وفي هذا الحديث من الفقه / وأن أهل الذمة إن منعوا حقًا وجب حربهم، لقوله:« أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب من الله »، وفيه أنهم إذا اغتالوا المسلمين وأمراءهم انتقضت ذمتهم. ولعل قوله - عليه السلام - لهم هذا بمعنى: إن ثبت عليهم لا بمجرد الدعوى. وفيه جواز اليمين على ما يغلب على الظن الغلبة القوية التي يقوم مقام اليقين، كقول عبدالله:" أنتم والله قتلتموه " إذ لم يكن في خيبر سواهم. وفيه الحكم بين المسلم والكافر بحكم الإسلام.
وقوله:« كبر كبر »، وفي الرواية الأخرى:« الكبر الكبر »، قال الإمام - رحمه الله -: معناه: أن يبدأ بالأكبر: ومنه حديث أبي الزناد: " دعا بالكبر فنظروا إليه "، أي: بالمشايخ.
قال القاضي - رحمه الله -: هو مفسر في الحديث. قال: يريد السن في الحديث الآخر:« ليبدأ الأكبر »؛ لأن المتكلم أولاً كان محيصة وكان الأصغر، وإنما تقدم في الكلام ؛ لأنه الذي حضر الغصة وشاهدها والخارج لخيبر مع عبد الله القتيل، ولم يحفمر حويصة بخيبر، فلما أتو المدينة أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قومه، وهذا كله مفسر في الحديث نفسه، هذا على رواية مالك، وأما على رواية غيره فإن البادئ بالكلام غير عبد الرحمن بن سهل أخو المقول، وكان أصغرهم، وتقدم لقرباه، وأنه ولى الدم. والاخران أبناء عمه وعصبته، فيحتمل أنهما جميعًا أرادا الكلام واحدًا بعد آخر، ألا تراه كيف قال هنا: فصمت فتكلم صاحباه، فامر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتقدم الأكبر - وهو حويصة - إما لفضيلة السن، أو لفضيلة أخرى قارنتها. وفضيلة السن لا تنازع فيها إذا استوت الأقدام وأشكلت المراتب، ولذلك جاء في الحديث في الإمامة:« فإذا استووا فأسنهم ».(6/291)
ففى هذا الحديث مراعاة السن والتقديم للأشياخ والكبراء في الكلام وفي الجماعة في محافل الناس وأمورهم، إذا كانت القضية تخص جميعهم لكونهم أولياءه، وكذلك يجب في التقديم في الأمور والولايات وغيرها مع استواء الأحوال. ويقال: حويصة ومحيصة بتثديد الياء وسكونها.
وقوله: " لقد ركضتني منها فريضة من تلك الفرائض"،قال الإمام- رحمه الله -: الفريضة هنا: الناقة الهرمة وهي - أيضًا - الفريض والفارض والفارضة. وقد فرضت تفرض بفتح الراء في الماضى وضمها في المستقبل.
قال القاضي - رحمه الله -: ليس المراد بها هذا المسنة ولاهى لها ها هنا، وإنما المراد بها هنا: ناقة من النوق المفروضة في الدية، كما قال في الحديث الآخر. ويسمى ما يؤخذ في الدية والصدقة فرائض ؛ لأنها واجبات مقدورات الأسنان والأعداد. قال نفطويه: الفرض: التوقيت. وكل فرض واجب مؤقت فهو مفروض، والفرض: العلامة. وقال غيره: ومنه قوله تعالى:{ نصيبًا مفروضًا }، أي: مؤقتًا، ومنه قوله تعالى:{ أو تفرضوا لهن فريضة }، وفرض الحاكم النفقة للمرأة: اذا قطع لها وقدرها، وفرضت الرجل في مال الفىء: أي جعلت له فيه شيئًا مؤقتا، ففرائض الزكاة والديات في هذا. ويصحح ماقلناه قوله: " فريضة من تلك الفرائض "، فقد سميت جميعها فرائض، وفائده ذكر هذا ليبين أنه ضبط الحديث وعقله ؛ لأنه كان حينئذ صغيرًا.
وقوله: " فوجد في شربة " قال الإمام - رحمه الله -: هو حوض في أصل النخلة، وجمعه شرب، بفتح الشين والراء.
وقوله:" في عين أو فقير "، الفقير: البئر القريبة القعر الواسعه الفم. قال القاضي / - رحمه الله تعالى -: الخقير - أيضًا - قعير النخلة، وهو حفرة غمر للفسيلة حولها إذا حولت، وهذا الشبه لموافقته رواية الشربة . والفعير - أيضًا - فم القناة، وهو حفير يتخذ للسرب الذي يجعل للماء تحت الأرض كفم البئر فذلك الفقير.(6/292)
قال الإمام - رحمه الله -: " وقولهم: من جهد أصابهم ": الجهد، بفتح الجيم: الشدة والمشقه، وبالضم: غاية الطاقة والمقدرة. وقد تفتح الجيم أيضًا.
قال القاضي - رحمه الله -: والعقل: الدية. وقوله: " في مربد،: المربد: الموضع الذي يجتمع فيه الإبل وتحبس. والربد: الحبس.
وقوله: "فيدفع برمته "، أي: بحبله الذي في عنقه الذي يلتف به ويربط، أي يسلم بذلك إلى أولياء القتيل ليقتلوه. وقيل: هل هو تجوز من القول واستعارة ؟ وأصله من الحبل الذي يجعل في رأس البعير ليقاد به، يقال: أخذت الشيء برمته: أي كله.
قوله:" خرجنا إلى خيبر وهي يومئذ صلح " يشير بعد فتحها وإبقاء اليهود بها، وإنما كان صلحهم على ماصالحوا منها على تسليمها وتخليص منهجهم. وأبقاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد للعمل، على ماتقدم ويأتى بعد، وإنما أراد بهذا أنه كانت تجرى عليهم أحكام الإسلام حين لم يكونوا حربا. وفيه أن القسامة في الدعوى على أهل الذمة تعين على المسلمين. فأما إن كان المدعي ذميًّا فهل فيه قسامة ؟ فقد اختلف عندنا فيه. فقال مالك في ذلك: يقسم، ولأنه على قوله: ويستحقون الدية. وقال غيره من أصحابه: يحلف المسلم المدعى عليه خمسين يمينًا ويبرأ، ولاتحمل العاقلة ديته، وأما الشاهد الواحد على القتل ؟ فعندنا فيه وجهان أيضًا. قال مالك: يحلف ولاته خمسين يمينًا واحدة ويستحقون الدية من ماله في العمد، ومن عائلته في الخطا. وقال غيره: يحلف المدعى عليه خمسين يمينًا، ويجلد مائة ويسجن عامًا.
قال الإمام - رحمه الله -: خرج مسلم في هذا الحديث عن ابن نمير قال: حدثني أبي، نا سعيد بن عبيد، نا بشير بن يسار. وكذا قال أبو حاتم الحديث. قال بعضهم: وقع في نسخة أبي العلاء بدل " سعيد بن عبيد ": "سعد بن عبيد" بسكون العين، والمحفرظ فيه سعيد، بكسر العين وباء بعدها.(6/293)
قال القاضي: قال البخاري: سعيد بن عبيد أبو الهذيل الطائي كوفي عن على بن أبي ربيعة، وبشهير بن يسار. وكذا قال أبو حاتم الدارقطني والكلاباذي، والحاكم، وذكروه كلهم في باب سعيد، ولم يذكروا فيه خلافًا.
قال القاضي - رحمه الله -: وهذا الحديث مما انتقد على مسلم، وذلك أنه ذكره مختصرا باثر حديث يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار، وقال: وساق الحديث ونبه فيه على خلافه في قوله آخرًا:" فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إبل الصدقة " ولم ينبه على مخالفته إياه في تبدئة المدعى عليهم كما ذكرناه قبل من رواية البخاري في هذا الحديث عن سعيد بن عبيد. وظاهر قوله وسياق الحديث يوهم أنه بمثل ماتقدم من حديث يحيى في تبدئة المدعين.
كتاب الحرابة
وقوله في حديث العرنيين: من الذين قدموا المدينة فاستوخموها، وسقمت أجسامهم فامرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخروج إلى إبل الصدقة، وأنهم صحوا، فمالوا على الرعاة قتلوهم، وارتدوا عن الإسلام، وساقوا ذود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في أثرهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركوا في الحره يستسقون فلا يسقون، وفي الحديث الآخر:" حتى ماتوا "، قال الإمام - رحمه الله -: اختلف الناس في المحاربين، وفي المراد بقوله - سبحانه وتعالى-:{ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الآية، فقال بعض الناس: إنما نزلت في / العرنيين. وقال بعضهم: في المرتدين، وقال بعضهم: في الكفار إذا نقضوا العهد وحاربوا. وتعلق هؤلاء بأن المحاربة لله ورسوله لاتكون مع الإيمان. وقال آخرون: في المسلمين لقوله تعالى:{ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم }، والكافر إذا أسلم قبل منه إسلامه قبل القدرة عليه وبعدها.(6/294)
ومذهبنا أن الإمام يخير في حد المحارب مالم يقتل، فإن قتل فلابد من قتله، في المشهور عندنا. ومذهب الشافعي أنها على الترتيب. فإن قتل ولم يأخذ مالاً قتل، وإن أخذ المال وقد قيل قتل وصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطع. والحبس والنفي فيمن لم يبلغ جرمه إلى أن يستحق ذلك. واستدل أصحابه بأن تأثيره في الضرر يختلف. فلا يكون عقوبة الإجرام المختلفة متساوية.
واختلف الناس وأصحابنا في المحاربة في المصر، هل حكمها حكم المحارب في غير المصر أم لا ؟ والمشهور عندنا وبه قال الشافعي: أنهما شيئًان. وفرق بينهما بعض أصحابنا وهو مذهب أبي حنيفة.
قال القاضي - رحمه الله -: ذهب أبو مصعب من أصحابنا إلى التخيير فيه وإن قتل، وهو مذهب أبي حنيفة، وحكى الماوردي عن مالك أنه يقتل ذا الرأي والتدبير، ويقطع ذا البطش والقوة، ويعذر ممن عداه، قال: مرتبة على صفاتهم لا على أفعالهم.
قال الإمام: اختلف الناس في معنى هذا الحديث، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لهؤلاء مافعل. فقال بعض السلف: كان هذا قبل نزول الحدود وآية المحاربين والنهي عن المثلة، فلما نزل ذلك استقرت الحدود ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المثلة، هو منسوخ. وقيل: هر محكم غير منسوخ، وفيهم نزلت آية المحاربين. وإنما فعل النبي - عليه السلام - فيهم مافعل قصاصًا ؛ لأنهم فعلوا بالرعاة مثل ذلك، وروى ذلك مسلم في بعض حديثه، وابن إسحاق وموسى بن عقبة، وأهل السير، والترمذي، ففى هذا مال مالك في أنه يقتضي القاتل بمثل مافعل بالمقتول، وقيل: بل ذلك حكم من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم زائدا على حد الحرابة لعظم جرمهم ومحاربتهم، وقتلهم الرعاة، وتمثيلهم بهم، وأن النهي عن المثلة نهى ندب لا تحريم.(6/295)
وأما قوله:" يستسقون فلا يسقون "، فليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك، وقد أجمع المسلمون أن من وجب عليه القتل فاستسقى لا يمنع الماء قصدًا، فيجمع عليه عذابان. وقيل: إنما لم يسقوا معاقبة لجنايتهم، وكفرهم نعمة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم الألبان، فعاقبهم الله بذلك، فلم يسقوا. وقيل: بل عاقبهم الله بذلك لإعطاشهم آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأحد لقاحهم، ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم في حديث رواه ابن وهب أنه قال:" عطش الله من عطش آل محمد الليلة. فكان ترك الناس سقيهم إجابة لدعائه وتنفيذا لعقوبتهم.
وهذان وجهان حسنان لايبقى فيهما اعتراض ولا إشكال، لكن يبقى هنا اعتراض لقوله في الحديث:" إنها إبل الصدقه "، وهو أن يقال: إن لقاح النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت معهما ترعى، فاكتسحوا الجميع. فيجمع بين الحديثين، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر: " وساقوا ذود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتووا المدينة "، فسروه في الرواية الأخرى:" فاستوخموها " أي لم توافقهم كما قال:" وسقمت أجسامهم ".
قال الإمام - رحمه الله -: معناه: كرهوها لسقم أصابهم أخذًا من الجوى وهو داء في الحوف.
وقوله:" سمر أعينهم " روي "سمر" بالراء، و"سمل" باللام، فمعنى سمرها: كحلها بمسامير محمية، ومعنى سملها: فقأها بشوك أو غيره. قال أبو ذؤيب:
والعين بعدهم كأن حداقها سملت بشرك فهي عور تدمع
قال القاضي- رحمه الله -: هما بمعنى واحد، الراء تبدل من اللام.
قال الإمام - رحمه الله -: واللقاح المذكور في الحديث جمع لقحة، وهي الناقة ذات الدر.
وقوله:" ولم يحسمهم "، قال أهل اللغة: الحسم: كى العرق بالنار ليقف الدم، ومنه الحديث: أتى بسارق فقال: ( اقطعوه ثم احسموه ": أي اقطعوا عنه الدم بالكي.(6/296)
قال الإمام - رحمه الله - وقوله: " قد وقع بالمدينة الموم، وهو البرسام، ووقع في حواشي بعض النسخ من كتاب مسلم: " الحم "، ورأيت لبعض الأطباء إذا حل التسمية في لغة اليونانيين، إذ السامر اسم للورم، والبراسم المصدر، والمراسم للرافعي، وشأنهم أبدًا في الإضافة عكس ماعند العرب، من أنهم يقدمون المضاف إليه، فيكوز كلامهم أن يقولوا: زيد ثوب، يريدون: ثوب زيد، فكأنهم يقولون: إذا كان الورم في الرأس: رأس ورم، وإذا كان في الصدر قالوا: صدر ورم، فيكون صيغة النطق لما في الرأس البرسام، ولما في الصدر البرسام، وقذ من رأيت من الأطباء يحقق الفرق بين هذه الألفاظ، ورأيت في كتب بعضهم ربما كان البرسام عن الشيء يريدون: ربما كان ورم الرأس عن ورم الصدر.
قال القاضي - رحمه الله -: في هذا الحديث حجة أن المحارب لايحسم لأنه ممن خير في حده بالقتل، لكن إن حسم نفسه يمنع. وأما السارق فيحسم عندنا ؛ لأن حده القطع فقط، فيبادر بحسمه لئلا ينزف دمه فيموت، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور وغيرهما.
وقوله:" يتشربوا من ألبانها وأبوالها "، دليل على طهارة أبوال الإبل، وحجة للمالكية في طهارة بول ما يؤكل لحمه، واحتج به من يرى نجاستها بجواز التداوي بالمحرمات للضرورة.
وقوله: بعث معهم قائفًا: القائف: مميز الآثار ومتتبعها. وفي بعض أسانيده: نا الحسن بن أبي شعيب الحرانى، نا مسكين - وهو ابن بكير الحراني - نا الأوزاعي. كذا عند أكثر شيوخنا، وكان عند القاضي الشهيد عن العذري: نا مسكين - وهو ابن بكير - قال لنا، وهو خطأ. وقال البخاري: مسكين بن بكير، وكذلك ذكره في التاريخ، والصحيح هوالمعروف المحفوظ. وكذا ذكره أبو حاتم والحاكم وغيرهم.(6/297)
وقوله:" إن يهوديًّا قتل جارية على أوضاح لها بحجر"، وفي رواية أخرى: على حملها وألقائها في قليب ورضخ رأسها بالحجارة، قال: فجىء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وبها رمق، فسألها النبي - صلى الله عليه وسلم -: أقتلك فلان ؟ وفي الحديث الآخر:" من صنع بك ؟ فلان ؟ فلان ؟ حتى ذكروا يهوديًّا فأومت برأسها فاخذ اليهودى فاقر، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرض رأسه بالحجارة، وفي الرواية الأخرى: فأشارت برأسها أن لا، ثم أشارت في الثالثة برأسها أن نعم، فقتله النبي - صلى الله عليه وسلم - بين حجرين "، وفي بعض طرقه:" فرضخ رأسه بين حجرين "، وفي بعض طرقه: " فأمر به أن يرجم حتى يموت ".
قال الإمام - رحمه الله -: هذا الحديث فيه الرد على من أنكر القصاص بغير الحديدة، وفيه دلالة على قتل الرجل بالمرأة /، خلافًا لمن شذ فقال: لا يقتل الرجل بالمرأة، وفيه دلالة على التوفية بقول المقتول، هكذا استدل به بعضهم، وإنما قتله النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أقر. هكذا ذكره مسلم في بعض طرقه: "فاخذ اليهودى فأقر". وأما رجمه بالحجارة فلعله رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لما قتل بالحجارة وجب قتله بها، ورأى أن رجمه بها جهة الرأس: رضخ، وقد بين في بعض طرقه أن الجارية من الأنصار.
قال القاضي - رحمه الله -: وذكر أبو عبد الله بن المرابط في شرحه: أن هذا كان الحكم في أول الإسلام ؛ قبول قول القتيل، وأن هذا معنى هذا الحديمث. وماجاء من اعنرأفه في هذا الحديث فإنما جاز رواية قتادة ولم يقله غيره، وهو مما عد عليه ورضخه بين حجرين، ورضه بالحجارة، ورجمه بالحجارة، كله بمعنى، فإن رميه بالحجر الأعلى أو الحجارة وراءه على آخرين رجم بالحجارة، وقد يكون رجمه نوعًا مما فعل بها لما جاء في الحديث الآخر:" ألقاها في قليب ورضخ رأسها بالحجارة "، وهذا رجم لا شك فيه.(6/298)
وقد اختلف الناس في القصاص بغير المحدد من السيف والرمح والسكين وغيره، فذف جمهور العلماء إلى أن القاتل يقتل بمثل ماقتل! به من حجر أو عصى، ولاتفريق أو اختلاف لهذا الحديث وغيره، ولقوله:{ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } الآية.
وقوله:{ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } الآية. واختلف هؤلاء في القصاص بالتحريق بالنار لمن فعل ذلك بأحد، فقال مالك والشافعي: إن طرحه في النار حتى مات فعل به كما فعل، وقال ابن الماجشون وغيره: لايحرق بالنار ويقتل بغير ذلك للحديث:« لايعذب بالنار إلا الله ». ثم اختلفوا إذا لم يمت من ضربه بالعصي أو بحجر في القود، فمعظمهم يرى تكرير ذلك عليه حتى يموت، وهو قول مالك والشافعي، إلا أن مالكًا قال في روايته: إلا أن يكون في ضرب العصي تطويل وتعذيب فيقتل بالسيف، وكذلك قال عبد الملك في الرجم بالحجارة. وأصل هذا المذهب انقود بما قتل. وقال الشافعي نحوه في المحبوس في البيت أياما دون طعام حتى مات، يفعل بقاتله مثل ذلك وإن لم يمت في تلك الأيام، فقيل: وكذلك من قطع يدى رجل ورجليه وألقاه في مهواة فمات، يفعل بقاتله مثله. فإذا لم يمت قتل بالسيف. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن لا قصاص إلا بالسيف وروى عن الشعبي والنخعي والحسن، واحتجوا بحديث:« لاقود إلا بحديدة» وبالنهى عن المثلة، وحملوا حديث:« لاقود إلا بحديدة » فيمن لم يمثل وقتل بحديدة.
وفي هذا الحديث - أيضًا - لاحجة على وجوب القصاص على القاتل بكل مايقتل مثله ؛ كساقى السم، والخانق، ورامي الرجل من الجبل أو في البئر، أو الضارب بالخشبة والعصى، وتغريقه في الماء. وعلى هذا جمهور العلماء. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا قصاص على القاتل بمثل هذا إلا فيمن قتل بمجرد من حديد، أو بحجر محدد، أو خشب أو هو مجرد. فيقتل الناس بالخنق. قد خنق غير واحد والإلقاء في النار، واختلف عنه بها بمثقل الحديد كالدبابير والعمد.(6/299)
واختلفوا إذا قتل مالم تجر العادة بالقتل به قاصدا القتل كالعصى، واللطمة، والسوط، والبندقة، /والقضيب. فعند مالك: القود من هذا آكد، وعند غيره: أنه شبه العمد لاقود فيه، وإنما فيه الدية مغلظة، ومالك لايقول بثبه العمد في هذا إنما هو عمد أومنها. وبقول مالك قال الليث. قال أشهب: وإن يختلف في المجازاة في هذا. قال أبو عمر: ولم يوافق مالكًا - يعني من علماء الأنصار - عليه إلا الليث، وقد قال بقولهما جماعة من السلف من الصحابة والتابعين. وذهب جمهور فقهاء الأنصار إلى أن هذا كان شبه العمد إنما فيه الدية مغلظة، وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد لي إسحاق وأبي ثور، وقد ذكر عن مالك، وقاله ابن وهب من أصحابنا، وروى عن جماعة من الصحابة والتابعين، وإن اختلفوا في أسنان الإبل في المغلظة، وفيما كان شبه العمد من القتل بغير المحدد على مامضى بعضه. وفيه حجة على أن الإشارة البينة والإيماء يقوم مقام النطق والتصريح.
قال الإمام - رحمه الله -: وقوله: " على أوضاح ": هي حلى الفضة، قاله أبو عبيد، وقد ذكر في الحديث الآخر مكانه: " الحلى ".
قال القاضي - رحمه الله -: قيل: الأوضاح جمع وضح، وهي حلى من حجارة والرمق بقية الروح.
وقوله: قاتل يعلى بن منية أو ابن أمية رجلاً فعض أحدهما يد صاحبه، الحديث: كذا قال هذا، وذكر في الرواية الأخرى: أن أجيرا ليعلى بن أمية عض رجل ذراعه. وهذا هو المعروف أنه الأجير يعلى لا ليعلى.
وقوله: يعلى ابن منية أو أمية: منية بسكون النون وبعدها ياء باثنتين تحتها، هو يعلى بن أمية اسم أبيه، وأمه منية أو جدته. قال أبو الحسن الدارقطني: منية بنت الحارث هي جدة يعلى بن أمية أم أبيه، وبها يعرف، قاله الزبير بن بكار وأهل الحديث يقولون: إنها أمه، وإنها منية بنت غزوان. يعلى بن أمية أمه منية بنت جابر.(6/300)
قال القاضي - رحمه الله -: بعض أصحاب الحديث يقولون ابن منبه بفتح النون وباء بواحدة، وهو تصحيف وقرأت بخط أبي علي الجياني: كان ابن وضاح يقول: أمه منبه وأبوه منية، قال: ووهم في اسم الأب وإنما هو أمية. وقوله: انتزع يده من فمه فنزع ثنيته، فقال - عليه السلام -: " لادية له "، وفي الرواية الأخرى: " فأبطله "، وفي الأخرى:" فأهدر ثنيته "، وقال:« أردت أن تأكل لحمه ؟»، وفي الرواية الأخرى:" تأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل ؟ ادفع يدك حتى يعضها ثم انتزعها »، ليس معنى هذا الأمر: يدفع يده ليعضها، وإنما هو بمعنى الإنكار عليه، أي أنك لاتدع يدك في فيه يعضها فكيف تنكر عليه أن ينتزع يده من فيك وتطلبه به حتى بجذبه لذلك.
قال الإمام - رحمه الله - اختلف الناس في المعضوض إذا جذب يده فعسقطت أسنان العاض، فالمشهور عندنا أنه ضامن، وقال بعض أصحابنا: لاضمان عليه. وبالتضمن قال الشافعي، وبإسقاطه قال أبو حنيفة. وقال بعض المحققين من شيوخنا: إنما ضس من ضقن من أصحابنا لأنه يمكن النزع بالرفق حتى لايقلع أسنان العاض، فإذا زاد على ذلك صار متعديا في الزيادة فضقن، وحملوا الحديث على من لم يمكنه النزع إلا بذلك الذي أدى إلى سقوط الأسنان. وقال بعضهم: لعل أسنانه كانت متحركة فسقطت عقب النزع، وهذا التأويل بعيد عن ظاهر / الحديث.
وكذلك اختلف الناس - أيضًا - في الجمل إذا صال على رجل فدافع عن نفسه فقتله، هل يضقن أم لا ؟ وبنفى التضمين قلنا نحن والشافعي، وباثباته قال أبو حنيفة،والحجة لنفى التضمين أنه مامور بالدفع عن نفسه، ومن فعل ما أمر به لم يكن متعديا، ومن ليس متعديا فلا يضمن في مثل هذا، وقياسًا عليها لو قتل عبدا في مدافعته إياه عن نفسه. ومن أثبت الضمان رأى أنه أحيا نفسه بإتلاف مال غيره فاشبه من اضطر لطعام غيره فاكل منه خوف الموت فإنه يضمن.(6/301)
والفرق عندنا بين السؤالين: أن الاكل لطعام غيره ابتدأه من قبل نفسه ولاجناية من رب الطعام ولا من الطعام عليه، فلهذا ضمن. وفي الجمل لم تكن البداية فه بل سبب الجناية عليه، فلهذا لم يضمن. وأيضًا فإن الطعام ينوب غيره منابه في إحياء نفسه، فكان الضرورة فيه لاتحقق، فصار كأكل اختيارًا. ولا مندوحة له في الجمل، ولاتتفق مدافعة غير ذلك الجمل فلا تنجيه فتحققت الضرورة، فهذان فرقان بينهما.
ومن هذا المعنى سؤال ثالث وهو: لو رمى إنسان أحدا نظر إليه في بيته فأصاب عينه، فاختلف أصحابنا - أيضًا - في ذلك، فالأكثر منهم على إثبات الضمان، والأقل منهم على نفى الضمان. وبالأول قال أبو حنيفة، وبالثاني قال الشافعي، فأما نفي الضمان فلقوله - صلى الله عليه وسلم -:« لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن، فحذفته بحصاة ففقأت عينه،لم يكن عليك جناح ». وأما إثبات الضمان، فلأنه لو نظر إنسان إلى عورة إنسان آخر بغير إذنه لم يستبح بذلك ففقأ عينه، فالنظر إلى الإنسان في بيته لولا ألا يستباح به ذلك، ومجمل الحديث عندهم على أنه رماه ؛ لينبههم على أنه فطن له ليدفعه عن ذلك غير قاصد بفقء عينه فانفقأت عينه خطأ، فالجناح منتف، وهو الذي نفى في الحديث. وأما الدية فلا ذكر لها.(6/302)
قال القاضي - رحمه الله -: هذا الباب مما تتبعه الدارقطني على مسلم فذكر أولاً غير مسلم حديث شعبة عن قتادة، عن زرارة، عن عمرإن بن حصين، قال: قاتل يعلى. وذكر مثله عن محمد بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، ثم ذكر وجها آخر عن شعبة، عن قتادة، عن عطاء، عن ابن يعلى، عن يعلى. وحديث همام عن عطاء عن ابن يعلى، عن يعلى. وحديث ابن جريج عن عطاء، عن ابن يعلى، عن يعلى. ثم ذكر حديث معاذ ابن هشام عن أبيه، عن قتادة، عن ابن يعلى، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، وهذا اختلاف على عطاء. ذكر -أيضًا - حديث قريش بن أنس،عن إبن عوف بن سيرين، عن عمران. قال الدارقطني: انفرد به قريش عن ابن عوف بن سيرين، ولم يذكر فيه سماعا فه ولامن ابن سيرين من عمران ولم يخرج البخاري لابن سيرين عن عمران شيئًا.
وقوله:" إن أخت الربيع تقضمها كما يقضم الفحل "، أي: يعضها. والقضم بأطراف الأسنان، والأفصح الكسر في الماضي والفتح في المستقبل.(6/303)
وقوله:" إن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانًا "، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «القصاص القصاص كتاب الله القصاص »، وقوله:" أم الربيع لايقتص منها"، / المعروف أن الربيع هي صاحبة هذه القصة، وكذا جاء الحديت في البخاري من الروايات الصحيحة أنها الربيع ابنة النضر وأخت أنس بن النضر. وكذا في المصنفات وهو الصحيح، رواه القابس مثل رواية مسلم أو في كتاب الديات، وضرب الأصيلى على قوله: " أخت "، وجاء مفسرًا في غير الأم عند البخاري وغيره، وبين جرمها ؟ أنها لطمت جارية فكسرت ثنيتها. احتج بهذا الحديث من يرى القصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس. واتفقوا على القود بينهما في النفس، حاشى الحسن وعطاء فلم يريا القود بينهما في نفس ولاغيره لظاهر قوله:{ والأنثى بالأنثى }، وتأويل الجماعة أن الآية منسوخة بقوله:{ النفس بالنفس } مفسرة بها. ومخصوصة فيما كانت الجاهلية تفرق بين الأشراف وغيرهم، أو يتراجعون فيه من زيادة نصف الدية مع قتل المرأة على ما اختلف فيه المفسرون، وقد اختلف. احتج البخاري بحديث الربيع في هذا. والذي عندي أنه لاحجة فيه ؛ لأن حديث الربيع إنما كانت في كسر سن جارية.(6/304)
وقد خرَّج البخاري في هذا الحديث هكذا: فالأسنان المذكورة هنا هي تلك الجارية. وإنسان ينطلق على الذكر والأنثى، والقصاص في الجراح غير مختلف فيه، إلا ماكان منها مخوفا متلفا كالمتظلمة والمامومة والجائفة فلا قود فيها، وفيها الدية، واختلف هل مغلظة أم لا ؟ ومشهور مذهبنا أنها غير مغلظة. وأما السن فلا خلاف في القصاص إذا قلعها أو طرحها. واختلف في القصاص في كسرها وفي سائر عظام الجسد، فذهب مالك إلى القصاص في ذلك كله اعتمادا على حديث الربيع، إلا ماكان من ذلك مخوفًا متلفًا لعظم الفخذ والصلب. وذهب الكوفيون والشافعي والليث إلى أنه لاقود في كسر عظم ما خلا العين ؛ لعدم الثفة في المماثلة في القود كستر اللحم له. واتفقوا على أنه لاقصاص في عظام الرأس.
وقوله: " قالت أم الربيع: والله لايقتص منها "، وفي البخاري: أن قائل هذا هو أنس بن النضر وهو أخوها. ليس هذا اعتراض على حكم الله وحكم نبيه دل على طريق الرغبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى الأولياء والنقة بهم ألا يفعلون ذلك، وطريق الثقة بالله والتضرع إليه بالقسم به وإذا كان اللفظ ورد النبي - صلى الله عليه وسلم - أظهر في التأويل الأول.
وقوله:" فما زالت حتى قبلوا الدية " أيضًا يؤكده، وأنها كانت راغبة إليهم أو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا لعفو.
وقوله:« إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره »، يؤكده التأويل الثاني. وفيه صحة كرامات الأولياء.
