المنسوخة بالناسخة لها، ولكن لا يبعد دخول ما قلناه تحت العموم إذا ثبت أصله، وتكون الآية مصداقًا لما قلناه على الجملة دون التفصيل. وكذلك قوله تعالى:{ ثم قضى أجلاً وأجل مسمىً عنده ثم أنتم تمترون }، يحل أن يحمل على ما قلناه، وإن كان قد قيل فيه أيضًا تأويل آخر. كما أن بعض / أهل العلم أفي تأول قوله تعالى:{ وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره } على أن المراد ينقص من عمره عن أبناء جنسه وأترابه. وكذلك تأول بعضهم قوله في صلة الرحم أنها تزيد في العمر: أن المراد به الرزق ؛ ولأن الفقر يعبر عنه بالموت. وانكر بعضهم ذلك وقال: الرزق مفروغ منه كما فرغ من الأجل، فلا معنى للاعتذار بما يحتاج إلى الاعتذار، وقال آخرون: إن المعنى: أن الله سبحانه علم أنه يعمره مائة، لأنه علم أنه يصل رحمه، وعلم أنه لو لم يصلها لعمر ثمانين، والباري سبحانه موصوف بانه يعلم ما لا يكون لو كان كيف كان يكون. وأصل ما فيما ذكرناه من التأويلات هذا التأويل، أو ما قلناه أولأ ؛ لأن الزيادة والنقص يرجعان إلى الملك وما كلفه، فيكون التغيير فيه. وصرف ذلك إلى الملك إليه يميل بعغى المحققين من أئمتنا، وعلى هذا الذي قررناه عندنا أن المقتول مات باجله، خلافًا للمعتزلة أنه قطع عليه أجله بالقتل.
ولو قيل لنا نحن: هل يقال: إن بقاءه وزيادته على ذلك القدر من الأجل مقدور للباري سبحانه ؟ لقلنا بذلك مقدور، ولكنه مع كونه مقدورًا لم يمت إلا بأجله. وقولنا أيضًا فيه: إنه مقدور جاز على اختلاف أصحابنا في خلاف المعلوم هل يقال: إنه مقدور أم لا ؟ والأصح عندي: أن خلافهم قد يرجع إلى عبارة، والأولى إطلاق القول بأنه مقدور، وقد قال تعالى: {أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم }، فأثبت أنه قادر على خلق مثلهم، ومعلوم أنه لا يخلق مثلهم.(8/272)
وكذلك اضطرب أصحابنا في المقتول لو لم يقض الباري عز وجل القتل عليه ما يكون حكمه بعد زمن القتل الذي فرضنا وقوعه فيه ؟ والأصح في هذا: أن يحال على الباري سبحانه، ويقال: نحن لا نعلم كثيرًا مما يكون للأبد، فكيف نعلم ما لا يكون لو كان كيف كان يكون. والباري سبحانه يعلم لو لم يكن قضى بموت هذا عند ثمانين من عمره كيف كان يقضى فيه ويقدر له.
وهذا السؤال لا معنى له ولا وجه للتشاغل به لأنا إذا أثبتنا أن المقتول مات بأجله، وأن الباري لا يتغير علمه فلا معنى لقولهم هذا / إلا كمعنى من يقول: لو لم يكن أجل فلان ستين ماذا يكون من الستين ؟ وهذا مما لا جواب لنا عنه إلا إحالته على علم الله سبحانه. فإن قيل: فما معنى صرفه لها عن الدعاء بالزيادة في الاجال لاءنها فرع منها إلى الدعاء بالعياذة من عذاب النار، وقد فرغ منه كما فرغ من الأجل ؟ قلنا: صدقت في أن الله فرغ من الكل، ولكن هذا الاعتراض من جملة ما قدمناه من قول من قال للنبى - صلى الله عليه وسلم -: أفلا ندع العمل ؟ لما أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله قضى بالسعادة والشقاوة، فأجابه - صلى الله عليه وسلم - لما قدمناه. وقد أمر الله بأعمال بر وطاعات جعلها الله قربى إليه، ووعد بأنها تنجي من النار، وييسر أهل السعادة لها بالدعاء بالنجاة من النار من جملة العياذات التي ترجى بها النجاة منها، كما يرجى ذلك بالصلاة والصوم، ولا يحسن ترك الصلاة والصوم اتكالاً على القدر السابق، وكذلك هذا. الدعاء ههنا، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قال لها: " لو سألت الله أن يعيذك من عذاب فى النار أو من عذاب في القبر كان خيرًا وأفضل "، ولا شك أن السؤال بالعياذة من النار خير وأفضل من الزيادة في العمر مع عذاب النار، نسأل الله السلامة والعياذة من ذلك.(8/273)
قال القاضي: وقوله:" المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير "، القوة هنا المحمودة يحتمل أنها في الطاعة، من شدة البدن وصلابة الأمر ؛ فيكون أكثر عملاً، وأطول قيامًا، وأكثر صيامًا وجهادًا وحجًّا. وقد تكون القوة هنا في المنة وعزيمة النفس، فيكون أقدم على العدو في الجهاد وأشد عزيمة في تغيير المناكر والصبر على أذى العدو واحتمال المكروه والمشاق في ذات الله، أو تكون القوة بالمال والغنى فيكون أكثر نفقة في سبيل الخيرات، وأقل ميلاً إلى طلب الدنيا، والحرص على جمع شيء منها، وكل هذه الوجوه ظاهرة في القوة. ثم قال - عليه السلام -: " وفي كل خير " للإيمان الذي هو صفتهم، لكن الله قد باين بين خلقه في داره، ورفع بعضهم فوق بعض درجات.(8/274)
وقوله:" إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت، ولكن قل: قدر الله وما شاء الله فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان "، قال بعض أهل العلم: معنى هذا الحديث والنهي عن قول هذا، إنما هو لمن قاله معتقدًا ذلك حتمًا فإنه لو فعل ذلك لم يصبه ذلك قطعًا، فأما من ردّ ذلك إلى مشيئة / الله، وأنه لن يصيبه فعل ذلك، أولم تفعله إلا ما شاء الله وقدره فليس من هذا. واستدل بما ورد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في هذا مثل قول أبي بكر في الغار: " لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا "، وهذا لا حجة له فيه عندي؛ لأنه إنما أخبر عما يستقبل، وليس فيه دعوى لرد قدر بعد، وكذلك جميع ما أدخل البخاري في باب ما يجوز من اللو، مثل قوله:" لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم " و"ولو كنت راجمًا أحد بغير بينة لرجمت هذه "، و"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك "، وشبه هذا كله مما يستقبل مما لا اعتراض فيه على قدر، ولا كراهة في قوله جملة؛ لأنه إنما أخبر عما يعتقد أنه كان يفعله لولا المانع له، وما في قدرته فعله وما انقضى وذهب ليس في القدرة ولا في الإمكان فعله بعد. وقد تكلمنا قبل على مثل هذا بأشبع من هذا الكلام، والذي عندي في هذا الحديث المتقدم أن النهي فيه على وجهه عمومًا لكن على طريق الندب والتنزيه، ويدل عليه قوله:"فإن لو تفتح عمل الشيطان "، أي: تلقي في القلب معارضة القدر وتشوش به تشويش الشيطان.
كتاب العلم(8/275)
قال الإمام: قول عائشة رضى الله عنها تلا - صلى الله عليه وسلم -:{ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } إلى قوله: {فأما الذين في قلوبهم زيغ.... أولوا الألباب } قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم ". وفي طريق أخرى قال: هجرت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمعط أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرف في وجهه الغضب، فقال:" إنما، هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب "، وفي حديث آخر:" اقرؤوا القرآن ما ائتلفت جميبتن قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا "، قال الإمام: إختييتي الناس في المتشابه المذكور في هذه الآية اختلافًا كثيرًا، فمنهم من قال: هم حروف التهجي المفتتح بها بعض السور كحم وطس وشبهها. ومنهم من قال: ما تساوى لفظه واختلف معناه وغمض إدراك اختلاف معانيه، مثل قوله عز وجل:{ وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه }، { وأضل فرعون قومه وما هدى }، فحقيقة اختلاف الإضلاليين يعسر دركه من ناحية اللفظ، وإنما يدرك بالعقول افتراق هذه المعاني وما يصح منها وما لا يصح، ويلحق بهذا أي الوعيد والغفران للمعاصي أو تعذيبه،/ فقد وقع في القرآن في ذلك ظواهر تتعارض وتفتقر إلى نظر طويل ؛ ولذلك ما ينخرط في هذا المسلك مما يقع في القرآن من هذا المعنى، وقيل غير ذلك مما يكثر ناسخه.(8/276)
واختلف الناس في الراسخين في العلم، هل يعلمون تأويل هذا المتشابه وتكون الواو في قوله عز وجل:{ والراسخون في العلم } عاطفة على اسم الله سبحانه أو لا يعلمون، وتكون الواو لافتتاح جملة ثانية واستئنافها، ويكون قوله:{ يقولون آمنا به } خبرًا لهذا المبتدأ، يكون على مذهب الأولين في موضع نصب على الحال، تقديره: والراسخون في العلم قائلين آمنا به،- والوجهان جميعًا مما يحتملهما الكلام، وإنما يعضد، كل تأويل بترجيح لا يبلغ القطع، ويكاد أن يكون علم الراسخين في العلم بالمتشابه.
وتحذيره - صلى الله عليه وسلم - من الذين يتبعون ما تشابه منه ؛ لما نبه الله عز وجل عليه وهو قوله:{ ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله }، ومعلوم أن هذا كثير مما يوقع في الفتن، ويوقع في فساد الاعتقاد، وهذا مما يجب أن يحذر.
وقوله:" إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب"، وقوله: "اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا "، فهذا مما يتعلق به الحشوية ونفاة النظر، ومحمله عند أهل العلم على أن المراد به اختلاف لا يجوز، أو يوقع فيما لا يجوز، كاختلافهم في تفسير القرآن، أو اختلافهم في معان لا يسوغ فيها الاجتهاد، أو اختلاف يوقع في التشاجر والشحناء. وأما الاختلاف في فروع الدين، وتمسك صاحب كل مذهب بالظاهر من القرآن وتأويله الظاهر على خلاف ما تأول صاحبه ؛ فأمر لابد منه في الشرع، وعليه مض السلف وانقرضت الأعصار.(8/277)
قال القاضي: وقد يكون أمره - عليه السلام - بالقيام عند الاختلاف في عصره وزمنه ؛ إذ لا وجه للخلاف والتنازع حينئذ لا في حروفه ولا في معانيه، وهو - عليه السلام - حاضر معهم يرجعون إليه في مشكله، ويقطع تنازعهم ببيانه. وجاء في آخر حديث أحمد بن سعيد الدارمي في هذا الباب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقرؤوا القرآن " بمثل حديث همام ؛ كذا للعذرى، وقد تقدم حديث همام قبله في رواية غير العذري بمثل حديثهما، وتقدم في الباب حديثان ؛ حديث يحيى بن يحيى، وحديث إسحاق بن منصور، وكلا الروايتين محتملة للصواب.
قوله:" إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم "، / الألد: الشديد الخصومة، مأخوذة من لديد الوادي، وهما جانباه ؛ لأنه كلما أخذت عليه جانبا من الحجة أخذ في جانب آخر، وقيل لأعماله: لديدية عند كثرة الكلام وهما جانباه والخصم على مثال سمع الحاذق بالخصومة، وكانت الجاهلية، تتمادح بذلك، فذمه - عليه السلام - لأنه قل ما يكون في حق، قال الله تعالى:{ وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق }، وأما الخصومة في الحق وطلبه على وجهه والجدال بالتى هي أحسن، فغير مذموم، قال الله تعالى:{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن }.
قوله:" لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع " الحديث، السنن: الطريق، وما ذكره من الشبر والذراع ودخول الجحر تمثيل للاقتداء بهم شيئًا شيئًا. هذا فيما نهى الشرع عنه وذمه من أمرهم وحالهم.
وقول مسلم في الباب: وحدثنا عدة من أصحابنا عن سعيد بن أبي مريم، حدثنا أبو غسان، وذكر الحديث. قال الإمام: هذا آخر الأحاديث المقطوعة التي نبهنا عليها، وهي أربعة عشر حديثًا هذا آخرها.(8/278)
قال القاضي: قد تقدم عنده في المقطوع مثل هذا، وإنما قلد فيه الجياني، وليس هذا. صحيحا عند أهل الصنعة، إنما يعد هذا في المجهول وفيما لم يسم رواية وأبهم، وإنما المقطوع لو قال الإمام مسلم: وقال سعيد بن أبي مريم، أو عن سعيد بن أبي مريم.
وقوله:" هلك المتنطعون " هم المتعمقون الغالون، ومعنى هلاكهم: يريد في الآخرة.
قوله:" يتقارب الزمان ":. بمعنى يقرب في الحديث الآخر، أي يقرب من الساعة،"ويكثر الهرج ": وفسره بالقتل،وهو بعض الهرج. وأصل الهرج والتهارج: الاختلاط والقتال. قال ابن دريد: الهرج: الفتنة آخر الزمان. وقوله: " ويثبت الجهل، ويروى: " ويبث ". " وينقص العلم"، ويروى: "العمل"، و"تظهر الفتن، ويلقى الشح " وهو البخل باداء الحقوق، والحرص على أخذ ما ليس للمرء لما في قلبه من الشح على ما في يده، ومد عينيه إلى ما في يد غيره، ومنه قوله تعالى:{ أشحة عليكم }، أي: بخلاء بالغنيمة، يأتون الحرب معهم من أجلها لئلا يخصوا بها، يقال منه: شح شحًّا وشح شيحًا بالفتح والاسم بالضم. وقيل: الشح عام كالجنس، والبخل خاص في آحاد الأمور كالنوع، وكل هذا مما أعلم - عليه السلام - أنه يظهر بعده ويكثر، ويقل العلم والعمل معا وينقصان، ويثبت / الجهل ويفشو أو يثبت،كما جاء في الرواية الأخرى ؛ لأنه لا يستبدل بعلم بعد، بله ولا يزال في ازدياد إلى أن تقوم الساعة وتكثر الفتن والقتل، ويموت الرجال لذلك، وتكثر النساء، ولكثرتهن وقلة الرجال يكثر الفساد والجهل.
وقوله:" ويلقى الشح " ضبطناه بفتح اللام وتشديد القاف على أبي بحر، أي يعطى ويستعمل بين الناس. وقد قال مثل هذا في قوله:{ ولا يلقاها إلا الصابرون } بسكون، فمعناه: لايحصل في القلوب كما قال:" وينزل الجهل".(8/279)
قوله:" إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بقبضه العلماء " الحديث: فسّر - عليه السلام - أن ما أخبر به في الأحاديث المتقدمة من نقص العلم وقبضه، أنه ليس بمحوه من الصدور ولكن بموت حملته، واتخاذ الناس روساء جهالاً فيتحكمون في دين الله بآرائهم، ويفتون فيه بجهلهم كما أخبر وكما قد وجد، نسأل الله السلامة والعافية.
وقول أنس في هذا الحديث:" لا يحدثكم به أحد سمعه منه "؛ يريد أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ماتوا، وأنه لم يبق من يحدث به عنه ممن سمعه منه غيره. وقول عائشة عن عبد الله بن عمرو:" ما أراه إلا قد صدق، أراه لم يزد فيه ولم ينقص "، ليس أنها اتهمته بالكذب، ولكنها لعلها نسبت إليه أنه ما قرأه من الكتب عن غير النبي - عليه السلام - إذ كان عبد الله بن عمرو قد طالع كثيرًا من كتب أهل الكتاب، ألا تراها كيف قالت له: أحدثك أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا، فلما كرره مرة أخرى بحسبه، وأسنده عن النبي - عليه السلام - غلب على ظنها أنه جاء به على ما سمعه، ويبين هذا قوله في الرواية الأخرى:" فرد عليَّ الحديث كما حدث قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
وفيه خص أهل العلم طلبته على الأخذ عن بعضهم بعضا، وشهادة بعضهم لبعض، والحض على حمل العلم والأخذ عن أهله لقولها: " ألقه، فإنه قد حمل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا "، والتثبيت فيما شك فيه من ذلك، لقولها له في العام الثاني:" ألقه حتى تسأله عن الحديث "، وفيه التلطف بالتثبت من العالم لئلا ينكر ذلك ويقع في نفسه منه، بقولها: " ففاتحه حتى تسانله عن الحديث الذي ذكر، لئلا يفجاه به غيره فينكر ذلك ويخشى أنه اتهمه.(8/280)
قوله:" من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده، كتب له مثل / أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئًا " الحديث، في هذا الأخذ بالمآل والسبب، لما كان هو سببها واقتدى فاعلها به في خيره أو شره كتب له مثل أجر العامل بذلك أو وزره، وإن لم يكن له في ذلك عمل، كما جاء في خبر ابن آدم القاتل لأخيه أن عليه كفلاً من كل نفس قتلت ؛ لأنه أول من سن القتل. وقد يكون له نية في أن يعمل بها من بعده فيكون بهذا جزاؤه على نيته أو وزره.
كتاب الذكر والدعاء
وقوله:"أنا عند ظن عبدي بي "، قيل: معناه: بالغفران له إذا استغفرني، والقبول إذا أناب إلي، والإجابة إذا دعاني، والكفاية إذا استكفاني، لأن هذه الصفات لا تظهر من العبد إلا إذا أحسن ظنه بالله وقوى يقينه. قال القابسي: يحتمل أن يكون تحذيرًا مما يجرى في نفس العبد، مثل قوله:{ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله "، وقوله:{ واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه }، وقال الخطابي في قوله:" لا يموتن أحدكهم إلا وهو حسن الظن بالله "، يعني: في حسن عمله، فمن حسن عمله حسن ظنه، ومن ساء عمله ساء ظنه، وقد يكون من الرجاء وتأميل العفو.(8/281)
وقوله:" وأنا معه حين يذكرني" يجوز أن يكون معناه "معه" بالقرب والمشاهدة والذكر بالقلب، لأنه إذا شاهده بذكر قلبه ذكره بلسانه، ويجوز أن يكون معه حائطه وكالئه، أي موفقه لذكر وهاديه. " فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب مني شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلى ذراعًا تقربت منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " الحديث، قال الإمام: النفس في اللغة تطلق على معاني شتى ؛ منها: نفس الإنسان الحيوانية، وذلك لايليق بالله سبحانه وتعالى، ومنها: النفس بمعنى الدم، ولا يليق بالله تعالى أيضًا، والنفس بمعنى الذات، والباري سبحانه وتعالى له ذات على الحقيقة، وتكون النفس بمعنى الغيب، وهو أحد الأقوال في قوله تعالى:{ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك }، أي: تعلم غيبي ولا أعلم غيبك، فيصح أن يراد بالحديث هاهنا: أن العبد إذا ذكر الله عز وجل خاليًا بحيث لا يطلع عليه أحد قضي له بالخير، وقد قال الله تعالى:{ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين }، فأخبر سبحانه أنه منفرد بعلم بعض ما يجزي به المتقين.
وقد اضطرب العلماء في الأنبياء والملائكة عليهم السلام أيهم أفضل، وتعلق من قال بتفضيل الملائكة بظاهر هذا الحديث، وقال: فإنه قال: "ذكرته في ملأ خير منهم "، وأجاب الآخرون: بأن المراد به ذكرخير من ذكره وهذا بعيد من ظاهر اللفظ، ولكن الأولين إنما تمسكوا بخبر واحد ورد، وبلفظ يتعلق به بالعموم، وفي التعلق بالعموم خلاف، وخبر الواحد لا يؤدي إلى القطع، وهذا يمنع من القطع بما قالوه.(8/282)
وأما قوله:" وإن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا "، وقوله:" وإن أتاني يمشي أتيته هرولة "، فمجاز كله، وإنما هو تمثيل بالمحسوسات وتفاوتها في الإسراع والدنو،وإنما المراد: أن من دنى مني بالطاعة دنوت منه بالإنابة، وكنت بالإنابة أسرع منه بالطاعة، أو أن من أتاني بحسنة جازيته بعشر، فكنى عن التضيف بالسرعة ودنو المسافة، فهذا الذي يليق بالله سبحانه. وأما المشى بطيؤه وسريعه، والتقرب بالذراع والباع، فمن صفات الأجسام، والله سبحانه ليس بجسم، ولا يجوز عليه تنقل ولا حركة ولا سكون، وهذا واضح بيّن.
قال القاضي: قيل يجوز أن يكون معنى قوله:" من تقرب إلي شبرًا "، أي بالقصد والنية، قربته توفيقًا وتيسيرًا ذراعًا، وإن تقرب إلى بالعزم والاجتهاد ذراعًا قربته بالهداية والرعاية باعًا، وإن أتاني معرضًا عمن سواي مقبلاً إلي أدنيته، وحلت بينه وبين كل قاطع، وسبقت به كل مانع، وهو معنى الهرولة. وجاء في الرواية الأخرى:" وإذا تلقاني بباع جئته بأسرع " كذا رواية الفارسي وابن ماهان، وفي رواية العذري:" وإذا تلقاني بباع جئته أتيته بأسرع ". تال بعضهم: هر مفسر، ولعله:" بباع حثيث أتيته بأسرع".
وقوله: " سبق المفردون " وفسره:" الذاكرون الله كثيرًا والذكرات "، ضبطناه على متقنى شيوخنا بفتح الفاء وكسر الراء. قال القتبي: هم الذين هلك لداتهم، وذهب قرنهم الذين كانوا فيه فبقوا يذكرون الله، كما يقال: فلان هرم في طاعة الله، أي لم يزل يفعل ذلك.
وقد جاء تفسيره في حديث آخر قال:" هم الذين اهتروا في ذكر الله "، أي: أولعوا. وقيل: استهروا. وقال ابن الأعرابى: فرد الرجل إذا تفقه واعتزل وخلا بمراعاة الأمر والنهي.
قوله:" إن لله تسعة وتسعون اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة، وأنه وتر يحب الوتر "، قال أبو القاسم القشيري: فيه دليل على أن الاسم هو المسمى ؛ إذ لو كان غيره لوجب أن تكون الأسماء غير، لقوله: {ولله الأسماء الحسنى }.(8/283)
قال الخطابي: وفيه دليل على أن أشهر أسمائه: الله ؛ لإضافة هذه الأسماء له، وقد جاء في بعض الروايات:" إن الله هو اسمه الأعظم ". قال أبو القاسم الطبري: وإليه ينسب كل اسم، وقال: الرؤوف والكريم من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء الرؤوف ولا الكريم، وفيه إثبات الأسماء المحصورة بهذا العدد. قال: وليس مقتضاه أنه ليس له أسماء غيرها. وتمام فائدة الكلام والخبر في قوله: " من أحصاها " وهو خبر إن، لا قوله:" تسعة وتسعين "، ودليله قوله في الحديث الأخر:" أسالك بكل اسم سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ". قال القاضي أبو بكر بن الطيب: ليس في الحديث دليل على أنه ليس فيه سوى هذه الأسماء ؛ لأن ظاهره أنه من أحصاها دخل الجنة. وتعيين هذه الأسماء لم يخرج في الصحيح وقد خرجها الترمذي وغيره من أصحاب المصنفات، وفيها اختلاف يثبت أسماء في رواية، وفي أخرى أسماء أخر تخالفها، وقد اعتنى بعض أهل العلم بتخريج ما منها في كتاب الله مفردًا غير مضاف ولا مشتق من غيره كقادر وقدير ومقتدر ومالك الناس وملك وعليم وعالم الغيب، فلم تبلغ هذا العدد، واعتنى آخرون بذلك، فحتفوا التكرار ولم يحذفوا الاضافات فوجدوها على ماقالوه تسعة وتسعين في القرآن كما ذكر في الحديث لكنه على الجملة لا على تفسيرها في الحديث. واعتنى آخرين بجمعها مضافة وغير مضافة ومشتقة وغير مشتقة، وما وقع منها في هذا الحديث على اختلاف، وفي غيره من الأحاديث منثورًا أو مجموعًا، وما أجمع أهل العلم على إطلاقه فبلغها أضعاف هذا العدد المذكور في الحديث.
وقيل: إن هذه التسعة وتسعين مخفية في جملة أسماء الله تعالى كالاسم الأعظم فيها، وليلة القدر في السنة.
وقوله:" من أحصاها "، قيل: من حفظها، وقد جاء مفسرًا في حديث "من حفظها "، وقيل: من عدها ليدعو بها، كقوله:{ وأحصى كل شيء عددًا "، وقيل:"من أحصاها " من وجد الله بها ودعا بها، يريد توحيده وتعظيمه والإخلاص له.(8/284)
وقيل:" أحصاها "، بمعنى أطاقها. كقوله:{ علم أن لن تحصوه }، أي: تطيقوه، وإطاقتها: حسن المراعاة لها، والمحافظة لحدودها، والتصديق بمعانيها، والعلم بها، ومقتضى كل اسم وصفة يستفاد منها وتحقيقها. وقيل إحصاؤها: العمل بها، والتعبد لله بمعنى كل اسم منها، والإيمان بما لا يقتضي تعبدًا ولا عملاً. وقيل: معنى ذلك ختم / القرآن وتلاوته كله، لأنه مستوف لهذه الأسماء.
وقوله " إنه وتر يحب الوتر "، الوتر: الفرد، ومعناه في حق الله: الواحد الذي لا شريك له ولا نظير، فهو وتر وجميع الخلق شفع.
وقوله:" يحب الوتر "، قيل: معناه فضل الوتر في الفرد على الشفع في أسمائه ليكون أدل على معنى الوحدانية في صفاته، وقيل: يحتمل أن يكون معناه منصرفًا إلى صفة من يعبد الله بالوحدانية والتفرد على سبيل الإخلاص، { ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا }، ويحتمل أن يكون معناه: أنه يأمر ويفضل الوتر في الأعمال وكثير من الطاعات، كما جعل الصلوات خمسًا وترًا، وشرعت أعداد الطهارات والاستطابة وأكفان الميت ونصب الزكاة في الخمس أواق والخمسة أوسق ونصب الإبل، وأكثر نصب الغنم وأول نصب البقر وترًا في العقود، وخلق كثير من مخلوقاته على عدد الوتر من السموات والأرض والبحور والذراري وعدد الأيام في الجمعة والسنة وعدد عقدها في الشهر، وكثير من هذا الباب لسر من أسرار غيبه في ذلك، والله أعلم.
قوله:" إذا دعا أحدكم فليعزم في الدعاء، ولا يقل: اللهم إن شئت فأعطني، فان الله لا مستكره له "، وفي الرواية الثانية:" وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه "، قيل: كراهة الاستثناء هنا لوجهين:
أحدهما: أن مشيئة الله ثابتة معلومة وأنه لا يفعل من ذلك إلا ما شاء، ورانما يتحقق استعمال المشيئة في حق من يتوجه عليه الإكراه، والله منزه عن ذلك كما جاء في آخر الحديث.(8/285)
والوجه الأخر: أن في هذا اللفظ ظهور الاستغناء ؛ إذ لا يستعمل هذا اللفظ إلا فيما لا يضطر إليه الانسان، فاما ما يضطر إليه فإنه يعزم عليه ويلح فيه، ويبين أيضًا هذا التأويل قوله في الرواية الأخرى:" فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه "، ومعنى " يعزم ": أي يشد ولا يتراخى. وأولو العزم من الرسل: أولو الشدة والقوة، وقيل: عزم المسألة: حسن الظن بالله في الإجابة.
وقوله:" لايتمنين أحدكم الموت لضر نزل به " الحديث، وفي الرواية الأخرى:" ولا يدع به قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا "، في هذا الحديث: كراهة الدعاء بالموت في حالة وجوازه في أخرى، ففيه أولاً: كراهة الدعاء به للعلة التي ذكرت من الضرر، ويحتمل أن يكون من ضر أو فاقة أو محنة من عدو، وشبه ذلك من المضار الدنيوية ؛ لأنه إنما يدعو به هنا بمعنى الضيق والضجر والسخط لما قدر عليه، وأما لو كان لضر ديني يخشاه فمباح.
وعليه يدل قوله آخره:" وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا "، وقد قال - عليه السلام -: " وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضنى إليك غير مفتون "، وفي رواية الطبري: "انقطع أمله "، والوجه: " عمله " كما تقدم. يدل عليه سياق الحديث، وإن كان الأمل أيضًا ينقطع بالموت، لكن ليى هو مراد الحديث ؛ ولأن عمله هو المتكرر في الأحاديث والمعروف في الروايات.
وقوله في الباب في حديث حامد بن العباس: حدثنا عاصم، عن النضر بن أنس، وأنس يومئذ حي ؛ يريد: أن عاصمًا هو الذي حدثه به النضر بن أنس في حياة أبيه.
وقوله:" من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه "، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه "، قال الإمام: من قضى الله بموته فلابد أن يموت وإن كان كارهًا لقاء الله، ولو كره الله موته ما مات، ولا لقيه، فيحمل الحديث في مثل هذه الصورة على كراهة الله سبحانه للغفران له وإرادته لإبعاده من رحمته.(8/286)
قال القاضي: قد جاء في الأم في الحديث زيادة في الرواية الأخرى تشعر بالمراد به سؤال أبي هريرة عائشة عن هذا الحديث.
وقوله: ولكننا نكره الموت، فقالت: " ليس الذي يذهب إليه ولكن إذا شخص البصر، وحشرج الصدر، واقشعر الجلد، وتشنجت الأصابع، فعند ذلك من أحب لقاء، الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه"، فمفهومه أنه عند الخاتمة وحضور الموت وكشف الغطاء، فأهل السعادة قد اغتبطوا لقاءهم بما رأوه، والله تعالى قد بشرهم به وأراده لهم، وهو معنى محبته لقاءهم، وأهل الشقاوة قد كشف لهم عن حالهم فكرهوا الورود على ربهم لما تيقنوه من تعذيبه لهم، والله تعالى قد أبعدهم عنه وهو معنى كراهته لقاءهم، أو لم يرد بهم القرب منه والمنزلة عنده، وهو من معنى الكراهة أيضًا، فـ" من " هنا خبرية غير شرطية، وليس المراد بالحديث أن سبب كراهة الله لقاء هؤلاء كراهتهم هم، ذلك، ولا أن حبه لقاء هؤلاء حبهم هم لذلك، لكنه صفة حال لهؤلاء وهؤلاء في أنفسهم وعند ربهم، كانه قال: من أحب لقاء الله فهو الذي أحب الله لقاءه.
وحشرجة الصدر: هو تردد النفس فيه. وتشنج الأصابع: تقبضها، واقشعرار الجلد: قيام شعره.
وقوله:" ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد "، أي: أن العشر مضمونة بقوله تعالى، كما نص عليه في كتابه وتضعيفها، ثم يتفضل الله على من يشاء بما يشاء بالزيادة عليها إلى سبعمانة ضعف، كما جاء في الحديث الأخر، وإلى مالا يأخذه حساب كما قال تعالى:{ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب }، وقال:" إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" بعد ما ذكر نهاية التضيف إلى سبعمائة.(8/287)
وقوله:" من لقيني بقراب الأرض خطيئة، لقيته بمثلها مغفرة "، يفسر قوله قبل هذا:" ومن جاء بالسيئة فجزاؤه مثلها أو العفو عنه "، فأخبر أن في سعة عفوه تعالى لمن أراد العفو عنه ما يسع ملء الأرض خطيئة أو ما يقرب من ملئها. وقراب كل شيء: قربه بضم القاف، كذا رويناه هنا، وقال لي أبو الحسن يقال: قراب بالكسر أيضًا.
وقوله في الذي قال فيه: إنه قد خفت حتى صار مثل الفرخ، أي ضعف، وخفت أيضًا: انقطع كلامه، وخفت أيضًا: مات.
وقوله:" هل كنت تدعو بشيء ؟ "، وقوله: كنت أقول: اللهم، ما كنت معاقبي به في الأخرة فعجله لي في الدنيا، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: " سبحان الله ! إنك لا تطيقه، أفلا قلت: اللهم { آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة }" الآية، فدعا الله له فشفاه.
فيه جواز التسبيح عند العجب من الأمر، وفيه كراهة تمني البلاء وإن كان على الوجه الذي فعله هذا، فإنه قد لا يطيقه فيحمله شدة الضرر على السخط والتندم والشكى من ربه، وفيه أن الدعاء بما قصه - عليه السلام - أفضل لعامة الناس وأسلم، وقد ذكر بعدص هذا أنه كان كثر دعائه - عليه السلام -.
وقد اختلف المفسرون في تأويل الآية، فقيل: الحسنة في الدنيا: العلم والعبادة، وفي الأخرة: الجنة. وقيل: في الدنيا: العافية، وفي الآخرة: العافية. وقيل: في الدنيا: المال، وفي الأخرة: الجنة. وقيل: الحسنة هنا: النعمة. وقيل: حظوظ حسنة. وفيه إجابة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - له.
وقوله:" إن لله ملائكة سيارة، فضلاً، يتبعون مجالس الذكر "، كذا الرواية عند جمهور شيوخنا في مسلم والبخاري، بفتح الفاء وسكون الضاد، وبعضهم بضم الضاد، وعند العذري والهوزني:" فضل " برفع اللام على خبر المبتدأ وضم الفاء، وكذا رواه بعض الشيوخ، والصواب الأول كما بيناه. ومعنى:" سيارة في الأرض " كما قال في بعض الروايات:" سيَّاحين ".(8/288)
وقوله:" فإذا وجدوا مجلس ذكر قعدوا معهم، وحظ بعضهم بعضًا بأجنحتهم "، كذا للعذري وللطبري فيما وجدته بخطي:" حظ "، بالظاء المعجمة، ولا أعلم له هنا وجها. وكذلك رواه بعضهم من طريق ابن الحذاء: " خص " بالخاء المعجمة والصاد المهملة وهو بعيد، ورواه بعضهم:" حض " بالضاد المعجمة وله وجه. وفي كتاب ابن عيسى: " حط " بحاء وطاء مهملتين، وكذا قيل عن شيخنا القاضي أبو علي، وهو الصواب. قيل: معناه: أشار بعضهم إلى بعض بالنزول أو دعائه إلى النزول ويدل عليه قوله بعده في البخاري:" هلموا إلى حاجتكم ". وفي رواية السجزي والسمرقندي: " حف بعضهم بعضا بأجنحتهم "، ويدل على هذه الرواية قوله في البخاري: " يحفونهم بأجنحتهم "، أي: يحدقون بهم ويطوفون حولهم، ويجتمعون في جميع جوانبهم، ويحدق بعضها بعضًا. وحفاف الشيء: جانباه، كما قال: " حتى يملؤوا ما بين السماء والأرض ".
وقوله:"ويستجيرونك من النار ". وقوله: ( قد أجرتهم مما استجاروني"؛ كله من الأمان، والجوار يأتي بمعنى الأمان. وقوله في الذي مر بينهنم فجلس - زاد في البخاري: لحاجة - " قد غفرت لهم، هم القوم لا يشقى جليسهم"؛ فيه: فضل مجالس الذكر وإن لم يكن الجالس فيها من أهلها. وفيه: فضل مجالسة الصالحين وتزكيتهم.
والذكر ذكران: ذكر الله بالقلب: وهو الذكر الخفي، وذكر القلب أيضًا عند أوامره ونواهيه. وذكر باللسان: كما جاء عن عمر بن الخطاب، فذكره بالقلب، وهو الذكر الخفي وهو أرفع الأذكار، الفكرة في عظمة الله وجلاله وجبروته وملكوته وآياته في أرضه وسماواته، وفي الحديث: " خير الذكر الخفي "، وبعده ذكره بالقلب عند أوامره ونواهيه، فينتهي عما نهى عنه، ويمتثل ما أمر به، ويتوقف عما أشكل عليه. وذكره باللسان مجردًا هو أضعف هذه الأذكار الثلاث، لكن له فضل عظيم، كما جاء في الآثار: "لكل فضل بقدر مرتبته ".(8/289)
وقد ذكر أبو جعفر الطبري وغيره اختلاف السلف: أيهما أفضل الذكر باللسان أو بالقلب ؟ والخلاف عندنا إنما يتصور في تحديد الذكر بالقلب من التسبيح والتهليل وشبهه من أذكار اللسان إذا لم ينطق بها اللسان، وعليه يدل كلامهم ؛ لأنهم مختلفون في الذكر الخفي للذى ذكرناه أولاً من الفكر وإحضار دلائل المعارف والعظمة، فتلك لا يتلونها ذكر اللسان، فكيف يتفاضل معها، وإنما الخلاف فيما ذكرناه، وكل ذلك مع حضور الثلاث بذكر اللسان، فاما والقلب لاه فلا. فمن رأى ذكر القلب أفضل قال: لأن عمل السر أفضل. ومن قال: ذكر اللسان أفضل قال: لأن فيه زيادة أعمال الجوارح على عمل ذلك بالقلب، ففيه زيادة عمل منه تقتضي زيادة أجر، ولذلك اختلف في ذكر القلب، هل تكتبه الملائكة ويعمل ؟ فقيل ذلك، وأن الله يجعل لها على ذلك علامة، وقيل: إنه لا يكتب ؛ لأنهم لا يطلعون عليه.
وقوله:" كان أكثر دعائه:" اللهم ! آتنا في الدنيا حسنة " الآية، هذا لجمعها معاني الدعاء كله ؛ من أمر الدنيا والأخرة، والحسنة هنا عندهم: النعمة، فسأله نعم الدنيا والآخرة والوقاية من عذاب النار.?(8/290)
وذكر حديث فضائل من قال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مانة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا أحد عمل أكثر من ذلك ". و "من قال: سبحان الله وبحمد، في يوم مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر "، ثم ذكر بعد في فضل من قال:" لا إله إلا الله " المتقدم " كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل، ثم ذكر حديث: " من سبح مانة تسبيحة كتبت له ألف حسنة، وحطت عنه ألف سيئة، ذكر هذا العدد من المائة، وهذا الحصر لهذه الأذكار لا دليل على أنها غاية وحد لهذه الأجور. ثم نبه - عليه السلام - بقوله:" إلا أحد عمل أكثر من ذلك " أنه جائز أن يزاد على هذا العدد فيكون لقائله من الفضل بحسابه، لئلا يظن أنها من الحدود التي نهي عن اعتدائها، وأنه لا فضل في الزيادة عليها كالزيادة على ركعات السنن المحدودة أو أعداد الطهارة.
وقد قيل: يحتمل أن هذه الزيادة من غير هذا الباب، أي: ألا يزيد أحد أعمالاً أخر من البر غيرها، فيزيد له أجرها على هذا.
وقوله في حديث التهليل: " محيت عنه مائة سيئة "، وفي حديث التسبيح: " وحطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر " ظاهره أن التسبيح أفضل. وقد جاء في تهليل التسبيح حديث التهليل:" ولم يات أحد بأفضل مما جاء به "، فيحتمل الجمع بينهما أن يكون حديث التهليل أفضل، وأنه إنما زيد من الحسنات ومحى من السيئاث المحصورة، ثم جعل له من فضل عتق الرقاب ما قد زاد على فضل التسبيح، وتكفيره جميع الخطايا ؛ لأنه قد جاء أنه:" من أعتق رقبة، أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار "، فهنا قد حصل بهذا العتق تكفير جميع الخطايا عمومًا بعد حصر ما عد منها خصوصًا مع زيادة مائة درجة، وما زاده عتق الرقاب الزائدة على الواحدة.(8/291)
وقد جاء في الحديث هنا أيضًا: أفضل الذكر التهليل، وأنه أفضل ما قاله - عليه السلام - والنبيون من قبله. وقد قيل: إنه اسم الله الأعظم، وهي كلمة الإخلاص. وقد مضى شرح التسبيح، وأنه بمعنى التنزيه عما لا يليق به جل جلاله من الشريك والصاحبة والولد والنقانص، وإعرابه واشتقاقه، وذلك في ضمن قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، المتقدم ذكره، وفضل من يقوله.
وقوله:" الله كبر كبيرًا "، انتصب عند النحاة:"كبيرًا"؛ لفعل مضمر دل عليه ما قبله كانه قال: كبرت كبيرًا، أو ذكرت كبيرًا أو نحوه. وقيل: على التمييز. وقيل: على القطع.?
وقوله:" من نفس عن مسلم كربة "، أي أزالها عنه وفرجها، وقد تقدم الكلام على فصول هذا الحديث.
وقوله:" ونزلت عليهم السكينة " أي: الرحمة، وهو أحد الوجوه في تأويل السكينة في القرآن، وهذا أليق الوجوه هنا. وقيل: السكينة أيضًا في ذلك، وفي قوله:{ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين }، أي الوقار والطمأنينة.
قال الإمام: وقوله:" وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله "، ظاهره يبيح الاجتماع لقراءة القرآن في المساجد، وإن كان مالك قد قال في المدونة بالكراهة بنحو ما قض هذا الظاهر جوازه وقال: يُقامون، ولعله لما صادف العمل لم يستمر عليه ورأى السلف لم يفعلوه مع حرصهم على الخير كره إحداثه، ويراه من محدثات الأمور، وكان كثير الاتباع لعمل أهل المدينة وما عليه السلف،وكثيرا ما يترك بعض الظواهر بالعمل.(8/292)
قال القاضي: قد يكون هذا الاجتماع للتعلم بعضهم من بعض، بدليل قوله: "ويتدارسونه بينهم "، ومثل هذا لم ينه عنه مالك ولا غيره. وقوله: "ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه "، يريد اخرة عمله السئ، أو تفريطه في الحسنات المعلية للدرجات عن اللحاق بمنازل المتقين والأبرار، وعن دخول الجنة في أول زمرة لم ترفعه رفعة نسبه ومكانته في الدنيا، ولا جبر هذا النقص الذي ثلم حاله.
وقوله في أهل الذكر:" إن الله يباهي بهم الملائكة "، معناه: يظهر فضلهم لهم، ويريهم حسن عملهم، ويثني عليهم عندهم. وأصل البهاء: الحسن والجمال.
وقوله: " إنه ليغان على قلبي، وإنى لأستغفر الله في اليوم مائة مرة "، قال الإمام: قال أبو عبيد: يعني أنه يغشى القلب ما يلبسه، يقال غينت السماء غينًا وهو إطباق الغيم السماء أو الغيم والغين واحد.
قال القاضي: قيل: ذلك عبارة عن الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان دابه فيستغفر منه ؛ إذ كان أبدًا فيمن يدمن ذلك، فرأى الغفلة عنه ذنبًا. وقيل: ذلك الغين همه بسبب أمته،وما اطلع عليه من أحوالها بعده، حتى يستغفر لهم. وقيل: إن ذلك لما يشغله عن عظيم مقامه من النظر في أمور أمته ومصالحهم، ومجابهة عدوه، ومداراتهم للاستعلاف، فيرى شغله لذلك، وإن كان من أعظم الطاعات وأفضل الأعمال ؛ نزولاً عن على درجته، ورفيع مقامه، من حضوره بهمه كله مع الله، ومشاهدته عنده، وفراغه عن غيره إليه، وخلوصه له عمن سواه، فيستغفر لذلك. وقيل: قد يكون هذا الغين: السكينة التي تغشى قلبه ؛ لقوله تعالى:{ فأنزل السكينة عليه }. واشغفاره: إظهار للعبودية والافتقار وملازمة الخضوع، شكرًا لما أولاه به.(8/293)
قال المحاسبي: خوف الملائكة والأنبياء خوف إعظام، وإن كانوا آمنين من عذاب الله. وقيل: يحتمل أن يكون حال خشية وإعظام يغشى القلب، ويكون استغفاره هذا على ما تقدم شكرًا وإعظامًا، ولا يعتقد أن استغفاره لأجل الغين، بل ذكر الغين قصة، والاستغفار أخرى غير مرتبطة بها، وعليه يدل حديث مسلم: " إني ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله "، كما قال في الحديث الآخر:" أيها الناس ! توبوا إلى الله، فإنى أتوب إليه في اليوم مائة مرة "، وكما كان يقول في سجوده:" أستغفرك وأتوب إليك " يتأول القرآن.
وعلى من يجيز الصغائر على الأنبياء، فيجعل استغفاره لما عساه يتوقعه أن يجرى على لسانه أو جوارحه فيها، وإن كان - عليه السلام - قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فاستغفاره لذلك شكر لله لاعظام لجلاله كما تقدم. وقيل: هو شيء يعتري القلوب الصافية مما يحدث في النفس من اللمم وحديثها، أو الغفلة فيشوشها.
وقوله:" من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه "، هذا حد للتوبة جعله الله تعالى، ولها باب يسد عند هذه الآية كما جاء في الحديث، وقد جاء في التفسير أنه معنى قوله:{ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها }، وعلى ظاهره حمله أهل الفقه والحديث، خلاف ما تأوله عليه بعض الغالين من الباطنية.
وقوله:" تاب الله عليه "، قيل: معناه: قبل توبته ورضيها. قيل: توبة الله على عباده رجوعه بهم إليها، وقد تكون توبته تثبيتًا لهم وتصحيحًا، ويأتي بعد هذا معنى التوبة.
وقوله - عليه السلام - لما سمعهم يجهرون بالتكبير:" اربعوا على أنفسكم، إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبًا "، معناه: الزموا أمركم وشأنكم، وانتظروا ولا تعجلوا، وقيل: معناه: كفوا وارفقوا وكل قريب بعضه من بعض. فيه التأدب في الدعاء والذكر والتوقر عنده. وقد تيل في قوله تعالى: أولاً تجهر بصلاتك ولا تخافت بها مه أنه منه، وأن الصلاة هنا الدعاء. وقيل: القراءة، وقد مر من هذا أول الكتاب.(8/294)
وقوله:" ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ قل: لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم "، هذه كلمة استسلام وتفويض واعتراف بالعجز، وأن العبد لا يملك مع الله شينا، أولاً يملك ! من دونه كما قال أهل اللغة: معناه: لا حول، لا حيلة، يقال: ما للرجل حيلة ولا حول ولا احتيال ولا محالة ولا محال ولا محتال، وقيل: الحول: الحركة، أي لا حركة، ولا استطاعة إلا بالله. قال ابن مسعود: معناه: لا حول عن المعصية إلا بعصمة الله، ولا قوة على الطاعة إلا بعون الله.
ومعنى:" كنز من الجنة "، أي أجر مدخر وثواب مخبأ ظاهره لقائلها، وقيل: بل لمن اتصف بذلك، وتبرأ من حوله وقوته، وفوض أمره إلى الله تعالى، ولمن قالها عن صدق نيته وتحقيق ضميره.
وقوله:" والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته "، مثل قوله تعالى:{ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }؛ كله استعارة لتحقيق سماع الدعاء، وأن إجابته إياه وتحقيق سماعه له كس هو منك بهذا القرب.
ومضى الكلام في تعوذه - عليه السلام - من فتنة القبر، وفتنة المسيخ، وغسل الخطايا بالثلج قبل هذا في مواضع. واستعاذته من فتنة الغنى وفتنة الفقر لأنهما حالتان يخشى الفتنة معهما بالسخط وقلة الصبر، والوقوع بالضرورة فيما لا يحل عند الحاجة، وبالعجب م والأشر والبطر، والبخل بحق المال عند الغنى، وإنفاقه في الاسراف وما لا يحل. والكسل: عدم انبعاث النفس للخير وقلة الرغبة فيه، مع إمكان فعله. والعجز: عدم القدرة على فعله.
قال الخطابي: استعاذة النبي من الفقر أي يعني به فقر النفس، وقد يكون استعاذته من سوء احتماله، وقلة الرضا به. والفقر المستعاذ منه: هو ما يخشى من فتنته وهو المذموم، وأما الاستعاذة منه خوف انحطاط القدر فمذموم، وقد جاءت أحاديث بفضل الفقر وآخر بذمه، فمحملها على ما ذكرناه، ويدل عليه قوله:" من شر فتنة الفقر ".(8/295)
وقوله: " وأعوذ بك من العجز والكسل "، تقدم تفسير العجز، وأنه يحتمل أن يكون على ظاهره من عدم القدرة. وقيل: هو ترك ما يجب فعله والتسويف به، ويحتمل أن يريد به عمل الطاعات، ويحتمل عموم أعمال الدنيا والأخرة، والكسل يكون بهذا المعنى. وقيل: هو فترة تقع بالنفس تثبط عن العمل.
استعاذ منهما، لأنهما يمنعان من أداء الحقوق والمسارعة إلى الخيرات، وترك الاكتساب للعيال وداعيه إلى الحاجة إلى الناس.
واستعاذته من الهرم وأن يرد إلى أرذل العمر ؛ لما فيه من الخوف، واختلال الحواس والعقل، وعدم العلم، وتشويه المنظر، والعجز عن إداء الطاعات، وربما أدى ذلك إلى التساهل فيها، ويعذر نفسه بتركها. فاستعاذته - عليه السلام - من جملة هذه الأشياء ليكمل حاله في كل حين وشرعه تعليمه لأمته الاستعاذة منها، وسؤالأ لله تعالى ألا يغير ما به من نعمة، ودليل على جوار الدعاء بما يشاء العبد على التفصيل والجملة.
واستعاذته من المغرم من هذا الباب، وهو إما من مغرم لزمه لم يقدر على قضائه، أو من مغرم في غير ما يجب اكتسابه ولا يباح التداين فيه، أو من مغرم لديه أحبه ومطله به. والنبي - صلى الله عليه وسلم - في كل هذا معلم لأمته هذه الأدعية.
وكذلك استعاذته من الجبن والبخل ؛ لما فيهما من التفصير عن أداء الواجبات، والقيام في حقوق الله، والغلظة على أهل المعاصي، وتغيير المناكير، وأداء حقوق المال ؛ إذ بشجاعة النفس المعتدلة يقيم الحقوق، وينصر المظلوم، وبسخاء النفس يؤدي حقوق المال ويواسي منه، ويلم به عند الضرورات شعث المساكين، ويؤدي واجب المضطرين.(8/296)
وقوله:" كان يتعوذ من سوء القضاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء، وجهد البلاء "، جهد البلاء: مشقته، والجهد: ما لا طاقة لحمله ولا يقدر على دفعه ؛ فهو المستعاذ به، يقال بالضم والفتح. قال نفطويه: بالضم: الوسع والطاقة، وبالفتح: المبالغة والغاية. وقال الشعبى: بالفتح: في العمل، وبالضم: في الفتنة، يعني العيش. وقال غيره: إذا كان من الاجتهاد والمبالغة ففيه الوجهان. قال ابن دريد: هما لغتان صحيحتان لمعنى جهده، وجهده. وفي كتاب العين: الجهد بالضم: الطاقة، وبالفتح: المشقة. وروى عن ابن عمر قال: جهد البلاء: قلة المال وكثرة العيال.
ودرك الشقاء، بفتح الراء: اسم للإدراك كما يلحق من اللحاق،وضبطه بعضهم بالاسكان، والوجه بالفتح هنا. وقال بعضهم: درك الشقاء يكون في أمور الدنيا والاخرة وكذلك سوء القضاء في النفس وفي المال، ويكون ذلك في سوء الخاتمة. ودرك الشقاء عند الموت، ويكون ما يدرك من عقوبة الله في الآخرة. وقد يكون من الشقاء أيضًا: ما يدرك من ذلك في الجهد وقلة المعيشة في الدنيا.
وقوله: " أعوذ بكلمات الله التامات "، قيل: معناه: الكاملة التي لا يدخلها نقص ولا عيب كما يدخل كلام البشر. وقيل: التامة: النافعة الشافية،وقيل: الكلمات هنا: القرآن.
وقوله:" إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن "، فيه:" وقل: اللهم إنى أسلمت نفسي إليك " الحديث فيه ثلاث سنن:
إحداها: الوضوء للنوم مخافة أن يتوفاه الله على غير طهارة، وليكون أصدق لرؤياه وأبعد من تلعب الشيطان به في منامه وترويعه، وليكون إن مات آخر عمله من الدنيا الطهارة وذكر الله، ولما جاء: أنه في صلاة أو ذكر حتى يستيقظ.
وقد اختلف العلماء في مذهبنا وغيرهم، هل يستباح بهذا الوضوء صلاة أم لا ؟ والصحيح أنه متى ما نوى بها ليكون على طهارة - كما قدمنا - فهو كنية رفع الحدث واستباحة ما يمنع منه، ويجوز له استباحة كل ما يمنع الحدث منه.(8/297)
والثانية: النرم على الشق الأيمن، ففيها في التيامن من البركة، وفي اسمه من الخير، واستعماله في موارد الشرع، وأيضًا فان في نومه على شقه الأيمن حكمة لسرعة انتباهه، ولئلا يستغرقه النوم استغراقًا كليًّا ؟ وذلك أن النائم إذا نام كذلك كان قلبه - وهو في جهة اليسار - قلقًا متعلقًا، فكان الانتباه إليه أسرع، والاستغراق منه أبعد. وإذا نام على شقه الأيسر كان مستقرًا في جنبه فيستغرقه النوم كثيرًا، ولا ينتبه منه إلا بعد جهد.
الثالثة: ذكر الله تعالى عند النوم ؛ ليكون خاتمة عمله ؛ إذ هو أحد الموتتين، ومخافة أن يتوفى في نومته تلك فيكون آخر كلامه كما قال في الحديث الأخر: "واجعله من آخر ما تتكلم به ".
وقوله:" قل: اللهم ! إنى أسلمت نفسي إليك "، وفي الرواية الأخرى: " وجهي "، أي: استسلمت وصيرتها منقادة لك، طائعة لحكمك. والوجه والنفس هنا بمعنى الذاث، يقال: أسلم وسلم واستسلم سواء. " وألجات ظهرى إليك بمعنى: توكلت عليك واعتمدت في أمرى عليك، كما يعتمد الرجل بظهره لما يسنده إليه.
وقوله: " رغبة ورهبة "، أي طمعًا في ثوابك، وخوفًا من عقابك.
وقوله:" اللهم لك أسلمت نفسي "، فإنك إن مت من ليلتك مت وأنت على الفطرة "، الفطرة: اإسلام، والمراد هنا به وإن كان لم يزل مسلمًا فيما قيل، نحو ما روي عن ابن عباس: " لا تنامن إلا على وضوء، فان الأرواح تبعث على ما قبضت عليه "، ويكون معنى:" مت على الفطرة "، أي على الإسلام، نحو ما جاء في الحديث:" من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة "؛ بدليل قوله: في هذا الحديث:" واجعلهن من آخر كلامك".
وقوله:" وإن أصبحت أصبت خيرًا "، أي: أخذت من الأجر بنصيب وافر، وحصلت من العمل الصالح والخير ذخرًا غير ناقص.
وقوله: فرددتهن لأستذكرهن، فقلت: آمنت برسولك الذي أرسلت، فقال:" قل: آمنت بنبيك الذي أرسلت "؛ فيه العرض على العالم ما علمه ولقنه، واستذكار ما سمعه ورواه.(8/298)
قال الإمام: يحتمل أن يكون أراد - عليه السلام - أن يقول ما علمه من غير تغيير وإن كان المعنى لا يختلف في المقصود، ولعلهء أوحى إليه بهذا اللفظ فاتبع ما أوحى إليه به ؛ لأنه لا يغير ما أوحى إليه به، لاسيما والموعود به على هذه الدعوات أمر لا يوجبه العقل وإنما يعرف بالسمع، فينبغي أن يتبع السمع به على ما وقع. على أن قوله: "ورسولك الذي أرسلت، لا يفيد من جهة لفظه إلا معنى واحدًا وهو الرسالة، وقوله: "ونبيك الذي أرسلت " / يفيد من جهة نطقه النبوة والرسالة. وقد يكون نبى ليس برسول. واعتمد على ما قلناه من اتباع اللفظ المسموع من الشرع، وإنما ذكرنا هذا الفرق ليشير إلى معنى ما يفترق فيه اللفظان.
قال القاضي: وقيل: بل خص هذا اللفظ ليشعر أن المراد به محمد - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ قوله:" ورسولك الذي أرسلت " يعم جبريل وغيره ؛ إذ ليس بنبي، وليس ما قال بالبين. وفيه حجة لمن لا يجيز الحديث بالمعنى إلا بلفظه، وقد تقدم الكلام فيه.
وقوله: أسمعت هذا من عمر ؟ قال: سمعته من خير من عمر ؛ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هنا عند السمرتندى:" أسمعت هذا من ابن عمر ؟ "، وهو وهم، لأن قائل هذا الكلام بنفسه هو ابن عمر.
وقوله: " باسمك أحيا، وباسمك أموت ": ومعناه: يحتمل أنه يريد: بذكر اسمك أحيا ما حييت، وعليه أموت ويحتمل أن يريد: بك أحيا، أي أنت تحييني، وأنت تميتني. والاسم هنا هو المسمى،كما قال في الحديث الأخر.
وقوله:" أوى إلى فراشه "، أي انضم إليه، يقال بالمد والقصر.
وقوله:" آوانا "، ممدود، وقد ذكر فيه القصر أيضًا، وقد يكون معنى "وآوانا "، أي: رحمنا. وقال في الحديث الأخر:" حتى نأوى له "، أي نرحمه ونرق له.
وقوله:" فكم من لا مؤوي له "، أي لا راحم ولا عاطف عليه، أو يكون معناه على الوجه الأول: لا موطن له ولا مسكن يأوي إليه ويسكن إياه، وهو ضائع الأمر.(8/299)
وقوله:" اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها، لك مماتها ومحياها "، أي: إن الكل منك وبقدرتك.
وقوله:" الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور "، يريد بالموت هنا: النوم. وأصل الموت في كلام العرب: السكون، فنبه - عليه السلام - بإعادة اليقظة بعد النوم على إثبات البعث بعد الموت. والنشور مصدر، أنشر الله الميت: إذا أحياه. وحكمة الدعاء إذا أراد أن ينام - قدمناه - ليكون ذكر الله آخر كلامه، وفائدته إذا أصبح ليكون أول عمله تجديد الإيمان بالله وذكره، والاعتراف بأن الأمور كلها له وبيده، ربفتح يومه بالكلام الطيب.
وقوله:" فليأخذ داخلة إزاره فلينفض بها فراشه "، أي طرف إزاره.
وقوله:" فإنه لا يدري ما خلفه بعده على فراشه "، أي صار عليه بعد قيامه عنه من الهوام، وما لعله يؤذيه، وكل من صار في شيء بعد أمر فقد خلفه.
وقوله:" أعوذ بك من شر ما علمت وما لم أعمل "، أي من شر ما اكتسبته أو أتيته من عمل، وأعوذ من شر ما عملت وما لم أعمل يقتض شرًّا في الدنيا، أونسيته وإن لم أقصده أو في الآخرة، ويكون قصده بذلك تعليم أمته ما يدعون به، ويجوز لهم الدعاء به وقد جاء في بعض الروايات في الكتاب في حديث يحيى بن يحيى، وليست في روايتنا:" من شر ما علمت وشر ما لم أعلم "، وهذا أيضًا له وجه بين. استعاذ من كل شر انتهى إليه علمه واطلع عليه أو لم يعلمه، وهو أعم في الدعاء. وقد يكون قوله - صلى الله عليه وسلم - "من شر ما علمت "، أي: بما علمت فأتيت وذكرته الآن، كما قال في الحديث الآخر:" ما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني ".
وقوله:" كان إذا كان في سفر فأسحر "، أي: قام في السحر وركب في السحر، أو انتهى في سيره إلى السحر، وهو آخر الليل.(8/300)
وقوله:" يقول: سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا "، أي بلغ من سمع قولي وقال مثله، ودعا بمثل ما دعوت به، تنبيهًا لهم على الذكر والدعاء في ذلك الوقت. وضبطه الخطابي: " سمع سامع "، قال: ومعناه: شهد شاهد، أي استمع سامع وشهد شاهد بحمدنا ربنا على نعمه. وكذا ضبطه بعض رواة مسلم.
وقوله:" اغفر لي خطئي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم ! اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي "، الحديث: اعترافًا منه - عليه السلام - وتواضعًا لربه واستكانة وعبادة بالدعاء، وشكرًا لربه، وقد علم أنه مغفور له ما تقدم وما تأخر، ومثله قوله:" اغفر لي ما قدمت وما أخرت ". وقيل: يحتمل على ما كان منه على سهو وغفلة، وقد يحتمل: ما تقدم وأخر مما مضى، ويحتمل أن يريد بقوله: " خطئي وجهلي وإسرافي " ما كان قبل النبوة، وقد يحتمل أن يقال فيه ما قيل في قوله تعالى: { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر }؛ أن المتقدم ذنب أبيه آدم، والمتأخر ذنوب أمته.
وقوله:" أنت المقدم وأنت المؤخر ": قيل: معناه: المنزل للأشياء منازلها، يقدم منها ما شاء من مخلوقاته ويؤخر، وقدم من شاء من عباده بتوفيقه، وأخر من شاء بخذلانه.
وقوله: " لك أسلمت، وبك امنت "، أي: لك انقدت وأطعت، وبك صدقت. وظاهر هذا التفريق بين الاسلام والإيمان، وقد تقدم الكلام فيه في أول الكتاب.
وقوله:" وإليك أنبت "، أي: تبت ورجعت بهمتي وطاعتي، وانصرفت عن الالتفات إلى غيرك وعن مخالفتك. والإنابة: الرجوع.(8/301)
وقوله:" بك خاصمت "، قيل: يحتمل من خاصمه فيه وحاكمه بلسان أو لم سيف، قال الله تعالى:{ وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق }، وقال: { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن }، وما جاء في هذه الأدعية مما هو على سجع يحتج به في إجازة السجع في الدعاء والذكر وأن ما كره منه ما جاء بتكلف وشغل بين بطلبه ؛ لأن الشغل به يذهب الإخلاص والخشوع، ويلهي عن الضراعة وفراغ القلب، أو على ما يأتي من نوع سجع الكهان الذي ذمه - عليه السلام -. وأما ما جاء من نمط كلامه السهل البليغ المستعذب الذي يلقيه الطبع، فهو مستحسن غير مذموم، كقوله:" رب آت نفسي تقواها وزكها، وأنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها "، وقوله: " أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، وقوله:" لا إله إلا الله، أعز جنده،ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده ".
ومعنى قوله:" نفس لا تشبع "، استعاذة من الطمع والحرص على الدنيا، وتعليق النفس بالآمال منها.
وقوله:" أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الأخر فليس بعدك شيء"، هذا تفسير معنى قوله تعالى:" هو الأول والآخر "، وقوله:" وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، و أنت الباطن فليس دونك شيء "، هذا تفسير أن معنى قوله:" الظاهر " أنه من العلو أو الغلبة والقدرة، قال الله تعالى:{ ليظهره على الدين كله }، وقيل: معناه: الظاهر بالحجج والدلائل، والباطن المحتجب عن أبصار الخلق، وقيل: الظاهر والباطن: القاهر لما ظهر وبطن، قال الله تعالى:{ فأصبحوا ظاهرين }، أي: غالبين قاهرين، وقيل: الظاهر: إخبار عن قدرته، والباطن: إخبار عن علمه وحكمته. وقيل: الظاهر لقوم فوجدوه، والباطن عن آخرين فجحدوه.(8/302)
وقوله:" أعوذ بك من الكسل، وسوء الكبر "، رويناه بالوجهين، بسكون الباء بمعنى: التكبر والتعظيم عن الناس، وبفتحها بمعنى: الخرف والرد إلى أرذل العمر المذكور في الحديث الأخر، وهو أظهر وأشبه بما قاربه، وبفتح الباء ذكره الهروي، وبالوجهين ذكره الخطابي، وصوب الفتح، ويعضده رواية النسائي:" وسوء العمر ".
وقوله: " قل: اللهم ! اهدني وسددني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، والسداد سداد السهم "، وسداد السهم: بالفتح وهو تقويمه في الرمي للغرض. ومعنى "سددني"، أي: وفقني، والسداد: الرفق الذي لا يعاب، والقصد يقال فيه السداد أيضًا، وقوله:" اذكر بالهدى هدايتك الطريق "؛ ليتذكر بمعناه ما عرف استعماله من معانى هذه الألفاظ فيتمثلها في حاله، وأن السهم لا يستقيم الرمي به حتى يسدد ويستقيم. "وهادي الطريق" كذلك، / لا يزيغ يمينًا ولا شمالاً ؛ فلذلك يجب أن يكون عمله في الاستقامة والتحفظ عن ذلك الزيغ عن السنة، وليتذكر بتلك الألفاظ لئلا ينساها.
وقوله:" ربنا صاحبنا وأفضل علينا "، أي: احفظنا واكفنا ما يضرنا، وهو معنى حقيقة الصحبة، كما يقال: الله معك.
وقوله:" عائذًا بالله من النار "، انتصب على الحال.
وقوله:" سبحان الله وبحمده " إلى قوله:" ومداد كلماته "، بكسر الميم، قيل: مثلها ومقدارها وعددها. وقيل: معناه: مددها والمداد مصدر كالمدد، أي الطول والكثرة، وهو هنا مجاز ؛ إذ كلمات الله لا يأخذها قدر يقدر، ولا زمان، وإنما المقصود بهذا المبالغة في الكثرة لأنه ذكر أولاً ما يأخذه العدد الكثير من عدد الخلق وزنة العرش، ثم عدل إلى ما هو كثر من ذلك فعبر عنه بهذا، أي ما لا يحصيه عدد كما لا يحصى كلمات الله، وهذا مثل قوله: {قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولوجئنا بمثله مددا }، قيل: كلماته هنا: علمه، وقيل: كلامه.(8/303)
وقوله:" وزكها أنت خير من زكاها "، أي: طهرها. " وخير " هنا ليست للمفاضلة، لكن لا ثبات أنه لا مزكى لها سواه، كما قال بعد:" أنت وليها ومولاها "، وقوله لفاطمة حين أتته تسأله خادمًا، وتشتكي ما تلقى من الرحاء، وتشفعها بعائشة رضي الله عنها في ذلك، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" ألا أدلكما على ما هو لكما خير من ذلك، تسبحين ثلاثًا وثلاثين، وتحمدين ثلاث وثلاثين، وتكبرين أربعًا وثلاثين، إذا أخذت مضجعك "، ظاهره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمهم أن عمل الآخرة على كل حال أفضل من أمور الدنيا، وهذا ما لا شك فيه، وإنما قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا لما لم يمكنه الخادم التي سألت، كما قال في الحديث الآخر:" ما ألفيته عندنا "، ثم علمهما إذا فاتهما ما طلباه ذكرا يحصل لهما به أجر أفضل مما سألاه وهذا معنى الحديث. ولا وجه لمن استدل به على أن الفقر أفضل ؛ لأن النبي إنما عدل لهما عن الخادم إلى الذِّكر، ومنعهما الخادم، فاختار لهما ما هو أفضل، فقد قلنا: العلة لمنعهما أنه لم يجدها عنده. وفيه ما كانوا عليه أول الإسلام من شظف العيش، وقلة ذات اليد وفيه خدمة المرأة زوجها وأمر بيتها.
وقد اختلف أئمتنا فيما على الزوجة من ذلك، فقيل: لا يلزمها من ذلك شيء غير التمكين من نفسها، كانت غنية أو دنيئة حكاه ابن خويزمنداد من أصحابنا، وقيل: ليس ذلك على الغنية والشريفة، ويلزم الدنية أو زوجة المعسر من ذلك ما كان في البيت من كنس، أو فرش وطبخ قدر، وشبهه هو الذي في كتاب ابن حبيب وغيره.
وقيل: ذلك على جميعهم. فعلى الأدنياء ما تقدم، وعلى الأشراف من ذلك الأمر بمصلحة بيتها والنظر له برأيها.(8/304)
وقوله:" ما ألفيتيه عندنا "، أي: لم تجديه. وقول عليّ: ما تركتها ولا ليلة صفين: يعني لعظيم الشغل تلك الليلة بالحرب التي كانت بينه وبين أهل الشام في ذلك الموضع. وفيه أن الأذكار عند النوم قد جاءت عن النبي - عليه السلام - فيها أحاديث مختلفة، وذلك بحسب أحواله - عليه السلام - واختلاف الأوقات، فيخمر كل حالة ووقت بما يطابقه من الدعاء، وكذلك يختلف أحوال الداعين، وأنه ليس فيها شيء معين وفي كل فضل، وقد يدل اختلافها على الإشعار بأنها ندب غير واجبة، وأن العبد موسع في قول ما شاء من ذلك.
وقوله:" إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكًا"، وذلك - والله أعلم - لتأمين الملائكة على دعاء بني آدم، واستغفارهم له فرحًا ببركة ذلك، وحسن عون الملك به، إذا دعا بحضرته بالتأمين والاستغفار له، لاشهاده له بالتضرع إلى الله والإخلاص.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" أسالك الهدى والتقى والعفاف والغنى "، ويروى:" والعفة، والعفاف "، هو التنزه عما لا يباح والكف عنه، والغنى: هو غنى النفس والاستغناء عما في أيدى الناس.
وقوله: " كان يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا هو رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم "، قال الطبري: كان السلف يدعون بهذا الدعاء، ويسمونه دعاء الكرب. فإن قيل: فليس في هذا الدعاء إلا ذكر ؛ من تسبيح وتهليل. قيل: يحتمل تسميته دعاء المعنيين.
أحدهما: أن هذا الذكر به يستفتح الدعاء، ثم يدعو من بعده ما شاء، وقد جاء مثل هذا مفسرًا كذلك في بعض الطرق:" ثم يدعو ".
والمعنى الثاني: قول ابن عيينة، وقد سئل عن هذا، فقال: أما علمت أن الله يقول: " إذا شغل عبدي بثنائه علي عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين "، وقد قال أمية بن أبي الصلت:
إذا أثنى عليك المرء يومًا كفاه من تعرضه الثناء(8/305)
وقوله: " كان إذا حزبه أمر "، أي: غلبه وألم به وشغله. قال بعض المتكلمين على المعاني: هذه الفضائل التي جاءت في هذه الأذكار إنما هي لأهل الشرف في الدين والطهارة من الكبائر، دون المصرين وغيرهم. وفيما قاله نظر، والأحاديث عامة. ولو قال: لمن قالها معظما لربه مخلصًا من قلبه، نيته صادقة مطابقة لقوله، كان أولى.
وقوله في باب / من دعا للأخيه بظهر الغيب: حدثنا موسى بن سروان المعلم. كذا ضبطناه عن عامة شيوخنا بالسين المهملة، ومن طريق الهوزني عن ابن ماهان: ثروان بالثاء المثلثة. قال البخاري والحاكم أبو عبد الله وغيرهما: إنهما يقالان صحيحان. وقال بعضهم: يقال فيه: قروان أيضًا، ونسبه البخاري بأنه عجلى. وقال الحاكم: موسى بن ثروان الأنصاري، ويقال ابن سروان العجلي.
قوله:" لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن "، أي عدتهن.
وقوله:" من دعا لأخيه بظهر الغيب "، قال له الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل "، فيه أن الداعي لأخيه بظهر الغيب له من الأجر بمثل ما دعا به ؛ لأنه وإن دعا لغيره فقد عمل عملين صالحين: أحدهما: ذكر الله تعالى مخلصًا له، وفازعا إليه بلسانه وقلبه. والثانى: محبته الخير لأخيه المسلم ودعاؤه له، وهو عمل خير لمسلم يؤجر عليه، وقد نص فيه أنها مستجابة كما نص في الحديث.
وقوله:" ولك بمثل "، وقد رويناه: " بمثل " أيضًا بفتح الميم والثاء أيضًا، أي سواء، يقال: هو مثله ومثله بمعنى.
وقوله: " بظهر الغيب "، أي في سر وبغير حضرته،كأنه من وراء معرفته ومعرفة الناس ؛ لأنه دليل إخلاص الدعاء، كمثل ما يجعل الإنسان وراء ظهره ويستره عن أعين الناس.
وقول أم الدرداء:" حدثني سيدي ؛ أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، يعني أبا الدرداء. فيه جواز دعوى المرأة زوجها سيدي، وتعظيم المرأة زوجها وتوقيره.(8/306)
قوله:" يستجاب للعبد ما لم يعجل، فيقول: دعوت فلم يستجب لي " فسره قى الحديث الآخر: " يقول: قد دعوت ودعوت فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء "، قال الإمام: يقال: حسر واستحسر: إذا أعيا. قال الله تعالى:{ لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون }، أي لا ينقطعون عن العبادة.
قال القاضي: أولى التفسير لقوله: " فيحسر " هنا أي: يقطع الدعاء، لا بمعنى أنه عى عنه. وقال الباجي: يحتمل قوله: " يستجاب لما الإخبار عن وقوع الإجابة، والثانى: الإخبار عن جواز وقوعها. فإذا كان بمعنى الوجوب فالإجابة تكون بأخذ ثلاثة أشياء: إما تعجيل ما سأل فيه، وإما أن يكفر عنه به، وإما أن يدخر على ما جاء في الحديث، فإذا قال: قد دعوت فلم يستجب لي، بطل وجوب احد هذه الثلاثة، إذ عرى الدعاء من جميعها. وإذا كان بمعنى الجواز لوقوع الإجابة فيمنع ذلك / قول الداعى: قد دعوت فلم يستجب لي ؛ لأن ذلك من باب الفتور وضعف النفس والسخط.
قال القاضي: ما تقدم في الحديث من أن معنى ذلك ترك الدعاء، أبين وأحق بالتعويل. وقيل: معناه: أنه يسام الدعاء وتركه فيكون كالمانِّ بدعانه، والمبخل لربه الكريم. وقيل: إنما ذلك إذا كان غرضه من الدعاء ما يريد فقط، فإذا لم ينله ثقل عليه الدعاء، بل يجب أن يكون أبدًا في دعائه باسم إظهار الحاجة والطاعة له وسمة العبودية.
وقوله:" أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك"، الفجأة: ما لاجاك بغتة بغير مقدمة.(8/307)
وقوله:" وإذا أصحاب الجد محبوسون " بفتح الجيم، قال: أي أصحاب البخت والسعادة في الدنيا، ويحتمل أن المراد بذلك أصحاب الأمر والسلطنة من قوله:{ وأنه تعالى جد ربنا }، أي عظمته وسلطانه ومعنى:" محبوسون" للحساب، بدليل قوله: " إلا أصحاب النار فقد أمر بهم إلى النار "، يعني: من استحق النار منهم بكفره أو معاصيه وبقى الآخر للمحاسبة، أو حتى يسبقهم الفقراء ويدخلون الجنة قبلهم باربعين خريفًا، كما جاء في الحديث الآخر.
وقوله: " ورأيت أكثر أهل النار النساء " وفي الحديث الآخر:" أقل ساكني الجنة النساء "، قد بين العلة في حديث الكسوف وقد ذكرناه هناك.
وقوله في حديث الغار بعضهم لبعض:" انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله فادعوا الله بها "، فيه جواز القرب إلى الله تعالى بما علم العبد أنه أخلصه من عمل صالح ومناجاته تعالى بذلك. وفيه فضل بر الوالدين، والكف عن المعاصي، وترك الشهوات، ومعونة المسلم، والسعي له بالخير في ماله وجميع حاله. وفيه فضل الأمانة وأدائها.
وقوله:" فإذا أرحت عليهم حلبت "، أي إذا صرفت الماشية من مرعاها بالعشى أي: موضع مبيتها. والمراح: مكان مبيتها. وقيل: مسيرها إليه. يقال: أرحت الماشية ورحتها معًا.
وقوله: " فنأى بى ذات يوم الشجر "، أي بعد لي طلب المرعى. والناء أي البعد.
وقوله: " فجئت بالحلاب ": هو إناء ملؤه قدر حلبة ناقة. ويقال له: المحلب أيضًا. وقد يريد بالحلاب هنا: اللبن المحلوب كما قيل: الخراف، لما يخرف من النخل من ا لفا كهة.
وقوله:" والصبية يتضاغون عند قدمي "، يريد:. يصيحون ويستغيثون من الجوع، والضغاء مضموم ممدود /: صوت الزلة والاستخذال.
قوله:" فلم يزل ذلك دأبى في واديهم "، أي حالي اللازمة. والداب: الملازمة للشىء والعادة له.(8/308)
وقوله:" فبقيت حتى جمعت مائة دينار، فجئتها، فلما وقعت بين رجليها، أي جلست منها مجلس الرجل من المرأة، كما جاء في حديث آخر " قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه "، الحق هنا: الوجه الجائز من نكاح لا بالباطل من الفاحشة، والخاتم كناية عن عذرتها، أي لا يستبيح افتضاضها إلا بما يحل من النكاح.
وقوله: " فقمت عنها "، فيه أن من هتم بمعصية فتركها لله تعالى، وإن كان قد عزم عليها ووطن نفسه على فعلها، فإن ذلك يصير من تركه ونزوعه طاعة، وهي توبة حقيقة عنها، بدليل قوله في الحديث الآخر:" فاكتبوها حسنة، لأنه إنما تركها من أجلى "، وقد مض الكلام على هذا مفسرًا مستوعبًا أول الكتاب.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" استأجرت أجيرًا بفرق من أرز "، هو إناء قدر ثلاثة آصع. قال بعضهم: بسكون الراء وفتحها، وكذا قيدناه عن كثير من شيوخنا، والأكثر الفتح. قال الباجي: وهو الصواب. وكذا قيدناه عن أهل اللغة. قال: ولايقال بالإسكان.
قال القاضي: قد ذكر ابن دريد - من أئمة أهل اللغة - أنه يقال بهما معًا، وقد تقدم في الطهارة ذكره.
وقوله:" فرغب عنه "، أي كرهه، يقال: وفي فيه: إذا حرص عليه، ورغب عنه: إذا كرهه وتركه.
وقوله: " وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا ولدًا "، الغبق: شراب العشي، يقال غبقت الضيف أغبقه، بالفتح في الماضي، والضم في المستقبل: إذا أسقيته عشاء.
وقوله: " فثمرت أجره "، أي نميته.
وقوله: " حتى كثرت هذه الأموال فارتعجت " كذا لكافة الرواة، وهو الصواب. وعند الطبري: " فارتجعت،، والأول المعروف الصحيح، أي كثرت حتى ظهرت حركتها واضطرابها لكثرتها، والارتعاج: الاضطراب والحركة الكثيرة.
وقوله: " ففرجها "، "ولعل الله يفرجها "، كله من السعة ثلاثي، وفرج الله منها فرجة، بضم الفاء أيضًا: إذا كان من السعة، فأما من الراحة ففرجة بالفتح وفرجًا أيضًا.
كتاب التوبة(8/309)
قوله:" والله، لله أشد فرحًا بتوبة عبده"، الحديث، قال الإمام: الفرح يتصرف على هان، منه أنه يراد به السرور، ولكن السرور يقارنه الرضى بالمسرور به، فالمراد هنا: الله سبحانه يرضي بتوبة العبد أشد مما يرضي الواجد لناقته بالفلاة. فعبر بالرضا الفرح / تكيدًا لمعنى الرضا في نفس السامع، ومبالغة في معناه.
قال القاضي: قال بعضهم: الفرح معظم السرور وغايته، والسرور عبارة عن بسط وجه، وسعة الصدر، واستناره الوجه. قيل: وإنما سمي سرورًا لاستنارة وجهه، وبريق صارير جبينه. والتوبة من الذنب هو الندم عليه. وأصله: الرجوع، يقال: تاب وثاب آب وأناب بمعنى رجع. استعمل منه في الرجوع عن الذنب: تاب وأناب وأتاب. وفرق حضهم بين هذه الألفاظ وقال: التوبة أولاً وكأنها الإقلاع، والإنابة بعدها، والأوبة أخرها، هي درجة الأنبياء، قال تعالى:{ إنه أوّاب }.
قال الإمام: التوبة من الذنب هي الندم عليه، رعاية لحق اللة تعالى، ويجب على التائب أن يضيف إلى الندم على الذنب العزم على ألا يعود إليه إذا كان متأتيًا منه العودة إليه. وتعجيل التوبة عند الذنب هو المأمور به، وتأخيرها عنه منهى عنه. وربما غلط بعض المذنبين ودام على الإصرار خوفًا من أن يتوب ينقض، وهذا اغترار وجهالة، ولا يحسن أن يترك واجبًا عليه على الفور، خوفا أن يقع نه بعده ما ينقضه. وتصح التوبة عندنا عن الذنب مع البقاء على ذنب آخر خلافه، خلافًا ن منعه من المعتزلة لأن بواعث النفس إلى المعاصى تختلف، والشهوات في الفسوق تختلف باختلاف أنواعه، وطباع العصاة وحضور الأسباب المعينة على الشر والصادرة عنه، فتصح لذلك التوبة عن الذنب مع البقاء على خلافه. ونحن نرى عيانا العصاة يكفون عن شرب الخمر ليالي رمضان إحترامًا له، ويشربون في ليالي شوال لاعتقادهم أن الذنب في رمضان أعظم، فإذا صح اختلاف الأغراض والأسباب لم يبعد النزوع عن ذنب مع البقاء على غيره على ما قلناه.(8/310)
وإذا وقعت التوبة عن الذنب على شرطها، فإن كانت عن الكفر قطع بقبولها، وإن كانت عما سواه من المعاصي فمن العلماء من يقطع على قبولها، ومنهم من يظن ذلك ظنا ولا ينتهى إلى القطع ؛ لأن الظواهر التي جاءت لقبولها ليست بنصوص عنده، وإنما هي عمومات معرفته بالتأويل والتوبة يقارنها الحزن والغم علي ما تقدم من الإخلال بحق الله تعالى ؛ لأن الفرح المسرور بما فرط من ذلاته لا يندم عليها.
قال القاضي: ذهب بعض مشايخنا إلي أن التوبة: الإقلاع عن الذنب، والندم علي ما سلف،والعزم على ألا يعاوده. وقال آخرون: إن التوبة: الندم، قال: وفي ضمن ذلك ترك فعله في الحال والمستأنف لأنه إذا ندم على/ ذنبه لم يفعله الآن وتركه، وعزم على ألا يفعله، واحتج بقوله - عليه السلام - "الندم توبة ". وقال آخرون: معناه: معظم شروط التوبة وخصالها، كما قيل: "الحج عرفة ".
وهذه الشروط في صحة التوبة ؛ من الندم على الذنب السالف، والإقلاع عنه في الحال والمستقبل، وهذا إذا لم يتعلق بالذنب تباعة، فأما إن تعلق به مع ارتكابه حق لله أو لأدمي، فلابد من شرطين: أحدهما متفق عليه، والآخر مختلف فيه. فالمتفق عليه:
أحدهما: في حق الأدمى وهو رد مظلمته إليه والخروج له عنها، أو يحلله منها بطيب نفسه ؛ إذا كان لا يصح الإقلاع عنها إلا بذلك، كالغصب واسترقاق الحر، فان الإقلاع لا يصح مع بقاء اليد على ذلك جملة.(8/311)
والثاني: المختلف فيه، وهو ما كان من حق الآدمي فيما لا يصح الإقلاع دونه، كضربه أو قتله أو إفساد ما يلزمه غرمه. وكذلك في حق الله فيما ضيعه من فرائضه، فإن الإقلاع عن ذلك توبة صحيحة مستقلة بنفسها، وقضاء ما فرط فيه من ذلك فرض آخر، وكذلك تمكينه مظلومه أمن القصاص من نفسه، أو غرمه له، فرض آخر يصح التوبة دونه عندنا، على ما تقدم. وروى عن ابن المبارك: أن من شرط التوبة: قضاء ما فرط فيه من حقوق الله، والخروج عن مظالم العباد. ولعله يشير إلى كمالها وتمامها ؛ لأنها لا تصح في ذلك الذنب.
والتوبة فرض لازم على كل من علم من نفسه مخالفة الله تعالى صغرت أو كبرت، وهي من جملة أمهات الفرائض اللازمة. ووجوبها عند أهل السنة شرعًا لا عقلاً، خلافًا للمعتزلة، وليس بواجمب قبولها على الله عقلاً، وإنما علمنا ذلك بالشرع والإجماع، خلافًا للمعتزلة في حتمهم ذلك على الله عقلاً، على أصلهم الفاسد في التحسين والتقبيح، وإيجاب العقل مايوجب من ذلك.
والتوبة نعمة أنعم الله بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم، قاله سفيان بن عيينة. وكانت توبة بنى إسرائيل قتل أنفسهم، كما نص الله عليه. وقد اختلف أئمتنا هل من شرطه متى ذكر الذنب تجديد الندم ؛ أولاً يلزمه تكرار ذلك.
وقوله " دويّة ": كذا مشددة الواو والياء، حديث عثمان بن أبي شيبة، وإسحاق، وجاء في حديث أبي بكر بن أبي شيبة:" داوية، بالف وياء أيضًا مشددة، وكلاهما صحيح بمعنى واحد، وهي القفر، والفلاة اسم لا جمع. قال الخليل: الداوية: المغارة.
قال الإمام: وأما قوله:" في أرض دوية "، فهي الفلاة، وجمعها داوي. قال الشاعر:
قد لفها الليل بعصلبى أروع خراج من الداوي
قال القاضي: كذا وقع، وإنما الداوي جمع داوده لا جمع دوية، وكما ذكرناه على الصواب ذكره الهروي الذي نقل عنه، ولعله تغيير ممن نقله، والله أعلم.(8/312)
وقوله:" دوية مهلكه ": بفتح الميم واللام، أي أنها تهلك سالكها بغير زاد ولاماء ولا راحلة ؛ ولهذا سميت مفازة، من قولهم: فوز الرجل: إذ هلك، وقيل: بل على طريق التفاؤل، كما قيل للديغ: سليم. وقيل: لأن من قطعها فاز، أي نجا.
وقوله: عن عبد الله، حدثنا بحديثين، حدثنا عن نفسه، وحدثنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث في التوبة ولم يذكر في كتاب مسلم حديثه عن نفسه، وقد ذكره البخاري والترمذي وغيرهما، وهو قوله: " إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل، يخاف أن يقع عليه، وأن الفاجر يرى ذنوبه كذباب على أنفه، قال به هكذا "، في الحديث نفسه بسنده ومعناه: أن ابن مسعود قال هذا الكلام، ومثل هذا التمثيل من قبله، لا أنه رواه عن النبي - عليه السلام - أو غيره.
وقوله فيه في رواية أبي بكر بن أبي شيبة بهذا الإسناد قال:" من رجل بداوية من الأرض "، كذا الصواب، وفي بعض النسخ قال:" مر رجل بداوية"، وليس بشيء ؛ لأن ابتداء الكلام لا يدل عليه، وإنما كرر هذا ليرى اختلاف الروايتين في هذا الحرف، فقال في سند عثمان فيه:" لله أفرح بتوبة عبده من رجل في أرض دوية "، وقال في رواية أخيه:" من رجل بداوية من الأرض "، ومعنى الروايتين واحد، والله أعلم.
وقوله:" من رجل حمل زاده ومزاده " بفتح الميم، كأنه اسم لجنس، والمزادة: هي القربة الكبيرة، سميت بذلك لأنه يزاد فيها من جلد آخر لكبرها.
وقوله:" قد أضله بأرض فلاة "، أضل الرجل دابته: إذا لم يجدها بموضعه، وضللت كذا وضللت بالفتح والكسر: نسيته، والفتح أشهر، قال الله تعالى: { أن تضل إحداهما }.
وقوله:" فانسل بعيره "، أي: سار من غير علمه كأنه في ستر. والسلة: السرقة الخفية، وقد يكون من السير اللين بحيث لم يشعر به، ومنه: سللت الشعرة من العجين.(8/313)
وقوله: " فقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدى وأنا ربك "، فيه أن ما قاله الإنسان من مثل هذا من دهش، وذهول غير مؤاخذ به إن شاء الله، وكذلك حكايته عنه على طريق علمي وفائدة شرعية، لا على الهز والمحاكاة والعبث لحكاية النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه، ولو كان منكرًا لما حكاه.
وقوله: " فسعى شرفًا فلم ير شيئًا، ثم سعى شرفا فلم ير شيئًا "، يحتمل أن يكون الشرف هنا كالطلق والعلوة،كما قالوا في قوله:" فاستنت شرفًا "، ويحتمل أن يريد به الشرف من الأرض ليتطلع منه هل يراها، وهو أظهر.
وقوله في حديث أنس من رواية هداب بن خالد:" لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا استيقظ على بعيره، قد أضله بأرض فلاة "، كذا الرواية في جميع نسخ مسلم. قال بعضهم: هو وهم، وصوابه:" إذا سقط على بعيره " وكذا رواه البخاري: "سقط "، أي: لقاه وصادفه من غير قصد، ومن أمثالهم: سقط العشاء على سرحان.
قال القاضي: وقد جاء في الحديث الآخر عن ابن مسعود قال:" فأرجع إلى المكان الذي كنت فيه فانام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته ". وفي كتاب البخاري:" فنام نومة فرفع رأسه فإذا راحلته عنده "، وهذا يصحح رواية:" استيقظ "، لكن وجه الكلام وحديث أنس وسياقه يدل على " سقط " كما قاله البخاري.
وقوله:" قلنا: شديدًا يارسول الله " راجع على قوله:" كيف ترون بفرح رجل - أي سراة - فرحًا شديدًا، أو يفرح فرحًا شديدًا ".
وقوله:" بجذل شجرة " أي: أصلها القائم، وبالذال المعجمة، يقال بفتح الجيم وكسرها، ومن رواه بالراء فقد أخطأ.(8/314)
قال الإمام: خرّج مسلم في التوبة: حدثنا يحى بن يحيى وجعفر بن حميد، كلاهما عن عبيد الله بن إياد، عن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" كيف يقولون برجل انفلتت منه راحلته، يجر زمامها، هكذا خرّج مسلم هذا الحديث عن يحيى بن يحيى وجعفر بن حميد في رواية ابن ماهان والكسائي، وجعفر هذا شيخ لمسلم لم يرو عنه إلا هذا الحديث، وهو كوفي، يعرف بربيعة، حدث عنه بقي بن مخلد الأندلسي. وخرّجه أبو مسعود عن جعفر بن حميد، وهو الصواب. وروي عن أبي احمد الجلودي:حدثنا يحيى بن يحيى وعبد بن حميد مكان:" جعفر بن حميد "، وهو وهم.(8/315)
قال القاضي: وقوله: عن محمد بن قيس قاضي عمر بن عبد العزيز، كذا للعذري، ولغيره:" قاص " بالصاد المهملة من القصص، وكلاهما مذكوران. وقد ذكر البخاري في التاريخ الروايتين، وحكى عن حماد: "قاص، أو قاضي عمر " بالشك. وذكر عن ابن إسحاق قال: وكان قاصًّا، قال: قصصت على عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة، وهذا يصحح رواية من قال: إنه من القص، وهو أبو عثمان محمد بن قيس الزيات، مولى يعقوب القبطي، مدني. وقول أبي أيوب في هذا الحديث حين حضرته الوفاة: كتمت عنكم علمًا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقًا يذنبون، يغفر لهم "؛ هذا من فضل الله العظيم وكرمه الجسيم. وكتمه مخافة الاتكال، وغلبة الرجاء، والأماني، وتعطيل العمل. ثم خاف الحرج بكتمانه جملة قبل موته، فأنبأ به ليزول عنه الحرج، مع ما فيه لنفسه من الرجاء عند حضور موته. وهكذا يجب لمذكر الناس وواعظهم ألا يكثر عليهم من أحاديث الرجاء لئلا ينهمكوا في المعاصي والتعطيل للأعمال والاتكال، ويكون وعظه أغلب عليه التخويف والتحذير، ولكن على حد لا يؤيس ولا يقنط، والإمام في ذلك كتاب الله تعالى ووعظه. واستحبوا لمن حضر حضور ميت وتلقينه او من اشتد عليه المرض أن يكون الغالب على ذكر من يكون حينئذ عنده آيات الوعد والغفران وأحاديث الرجاء ؛ لتطيب نفس الميت بلقاء ربه وبلقائه على ما مات عليه من حسن ظنه برحمته. وذكر حديث قطن بن نسير، بضم النون وفتح السين مصغرًا، ولم يختلف فيه.
وقوله في حديثه: عن حنظلة الأسيدي، بسكون الياء، فقيل: من بني تميم. ومن رواه:"الأسدي " فقد أخطأ. قال: وكان من أصحاب النبي - عليه السلام - كذا لأكثر شيوخنا. وفي كتاب ابن عيسى أيضًا من كتاب النبي معًا، وكلاهما صحيح، وقد جاء كل هذا بعد في الحديث الآخر مبينًا عن حنظلة التميمي الأسيدي.(8/316)
قوله: " يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي العين "، كذا ضبطناه بالضم، أي كائنا بحال من بعينه، ويصح النصب على المصدر، أي يراها رأى عين.
وقوله:" عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات "، كذا رواينا فيه عن جميعهم بالفاء والسين المهملة، قال الإمام: قيل: معناه: لاعبته.
قال القاضي: أما " عافسنا، كذا، فقال الهروي وغيره: معناه: حاولنا ومارسنا.
والمعافسة: المصارعة ونحوها، أي حاولنا ما نحتاج من أمور الأزواج والأولاد والمعاش واشتغلنا به، وأى ملاعبة للضيعات. والضيعات جمع ضيعة، وهو ما يكون منه معاش الرجل ؛ من مال أو حرفة أو صناعة. وروى الخطابي هذا الحرف: " عانسنا " بالنون، وفسره: لاعبنا. ورواه القتبي: "عانشنا " بالعين والشين المعجمة، وفسره: عانقنا. والتفسير الذي ذكرناه أولاً ؛ لأنه يجمع الملاعبة وغيره. وقد فسره في الرواية الأخرى فقال: "ضاحكت الصبيان، ولاعبت المرأة "، ولم يذكر هناك: " الضيعة ".
وقوله:" نافق حنظلة "، أي بما ظهر منه بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخوف، خلاف ما كان منه في منزله وانفراده، خشي النفاق، إذ أصله إظهار شيء وكتم غيره وستره، وقد تقدم تفسيره، فاعلمه النبي - عليه السلام - أن الحال منهم لا تقتضي بقاءهم على وتيرة واحدة، وأن مثل هذا ليس بنفاق، فاعلمهم أن هذه الحال التي وجدوها من أنفسهم عنده لو كانوا ملازمين لها لصافحتهم الملائكة في الطريق.
احتج بهذا أصحاب الكلام في المقامات والأحوال من متكلمي الصوفية، واختلفوا في ذلك بحسب اختلافهم في أصولهم، فقال بعضهم: هذا يدل أنها لم تكن لهم حالاً ؛ إذ الحال ما لازم العبد ولم ينتقل عنه، وأما ما يذهب ويجيء فإنما هو مواجيد ولوائح وعوارض ولوامع بحكم مشاهدة سلطان النبوة. وقال آخرون منهم: بل هي أحوال لهم، والحال لا يلزم دوامها ؛ ولذا سميت حالاً، وإنما اللازم المقام وكذا اختلافهم في مراتب المقامات والأحوال الجارية في الفاظهم واصطلاحات كلامهم.(8/317)
وقوله: فقال:" مه "، أي ما يقول ؟ على الاستفهام، والهاء هاء السكت والوقف. وقد يحتمل هنا الزجر والتعظيم للأمر، مثل: بخ بخ. ويقال بالسكون وبالكسر والتنوين.
وقوله:" إن رحمتي تغلب غضبي "، وفي الرواية الأخرى:" سبقت رحمتي غضبي "، قال الإمام: غضب الله عزوجل ورضاه يرجعان إلى إرادته لإثابة المطيع ومنفعة العبد وعقاب العاصي وضرر العبد، فالأول منهما يسمى رحمته، والثاني يسمى غضبه وإرادة الله سبحانه قديمة أزلية، بها يريد سائر المرادات، فيستحيل فيها الغلبة والسبق، وإنما المراد هاهنا متعلق الإرادة من النفع والضر، فكان رفقه بالخلق ونعمه عليهم أغلب من نقمه وسابقة لها، فإلى هذا يرجع معنى الحديث.
وقد اختلف شيوخنا في معنى الرحمة، هل ذلك راجع إلى نفس الإرادة للتنعيم أو إلى التنعيم بنفسه، وإنما يحتاج إلى هذا الاعتبار على القول بأن ذلك راجع إلى نفس الإرادة.
قال القاضي: الغلبة هنا والسبق بمعنى، والمراد بهما الكثرة والشمول، كما يقال: غلب على فلان حب المال أو الكرم أو الشجاعة: إذا كان أكثر خصاله.
وقوله:" جعل الله الرحمة مائة جزء " الحديث،كذا رويناه بضم الراء ويقال بفتحها، ومعناه: العطاف والرحمة. وفي الحديث الآخر: " خلق الله مائة رحمة، فوضع أواحدة م بين خلقه، وخبأ عنده مائة إلا واحدة "، وفي الرواية الأخرى: " يرحم الله بها عباده يوم القيامة "، عبارة عن كثرة رحمة الله في الدنيا والآخرة، وانها في التمثيل على ما عهد من تراحم الناس كالعدة التي ذكر، وقد يحتمل أنها تجزنة صحيحة في أنواع الرحمة، والله يختص بقية أنواعها على هذه التجزئة.
وقوله: فإذا امرأة من السبي تبتني، إذا وجدت صبيًّا أخذته "، كذا في جميع نسخ مسلم ولرواته، وفيه وهم. وفي كتاب البخاري:" تسقي " مكان " تبتغي "، وهو وجه الكلام وصوابه.(8/318)
وقوله:" أسرف رجل على نفسه "، أي أخطأ وزاد على خطأ غيره، وغلا في المعاصي، وجاوزا قصد الأمر والسرف: الخطأ، وهو أيضًا: مجاوزة القصد في الأمور.
وقوله:" لما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا مت فأحرقوني " إلى قوله: " فوالله، لئن قدر الله على ليعذبني عذابًا ما عذب به أحد "، ثم قال آخره:" فقال: لم فعلت هذا ؟ فقال: من خشيتك يارب، وأنت أعلم، فغفر له "، قال الإمام: لا يصح حمل هذا الحديث على أنه أراد بقوله:" قدر عليَّ " من القدرة، فإنه من شك في كون الباري سبحانه عارف به، وقد ذكر في آخر الحديث أن الله تعالى قال له:" ما حملك على ما صنعت ؟ قال: من خشيتك يارب - أو مخافتك - فغفر له بذلك "، والكافر لا يخشى الله ولا يغفر الله له. فإذا ثبت ألاّ يصح حمل الحديث على هذا المعنى فيحمل على أحد وجهين: إما أن يكون المراد به: لئن قدر علي، بمعنى: قدَّر علي العذاب. ويقال: قدر وقدّر بمعنى واحد، أو يكون أراد: قدر علي، بمعنى: ضيق علي، قال الله تعالى:{ فقدر عليه رزقه }، وهكذا القول في قوله تعالى:{ فظن أن لن نقدر عليه }.
قال القاضي: قد اختلف في تأويل قوله هذا، فقيل ماتقدم، وقيل: بل فال ما قاله وهو غير ضابط لكلامه ولا معتقد لظاهره، بل لما اعتراه من الخوف أو من الجزع الذي استولى عليه، فلذلك لم يؤاخذه به ولم يضبط قوله، كما لم يضبط الأخر في الحديث المتقدم من شدة الفرح ودهش بغته السرور، وقوله:" أنت عبدى وأنا ربك "، وقد قال في غير مسلم:" فلعلى أضل الله "، أي: أغيب عنه. وهذا يشعر أن قوله: " لئن قدر الله علي "، هناك على ظاهره المنكر، لاعلى ماتاول قبل، لكن العذر عنه ما ذكرناه. وقيل: بل هذا نوع من مجاز كلام العرب وبديع بلاغتها، سمى عند أهل النقد بتجاهل العارف، وسماه ابن المعتز في " كتاب البديع ": مزج الشك باليقين، كقوله تعالى:{ لعله يتذكر أو يخشى }، وقوله:{ وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين }، وقول الشا عر:(8/319)
أأنت أم أمّ سالم
فصورله صورة الشك، والمراد التحقيق، وقيل: بل هذا رجل جهل صفة من الصفات. وقد اختلف في جاهل الصفة، هل هو كافر أم لا ؟ فمن كفره بذلك الطبري، وقاله الأشعرى أولاً. وذهبت طائفة أخرى إلى أن الجهل بالصفة لا يخرجه عن اسم الإيمان بخلاف جحدها، وإليه رجع الأشعري قال: لأنه لم يعتقد اعتقادًا، فقطع بصوابه، ورآه دينًا وشرعًا، وإنما يكفر من اعتقد أن مقاله حق. قالوا ولو بوحث أكثر الناس عن الصفات وبوحث عنها من يدعي العلم لما وجد العالم بها إلا قليلاً.
وقيل: كان هذا في زمن الفترة وحيث ينفع مجرد التوحيد. وقيل: قد يحتمل أن زمنهم كان حيننذ وشرعهم فيه جواز عفو الله عن الكافر، بخلاف شرعنا ؛ إذ ذلك من مجوزات العقول عند أهل الحق، لم انما منعنا ذلك بالشرع، وقوله:{ إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية، وفعله ما فعله من الخوف بنفسه عند الآخرين، ليس لأنه اعتقد أنه يخفى بذلك عن الله ويعجزه، بل إزراء على نفسه ومعاقبته لها بما قدر عليه بعصيانها وإسرافها، ورجاء أن ذلك ينفعه عند الله إن ضيق عليه وعاقبه على أحد التأويلين الأولين، أو قدر عليه بعثه وحشره، أو لعله لم يكن يرد حينئذ بالحشر شرع يقطع به. فيكون بالشك فيه أو التكذيب كافرًا ؛ إذ هو من مجوزات العقول، وإنما يعلم وجوبه ووجوده بالشرع. وفيه فضيلة الخوف والخشية، وأنها من مقامات الإيمان وأركان الإسلام، وهي التي نفعت آخرا هذا السرف وغفر له بسببها.
وأما قوله في الرواية الأخرى:" راشه الله مالاً " بألف ساكنة وشين معجمة، كذا للرواة، وهو الصواب. وعند الفارسي: " رأسه "، بهمزة وسين مهملة، ولا وجه لها هنا.(8/320)
قال الإمام: قال ابن الأعرابى: الرياش: المال المستعار، والريائش أيضًا: الأكل والشرب، وفي حديث عائشة رضى الله عنها:" كان يريش مملكها "، أي كان يفضل على المحتاج فيتحسس حالته. قال القتبي: أصله: الريش، كأن المقدم لا نهوض به مثل المقصوص من الطير، وجعل الريش مثلاً للباس.
قوله في بعض طرقه: " رغسه الله مالاً وولدًا ". قال أبو عبيد: قال الأموي: معناه أكثر له منه وبارك له فيه. قال أبو عبيد: يقال منه: رغسه الله يرغسه رغسًا، إذا كان ماله ناميًا كثيرًا، ولذلك هو في الحسب وغيره.
وأما قوله في بعض طرقه: " فلم يبتئر، عند الله خيرًا " قال مسلم: فسرها قتادة: لم يدخر عند الله خيرًا. وفي بعض طرقه:" ما ابتأر عند الله خيرًا "، وفي بعض طرقه: "ما امتار " بالميم، قال الهروي:"لم يبتهر خيرًا، أي: لم يقدم حسنة خيرًا لنفسه ولم يدخرها، يقال: بأرت الشيء وابتأرته، إذا ادخرته وخبأته، ومنه قيل للحفرة: البؤرة، ويقال أيضًا: اشبرت بمعنى.
قال القاضي: أكثر روايات شيوخنا فيه في حديث عبيد الله بن معاذ: "لم أبتهر " بالهاء، وعند ابن ماهان:" ابتأر " بالهمزة كما تقدم، وهو المعروف، لكن قد تبدل الهمز من الهاء والهاء منها، فإن صحت الرواية فتخرج على هذا، كما تأولوا رواية: " امتأر " بالميم أنها مبدلة من الباء.
وقوله في حديث معاذ هذا:" وإن الله يقدر على أن يعذبني " كذا الرواية عند جميعهم، وفي الكلام تلفيف، فإن أخذ على ظاهره ونصب الاسم العزيز وكان يقدر موضع خبر إن، استقام اللفط وصح المعنى، لكنه مخالف لما تقدم من قوله قبل في صورة شك في ذلك وتردده. قال بعض المشايخ: صواب الكلام بإسقاط " إن " الآخرة وتخفيف " إن " الأولى ورفع الاسم، وكذلك قيدناه عن بعضهم، فيكون: وإن الله يقدر علي تعذيبي، وتوافق قوله في سائر الروايات: " فإن قدر الله علي عذبني ".(8/321)
وقوله بعده:" فأخذ منهم ميثاقًا، ففعلوا ذلك به وربي "، كذا في كتاب مسلم على القسم من المخبر بذلك عنهم على صحة ماذكر، وفي البخاري: " فأخذ منهم ميثاقًا وربي، ففعلوا ذلك به ". قال بعضهم: وهو الصواب.
قال القاضي: وكلاهما عندي متقارب في المعنى والقسم، ووجدته في بعض نسخ مسلم، ولم يكن عند أحد من شيوخنا إلا في أصل القاضي التميمي من طريق ابن الحذاء:" وفعلوا ذلك وذرى "، فإذا صحت هذه الرواية فهو وجه الكلام ؛ لأنه قد أمرهم في الحديث أن يذروه في الريح، وتكون الذال قد سقطت على أ الكاتب أ للحديث فتغير اللفظ، ويكون "وربي"، قد غير من لفظ اشتق من الرباب بالكسر وهو العهد، أي: أخذ منهم ميثاقًا وعهدًا. والإربة، بكسر الراء وتشديد الباء: المعاهدون. وقد رأيت بعض الشارحين مال إلى تفسير الحرف بهذا، لكنه لم يقدم الحرف على هذا، والله أعلم. وذكر ابن شهاب بإثر حديثه بغير هذا الحديث:"دخلت امرأة النار في هرة " الحديث، قد فسرناه قبل.
وقوله:" آخره لئلا يتكل رجل ولا ييأس "، لما ذكر الحديث الأول وفيه من رحمة الله لهذا الذي أسرف وجهل صفة ربه، خشى على سامعيه الاتكال والاعتماد على الرجاء، وتعطيل الأعمال، فجاء في الحديث الآخر المخوف بعذاب الهرة لأجل هذه ربطتها، فظاهر الأمر انه من صغائر الذنوب ليمزج الرجاء بالخوف ليعتدل حال المطيع. فعبادة الخلق لله بين الرجاء والخوف، وهكذا يجب للواعظ والمذكر مزج أمره ومعاناة ذكره، ويكون الغالب التخويف ؛ لأن النفوس إلى الرجاء والدعة أميل، ومن العمل والتكاليف أثقل.(8/322)
وقوله:" إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها "، قال الإمام: المراد بهذا القبول على التائب ؛ لأنه قد جرت العادة أن الإنسان إذا نول ما يقبله بسط يده إليه، وإذا راى من يحبه بسط يده إليه، لم اذا نول مايكره قبض يده عنه. فخاطب العرب من حيث تفهم، وذكر أمثالاً محسوسة ليؤكد معنى ما يريده في النفس وأما يد الجارجة فمستحيلة على الله سبحانه. والبسط والقبض من صفات الأجسام، واليد قد تطلق في اللغة على النعمة، وهذا المعنى المشهور في اللسان يقارب ما قلناه ؛ لأن ما يقبله سبحانه من قبول توبة عباده من إحدى نعمه عليهم، وكذلك مايفعله من النعم بالتائبين.
وأما إثبات اليدين لله سبحانه من غير أن تكون يدى جارجة، بل صفتين من الصفات قديمة أزلية فاثبتهما القاضي أبو بكر بن الطيب وغيره من أئمتنا ؛ لقوله تعالى:{ لما خلقت بيدي }، فأثبت اليدين هنا صفتين قديمتين ؛ لأن صرف اليد هاهنا عنده إلى النعمة لايليق بهذا الموضع ؛ لأن النعمة مخلوقة ولا يخلق مخلوق بمخلوق، وصرفها إلى القدرة يمنع منه التثنية، والقدرة واحدة بلا خلاف.
وأبو المعالى مال إلى نفي ذلك، وحمل القرآن على التجوز، وأن المراد أن الله سبحانه خلق آدم بغير واسطة، بخلاف غيره من بنيه، فكنى عن ذلك بأنه خلقه بيديه ؛ لأنا إذا لم يكن بيننا وبين ما يكون من الأفعال وسائط عبر عن ذلك بأن يخقال: فعلته بنفسي، وتوليته بيده. والقصد تميز آدم بالاختصاص. وقد يجمع الشيء تفخيما وإن كان واحدًا، والعرب تفعل ذلك وهذا المعنى سلك الأئمة في هذه الآية. وإن قلنا بإثبات اليد على طريقة القاضي، فلابد من تأويل الحديث على نحو ما قلناه لذكر البسط فيه، وإنما يبقى النظر في معنى اليد وإضافة هذا الأمر إليها.(8/323)
قال القاضي: وقيل يحتمل أن اختصاصه النهار هنا والليل ؛ وإن كانت التوبة مقبولة أي وقت كانت، فالمراد بذلك أوقات مخصوصة كثلث الليل، وبعد الزوال، والوقتين المشهودين وحضرة النداء ؛ لما جاء من أن أبواب السماء تفتح فيها.
وتقدم الكلام على قوله ليس أحد أغير من الله، وقد جاء في نفس الحديث تفسير غيرة الله بما رفع الإشكال في رواية عمرو الناقد قال:" وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه "، أي: منعه ذلك وتحريمه له.
وقوله:" والله أشد غيرة "، الغير والغار والغيرة بمعنى واحد، كله بفتح الغين، وقيل: معنى:" لا شيء أغير من الله "، يحتمل ألا ينبغى لشىء ألا يكون أغير منه فيتعدى باخذه، في ذلك، ويبطش من يجده فيما يكره لحينه بما لا يجب، دون المجىء بما حده الله من البينة، ويعجل بالعقوبة، والله تعالى يعذر ويمهل، ولذلك ذكر بعده:" ولا أحد أحب إليه العذر من الله "، والله أعلم. وقد كان منه - عليه السلام - هذا الكلام بإثر قول سعد ما قال: لأضربنه بالسيف غير مصفح.
وفي قوله:" ليس أحد أحب إليه المدح من الله "، فيه تنبيه على عظم الثواب وكثرة الرغبة في تسبيح الله وتقديسه، والثناء عليه واجب هنا على ما تقدم من إرادة الثواب للحامد له، والمثني عليه والمحمد، وإنما يجب ذلك منه ويأمرهم به ويريهم أجرهم عليه.
وقوله:" لا أحد أحب إليه العذر من الله "، يحتمل أن يريد للإعذار والحجة، قال الله تعالى:{ عذرًا أو نذرًا }، وكذلك قال بعده: " من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل "، ويحتمل أن يريد به الاعتذاز من خلقه إليهم ؛ لعجزهم وتقصيرهم فيغفر لهم، كما قال:{ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده }.(8/324)
وقوله: في الذي أصاب من امرأة قبلة، فذكر ذلك للنبى - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت: { أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل } الآية، وفي الحديث الآخر: "أصاب من امرأة دون الفاحشة "، وفي الحديث الأخر:" عالجت امراة في اقصى المدينة، وأني أصبت منها ما دون أن أمسها "، يريد بالمعالجة التناول منها، ولكن بمدافعة ومشقة والمعالجة: المصارعة.
وقوله:" ما دون أن أمسها "، يريد به: الجماع، بدليل الحلإيث الذي قبله. والمس والمساس: الجماع، قال الله تعالى:{ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن }.
واختلف الناس في معنى قوله:{ إن الحسنات يذهبن السيئات}، فعن جماعة من الصحابة والتابعين: أن المراد بالحسنات: الصلوات، بدليل أول الآية. قالوا: والصلاة كفارة لصغار الذنوب، ودل أن القبلة وشبهها من الصغائر المكفرة بذلك، وقد جاء في الحديث الآخر أنها " كفارة لمن اجتنب الكبائر " وروى عن مجاهد حسنات هنا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. قال الطبري: والصواب قول من قال: إنها الصلوات الخمس ؛ لثبوت الخبر بذلك عن النبي - عليه السلام -.
وقد مضى في كتاب الإيمان الفرق بين الصغائر والكبائر، ومعنى تسميتها بذلك، وفي كتاب الصلاة ما تكفره الصلاة من الذنوب.
وفي قوله في الحديث الآخر:" إنى أصبت حدًّا فأقمه علي "، فسكت، إلى قوله:" أليس قد توضأت ؟ " ثم قال: " وشهدت الصلاة معنا ؟" قال: نعم. قال: " إن الله قد غفر لك حدَّك - أو قال - ذنبك "، يحتمل أن هذا الحديث بمعنى الأول، وأن ذكر الحد هنا عبارة عن الذنب، لا على حقيقة ما فيه حد من الكبائر.(8/325)
وقد أجمع العلماء أن التوبة لا تسقط حدًّا من حدود الله إلا الحرابة. فلما لم يحده النبي - عليه السلام - حمله على أنه كان مما لا حد فيه ؛ ولأن الصلاة إنما تكفر غير الكبائر. وقيل: هو على وجهه، لانما لم يحده لاءنه لم يفسر الحد فيما لزمه، فسكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يستفسره لئلا يجب عليه الحد.
قالوا: وفيه حجة على ترك الاستفسار، وأنه لا يلزم ذلك للإمام إذا كان الكلام محتملاً والإقرار غير بيّن، طلبًا للتستر، بل نبه عنه - عليه السلام - المقر في غير هذا الحديث على الرجوع والنزوع عن قراره بقوله:" لعلك مسست أو قبلت " مبالغة في الستر على المسلمين، وقد كان بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا، صلوات الله عليه.
واختلف في معنى قوله:{ طرفي النهار وزلفًا من الليل }، قيل: طرفا النهار: الغداة والعشي، فالغداة الصبح، والعشي الظهر. وقيل: الظهر والعصر. وقيل: والمغرب.
و{زلفًا من الليل }، قيل: هي المغرب والعشاء. وقيل: العشاء. وقد قرأ بعضهم:{ وزُلْفَى } بسكون اللام مقصورة.
وقوله في الذي قتل تسعة وتسعين، وسؤاله: هل له من توبة ؟ وقول العالم له: نعم: هذا مذهب أهل السنة والجماعة ؟ أن التوبة تكفر القتل كسائر الذنوب، وهو قول كافة السلف. وما روى عن بعضهم من خلاف ذلك فشديد في الزجر وتورية في القول، لئلا يجترئ الناس على الدماء.
وقد اختلف في تأويل قوله تعالى:{ ومن يقتل مومنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها }، معناه: قتله مستحلاً لأجل إيمانه، وقيل معناه: جزاؤه جهنم إن جازاه. فيكون الخلود طول الإقامة لا التأبيد، وقيل: الآية في رجل بعينه قتل رجلاً له عليه دم بعد أخذه الدية، ثم ارتد. وقوله:{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } تفسير مجملها، والآية الثانية التي في الفرقان بقوله:{ إلا من تاب }.(8/326)
وقول العالم له:" انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإنه فيها أناس يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك "، فيه الحض على مفارقة الإنسان المواضع التي أصاب فيها الذنوب والأقران الذين ساعدوه عليها، ومعاداتهم لله تعالى، مبالغة في التوبة وقطع علائقها، والاستبدال بذلك صحبة أهل الخير والصلاح ومن يقتدى به، ويتكد بمشاهدته توبته.
وقوله:" حتى إذا نصف الطريق "، أي: بلغ نصفه، يقال: نصف الماء وغيره الشجرة، أي بلغ نصفها. وقوله: " نأى بصدره "، أي: نهض وتقدم ليقرب بذلك القدر من الأرض الصالحة. وأما قياسه إلى إحدى القريتين والحكم بذلك له بعد اختصام ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فيه فذلك - والله أعلم - علامة جعلها الله لهم عند اختلافهم مع عدم معرفة حقيقة باطنه التي اطلع الله عليها ؛ لأنه عليم بذات الصدور، ولو تحققوا توبته هم لم يختلفوا ولا احتاجوا للمقايسة بالأرض، ألا ترى كيف قال: "فأوحى الله إلى هذه الأرض أن تباعدي، دالى هذه أن تقربى " إذا كان تعالى علم مالم تعلم الملائكة.(8/327)
قوله في آخر الحديث:" لكل مسلم فداؤه من النار "، حدثنا قتادة بهذا الإسناد نحو حديث عفان، وقال عون بن عقبة. كذا عند العذري، وهو خطأ، والصواب ما عند سائر الرواة: عون بن عتبة بالتاء، هو عون بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، أخو عبد الله ابن عتبة أحد / السبعة الفقهاء. وقوله في هذا الحديث:" يدفع الله إلى كل مسلم يهوديًّا أو نصرانيًّا، فيقال: هذا فكاكك من النار "، وفي الحديث الآخر:" ما من مسلم يموت إلا أدخل الله مكانه النار يهوديًّا أو نصرانيًّا، وفي الآخر:" يأتي قوم بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى "، معنى ذلك: أن من استوجب النار لذنوبه من المؤمنين تفضل الله عليه برحمته، وغفر له ذنوبه، وعافاه من النار، وإن من لم يكن أهلاً للعقوبة فهو معافى منها ابتداء لفضل الله، فإنما يصلاها الأشقى الذي كذب وتولى، فهم أهلها وعوض هؤلاء الذين هم في النعيم فتسميتهم فكاك لذلك.
وقوله:" أدخل الله مكانه يهوديًّا أو نصرانيًّا على هذا المعنى، إذ الكافر لابد له منها وهو مستحق للعقاب لنفسه لا بسبب غيره.(8/328)
وقوله:" ويضعها على اليهود والنصارى "، معناه - والله اعلم -: أنه يزيدهم عذابًا فوق العذاب لما كانوا يفسدون، ويخصهم بالعذاب على سوء أفعالهم دون المؤمنين، وإلا فلا تزر وازرة وزر أخرى، لكن لما أسقط الله هذه التباعات عن هذا المسلم، وابقى تباعات الكافر وضاعف عذابه بكفره، وزاده في ذلك بقدر ما كان يستحق المؤمن على ذنوبه، كان كمن عوقب بتلك الذنوب، وإلاّ فالأصل أن الله لا يعذب أحدًا إلا على ما اكتسبه، وقد خلق الله تعالى للنار أهلاً وللجنة أهلاً، وجعل لكل واحدة ملئها، كما جاء في الحديث، و فالذى بى لكبارهم فكاك الذي غير للجنة، ولو شاء لقلب الأمر ولم يبال، كما جاء في الحديث، ولكن تمت كلمة ربك صدقًا وعدلاً، يفعل ما يشاء، فقوله على هذا: ش هذا فكاكك من النار، وإلا أدخل الله مكانه يهوديًّا أو نصرانيًّا بين المعنى على ما قررناه، أي أنك خلقت للجنة وخلق هذا للنار مكانك للجنة أنت المخلوق، وجعله هو ممن يملؤها وفك رقبتك أنت من ذلك، وخاصك وجعلك ممن يملأ الجنة. وفكاك الشيء: خلاصه. وفكاك الرقبة: إخراجها من الرق وتخليصها للحرية. وكذلك فكاك الرهن: تخليصه من يد مرتهنه.
وقوله:" يدني المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف ؟ فيقول: رب، أعرف. قال: فإنى قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم " / الحديث، قال الإمام: الدنو هاهنا: دنو كرامة لا دنو مسافة ؛ لأن الباري سبحانه في غير مكان، فلا يصح منه دنو مسافة ولا بعدها. والمراد بقوله:" حتى يضع عليه كنفه "، أي: ستره وعفوه، وما يتفضل عليه به حينئذ. وقد صحفها بعض الرواة فرواها بالتاء، وهو تصحيف لا ينبني أن يشغل به. وقد قال بعض أهل العلم: لو كان ثابتًا لكان استعارة، وتأولناه كما تأولنا ما وقع في أمثاله مما ذكر من أسماء الجوارح.(8/329)
قال القاضي: ذكر مسلم بعد هذا سندًا آخر لهذا الحديث فقال: حدثنا محمد بن مثنى، حدثنا ابن عدى، إلى آخر ما ذكر. وصح عند الكسائي والسجزي، وسقط لغيره هنا.