وقوله:« لايحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزان، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة »، وقوله: " الثيب الزاني" إشارة إلى ما أجمع عليه المسلمون من الرجم وسياتى تفسيره.(6/305)
وقوله:" النفس بالنفس "، احتج به الكوفيون في تساوي النفوس، وجعلوها ناسخة لقوله تعالى:{ الحر بالحر والعبد بالعبد }، وقالوا: يقاد كل واحد من هؤلاء من الآخر. ومالك وغيره جعل الآية مفسرة لذلك، وأن معناها: أن نفس الأحرار متساوية وأنفس العبيد متساوية /، وأن العبيد يتكافؤون في دمائهم، وذكر أنهم كالأحرار. ولاقصاص مابين العبيد والأحرار في شيء هو قول الشافعي. وأهل الحجاز والليث بن سعد قالوا: ويقتل العبد بالحر، ولايقتل الحر به. قال الشافعي: ليس بين الحر والعبد قصاص إلا أن يشاء الحر، وهو غير ماتقدم. وقال أبو حنيفة: لاقصاص بينهم إلا بالنفس. وقال ابن أبي ليلى: القصاص بينهم في كل شيء.
قوله:« التارك لدينه المفارق للجماعة »، عام في كل مفارق للإسلام بأى ردة كانت بينة، وفي قوله: أ المفارق للجماعة ا حجة على قتل الخوارج وأهل البدع وغيرهم، وقتلهم إذا منعوا أنفسهم من إقامة الحق عليهم وقاتلوا على ذلك، وفي قتال أهل البغى وقتلهم وفي كل خارج على الجماعة، كان خروجه كفرا أو غيره. قال القابسى: يحتمل أن يكون خروجه خروجًا يترك به الجماعة أو يبغي عليها، فيقاتل على ذلك حتى يفىء إلى دينه وإلى الجماعة، وليس بكافر. ويمكن أن يكون خروجه كفرا أو ردة.(6/306)
وقوله:« لاتقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن ادم الأول كفل من دمها ؛ لأنه أول من سن القتل »، قال الإمام - رحمه الله -: الكفل، بكسر الكاف: الجزاء والنصيمب، ومنه قوله تعالى:{ يكن له كفل منها }، وهذا أصل في أن المعونة على مالا يحل لاتحل، قال الله تعالى:{ ولا تعاونوا على الاثم والعدوان }، وقد جعل الدال على الخير كفاعله، وهكذا الدال على الشر كفاعله. ولعل القتل إنما كان عند الشافعي على جهة التعليم إذا أخذه واحد عن واحد عن آخر حتى ينتهي إلى ابن آدم الأول، وهكذا التعليم في البدع والضلالات، ويكون على معلمها الأول كفل منها. وهكذا على قياسه يكون للمعلم الأول للهدى والحقائق نصيب من الأجر.
قال القاضي - رحمه الله -: هذا كله قد أبانه - عليه السلام - بقوله:« من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها »، وورد:« من عمل بها إلى يوم القيامة ». وأما الكفل، فقيل فيه ماقال ألإمام. وقال الخليل: الكفل من الأجر، والإثم: الضعف.?
قوله:« أول مايقضى على الناس يوم القيامة في الدماء »، هذا ظاهر في تغليظ أمر الدماء، وليس هذا الحديث معارض للحديث الآخر:« أول ماينظر فيه من عمل العبد الصلاة »، فهذا في خاصة أعمال العبد لنفسه وذلك فيما بينه وبين غيره.(6/307)
وقوله - عليه السلام -:« إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات » الحديث، قال الإمام - رحمه الله -: تأويل قوله:« إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض »، لأنهم كانوا تمسكوا بملة إبراهيم - عليه السلام - في تحريم الأشهر الحرم، وكانوا ينسبون الشهر الحرام إلى الذي يليه إذا احتاجوا إلى القتال فيه، وينتقلون هكذا من شهر إلى آخر حتى اختلط الأمر عليهم، فصادفت حجة النبي ظئ تحريمهم، فلو طابق الشرع وكانت في تلك السنة حرموا ذا الحجة بالاتفاق على الحساب / الذي قلناه، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الاستدارة صادفت حكم الله - سبحانه - يوم خلق الله السموات والأرض.
وقيل: كانت العرب تحج عامين في ذى القعدة وعامين في ذى الحجة، فصادفت حجة أبي بكر ذا القعدة من السنة الثانية وصادفت حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا الحجة ؛ فلهذا أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستدارة. وذكر أبو عبيد أنهم كانوا ينسئون - أي يؤخرون - وهو الذي قال الله - سبحانه وتعالى -:{ إنما النسيء زيادة في الكفر }، فربما احتاجوا إلى الحرب في المحرم فيؤخرون تحريمه لصفر، ثم يحتاجون تأخير صفر إلى ربيع، هكذا شهرًا بعد شهر. فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ماقال. قال: وزعم بعض الناس أنهم كانوا يستحلون المحرم عاما ويردونه في قابل إلى تحريمه. قال: والتفسير الأول أحب إلى لأنه ليس في هذا استدارة.(6/308)
قال الإمام - رحمه الله -: وقد وقفت للخوارزمي على تأويل لهذا الحديث، غره فيه ماقد سبق إليه من علم التنجيم، فقال: إن الله - سبحانه وتعالى - أول ماخلق الشمس أجراها في أول برج الحمل، وكان الزمان الذي أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - صادف حلول الشمس الحمل. ولما وقفت على قوله هذا دعا ذلك لتعديل هذا اليوم، فعدل لاختبار ماقال، فلم يوجد كما زعم، ووجدت الشمس يوم التاسع من ذى الحجة سنة عشر قد قطعت من برج الحرت نحو عشرين درجة، لكن أظنها كانت في مثل هذا اليوم سنة تع في أول الحمل، وأراه من هذه الجهة غلط، لو كان الأصل الذي ذهب إليه، لكنه لم يقله أحد من علماء الشرع.
قال القاضي - رحمه الله -: نظرت فيما قالاه على تعين ترك النظر فيه ووجوب طرحه لكن لما جاء من خطأ به فوجدت قول الشيخ: التاسع من ذى الحجة سنة عشر وهما بينا؛ لأن الخطبة إنما كانت يوم النحر، اليوم العاشر، كما نص في الحديث وعلى الوجهين، فيكرن ماقاله الخوارزمي خطأ، لأنه يتبقى لقطع الشمس من برج الحوت وانتقالها إلى برج الحمل نحو عشر درجات، تقطعها في عشرة أيام على ماحكوه عن أهل المعرفة بالحساب ؟ أنها إنما تقطع كل برشغ في ثلاثين يومًا. ولمالك بن أنس وغيره من أئمة الهدى على هذا الباب لمعرفة الأوقات كلام على هذا إلا أن مالكًا قال في ثلاثين يومًا وثلث يوم وفي استدارة الزمان للغرب وجه هو معنى الحديث إن شاء الله، هو ما قاله إياس بن معاوية، وذلك أن المشركين كانوا يحسبون السنة اثنى عشر شهرًا وخمسة عشر يومًا، فكان الحج يكون في رمضان وفي ذى القعدة وفي كل شهر من السنة بحكم استدارة الشهور لزيادة الخمسة عشر يومًا، فحج أبو بكر- رضي الله عنه - سنة تع من ذى القعدة بحكم الاستدارة، ولم يحج النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلما كان في العام ألمقبل وافق الحج ذا الحجة في العشر، ووافق ذلك الأهلة، وقد روى أن أبا بكر - رضي الله عنه -إنما حج في ذى الحجة /.(6/309)
وروي عن ابن عباس معنى آخر قال: كانوا إذا كانت السنة التي ينسئ فيها قام خطيبهم بفناء الكعبة، وقد اجتمع إليه الناس يوم الصدر فقال:" أيها الناس،?إنى قد نسات العام صفر الأول - يعني المحرم - فيطرحون من الشهور ولا يعتدون به ويبتدئون العدة فيقولون لصفر وشهر ربيع: صفران، ولربيع الآخر ولجمادى: شهر الربيع، ولجمادى الأخرى ورجب: جماديان، ولشعبان: رجب،ولرمضان: شعبان، هكذا إلى محرم فيسمونه ذا الحجة، فيحجون فيه تلك السنة في المحرم، ويبطلون من هذه السنة شهرًا يحجون في كل سنة في شهبر حجتين،ثم ينسى في السنة الثانية صفر الأول في عدتهم وهو الآخر في العدة المستقيمة، حتى يكرن حجهم في صفر حجتين، كذلك الشهور كلها حتى يستدير الحج في كل أربع وعشرين سنة إلى المحرم، الشهر الذي ابتدؤوا فيه النسىء.
وعن ابن الزبير نحو هذا، إلا أنه قال: يفعلون ذلك في كل ثلاث سنين يزيدون شهرًا قبل، وكانوا يقصدون بذلك موافقة شهور العجم لشهور الأهلة، حتى تاتى الأزمان وأحدة، قال: ووجدنا أيام شهور العجم في السنة ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا، ووجدنا شهور الأهلة ثلاثمائة وأربعة وخمسين يومًا، وبيننا وبينهم أحد عشر يومًا في العام، فزادوا شهرًا في كل سنة ثالثة حتى يستقيم. وتأتى أسماء شهورهم موافقة لمعانيها لاتختلف أوقاتها كشهور العجم، فكأن رمضان يأتي أبدًا في الحر والرمضاء، وبه سمى والربيع في زمان ابتداء من المطر ونبات الربيع، على مذهبهم أن زمان الربيع هو الخريف عندهم، وجمادى في شهور البرد وجمود الماء لذلك، قال الشاعر:
في ليلة من جمادى ذات أندية(6/310)
فلولا أنها كذلك أبدًا عندهم لا يختلف حال ليالي جمادى لما حسن هذا الكلام ولاصح، كما لايصح لأحد منا أن يقوله اليوم، فعلى هذا يستقيم لفظ الحديث ويتوجه معنأه، ولنفهم المراد بقوله - عليه السلام -: " اثنى عشر شهرًا "، وعلى حكمهم في النسيء في تحريم شهر وتحليل آخر لايختلف عدد الشهور، وإنما يختلف فيها الشهور للتحريم والتحليل، وقيل: لما وافق حج النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا الحجة قال:« إن الزمان قد استدار كهيئتة يوم خلق الله السموات والأرض»، إنى قد ثبت الحج في ذى الحجة وثبت التحريم فيه قوعه أيضًا موقعه.
وقوله:" ورجب مضر "، قال الإمام - رحمه الله -: قيل: إن ربيعة كانت تجعل رجبًا رمضان ومضر تبقيه على حاله، فلذلك أضافه إليهم، وقيل لأنهم كانوا يعظمونه أكثر من غيرهم، وأكثر ذلك بقوله:« الذي بين جمادى وشعبان »، وزيادة في البيان وتحرزا من تنقله بالسنين حتى كان يسمى باسمه غيره.
قال القاضي - رحمة الله -: وقيل: كانت العرب تسمى رجبًا وشعبان الرجبين، وقيل: بل كانت تسمى جمادى ورجب جمادين، وتسمى شهر شعبان رجبًا، فلذلك خص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجبًا بعينه. وقوله: ثم قال: «أي بلد هذا ؟ ثم أليس البلدة » يعني مكة، وعرفها للعهد / والتخصيص والتعظيم، / وهذا مثل قوله تعالى:{ إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة }، وقيل: هو اسم لمكة، وقيل: اسم لمنى.
وقوله - عليه السلام - لهم وسكوته بأنه كان سؤال على طريق التقرير والاستنصات.(6/311)
وقوله: " الله ورسوله أعلم " صرف للجواب إليه ؛ لعلمهم أنه لم يجهل ماسال عنه، ولاطلب منهم جوابه بالحقيقة، بل تقريرهم كما يورده عليهم، أو لما ذكروه أنهم ظنوا أنهم لما سألهم عنه إنما ذلك لما لم يعلموه ليسمى لهم ماسألهم عنه بغير اسمه، لا يراد عجبا ذلك، كما سمى المدينة طابة، وسمى العتمة العشاء، وغير ذلك. وقوله:« فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، في شهركم هذا » كل هذا تأكيد لحرمة الدماء والأموال والأعراض، وتحريم لمظالم العباد، كتأكيد حرمة يوم النحر من شهر الحج في حرم مكة.
وقوله:« أي يوم تلقون ربكم ؟» دليل على أن تحريم مكة وذى الحجة وتعظيمها وتعظيم يوم النحر تحريم الأعراض والأموال والدماء إلى الأبد،?وأنه لا رخصة في شيء من ذلك.
وقوله:« لا ترجعوا بعدي كفارًا أو ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض» تقدم الكلام عليه، وأنه لاحجة فيه لمن يكفر بالمعاصي، وأن معناه كفر دون كفر، وكفر نعمة وشكرًا من لايكفر دين وردة، وقيل: كفر فعل مما تقدم لكم من ألبجان والتص ديق والإيمان. قيل: هذا الكلام من تحريم دمائكم. وقجل: كفار متكفرين في السلاح للقتال، قد يكون ذلك فجس ارتدوا في الخوارج على القول بتكفيرهم، وتكفير أهل البدع. فقوله:« ألا ليبلغ الشاهد الغائب » حجة في لزوم إبلاغ العلم ونشره.(6/312)
قوله:« فلعل بعض من لم يبلغه أوعى له من بعض من سمعه»، حجة في جواز الحديث عن الشيوخ ومن لاعلم عنده ولافتى، إذا ضبط مايحدث به. وفي كلامه هذا وهو على بعيره حجة لاتخاذ المنابر للخطب ؛ لأن ألمقصود ارتفاع الخطيب على جماعة الناس ليستمعوا كلامه، ولايخفى عليهم خطبته بقوله:" ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما وإلى جزيعة من الغنم فقسمها بيننا "، هكذا هي " خزيعة " بالزاي عند كافة الرواة، وكان عند شيخنا أبي محمد الخشني وبعضهم: " خديعة " وأراها رواية ابن ماهان - أيضًا - بالذال، وهو وهم، والصواب الأول، أي قطعة من. الغنم.
قال الإمام - رحمه الله -: وقوله: " ثم انكفأ "، الانكفاء: الانقلاب، يقال: انكفا إلى كذا، أي انقلب إليه ومال نحوه. وانكفأ لونه، أي تغير وزال عن حاله، ومال إلى حالة أخرى. قال الكسائي: الأملح هو الذي فيه بياض وسواد والبياض أكثر.
قال القاضي - رحمه الله -: قال الدارقطني: قوله:" ثم انكفا " إلى آخر الحديث، وهم من ابن عون فيما قيل، وإنما رواه ابن سيرين عن أنس.
قال القاضي - رحمه الله -: وقد خرج البخاري هذا الحديث عن ابن عون، فلم يذكر فيه هذا الكلام، ولعله تركه عن عمد. وقد رواه أبو قرة عن ابن سيرين في ملم في الباب، فلم يذكر فيه هذه الزيادة، إنما هي في حديث آخر في خطبة عيد الأضحى، فوهم فيهما الراوي وضمها إلى خطبة الحج، أو هما حديثان، ضم بعضهما إلى بعض. وقد ذكر مسلم ذلك في كتاب الضحايا بعد هذا من حديث أيوب وهشام عن ابن سيرين، عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ثم خطب، فامر من كان ذبح قبل الصلاة أن يعيد، ثم قال آخر الحديث:" وانكفأ رسول الله إلى كبشين أملحين فذبحهما، فقام الناس إلى غيمة فتوزعرها"، فهذا هو الصحيح ورافع للإشكال، ويصحح - أيضًا - أن اللفظ الذي هنا:" خزيعة " بالزاي لقوله هنا: "غنيمة ".(6/313)
قالوا: وفي هذا الحديث دليل أن يوم الحج اكبر هو يوم النحر لتعظيم أمره في هذه الخطبة، وهو قول على وابن عمر ومالك في آخرين. واختلف فيه عن ابن عباس، وروى عن عمر وابن الزبير في آخرين:أن يوم الفتح الأكبر الحج الأكبر يوم عرفة، وصحة القول الأول ماتقدم من تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - له ؛ ولأن في يومه وليلته معظم أعمال الحج. وقوله ذلك قوله في البخاري في بعض روايات هذا الحديث:« أي يوم تعلمونه أعظم حرمة ؟» قالوا: يومنا هذا.
قوله في الذي جاء يقود آخر بنسعة، فقال:" هذا قتل أخي". النسعة: ماضفر من الأديم كالحبال، فإذأ فتل ولم تضفر فليس بنسعة. فيه العنف على الجناة وتثقيفهم رأخذ الناس لهم حتى يحضروا بين يدى الولاة، إذ لو لم يجه كل للناس هذا لفروا وفاتوا، فليد الناس في أخذهم سلطان عليهم ؛ لأنه من المعاونة لأولياء القتيل والمجني عليه، ومن نصرة المظلوم، وتغيير المنكر. وقد أمر الله - سبحانه - بذلك كله.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له:« أقتلته ؟» فقال: إنه لولم يعترف أقمت عليه البينة: فيه ترتيب القضاء في الاستقرارات أولاً للمدعي عليه قبل تكليف الطالب البينة، لعل المطلوب يقر فيكفي عن التعب في إحضار البينة، وليكون الحكم أجلى باليقين باعتراف منه بغلبة الظن بالبينة، وفيه سؤال الحاكم ولي القتيل العفو عن الجاني بعد بلوغ الإمام، وجواز أخذ الدية في العمد.(6/314)
وقول القاتل:" نعم قتلته ". قال:« كيف قتلته ؟» قال: كنت أنا وهو نختبط من شجرة فسبني فأغضبني فضربته "، قالوا: ينبني على قوله: " فقتلته" معنى " يختبط " أي: يجمع الخبط وهو ورق السمر، وهو خبط شجرة بالعظم ليسقط ورقها فيجمع، ويعلفه الإبل والماشية. وقرن الرأس: جانبه. فيه تقرير المسجون والمحبوس، وأن اعترافه لازم له. وقال: اختلف العلماء في ذلك. واضطرب المذهب عندنا في إقراره بعد الحبس والتهديد، هل يقبل حمله أو لا يقبل حمله والفرق، فيقبل إذا عنى ما اعترف به من قتل أو سرقة، ولايقبل إذا لم يبين.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له:« هل لك من شيء تؤديه ؟» فيه الترغيب في العفو وأخذ الدية كما فعل في غير نازلة، فلما لم يكن عنده ولا رجى ذلك من قومه دفعه إلى ولي المقتول، وهو قوله في الحديث:" فرمى إليه بنسعته وقال: « دونك صاحبك »".
وقوله: فلما ولى به قال:« إن قتله هو مثله »، وقول الرجل: يارسول الله ! قلت لي إن قتله فهو مثله وأخذته بأمره، فقال:« أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك ؟» قال: يانبى الله ! لعله قال: بلى. قال:« فإن ذلك كذلك »، قال: فرمى بنسعته وخلى سبيله. وفي الرواية الأخرى: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أدبر به:« القاتل والمقتول في النار »، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله أن يعفو عنه، قال الإمام - رحمه الله -: أما قوله - عليه السلام -:« إن قتله فهو مثله »، فإن أمثل ماقيل فيه: أنهما استويا بانتفاء التباعد عن القاتل بالقصاص.(6/315)
وأما قوله - عليه السلام -:« أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك »، فيمكن أن يريد أنه يتحمل إثم المقتول أو إثم أخيه ولى الدم لا على جنايته عليهما بقتل هذا أو فجعة هذا باخيه، ويكون هذا قد أوحى إليه به في هذا الرجل /، ويمكن أن يريد أنه باء بإثم القتيل، وأضافه إليهما وإن كان في الحقهيقة هو أثم بالقاتل لابهما ؛ لأنهما كالشيئين في تأثيمه لما أدخله عليهما من المصائب، وفي الكتاب العزيز:{ إن رسولكم الذي أرسل إليكم }، فجعله رسولاً لهم لاختصاصهم به وهو في الحقيقة رسول الله.
وفي كتاب أبي داود:« أرسله فتبوء بإثم صاحبه وإثمه »، وفي بعض طرقه:« أما إنك إن عفوت عنه فإنه يبوء بإثمه وإثم صاحبك »، فقيل: المراد في أخيه الإثمين، ماعلى القاتل من الآثام من غير قتل، فكأنه مطالب بها مع الإثم الثاني الذي هو إثم القتل، ولو قتل لكفرت عنه الآثام. وقد ذكر أبو داود أن القاتل ذكر ما أراد قتله، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:« إن كان صادقًا فقتلته دخلت النار »، وهذا يشير إلى أن المراد بقوله: " فهو مثله " أن القصاص يكون ظلمًا وعدوانًا إذا علم الولي صدقه، ولكن لايصح هذا التأويل مع الاقتصار على مجرد قوله:« إن قتله فهو مثله ».(6/316)
قال القاضي - رحمه الله -: وقيل:" هو مثله " أي قاتل كما ذلك قاتل، وإن اختلفا في الجواز والمنع، لكنهما استويا في طاقة الغضب وشفاء النفس لاسيما مع رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - له في العفو على ماجاء في الحديث. وأما في غير مسلم، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رغب له في العفو في أخذ الدية أربع مرات كلها يأباه، ويحتمل قوله - عليه السلام -:« القاتل والمقتول في النار » أمر آخر، علمهم - عليه السلام - من حال الولي لامن أجل قصاصه هذا، أو يكون استحق هذا القاتل لعصيانه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أمره به من العفو مرة بعد أخرى، وقيل: إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« القاتل والمقتول في النار » ليس مراده في هذين، وكيف يصح وهو أقاد منه وأباح له قتله ؛ لكن أورده - عليه السلام - في البغاة، ومقاتلي العصبة كقوله:« إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار »، فلما سمع الولي هذا لم يفهم معناه وتورع لعمومه. وهذا التأويل بعيد من ألفاظ الحديث وإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له على تركه وهو موضع البيان.
وقد يكون معنى قوله:« تبوء بإثمك وإثم صاحبك »، أي: عفوك عنه يكفر الذنب الذي استوجب به هذا الولي النار، إن كان عنده أنه من أهلها لمعنى آخر كما تقدم، أو يبقى عليه ماكسب من ذنوب لمشيئة ربه. وفيه دليل أن قتل القصاص لايكفر ذنب القاتل بالكلية وإن كفر مابينه وبين الله تعالى،كما جاء في الحديث الآخر:« فهو كفارة له، وبقى حق المقتول »، وسيأتى من هذا في كتاب القصاص.
وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في أخذ الدية من قاتل العمد، فذهب جماعة إلى إجبار القاتل عليها إرث للولي، وهو مذهب الليث والأوزاعي، واحدى الروايتين عن مالك، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وروي عن ابن المسيب وعطاء والحسن. وقيل: ألا يكون ذلك إلا برضاهما معا، وهي الرواية الأخرى عن مالك، وبه قال الكوفيون.(6/317)
وقوله: " إن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها، فقضى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بغرة: عبد أو أمة "، الرواية فيه:" بغرة " بالتنوين، ومابعده بدل منه. وبعضهم يرويه بالإضافة / وله أولاً وجه واضح.
قال الإمام - رحمه الله -: تقدم الكلام على وجه المستوفي دية الأجنة، الذكر والأنثى، وأن ذلك قطع للخصام لأنه مما يخفى فيكثر فيه الشارع. وقد قال بعض الناس: إن العبد الذي يقضي به لذكره الغرة، وديته عندنا عشر دية أمه، وقيمة الغرة عندنا مقدرة بعشر دية الأم، وتورث على فرائض الله - سبحانه - وقد قيل: إن ذلك كعضو من أعضائها فإذا قضى بالدية أخذتها الأم وحدها، كما تاخذ دية سائر أعضائها، وقيل: ليس ذلك كعضو من أعضائها فلا تنفرد بديته بل يشاركها الأب.
قال القاضي - رحمه الله -: فسر الغرة هنا في الحديث أنها عبد أو أمة، وعلى التفسير حمله مالك وغيره على الشك. وقيل: الغرة تطلق على الإنسان كان ذكرا أو أنثى. قال ابن فارس: غرة كل شيء أكرمه وأنفسه. وقال أبو عمر: معناها: الأبيض، ولذلك سميت غرة فلا يوجد فيها أسود. قال: ولولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد بالغرة معنى لايدل على شخص لعبد ولا أمة لما ذكرها، وقيل: أراد بالغرة الخيار، والوسط من الأعلى يجزئ، وليس الوسط من جملة العبيد. ومقتضى مذهبنا أنه يخير بين إعطاء غرة أو عشر دية الأم من كسبهم إذا كانوا أهل ذمة فخمسون دينارًا، أو أول ورق فستمائة درهم وخمس فرائض من الإبل، وقيل: لا يعطى من الإبل. وعلى هذا في قيمة الغرة جمهور العلماء، وخالف الثوري وأبو حنيفة فقالا: قيمة الغرة خمسمانة درهم ؛ لأن ديتها عندهم من الدراهم خمسمائة درهم. وحجة الجماعة قضاء الصحابة في ذلك مما قالوه، ويشذ بعض السلف منهم طاوس وعطاء ومجاهد فقالوا: غرة عبد ووليدة أو فرس. وقال بعضهم: أو بغل، ورفعوا في ذلك بنصه حديثًا. وقال داود وأصحابه: كل ما وقع عليه اسم غرة يجزئ.(6/318)
وقوله:" فطرحت جنينها "، وفي الحديث الآخر: " ميتًا " ولم يختلف أن هذا حكم الجنين إذا زايل أمه ولم يستهل كما خلقه وتصويره، مضغة كان أو علقة أم لا، سواء كان ذكرًا كان أم أنثى، وهو قول أبي حنيفة. وقال الشافعي: حتى يتبين شيء من خلقه وتصويره، وإن قل: فإذا زايل أمه واستهل ومات ففيه الدية كاملة في الخطأ، والدية في العمد بعد القسامة. وقيل: فيها الدية بغير قسامة، وهو قول لأبي حنيفة. وعندنا في ذلك الوجهان.
واختلف فيه إذا لم يستهل صارخًا، وكان منه مادل على الحياة من طول حركة إقامته أو حركة أو عطاس أو رضاع اختلافًا كثيرًا عندنا وعند غيرنا، وكذلك اختلف إذا خرج بعد موت أمه، هل فيه غرة ؟ وهو قول ربيعة والليث والزهرى وأشهب وداود، أم لاغرة فيه ؟ وهو قول مالك والشافعي وعامة العلماء. واختلف قول مالك في الغرة في الباب كله، هل هي على العاقلة ؟ وهو قول الكوفيين والشافعي، أم على الجاني ؟ وهو المشهور من قول مالك، ومثله البصريون. واختلفوا هل على الضارب مع الغرة كفارة أم لا ؟ فمالك يلزمه الكفارة.
قال الإمام - رحمه الله -: وقوله:" قضى بميراث المرأة لبنيها وزوجها وجعل العقل على عصبتها "، استدل به من يرى أن الابن لايعقل عن أمه، وهي مسألة اختلاف.
قال القاضي - رحمه الله - قوله:" ثم إن المرأه التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها "، في هذا أ الكلام تلفيق / والحديث الآخر بينه ؛ لأن قوله: " المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت " ظاهره أنها الجانية، وإنما هي المجنى عليها أم الجنين، لقوله في الحديث للآخر: " فقتلتها ومافى بطنها " نفى التي قضى عليها بها أو فيها، هذه الحروف تبدل من بعضها من بعض، كما قالوا: بارك الله فيك، وبارك الله عليك.(6/319)
والهاء في قوله: " والعقل على عصبتها " يعني هنا القاتلة، كما قالى في الحديث الآخر: " فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية المقتول على عصبة القاتلة "، قد يحتج بهذا لأحد القولين: في أن الغرة على القاتلة، وهو بين في الحديث الآخر وهو قوله: " فقض فيها منه بغرة، وجعله على عاقلة المرأة "، وقد يحتمل رجوع إلهاء في " عصبتها " على المقتولة؛ لأن عصبتها كانت عصبة القاتلة سواء، إذ قال في الحديث:" امرأتين من هذيل ".
وقال أبو القاسم بن أبي صفرة: إذا كانت الضربة واحدة فعلى العاقلة دية المرأة والغرة. قال الأصيلي: وإنما أوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - العقل على عصبتها وهي متعمدة والعاقلة لاتحمل عمدًا ؛ لأن أولياءها تطوعوا بالدية، قالوا: ماتطوعوا به إذا قبله الآخرون، وقال غيره: يحتمل أنها لم تقصد قتلها، وقد يكون من شبه العمد الذي فيه الدية عند بعضهم.
وقول من استدل أن الابن لا يدخل في العصبة من هذا الحديث ذهول بعيد عن ألصواب ؛ لأنه إن كانت الهاء عائدة على القاتلة فكيف يستدل على ماماقال من ذكر ابن المقتولة، وإن كانت الهاء عائدة على المقتولة فابنها داخل في عصبتها إن كان ابنًا لزوجها حمل بن النابغه ؛ لأنه من هذيل أيضًا، وقد ذكر زوجها فيمن يرثها مع إلابن، وهو ممن عليه الدية لأنه من عصبتها، ألا تراه كيف قال:" كيف تودى من لا أكل ولا شرب ؟"، وإنما لايكون على الزوج والابن شيء إذا لم يكن من عصبتها، وهو قول كافة العلماء.(6/320)
وقوله: " وقضى بدية المرأة على عاقلتها "، احتج به من لايرى القصاص في القتل بغير المحدد، ويجعله شبه العمد وقد تقدم الكلام فيه. والجواب عن الاستدلال بهذا الحديث أنه قد روى ابن جريج في هذا الحديث:أنه قضى في جنينها بغرة وأن تقتل المرأة. فهذا يعارض حجتهم مع أن رواية مالك والليث وغيرهما ليس فيه ذكر موت المرأة ولاديتها، وقيل: قد يحتمل أن أولياء المقتولة قبلوا الدية. لكن يعارض هذا قوله: " فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدية على عاقنتها "، وقد يحتمل أن الأولياء تطوعوا بالدية فألزموا بها أو عفا علهيها أولياء الدم.
وقول حمل بن النابغة: " كيف أغرم من لاشرب ولا أكل ولانطق ولا استهل ؟ ": يدل أن الغرة فيس لم يستهل ولاعرفت حياته.
وقوله: " فمثل ذلك يطل، كذا رويناه هنا عن جمهورهم بالباء بواحدة، وعند ابن أبي جعفر بالياء باثنتين مضمومة، وروى عن مالك في "الموطأ" بالوجهين.
قال الإمام - رحمه الله -: فمن رواه بالباء من البطلان ومن رواه بالياء المعجمة باثنتين تحتها من قوله: طيل دمه، أي هدر.
وأما قوله - عليه السلام -: " أسجع كسجع الأعراب ؟» وفي الروايه الأخرى: «إنما هذا من إخوان الكهان »، قال الإمام - رحمه الله -: إنما ذمه لأن هذا السجع في مقابلة حكم الله كالمستبعد له /، ولاشك أنه كل ماعورضت به النبوة مذموم إذا كان القصد به برد الحكم لي الا قوله سجع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواضع.