حديث كعب بن مالك والثلاثة الذين خلفوا، فيه: هجران أهل الذنوب، وقطع مكالمتهم، والإعراض عنهم، وترك رد السلام عليهم ؛ إذ كان ثم من يرده غيرك أو رده سرًّا، تاديبا لهم، كما نهى النبىء عن كلام هؤلاء الثلاثة، واجتناب الناس لهم، وتركه النظر إلى كعب إذا رآه، وأمره لهم باعتزال نسائهم. وفيه حجة أن المسجون يضيق عليه.
وفيه حجة لقول من قال من أئمتنا: إن المسجون في الذنوب لا تترك معه زوجته تضييقا عليه، وهو قول سحنون ؛ لأمره - عليه السلام - لهم باعتزال نسائهم. وابن عبد الحكم من ائمتنا يرى ألا يفرق بينه وبين زوجته إذا كان السجن خاليا، أو فيه موضع تنفرد فيه معه المرأة عن الرجال.
وفيه سنة ركعتي المسافر إذا قدم كما كان يفعل - عليه السلام - وقد ذكرنا ذلك.
وفيه فضل الصدق وحسن عقبهاه الذي نجا كعبا وصاحبيه،وكان سبب التوبة عليهم، وكان أمرهم يعد زيادة في فضلهم ومتعته لهم، بخلاف غيرهم ممن كذب وخلف من أهل النفاق، وفضيحة الله لهم وذمهم ووعيدهم.
قال الإمام: وقوله: " فأنا إليه أصعر "، أي: أميل.
وقوله:" وتفارط الغزو "، أي فات وتقدم.
وقوله:" إلا رجلاً مغموصًا عليه "، أي متهمًا مستحقرًا. يقال: غمصت فلانًا واغتمصته: إذا استحقرته واستصغرته.
وقوله: وهو ينظر في عطفيه: قال الهروي: عطفا الإنسان: ناحيتا جسده،وقال في موضع آخر: العطفان: ناحيتا العنق، ومنكب الرجل: عطفه. وقال المبرد: العطف: ما انثنى من العنق، قال غيره: العرب تضع الرداء موضع البهجة والحسن والبهاء، ويسمى الرداء عطافًا لوقوعه على عطفى الرجل.
قوله:" توجه قافلاً ": راجعا من سفره، يقال: قفل الرجل / قفولاً: إذا رجع من السفر. والقافلة: التي هي راجعة من سفرها، وما دامت ذاهبة في السفر فلا تسمى قافلة حتى ترجع.(8/330)
قوله:" حضرني بثي "، البث: أشد الحزن.
قوله:" قلت: من هما ؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامري "، هكذا قال العامري، إنما هو العمري، من بني عمرو بن عوف.
قال القاضي: كذا ذكره مسلم:" العامري" من رواية أكثرهم، ورواه بعضهم "العامري "، والصواب:" العمري". وكذا ذكره البخاري، وكذا نسبه ابن إسحاق وأبو عمرو بن عبد البر وغيرهما، وإن كان القابسي قال: لا أعرفه إلا العامري، فالذي عرفه غيره أصح.
وقوله في نسبه:" ابن ربيعة "، كذا ذكره مسلم، وذكره البخاري: ابن الربيع، وقال أبو عمرو بالوجهين في نسبه.
قال الإمام: وقوله:" حتى تسورت الجدار "، أي علوت سوره وهو أعلاه.
وقوله:" فتيممت بها التنور فسجرتها "، أي قصدت التنور، يقال: قصدت الشيء وعمدته واعتمدته بمعنى واحد، ومعنى:"سجرتها ": أحرقتها. قال مجاهد في قوله تعالى:{ والبحر المسجور } معناه: الموقد.
قال القاضي: بقى في الحديث من الغريب والمعاني والفقه مما يحتاج إلى تفسيرها ما لم يذكره.
قوله:" فجلا للمسلمين أمرهم "، أي كشفه، وبينه. وقوله: " ليتأهبوا أهبة غزوتهم " بضم الهمزة أي ما يحتاجون إليه ويستعدون كذلك.
وقوله:" وأخبرهم بوجههم الذي يريد "، أي: بمقصدهم، ورواه بعضهم. "بوجهتهم التي يريد " أي: بنحوهم ومقصدهم.
وقوله:" تفارط الغزو "، قيل معناه: تم خر وقته وفات من أراده. أصل الفرط السبق، كانه سبق الغزاة فلم يلحقهم غيرهم ممن تأخر عنهم.
وقوله:" طفقت أعد "، وقيل معناه: جعلت. وقيل: مثل: ما زلت، ولا يقال فيه: ما طفق، إنما يقال في الإيجاب. ومعنى" يؤنبونني"، أي يوبخونني ويلومونني.
وقوله:" رأى رجلاً مبيضًا يزول به السراب "، أي: يتحرك وينهض، ويروى:"يزول في التراب "، وكل متحرك زائل والسراب: الذي يظهر في الهواجر في القفار كأنه ماء.(8/331)
وقوله:" كن أبا خيثمة "، أي أنت، أو هو أبو خيثمة، قال الله تعالى: { كنتم خير أمة }، أي: أنتم خير أمة، قال ثعلب: العرب تقول: كن زيدًا، أي أنت زيد، وأبو خيثمة هذا اسمه: عبد الله بن خيثمة. وقيل: مالك بن قيس، والأشبه عندي هنا أن تكون:" كن " بمعنى التحقيق والوجود، أي لتوجد تحقيقًا أبا خيثمة.
وقوله:" حتى لمزه المنافقون "، أي: عابوه ووقعوا فيه. قال / الله تعالى: { ويل لكل همزة لمزة }، قيل: هما بمعنى، وقيل: اللمز في الوجه، والهمز في الظهر. وقيل: كلاهما في الظهر كالغيبة. وقيل: اللمز بغير التصريح والإشارة كالشفتين والرأس ونحوه.
وقوله: " قد أظل قادمًا " بظاء معجمة، أي أشرف ودنا وغشى. وأصله من الظل، كأنه البسه ظله لدنوه منه.
وقوله:" راح عني الباطل "، أي: ذهب ذنوبه. " فأجمعت صدقه " أي: عزمت عليه، يقال: أجمع الرجل مكره وجمع عليه وعزم عليه بمعنى، قاله سيبويه. وقال أبو الهيثم: أجمع أمره: جعله جميعًا بعد أن كان متفرقًا.
وقوله:" ولقد أوتيت جدلاً "، قيل: الجدل: مقابلة الحجة بالحجة. وقيل: جدل الفرد في الخصام. وكانت العرب تتفاخر بذلك أنه من فصاحة اللسان يى قوة العارضة، وحضور النفس، وحدة الذهن، قال الله تعالى في قريش:{ بل هم قوم خصمون }، قال:{ وتنذر به قوما لدًّا }.
وقوله:" ليوشكن الله أن يسخطك علي " بكسر الشين، ولا يقال بفتحها. قال أبو على: هو كما قالوا حتى أن يفعل. وقال الخليل: معناه: أسرع.
وقوله:" أرجو عقبى الله "، أي: ثوابه. والعقبى: ما يكون بعد الشيء وعلى أثره، وما يكون كالعوض منه، ومنه العقاب على الذنب ؛ لأنه بدل من فعله ومكافأة عليه.
وقوله:" ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا أيها الثلاثة " بالرفع، وموضعه النصب على الاختصاص. قال سيبويه عن العرب: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، وهذا مثله.
وقوله:" فأما صاحِبَي فاستكانا " أي: خضعا.(8/332)
وقوله:"وتسورت جدار حائط أبي قتادة"، فيه جواز مثل هذا والدخول بغير إذن على من يدل عليه، ويعرف أنه لا عورة له هناك.
وقوله:" إنه سلم عليه فلم يرد عليه "؛ بعموم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كلامهم.
وقوله:" أنشدك بالله "، أي: أسالك بالله، وأصله من رفع الصوت بذلك.
وقول أبي قتادة:" والله ورسوله أعلم "، لعله لم يقصد بذلك سماعه فيكون مكلمًا له، وإنما قال ذلك لنفسه لما ناشده الله، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك بما أمر. قال ذلك أبو قتادة مظهرًا لما اعتقد لا لسمعه. ولو أن رجلاً حلف لا يكلم رجلاً فسأله عن شيء فقال له: الله اعلم يريد لسمعه ذلك لكان مكلمًا له.
وقوله في الصلاة:" وأسارقه النظر "، دليل أن خفيف الالتفات والنظر في الصلاة غيرمفسد لها.
وقوله:" فاقول: هل رد على السلام أم لا ؟ يحتمل لرده عليه / سرًّا، وإن هذا يخرجه من الحرج في ترك رده، أو يكون ترك الرد على هؤلاء جملة خصوصًا. ونبط أهل الشام ونبيطها وأنباطها: نصاراها الذين عمروها.
وقوله:" ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة"، بكسر الضاد وسكونها أيضًا، أي حال إيضاع، أي حيث يضاع حقك ولا يهتبل بك.
وقوله:" فتيممت بها التنور فسجرتها "، أي: قصدته فاحرقتها. وأصله: تأممت، ومنه قوله تعالى:{ فتيمموا صعيدًا طيبًا }، وأنث الكتاب هنا على معنى الصحيفة. وفيه جواز حرق ما فيه اسم الله تعالى لعلة توجب ذلك. وقد أحرق عثمان والصحابة المصاحف بعد أن غسلوا منها ما قدروا عليه.
وقوله:" واستلبث الوحى "، أي: أبطأ، وبقي لم ينزل لكل المدة.
وقوله:" وكنت أشد القوم وأجلدهم "، أي: أصغرهم سنًّا وأقواهم. والجلد: القوة والشدة بالفتح، ورجل جلد - بالسكون - وجليد: بين الجلادة والجلد.(8/333)
وقوله:" الحقي بأهلك وكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر "، دليل على أنه ليس من ألفاظ الطلاق ولا كناياته الصريحة، وإنما هو من الكنايات التي لا يلزم بها الطلاق إلا مع نية، لاسيما مع بيان قوله:" حتى يقضي الله في هذا الأمر "، ومع قوله:" فقلت: أطلقها ؟ قال: لا ".
وفي قول امرأة هلال:" هل تكره أن أخدمه "، دليل على الترغيب في خدمة المرأة لزوجها، وأنه من حسن عشرتها له وحقه عليها، وإن لم يقض به.
وقوله:" قد ضاقت على الأرض بما رحبت "، أي: بما اتسعت، أي على سعتها والرحب،: السعة، ومنزل رحب ورحيب ورحاب.
وقوله:" سمعت صارخًا أوفى على سلع "، أي أشرف وعلا عليه. و"سلع " جبل بالمدينة معروف، بفتح السين وسكون اللام.
وقوله:" أبشر يا كعب. وذهب الناس يبشروننا "، وكسوته ثوبيه للبشير ؛ دليل على جواز البشارة والتهنئة بين الناس فيما يسر من أمر الدنيا والآخرة، وجواز إعطاء البشير جعلا على بشارته ومكافأته.
وقوله:" واستعرت ثوبين فلبستهما "، فيه جواز عارية الثياب عند الضرورة وقد كره ذلك مالك في العتبية، يريد: لأنه ليس من مكارم الأخلاق، لا من المعير ولا من المستعير. وأما عند الضرورة فحال آخر منهما.
وقوله:" فانطلقت أتأمم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، أي: أقصده، وتلقاني الناس فوجًا فوجًا "، أي: جماعة جماعة، يهنئونه بالتوبة.
وقيام طلحة له حتى صافحه دليل على جواز التهنئة والقيام والتلقي للقادم من سفر/ ولمن عزاه أمر عظيم، مثل هذا، وجواز المصافحة.
وقوله:" إن من توبتي أن أنخلع من مالي "، فيه شكر نعم الله تعالى بالعمل الصالح والصدقة، قال الله تعالى:{ لئن شكرتم لأزيدنكم }.
وقوله:" أمسك بعض مالك فهو خير لك "، دليل على كراهة صدقة الرجل جميع ماله ويبقى عالة.(8/334)
وقوله: " فوالله ما علمت أحدًا أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني الله به "، أي: انعم الله عليه، ومنه قوله تعالى:{ وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم }، أي: نعمة. والابتلاء ينطلق على الخير والشر. وأصله: الإختبار، وأكثر ما يأتي مطلقًا في الشر، فإذا جاء في الخير جاء مقيدًا، كما قال تعالى:{ بلاءً حسنًا }، وكما قال هنا:" أحسن مما أبلاني ". قال ابن قتيبة: يقال: أبلاه الله يبليه إبلاء حسنًا، وبلاه الله يبلوه في السوء. وقال صاحب الأفعال: بلاه الله بالخير والشر بلاء: اختبره به، وصنعه له، وابتلاه بلاء حسنًا: فعله به.
وقوله:" وأرجى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا "، أي: أخره، قال الله تعالى: { ترجي من تشاء منهن }، قرئ بالهمز والتسهيل.
وقوله:" لا يريد غزوة إلا ورى بغيرها "، أي ستر وراء ظهره. قالوا: وأصله من وراء، كانه جعل البيان وراء ظهره.
وقوله:" وكان أوعاهم لأحاديث أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، أي: أحفظهم.
وقوله في حديث مسلمة بن شبيب:" لم يتخلف في غزوة غزاها قط غير غزوتين "، وذكر الحديث، وفي رواية العذري:" غير غزوة تبوك "، هذا لأنه أحال على الحديث المقدم. قال فيه:" غير غزوة تبوك، غير أني تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاقب الله أحدًا تخلف عنها ؛ لأنه خرج يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ". وقد يحتمل صحة الرواية الأخرى لأنهما غزوتان كما تراه.
وقوله في أول الحديث: " فقل رجل يريد أن يتغيب، يظن أن ذلك سيخفى له "، كذا في جميع نسخ مسلم، وصوابه:" ألا يظن أن ذلك سيخفى له "، وكذا في "البخاري".(8/335)
وقوله:" ما أنعم الله على من نعمة قط غير أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ألا أكون كذبته "، بفتح الهمزة وتشديد اللام،" فأهلك كما أهلك الذين كانوا "، كذا في نسخ مسلم وكثير من روايات البخاري، ومعناه: أن أكون كذبته فأهلك، كما قال تعالى: {مامنعك ألا تسجد إذ أمرتك }، أي: أن تسجد، و"لا" زائدة. وفي رواية الأصيلي عن البخاري:" إلا أن أكون كذبته "، والأول الصواب.
وذكر مسلم في سند الحديث من رواية يونس عن الزهري، وفيه:" أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بيته حين عمي، قال: سمعت كعب بن مالك "، ثم ذكر مثله من رواية عقيل عن الزهري، وذكر الحديث من رواية ابن أخي الزهري، وقال فيه: أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قالد كعب من بيته، وكذلك ذكره من رواية معقل بن عبيدالله، قال أبو الحسن الدارقطني: وتابع معقلاً على قوله هذا صالح بن أبي الأخضر، وكلاهما لم يحفظا، والأول الصواب، يريد قول من قال: عبد الله غير مصغر، ولم يذكر البخاري في التاريخ عبد الله بن كعب بن مالك، وإنما ذكر عبيد الله فقط، ولم يذكر في الصحيح رواية من روى عبيدالله.
حديث الإفك
والإفك: الكذب، وكذلك الإفك مثل النجس والنجس. وقول ابن شهاب فيه حدثنى: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، إلى قوله: وكلهم حدثني طائفة من الحديث، وبعضهم أوعى لحديثها من بعض، إلى قوله: وبعض حديثهم ليصدق بعضها، هو مما قد انتقد قديما على الزهري لجمعه الحديث عنهم، لوإنما عند كل واحد منهم بعضه، وقيل: كان الأولى أن يذكر حديث كل واحد منهم بجهته، ولأدرك على الزهري في شيء فه ؛ لأنه قد بين ذلك في حديثه، والكل ثقات أئمة لا مطعن فيهم، فقد علم صحة الحديث، ووثق كل لفظة منه ؛ إذ هي عن أحدها ولا الأربعة الأقطاب عن عائشة رضي الله عنها.(8/336)
وقوله: " وبعضهم أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصًا "، أي: أحفظ وأحسن إيرادا وسردا وقصصا لحديثها.
وقوله: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين نسائه "، وذكر أنه أقرع بينهن في غزوة، فخرج سهمها فخرجت معه: فيه أولا جواز القرعة في القسمة بين الشركاء وما يجرى مجراها من العتق في الوصايا عند ضيق الثلث، وهي سنة بحالها خارجة عن القياس. قال أبو عبيد: وقد عمل بها ثلاثة من الأنبياء: يونس وزكريا ومحمد عليهم السلام. قال ابن المنذر: واستعمالها كالإجماع بين أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء، ولا معنى لقول من ردها. وحكى عن أبي حنيفة إجازتها، قال: ولا يستقيم في القياس لكنا تركنا القياس للاثار، وحكى غيره عنه ترك القول بها.
وقد اختلف العلماء في جوازها في المشكلات جملة لما جاء من السنة فيها، وهو مذهب الشافعي وغيره، ومشهور مذهب مالك وأصحابه منعها جملة، لاءنها من باب الخطر والقمار، وهو قول بعض أهل الكوفة، وقالوا: وهي كالأزلام، وحكى عن أبي حنيفة جوازها في هذه الوجوه المذكورة، التي وردت فيها السنة، وقصرها عليها دون تعديتها، وهو قول مالك والمغيرة وبعض أصحابنا على اختلاف بينهم فيما ثبت فيه السنة من ذلك، والتفريق بين الوصية وعتق البتل وتسويتهما فيهما. واختلف في هذا قول مالك وقد تقدم في الوصايامنه. وفيه الفرعة بين النساء في السفر.(8/337)
وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب مالك في أحد قوليه وقاله الشافعي وأبو حنيفة: أنه لا يخرج منهن إلا من خرجت عليها القرعة، وأنه من العدل في القسمة، بينهن. وقال مالك أيضًا: له أن يسافر بمن شاء منهن بغير قرعة، وأن القسمة هنا سقطت بحكم الضرورة ؛ إذ قد تكون إحداهن أخف محملاً وأقل مؤنة للسفر ؟ لخفة جسمها، وانفرادها عن ولدها، ونشاطها وتكون أخرى خلاف ذلك، أو يكون إحداهما أولى بالترك بالقيام على ماله وحشمه والنظر في ذلك ؛ لعقلها وحسن نظرها وغيرها بخلاف ذلك. ولم يختلفوا انها كيف كان الأمر فيها لاتحاسب بمدة السفر، بل يستأنف القسمة ليلة قدومه بين جميعهن. وقد مر بنا هذا في النكاح كفاية.
وفي حديث عائشة هذا فقه كثير وغريب تفسير، فمن فقهه سوى ما تقدم: جواز ركوب النساء في الهوادج، وجواز ر خرمة م الرجل لهن في ذلك وفي الأسفار، وخروجهن لضروراتهن من حاجة الإنسان بغير إذن ازواجهن، إذ لو استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك لعلم مغيبها، ومنع خروجهن إلى بيوت آبائهن وقرابتهن إلا بإذن ؛ لاستئذان عائشة رضي الله عنها في ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وفيه حسن الأدب والمعاملة والعشرة مع النساء الأجانب، لاسيما في الخلوة بهن عند الضرورة، كما فعل صفوان من تركه مكالمة عائشة وسؤالها، وأنه لم يزد على الاسترجاع وتقديم مركبها لي اعراضه بعد ذلك حتى ركب، ثم تقدمه يقود بها.
وفيه إغاثة الملهوف، وعون الضيف، وإكرام من له قدر، كما فعل صفوان في ذلك كله. وفيه ستر ما يقال في المرء عنه إذا لم يكن لذكره فائدة، كما عامل الجميع به عائشة رضي الله عنها حتى أعلمته بها أم مسطح. وفيه تشكى السلطان وغيره للناس لمن يؤذيه / في نفسه وأهله والاستعذار منه.(8/338)
وقوله:" استعذر "، " ومن يعذرنى "، " فأنا أعذرك منه "، قيل: من يعذرني إن كافأته على ما فعل ولا يلومني، وقيل: معناه: من يقصدني، وهو أليق بهذا المكان، قاله أبو علي في البارع، قال: والعذير الناصر. وقال الداودى: قوله: " انا أعذرك منه ": أي أنتصف لك وأقوم بما يجب لك.
وفيه مشاورة الرجل بطانته فيما فيه مصلحته من فراقما أهله أو غير ذلك، كما فعل النبي ئي مع على وأسامة. وفيه الكشف عن الأمور المسموعة والبحث عنها لمن يهمه ذلك ويعنيه. وأما من غيره فتحسس وفضول ممنوع، كما سال - عليه السلام - زينب وبريرة.
قالوا: وفيه جواز تعديل النساء والشهود، وتعديل بعضهم بعضًا. وقد ترجم البخاري على هذا، وهذا ليس بيق ؛ إذ لم يكن شهادة. والمسألة التي اختلف فيها العلماء إنما هي في تعديلهن للشهادة، فمنع من ذلك مالك والشافعي ومحمد بن الحسن، وأجازه أبو حنيفة في المرأتين والرجل، كشهادتهما في المال. واحتج الطحاوي لذلك بقول زينب في عائشة، وقول عائشة في زينب:" يعصمها الله بالورع ". قال: ومن كانت بهذه الصفة جازت شهادتها. وهذا ركيك من الكلام جدًّا، ولأنه وإمامه أبا حنيفة لا يجيزون شهادة النساء إلا في مواضع مخصوصة، فكيف يطلقون جواز تزكيتهن، وفي هذا من التناقض ما فيه.
وفيه فضلية من شهد بدرًا، وإنكار ذمهم والدعاء عليهم، وكذلك يجب في جميع المسلمين لإنكار عائشة رضي الله عنها ذلك على أم مسطح.
وفيه معاداة الولي وليه في الله، كما فعلت أم مسطح من دعائهن بها على ابنها، وحلف أبي بكر ألا ينفق عليه.(8/339)
وفيه الحكم بالظاهر، وحسن الظن بالمسلمين، لاسيما بأهل الفضل، وانه لا يلتفت إلى افتراء مفتر عليهن، كما اعتقده جمهور المسلمين في شأن عائشة. وفيه تنزيه منصب النبوة عن مثل هذا في عياله وحريمه، وقد قال ابن عباس: ما زنت امرأة نبى قط. وفيه تقرير من رفع إليه أمر وتوفيقه على ما يقال فيه، وامره بالتوبة إن كان فعله. وفيه إقامة الحدود على القاذفين.
قيل: وفيه ترك ذلك في جهة من له منعة ويخشى من إقامته عليه تفريق كلمة وظهور فتنة، كما لم يحد عبد الله بن أبي، وهو كان رأس أصحاب الإفك ومتولى كبره. وعندى أنه ترك حد ابن أبي لغير هذا ؛ لأنه لم يات في الحديث أنه ممن افترى، إنما ذكر أنه كان يستوشيه ويتحدث عنده به ويجمعه.
وقد قيل في الذي تولى كبره: إنه غيره ممن حد. والحد إنما يجب على من تكلم به. واستعذار النبي - صلى الله عليه وسلم - منه لجمعه عنده وإشادته بحضرته وبحثه عنه، كما قال في البخاري أخبرت أنه كان يشاع عنده فيقره ويسمعه ويتحدث به عنده ويستوشيه، ومثل هذا لا يلزمه حد عند الجميع حتى يقذف بنفسه.
وفيه غضب المسلمين لعرض نبيهم وسلطانهم وحرمته، كما قال في ذلك سعد بن معاذ وأسيد بن حضير.
وفيه أن من آذى النبي - عليه السلام - في نفسه أو ذويه كافر يجب قتله ؛ لقول سعد وأسيد: قتلناه، فلم ينكر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان باطلاً لم يقر عليه ولأنكره.(8/340)
وقال قوم: إن من سب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتل لهذه الحجة وليس ببين، إنما يستوجب قتله لأذى النبي - عليه السلام - في حياته وتأذيه بقوله، ولم يكن بعد نزول القرآن فيكون مكذبًا له، فأما اليوم فمن قال ذلك في عائشة قتل لتكذيبه القرآن وكفره بذلك، واما غيرها من أزواجه فالمشهور أنه يحد لما فيه من ذلك حد، ويعاقب لغيره. وحكى ابن شعبان قولاً آخر: أنه يقتل على كل حال، وكان هذا التفات إلى أذى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك حيًّا أو ميتًا، والله أعلم.
وفيه: أن التعصب في الباطل يقدح في العدالة، ويخرج عن اسم الصلاح؛ لقول عائشة: فاجتهلته الحمية، وكان قبل ذلك رجلاً صالحًا. والصلاح: القيام بحقوق الله تعالى وما يلزم من حقوق عباده، وتجنب مخالفته.
وفيه: جواز سب المتعصب في الباطل والعاصي، والمتكلم بمنكر القول، والإغلاظ في سبه يشبه صفته، فان لم يكن فيه حقيقة كقول أسيد: كذبت، إنك منافق تجادل عن المنافقين، وحاش لسعد من صفة النفاق، لكن لما كان منه من ظاهر التعصب لابن أبي المنافق استحق التعرض له والسب والتأديب كمثل هذا القول الغليظ. وقال الداودى: إنما أنكر سعد بن عبادة من قول سعد بن معاذ بحكمه في قومه بحكم أنفة العرب، وما كان قديمًا بين الحيين من الأنصار، لا أنه رضي فعل ابن أبي.
وقوله:" كذبت، لعمر الله ! لا تقتله ": أي: لا يجعل النبي حكمه إليك، قال الإمام: قول أسيد لسعد: يا منافق، قد تقدم الكلام على أمثال هذا اللفظ الذي يقع بين الصحابة، وأنه يجب أن يحمل على ما يليق بهم، والأشبه أن أسيدا إنما وقع ذلك منه على جهة الغيظ والحنق، وبالغ في زجر سعد، ولم يرد النفاق الذي هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر. ولعله أراد أن سعدًا كان يظهر إليه وإلى الأوس من المودة ما يقتضي عنده ألا يقول فيهم ما قال، فاستلوح من هذا الكلام أن باطنه فيهم خلاف ما ظهر إليه.(8/341)
والنفاق في اللغة يطلق على إظهار ما يبطن خلافه دينا كان أو غيره، ولعله - صلى الله عليه وسلم - لأجل هذا لم ينكر عليه أنه كان يسمع قوله هذا.
قال القاضي: وفيه حمد عاقبة الصبر، وفيه شكر الله على إحسانه بالعمل الصالح، كما رد أبو بكر النفقة لمسطح. ولقوله:{ ألا تحبون أن يغفر الله لكم }.
وفيه: جواز النزوع بالقرآن والاحتجاج به في النوازل، والتأسي بالأنبياء والصالحين ؛ لقول عائشة:" ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: { فصبر جميل }.
وفيه: جواز التسبيح عند استغظام الأمر والتعجب، كما قالت عائشة: "سبحان الله ! وقد تحدث الناس بهذا "، وقالت بريرة مثله، وصفوان مثله، وقد قال الله تعالى:{ لولا إذ سمعتموه } إلى قوله:{ سبحانك }.
وفيه: جواز الحلف بقوله: " لعمر الله !"، وقول ذلك، ومعناه: بقاء الله والعمر والعمر واحد، فإذا استعمل في القسم فالفتح لا غير، ورفعت الراء على الابتداء المحذوف، أي لعمرك ما أقسم. وقال الأزهرى: كأنهم أظهروا يمينًا ثانية، أي: وعمرك، فلعمرك عظيم. واختلف هل هي يمين أم لا ؟ وهل يجوز الحلف بها ؟ فكره مالك مرة الحلف بها، وشك: هل هي يمين أم لا ؟ وعلى أصله، وأصل الكافة في الحلف بالصفات أنها يمين، وعلى أصل الشافعي في الصفات إذا لم ينو بها يمينًا لم يلزم.
وفيه: من الغريب مما فسره في المعلم. قال الإمام: قولها:" من جزع ظفار "، قال ابن السكيت: الجزع، بفتح الجيم وإسكان الزاي: الخرز اليماني. وظفار بفتح الظاء وكسر الراء: قرية باليمن.
وقول عائشة:" لم يهبلن "، أي: لم يكثر شحومهن ولا لحومهن.
وقوله:" العلقة من الطعام "، أي: الشيء القليل منه، ومثله البلغة.
وقولها:" نزلوا موغرين "، أي وقت الوغرة، هو شدة الحر.
قولها:" فتأتي الداجن "، يقال لكل ما ألف الثبوت من الطير والشاه وغيرها: دواجن، وقد دجن في بيته: إذا لزمه، وكلب داجن: ألف البيت. والمداجنة: حسن المخالطة.(8/342)
قوله - صلى الله عليه وسلم -:" من يعذرني من رجل "، أي: من يقوم بعذري، أي:كافأته على سوء صنيعه فلا يلمني.
وقولها:" يستوشيني "، أي: يستخرجه بالبحث والمسألة كما يستوشى، الرجل جرى الفرس، وهو ضربه جنبيه بعقبيه وتحريكه ليجرى، يقال: أوشى فرسه واستوشاه بمعنى واحد.
قولها:" من البرحاء "، تعنى الشدة. قال ابن ولاد: البرحاء بضم الباء وهو ممدود: من التبريح، وهو بلوغ الجهد من الإنسان.
قوله:" أبنوا أهلي "، أي: اتهموها. قاله أبو العباس. وقول أم مسطح: " تعس مسطح "، قال أبو الهيثم: معناه: انكب وعثر.
قال القاضي: ضبطنا هذا الحرف هنا " يهبلن ولم يغشهن اللحم " بضم الياء، وفتح الهاء، وتشديد الياء ؛ على ما لم يسم فاعله من رواية العذري وضبطناه من طريق الطبري "يهبلن " بفتح الياء والباء وسكون الهاء، وضبطناه في غير مسلم بضم الياء وفتحها، وهو بعيد ؛ لأن ماضيه هبل بالضم. وفي بعض الروايات عن ابن الحذاء:" يهبلهن ولم يمسهن اللحم ". ورواه البخاري: " يثقلن "، وهو بمعنى ما تقدم، أي لم يثقلن باللحم، وهو بمعنى يغشهن أيضًا، أي يلزمهن ويحمل بهن. وكذلك " أبنوا أهلى " ضبطناه هنا بالتحقيق، وقد ضبطه الأصيلى في البخاري بالتشديد، وأنكره بعضهم، وصححه ثابت وغيره، فبالتخفيف ما تقدم: اتهموها، وذكروها بالسوء، وبالتشديد قال ثابت: التأبين: ذكر الشيء وتتبعه، وأنشد:
فرفع أصحابي المطي وأبنو هنيدة
قال ابن السكيت: جدوا بها وذكروها.
وقولها: " معرسين في نحر الظهيرة "، وعرس من وراء الجيش، التعرس: النزول، ونحر الظهرية: أول القائلة، وأصل التعريس: النزول آخر الليل عند الخليل وغيره، وقال أبو زيد: أي وقت كان.(8/343)
وقد ذكر مسلم اختلاف الرواة عن:" موغرين " بالغين المعجمة والراء، وفسرها في "الأم" عبد الرازق نحو ما تقدم. قال: الوغرة: شدة الحر في الهاجرة. وذكر أيضًا مسلم فيه:" موعرين " بالعين المهملة، والراوى في حديث يعقوب وإبراهيم بن سعد، كذا روايتنا فيه وفي بعض النسخ بالعين والراء المهملتين، وقال أبو مروان بن سراج: لا وجه له هنا. قال القاضي: وكذلك بالراء والوجه ما تقدم.
وتفسير قولها:" العلقة من الطعام " بأنه القليل منه، وأصله من الأكل والعلوقة والعلوق: الأكل والرعي.
وقولها:" فحبسني ابتغاؤه "، أي: طلبه، يعني عقدها. وتيممت منزلي: قصدته.
وقوله:" فأدلج "، أي: مشى بليل، يقال منه: أدلج وادَّلج. وقيل: لا يشدد إلا في سير آخر الليل، وقد تقدم مستوفى الكلام فيه.
وقوله:" فاستمر الجيش "، أي: ذهب، وقيل ذلك في قوله تعالى: {سحر مستمر }، أي ذاهب، وهو استفعل من مر.
وقوله:" فرأى سواد إنسان "، أي: شخصه، وكل شخص سواد.
وقولها:" فاستيقظت باسترجاعه "، أي بقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، وهذا من صفوان لمعنيين:
أحدهما: أنها مصيبة يجب الاسترجاع فيها لنسيان امرأة عورة، وبقائها منفردة في قفر وليل مظلم.
والثانى: ليقيمها استرجاعه من نومها إذ صان حرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أن يناديها ويكلمها، وقد كان كما قالت: نزل الحجاب كما فعل عمر بتكبيره لينتبه النبي - عليه السلام - ولم يناده إكبارًا له، وحرجًا من عموم النهي عن ذلك ؛ ولأنه - عليه السلام -كان يوحى إليه في نومه.
وقولها:" وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلي "، الظن هنا بمعنى العلم، قال الله تعالى:{ ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون }.(8/344)
وقوله:" فخمرت وجهى بجلبابي "، أي: سترته، والجلباب كالمقنعة، تغطى به المرأة رأسها يكون أعرض من الخمار، قاله النضر، وقال غيره: هو ثوب واسع دون الرداء، تغطى به المرأة ظهرها وصدرها، وقال ابن الأعرابي: هو الإزار، وقيل: الخمار. وقيل: هو كالملاة والملحفة وبعض هذا قريب من بعض.
وقولها:" والناس يفيضون في حديث أهل الإفك "، أي: يأخذون فيه.
وقولها:" يريبني في وجع "، أي: أنكرني مرضي، العرب تسمى كل مرض وجعًا، ومعنى:" يريبني ": يوهمني ويشككني، حتى أنكر ذلك من اختلاف حاله، يقال: أرابني الأمر يريبني: إذا توهمته وشككت فيه، فإذا استيقنته قلت: رابني منه كذا يريبني، وقال الفراء وأبو زيد: هما بمعنى واحد في الشك.
وقولها:" لا أعرف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف لا بفتح اللام والطاء، أي: البر والتخفي. زاد بعضهم: إذ كان ذلك برفق، ويقال فيه اللطف بالضم وسكون الطاء أيضًا.
وقوله: " كيف تيكم ؟ " هي إشارة تنبيه للمؤنث مثل " ذاكم " للمذجمر.
وقولها: " بعدما نقهت " بفتح القاف، أي أفقت من المرض.
وقولها:" وخرجت قبل المناصع وهو متبرزنا "، قال الأزهرى: أراها مواضع خارج المدينة، وعليه يدل قوله في الحديث نفسه في غير كتاب مسلم، وهي صعيد أفيح خارج المدينة. وقال غيره: هي مواضع التخلي للحدث، وهو معنى قولها:" متبرزنا "، والبراز بالفتح: الحدث، وأصله الفضاء من الأرض، وسمى الحدث به لقصدهم قضاه فيه، كما قالوا فيه: الغائط لذلك.
وقولها:" وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه "، كذا لجمهور الرواة، أي في البعد بذلك عن المنازل. وعند ابن ماهان: في التبرز بمعناه، أي في الخروج للبراز.
وقولها:" تعس مسطح " بكسر العين، معناه: هلك، وقيل: سقط، والتعس السقوط على وجهه خاصة، وقيل: لزمه الشيء، وقيل: بعد.(8/345)
وقولها: " يا هنتاه "، أي: يا امرأة، أو يا هذه، وهي كلمة يعبر بها عن كل شيء، وقد تقدم شرحها ولا يقال: هنتاه، إلا في النداء. ومن العرب من يسكن نون " هن " في كل حال، مثل " من، ومنهم" من ينونها في الوصل. وكذلك الأنثى " هنة " في الوصل " وهنة " في الوقف، وحكى الهروي عن بعضهم أن: " هن، وهنة " مشددة النون، وأنكره الأزهري، والمعروف تخفيف النون. وحكى الخليل انهم إذا أدرجوها في المؤنث سكنوا التاء فقالوا: هذه هنت جاءت.
وقولها:" ما كانت قط امرأة وضيئة " ممدودًا أي جميلة، والوضاءة: الحسن ممدود. وفي رواية ابن ماهان: " حظية " من الحظوة ورفعة المكانة وبعده:" عند رجل يحبها ولها ضرائر "، أي: شرائك وزوجات لزوجها، سمين بذلك لاستضرار كل واحدة بالأخرى؟ لأجل الغيرة التي بينهن على الزوج، ومقاسمتهن أموره. والاسم منه الضر بالكسر، وحكى الضم كغيره.
وقولها:" إلا كثرن عليها " يعني القول بعيبها.
وقولها:" من شيء أغمصه " بكسر الميم، أي أعيبه وأنتقصه والغمص العيب، وأصله: الطعن والقول السيء.
وقولها:" ولكن اجتهلته الحمية "، كذا رواية الجلودي بالجيم والهاء في حديث معمر عن ابن شهاب، وفي حديث فليح عنه وعند ابن ماهان وفي رواية معمر: " احتملته " بالحاء والميم، وهي رواية البخاري. وكذا ذكره مسلم عن يونس وصالح، وصوب بعضهم الرواية الأولى، ومعناها: استخفته. قال في الجمهرة: كل شيء استخففته فقد استجهلته، واستجهلت الريح الغصن: إذا حركته فاضطرب، وقيل: أغضبته. قال الهروي: من استجهل مؤمنًا فعليه إثمه، أي من حمله على ما يغضبه، وهو من هذا، أي من أ حملته الحمية على الجهل والغضب، وهو معنى الرواية الأخرى. قيل: احتملته: أغضبته، أو احتمل، كما قال:" حتى هموا أن يقتتلوا ".
وقوله:" فتشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس، ثم قال "، فيه الابتداء بذكر الله وحمده بالشهادتين في الكلام في الأمور المهمة.(8/346)
وقوله:" ألممت بذنب "، أي: أتيته به، وليس لك بعادة، وهو أصل اللمم، وقد فسرناه قبل. قال الداودي في قوله هذا: لا دليل على الفرق بين أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهن، من وجوب اعتراضهن بما يكون منهن من ذلك ولا يكتمه ؛ إذ لا يحل لنبي إمساك من يفعل ذلك، وأمر غيرهن بالستر. وليس كما قال، ولا في الحديث أمرها بالاعتراف، إنما قال لها:" استغفرى الله وتوبي "، وهذا فيما بينها وبين الله، وكذلك قوله:" فإن العبد إذا اعترف" ليس فيه تصريح بأمرها بالاعتراف له، وإنما هو بالاعتراف لله، كما قال.
وقوله:" فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب، تاب الله عليه "، قد مضى الكلام على التوبة، وقوله:" تاب الله عليه ": توبة الله على عباده: الرجوع بهم من المعصية إلى الطاعة، وهو بمعنى قوله:{ ثم تاب عليهم ليتوبوا }، ويكون قبول توبتهم ورضاه بها كما جاء في الحديث، وبمعنى ثبتها وأخلصها لهم. وقد يأتي بمعنى الرجوع بهم من التشديد إلى التخفيف، ومن الخطر إلى الإباحة لقوله:{ علم أن لن تحصوه فتاب عليكم }، أي خفف. ومعنى "قلص دمعى "، أي: ارتفع.
وقولها لأبيها وأمها:" أجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، فيه تقديم الكبير للكلام على الصغير في المهمات، وفي مخاطبة أهل الأمر والموقرين. وقولهما: "ما ندري "، إذا كان الأمر الذي سألتهما ما لا يقفان منه على زائد على ما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يأتيه الوحى، من حسن الظن بها والسير إلى الله تعالى.
وفيه: أنه لا يجب لأحد أن يعترف على نفسه بمالم يفعله، وأن علم أنه في إنكاره يكذب وفي إعترافه يصدق لقرينة تدل على ذلك، بل لا يجب أن يقول إلا الحق.
وقولها: حين تلت:{ فصبرجميل }، قيل: هو خبر عن مبتدأ محذوف دل عليه الكلام، أي فصبرى صبر جميل.(8/347)
وقولها:" فما رام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسه "، أي: ما برحه وما فارقه، والريم: البراح والنزول، يقال منه رام يريم، فأما من طلب الشيء فرام يروم.
وقولها في زينب:" وهي التي كانت تساميني "، أي: تعاندني وتضاهيني بجمالها أيضًا ومكانتها عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصله من السمو وهو الارتفاع. ورأيت بعض الشارحين فسره من سوم الخسف، وهو تجشيم الإنسان ما يكرهه ويشق عليه، كانه ذهمب إلى أن معناه: تغيظني وتؤذيني، ولا يصح هذا من جهة العربية أن يقال في فاعل منه سامى، إنما يقال فيه: ساوم.
وقولها:" وطفقت أختها حمنة تحازب لها " بالزاي، أي: تتعصب.
وقوله:" ما كشفت عن كنف أنثى قط "، بفتح النون، أي: ثوبها الذي يسترها، كناية عن الجماع. الكنف الستر.
وقوله عن بريرة:"حتى أسقطوا لها به "، كذا رواية الجلودي، وعن ابن ماهان: لهاتها بتاء باثنتين فوقها، وهو عند أكثرهم خطأ وتصحيف، وأن الصواب الأول. قيل: معناه: أي بينوا لها به، أي بالأمر، وصرحوا. وإلى هذا ذهب الوقشي وابن بطال قال: من قولهم: سقط على الخبر ؛ إذا علمه، أو من قولهم: فلان يساقط الحديث أي: يرويه ولها لما صرحوا لها به قالت: "سبحان الله ". وقال أبو مروان بن سراج:معناه: أتوا بسقط من القول في كثرة سؤالها وانتهارها، يقال:أسقط الرجل: إذا أتى بسقط من القول. قال غيره: ويقال سقط وأسقط في كلامه، أي اخطا. قال: وعلى رواية "اسقطوا لهاتها " أي أسكتوها.
وقولها:" وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي "، قيل:" كبره " معظم القصة، وقيل: الكبر: الإثم، وقيل: هو الكبيرة كالخطي والخطيئة.
وقوله:" فلما سري عني "، أي: كشف وأزيل.(8/348)
وفي هذا الحديث موضع كبير الإشكال لم يتكلم عليه الناس، نبهنا عنه بعض شيوخنا المعنيين بهذا الشأن، وباحثنا عنه غيره، وهو قولها:فقام سعد بن معاذ وقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله. وغزوة المريسغ التي وقعت فيها هذه القصة - وهي غزوة بنى المصطلق - سنة ست فيما ذكر ابن إسحاق، وسعد بن معاذ توفي بإثر غزوة الخندق من الرمية التي رمى بها فيه، وذلك سنة أربع بإجماع من أصحاب الخبر إلا شيئًا روي، قاله الواقدي مما نذكره، قال وكيف يصح على هذا ذكر سعد بن معاذ في الخبر ؟ قال: وذكره عندي وهم، والأشبه أنه غيره ؛ ولهذا لم يقله ابن إسحاق في السير، وإنما قال: إن المتكلم أولاً وآخرًا أسيد بن حضير.
وباحثت غيره عن ذلك من شيوخنا عن ذلك فقال لي: لم يصح ذكر سعد بن معاذ للاختلاف في تاريخ غزاة المريسيع، فإن ابن عتبة يقول: إنها سنة أربع في سنة غزوة الخندق. وقد ذكر البخاري اختلاف ابن إسحاق وابن عتبة في ذلك، وإن كان هذا فيحمل على غزوة المريسيع وحديث الإفك كان في سنة أربع قبل قصة الخندق وموت سعد بن معاذ.
ثم إنى بحثت عما لأصحاب السير والأخبار في ذلك، فوجدت الطبري ذكر عن الواقدي: أن المريسيع سنة خمس، قال: وكانت الخندق وقريظة بعدها. ووجدت القاضي إسماعيل قال: اختلف في ذلك، قال: والأولى أن تكون المريسيع قبلها - وهذا والله أعلم - بذكر سعد في قصة الإفك، وكانت في المريسيع، فعلى هذا يستقيم قول من قال: فيه سعد بن معاذ وهو الذي في الصحيحين إن شاء الله تعالى، ويكون قول غير ابن إسحاق أصح من قول ابن إسحاق لا سيما وقد كرر في الصحيح ذكر سعد بن معاذ في مراجعة أسيد بن حضير، فقال: وهو ابن عم سعد لينبه على نصرته لقوله قبل.(8/349)
وقوله: إن رجلاً كان يتهم بأم ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لعلي:" اذهب فاضرب عنقه "، الحديث، قال الإمام: الظاهر أن هذا الحديث فيه حذف بسط السبب، فلعله ثبت غده بالبينة ما أوجب قتله، فلما رأى علي كونه مجبوبًا أبقاه ليراجع النبي - عليه السلام - فيه، ولم يذكر ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي، ولو ذكر السبب / الموجب لقتله وجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي لعلم منه وجه الفقه، ولعل الرجل أيضًا كان منافقًا ممن يحل قتله، فيكون هذا السبب محركًا على قتله.
قال القاضي: قد نزه الله حرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ أن يثبت شيء من ذلك في جهتها، والخبر معلوم أنه كان قبطيًّا، وكان يتحدث إليها بحكم الجنسية فتكلم في ذلك، ولم يأت أنه أسلم، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاه عن التحدث إليها، فلما خالفه استحق بذلك القتل ؛ إما للمخالفة، أو لتأذي النبي - صلى الله عليه وسلم - بسببه، ومن آذى النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء ملعون كافر استحق القتل.(8/350)
ويحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم براءته، وكونه مجبوبًا، وأمر عليًّا بما أمره به لما ذكر له هو أو غيره خلوه ليتجلى أمره وترتفع تهمته. ويحتمل أنه كان قد أوحى إليه أنه لا يقتله، وينكشف له من حاله ما يبين أمره، وأنه في الركى متجردًا، إلا أنه أمره بقتله حقيقة، بل قال له ذلك وهو يعلم أنه لا يقتله لما تبين له من براءته كما قال في الحديث الآخر:" احث في أفواههم التراب "، وقد قالت عائشة له: ما أنت بفاعل، ففهمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرد ما قاله، بل على طريق التعجيز له، أي أنك لا تقدر على إسكاتهن ولا بذلك ولا يمكنك فعله. وقد ذكر أصحاب الأخبار أن المقوقس صاحب مصر أهدى للنبى مع مارية وأختها سيرين، أي: خصيًّا اسمه:" تابوا "، وأنه أسلم، كذا سماه محمد بن سعد، وقال غيره:" ماتوا "، والأول أثبت، فهو والله أعلم ذلك، وقد تقدم تفسير الركي، وهي: البئر.
*************
كتاب صفات المنافقين وأحكامهم(8/351)
وقوله:" لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله " أي يتفرقوا عنه، قال: وفي قراءة عبد الله بن حفص:" حوله "(1)، كذا في نسخ مسلم، وكذا قيدناه من طريق العذري عن الصدفي والأسدي بتنوين حفص، وخفض " حوله "، وكذا ذكره ابن أبي شيبة شيخ مسلم فيه في مصنفه بنحو منه. قال: وهي في قراءة مَن خفض " من حوله " نبه ابن أبي شيبة على أن روايته فيه، وكذا:"من " بالخفض لرفع الإشكال، ويرى مخالفة من رواه بالفتح، وكذا قيده بعض شيوخنا في "الترمذي": " من كان حوله "، وليست " كان " في روايتنا، وفي رواية ابن ماهان:" حوله "، بالفتح. قال بعض المتكلمين: معنى قوله:" من خفض "، أي: من انعطاف عليه وتحف به، كذا تقيدت عندي بخطي رواية ابن ماهان عن أبي بحر بالخاء، كما تقدم، وكان هذا التفسير له من قوله تعالى:{ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة }، وقيده غيرى عنه بالحاء المهملة، وعليه جاء بالتفسير المذكور من قولهم: خفضت العود: إذا حنيته وعطفته، وكذا وجدت هذا الحرف في كتب بعض شيوخنا لم يعجم الخاء، وفي بعض الروايات:"من خفض حوله"، وسقطت لفظة " خفض " من بعض النسيخ، وظاهره أن المراد زيادة " من حوله " في قراءة عبد الله بن مسعود على نص قول المنافقين، وأن لفظة: "خفض " هنا معجمة، لعله نبه هنا على ضبط " حوله " في الحاشية، فألحقت وهما ووجه إعرابها إذا أثبتت في الحديث: أن يكون " نحفض " فعل ماض، و " حوله " منصوباته وهو مخفوض في التلاوة أو خفض بالرفع على خبر المبتدأ، أي الكلمة خفض، و "حوله " بعده مخفوض، فصل بين الجار والمجرور بالتفسير بقوله: خفض. وفي رفع زيد بن ثابت قوله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - جواز
__________
(1) هو من كلام عبدالله بن أبي، ولم يقصد الراوي بسياقه التلاوة، وقوله: في قراءة عبدالله بن حفض: حوله...الخ غلط، وليس في المصاحف المتفق عليها:" من حوله " في الآية ؛ فيكون على سبيل البيان. انظر في ذلك فتح الباري (8/645).(8/352)
رفع الأمور المنكرة للحكام والأمراء، لاسيما بما يخشى عود مضرته على المسلمين.
وصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك عليه وإلباسه قميصه مبرة لابنه لصحة إيمانه. وقد بين مسلم فيما أتى به من الروايات أن ابنه كان سأله إعطاءه قميصه وأن لمجلى عليه، وأن ذلك كان قبل نزول النهي عن الصلاة على المنافقين، وقيل: بل كان قد البس العباس حين أسر ببدر قميصه، فكافأه النبي - صلى الله عليه وسلم - بما فعل. وما في الحديث أبين وأرفع للإشكال. وتقدم الكلام في تعرض عمر له. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنما خيرني الله وسأزيده على السبعين ".
وقوله: " قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم "، تنبيه على أن الفطنة قل ما تكون مع كثرة اللحم، والاتصاف بالسمن والشحم.
وقوله في المنافقين:" ثمانية منهم يكفيكهم الذبيلة "، ويروى:" تكفيهم "، وفي رواية ابن الحذاء والطبري:" تكفتهم " بتاء باثنتين فوقها بعد الفاء، وكذا ذكر هذا الحرف في هذا الحديث قاسم بن ثابت ومعناه: تميتهم وتغطيهم في قبورهم. وأصل الكفت: الستر والضم ومنه:{ ألم نجعل الأرض كفاتًا ( أحياءً وأمواتًا }، وفسر في الحديث " الدبيلة لا بسراج من نار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم، أي يظهر ويعلو. وقال ابن دريد: الدبيلة داء تجتمع في الجوف، ويقال فيه: الدبلة.
قوله:" من تسور ثنية الْمُرار، أو الْمِرار "، الثنية: الفرجة بين الجبلين، "وتسور، علاها، كما قال في الروايات الأخرى:" صعد ".
والقائل:" لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم "، قيل: هو الجد بن قيس المنافق. و " ينشد ضالته ": يطلبها ويرفع صوته بذلك.
وقوله: " نبذته الأرض على وجهها "، أي: طرحته. و" تركوه منبوذًا" أي: مطروحًا.
وقوله:" فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم "، أي: أهلكه، قال الله تعالى:{ وكم قصمنا من قرية }، أي: أهلكناها.(8/353)
وقوله:" هاجت ريح شديدة تكاد أن تدفن الراكب "، كذا الرواية فيه في جميع نسخ مسلم بالنون. قال بعض المتقنين: لعله " تدفق " بالقاف، أي تصبه وتلقيه. والدفق: الصب. وهذا تكلف في التفسير مع تفسير الرواية، والرواية صحيش المعنى. وكذا ذكرهما ابن أبي شيبة في كتابه كما قال مسلم، ويكون معناها: تذهب به وتغيبه عن الناس لقوتها، ومنه قوله: ناقة دفون: إذا كان تغيب عن الأكل، وعبد دفون: إذا كان يتغيب عن المصر ويأبق فيه.
وقوله: " المقفيين ": أي المنصرفين المولين أقفيتهما.
وقوله ذلك لرجلين من أصحابه، كما ذكر في الحديث، وقد وصف عذابهما يوم القيامة فسماهما من أصحابه لإظهارهما ذلك، وكونهما في جملة من يظهر الإيمان ويصحبه، كما قال في ابن أبي:" لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه "، لا أنه كان من أصحابه بالحقيقة من المهاجرين والأنصار. وقد روى مكان:" المقفيين " هذا " المنافقين ".
وقوله:" مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين "، قال الإمام: يريد: المترددة بينهما، لا تدرى لأيهما تتبع.
قال القاضي: ومعنى: " بين الغنمين، أي: القطيعين من الغنم.
وقوله: " تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة ": أي تتردد وتذهب، وعارت الدابة تعير: إذا انفلتت وذهبت.
وقوله في الحديث الآخر:" تكر في هذه مرة " / كذا في بعض الروايات، وعند العذري:" تكر " بكسر الكاف، وعند الفارسي: " تكير " بزيادة ياء باثتين تحتها، وعند ابن ماهان: " تكبن، بسكون الكاف، وباء بواحدة مرفوعة وآخره نون، وهذا الوجه هو الصواب في هذا الحرف إن شاء الله، وهو بمعنى " تعير " في الحديث الأول. قال صاحب العين:: الكبن: عدو لين، كبن يكبن كبونا. ولرواية العذري وجه بمعنى تعير أيضًا يقال: كر على الشيء وإليه: عطف عليه، وكر عنه: ذهب، والكسر في مستقبله أصل المضاعف غير المعدى. ولرواية الفارسي أيضًا وجه بمعناه، يقال: كار الفرس إذا جرى ورفع ذنبه عند جريه.(8/354)
وقوله:" لا يزن عند الله جناح بعوضة "، أي: لا يعدلها في القدر والمنزلة، أي لا قدر له.
وقوله:" جاء حبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، هو العالم، وكان إنما يستعمل حينئذ في علماء اليهود، يقال فيه بفتح الحاء وكسرها، وفيه: كعب الحبر، وكعب الأحبار. قال أبو عبيد: ولا أراه سمى إلا من الحبر الذي يكتب به ؛ لأنه كان صاحب / كتب، وكان أبو الهيثم ينكر فيه الكسر ويقول: هو حبر بفتح الحاء لا غير. ونحوه لابن قتيبة. قال ابن الأنباري: العرب تقول: حبر وحبر، إذا كان عالِمًا.
وقوله:" إن الله يمسك السموات على إصبعين والأرضين على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك. وضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - تعجبًا من قول الحبر "، ويروى: " فعجبنا مما قال الحبر "، ثم قرأ:{ وما قدروا الله حق قدره } الآية. زاد في الرواية الأخرى:" تعجبًا لما قال تصديقًا له ".
قال الإمام: تقدم القول في بيان المراد بالإصبع في حديث سبق، وأنه يراد به معنى الاقتدار، وأنه قد يراد به معنى الغمة. وهذا الحديث قد يراد به أن الله خلق السموات على عظمها مقتدرا عليها من غير أن يمسه تعب ولغوب، وكما أن الإنسان مما لا يشق عليه ولا يتعبه ما يصرفه على إصبعه، والناس يذكرون الإصبع في مثل هذه المعانى احتقارا ويقولون: بإصبع واحد قتلتك، أو أفعل كذا وكذا. وقد يراد هاهنا هذا المعنى: أن الله سبحانه لم يتعبه خلق ما ذكر ولا شق عليه على عظم مخلوقاته هذه. وقد قال بعض خلق ما ذكر ولا سبق عليه الناس م قد يكون بعض المخلوقات اسمه أصبع. وقال بعضهم: يحتمل أن يراد اصبع بعض خلقه، وهذا غير مستنكر في قدرة الله سبحانه والغرض إبطال أن يكون لله سبحانه أصبع الجارحة لإحالة العقل له، ثم بعد هذا يتأول على ما يجوز وقد رأينا طرفًا من التأويل.(8/355)
قال القاضي: ذهب بعض المتكلمين أن ضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعجبه وتلاوته الآية ليس على معنى تصديق قول الحبر، بل رد عليه إنكار وتعجب من سوء اعتقاده أن مذهب اليهود التجسيم، وأنه فهم منه ذلك، وأن الأرضين والسموات احتاجت لما يعتمد عليه من هذه الأصابع التي ذكر الحبر، واستقصى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك منه، وأنها كانت قبل بغير عمد، كما قال الله تعالى، وكما قال:{ إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا }، ثم جاءت الآية التي ظاهرها خلاف ما قال الحبر من ذكر الأصابع وتفضيل المخلوقات في الاعتماد عليها بقوله:{ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه }، وأن مفهوم هذه الآية أعظم في القدرة وأليق بالتنزيه مما ذكر الحبر.
وقوله:" تصديقًا لما ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو من كلام الراوي، وقد يكون تصديقه الذي فهم الراوي في عظيم قدرة الله على ذلك.
وقوله:" أنا الملك، أنا الجبار، أين المتكبرين "، ورد عليه بقية قوله بتلاوة الآية، قوله:{ وما قدروا الله حق قدره }، وإلى نحو من / هذا نحا المهلب، ولعمري أن ترجمة البخاري على الحديث:{ إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا }؛ تشير إليه.
وقوله:" يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوى السموات بيمينه "، وفي الحديث الآخر:" يطوى الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيمينه " إلى قوله:" ثم يطوى الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك " الحديث.(8/356)
وقوله:" كأني، أنظر إلى عبد الله بن عمر يحكي النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: يأخذ الله سمواته وأرضه بيديه، ويقول: أنا الملك - ويقبض أصابعه ويبسطها - أنا الملك، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه " الحديث. يجب أولاً أن يعلم أن المراد بقوله هنا:" ويقبض أصابعه ويبسطها " النبي - عليه السلام - ويرتفع كثر الإشكال وهو بين. ألا تراه كيف قال: عن ابن عمر يحكي النبي - صلى الله عليه وسلم -، يعني في فعله هنا، لكن يبقى في معنى هذا القبض والبسط والإشارة بذلك إشكال سنذكره.(8/357)
قال الإمام: تقدم القول في ذكر اليد، واختلاف الأصوليين في إثباتها بمعنى الصفة لا بمعنى الجارحة، وتنازعهم في مقتضى قوله تعالى:{ لما خلقت بيدي }، وذكر تأويل ما وقع في ذكر اليد في حديث قبل هذا، ولكن لما ذكر هاهنا اليمين والشمال كان آكد في إبهام الجارحة فإذا أثبت استحالة يد الجارحة عليه ووصفه باليمين والشمال، فلا بد من حمل هذا على ما يجوز. وأمثل ما يتأول عليه عندي أن الله سبحانه أراد أنه يطوى السموات والأرض بقدرته وكنى عن ذلك بذكر اليد ؛ لأن بها فعلنا نحن وبها تصرفنا، فخاطب بما يفهم وبما خرج إلى الحس والوجود ؛ ليكون المعنى آوكد وأرسخ في نفس السامع وذكر اليمين والشمال حتى يورد المثال على كماله ولما علم أنا نحن نتناول ما يكرم باليمين وما دونه بالشمال، وأنا نقوى بأيماننا على أشياء لا نقوى عليها بشمائلنا، وكانت السموات أعظم بما لا يتقارب ولا يتدانى من الأرضين، أضاف فعله فيها إلى اليمين، وفعله في الأرض إلى الشمال على حسب ما قلناه من انا نحاول الأصعب باليمين والأخف بالشمال ؛ وإن كان سبحانه ليس شيء أخف عليه من شيء ولا شيء أصعب من شيء، ولكنه تعالى خاطبنا بما نفهم. ولما ذكر اليد تمثيلاً أتم المعنى على التمثيل بعينه، ولا يبعد أن يكون في السموات ما هو أفضل من الأرض وكل ما فيها، لاسيما إذا قلنا بتفضيل الملانكة على ما تقدم، وذكر الخلاف فيه أن يكون الباري سبحانه يفضل السموات لأمور تخفى عنا، فيكون أضافها إلى اليمس لما قلناه من اختصاص اليمين بالأشرف والشمال بما دونها، وجرى في ذلك على حكم التمثيل الذي به افتتح فختم عليه، وهو / الذي ظهر لي من هذا الحديث.(8/358)
قال القاضي: اعلم أنه جاء في هذا الحديث باختلاف رواياته ثلاثة ألفاظ: " يقبض " و " يطوي " و " يأخذ "، والطي والقبض راجعان إلى معنى الجمع، وكلها بمعنى الجمع ؛ لأن السموات مبسوطة والأرض مدحوة ممدودة، وهما راجعان إلى معنى اللفظ الآخر، ثم يرجع ذلك إلى معنى الرفع والزوال، وتبديل الأرض غير الأرض والسموات، فعاد كل ذلك إلى ضمها بعضها إلى البعض ورفعها وإبادتها وتبديلها بغيرها.
وقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - أصابعه بعد وبسطها، تمثيلاً لصفة قبض هذه المخلوقات وجمعها بعد بسطها، وحكاية للمقبوض والمبسوط التي هي السموات والأرض لا عن القبض والبسط الذي هو صفة القابض الباسط لا إله غيره، ولا تمثيلاً لصفة الله السمعية المسماة باليد، التي ليست بجارحة ولا عضو ولا لها كيفية. قيل: وقد يكون بسط النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصابعه وقبضها إشارة إلى الاسثيعاب والكلية لجميع السموات والأرضين ببسط اليد كلها وجمعها، كما يشير الإنسان بذلك إلى نفسه لجمع الشيء.(8/359)
وقوله في المنبر: " يتحرك من أسفل شيء منه "، أي: من أسفله إلى أعلاه، إذ بحركة الأسفل يتحرك الأعلى. وأما حركة المنبر تحته فيحتمل أن تكون لحركة النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقه بهذه الإشارة، ويحتمل أن يكون تحرك من ذاته لحركته - عليه السلام - مساعدًا للنبى - صلى الله عليه وسلم - في حركته - عليه السلام - وهيبته لما يسمع من عظمة الله تعالى كما حن له الجذع، فيكون من جملة علامات نبوته وآياته، والله أعلم بمراد نبيه فيما ورد من هذه الأحاديث من مشكل. نؤمن بالله وصفاته ولا يشبه شيء به، ولا يشبه هو شيء سواه،{ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }، وما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك وثبت عنه حق وصدق، فما أدركنا علمه فبفضل الله، وما عمى علينا من ذلك آمنا به، ووكلنا علمه إليه والى رسوله، وحملنا لفظه ما احتمل في اللسان الذي بعثه الله به ليبين للناس ما أنزل إليهم، ولم نقطع على مغيبه بعد تنزيهه تعالى عما لا يليق به من ظاهره.
وقوله:" خلق الله التربة يوم السبت "، الحديث، وفيه: " وخلق النور يوم الأربعاء"، كذا رويناه في كتاب أبي عبد الله الحاكم ، وعند بعض رواة مسلم فيه في الكتاب "النون " بالنون مكان الراء، يعني: الحوت. رويناه أيضًا في كتاب ثابت عن النسائي وفي رواية أخرى: " البحور " مكان النون، وفي هذا الحديث أيضًا في "الأم":" وخلق المكروه يوم الثلاثاء "، والذي في كتاب ثابت من رواية النسائي: " وخلق الفتن يوم الثلاثاء "، قال ثابت: وهو ما يقوم به المعاش ويصلح به التدبير كالحديد وغيره من جواهر الأرض، وكل شيء يقوم به صلاح شيء فهو تقنة، ومنه: إتقان الشيء:إحكامه.
وقوله:" يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء " ممدودان: أي بيضاء إلى حمرة. والعفر: بياض يضرب إلى الحمرة قليلا، ومنه سمى عفر الأرض، وهو وجهها ؛ لأنه بذلك اللون.(8/360)
وقوله: " كقرصة النقي" بكسر القا ف، يعني: الحواري، وهو الدرمك، ويكون تشبيه لونها بها وهي عفراء ؛ لما غيرت النار من بياض وجهها إلى الحمرة، والله أعلم.
وقوله: " ليس فيها علم لأحد ": أي علامة سكنى أو بناء أو أثر.
وقوله: " تكون الأرض خبزة واحدة "، إلى قوله: " نزلاً لأهل الجنة "، النزل، بضم النون والزاي: ما يعد للقوم من غداء حين ينزلون عليه، قال الله تعالى:{ فنزل من حميم }، أي فغداؤه. وقوله:{ نزلاً من عند الله }، قيل: ثواب، وقيل: رزق، و { نزلهم يوم الدين }، قيل: طعامهم. وقوله: " يتكفؤها الجبار بيديه، كما يتكفؤ أحدكم خبزته "، أي: يقلبها بقدرته. وقول اليهودي:" إدامهم بالام ونون، قالوا: وما هما ؟ قال: ثور ونون، يأكل من زيادة كبدهما - ويروى: زائدة كبدهما - سبعون ألفًا "، قال الإمام: ذكر الخطابي أن "النون " هو الحوت، على وفاق ما فسر في الحديث، وأن " بالام " يدل جواب اليهودي على أنه اسم للثور. قال: ولعل اليهودي أراد التعمية، فقطع الهجاء وقدم أحد الحرفين، وإنما الرتبة لام ياء هجاء لأى على وزن لعاى، أي ثور، ويقال للثور الوحشي: اللأى، فصحف الراوي فقال: بالام، وإانما هو بياء لام بحرف العلة. هذا أقرب ما يقع لي فيه، إلا أن يكون إنما عبر عنه بلسانه، ويكون ذلك في لسانهم يلا، وأكثر العبرانية فيما يقولون مقلوب على لسان العرب بتقديم الحروف وتأخيرها، وقد قيل: إن العبران هو العربان، فقدموا الياء وأخروا الراء.(8/361)
قال القاضي: وجدت أبا عبد الله بن أبي نصر الحافظ ذكر هذا الحديث في اختصاره الصحيح، وقال فيه: باللأى والنون / بباء الإلزاق مكسورة ولام مشددة على وزن الرحى، واللأى: الثور الوحشى في لسان العرب، ولم أر أحدا رواه كذا، ولعله إصلاح ممن ظنه مصحفا، لراذا كان هذا فقد بقيت لنا الميم زائدة من بلام، إلا أن يقول أيضًا: إنها تصحيف، صحفت من الياء المقصورة. وهذا إن لم يصح رواية. وما قاله الخطابي مع ما فيه من التحكم والتكبف غير مسلم، لأن هجاء اللأى لام ألف وياء لا لام باء كما قال، وأولى ما يقال في ذلك: أن نقر الكلمة على وجهها، وتكون كلمة عبرانية، ألا ترى كيف سالوا اليهودي عن تفسيرها، ولو كانت كما رواها ذاك باللأى لكان من لغة العرب ولعرفه الصحابة، ولم يحتاجوا إلى تفسير اليهودي. وزيادة الكبد وزائدته: القطعة المنفردة المتعلقة منه، وهي أطيبه ؛ لهذا - والله أعلم - خص السبعين ألفًا بأكلها من بين سائر أهل الجنة، ولعلهم السبعون ألفًا الذين ورد في الحديث أنهم أول من يدخل الجنة، ففضلوا بأطيب النزول، ويحتمل أنه عبر بالسبعين ألفًا عن العدد الكثير ولم يرد حصر العدد، كما قيل في قوله:{ إلى مائة ألف أو يزيدون }، وكما يقول القائل: جئتك ألف مرة ؛ لتكثير مجيئه إليه.
وقوله:" سلوه عن الروح، فقال: ما رابكم إليه ؛ لا يستقبلكم بشيء تكرهونه "، كذا الروايه. قال الوقشي: وجه الكلام: ما أربكم إليه، أي ما حاجتكم.(8/362)
قال القاضي: الرواية إن شاء الله صحيحة، أي ما دعاكم إلى غير ما ذلك وخوفكم أو شككم في أمره، حتى تحتاجوا إليه ط لي سؤاله، أو ما دعاكم إلى ما تكرهونه. والريب: ما رابك وأوهمك من شيء تتخوف عقباه، ومنه قوله في فاطمة:"يريبنى ما رابها ". يقال: رابني الرجل إذا تحققت ريبته، وأرابني: إذا توهمت ريبته. وقال ثعلب: أراب الرجل: إذا جاء بريبة، ورد ذلك عليه على بن سمزة بما تقدم وهو مذهب أبي زيد. وأما الفراء فقال: هما بمعنى لغتان صحيحتان في التهمة.
وقوله:" وهو متكئ على عسيب "، معتمدًا على جريدة نخل كالاعتماد على العصا ونحوه.
وقوله: فلما نزل الوحي، قال:{ ويسألونك عن الروح } الأية. رواية السمرقندي:{ وما أوتيتم } على نص التلاوة. وللعذري والطبري والسجزي:" وما أوتوا " كذا في حديث ابن غياث، وقد ذكر مسلم الاختلاف في ذلك في حديث ابن أبي شيبة وإسحاق، ولم يقرأ بهذه القراءة في السبع. وكذا جاء في هذا الكتاب: فلما نزل الوحي قال. وكذا في البخاري في أكثر أبوابه / قيل: وهو وهم وصوابه ما تقدم قبل من رواية ابن ماهان في باب صفة نزول الوحي:" فلما تجلى عنه "، وكذا رواه البخاري في موضع، وفي موضع:" فلما صعد الوحي "، وهذا كله وجه الكلام لأنه قد ذكر قبل نزول الوحي عليه، وقد ذكرنا الخلاف في هذا اللفظ ومعانيه هناك.(8/363)
قال الإمام: الكلام في النفس والروح مما يغمض ويدق، ولكنه مع هذا أكثر الناس الكلام فيه حتى ألف بعضم فيه التواليف، ولكن مشاهير المقالات في الروح قول أبي الحسن الأشعري: إنه النفس الداخل والخارج، والقاضي أبو بكر بن الطيب يراه مما يتردد بين هذا الذي قاله أبو الحسن الأشعري وبين الحياة، وبعض الناس يرى أنه جسم مشارك للأجسام الظاهرة والأعضاء الظاهرة، وذهب بعض المتحملين من أئمتنا إلى أن الأظهر فيه أنه جسم لطيف، خلقه الله سبحانه وأجريت العادة بأن الحياة لا تكون مع فقده، وإذا شاء موت إنسان أعدم هذا الجسم منه عند إعدام الحياة، وهذا الجسم إن كان حيًّا فلا يحيا إلا بحياة يختص به أيضًا، وهو مما يصح القبض إليه والبلوغ إلى مكان ما من الجسم. وكونه في مكان في العالم أو حواصل الطير إلى غير ذلك مما وقع في الظواهر، ويصح في العقل صرف ما أشرنا إليه من الظواهر إلى غيره من جواهر القلب أو الجسم الحية، والمسألة تحتمل الاتساع الكثير، وإنما ذكرنا في هذا الموضع ما يليق به.
وأما قوله: " فأسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - "، يقال: سكت سكوتًا، وأسكت عنه: أعرض عنه. وقد تكلمنا في النفس والروح قبل هذا. وقد اختلف المفسرون في معنى الروح المذكور في "الأم"، فقيل: إنهم إنما سألوه عن عيسى، فقال لهم: الروح من أمر الله، أي إنما هو شيء أمر الله به وخلقه، لا كما تقول النصارى. وكان ابن عباس يكتم تفسير الروح، وعن ابن عباس وعلى: هو ملك من الملائكة، وقيل هو جبريل، وقيل: الروح: القرآن، وقيل: خلق كخلق بني آدم، وقال بعض العلماء: علم الله أن الأصلح لهم ألا يخبرهم ما هو ؛ لأن اليهود قالوا: إن فسر الروح فليس بنبي.
وقوله:" هل يعفر محمد وجهه "، أي: يسجد ويلصقه بالعفر، وهو التراب. وقوله:" لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن رقبته ولأعفرن وجهه "، أي: لألطخنه بالتراب وأمسكنه فيه.(8/364)
وقوله:" فما فجئهم منه "، أي: بغتهم، يقال: فجأ الأمر وفجئ بفتح الجيم وكسرها، أي: أتى بغتة وعلى غير استعداد له.
وقوله:" وهو ينكص على عقبيه "، أي: يرجع وراءه القهقري كما ذكر في الحديث: أنه راه من الهول والخندق والنار والأجنحة التي ضربت بينهما.
وقول النبي:" لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا "، هذا من جملة آياته - عليه السلام - وعلامات نبوته ؛ ولهذا الحديث أمثلة كثيرة في عصمته من أبي جهل وغيره ممن أراد ضره، وحماية الله له بما ذكر، وتلك الأجنحة أجنحة الملائكة، والله أعلم.
وقوله: فلما رأى من الناس إدبارًا قال:" اللهم سبع كسبع يوسف "، فأخذتهم سنة، السنة: الشدة والجدب، كما قال في الحديث الآخر: "فأصابهم قحط وجهد"، قال الله تعالى:{ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين}.
وقوله:" حصَّت كل شيء "، أي: استأصلته. والحص: الحلق ؛ ولذلك تسمى أيضًا: الحا لقة.
وقوله:" فقال له رجل: يارسول الله ! استغفر لمضر "، كذا هنا في جميع النسخ، ورواه البخاري:" استسقي الله "، قيل: وهو الصواب والأليق بالحال.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:" لمضر ؟ إنك لجريء "، على طريق التقرير والتعريف له بكفرها، واستعظام ما سأله لهم من استغفار الله لهم أو استسقائه، وهو عدو الدين وأهله. وقد يصح على هذا عندي قول مسلم:" استغفر الله" وأن إنكاره إنما كان للاستغفار الذي سأله الكفار ؛ بدليل أنه عدل عنه إلى الدعاء لهم بالسقيا، ولو كان استعظامه إنما هو لسؤاله السقيا لما استسقى لهم.
وقوله:" مضت آية الدخان، والبطشة، واللزام، وآية الروم "، وفسرها في "الأم":" إلا اللزام "، واللزام هو قوله تعالى:{ فسوف يكون لزامًا }. قال ابن مسعود وغيره من أهل التفسير: هو ما حل بهم يوم بدر. قيل: الموت، وقيل: القتال، وهي البطشة الكبرى أيضًا.(8/365)
وذكر مسلم في باب انشقاق القمر حديث عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، وحديثه عن الأعمس، عن مجاهد. ثم ذكر حديث غندر وابن أبي عدي قال: كلاهما عن شعبة بإسناد ابن معاذ. كذا لكافة شيوخنا، وعند الطبري: بإسناد معاذ، وهو أشبه بالصحة لأنه ذكر لمعاذ بن معاذ عن شعبة السندين المتقدمين، والله أعلم.
قال القاضي: آية انشقاق القمر من أمهات آيات نبينا - صلى الله عليه وسلم - ومعجزاته، وقد رواها عدة من الصحابة، وظاهر الآية أيضًا وسياقها، وما بعدها من تمادى قريش على التكذيب، يشهد بصحتها لقوله:{ اقتربت الساعة وانشق القمر ( وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر }.
/قال أبو إسحاق الزجاج: وقد أنكرها بعض أهل البدع، وضاهى في ذلك مخالفي الملة، وذلك لما أعمى الله قلبه، ولا إنكار للعقل في جهتها ؛ إذ هو خلق من خلق الله، يفعل به ما يشاء، كما يفنيه ويكوره آخر أمره. وإنما أنكرها مخالفو الملة لوجهين: أما المنجمون وأصحاب التدبير والفضاء فضلالهم: أن الدراري مدبرة العالم والفاعلة فيه، وأن تغيرها في هيئتها عندهم لا يصح إلا بفناء العالم، على خلاف بينهم: هل يمكن في العقل إيجاد هينة أخرى خلات هذه الهيئة لتدبير العالم، أو لا يصح وجود سواها، مما طال خطبهم به وضلالهم فيه ؛ لنفى أكثرهم الصانع القديم، ومن أثبته منهم بالصنع عندهم لغيره. ولا حاجة بنا إلى بسط مقالاتهم واختلافهم في ذلك وهذيانهم الذي يحسبونه واتباعهم الحق والبرهان، وهو الخيالات والهذيان مما هو ضد الحق. وعقيدة أهل الإيمان أن المدبر الخالق هو الله منشئ هذا كله، والمفتى له إذا شاء، الغنى في جميع ذلك لا عن واسطة وتدببر ظهير وتسبب مسبب سوى إرادته وقدرته، لا مرد لحكمه.(8/366)
وأما من سواهم من أهل الملل ومن أضله الله تعالى، فبقولهم: إن هذا لو كان لم يخف على أهل الدنيا، ولنقل نقلاً من جميع الأقطار واستوى من معرفته أهل الهند والصين ولم يختص به طائفة من أهل مكة. وهو أيضًا لا حجة فيه ؛ فإن آيات الله تحدث وأكثر الناس نيام والأبواب موجفة. والناس متغشون ثيابهم، وقل من يبصرها إلا الشاذ والراصد لها. وكثيرًا ما تحدث كسوفات القمر الكليات وغيرها، وعجائب من أنوار طوالع وشهب عظام، وآيات في السماء تظهر بالليل، فيتحدث بها الواحد والاثنان ممن رآها، ولا علم عند غيرهم منها لما ذكرناه. وهذه كانت آية بليل لقوم اشترطوها وسألوها، لم يهتبل غيرهم بها، وقد يكون القمر حينئذ في بعض المجاري والمنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض، كما يكون ظاهرًا لقوم غائبًا عن آخر، أو كما يجد أهل بلد الكسوف في الشمس والقمر ولا يجده غيرهم، ويكون عند بعضهم كليًّا وعند بعضهم بخلافه، كل ذلك بحسب القرب والبعد وارتفاع الدرج وانخفاضها في الطول عن خط الاستواء والعرض.
وقوله:" لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل، إنه يشرك به، ويجعل له الولد، ثم هو يعافيهم ويرزقهم "، قال الإمام: المراد بهذا: أن الله واسع الحلم على الكافر الذي يضيف إليه الولد. والصبر: منع النفس من التشفي والانتقام، أو منعها من غير ذلك. فلما كان الامتناع نتيجة الصبر عبر عن ترك الباري سبحانه الانتقام بهذه العبارة، وجرى الأمر في ذلك على حسب ما بيناه قبل.
قال القاضي: والصبور من أسماء الله عز وجل، وهو الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام / وهو بمعنى الحليم في أسمائه أيضًا تعالى، إلا أن الفرق بينهما أن الصبور يخشى عاقبة أخذه، والحليم هو العفو الصفوح مع القدرة على الانتقام. وهذا الفرق بين الصبر والحلم، وقد بين في هذا الحديث معنى قوله: " أصبر على أذى " ببقية الحديث.(8/367)
وقوله:" يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابًا ؛ لو كانت لك الدنيا "، إلى قوله:" قد أردت منك أهون من ذلك وأنت في صلب آدم ؛ ألا تشرك، فأبيت إلا الشرك "، هذا تنبيه على ما جاء في قوله:{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا }، فهذا المثياق الذي أخذ عليهم في صلب آدم، فمن وفَّى به بعد وجوده في الدنيا فهو مؤمن، ومن لم يف به فهو الكافر. ومراد الحديث والله أعلم ونبيه: قد أردت منك هذا وأنت في صلب آدم: ألا تشرك بي حين أخذت عليك ذلك الميثاق، فأبيت إذ أخرجتك إلى الدنيا إلا الشريك.
قال الإمام: مذهب أهل الحق أن الله سبحانه أراد إيمان المؤمن وكفر الكافر، ولم يرد من الكافر الإيمان فامتنع عليه، ولو أراده عندنا لم يكن كافرًا. والمعتزلة تخالف في هذا الموضع، وترى: أن الله سبحانه أراد من الجميع الإيمان، فاستحب الكافر العمى على الهدى وأبي إلا الشرك، اغترارًا منها برد الغانب إلى الشاهد من غير جامع ولا رابط. وقد ثبت في المشاهد أن من يريد السفه والشر منا سفيه شرير. قالوا: فلما كان الكفر سفهًا وشرًّا لم يصح أن يريده الباري سبحانه. وأخطؤوا في هذا الاستدلال في مواضع:
منها: أن الكفر سفه وشر في حقنا وفي حق من لم يكلف لا في حق الباري سبحانه.
ومنها: أن مريد السفه والشر إنما كان سفيها لنهي الله سبحانه له ألا يريد السفه والشر، والباري سبحانه لا أحد فوقه ينهاه ويأمره، فلم يصح أن يقاس علينا في هذا. ومنها: أن المريد منا يفعل ما إذا لم يحصل له ما أراد فإن ذلك يؤذن بعجزه وضعفه، فهلاّ قالوا: إن الباري سبحانه إذا أراد من الكافر الإيمان فلم يؤمن آذن ذلك بضعفه وعجزه، كما قالوا: إن مريد السفه لسفهه منا سفيه فلو أراده الباري لكان سفهًا، تعالى الله عن ذلك، وهذا يوضح لك فساد ما بنوا عليه.(8/368)
وهذا الحديث إن تعلق به بعضهم في تصحيح المذهب الذي حكيناه عنهم، وقال: قد أخبر النبي في هاهنا في الصحيح ان الله تعالى يقول للكافر: " أردت منك ألا تشرك، وأبيت إلا الشرك " قلنا: هذا خبر الواحد، والمسألة مسألة أصل، ومع هذا،، فإنه قد يصح أن يراد به ما أخذ من العهد على الخليقة، وهم في صلب آدم ؛ ولهذا قال: "أردت منك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم.
قال القاضي: وقوله:" يؤتى بأنعم أهل الدنيا، فيصبغ في النار صبغة " أي: يغمس ويغرق.
وقوله:" وأما الكافر فيعطى بحسنات ما عمل في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها"، كذا روايتنا فيه من طريق ابن ماهان، وعند كافتهم: " وأما الكافر فيطعن بحسنات ما عمل، وكلتا الروايتين متقاربة. قال الإمام: قد تقدم الكلام على ما يقع من الكافر في حال كفره من حسنات وسيئات. ومذهب المحققين أنه غير عارف بالله سبحانه وأن بعض الناس ذهب إلى أنه يخفف عنه من العذاب لأجل ما قدم من حسنات.
وقوله:" فإذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها "، يشير إلى أنه لا منفعة له في الآخرة أصلاً بما عمل من ذلك، ومحمل قوله: " بحسنات ما عمل لله بها " عند من قال: إنه لا يعرف الله أصلاً، على معنى أنه يعتقد أنه يعمل لله، وإن كان اعتقاده ليس بعلم ولا معرفة لله سبحانه.
قال القاضي: والأصل أن الكافر لا يجزى في الآخرة على خير عمله في الدنيا، ولا يكتب له حسنة ؛ لأن شرط الثواب والجزاء عدم وهو الإيمان، لكن أخبر في هذا الحديث أنه من عدل الله أنه قد جازاه بها في الدنيا بما أعطاه ورزقه وأطعمه بخلاف المؤمن الذي يدخر له حسناته في الآخرة.
قوله:" مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع "، قال الإمام: يعني الغضة الرطبة.
وقوله:"حتى تهيج "، أي: تجف، يقال: هاج الزرع هيجًا: إذا يبس.(8/369)
قوله:" مثل المنافق مثل الأرزة المجذية "، قال أبو عبيد: الأرزة، بفتح الألف وتسكين الراء: شجر معروف بالشام، وتسمى بالعراق: الصنوبر، وإنما الصنوبر ثمر الأرز، فسمي الشجر صنوبرًا من أجل ثمره، والمجذية: الثابتة في الأرض، يقال: جذت تجذي، وأجذت تجذى. والانجعاف: الانقلاع، يقال: جعفت الرجل: إذا صرعته. قال أبو عبيد: شبه المؤمن بالخامة التي تميلها الرياح ؛ لأنه مر!أ في نفسه وأهله وماله، وأما الكافر فمثل الأرزة التي لا تميلها الرياح، والكافر لا يرزأ شيئًا حتى يموت، وإن رزى لم يؤجر عليه، فشبه موته بالانجعاف تلك، حتى يلقى الله بذنوب جمة.
قال القاضي: قال بعضهم: الخامة: الزرع أول ما ينبت، ومعنى: " تفيئها الريح " بضم التاء: أي تميلها وتثنيها، كما قال في الحديث الأخر: "تميله ".
وقوله:/" تصرعها مرة وتعدلها مرة "، أي: بمعنى ما تقدم، أي تثنيها حتى تكاد تلصقها بالأرض أو يلصقها كمن صرع بالأرض، ثم تعدلها، أي تفيمها فتعتدل قائمة على سوقه.
وقوله في الحديث الآخر:" حتى تستحصد إلى الزرع "، مثل " ينجعف " في الرواية الأخرى، كذا ضبطناه بفتح التاء وكسر الصاد عن أكثرهم، وضبطه بعض شيوخنا على ما لم يسم فاعله، والأول أوجه.(8/370)
وقوله: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وأنها مثل المسلم فحدثوني ما هي ؟" فيه إلقاء العالم المسألة على أصحابه ليختبر قدر أفهامهم وفيه ضرب الأمثال والأشباه. وفيه فضل الشجر والثمر الذي لا يسقط ورقه. ويشبهها بالمسلم لكثرة خيرها، ودوام ظلها، وطيب ثمرها ووجوده على الدوام. وأما في رؤوسها فمن حيهن تطلع إلى أن تيبس تؤكل أنواعًا، ثم بعد هو مما يدخر فلا ينقطع نفعها، قال الله تعالى:{ كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها }، ثم في جميعها منافع من استعمال جذوعها في البناء والآلات، وجرائدها حطبًا وعصيًّا ومخاصر ومشاجب وحصرًا. واستعمال ليفها حبالاً وخطمًا وحشو الوسائد والمرافق والبراذع وغير ذلك، واستعمال خوصها مكاتل وحبالاً وحصرًا، ثم في جمال بنائها واعتدال قيامها واستدارة جذوعها وثمرها، ثم تؤكل رطبة وجمارة، فهي منفعة كلها وخير وجمال، وهذا أولى الوجوه.
كما أن المؤمن منفعة كله، وخير كله ؛ لاتصافه بأفعال الخير ؛ من المواظبة على الصلوات كل يوم وليلة. وقيل: بل شبهها بالمؤمن لأنها متى قطع رأسها ماتت، بخلاف سائر الشجر. قيل: بل لأنها لا تحمل حتى تلقح ولذلك سماها في الحديث عمة، فقالوا:" الزموا عمتكم ". وقيل: لأن أحوالها من حين تطلع إلى تمام ثمرها عشرة، كما أن أحوال المؤمن من التوبة إلى المعرفة عشرة: التوبة، ثم الصلاح، ثم الاجتهاد، ثم الخوف، ثم الرجاء، ثم الإرادة، ثم الاستقامة، ثم المحبة، ثم الرضى، ثم المعرفة. وثمر النخل عشرة: طلع، ثم إغريض، ثم بلح، ثم سياب، ثم جرال، ثم بسر، ثم زهو، ثم ثعد،ثم رطب، ثم تمر.(8/371)
وقد ظن بعض من لم يتفهم له المراد أنما خص النخلة هنا بكونها لا تسقط ورقها، وقال: إنما خصها بذلك من بين شجر البوادي الذي ذكروا ؛ لأن ورقها لا يسقط إن قطعت جذوعها، بخلاف غيرها مما لا يسقط ورقه من الثمار ؛ ولأنه متى قطع ويبس تناثر ورقه. والنبي - عليه السلام - لم يخصها من الصفات بترك سقوط الورق التي يشاركها فيه غيرها فقط، بل لصفات أخر فيها، ذلك من الفضائل المذكورة، وفضل عدم سقوط الورق دوام / الظل. وقد جاء في الأحاديث الأخر صفات أخرى لها، من قوله:" تؤتي أكلها " وغير ذلك.
وقوله:" لا يتحات ورقها "، أي: لا يتناثر ويتساقط. وأصل الحت: القشر.
وقوله:" فوقع الناس في شجر البوادي"، أي ذهبت فكرهم واختياراتهم إلى ذلك، واعتمدت عليه، كما يقال: وقع الطائر على غصن الشجرة: إذا نزل عليها.
وقوله:" فأتي بجمار "، هو رخص طلع النخل وما يؤكل من قلبه.
وقوله في حديث ابن أبي شيبة:" لا يتحات ورقها "، قال إبراهيم: لعل مسلمًا قال:" وتؤتي "، وكذا وجدت عند غيرى أيضًا: " ولا تؤتي أكلها كل حين ".
قال القاضي: يريد إبراهيم وهو ابن سفيان، رواه مسلم أنه وجد في كتابه وعند غيره أيضًا عن مسلم: " لا يتحات ورقها، ولا تؤتي". فقال هو: لعل مسلمًا قال:" وتؤتي".
قال القاضي: تأويل إبراهيم غير صحيح، وما في أصل مسلم هو الصحيح. وإثبات "ولا" صحيح. وقد رواه البخاري كذلك، بل بائن لذوي الألباب، وأشكل للبله الأغفال. فقال: " لا تتحات ورقها، ولا تؤتي أكلها ". فتؤتي ابتداء كلام ليس منفيًّا بـ"لا" الذي قبله، وإنما نفى في الحديث أشياء أخر من العيوب عنها، فاختصره الراوي بقوله: " ولا " ولا شاء ذكرها ونسيها الراوي، والله أعلم. أو اختصر من أنه لا يقطع ثمرها ولا ينعدم ظلها وشبه هذا، ثم وصفها بأنها تؤتي أكلها كل حين.(8/372)
وقول ابن عمر:" فألقى في نفسي أو روعي أنها النخلة "، الروع: بمعنى النفس والخلد والقلب وشبهه. وقيل: الروع، بالضم: محل الروع بالفتح، وهو الفزع. وقوله: " وأرى أسنان القوم فاهابه لا: يريد المشيخة ذوى الأسنان، أي الأعمار. كذا لابن ماهان، وعند الجلودي:" فإذا أسنان القوم " والأول أليق بالكلام. فيه توقير الأكابر وألا يتقدم الصغير بين أيديهم بالكلام، كما قال - عليه السلام -:" كبر كبر "، و"الكبر الكبر".
وقول عمر: " لأن يكون قالها أحب إلي من كذا وكذا "، فيه ما طبع الإنسان عليه محبة الخير لنفسه ولولده، لاسيما هناك وفي العلم، وليظهر للنبى طيس مكانه من الفهم فيزداد منه قربة وحظوة، ولعله يدعو له عند ذلك دعوة ينتفع بها. وقد احتج بهذا الحديث مالك على أن الخواطر وما يقع في القلب من محبة الثناء على أعمال الخير لا يقدح فيها إذا كان أصلها لله تعالى، أو لا ينفك المرء عنه.
قال الإمام: خرج مسلم في باب:" مثل المؤمن مثل النخلة "، حدثنا ابن نمير قال، حدثنا أبي قال: حدثنى سيف، قال: سمعت مجاهدًا يقول، الحديث. وفي نسخة ابن الحذاء: حدثنا سفيان، قال: سمعت مجاهدًا. فجعل بدل:"سيف " "سفيان". قال بعضهم: والصواب سيف، وهو سيف بن أبي سليمان، يروى عن مجاهد، ويقال فيه / أيضًا: سيف بن سليمان، وسيف أبو سليمان، كل محفوظ. قال البخاري: وكيع يقول: سيف أبو سليمان، وابن المبارك يقول: سيف بن أبي سليمان، ويحيى القطان يقول: سيف بن سليمان.(8/373)
قال القاضي: وقوله: " إن عرش إبليس على البحر "، العرش: سرير الملك وشبهه. وقوله:" فيقول له - يعني إبليس -: نعم أنت،: يريد الذي قاله من الشياطين أنه فرق بين رجل وامرأته. معنى " نعم أنت " الذي جئت بالطامة والأمر العظيم. قالوا: وهذا من المحذوف المؤخر الذي يدل عليه مقصد الكلام، وقد يكون معناه: نعم أنت الذي أغنيت وفعلت رغبتي، أو أنت الحظي عندي، المقدم من رسلى، كما قال: " فيدنيه ويلتزمه "، أو أنت الشهم والجذل، ونحو هذا. وفيه تعظيم أمر الفراق والطلاق وكثير ضرره وفتنته، وعظيم الإثم في السعي فيه ؛ لما فيه من قطع ما أمر الله به أن يوصل، وشتات ما جعل الله فيه رحمة ومودة، وهدم بيت بني في الإسلام، وتعريض بالمتخاصمين أن وقعا في الحرج والآثام.
وقوله: " فيلتزمه "، أي: يضمه إلى نفسه. التزمت فلانًا مثل عانقته. والتحريش: الإغراء والتضريب بين الناس وغيرهم.
قوله:" ما من أحد إلا وكل به قرينه من الجن "، قالوا: وإياك ؟ قال: "وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير "، رويناه بالضبطين من الرفع والفتح، فمن رفع تأولها: فأسلم أنا منه، وهي التي صحح الخطابي ورجح، ومن فتح جعله صفة للقرين من الإسلام، وهي عندي أظهر بدليل قوله:" فلا يأمرني إلا بخير ". ورواه بعضهم في غير "الأم": " فاستسلم ". وهذه الرواية تؤيد ما ذكرناه.
واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان، لا في?جسمه بأنواع الأذى، ولا على خاطره بضروب الوساوس، ولا على لسانه بما لم يقل. وقد بسطنا هذا الباب على أزم وجوه البيان في كتاب "الشفا".
قوله: " لن ينجي أحدًا منكم عمله "، وفي الرواية الأخرى:" لن يدخله عمله الجنة، ولا يجيره من النار "، إلى قوله:" ولا إياي، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه، ولكن سددوا وقاربوا ".(8/374)
قال الإمام: مذهبنا أن إثابة الله تعالى لمن أطاعه ولم يعصه بفضل، ولا يثبت و منه م شيء إلا بالسمع، وكذلك انتقامه ممن عصاه ولم يطعه عدل، ولا يثبت فه شيء إلا بالسمع، والباري سبحانه عندنا لن يعذب النبيين وينعم الكافرين، ولكنه أخبرنا أنه يفعل خلاف ذلك. والمعتزلة تثبت بعقولها أعراض الأعمال، ولها في ذلك خبط طويل وتفصيل كثير. وظاهر هذا الحديث / يشير إلى مذهب أهل الحق أنه لا يستحق أحد بطاعته الثواب.
وأما قوله: " إلا أن يتغمدني ربي برحمته "، أي: يلبسنيها ويسترني بها، وذلك مأخوذ من غمد السيف ؛ لأنك إذا أغمدته فقد ألبسته الغمد وغشيته به. يقال: غمدت السيف وأغمدته بمعنى واحد.
قال القاضي: لا تعارض بين هذا وبين قوله:{ ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } وشبهه من الآيات ؛ لأن الحديث يفسر ما أجمل هاهنا، وأن معنى ذلك: مع رحمة الله وبرحمة الله ؛ إذ من رحمة الله توفيقه للعمل وهدايته للطاعات، وأنه لم يستحقها بعمله ؛ إذ الكل بفضل من الله تعالى.
ومعنى قوله:" سددوا وقاربوا "، أي: اقصدوا السداد واطلبوه، واعملوا به في الأمور، والسداد: القصد فوق التفريط ودون الغلو وهو من نحو معنى: " قاربوا "، أي: اقربوا من السداد والصواب ولا تغلوا، فدين الله سبحانه حقيقته.
وقوله:"واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه "، إشارة إلى نحو ما تقدم؛ لأنه مع القصد يمكن الدوام على الطاعة فيتصل الأجر ويكثر الثواب، ومع الغلو يمكن العجز والإعياء والملل فيقطع الجزاء، كما قال في الحديث الآخر: " فإن الله لا يمل حتى تملوا "، وقد مضى الكلام في هذا المعنى هناك في الصلاة.
وقوله: " كان يصلى حتى انتفخت قدماه "، وفي الرواية الأخرى: "انفطرت "، قال الإمام: أي تشققت، ومنه أخذ فطر الصائم، وإفطاره شقه صومه بالفطر، والله فاطر السموات والأرض لأنهما كانتا رتقًا ففتقهما.(8/375)
قال القاضي: وقوله:" أفلا أكون عبدًا شكورًا "، الشكر: معرفة إحسان المحسن والتحدث به، وسمى المجازاة على فعل الجميل شكرًا ؛ لأنها بمعنى الثناء عليه وسطوته على ذلك، والشكر بالفعل أظهر منه بالمقال، وشكر العباد لله: اعترافهم بنعمه وثناؤهم عليه، وتمام ذلك مواظبتهم على طاعته، قال الله تعالى:{ لئن شكرتم لأزيدنكم }. وشكر الله تعالى أفعال عباده: مجازاتهم على طاعتهم، وتضعيف ثوابهم عليها، وثناؤه بما أنعم به عليهم من ذلك، فهو المعطي والمثنى. ومعنى تسميته شكرًا من هذا قيل: معطي الجزيل على العمل، وقيل: المثنى على عباده المطيعين، وقيل: الذي يزكو عنده العمل القليل يتضاعف ثوابه، وقيل: الراضي بيسير الطاعة من عباده، وقيل: مجازيهم من قبل شكرهم، فيكون الاسم على معنى الازدواج والتجنيس.
وقوله:" حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات "، من بديع الكلام وجوامعه الذي أوتيه - عليه السلام - من التمثيل الحسن، فإن حفاف الشيء جوانبه، فكأنه أخبر - عليه السلام - أنه لا يوصل إلى الجنة إلا بتخطي المكاره وكذلك الشهوات،وما تميل إليه النغوس، وأن اتباع الشهواث يلقى في النار ويدخلها وأنه لا ينجو منها إلا من تجنب الشهوات. فيه تنبيه على اجتنابها.(8/376)
وقوله:" إني أخبركم بمكانكم، فلا يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن أملكم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السامة علينا "، قال الإمام: "يتخولنا": يتعاهدنا. قال القاضي: وقيل: يصلحنا. وقال ابن الأعرابي: معناه: يتخذنا خولاً. وقيل: يفاجئنا بها. وقال أبو عبيد: يذللنا يقال: خوله الله: أي سخره لك. وقيل: تحبسهم كما تحبس خولك. قال أبو عبيد: ولم يعرفها الأصمعى، قال ت وأظنها: " يتخونهم " بالنون، أي يتعهدهم. وقال أبو نصر: يتخون مثل يتعهد، وقال أبو عمر: والصواب: "يتحولهم " بالحاء المهملة، أي يطلمب حالاتهم وأوقات نشاطهم. والسآمة: الملالة. قوله لمى حديث ابن أبي شبية: " أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ذخرًا ذخرًا، بله ما أطلعكم الله عليه "، كذا رويناه:"ذخرًا" أي معدًّا لهم، وكذا " ذخرًا " في حديث هارون الأيلي ومن طريق العذري والسجزي وابن ماهان وأكثر الرواة، وجاء فيه من طريق الفارسي: " ذكرًا " بالكاف، والأول أبين كما في غيره، ورواه بعضهم: " ذخر " بغير تنوين، وفسره بمعنى سواء. ومعنى " بله " بفتح الباء وسكون اللام، قيل: دع عنك ما أطلعكم عليه،أي الذي لم يطلع عليه أعظم، فكأنه أضرب عنه استحقارًا له في جانب ما لم يطلع، وقيل: معناه: كيف. وذكر مسلم في الباب: حدثنا ابن وهب، أنبأنا أبو صخر ؛ أن أبا حازم حدثه، وهو مما تتبعه أبو الحسن الدارقطني، وقال: لم يتابع عليه مسلم، وغيره أمت منه.(8/377)
وقوله: " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة "، قيل: ظلها ذراها وناحيتها وكنفها، ومنه قولهم: هو في ظل فلان، وقد يكون ظلها نعيمها وراحتها من قولهم: عيش ظليل. وقوله في الرواية الأخرى: "الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها " مبالغة في امتداد ظلها، وأن راكب الجواد من الخيل وهو الذي بمعنى السريع يجود جريه ؛ ولذا سمي جوادًا، ثم إذا كان مضمرًا كان أسرع. وقد فسرنا التضمير في كتاب الجهاد وفي حديث المسابقة، يقال: مضمر مشدد الميم، وبسكون الضاد وفتح الميم، وقد رواه بعضهم بكسر الميم الثانية صفة للراكب المضمر لفرسه.
وقوله: " كما تراءون الكوكب الدرى "، دراري النجوم: عظامها، سميت الكواكب دراري لبياضها. وقيل: بإضاءتها. وقيل: لتشبهها بالدرر؛ لأنها أرفع الكواكب كالدر في الجواهر. وقوله في الرواية الأخرى: "الكوكب الدري الغابر من الأفق "، كذا في أكثر نسخ مسلم " من الأفق ". و " من " لابتداء الغاية. قال بعضهم: والأشبه هنا ما ذكره البخاري في "الأفق".
قال القاضي: قد ذكر أصحاب المعاني أن " من " تأتى لانتهاء الغاية، كقولهم: رأيت الهلال من / خلال السحاب، وهذا مثله. ولكن قولهم: إنه انتهاء غاية غير مسلم، بل هو على بابه، أي كان ابتداء رؤيته إياه، وبابه إدراكه إنما كان من خلل السحاب ومن الأفق الغربى. ومعناه: الغابر الزاهد الماضي، ومعناه: الذي تدلى للغروب وبعد عن العين. وقد روى في غير مسلم الغارب بتقديم الراء بمعنى ما ذكرناه، وروى أيضًا:" العازب"، بالعين المهملة والزاى، ومعناه: البعيد في الأفق، وكلها راجعة إلى معنى.
وقوله:" إن في الجنة لسوقًا " الحديث، يريد: مجتمعًا لأهل الجنة،كما تجتمع إلى السوق في الدنيا، وهذا يوم المزار وهو يوم الجمعة، ويوم المزيد، كما قال في الحديث. وسمى السوق سوقًا ؛ لسوق من يأتيها من الناس ببضائعهم إليها. والسوق يذكر ويؤنث.(8/378)
وقوله: " فتهب ريح الشمال "، بفتح الشين والميم، قال صاحب العين: الشمال والشمال ساكنة الميم مهموز، والشامل بتقديم الهمزة، والشمل بفتح الميم بغير ألف، والشمول بفتح الشين وضم الميم: الريح، وهي التي تأتي من دبر القبلة. وخص ريح الجنة بالشمال - والله أعلم - بأنها ريح المطر عند العرب، كانت تهب من الشام، وبها يأتي سحاب المطر، وكانت ترجى السحاب الشامية ؛ ولذلك أيضا سمى هذه الريح في الحديث الآخر:" المثيرة "، أي المجداة كما قال:" فتحثو في وجوههم " يعني ما يثيره من مسك أرض الجنة وغير ذلك من نعيمها وهو مقابلة الجنوب.
وقوله: إما تفاخروا واما تذاكروا: الرجال أكثر في الجنة أم النساء، وقول أبي هريرة: أولم يقل - عليه السلام -:" أول زمرة تدخل الجنة " إلى قوله: "بكل واحد منهم زوجتان " إلى قوله:" وما في الجنة عزب "، أي: من لا زوجة له، قال الإمام العزب: البعيد عن النساء،والعازب: البعيد عن المرعى.
قال القاضي: كان عند العذري: " أعزب " وليس بشيء، وظاهر احتجاجه على أن النساء أكثر في الجنة ؛ لأنه إذا كانت هذه الزمرة والنساء مثلاهم ومن عداهم أقلة أن يكون النساء مثلهم، دل على كثرتهم، وأنهم أكثر من الرجال في الجنة، وجاء في أهل النار أن أكثرهم النساء ، فخرج من جملة هذا أن أكثر بني آدم النساء، إذ هم أكثر أهل الجنة وأهل النار وهذا كله في الآدميات، وإلاّ، فقد جاء أن للواحد من أهل الجنة من الحوريات العدد الكثير.(8/379)
وقوله:" أهل الجنة ياكلون فيها ويشربون "، هذا مذهب أهل السنة وكافة المسملمين: أن نعيم أهل الجنة وملاذها بالمحسوسات وغيرها من الملاذ العقليات كأجناس نعيم أمل الدنيا، إلا ما بينهما من الفرق الذي لايكاد يتناسب، وأن ذلك على الدوام لا آخر له، خلافًا للفلاسفة وغلاة الباطنية من أن نعيم الجنة إنما هو لذات عقلية، وانفصال من هذا / العالم إلى الملأ الأعلى، وهو عندهم المعبر به عن الجنة، وهو مذهب كافة النصارى. وخلافًا لبعض المعتزلة في أن نعيم أهل الجنة غير دائم، وإنما هو إلى أمد، ثم يسألون. وقال مثله جهم، إلا أنهم يفنون عندهم. وهذا كله خلاف ملة الإسلام وسخف العقول والأحلام. والآثار الصحيحة وكتاب الله يدل على خلاف هذا كله. وقد ذكر مسلم في ذلك، وفي دوام حالهم، وأنه لا يتغير ولا يغنى ما فيه كفاية.
ومعنى:" تشبوا ولا تهرموا "، أي يدوم شبابكم.
وقوله:" ولا تبأسوا "، أي لا يصيبكم بأس، وفي الشدة في الحال وتغيره وهو البأس والبأساء والبؤس والبؤساء.
وقوله:" ولا يمتخطون ولا يتفلون " بكسر الفاء، أي لا يبصقون، كما جاء في الحديث الآخر مفسرًا. والتفل والتفال: البصاق. والتفل: رميك الشيء من فيك، يفال من هذا: تفل يتفل، فاما تفل بالكسر يتفل بالفتح فمن نتن الرائحة، ولو روى هنا بالفتح لصح معناه.
وقوله:" ورشحهم المسك "، أي عرقهم. ورواه السمرقندي في حديث ابن أبي شيبة وأبي كريب: " ريحهم المسك "، وهو وهم، والمعروف الأول.
وقوله: " ومجامرهم الألوة ": هو العود الهندي، وقد تقدم الكلام في هذا الحرف.(8/380)
وقوله: " على خلق رجل واحد "، بيّن مسلم اختلاف الرواة فيه، وان ابن أبي شيبة قاله بضم الخاء واللام، وأبو كريب بفتح الخاء وسكون اللام. وقد اختلف في ضبطه الرواة عن البخاري أيضًا، وكلاهما صحيحان، وقد ترجح رواية الضم بقوله في الحديث الآخر:" لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد "، وقد يترجح رواية الفتح لقوله:" على طول أبيهم آدم ستون ذراعًا "، وحكى مسلم عن ابن أبي شيبة أنه قال هنا:" على صورة آدم " وكلاهما صحيح، وقد جاء في الحديث الآخر:" على صورة آدم وطوله ستون ذراعًا "، وضبطنا هذا الحرف على أبي بحر:" وطوله " بالرفع، ولا يصح سواه ؛ لأن بعده: " فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن.
وقوله:" إن للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة "، كذا لهم بالفاء، وعند السمرقندي:" مجوبة " بالباء في حديث سعيد بن منصور، والمعنى متقارب. ومعنى رواية الباء: مثقوبة مفرغ داخلها، وهو مثل مجوفة، قال الله تعالى:{ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد }، أي: نقبوه ومزجوه، وجعلوا فيه بيوتًا ومنازل، كما قال:{ وتنحتون الجبال بيوتًا }، والخيمة: بيت مستدير من بيوت الأعراب معروف.
وقوله:" في كل زاوية منها أهل للمؤمن، لا يراهم الآخرون "، أي ناحية، يعني لسعته وبعد أقطاره. وإذا كان طوله في السماء ستين ميلاً، أي في الارتفاع كما ذكر في الحديث،، فما ظنك بطوله في الأرض وعرضه ! وذكر مسلم في الباب: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هرون، أنبانا همام، عن أبي عمران الجهني. وسقط من رواية ابن الحذاء " يزيد بن هرون "، وإثباته الصواب.(8/381)
وقوله:" سيحان وجيحان والفرات والنيل، كل من أنهار الجنة ": هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الإسلام النيل ببلاد مصر والفرات بالعراق، وسيحان جيحان، ويقال: سيحون وجيحون ببلاد خراسان. وقيل يحتمل أن المراد بذلك أن / الإيمان عم بلادها وفاض عليها، وأن الأجسام المتغذية بهذه المياه صائرة إلى الجنة، ويحتمل أنه على ظاهره، وأن لها مادة من الجنة، إذ الجنة موجودة مخلوقة عند أهل السنة، وأنها التى أنزل منها آدم. وقد ذكر مسلم أول الكتاب في حديث الإسراء: أن النيل والفرات خرجان من أصلها، وبينه في البخاري، فقال: " من أصل سدرة المنتهى ".
وقوله:" يدخل الجنة أقوام افئدتهم مثل أفئدة الطير "، يحتمل أنه أراد: في رقتها وضعفها، كما قال لأهل اليمن:" أرق قلوبًا، وأضعف أفئدة "، وقد تقدم الكلام على معناه . ويحتمل أنه أراد: في الخوف والهيبة. والطير أكثر الحيوان ذعرًا وفزعًا ؛ ولهذا قالوا: أحذر من غراب، وكالطائر الحذر، وقال الله تعالى:{ إنما يخشى الله من عباده العلماء }، فكأنه يريد بذلك قومًا غلب عليهم الخوف،كما قد روى عن جماعة من السلف وغيرهم ممن أماتهم الخوف، وصدع قلوبهم الوعظ، وفاضت أنفسهم عند سماع الوعد والوعيد، وتذهلت عقولهم عند مشاهدة الهول والحادث الشديد.(8/382)
قال الإمام: ذكر مسلم في الباب: حدثنا حجاج بن الشاعر، حدثنا أبو النضر، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا أبي، عن أبي سلمة ن عن أبي هريرة، هكذا إسناد هذا الحديث عن أبي العلاء، وفي نسخة السجزي عن أبي أحمد مثله، ووقع في نسخة الرازي والكسائي: حدثني أبي، عن الزهري، عن أبي سلمة بزيادة رجل في السند، وهو الزهري، قال بعضهم: والصواب رواية أبي العلاء ومن تابعه، ولذلك خرجه أبو مسعود من طريق مسلم من حديث إبراهيم، عن أبيه، عن أبي سلمة قال: ولا أعلم لسعد بن إبراهيم رواية عن الزهري، والله أعلم. وقال الدارقطنى في كتاب العلل: لم يتابع أبو النضر على وصله عن أبي هريرة، والمحفوظ عن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي سلمة مرسلاً. كذا رواه يعقوب وسعد ابنا إبراهيم بن سعد، قال: والمرسل الصواب.
قال القاضي: وقوله:" خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعًا " الحديث، تقدم الكلام في هذا بوجوه مستوعبة.
وقوله هنا:" طوله ستون ذراعًا "، يبين الإشكال، ويزيح التشابه، ويوضح أن الضمير راجع إلى آدم نفسه، وأن المراد على هيئته التي خلقه عليها، لم ينتقل في النشاة أحوالاً ولا تردد في الأرحام أطوارًا. وقد مر من هذا، ويكون معناه: على الصورة التي كان بها في الأرض وأنه لم يكن في الجنة على صورة أخرى، ولا اختلفت صفاته وتصوراته اختلاف تصورات الملائكة في أصول صورهم. وفي الصور التي يتراءون فيها غالبًا للخلق.
وقوله:" اذهب فسلم على أولئك النفر، وهم نفر من الملائكة جلوس "، فيه تسليم الواحد على الجميع، والماشي على الجالس، وقد مر منه.
وقوله:" واستمع ما يحيونك به من التحية "، ويروى: " يجيبونك " من الجواب. فيه رد السلام، والتعليم بالفعل.(8/383)
قال الإمام: وخرّج مسلم في أول باب صفة النار: حدثنا عمر بن حفص قال: حدثني أبي، عن أبي العلاء بن خالد الكاهلي، عن شفيق. ووقع في نسخة أبي العلاء بن ماهان بدل " الكاهلي" " الباهلي"، وهو وهم، وصوابه: الكاهلي. وكاهل من بني أسد بن خزيمة.
قال القاضي: وهذا الحديث مما استدرك /على مسلم، وتبعه عليه الدارقطني، قال: ورفعه وهم، رواه الثوري ومروان وغيرهما عن العلاء مرفوعًا.
وقوله: إذ سمع وجبة فقال:" هذا حجر رمي به في النار"، أي وقعة وهزة، يريد: صوت سقوطه، ومنه:" فسمعتم وجبتها "، قال الإمام: أي مممقطتها، يقال: وجب الشيء وجبًا: سقط، ومنه قول الله تعالى:{ فإذا وجبت جنوبها }.
قال القاضي في رواية ابن عباد في هذا الحديث:" وقال هذا وقع في أسفلها "، كذا في عامة النسخ، قيل: وجهه: هذا حجر وقع. وقد جاء هذا الحديث في كتاب القاضي التميمي: " الآن وقع في أسفلها "، وهو يبين مدى اختلاف الرواية ؛ لأن في الحديث قبله: " الآن انتهى إلى قعرها ".
وقوله:" ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته "، هي معقد السراويل والإزار.
وقوله:" ومنهم من تأخذه إلى ترقوته، بفتح التاء وضم القاف، هو العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق.
وقول الجنة:" لا يدخلني إلا ضفاء الناس وسقطهم "، ويروى: "وسقاطهم وعجزهم ": سقطهم، بفتح السين والقاف، السقط من كل شيء: ما لا يعتد به. وسقط المتاع: رديئه. وكذلك كل شيء سقاطته مثله، والساقط والساقطة من الناس: السفلة واللئيم.(8/384)
وقوله: " وعجزهم " بفتح العين والجيم: جمع عاجز، وهو العيي الضيف، قيل: العجاز في طلب الدنيا. كذا في حديث ابن رافع عن شبابة، ولبعض الرواة في حديث ابن رافع عن عبد الرزاق مثله، إلا أنه قال: "وعجزتهم "، وعند أكثر شيوخنا:" وغرثهم "، بفتح الغين المعجمة وفتح الراء وثاء بعدها مثلثة، ومعناه قريب من قوله:" ضفاؤهم وسقطهم "، أي: مجاويعهم. والغرث: الجوع. ورواه الطبري:" غرتهم " بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء وتاء باثنتين فوقها، ومعناه قريب مما تقدم، أي بلههم وغافلوهم، كما قال في الحديث الأخر:" أكثر أهل الجنة البله "، سماه بالمصدر، أي ذوو الغرة، والبله منهم، ومعناه: سواد الناس وعامتهم من أهل الإيمان بالله، الذين لا يتفطنون للشبه فيدخل عليهم الاختلافات ويلقيهم في الأهواء، وهم صحاح العقائد، ثابتو الإيمان، وهم كثر المؤمنين.
وأما العارفون والعلماء والحكماء فالأقل، وهم أصحاب الدرجات العلى، وقيل: البله في أمر دنياهم، وقيل: معنى الضعفاء هنا وفي الحديث الآخر: " أهل الجنة كل ضعيف متضعف أنه الخاضع لله، المذل نفسه لله تعالى. ضد المتجبرين المستكبرين. قال أبو بكر بن خزيمة: الضعيف هنا: الذي يبرى نفسه من الحول والقوة في اليوم عشرين مرة إلى خمسين. ولم يرد الشيخ - والله أعلم - التحذير من حول وقوة، إنما أراد اتصافه بالتبرى من الحول والقوة واللجأ إلى الله متى يذكر.
وقوله: " فلا تمتلئ حتى يضع رب العزة فيها قدمه "، وفي رواية " عليها قدمه "، وفي رواية:" رجله، فتقول: قط قط " بالسكون، و" قط قط " بالكسر غير منون وبالتنوين، قال الإمام: أي حسبي، " وقطني " بمعنى "حسبي"، ومنه قول الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطي
أي: حسبي.
قال القاضي: ومعنى " تنزوي "، تنقبض ويجتمع على أهلها ومن ألقى فيها، " وتشتعل بعذابهم، أي / تنقبض عن سؤال:{ هل من مزيد } لملئها.(8/385)
قال الإمام: هذا الحديث من مشاهير الأحاديث التي وقعت موهمة للتشبيه ولما نقله الأثبات، واشتهر عند الرواة، كلف العلماء قديمًا وحديثًا الكلام عليه والنظر في تأويله، فمنهم من حمل القدم على السابق المتقدم، ويقال للمتقدم: قدم، فيكون تقدير الحديث: حتى يضع الجبار فيها من قدم لها من أهل العذاب، وهذا كقوله تعالى:{ أن لهم قدم صدق عند ربهم }، معناه: التقدم والسبق، لا قدم الرجل. فإذا وقع مثل هذا في القرآن حملنا ما وقع في السنة عليه، والى هذا مال النضر بن شميل. وقد أشار ابن الأعرابي إلى أن القدم يعبر به عن هذا المعنى، ولكن في الشرف والجلالة.
ويحتمل أن يكون المراد ها هنا بالحديث: قدم بعض خلقه، وتكون الإضافة هنا إلى الله سبحانه إضافة فعل لا إضافة جارحة. وقد قال بعضهم: يحتمل أن يريد أن الله سبحانه يخلق في الآخرة خلقًا يسمى بهذه التسمية، فلا تمتلئ النار إلا به. ويحتمل وجها آخر على رواية من رواه: " حتى يضع الجبار " إن يريد به الشيطان ؛ لأنه أصل الجبارين، أو يريد به أحد الكفرة من الجبابرة، فيكون المعنى: لا تمتلئ حتى يضع إبليس فيها قدمه، أو هذا المشار إليه.
وأما ما خرّجه مسلم في بعض طرقه:" حتى يضع الله رجله "، فقد أنكر هذه اللفظة بعض أهل العلم، وزعم ابن فورك: أنها غير ثابتة عند أهل النقل، ولكن لابد من تأويلها لأجل تخريج مسلم لها وهو كما وصفناه في كتابنا هذا أولاً، ووصفنا أحاديثه، فيصح أن يكون المراد ها هنا: رجل بعض خليقته، وأضاف ذلك إليه عز وجل إضافة فعل لا إضافة جارحة، كما قدمناه في القدم.
ويصح فيه تأويل آخر أيضًا وهو: أن يكون المراد ها هنا بالرجل: الجماعة من الناس، كما يقال: رجل من جراد، أي جماعة من جراد.(8/386)
وقد وقع ذلك في أشعار كثيرة. وإذا أمكن حمل الحديث على هذه التأويلات الصحيحة الجائزة على الله سبحانه لم يصح حمله على ما يقوله المجسمة، من إفادته إثبات الجارحة لله، تعالى الله عن قولهم. وقد قام الدليل القاطع العقلى على استحالة ذلك عليه جل وعلا، وهذا واضح.
قال القاضي: وقد قيل: إنها عبارة عن شدة القدرة والقهر للنار، ومنه قولهم: وطن الجيش بني فلان، وقال الشاعر:
فوطئن وطنًا على خنق
وقيل: القدم هنا مستعار للذلة في قولهم: وضعت رجلى على قفاه.
وأظهر التاويلات فيها عندي ما تقدم ؛ من أنهم قوم يقدم علم الله وقضاءه كونهم من أهلها، أو خلقهم لها، كما قال في الحديث نفسه في الجنة:" ولا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقًا فيسكنهم فضل الجنة ".
وقوله: ولكل واحدة منكما ملؤها "، وقوله في النار: " فتقول: قط قط، فهنالك تمتلئ، فالحديث يفسر بعضه بعضًا، ويرفع مفسره الإشكال عن مجمله ومتشابهه. وفي هذا الحديث حجة لأفل السنة أن الثواب والعقاب غير مستحق بالأعمال، وقمع للمعتزلة والقدرية في إثباتهم الثواب والعقاب على جهة العقل، وأنه بحسب الأعمال ولا يصح إلا عليها. وانظركيف قال هنا للجنة: " فينشئ الله لها خلقا مما يشاء " يدل أنهم ممن / لم يوجد، وكان هذا ظاهره وعلى هذا يحمل أمر أولاد المؤمنين، لايلام الأطفال والبهائم، وغير ذلك مما يفعل منه ما شاء. ولهم في هذا اختلاط واختلاف وروغان لم يخلصهم، والكلام فيه تطويل.