قال القاضي - رحمه الله - وقيل: بل يكون عليه تكلف لاسجاع على طريق الكهان وحواشي العرب، وسن سجع فصحاء العرب، وبعضها كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسجعه من هذا النوع منه. وحمل هذا كان بدويًّا وأعرابيًّا.(6/321)
وفي قول حمل بن النابغة: " كيف أغرم من لاشرب ولا أكل ؟ ": حجة لليث ولربيعة أن الغرة للأم خاصة ولو كانت على الفرائض - على مشهور قول مالك وأصحابه وأبي حنيفة والشافعي - لكان للأب فيها أوفر نصيب، وللأب، وابنه على مذهب ابن هذيل وأحد قولي مالك: لكان للأب الثلثان، فلما كان هنا غارمًا محضًا دل أنه لم يكن له في ذلك حق.
وقوله:" كيف أغرم "، حجة لأحد القولين منها على العاقلة لأنه عصبة العاقلة وزوجها. وقوله فيه:" حمل بن النابغة " في حديث، و " حمل بن مالك " في آخر، هو حمل بن مالك بن النابغة بهاء مهملة مفتوحة.
وقوله:" امرأة من هذيل "، وفي الحديث الآخر:" وأحدهما وإحداهما لحيانية "، يقال بفتح اللام وكسرها. ولحيان قبيل من هذيل، وهو حيان بن هذيل.
وقوله:" ضرتها "، أي شريكتها، وسميت بذلك للمضارة التي تلحق إحداهما من أجل الأخرى.
وقوله:" استشار عمر - رضى الله تعالى عنه - الناس في ملاص المرأة "، قال الإمام - رحمه الله -: ملاصها بالجنين: هو أن تزلقه قبل وقت الولادة، وكل مازلق من يد فقد ملص يملص ملصًا. وقال أبو العباس: ومنه حديث الدجال: " فأملصت به أمه " أي أزلقته. يقال: أملصت وأزلقت وأسهلت به وحطأت به بمعنى واحد.
قال القاضي - رحمه الله -: الرواية عندنا في هذا ألحرف في مسلم:" في ملاص المرأة ظ" هكذا، ووقع في سائر النسخ، إلا أنه كان وقع في كتاب أبي بحر:" إملاص " مصلحًا غير رواية، ورأيت أبا عبد الله بن أبي بشر الحميدي في "جمع الصحيحين" له قد ذكره:" ملاص " على الصواب، لكنه قد جاء: أملص الشيء وملص: إذا أفلت، فإن أريد به جنين صح ملاص، مثل: لزم لزامًا. وفي سند هذا الحديث: ناوكيع عن هشام بن عروة عن أبيه، عن مسور بن مخرمة، قال: استشار عمر الناس - الحديث.(6/322)
قال الدارقطني: وهم وكيع في هذا الحديث، وخالفه أصحاب هشام فلم يذكروا فيه " المسور " وهو الصواب، ولم يخرج مسلم غير حديث وكيع، وخرج البخاري في حديث من خالفه فاتى بالصواب.
وقد احتج بهذا الحديث من لم ير الكفارة في قتل الجنين، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة. قلت: مالكًا يستحبها، وأوجبها الشافعي، وروى عن جماعة من البصريين والكوفيين. واختلفوا في جنين الأمة، فمذهب مالك والشافعي: أن فيه عشر قيمة أمة قياسًا على الحرة، ذكرًا كان أو أنثى، وقال كذلك الحسن. وقال أبو حنيفة: فيه عشر قيمته لو كان حيًّا إذا كان أنثى، وأما إذا كان غلاما فنصف عشر قيمته لوكان حيًّا، هكذا بالتفريق يقول أبي جببفة، وكذلك في جنين الحرة إذا كان ذكرًا فنصف عشر ديته، وإن كان أنثى فعشر ديته.
كتاب الحدود
السرقة(6/323)
قوله - عليه السلام -:" يقطع السارق في ربع دينار فصاعدًا "، وفي الحديث الآخر: « لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فما فوقه »، وفي الآخر:" يقطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم "، وفي طريق آخر:« لعن الله السارق يسرق البيضة، فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده »، وفي الأخرى:" لم تقطع يد السارق في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في آقل من ثمن المجن حجفةٍ أو ترس وكلاهما ذو ثمن "، قال القاضي - رحمه الله -: صان الله تعالى الأموال بحد القطع في السرقة في أول حدود ماله من المال وأن يجعل ذلك في غير السرقة والزنا والاغتصاب ؛ لأن ذلك في الأقل من أهل القدرة في الأكثر، لأن ماكان مجاهرة فاسترجاعه ممكن بالعلم مترفر فيه السرقة مستشرى قلما يتوصل بالاطلاع عليها، وإقامة الشهادة فيها فعظم فيها، واتسعت العقوبة فيها لشدائد الزجر عنها، وتجرد التوصل إلى معرفة ما اشتهر به منها، ولم يجعل تقدير ديته حيث يفصل العضو المقطوع فيه حماية للعضو أيضًا، وصيانة له، فمعظم ديته تعظيم المتحقق من ذلك بخلاف قطع السارق، وإن اختلفوا في تفضيله من صفات السارق والمسروق، فالمسروق منه المسروق فيه وهو الحول وفي ذلك فيمن وجب عليه القطع قطع يمينه.
قال الإمام: ورد القران أن يقطع السارق وهو أخذ المال على جهة الاستسراء، وشرع ذلك صيانة للمال. وبنظر ها هنا في جنس المسروق وقدره وموضعه وسارقه.
فأما جنس المسروق، فكل ما يتملك وينتفع به ويحرز،?ففيه القطع، فإن كان مما يحرز ولا يملك كالجر الصغير ففيه خلاف، إن كان مما لا يبقى كالفواكه الرطبة فيقطع عندنا خلافًا لأبي حنيفة.(6/324)
وأما مبلغه، فاختلف الناس فيه، فمنهم من يقطع في القليل والكثير وهو مذهب أهل الظاهر لعموم الآية ولم يخصها بالأخبار. ومن الناس من قدّر مبلغ القطع بالدرهمين، ومنهم من قدر بالثلاثة، ومنهم من قدره بالخمسة، وقال: لا تقطع الخمس إلا في الخمس، ومنهم من قدره بعشرة دراهم، لما روي في بعض الطرق:" أن المجن كان ثمنه عشر دراهم على عهد النبي - عليه السلام -.
وأما قوله:« لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده »، فمن الناس من يتأوله على بيض الحديد، ويروى أنها تساوي ثلاثة دراهم، ومنهم من يحمله على قصد المبالغة والتبيه على عظيم ما خسر وهي يده، وحقير ما حصل مثل البيضة والحبل. وأراد جنس البيض وجنس الحبال.
وأما موضع السرقة، فالحرز معتبر. وقد اضطربت الروايات في الحرز اضطرابًا كثيرًا، والنكتة فيه أن كل ماكان حرزًا في العادة، وقصد إلى التحرز به ففيه يجب والاختلاف إلى هذا يرجع، فطائفة تقدر حصول هذا الوصف في الشيء فتقطع، وطائفة أخرى تراه لم يحصل فلا تقطع.
وأما السارق، فألا تكون له شبهة في المال كالأب ومن في معناه. هذه عقود هذا الباب، وفروعه تتسع.
قال القاضي - رحمه الله -: اختلف العلماء في القدر الذي يجب فيه القطع اختلافًا كثيرًا، فأخذوا بمجموع الأحاديث الواردة في ذلك في أنه لا يقطع في أقل من ربع دينار عمدًا،وفي ثلاثة دراهم، أو ما قيمته ذلك، كانت أكثر من ربع دينار أو أقل، ولم يراع هل يكون الثلاثة دراهم ضربًا لربع الدينار أم لا ؟ وإلى هذا ذهب أحمد وإسحاق، وقال لا آخرون: إنما يراعى في ذلك ربع دينار أو صرفه من الفضة،هو قول عائشة - رضى الله عنها - وعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - والشافعي والأوزاعي والليث وأبو ثور، وروي عن إسحاق، وقاله داود. وروي:" لا يقطع الخمس في أقل من خمسة دراهم " وروي هذا عن عمر، وهو قول سليمان بن يسار وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن.(6/325)
وقيل: لا قطع إلا في عشرة دراهم أو ماقيمته عشرة من ذهب أو غيره، وهو قول لأبي حنيفة وأصحابه، واختلف عنه في الدينار إذا لم يبلغ الصرف عشرة دراهم، هل يعتبر بنفسه أو صرفه، قيل: القطع في أربعة دراهم، وروي هذا عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم -، وقيل: في درهم فما فوقه، وهو قول النبي، وقيل: في درهمين، وهو مروى عن الحسن. وقيل: لا قطع في أقل من أربعين درهمًا أو أربعة دنانير، وروي ذلك عن النخعي، وقيل: في كل ما له قيمة، وروي -أيضًا - عن البصري، وهو قول ألخوارج وأهل الظاهر، قليلاً كان أو كثيرًا على ظاهر الآية.
وكل هذه الأقاويل تردها الأحاديث الصحيحة المتقدمة المفسرة للآية، ويصحح إلقول الأول وأقرب ما يليه في الصحة القول الثاني، ولا يجب أن ثلتفت لما ورد من أن البيضة بيضة الحديد، ولا أن الحبل حبل السفن ؛ لأن مثل هذا له قيمة وقدر، وليس مساق الكلام وبلاغته على ذم من أخذ الكئير لا القليل وتقريعه بذلك، بل مثل هذا إنما يرد على تعظيم ما جنى على نفسه فيما تقل قيمته لا فيما كثر. والصواب تأويله على ما تقدم من تقليل أمره، وتهجين فعله، وأنه إن لم يقطع في هذا القدر فعادته تجره إلى ما هو أكثر منه فيما يقطع فيه.
وقد قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك عند نزول الآية مجملة دون بيان قدر على ظاهر الكلام حتى بين الله له حكم ذلك وحده. وما احتج به الحنفي من رواية قطع يده في ثمن قيمته عشرة دراهم، والآخر في رواية من روى خمسة دراهم، فلا يعارض لهذه الأحاديث الصحيحة لشهرتها وصحتها وضعف تلك، مع أنه يحتمل أن يكون قطع في مجان مرات لها قيم مختلفة كما يكون القطع في الكثير، ولا ينكر القطع في أكثر من الثلاثة والربع دينار، ويكون هذا حدًّا لا ما فوقه. ويجمع بين الأحاديث إن صحت.(6/326)
ولعنه هنا السارق حجة في لعن من لم يسم. وكذلك ترجم البخاري عليه ؛ لأنه لعن للجنس لا للمعين. ولعن الجنس جائز ؛ لأن الله تعالى قد أوعدهم، وينفذ الوعيد على من شاء منهم وإنما يكره وينهى عن لعن المعين والدعاء عليه في الإبعاد من رحمة الله - تعالى - وهو معنى اللعن كما قال - عليه السلام -:« لا تعينوا الشيطان على أخيكم ».
وقد ذهب بعض المتكلمين على معاني الحديث: أن اللعن جائز على أهل المعاصي وإن كان معينًا مالم يحد، فإذا حد فلا. إذ الحدود كفارة لأهلها. وهذا كلام غير سديد ولا محيح لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اللعن بالجملة، فحمله عن المعين أولى ويجمع بين الأحاديث. وقد قال - عليه السلام - للذين لعنوا شارب الخمر: « لا تعينوا الشيطان على أخيكم ». وقيل: لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل المعاصي تحذير لهم قبل وقوعها، فإذا فعلوها استغفر لهم ودعا لهم بالتوبة، وإذا غلظ عليهم فلعنه تأديبًا. فقد قال:/ " سالت ربي أن يجعل لعني له كفارة ورحمة ».
وقوله في الحديث: " المجن حجفة أو ترس، وكلاهما ذو ثمن "، تنبيه ورد على من يقول: يقطع في القليل والكثير. والحجفة: الدرقة. قيل: المجن: اسم لكل ما يستجن به ويستر من ذلك كله. وقيل: الترس: المتخذ من الجلود هو بمعنى الأول. وثفرقه بينهما في الحديث يدل أنهما شيئًان.(6/327)
واختلفوا فيما يقطع من السارق، مع اتفاقهم أولاً على قطع يمينه. فقال مالك وجماعة أهل المدينة والشافعي وأبو ثور وغيرهم: إن سرق ثانية قطعت رجله اليسرى، ثم في الثالثة - يده اليسرى، في الرابعة رجله اليمنى، ثم إن عاد حبس وعزر. وقيل: تقطع في الثالثة رجله اليسرى ولا قطع في غيرهما، ثم إن عاد حبس، يروى هذا عن علي والزهري وحماد وأحمد. وكافتهم على قطع اليد والرجل من الرسغ والمفصل. وقال على: يقطع الرجل من شطر القدم ويترك العقب، وهو قول أحمد وأبي ثور. وقال قائل: تقطع اليد من المرفق، وقيل: من المنكب. وهذان شاذان جدًّا.
ذكر مسلم الأحاديث في النهي عن الشفاعة في الحدود وإبطالها، وأن هلاك بنى إسرائيل كانت من سبب ذلك. فيه التشديد على هذا، وأنه حرام لا يحل للشافع ولا للمشفوع عنه. وذلك كله بعد بلرغ الإمام، وفي هذه النازلة كانت الأحاديث. فأما قبل بلوغ الإمام فقد أجاز ذلك أكثر أهل العلم لما جاء في الستر على المسلم. قال مالك: وذلك فيمن لم يعرف منه أذى للناس، وأما من عرف منه شر وفساد فلا أحب أن يشييما فيه. وأما الشفاعة فيما ليس فيه حد وليس فيه حق لآدمى وإنما فيه التعزير، فجائز عند العلماء، بلغ الإمام أم لا.
وقوله: إن امرأة كانت تستعير الحلي وتجحده، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها، قال الإمام - رحمه الله -: محمل ذكر العارية ها هنا على قصد التعريف بالمرأة، لاعلى أن التطع بسبب ذلك، قد تقدم الكلام أنها سرقت، هكذا تأوله أهل العلم.(6/328)
قال القاضي - رحمه الله -: ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إلى القطع في جحد العارية ؛ أخذًا بهذا الحديث. وعوام العلماء وفقهاء الفتيا على أنه لا قطع فيها. وقد ذكر أرباب الحديث أن معمرًا انفرد بذكر العارية في هذا الحديث وحده من بين سائر الرواة، ذكر غيره أن بعضهم وافقه، لكنه لم يعتد بحفظه كابن أخي الزهري ونمطه. وقد جاء ذكر سرقتها في الحديث في الأم مبينا، وفي غيرها:سرقت قطيفة من بيت رسول ا الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: وإنما لم يذكر السرقة في هذه الرواية لأن قصد رواتها الخبر عن منع الشفاعة في الحدود لا الإخبار عن السرقة. وفي قوله عن بنى إسرائيل أو غيرهم مما تقدم في هذا الحديث: " كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه "، دليل أنها سرقت، وأن نازلتها في السرقة لا في الجحد. ويحتج بيما من لا يشترط الحرز في السرقة، ويقطع كل سارق من حرز أو غيره، وهو مذهب داود. وروى عن الحسن مثله، وله قول كقول جمهور العلماء وكافتهم باشتراط الحرز حتى صار كالإجماع. وما خالفه شاذ. وحجة الكافة إسقاط القطع عن حريسة الجبل، والثمر المعلق، وتنبيهه بذلك عن الحرز.
وقوله:" حتى تؤوي إلى مراحها، فإذا أواها المراح أو الجرين فالقطع / فيما بلغ ثمن المجن ". وقول عائشة - رضى الله عنها -: " فحسنت توبتها بعد وتزوجت "، فيه توبة السارق، وأن التوبة ماحية حال أصحاب الذنوب. قيل: في الدنيا والآخرة، وقد تقدم الكلام على قوله:" وايم الله ".
حد الزاني
قوله - عليه السلام -:« خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم »، معنى قوله: " قد جعل الله لهن سبيلا ": إشارة إلى قوله تعالى:{ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } إلى قوله تعالى:{ أو يجعل الله لهن سبيلاً }، فأعلم النبي - عليه السلام - أن الله قد أوحى إليه، فجعل السبيل لهن بما ذكره في الحديث.(6/329)
واختلفوا في الآية، هل هي محكمة وما جاء مفسر لها أو منسوخة بآية النور وبهذا الحديث وبآية الرجم المنسوخ لفظها ؛ وأنها في البكرين، وقيل: بل في الثيبين، وآية النور في البكرين. وقال إسماعيل القاضي: كان الزانيان أول الإسلام يجبهان ويحممان ويشهران فنسخت بقوله تعالى:{ فأمسكوهن في البيوت } الآية، وعن ابن عمر نحوه قال: ثم نسخ ذلك بالرجم والجلد.
ولم يختلف علماء الأمصار في جلد الزاني البكر ورجم الزاني الثيب، إلا ما ذهب إليه الخوارج وبعض المعتزلة - النظام وأصحابه - من إبطال حكم الرجم، وقال بظاهر هذا الحديث من جمع الجلد والرجم جماعة منهم الحسن البصري وإسحاق بن راهويه وداود وأهل الظاهر، وروي عن على بن أبي طالب - رضي الله عنه - وجمهور العلماء وكافتهم على الرجم وحده، وشذت فرقة من أهل الحديث فقالت: إنما يجمع الجلد والرجم على الشيخ الثيب دون الشباب، ولا أصل لهذا القول. وحجة الجمهور: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم في المرأة أو في ماعز وغيرهما بالرجم دون الجلد، فقضى حكمه على قوله وجعل ناسخًا له.
قال الإمام - رحمه الله -: أما الزاني المحصن فإنه يرجم. واختلف الناس، هل يضرب مع الرجم ؟ فقال جمهور العلماء: لا جلد عليه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «واغد يا أنيس على امرأة الآخر، فإن اعترفت فارجمها»، ولم يقل: اجلدها. ولغير ذلك من الأحاديث الدال ظاهرها على سقوط الجلد، وقال بعضهم بإثبات الجلد مع الرجم بهذا الحديث، وقد يكون عند الأولين منسوخًا لأجل الظواهر التي تمسكوا بها.(6/330)
قال القاضي - رحمه الله -: وقوله في البكر: " ونفى سنة " جمهور العلماء على وجوب النفي على البكر بعد الضرب، على ما جاء في الأحاديث، وقواه من الأحاديث، وأنه بعض الحد.وخالف أبو حنيفة ومحمد بن الحسن، فقالا: لا نفي عليه. ثم اختلفوا في مقدار النفي، فقال مالك: ينفي من ينفي من مصر إلى الحجاز وشعب وأسوان ونحوها، ومن المدينة إلى خيبر، ولذلك وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وقد - نفى علي - رضي الله عنه - من الكوفة إلى البصرة، قال مالك - رحمه الله -: وحبس في البلد الذي نفى إليه عامًا. وقيل ينفي إلى غير عمل بلده. وقيل إلى غير بلده. وقال الشافعي: أقل ذلك مسافة يوم وليلة هنا البكر بالبكر: يحتج به من يرى النفى على النساء والعبيد لعمومه، وهو مذهب الشافعي والثوري والطبري وداود وأبو ثور، وقال الشافعي مرة: ينفي نصف سنة، ومرة قال: سنة وتوقف في نفيهم. وذهب معظم القائلين بالنفى إلى أنه لا نفي على مملوك، كذلك قال الحسن وحماد بن أبي سليمان ومالك وأحمد وإسحاق. ولم ير مالك والأوزاعي النفي/ على النساء، وروى مثله عن على بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
وحجة مالك: قوله في الأمة:« إن زنت فاجلدوها »، ولم يذكر نفيًا، وهو موضع بيان وتعليم ؛ لأن نفى المماليك عائد بالضرر على ساداتهم وإتلاف لأموالهم، وننمى النساء كشف لهن تعريض لمجنتهن وضيعتهن ؛ لكونهن عورات، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسافرن مع غير ذى محرم. ولأن في تغريب الرجل عن وطنه عقوبة له بإخراجه عن أهله وولده، وفي نفي العبد والأمة والمرأة عقوبة غيرهما ممن لم يجن لقطعه المنفعة بهما من الزوجية والاستمتاع، أو الخدمة، وإن كلف الكون معهم فقد شاركهم في التعذيب.
وقوله:" كرب لذلك، وتربد له وجهه "، أي: أصابه كرب، وعلت وجهه غبرة. والربدة: تغيير البياض للسواد.(6/331)
وقوله في حديث عمر - رضي الله عنه -: " إن الله بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله ورجمنا بعده، فأخشى إن أطال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد آية الرجم في كتاب الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء"، هذا طرف من حديث طويل خرجه البخاري بكماله في خطبة عمر - رضي الله عنه - وخبر السقيفة والخلافة. وقد كان ما خشى منه عمر - رضي الله عنه - من تكذيب من كذب بالرجم، وأسقط فرضه من الخوارج والمبتدعة. فيحتمل أنه قال ذلك لعلم عنده من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو بصدق ظنه وفراسته، كما وافق كثيرًا من الأمور والأقضية بغير ذلك، وصادف فيها الحق، وصفه النبي بذلك. وقد روي عنه في غير هذا الحديث الخبر بهذا قطعًا من قوله:« سيكون في هذه الأمة قوم يكذبون بالرجم وبالدجال »، وهذا إنما يكون بما عنده من ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -.(6/332)
وقوله:" بما أنزل الله "، الأظهر في معناه - والله أعلم - ما ذكره في "الموطأ" في الفصل الذي ذكر من هذا ألحديث والخطبة أيضًا، وهو قوله: لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدى:( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة )، فإنا قد قرأناها. ويحتمل أن يريد بما أنزل الله: أي من الوحي على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وشرعه له. وفي هذا كان قول عمر - رضي الله عنه - ذلك على المنبر، وإخباره برجم النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجمهم معه وقرأ إثر اية الرجم، ولا منكر له من علماء الصحابة وجماعتهم - رضي الله عنهم - ما يدل على موافقتهم له ؛ إذ كان مثلهم لا يقر على منكر ولا يسكت عما استشهد به فيه عما يعلم خلافه. وفيه الحجة لإفراد الرجم دون الجلد. وهذه الآية مما نص العلماء أنه مما نسخ لفظه وبقى معناه، وحكمه ثابت وله نظائر، لكن لا يصح أن يثبت قرآنا في المصحف ولا يتلى ؛ إذ لم يكتب في المصحف لفظه، بل هذا ومثله مما أنسى الله المسلمين حفظه ؛ حكمة منه واية لعباده. ألا ترى أنه لو كان باقيًا لفظه لم يجد المبتدع إلى التكذيب بحكمه سبيلاً، ألا ترى ما ذكر عمر - رضي الله عنه - منها إنما هو - والله أعلم - إخبار على معنى ما كان حفظ من القرآن إذ هذا اللفظ والنظم يبعد عن بلاغة القرآن ونظمه. وفي قول عمر - رضي الله عنه - هذا ما كان عليه الصحابة - رضي الله عنهم - من الحيطة على أمر القران قبل جمع المصاحف وبعدها، من أنه لا يزاد فيه شيء، ولا ينقص منه شيء، ولا يكتب معه شيء، وامتثالهم بذلك، وائتمارهم مخالفة ذلك./
وقوله: " الرجم في كتاب الله حق على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف، هذه شواهد الزنا الموجبة لحده. فالبينة أربعة شهداء كما قال الله تعالى. ولا خلاف بين العلماء في أنه لا يقبل في الزنا أقل من أربعة، وإن اختلفوا في صفاتهم وصورة شهاداتهم.(6/333)
وأما الحمل، فإذا ظهر بالمرأة لم يعلم لها زوج ولا ولى - إذ كانت أمة - ولا عرف اغتصابها، فانها يقام عليها الحد، إلا أن تكون غريبة طارئة، وتدعي أنه من زوج أو سيد. هذا قول مالك وأصحابه.ولا يقبل قولها: أنها استكرهت إذا لم تقم بذلك مستغيثة عند الإكراه، وقبل ظهور الحمل. وحجته هذا الحديث. وقال الكوفيون والشافعي: إذا وجدت امرأة حاملا فلا حد عليها، إلا أن تقر بالزنا، تقوم عليها بينة. ولم يفرقوا بين الطارئة وغيرها لقوله - عليه السلام -:« ادرؤوا الحدود بالشبهات ». وأما الاعتراف فسنذكره. قال الإمام - رحمه الله -: أما ظهور الحمل بالمرأة التي لا زوج لها، تقول: اكرهت على الوطء ففى تصديقها خلاف بين الناس، هل تصدق ويكون بشبهة يدرأ الحد بها أو لا تصدق ؛ ولظاهر قول عمر - رضي الله عنه - هذا ؛ ولأن الحمل كالبينة عليها فلا تصدق بدعواها.
وقول الرجل للنبى - صلى الله عليه وسلم -: إنني زنيت، واعراض النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه حتى بين ذلك عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه ألنبى - صلى الله عليه وسلم - فقال:« أبك جنون ؟» قال: لا. قال:« هل أحصنت ؟» قال: نعم. قال: « اذهبوا به فارجموه »، اختلف الناس في المقر بالزنا، هل يرجم بإقراره مرة واحدة، لقوله: "فإن اعترفت فارجمها "، ولم يقيد بعدد ؛ ولأن القول الثاني في معنى الأول، هو مذهب مالك. أم لا يرجم حتى يقر أربع مرات، على ما قال بعض العلماء. واشترط بعضهم أن يكون في أربعة مجالس، ولم يشترط ذلك بعضهم. وتعلق بعضهم في التقييد بهذا العدد بما وقع في هذا ألحديث من ذكر أربع مرات، وبغيره من الألفاظ التي وقعت في بعض طرقه، وقياسًا على عدد الشهود، وأنه قد طلب في اللعان التكرير.(6/334)
قال القاضي - رحمه الله -: وقوله:« أبك جنون ؟ » أستبراء لحاله، وإنكار أن يلح عاقل بالاعتراف، لعل كلامه مع ما رأى من إعراض النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه وإرادته الستر عليه. وقيل مردود النبي - صلى الله عليه وسلم - له لاستبرائه لحاله، ولهذا قال: « أبك جنون ؟»، أو لعله يرجع عن قولته، أو لأنه سمعه منه ولم يكن منه حينئذ غيره، أو لئلا يتم الشهادة عنده أربعًا عند من قال ذلك. وجاء في الحديث الآخر أنه سأل قومه عنه، فقالوا: ما نعلم به بأسًا. وهذا مبالغة في الاستبراء. وحجته أن إقرار المجنون في حال جنونه لا يلزم، وأن الحدود عنه حينئذ ساقطة، وهو مما أجمع عليه العلماء. ولد رأى علي وعمر - رضى الله عنهما - فيمن يجن أحيانًا أنها شبهة يدرأ بها الحدود، لعل ما فعله ما كان حين ذلك.
وقوله:« هل أحصنت ؟ » بما يجب على الإمام البحث عن حال الزاني ليقيم الحد بحسب ذلك، وفيه أن الإنسان مصدق في إحصانه، ويقام عليه بإقراره بذلك حد المحصن. وسنذكر حكم الإحصان.
وقوله: " فلما أذلقته الحجارة هرب "، هو بالذال المعجمة، قال الإمام - رحمه الله - أي أصابته بحدها. وذلق كل شيء حده،وقيل: الذلق: السرعة،/ ومنه: لسان ذلق.(6/335)
وقوله: " فأدركناه بالحرة فرجمناه "، وقد اختلف الناس في المقر بالزنا إذا رجع عن قراره لغير عذر، هل يقبل منه أم لا ؟ فعندنا فيه قولان، وقد تعلق من لا يقبل رجوعه بهذا الحديث، وقد هرب هذا أو قتلوه بعد هروبه، ولم يأمرهم - عليه السلام - بديته. وقد وقع في كتاب مسلم: " هلا تركتموه "، وفي بعض طرقه في غير كتاب مسلم: فلما وجد مس الحجارة صرخ، فنادى: يا قوم، ردوني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن قومي هم قتلوني وغروني من نفسي، وأخبروني بأن النبي غير قاتلي، فلم ننزع عنه حتى قتلناه. فلما رجعنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:« فهلا تركتم الرجل وجئتموني به » ليتثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه. فأما ترك حد فلا. وعند أبي داود:« ألا تركتموه حتى أنظر في شأنه»، وعنده:« هلا تركتموه، فلعله يتوب فيتوب الله عليه »، فقد صرح في بعض هذه الطرق أنه لا يترك الحد.
قال القاضي - رحمه الله -: ذهب أحمد بن حنبل إلى أن الزاني إذا هرب يترك ج اتباعا لهذه الزيادة في الحديث. وقال بعض أصحابنا في المعترف وقال الكوفيون: إن طلبته الشرطة فوجدوه بالفور أكمل عليه الحد، وإن وجد بعد أيام ترك.
قوله:" فرجمناه بالمصلى "، ترجم عليه البخاري بهذا ليرى أن حكم مصلى الجنائز والأعياد-إذا كانت في غير موضع محبس لها ولا موقوف عليها- ليس له حكم المساجد، إن كان له حكمه لتجنب الدماء والميتات والقتل والرمي بالحجارة. والمراد بالمصلى هنا: مصلى الجنائز، ألا تراه في الحديث الآخر كيف قال: " في بقيع الغرقد "، هو موضع الجنائز بالمدينة.(6/336)
ومعنى قوله:" أعضل "، كما قال في الرواية الأخرى:" ذى عضلات "، والعضلة: كل ما اشتمل على اللحم على عصب، جمعه عضلات، ورجل أعضل وعضل الخلق: إذا كان مشتدًّا وأصله. ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: "فلعلك ". قال: لا والله إنه قد زنا الأخر. فيه تلقين المقر بما لعله يكون سبب رجوعه إلى شبهة لعذر بها، كما قال في الحديث الآخر:« لعلك قبلت أو غمزت »، فاختصر هنا على: " لعلك " اختصارًا وتنبيهًا لدلالة الكلام والحال على المراد بها، وإن كان الكلام المحتمل لا يؤاخذ به صاحبه، ويرجع إلى تفسيره ويقبل قوله فيه. وقد روى التلقين في الحدود والإقرارات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء، وأجازه أئمة العلماء فروى عنه - عليه السلام - أنه قال لسارق: " ما أخالك سرقت "، وروي عن أبي بكر وعمر وأبي الدرداء - رضي الله عنهم - أنهم قالوا للسارق: " أسرقت ؟" قال: لا. وعن عمر - رضي الله عنه -: ما أرى يد سارق. وعن ابن مسعود أنه قال لسارق: لعلك وجدته. وعن على - رضي الله عنه - أنه قال لحبلى: لعلك استكرهت أو وطئت نائمة. وقال للحبلى التي جيء بها تبكي: ما يبكيك، إن المرأة قد تستكره. وكذلك عن جماعة. والأحاديث بها كثيرة وقد أجاز ذلك أحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم.