وقوله في آخر الحديث:" ولا يظلم الله من خلقه أحدا "، يحتمل أنه راجع إلى ما قلناه، وأنه تعالى يعذب من يشاء ابتداء ويخلقه لذلك، غير ظالم له، كما قال:" أعذب بك من أشاء من عبادى "، ويحتمل أنه راجع إلى ذكر محاجة الجنة والنار، وأن الذي جعل لكل واحد منهما عدل منه وحكمة، باستحقاق كل طائفة منهم لذلك، ولم يظلم أحدًا منهم.(8/387)
وفي جملة هذا الحديث، وأن النار تحتاج إلى مزيد، وأن الجنة يبقي فيها فضل حتى تمتلئ أي ممن ذكره: دليل على عظمها، وسعة أقطارها، مع ما جاء أنه يعطى للواحد مثل الدنيا وعشرة أمثاله. فسبحان القادر على ما يشاء، الواسع الرحمة والعطاء،العظيم الملك الفعال لما يشاء.
وقوله:" يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح "، وذكر:" يوقف بين الجنة والنار "، إلى قوله:" فيؤتى به فيذبح، ثم قال: خلود فلا موت "، قال الإمام: الموت عرض من الأعراض عندنا يضاد الحياة. وقال بعض المعتزلة: ليس بمعناه، وهو يرجع إلى عدم الحياة. وعلى المذهبين، وإن كان الثاني منهما خطأ لقوله تعالى:{ خلق الموت والحياة }، فأثبت الموت مخلوقًا، ولغير ذلك من الأدلة لا يصح أن يكون الموت كبشًا ولا جسمًا من الأجسام، وإنما المراد بهذا التشبيه والتمثيل، وقد يخلق الباري تعالى هذا الجسم ثم يذبح، ويجعل هذا مثالاً ؛ لأن الموت لا يطرأ على أهل الآخرة.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -:" فيشرئبون "، قال الهروي: من حديث عائشة رضى الله عنها، واشرأب النفاق: أي ظهر وعلا، وكل رافع رأسه فهو مشرئب، ومنه. فيشرئبون لصوته.
قال القاضي: ومعنى:" املح "، النقي البياض، قاله ابن الأعرابي، وقال الكسائي: هو الذي فيه بياض وسواد، والبياض أكثر. وقد تقدم الكلام فيه في الضحايا. قال بعض أصحاب المعاني: يحتمل أن اختلاف اللونين على هذا - في هذا المثال - لاختلاف الحالين. فالبياض لجهة أهل الجنة، الذين ابيضت وجوههم. والسواد لجهة أهل النار، الذين اسودت وجوههم.(8/388)
وقوله: في أهل الجنة: " كل ضعيف متضف "، وفي الرواية الأخرى: "أشعث مدفوع بالأبواب "، هو صفة نفى الكبرياء والجبروت التي هي صفة أهل النار، ومدح التواضع والخمول والتذلل لله عز وجل وحفن عليه. وقد يكون الضعف هنا رقة القلوب ولينها، وإجابتها للإيمان، كما قال:" أتاكم أهل اليمن، أضعف قلوبًا "، ويروى:" ألين، وأرق أفئدة ". وقد يكون المراد: أنها لأكثر أهل الجنة، أي ضعف الناس عامتهم، والمستضعفون: المحتقرون في الدنيا عند أهلها منهم، وهو الأظهر بالحديث، كما قالوا: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون }، وكقولهم:{ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا }، وهم سواد المؤمنين وجمهورهم كما قدمناه ؛ ولأن أهل الظهور في الدنيا والرياسة يحجبهم ذلك عن الإيمان ؛ لقساوة قلوبهم، وشموخ نفوسهم، واستكبارهم ورغبتهم في الاتباع، ولأن أكثر الكفار والعتاة / والمترفين بخلاف هذه الصفة التي وصف بها أهل الجنة، وبالصفة التي وصف بها أهل النار. فالحال راجعة في الوجهين إلى الأكثر والأغلب. ومعنى الأشعث: الملبد الشعر المغبر منه، ذلك الذي لا يهتبل بترجيله ولا غسله ولا دهنه. ومعنى " مدفوع بالأبواب " أي: لا يؤذن له، ويحجب لحقارته عند الناس وخموله. وقوله: " لو أقسم على الله لأبره "، قيل: لو دعاه لأجابه، وقيل: مضى يمينه على البر وصدقها ونفذ قضاؤه بما خرجت عليه يمينه، وقد سبق ذلك في علمه. يقال: أبررت القسم: إذا لم تخالفها وأمضيتها على البر. ويقال فيه: بررت القسم أيضًا.(8/389)
وقوله في أهل النار:" كل عتل جواظ متكبر "، وفي الرواية الأخرى: "كل جواظ زنيم متكبر "، قال الإمام: قال الهروي: قال أحمد بن عبيد: الجواظ: الجموع المنرع. قال غيره: الكثير اللحم، المختال في مشيته. وقد جاظ يجوظ جوظانًا، ويقال للقصير البطن، كل قد قيل. وأما العتل، فقيل: هو الجافي الشديد الخصومة بالباطل. وأما الزنيم، فهو الملصق بالقوم الدعي. ذكر هذا في تفسير قوله تعالى:{ عتل بعد ذلك زنيم }، وعن ابن عباس قول آخر في الزنيم المذكور في الآية: أنه رجل من قريش،كان له زنمة كزنمة الشاة. وروى عنه ابن جبير: أنه الذي يعرف بالشر،كما تعرف الشاة بزنمتها.
قال القاضي: وفي كتاب العين: العتل: الأذل، وكذلك الجواظ. وقال ابن دريد: الجواظ: الجافى القلب. وقال غيره: الفاجر، وقيل: المتكبر مع عظم الجسم. وقوله في الذي عقر الناقة: " عزيز عارم منيع في رهطه "، العارم: الجرىء الحاذر، وقد عرم عرمة بالفتح وعرامًا بالضم، ورجل عرم بغير ألف أيضًا. وفي هذا الحديث: النهي عن ضرب النساء، وعن الضحك مما يكون من الإنسان، وأن ذلك كله ليس من مكارم الأخلاق، ولا سيما أهل الفضل والدين.
وقوله:" رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف "، كذا ضبطناه بفتح القاف والميم وتخفيفهما،وهي الرواية عن أكثرهم. ومن طريق الباجي عن ابن ماهان: " قمعة " بكسر القاف والميم معا وتشديد الميم، وقد ضبطناه عن بعض شيوخنا في غير هذا الكتاب: "قمعة" بالفتح وسكون الميم.
قال القاضي: وقوله في الرواية الأخرى:" رأيت عمرو بن عامر " فالمعروف في نسب أبي خزاعة عمرو بن لحي بن قمعة،كما قال في الحديث. وهو قمعة بن إلياس بن مضر، وإنما عامر ابن عم أبيه أخي قمعة، وهو مدركة بن إلياس. وهذا قول نساب الحجازيين. ومن الناس من يقول: إنهم من اليمن من ولد عمرو بن عامر، وأنه عمرو بن لحي، واسمه: ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر. وقد يحتج قائل هذا بهذه الرواية الأخرى.(8/390)
وقوله: " ابن خندف " هي أمهم من اليمن، وقيل: هي ليلى ابنة عمران ابن الحاف بن قضاعة. ولتسميتهم بهذه الألقاب خبر معروف ذكره أهل الخبر.
وقوله:" أخا بني كعب هؤلاء " كذا رواية العذري وأكثر رواة الجلودي وعند ابن ماهان:" أبا بني كعب "، وكذلك للطبري، وهو الصواب. وكذا ذكر الحديث ابن أبي خيثمة ومصعب الزبيري وغيرهما ؛ لأن كعبا هو أحد بطون خزاعة وابنه.
وقوله:" يجر قصبه في النار "، قال الإمام: قال أبو عبيد : الأقصاب: الأمعاء، واحدها قصب. قوله: " وكان أول من سيب السوائب "، وفي الرواية الأخرى: " السيوب "، قال الإمام: ذكر سعيد بن المسيب في كتاب مسلم: أن السائبة: التي كانوا يسيبونها لالهتهم، فلا يحمل عليها شيء. والبحيرة: التي يمنع درها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس.
قال الإمام: والبحيرة فيما ذكره المفسرون: الناقة كانت في الجاهلية إذا أنتجت خمسة أبطن، فكان آخرها ذكرا أبحروا أذنها، أي شقوها ولم يذبحوها، ولم يركبوها،ولم تطرد عن ماء، ولم تمنع مرعى، ولم يركبها أحد. قال الكلبى: كانوا إذا أنتجت خمسة أبطن، فان كان الخامس ذكرًا أكله الرجال دون النساء. وإن كانت أنثى اشترك فيها الرجال والنساء. وسميت بحيرة لشقهم أذنها. بحرت: إذا شقت شقًا واسعًا. والناقة بحيرة ومبحورة. وأما السائبة، فقيل: هو ما كان أحدهم يفعله إذا مرض، فينذر إن شفى أن يسيب ناقته، فإذا فعل ذلك لم تمنع من ماء ولا كلأ. وقد يسيبون غير الناقة. كانوا إذا سيبوا العبد لم يكن عليه ولاء. وقيل: كانت الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة انثي ليس فيها ذكر سيبت، ولم تركب، ولم يجز وبرها. وما أنتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنها، وخليت مع أمها، فهي البحيرة بنت السائبة.
قوله - عليه السلام -: " نساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كاسنمة البخت المائلة "، قال الإمام: فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: كاسيات من نعم الله تعالى عاريات من الشكر.(8/391)
الثاني: كاسيات يكشفن بعض جسدهن، ويسبلن الخمر من ورائهن، فتنكشف صدورهن، فهن كاسيات بمنزلة العاريات، إذا كان لا يستر لباسهن جميع أجسادهن.
والثالث: يلبسن ثيابًا رقاقًا يصف ما تحتها، فهن كاسيات في ظاهر الأمر عاريات في الحقيقة.
وقوله: " مائلات مميلات "، أي: زائغات عن استعمال طاعة الله تعالى وما يلزمهن من حفظ الفروج. و " مميلات ": يعلمن غيرهن الدخول في مثل فعلهن. وقيل: " مائلات ": متبخترات في مشيهن، " مميلات ": يملن أكتافهن وأعطافهن. وقيل:" مائلات ": يمتشطن المشطة الميلاء، وهي مشطة البغايا، وجاءت كراهتها في الحديث. والمميلات: اللواتي يمشطن غيرهن المشطة الميلاء. ويجوز أن لكون المائلات المميلات بمعنى واحد، كما قالوا: جاد مجد.
وقوله:" رؤوسهن كأسنمة البخت "، معناه: أي يعظمن رؤوسهن بالخمر والعمائم حتى يشبه أسنمة البخت، ويجوز أن يكون معناه: أنهن يطمحن إلى الرجال كأسنمة البخت. معناه: أنه يقطمن رؤوسهن ولا ينكشن رؤوسهن.
قال القاضي: الرواية في الحديث كما ذكر:" المايلة " بياء بثنتين من أسفل. وقال الكساني: صوابه: " الماثلة " بثاء المثلثة، أي قائمة، لما كان الأمر عنده في التفسير على تعظيم رؤوسهن. والصواب عندي ما جاءت به الرواية، وهو الذي تعضده اللغة والحديث نفسه. وتفسير من فسر المائلات أنهن يمتشطن المشطة الميلاء، وهي مشطة البغايا، وقد استشهد عليها ابن الأنباري بقول امرئ القيس:
غدائره مستشزرات إلى العلا(8/392)
فدل أن المشطة الميلاء هي ضفر الغذائر، وشدها إلى فوق وجمعها أعلا الرأس، فيأتي كأسنمة البخت وهذا يدل أن يشبهه / بأسنمة البخت، وإنما ذلك لارتفاع الغدائر / فوق رؤوسهن، وجمع الشعر والعقائص إلى أعلاه للتفسيرين المتقدمين وأولهما لابن الأنباري، والآخر لغيره. ذكرهما الهروي. ثم إنها لجمعها هناك وتكبيرها بما تضفر به قد تميل كما تميل أسنمة البخت إلى بعض الجهات.قال ابن دريد: ناقة ميلاء: إذا كان سنامها يميل إلى أحد شقيها، فهذا يعضد بعضه، بعضًا، ويؤكد أن الرواية مائلة كما جاءت وأن معنى:" مائلات ": يمتشطن المشطة الميلاء وهي التي تشبه أسنمة البخت. وقد يكون معنى "مائلات ": منحطات إلى الرجال، ومميلات لهم بانكشافهن أو تبخترهن، وما يبدين من زينتهن أو بدعائهن. وقد روى أبو إسحاق الحربى هذا الحديث، وقال فيه: "كاسيات عاريات لما أعلى رؤوسهن كاسنمة البخت من الخمر الرقاق. وفسر "كاسيات عاريات " بالتفسير الثاني المتقدم من التفاسير الأول. واحتج عليه بقوله: من الخمر الرقاق، وفسر بقوله: على رؤوسهن كاسنمة البخت مما وصلن به شعورهن.
وقد روى البخاري في "تاريخه" عن أبي هريرة ما يصحح هذا المعنى أيضًا في تأويل:" كاسيات عاريات "، وهو قوله: ويظهر ثياب فيها كذا، يلبسها نساء كاسيات عاريات من الخير وفعل الحسنات لآخرتهن.(8/393)
وقوله:" ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار يحيى بالسبابة - في اليم، فلينظر بما يرجع "، ثم قال في الرواية الأخرى: واشار إسماعيل بالإبهام. كذا عند جميعهم، وعند السمرقندي: بالإبهام. اليم: البحر، وأصله اسم البحر الذي غرق فيه فرعون، وهو المسمى أساف، قاله الهروي. وقال ابن دريد زعم قوم أن اليم لغة سريانية، وقد قال السدي في تفسير اليم: إنه النيل. وقوله في الرواية الواحدة:" السبابة " خلاف قوله في الأخرى: " الإبهام "، وهو أوجه واشبه بالتمثيل بما تكون به الإشارة. وأما من قال: البهام، فخطأ، إنما البهام جمع بهمة، وهي صغار الضأن والمعز.
ومعنى الحديث: ما قدر الدنيا من الآخرة في المساحة والقدر والقلة في جنب الآخرة وكثرة خيرها ج إذ قد يعطى الواحد من أهل الجنة - وهو أدناهم منزلة - مثل الدنيا وعشرة أمثالها إلى ما ورد من غير هذا. وقد يكون ذلك تمثيلاً لزوال الدنيا وفنائها الدائم ولذاتها الباقية.
وقوله:" يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً "، قال الإمام: الغرل: جمع أغرل، وهو الأقلف. والغرلة: القلفة.
وقوله في هذا الحديث:" وإنه سيجاء برجال من أمتى فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب ! أصحابى. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح:{ وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم}" الآية، الحديث. قال القاضي: لد تقدم الكلام على معناه في كتاب الطهارة، لكن هنا هذه الآية للزيادة. وفيها حجة على صحة تأويل من ذهب إلى أن الحديث فيمن ارتد بعد النبي - عليه السلام - ممن رآه لتلاوته هذه الآية، ولقوله: " لم يزالوا مرتدين منذ فارقتهم ".(8/394)
وقوله:" يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين راهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار، تبيت معهم حيث باتوا " الحديث: هذا الحشر هو في الدنيا قبيل قيام الساعة، وهو آخر أشراطها كما ذكره مسلم بعد هذا في آيات الساعة، قال فيه: "وآخر ذلك / نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس "، وفي رواية:" تطرد الناس إلى محشرهم "، وفي حديث آخر:" لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز "، ويدل أنها قبل القيامة ؛ قوله:" فتقيل معهم حيث قالوا، وتمسى معهم حيث أمسوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا "، على ما ورد في اختلاف رواية الحديث، وفي بعض الروايات في غير مسلم: "فإذا سمعتم بها فاخرجوا إلى الشام " كما أمر بسبقها إليه قبل إزعاجها لهم. وقد قال الأزهرى في قوله:{ لأول الحشر }؛ أنه الحشر الأول إلى الشام، إجلاء بني النضير عن بلادهم إليها، والثاني: للقيامة.
وقوله:" ثلاث طرائق "، أى: ثلاث فرق. قال الله تعالى:{ كنا طرائق قددا }، أي: فرقًا مختلفة الأهواء.
وقوله: " يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه "، وقوله: " يكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه " إلى قوله: "ومنهم من يلجمه إلجامًا "، يحتمل أن يريد: عرقه نفسه ؛ لحذره وخوفه وما يشاهده من تلك الأهوال أو يؤمله ويرجيه، فيكون عرقه بقدر ذلك.
ويحتمل أن يكون عرقه وعرق غيره، فيخفف عن بعض، ويشدد على اخرين بحسب أعمالهم كما قال، وهذا كله بتزاحم الناس، وانضمام بعضهم لبعض، حتى صار العرق بينهم سائحًا في وجه الأرض، كالماء في الأواني، بعد أن شربت منه الأرض،وغاص فيها سبعين عامًا أو باعًا أو ذراعًا، كما جاء في الحديث نفسه. وتقدم تفسير " الحقو " أنه معقد الإزار، وقيل: الحقوان: طرفا الوركين.(8/395)
وقوله في خطبته: " إن ربي عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبدًا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم "، الحديث، وفيه:" فإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب"، وفيه:" وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرأه نائمًا ويقظان ".
قال الإمام: أما قوله:" كل مال نحلته عبدًا حلال "، فالمراد به ما لا حق فيه لأحد ولا سبب يحرمه، والقصد: أن ما خلقه الله سبحانه في الأرض وغيرها مما ينتفع الناس به فإنه حلال، ولم يرد أنه لا يرزق الحرام كما قالت المعتزلة، ولا يغتر بظاهر هذا إن كل مال نحله حلال. وهذا يدل على أنه لا يحل الحرام ؛ لأن القصد بالحديث ما قلناه، وقد قام الدليل على أن الله سبحانه يرزق الحلال والحرام، لأن الرزق عندنا هو ما ينتفع به، وكل منفعة فالله خالقها.
وأما قوله:" فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب "، فالأظهر أنه أراد قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن العرب كانت حينئذ ضلالاً، والعجم إلا بقايا من أهل الكتاب، كما قال - عليه السلام -. قال القاضي: المقت: أشد البغض.
وقوله: "خلقت عبادى حنفاء "، بمعنى قوله:{ فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرت الله التي فطر الناس عليها }، وقد استوعب القول قبل فيه في موضعه.(8/396)
وقوله:" فاجتالتهم الشياطين "، كذا روايتنا فيه بالجيم عند أكثر شيوخنا: الأسدي والخشني وغيرهما، وضبطناه عن الحافظ أبي علي: "فاختالتهم بالخاء. ومعنى رواية الجيم - وهي أوضح وأبين -: أي استخفوهم فذهبوا بهم، وجالوا معهم، وساقوهم / إلى ما أرادوه بهم أو بمثله، فسره الهروي وغيره. وقال شمر: اجتال الرجل الشيء: ذهب به وساقه، واجتال أموالهم واستجالها: أي ساقها وذهب بها. ومن رواه: "اختالتهم " بالخاء فقد يصح عندي أيضًا، ويكون معناه: يحبسونهم عن دينهم ويصدونهم عنه، ويتعاهدونهم ويلازمونهم في ذلك.
وقد قيل في قوله:" يتخولهم بالموعظة "، أي: يحبسهم عليها،كما يحبس خوله ويتعهدهم، قاله ابن الصابوني. وقال الفراء: الخائل: الراعي للشيء الحافظ له، وقد خال يخول واختال، افتعل من هذا، والله أعلم.
وقوله:" إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك "، البلاء: المحنة والاختبار والتجربة. واستعمل في الخير والشر، يقال: بلوته وابتليته، يقال: اللهم لا تبلنا إلا بالتى هي أحسن، قال الله تعالى:{ وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنًا }، وكثر ما يستعمل مطلقًا في المكروه، ومنه في الدعاء: " نعوذ بك من جهد البلاء ". ومعناه: امتحنك بما تلاقيه من الصبر على أذى المشركين، وأمتحنهم بما لقوا منك من القتل والجلاء.
وأما قوله:" وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء تقرؤه نائمًا ويقظان "، قال الإمام: فيحتمل أن يشير إلى أنه أودعه قلبه، وسهل عليه حفظه، وما في القلوب لا يخشى عليه الذهاب بالغسل. ويحتمل أن يريد الإشارة إلى حفظه وبقائه على مر الدهر، فكنى عن هذا بهذا اللفظ.(8/397)
وقوله:" تقرؤه نائمًا ويقظان لا يحتمل أن يريد أنه - صلى الله عليه وسلم - يوحى إليه في منامه كما يوحى إليه في يقظته، وأن ما يراه في منامه من ذلك حق موثوق به كما يوثق باليقظة، ولا يبعد أن الباري سبحانه يريد في المنام آية من القرآن يقرؤها تقدم إنزالها، أو يكون أعلم بصحتها يقظان. ويحتمل أنه يقرؤه مضطجعا كما يقرؤه قائمًا. وسمى المضطجع نائما مجازا ؛ لأن المضطجع يصلي كذلك إذا عجز عن القيام او لعذر، لكن قوله: "يقظان " لا يكون فيه مقابلة ؛ لقوله: " نائمًا "، إذا تأولناه على المضطجع، فيكون التأويل الأول ترجح بما في لفظه حين المماثلة. هذا الذي يظهر لي في تأويل هذه الألفاظ، ولم أقف فيها لأهل العلم على شيء، غير أن الشيخ أبا بكر بن فورك تكلم على قوله - عليه السلام -:" لو جعل القرآن في إهاب ما احترق ".
وذكر فيه تأويلات كثيرة:
منها: أن المراد به أن الإنسان الواعي للقرآن لا يحترق.
ومنها: أن ذلك مخصوص بعصر النبي - عليه السلام - علامة لنبوته.
ومنها: أن المراد به أن القران في نفسه لا يحترق، وأن احترق الإهاب والمداد، قال: وهذا كقوله:" كتابًا لا يغسله الماء "، يعني أنه لا يفنى ولا يدرس. وتأويله هذا نحو ما تأولناه. وكنت تأولت الحديث على ما قدمته قبل أن أقف للشيخ أبي بكر على هذا الفضل.(8/398)
وقوله:" وإن الله أمرني أن أحرق قريشًا "، وقوله:" إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة "، قال القاضي: كذا هو بالثاء والغين المعجمة، ومعناه: يشدخوا. قال الهروي: الثلغ: الشدخ. قال شمر: الثلغ: فضخك الشيء الرطب بالشيء اليابس، الثلغ، والفضخ، والشدخ بمعنى. وفي رواية العذري: " يقلعوا " بالقاف والعين المهملة، ولا يصح مع قوله:" فيدعوه خبزة " أو كما يثلغ الخبزة /كما روى في غير "الأم"، شبه الرأس إذا شدخ بالخبزة إذا شدخت لتثرد وتسقى بالدهن والمرق. ووجدته عند بعضهم "يفلغوا"، بالفاء والغين المعجمة. ووقع في غير كتاب مسلم:" تفلعوا " بالفاء والعين المهملة، ومعناه: يشقوا. وكذا رواه الخطابي، وذكره أيضًا الهروي وفسره، وقال لي شيخنا أبو الحسين: أنه بالمعجمة قال: ويقال بالمهملة، وبها حكاه الخليل، قال: ومنه: تفلعت البطيخة.
وقوله:" الضعيف الذي لا زبر له "، قال الإمام: معناه: الذي لا عقل له. وقوله هذا قول الهروي. وقال غيره: معناه: الذي ليس عنده ما يعتمد عليه وقد ذكر الإمام ما فسره به في الأم مسلم، ولا معنى لذكره في الشرح ؛ إذ هو في الأم. وقيل: الذي لا مال له.
وقوله: " الشنظير الفحاش "، قال الإمام: الشنظير: السعف الخلق. قال القاضي: هذا تفسير الهروي. والشنظير: هو الفحاش. قال في حديث: قال صاحب العين: شنظر بالقوم شتم أعراضهم، والشنظير: الفحاش من الرجال القلق، وكذلك من الإبل.(8/399)
وقوله:" وذكر البخل والكذب "، هكذا روايتنا فيه عن جماعة بواو العطف، ووقع في بعض النسخ:" أو الكذب " على الشك، وهي روايتنا عن أبي جعفر عن الطبري. قال بعض الشيوخ: ولعله الصواب، وبه تصح القسمة ؛ لأنه ذكر أن أصحاب النار خمسة: الضعيف الذي وصف، والخائن الذي وصف، والرجل المخاغ الذي وصف. قال: وذكر البخل أو الكذب، ثم ذكر الشنظير الفحاش، فيحمل هذا القائل أن الرابع هو صاحب أحد الوصفين. وقد يحتمل أن يكون الرابع من جميعهما، على رواية واو العطف كما جمعها في " الشنظير الفحاش " على تفسير الهروي ومن وافقه، والله أعلم.
وكذلك قوله قبل: " أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال " كذا قيدناه بخفض مسلم عطفًا على ما قبله. وفي رواية أخرى: " ومسلم عفيف " بالرفع، وحذف الواو بعده، وفي بعضها تخليط يفسد به القسمة والعدد.
قال الإمام: خرّج مسلم هذا الحديث عن يحى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة، سمعت مطرفًا يقول، الحديث. هكذا يروى عن الجلودي والكسائى وفي نسخة ابن ماهان: قال يحيى، قال سعيد عن قتادة: سمعت مطرفًا بهذا الحديث. جعل "سعيدًا" بدل " شعبة ".(8/400)
قال القاضي: كذا نص ما علق عن الإمام، وفيه تغيير في الأم من كلام المتكلم عليه بهذا، وهو الحافظ أبو علي الجياني رحمه الله فإن مسلمًا إنما خرّجه أولاً من غير طريق يحيى عن هشام، ثم قال: وقال في آخره: قال شعبة: قال قتادة: قال: سمعت مطرفًا في هذا الحديث. وها هنا وقع الخلاف بين الروايات،ولذلك نقله الجياني في كتابه. ونقل المعلم يشعر أن الخلاف فيما بين سياق المسند وحكاية يحيى، فانظره. وسعيد هذا هو ابن أبي عروبة، وهو الذي رواه عند مسلم، فقيل من طريق ابن أبي عدي، فيحتمل أن يحيى سمعه من شعبة ومن سعيد، فكلاهما يروى عن قتادة، لكن في قول يحيى: عمن قال / منهما عن قتادة: سمعت مطرفا، حجة قوية لمسلم، وذلك أن هذا الحديث له علة ؛ ولذلك - والله أعلم - لم يخرجه البخاري، فإن ما رواه عن قتادة قال:حدثني أربعة عن مطرف بن عبد الله، منهم يزيذ بن عبد الله أخو مطرف، والعلاء بن زياد، ورواه عنهما عن همام بن أبي خيثمة وابن أبي شيبة، عن قتادة، عن العلاء بن زياد، ويزيد أخى مطرف وعقبة بن عبد الغافر عن مطرف، إذ هما أعلا وأحفظ، ولم يبال بمن خالفهم، واستشهد بما حكاه يحيى عن شعبة أو سعيد من قول قتادة: سمعت مطرفًا. فأزال إشكال العنعنة.(8/401)
وقوله في آخر الحديث: " فقلت: ويكون ذلك يا أبا عبد الله ؟ " يعني قاله قتادة لمطرف،" قال: نعم، والله لقد أدركتهم في الجاهلية " الحديث: دل على صحة صحبة مطرف لإدراكه الجاهلية، وإن كان أبو عمر بن عبدالبر لم يذكره في كتابه ، ومن شرطه أن يذكره ؛ لأنه ولد في زمنه - عليه السلام -. وقد ذكر ابن أبي خيثمة، عن أخيه يزيد بن عبد الله قال: أنا أكبر من الحسن بعشر سنين، وأخى مطرف أكبر مني بعشر سنين، وولد الحسن - فيما قاله الواقدي - لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب. وقد ذكر أن عمر رحمه الله أغزاه مددًا للأحنف إلى نيسابور. وذكر ابن قتيبة: ولد مطرف في حياة النبي - عليه السلام - ومات عمر وهو ابن عشرين سنة وتوفي بعد سنة سبع وثمانين.
وقوله - عليه السلام -:"{ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت }، نزلت في عذاب القبر "، قال الإمام: عذاب القبر ثابت عند أهل السنة، وقد وردت به الآثار، وقال تعالى:{ النار يعرضون عيها غدؤا وعش! }، وقال:{ قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين }، ولا يبعد في العقل أن يعيد الله تعالى الحياة في بعض أجزاء الجسد ولا يبعد هذا بالاستبعاد لما بيناه، ولا بقوله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى }؛ لأنه يحتمل أن يريد به الموتة التي فيها جزع وغضض، وموتة القبر ليست كذلك. ويحتمل أيضًا أن يريد جنس الموت، ولم يرد موتة واحدة، فإذا احتمل لم يرد به ما قدمناه من الظواهر والأخبار.(8/402)
قال القاضي: ذكر المسلم في هذا الموضع أحاديث كثيرة في عذاب القبر، وإسماع صوت من يعذب فيها، وسمع الموتى قرع نعال دافنيهم، وكلامه لأهل القليب، وقوله:" ما أتتم باسمع منهم "، وسؤال الملكين للميت واقعادهما إياه، وجوابه لهما، والفسح له. في قبره، وعرض مقعده عليه بالغداة والعشى. وهذا كله قد تقدم فيه لنا كلام في كتاب الصلاة والجنائز، وأن مذهب أهل السنة تصحيح هذه الأحاديث وإمرارها على وجهها ؛ لصحة طرقها، وقبول السلف لها. خلافًا لجميع الخوارج،ومعظم المعتزلة، وبعض المرجئة ؛ إذ لا استحالة فيها ولا رد للعقل، ولكن المعذب الجسد بعينه بعد صرف الروح إليه أو إلى جزء منه،خلافًا لمحمد بن جرير وعبد الله بن كرام ومن قال بقولهما ؛ من أنه لا يشترط الحياة ؛ إذ لا يصح / الحس والألم واللذة إلا من حي، وان. شاهدنا الجسد نحن على هيئته غير معذب، فذلك لا يرد ما جاء كحال النائم، وشبه الأموات من المرضى، وأصحاب السكتات مع الجلوس بالتذاذه وإلامه بمرائيه وأحلامه، ونحن لا نشاهد ذلك منه، إذ واجد اللذة والألم منه مكان الإدراك وكذلك إقعاده الوارد في الحديث يحتمل أن يختص بالمقبور دون المنبوذ، وصفة إقعاده مغيبة عن العيون، وكذلك ضربه بالأرزبتين الوارد في الحديث، فلا يبعد التوسع له في لحده والإقعاد له، والمحاورة ثم تنعيمه أو تعذيبه أ فانظر تمام الكلام هناك، وبسطه هناك.
وأما قوله:" هذا مقعدك، حتى يبعثك الله إليه "، فتنعيم المؤمن وتعذيب الكافر بمعاينة ما أعد الله لكل واحد منهما، وانتظار ذلك إلى اليوم الموعود.(8/403)
وأما قوله: " فينفسح له في قبره "، فيحتمل أن يكون على ظاهره وأنه ترتفع الحجب عن بصره مما يجاوره من الأجسام الكثيفة بمقدار ما أراد الله له من ذلك حتى لا تناله ظلمة القبر ولا ضيقه متى رد روحه إليه فيه وحصل له الحس، أو يكون على ضرب المثل والاستعارة للرحمة والنعيم، كما يقال: برد الله مضطجعه، وسقى قبره. وقوله فيه:" ويملأ عليه خضرًا "، أي: نعمًا غضة ناعمة. وأصله من خضر الشجر. والعرب تقول: أخضر خضر، كما تقول أعور عور للتأكيد في الوصف. والخضر والأخضر بمعنى متقارب، ومنه قول على في إنذاره بالحجاج: " ياكل خضرتها، ويلبس فروتها ". قال شمر: يعني غضها وناعمها، ومنه: أخذ الشيء خضرًا أخضرًا: أي غضًا طريًّا، ومنه الحديث:" من خضر له في شيء فليلزمه "، أي من رزق منه وأعطيه. وقوله في حديث يحيى بن أيوب:" فجاءت به ناقته "، أي: نفرت ومالت عن الطريق. وقرع النعل وخفقها: ضربها بالأرض.
وقوله:" ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتلى بدر ثلاثًا، ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم " الحديث، قال الإمام: ذهب بعض الناس إلى أن الميت يسمع ؛ أخذًا بظاهر هذا. والذي عليه المحققون أن الله تعالى خرق العادة بأن أعاد الحياة إلى هؤلاء الموتى ليفزعهم - عليه السلام - وإلى هذا ذهب قتادة،وقد ذكر الحديث لعائشة فقالت لنا: قال النبي - عليه السلام -: " إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم حق " ثم قرأت:{ إنك لا تسمع الموتى } الآية. فأنت ترى عائشة كيف أنكرت ظاهر الحديث، وحولته إلى لفظ آخر. والتشكك في سماع الموتى وحبسهم يخرم الثقة بالعلوم الضرورية.(8/404)
قال القاضي: والذي يحمل عليه سماع هؤلاء هو ما يحمل عليه سماع الموتى في سائر أحاديث عذاب القبر وفتنته التي لامدفع فيها، وذلك بإحيائهم وإحياء جزء منهم يعقلون به ويسمعون، ويجيبون في الوقت الذي يريده الله تعالى. وقوله في هذا الحديث:" قد جيفوا "، كذا ضبطناه بفتح الجيم، أي: أنتنوا. يقال: جافت الجيفة واجتافت وأروحت بمعنى.
وقوله فيه:" فألقوا في طوى من أطواء بدر "، الطوى: البئر المطوية بالحجارة، وجمعها أطواء، وهي بمعنى القليب في الحديث الآخر.
وقوله فيه: " فرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ريطة كانت على أنفه هكذا ". قال الإمام: الريطة: /كل ملاءة لم تكن لفقين، وجمعها ريط. وقال ابن السكيت: كل ثوب لين رقيق فهو ريطة.
قال القاضي: قوله:" انطلقوا به- يعني روح المؤمن - إلى آخر الأجل "، يعني - والله أعلم -: منتهى أرواح المؤمنين، كما جاء في سدرة المنتهى. وذكر مثله في روح الكافر، والمراد - والله أعلم - سجين،كما جاء في الحديث الآخر.
وأما قوله في روح الكافر، وذكر من نتنها، وذكر لعن كذا، هي في جميع النسخ كان القشي يقول فيها: لعله، وذكر الخراء، كما قال أولاً في روح المؤمن، وذكر المسك، قال: ويدل عليه رد النبي - صلى الله عليه وسلم - الريطة على أنفه.(8/405)
قال القاضي: وإنما ذهب لمقابلة المسك بما ذكر كما قابل الطيب بالنتن، وقد يكون هذا ترجيحًا لو ساعدته الرواية، وإلا فالرواية بما ذكرناه، ويكون هذا اللفظ لعنًا صحيحًا مقابلاً لقوله في المؤمن: " صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه "، وليس من شرط الكلام أن يتقابل كله، وليس بترجيح مقابلة المسك بهذه اللفظة التي ذكر، ولا تكون الصلاة على المؤمن في الحديث مقابلة بأولي من مقابلة الصلاة للمؤمن باللعن للكافر، ولا يكون للمسك فيه مقابلة. ولا حجة في رد النبي - صلى الله عليه وسلم - الريطة على أنفه على إثبات تلك اللفظة، فإن في الحديث ذكر النتن، ومحمل رد الريطة على الأنف بسببه، مع أن أمثال هذه الألفاظ قلما توجد في لفظه - عليه السلام - بل كان يكنى عنها كثيرًا، ولم يكن فاحشًا ولا متفحشًا.
وقوله:" من نوقش الحساب عذب "، أي: من استقص عليه، قال الهروي: يقال: انتقشت منه حقي، أي: استقصيته منه، ومنه: نقش الشوكة، وهو استخراجها ؛ ولقوله:" عذب " معنيان:
أحدهما: أن نفس مناقشة الحساب، وعرض الذنوب، والتوقيف على قبيح ما سلف له تعذيب وتوبيخ.
والثانى: أنه مفض إلى استحقاق العذاب ؛ إذ لا حسنة للعبد يعملها إلا من عند الله وتفضله، وإقراره له عليها، وهدايته لها، وأن الخالص لوجهه تعالى من الأعمال قليل، ويؤيد هذا التأويل قوله في الرواية الأخرى:" هلك" مكان " عذب ".
وهذا الحديث مما تتبعه الدارقطني على مسلم والبخاري، للاختلاف فيه عن ابن أبي مليكة، فروى عنه عن عائشة، وروى ابن القاسم عنها في أول إسناد حديث قتلى بدر: حدثنا إسحاق بن عمر بن سليط الهذلي، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس.(8/406)
قال الإمام: قال بعضهم في نسخة ابن الحذاء: حدثنا شيبان بن عبدالرحمن، حدثنا يمان، وهو خطأ فاحش، وصوابه: شيبان بن فروخ، وهو الأيلي، من شبوخ مسلم، وأما شيبان بن عبد الرحمن فهو النحوي، يكنى أبا معاوية، وليس هو في طبقة من يروى، مسلم، هو أعلى من ذلك.
قال القاضي: وعلى الصواب رويناه عن جماعة شيوخنا إلا من هذا الطريق.
وفي هذا الحديث إعلام من أعلام نبوة نبينا - عليه السلام - بإعلامه ما ذكر فيه من مصارع القوم يوم بدر، وقول عمر:" فما أخطؤوا / الحدود التي حدها رسول الله "، وإخباره عنهم بسماع توبيخه واظهار ما اخبر عن الله أنه وعده به من نصره.
وقوله:" لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله "، تحذير من القنوط المهلك، وحض على الرجاء عند الخاتمة ؛ لئلا يغلب عليه الخوف حينئذ فيخشى غلبة اليأس والقنوط فيهلك، وعبادة الله إنما هي من أصلين: الخوف والرجاء. فيستحب غلبة الخوف ما دام الإنسان في خيرية العمل، فإذا دنى الأجل وذهب المهل، وانقطع العمل، استحب حينئذ غلبة الرجاء ؛ ليلقى الله تعالى على حالة هي أحب الأحوال إليه جل اسمه ؛ إذ هو الرحمن الرحيم، ويحب الرجاء وأثنى على نبيه - عليه السلام - بذلك، ويؤيد ما قلناه قوله في الحديث بعد هذا: " يبعث كل أحد على ما مات عليه "، فهذا جامع لهذا ولغيره، وأن العبد يبعث على الحالة التي مات عليها. ونبه مسلم رحمه الله بذكره هذا الحديث بعقب الذي قبله يدل على سعة معرفته، وأنه أورده على التفسير له، والله أعلم، ثم جاء بعده بالحديث الآخر بقوله:" ثم بعثوا على أعمالهم" ليرى أن ذلك الحديث الذي قبله، وإن كان مفسرًا لما تقدم، فليس مقصورًا عليه، وإنما هو عام في ذلك وفي غيره ؛ بدليل هذا الآخر، ثم وصل به ابتداء.
**************
كتاب الفتن(8/407)
أحاديث الفتن: وقدم فيها حديث الجيش الذي يخسف به، ثم قال: "يبعثهم الله على نياتهم "، وذكر مسلم حديث: " ويل للعرب من شر قد اقترب "، وذكر في سنده الأول: عن عمرو الناقد، عن زينب بنت أم سلمة، عن ام حبيبة، عن زينب بنت جحش. فذكر فيه ثلاث صحابيات وربيبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وزوجتان، روى بعضهم عن بعض. وذكر بعد هذا من حديث حرملة بن يحيى مثله، وكذا ذكره البخاري. ثم ذكره مسلم من حديث ابن أبي شيبة وغيره فقال: عن زينب بنت أبي سلمة، عن حبيبة، عن أم حبيبة، عن زينب بنت جحش. فجاء بأربع: ربيبتان وزوجتان وحبيبة هذه هي، بنت عبد الله بن جحش، وهي بنت أم حبيبة ابنة أبي سفيان المذكورة في هذا الحديث. وكذا ذكره الترمذي وغيره. وكذا ذكره عبد الغني الحافظ في " كتاب الرباعيات " له.
قوله فيه:" أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث "، ويروى:" الخبث "، قال الإمام: إذا كثر الفسوق والفجور.
قال القاضي: العرب تسمى الزنا خبثًا وخبثة، ومنه في المخرج : أنه وجد مع أمة يخبث بها، أي يزني بها، وهو أحد التأويلين في قوله تعالى: {الخبيثات للخبيثين } الآية، وقيل:" إذا كثر الخبث "، أي أولاد الزنا. وقيل: إذا كثر الزنا. وقد جاء في حديث آخر مفسرًا:" ويكثر الزنا ".(8/408)
وقوله في تفسير قوله:" فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه " وعقد سفيان عشرة، وفي حديث يونس:" وحلق بأصبعه الإبهام والتى يليها"، وفي حديث أبي هريرة:" وعقد وهيب بيده تسعين ". فأما حديث سفيان ويونس عن ابن شهاب فمتقاربا المعنى والتفسير. وأما عند وهيب في حديث أبي هريرة: " تسعين " فلعله حديث آخر متقدم على حديث زينب ؛ إذ التسعون أضيق من العشرة، فيكون بين الحديثين مقدار ما زاد فتح العشرة على عقد التسعين، أو يكون هذا كله على التقريب والتمثيل لابتداء الفتح / والله أعلم ؛ لما روى في الآثار من نقبهم السد حتى يروا الضوء، فيقولون: غدا نفتحه. فيصبح على حالته الأولى، حتى إذا شاء الله بفتحه وبخروجهم قالوا: غدًا نفتحه إن شاء الله. فيصبح كما تركوه فيفتحونه، والأظهر في هذا الخبر أنه على وجهه، وقد قيل: إنه ضرب مثل لابتدائه.
وذكر مسلم حديث قتيبة وابن أبي شيبة وإسحاق في الجيش الذي يخسف به وفي أوله: دخل الحارث بن ربيعة وعبد الله بن صفوان على أم سلمة، أم المؤمنين، فسألاها، ثم قال: وذلك في أيام ابن الزبير قال أبو الوليد الكناني: هذا لا يصح ؛ لأن أم سلمة ماتت أيام معاوية قبل موته بسنة، ولم تدرك أيام ابن الزبير.(8/409)
قال القاضي: قد قيل: إنها ماتت أيام يزيد بن معاوية في أولها، فعلى هذا يستقيم الخبر، فإن عبد الله نازع يزيد لأول ما بلغته البيعة له عند موت معاوية. وداجاه شيئًا، ووجه إليه يزيد أخاه عمرو بن الزبير ليجيئه به أو يقاتله، فظفر به عبد الله بن الزبير،ومات في سجنه وصلبه. ذكر ذلك الطبري وغيره، وذكر وفاة أم سلمة أيام يزيد أبو عمر بن عبد البر في استيعابه. وقد جاء الحديث بعد هذا من طريق عبد الله بن صفوان عن حفصة مكان "أم سلمة "، وجاء بعده أيضًا: عن عبد الله بن صفوان أيضًا وعن أم المؤمنين، ولم يسمها، وعن عائشة، قاله الدارقطني، قال: وقد رواه سالم ابن أبي الجعد، عن عبد الله بن صفوان، عن حفصة أو أم سلمة، قال: والحديث معروف عن أم سلمة، وقال أيضًا: الحديث محفوظ عن حفصة.
ذكره في هذا الحديث البيداء وبيداء المدينة. البيداء: أرض ملساء لا شيء بها. وبيداء المدينة: الشرف الذي قدام ذي الحليفة في طريق مكة، وهي أقرب إلى مكة من ذى الحليفة، وهي المختلف في مهل النبي - صلى الله عليه وسلم - منها.
وقوله:" ليس معهم منعة " بفتح النون، أي: ما يمنعهم ويحميهم.
وقوله:" يؤمون هذا البيت "، أي: يقصدونه.
وقوله:" فمنهم المجبور "، وصوابه:" المجبر "، وهي اللغة المشهورة. أجبرت الرجل: إذا كرهته، وقيل: جبرت أيضًا، حكاها الفراء.
وقوله:" وفيه المستبصر "، أي: المستبين لذلك، القاصد له عن عمد.
وقوله:" وفيهم ابن السبيل "، أي: السالك الطريق معهم ليس منهم.
وقوله:" يهلكون مهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادر شتى على نياتهم "، أي: يبعثون على ذلك يوم القيامة من اختلاف نياتهم، فيجازى كل أحد على نيته. وأصل الصدر: الرجوع عن ورود الماء بعد الري منه، والبعث بعد الموت رجوع إلى حالة الحياة.(8/410)
وفي هذا الحديث من الفقه: تجنب أهل المعاصي والبعد عنهم، وتجنب مجالس الظلم وجموع البغي ؛ لئلا يعم البلاء ويحيق بالجميع المكر. وفيه أن من كثر سواد قوم فهو منهم، وأن المعاصي إذا كثرت ولم تنكر ولم تغير، عمت العقوبة، قال الله تعالى:{ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة }، وهو من معنى قوله في الحديث المتقدم:" أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث ".
وقوله في هذا الحديث:" عبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منامه "، قيل: معناه: اضطرب بجسمه، ويحتمل أنه بحركة أطرافه كمن يأخذ شيئًا ويدفعه، ويحتمل أن / يكون بحركة جسمه منزعجًا لهول ما راه.
وقوله:" أشرف على أطم من آطام المدينة "، الأطم بضم الهمزة والطاء المهملة، قال الإمام: هو بناء من حجارة مرفوع كالقصر. وأطام المدينة: حصونها.
قال القاضي: وقوله:" أشرف "، أي: علا وصعد.
وقوله في الفتن:" من تشرف لها تستشرف "، كذا سمعناه من القاضي أبي علي:" تشرف " بفتح التاء والشين معًا، وسمعناه من أبي بحر:" من يشرف" بضم الياء المنقوطة من أسفل باثنتين، وإسكان الشين، وكسر الراء، ومعناه فيما قيل: من الإشراف، وهو الانتصاب والتعرض والتطلع. وتستشرفه: تغلبه وتصرعه. وقيل: معناه من الشرف، وهو الإشفاء من الهلاك والخطر، ومن قولهم: أشفا المريض على الموت وأشرف.
وقوله:" النائم فيها خير من اليقظان، والقاعد فيها خير من القائم "، الحديث تنبيه على عظم الخطر في الدخول فيها، وحض على تجنبها، والإمساك عن التشبث بشيء منها، أو أن بلاءها بقدر مبلغ الإنسان منها، وعلى قدر دخوله فيها ؛ ولهذا حض - عليه السلام - على الهروب عنها وطلب النفاد منها.
وقوله:" ويعمد إلى سيفه فيدقه بحجر "، أمر بترك القتال واتخاذ السلاح حينئذ، ويكرن هذا استعارة. وقد يحنمل أن يكون على وجهه، حتى لا يجد إن نازعته نفسه للدخول فيها معينا عليها.(8/411)
وقد احتج بهذا ومثله من ذهب من السلف إلى ترك الدخول في الفتنة، وأنه لا يقاتل وإن دخل عليه وطلب قتله، وأنه غير جائز له المدافعة ؛ إذ الطالب له غير متعمد لقتله، وإنما هو متأول، وهو مذهب أبي بكرة وغيره. وقال:" لو دخلوا على ما بهشت بقصبة، فكيف أقاتلهم ؟"
وكافة من لم ير الدخول في الفتنة من الصحابة والتابعين يرى المدافعة، وهو مذهب ابن عمر وعمران بن حصين وغيرهما. فهذان مذهبان لمن رأى القعود في جميع فتن الإسلام ؛ لما ورد من النهي عن الدخول فيها. وذهب معظم الصحابة والتابعين إلى نصر الحق في فتن المسلمين، والقيام معه كما أمر الله به في البغاة بقوله:{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } الآية. وقال آخرون: إنما القيام على البغاة للامام، فأما كل فتنة بين المسلمين ولا إمام لجماعتهم، فلا يحل الدخول فيها كيف كانت.
وذهب أبو جعفر الطبري إلى أن الفتنة التي قال النبي - عليه السلام -:" القاعد فيها خير من القائم "، أنها إذا كانت بين حزبين وبطلين معًا، وسائر المسلمين بينهما مغمورون، فهذه التي أمر فيها بالهرب وكسر السيوف، ولزوم البيوت. وأما فتنة من يشكل فيها المحق من المبطل، فواجب عل كل من لم يتبين له المحق من المبطل، منهما الانعزال حتى يتضح الحق، فيقوم مع أهله، ويعين حزبه ؟ ولهذا تأولوا على من تخلف من جملة الصحابة في حروب على، ويصح هذا التأويل قوله:" إن جئتني بسيف له عينان "، قالوا: ولو أبيح الكف في كل فتنة ولزوم البيوت لم يقم لله حق ولا أبطل باطل، ولوجد أهل البغي والاستطالة السبيل. قال الطبري: وقد يكون ما ورد من كسر السيوف ولزوم البيوت خاصًّا / لمن أمره النبي - عليه السلام - بذلك.
وقوله:" من الصلاة صلاة من فاتته..."، الحديث تقدم شرحه.(8/412)
وذكر مسلم في حديث:" إذا تواجه المسلمان بسيفيهما ": حدثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب ويونس، قال الإمام: هكذا إسناد هذا الحديث، ووقع في نسخة أبي العلاء بن ماهان: حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد ابن سلمة، والمحفوظ حماد بن زيد، وكذلك خرجه أبو داود عن أبي كامل عن حماد ابن زيد، وخرّجه البخاري عن عبد الرحمن بن المبارك عن حماد بن زيد عن أيوب ويونس.
وقوله:" إذا تواجه المسلمان بسيفيهما "، قال القاضي: كذا الرواية المعروفة. والوجه في الكلام: أي ضرب كل واحد منهما وجه صاحبه. وفي رواية العذري: " توجه " له، وإن لم يكن تغيير وجهه، أي استقبل كل واحد منهما وجه صاحبه وجعله وجهه، أي قصده.
وقيل في قوله تعالى:{ وجهت وجهي }، أي: جعلت قصدى.
"فالقاتل والمقتول في النار "، قال القاضي: فيه حجة للقاضي أبي بكر بن الطيب ومن قال بقوله: إن العزم على الذنب والعقد على عمله معصية، بخلاف الهم دون عزم. فإنه معفو عنه لقوله: قلت: فما بال المقتول ؟ قال: " لأنه أراد قتل صاحبه "، خلافًا لغيره ومن خالفه يقول له: هذا قد فعل أكثر من العزم، وهو المواجهة والقتال. وقد تقدمت المسألة أول الكتاب.
ويتوجه في هذا الحديث الكلام في دماء الصحابة وقتالهم، وللناس في ذلك غلو وإسراف، واضطراب من المقالات واختلاف. والذي عليه جماعة أهل السنة والحق: حسن الظن بهم والإمساك عما شجر بينهم، وطلب أحسن التأويل لفعلهم، وأنهم مجتهدون غير قاصدين للمعصية والمجاهرة بذلك، وطلب سحق للدنيا، بل كل عمل على شاكلته، وبحسب ما أداه إليه اجتهاده، لكن منهم المخطئ في اجتهاده ومنهم المصيب، وقد رفع الله الحرج عن المجتهد المخطئ في فروع الدين، وضعف الأجر للمصيب. وقد وقف الطبري وغيره عن تعيين المحق منهم.(8/413)
وعند الجمهور أن عليًّا وأتباعه مصيبون في ذبهم عن الإمامة، وقتالهم من نازعهم فيها، إذ كان أحق الناس بها وأفضل من على وجه الدنيا حينئذ وغيره تأول وجوب القيام بتغيير المنكر في طلبه قتلة عثمان الذين في عسمكر على، وأنهم لا يقطعونبيعة ولا يعتقدون إمامة، نقضوا ذلك ولم يطلبوا سوى ذللث، ولم ير هو دفعهم، إذ الحكم فيهم للأمام وكانت الأمور لم تستقر استقرارها، ولا اجتمعت الكلمة بعد وفيهم عدد، ولهم شوكة ومنعة، ولو أظهروا تسليمهم أولاً والقصاص منهم لاضطرب الأمر، وأنبت الحبل، ومنهم جماعة لم يروا الدخول في شيء من ذلك، محتجين بنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التلبس بالفتن، والنهى عن قتال أهل الدعوة، كما احتج به أبو بكرة في كتاب مسلم في هذا الحديث على الأحنف، وعذروا الطائفتين بتأويلهم، ولم يروا إحداهما باغية فيقاتلوها. وأما غير أهل الحق فلهم في ذلك مقالات بشعة شنيعة يستغنى عن ذكرها.
وقوله: أرأيت إن كرهت، إلى قوله: فيقتلني قال - عليه السلام -:" يبوء بإثمك وإثمه "، أي: يلزمه ويرجع بذلك. وأصل البوء: اللزوم / أي تبوء بإثمه فيما دخل فيه ومنعه من الدخول في الفتنة، وبإثمك لقتله إياك، وبإثمك لإكراهه إياك على ما أكرهك. وفيه رفع الحرج عن المكره على مئل هذا في هذه المسألة، وهو المحمول الذي لا يملك نفسه لقوله: أكرهت حتى ينطلق بي، ولم يختر أنه انطلق من قتل نفسه. ولم يختلفوا أن الإكراه على القتل لا يعذر به أحد ولا على ظلم غيره، لانما العذر فيما تعلق بالقلب، أو ما لا يملك فيه الإنسان نفسه.
واختلف في الإكراه على المعاصي التي بين الله وعبده، هل يعذر المكره فيها في أحكام الدنيا والآخرة أم لا ؟(8/414)
وقوله في الحديث:" فالقاتل والمقتول في النار "، ومعناه: إن جازاهما الله وعاقبهما على ماتقدم من مذهب أهل السنة، ويكون هذا في غير أهل التأويل. وقوله في الحديث الآخر:" إذا المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح فهما في حر جهنم "، كذا لابن ماهان، وللطبري والعذري:" فهما على حرف جهنم "، وللسمرقندي:" على جرف " بالجيم فيهما، وعند بعضهم: " في حرف " بالحاء. وكل هذا متقارب، إلا أن معنى رواية "جرف "، كالحديث الأول وعلى الرواية الأخرى: أن حالهما مفضية إلى قتل أحدهما الآخر، فهما كمن هو على جرف، أو حرف جهنم، لا يأمن السقوط فيه وانهياره في النار، كما قال تعالى:{على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم }، وهذه الرواية أولى لقوله:" فإذا قتل أحدهما الآخر دخلاها جميعًا "، وهذا الحديث ذكره مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن غندر، وعن محمد بن بشار وابن المثنى عنه، عن شعبة، عن منصور بسنده، رفعه. وقد تعقبه الدارقطني، وقال: خرجه مسلم، وعلقه البخاري، ولم يرفعه الثوري عن منصور.
قوله:" إن الله زوى لي الأرض " الحديث، قال الإمام: " زويت لي الأرض"، أي: جمعت، يقال: انزوى القوم وتدانوا وتضاموا، قال القاضي: إنما وقع في الأم ما تقدم. وهذا الحديث علم من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - لظهوره كما قال، وأن ملك أمته اتسع في المشارق والمغارب كما اخبر من أقصى بحر طنجة، ومنتهى عمارة المغرب إلى أقصى المشرق مما وراء خراسان والنهر وكثير من بلاد الهند والسند والصغد، ولم يتسع ذلك الاتساع من جهه الجنوب والشمال الذي لم يذكر - عليه السلام - أنه أريه وأن ملك أمته سيبلغه.(8/415)
وقوله: وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض: ظاهره الذهب والفضة، والأشبه أنه أراد كنز كسرى وقيصر، وقصورهما وبلادهما، يدل على ذلك قوله في الحديث الآخر عنهما في هلاكهما: " ولتنفق كنوزهما في سبيل الله"، وقوله في حديث جابر بن سمرة المخرج بعد:" لتفتحن عصابة من المسلمين كنز اس كسرى الذي بالأبيض "، فقد بان أن الكنز الأبيض هو كنز كسرى، ويكون الأحمر كنز قيصر.
ويدل عليه ماجاء في حديث آخر في ذكر الشام:" إني لأبصر قصورهما الحمر "، وقوله:" إني لأبصر قصر المدائن الأبيض "، ويدل على ذلك أيضًا قوله - عليه السلام -:" إذا منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها " / فقد أضاف الفضة البيضاء إلى العراق وهي مملكة كسرى، والدينار الأحمر إلى الشام وهي مملكة قيصر. وقد يدل هذا أيضًا إلى ما ذكرناه أولاً من المراد به الذهب والفضة. وقيل: هو المراد بالحديث.
وقوله في تفسير الهرج بالقتل، وأصله: الاختلاط، هرج القوم: إذا اختلطوا. وقد جاء في البخاري تفسيره القتل بلغة الحبشة، وإنما هذا من بعض رواة الحديث، وإلا فهو القتل كما ذكرنا معلوم فى لغة العرب. وقال ابن دريد: الهرج: الفتن في آخر الزمان. والهرج أيضًا: الاختلاط، ومنه قيل: فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة. والهرج أيضًا: كثرة النكاح، هرجها: نكحها، وفي الحديث: " يتهارجون تهارج الحمر، يحتمل للمعنيين معًا.
وقوله: " لا يهلكها الله بعامة "، أي: بشدة تجتاحهم وتعم جميعهم بالهلاك.
وقوله:" تستبيح بيضتهم "، أي: جماعتهم وأصلهم، وهو مأخوذ من بيضة الطائر لتحصينها ما فيها، واجتماعها عليه. والبيضة أيضًا: العز. والبيضة أيضًا: الملك.(8/416)
وقول حذيفة:" والله ! إنى لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة بيني وبين الساعة، وما بي إلا أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسر إلي في ذلك شيئًا لم يحدثه غيري "، كذا هي الرواية عند جميع شيوخنا. وقال بعضهم: وجه الكلام: وما بي أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسقاط " إلا "، وكأنه رأى أن الكلام يختل بإثباتها لدلالة الكلام بها على إثبات السر له . وقد أخبر متصلاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك في مجلس فيه ناس فتناقض عنده الكلام ويكون مراده: ما بي أني اختصصت بعلم ما أسر إلي، بل قد شاركني غيري في كثير من علمها من قبلها بدليل آخر الحديث أيضًا، وبقوله في الحديث الآخر:" نسيه من نسيه وحفظه من حفظه "، لكن لهذا ولقوله في ذلك المجلس الذي حدث فيه - صلى الله عليه وسلم - بما حدث، فذهب أولئك القوم غيري، فانفرد هو بمعرفة ذلك دون غيره، وليس عندي في ذلك تناقض، ولا في إثبات إلا ما يختل به الكلام. وايداع النبي - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة من سر الفتن ما أودع، مشهور في الأحاديث الصحاح، وهو كان صاحب سرها، والاهتبال بالسؤال عنها. ويكون معنى كلامه: ومابي من عذر في الإعلام بجميعها والحديث عنها إلا ما أسر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مما لم يحدث به غيري، ولعله حد له ألا يذيعه،أو رأى من الصلاح ألا يذيعه، إذا لم يكن عند غيره، وأما ما لم يسره إليه ولا خصه به، فهو الذي يحدث به كما جاء متصلاً بقوله: لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال، وهو يحدث في مجلس أنا فيهم عن الفتن.