وقوله: " الأخر "، بكسر الخاء وقصر الهمزة، ومعناه: الأبعد، وقيل: الأرذل والأدنى، ومنه: المسألة أخر كسب الرجل، وقيل: اللئيم، وقيل: البائس الشقي، وكله بمعنى، كانه يريد نفسه، يريد بعتبها بفعله ذلك، وقيل: هي كناية يكنى بها الإنسان عن نفسه أو عن غيره إذا أخبر عنه بما يستقبح.(6/337)
قال الإمام - رحمه الله -: وقوله: " نبيب كنبيب التيس، يمنح إحداهن الكثبة ": " نبيب التيس "/: صوته عند السِّفاد، و" يمنح ": يعطى، و "الكثبة ": القليل من اللبن. قال أبو عبيد: وكذلك من غير اللبن، وكل ما جمعته من طعام أو غيره بعد أن يكون قليلاً فهو كثبة، والجمع كثب، وقد كثبته أكثبه، أي جمعته.
قوله: " فرميناه بالحجارة حتى سكت " يعني: مات، قال الشاعر:
ولقد شفي نفسي وأبرد داؤها أخذ الرجال بحلقه حتى سكت
قال القاضي - رحمه الله -: ومعنى قوله: " جعلته نكالاً ": أي: عظة لمن يأتي بعده بما أصبته به من العقوبة حتى يمتنعوا من مواقعتها، قال الله تعالى:{ فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين }. وأصله من المنع، ومنه الأنكال: القيود ؛ لأنها تمنع ويمنع بها.
قوله: " فرميناه بالخزف ": هي شقوق الفخار المتكسرة.
قوله: " حتى أتى عرض الحرة - بضم العين أي جانبها - فرميناه بجلاميد الحرة " أي حجارها. وكذا جاء مفسرًا في رواية العذري. قال مالك: لا يرمى بالحجارة الكبار.(6/338)
وقوله:" حتى سكت ": أي مات، وقد تقدم تفسيره. ورواه بعضهم: " سكن " بالنون، وله وجه، والأول أعرف. وقوله في خبر ماعز في بعض الروايات:« أحق ما بلغني عنك ؟» قال: وما بلغك عنى ؟ قال:« بلغني عنك أنك زنيت بجارية فلان ». قال: نعم. وشهد أربع شهادات. وذكر في سائر الأحاديث الأخرى أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " طهرني ": فلا تنافي بين الروايات، يكون أولاً رفع إليه أمره وجىء به إليه، كما جاء في غير حديث، وأن قومه أرسلوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للذى أرسله إليه: « يا هذا ! لو سترته بردائك كان خيرًا لك ». وكان ماعز يتيمًا عند هذا. ولا خلاف بين أصحاب الحديث أن هذا المرجوم في الحديث المسمى والمكنى عنه هو ماعز الأسلمي، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاعترف وكرر الاعتراف، إلا أنه جاء متندمًا. وكأن ترديد النبي - صلى الله عليه وسلم - له إذا لم يقم عليه بينة إلا بإقراره واستبرائه في إقراره، وتثبتًا في أمره، ورجاء لرجوعه عن قوله، أو لتمام اعترافه.
وقوله في حديث:« ارجموه »، ولم يذكر جلدًا،حجة لإسقاط الجلد، على ما تقدم. وفي قوله في حديث محمد بن العلاء:" فرجع غير بعيد "، في الحديث الآخر: " من الغد، ثم جاء فقال: " طهرني "، وقال مثله في سائر المرات: ما يحتج به ابن أبي ليلى ومن يقول. بالاعتراف أربعًا، وأنه لا يكون إلا في أربع مجالس يفارق بينها الحاكم، حتى لا يراه، قياسًا على الشهادة واللعان. ولا حجة فيه. وأبو حنيفة والكوفيون وأحمد بن حنبل يوجبون الأربع، ولا يشترط افتراق مجالسها كما تقدم، كما أنا لا نقيس الاعتراف بالقتل على شاهدين. ولم يقل أحد: إنه لا يقتل حتى يقر مرتين، كما لا يقتل إلا بشاهدين.(6/339)
ولم يختلفوا في القتل، وقد س قع لبعضهم خلاف في غيره في الحدود، فأبو يوسف وحده لا يقطع السارق بالإقرار حتئ يقر مرتين. وقال زفر مثله في حد الخمر، ولأن النبي - عليه السلام - لم يردد الغامدية، ولا أمر أنيسًا بترديد المرأة الأخرى، بل قال:« فإن اعترفت فارجمها ». ولم يختلف في الإقرار في الأقوال أنها تكفى مرة، وأيضًا ففي كثير من الروايات إنما قال في الثلاثة: "طهرني"، فلما كان في الرابعة قال:« مم أطهرك ؟» قال: من الزنا، فلم يعترف إلا مرة وما قبله كلام مبهم، فردده النبي - عليه السلام -. فيه رعايته في ستره، وهذا مفسر لما جاء مجملاً.
وقوله:« أشرب خمرًا ؟»، قال الإمام - رحمه الله -: / قال بعض الناس: فيه دلالة أن طلاق السكران لا يلزمه.
قال القاضي - رحمه الله -: هذا لا حجة فيه، وهذا باب درء الحدود بالشبهات ؛ لأنه مقر في حالة شك في ثبات عقله فيها لو شرب خمرًا، والحدود تدرأ بالشبهات، والطلاق واقع بتهمته على ما يظهر من عدم عقله لحد ما ألزمه من ذلك.
ولم يختلفوا في غير الطافح أن طلاقه لازم، وإنما اختلف العلماء في الطافح ومذهبنا إلزامه جميع أحكام الصحيح ؛ لأنه أدخل ذلك على نفسه،وهو حقيقة مذهب الشافعي، وفرق بين الشارب المختار لا المستكره، ومن شرب مالا يعلم أنه يسكره فسكر منه، فقال: هذا لا يلزمه شيء، وهو كالمغمى عليه في أحكامه. وبعض متأخري شيوخنا يذهب إلى أنه لا يلزمه إذا تحقق ذلك منه، كما قال الشافعي.
وقوله:" فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر "،: حجة لمالك وأصحابه في الحد من وجود الريح، وهو قول جمهور أهل الحجاز، خلافًا للشافعي والكوفيين في أنه لا يحد إلا من الشهادة على شربها أو قيئها. قال الثوري: أو يوجد سكرانا. واختلف أصحاب الشافعي في هذا الوجه، وذهب بعضهم إلى أنه يحد المدمن بالريح بخلاف غيره.(6/340)
وقوله: " طهرني "، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« مم أطهرك ؟»، فيه حجة أن الحدود تكفر الذنوب، كما جاء في ألحديث الآخر من استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - له، وشهادته له بالتوبة، وأنه لا توبة أفضل من توبته.
وفي قوله في الرواية الأخرى: « أزنيت ؟ » قال: نعم، فأمر به فرجم، وفي الأخرى: فاعترف بالزنا، حجه ثلاث مرات، وفي الأخرى: فرده النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين، وفي الأخرى: مرارًا، يضعف الحجة أربع مرات في الإقرار ؛ لاضطراب الرواية فيها بمآثره في الصحيح.
وفي قول الغامدية لما قالت له: طهرني، فقال:« ويحك، ارجعي فاستغفري الله وتوبي »، فقالت: أتردني كما رددت ماعز بن مالك ؟ قال: « وما ذاك ؟ » قالت: إنى حبلى من الزنا: فيه نحو ما في حديث ماعز من الحض على الستر.
والغامدية بالغين المعجمة وبالدال، كذا هو الصواب والرواية. وهي من غامد قبيلة من جهينة. ومن قال فيه بالعين المهملة وبالرافعة أخطأ وصحف.
وقوله:« لا ترجمها حتى تضع مافي بطنها »، فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت فرجمت: أصل في أنه لا ترجم الحبلى حتى تضع، وأن حد المرأة إذا أحصنت الرجم كالرجل. وهذه - والله أعلم - كانت محصنة. إذ لا خلاف أنه لا يرجم غير المحصن، وأن لجنينها حرمة وإن كان من زنا. وكذلك كل من وجب عليه قصاص من النساء وهي بهذه السبيل، فحكمها أن تترك حتى تضع، إذ يتعدى القتل لغيرها. ولا خلاف في هذا إلا ما حكى عن أبي حنيفة على اختلاف عنه.(6/341)
وفي قوله:" فكفلها رجل من الأنصار "، وفي الحديث الآخر: فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - وليها فقال:« أحسن إليها، فإذا وضعت فائتني بها »، حجة أن من وجب عليه حد، وأجل لعذر كعذر هذه وشبهه، أن يسجن حتى يتمكن منه الحد، أو يكفل به بمن يأتي به إذا أمكن ذلك منه، كما فعل بهذه إذ لم يكن هناك بعد سجن. وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وليها بالإحسان إليها رأفة بها ؛ لتوبتها ووجوب المحنة عليها، بخلاف لر جاءت غير تائبة. وقوله لها:« لا، فاذهبي حتى تلدي » تقدم تفسيره، ومعناه: فإن لم تفعل كذا فافعل كذا، كأنه قال: إن أبيت أن تستري على نفسك وترجعي عن قولك فاذهبي حتى تلدي فترجمي.
وقوله لما ولدته:« اذهبي حتى ترضعيه »، اختلف العلماء ها هنا في رجمها، فقال مالك: إذا وضعت رجمت ولم ينتظر بها أن تكفل ولدها، قاله أبو حنيفة، وللشافعى - في أحد قوليه. وروى عن مالك أيضًا: لا ترجم حتى تجد من يكفل ولدها بعد الرضاع، لم ب وهو قول / الشافعي الآخر وأحمد وإسحاق ومشهور قول مالك، والشافعي. وحقيقته أنها متى وجدت من ترضعه وتكفله رجمت، وإن لم يوجد لم ترجم حتى تفطمه، ثم ترجم.
وقد اختلفت الآثار في "مسلم" متى رجمت ؟ أبعد الفطام أو قبله ؛ إذا قال الرجل: " على رضاعه، والروايتان حجة للقولين. وأما من حدها منهن الجلد، فهم متفقون أنها لا تجلد ما دامت حاملاً، كما قالوا في الرجم إبقاء على الجنين: فإذا وضعت جلدت. واستحب أبوحنيفة أن تترك حتى تتخلص من نفاسها إذ حكمها حكم المريض وهو مذهبنا، ولا خلاف في هذا.
وقد أجمعوا أن المريض لا يجلد حتى يفيق. قال سحنون: وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لها:« أرضعيه »، دليل على أن على الإمام رضاع ابنها، إذ لم يكن له أب أو مال.(6/342)
قال الإمام - رحمه الله -: إذا كان لا يقبل غيرها ويخشى عليه التلف إن رجمت، يكرن حالها حينئذ كحال الحامل في التأخير، بل هذه أشد لأن حياة الولد مقطوع بها وحياته في البطن غير مقطوع بها. وقد قال بعض الشيوخ: لو كان في جيش المسلمين في أرض الحرب من زنا ويخاف إذا رجم أن يهلك الجيش أخر حذه، قياسا على الحامل.
وقوله: " فشكت عليها ثيابها "، أي: جمعت. قال القاضي - رحمه الله -: ليس كل جمع شكا، والشك إنما هو انتظام الشيء بغيره، ومنه شككت الصيد بالرمح: إذا انتظمته به، ومنه هذا جمعت عليها ثيابها وانتظمت بربط أو بشوك أو شبهه من الأخلة لئلا تنكشف عند حركتها. وكذا حكم المرأة أن يبالغ في سترها. وقد اتفق العلماء أنها لا تحد إلا قاعدة.
واختلفوا في الرجل فجمهورهم على أنه يحد قائما، ومالك يحده قاعدًا، وبعضهم خير فيه الإمام كيفما شاء. واستحسن بعض العلماء وبعض أصحابنا أن تجعل المرأة في قفة مبالغة في سترها لئلا تضطرب فتنكشف. قال: ويجعل فيها رماد أو تراب وماء لئلا يكون منها شيء من حدث فيستتر في ذلك.
قوله:" ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها "، ونحوه في بعض روايات حديث ماعز، وهو ظاهر قول أحمد، وحكي عن أبي حنيفة: وقال قتادة: يحفر لها، وهو قول أبي ثور وأبي حنيفة في رواية، و.أبي يوسف وأبي ثور - أيضًا - والشافعي. ووسع الشافعي - أيضًا - وابن وهب للإمام وخيراه في ذلك لاختلاف الأحاديث في ذلك.
وقد ذكر مسلم اختلاف الأحاديث في ذلك، ففى حديث ماعز في رواية: " لم يحفر له "، وفي أخرى: " حفر له " وفي حديث الغامدية:" حفر لها "، واستدل مالك بحديث اليهوديتين وجوابه لهما، فجعل يحني على المرأة، قال: ولو حفر لها لم يحن عليها. وكذلك استدلوا بقوله:" فلما أذلقته الحجارة هرب "، ولو كان في حفرة لم يمكنه ذلك. وقال بعض أصحابنا: لا يحفر للمقر لأنه له الرجوع، فإن هرب ترك. ويحفر للمشهود عليه.(6/343)
قوله: " إلى صدرها ": كذا عند من يرى الحفر. قال: يحفر له كالبئر إلى رفيفه.
وقوله: " فأمر الناس فرجموها "، فيه حجة أنه لا يلزم الإمام أن يبدأ بالرجم ولا يحضره. وهذا مما اختلف فيه العلماء، فمذهبنا أنه لا يلزم الإمام ولا الشهود أن يبتدئوا ولا يحضروا، وهو مذهب الشافعي. وحجتنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحضر أحدًا ممن رجم، ولا يرجم ولا أمر الشهود بذلك. وذهب أبو حنيفة إلى حضور الإمام والشهود أنه إن كان الحد بالاعتراف أن يبدأ الإمام، وإن كان بالشهادة أن يبدأ الشهود، وإليه ذهب أحمد بن حنبل وبعض شيوخنا المتأخرين.
ومعنى قوله:" تفطمه " و " حتى فطمته ": أي قطعت رضاعه باستغنائه عنها، على ما تفسر في الحديث من قوله:" أتته بالصبي وفي يده كسرة خبز، فقالت: يا رسول الله ! هذا قد فطمته وأكل الطعام ".
وقوله:" فتنضح الدم "، روايتنا بالحاء المهملة، وفي رواية أخرى بالخاء المعجمة وهما صحيحتان، وكلاهما من الرش والصب، وبعضهما أقوى من بعض، على اختلاف في ذلك تقدم في كتاب الطهارة.(6/344)
وقوله:« لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له »، فيه دليل على عظيم ذنب صاحب المكس، وذلك لكثرة تباعات الناس عليه وظلامتهم قِبَله، وأخذه أموالهم بغير حقها، وسن سنة سيئة مستمرة استمرار الحقوق. وفيه وفي حديث ماعز دليل على أن التوبة لا تسقط حد الزنى والسرقة والخمر، إنما تنفع عند الله - تعالى - وأن التوبة لا تسقط حدًّا إلا حد الحرابة، وهذا قول الشافعي لقوله تعالى:{ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم }. ولم يقل مثله في السارق، وإنما قال:{ فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه }، وحكى الماوردي عن مالك أنه يسقط عنه كل حق إلا الدماء، وهو خطأ عليه، وقيل: لا تسقط التوبة عن المحارب حدًّا ولا حقًّا، وهذا قول ابن عباس وغيره. وعن على: أنها تسقط عنه كل شيء. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنه لا يحد بالشهادة عليه بالزنا القديم، ولا بالإقرار بالسرقة القديمة. وروي عن الشافعي أن التوبة تسقط حد الخمر.
وقوله: " فرجمت ثم صلى عليها "، قال الإمام - رحمه الله -: مالك يكره الصلاة للإمام على من قتل في حد، وإنما ذلك على جهة الردع. وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر هاهنا وجه صلاته عليها.(6/345)
قال القاضي - رحمه الله -: يريد صدق توبتها. وهذا يدل على كراهة صلاة أهل الفضل على أهل المعاص، وهو مذهب مالك في رواية ابن وهب، لكن لا يتركون بغير صلاة، ويصلى عليه أهله. وبقول مالك قال أحمد بن حنبل. ولم يختلف العلماء في الصلاة على أهل الفسوق والمعاصي المقتولين في الحدود، وإن كره بعضهم ذلك لأهل الفضل ؛ ردعًا لأمثالهم، إذا رأى تجنب أهل الفضل الصلاة على مثله، إلا ماذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف في المحاربين، إذا قتلوا أو صلبوا، وكذلك في الفئة الباغية عندهم، وما ذهب إليه الحسن في الميتة من نفاس الزنا لا يصلى عليها، وما ذهب إليه الحسن والزهري في المرجوم وفي قاتل نفسه أنه لا يصلى عليه، وما قاله قتادة في ولد الزنا لا يصلى عليه. والناس كلهم / على خلاف من ذكرنا في هذه المسائل، وقد مضى منها في الجنائز. وهذا الحديث وغيره حجة للكافة.
ووقع في حديث ابن أبي شيبة:" ثم أمر بها فصلى عليها " بفتح الصاد واللام لجماعتهم. وعند الطبري:" فصلى عليها " بضم الصاد، وكذا في كتاب أبي داود وابن أبي شيبة. وفي كتاب أبي داود - أيضًا -: " ثم أمرهم أن يصلوا عليها "، لكن حديث أبي غسان بعده ظاهره أنه - عليه السلام - صلى عليها بنفسه لقوله:" ثم صلى عليها "، ولم يذكر مسلم صلاته عليها، عنه. قد ذكرها البخاري وعلل هذه الرواية أبو عبد الله بن أبي صفرة فيما حكاه عنه المهلب أخوه، وقال: رواها محمد بن يحيى عن عبد الرزاق، عن معمر، وقال: فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:" خيرًا ولم يصل عليه ". ومحمد بن يحيى أضبط من محمد بن غيلان، الذي روى الزيادة عنه عن عبد الرزاق عن معمر البخاري، قال: وتابع محمد بن يحيى ونوح بن حبيب، رواه عنهما النسائي.(6/346)
قال القاضي - رحمه الله -: وكذا رواه عبد الرزاق عن الحسن بن علي ومحمد بن المتوكل. وهذه الأحاديث - في أنه لم يصل - خرجها النسائي وأبو داود والترمذي وغيرهم. وما أرى ترك مسلم حديث محمد بن غيلان إلا لمخالفة هو له، مع أن مسلمًا وغيره قد خرجوا حديث أبي سعيد، وفيه: "فما استغفر له ولا سبه "، وأين هذا من الصلاة عليه ؟ قيل: يحتمل ذكر الصلاة على المرأة والصلاة على ماعز الدعاء لهما - والله أعلم - أو أضافت الصلاة إليه إذ أمر بها.
قال الإمام - رحمه الله -: خرج مسلم في هذا الحديث عن محمد بن العلاء، عن يحيى بن يعلى بن الحارث، عن غيلان - وهو ابن جامع. هكذا في نسخة ابن العلاء وغيره، والصواب مافى نسخة الدمشقي: عن يحيى بن يعلى، عن أبيه، عن غيلان، وهو الصواب. قد نبه عليه عبد الغني على الساقط من هذا الإسناد في نسخة أبي العلاء. ووقع في كتاب الزكاة من السنن لأبي داود: نا عثمان بن أبي ليلى، نا يحيى بن يعلى، نا أبي، نا غيلان، عن جعفر، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: لما نزلت:{ والذين يكنزون الذهب والفضة } الآية. فهذا السند يشهد بصحة ما تقدم. قال البخاري في "تاريخه": يحيى بن يعلى سمع أباه وزائدة بن قدامة.
قال القاضي - رحمه الله -: في حديث ماعز والغامدية - حين قال كل واحد له منهما: طهرني -:« ارجع فاستغفر الله »، دليل على وجوب الستر على المسلم، وإن السؤال والاستفسار عن اللفظ المبهم في شكل هذا غير واجب، بل قال فيه بعضهم: إنه لا يحل لأنه من باب التجسس وكشف المسلم. والنبى - عليه السلام - قد ردهما ولم يستفسرهما حتى ألحا وصرحت الغامدية. وفيه أن الحد لا يجب إلا بالتصريح البين، لا بالكناية واللفظ المبهم والمحتمل.(6/347)
وقوله في حديث الأعرابي: أنشدك الله إلا قضيت بكتاب الله، فقال الآخر - وهو أفقه منه -: نعم فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« قل »، وفي "الموطأ" وغيره:" وأذن لي في أن أتكلم "، ومعنى: "أنشدك الله "، أي: أسالك به.
قوله: بكتاب الله: قيل: بحكم الله، وقيل /: بفرض الله، وقيل بما تضمنه كتاب الله من القضاء بالحق أو في حكم الزاني البكر والمحصن، على ما ذكر عمر أنه كان ممايتلى.
وقوله:" موافقتهما "، إما لأنه كان بتلك الصفة، أو يكون لوصفه القضية على وجهها، أو لقوله:" وأذن لي في أن أتكلم " تزاد به في سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم -. وحذر الوقوع في النهي من التقدم بين يديه، ومخاطبته بخطاب بعضهم بعضا ضد ما فعل الآخر من قوله: " أنشدك الله "، وكلامه له بجفاء الأعراب.
وقوله:" إن ابني كان عسيفًا على هذا فزنى بامرأته "، قال الإمام - رحمه الله -: العسيف: الأجير، وجمعه عسفاء، نحو أجير وأجراء، وفقيه وفقهاء. أما قوله:« لأقضين بينكما بكتاب الله »، يحتمل أن يكون المراد به قضية الله تعالى والكتاب يكون بمعنى القضاء، ومن الناس من قال: فإن الرجم مشار إليه في الكتاب بقوله تعالى:{ أو يجعل الله لهن سبيلا }، وقد قال في الحديث المتقدم: قد جعل الله لهن سبيلاً، وذكر الرجم. وقيل: قد كان الرجم مما يقرأ من القرآن ثم نسخ، وهو قوله:( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ).
وقوله: " فسألت أهل العلم " ولم ينكر عليه فيه جواز الاستفتاء لمن كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مصر واحد، وإن كان يجوز على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخطأ والحيف عن الحق ما لا يجوز عليه، وهذا كالاقتصار على الظن مع القدرة على اليقين. وقد يتعلق به من أهل الأصول من يجوز استفتاء الفقيه، وإن كان هناك أفقه منه. وقد قال بعضهم: ولم يجده للمرأة، وقد قال: فزنا بامرأته، وهذا لأنها اعترفت فرجمها.(6/348)
قال القاضي- رحمه الله-: قيل في قوله:« لأقضين بينكما بكتاب الله »، يحتمل في بعض صلحكما الباطل الفاسد ؛ لقوله تعالى:{ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل }، ويحتمل أن يريد بما قرأه في كتاب الله تعالى من قوله: {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة }، وبما كان يتلى من الرجم في المرأة. وفي حد النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنه، وإن لم يجز في الحديث لإقراره ولا للشهادة عليه ذكر، قال: ما يدل أنه لابد من صحة اعترافه بذلك. فإنما أغفل ذلك الراوي أو عول في تركه على علم السامع بذلك: أنه لا يؤخذ أحر بغير إقراره إلا لو تمت الشهادة عليه لأنه يردها ذا الفضل من العضل، الحديث. وإنما فهم المتصود فه فسخ الصلح الحرام، وإقامة الحدود على الزناة.
وفي الحديث ضروب من الفقه سوى ما تقدم منها: أن أولى الناس بالقضاء منهم أخليفة إذا كان عالما بوجوه القضاء،وأن الحكم بالرجم وشبهه - من حدود القتل والنفس - إنما يكون بحضرة الإمام وبين يديه، ووجوب الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والخليفة وأهل العلم، وللناظرين بين الناس في استبذالهم في السؤال والإخبار عن قصصهم ج إذ قد يكون في بعض الأوقات بسبيل عذر وتحت شغل، أو ليتكلم من ليس له الكلام أولاً، إذ هو الداعي للإنصاف فهو المتكلم أولاً.
قال الخطابي: وفيه أن للإمام إذا اجتمع الخصمان بين يديه أن يبيح الكلام لمن شاء منهما، وفيه أن كل صلح خالف السنة لا يدخل في ملك قابضه، وفيه أن الحدود لا يصالح فيها ولا يمض الصلح. ولا خلاف عندنا في ذلك فيما تعلق بحق الله تعالى محضًا ؛ كحق الحرابة والزنا والردة والسرقة، بلغ السلطان أم لا ؛ لأنه أكل مال بالباطل في إبطال حد إن بلغ السلطان، أو أكل مال على ألا يبلغ وهو حرام ورشوة.(6/349)
واختلف عندنا في الصلح عما /تعلق منه بحق العباد في الأعراض بعد رفعه؛ كحد القذف. ففيه قولان وإن كان يكره بكل حال ج لأنه أكل مال في ثمن عرض. ولا خلاف أنه يجوز قبل رفعه. ولم يختلف في جواز ما كان منه في الأبد أن من القصاص في الجراح والنفس ؛ أن الصلح فيه جائز لا يرد بما اتفق عليه.
وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحضر الرجم وهو الإمام، وقد تقدم الخلاف في ذلك، ولا ذكر الحفر للمرجوم. وفيه رجم الثيب دون جلده، وجلد البكر ونفيه، وقد تقدم هذا.
وفيه من الفقه سؤال الإمام إذا قذف عنده قاذت المقذوف، فإن اعترف حد ودرئ عن القاذف الحد، وإن أنكر وأراد سترا سقط إلحد عنهما، وإلا سئل القاذف البينة، والا حد للقذف، كما وجه النبي أنيسا للمرأة. فأما لو شهد عند ألإمام أن فلانًا قذف فلانًا فلا يحده إلإمام حتى يطلبه المقذوف. وعند أبي حنيفة والشافعي والأوزاعي، وقال مالك: يرسل إليه، فإن أراد سترًا تركه وإلا حده. وقد اختلف قول مالك في عفوه وإن لم يرد سترًا.
وفيه قبول خبر الواحد. وفيه استتابة الحاكم غيره في مثل هذه وشبهه، وهو أمثل في اتخاذ القضاء والحاكم، وأصل في وجوب الإعذار.(6/350)
وفي جوازه لو حد في ذلك عندنا قولان. وقد يمكن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنده اعترافهما بذلك شهادة هذين الرجلين، فكان توجيه أنيس لهذا إعذارًا لها. وقد احتج به قوم في جواز حكم الحاكم في الحدود وغيرها. بما أقر به عنده الخصم، وهو أحد قولي الشافعي في إقامة الحد بذلك، وقول أبي ثور وفي الحد بذلك. والجمهور على خلافه. وإنما اختلفوا كثيرًا في غير الحدود. وعندنا في هذا قولان ولا حجة فيه للمخالف ؛ إذ ليس فيه بيان، ويحمل قوله: " فإن اعترفت " على الإعذار فيما ثبت قبل واعتراف على ما عهد بالبينة. ويحتمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنيس:« فارجمها »، أي: قد وجب عليها الرجم بعد مطالعة النبي ظين باعترافهما وأمره بذلك، ويحتمل أنه فوض الأمر كله إلى أنيس فإذا اعترفت بحضرة من يثبت ذلك بقولها - إن كان لم يثبت بعد - فقد جعل في ليه الحكم فيها، هذا يدل على أن أنيسًا وحده لا ينفرد بأمرها ؛ إذ لابد من حضور جماعة لإقامة الحد عليها.
وفي الحديث:" فاعترفت فامر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت "، فدل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم فيها بعد ما أعلمه أنيس بما صح عنده من اعترافها. فيه: أنه لم يفرق بين الزانية وزوجها، ولا أمر بتكرار الاعتراف منها. وقيل: فيه دليل على صحة الإجازة. وقيل: فيه تأخير الحدود إذا ضاق الوقت إلى أوسع منه؛ لقوله:« واغد يا أنيس ».(6/351)
قال القاضي: وليس بين إن لم يأت أن هذا كان عشاء. " واغد " بمعنى: سر أي وقت كان، معروفًا في كلام العرب. وفيه الاكتفاء بمجرد الإقرار دون مراعاة عدد كما تقدم ، وليس فيه جلد مع الرجم. وفيه مراعاة الإحصان في الرجم وقد صحت في هذه المرأه، وأنها متزوجة. ولعل حال الدخول بها - وقد صحت في هذه المرأة - كان معروفًا أو طول الإقامة مع الزوج أو وجود الولد، فاستغنى عن ذكره في الحديث. وقد جاء في الحديث المتقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمعترف له:" هل أحصنت ؟"
ولم يختلف العلماء في مراعاة الإحصان / للمرجوم، واختلفوا في صفته، وما هو ؟ فعند مالك أنها الوطء المباح بعقد صحيح تام لحر مسلم عاقل حين وطئه بالغ، ولم يراع هذه الصفات في الزوجة الموطوءة كيف كانت ؟ أمة أو كافرة أو مجنونة أو صغيرة. ويراعى الصفات فيها هي إن زنت بعد الإحصان كالرجل، إلا إذا كان زوجها صبيا غير بالغ فلا يحصنها بخلاف الصبية مع البالغ.
واختلف أصحابنا في الوطء المكروه والممنوع في النكاح الصحيح، هل يحصن أم لا ؟ ولم يشترط بعضهم العقل جملة في واحد منهما، وبعضهم اشترطه في الرجل دون المرأة. قال: فإذا كان عاقلاً كان إحصانا لهما إذا كانت مجنونة، وإن كان مجنونا لم يكن منهما إحصان بأن كانت عاقه لة. ولم يراع أبو حنيفة الوطء المحظور مع موافقته لنا في شروط الإحصان، وراعاه الشافعي ولم يجعل به إحصانا، ولم يشترط هو ولا أحمد في الإحصان الإسلام في نكاح الزوجين.