وقوله بعد في الحديث الأخر: وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فآراه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه. قال بعضهم: في هذا الكلام اختلال، يعني من الرواة. وصوابه: كما ينسى، أو كما لا يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه، وبه يصح تمثيله. وفي البخاري فيه تلفيق أيضًا.(8/417)
وقوله في حديث / يعقوب الدورقي: أنبانا علباء بن أحمر، حدثنا أبو زيد قال: صلى بنا رسول - صلى الله عليه وسلم -. أبو زيد هذا هو عمرو بن أخطب بالخاء المعجمة، وكذا وقع مبينا في رواية السمرقندي، والشنتجالي عن السجزي: حدثنا أبو زيد - يعني عمرو بن أخطب - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.?وهو عمرو بن أخطب الأنصاري من بني الحارث بن الخزرج، صحب النبي وقال: غزوت معه ست غزوات أو سبعًا، انتهى. والكلام على حديث حذيفة مع عمر بن الخطاب في الفتنة تقدم في كتاب الإيمان.
وقوله فيه: " إنك لجرىء "، أي: جسور مقدام على ذلك. والجرأة: الجسارة وعدم هيبته. وقول جندب:" جئت يوم الجرعة " كذا هو بفتح الجيم والراء والعين المهملة، وهو موضع بجهة الكوفة. ورريناه عن بعضهم بسكون الراء. وأصل الجرعة: المكان الذي فيه سهولة ورمل، يقال له: جرع وأجرع وجرعًا. وهو يوم خروج أهل الكوفة إلى سعيد بن العاص، وكان عثمان ولاه عليهم فردوه وولوا أبا موسى الأشعري، وسألوا عثمان توليته فأقره.
وقوله في هذا الحديث:" تسمعني منذ اليوم أحالفك "، كذا رواية شيوخنا بالحاء المهملة من الحلف الذي هو اليمين، وقد رواه بعضهم: "أخالفك " بالخاء المعجمة، وكلاهما يصح. ويدل عليه الحديث، لكن أظهرها بالحاء المهملة لتردد الأيمان بينهما في ا لحديث.
وقوله:"حتى يحسر الفرات "، أي ينصب. وأصله الكشف، أي يكشف عن الأرض وعن قراره،ومنه حسرت العمامة عن رأسي، ومنه الحاسر، الذي لا سلاح عليه. ووقع في رواية السمرقندي:"ينحسر "، وحكى عن بعضهم أنه قال:حسر البحر، ولا يقال: انحسر.(8/418)
قوله:" لا يزال الناس مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا "، الأعناق من هنا - والله أعلم - الرؤساء والكبراء، وهو أحد التفاسير في قوله تعالى:{ فظلت أعناقهم لها خاضعين }، ويكون الأعناق أيضًا هنا: الجماعات، يقال: جاءني عنق من الناس، أي جماعة، وقد يكون هنا أيضًا الأعناق نفسها، عبر بها عن أصحابها، لاسيما وهي التي بها التطلع والتشوف، للأمور، ومنه يقال: رفع فلان رأسه لأمر كذا ومد عنقه له.
وقوله:" وقفت في ظل أجم حسان "، بضم الهمزة، وهو الحصن، وجمعه آجام مثل أطم وآطام.?
وتقدم الكلام في كتاب الإيمان على تفسير اسم المسيح ابن مريم واسم المسيح الدجال، ومعنى الدجال.
وذكر مسلم حديث حرملة بن يحيى: حدثنا ابن وهب، حدثنا أبو شريح ؛ أن عبدالكريم بن الحارث حدثهم ؛ أن المستورد بن شداد القرشي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:" تقوم الساعة والروم أكثر الناس "، هذا الحديث مما تتبعه أبو الحسن الدارقطني على مسلم، وقال: عبد الكريم لم يدرك المستورد، والحديث مرسل.
وقوله في هذا الحديث:" وأجبر الناس عند مصيبة،: هكذا رواية جمهور شيوخنا وعند بعضهم:" واصبر الناس " بالصاد، والأول أولى ؛ لمطابقته في الرواية الأخرى:"وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة "، وهذا بمعنى أجبر هنا، والله أعلم.
وقوله:" فجاء رجل ليس له هجيري إلا: يا عبد الله جاءت الساعة "، كذا رواه شيوخنا عن العذري وغيره، وحدثنا به الأسدي، عن أبي الفتح الشاشي:" هجيري"، وكذلك عند التميمي وهو الصواب، على وزن "فعيلي"، أي دأبه وشأنه. قال ابن دريد: يقال: ما زال ذلك هجيراه واهجيراه، أي دأبه.
وقوله:" نهد إليهم بقية أهل الإسلام "، أي: تقدموا إليهم ونهضوا.(8/419)
وقوله:" فيشترط المسلمون شرطة "، الشرطة بضم الشين: أول طائفة من الجيش يشهد الواقعة ويتقدم، ومنه سمي الشرطان لتقدمهما أول الربيع، كذا فسره غير واحد. ويحتمل أنهم سموا بذلك لعلامات تميزوا بها. ومنه سمى الشرط، ومنه أشراط الساعة أي علاماتها.
وقوله:" فيجعل الله الدائرة عليهم "، كذا للعذري، ولغيره: " الدبرة " بفتح الدال والباء بواحدة ساكنة، ومعناهما متقارب. قال الأزهري: الدائرة: الدولة تدور على الأعداء، وبه فسر قوله تعالى:{ أن تصيبنا دائرة }. وقال ابن عرفة: أي حادثة من حوادث الدهر. وقال الهروي: الدبرة: النصر والظفر، يقال: لمن الدبرة، أي: الدولة، وعلى من الدبرة، أي: الهزيمة.
وقوله: " حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلفهم "، كذا روايتنا فيه عن جماعة الرواة، ووقع لبعضهم:" بجثمانهم "، وكذا في كتاب القاضي التميمي عن ابن الحذاء. ويروى:" فما يلحقهم "، ومعنى:"جثمانهم "، أي: شخوصهم. وجثمان كل شيء: شخصه. والجنبات: النواحي، وكان رواية:" يخلفهم " أقرب للمعنى، وإن صحت الأخرى في معناها.
وقوله: "إذا سمعوا بناس هو كثر من ذلك "، كذا عند العذري " ناس " بالنون، و" كثر " بالثاء المثلثة، وعند غيره " ببأس هو كبر " بباء بواحدة فيهما. قال بعض مشايخنا: هو الصواب، وتصححه رواية أبي داود: "سمعوا بأمر أكبر من ذلك ".
وقيل في الحديث: عن بشر بن جابر، وقال في آخره عن ابن أبي شيبة: أسير بن جابر، بالألف، وكذلك اختلف الرواة فيه في حديث شيبان بن فروخ بعده، فعند السمرقندي والعذري:" بشير "، بالباء، وعند غيرهما "أسير " بالألف، وقد تقدم الخلاف فيه وفي اسم أبيه في كتاب " "، وقول ابن المديني في ذلك، وذكر مسلم هنا الوجهين.
وقوله في الحديث:" لا يغتالونه "، أي: يقتلونه غيلة، وهو القتل سرًّا، واعتقالاً، وختلاً.(8/420)
وقوله:" لعله نجى معهم "، من المناجاة، وهو التحدث في خلوة عن الناس، ومنه قوله تعالى:{ خلصوا نجيًّا }، وقال تعالى:{ وقربناه نجيًا }. قال ابن عرفة: النجي يكون للواحد والجميع. وذكر في الحديث جزيرة العرب، هي بلاد العرب. قال الخليل: سميت جزيرة العرب ؛ لأن بحر فارس وبحر الحبشة والفرات ودجلة أحاطت بها. وقال الحربي: عن محمد بن فضالة: إنما سميت بذلك ؛ لإحاطة البحر بها، والأنهار من أقطارها. وقال الأصمعي: جزيرة العرب ما لم تبلغه ملك فارس من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق، وعرضها من جدة وما والاها إلى ساحل البحر إلى أطوار الشام. وفال الشعبى: جزيرة العرب ما بين حفر أبي موسى بالعراق إلى أقصى اليمن في الطول، وفي العرض ما بين رمل " يبرين " إلى منقطع السماوة. وعن مالك جزيرة العرب: المدينة. وحكى البخاري عن المغيرة: هي مكة والمدينة واليمامة واليمن. وحكاه إسماعيل القاضي عن / مالك قال: وهو كل بلد لم تملكه الروم ولا فارس.
وذكر مسلم حديث زهير بن حرب لإسحاق وابن أبي عمر، عن ابن عيينة، عن فرات، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد في آيات الساعة. هذا الحديث مما تتبعه الدارقطني على مسلم، وقال: إنه لم يرفعه غير فرات عن أبي الطفيل من وجه صحيح. قال: ورواه عبد العزيز بن رفيع وعبدالملك بن ميسرة موقوفًا.
قال القاضي: وقد ذكر مسلم رواية ابن رفيع موقوفة كما ذكر أبو الحسن وضبط اسم والد حذيفة بن أسيد بفتح الهمزة، وكسر السين، وكنيته أبو سريحة بفتح السين المهملة وكسر الراء وبالحاء المهملة. وقد ذكره بكنيته في الأحاديث الأخرى.(8/421)
وقوله:" فيها نار تخرج من قعرة عدن ترحل الناس "، كذا رويناه مخففًا ثلاثيًّا، أي تأخذهم بالرحيل وتزعجهم، أو تجعلهم يرحلون أمامها. وضبطه أيضًا في كتاب أبي عبيد الهروي " يرتحل " مثقل مضف، وقال: معناه: تنزل معهم إذا نزلوا، وتقيل إذا قالوا. وقيل معناه: فتنزلهم. الراحل والرحل والأرحال بمعنى الإزعاج، " وقعرة عدق ": أقصى أرضها. وكذلك قعر البئر. قال ابن دريد: والقعر أيضًا: جوبة من الأرض، يصعب فيها الصعود والحدور. وقد تقدم شرح رحل هذه النار وحشرها للناس قبل هذا.
وقوله في الحديث الآخر:" تخرج نار من أرض الحجاز "، وقد قال فيما تقدم: " من قعر عدن "، وفي الرواية الأخرى:"من اليمن " فلعلهما ناران تجتمعان لحشر الناس، أو أن يكون ابتداء خروجها من اليمن، وظهورها من الحجاز، والله أعلم.
وقوله:" تضيء أعناق الإبل ببصرى "، يقال: أضاءت النار وأضاءت غيرها. وبصرى بضم الباء: هي مدينة حوران. وقيل: قيسارية. ذكر في هذا الحديث " الدجال، في أشراط الساعة ولم يأت مفسرًا في "الأم" هنا، وكذلك " دابة الأرض "، وقد تقدم قبل هذا في كتاب بدء الخلق قول بعضهم فيه: إنه دخان، ويأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام، وبه فسر الآية. وأنكر ابن مسعود هذا، وقال: إنما هذا مما نال قريشًا من الجدب بدعائه - عليه السلام - عليهم، حتى كانوا يرون بينهم وبين السماء كهيئة الدخان وقيل: الدخان: الجدب نفسه... حكاه ابن عزيز، وما قاله ابن مسعود قاله غير واحد، والقول الأول روى عن ابن عمر والحسن وحذيفة، وأنه آية من أشراط الساعة يمكث في الأرض أربعين يومًا، وروى حذيفة ذلك عن النبي . وعن زيد بن على: الدخان: ما ينتظر بالكافر من العذاب يوم الفيامة والعرب تضع الدخان موضع الشر.(8/422)
وأما الدابة فهي المراد بقوله تعالى:{ أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم}. ذكر أهل التفسير أنها خلق عظيم يخرج من صدع من الصفا لا يفوتها أحد، وتسم المؤمن فتغير وجهه، وتكتب بين عينيه مؤمن. وتسم الكافر فيسود وجهه، وتكتب بين عينيه كافر. وعن عبد الله بن عمرو: أن هذه الدابة هي الجساسة المذكورة في حديث الدجال. وعن ابن عباس: أنه الثعبان الذي كان ببئر الكعبة فاختطفته العقاب.
وقوله:" تبلغ المساكن إهاب أو يهاب " بكسر الهمزة والباء، كذا ضبطناه عنهم. وعند ابن عيسى: " أو نهاب " بالنون معا. وتقدم الكلام في صدر هذا الكتاب / على قوله:" إلا إن الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان "، ووقع هاهنا من رواية الطبري وفي حديث تتيبة من حيث يطلع قرن الشمس، وهي تؤكد وتبين أن المراد المشرق نفسه على ما تقدم.
وقوله: " ليست السنة بألا تمطروا "، والسنة هنا: الجدب والقحط، قال الله تعالى:{ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين }.
وقوله:" حتى تضطرب آليات نساء دوس حول ذي الخلصة " أليات بفتح الهمزة واللام، يعني أعجازهن، جمع ألية، أي تضطرب من الطواف حولها، و" ذو الخلصة " يقال بفتح الخاء واللام وبضمها، وبالوجهين سمعنا هذه الكلمة من شيخنا أبي الحسين بن سراج، وبسكون اللام وجدته بخط عن أبي بحر في "الأم".
وذكر في الحديث نفسه أنه صنم كانت تعبده " دوس بتبالة. تبالة بفتح التاء والباء: موضع باليمن، وليس بتبالة التي يضرب بها المثل أهون على الحجاج من " تبالة "، تلك بالطائف. قال ابن إسحاق ذو الخلصة: بيت فيه منهم صنم يسمى ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة، وكان يسمى الكعبة اليمانية، بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جرير بن عبدالله فحرقه. وقد مر في حديث جرير في المغازى مفسرًا بنحو ما قال ابن إسحاق.(8/423)
وفي الحديث الآخر:" لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول ياليتني مكانه "، وقوله:" لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول: ليتنى مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء " أما الحديث الأول فيحتمل أن يكون لما يرى من تغيير الشريعة وتبديل الدين أو لما يرى من البلاء والمحن والفق كما نصه الحديث الآخر. وكما قال في الحديث الآخر:"لا يدري القاتل في أي شيء قتلى "، ولا المقتول على أي شيء قتل"، وعلى الوجهين فقد كان ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - وظهر، وكذلك في كثير من الإشراك والأمور والفتن التي أخبر بها في هذه الأحاديث ورتب عيانًا.
قال الإمام: خرج مسلم في باب قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس زمان لا يدرى القاتل فيما قتل ولا المقتول فيما قتل " الحديث، قال: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا مروان عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال بعده:حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان، وواصل بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن فضل، عن أبي إسماعيل الأسلمى، عن أبي حازم، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. هكذا وقع في النسخ، يريد مسلم أن شيخيه اختلفا، فقال: واصل عن أبي فضيل، عن أبي إسماعيل الأسلمى، يعني به بشير بن سليمان، وقال عبد الله بن عمر بن أبان، عن ابن فضيل، عن أبي إسماعيل، ولم يذكر الأسلمي، يعني به يزيد بن كيسان اليشكري.(8/424)
قال بعضهم: هذا يحتاج إلى مقدمة يذكرها هاهنا، وهو أن يعلم أن يزيد بن كيسان يكنى أبا إسماعيل، وأن بشير بن سليمان يكنى أبا إسماعيل أيضًا، وكلاهما يروى عن أبي حازم، وقد اشتركا في غير حديث عن أبي حازم الأشجعي، وقد ذكر منها أبو محمد الجارود أحاديث منها: ما رواه أبو حازم عن أبي هريرة: أن رجلاً أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:" إنى تزوجت امرأة على ثمان أواق " الحديث.
ومنها: حديث آخر يرويه أبو حازم عن أبي هريرة: أن عمر خرج من بيته وذكر ذهاب النبي وأبي بكر وعمر إلى بيت رجل من الأنصار، وقوله: "ما أخرجكما ؟ " قالا: الجوع، الحديث بطوله.
ومنها: ما رواه أبو حازم عن أبي هريرة في تعريس النبي - صلى الله عليه وسلم - بطريق مكة، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى ركعتي الفجر بعدما طلعت الشمس.
ومنها: حديث أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - قال:" والذي نفسي بيده، لن تذهب الدنيا حتى يتمرغ الرجل على القبر فيقول: ليتني صاحب هذا القبر ".
وخرّج مسلم من هذه الأحاديث المشترك فيها مالم يذكره ابن الجارود حديث: " قل هو الله أحد " من حديث يزيد بن كيسان وبشير بن إسماعيل، كلاهما عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: ابن جارود: فقد بأن بما ذكرنا أن أبا إسماعيل بشير غير أبي إسماعيل يزيد وإن اتفقا في الرواية قول بعضهم. كذلك هذا الحديث الواقع في كتاب الفتن، أخرجه مسلم من حديث زيد بن كيسان، ثم أخرجه بعد ذلك من رواية أبي إسماعيل الأسلمي، إلا في رواية عبد الله بن عمر بن أبان، فإنه جعله عن يزيد بن كيسان أبي إسماعيل، وكذلك لم يذكرا الأسلمي في نسبه، والله أعلم.(8/425)
قال القاضي: وقع في كتاب مسلم هنا تلفيف وتقديم وتأخير، وذلك أنه في آخر الحديث في رواية ابن أبان قال: هو يزيد بن كيسان عن أبي إسماعيل لم يذكره الأسلمى هذا نصه عند عامة شيوخنا،وهو يوهم أن يزيد بن كيسان رواه عن أبي إسماعيل، وإنما مراده أن ابن أبان قال عن أبي إسماعيل: هو يزيد بن كيسان، فقدم وأخر ولم يقل: الأسلمي، إذ أبي إسماعيل الأسلمي غير أبي إسماعيل يزيد بن كيسان، وقد يكون معناه على مساقه. قال: هو يزيد بن كيسان.
وقوله بعد: عن أبي إسماعيل، أي أعني بهذا الكلام أبا إسماعيل، وعن كنيته فسر الإبهام بهذا الاسم، ويبقى اللفظ على وجهه. ويصححه أن نص هذا الموضع في رواية القاضي التميمي من شيوخنا في الكتابة، قال:هو يزيد بن كيسان، يعني أبا إسماعيل. وهذا بيان ورفع إشكال. وأبو حازم هذا الذي يروى عن أبي هريرة هو: سلمان، مولى عزة الأشجعية، أو يقال إنه إبو حازم الأشجعى، وليس بابى حازم سلمة بن دينار المدني، فإن هذا الأشجعي لم يرو عن أبي هريرة شيئًا ؛ قاله الدارقطني، قال: وقد روى عنه عن أبي هريرة حديثين أو ثلاثة، وعللها أبو الحسن في كتابه. وأن الصحيح من رواية أبي حازم سلمة بن دينار فيها عن أبي هريرة.
وقوله:" ذو السويقتين ": تصغير الساقين، وصغرهما لحموشتهما ورقتهما، وهي صفة سوق السودان غالبًا، وقد وصفه - عليه السلام - في الحديث الآخر بقوله: " كأنى به بأسود أفجج ". والفجج: تباعد ما بين أوساط الساقين.
وهذا الحديث وشبهه لا يعارض قوله تعالى:{ حرمًا آمنًا }، فمعنى ذلك إلى ب هذا الحين، وهو قرب الساعة وخراب الدنيا ؛ بدليل / الحديث الآخر:" ليحجن البيت بعد يأجوج ومأجوج ". وذهب بعضهم: أن معنى: { آمنًا } إلا ما قدره الله من قضية هذا الحبشي، ثم يرجع الأمر إليه كما كان، والأول عندي أظهر.(8/426)
وقوله:" وكان وجوههم المجان المطرقة "، كذا ضبطناه بفتح الميم، جمع مجن، وهو الترس، جمع تكسير، وهو الصواب. قال ابن سراج: وزنه مفاعل، وحكى شيخنا القاضي التميمي، عن أبي مروان بن سراج، عن الإقليلي: أنه كان يجيز كسر الميم، قال أبو مروان: وأخطأ في ذلك.
قال الإمام: يعني الترسة التي أطرقت بالعقب، أي ألبست به، يقال: طارق النعل: إذا صير خصيفًا على خصيف، وأطرق جناح الطائر: إذا وقعت ريشه على التي تحتها فألبستها، وفي ريشها أطراق: إذا وقع بعضها على بعض.
وقوله:" ذلف الأنوف "، الذلف في الأنف: قصيره وتأخر أرنبته: حكاه ابن قتيبة وغيره. وقال أبو مالك الأعرابي: الأذلف: الذي في طرف أرنبته همزة، وهي تعتري الملاح. قال أبو النجم: وأحب بعض ملاحة الذلفاء.
قال القاضي: المجان المطرقة التي ألبست العقب طاقة فوق أخرى وليس كل لباس أطراق، ومنه: طارقت بين ثوبين إذا لبست إحداهما على آخر. وطارقت النعل، ونعل مطرقة: أطبقت عليها أخرى.(8/427)
وقوله:" أطرق جناح الطائر "، بتشديد الطاء، كذا قرأته على أبي الحسين في كتاب الغريبين، وصوابه ما بعده:" إذا وقعت كل ريشة على التي تحتها، وفي ريشه طرق "، وكذا هو في الأصل الذي قرأته عليه. وقال بعضهم: طراق الترس: أنه يقدر جلد على مقداره فيلصق بالترس فيطرق به، فكأنه ترس على ترس. وقال ابن دريد وغيره: الذلف: صغر الأنف. وقال صاحب العين: الذلف: غلظ واستواء في طرف الأنف يعترى من الملاحة. وقال الأصمعى: فيه صغر الأنف وقصره. وقال ثابت عن الكلابيين: هو صغر الأنف وقصر الأرنبة، ويعضد أنه تطامن في أرنبته أنه روى " فطيس "، الأنوف وخثم، وهما بمعنى. وقد فسر في الحديث أنهم الترك، وهي صفتهم كما قال - عليه السلام -، وذكر أنهم يلبسون الشعر ويمشون في الشعر. ويكون معنى قوله: " يمشون " إما بظاهر قوله: " ينتعلون "، أي: نعالهم من حبال ضفرت من الشعر، كما ان ثيابهم نسجت من الشعر، وهذه صفة بعض الأتراك، أو يكون " يمشون فيه" إشارة إلى كثرة شعورهم وشهرتها وكثافتها، وقد يتأول " ينتعلون الشعر " على هذا، أي أن شعورهم ونواصيهم وافية على قدودهم حتى بطون أطراف ذؤابتها، كما قال الشاعر:
وفاحم وارد يقتل ممشاة إذا اختال مسبلاً غدره
وقوله:" يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم قفيز ولا درهم "، هو مثل قوله: "منعت العراق درهمها " الحديث، وقد فسره في الحديث أن معناه: منعها الجزية والخراج لغلبة العجم والروم على البلاد. ومعنى: " يوشك " قيل: يسرع، وقيل: بمعنى عسى، وقد تقدم، وهو بكسر السين.
وقوله: " ثم سكت هنية ": أي شيئًا. ورواه لنا الصدفي:" هنيئة " بالهمز/ وليس بشيء. وعند ابن عيسى:" أسكت "، ومعناه: أطرق، وقيل: سكت وأسكت بمعنى صمت، وقيل: أسكت: أعرض.(8/428)
وقوله:" خليفة يحثي المال ولا يعده "، أي: لكثرته واتساع المجيء والفتوحات عليه، فهو يلقيه للناس بيده كما يحثي التراب إذ رمي به بيديه. يقال: حثى يحثي ويحثوا حثوًا وحثيًا، وقد وقع الفعلان والمصدر في "الأم"، لكن ضبطناه عن الأسدي:" حثيا " بكسر الثاء وتشديد الياء.
وقوله:" ويس ابن سمية "، قال الإمام: قال الأصمعى: الويل: قبوح، ترحم، وويس، وتصغيرها: أي دونهما. قال الهروي: ويح كلمة تقال لمن هلكة لا يستحقها فيترحم عليه ويرثى له، وويل للذى يستحقها ولا يترحم عليه.
قال القاضي: كذا روى مسلم هذا الحرف في حديث ابن معاذ العنبري: " ويس " أو " ياويس ". ورواه في حديث ابن المثنى:" بؤس ابن سمية " بباء واحدة مضمومة. ورواه البخاري: "ويح بن سمية". قال الفراء: الويح: الرحمة. وعن علي - رضي الله عنه -: الويح والويل بابان. فالويح باب الرحمة، والويل باب عذاب. وقال سيبويه: ويح زجر لمن أشرف على الهلكة، وويل لمن وقع فيها. وأما رواية ابن المثنى:" بؤس ابن سمية "، فالبؤس والبؤساء المكروه، ونحوه البأس والبأساء. والبأس: الحرب والشدة، والبائس: الذي أصابته بلية. والبائس: الفقير، والبأساء: الشدة والحرب والضر. قال أبو بكر: رجل بؤس: ظاهر البؤساء، والمعنى: يابؤس بن سمية ما أشده أو أعظمه.
وقوله:" تقتله الفئة الباغية "، فيه حجة بينة للقول أن الحق مع على وحزبه، وأن عذر الآخر بالاجتهاد. وأصل البغي: الحسد، ثم استعمل في الظلم ؛ ولهذا حمل الحديث عبد الله بن عمرو بن العاص يوم قتله وغيره، لكن معاوية تأوله على الطلب، قال: نحن الفئة الباغية لدم عثمان، أي الطالبة له. والبغاء بالضم ممدود الطلب. وقد كان قبل ذلك قال: إنما قبله من أخرجه لينفى عن نفسه هذه الصفة، ثم رجع إلى هذا الوجه الآخر.(8/429)
وقال مسلم في حديث عمار هذا: حدثنا محمد بن معاذ بن عباد العنبري وهزيم بن عبدالأعلى، قالا حدثنا خالد بن الحارث. هذا هو الصحيح، وكذلك رواه لنا شيوخنا فيه، ورواه بعض الرواة فقال: حدثنا عبدالله بن معاذ العنبري، وهو وهم، وإن كانا جميعًا من شيوخ مسلم، واشتركا في النسب واسم الأب، لكن عبيد الله هو ابن معاذ العنبري، ومحمد هو ابن معاذ بن عباد العنبري، ثم قال بعد هذا في حديث محمد بن عمرو بن جبلة، ومن سمى معه عن غندر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت خالد الحذاء يحدث عن سعيد بن أبي الحسن بحذاء للعذري فيما كتبناه عن أبي بحر عنه، وسقط في رواية غيره لفظ " الحذاء "، وفي كتاب التميمي: حدثنا خالد والحارث عن سعيد، وهو تصحيف ابن الحذاء أو من يحدث، والله اعلم.
وقوله:" يهلك أمتي هذا الحي من قريش "، وفي البخاري: " هلاك أمتي على يدي أغيلمة من قريش "، فيه الحجة على ترك القيام على أمراء الجور ؛ إذ أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحال هؤلاء، ولم يأمر بالقيام عليهم ولا محاربتهم، بل قال: إذ سئل: " لو أن الناس اعتزلوهم "، قال أبو هريرة: لو شئت لقلت لكم: بنو فلان وبنو فلان. وهذا الهلاك بين في الحديث الآخر حيث قال:" أعوذ بالله / من إمارة الصبيان "، ثم قال:" إن أطعتموهم هلكتم، وإن عصيتموهم أهلكوكم ".
وقوله - عليه السلام -:" إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده " الحديث، معناه عند أهل العلم: لا يكون كسرى بالعراق ولا قيصر بالشام، كما كان زمنه - عليه السلام - فأعلم بانقصام ملكهما وزواله من هذين القطرين ؛ فكان ما قال، وانقطع أمر كسرى بالكلية وتمزق ملكه واضمحل بدعوته - عليه السلام -. وتخلى قيصر عن الشام، ورجع القهقري إلى داخل بلاده وقواعدها من قسطنطينية ورومية، وافتتحت بلادهما واحتوى على ملكهما وكنوزهما كما أخبر - عليه السلام -.(8/430)
وقوله:" كنز كسرى الذي في الأبيض "، إشارة - والله أعلم - إلى قصوره ودار ملكه. وفي كسرى الوجهان الفتح في الكاف وهومذهب الأصمعى، والكسر وهو مذهب غيره.
وقوله:" إلا الغرقد، فإنه شجرهم " يعني: اليهود. الغرقد: هو العوسج. قال أبو حنيفة إذا عظمت العوسجة فهي غرقده. ورأيت في بعض التعاليق أنه الدلفي ولا يصح.
وقوله:" لا تقوم الساعة حتى يبعث رجال كذابون قريبًا من ثلاثين " قد مر أول الكتاب تفسير الدجال، وأن احد وجوهه الكذاب. وهذا الحديث قد ظهر، فلو عُدَّ من تنبأ من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن، ممن اشتهر بذلك وعرف واتبعته جماعة على ضلالته ؛ لوجد هذا العدد فيهم. ومن طالع كتب الخبر والتاريخ عرف صحة هذا، فلولا التطويل لسردنا منهم هذا العدد، والله أعلم.
وقوله في المدينة التي جانب منها في البحر يغزوها سبعون ألفًا من بني إسحاق. كذا في سائر الأصول. قال بعضهم: المعروف المحفوظ من بني إسماعيل، وهو الذي يدل عليه الحديث وسياقه ؛ لأنه إنما يعني العرب والمسلمين بدليل الحديث الذي سماها فيه في "الأم"، وأنها القسطنطينية وإن لم يصفها بما وصفها به هنا.
باب ذكر ابن صياد
قال القاضي: يقال: ابن صائد وابن صياد، وكلاهما صحيحان. وقد وقع اسمه بهما في "الأم" في هذه الأحاديث وخبر ابن صياد هذا من الأخبار المشكلة. والذي تدل عليه الأخبار أنه لم يعين عينه للنبى - صلى الله عليه وسلم - أنه الدجال، وإنما أخبر بصفاته، فكذلك كان لا يقطع عليه، وإنما يتوسم أنه هو للصفات التي اخبر بها ؟ ولهذا قال لعمر: " إن يكن هو فلن تسلط عليه،، ثم ظهرت من صفاته التي وصفه بها - عليه السلام - بعد هذا ما خالف بعض بقية صفاته، ومنها: ما وافق من أنه ولد له، وقد قال - عليه السلام -: " لا يولد له "، وأن عينه عورة، ومن صفاته أنه أعور.(8/431)
وأما احتجاجه هو بحجة البيت ودخوله المدينة، فليس له فيه دليل، إنما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا يدخل مكة ولا المدينة وقت فتنته، لكنه على كل حال كان أحد الدجاجلة الكذابين، بدليل حاله زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من دعواه أنه رسول الله، وأنه يأتيه كاذب وصادقان، أو صادق وكاذبان، وأنه يرى عرشًا على الماء، وبحاله بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لدعواه معرفة الدجال ومكانه، ومقاله لابن عمر وغيره، وأنه لم يكره أن يكون الدجال، وإن كان قد ظهرت منه علامات الخير وصحة الإسلام، والإقلاع عن مقاله قبل، وحجه وجهاده مع المسلمين، والله أعلم. وقد ترجم الطبري وغيره عليه في تراجم الصحابة.
واختلف الناس في أمره بعد كبره، فقيل: إنه تاب ومات بالمدينة، ووقف على عينه هنا. وقيل: بل فقد في الحرة ولم يوقف عليه، وكان جابر وابن عمر يحلفان أنه الدجال ولا يشكا فيه فيما روى عنهما.
قال الإمام أبو عبد الله: استدل قوم بخبر ابن صياد على أن إسلام غير البالغ قد يصح، ولولا ذلك لما كشفه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان.
قال القاضي: أما كشفه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اعتقاده ليتبين ما وقع في نفسه منه. وهل هو كاهن ؛ ولهدا كان يختله ويتسمع عليه ليتبين له أمره، إذ لم يأت في أمره وحى يحقق له أمره بدليل قوله:" ما يأتيك وما ترى ؟" وليس هذا من الإيمان.
قال الإمام: وقال بعض أهل العلم: يمكن أن يكون إنما أقره النبي - عليه السلام - بالمدينة معه وهو يدعي النبوة ؛ لأجل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خالف اليهود على أن يسالمها وحلفائها ؛ ولهذا أبقاه.(8/432)
قال القاضي: بل يقال: إما لم يقتله لأنه كان غلامًا صغيرًا في ذلك الوقت، صبي يلعب مع الصبيان. كما قارب الحلم، كما جاء في الحديث. ولم يأت بعد أنه ادعى مثل هذا في كبره وبعد بلوغه، بل نشأ بعد على الإسلام، والتزم شرائعه، كما تقدم. وقد تنوزع في نسبه، فذكر الواقدي أن نسبه في بني النجار، فنفوهم فانتسبوا إلى حلفهم.
وقوله:" فلبسني " بتخفيف الباء، أي جعلني التبس في أمره وأتشكك فيه، قال الله تعالى:{ وللبسنا عليهم ما يلبسون }.
وقوله:" في قطيفة له فيها زمزمه " بزائين معجمتين، قال الإمام: يقال: زمزم يزمزم زمزمة: إذا صوت. قال الخطابي: قوله:" له فيها زمزمة " تحريك الشفتين، والمزمة: الشفة، فأما الزمزمة بالزاي فمن داخل الفم إلى داخل الحلق كالصغير ونحوه.
قال القاضي: كذا روينا هذا الحرت في هذا الكتاب هنا " زمزمة " بالمعجمتين ووقع في بعض الروايات:"رمزة" براء أولى والأخرى زاي. واختلفت الروايات فيه في صحيح البخاري، فروى براءين مهملتين، وروي بالمعجمتين، وروي:" رمزة " الأولى راء والآخرة زاي، وسقوط الميم الآخرة كما رواه بعضهم كذلك أيضًا في مسلم. ومعنى الكلمات كلها متقاربة، وقد مر تفسيرها. واما الراءين المهملتين فهو من التحرك، والكلام عند الكوائن والشدائد. قال الخليل: ترمرم القوم: إذا حركوا أفواههم بالكلام ولما يتكلموا، قال: والرمز: صوت خفى بتحريك الشفتين بكلام غير مفهوم، ويكون أيضًا الإيماء بالحواجب وغيره دون كلام. وقال غيره: الزمزمة بزاءين معجمتين تراطن العلوج عند الأكل وهم صموت، لا يستعملون اللسان ولا الشفة. وإنما هو صوت يدار في الخياشيم والحلق، ذكره ابن الصابوني.
وقوله: " فرفضه "، قال الإمام: قال بعض أهل اللغة: إنما هو:" فرصه" / أي: ضغطه حتى ضم بعضه إلى بعض، ومنه : بنيان مرصوص، وأقرب منه ان يكون: "فرفسه " بالسين التي تقارب الصاد في اللفظ مثل: وكله.(8/433)
قال القاضي: قال بعضهم: الرفص الضرب بالرجل مثل الرفس، وأن صح هذا فهو بمعناه، ولكن لم أجد هذه اللفظة في أصول اللغة وروايتنا فيها عن الجماعة: " فرفصه " بالصاد المهملة كما تقدم، لكن وقع عند القاضي الصدفي: " فرفضه " بضاد معجمة، وهو وهم. وفي البخاري من رواية المروزى:" فرقصه " بالقاف والصاد المهملة، ولا وجه له. وفي كتاب الأدب: " فرضه " بضاد معجمة. ورواه الخطابي في غريبه: " فرصه "، وفسره بما تقدم.
وقوله: " خبأت لك خبيئًا "، كذا رويناه عن جميعهم بكسر الباء بعدها ياء، وعند التميمي: " خبأ " بسكون الباء، وكلاهما صحيح. الخبُّ: رسم ما يخبأ. والخبئ: اسم مايعمى.
وقوله:" الدُّخ "، قال الإمام: هو الدخان. قال الراجز:
عند رواي البيت يغشى الدُّخا
وقيل: أراد أن يقول: الدخان، فزجره النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يستطع أن يتم الكلمة. قال الخطابي: لا معنى للدخان ؛ لأنه ليس مما يمكن أن يخبئ في كف أو كم، وقد قال: "خبأت لك خبيئًا ". " بل الدخ ": نبت موجود بين النخيل والبساتين، إلا أن يحمل قوله - عليه السلام -:" خبات لك خبيئًا " أي أضمرت لك اسم الدخان فيجوز.
قال الإمام: قيل: إنه أضمر له:{ يوم تأتي السماء بدخان مبين }الأية. قال القاضي: وقال الداودي: كانت في يده سورة الدخان مكتوبة. وقيل: كتب له الآية في يده. وأصح الأقوال في قوله: " الدخ " أنه لم يهتد من الآية التي أضمرها له - عليه السلام - إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان ؛ إذ إنما يلقي الشيطان إليهم بقدر ما يختطف قبل أن يدركه الشهاب، ويدل عليه قوله: "اخسأ، فلن تعدو قدرك "، أي: ابعد كاهنًا منخرصًا فلن تعدو، وقدر هذا الصنف من الاهتداء إلى بعض الشيء، وما لا يتبين منه حقيقة، ولا يصل إلى قدر البيان والتحقيق والجلاء لأمور الغيب التي تأتي من قبل الوحي إلا من أوتي النبوة.(8/434)
قال الإمام: قوله:" اخسأ فلن تعدو قدرك " يحتمل وجهين: أحدهما: أنه لا يبلغ قدرك أن يطالع الغيب من قبل الوحي الذي يوحى إلى الأنبياء، والإلهام الذي يلهم الأولياء، وإنما هو شيء جرى من إلقاء الشيطان إليه حين يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يراجع أصحابه في النخيل. والآخر: أنك لست تسبق قدر الله فيك وفي أمرك.
قال القاضي: وقد ذكرنا أنه لن يعد يعدو قدرًا من أ الكهان من خطف الكلمات، وقصور بعض المغيبات، لا على جهة الكمال والبيان الذي تختص به النبوة، والولاية، كما ذكرنا أنه لم يهتد من الآية لغير حرفين من كلمة.
وقوله: " تبًا لك سائر اليوم "، أي: خسرانًا وهلاكًا.
وقوله: " خلط عليك الأمر "، يريد: ما يأتيك به شيطانك من غير ضبط وصحة، إلا كما يأتي به مسترق السمع، خلاف ما يأتي به الملك من الوحي.
وقوله:" درمكة بيضاء، مسك خالص "، أي: أنها في البياض درمكة، وفي الطيب مسك. وحديث ابن أبي شيبة هذا من أن ابن صياد /هو السائل للنبي - صلى الله عليه وسلم - عنها، أظهر عند بعض أهل النظر من حديث نصر بن على قبله: أن السائل هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذا ذكره ابن أبي شيبة أيضًا في مسنده.
وأما حلف عمر على ابن صياد أنه الدجال، ففيه حجة لمن رأى الحلف جائزا على ما غلب على ظن الإنسان، لقوة الدلائل عند عمر عليه بالصفات التي ذكرها فيه النبي ، وان ذلك غير غموس، وأن الغموس ما جاهر به الحالف أو شك فيه.
قال الإمام: وخرج مسلم في قصة ابن صياد حديث حرملة بن يحيى عن ابن وهب: حدثنى يونر عن ابن شهاب: أن سالم بن عبد الله أخبره: أن عمر انطلق...، الحديث. ووقع هذا الإسناد في روايتنا عن ابن ماهان منقطعًا، فقال: عن الزهري، عن سالم: أن عمر بن الخطاب. لم يذكر فيه عبد الله بن عمر، والصواب قول من أسنده.(8/435)
قال القاضي: وقوله في هذا الحديث: " عند أطم بني مغالة "، تقدم تفسير الأطم وأنه الحصن. وبنو مغالة بغين معجمة، وكذا جاء م في حديث ابن حميد وفي حديث الحلواني بعده:" عند أطم بني معاوية "، والأول المعروف. وبنو مغالة: كل ما كان عن يمينك إذا وقفت آخر البلاط مستقبل مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتوجه مكة ما كان عن يسارك، ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في بني مغالة، قاله الزبير. وقال بعضهم: بنو مغالة حى من قضاعة، وبنو معاوية هم بنو جديلة هؤلاء.
وقول عمر:" دعنى أضرب عنقه "، لما ظهر له من كفره.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له:" إن يكن هو فلن تسلط عليه "، أي: إن كان الدجال فلن تنتهي إليه،لم يقدر لك أنت قتله، بل قاتله عيسى ابن مريم، و"إن لم يكن فلا خير لك في قتله "، أي لصغره أو ذمته.
وقوله:" هو يختل " يعني ابن صياد، أي يأخذه على غفلة. ويدل على صحة هذا التفسير قوله في الحديث:" أن يسمع منه قبل أن يراه ".
قال الإمام: " يختله "، أي: يطلب أن يأتيه من حيث لا يشعر، ومنه: ختلت الصيد.
قال القاضي: قيل: فيه حجة على جواز الاختيال على المستسرين بجحد الحقوق حتى يحقق فيهم ما جحدوه فيقضى عليهم به، وكذلك لمن أعلن الفسق وعزف به واستسر بمنكره أنه يكشف عنه، وليس من التجسس ؛ لأن ابن صياد كان أمره عند الناس مشهورا، وما يقوله بغير حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - معلنًا، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - تحقيق ذلك منه سماعًا.
وفيه كشف الإمام بنفسه الأمور المشكلة وخروجه فيها. وترجم البخاري عليه: ما يجوز من الاحتيال والحذر ممن يخشى معرته.
وقوله: " فثار ابن صياد "، أي: هب من ضجعته، ويقال لكل ما ظهر وفشى: ثار، ولكل ما هاج: ثار.(8/436)
وقوله في ذكر الدجال: " تعلموا أنه أعور، وأن الله ليس بأعوار "، قال القاضي: قاله - عليه السلام - تنبيهًا منه - صلى الله عليه وسلم - على صفاته من النقص الدال على الحدوث المنزه عنه الخالق جل اسمه.
وقوله: " تعلموا " كذا هو بفتح العين وتشديد اللام بمعنى: تحققوا، أو اعلموا، يقال: تعلم كذا مشددة بمعنى: اعلم.
وهذه الأحاديث التي أدخلها مسلم في قصة الدجال حجة أهل الحق في صحة وجوده، وأنه شخص معين، ابتلى الله عباده، وأقدره على أشياء من قدرته ليتميز الخبيث من الطيب ؛ من إحياء الميت الذي يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب الذي معه، وجنته وناره، ونهريه، واتباع كنوز الأرض له وأمره السماء أن تمطر، والأرض أن تنبت، فيكون ذلك كله بقدر الله ومشيئته، ثم يعجزه الله بعد ذلك كما قال: " ولن يسلط على غيره " فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ثانية، ولا على غيره، ويبطل أمره بعد، ويقتله عيسى - عليه السلام - وبثبت الله الذين آمنوا.(8/437)
هذا مذهب أهل السنة وجماعة أهل الفقة والحديث ونظارهم . خلافًا لمن أنكر أمره وأبطله من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة. وخلافًا للجبائي من المعتزلة ومن وافقه على إثباته من الجهمية وغيرهم، ولكن زعموا أن ما عنده مخارق، وحيل، لا حقائق، ولدعواهم أن أمره لو كان صحيحًا كان قدحًا في النبوة. وقد وهم جميعهم، فإنه لم يأت بدعوى النبوة فيكون ما جاء به كالتصديق له، ولأنه لو صح منه لم يفرق بين النبي والمتنبئ فيطعن ذلك على النبوة، وإنما جاء بدعوى الإلهية، وهو في نفس دعواه لها مكذب لدعواه بصورة حاله ونقص خلقه، وظهور سمات الحدث به وشهادة كذبه وكفره المكتتبة بين عينيه، وعجزه عن تحسين صورته، وإزالة العور والشين عن نفسه. فلم يرتب مؤمن في أمره. وإنما اتبعه من اتبعه للضرورة والحاجة، وشدة الزمان عليه أو لكفره. قيل: كيهود أصبهان وغيرهم وكالترك الكفرة، أو تقية منه وخوفًا، أو لأن فتنة ما جاء به عظيمة تدهش العقول وتحير الألباب لأول وهلة، وأن أمره لا تطول مدته، وسرعة سيره في الأرض، فإنما هو كما قال في الحديث: " كالغيث استدبرته الريح " فيصدقه من يصدقه، وقد سلب نظره، ودله عقله لفجاءة أمره ؛ ولهذا حذرته الأنبياء قومها، وشجعتهم ببيان حاله ونقصه ؛ ليتقدم لهم العلم بذلك فيثبتوا، ومن يثبت فيه وأيده الله كذبه، ألا ترى قول الذي قتله ثم أحياه له:" ما كنت أشد بصيرة فيك منى الآن ".
وقوله:" مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه من كره عمله، أو يقرؤه كل مؤمن "، وهذه الرواية يحتج بها من جعل هذا مجازًا، وأنها إشارة إلى سمات الحدث عليه، ويدل عليه قوله:" يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب "، والوجه الآخر: أنه على ظاهره، فقد يعمى الله عنه أبصار من أراد ضلالته وبصيرته، كما أعماهم عن عوره وتصويره. وقد جاء في الحديث الأخر: "مكتوب بين عينيه ك، ف، ر "، هذه صور تحقيق لا تجوز فيها.(8/438)
وقوله: "في بعض سكك المدينة "، قال الإمام: السكة: الطريق، وجمعه سكك. قال أبو عبيد: السكة: الطريق المصطفة من النخل، وسميت الأزقة سككا لاصطفاف الدور فيها.
قال القاضي: ما قاله حسن صحيح كله، وكأنه فسر به قوله:" في بعض سكك المدينة "، وليس هذا اللفظ عندنا في كتاب مسلم في روايتنا، وإنما فيه:" في بعض طرق المدينة ".
وقوله:" ناهز الاحتلام "، أي: قارب، وكذلك جاء في الحديث الآخر: "قارب الاحتلام ".
وقوله:" فأخذتني منه ذمامة "، بفتح الذال المعجمة، قيل: الذمامة الاستحياء. وقال الخليل: ذممته ذمًّا: لُمتُه، وقد تكون الذمامة من /هذا التي منه لوم على ما قلته واعتقدته فيه.
وقوله:" جاء بعس "، وهو القدح الكبير.
وقوله: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا حسين بن حسن بن يسار، حدثنا ابن عون، كذا هو في كتاب مسلم. وأبو حاتم الرازي يرى أن حسين بن حسن صاحب ابن عون بن يسار. وشك فيهما البخاري بعد أن جعلهما ترجمتين، فقال آخرًا: حسين بن حسن بن يسار أبو عبد الله البصري من اس مالك بن يسار، أراه هو الأول، وفي أصل القاضي أبي عبد الله بن عيسى: حدثنا حسين، يعني ابن يسار.
قوله: " وقد نفرت عينه "، كذا رويناه من جماعة شيوخنا: بفتح النون والفاء أخث القاف معا، أي ورمت، وكان في أصل كتاب القاضي التميمي " فقرت وفقئت " معًا، فقلت: متى فقئت في الموضين، وكتب على الأول بخطه:" نقرت " بالنون والقاف وكذلك عند بعضهم، ورواه الإمام أبو عبدالله في "المعلم": " بقرت "، وكذا عند بعضهم:" بقرت " بالباء والقاف، وفسره: شقت، فإن صحت هذه الروايات فهي من معنى الروايات الأخر إن صحت ؛ لأن ما شق من العين أو بقر فقد فقئ، وكذلك ما فقر من الأعين، أي استخرج، فقد فقئ، وكذلك ما نقر بالنون. والنقر مثل الحفر، والنقرة والنقير منه. والحفرة في الحجر أو أصله النخلة، أو النواة، وكله عبارة عن العور.(8/439)
وقوله: " ثم لقيته لقية "، كذا وجدته في كتاب بضم اللام، وتعلمت بقول: " لقية" بالفتح، وكذا كان في أصل عيسى.
قوله:" تعلموا أنه ليس يرى أحد منكم ربه حتى يموت "، قال الإمام: هذا يشير إلى مذهب أهل الحق: أن الله يرى في الآخرة ولو يستحيل - كما قالت المعتزلة - لم يكن للتقييد بالموت معنى والأحاديث في هذا كثيرة، وقد عول عليها بعض أئمتنا في إثبات الرؤية في الآخرة على طرق بسطوها في كتب الأصول.
قال القاضي: ومذهب أهل الحق ومثبتي الرؤية في الآخرة: أنها غير مستحيلة في الدنيا، ثم اختلفوا في وجودها أو منعها بحكم ظاهر الحديث. وظاهر قوله:{ لا تدركه الأبصار } على من تأوله في الدنيا، وهل رآه نبينا ليلة الإسراء أم لا ؟ للسلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الفقهاء والمحدثين والنظار في ذلك اختلاف معروف. وأكثر المانعين لها في الدنيا ذهبوا إلى أن علة ذلك ضعف قواهم فيها فتكل عن احتمالها، كما لم يحتملها موسى - عليه السلام - في الدنيا.
قال الإمام: وقوله: " جفال الشعر "، أي: كثيره.(8/440)
قال القاضي: وقوله:" كأن عينه عنبة طافية "، وقد تقدم الكلام عليه أول الكتاب مع قوله:" ممسوح العين " والجمع بينهما وبين الروايتين في "طافئة " بالهمز وغيره مما فيه كفاية، لكن في بعض الأحاديث أعور العين اليمنى وفي بعضها:" اليسرى ". ذكر مسلم هنا الروايتين وجمع الروايتين عندي على تخريج صحيح الروايتين في " طافئة " بالهمز وبغير همز، وهو أن يكون كل واحدة منها عوراء من وجه ما ؛ إذ العور من كل شيء العيب، والكلمة العوراء: المعيبة. قالوا: فالواحدة عوراء بالحقيقة، وهي التي وصفت في الحديث بأنها ليست حجرًا ولاناتئة وممسوحة ومطموسة وطافئة على رواية الهمز، والأخرى عورى لعيبها /اللازم لها لكونها جاحظة، أو كأنها كوكب، أو كأنها عنبة طافية بغير همز. فكل واحدة منها يصح فيها الوصف بالعور لحقيقة العرف والاستعمال. أو معنى العور الأصلى الذي هو العيب، فلهما تعلق بالعين.
وقوله:" معه جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار "، وفي الحديث الآخر: " نهران "، وفي الآخر:" ماء ونار "، وذكر معناه، وذكر الحديث، فهذا كله مما امتحن الله به عباده ؛ ليعلم الذين آمنوا منهم ويعلم الصابرين، ثم يفضحه عند الحقيقة ويتبين كذبه وعجزه عن أن يجمع من ظاهر جنته وناره أو نهريه وباطنهما، حتى لا يختلف صفائهما ويغتر بهما أتباعه.
وقوله:" فأما أدركن ذلك أحدكم "، كذا هو عند جماعه شيوخنا، وفي كتاب القاضي أبي عبد الله: " أدركه، وهو وجه العربية فإن هذه النون لا تدخل على الفعل الماضي، ولعله: " فأما يدركن ".
وقوله:" ممسوح العين، عليها ظفرة غليظة "، بفتح الظاء والفاء، قال الإمام: قال الأصمعي: الظفرة: لحمة نبتت عند المآقى وأنشد:
بعينها من البكاء ظفرة حل ابنها فى السجن وسط الكفرة(8/441)
قال القاضي: قال صاحب العين: الظفرة: جليدة تغشى البصر، يقال: عين ظفرة. قال ثابت: وهي إن لم تقطع غشيت بصر العين، فيكون هذا من معنى مطموس العين. قال غيره: هي علقة تخرج من العين، هي بالظاء المعجمة المشالة. ذكر مسلم حديث محمد بن عبيد الله بن نمير ومحمد بن العلاء وإسحاق حديث:" جفال الشعر "، كذا لجميعهم، وسقط محمد بن عبيدالله بن نمير عن الشنتجالي، عن السجزي، وإثباته الصواب لقوله: قال إسحاق: أنبأنا، وقال الآخرون: حدثنا، وذكر حديث علي بن جحر: حدثنا شعيب حديث:" معه ماء ونار "، قال فيه: عن ربعي بن حراش، عن عقبة بن عمرو أبي مسعود الأنصاري، كذا هو، وكذا أصلحه شيوخنا في كتاب مسلم في رواية الجلودي، فكان في بعض الكتب: عن ابن ماهان عن عقبة بن عامر وأبي مسعود الأنصاري، وهو خطأ، وقد قال بعد:" انطلقت معه "، ولم يقل:" معهما "، وكذا جاء الحديث بعد لأبي مسعود وحده من رواية على بن حجر وإسحاق وعقبة بن عامر، وهو أبو أسد الجهني والى مصر، له صحبة أيضًا. قال مسلم: حدثنا محمد بن مهران الرازي، حدثنا الوليد بن مسلم وروه عن ابن ماهان: حدثنا محمد بن صفوان، والصواب ابن مهران كما لغيره.
وقوله:" ذكر الدجال فخفض فيه ورفع "، يعني - والله أعلم - صوته من كثرة ما تكلم في أمره فخفض مرة لطول الكلام وراحة تعبه، ورفع مرة لتبليغ من يأبى عنه وإسماع من بعد. وقد يكون خفض في أمره وشأنه، وهو أنه على الله كما قال: " هو أهون على الله من ذلك "؛ ليتبين حاله وعقبى دعواه وفضيحته، واضمحلال أمره وما رفع من فتنتة وعظيم المحنة به، والتخويف من أمره، كما قال: " ما من نبي إلا وقد أنذر قومه ".(8/442)
وقوله:" غير الدجال أخوفني عليكم "، كذا روايتنا فيه عن القاضي الشهير بنون آخره، وكذا هو في كتاب القاضي التميمي والجياني وغيره من شيوخنا، وسمعنا على أبي بحر:" أخوفي " بغير نون، وكذا في غير مسلم، فقد رويناه:" أخوف لي "، وقراته على الحافظ أبي الحسين بن سراج بن عبدالملك في / كتاب قاسم بن ثابت في حديث عبد الله بن حوالة:" أخوفني" بالنون. قال ثابت: فيه لغة أخرى:" وأخوفي " بغير نون، ومعنهاهما: أخوف مني، لغة مسموعة في ذلك، وأنشد ثابت عليها:
نحن بغرس الوادي أعلمنا منا بركض الجياد في السلف
وأنشد في اللغة الأخرى:
لنافعي أحوجي منكم لتعليمي
وأنشد يعقوب:
بخرس أفقر منكم لتعليمي
قال أبو مروان بن سراج: أفعل المستوغ معنى المفاضلة الذي لابد أن يذكر معه من لفظ:" اختصر "، ووضع موضع لفظ:" استكبر"، صنعته العرب لحبها الاحتصار، ووضعت:" أعلمني " موضع " علمي" بكذا، يزيد على علمي بكذا، فلما تضمن معنى المصدر ووضع موضعه أظهر معه الضمير الذي يظهر مع المصدر، وتقدم تفسير " قطط " و" طافئة ".
وقوله: " إنه خارج حلّة بين الشام والعراق "، كذا رويناه: " حلة " بفتح الحاء واللام مشددة والتاء المفتوحة من طريق السمرقندي والشنتجالي عن السجزي، قيل: معنى ذلك: أي قبالة وسمت، وفي كتاب العين: والحلة موضع حزن وصخور، وسقطت هذه الكلمة من رواية العذري، ورواه بعضهم عن ابن الحذاء " حله " بضم الحاء، وهاء الضمير أي نزوله وحلوله وكذا قيده في كتاب التميمي، وعلى هذا اللفظ ذكره ابن أبي نصر الحميدي في كتابه، وروى الهروي في غريبه هذا الحرف خلة بالحاء معجمة مفتوحة، وتشديد اللام - وفسره بانه ما بين البلدين.(8/443)
وقوله:" فعاث يمينًا وعاث شمالاً " بعين مهملة وثاء مثلثة فعل ماض. العيث: الفساد والإسراع فيه. يقال: عاث يعيث، ووقع في كتاب التميمي أيضًا عن الجياني: "فعاث يمينًا، وعاث شمالاً " بكسر الثاء منونة اسم فاعل، وهو بمعناه يقال فيه أيضًا: عثى يعثى عثيانًا.
وقوله: " يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم جمعة "، ما جاء بعد يفسر أنه على ظاهره غير متأول. وقولهم: أتكفينا فيه صلاة يوم قال:" لا، أقدر له قدرة "، هذا حكم مخصوص بذلك اليوم شرعه لنا صاحب الشرع، ولولا ذلك ووكلنا فيه إلى اجتهادنا لكانت الصلاة فيه عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام.
وقوله:" فتروح عليهم سارحتهم "، قال الإمام: السارحة هي الماشية، التي تسرح بالنداة إلى مراعيها. قال خالد بن جنبة: السارحة: الإبل والغنم، والسرح والسارحة واحد. قال القاضي: قال صاحب العين: السرح: ما يغدى به ويراح من السائمة.
وقوله:" أطول ما كانت ذرى "، أي: أعالي أسنمة.
وقوله:" وأسبغه ضروعًا "، أي: أطوله لكثرة اللبن.
وقوله:" وأمده خواصر "، أي: لكثرة امتلائها من الشبع.
وقوله:" فيصبحون ممحلين "، أي: أصابهم المحل.
وقوله:" فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل "، قال الإمام: هي فحول النحل. وفي الحديث:" ضرب يعسوب الدين بذنبه "، كذا رئيس الدين، وسيد الدين هاهنا: الجماعات. ولم يرد أمير النحل، ومعناه: فارق أهل الفتنة. وفي حديث آخر:"هذا يعسوب قريش "، أي: سيدها.
قال القاضي: الذي ذكره، هو قول لابن قتيبة، وبعض أهل اللغة أن اليعسوب أمير النحل خاصة ولا ذكورها، لكنه كنى بذلك عن الجماعة ؛ لأن أميرها متى طار تبعته جماعة. وتقدم الكلام على قوله:" أسبغه ضروعًا وأمده خواصر "، ومعنى " اسبغه "، أي: أكمل وأعظم لكثرة لبنها، وكذلك:" أمده خواصر "؛ لكثرة شبعها.
وقوله:" فقطعه جزلتين " بفتح الجيم، أي قطعتين. وحكاه ابن دريد بكسر الجيم.(8/444)
وقوله:" رمية الغرض "، قيل: يجعل بين الجزلتين بمقدار رمية الغرض. وعندي أن رمية الغرض هنا بمعنى التقديم على قوله:" يقطعه جزلتين "، وبعد قوله: "فيضربه بالسيف "، أي: كأنه قال: فيضربه بالسيف ليقسمه فيصيبه إصابة رمية الغرض فيقطعه جزلتين، فاختصر الكلام واكتفى بقوله " رمية الغرض " لدلالتها على ذلك.
وقوله:" بين مهرودتين "، قال الإمام: أي في شقتين، أو في حلتين. وقال شمر: قال بعض العرب: إن الثوب يصغ بالورس ثم بالزعفران فيجىء لونه مثل لون الحوذانة، فذلك الثوب المهرود. قال القتبي: هو عندي خطأ من النقلة، وأراه: " مهروتين "، يقال: هريت العمامة: إذا بستها صفراء وكأن فعلت منه: هروت. وقد روى هذا الحرف:"مهرودتين" بالدال وبالذال." مهرودتين " بالدال يعني المهملة ماخوذ من الهرد. والهرد الشق، وكان المعنى بين شقتين، والشقة نصف الملاءة. قال أبو بكر: قول من قال: إن صوابه مهروتين فيه خطأ، لأن العرب لا تقول: هروت الثوب، لكن هريت. ولا يقال: أيضًا: هربت إلا في العمامة وحدها،، فليس له أن يقيس الشقة على العمامة ؛ لأن اللغة رواية.
وقول: الهرد: هو الشق، خطأ ؛ لأن العرب لا تسمي الشق للإصلاح هردًا بل يسمون الإحراق والفساد هردًا. قال ابن السكت: هرد القصّار الثوب وهرته: إذا أحرقه، وهرد فلان عرض أخيه وهرته. وهذا يدل على الإفساد والقول في الحديث عندنا:" بين مهرودتين " الدال والذال، أي بين ممصرتين، كما جاء في الحديث: كما لم يسمع الصير الصحناة، وكذلك التقاء الحرف إلى غير ذلك مما لم يسمع إلا في الحديث. والممصرة من الثياب: هي التي فيها صفرة خفيفة.
قال القاضي: ذكر أبو عمرو المطرز في يواقيته: ثوب مهرد: إذا كان مصبوغًا بالصبب، وهو ماء ورق السمسم، وثوب مهرد: إذا كان كلون المشمش، ويقال: الهردى. قال بعضهم: ولا أحقه الغوب المهرود الذي يصبغ بالمعروف، والعروق يقال لها: الهرد.(8/445)
قال القاضي: الذي قاله صاحب "الجمهرة"، وقد رأيت مثله لأبي العلاء المقرئ قال: هرد ثوبه، وقاله ابن دريد إذا صبغه بالهرد، وهو صبغ يسمى العروق. وقال الجياني: هي الكركم، ولم يذكر هذا أبو حنيفة في كتاب النبات.