واختلف أصحاب الشافعي في الحرية والبلوغ، فمنهم من جعل النكاح دون ذلك إحصانًا، ومنهم من لم يجعله، ومنهم من فرق فجعل البلوغ شرطًا لازما للحرية، ومنهم من عكس. ولم يشترط أبو يوسف وابن أبي ليلى في الإحصان الحرية إذا كانت الزوجة حرة، فلم يراع الوطء الممنوع. وقال الليث والثوري نحو قول مالك، إلا أن الليث لا يراعى الوطء الممنوع.(6/352)
وقوله في حديث اليهوديين اللذين زنيا، وأنه - عليه السلام - رجمهما، قال الإمام - رحمه الله -: من الناس من يقول: إن إحصان الكافر يعد إحصانًا وتعلق بهذا الحديث، ومالك لا يراه إحصانًا، ويحمل هذا على أنه لم تكن له ذمة، فكان دمه مباحًا. ولكنه يعرض على هذا عندي برجمه للمرأة، ولعله يقول:كان هذا قبل النهي عن قتل النساء. قال القاضي - رحمه الله -: وقيل في رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهوديين لأنهم هم تحاكموا إلينا، وطلبوا ذلك منا ؛ بدليل قوله في "الموطأ": " جاءت اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فعندنا أنهم إذا أتوا هكذا أن الحاكم مخير، إن شاء حكم بينهم وإن شاء لم يحكم. فإن حكم حكم بحكم الإسلام، ذلك برأى المحكوم عليه منهما ورأى أساقفتهم ورهبانهم، وهو دليل قوله: " جاءت اليهود ". في غير "الأم": أن أحبارهم أمروهم بذلك، ويتخير الحاكم في الحكم بينهم، قاله الشافعي وجماعة من السلف، وحجتهم قوله تعالى:{ فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم }. وقال أبو حنيفة. يحكم بينهم بكل حال، ولماله جماعة من السلف، وهو قول الزهري وعمر بن عبد العزيز، وروي عن ابن عباس والحكم وأحد قولي الشافعي.(6/353)
ثم اختلف أصحابنا وأصحاب أبو حنيفة، هل يحكم بين المتحاكمين منهم بمجيء أحدهما ؟ أو حتى يجيئا معًا ؟ أو حتى يعلمهما بما يحكم به ويرضيان به وقال الشافعي - أيضًا-: لا يحكم بينهم في الحدود وحكم النبي بما حكم عليهما يحتمل أنه بحكم دينهما، وأنه لم يكن بعد نزل حكم الزنا عليهم، وكذلك قال بعض العلماء، قال: ولا يتفق لنا نحن اليوم بذلك. وقال بعض أصحابنا، ويدل عليه قوله في غير "مسلم" حين قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهذا يدل أنه في أول الأمر وسؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم عما في التوراة. قيل: هذا يحتمل أنه قد علم به بالوحي، وأنه مما لم يغيروه منها ؛ ولهذا مالم يخف عليه حين كتموه، أو أن يكون علم ذلك ممن وفق ممن أسلم من علمائهم. وفي الصحيح ب أن عبد الله بن سلام قال له: إن فيها الرجم./ ويحتمل أن يكون سألهم عن ذلك استخبارا عما عندهم ثم يستعلم صحته من قبل الله تعالى، ويكون حكمه بما في التوراة، إما لأنهم رضوا بذلك وصرفوا حكمهم إليه، أو لأن شرع من قبلنا لازم لنا مالم ينسخ على أحد القولين لأهل الأصول. قد قيل: إن هذا كان خصوصا للنبى - عليه السلام - إذ لا فضل عن أي معرفة ما أنزل عليهم، وللإجماع أن أحدا لم يعمل به بعده لقوله تعالى: { يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا }.
وقد احتج الدارقطني وأبو داود وغيرهما وبعضهم يزيد على بعض حديث اليهوديين مبينا، وفيه: فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -:« ائتوني بأعلم رجلين فيكم »، فأتوه بابني صوريا. وفيه: أنه سألهما:« كيف تجدون حدهما في التوراة ؟» فقالا: الرجل مع المراة ريبة وفيه عقوبة، والرجل على بطن المرأة ريبة وفيه عقوبة، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يدخله فيها كالمرود في المكحلة رجم. قال: « ائتوني بالشهداء »، فشهد أربعة فرجمهما. قال الدارقطني تفرد به مجالد عن الشعبي وليس بالقوي.(6/354)
وقولهم:" نسود وجوههما ونحملهما "، كذا للعذري والسمرقندي، وعند السجزي: " نجملهما " بالجيم المفتوحة، وعند الطبري:" نحملهما " بالحاء الساكنة.
قال الإمام: المحمم: المسود الوجه، وهو مفعل من الحمم، والحمم: الفحم، واحدتها حممة.
قال القاضي: فمن رواه:" نحممهما " فهذا معناه، ومن رواه: "نجملهما " بالجيم فمعناه: نحملهما على الجمال، كما قال في الرواية الأخرى: " نحملهما ".
وقوله:" ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما "، هذا كله مبالغة في التنكيل بهما. وقد قال كثير من اهل العلم بمثل هذا في شاهد الزور من عظم حرمته في التعزير، وأنه يحمم وجهه ويحلق رأسه، ويطاف به، وروي عن ابن الخطاب، وفعل ذلك في شاهد الزور بعض قضاة البصرة وحلق نصف رأسه، ولم ير مالك في آخرين حلق الرأس ولا التحميم.
وقوله:" فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجما "، حجة على ما تقدم من أنه لا يلزم الإمام تولي ذلك بنفسه، وإنما يكل الرجم إلى المسلمين، ومضى ما فيه من الخلاف. ورجم النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما وهما كافران مضى الكلام فيه، وبه يحتج من قال: لا يشترط الإسلام في الإحصان، وهو قول أبي يوسف وابن أبي ليلى على الجملة، وهو قول أبي حنيفة في الذميين وأن إحصانهم إحصان، وأحد قولي الشافعي، وتقدم قول مالك: إنما ذلك لأنهم كانوا غير أهل ذمة حينئذ، وتحاكموا إليه. قا لالطحاوي: وإذا كان ذلك فيمن له ذمة أخرى.
وقوله:" فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه "، حجة لمن يقول: لا يحفر له كما تقدم، وفيه حجة أنه لايربط ولا تشتد يداه.
وقوله: " يترك له يداه يتقي بهما "، ولم يذكر في الحديث في "الأم" من أين استحق - عليه السلام - عليهما الزنا. وقد ذكر أبو داود أنه شهد عليهما أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها.(6/355)
وقوله في الحديث الآخر عن البراء بن عازب: مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - يهودي محممًا، وسؤاله إياهم وذكرهم ما أحدثوه في ذلك / من التحميم، والجلد في أشرافهم، فقال:« اللهم إنى أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ا فأمر به فرجم »، ليس فيه - إن شاء الله - مخالفة لما تقدم من أنهم حكموه، ولا حجة للمخالف في إقامة حد الزنا على الكتابيين وإن لم يحكمونا لما في آخر الحديث: فأنزل الله تعالى:{ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر }، إلى قوله:{ إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا }، يقول: ائتوا محمدا فإن أمركبم بالتحمهيم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تعالى:{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون }، فهذا من نفس هذا الحديث بيان أنهم حكموه، واختصرها الراوى. فيحتمل أن التحكيم كان بعد أن مروا عليه، وأنكر عليهم فعلهم، والله أعلم.(6/356)
وقد احتج بهذا الحديث من يرى على الإمام إقامة حد الزنا على الذميين إذا زنيا، وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي. وحجة من قال بهذا القول قوله تعالى:{ وأن احكم بينهم بما أنزل الله }، وجعلوها ناسخة لآية التخيير، وهو قول ابن عباس في آخرين، وقال مالك: إذا زنا أهل الذمة فلا يعرض عليهم الإمام ويردهم إلى أهل دينهم، إلا أن يظهر منهم ذلك بين المسلمين ويضروهم بذلك فيمنعوا، وهو قول جماعة من العلماء، وأحد قولي الشافعي وأبي ثور في آخرين. وقال مالك: إذا زنا أهل الذمة فلا يعرض عليهم الإمام. وذهب المغيرة من أصحابنا إلى أنهما يحدان حد البكر كيف كانا. وقد بينا أنه لا حجة لهم بهذا الحديث لما فيه من أنهم حكموا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما الإتيان فحكمان عند هؤلاء وهو قول عطاء والحسن وليس المعنى عندهم بقوله:{ وأن احكم بينهم بما أنزل الله } على الوجوب، وإنما هو بمعنى الذي في آخر الآية الأولى ومعطوف عليها في قوله:{ فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } إلى قوله:{ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط }، ثم مرت التلاوة في هذه القصة وما تعلق بها، ثم أكد الحكم بينهم بالقسط وبما أنزل الله إن حكم، واختار ذلك من الأمرين فمعناه عندهم: وأن احكم بينهم بما أنزل الله إن حكمت كما قال:{ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط }.
وقوله:" رجم رجلاً من اليهود وامرأته "، أي صاحبته، ولم يرد زوجته، وفي الرواية الأخرى: " وامرأة،.(6/357)
وقوله: رجم رسرل الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: نعم. قلت: بعد ما أنزلت سورة النور أم قبلها ؟ قال:" لا أدري"، اختلف السلف والعلماء في آية النور، هل هي ناسخة لآيتي النساء، قوله:{ فأمسكوهن في البيوت }، وقوله: {فآذوهما }، قيل: بالقول والضرب بالأيدي، وقيل: هي منسوخة بحكم الرجم الثابت، وقيل: هي محكمة لا منسوخة ولا ناسخة، وأنها في البكرين ثابتة الحكم، وآية النساء في المحصنين، وأن الآية الأخرى من ايتى النساء ناسخة للأولى، ثم نسخ ذلك آية النور في البكرين وحكم الرجم في المحصنين.
وقوله:« إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها»، قال الإمام: فيه حجة لنا أن السيد يقيم على عبده الحد في الزنا / خلافًا، لمن منعه.
قال القاضي: جمهور العلماء على ما ذهب إليه مالك من إقامة السيد الحد على عبده، وأمته في الزنا، وروى عن جماعة من الصحابة والتابعين خلافًا لأهل الرأي والسنة من هذا الحديث وشبهه فقطع آراءهم.
واختلف القائلون باقامة الحد في الزنا في إقامة الحد عليه في القطع، مع اتفاق هؤلاء أن حدود الجلد كلها كحد الزنا يقيمها السيد. فقال الشافعي: يقطع يد عبده، وقاله بعض أصحابنا إذا قامت على السرقة بينة. ومنع ذلك مالك وغيره في القتل والقطع وقصامر الأعضاء ؛ مخافة أن يمثل بعبده، ويدعي أنه أقام عليه حدًا لئلا يعتق عليه، وأن ذلك للإمام. " فليجلدها الحد "، دليل على وجوب الحد على العبيد في الزنا، خلافًا لمن قال غير ذلك كما سنذكره.
وقوله: " فتبين زناها "، بين في أن الحد لا يكون إلا بعد الثبات والبيان التام وصفة الشهادة عليها على ما يكرن على غيرها، وهل يكتفى في ذلك السيد بعلمه ؛ عندنا في ذلك روايتان: الحد وإقامته وسقوطه عندنا، كانت ذات زوج أم لا. وعن ابن عمر: إن كانت ذات زوج رفع أمرها إلى السلطان.(6/358)
وقوله:« ولا يثرب عليها » التثريب: التوبيخ والمؤاخذة بالذنب، هذا حكم في هذا الباب وشبهه من ترك التعبير لأصحاب الذنوب بما سلف منهم، والمؤاخذة لهم بما قد حدوا فيه وعوتبوا عليه، ولومهم على ما سلف منهم وتوبيخهم عليه ؛ إذ لم يكونوا موافقين له فى الحين. وأيضًا فإن فى تكرار ذلك على الإماء والنساء سقوط بحشمتهن وكشف ستر الحياء بينهن وبين ساداتهن، حتى تسقط هيبتهن لهم فى ذلك فيكون سبب العود له ؛ لأن الشيء إذا أكثر من ذكره أنس به ولم يبال عنه.
وقوله:« ثم إن زنت فاجلدوها »، سنة فيمن تكرر منه الزنا وشبهه من المعاصي بعد حده عليها إن تكرر حده، ولا يسقطه الحد الأول.
وقوله:« ثم إن زنت مرة فليبعها ولو بضفير »، جاء مفسرًا فى الزواية الأخرى:" فليبعها ولو بحبل من شعر، وكل حبل ضفير، وكذلك كل ما ضفر وفتل، حض على بيعها وتكيد فى الخروج عن ملكها البعد عن صحبتها بعد الرابعة، وليس ذلك بواجب عند جمهور العلماء، خلافًا لداود وأهل الظاهر فى وجوبه، وفى هذا مجانبة أهل المعاصى ومباعدتهم. قالوا:وفيه جواز التغابن وبيع الخطير بالثمن اليسير. ولا خلاف فى هذا مع العلم به، إنما الخلاف إذا كان عن جهالة من الغبون. وعندنا فى ذلك. قولان: المعنى كيف كان والالتفات إلى الخروج عن عادة الناس فى التغابن إلى ما يكثر ويسمح فيرد وحده قائل هذا بالزيادة على ثلث الثمن والنقص منه، وليس فى الحديث عندى ما يستدل به على المسألة، وإنما هذا على طريق المبالغة فى بيعها بما أمكن، ولا تحبس ليرصد بها ما يرضى من الثمن.
وقوله فى رواية مالك فى الحديث: أنه - عليه السلام - سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال:« اجلدها ». كذا فى حديمث مالك. قال الطحاوي:لم?يقله غير مالك. قال غيره: قد رواه كذلك ولم يخص ابن عيينة ويحيى بن سعيد عن ابن شهاب كما / قال مالك.(6/359)
واختلف فى معنى الإحصان هنا فقيل: الحرية، وقيل: التزويج، وقيل: الإسلام، وهذا على الاختلاف فى قوله تعالى فيهن:{ فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة } الآية، قرئ بفتح الهمزة والصاد وبضم الهمزة وكسر الصاد. واختلف فى تفسير ذلك، هل هما بمعنى التزويج أو الإسلام، أو هما بمعنيين: بالفتح: الإسلام، وبالضم التزويج، و بحسب ذلك اختلف العلماء فى حد الأمة إذا زنت. فروي عن ابن عباس وبعض السلف: لا حد على أمة فى الزنا حتى تحصن بزوج، ولا حد على عبد، وهو مذهب أبى عبيد وذلك على قراءة " حصن " بالضم. وذهب الجمهور من السلف وفقهاء الأمصار فى أنها تحد نصف حد الحرة، كانت بزوج أم لا، وهذا الحديث حجة لهم، وحديث على المذكور بعد هذا وفيه:" من أحصن منهم ومن لم يحصن "، وقالوا: أحصنت معناه: أسلمت، وقد روى عن عمر بن الخطاب جلدهن في الزنا. وروي عنه - أيضًا - ما ظاهره لاحد على أمة، وروي نحوه عن ابن عباس أيضًا، وروي عنه: حتى تحصن تحد. قاله طاووس وعطاء وابن جريج، ذلك من لم يوجب الحد إذا لم يحصن، ويتأوله أنه إذا لم يسلمن يرى العقوبة، ويتأول قوله في هذا الحديث: " فاجلدوها "، ولم يقل: فحدوها. قوله في الحديث الأول:" فليجلدها الحد "، ففسره، وقال القاضي أبو القاسم: هما حديثان في أمتين، أحدهما: مسلمة تحد: والأخرى: كافرة لم تحصن، أي لم تسلم: تعاقب.
قال الإمام: وقول علي:" أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهم ومن لم يحصن، هذا قولنا في إقامة الحد على الأمة وإن لم يكن لها زوج، خلافًا لمن أبي ذلك واعتقد أن في شرط حدها إحصانها بالتزويج، وتأول قراءة من قرأ:{ إذا أَحصن } بفتح الهمزة والصاد على معنى التزويج، وقد تقدم الحديث المذكور فيه: " إذا زنت فاجلدوها " ولم يفرق. وفي بعض طرقه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال عن الأمة إذا زنت ولم تحصن: " إن زنت فا جلد و ها ".(6/360)
قال القاضي: وفي قوله: إن أمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زنت فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديث عهد بنفاس، فخشيت إن أنا أجلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبى ظيش فقال:« أحسنت »، حجة لما تقدم أنه لا يحد بالجلد المريض والنفساء حتى تستقل من نفاسها لأنه مرض، وأما من حده القتل فيحد كل حين لارتفاع العلة.
وقوله: أن النبي جلد في الخمر بجريدتين نحو أربعين، وفعله أبو بكر، وأن عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن:" أخف الحدود ثمانين "، فأمر به عمر، وفي الرواية الأخرى: أنه - عليه السلام - كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين، وذكر قول على: " جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌ سنة ".
قال الإمام - رحمه الله -: لو فهمت الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدًّا محدودًا في الخمر لما عملت فيه برأيها ولا خالفته، كما لم تفعل ذلك في سائر الحدود/، ولعلهم فهموا أنه - عليه السلام - فعل ذلك على موجب اجتهاده فيمن فعل فيه ذلك.
قال القاضي - رحمه الله -: أجمع المسلمون على وجوب الحد في الخمر، وأجمعوا أنه لا يقتل إذا تكرر منه ذلك، إلا طائفة شاذة قالوا: يقتل بعد حده أربع مرات، الحديث الوارد في ذلك وهو عند الكافة منسوخ بقوله - عليه السلام -: «لا يحل دم مسلم إلا بثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق »، وحديث النعمان وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حده ثلاث مرات ولم يقتله، ونهى عن لعنه، ودل على نسخه إجماع الصحابة على ترك العمل به.
واختلفوا في تفصيله وقدره، فمذهب الجمهور من السلف والفقهاء: مالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق والشافعي مرة وغيرهم: أن حده ثمانون جلدة. وقال الشافعي - أيضًا - وأبو ثور وداود وأهل الظاهر: حده أربعون. قال الشافعي: بالأيدى والنعال وأطراف الثياب.(6/361)
وحجة الأول: ما استقر عليه إجماع الصحابة، وأنه لم يكن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حدًّا معينًا، ألا تراه قال في الحديث: " نحو أربعين ".
وقوله: " بجريدتين "، يحتمل جمعها في أربعين، وكذلك جاء في حديث آخر عن أبي سعيد: أنه - عليه السلام - وأنه ضرب بنعلين في الخمر أربعين. فتأتي ثمانين، فيكون اجتهاد الصحابة في الثمانين وفي الأربعين على مقدار يجزئ ضربه - عليه السلام - وموافقته، لا على إحداث حد لم يكن. ويحتمل أن تكون جريدتين مفروقتين ضرب بكل واحدة منهما عددًا حتى أكمل بهما أربعين، وفصل عمر وأبو بكر وحد على الوليد بمحضر عثمان أربعين. واختلاف رأي علي في فعله يدل أنه لم يكن من النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك لا يخالف.
ثم اتفقوا على إقامة الحد على شارب القليل من خمر العنب وكثيره، سكر أو لم يسكر. وعلى حد من سكر من كل سكر. واختلفوا في حد من شرب مالا يسكر منه من غير خمر العنب، فجمهور السلف والعلماء على تسوية ذلك كله، والحد من قليله وكثيره لتيم يم قليله وكثيره. وذهب الكوفيون إلى أنه لا لجلد حتى يسكره وإن شربه مالم يبلغ السكر ، وعنهم - أيضًا - مثله في مطبوخ العنب المسكر، وخمر التمر عند بعضهم كخمر العنب. وقال أبو ثور: يجلد من يرى تحريمه ولا يجلد من يرى تحليله، ويتأول في ذلك. وقد مال إلى هذا التفريق بعض شيوخنا المتأخرين، وإجماع المسلمين منعقد على تحريم خمر العنب النيئ، قليله وكثيره.(6/362)
وضربه بالجريد والنعال يدل على تخفيف حد الخمر، وإلى هذا ذهب الشافعي: أنه لا لكون الحد إلا بمثل هذا إلا بالسوط. وعند مالك وغيره: الضرب فيه بسوط بين سوطين، وضرب بين ضربين، والحدود كلها سواء. وعند الزهري والثوري وإسحاق وأحمد والشافعي: أن الخمر أخف الحدود. وقال الليث كقول مالك. وقال آخرون: ضرب التعذير أشد، ثم ضرب الزنا، ثم ضرب الخمر، ثم ضرب القذف. وأجاز بعض أصحابنا في المدمنين عليه التغليظ بالفضيحة والطواف والسجن.
وقوله: " بجريدتين نحو أربعين "، لا خلاف بين العلماء أنه لا يجزئ ضرب بسوطين، أو بسوط / له رأسان في حد الصحيح، أو سياط مجموعة، ويحسب أعداد ذلك. واختلفوا في المريض الذي لا يرجى برؤه، فذهب مالك والكوفيون وجمهور العلماء إلى أنه لا يجزف فيه إلا ما يجزئ في الصحيح، ويغرك حتى يبرأ أو يموت. قال الشافعي: يضرب ضربة بعكول نخل يصل جميع شماريخها إليه، وما يقوم مقامه، على ما جاء في حديث مخدج. وقد روى عن على أنه ضرب الوليد بسوط له رأسان أربعين، وهذا يدل على أنه لم يحسب إلا كسوط واحد ؛ لأنه إنما حده أربعين. هذا يدل على أنه لم يحسب علئ ما جاء في الحديث.وذكر في الحديث أن عبدالرحمن بن عوف هو الذي أشار على عمر بالثمانين جلدة في الخمر. وفي "الموطأ" وغيره أنه علي بن أبي طالب.
وقوله:" فلما كان في زمن عمر ودنا الناس من الريف والقرى "، يعني فتحت الشام والعراق وبلاد الخصب والكروم والثمار. والريف ما دنا من المياه من الأراضي، ويعبر بذلك عن الخصب والسعة. ومشاورة عمر الناس في حد السكر دليل على تشاور أهل العلم في النوازل، أن المناكير إذا كثرت وجب الاهتبال بأمرها والتشدد فيها لئلا يؤنس بها. دليل الحال أنه كان الأمر في الخمر قبل أخف في مبدأ أحدها حتى كثر وقوع الناس فيها، وقياسهم لها على أخف الحدود أو على القذف ؛ لأن الشارب إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، أصل في القياس.(6/363)
وقول عبد الرحمن: " أخف ألحدود ثمانين " ويروى: " أخف الحدود ثمانين " بالنصب فيهما، وهو أوجه في العربية، أي: حد فيها أخف الحدود، أو اجعلهما أخف الحدود.
وذكر مسلم حديث عبد الله الداناج، ويقال أيضًا: " الدان " بغير جيم، " الداناه " بالهاء،ومعناه بالفارسية: العالم. وحضين بن المنذر بالضاد المعجمه. ذكر قصة الوليد وتخليطه في صلاة الصبح،وشهود الرجلين عليه، أحدهما أنه شرب خمرًا والآخر أنه رآه تقيأها. فقال عثمان:لم يتقيأها حتى شربها، والشهادة على القيء كالشهادة على الشرب. وقول عثمان: " قم يا على فاجلده، فقال على: قم يا حسن فأجلده ": فيه إقامة الفضلاء الحدود بانفسهم ؛ لأنها من أفضل القربات. وكذلك كان جلة الصحابة يقيمونها بين يدى الخلفاء. ويجب أن يختار لإقامتها عند جميع العلماء أهل الفضل والعدل، إذا أمكنوا ؟ لئلا يشعه وأنى ذلك.
وقول حسن:" ول حارها من تولى قارها "، مثل من أمثال العرب. قال الأصمعي: ول شدتها من تولى هنيئها.
والقار: البارد. ومعنى قول الحسن هذا: أي ول ضربه وإقامة الحد عليه من قلده الله أمر المسلمين. وقال الخطابي: معناه: ول عقوبته من توليه العمل والنفع. الأول أولى وأبين في القصة. وفي أمر على للحسن ثم لعبدالله جواز استنابة الحكام فيما قلدوه، لا سيما بمحض مقلدهم ومعرفته. وإنما خص عثمان عليًّا بجلده لكونه اقرب إليه من غيره ؛ إذ يجمعهم عبد مناف، عليٌّ من بني هاشم بن عبد مناف، والوليد من بني عبد شمس ابن عبد مناف.
وقول علي لما بلغ ضربه أربعين: " أمسك، جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي "، فيه ما كان يعتقد على في إمامة الخليفتين أبي بكر وعمر، وأن حكمهما سنة، وأمرهما حق لقوله - عليه السلام - /:« اقتدوا باللذين من بعدي »، خلاف ما يكذب عليه فيه الرافضة والشيعة.(6/364)
وقوله: " هذا أحب ": حمله أكثرهم على الأربعين، وقد روي عن علي في هذه القصة أنه ضربه ثمانين، وهو المعروف من مذهب علي.
وقوله في قليل الخمر وكثيرها ثمانون جلدة. وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه جلد المعروف بالنجاشي ثمانين، والمشهور أن عليا هو الذي أشار على عمر بإقامة الحد في الخمر ثمانين، على ما في "الموطأ" وغيره. وهذا كله يرجح رواية من رواه أن حد الوليد ثمانين، وقد ذكره البخاري أيضًا. ويجمع بينه وبين ما هنا: ماروى أنه حده بسوط له رأسان، فجاء في العدد ثمانين ضربة، كما جاء في حد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين بنعلين. وفي الحديث الآخر بجريدتين، وأن عمر جعل ذلك لكل نعل سوطًا،وكان شأن الحد في الخمر على التخفيف عندهم - والله أعلم - مع قوله: " وحد عمر ثمانين وهذا أحب إلينا "، فعادت الإشارة إلى أقرب مذكور. وقد نحا الطبري إلى توهين خبر الوليد وذكر أنه تحومل عليه في الشهادة في تلك القصة.
وقول علي:" ما كنت أقيم على أحد حدًّا فيموت فأجد منه في نفسي، إلا صاحب الخمر ؛ لأنه إن مات وديته ؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسنه، يعني: لم يجد منه حدًّا لا يتعداه، وإنما كان ضربه إياه على ما تقدم، لكن لما كثر شرب الناس له اجتهد فيه الصحابة كما تقدم. وقد رده قياسًا على ما يستحق من الحدود. وبنحو قول علي قال الشافعي، قال: إن حد أربعين بالأيدي والنعال والثياب فمات فالله قتله، وإن زيد على الأربعين بذلك، أو ضرب أربعين بسوط فمات، فديته على عاقلة الإمام.(6/365)
ولم يختلف العلماء فيمن مات من ضرب حد وجب عليه أنه لا دية فيه على الإمام ولا على بيت المال. واختلفوا فيمن مات من التعزير، فقال الشافعي: عقله على عاقلة الإمام وعليه الكفارة، وقيل على بيت المال. وجمهور العلماء: أنه لاشيء عليه. وبقية الكلام فيما يحل ويحرم من الأشربة في كتابهما إن شاء الله تعالى، كذا الرواية في جميع النسخ ؛ لأنه إن مات وديته. فكذا روى البخاري ؛ لأن ديته إياه كفارة استرابته وتروعه لا علة ذلك. وقد روى عن ابن الحذاء أنه إن مات، وهو قريب من هذا.
قوله:« لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله »، قال الإمام: هذا خلاف مذهب مالك ؛ لأنه يجيز في العقوبات فوق هذا وفوق الحدود ؛ لأن عمر - رضي الله عنه - ضرب من نقش على خاتمه مائة، وضرب صبيعًا أكثر من الحد. وقد أخذ ابن حنبل بظاهر الحديث فلم يزد في العقوبات على العشرة، وتاول أصحابنا الحديث على أنه مقصور على زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه كان يكفى الجاني منهم هذا القدر، وتاولوه - أيضًا - على أن المراد بقوله: " في حد من حدود الله " ؛ لأن المحرمات كلها من حدود الله. وقال أبو حنيفة: لا يبلغ في التعزير أربعين، وقاله الشافعي، وقال أيضًا: لا يبلغ عشرين لأنه أدنى حدود / العبد في الخمر. فقال بعضهم: لا يبلغ ثمانين.(6/366)
قال القاضى: فظاهر هذا الحديث من أصحابنا أشهب في بعض الروايات عنه، واحتج بالحديث. وقد اختلف مذهب مالك وأصحابه في ذلك، فالمشهور عنه وعنهم ما تقدم، وأن ذلك يوكل إلى اجتهاد الإمام، وبقدر جرم الفاعل وشهرته بالفسق وإن كثر جدا، ونحوه عن أبي يوسف وأبي ثور والطحاوي. وروى عن محمد بن الحسن مثله، قال: وإن بلغ ألفا. وروي عنه مثل قول أبي حنيفة. وروى عن مالك في الضرب في التهمة في الخمر والفاحشة خمسة وسبعين سوطًا، لا يبلغ به الحد، وقد مال إليه أصبغ من أصحابنا، ونحوه لمحمد بن مسلمة، قال: لا أرى أن يضرب السلطان في الأدب مثل الحدود، ولا يبلغ به الحد أبدا، ونحوه لابن أبي ليلى وأبي يوسف، قال: أقله خمسة وسبعون. وروى عن عمر: لا يبلغ في تعزير أكثر من ثمانين. وروي عن ابن أبي ليلى - أيضًا - وابن شبرمة: لايبلغ مائة ويضرب مادونها. وروي عن الشافعي سوى ما تقدم للذى يضرب في الأدب أبدًا وإن أتى على نفسه، حتى يقر بالإنابة فيرفع عنه. وقال ابن أبي ذئب وابن أبي يحيى: لا يضرب أكثر من ثلاثة في الأدب. وقاله أشهب في مؤدب الصبيان، قال: فإن زاد اقتص منه، وعن الزبير من أصحاب الشافعي: تعزير كل ذنب مستنبط من حده لا يجاوز به حده.
قال الإمام: ذكر مسلم هذا الحديث من حديث سليمان بن يسار عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، عن أبي بردة الأنصارى، قال بعضهم. هكذا روى عند ابن ماهان بالدال المهملة وهو الصواب، وروى عن الرازي وغيره عن الجلودي عن أبي برزة، بالزاي وهو خطأ. ويقال في اسم أبي بردة هذا: هانى بن نيار الحارث، ويقال: هو رجل آخر من الأنصار.
قال القاضي: الحديث معروف لأبي بردة. وكذا خرجه البخاري وغيره. ولم يقل أحد فيه: أبو برزة. وأبو برزة هنا تصحيف.(6/367)
قال القاضي: ورواه مسلم من حديث عمرو، وهو ابن الحارث عن بكير بن الأشجع، عن سليمان، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه عن أبي بردة. قال الدارقطني: تابع عمرو بن الحارث أسامة بن زيد عن بكير عن سليمان، وخالفهما الليث وسعيد بن أبي أيوب وابن لهيعة، فرووه عن بكير، عن سليمان، عن عبد الرحس بن جابر، عن أبي بردة. لم يقولوا عن أبيه. واختلف فيه على مسلم بن أبي مريم، فقال ابن جريج عنه عن عبد الرحمن بن جابر، عن رجل من الأنصار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال جعفر بن ميسرة عنه عن جابر عن أبيه. قال أبو الحسن في كتاب العلل: والقوى قول الليث ومن تابعه عن بكير، قال في كتاب التتبع: وقول عمرو صحيح.