وقوله:" إذا طأطا رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ "، مثل الحديث الذي في أول الكتاب:" يقطر رأسه ماء كأنما خرج من ديماس ". وقوله:" جمان كاللؤلؤ"، الجمان:حبوب فضة صبغت على مثال اللؤلؤ. قال ابن دريد: وقد تسمي اللؤلؤ جمانًا، فسمى هاهنا ما يقطر من الماء جمانًا لشبهه بها، وشبهه باللؤلؤ.
وقوله: " فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه " بكسر الحاء وبفتح فاء " نفسه ". معنى قوله:" لا يحل " قيل: لا يمكن، ومعناه عندي: واجب وحق، كما قال تعالى:{ وحرام على قرية أهلكناها } الآية /، أي: حق واجب. ووقع في بعض الروايات عن ابن الحذاء:" فلا يحل لكافر يجد نفس ريحه وله وجه "، ولعله أبين. وأما من رواه: " يحل " بالضم فليس بشيء، إلا أن يكون بعده:" بكافر"، فيكون له وجه.
وقوله: " فمسح عن وجوههم "، معناه - والله أعلم - إما على ظاهره على طريق التنزل والتبرك، أو إشارة عن كشف ما نزل بهم من الخوف.
وقوله:" مثلكم حتى يدركه بباب لد فيقتله " بضم اللام، قال ابن دريد: له موضع، وذكر هذا الحرت. وقال غيره: هذا جبل وفي كتب بني إسرائيل أنه يقتله بجبل الزيتون كما قدمناه. وقوله: أو لا يريدان لأحد بقتالهم "، أي: لا قدرة.(8/446)
وقوله: " فحرز عبادي إلى الطور "، كذا روايتنا فيه عن عامتهم بالراء أولاً، وعند بعضم: " فحوز "، وصوبه بعضهم ورآه وجه الكلام، ومعناهما عندي متقارب، وإن جوز فالواو بمعنى: نج عبادي إلى الطور ؛ ليمتنعوا فيه من يأحوج ومأجوج، وأزلهم عن طريقهم. وجرد بالراء بمعنى: اجعل الطور موضع حذرهم منهم وجهة امتناعهم. ورواه بعضهم: " حدر"، بالدال، ومعناه: أنزلهم إلى جهته أو ردهم واصرفهم إليه. قال ابن عرفة: أصعد في الأرض: ذهب مبتدئًا، ولا يقال في الرجوع: انحدر.
وقوله:" حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مائة دينار لأحدكم اليوم "، لعله لما ينالهم من المسبغة والحاجة إلى ما يكلون أو ما يحرثون به، لشدة حرصهم، والله أعلم.
وقوله:" فيرسل الله عليهم النغف "، هو بفتح النون والغين المعجمة، قال الإمام: هي دود في أنوف الإبل والغنم، واحدتها نغفة، ومنه يقال للرجل المحتقر: إنما أنت نغفة.
وقوله:" فيصبحون فرسى "، هو مقصور، أي قتلى، واحدهم فريس، من فريس الذنب الشاة: إذا قتلها.
وقوله: " فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة "، هي الأرض التي لا نبات فيها، والصعيد الزلق: الذي تزل عنه الأقدام.
قال القاضي: روينا هذا الحرف عن الأسدي بالفاء والقاف معا، وفتح اللام وسكونها معًا، ولم يضبطه عن الصدفي إلا بالقاف وحده، والوجوه التي رويناها عن الأسدي كلها صحيحة، ذكرها أبو زيد الأنصاري قال: يقال للمرآة: زلفة، وزلفة. وحكى ابن الأعرابي عن ابن عباس في تفسير قوله:" كأنها زلفة " أي مرآة. وحكى ثعلب مثله عن أبي زيد، وقال غيره: الزلف: المصانع. قال ابو عبيد: والزلف: الأجاجيز الخضر. قال ابن دريد: وربما سميت المصانع إذا امتلأت زلفًا، ورأيت في بعض حواشي شيوخي: الزلفة: المحارة.
وقوله:" فيومئذ تأكل العصابة " كذا رواية الجميع وعند ابن سعيد: "فيوشك " بدل: " فيومئذ ".(8/447)
وقوله:" ويستظلون بقحفها "، أي: بمعقد قشرها يعني الرمانة، والقحف أعلى الجمجمة، شبههم به. والرسل، بكسر الراء: اللبن، وقد تقدم،واللقحة، بكسر اللام: التي تحبلت من الإبل، وجاءت هاهنا في البقر أيضًا والغنم، وقد جاءت في القرأن في الرياح. قال الله تعالى:{ وأرسلنا الرياح لواقح }، أي: تحمل الندى ثم تمجه في السحاب، وكله بمعنى الأول.
وقوله:" يكفي الفيام من الناس " بكسر الفاء بعدها ياء باثنتين تحتها، أي الجماعة. وبعضهم لا يجيز إلا الهمز، وبعضهم ينكر فيه الهمز.
وقوله:" يكفي الفخذ من الناس ": هي جماعة القوم من نسب، وهي دون البطن. قال ابن /فارس: لا يقال في هذا إلا بسكون الخاء خلاف الجارحة، فتلك يقال فيها: "فخذ" بكسر الخاء وسكونها وبكسر الفًاء أيضًا، قاله الخليل. و" جبل الخمر " بفتح الجيم، وهو جبل بيت المقدس. والخمر: الشجر الملتف الذي يستتربه من فيه.
وقوله:" علم على أنقاب المدينة ": طرفها وفجاجها. قال الإمام: قال القنازعي: قال الأخفش: أنقاب المدينة: طرقها وفجاجها.
قال القاضي: قال صاحب العين: النقب والنقب: الطريق في رأس الجبل. والنقب في الحائط وغيره نقب يخلص منه إلى ما وراءه، وهذا أشبه من الأول بأن الظاهر من أبوابها وفوهات طرقها التي يدخل إليها منها، ويعضده قوله في البخاري:" لها سبعة أبواب، على كل باب ملكان "، وروايتنا فيه في حديث عمرو الناقد والحلواني:" نفاب " بغير ألف، جمع نقب أيضًا.
وقوله:" أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر ؟ فيقولون: لا، فيقتله ثم يحييه ". قال الإمام: إظهار المعجزة على يدى الكذاب لا تصح، فيقال: لم ظهرت على يدى الدجال وهو كذاب ؟ فيقال: لأنه يدعي الربوبية، وأدلة الحدوث تحيل ما ادعاه وتكذبه، والنبي يدّعي النبوة وهي غير مستحيلة في البشر، وأتى بالدليل الذي لم يعارضه شيء فصدق. وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في كتابنا "المترجم بقطع لسان النابح".(8/448)
قال القاضي: قد تقدم قبل بيان في هذا، وقول من قال للدجال حين قال له:" أتشكون فقالوا: لا "، مع أن إظهار ما أظهر لا تقوم له به حجة عند عاقل في كونه إلهًا ؛ لظهور النقص ودلائل الحدث، وتشويه الصورة، وشهادة التكذيب عليه، ولكن لعلهم قالوا ذلك تقية - كما قدمنا - وخوفًا منه، أو دافعوا الأمر وظنوا أن الله لا يقدره على هذا ولا يفعله له ولا يقدره بأمر حين أراد قتله بعد، كما لم يقدره عليه ثانية حين أراد قتله بعد، كما جاء في الحديث، ويكون قولهم: لا. أي: لا شك فيك، بل نوقن بكذبك، فإن المؤمنين ما يشكو فيه، ومن شك فيه كفر كمن أقر بربوبيته. وغالطوه بقولهم:" لا "، مدافعة، ولاحتمالها، أو يكون مجاوبة بـ" لا " من في قلبه مرض ومن اتبعك من اليهود والكفار.
وجاء في آخر هذا الحديث من رواية السمرقندي: قال أبو إسحاق يعني ابن سفيان. يقال: إن الرجل هو الخضر - عليه السلام -. وكذا قال معمر في جامعه بإثر هذا الحديث.
والمسالح: القوم يستعد بهم في المراصد ويرتبون لذلك، وسموا بذلك لحمل السلاح.
وقوله:" فيأمر الدجال به فيشج، فيقول: خذوه وأشجوه "، كذا رويناه من طريق العذري والشنتجالي، وغيرهم بالشين المعجمة بعدها باء بواحدة وحاء مهملة، ومعناه: مدوه. زاد بعضهم: على بطنه. والشبح: مد الشيء بين اوتاد ليجف، وشبحت الرجل: إذا مددته كالمصلوب، وشبح المضروب: مده. رويناه عن السمرقندي وابن ماهان: "فيشجوه فيشج " بحذف الباء وبالجيم من الشج، وهو الجرح في الرأس. والأول أصح، ويدل عليه ما جاء بعده من ضربه.
وقوله:" فيؤمر به فيؤشر بالمنشار "، كذا هو هنا " يؤشر " بالواو "بالمئشار " بالهمز وهو صحيح، ويقال بالنون منها أيضًا. وقد جاء بعد هذا /في الحديث الآخر بالنون من رواية السمرقندي. والترقوة، بفتح التاء وضم القاف وتخفيف الواو وفتحها: العظم الذي بين ثغرة النجر والعاتق.(8/449)
وقوله:" وما ينصبك منه "، أي: ما يتعبك من أمره فيشغلك من خوفه. قال ابن دريد: يقال: أنصبه المرض ونصبه وأنصبه أعلى. قال: وهو تغير الحال من مرض أو تعب. وقوله: في هذا الحديث قلت: إنهم يقولون: إن معه الطعام والأنهار، قال: هو أهون على الله من ذلك، أي من أن يجعل ما يخلقه على يده مضلا للمؤمنين ومشككا لقلوب الموقنين، بل ليزداد الذين آمنوا إيمانًا وليرتاب الذين في قلوبهم مرض والكافرون، كما قال له الذي قتله ثم أحياه:"ما كنت قط فيك أشد بصيرة منى الآن " لا أن قوله: "هو أهون على الله من ذلك "، أي أنه ليس شيء من ذلك معه، بل أن يجعل ذلك آية على صدقه، فكيف وقد جعل الأية على كذبه وكفره ظاهرة بقراءة من لا يقرأ زيادة على شواهد كذبه من صدقه ونقصه.
قال القاضي: ونزول عيسى المسيح وقتله الدجال حق صحيح عند أهل السنة ؛ لصحيح الآثار الواردة في ذلك ؛ ولأنه لم يرد ما يبطله ويضعفه، خلافًا لبعض المعتزلة والجهمية، ومن رأى رأيهم من إنكار ذلك، وزعمهم أن قول الله تعالى عن محمد - صلى الله عليه وسلم -:{ خاتم النبيين }، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" لا نبي بعدي"، وإجماع المسلمين على ذلك وعلى أن شريعة الإسلام باقية غير منسوخة إلى يوم القيامة، يرد هذه الأحاديث. وليس كما زعموه ؛ فإنه لم يرد في هذه الأحاديث أنه يأتي بنسخ شريعة ولا تجديد امر نبوة ورسالة، بل جاءت بأنه حكم مقسط، يجىء بما يجدد ما تغير من الإسلام، وبصلاح الأمور والعدل، وكسر الصليب، وقتل الخنزير، أن إمام المسلمين منهم كما قال - عليه السلام -.
وأما قوله: " ويضع الجزية "، فليس معناه: أنه يسقطها عمن تجب عليه بخلات شريعتنا، بل قيل: يسلم الكافر فلا يبقى من يعطي جزية، وقد يقال: إنه يقهر جميع الكفرة حتى لا يبقى له معاند ولا مقاتل، إلأ من أسلم أو ألقى بيده، أو أعطى الجزية صاغرًا، ويكون وضع الجزية: أي يوظفها على كل من كفر ؛ لا أنه يسقطها.(8/450)
قوله في حديث عبد الله بن عمرو:" يخرج الدجال فيمكث أربعين، لا أدرى أربعين يومًا أو شهرًا أو عامًا "، قد تقدم في الحديث قبله بيانه:"أربعين يومًا "، ورفع شك عبد الله بن عمرو كذلك في حديث الجساسة: " أربعين ليلة ".
وقوله: " في كبد جبل ": في وسطه وداخله. وكبد كل شيء: وسطه. وقوله:" ويبقى شرار الخلق في خفة الطير وأحلام السباع "، أي: في مسارعتهم وخفتهم إلى الشرور وقضاء الشهوات كطيران الطير، وفي الإفساد والعدوان وظلم بعض لبعض في خلق السباع العادية.
وقوله:" إلا أصغى ليتًا ورفع ليتًا "، قال الإمام: يصغي ليتًا: يميل، يقال: صغا يصغي، وصغى يصغى، ويقال: صغاك معك وصغوك معه أي ميلك.
قال القاضي: في هذا الحديث:" أصغى "، وهو صحيح في المعدى رباعي. قال صاحب العين: أصغيت إليه سمعي: أي أملته، وصغا يصغو، ويصغى صغوًا: إذا مال. وحكى غيره: صغيت أيضًا، وكذلك صغى إليه سمعي، وصغى / بالفتح والكسر، وحكى الحربي: أصغيت إليه، لغة في غير المعدى أيضًا.
قال الإمام: والليت: صفحة العنق، وهو جانبه.
وقوله:" يلوط حوض إبله "، أي: يطيبه ويصلحه. أصل اللوط: اللصوق. "والملتاط لا يورث، أي اللاصق بالقوم في النسب. قال صاحب الأفعال: لاط الحوض لوطًا وليطًا: إذا أصلحه، والشيء بالشيء: ألصقه، وألاط الولد بأبيه نسبه إليه.
وقوله:" كأنه الطل أو الظل،، قال القاضي: الأشبه أن يكون الأصح من هذين اللفظين اللذين شلث فيهما الراوي " الطل " بالطاء المهملة، وقد وصفه في الحديث الآخر:" أنه كمني الرجال ".
وقوله: " فذلك { يوم يكشف عن ساق }، معناه: ومعنى ما في كتاب الله عزوجل من ذلك - والله أعلم - مراد نبيه من هذا الحديث، وأن المراد به: شدة الأمر وصعوبة الحال، كما يقال: كشفت الحرب عن ساقها. قال الشاعر:
قد جددت بكم الحرب فجدوا وشمرت عن ساقها فشدوا(8/451)
وأصله أن المجد في الأمر شمر إزاره، ويرفعه عن ساقه. وهو هنا بين لأنه ذكر قبله أن " يخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ". قال: فذلك { يوم يجعل الولدان شيبًا }، وذلك { يوم يكشف عن ساق }.
حديث الجساسة
وفي حديث فاطمة بنت قيس: " نكحت ابن المغيرة - وهو من خيار شباب قريش يومئذ - وأصيب في أول الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما تأيمت"، وذكرت حديثها، قال القاضي أبو الوليد الكناني: المشهور في أمر فاطمة مع زوجها هذا أن تأيمها منه بطلاق باتٍّ لا بموت.
قال الفاضى: ما قاله صحيح، وكذلك جاء بإثر هذا الحديث من الطريق الآخر، وكذلك جاء في كتاب الطلاق وفي "الموطأ" وسائر المصنفات. ففهم أبو الوليد أن هذا مخالف له، ولعل قولها:" أصيب في أول الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إنما أرادت به عد فضائله وذكر مناقبه كما ابتدئت بالثناء عليه وهو قولها: " وهو من خيار شباب قريش "، ثم ذكرت خبر تأيمها منه. وإذا كان هذا لم يكن فيه معارضة مع الأخبار الأخر.
وقد اختلف في وقت وفاته، فقيل: مع على بن أبي طالب باليمن إثر طلاقها، ذكر ذلك أبو عمر، وقيل: بل عاش إلى أيام عمر، وذكرت له معه قصة في شان خالد بن الوليد، ذكر ذلك البخاري في "التاريخ". ولعل قولها:" أصيب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول الجهاد "، بعين القتل إما بجرح أو بشيء الله أعلم بمراده به. وقد مر في الطلاق الاختلاف في وقت طلاقه لها وصفته والكلام على ما اشتمل عليه حديثها مما اختص به هناك بحمد الله، ومما في حديثها أيضًا مما لم يتقدم الكلام عليه ويستدرك.(8/452)
قوله عن أم شريك:" أنها من الأنصار " قال أبو الوليد: إنما هي قرشية من بني عامر بن لؤي اسمها غزية، وكنيت بابنها شريك. قال أبو عمر: يقال: اسمها غزيلة. قال: وقد قيل: أم شريك الأنصارية، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - زوجها، ولا يصح لكثرة الاضطراب في ذلك. وقال غيرهما: الأشبه أنهما اثنتان. وقد ذكر أبو عمر في التمهيد في هذا الحديث: اعتدى عند أم شريك الأنصارية ابنة العكر فانظره.
ومما استدرك فيه قوله:" انتقلي إلى ابن عمك عبد الله بن عمرو بن أم مكتوم، وهو /رجل من بني فهر، فهر قريش، وهو من البطن الذي هي منه. والمعروف خلاف هذا، وليس بابن عمها، بل هي من بني محارب بن فهر، وهو ابن بني عامر بن لؤي، ليسا من بطن واحد، وأما اسم ابن أم مكتوم واسم أبيه فالخلاف فيه كثير، ما ذكر هنا أحدها واما انتقالها في العدة فنسبه في الحديث نفسه مبين مذكور قبل في نهتاب الطلاق. وكذلك قولها: "خطبني فلان وخطبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أسامة، وقولها له - صلى الله عليه وسلم -:" أمري بيدك ". وأمر النبي لها بالانتقال بعد العدة وهذه خطبة فيها صوابه: أن الخطبة كلها إنما كانت بعد إحلالها، كما جاء في كتاب الطلاق. قيل: وفي "الموطأ" وغيره من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لها:" فإذ أحللت فأذنيني "، فلما أحلت ذكرت الخبر، فجاء في الكلام هنا تقديم وتأخيره.
قوله:" ثم أرفؤوا إلى جزيرة "، قال الإمام: قال صاحب الأفعال: أرفأت إلى الشيء: لجأت إليه، وأرفات السفينة: قربتها إلى مرفاها حيث تصلح.
قال القاضي: قال صاحب العين: أرفات السفينة: قربتها من الشط إلى الساحل. قال غيره: مرفا السفينة حيث ترسى، وهي الميناء.
وقوله:" فجلسوا في أقرب السفينة "، قال الإمام: يريد القوارب الصغار التي تكون مع السفينة لقضاء حوائجهم، والواحد قارب، ولكنه جاء هاهنا على غير قياس.(8/453)
قال القاضي: ذهب الكناني هاهنا إلى أنه إنما أراد بأقرب أخريات السفينة، وأدانيها وخواصرها، كانه ما قرب منه النزول منها أو كأنه من القرب الذي هو الخاصرة، وكأنه أنكر أن يقال: الأقرب للقارب، ويجتمع فاعلا على أفعل، لاسيما ورواية ابن ماهان:" في أخريات "، وفي بعضها: " في آخر السفينة "، فساعدته هذه الرواية على التفسير. وأما الجياني وغيره فإنما حملوها على ما قاله الإمام.
القارب معروف، يقال بفتح الراء وكسرها. قال الخليل في كتابه: القارب سفينة صغيرة. وذكره أبو عبيد في مصنفه، ويصححه أيضًا أن ابن أبي شيبة رواه في مصنفه :" فقعدوا في قوارب السفينة"، ثم الجلوس في أداني السفينة وأخرياتها لا تخرج إلى البر، وليس النزولى من هناك في البحر يسمى جلوسًا ولا قعودًا، فيبعد تأويل أبي الوليد فيه. وقد جاء بعد هذا في الحديث الآخر: " أن السفينة انكسرت بهم، فخرج بعضهم على لوح من ألواح السفينة "، وقد يجمع بين الحديثين، ويجعل هذه الألواح التي خرجوا عليها هي الأقرب جمع قرب وهي الخاصرة، فتكون هذه الألواح ما وجد من جوانب السفينة وأواخرها التي هي لها كالخواصر، وربما سميت بها.
وقوله: الجساسة، بفتح الجيم وتشديد السين الأولى قيل: سميت بذلك لتجسسها الأخبار للدجال. وقد روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن هذه الدابة هي دابة الأرض التي تخرج آخر الزمان تكلم الناس.
وقوله: " أهلب كثير الشعر "، وكذا جاء في الحديث، وهو تفسير الأهلب. قال الخليل: الهلب: ما غلظ من الشعر. ورجل أهلب: إذا كان شعر ذراعيه غليظًا.
وقوله: " فانه إلى خبركم بالأشواق "، أي: بحال شدة شوق.
وقوله:" فرقنا "، أي: فرغنا.
وقوله: " فصادفنا / البحر حين اغتلم "، قال الإمام: قال الكسائي: الاغتلام: أن يتجاوز الإنسان حد ما أمر به من الخير والمباح، ومنه قول عمر: " إذا اغتلممت عليكم هذه الأشربة فاكسروها بالماء " معناه: إذا تجاوزت حدها الذي لا يسكر إلى حدها الذي يسكر.(8/454)
قال القاضي: ليس يستقيم هذا التأويل على مذهب الحجازيين والكافة ممن لا يجيز شرب مسكر النبيذ. ولا يختلفون أنها إذا صار إلى أن يسكر أنه حرام نجس، لا يحل شربه ولا معاناته. وهل يعانى ليجعل خلا ؟ تقدم الخلاف والكلام فيه في كتاب الأشربة، وإنما يتناول هذا أهل العراق ممن يرخص فيه ويتساهل في مسكره. ومعنى تاويل الحديث: إذا ابتدأت فيه الشدة وخشى تراميها إلى حد السكران ترك كذلك حينا، ومعلوم من مذهب عمر خلاف ما فسر.
وقوله:" بيسان لما بباء واحدة مفتوحة بعدها ياء باثنتين أسفلها ساكنة. و" عين زغر " بضم الزاى وفتح الغين. و" طيبة " بفتح الطاء، يقال أيضًا: طابة، سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك المدينة من الطيب وهو الزكاء والطهارة. وفي المصنف: الطيمب والطاب أولاً فيها، أو لحسن العيش بها وطيبه، وقيل: لطهارة أرضها. وقوله: " بيده السيف صلتا "، قال الإمام: أي مجردًا. قال ابن السكيت: فيه لغتان:" صلتا " بفتح الصاد، و" صلتا " بضمها.
وقوله: " لا، بل من قبل المشرق ما هو. من قبل المشرق ما هو " وأومأ بيده نحو المشرق، قال القاضي: ليس " ما " هنا للنفي ؛ لأنه إنما يريد إثبات كونه من جهة المشرق، و"ما" هنا زائدة لصلة الكلام.
وقوله: " فتاهت به سفينته "، أي: سارت على غير اهتداء ولا طريق. قال مسلم آخر حديث الجساسة: حدثنا أبو بكر بن إسحاق، حدثنا يحيى بن بكير. كذا لجميعهم. ووقع عند العذري: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وهو وهم. والصواب: ابن إسحاق، وهو أبو بكر محمد بن إسحاق الصنعاني.
وقوله: " فيضرب رواقه "، قال الحربي في تفسيره: روق الإنسان: همه ونفسه إذا القاه على الشيء حرصا عليه. قيل: ألقى عليه أرواقه: أي ثقله.(8/455)
وقال ابن الأنباري: يقال ألقى عليه أرواقه: أي ثقله. وقال الهروي في قوله: ضرب السلطان روقه ؛ الروق والرواق: هو ما بين يدى البيت. قال الأصمعي: رواق البيت سماوته، وهي الشقة التي دون العليا. وقال غيره: هو بيت كالفسطاط.
وقوله:" ترجف المدينة "، أي: يتحرك من فيها من الكفار والمنافقين بقدومه. يفال: رجف الشيء: إذا تحرك، وأرجف الفوم: خاضوا في الفتنة كانهم يحركون غيرهم لها، وهذا كما قال آخر الحديث: " فيخرج إليه كل كافر ومنافق " إذ حرم الله عليه دخولها، وأهلها المؤمنون معصومون من ذلك؛ لقوله:" لا يدخلها رعب الدجال "، وقيل: إن هذه الرجفات إنما هي من أهل المدينة على من بها من المنافقين والكفار حتى يخرجوا، فرقا من المؤمنين بها إلى الدجال.
وقوله:" سبعون ألفا من يهود أصبهان "، كذا لأكثرهم. وعند ابن ماهان: " تسعون ألفا،. وأما " أصبهان " فكذا سمعناه بفتح الهمزة، وحكاه البكرى بكسرها لا غير.
وقوله:" ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق كبر من الدجال "، تفسيره الحديث الذي بعده وفيه:" أمر أكبر من الدجال "، فهو كبر الشأن وعظم الفتنة، لا كبر الجسم، هذا الأظهر. وقد يحتمل أنه يشير إلى عظم الجسم.(8/456)
وقوله:" بادروا بالأعمال ستًّا: طلوع الشمس " الحديث، وفي آخره: " أو خاصة أحدكم أو أمر العامة "، كذا هي عندنا الستة كلها بـ " أو ". وعلى التقسيم في حديث يحى ابن أيوب، وفي حديث ابن بسطام بواو العطف. وقال: " خويصة أحدكم " تصغير خاصة، ومعنى ذلك: الموت، كذا فسره هشام الدستوائى. و" أمر العامة ": القيامة، كذا فسره قتادة، ذكره عنهما عبد بن حميد. وفي السند: أمية بن بسطام العيشي، بالعين مهملة وياء باثنتين تحتها والشين المعجمة، كذا وقع في جميع نسخ مسلم. قيل: صوابه: العايشى منسوب إلى بني عايش من تيم الله بن عكاة، ولكن أبا نصر الحافظ وعبد الغنى وحفاظ المحدثين لم يقولوا فيه إلا العيشي، كما في "الأم"، كما يقوله المحدثون. وقد يحتمل أنه على مذهب من قال من العرب في عائشة: عيشة. قال ابن حمزة: وهي لغة قد جاءت في الكلام الفصيح. وفيه: زياد بن رياح، كذا رويناه بكسر الراء وياء باثنتين، وكذا قاله غير واحد. وهو الذي ذكر عبد الغنى وحده. وقال ابن الجارود: يفال فيه: "رباح " بواحدة، وحكى البخاري وغيره فيه الوجهين. وذكر بعد هذا في كتاب الزهد: يزيد بن رباح أبو فراس، مولى عبد الله بن عمرو بن العاص، هو بواحدة لم يختلف فيه.
قوله:" بعثت أنا والساعة كهاتين "، وذكر أنه أشار بالسبابة والوسطى، وفي الرواية الأخرى:" وقرن "، وفي الأخرى:" وضم "، يعني لتقارب إحداهما من الأخرى، إما في المجاورة، واقا في قدر ما بينهما من قرب لحاق السبابة بالوسطى. ويعضد هذا التأويل الآخر قوله في الرواية الأخرى: "كفضل إحداهما على الأخرى ".
وقد حاول بعض الناس أن نسبة ما بينهما كنسبة ما يذكر مما بقي من مدة الدنيا مما مضى في أخبار لا تصح، لكن أبا داود خرج تأخير هذه الأمة بنصف يوم وفسره بخمسمائة سنة فيأتي من حساب أيام الجمعة نصف سبع، وهو قريب مما بين الأصبعين المذكورين.(8/457)
وحديث:" إن يعش هذا الغلام فعسى ألاّ يدركه الهرم حتى تقوم الساعة" يفسره الحديث الذي قبله: كانت الأعراب إذا قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه عن الساعة، متى الساعة ؟ فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال: " إن يعش هذا لم يدركه الهرم، قامت عليكم ساعتكم "، وهذا يدل أن المراد بساعتكم: موتكم، ويكون هذا مثل الحديث الآخر: "أرأيتكم ليلتكم هذه على رأس مائة عام، لا يبقى ممن هو على وجه الأرض أحد ".
وقوله:" العبادة في الهرج كهجرة إلي "، أي: في احتدام الفتنة، واختلاط امر الناس، فيحمل أنه في آخر الزمان الذي أنذر به في الحديث بقوله: " ويكثر الهرج "، ويحتمل أنه عموما في كل وقت، وفضل الانعزال حينئذ لعبادة الله.
قوله: " يحلب لقحته "، أي: ناقته التي يحلب.
وقوله:" يلط حوضه، كذا عند الرواة، وكذا في الموطم في غير هذا الحديث. وعند القاضي الشهيد:" يليط "، وللهوزني:" يلوط "، أي يصلحه ويرمه ويبنيه، ويلصق به الطين لإصلاحه ؛ ولئلا ينشف ماؤه. قال الخليل: اللط: الإلزاق. ويلوط: يصلحه ويطينه، وقد تقدم. ويليط: يلزق به الطين. لاط الشيء بالشىء: لصق. وألطه أنا: ألزقته، والمعاني متقاربة. وبهذا فسر شارحو "الموطأ" قوله: " إن كنت تلط حوضها"، أي ترمه وتصلحه. وقيل: تبنيه وترفع جوانبه.
وقوله:" إلا عجب الذنب "، قال الإمام: هو العظم الذي في أسفل الصلب، وهو العسيب. قال أبو مالك الأعرابي: هو رأس العصعص. قال القاضي: يقال: عجب وعجم.
ومعنى قوله: " منه خلق "، قال الباجي: هو ما خلق من ابن آدم، وهو الذي يبقى منه ليعاد تركيب الخلق عليه. قال: وقوله: " كل ابن آدم تكله الأرض "، يريد: أن جميع الإنسان مما تكله الأرض، وإن جاز ألاّ تأكل أجسامًا كثيرة كالأنبياء وكثير من الشهداء، على ما روى في الحديث. وعجب الذنب لا تأكله من أحد من الناس، وإن أكلت سائر جسدهم.(8/458)
قوله:" الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر "، معناه: أن المؤمن مدة بقائه فيها، وعلمه بما أعد له في الآخرة من النعيم الدائم والبشر، أنه عند موله وعرضه عليه، فحبسه عنه في الحياة الدنيا، وتكليفه ما الزمه، ومنعه مما حرم عليه من شهواته كالمسجون المحبوس عن لذاته ومحابه، حتى إذا فاء فارقها واستراح من نصبها وأنكادها، خرج إلى ما أعد له واتسعت آماله، وقضى ما شاء من شهواته. والكافر إنما له من ذلك ما في الدنيا على قلته وتكديره بالشوائب، وتنكيده بالعوائق، حتى إذا فارق ذلك صار إلى سجن الجحيم، وعذاب النار، وشقاء الأبد.
قوله:" والناس كنفيه "، أي: ناحيته، ورواية الفارسي:" كنفتيه " بزيادة تاء. وقوله: لا بجدى أسك لا، قال الإمام: يعني صغير الأذنين.
قال القاضي: أصل السكك: ضيق الصماخ. قال الهروي: والاستكاك: الصم.استكت أسماعهم: صموا. وقال ثابت: السك: صغر الأذن مع لصوقها وقلة إشرافها.
وقوله:" أو أعطى فاقتنى "، كذا هو عند جماعتهم، وعند ابن ماهان: "فاقنى "، وهو المعروف في الحديث، ومعناه: أرضى. ويقال: أعطاه قنية من المال يقتني ؛ لقوله تعالى:{ أغنى وأقنى }، وأما:" اقتنى "، فيكون بمعنى ادخر لآخرته.
قوله:" ما الفقر أخشى عليكم "، وجه الكلام فيه النصب مفعول بأخشى.
قوله:" تنافسوها "، أي: تحاسدوا لها.
وقوله:" إذا فتحت عليكم فارس والروم، أي قوهم أنتم ؟ " قال عبدالرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله. قال بعضهم: لعله:" نكون كما أمرنا الله.
وقوله فيه: " يتنافسون، ثم يتحاسدون ": أصل التنافر: التسابق إلى الشيء أيهم يأخذه أولأ وكأنه كثرت الرغبة في الشيء، وهو أول أبواب التحاسد.
وقوله: " يتدابرون ": أي يتقاطعون. ثم قال: " يتباغضون " فكان المدابرة أدنى من المباغضة. وقد تكون المدابرة والإعراض مع بقاء مودة وتكون المباغضة بعد هذا.(8/459)
وقوله:" ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين "، فتجعلون بعضهم على رقاب بعض "، وعند السمرقندي:" فتحملون بعضهم "، قال بعضهم: لعل صواب هذا الكلام: ثم تنطلقون ولا أدرى ما الذي حمل، هذا على تغيير الرواية بغير ضرورة، مع عدم توجيه الكلام مع ما قاله واستقلاله بالمراد، لاسيما مع قوله بعد هذا فيحملون، أو يجعلون بعضهم على رقاب بعض. وأشبه أن يكون الكلام على وجهه، واراد أن مساكين المهاجرين وضعفتهم ستفتح / عليهم انذاك من الدنيا حتى يكونوا أمراء بعضهم على رقاب بعض. وقوله: " ألا تزدروا نعمة الله "، أي تحتقرونها.
قول مسلم: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا جرير، و أنبأنا أبو كريب، حدثنا أبو معاوية، وحدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكغ عن الأعمش حديث: " انظروا إلى من هو أسفل منكم "، روى هذا الحديث عن الأعمش أبو معاوية ووكيع وجرير، فالأسانيد أ المتقدمة كلها راجعة إلى الأعمش، كأنه قال: كلهم عن الأعمش. ومثله الحديث الآخر:" إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه "، قال الطبري: هذا حديث جامع للخير ؛ لأن العبد إذا راى من فوقه في الخير طالتنفسه باللحاق به، واستقصر حاله التي هو عليها، واجتهد في الزيادة: "إذا نظر في دنياه إلى من هو دونه تبين نعم الله عليه، فالزم نفسه الشكر ". هذا معنى كلامه وإذا لم يفعل ما حض عليه النبي كان الأمر بالعكس فأعجب بعمله، وكسل عن الزيادة من الخير، ومد عينيه إلى الدنيا، وحرص على الازدياد منها وازدراء نعم الله عليه ولم يؤد حقها.
وقوله في حديث أقرع وأبرص:" فأراد الله أن يبتليهم "، أي: يختبرهم. وفي رواية السمرقندي:"يبليهم، أي: يصيبهم ببلاء. وأصل البلاء والابتلاء: الاختبار.
وقوله:" ناقة عشراء "، أي: مضى لها عشرة أشهر. ونوق عشار، وكانت أنفس أموال العرب لقرب ولادتها، ورجاء لبنها.(8/460)
وقوله:" شاة والدًا "، أي: وضعث ولدها، وقيل: العشار هي التي وضعت بعضها وبعضها بعد لم يضع. وقال الداودي: هي التي معها أولادها، والأول المعروف.
وقوله:" فأنتج هذان وولد هذا "، كذا الرواية، رباعي بفتح التاء، والمعروف: "ننتج "، يقال: نتجت أنا الناقة وأنا ناتج: إذا توليت نتاجها وولادتها، ونتج القوم: وضعت مواشيهم، وأنتج القوم: إذا كان عندهم إبل حوامل، وأنتجت الفرس: إذا حملت، وأنتجت أيضًا: ولدت، ونتجت فهي منتوجة. وحكى الأخفش نتجتها وأنتجتها بمعنى.
وقوله: " ولد " بمعنى نتج، وكله بمعنى من تولى الولادة. والناتج للإبل والمولد لغيرها كالقابلة للنساء.
وقوله:" انقطعت بي الحبال في سفري "، الحبال يكون هنا: الطرق، والحبل: المستطيل من الرمل، وقد روى في غير هذا الكتاب " الجبال " بالجيم، وهي رواية بعض رواة البخاري وعند بعضهم الحبال كما هنا، وقد تكون الحبال هنا: الأسباب التي يتوصل بها إلى البلاغ والمرفق، والحبل: التواصل. وقد رواه ابن الحذاء " الجبل " جمع جبلة، ورواه أيضًا بعضهم في كتاب مسلم " الجبال " بالباء وهو من هذا.
وقوله: " لا أجهدك اليوم شيئًا أخذته لله "، كذا لأكثرهم، وعند ابن ماهان: "احمدك لا بالحاء المهملة والميم، وكذا رواه البخاري . وقال بعضهم: صوابه: " لا أجدك " بالدال، أي امنعك، وهذا تغيير للرواية الصحيحة النقل والمعنى. فأما " أحمدك " فمعناه - فيما قيل -: لا أحمدك في نزول شيء أو لبقائه ؛ لطيب نفسى بما تأخذه كما قال المرقشي: ليس على طول الحياة ندم. أي ليس على فوت طول الحياة ندم، وأما على رواية: "أجهدك "، أي لا أبلغ منك جهدا أو مشقة في منعك شيئًا أخذته لله. قال صاحب الأفعال: جهدته وأجهدته: بلغت مشقته. وقد يكون هنا "أجهدك" أي أقلل لكم فيما / تأخذه. والجهد ما يعيش به المقل، كما قال تعالى: {والذين لا يجدون إلاّ جهدهم }.(8/461)
وقوله - عليه السلام -:" إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي " بالحاء المهملة، ولغيره بالخاء المعجمة، وهو دليل الحديث لاغترابه بالتبدي وانقطاعه عن الناس، وقد يكون " الحفى " بالحاء المهملة: أي الوصول، لا سيما لقرانه بالغنى. ولا فضيلة للغنى إلا مع بذل المال وصلة الأرحام، وأحد معاني الخفي: الوصول. قال الصدفي: صوابه بالخاء المعجمة. وقال بعده في حديث يحيى بن حبيب الحارثى: حدثنا المعتمر، قال: سمعت إسماعيل، عن قيس عن سعد. هذا هو الصحيح وكان عند بعض شيوخنا فيه: عن قيس ابن سعد وهو خطأ، وإنما هو قيس بن أبي حازم. وكذا جاء بعد في السند الآخر عن قيس، عن سعد وكذا أخرجه البخاري وقال بعده: حدثنا يحيى بن حبيب اخبرنا وكيع. كذا لابن الحذاء، وعند سائر شيوخنا: حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا وكيع.
قوله:" ما لنا طعام نأكله إلا ورق الحبلة "، وهو السمر، كذا وقع عند عامة الرواة، وعند الطبري وشيخنا التميمي: " وهذا السمر " ووقع في البخاري: " إلا الحبلة وورق السمر "، وكذلك ذكره أبو عبيد. والحبلة بضم الحاء وسكون الباء. قال الإمام: قال أبو عبيد: هما ضربان من الشجر. وقال ابن الأعرابي: الحبلة: ثمر السمر، شبيه اللوبيا. وقال غيره: ئمر العضاة.
وأما قوله:" تع!رنى عن الدين "، قال القاضي: قال الهروي: معناه: توقفنى والتعزير: التوقيف على الأحكام والفرائض. وقال الطبري: تعزرني: أي تقومني وتعلمني، ومنه: تعزير السلطان، أي تقويمه بالتأديب، وقال الحربى: التعزير بمعنى: العتب واللوم.
وقوله:" إن الدنيا آذنت بصرم "، أي: أشعرت وأعملت بانقطاع.
وقوله:" وولت حذاء مدبرة "، قال الإمام: قال أبو عبيد: هي السريعة الخفيفة التي انقطع آخرها، ومنه قيل للقطاة: حذاء لقصر ذنبها مع خفتها وحمار حذاء أي: قصير الذنب.
وقوله هذا مثل ؛ لأن القصير الذنب أو ما قطع ذنبه لم يبق وراءه شيء، فكأنه قال: إن الدنيا ادبرت منقطعة عنكم سريعة الانقطاع.(8/462)
وقوله:" لم يبق منها إلا صبابة "، قال الإمام: قال أبو عبيد: الصبابة: البقية تبقى في الإناء من الشراب، وقد تصاببتها: إذا شربتها.
وقوله:" وهو كظيظ من الزحام "، أي: ممتلئ،يقال: كظه الشراب كظيظًا: وفي حديث الحسنحين ذكر الموت فقال: " كظ ليس كالكظ ": أي هم يملأ الجوف ليس كسائر الهموم، لكنه أشد، يقال كظني الأمر: إذا ملأني وشغل قلبي.
وقوله:" حتى قرحت أشداقنا "، قال القاضي: أي أصابتها جراح من خشونة ورق السمر. والبردة ثوب، وهو كساء مخطط. وقيل: هي الشملة، والنمرة أيضًا، وجمعها برد، وقيل: كساء مربع أسود فيه صفر. والعرب تسمى الكساء الذي يلتحف به بردة. والبرد، بغير تاء: نوع من ثياب اليمن الموشية.
والكلام على حديث الرؤية تقدم في كتاب الإيمان.
وقوله:" وأذرك تراس وتربع "، / كذا رواية الجماعة بالباء بواحدة، وعند ابن ماهان: " ترتع " بالتاء باثنتين فوقها. قيل: معنى " تربع ": كما تأخذ المرباع الذي كانت تأخذه الملوك. ويظهر لي أن أوجه معانيه ان يكون معناه: يتودع، ولا يحتاج إلى نجعة وطلب، من قولهم: أربع على نفسك، أي أرفق بها واثبت، وبه فسر قوله - عليه السلام -:" غيثًا مربعًا ". وأما على الرواية الأخرى فمعنى " ترتع " تتنعم.
وقد اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى:{ يرتع }، فقيل: يأكل، وقيل: يلهو، وقيل: يسعى ويبسط، وقيل: يكون في خصب وسعة. قال الهروي: الرتع: الاتساع في الخصب. وهذه المعانى كلها ممكنة هنا في الحديث.
وقوله: " أي فل ": منادى مرخم، أي فلان. وقيل: " فل " لغة مثل: فلان.
وقوله:" أنساك كما نسيتني "، مثل قوله تعالى:{ نسوا الله فنسيهم }، من مجانسة اللفظ، مجازاة على فعلهم، أي جازاهم على نسيانهم. والنسيان هو: امتناع من فعل ما نسى. وهو من الله يمنعهم الرحمة والفضل الكبير.
وقوله في الثالث المدعي فعل الخير: " هاهنا " معناه: فأثبت مكانك.(8/463)
وقوله بعد هذا:" إذا "، كذا عند الأسدي، وعند بعضهم عن ابن الحذاء: " إذن " والأول أصح وأشبه بالمعنى، أي إذا جئت بهذه الدعوة فقف مكانك، واثبت إذا حتى تفتضح في دعواك. وسقطت هذه اللفظة جملة عند الصدفي.
وقوله:" فيقال لأركانه:" انطقي"، قال الإمام: أي نواحيه. وركن الجبل وغيره: ناحيته، ويوضح الركن أيضًا موضع العشيرة والقوة، ومنه قوله تعالى:{ أو آوي إلى ركن شديد }، أي: إلى عز العشيرة.
قال القاضي: المراد هنا با لأركان: الجوارح.
وقوله: " عنكن كنت أناضل "، أي: أدافع وأجادل، يقال: فلان يناضل عن فلان: إذا تكلم عنه بعذر ودفع عنه. وأصله من المناضلة، وهو الرمي بالسهام.
قال الإمام: خرّج مسلم في حديث عائشة:" إنا كنا آل محمد لنمكث شهرًا ما نستوقد النار "، حدثنا عمرو الناقد، حدثنا عبدة بن سليمان، وحدثنا يحيى بن يمان، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. هكذا إسناده عن الجلودي. قال: وسدثنا يحيى بن يمان، حدثنا هشام، ومعناه: أن عبدة وابن يمان يرويان الحديث عن هشام بن عروة. والقائل يحيى بن يمان: حدثنا عمرو الناقد، وفي نسخة ابن الحذاء: حدثنا عمرو الناقد، قال: حدثنا عبدة قال: حدثنا يحيى بن يمان، عن هشام، وهو وهم، وليس يروى عبدة عن يحيى بن يمان، والصواب رواية الجلودي.
قال القاضي: وعند الأسدي من شيوخنا: حدثنا عمرو الناقد، حدثنا عبدة بن سليمان ويحيى بن يمان، حدثنا هشام. وهو صحيح. وعند التميمي عن الجيانى: ويحيى بن يمان، حدثنا هشام. وهو صحيح أيضًا، راجع إلى معنى رواية الجلودي.
وقولها:" شطر شعير في رف لي "، قال القاضي: الرف: خشب يرفع عن الأرض في البيت، يوفى عليه ما يرفع، قاله الحربي. وقال غيره: هو القرية. والشطر: نصف الوسق، قاله ابن أبي حازم. ونصف كل شيء شطره. وفي هذا?أن البركة أكثر ما ب توجد في المجهولات والمبهمات، وأما ما حصر بالعدد / أو بالكيل فمعرف قدره.(8/464)
ولا يعارض هذا الكيل في إخراج النفقة لما جاء: " كيلوا طعامكم يبارك لكم " إذا بقي الأصل مجهولاً، بل في كيل ما يخرج البركة في الباقى وحسن النظر، والإخراج عن الحزر والجزاف بسبب التبذير، وإخراج أكثر من الحاجة، وليس ذلك من تدبير المعيشة التي هي أحد اليسارين. وهذا معنى الحديث الآخر، ولا تعارض بينهما.
قال الإمام: وخرج مسلم بعد هذا: حدثنا محمد بن عباد وابن أبي عمر قال: حدثنا مروان عن يزيد بن كيسان الحديث. وقع في نسخة ابن الحذاء عن ابن ماهان: حدثنا محمد بن غسان وابن أبي عمر، جعل " غسان " موضع للا عباد "، وهو وهم، والصواب: محمد بن عباد، وهو المكي.
قال القاضي: وقد جاء بعد في الحديث نفسه: وقال ابن عباد: " والذي نفس أبي هريرة بيده. كذا لجميعهم. ولابن ماهان: وقال ابن أبي عمر. وقوله:"ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه "، الدقل: ثمر الدوم، وهو شبه النخل، وهو حب كبير لها نواة ممدودة بمقدار الخرزة يشبه نواء الثمر، فإذا يبس صار ما عليه شبه الليف.
واختلاف ألفاظ هذه الأحاديث باختلاف معانيها، فجاء أنه ة ما شبع من خبز بر ثلاثًا تباعًا، فهو أصل في اختصاص هذا التوالي بالبر. وجاء في حديث آخر: " من خبز وزيت في يوم واحد مرتين فهو توالي ذلك بإدام، وعليه يحمل ما لم يذكر به الإدام. قوله في الحديث الآخر: " ما شبع اس محمد يومين من خبز إلا وأحدهما تمر "، وفي رواية: " من خبز بر " وهذا في عموم الآل كله، لم يتفق لهم ذلك في يومين. وقد يخصه هو فيتفق له ذلك في يومين ولا يتفق في ثلاثة.(8/465)
وقوله:" ما توفي حتى شبع الناس من الأسودين التمر والماء "، وذلك لما فتحت خيبر. وذكر الماء هنا على طريق التبع للتمر لانطلاق اسم الأسودين عليهما، وإلا فقد كانوا يشبعون من الماء ولا يتعذر عليهم جملة وعلى ما تقدم بتالف الروايات ولا يتعارض. وفي هذه الأحاديث التي جاءت في عيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعلله، ودعائه أن يجعل الله رزقه قوتًا، دليل على فضل الزهد في الدنيا والتقلل منها. وهذا مما لا خلاف في فضيلته لخفة حسابه.
وإنما اختلف العلماء أيهما أفضل: الغنى أم الفقر ؟ واحتجت كل طائفة بحجج، منها: الحديمث الذي جاء في هذا الموضع من دخول الفقراء الجنة قبل الأغنياء، وغير ذلك، تقدم الكلام عليها مبينا في كتاب الزكاة. وقد رأيت لبعض من نصر الغنى من الشارحين - وهو أبو القاسم بن أبي صفرة - أنه لا فضيلة في السبق إلى الجنة، المذكورة في هذا الحديث، وإنما الفضيلة في درجاتها، واحتج بدخول هؤلاء وغيرهم ممن جاء في الحديث الجنة والنبي بعد في الشفاعة، قال: ولا بشر أفضل من محمد طلض وقد سبقه هؤلاء بدخول الجنة، قال: وكذلك من ذكر من المؤمنين والشهداء وغيرهم ممن يشفع.
قال القاضي: وهذا مما لا أساعده عليه ؛ لأنه لم يرد نص بسبقهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - الدخول الجنة، بل في نص الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أول من يفتح له باب الجنة، وأن الخازن يقول له: " بذلك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك "، فأين هذا مما قاله.(8/466)
وقديجمع / بين هذا وبين ماجاء فيمن ينطلق به إلى الجنة في الموقف، والنبى - صلى الله عليه وسلم - في الشفاعة وغير ذلك، مما جاء في الحديث: أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم يدخلهم ويستفتح لهم ويدخل معهم، ثم يرجع إلى شفاعته، وهو في ذلك في الجنة، كما جاء في الحديث:" أدخل الجنة من أمتك من الباب الأيمن من لا حساب عليه "، فانظر كيف جاء أدخلهم مع أن ما فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - من لذة الحظوة وبلوغ الأمل في الشفاعة، والقرب من الله تعالى، والنظر إليه ألذ من كل نعيم. ويحتمل أن هؤلاء السابقين إلى الجنة ينعمون في أفنيتها وظلالها، ويتلذذون بما هم فيه إلى أن يدخل محمد - صلى الله عليه وسلم - كل بخنة بعد تمام شفاعته، ثم يدخلونها معه على قدر منازلهم وسبقهم، والله أعلم.
وقوله:" أربعون خريفًا "، أي: أربعون سنة، والخريف السنة، والخريف أيضًا: أحد فصولها.
قوله في النهي عن الدخول على أصحاب الحجر:" لا تدخلوا عليهم إلا أن تكونوا باكين، فان لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم "، كذا هو في حديث يحيى وقتيبة وابن حجر ومعناه: خشية أن يصيبكم، " وحذرا أن يصيبكم "، لما جاء في الحديث بعده عن حرملة:" لا تدخلوا عليهم إلا أن تكونا باكين، حذرًا أن يصيبكم مثل ما أصابهم "، وقد يكون " حذرًا " في هذا الحديث متعلقا بالبكاء، وأن يكون البكاء للحذر مما أصابهم.
ومن عرف نفسه وتقصيرها في حق مولاها، وعرف ربه وعظيم سلطانه وشدة بطشه لم يغتر، ولا أمن مكره واشتد خوفه، واعتبر بمن قبله أنه { فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون }.
وقوله:" ثم رجز فأسرع " يريد ناقته، فحذف اختصارًا.(8/467)
وقوله: " الساعى على الأرملة "، أي: الكاسب لها والعامل لقوتهم. والسعي: العمل. قال الإمام: قال ابن السكيت: الأرامل: المساكين من جماعة رجال ونساء. قال ابن الأنباري: الغالب على الأرامل أنهن من النساء دون الرجال. قال ابن قتيبة: سميت المرأة التي مات عنها زوجها أرملة لما يقع عليها من الفقر وذهاب الزاد بعد موته، يقال: أرمل الرجل: فنى زاده. قال ابن الأنباري: ويقال للرجل إذا ماتت امرأته: أيم، ولا يقال: أرمل ؛ لأنه ليس سبيل الرجل أن يفتقر ويذهب زاده لموت امرأته، فدل ذلك على أنه اسم واقع للنساء إذا كان الرجال هم المنفقون عليهن. وقول جرير: فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر، أراد الفقير الذي نفذ زاده، ثم بين المعنى بقوله: الذكر يقال هذا رجل أرمل والرجل الأرمل، كما يقال: الأنبل والأفضل.
قال القاضي: في هذا الحديث فضل ما للساعى لقوام عيشه وعيش من يقوم به وابتغاء فضل الله الذي به قوام بدنه لعبادة ربه، وقوام من يمونه ويستر عوراتهم وأجر نفقاتهم أنه كالمجاهد، وكالصائم القائم، وذلك أنه في كل تصرف له في ذلك في طاعة ربه وامتثال أمره، وكذلك الحديث الذي بعده في كافل اليتيم وهو القائم عليه، وأنه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة كهاتين، إما في تمثيل قرب المنازل كمجاورة السبابة والوسطى، أو لتمثيل التفضيل بين المنزلتين، وأن أ درجة الكافل لليتيم تالية لدرجة النبي وثانية لها، كتدريج السبابة والوسطى. وذكر مسلم أن في الحديث: المشير بالسبابة والوسطى هو مالك وجاء في "الموطأ" الحديث مدرجا غير منسوب لقائل إلا في "موطأ ابن بكير" قال: وأشار انبى ت بالسبابة والوسطى.
وقوله في حديث السحابة:" اسق حديقة فلان "، الحديقة: أرض ذات شجر. والحديقة: كل روضة أحدق بها حاجز، قالوا: وأصله: كل ما أحاط به البناء فسميت به البساتين. والحديقة: أيضًا: القطعة من النخل، وهو مراد الحديث، والله أعلم.(8/468)
وقوله فيه:" فتنحى ذلك السحاب "، أي اعتمد وقصد، يقال: تنحيت وانتحيت ونحوت الشيء: إذا قصدته، ومنه سمى علم النحو، أي قصد كلام العرب.
وقوله:" فأفرغ ماءه في حرة "، الحرة: أرض فيها حجارة سود كأنها أحرقت بالنار.
وقوله:" فإذا شرجة من تلك الشراج، بفتح الشين في المفرد، وسكون الراء، هي: مسايل المياه في الحرار.
وقوله: " من سمع سمع الله به "، قال الإمام: يريد: من راءى بعمله وسمع به الناس ليكرموه ويعظموه، شهره الله يوم القيامة، حتى يرى الناس ويسمعوا ما حل به من الفضيحة، وقد وقع في بعض الأحاديث: " ومن يشاقق يشقق الله عليه "، وهذا يحتمل أن يريد به المشاقة بمعنى الخلاف، أو يحمل على الناس ما يشق عليهم.
قال القاضي: وقيل: معنى " من سمع سمع الله به "، أي: من أذاع على مسلم عيبًا وشنعه عليه أظهر الله عيوبه. وقيل:" سمع به " أسمعه المكروه.
وقوله في هذا الحديث: وحدثنا سعيد بن عمرو الأشعثي، أنبأنا سفيان، عن الوليد بن حرب قال سعيد: أظنه قال: ابن الحارث بن أبي موسى قال: سمعت سلمة بن كهيل. يحتمل أنه قال في موضع: " ابن حرب "، وهو الصحيح لا ابن الحارث ؛ ولهذا قال بعضهم: لا يصح فيه الثاء، ويحتمل أنه وقع في نسبه بعد حرب: ابن الحارث بن أبي موسى، والله أعلم. وقد ذكر البخاري فيه: عن شعبة، عن رجل من اس أبي بردة يقال له: ولاد، بعد أن ترجم عليه الوليد بن حرب عن سلمة.
وقوله:" إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوى بها في النار " الحديث: هذا مثل قوله في الحديمث الآخر: " ما كان يظن أن تبه لغ ما بلغت " وقوله أيضًا:" لا يلقى لها بالاً "، قيل: هي الكملة يتكلم بها عند سلطان جائر يرضيه بها فيما يسخط الله. وقيل: بل هي من الرفث والخنا، ويحتمل أن يكون في التعريض بمسلم بكبيرة، أو بمجون، أو استخفاف بحق النبوة والشريعة وإن لم يعتقد ذلك.(8/469)
وقوله: " ما يتبين ما فيها "؛ كقوله:" ما يلقى لها بالاً "، فيستغفر منها ويتوب ؛ لأنه استخفها، ولم يعلم مقدار ما قاله.
وقوله: في حديث أسامة بن زيد:" أترون أني لا أكلمه إلا بسمعكم " ويروى: " سمعكم "، ويروى: " أسمعكم "، وكله بمعنى.
وقوله بعد:" دون أن أفتح بابًا لا أحب أن أكون أول من فتحه "، يعني في المجاهرة بالنكير والقيام بذلك على الأمراء، وما يخشى من سوء عقباه كما تولد من إنكارهم جهارا على عثمان بعد هذا، وما أدى إلى سفك دمه واضطراب الأمور بعده. وفيه التلطف مع الأمراء، وعرض ما ينكر عليهم سرا، وكذلك يلزم مع غيرهم من المسلمين ما أمكن / ذلك، فإنه أولى بالقبول واجدر بالنفع، وأبعد لهتك الستر وتحريك الأنفة.
وقوله:" لا اقول لأحد يكون علي أميرًا: إنه خير الناس "، إلى آخره: الحديث حجة كله على ذم المداهنة في الحق والمواجهة بما يبطن خلافه، والملق بالباطل، وهذا هو المذموم. والحال الأولى هي المداراة المحمودة ؛ لأنه ليس فيها قدح في الدين ولا حظ منه، إنما هي ملاطفة في الكلام، او هي مجاملة باسباب الدنيا ومعاطاة بها لصلاح دين أو دنيا. والمداهنة: إنما هي إعطاء بالدين ومصانعة بالكذب، والتزيين للقبيح، وتصويب الباطل للوصول إلى أسباب الدنيا وصلاحها.
وقوله:" فتندلق أقتاب بطنه "، قال الإمام: قال أبو عبيد: الأقتاب: الأمعاء، قال الكسائي: واحدها قتب، وقال الأصمعي: واحدها قتبة، قال: وبها سمى الرجل قتيبة، وهو تصغيرها، فقال أبو عبيد: القتب: ما تحوى من البطن، يعني استدار، وهو الحوايا. وأما الأمعاء فهي الأقصاب، واحدها قصب.
قال أبو عبيد: وأما قوله:" فتندلق " قال: الاندلاق: خروج الشيء من مكانه، وكل شيء ندر خارجًا فقد اندلق، ومنه قيل للسيف: قد اندلق من جفنه: إذا شقه حتى يخرج منه. ويقال للخيل: قد اندلقت: إذا خرجت فأسرعت السير.(8/470)
وقوله:" كل أمتي معافى إلا المجاهرين، فإن من الإجهار "، عند الفارسي: الإهجار، وكذلك في آخر الحديث قال زهير: " وأن من الهجار "، وعند ابن ماهان:" من الهجار "، والصواب - والله أعلم - تقديم الجيم على الهاء فيهما ؛ لأنه من معنى قوله:" المجاهرين " في أول الحديث، وقد فسره في الحديث، وهو المشتهر بالذنوب الذي لا يتستر بها، ويكشف من ستر الله عنه، ويجهر بالتحدث بمعاصيه. فقد استثناه الله فيمن يعاقبه، إلا أن فضله ورحمته وسعت كل شيء. والجهار والإجهار والمجاهرة: الظهور والإعلان، جهر وأجهر بقوله وقراءته: إذا أعلنها، لكن قد يخرج قول من قال: "الإهجار " على الفحش والخنا وكثرة الكلام. يقال منه: أهجر في كلامه وفعل هذا. وأما الهجار فلا معنى له هنا، وهو تصحيف، إنما هو الحبل أو الوتد الذي يشد به البعير، أو الحلقة التي يتعلم فيها الطعن.
وذكر تشميت العاطس، قال أبو عبيد: يقال: شمت العاطس سمته بالسين والشين: أي دعوت له بالخير، والشين أعلى اللغتين. قال ثعلب: معنى التشميت بالشين: أبعد الله عنك الشماته. قال: وأصله السين من السمت، وهو القصد والهوى. وقال ابن الأنباري: كل داع بالخير مسمت.
قال القاضي: اختلف العلماء في تشميت العاطس، بعد اجتماعهم على أن تشميته إذا حمد الله مشروع. فمنهم من أوجبه على كل من يسمع حمده، والى هذا ذهب أهل الظاهر لقوله - عليه السلام -: "إذا عطس فحمد الله فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته " وهو الذي ذكره ابن مزين عن مالك، وهو مشهور مذهب مالك ومن اتبعه في جماعة من العلماء، إلى أنه فرض لكن على الكفاية يجزئ فيه دعاء بعض عن بعض كرد السلام. وحكى الشيخ ابو محمد بن أبي زيد هذين القولين. وذهبت / فرقة إلى أنه على الندب والاستحباب، وإليه ذهب القاضي أبو محمد بن نصر وان قوله: " حق " أي في حكم الأدب وكرم الأخلاق، كقوله:" حق الإبل أن يحلب على الماء ".(8/471)
ثم اختلف العلماء في كيفية الحمد والرد، واختلفت في ذلك الآثار، فقيل: يقول: الحمد لله،وقيل: الحمد لله رب العالمين ، وقيل: الحمد لله على كل حال. وخيره الطبري فيما شاء من ذلك. ولا خلاف أنه مأمور بالحمد، وأما المشمت فيقول: يرحمك الله. وقيل: يقول: الحمد لله، يرحمك الله. وقيل: يرحمنا الله وإياكم. واختلفوا أيضًا في رد العاطس على المشمت، فقيل: يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم.وقيل: يقول: يرحمنا الله وإياكم، يغفر الله لنا ولكم. وقال مالك والشافعي: إن شاء قال: يغفر الله لنا ولكم، أو يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم. ومن تكرر منه العطاس فالذى يأخذ به مالك أن يشمته ثلاثًا ثم يمسك، للحديث الذي رواه في الموطأ. لكنه في "الموطأ" على الشك: " لا أدرى في الثانية أو الثالثة، وجاء في كتاب أبي داود وغيره مبينا: " شمت أخاك ثلاثًا، فما زاد فهو زكام "، ووقع في كتاب مسلم: ثم عطس أخرى، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الرجل مزكوم "، وهذا لم يذكر أنه تكرر منه، وظاهره أنه من عرف أن عطاسه من زكام فلا يرد عليه، أو يكون قد تكرر العطاس من هذا الرجل. وقيل: وكانت هذه بعد الثالثة، فتتفق الأحاديث. ولعل الراوي لم يحضر إلا بعد الثالثة، أو لم يجعل باله إلا حينئذ، والله أعلم.(8/472)
وقوله:" إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه فإن لم يحمد فلا تشمتوه": دليل أن هذا الحق إنما هو إذا حمد. قال مالك: لا يشمته حتى يسمع حمده وان بعد عنك، فإن رأيت من يليه أ فشمته. واستحب له العلماء أن يسمع بالحمد من يليه أ قال بعض شيوخنا: وأمر العاطس بالحمد لما فيه من المنفعة ؛ لخروج ما اختنق من الأبخرة بدماغه. وقوله: لا دخلت على أبي موسى وهو في بيت ابنة الفضل بن عباس " كذا لكافة الرواة، وفي نسخ شيوخنا وسمعناه من القاضي أبي على: وهو في بيت ابنة ابن الفضل ابن عباس، وهو وهم، والصواب ما للكافة. وهي أم كلثوم بنت الفضل زوج أبي موسى المذكور، خلف عليها بعد فراق الحسن بن على لها، وعنها مات أبو موسى وولدت له ابنه موسى، وتزوجها بعده عمران بن طلحة ففارقها وماتت بالكوفة، وقبرها بظاهرها.
وقوله: " التثاؤب من الشيطان، أي: من تكسيله وسببه. وقيل: أضيف إليه لأنه يرضيه، كذا جاء للرواة " التثاؤب " من تثاءب، ممدودة. قال ثابت: لا يقال: تثاءب، وإنما يقال: تثائب بشد الهمزة، وهي الثوباء بالمد. وقال ابن دريد: أصله من ثاب الرجل فهر مثوب: إذا استرخى وكسل.
وقوله:" فليكظم ما استطاع "، قال الإمام: قال ابن عرفة: في قوله: {والكاظمين الغيظ }، الكاظم: الممسك على ما في قلبه. وأصله في الكظم للبعير، وهو أن يردد في حلقة. وكظم فلان غيظه: إذا تجرعه، وكظم خصمه: إذا اجابه بالمسكت فافحمه، وكظه كذلك أيضًا.
قال القاضي: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكظم التثاؤب ورده، ووضع اليد على الفم ؛ لئلا يبلغ الشيطان / العدو أمله في المسلم بكل ما يسوءه ويكره منه، من تشويه صورته، ودخوله في فمه، وضحكه منه، وتفله فيه ؛ ولهذا - والله أعلم - أمر المتثائب بالتفل لطرح ما عسى ان يكون ألقاه الشيطان في فيه، أو لما مسه من ريقه إن كان دخل.(8/473)
وقوله:{ وخلق الجان من مارج من نار }، قال الإمام: المارج: اللهيب المختلط بسواد النار. وقال الفراء: المارج: نار دون الحجاب، ومنها هذه الصواعق، وترى جلد السماء منها.
وقوله:" فقدت أمة من بني إسرائيل "، وذكر الفأر، وذكر أنها لا تشرب ألبان الإبل، وتشرب ألبان الشاة، قال القاضي: استدل - عليه السلام - بهذا على أنها من بني إسرائيل ؛ لتحريم الإبل عليهم وألبانها.
وقول أبي هريرة لما قال له كعب في هذا الحديث: أسمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟:" أنزلت علي التوراة ؟!" يريد أبو هريرة: أنه لا علم عنده إلا من جهة ما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا يحدث عن غيره من الكتب، كما يحدث كعب الذي ساله ويخبر عن التوراة والكتب المتقدمة. وفي الحديث الآخر قبله قلت:" أأقرأ التوراة ؟ " كذا هو بمد همزة التقرير، مثل: آقرأت التوراة، بمعنى ما تقدم، وهو صحيح، والله أعلم.
وقوله: " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين "، هذا يروى على وجهين:
أحدهما: بضم الغين على الخبر، ومعناه: المؤمن الممدوح هو الكيس الحازم الذي لا يستغفل فيخدع مرة بعد أخرى، وهو لا يفطن بذلك. وقيل: إنه إنما أراد الخداع في أمر الآخرة دون الدنيا.
والوجه الأخر: كون الرواية بكسر الغين لالتقاء الساكنين على جهة النهي، على أن يؤتى من ناحية الغفلة، وهذا يصح إذ يتوجه أيضًا ؛ لأنه من كلامه المخترع البديع الجامع الذي لم يسبق إليه، وسببه معروف حين أسر أبا عزة بن عمير الشاعر أخا مصعب بن عمير يوم أحد، فساله أن يمن عليه وقد كان أسره يوم بدر، فسأله ذلك، فمن عليه وعاهده ألا يحرض عليه ولا يهجوه. فلما لحق بقومه رجع إلى ما كان عليه، فلما أسر هذه الثانية وسأله المن، قال - صلى الله عليه وسلم - هذا الكلام. ومعرفة هذا السبب مخرجة عن معنى من ذهب فيه إلى النهي، وإنما هو على الخبر منه - صلى الله عليه وسلم -.(8/474)
وفيه تنبيه عظيم للغافل وتاديب العاقل، وأن المراد إذا جرب الأذى من موضع أو وجه ما تنبه حتى لا يعودإليه ثانية منه.
وذكر أحاديث المدح وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" قطعت عنق اخيك "، قال أهل العلم: هذا كله في التفاوت في المدح ووصف الإنسان مما ليس فيه، أو لمن يخشى عليه العجب والفساد بسماع المدح والا فقد مدح - عليه السلام - ومدح بحضرته غيره بالنظم والنثر فلم ينكر، بل قد حض كعب بن زهير. قال بعض: هذا المتقدم من المقتصد في المدح، في الحديث أنه كان ت لا يقبل الثناء إلا من مكافف، أي من مقتصد في المدح على أحد التأويلات. احتج أيضًا لهذا بقوله: " لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ".
وأما قوله:" احثوا التراب في وجوه المدّاحين "، فقد حمله المقداد / وغيره - ممن جاء بعد - على ظاهره، وقال: خيبوهم ولا تعطوهم شيئًا لأجل مدحهم من قولهم. تربت يداه. وقيل: إذا مدحتم فتذكروا أنكم من تراب وتواضعوا، ولا تعجبوا بالمدح. وكان بعض من لقيناه يحكى أن معناه: قوموا عنهم وأثيروا بقيامكم النقع عليهم والتراب، وهو أبعد التأويلات.
وقوله: " أحسب، ولا أزكي على الله أحدًا "، في هذا أنه لا يقطع على عاقبة أحد ولا على ضميره ؟ واذ ذلك مغيب عنا، وإنما يقول بحسب الظاهر. ومعنى قطع العنق هنا وقطع الظهر: الهلاك، وأصله القتل، وهذا استعارة له من ذلك بهلاكه من جهة الدين، وربما كان من جهة الدنيا أيضًا، وما يسببه عليه عجبه.
قال الإمام: خرج مسلم في حديث: قام رجل يثنى على أمير، فجعل المقداد يحثى عليه التراب: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن المثنى، جمعيًا عن ابن مهدى عن سفيان، عن حبيب، عن مجاهد عن أبي معمر، الحديث. هكذا إسناده عن حبيب، عن مجاهد، عن أبي معمر. وفي نسخة ابن ماهان، عن حميد، عن مجاهد. جعل " حميدًا " مكان " حبيب"، وهو تصحيف، والصواب: حبيب، وهو ابن أبي ثابت.(8/475)
قال القاضي: وذكر بعده: حدثنا ابن مثنى وابن بشار قالا: حدثنا عبدالرحمن، عن سفيان، عن منصور، وحدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا الأشجعى عبيد الله بن عبيد الله بن عبد الرحمن بن سفيان. كذا لجميعهم، وعند السمرقندي وبعضهم: عبيد الله بن عبيد الرحمن مصغرًا. وكذا ذكره البخاري. وكذا وجدته في حاشية صحيح مسلم بخط شيخنا التميمي، وكذا قيدناه عن أصحاب العذري.
وقوله - عليه السلام -: " لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه "، قال الإمام: روى عن زيد بن ثابت أنه دخل على معاوية فساله عن حديث، فأمر إنسانًا فكتبه. فقال له زيد: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر ألا نكتب شيئًا من حديثه فمحاه. وهذا النهي قال فيه بعض العلماء: إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط به، فيشتبه على القارئ. ويحتمل ان يكون النهي منسوخًا، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته:" اكتبوا لأبي شاه "، لما استكتبه، وقال - صلى الله عليه وسلم - لرجل شكا إليه سوء الحفظ:" استعن بيمينك "، وكتب - عليه السلام - كتابًا في الصدقات والديات، أو كتب عنه فعمل به الأمة ولم ينكرها أحد، وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - أمته بالتبليغ، فإذا لم يكتب ذهب العلم.
قال القاضي: بين السلف اختلاف كبير في كتابة العلم من الصحابة والتابعين، فكرهه كثير منهم، وأجازه الأكثر. فمنعه لما جاء من النهي عنه، ومخافة الاتكال على الكتاب وترك الحفظ، ولئلا يكتب شئ مع القران. ومنهم من كان يكتب، فإذا حفظ محا، ثم وقع بعد الإتفاق على جوازه لما جاء عنه - عليه السلام - من إذنه لعبد الله بن عمرو في الكتا ب.(8/476)
قوله: " حدثوا عني ولا حرج "، قال القاضي: فيه إباحة الحديث عنه، وتبليغ ما سمع منه، بل قد جاءت الآثار بالحض على التبليغ والأمر به /، لكنه قرن هذا بقوله بعد:" ومن كذب علي..." الحديث. قال: أحسبه قال: "متعمدًا " تحذيرًا من التساهل بالحديث عنه مما لم يتحقق، وتنبيها على التحرز في ذلك لئلا يقع في الكذب، لا سيما على الرواية التي ليست بقول: "متعمدًا"، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث اول الكتاب.
وقول أبي هريرة حين حدث:" اسمعي ياربة الحجرة " يريد عائشة، ذلك - والله أعلم - ليكون قوة في حديثه لإقرارها له ما يحدث به، ولم تنكر شيئًا منه سوى إكثاره كما قالت في الحديث: " كان - صلى الله عليه وسلم - يحدث حديثًا لوعدّه العاد لأحصاه "، وفيه إكرام الحرم، وأنه لم ينادها باسمها ولا بلقبها المعلوم من أم المؤمنين، بل بالكتابة، بلفظ تشترك فيه مع سواها من النساء.
وقوله في حديث صاحب الأخدود:" إذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر "، جواز الكذب للضرورة لا سيما في الله، وفي المدافعة عن الإيمان، ومن يصدع عنه.
قوله: " دعا بالمئشار "، كذا هو مهموز، وعند السمرقندي:" المنشار" بالنون، وهما لغتان صحيحتان ؛ بالنون والهمز. ويسهّل فيقال بالياء ولا يهمز.
قوله:" فرجف بهم الجبل "، قال الإمام: أي تحرك حركة شديدة، ومنه قوله:{ يوم ترجف الأرض والجبال }، أي: تتزلزل.
قال القاضي: روى هذا الحرف لنا الخشني عن الطبري:" فزحف " بالحاء والزاى. والرواية الأولى عليها جماعة شيوخنا، وهي أصح، وإن كان قد يكون الزحف بمعنى الحركة والتقدم، يقال: زحف القوم إلى عدوهم: إذا نهضوا.
وقوله: " فإذا بلغتم ذروته "، قال الإمام: أي أعلاه. وذروة كل شيء: أعلاه.
وقوله:" اذهبوا به فاحملوه في قرقور "، بضم القافين، القرقور: أعظم السفن، وجمعه قراقير.(8/477)
قال القاضي: الذي عرفناه في هذا أن القرقور صغير السفن، وفي "العين": هو ضرب من السفن، وفي الهروي: القرقور: صغير السفن، كذا رويناه عن شيخنا الحافظ أبي الحسين بن سراج اللغوي، وقرأناه عليه فيه ووقع في بعض الروايات عن الهروي فيه: أعظم السفن، كما ذكره الإمام. وكذا كان عند شيخنا القاضي الشهيد فيه. وكذا في كتاب الحربي. وأرى هذه الرواية رأى الإمام، وأنكرها لنا أبو الحسين وقال: إنما هو الصغير على ما وقع في أكثر نسخ الهروي، وهو الذي يدل عليه معنى الحديث ؛ لأن السفن الكبار لا تستعمل في مثل هذا، وإنما يستعمل فيه ما صغر منها، وكذلك في حديث موسى - عليه السلام -:" فلما رأوا التابوت "، يريد في اليم "ركبوا القراقير حتى أتوا به ".
وقال ابن دريد في الجمهرة: القرقور ضرب من السفن، عربى معروف. والمعروف عند الناس فيه استعماله فيما صغر منها وخف للتصرف فيه. وعظام السفن إنما يستعمل لعظيم الأشغال وحمل الأثقال لا للتصرف في الحوائج. ووقع في رواية العذري: "قرقورة" على معنى السفينة، والكل بضم القاف.
وقوله:" في صعيد واحد "، قال الإمام: الصعيد: الطريق الذي لا نبات فيه، وكذلك الزلق الصعيد أيضًا: وجه الأرض كالتراب.
قال القاضي: المراد في هذا الحديث بالصعيد الأرض نفسها، لا الطريق. وقول الغلام هذا، وفعله ما فعل بنفسه، ودل عليه الملك من قتله ليشتهر في الناس أمر الإيمان ويروا برهانه كما كان.
وقوله /:" فامر بالأخدود "، قال الإمام: هو الشق العظيم في الأرض، وجمعه أخاديد، وقد تقدم ذكر السكك.
وقوله:" فمن لم يرجع عن دينه فاحمه فيه أو قيل له: اقتحم "، قال القاضي: كذا هو في جميع النسخ، وقال بعضهم: لعل صوابه:" فاحموه فيها، أو قولوا له: اقتحم "، ولا يبعد عندي صحة معنى " احموه "، على ماروي من أحميت الحديدة والشيء في النار.(8/478)
وفي هذا الحديث صببر الصالحين على الابتلاء في ذات الله، وما يلزمهم من إظهار دينه والدعاء لتوحيده، واستقالهم أنفسهم في ذلك، وهو مراد الغلام بقوله للملك:" لست بقاتلي حتى تصلبني وتجمع الناس وتضع السهم في كبد القوس وتقول: بسم الله رب الغلام "؛ ليرى الناس ذلك فيؤمنوا بالله كما كان.
وفيه إثبات كرامات الأولياء وإجابة دعواتهم باختبارهم كما أظهر الله في قصة هذا الغلام، وكفاية الله له من تلك المهالك. وكبد القوس: مقبضها عند الرمى.
وقوله: " خرجنا نطلب العلم "، فيه الرحلة في طلبه.
وقوله: " معه ضمامة من صحف "، قال الإمام: أي رزمة ضم بعضها إلى بعض.
قال القاضي: كذا رويناه " ضمامة " كما قال بكسر الضاد، وكذا هو في جميع النسخ. وكتبنا فيه عن بعفر شيوخنا:" ضمامة ". قال الهروي في حديث الرجم: الأضاميم: الحجارة، واحدتها أضمامة ؛ لأن بعضها ضم إلى بعض. وكذلك في جماعات الكتمب والناس ولا يبعد عندي صحة ما جاءت به الرواية من ذلك، كما قالوا: ضبارة واضبارة لجماعة الكتب، ولفافة لما يلف من الشيء، والله أعلم.
وقوله:" وعلى أبي اليسر بردة ومعافري "، قال الإمام: البردة تقدم ذكرها، والمعافري، بفتح الميم، منسوب إلى معافر: اسم قرية.
وقوله: هي قرية تعمل فيها الثياب تسمى المعافرية باسمها. وأصل هذا قبيل من العرب من اليمن، سموا به باسم جبل ببلادهم يقال له: معافر. وحكى لنا أبو الحسين في القبيل: معافر أيضًا بالضم، وأنكر يعقوب الضم. "وأبو اليسر " بفتح الياء باثنتين تحتها، وفتح السين المهملة.
وقوله:" في وجهك سفعة من غضب "، قال الإمام: أي علامة. قال أبو بكر: يقال: سفعت الشيء إذا أعلمته، ومنه قول الشاعر:
وكنت إذا نفس الجبان نزت له سفعت على العرنين منه بميسم
قال القاضي: يقال سفعة وسفعة بفتح السين وضمها، وكذا رويناهما معا. وأصل ذلك من السواد، وهو الارتداد الذي يظهر على وجه الغضبان.(8/479)
وقوله: " على فلان بن فلان الجذامى "، كذا لابن ماهان بضم الجيم وذال معجمة، وعند كثر الرواة: " الحرامى" بحاء مهلمة مفتوحة وراء، وعند الطبري: " الحزامى " بكسرها وبالزاي، وهي أحد روايات ابن عيسى.
وقوله:" فخرج ابن له جفر "، قال الإمام: قال الهروي: في حديث حليمة التي أرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم -: فبلغ ستًّا وهو جفر. يقال: استجفر الصبي: إذا قوى على الأكل فهو جفر. وأصله في أولاد الغنم، فإذا أتى على أولادها / المعز أربعة أشهر، وفصل عن أمه، وأخذ في الرعى قيل له: جفر، والأنثى: جفرة. ومنه حديث أم زرع: " يكفيه ذراع الجفرة ".
قال القاضي: قال غيره: الجفر: الذي قارب البلوغ ابن أربعة عشرة سنة ونحوها.
وقوله: " دخل أريكة أمي "، قال الإمام: قال أحمد بن يحيى: الأريكة: السرير في الحجلة، ولا يسمى مفردا أريكة. وقال الأزهرى: كل ما اتكى عليه فهو أريكة.
قال القاضي: وقوله:" قلت: أكله. قال: الله "، كذا ضبطناه بالكسر هنا ممدود وعلى القسم والتقرير عليه، ورويناه في غيره عن بعض شيوخنا بالفتح والكسر معا، وأكثر أهل العربية لا يجيزون فيه غير الكسر. وحكى أبو عبيد عن الكسائي: كل يمين ليس فيها واو قسم - يعني أو أخواتها - فهي نصب، إلا في قولهم: الله لا آتيك، فإنه خفض. وذلك أن القسم فيه عندهم معنى الفعل، أي أقسم وأحلف والله، أو بالله، فإذا حذفوا حرفه عمل الفعل عمله. وقوله: " فاشهد بصر عيني".
قال القاضي: كذا رواه الرواة بفتح الصاد وضم الراء، وكذا أ " سمع أذنن " بسكون الميم. قال سيبويه: العرب تقول : سمع أذنى زيدًا، ورأى عينى يقول ذلك ويفعل ذلك، وأنشدوا:
ورأى عيني الفتى أخاك يعطي الجزيل فعليك ذاك
وعند العذري: ش بصر عينى " بفتح الصاد وفتح الراء و" عيناي " بالرفع. وكذا ة سمع أذناى " بكسر الميم على الفعل، لكن قوله: " ووعاه قلبى " تحول بين الفعل ومفعوله، وهو قوله بعد:" رسول الله ".(8/480)
وقوله:" وأشار إلى نياط قلبه "، هذه رواية العذري، ولغيره لة:"مياط " بالميم. ونياط القلب: عرق معلق منه، قاله صاحب العين.
وقوله:" ولو أخذت بردة غلامك وأعطيته معافيرك، وأخذت معافرته وأعطيته برديك فكانت عليك حلة وعليه حلة "، كذا رويناه عن الجميع، وكذا هو في سائر النسخ والأصول التي رأيت، والروايات الواقعة لنا، وقد نبهنا على اختلال الرواية فيه بعفر شيوخنا وقال: لعله: لو أخذت معافرته وأعطيته برديك ؛ لأن مفهوم الكلام إنما أراد أن يكون على كل واحد بردتان أو معافرتان وهذا إنما يستقيم بأو كما قال. وأما بواو العطف فيقتض أن بيدك كل واحد ما عليه من برد ومعافرى بما على الآخر ولا ثمرة لهذا ولا فائدة.
وقوله:" فكانت عليك حلة وعليه حلة "، قال أبو عبيد: الحلة: إزار ورداء، ولا يسمى حلة حتى يكونا ثوبين، ومنه في الحديث أنه " رأى رجلاً عليه حلة قد ائتزر بإحداهما وارتدى بالأخر "، قيل: سميت حلة لحلولها أحدهما على الآخر. وقيل: لا يقال الحلة إلا للثوب الجديد الذي يحل من طيه.
وقوله:" فتخطيت القوم حتى جلست بينه وبين القبلة "، كل ذلك حرصًا على القرب منه والسماع والمزاحمة في طلب العلم.
وقوله: " يصلي مشتملاً في ثوب واحد "، لعله غير اشتمال الصماء، والمنهي عنه إنما هي الشملة الصماء، وقد مضى تفسيرها، وما عداها من أنواع الاشتمال من الاعتطاف والاصطناع وغيره فليس بمنهي عنه. وفي هذا الحديث دليل على صلاة الرجل في ثوب واحد ليس عليه غيره. وقول جابر: " ليراني الأحمق مثلك فيصنع مثله "؛ لئلا يلتزم الناس الرداء أبدًا في الصلاة، فيظنه من لا علم عنده أنه لباس الرداء / أبدا فيها من حدودها اللازمة. ولا خلاف أنه من مستحبات الصلاة وفضانلها، لا سيما للأئمة وفي المساجد. وقد قيل ذلك في قوله تعالى:{ خذوا زينتكم عند كل مسجد }. وقيل: المراد بالآية: لبس الثياب وستر العورة. وقيل: لبس الثياب في الطواف بالبيت.(8/481)
وفيه أن قول هذا اللفظ ومثله لمغير المنكر فالمؤدب والحاكم والزاجر لا حرج فيه، إذا قاله لمن يستوجبه ؛ لأنه ليس بهتك عرض ولا كشف سريرة، إذ كل أحد فيه نوع من الحمق والغفلة عن مصالحه، والنظر، فيما ينجيه، ومنه قول ابن عباس: الناس كلهم حمقى، ولولا ذلك أ ما عاشوا. ومثل ذلك: الشتم بظالم إذ كل، احد ظالم لنفسه، فيمثل هذه الألفاظ زجرا ولو التقى من استحق الزجر والتغيير في الأغلاط لا بغيرها من الألفاظ السفهة والقزع. ولعله سماه أحمق لما لم يوافقه من فعله، وترك توقيره، لما في تخطيه إليه الناس وجلوسه بينه وبين القبلة.
وقوله: " وفي يده عرجون ابن طاب "، قال الإمام: العرجون: عود الكباسة. والكباسة والعذق بكسر العين والعثكال والعثكول كله واحد. وكل غصن من أغصان الكباسة فيه شمراخ، والشمراخ هو الذي عليه البسر، من خمس تمرات إلى ثمان. و"ابن طاب ": نوع من التمر. قال ابن حمزة: ابن طاب: عذق بالمدينة. والعذق، بفتح العين، هو النخل نفسه.
وقوله: " فخشعنا "، الخشوع: السكون والتذلل، وأيضًا الخضوع، وأيضًا الخوف، وأيضًا غض البصر في الصلاة، قال الله تعالى { وخشعت الأصوات للرحمن }، أي: انخفضت وسكنت. وقوله:{ في صلاتهم خاشعون }، أي / خاضعون. وقيل: خائفون. قال ابن سيرين: كان المسلمون يلتفتون في صلاتهم فنزلت هذه الآية، فغضوا أبصارهم، فكان أحدهم ينظر إلى مرضع سجوده. ويقال: خشع له ويخشع: إذا تذلل. قال ابن سلام: الخشوع: الخوف الثابت في القلب. قال الليث: الخشوع قريب المعنى من الخضوع، إلا أن الخضوع في البدن، والخشوع يكون في البدن والبصر والصوت.(8/482)
قال القاضي: كذا رويناه:" فخشعنا " بالخاء المعجمة عن الأسدي والخشني وغيرهما من شيوخنا، كما رواه الإمام أبو عبد الله. ورويناه عن القاضي الشهيد: " فجشعنا " بالجيم وكسر الشين، وكذا هو في كتاب القاضي التميمي بخطه بالجيم، ومعناها صحيح، فبالخاء من الخشوع، على ما فسره وبالجيم بمعنى القرع، ومنه الحديث الأخر: " فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". قال الهروي: أي جزعًا لفراقه. والجشع: الحرص على الأكل وغيره.
وقوله:" فإن الله قبل وجهه "، أي: قبلة الله المعظمة.
وقوله:" فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره تحت رجله اليسرى "، تعظيم أيضًا لجهة اليمين، ولأنها منزهة أبدًا عن الأقذار وعن استعمالها في الأقذار فاستعمل فيها جهة اليسار وتحت الرجل ؛ لئلا يؤذي من على يساره، إلا إذا دعته الضرورة، فيباح له أن يبصق حيث أمكنه ويدفن.
وقوله:" فإن عجلت به بادرة "، أي: غلبته بصقة أو نخامة بدرت منه فلم يقدر على حبسها.
وقوله: أروني عبيرًا "، قال الإمام: قال أبو عبيد: العبير عند العرب: الزعفران وحده. وقال الأصمعي:/ هو أخلاط تجمع بالزعفران. قال ابن قتيبة: ولا أدري القول إلا ما قاله الأصمعي ؛ لقوله - عليه السلام -: " أتعجز إحداكن أن تتخذ تومتين ثم تخلطهما بعبير وزعفران "، والتومة: حبة تعمل من فضة كالدرة.(8/483)
قال القاضي: وقوله:" فأتي بخلوق "، هو طيب يخلط بزعفران وهو العنبر على ما تقدم تصحيحه قبل، ويدل عليه قوله:" أروني عنبرًا "، ثم قال: " فجاء بخلوق "، وإمساك النبي - صلى الله عليه وسلم - العرجون في يده على عادة العرب من إمساك المخاصر في أيديها، وكان - صلى الله عليه وسلم - يفعل هذا. وفي حديث قبله:" وفي يده عسيب نخلة "، وفي الحديث تعظيم المساجد وتنزيهها عن الأقذار، وقد تقدم هذا في الصلاة، وجواز تطييبها وتجميرها، إلا أن مالكًا رأى أن الصدقة أفضل، لا أنه كره التجمير، وكفى في ذلك بإجزائه عمل المسلمين على مر الأعصار في المسجد الحرام، ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.
وقوله:" فثار فتى من الحي يجهد "، أي: قام يجري، كما جاء في الرواية الأخرى.
وقوله:" بطن بواط "، هكذا ضبطه أهل اللغة بضم الباء وتخفيف الواو، هي كثر روايات المحدثين، كذا قيده البكرى. وهو جبل من جبال جهينة. وهو عند العذري بفتح الباء، وصحح لنا هذا الوجه ابن سراج.
وقوله:"وهو يطلب المجدى بن عمرو " بالميم، كذا لعامة الرواة والنسخ، وفي بعضها:" النجدي بن عمرو " بالنون، وكذا في كتاب القاضي التميمي. والمعروف بالميم، وهو الذي ذكره الخطابي في هذا الحديث، وهو المجدى بن عمرو الجهني.
وقوله:" كان الناضح يعتقبه منا الخمسة "، قال الإمام: الناضح: جمل السقى، " ويعتقبه " أي يتدارك ركوبه. وقال صاحب الأفعال: اعتقبت الرجل: ركبت عقبه وركب أخرى، وعقبت بعده: أي جئت بعده.
قال القاضي: قال صاحب العين في العقبة: مقدار فرسخين. وقد جاء هذا الحرف في رواية الفارسي: " يعقبه منا الخمسة "، وهو بمعنى، يقال في هذا وغيره عقبه يعقبه. وكذلك في كل ما ذهب وخلفه آخر مكانه، ويقال فيه: اعتقبا وتعاقبا.
قال الإمام: وقوله:" فركبه "، يقال: ركبته بكسر الكاف أركبه ركوبًا، أي علقته، وركبته بفتح الكاف أركبه ركبًا، ضربته بركبتك وضربت ركبته.(8/484)
وقوله:" فتلدن عليه بعض التلذن "، أي: تلكأ ولم ينبعث.
وقوله:" شأ، لعنك الله "، قال القاضي: كذا رواه بعضهم بالشين المعجمة، وعند العذري:" سر " بالسين المهملة والراء، وعند بعضهم، وكذا في أصل ابن عيسى: " سأ " بسين مهملة مهموز، وخرّجه عليه " سر" وكتب عليه بخطه " جأ وشأ " زجر للبعير. وفي كتاب العين " سأ "، بالسين المهملة زجر الحمار ليحتبس وشاشات بالحمار: إذا قلت له تشؤ تشؤ ؛ لزجره للسير.
وقوله:" عشيشية "، كذا الرواية لأكثرهم على التصغير. قال سيبويه: صغروها على غير مكبرها.
وقوله:" فيمدر الحوض "، قال الإمام: يقال: مدرت الحوض مدرًا، إذا طينته لئلا يتسرب منه الماء.
وقوله:" فنزعنا في الحوض سجلاًّ أو سجلين "، قال صاحب / الأفعال: نزعت الدلو: جريتها، ونزعت بالسهم: رميت به، ونزعت بآية من القرآن: أي تلوتها محتجًّا بها. قال الهروي: والسجل: الدلو ملأى.
وقوله:" أفهقناه "، أي: ملأناه. والفهق: الامتلاء، يقال: افهقت الإناء ففهق، وبئر مفهاق: أي كبيرة.
قال القاضي: وقع في رواية السمرقندي:" حتى أضففناه "، وهو صحيح المعنى. قيل: معناه: ملأناه، كأنه - والله أعلم - بلغنا بالماء ضفتيه وهما جانباه، أو جمعنا فيه الماء، وضفة الناس: جماعتهم بفتح الضاد.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما:" أتاذنان "، قلنا: نعم، هو - والله اعلم - لأنهما كانا أحق بالماء أولاً لأنفسهما وظهرهما لسبقهما إلى الماء، واستقائهما إياه، وعملهما الحوض لقوله - صلى الله عليه وسلم -:" من يتقدمنا فيمدر الحوض فيشرب ويسقينا "، فلما كان هو أول طالع عليهما احتاج إلى إذنهما في تقديمه، وإن كان - عليه السلام - تقديمه واجبا في كل شيء، ولكن هذه الحقوق المالية جائزًا بالملك أو بالسبق أحق بها، مع علمه - عليه السلام - بتقديمها له وإيثاره على أنفسهما، لكنه أخذ بافضل الأخلاق واستعمل من الأداب الشرعية والنفيسة ما يقتدى به فيها.(8/485)
وقوله:" فأشرع ناقته "، قال الإمام: يقال: شرعت الدواب في الماء: إذا شربت منه وأشرعتها أنا منه.
وقوله:" فشنق لها "، يقال: شنقت الناقة وأشنقتها: كففتها بزمامها.
قال القاضي: شرع الرجل الماء: ورده، ويختص الشروع بالشرب بالفم من الماء بغير آنية ولا آلة، وشنقت البعير: إذا جذبت خطامه إليك وأنت راكبه. وقال في "الجمهرة": شنقت الناقة: إذا جذبت رأسها بذمامها حتى تقارب قفاها قادمة الرحل.
وقوله:" فثجت وبالت ": كذا بالثاء والجيم عند العذري، وعند غيره: " فشجت " بالشين المعجمة. وصوبه بعض الشيوخ وضبطناه هنا بتخفيف الجيم والفاء فيه أصلية، ومعناه على هذا: باعدت بين رجليها وتفاجت لتبول. وإلى هذا نحى الجياني في تصويب الحرف، وروايته عن العذري ما تقدم، وقال: صوابه: " وفشجت "، وإن كان بعضهم روى هذه الرواية: "فشجت " بتشديد الجيم، ولا معنى لها ولا لرواية العذري هنا. وأنكر بعضهم الجيم مع الشين وقال: إنما هو:" فشحت " بالحاء المهملة، كأنه من قولهم: شحى فاه: إذا فتحه، من معنى ! تفاجت " المتقدم. ووجدت معلقًا عن بضهم: صوابه:" فشجت "، قيل: لعل معناه: أمسكت عن الشيء من قولهم: الحديث ذو شجون، أي يمسك بعضه بعضًا. وقد ذكر الخطابي هذا الحديث ورواه: " ففسحت " كما اختاره الجياني، وفسره: تفاحت وفرجت ما بين رجليها لتبول، وكذا ذكره الهروي.
وقوله:" لها ذباذب "، قال الإمام: الذباذب: أسافل الثوب. قال الهروي: قال ابن عرفة: المذبذب: المضطرب الذي لا يبقى على حالة مستقيمة، يقال: تذبذب الشيء إذا اضطرب، ومنه قيل لأسافل الثوب: ذباذب.
قال القاضي: الذباذب هنا: الأطراف والأهداب، والذلاذل مثله.
وقوله: " ثم تواقصت عليها "، قال الإمام: يقول: أمسكت عليها بعنقي، وهو أن يحني عليها عنقه. / والأوقص: الذي قصرت عنقه. والوقص، بفتح القاف: قصر العنق، وبإسكانها: دق العنق، قاله ابن السكيت وغيره.(8/486)
وقوله:" فجعل يرمقني وأنا لا أشعر "، يقال: رمقت الشيء رمقًا: أتبعت النظر إليه.
وقوله:" فقال هكذا بيده "، يعني: شد وسطك.
قال القاضي: فيه جواز الإشارة في الصلاة، لاسيما بما يعود على من معه فيها، وكذلك العمل الخفيف فيها، كرده عليه لجابر من على شماله إلى يمينه، كما فعل بابن عباس في الحديث الآخر، ورده له ولجبار خلفه، وأن هذا حكم المصلين خلف الإمام ؛ إذا كان واحدًا فعن يمينه، وإن كانا اثنين خلفه. وقد يفسر هذا ويقدر في الصلاة، وتقدم هناك ذكر العمل في الصلاة وما فيه من خلاف.
وقوله:" اشدده على حقوك "، هو شد الإزار من الجسد وهو الخصر، وقد يسمى به الإزار لكونه هناك، ومنه الحديث:" فأعطانا حقوه "، وفيه أن الصلاة بما يشغل الإنسان من لباس أو غيره ممنوعة، وإن لم يكن عليه سواه عند الضرورة وأنه أولى من تغطية الجسد به، ومنه النهي عن صلاة الحازق وهو الضيق الخف، وفيه جواز الصلاة في المئزر، وإن لم يكن عليه سواه عند الضرورة، وأنه أولى من تغطية الجسد به وحبسه.
وقوله:" نختبط بقسينا "، قال الإمام: أي نضرب بها الشجر ليتحات ورقه، واسم الورق المخبوط: خبط بفتح الباء، وهو من علف الإبل. والمخبط: العصا التي يخبط بها أوراق الشجر.
وقوله:" ينعشه "، قال صاحب الأفعال: نعش الله فلانًا نعشًا: أي جبره، والرجل غيره كذلك، وأنعشه لغة. وقال غيره: النعش: الارتفاع، ومنه سمى نعش الجنازة لارتفاعه. ونعشت الرجل: أي رفعت منزلته. قال الهروي: وقالت عائشة في أبيها:" فانتاش الدين ينعشه إياه " أي: استدركه بإقامته إياه من مصرعه. وانتعش العليل: إذا أفاق.
قال القاضي: قال بعضهم: معناه هنا: يرفعه ويقيمه - والله أعلم - من شدة الضعف والجهد، وهو من نحو ما تقدم من التفسير. والأشبه عندي هنا أن يكون معنى " ننعشه "، أي: يشد منه ويشهد له، كما قال في الحديث:" فشهدنا له أنه لم يعطها "، يعني: الثمرة " فاعطيها ".(8/487)
وقوله:" واديًا أفيح "، أي: واسعًا.
وقوله في الشجرة:" فانقادت عليه كالبعير المخشوش "، هو الذي يجعل في أنفه خشاش، وهو عود يعرض في أنفه إذا كان صبًّا، ويشد فيه حبل لينقاد ويذل، وهو مع ذلك يتمانع لصوبته، فإذا شد عليه وألمه نزع العود انقاد شيئًا ؛ ولذا قال:" الذي يصانع قائده ".
وقوله:" بالمنصف "، أي: نصف المسافة.
وقوله:" فلأم بينهما "، كذا لابن عيسى مهموز مقصور بغير مد، ولغيره:"لاءم " بالمد والهمز، وكلاهما صحيح، أي جمع بينهما، كما قال: " التئما عليّ بإذن الله "، فالتأمتا، وعند العذري:" فالام " بغير همز رباعي، وليس بشيء وهو تغيير.
وقوله:" فخرجت أحضر "، قال الإمام: أي أجرى، قال في الأفعال: أحضر: جرى جريًّا شديدًا. والحضر: المطلق. قال الهروي: أحضر إذا عدى، واستحضر دابته: إذا حملها على الحضر وهو العدو.
قال القاضي: وقوله:" فحانت مني لفتة "، بفتح اللام، أي نظرة والتفاتة، وعند الصدفي:" حالت " باللام، وهما بمعنى الحين، والحال: الوقت، أي اتفقت وكانت /.
وقوله:" فأخذت حجرًا فكسرته فحسرته "، قال الإمام: يعني غصنًا من أغصان الشجرة، يريد قشرتها، ومنه يقال: حصرت الدابة: إذا أتعبتها في السير حتى تتجرد من بدانتها.
قال القاضي: هذا تفسير الهروي لهذا الحرف في هذا الحديث، ولا يعطي مساقًا الكلام ولا صحته، أن يريد بحسرته قشرة الغصن كما قال، فإنه بعد لم يصل إليه وبعد ذلك قال:" ثم أتيت الشجرتين فقطعت من كل واحدة منهما غصنًا "، فكيف وقد قال:" فحسرته فانزلق "؟ وهذا يدل أنه إنما أراد الحجر نفسه وأنه كسره، كما قال: ثم أزال عنه كل ما تشظى وتكسر منه، حتى اندلق وبقى حادًّا يمكن به القطع. وإلى هذا نحا الخطابي، وكذا رويناه عنه في كتابه بالسين المهملة. وأما روايتنا عن جميع شيوخنا في هذا الحرف في "الأم" فإنما هي بالشين المعجمة، وهو أصح، ومعناه: حشر: أي خفيف.(8/488)
وقوله: " فانذلق " بذال معجمة، أي: نحد. وذلق كل شيء حده. وسغان مزلق: أي محدد.
وقوله - عليه السلام -:" فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما ما دام الغصنان رطبين "، يفسر مشكل قوله في الحديث الآخر:" لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا "، وأن ذلك بدعوته لهما بذلك، لا كما قال بعضهم مما ذكرناه أول الكتاب في الطهارة.
وقوله:" يبرد الماء في أشجاب له "، قيل: أعواد تعلق عليها قرب الماء وأوانيه، مأخوذة من مشجب الثياب.
قوله:" على حمارة من جريد "، كذا الرواية الصحيحة عند شيوخنا، وعند ابن عيسى:" حمار "، كلاهما بالحاء، وهي مثل الأشجاب. ومنه سميت الأعواد التي يوضع عليها السرج حمارًا. ووقع عند السمرقندي: " على جمارة " بجيم مضمومة، وميم مشدودة، وليس بشيء ؛ لقوله بعد ذلك: "من جريد ".
قال القاضي: بهذا فسر في الحديث الأشجاب شيوخنا، وهو صحيح في العربية. قال ابن دريد: الشجاب والمشجب واحد، ويقال لها: الشجب أيضًا، ويسمون الثلاث الخشبات التي يعلق عليها الراعي سقاءه ودلوه: الشجب، وقد يسمى الحمارة.
قال القاضي: ولكنه مع قوله: " على حمارة له " لا يستقيم أن يقال: "في أشجاب على حمار "، وإنما الأشجاب هنا الأسقية الخليقة، ويدل عليه الحديث بقوله: "يبرد الماء في أشجاب له على حمارة من جريد ".
وقوله:" فانظر هل في أشجابه من شيء "، وقوله:" إلا قطرة في عزلاء شجب "، فهذا كله يدل أنها السقاء. ومنه في حديث ابن عباس: " فقام إلى شجب فاصطب منه الماء "؛ فهذا هو تفسير الشجب في هذا الحديث وما قالوه. قال الهروي: الشجب من الأسقية ما استشن وأخلق. وقال بعضهم: سقاء شاجب، أي يابس. وقوله: " عزلاء شجب "، أي: فمه ومخرج الماء منه.
وقوله:" لو أني أفرغه لشربه يابسه "، أي: لقلة ما كان فيه من الماء وفرط يبس الشجب، لو فرغ هذا الماء منه لاشتفه الشجب. وهذا كله يدل على أن الأشجاب هنا الأسقية.
وقوله:" يغمزه بيده "، أي: يحركه ويعصره.(8/489)
وقوله:" فأتينا سيف البحر "، هو: ساحله بكسر السين.
وقوله:" فزخر البحر زخرة "، كذا رواية أكثرهم بالخاء المعجمة، ووقع للعذري وابن ماهان:" زجر "، والأول الصواب. وقالوا: زخر البحر يزخر زخورًا: إذا طما موجه. وحجاج العين ؛ بفتح الحاء وكسرها: عظمها المستدير بها.
وقوله:" أعظم كفل في الركب "، الكفل ؛ بكسر الكاف وإسكان الفاء: الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه إذا ارتدفه لئلا يسقط، فيحفظ الكفل الراكب. قال الهروي: قال أبو منصور: ومنه اشتق:{ يؤتكم كفلين من رحمته }، أي: نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي، كما يحفظ الكفل الراكب.
قال القاضي: الكفل هنا: النصيب، وزيادة أبو منصور تحكم منه، ويرد عليه قوله:{ ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها }، أترى هذه تحفظه، ووقعت في رواية التميمي والصدفي في هذا الحرف: " كفل " بفتح الكات والفاء، والصحيح ما تقدم. وكذا روى الجياني وغيره عن العذري في الحرف الآخر قبيل هذا:" أعظم رحل "، ولغيره:" رجل "، وهو أصوب وأشبه بمساق الكلام، وكذلك اختلف فيه رواة البخاري أيضًا.
وفي هذا الحديث غرائب من معجزاته الباهرة وعجانب من علامات نبوته الظاهرة - صلى الله عليه وسلم - من طاعة الشجرتين له وانقيادهما والتئامهما ثم افتراقهما، وتكثير الماء ونبعه من بين أصابعه، وهذه في ذاتها قد رويت عنه في مواطن بروايات متفقة المعنى. ومن بركته في بيوتهم بالثمرة، ومن الكلام في خبر هذه الدابة التي ألقاها البحر في غزوة أبي عبيدة في الجهاد، ويظهر أنها قصة أخرى لسياق الحديث. وظاهره أن ذلك لمحضر النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي هذه الغزوة. وقد يحتمل أنها تلك وأوردها جابر هنا بعد ذكره ما شاهده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما ذكر، وعطف هذه القصة عليه.(8/490)
وقوله في حديث الهجرة:" حتى قام قائم الظهيرة "، الظهيرة: هي الهاجرة، وهي ساعة الزوال وانتصاف النهار، ومنه سميت صلاة الظهر. قال يعقوب: الظهيرة: نصف النهار في القيظ حتى تكون الشمس بحيال رأسك وتركد، وركودها أن تدوم حيال رأسك، كأنها لا تبرح. وهذا معنى قوله: " قام قائم الظهيرة "، كأنه وقف ولم يبرح، إما كناية عن الشمس أو الظل لوقوفه عن الزيادة حينئذ، حتى يستبين زوال الشمس.
وقوله:" فرفعت لنا صخرة طويلة "، أي ظهرت وارتفعت لأبصارنا.
وقوله:" لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد "، يريد ظل أول النهار، أي لم يف عليه. والظل: ما كان من غدوة إلى الزوال مالم يصبه شمس، وهو أبرد وأطيب. والفىء: ما كان بعد الزوال ورجوعه من المشرق إلى المغرب، مما كانت عليه الشمس وأصابت أرضه.
وقوله: " فبسطت عليه فروة، ثم قلت: ؤم " قيل: أراد بالفروة هنا حشيشة من النبات، لكنه ورد في صحيح البخاري:" فروة معي "، وهذا يبعد هذا التأويل - والله أعلم. وفي حديث الخضر: أنه جلس على فروة بيضاء وحصير تحته خضرًا. وقال عبد الرزاق: أراد بالفروة الأرض اليابسة. وقال الهروي: قال غيره: يعني الهشيم اليابس، شبه بالفروة. وقال الخطابي: هي الأرض البيضاء.
وقوله:" وأنا أنفض لك ما حولك "، أي: أفتش وأبحث لئلا يفجاك من يغتالك. والنفيضة: الجماعة تتقدم العسكر فتنفض ما أمامه، قال ابن دريد: كالطليعة.
وقوله في الراعي: " رجل من أهل المدينة "، قيل: هو وهم، وصوابه: من أهل مكة. وكذا وقع في البخاري من رواية إسرائيل:" لرجل من قريش"، وفي رواية غيره: " لرجل من المدينة أو مكة ".
وقوله:" أفي غنمك لبن "، ضبطناه / كذا بفتح اللام والباء، و " لبن " بضم. اللام وسكون الباء على وصف جماعة الشياه، أي ذوات ألبان، ويقال: شاة لبنة، وشاة لبن، وقد تسكن مثل هذا. والقعب: إناء من خشب مقعر معروف.(8/491)
" وكثبة من لبن " بضم الكاف، وهي قدر الحلبة، قاله يعقوب. وقيل: القليل منه، قاله ابن الأعرابي. وفيه جواز الشرب من الغنم التي عند الرعاة إذا كانت بالبوادي، وحيث يعرف أن أربابها لا يطلبون لبنها، وأنه مباح للرعاة أو حيث العادة أن ذلك لا يمنع ويباح لشاربه. وقد سئل مالك عن المسألة على الجملة فقال: لا يعجبني، وقد تقدم الكلام على هذا.
" وجدد الأرض "؛ بفتح الجيم: الخشن منها، قاله لنا ابن سراج. وفي الجمهرة والغريبين: هو المستوى، كذا رواه العذري. ولغيره: " جلد " باللام بمعنى الأول، أي صلب خشن غليظ. واحتاج لذكر ا جدد الأرض، هاهنا ارتطام فرس سراقة فيها، وتسوخها لتبين المعجزة وتظهر الآية، إذ لو كانت الأرض سبخة ورخوا دهنية لم يستغرب مثل ذلك فيها.
وقوله:" لأعمين على من ورائي "، أي: أخفي أمركم وألبسه عليهم، حتى لا يتبعوكم.
وقوله:" ارتطمت فرسه إلى بطنها "، قال الإمام: أي ذهبت وساخت. قال القاضي: وقوله - عليه السلام -: " أنزل على بني النجار، أخوال عبد المطلب، أكرمهم بذلك "، فيه صلة القرابة وبرهم وإيثارهم.
وقوله:" فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الخدم والغلمان في الطريق ينادون يا محمد ! يا رسول الله ! فيه ما كان أتى الله نبيه - عليه السلام - من المحبة في القلوب ما خص الله به هذا الحي من الأنصار ؛ لما أراده الله بهم من الخير، وما قضاه من إظهار دينه على أيديهم.(8/492)
قال الإمام: وقول عائشة:" فيعضلها "، العضل: التضييق أو المنع، يقال: عضلني عن الأمر: أي منعنى عنه، وأعضل في الأمر: إذا ضاقت عليك الحيل فيه. وأصله من عضلت الناقة: إذا نشب ولدها فلم يسهل مخرجه، والدجاجة نشب بيضها، والمسألة المعضلة: الصعبة المخرج، وداء عضال: شديد. وقول على - رضي الله عنه -: معضلة ولا أبا حسن. قال الفراء: هذه معرفة وضعت موضع النكرة، كانه قال: ولا رجل كابى حسن ؛ لأن التنزيه لا يقع على المعارف. وقال غيره من البصريين: في الكلام حذف مضاف نكرة لا يتعرف بما أضيف إليه، والتقدير: معضلة ولا مثل معضلة أبي الحسن قال: والمعنى يقتضي ذلك.
قال القاضي: وقوله في حديث ابن أبي شيبة في قوله:{ اليوم أكملت لكم دينكم }، نزلت ليلة جمعة ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات. كذا لابن ماهان، ولغيره: " ليلة جمع "، والوجه الأول صحيح كما قال في سائر الأحاديث، وكما جاء في الحديث بعده: " يوم جمعة ".
وقوله: " يريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها "،ا أي يعدل، قال الله تعالى:{ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى }، أي: تعدلوا.
وقوله:" فنهوا أن ينكحوا ما رغب في جمالها ومالها إلا بالقسط "، أي: طلبوا.
وقوله:" من أجل رغبتهم عنهن "، يعني: تركهم وكراهتهم لهن إذا كن قليلات المال والجمال، قال الله تعالى:{ وترغبون / أن تنكحوهن } رغبت فيه، إذا أردته، ورغبت عنه ؛ إذا كرهته.(8/493)
وقوله:" حتى في العذق "، قال القاضي: هو هنا بفتح العين، ومعناه: النخلة بنفسها وقد مرّ. وذكر في الحديث قوله تعالى:{ ومن كان غنيًّا فليستعفف } الآية، قالت عائشة:" أنزلت في والي مال اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه، إذا كان محتاجًا أن يأكل منه " الحديث، اختلف السلف في معنى هذه الآية، وهل هي محكمة أو منسوخة، فقيل: هي محكمة، ومعناها ما ذكر عن عائشة، وهو قول جماعة غيرها، وقيل: ذلك له إذا سافر فيه، وهو قول أهل العراق، وقيل: له الأكل منه إذا كان محتاجًا وهو على الجملة، وهو المذكور عن عائشة في الحديث الثاني في "الأم". وقاله عطاء وغيره. وقيل: ذلك بالقرض منه إذا احتاج ثم يرده، وقيل: ذلك في الغلل من الثمر واللبن لا من العين، وقيل: المراد بذلك كله الإنفاق على اليتيم منه في حال عسره ويسره ؛ لئلا يسرف ويضيعه في الإنفاق عليه مع قلة المال فينفذ، وروى عن ربيعة ويحيى بن سعيد. وذهب ابن عباس وزيد بن أسلم إلى أنها منسوخة بقوله:{ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا } الآية، وقيل: بقوله تعالى:{ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل }.
وقوله عائشة:" أمروا أن يستغفروا لأ صحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فسبوهم "، قالته - والله اعلم - عندما سمعت أهل مصر يقولون في عثمان ما قالوا، وأهل الشام وبني أمية يقولون في علي ما قالوا، وقالت الحرورية في الجميع ما قالوا، والله أعلم.
والأمر بالاستغفار الذي أشار إليه قوله تعالى:{ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا } الآية. وبهذا احتج مالك أن لا حق في الفيء لمن سبّ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الله إنما جعله لمن جاء بعدهم ممن يستغفر لهم لا لمن سبّهم.(8/494)
وقول ابن عباس في قوله تعالى:{ ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا }:" ما نسخها شيء "، وقوله: " لا توبة له "، وقوله في آية الفرقان:{ إلا من تاب وآمن }: " نزلت في أهل الشرك "، وقوله:" نسختها آية المدينة "، يعني آية النساء. هذا عن ابن عباس في توبة القاتل، وأنها غير مقبولة. وروي عنه أن آية النساء ناسخة لآية الفرقان، وأنه لا توبة للقاتل المسلم، وهو الذي ذكر عنه مسلم، والمشهور عنه. وقد روي عنه قبول توبته، وجواز مغفرة الله له وعفوه عنه ؛ بقوله:{ ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا }، وهذا هو الذي عليه جماعة السلف وأهل السنة أجمع، وكل ما روى عن بعض السلف مما ظاهره خلاف هذا على التغليظ والتشديد، والآية خبر محض، والأخبار لا يدخلها النسخ كما قال ابن عباس، لكن يدخلها التخصيص والاستثناء والشرط. وقد اختلف في معناها، فذهب أكثرهم إلى أن معناها: جزاؤه إن جازاه وأنفذ عليه وعيده، وفيه حديث مروى بهذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: معناه: من قتل مستحلاًّ لقتله لأجل إيمانه وهذا كفر. وقيل: الآية نزلت في رجل معين قتل مسلمًا ثم ارتد. وقيل: المعنى: خلود دون خلود إن لم يعف الله عنه / من دخولها، وهو مثل قوله: { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده } الآية. والآية العامة تقضي على هذه وتفسرها، وهي قوله تعالى:{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }، وقوله:{ إن الله يغفر الذنوب جميعًا }.
وقوله في الحديث: " فرحلت إلى ابن عباس "، هذا هو الصواب بالراء والحاء المهملة، وعن ابن ماهان:" فدخلت " بالدال والخاء المعجمة.(8/495)
وذكر مسلم في هذا الحديث: حدثنا محمد بن مثنى ومحمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن منصور، عن ابن جبير، قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزي أن أسأل ابن عباس. كذا وقع عندنا في سائر النسخ، وكذا ذكره البخاري عن شعبة أيضًا، وذكره أبو عبيد عن سعيد بن جبير: قال لي سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي، ورواه عن جماعة، أمرني ابن أبزي. قال بعضهم: فلعله في رواية شعبة: أمرني ابن عبد الرحمن فسقط " ابن "، ولعله: أمر ابن عبد الرحمن فسقط الألف وتصحف بهذه. وعبد الرحمن بن أبزي له صحبة.
قال القاضي:وأما الذي يبعد عن أن يجعل سعيدًا سأل له ابن عباس مما لا يعلم فقال: حدثنا أبو النصر هاشم بن القاسم الليثي، كذا هو، وفي بعض النسخ: التميمي، ولم يروه. وفي أصل ابن عيسى: التميمي، وروايته: "الليثي ". وقال البخاري فيه: " الليثى " قال: ويقال: " التميمي ".
قال الإمام: خرّج مسلم حديث ابن عباس:" تعلم آخر سورة نزلت من القرآن جميعًا ؟ قلت: نعم " الحديث، قال: حدثنا أبر بكر بن أبي شيبة وهارون بن عبد الله، وعبد بن حميد، عن جعفر بن عون، أنبأنا أبو عميس، عن عبدالمجيد بن سهيل. قال بعضهم: هكذا هو الصواب: عبدالمجيد، بتقديم الميم على الجيم. ووقع في نسخة ابن ماهان في إسناد هذا الحديث: "عبد الحميد " مكان " عبد المجيد "، والأول الصواب.(8/496)
قال القاضي: ما قاله الإمام هو ما نقله من كلام الجياني أبي علي شيخنا رحمه الله. وقد اختلف في اسمه، فذكره مالك في "موطئه" من رواية يحيى بن يحيى الأندلسي، وسماه: عبدالحميد بتقديم الحاء، ونسبه: ابن سهيل بن عبدالرحمن بن عوف. ووافق هذا القول سفيان بن عيينة فقال فيه أيضًا: عبدالحميد. وأما البخاري فسماه: عبدالمجيد، وكذا أيضًا رواه ابن القاسم في "الموطأ" والقعنبى وجماعة من الرواة عن مالك. فاستبان أن الخلاف في هذا الاسم مشهور، وان كان هذا فالحكم بالخطا على أحدهما والتصويب للآخر متعذر. قال أبو عمر بن عبد البر فيه: عبد الحميد، ويقال: عبد المجيد، وهو الأكثر.
وقوله: في سبب نزول الآية:{ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا }، هذه قراءة ابن عباس، وجماعة من القراء. وقرأ جماعة " السَّلم ". والقراءتان في السبع. وقرأ بعضهم: " السِّلم "، بكسر السين. فمن قرأ: "السلام " فقد تبين في الحديث سببه ؛ أن الرجل سلم عليهم ليأمن بذلك، وليظهر أنه مسلم، فعاتبهم الله على ذلك. ومن قرأ القراءة الأخرى، فمعناه: التي بيده واستسلم وأظهر الإيمان، فـ{ كذلك كنتم من قبل }، أي: مختفين بإيمانكم. وقيل: كفارًا. وقيل: مثله قبل أن يظهر ما أظهر. وقرأ أبو جعفر:{ مؤمنًا } بفتح الميم، أي: لسنا نأمن منك.
وقوله في الحديث:" من يعيرني تطوافًا " بكسر التاء: هو بون تلبسه المرأة تطوف به. قال الخطابي: كان أهل الجاهلية يطوفون عراة ويرمون بثيابهم، ثم لا يأخذونها، ويتركونها تداس حتى تبلى. وهي التي تسمى "اللفا ". وقال ابن إسحاق: كان غير أهل الحرم من العرب لا يطوفون أول قدومهم مكة إلا في ثياب الحمس، وهم قريش ومن ولدت.(8/497)
وقوله في الآية:{ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفوررحيم}، وعند السمرقندي. وبعضهم:( فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم )، وهذا لم يقرأ به فيما علمت، ولعله ورد في هذه الأية مورد التفسير، كأنه قال: يعني لهن، ولذلك قال أهل التفسير: معناه: فإن الله للمكرهات من بعد إكراههن غفور رحيم.
وسمى في الحديث الجاريتين: نسيكة، وأميمة، وقيل: مسكة. وقيل: معاذة وزينب.
وتقدم تفسير الكلالة والكلام في تحريم الخمر وغير ذلك ما تكرر ههنا
وخرّج مسلم حديث:{ هذان خصمان }، فقال فيه: عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد - وهو بضم العين - قال: سمعت أبا ذر يقسم. قال الدارقطني: أخرج البخاري عن أبي مجلز، عن قيس، عن علي قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة. قال قيس: وفيهم نزلت الآية، ولم يجاوز به قيسًا، ثم قال البخاري: وقال عثمان عن جرير، عن منصور، عن أبي هاشم، عن أبي مجلز قوله: قال الدارقطني. فاضطرب الحديث.
قال القاضي - رضي الله عنه -: هذا آخر ما جمعناه في شرح مسلم وتقصيناه وطالعناه من قول الشارحين وأحصيناه، وأضفنا إليه من نظرنا وتخريجنا وتوجيهنا ما هدانا الله تعالى إليه، وأوجزنا اللفظ في ذلك وحررناه.
وإلى الله أضرع أن يجعل ما كتبنا من ذلك لوجهه ورضاه وينفعنا به، وينفع من اكتتبه أو اكتسبه، أو طالعه، أو اقتناه، وأن نصلي على سيدنا محمد نبيه وصفيه ويسلم عليه تسليمًا، وعلى آله ومن تبعه واقتفاه.
انتهى الجزء الثامن من كتاب إكمال المعلم وبانتهائه كمل جميع الديوان والحمد لله حق حمده، وصلواته على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والله أعلم.
*************(8/498)