وقوله:« تبايعوني على ألا تشركرا بالله شيئًا، ولا تزنوا،ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفي منكم فاجره على الله. ومن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه، فأمره إلى الله. إن شاء عفا عنه / وإن شاء عذبه »، قال الإمام - رحمه الله -: هذا الحديث رد على من يكفر بالذنوب وهم الخوارج، ورد على من يقول: لا بد من عقاب الفاسق الى إذا مات على كبيرة ولم يتب منها وهم المعتزلة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذه المعاصى وأخبر أن أمر فاعلها إلى الله - سبحانه - إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه، ولم يقل: لا بد أن يعذبه. وفيه تكفير الذنب بإقامة الحد. وقد قال في طريق بعد هذا الحديث فزاد فيه: "ولا ننتهب ولا نعصي، فالجنه إن فعلنا ذلك ". فتأمل تحرير نقلة الشريعة، وذلك أنه قال في الحديث الأول: " فمن وفي منكم فاجره على الله ا، ولم يقل: فالجنة ؛ لأنه قد يعصي بغير هذه الذنوب ؛ كشرب الخمر، وأكل الربا، وشهادة الزور. وقال في الحديث الآخر: " ولا ننتهب ولا نعصي " فعم سائر المعاصي، ولا شك أن من لا يعص أصلاً له الجنة.(6/368)
قال القاضي: أكثر العلماء ذهبوا إلى أن الحدود كفارة أخذًا بهذا الحديث، ومنهم من وقفه بحديث أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال:« لا أدري الحدود كفارة أم لا »، لكن حديث عبادة أصح إسنادًا. ولا تعارض بين الحديثين، فقد يمكن أن حديث أبي هريرة قبل حديث عبادة؛ إذ لم يعلم أولاً حتى أعلمه الله تعالى أخيرًا. واحتج من وقف بقوله:{ ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم }، والآية مختلف فيها، هل هي في الكفارة أو محاذير الإسلام، فإن كانت في الكفارة فلا حجة فيها، وأيضًا فيكون حديث عبادة مخصصا لعموم الآية، أو مبينًا ومفسرًا لها.
وقوله:" لا يعضه بعضنا بعضا "، كذا رواية الجماعة، لمعناه تأويلات: أحدها: لا يسخر. والعضيهة. والعضه: السخر، والاخر النميمة، وهي العضه والعضه أيضًا والآخر البهتان، أي لا يقذفه ولا يكذب عليه، وينسب إليه ما ينقصه ويتأذى به. والعضيهة: الإفك والبهتان، يقال: عضه الرجل بالفتح، وأعضه: إذا أفك.وعضهت وأعضهمت فلانا، كذا جاء هذا الحرف في رواية الجماعة وعند العذري: " ولا يعض بعضنا بعضًا " بغيرها على وزن يقض، والأول أبين إلا أن يخرج على بعد من التأويل على قوله تعالي:{ جعلوا القرآن عضين }، أي: سحرًا، على ما فسره بذلك، وهو قول الفراء، وجعل العضه قد نقصت منها الأصل، وألحقت علامة التأنيث، فيخرج فعله على هذا أيضًا، والله أعلم.(6/369)
وقوله:« العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس »، قال الإمام: إنما جاء الشرع بتضمين المنلف لنفس غيره أو ماله مباشرة، أو كان السبب في ذلك على شروط في كونه سببًا يطول استقصاؤها، ومالم يباشره ولا كان سببا فيه فلا يضمنه. هذا أصل الشريعة سوى ما استثنته من هذا، من تضمين العاقلة، وإذا لم تجن ولا كانت سبب الجناية. والدابة إذا أصابت إنسانا ففعلها غير منسوب لمالكها فلا ضمان عليه، فإن كان راكبها أو سائقها أو قائدها ضمن على الجملة على تفصيل في ذلك ؛ لأن له في فعلها مشاركة ؛ لإمكان أن يجذبها أحد هؤلاء عن طريق الإتلاف. وكذلك البئر/ إذا استأجره لحفوها فانهارت عليه، فلا ضمان على المستأجر. وكذلك المعدن الذي يعمل فيه، والعلة ما ذكرناه.
قال القاضي - رحمه الله -: العجماء: ما لا ينطق من الحيوان، وهو مالا يعقل منه من البهائم. وجرحها منايتها، كانت جرحًا أو غيره من إتلاف نفس أو مال، فعبر بالجرح عما عداه. فقوله:" جرح العجماء جبار" بين أن ما حكم له بهذا الحكم مالم يكن فيه سبب لغير العجماء، ولهذا اختص بإضافته إليها.
ولا خلاف بين العلماء في جنايات البهائم نهارًا أنها هدر ؛ إذا لم يكن لها سائق ولا راكب. واختلفوا إذا كان معها أحدهما، فجمهورهم أنهم ضامنون لما جنت الدابة من أجلهم. وقال داود وأهل الظاهر: لاضمان من جرح العجماء على حال لا أن يحطها سائقها أو قائدها أو راكبها على ذلك أو يقصده. واختلفوا فيما أصابته برجلها أو ذنبها، فلم يضمن مالك والليث والأوزاعي صاحبها، وضمنه الشافعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة. واختلفوا فيما فعلته الضارية، فجمهورهم أنها كغيرها ومالك وبعض أصحابه يضمنونه.(6/370)
واختلفوا في رعيها ليلاً، فضمن مالك ذلك أصحاب المواشي، وبه قال الشافعي، ولم ير أبو حنيفة في فعل البهائم ضمانا في شيء في ليل ولا نهار، وجمهورهم على أنه لا يضمن ما رعت نهارًا. وقال الليث وسحنون: يضمن. وقوله:" والمعدن جبار "، وهوحيث يعمل في المعادن لما يخرج منها فتصير فيها النير، أن يستاجر من يعمل فيها، أو يجتمع القوم يعملون فيها، وكذلك البئر تحفر. وقد يكون - أيضًا - معنى البئر جبار: ما حفره الرجل في ملكه وحيث يجوز له، أو بئر يحفرها بفناء داره أو جانب داره للمطر، أو للبئر خاصًّا أو بالقيام لماشيته أو لسقيه ومنفعته، مالم يجعل ذلك على طريق المسلمين وممرهم، فيقع في ذلك إنسان فيهلك، كل ذلك لا ضمان على فاعله. وكذلك المستأجر على حفرها، بخلاف ما حفره في ملك غيره بغير إذنه، أو على طريق المسلمين حيث لا يباح له،أو في ملكه ليهلك فيها إنسانًا أو سارقًا. ففي هذا كله يضمن حافرها في ماله ما دون ثلث الدية مما يصيب الدية مما يصيب، وما كان أكثر فعلى العاقلة ونحو هذا، كله قول مالك، ونحوه قول الشافعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه: هر ضامن في هذا كله. وقال الليث: لا يضمن ما هلك فيما حفر للسارق. وتفريقه بين المعادن في الحديث ولو كان حجة للكافة في أن لو كان دفن في الجاهلين، وأن المعدن ليس بركاز، خلافًا لأبي حنيفة في تسمية المعدن ركازًا.(6/371)
قال الإمام: والركاز: دفن الجاهلية، وقد قدمنا في كتاب الزكاة لم خصص بالخمس، وأشرنا إلى أن النقب كلما كثر خفف عن الإنسان أمر الصدقة، ولهذا كان في المعادن الزكاة، إلا أن يكون يوجد فيها مثل البدرة فيخمس لعدم النقب فيها. و " جبار " معناه: هدر. رالركاز في اللغة: أصله الثبات والدوام، من قولهم: ركز الشيء في الأرض: إذا ثبت أصله. والكنز يركز في الأرض كما يركز الرمح وغيره. وهو عند أهل الحجاز: المال المدفون خاصة مما كنزه أهل الجاهلية. وعند أهل العراق: المعادن كلها في كل محتمل في اللغة.
قال القاضي - رحمه الله -: مضى الركاز والمعادن في الزكاة مما يغني عن إعادته.
كتاب الأقضية
قوله - صلى الله عليه وسلم -:« لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه »، قال القاضي: خرَّج البخاري ومسلم هذا الحديث مسندًا مرفوعًا عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الأصيلى: لا يصح قوله ورفعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما هو من قول ابن عباس. كذلك رواه أيوب ونافع الجمحي عن ابن أبي مليكة عنه.
قال القاضي: قد خرجه الإمامان من رواية ابن جريج عن ابن أبي مليكة مرفوعًا كما تقدم.(6/372)
قال الإمام: اليمين في الشريعة على أقوى المتداعيين سببًا. ولما كان الأصل عدم الأفعال والمعاملات استصحبنا ذلك، فكان القائل ما يطابق هذا الأصل هو المدعى عليه فوجب تصديقه، ولكن لم يقتصر الشرع على الثقة بهذا الأصل في كثير من الدعاوى، حتى أضاف إليه يمين المدعى عليه المستمسك بهذا الأصل ؛ لتتأكد غلبة الظن بصدقه. وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - على وجه الحكم في هذا فقال:« لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم »، ولا شك في هذا. ولو جعل القول قول المدعي لاستبيحت الدماء والأموال، ولا يمكن لأحد أن يصون دمه وماله، وأما المدعون فيمكنهم صيانة أموالهم بالبينات ؛ فلهذا استقر الحكم في الشرع على ما هو عليه.
وقد يتعلق بهذا الحديث من يوجب اليمين على المدعى عليه من غير اعتبار خلطة ؛ أخذًا بعمومه وظاهره من غير تقييد بخلطه. ومذهب مالك في مراعاتها لضرب من المصلحة، وذلك أنه أوجب لكل حد على كل أحد، لا تبذل السفهاء العلماء والأفاضل بتحلينهم مرارًا كثيرة في يوم واحد، فجعل مراعاة الخلطة حاجزًا من ذلك. وقد يتعلق بهذا الحديث من يرى ألا يقسم مع قول الميت: دمي مع فلان ؛ لأنه فيه في هذا الحديث على صيانة الدماء عن الانتهاء بالدعاوى، وقد قدمنا الكلام على هذا في القسامة.
قال القاضي - رحمه الله -: حجة من راعى الخلطة مع المعنى الذي ذكره حديث ضميرة عن على وزيد بن ثابت - رضى الله عنهما - أو زيادته في هذا الحديث إذا كانت بينهما مخالطة مع قضاء على بذلك، وهو مذهب الفقهاء السبعة، وأما سائر الفقهاء وأئمة الأمصار قد ترك مراعاة الخلطة لامضاء الحديث على ظاهره في كل أحد، وبه قال من أصحابنا ابن نافع وابن لبابة وغيرهما.(6/373)
ثم اختلف شيوخنا في معنى الخلطة، فقيل: معرفة المعاملة معه والمداينة بشاهد واحد وبشاهدين، وقيل: يجزئ في ذلك الشبهة، وقيل: الخلطة أن يكون للدعوى بينة أن يدعى بها على المدعى عليه، وقيل: أن يكون المدعى عليه يشبهه أن يعامل المدعي.
وأجمع العلماء على استحلاف المدعى عليه في الأموال إما مطلقة أو بعد موجب الخلطة أو الشبهة على ما تقدم. واختلفوا في غير ذلك، فذهب الشافعي وأحمد وأبو ثور إلى وجوبها على كل مدعى عليه في حد أو طلاق أو نكاح أو عتق ؛ أخذًا بظاهر عمرم الحديث، فإن نكل حلف المدعي وثبتت دعواه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يحلف النكاح والطلاق والعتق، فإن نكل لزم النكاح والطلاق والعتق. وقال الشعبى والثوري وأبو حنيفة: لا يستحلف في الحدود إلا على السرقة. وقال نحوه مالك. وقال: لا يستحلف في السرقة إلا إذا كان / متهمًا، قالا: أن يقوم لمدعى الحدود والنكاح أو الطلاق أو العتق فشاهد واحد، فيستحلف حينئذ عند مالك المدعى عليه لقوة شبهة الدعوى. واختلف قوله إذا أنكل، هل يحكم عليه بما ادعى عليه ويسجن ؟ أو حتى يطول سجنه ؟
وذكر مسلم في الباب: نا ابن أبي شيبة، نا محمد بن بشير، عن نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة. كذا لجمهورهم، وهو الصواب. وعند أبي جعفر وفي بعض النسخ الماهانية: عن نافع عن ابن عمر، وهو خطأ. وهذا نافع بن عمر بن جميل المكي، قال البخاري: سمع ابن أبي مليكة، وروى عنه يحيى القطان وأبو نعيم.
وقوله:" إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد "، قال القاضي: هذه الرواية تبين الرراية الأخرى، وترفع احتمال التعسف ممن خالفنا في قوله: في قض الشاهد باليمين مع شاهد " أن معناه:باليمين على المدعى عليه مع وجود الشاهد، أي لم تؤثر عنه مرة انفراده.(6/374)
قال الإمام: اختلف الفقهاء في قبول الشاهد الواحد في بعض الحقوق والمطالب، فنفى بعضهم قبوله أصلاً، ورأى أن قوله تعالى:{ فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } يوجب الاقتصار على هذا المذكور في القرآن، وإذا جاء هذا الحديث بخلافه وسلم من القدح فيه باحتمال لفظه، وأن القضية لم تنقل صفتها - فإن ذلك زيادة على النص، والزيادة على النص لا تكون نسخًا في كل موضع، والنسخ لا يكون باخبار الاحاد. وأما نحن فإنا نقبل الشاهد واليمين في الأموال، ونرى أن الزيادة على النص لا تكون نسخا في كل موضع. وهذا من المواضع التي لا يكون فيها نسخ. ونظن أنا قدمنا بسط القول في الأصل، وإذا ثبت قبول شهادة الشاهد الواحد في الحال والمال، فيقبل في المال المحض من. غير خلاف عندنا. ولا يقبل في النكاح والطلاق المحضين من غير خلاف. وإن كان مضمون الشهادة ماليس بمال ولكنه يؤدي إلى مال ؛ كالشهادة بالوصية، والنكاح بعد الموت حتى لايطلب من ثبوته إلا المال إلى غير ذلك مما في معناه، ففى قبوله اختلاف، فمن راعى المال قبله كما يقبل في المال، ومن راعى الحال لم يقبله كما لا يقبله في الطلاق والعتاق.(6/375)
قال القاضي: جاءت أثار كثيرة في هذا الباب من رواية ابن عباس، وجابر، وعلى، وأبي هريرة، وزيد بن ثابت، وعمارة بن حزم، وسعد بن عبادة، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومسروق. قال أهل الحديث: وأصح ما في الباب حديث ابن عباس. قال أبو عمرو الحافظ: لا مطعن لأحد في إسناده، ولا خلاف بين أهل المعرفة في ثبوته، وحديث أبي هريرة وجابر وغيرهما حسان، وطرق هذه الأحاديث كثيرة. وبهذه الأحاديث أخذ معظم علماء المسلمين وأنمتهم من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وبه قض أبو بكر وعلى وعمر بن عبد العزيز، وبه قال كافة فقهاء المدينة والحجاز وبعض العراقيين وفقهاء أصحاب الحديث والظاهر أجمع. والحكم بهذا عندهم في الأموال خاصة. وذهب الكوفيون والأوزاعي والليث والحكم والشعبي إلى ترك الحكم به، وبه قال يحيى بن يحيى والأندلسيون من أصحابنا.
وقوله:« إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم / أن يكون ألحن بحجته من بعض، فاقض له على نحو مما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار »، وفي الرواية الأخرى:« إنما أنا بشر».
قال الإمام: مذهبنا أن حكم الحاكم لا يحل الحرام، وسواء الدماء والأموال والفروج. وعند أبي حنيفة أنه يحل الحرام في الفروج، ووافقنا على الأموال، وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما، فإن فرجها يحل لمتزوجها فمن يعلم أن باطن القضية باطل وقد شق عليه بانه صان الأموال ولم ير استباحتها بالأحكام الفاسدة في الباطن، ولم يصن الفروج عن ذلك، والفروج أحق أن يحتاط لها وتصان. وقد احتج أصحابنا عليه بعموم هذا الحديث.(6/376)
وقوله:« ألحن بحجته من بعض »، أي: أفطن لها، ومنه قول عمر بن عبد العزيز: عجبت لمن لاحن الناس كيف لا يعرف جوامع الكلم، أي فاطنهم. وقال أبو الهيثم: العنوان واللحن واحد، وهما العلامة يشير بهما إلى الإنسان ليفطن فيهما لقوله: لحن لي فلان ففطنت، ويقال للذى يعرض ولا يصرح: قد جعل كذا لحاجته لحنا وعوانا وعنوانًا.
قال القاضي: وقوله لهما: " إنما أنا بشر "، تنبيه على حالة البشرية، وإن البشر لا يعلمون في الغيب والبواطن إلا ما يطلعهم الله - سبحانه - عليه وأنه منهم، وأنه يجوز عليه في أمور الظاهر باللحون عليهم. وفيه أن حكمه - صلى الله عليه وسلم - بين الخلق إنما كان على الظاهر، وإن كان باطن أمرهم بخلافه، فقض باليمين وبالشاهدين والعفاص والوكاء حكمة من الله تعالى في ذلك ؟ ليتعلم منه أمته طريق الحكم، ويقتدى به في القضاء، ولو شاء الله لأطلعه على سرائر الخصمين ومخفيات ضمائر المدعين، فيترلى الحكم بمجرد يقينه، وبقض بقطع مغيبه دون حاجة إلى اعتراف أو بينة أو يمين أو شبهه. ولكن لما أمر الله سبحانه أشه باتباعه والاقتداء به في أقواله وأفعاله وكان هذا مما يخص الله تعالى به لم يكن للأمة سبيل الاقتداء، في شيء من ذلك ولا قامت حجة بقضية من قضاياه ؛ لأنا لا نعلم بما أوحى به فيه إليه، ولا ما اطلع من أمر الخصمين عليه بحكمه هو، إذ المكنون من علم الله. فأجرى الله - تعالى - أحكامه ت على الظاهر الذي يستوى فيه هو وغيره من البشر ؛ ليصح اقتداء أمته به في قضاياه، ويأت ما أتوا من ذلك على علم من سنته، واعتمادًا على علمه ؛ إذ البيان بالفصل إجلاء فيه من القول وأرفع لاحتمال اللفظ.(6/377)
وقوله:« فأقضي له على نحو ما أسمع »، احتج به من لا يجيز له حكم الحاكم بعلمه لقوله:« فلعل بعضكم أن يكون ألحن في حجته من بعض »، ولقوله:« فأحكم له بما أسمع »، ولم يقل: بما أعلم، ولأن من يرى أحكام الحاكم بعلمه لا يلتفت إلى ماسمع منه الخصم، خالف أو وافق، لا يلتفت إلى حجج الخصم ولا ببيانه إذا علم خلاف ذلك.
وقد يتعلق للاحتجاج به من يجيز حكم الحاكم بما اعترف به عنده في مجلسه لقوله: " بما أسمع " ولم يقيده بثبات بينة، ويتأول " أقضي له" بمعنى: أقضي عليه، وكلاهما ليس ببين في الحجة ؛ إذ قد يكون معناه بما أسمع منه من حجة وثبت عندي له من بينة، ألا تراه إنما جعل السماع / هنا للمقضي له لا للمقضى، ولو كان ما سمع منه إقرارا لكان الحكم إذًا للمقضي عليه الغير، وكان يحتمل الكلام، وإنما أراد: فأقضي له بما يأتي به فأسمع له من حجة وبينة.
وقد اختلف العلماء في حكم الحاكم بعلمه وما سمعه في مجلس نظيره، فمذهب مالك وأكثر أصحابه: أن القاضي لا يقضي في شيء من الأشياء بعلمه، لا فيما أقر به في مجلس قضائه ولا في غيره، وهو قول أحمد لي إسحاق وأبي عبيد، وروى عن شريح والشعبى. وذهب جماعة من علماء المدينة إلى أن القاضي يقضي بما سمعه في مجلس قضانه خاصة لا قبله ولا في غيره، إذا جحده ولم يحضر مجلسه بينة في الأموال خاصة، وبه قال الأوزاعي وجماعة من أصحاب مالك المدنمنن وغيرهم، وحكوه عن مالك. وذهب أبو حنيفة إلى أنه يحكم بما سمعه في قضائه وفي مصره، لا قبل قضائه ولا في غير مصره في الأموال خاصة لا في الحدود. واستثنى بعض أصحابه القذف ولم يشترط مجلس القضاء. وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أنه يقض في الأموال بعلمه في القضاء وقبله وما سمعه بمصره وغيره، وهذا أحد قولي الشافعي. وقال الشافعي في مشهور قرليه وأبو ثور ومن تبعهما: إنه يقضي بعلمه في كل شيء من الأموال والحدود وغيرهما بما سمعه وراه وعلمه قبل قضائه وبعده، بمصره وغيره.(6/378)
وقوله:« فإنما أقطع له قطعة من النار »، معناه: إن قضيت له في الظاهر بما الحكم في الباطن خلافه. وترجم عليه البخاري: أن القضاء في القليل والكثير سواء لقوله:" بشيء ".
وقوله: " قطعة من النار ": قيل: أي من العذاب بالنار، فسمى العذاب بها باسمها، كما قال: إنى أنا الموت. وقد يكون على طريق التمثيل لما يضره من ذلك في أخراه كما تضره النار، بدليل قوله في الرواية الأخرى: " فليحملها أو ليذرها ". وفيه وعظ الحاكم المتخاصمين، وقد ترجم عليه البخاري - أيضًا.
لفظ التخيير، والمراد به النهي المحض والوعيد كقوله:{ اعملوا ما شئتم }،! { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر }.
وقوله:" سمع جلبة خصم "، الجلبة: اختلاط الأصوات، ومثله اللجبة في الرواية الأخرى، وكلاهما يفتح وسطه. والخصم يطلق على الواحد والجمع.
وقوله: " فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض " تفسير معنى قوله: "ألحن بحجته من بعض "، أي: أفطن.
قوله في حديث هند بنت عتبة: إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل على في ذلك من جناح، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك »، قال الإمام: نبه الناس في هذا الحديث على فوائد منها: وجوب نفقة الزوجة ونفقة البنين.
ومنها: أن الإنسان إذا أمسك آخر حقه وعثر له على ما يأخذ منه فإنه يأخذه ؛ لأنها ذكرت أنها تأخذ بغير علمه.
ومنها: جواز إطلاق الفتوى والمراد تعليقها بثبوت ما يقوله الخصم ؛ لأنها ذكرت أنه يمنعها حقا، فقال ت لها: " خذي "، وهذه إباحة على الإطلاق، ولم يقل: إن ثبت ذلك، ولكنه هر المراد. ولهذا لا يقول كثير من المفتيين / في جوابهم: إذا ثبت ذلك، وبحذفونه اختصارًا.
ومنها: أنه علق النفقة بالكفاية، وهو مذهبنا، خلافًا لمن زعم أنها مقدرة. وهذا حجة عليه. وفيه إشارة إلى أن لها مدخلاً في كفالة بنيها في الإنفاق عليهم.(6/379)
قال القاضي: وفيه من الفوائد غير ما ذكر، منها: الحكم على الغائب، فقد استدل به البخاري وترجم عليه ؛ لأن أبا سفيان لم يكن حاضرًا. وقد اختلف العلماء في الحكم على الغانب، قال الكوفيون: لا يقضي عليه في شيء. وقال الجمهور: يقضي عليه في كل شيء، وعن مالك في الحكم عليه في غيرها، وقيد الحكم بالعرف لقوله: " ما يكفيك وولدك بالمعروف "، وذلك على ما جرت به عادتهم في الإنفاق وبقدر حاجتهم وقدر ماله، وتحري القصد والوسط دون الإكثار والإقتار.
وفيه أن ذكر الرجل بما فيه عند الحاكم والمستفتي ليس بغيبة.
وفيه جواز خروج المرأة في حوائجها، وأن المرأة تستفتى للعلماء، وأن كلامها وصوتها ليس بعورة. وفيه دلالة على حكم الحاكم بعلمه فيما اشتهر وعرف. وكذا ترجم البخاري عليه: باب حكم الحاكم إذا لم يخف الظنون والتهمة، وكان أمرا مشهورا إذ يحوجها إلى إثبات دعواها ولا زوجيتها. وفيه تكلم الحاضن على محضونيه، والغنم بالأمر فيما أسند إليه أو تكلف من قبل نفسه، وصحة ذلك له. وقد أدخل هذا الحديث البخاري تحت ترجمة قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه، هل يباخ له أخذه، واختلف العلماء فيمن منعه رجل حقه ثم قدر له الممنرع على مال، هل يأخذ حقه منه بغير رضاه أو خفية عنه، فأجازه جماعة، واحتجوا بهذا الحديث، منهم الشافعي وابن المنذر. ومنعه آخرون للحديث الآخر:« أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك »، منهم مالك وأبو حنيفة، وحكى الداودي القولين عن مالك.(6/380)
وقولها:" ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلى من أن يذلهم الله من أهل خبائك، وما على ظهر الأرض اليوم أهل خباء أحب إلن من أن يعزهم الله من أهل خبانك "، الحديث: أرادت به نفسه - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه أعلم، فكنت عنه بهذا، أو أكبرته عن مخاطبته وتعيينه بذلك لما فيه. وقد يحتمل أن تريد باهل الخباء أهل بيته. والخباء يعبر عنه عن مسكن الرجل وداره. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لها:« وأيضًا والذي نفسي بيده »، أي: سيتمكن الإيمان من قلبك، ويزيد حبك لله ولرسوله، ويقوى رجوعك عن بعضه. قيل: وأصل هذه الكلمة الرجوع، يقال: أخفى الشيء: رجع.
وقوله في الرواية الأخرى:" إن أبا سفيان - هكذا - رجل مسيك " هكذا ضبطناه عن الأسدى هنا بفتح الميم وتخفيف السين، وضبطناه عن الصدفى وعلى الخشنى عن الطبري: " مسيك " بكسر الميم وتثقيل السين، وبالوجهين حملناهما عن ابن سراج، وكانوا يرجحون فتح الميم. ومعناه: شحيح كما جاء في الحديث الأول - وممسك - كما جاء في الثاني - والوجه الآخر على المبالغة، كما قالوا: شريب وسكير. والأول - أيضًا -من أبنية جموع / المبالغة. وهذه اللفظة حجة على ابن قتيبة في قوله: لأنه لا يقال: مسك، وإنما يقال: أمسك. وقد ذكرنا صواب الوجهين في كتاب الحيض، و أ مسيك أ إنما ياتى من مسك كقدير من قدر، وإذا كان من أمسك لقال: ممسكًا.
وقولها: " شحيح " الشح عندهم في كل شيء، وهو أعم من البخل. وقيل: الشح لازم كالطبع.
وقوله: " إلا بالمعروف "، كذا روايتنا عنهم، ومعناه: لا حرج عليك. ثم ابتدأ بقوله: " إلا بالمعروف "، أي لا تنفقى إلا بالمعروف. وسقط " إلا" من بعض الروايات، وبسقوطها يأتى الكلام أبين، أي لا حرج إن أنفقت بالمعروف.(6/381)
وقوله:« إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا،- ويروى ويسخط - أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا. ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، واضاعة المال »، الرضى والكراهة والسخط من الله تعالى يرجع إما إلى لأمره ونهيه، أو لثوابه وعقابه، أو إرادته للثواب وللعقاب لأهل هذه الخصال. الاعتصام بحبل الله هو والتمسك بعهده، وهو اتباع كتابه،والتزام شريعته وطاعته وتقواه. والحبل في كلام العرب كلمة منصرفة، منها العهد والأمان والوصلة، وأصل ذلك استعمال العرب الحبل في مثل هذه الأمور لاستمساكهم بالحبال عند شدائد أمورهم، ومعاناة صعابها وصلة المفترق من الأشياء يربطونها به ولأخذها من سادات البلاد أمانا في بلادها. فاستعير اسمه لهذه الأمور ولكل ما يشبه ما كان يستعمل فيه.
وقوله: " ولا تفرقوا أ: أمر بالاجتماع والألفة، وهي إحدى دعائم الشريعة، ونهى عن الفرقة والاختلاف. وقد يكون قوله: " ولا تفرقوا " راجع إلى الاعتصام بحبل الله، والتآلف على كتابه عهد شريعته، وتكون خصلة واحدة، والثنتان قبلها، إحداهما: عبادة الله. والثانية: ألا يشرك معه غيره ؛ بدليل أن قوله: " ولا تفرقوا، لم يأت في بعض الروايات.
ومعنى:" قيل وقال "، الخوض في أخبار الناس وحكايات ما لا يعني من أحوالهم، قيل كذا، وقال فلان كذا، فقيل كذا وعلى هذا نقول:" قيل "، منصوبة فعل لما لم يسم فاعله، و " قال "، فعل ماض أيضًا، ويصح أن يكون اسمير مخفوضين. والقيل والقال والقول بمعنى، وكذلك القيل والقالة.(6/382)
و" كثرة السؤال "، فيه تأويلات، أنه من مسألة الناس ما بايديهم، وقيل: يحتمل النهي عن كثرة السؤال والتنطع في المسائل فيما لم ينزل، وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلف. وقال مالك في هذا الحدبث: لا أدرى أهو ما أنهاكم عنه من كثرة المسائل، فقد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها، أو هو مسألة الناس أموالهم ؟ وقد يكون الجراد به سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عما لم يأذن في السؤال عنه لقوله تعالى:{ لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } الأية، وفي الصحيح:« إن أعظم الناس جرمًا من سأل عن شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحرم فحرم من أجل مسألته »، وقد يكون كثرة السؤال عن أخبار / الناس وأحداث الزمان، وما لا يعني من الأمور والاشتغال بمثل هذا، فتكون بمعنى النهي عن قيل وقال. وقد يكون كثيرة سؤال الرجل الناس عن أخبارهم وأحوالهم وتفاصيل أمورهم، فيدخل بذلك الحرج ؛ إما بكشف ما لا يريدون كشفه من ذلك بضرورة سؤاله، وبالكذب والتعريض لستر ذلك عنه إذا كان مما لا يفشى، وبالجفاء وسوء الأدب أو بالكذب إن ترك الجواب له عنه.
وأما " إضاعة المال " يكون في تعطيله، وترك القيام عليه، أو مصلحته، مصلحة دنياه، ومصلحة دنياه صلاح دينه بتفرغ باله له، وتركه التعرض لما في أيدى الناس. وقد تكون إضاعته إنفاقه في غير وجوهه والإسراف في ذلك.(6/383)
وأما قوله في الحديث الآخر:« إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات »، فلا خلاف أن العقوق من الكبائر، وكذلك الوأد للبنات. والوأد: دفنهن أحياء، كما كانت تفعله الجاهلية. وحق الأمهات ؛ لأنهن أعظم حقًّا وأكثر حقوقًا على الولد، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:« أمك، ثم أمك، ثم أباك ». وأيضًا فإن النساء عند العرب لم تكن لهم تلك الحرمة بخلاف الرجال، فحض - صلى الله عليه وسلم - على بر الأمهات، وخص النهي عن عقوقهن تأكيدًا لحقوقهن. وقد جاء في الحديث الآخر مكان " الأمهات" " الوالد "، والمراد به الجنسين من الذكر والأنثى - والله أعلم - وكذلك خص النهي عن الوأد للبنات ؛ لأن ذلك كانت عادة العرب، إنما كانوا يخصون به الإناث للغيرة عليهن. ومنهم من كان يفعله في الشدائد وخشية الإملاق، كما قال الله تعالى. وكانوا يتجملون بالذكران ويجملون مؤنثهم بكل حال لرغبتهم في شدة العضد وكثرة العدد.(6/384)
وقوله:" ومنع وهات "، وفي الرواية الأخرى: " ولا وهات "، وهما بمعنى، فحرم منع الحقوق والبخل بها، وطلب ما لا يجب للإنسان طلبه، وأخذ ما لا يحل له ولا يصح لفظ:"حرم " إلا في مثل هذا، وهو من معنى ما كره من كثرة السؤال، ومما يقوى أحد التأويلات فيه: أنه في الأحوال بمعنى: هات هنا. لكن لفظ " كره " هناك أوسع ؛ لأنها تقع على ما ذكرناه هنا مما يحرم، وعلى ما يجب التنزه عنه من سؤال ما يستفتى الإنسان عنه، ولا تدعو ضرورة إليه مما يباح ويحل، لكن جمعهما في الحديث الآخر، فدل أنهما المعنيين ؛ إذ تكرار الكلمتين في كلام واحد بمعنى واحد ليس من جيد الكلام، ولا من نمط كلامه ط ئ. وتخصيصه في أحد الروايات بعضهما بأن الله حرم، وبعضهما بأن الله نهى إبانة لفصل ما بين هذه الممنوعات، وتفريق حكمها من التحريم والتنزيه، وأن الثلاث الأول - من العقوق والوأد والمنع وهات - محرمات. ولا مرية أن العقوق والقتل من الكبائر الموبقات، وكذلك مغ حقوق الله من الزكوات وحقوق عبادة الواجبات وأخذ شيء منها لمن لا يحل له من المحرمات. ثم جاء النهي عن الثلاث الأخر من الشغل بقيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، على التنزيه والحض. ويخرج من تفريق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين لفظ التحريم والنهي/ الحجة لمن يقول: إن مجرد النهي بلفظه أو صيغته لا يقتض الوجوب إلا بدليل.(6/385)
قوله:« إذا حكم الحاكم ثم اجتهد فاصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر »، قال أهل العلم: وهو ما لا خلاف فيه ولا شك أن هذا إنما هو في الحاكم العالم الذي يصح منه الاجتهاد، وأما الجاهل فهو ماثوم في اجتهاده بكل حال، عاص بتقلده مالا يحل له من ذلك ؛ ولأنه متكلف في دين الله متحرض على شرعته متحكم في حكمه، فهو مخطئ كيفما تصرف، وماثوم في كل ما تكلف، وإصابته ليس بإصابة إنما هو اتفاق وتخرص، وخطؤه غير موضوع لأنه يجهله كالعامد، والجاهل والعامد هما سواء. قد جاء في الحديث الأخر:« القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة. فقاض قضى بغير الحق وهو يعلم بذلك ففى النار، وقاض قضى وهو لا يعلم فأهلك حقوق الناس فذلك في النار، وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة »، وفي الرواية الأخرى: " وقاض علم قوله هذا فعدل فأحرز أموال الناس وأحرز نفسه ». ومعنى قوله هنا:" أخطا " يعني وجه الحكم. وجعل له الأجر لاجتهاده لاءنه في طاعة بعلمه، ولم يكمل لعدم إصابته، والآخر تم له الأجر لكمال أجره في الاجتهاد والإصابة لوجه الحكم، فكان له من الأجر الكثير الجسيم بقدر ذلك.
وقد استدل بهدا الحديث من يرى أن الحق في طرفين، وأن كل مجتهد مصيب، قال: لأنه ت جعل له أجرًا. واحتج به - أيضًا - أصحاب القول الآخر بأن المصيب واحد والحق في طرف واحد ؛ لأنه لو كان كل واحد مصيبًا لم يسم أحدهم مخطئا، فجمع الضدين في حالة واحدة. ومعنى الحديث عند الطائفة الأولى في أنه أخطأ النص وذهل عليه، أو ما لا يسوغ الاجتهاد فيه من الدلائل القطعية مما خالفه إجماع، وما اطلع الله - سبحانه - أو نبيه - صلى الله عليه وسلم - على حقيقه الحق فيه ووجه الحكم، فهذا متى اتفق لحاكم الخطأ فيه بعد اجتهاده لم يختلف في نسخ حكمه ورد نظره وإخبار خطئه، وهو الذي يصح عليه إطلاق الخطأ.(6/386)
وأما للمجتهد في قضية ليس فيها نص ولا إجماع فمن أين يقال: إنه أخطأ، ولا يلتفت إلى قول من لم يحقق لقوله:" إن في كل نازلة حكمًا عند الله تعالى هو الصواب، فإذا أخطأ المجتهد كان مخطئًا، وإذا أصابه كان مصيبًا " في أن هذا تخييل وتوهيم، ممن لا تحقيق عنده ؛ إذ النوازل التي لم يبرز الله لها حكمًا ولا نص لنا على وجه حكمها من حرمها لاحكم لله في شيء منها، سوى ما سبق في قديم مشيئة علمه في آحادها من اختلاف المجتهدين فيها، وأن الشافعي يحكم في نازلة فلان بالجواز، ومالك يحكم في نازلة فلان آخر وهي مثلها بالمنع، وأبو حنيفة يحكم في قضية فلان بالتعزير، ومالك يحكم فيها بعينها لأخر بالرجم. وهكذا في تفصيل احاد النوازل في علم الله - سبحانه - وسابق كتابه، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. فإذا وقعت هذه النوازل فكل حاكم حكم فيها باجتهاده فهو الذي علمه الله - تعالى - وشاءه، وما نفذ فيها فهو قضاؤه - تعالى - بها وحكمه، ولا تناقض في هذا كما زعم الاخرون حتى يكرن الشيء حلالاً / معًا وصحيحًا فاسدًا في حالة واحدة وواجبًا حرامًا في أخرى، فإن تناقص اختلافهم بتضاد أحكامهم إنما هو على الجملة وجنس النازلة، وبحسب تقدير اجتماع ذلك في النازلة الواحدة، والنظر في إصابة صواب الحكم ومراد الله فيه فإنما هو بعد وقوعه، ولا يصح أن يقع إلا على صفة واحدة فلا ينفذ في الشان القتل والاحتياط في حالة، ولا يجتمع التحليل والتحريم في حكم واحد.(6/387)
فبان أن الذي نفد به الحكم في هذه النازلة من المالكية من قتل هذا هو حكم الله - تعالى - فيه لا سواه، وفي هذه الأخرى من جلد آخر فيها بحكم الحنفى هو حكمه أيضًا لا سواه، ومن تصريح آخر وترك التبعة له في مئلها. بحكم الشافعي لذلك، وأن الصواب في هذه النوازل كانها ما نفذ فيه حكم المجتهدين وفتاويهم فيها بخاصة كل قضية، وأنها أحكام الله - سبحانه - فيها، ومراده في أزله، وسابق علمه لا غير ذلك ؛ إذ لاحكم لله في نازلة إلا ما نص عليه، أوقام مقام نص بما شرعه رسوله قطعا، أو اجتمعت عليه أمته أو مستنده إلى مثل ذلك، أو ما كشف الغيب مراده أنه حكمه بتقييد مجتهد له ولا تناقض ولا تضاد في ذلك، إذ التناقض والتضاد إنما يتصور في المحل الواحد، وهذا كله بين جلى. والقول بأن الحق في طرفين هو قول أكثر أهل التحقيق من المتكلمين والفقهاء، وهو مروى عن مالك والشافعي وأبي حنيفة، وإن كان قد حكى عن كل واحد منهم اختلاف في هذا الأصل، وهذا كله في الأحكام الشرعية وما لا يتعلق باصل وقاعدة من أصول التوحيد وقواعد التوحيد، مما مبناه على قواطع الأدلة القطعية، فإن الخطأ في هذا غير موضرع، والحق فيها في طرف واحد بإجماع من أرباب الأصول، والمصيب فيها واحد، إلا ما حكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أن مذهبه في ذلك على العموم. وعندى أنه إنما يقول ذلك في أهل الملة دون الكفرة. والاجتهاد المذكور في هذا الباب هو: بذل الوسع في طلب الحق والصواب في النازلة.(6/388)
وقوله:« لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان »، قال الإمام: قال الحذاق من الأصوليين: إن هذا جار مجرى التنبيه بالشىء على ما في معناه، وأن المراد بذكر الغضب هاهنا: العبارة عن كل حال تقطع الحاكم عن السداد، وتمنع من استيفاء الاجتهاد ؟ كالشبع المفرط الموقع في القلق، وجمود الفهم، وكالجوع المفرط المؤدى إلى موت الحس وانحلال الذهن، وكالردع العظيم المشتغل للنفس المغير للحس، وكالحزن الشديد المؤدي إلى نحو من ذلك، إلى غير ذلك مما يطول العداد. وإنما نبه عن الغضب لأنه أكثر ما يعرض للحاكم ؛ لأنه لا بد مع مراجعته العوام أن تقع منهم الهفوة وتسمع منهم الجفوة ؛ فلهذا خص بالذكر. وإن عورض هذا الحديث بحديث شراج الحرة وأنه - صلى الله عليه وسلم - حكم بعد أن أغضب، قيل: هو ت معصوم، وأيضًا فلعله علم الحكم قبل أن يغضب، وأيضًا فلعله لم ينته الغضب به إلى الحد القاطع عن سلامة الخواطر.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد »، قال الإمام: يحتج بهذا من / أهل الأصول من يرى أن النهي يدل على فساد المنهي عنه ؛ لأنه أخبر إن كان أحدث بما ليس من الدين فهو رد. والمنهيات المحرمات كلها ليست من أمره - صلى الله عليه وسلم - فيجب ردها، ومن أنكر من أهل الأصول ممن يرى كون النهي يدل على فساد المنهي عنه على الإطلاق يقول: هذا خبر واحد، يتطرق إليه الاحتمال والتأوبل، فلا يستمسك به في مثل هذه المسألة.
قال القاضي - رحمه الله -: معنى قوله: " رد "، أي: فاسد. وفائدة الخلاف المتقدم هذا فيمن يقول: إن النهي يدل على فساد المنهي عنه، وهو قول جمهور الفقهاء، وأن العقود المنهى عنها إلا من دليل آخر. ومذهب معظم أئمة المتكلمين من شيوخنا أن مجرد النهي لا يدل على الفسخ ولا على فساد المنهي عنه، وإنما يستدل على فساد ما فسد منه بغير مجرد النهي عنه.(6/389)
ومعنى قولهم:" رد "، أي: غير موافق لسنة، وصاحبه غير مأجور فيه ومردود عليه وقوله في هذا الحديث: " سألت القاسم بن محمد عن رجل له ثلاثة مساكن فأوصى بثلث كل مسكن منها، قال:يجمع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال: أخبرتني عائشة - رضي الله عنها "، وذكر الحديث: حكم الرصايا أن تنفذ على ما أوصى به الميت ما لم يحدث ذلك ضررًا على الورثة في ثلثيهم الموروث، وهذا لما أنفذت وصيته بثلثه في مسكن لم يلزم إلا بحكم ينفذ بينه وبين الورثة، بما يجب من الحكم بين الشركاء أوصى بذلك الميت، وبجنه بقوله: لا يفرق نصيبه لم يلتفت إلى وصيته ؛ لأن وصيته هي في ملكه في المال لا فيما يوجبه الأحكام، فوجب إذا دعا هو أو دعا الورثة إلى خ حقوقهم وجمعها أن يحكم بينهم بواجب السنة في ذلك، يأمر بجمعها وتقسيمها بالتعد والتقويم وإخراج نصيب كل واحد متميزًا منحازًا ينفرد بسكناه ومنفعته، إلا لو كانت الدور من البعد في الأماكن بحيث لا يضم بعضها إلى بعض في القسم لبقى الأمر على أوصى به، كما تبقى الورثة على وراثتهم فيها إذ كانت لا تقسم، أو تقسم كل دارء إن احتملت القسم على أنصبائهم على واجب سنة القسلم، أو تكون هذه الدور مما قسمت أيضًا على صاحب الثلث. والورثة لم يحصل الواحد منهم دار مفردة إلا بشركة مثل أن يكون اثنان ودارين مستويتين، فنحن نعلم إذا تفاوت في القسم لكل واحد الوارثين والموصى لهم ثلثا دار، ولا بد أن أحدهما يخرج سهمه مفرقًا في دار بالاشتراك ولا بد من جمعهم، فلا معنى لهذه القسمة هنا إذ لم تتميز الحقوق حتى الآن ؛ لأنهم انتقلوا من اشتراك إلى اشتراك، وإنما القسمة تمييز حق وانفراد بملك.
وقوله:« ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها »، قال الإمام: يحتمل أن يراد به من تحمل شهادة ولم يعلم بها المشهود له، فإنه ينبغي له أن يعلمه ؛ ليكون مستعدًا بشهادته ؛ ليفعل ما يفعل مع خصمه وهو على ثقة بما له وعليه.(6/390)
قال القاضي - رحمه الله -: بنحو هذا فسر مالك الحديث، وزاد: ويرفع ذلك إلى السلطان. وقيل: قد يحتمل أن يكون فيما لا يختص بحق آدمي، ويكون من حقوق الله تعالى الذي لا ينبغي السكوت عليها ؛ كإنكار الطلاق والعتاق والحيس والصدقات /، من علم شيئًا من ذلك وجب رفعه إلى الإمام، والشهادة به عنده لغيره. قال الله - عز وجل -:{ وأقيموا الشهادة لله }، فإن كان الشهود جماعة وجب على كل واحد منهم رفع ذلك، حتى إذا قام بذلك بعضهم سقط عن اباقين ؛ إذ القيام بالشهادة من فروض الكفاية. وكف لك يلزم من رفع الشهادة بالحدود، وإذا كان صاحبها قائما عليها ؛ كمعاقري الشراب والمختلى بالمرأة للفجور ؛ ولأن ذلك من تغيير المنكر.
ولا يلزم من ذلك إذا كانت المعصية قد انقضت ؛ لما جاء في الستر على المسلم، إلا أن يكون مشهورًا بالفسوق، ومشتهرًا بالمعاصي، مجاهرًا بذلك. فقد كره مالك وغيره الستر عن مثل هذا، ورأى رفعه والشهادة عليه بما اقترفه ليرتدع عن فسوقه، وليس يخرجه سكوته وستره عليه لما فعل. وأما الأول المستديم للمعصية بركوبها، أو ببقائه مع المطالعة، أو استخدامه الفسق، فسكوت العالم بها، وترك رفع أمره، وتغيير منكره والشهادة به - جرحة في شهادته.(6/391)
واختلف مذهبنا في تجريحه بسكوته عن الشهادة بحقوق الادميين وترك رفعها وهو يرى حتوقهم بيد غيرهم،وصاحب الحق حاضر غير عالم، هكذا أطلق بعض شيوخنا عن مذهب ابن التاسم أنها جرحة، وعند بعضهم أن تكون جرحة في ألشهادة نفسها وجورا عليها لا يصلح له أداؤها بعد وهو الأظهر، وقيل: إنما تكون جرحة في شهادته إذا سكت حتى رأى صاحب الحق صالح عن حقه واضطر إلى شهادته ولم يعرفه بها حتى بطل حقه فهذه جرحة في شهادته، فأما على غير هذا لا بمجرد سكوته، فلعل صاحب الحق لا يطلب حقه أو وهبه أو باعه ممن هو في يده فليس بجرحة. وأما سحنون ومن وافقه فيرى القيام بالشهادة وإن طال حوذها على الشهادة، إلا فيما كان من حقوق الله - سبحانه - وقد قيل: يحتمل أن يكون قوله: غير الشهود الذي يأتي بشهادته، قبل أن يسلبها على السرعة والمبادرة لأدائها إذا سلبها لا قبل سؤالها، كما يقال: الجواد يعطى قبل سؤاله، عبارة عن حسن عطائه. ولا يعارض هذا الخبر الحديث الآخر في ذم من يأتي.
وقوله: " يشهدون ولا يستشهدون "، فقد احتج به قوم وقالوا: لا تجوز شهادة من يشهد قبل أن يستشهد. ومعنى هذا عند أهل العلم: أنه ورد مورد الذم لمن يأتي بعد القرون الفاضلة بخصال وصفهم بها، من فشو الكذب والخيانة، وكثرة الحلف، وقلة الوفاء والأمانة، فكانت هذه الشهادة من هذا الباب أنها شهادة كذب لا أصل لها، شهدوا بما لم يستشهدوا ولا استشهدوا عليه، كما خانوا وكذبوا وحلفوا. وقد يكون معناه: أنهم يتصدرون الشهادة وليسوا بأذكياء ولا من أهلها، ولا يرضى أحد أن يستشهدهم، كما قال: " يخونون ولا يؤتمنون ".(6/392)
وقيل: معنى الشهادة هنا: اليمين، وروى عن النخعى، ويدل عليه قوله: " يسبق يمين أحدهم شهادته، وشهادته يمينيه "، ويدل عليه قوله / آخر الحديث: " وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ". قيل: معناه: أن يقول أشهد بالله لكان إلا كذا. وقيل معنى قوله: " يشهدون ولا يستشهدون ": أنه في القطع على المغيب وقيل: يشهدون بالجنة ولقوم بالنار.
وذكر قصة داود وسليمان - عليهما السلام - في المرأتين.
قوله:« بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك. وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك. فذهبتا إلى داود - عليه السلام - فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان فاخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما. فقالت الصغرى: لا، يرحمك الله، هو ابنها. فقضى به للصغرى "، ويحتمل أن داود - عليه السلام - إنما قضى به للكبرى على مقتضى شرعنا إذ كان لا يخالفه، إما لكونه في يدها أو يشبهها إن كان القضاء في شرعه في الإلحاق بالشبهة، وحكم سليمان بعد هذا التوسط والتلطف به للصغرى ؛ لما رأى من إشفاقها بعد تعجيزه الكبرى بذلك وفضيحته لها ؛ إذ لو كان ولدها لاءشفقت عليه فيكون منها حينئذ لتلك الخجلة والنضيحة ما يوجب الاعتراف والتسليم، ومثل هذا يفعله نبهاء الحكام مالا استدلال بامرر لو تجردت لم يقضى بها في شيء، لكن يقيم بها الحجة والإرهاب على المدعى حتى يستبين منه الاضطراب، ويضطر إلى الاعتراف، ورب قرى الشكيمة في الباطل لا تنفع فيه رقية ولاحيلة.(6/393)
وحكم سليمان - عليه السلام - في القضية بعد حكم أبيه، قيل: لأن داود لم يكن أنفذ الحكم بعد. وظاهر الخبر خلافه لقوله: أ فقضى به للكبرى "، ويحتمل أن يكون فتوى من داود - عليه السلام - لا حكمًا، ويحتمل أن في شرعهم نسخًا، فحكم الحاكم لحاكم آخر متى طلب ذلك بعض الخصوم، ويحتمل أنهما رضيتا بالتراجع وابتداء الحكم عند سليمان - عليه السلام - ويحتمل أن سليمان صنع ذلك بعد حكم أبيه ملاطفة، فلما حصل الاعتراف لزم الحكم به، كما إذا اعترف الخصم بعد الحكم عليه باليمين لإنكاره، فإن الحق يؤخذ منه.
وقولها:" لا، يرحمك الله، هو ابنها ". معناه: لا تفعل يرحمك الا وقد كره السلف مثل هذا القول ؛ لأحتمال الدعاء عليه لا له. وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: لا تقل كذا، وقل: يرحمك الله، لا. وقد يحتمل أن يقال في هذا: لا ويرحمك الله.
قال الإمام: هذا يكون أصلاً في استعمال الحاكم طرقا من الحيل المباحة في استخراج الحقوق إذا وقع الإشكال وكان داود - عليه السلام - رجح بالكبر فقضى به، وهذا ليس شرعنا. وأما سليمان فعلم أن الطباع مجبولة على الإشفاق على الولد، فاختبار الشفقة عليه ليستدل بذلك على الأم منهما. وقد حكى بعض هذا: أن رجلاً اشترى أرضًا فوجد فيها دفين ذهب، فتبرأ منه المشتري وتبرأ منه البائع. فتحاكما إلى من قال لهما: ينكح من له الغلام منكما ولده ممن له الجارية، وأنفقاه على أنفسكما وتصدقا. وهذا أيضًا جهة الصلح والتسديد.
وأما الأول، فإن المشهور من مذهبنا أن الأم / لا تستحق ولو كانت منفردة لا ينازعها أحد، فكيف بهذه التي توزعت، ولا يكون عندنا الولد لأحدهما إلا ببية، واختلف عندنا فيمن باع أرضًا فوجد فيها مشتريها شيئًا مدفونًا، هل يكون ذاك للبائع أو للمشتري ؟ فيه قولان.(6/394)
قال القاضي: وقوله: " اشترى رجل من رجل عقارًا، فوجد الذي اشتراه في عقاره جرة ذهب "، أي: قلة مملوءة ذهب، قال القاضي - رحمه الله -: العقار: الأصول في الأموال من الأراضي وما يتصل به، سميت بذلك من العقر وهو الأصل. عقر الدار بضم العين وفتحها.
وقوله: " فقال الذي شرى الأرض إنما بعتك الأرض وما فيها "، كذا للسمرقندي، ولغيره:" قال الذي اشترى "، والأول أصح. شرى بمعنى باع هنا، وإن كان قد جاءت الكلمتان بمعنى اشترى وشرى، فلا يصح هنا ؛ لأنه قد ذكر قبل هذا قول الذي اشترى:" إنما اشتريت منه الأرض " إلا بإضمار البائع، وقال البائع للذى اشترى.
كتاب اللقطة(6/395)
قوله في اللقطة:« اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها والا فشأنك بها »، قال: فضالة الغنم، الشاة ؟ قال:« لك أو لأخيك أو للذنب »، قال: فضالة الابل ؟ قال:« مالك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها »، وفي بعض طرقه: «عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها إليه »، وفي بعض طرقه:« ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفق، ولتكن وديعة عندك. فإذا جاء طالبها يومًا من الدهر فادها إليه »، وفي بعض طرقه:« فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه، وإلا فهي لك»، وفي بعض طرقه بعد التعريف:« أن تعرف العفاص والوكاء»، ثم قال:« كلها، فإن جاء صاحبها فأدها إليه »، وفي بعض طرقه في حديث سويد بن غفلة:" خرجت أنا وزيد بن صوحان وسلمان غاذين، فوجدت سوطًا فأخذته، فقال لي: دعه، فقلت: لا، ولكني أعرفه، فإن جاء صاحبه والا استنفقت به. فلقيت أبي بن كعب فأخبرته بما جرى، فقال: وجدت صرة فيها مائه دينار على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيت بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:« عرفها حولاً ». قال:فعرفتها فلم أجد من يعرفها ثم أتيته فقال:« عرفها حولها »، فعرفتها فلم أجد من يعرفها، فقال:« احفظ عددها ووعاءها ووكاءها، فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها »، وفي بعض طرقه: قال شعبة: سمعته بعد عشر سنين يقول:« عرفها عامًا واحدًا ».
قال الإمام: اختلف الناس في اللقطة، هل يجوز أخذها ابتداء أو يكره ؟ واختلف الناس أيضًا إذا جاء صاحبها فوصف العفاص والوكاء - على ما ذكر في الحديث هل يجب إعطاؤها له، وهو مذهب مالك، أولاً يحكم له بها حتى يقيم بينة، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي.
واختلف الناس - أيضًا - إذا عرفها حولا، هل يجوز له أكلها أم لا ؟ فعندنا: يجوز على كراهية فيه، وعند أبي حنيفة: إنما يجوز بشرط أن يكون فقيرًا.(6/396)
واختلف الناس - أيضًا - إذا كلها بعد الحول وجاء صاحبها، هل عليه غرامتها له أم لا؟ فعندنا: عليه الغرامة /، وعند داود: لا غرامة عليه.
واختلف الناس - أيضًا - في الثاة إذا كانت في الفلاة فكلها ملتقطها، ثم جاء صاحبها، هل يغرمها له أم لا ؟ فعندنا: لا غرامة عليه، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في إيجابهما الغرامة.
واختلف المذهب - أيضًا - إذا أعطاها بالصفة، هل يحلف آخذها أم لا؟
فتضمن ما ذكرنا في كتاب مسلم الرد على أبي حنيفة في اشتراطه الفقر لأنه قال:" ثم كلها " ولم يشترط الفقر. وحديث ابن وقد كان غنيًّا وقد أباح له الاستمتاع بها.?
وتضمن أن الشاة لا غرامة فيها، ردا على المخالف ؛ لأنه قال:« هي لك»، وظاهر هذا التمليك، والمالك لا يغرم. وأيضًا فقد قال:« وللذئب»، فنبه - صلى الله عليه وسلم - على أنها كالتالفة على كل حال ومما لا ينفع صاحبها بقاؤها.
وتضمن الرد على المخالف في اشتراطه البينة ؛ لأنه قال:« فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه »، ولم يشترط البينة، بل أمر بإعطائها، ولا معنى لقولهم: إنه يجوز له أن يعطيها إذا ظهر له صدق الراصف وهو المراد بالحديث. وأما أن يحكم عليه فلا، لأن قوله:« فأعطها إياه » أمر، فظاهره خلاف ما قالوه.(6/397)
وتضمن الرد على داود في قوله: لا يغرمها بعد الحول، لقوله:« فان لم يجى صاحبها كانت وديعة عندك »، وقوله: فاستنفقها ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه ". وتضمن ترجيح أحد القولين عندنا في نفى الدين عن الواصف ؛ لأنه قال:" فأدها إليه "، ولم يشترط يمينًا كما لم يشترط بينة. وهاهنا سؤال يقال: إذا كانت للصفة إنما أعطى بها الواصف لأنها دلالة على صدقه في غالب الظن، وإن جاز أن يكون سمع الصفة من غيره، كما أن البينة دلاله، وإن جاز أن تكذب، فهل تطلقون هذا الاستدلال وتحكمون به في كل مال ؟ قلنا: أما المال الذي في يد حائز يدعيه لنفسه ويحوزه زمانًا، فهذا لا سبيل إلى إخراجه من يده بالصفة، لأن دلالة اليد أقوى من دلالة الصفة. وأما إذا كان لا يحوزه لنفسه فليس هناك دلالة تعارض دلالة الصفة، فحكم بدلالة الصفة.
فإن قيل: فإن سرق مالاً ونسى من سرقه منه،واودع مالاً ونسي من أودعه إياه، ثم أتى من وصفه، هل يعطاه كاللقطة أم لا ؟ قلنا: أما السرقة فالتزموا ذلك فيها أصحابنا، ورأوا أن يعطاها مدعيها إذا وصفها. وأما الوديعة فقد اضطرب أصحابنا فيها، فمنهم من أجراها مجرى اللقطة والسرقة، ومنهم من فرق بينهما. والفرق عنده أن كل موضع تعذر فيه على المالك إقامة البينة اكتفى فيه بالصفة، وكذلك السرقة. ولا يمكن أن يسقط للإنسان ماله ببينة فاكتفى فيه بالصفة، وكذلك السرقة ؛ لأنه لا يسرق ماله ببينة، فاكتفى فيها - أيضًا - بالصفة إذا جهل المالك. وأما الرديعة فيمكن مودعها أن يتحرز بالإشهاد ففارقت اللقطة والسرقة، فصارت مسألة اللقطة أصلاً في الرد على المسألة بالصفة. فمن رأى أن العلة كون المال لا يدعيه حانزه لنفسه أجرى الثلاث مسائل مجرى /واحدًا، ومن أضاف إلى هذه العلة أن مالكه لا يمكنه الاشهاد عليه أيضًا فارقت الوديعة اللقطة والسرقة.(6/398)
وأما اليسير من اللقطة فلم يجره مالك مجرى الكثير واستحق فيه التفريق ولا يبلغ بتعريفه سنة. وقد تقدم أنه مر بتمرة في الطريق، فقال - صلى الله عليه وسلم -:« لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها ». وهذا تبيه على أن اليسير الذي لا يرجع أهله إليه يؤكل. وعند أبي داود عن جابر: رخص لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في العصا والسوط والحبل وأشباهه، يلتقطه الرجل ينتفع به. وقد حد بعض الناس القليل بنحو الدينار فيما أظن، تعلقًا بما خرج أبو داود عن على - رضي الله عنهما - أنه دخل على فاطمة وحسن وحسين - رضي الله عنهما -يبكيان. فقال ما يبكيهما ؟ قالت: الجوع، فخرج علي - رضي الله عنه - فوجد دينارًا في السوق فجاء إلى فاطمة - رضى الله عنها - فأخبرها، فقالت: اذهب إلى فلان اليهودي فخذ لنا به دقيقًا، فجاء اليهودي فاشترى دقيقًا، فقال له اليهودي: أنت ختن هذا الذي يزعم أنه رسول الله ؟ فقال: نعم. قال: فخذ دينارك ولك الدقيق. فخرج علي - رضي الله عنه - حتى جاء إلى فاطمة فأخبرها، فقالت: اذهب إلى فلان الجزار فخذ لنا بدرهم لحمًا. فذهب فرهن الدينار بدرهم لحمًا، فجاء به فعجنت ونصبت وخبزت، وأرسلت إلى أبيهاء فجاءهم، فقالت: يارسول الله ! أذكر لك، فإن رأيته حلالاً أكلناه، وأكلت معنا، من شأنه كذا وكذا، فقال:« كلوا باسم الله »، فأكلوا منه، فبينما هم مكانهم إذ غلام ينشد الله والإسلام الدينار، فأمر رسول الله فدعى له، فقال: سقط مني في السوق، فقال رسول الله:« يا علي ! اذهب إلى الجزار فقل له: إن رسول الله يقول لك:« أرسل بالدينار ودرهمك علي»، فأرسل به فدفعه رسول الله إليه.
فوجه تعلقهم من الحديث: أن عليًّا - رضي الله عنه - لم يعرفه، وقد ذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:« كلوا باسم الله »، ولم يوبخهم على ترك التعريف.(6/399)
وقد اختلف المذهب عندنا في الدينار، هل يعطى لمدعيه أنه سقط له، فقيل: لا يعطى حتى يصف شيئًا فيه أو علامة، وقد وقع في هذا الحديث أنه لم يطلب منه الصفة، ويمكن أن يكرن اختصرها الراوي عند من قال: لا يرد الدينار إلا بعلامة.
والعفاص: هو الوعاء الذي يكون فيه الشغفة، جلدًا كان أو غيره، ولذلك سمى الحذاء الذي يلبس رأس القارورة العفاص لأنه كالوعاء لها. فأما الجلد الذي يدخل في فم القارورة فهو الصمام بكسر الصاد. والوكاء هو الخيط الذي يشد به الوعاء، يقال منه: أوكيته إيكاء، ويقرل: عفصته عفاصًا، إذا شددت العفاص، فان جعلت العفاص قلت: أعفصته إعفاصًا. وحذاء الإبل: أخفافها ؛ لأن بهما تقوى على السير وقطع البلاد.
وقوله:" سقاؤها "، يعني أنها تقرى على ورود المياه لتشرب، والغنم لا تقوى على ذلك.
قال القاضي: ذكر الترمذي في حديث على - رضي الله عنه - زيادة حسنة بها تتم الفائدة /: أن عليًّا - رضي الله عنه - أصاب دينارًا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعرفه فلم يجد من يعرفه، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بكله.(6/400)
قال القاضي: استعار النبي - صلى الله عليه وسلم - للأكل الحذاء والسقاء هنا، لما ذكر قبل من تشبهها بالمسافر الذي معه حذاؤه وسقاؤه فيقوى بذلك على قطع المفاوز، لصبرها على السير وعن الماء لمدة. فجعل استغناؤها عن الماء مدة بما حملت من قبل من شربها في كرشها كمن أعد ماءه وسقاءه لسفره. ووقع لبعض أصحابنا الشاميين، العفاص والوكاء منه ما تقدم، والأول أصح. وحديث اللقطة والحكم فيها بمعرفة العفاص والوكاء أصل عند العلماء في الحكم بالعرف والعادة عند اختلاف المتنازعين، ولا حجة فيه عند أهل التحقيق أظهر منها، وذلك أنه لما كان الغالب والعرف أن مالك الشيء هو يعرف من صفته ونعوته ما لا يعرفه غيره حكم له بمعرفة العفاص والوكاء، وإن كان الأجنبي ومن لا يملكه قد يعرفه برؤيته عنده أو عاريته إياه، أو إجادته له، أو ملكه له تبله، لكن كان الغالب الوجه الأول، فأمضى الحكم به.
وقال بعض العلماء: أجمع العلماء في أحكام اللقطة على فصول منها: أن معرفة العفاص والوكاء من أهدى علاماتها، وأن اللقطة ما لم تكن تافهة أو شيئًا لا بقاة له يلزم تعريفها حولاً، وأن صاحبها إن جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت أنه صاحبها، وأن ملتقطها إن كلها قبل الحول وجاء صاحبها فضمنه فذلك له، وكذلك إن تصدق بها، وأن ضالة الغنم في المكان المخوف له أكلها، واختلفوا فيما عدا ذلك.
وفي قوله: " اعرف عفاصها ووكاءها "، تنبيه على حفظ ذلك وكتمه ؛ لأنه لو أفاه وعلم لادعى فيه من لا يملكه ؛ لأنه يعرضه من الإفشاء والشهادة عليه، لذلك قال أهل العلم: ينبغى ألا يصفها للناس ولا يظهرها ولا يسميها بعينها. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عرفها "، ولم يقل: أظهرها.(6/401)
وفي قوله في حديث زيد بن خالد:" عرفها سنة " وفي حديث أبي: "ثلاث سنين، وفي بعض طرقه الشك في سنة أو ثلاث، وفي بعضه أنه قال آخرًا: عامًا، يحتمل الجمع بين الحديثين بطرح الشك والزيادة، وما رجع إليه أبي آخرًا من عام وتركه ما شك فيه، وقيل: هما قضيتان، فالأولى لأعرابي أفتاه بما يجوز له بعد عام، والثاني لأبي، أفتاه بالكف والتربص عنها بحكم الورع ثلاثة أعوام ؛ إذ هو من فقهاء الصحابة وفضلائهم، وقد يكون ذلك - أيضًا - لحاجة الأول إليها وضرورته، واستغناء أبي عنها، ورجوع أبي إلى عام بعد شكه لتحريه لما تيقن من الحديث وتركه ما شك فيه منه.
واقتصر على الحول في حكم اللقطة لأنها إن كانت لحاضر فهو غايته في ضرب الاجال له في الاختيار والتربص وفي غير شيء كالعنين والمعاناة من علة تضر بالزوجة لتتم به فصول العام كملا، وسجن من أتى بعض المعاصي ليختبر فيه فيأتيه ويرجى بمكثه مدتها توبته ؛ ولأنه مدة الزمان بجملته. وإن كانت اللقطة لغائب فأكثر الأسفار، غالبًا لا يغيب عامًا ويرجع إلى وطنه ؛ ولهذا ما فرق بينهما وبين لقطة مكة، وأنها تنشد أبدًا على ما مضى، قبل/ في كتاب الحج: لترداد الناس إلى مكة، ومن لم يحج بنفسه جاء جاره أو قريبه فسمع إنشادها فعرفه بعد انصرافه.
وفقهاء الأمصار متفقون على أن تعريف اللقطة سنة، ولم يأخذ منهم أحد بثلاثة أعوام إلا شيء روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
وحديث أُبي - رضي الله عنه - واحتجاجه بالحديث على ملتقط السوط، يدل على مذهبه بأن يسير اللقطة وكثيرها سواء، وبه فسر حديثه لاحتجاجه بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - وحي في نازلته، وهو قول الشافعي عند بعض أصحابنا الدرهم ونحوه. وقال أبو حنيفة مثله في كان أقل من عشرة دراهم. وقال الثوري في الدرهم: يعرفه أربعة أيام. وقال الحسن بن جني: ثلاثة أيام.(6/402)
وقال بعض العلماء: إن السوط والسقاء والنعل والحبل ونحوه ليس فيه تعريف، وأنه مما يعفى عن طلبه وتطيب النفس بتركه كالتمرة وقليل الطعام. وقد يعتضد بما تقدم حديث جابر في ذلك قال: ويستمتع به من يوم وجوده، فإن جاء صاحبه أخذه على حاله، فإن لم يرض بذلك لم يكن غير قيمته على حاله.
وما تقدم من حديث سويد بن غفلة في السوط يدل على تعريفه بكل حال، وأنه لا يستمتع به قبل التعريف.
وقوله:« فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها ووكاءها فاعطها إياه »، اختلف العلماء، هل من شرط استحقاقه معرفة جميع هذه الثلاثة أم بعضها وإن جهل البعض أو أخطأه، وعندي في ذلك اختلاف، هل لابد من معرفة الجميع ؛ إلا أن يكون الخطأ في العدد إذ قد يؤخذ منه ولا يدري، أو يكتفي بوصفين ؛ إذ قد يعتذر في الباقى بالنسيان أو بواحد، أم لابد من معرفة العفاص والوكاء من جملة الأوصاف.
واستدل العلماء من قوله في الشاة:« خذها، فإنما هي لك أو لأخيك أو للذنب »، وأن ذلك إباحة أن حكم ما لا يبقى من الطعام ذلك الحكم، وأنه إذا كان في الفيافي أكله ولا ضمان عليه إن جاء صاحبه عند أصحابنا. واختلفوا إذا كان في الحضر، فقيل: يبيعه ويدفع ثمنه لمستحقه لا سوى هذا، وقيل: يتصدق به ولا ضمان عليه. واختلفوا إذا أكله، هل يضمنه أم لا ؟ ويضمن في هذا كله عند الشافعي وأبي حنيفة، وقال الشافعي مرة: يأكله ويغرمه لربه، وقال مرة: ويقيم على تعريفه حولاً ثم يأكله.
ومعنى قوله في ضالة الغنم:« هي لك أو لأخيك أو للذئب »، يريد إذا كانت في القفار، أي أنها مضيعة، إن لم تاخذها أنمت أخذها غيرك، أو أكلها السبع. وقيل: يحتمل قوله:" لأخيك " أي صاحبها، فبهذا أبيح كلها بخلاف سواها، وبخلاف إذا كانت في الحواضر وحيث يمكن حفظها، فحكمها عندنا حكم سائر اللقطات. وقال الليث: هي في كل حال كاللقطة.(6/403)
واختلف العلماء إذا أكلها حيث يجوز له من الفيافي عند من أجاز له ذلك، هل يقر بها لصاحبها إذا جاء ؟ فالزمه ذلك الشافعي، ولم يلزمه ذلك مالك.
ومعنى قوله في ضالة الإبل:" مالك ولها "، قيل: هو نهي عن التقاطها وضمها ؛ إذ بقاؤها حيث ضلت أقرب لأن يجدها ربها / من أن يطلبها في أملاك الناس، وقيل: لم يحتمل المنع من التصرف فيها بعد تعريفها، ففارقت اللقطات غيرها من هذا الوجه ؛ لأنها إذا أخذت نسبت لأكلها، وقيل: يحتمل النهي عن أخذها لأكلها تنزيلها منزلة ضالة الغنم ؛ لأنها جاءت بإثر مسألة الغنم، وقيل: بل النهي عن ركوبها وتصريفها لأنه جاء عن السؤال عن ذلك في غير حديث مسلم بقوله:" ضالة المؤمن حرق النار ". قالوا: وهذا كان أول الإسلام وعلى ذلك استقر الأمر من أبي بكر وعمر بعده - رضى الله عنهما - فلما كان زمن عثمان وعلي - رضى الله عنهما - وكثر فساد الناس واستحلالهم، رأو التقاطها وضمها والتعريف بها، فإن لم يات لها صاحب بيعت، وأوقف ثمنها إلى أن ياتى صاحبها، وبهذا قال مالك في رواية عنه: لا ياخذها ولا يعرفها. قيل: وذلك لما راه من زيادة الفساد، وعدم عدل الأئمة وأخذها إذا أخذت، من أخذها او أخذ ثمنها وأكله إن بيعت، فرأى أن تركها بموضعها أقرب لجمعها على صاحبها يومًا ما، وهو قول الأوزاعي والشافعي.
وقال الليث: إن وجدها في القرى عرفها، ولا يعرفها إن وجدها في الصحراء، ونحوه لمالك أيضًا.
وقال الكوفيون: أخذها وتعريفها أفضل.
واختلف عندنا في الدواب والخيل والبغال والحمير، هل حكمها حكم الإبل أم حكم سانر اللقطات، وكذلك اختلف في البقر، فقيل: هي كالإبل، وهو قول بعض أصحابنا، وهو قول طاوس والأوزاعي، وقيل: إذا كانت بموضع يخاف عليها فيه الضياع فهي بمنزلة الغنم، وهو قول مالك والشافعي.(6/404)
وقوله: " نهى عن لقطة الحاج "، قال الإمام: قد تقدم الكلام على قوله: " لا تحل لقطتها إلا لمنشد "، وأن الشافعي تعلق بظاهر هذا، ورأى أن لقطة الحاج بخلاف غيره.
قال القاضي: قد تقدم الكلام على هذا، وأن من أصحابنا من تأول مذهبنا على هذا، أو فرق بين لقطة مكة وغيرها للمعنى الذي قدمناه قبل. ومعروف قول مالك ؟ أن لقطتها كلقطة غيرها، وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل.
وقوله:« من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها »، قيل: معناه: مخطئ في فعله ذلك ضال عن طريق الصواب فيه.
قال الإمام: إذا أخذ الضالة فاخفاها فقد أضر بصاحبها، وكان متسببًا إلى الضليلة عنها، فإذا عرفها أمن من ذلك.
قال القاضي: على هذا التأويل الحديث عموم في كل ضالة ولقطة، وقد جاء في بعض الروايات:" من التقط ضالة "، وظاهر الحديث في ضوال الإبل، وعليه حمله بعضهم. وإذا فسر بالمخطئ لم يضمن إن هلكت ؛ لأنه إنما أخطأ في أخذها وإنما أخذها ليردها على صاحبها، ويحوطها عليه. وإن كان إنما أخذها ليأكلها ولا يعرفها من الإبل وغيرها فهذا ضال بين الضلال، ثم متعد يضمن ما هلك منها باى نوع من الهلاك.
وقد اختلف العلماء بحسب هذا هل اللقطة والضالة بمعنى واحد، وإليه ذهب الطحاوي، ومعظمهم أنهما مفترقتان فان الضالة تختص بالحيوان،/ وهو قول أبي عبيد.
وقوله في ضالة الإبل:« مالك ولها »، وغضبه عند ذلك حتى احمرت عيناه، ليدل على شدة كراهة الأخذ ومنعه، ويرى الشدة في ذلك. وتخصيصه هذا بالإبل مما يحتج به من لا يكره أخذ اللتهطة، ويرى أخذها أفضل، وهو مذهب الشافعي، فيما له بال وفيما ليس له بال. وروي ذلك عن مالك فيما له بال، وعنه - أيضًا - الكراهة لالتقاطها. وحكى القاضي إسماعيل عن المذهب التخيير في ذلك. وقال أبو عبيد: لا ينبغى ترك اللقطة، ولا ينبغى أخذ الضالة. وذهب قوم من العلماء إلى التسوية بينهما، وبه قال الطحاوى، وقال: يأخذها.(6/405)
وفي قوله:« عرفها سنة، وإلا فشأنك بها »، دليل أنه لا نظر للسلطان فيها، وإنما الأمر فيها لواجدها، وهو قول أهل العلم. واختلفوا إن كان غير ملعون هل يتركها بيده السلطان أو يأخذها منه، على قولين. واختلف في ذلك قول الشافعي، ومقتضى مذهب مالك وأصحابه أن يأخذها مريد غير المأمون. واختلفوا في تأويل قوله:« وإلا فشأنك بها »، بحسب اختلافهم في حكمها، فقيل معناه: الإباحة، بدليل قوله في الرواية الأخرى: " فاستنفقها"، و" فاستمتع بها "، وأنه مفسر لذلك المبهم. وقيل معناه: احتفظ بها. وقيل: تصدق بها، وذلك على ما نذكره من اختلافهم في ذلك.
وقوله في حديث القعنبي عن سليمان بن بلال:« فإن تعرف فاستنفقها أو فتكون وديعة عندك، فإذا جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه »، رفع لإشكال اختلاف الروايات وجمعها في حديث واحد، وأنها وإن أبيح له أكلها فهو ضامن لها، وعلى هذا إجماع علماء الأمصار وفقهاء الفتوى، إلى أن جاء داود فاسقط عنه الضمان بعد السنة.
وإن اختلفوا في جواز أكله لها بعد الحول بعد ضمانها إن جاء صاحبها، فأباحه أبو حنيفة للفقير. وروى عن على وابن عباس - رضى الله عنهما -: يتصدق بها ولا ياكلها، وهو قول المسَيِّب وجماعة من السلف والثوري. وقال مالك: يستحب له الصدقة بها، ويلزمه الضمان وإن تصدق بها، وكذلك إن أكلها. وروى مثله عن عمر وابنه وابن مسعود وعائشة وعطاء والشافعي وأحمد وإسحاق، لكن الشافعي يبيح له أكلها للغني والفقير. وقال الأوزاعي: إن كان مالا كثيرًا جعله في بيت المال بعد السنة.
ذكر في حديث أبي الطاهر في الباب: " اعرفها سنة "، وكذا وقع في رواية أبي بحر، وعند غيره:" عرفها "، كما في سائر الأحاديث. وقيل: الألف خطأ، وقد يصح على التعدية مثل: عرفها.(6/406)
قال القاضي: وأما قصة على - رضي الله عنه - في حديث أبي داود، فليس فيه أنه أخذه تملكًا؛ بدليل بيانه في قصة الجزار أنه تركه رهنًا، وهكذا - والله أعلم - كانت قصتة مع صاحب الدقيق، أو طلب منه فيه ثمنًا. ولعله إنما حمله ليرهنه عنده في دقيق إلى أن يأتى مستحقه ومدة عسره إلى أن يفتح الله من حيث يفديه، أو يتيح له صاحبه مقدار ما رهنه فيه، لشغله به وإنشاده إياه إن رأى ذلك. ولم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أكلاً له ولا استحلاله / فيكون سكوته وإقراره حجة في تسويغه على مذهب أولئك. وقد ذكرنا زيادة للترمذى في هذا الباب: أنه عرفه فلم يجد من يعرفه. فإن كان على نص حديث أبي داود لحينه، فيكون على ما ذكرناه. وإن كان إنفاقه له بعد مضي مدة التعريف فعلى ما تقدم من صحة التمليك. وحجة لمالك في ضمانه لربه بعد ذلك.
وقوله:« لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤت مشربته فتكسر خزانته فينتقل طعامه »، وفي الرواية الأخرى:« فينتثل »، الحديث، قال الإمام: النثل: نثر الشيء بمرة واحدة، يقال: نثل ما في كنانته، أفما صبها.
قال القاضي: المثربة، بفتح الميم والراء وبضم الراء أيضًا، كالغرفة يختزن فيها الطعام. وقال يحيى بن يحى: هي العسكر، وهو كالسقيفة والرف، يخرج من بين يدى الغرفة أو الحائط يختزن فيه، وهو من معنى ما تقدم.
وفيه من الفقه: أنه لا يحل لأحد أن ياكل مال أحد، ولا يأخذ منه شيئًا إلا بإذنه، وأن اللبن وغيره سواء للمضطر وغيره، إلا ألاّ يجد ميتة. وقد اختلف في ذلك للمضطر مع وجرد الميتة، وأما من يعلم أن نفس صاحبه يطيب بذلك فلا بأس به. وجمهور العلماء على أن على هذا الآكل - إذا اضطر - قيمة ما أكل متى أمكنه. وذهب بعض أصحاب الحديث إلى أنه حق جعله له النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا قيمة عليه للحديث الذي ذكره أبو داود وغيره، وفي هذا الباب من إباحة ذلك فيمن مر بماشية. وحمله العلماء على المضطر.(6/407)
وقد قيل فيه: إن من حلب من ضرع ماشية خفية ما قيمته ما يقطع فيه قطع ؛ لأنه خزانة وحرز للبن، وهذا إذا كانت الغنم أو الإبل في حرز أو بمحضر راع يرعاها، ولم تكن عادة أربابها الإذن في ذلك والإباحة. وكذلك كانت عادة العرب، وهو وجه شرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر للبن غنم الراعي في طريق الهجرة، وكانت عادة العرب إباحة مثل هذا، وذم مانعه. وفيه جواز القياس والتمثيل في النوازل.
وفيه أن اللبن سمى طعامًا ؛ لقوله:« فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم »، فمن حلف ألاّ يأكل طعامًا فشرب لبنًا حنث، إلا أن يكون له نية معينة في نوع من المطعومات.
وفيه حجة لمن مغ بيع الشاة اللبون باللبن. ومالك والشافعي يمنعان ذلك إذا كان فيها الآن لبن حاضر، فإن لم يكن في ضرعها لبن أجازه مالك نقدًا ومنعه مؤجلاً. واختلف أصحابه، فحمله جلهم على عمومه. وقال بعضهم: إنما هذا إذا قدم الشاة، فلو كانت هي المزخرة جاز وأجازها بالطعام نقدًا أو إلى أجل. وأجاز الأوزاعي شراءها باللبن وإن كان في ضرعها لبن، وراه لغوًا وتبعًا. ولم يجز الشافعي ولا أبو حنيفة بيعها بطعام إلى أجل.
وقوله:« من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته»، قالوا: وما جائزته يارسول الله ؟ قال:« يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، وما كان وراء ذلك فهو صدقة »، أي: من كان يؤمن بالله فليكن من خلقه إكرام الضيف. وأجمع العلماء على أنها من مكارم الاخلاق وسق الشريعة. واختلفوا في وجوبها فأكثرهم على ما ذكرناه /وحكى الليث أنه حق واجب، وقيل عنه: واجب ليلة واحدة. وقال الشافعي: الضيافة على أهل البادية والحاضرة حق واجب من مكارم الاخلاق، وهذا كما قالت الجماعة. وقال مالك وجل أصحابه: ليس على أهل الحضر ضيافة لوجرد الأسواق لما يشترى، والمنازل حيث ينزل في القرى. وقال ابن عبد الحكم: هي على الحاضر والبادي.(6/408)
وقوله:« جائزة يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام »، قيل: معناه: إتحافه وصلته وإكرامه يوم وليلة، ويطعمه بقية الأيام الثلاثة ما أمكنه من غير تكليف. وقيل: يحتمل أن جائزته يوم وليلة حق المجتاز في الضيافة، ومن أراد الإقامة فثلاثة أيام. وقيل: الجائزة غير الضيافة، يضيفه ثلاثة أيام، ثم يعطيه ما يجيزه مسافة يوم وليلة. قال الهروي: والجزة قدر ما يجوز به المسافر من منهل إلى منهل.
وقوله:« لا يحل له أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه »، فستره في الحديث: « يقيم عنده ولا شيء له يقريه به »، قال الإمام: إنما يطلق التحريم في الإقامة فوق الثلاثة على أنه ألجا صاحب القرى إلى فعل ما لا يحل له من طلب القرى من غير حله، أو إطلاق لسانه عليه بما لا يحل لتشغيله. فهذا قد يقال فيه: إنه لا يحل إذا علم أنه يوقعه فيما لا يحل من إطعامه ولكل الأموال المحرمة، أو يكون كمكره له على إطعامه، ولا يقدر على التخلص منه.
قال القاضي: وقد روى:" حتى يحرجه "، يحتمل أن يضيق خلقه ويدخل عليه الحرج بمقامه، وقد يكون " يحرجه "، يضيق عليه بمقامه. ووقع في بعض روايات مسلم:" حتى تؤلمه " مكان: " يؤثمه "، لعله تصحيف.
وقوله: " فما كان وراء ذلك - يريد ثلاثه أيام - فهو صدقة "، يريد أنها أخرجته عن حد الضيافة المشروعة والمكارمة المستحبة للاثنين إلى علة التعريض للعطاء والسؤال. وحكم الصدقة إلا للمحتاج المضطر إليها المحرمة على الأغنياء الأخذ لها بغير طيب نفس صاحبها.
وقوله:« من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت »، أي يصمت عن الشر وما لا يعني من الكلام. وقد تكون الواو للتقسيم، أي يقول الخير ويشغل به لسانه فيؤجر ويغنم، فإن لم يفعل هذا فليصمت ويسلم. وقد تكون " أو " هنا بمعنى الواو، أي: يقول الخير ويصمت عن الشر. وقدم تقدم في كتاب الإيمان الكلام على هذا أيضًا بنحو من هذا وأشبع منه.(6/409)
وقوله: إنك تبعثنا فننزل بقوم فما يقروننا، فما ترى ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا منهم حق الضيف، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغى لهم »، قال الإمام: أشار الشيخ أبو الحسن - رحمه الله - إلى أن المراد بقوله: " فخذوا منهم حق الضيف "، العتب واللوم والذم عند الناس، ويحتمل عندي أن يحمل على ضيافة واجبة، فإنهم إذا أبوا من بذلها أخذت منهم إذا قدر على ذلك. وأما الشيخ أبو الحسن فإني رأيته قال على هذا الحديث: حق الضيف ما ذكرناه عنه، ولعله أراد حمله على ما يعم ؛ لأن ما قلناه يخص ولكن مع خصوصية أرجح من جهة أن العتب واللوم والذم عند/ الناس، ربما كان الشرع يندب إلى تركه لا إلى فعله، راذا تعين على قرم مواساة اخرين فإنه لايكرة لهم إذا اضطروا وخافوا على أنفسهم الأخذ من طعامهم.
قال القاضي: قد قال الداودى: يدل قوله:« خذوا منهم حق الضيف»، على أخذه كيف أمكن شرًّا أو قهرًا بالمعروف، وقد يتعين المواساة عند الضرورة. والذي ذكر غيره في هذا الحديث أبين من أنه: لعل هذا كان أول الإسلام إذ كانت المواساة واجبة، فلما جاء الله بالخير والسعة صارت مستحبة، فيكرن على قول هؤلاء فسوخا، كما قال بعضهم. وقيل: لعله كان حينئذ فيمن يجتاز غازيا باهل الذمة، ممن لا يقدر على استصحاب الزاد إلى رأس مغزاه، ونحره لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. ويحتمل أن يكون فيمن أوجبت عليه من أهل الذمة ويعد فتح خيبر وغيرها من بلاد العنوة إن كان شرط ذلك عليهم، كما شرطه عمر - رضي الله عنه - على ما فتح من البلاد.(6/410)
وقوله:" جاء رجل على راحلة، فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالاً "، كذا رواية السمرقندي والسجزي والصدفي، وابن ماهان: " يضرب يمينًا وشمالاً"، ولأبي بحر عن العذري:" يصرف يمينًا وشمالأ "، وفي كتاب أبي داود وغيره: " يصرف راحلته يمينًا وشمالاً "، فقال - صلى الله عليه وسلم -:« من كان معه فضل من ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له » إلى قوله:" حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل "، فيه الترغيب في الصدقة والمواساة، وهذا نفس المراد بقوله: " يصرف بصره أو راحلته يمينًا وشمالاً أو يضرب "، إن هذا الرجل كاني متعرضا لسؤال زاد، فصرفه الناس إذا رأوا على راحلته، إن صحت تلك الرواية - والله أعلم. والصدقة على ابن السبيل - وإن كانمت له راحلة وليس معه زاد - واجبة وإن كان غنيًّا بموضعه.
وقوله في الحديث:" فخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأصابنا جهد "، أي: شدة.
وقوله: " فجمعنا أزوادنا "، كذا رواه بعضهم عن ابن ماهان، وروايتنا فيه: "تزوادنا"، وفي رواية: " مزاودنا "، فان كان " تزوادنا "، محفوظًا فهو اسم من الزاد على تفعال بالفتح كالتيسار، أو بالكسر كالتمثال.
وقوله: " فحزرته كربضة العنز "، كذا رويناه بفتح الراء، وحكاه ابن دريد بكسرها، أي كجثة العنز إذا ربض. ومرابض الغنم: أماكن مبيتها.
وقوله: " ونحن أربع عشرة مائة، فأكلوا حتى شبعوا جميعًا، ثم حشونا جربنا "، أي: أوعيتنا، واحدها جراب.
وقوله: " فجاء رجل بإداوة فيها نطفة "، الإداوة: الآنية. والنطفة: الماء الصافي، يقع على القليل والكثير.(6/411)
وقوله:" فأفرغنا في قدح فتوضأنا كلنا ندغفقه دغفقة، ثم جاء بعد ثمانية فقالوا: هل من طهور ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« فرغ الوضوء »، قال الإمام: هذا أحد معجزاته، تكثير الماء وتكثير الطعام، والبارى - سبحانه - قادر على خرق العادات، فيمكن أن يكون كلما كل منه جزء خلق البارى - سبحانه وجلت قدرته - جزءًا آخر يخلفه، وكذلك في الماء. ومعجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - ضروب. فأما القرآن فمنقول، تواترًا، وأما مثل هذه المعجزات فلك فيها طريقان: أحدهما أن تقول: تواترت على المعنى، كتواتر جود حاتم. وحلم أخف، فإنه لا ينقل قصة بعينها في ذلك تواترًا، ولكن تكاثرت القصص من جهة الآحاد حتى صار محصولها التواتر بالكرم والحلم. وكذلك تواترت معجزاته سوى القرآن حتى ثبت انخراق العادة له - صلى الله عليه وسلم - بغير القران والطريقة الثابتة، أو يقول: فإن الصاحب إذا روى مثل هذا الأمر العجيب وأحال على حضوره فيه مع سائر الصحابة،وهم يسمعون روايته ودعواه،مع حضورهم معه ولا ينكرون ذلك عليه، فان ذلك تصديق له يوجب العلم بصحة ما قال.
" كربضة العنز "، فيشبه أن يريد: كربض العنز. وقد وقع في بعض الأحاديت أنه بعث - صلى الله عليه وسلم - الضحاك إلى قومه، وقال - صلى الله عليه وسلم -:" إذا أتيتهم فاربض في دارهم ظبيًا ". قال ابن الأعرابى: اراد: أقم في دارهم امنا كأنك ظبي في كناسة قد أمن حيث لا يرى إنسيًّا. قال غيره. وفيه وجه آخر: أنه أمره أياتيهم كالمتوحش لأنه بين ظهراني الكفر، فمتى رابه منهم ريب نفر عنهم وفي حديث آخر: " فدعا بإناء يربض الرهط "، أي: يرويهم حتى يناموا ويمتدوا على الأرض. وأربضت الشمس: اشتد حرها حتى تربض الوحش في كناسها. وفي الحديث: " مثل المنافق مثل الشاة بين الربضين "، قالوا: ربيض الغنم نفسها، أراد أنه مذبذب. ويروى: بين " الرابضين "، معنى هذه الروابة: مربض غنمين.(6/412)
وفي حديث آخر - لما ذكر أشراط الساعة -:« وأن تنطق الرويبضة في أمر العامة »، قيل: وما الرويبضة يارسول الله ؟ فقال:« الرجل التافه ينطق في أمر العامة »، قال الأزهري: تصغير الرابضة الرويبضة كانه جعل الرابضة راعيًا للربيض، والهاء فيه للمبالغة. وقيل: إنما قيل للتافه من الناس: رابضة ورويبضة ؛ لربوضه في بيته، وقلة ابتعاثه في معالى الأمور. يقال: رجل ربض عن الحاجات والأسفار: لا ينهض فيها.
وقوله:" فيها نطفة "، العرب تقول للماء الكثير: نطفة، وللماء القليل: نطفة، ومنه الحديث: " حتى يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى جورًا "، أراد بحر المشرق وبحر المغرب. والنطفة القطر، يقال: نطف الشيء ينطف، بكسر الطاء وضمها أيضًا في المستقبل، وبفتحها في الماضي لا غير، ومنه الحديث:" أن رجلاً أتاه فقال يارسول الله ! إني رأيت ظلة تنطف سمنًا وعسلاً "، أي: تقتطر.
وقوله: " يدغفقه دغفقة،: الدغفقة الصب الشديد، ويقال: فلان في نعيم دغفق، أي واسع.
*****************
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الجهاد(6/413)
قول نافع في الدعاء قبل القتال: " إنما كان ذلك في أول الاسلام، قد أغار النبي - صلى الله عليه وسلم - على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلهم، وسبا سبيهم، وأصاب يومئذ، قال يحيى أحسبه قال: جويرية - أو البتة - ابنة الحارث "، قال القاضي: كذا روينا هذا الحرف، وكذا صوابه، ومعناه: أن يحبى بن يحيى راويه هل حقق سماعها ؟ فقال: أحسبه قال جويرية شك في هذه اللفظة في اسم جريرية، ثم غلب على ظنه صحة ذلك فقال: " أو البتة "، ولم يشك في قوله: " بنت الحارث "، وبدل على ما ذهبنا إليه قوله في حديث محمد بن مثنى بعده:" جريرية بنت الحارث" ولم يشك. وكان يحيى بن يحيى لكثرة تحريه كثيرًا ما يعرض له الشك في بعض ألفاظ / الحديث ؛ ولذلك كانوا يلقبونه بالشكاك. وقد رأيت بعض عظماء أهل الحديث من المصنفين سقط في هذا الحديث سقوطًا عجيبًا، قال: فضبطه في كتابه " البتة "، وجعله اسمًا لجويرية، وهو وًهْم وتصحيف لاشك فيه، وسيأتي مثل هذا اللفظ في حديث يحيى، يعني قوله: أحسب أو البتة، بما يبين ما قلناه، وإن كان بينا.(6/414)
قال الإمام: اختلف الناس في هذه الدعوة قبل القتال، هل يؤمر بها على الإطلاق أو لا يؤمر بها ؟ أم يفصل الجواب فيؤمر بها إذا قوتل من لا يعلم وتسقط في قتال من يعلم ؟ وقد قال بعض الناس: إن هذه المسألة مبنية على أن العقل ما خلا من سمع، أو يجوز أن يكون خلا منه، وهي مسألة اختلاف بين أهل الأصول. وقد احتج من يقول ؛ لأنه لم يخل من سمع، بقوله تعالى: { كلّما ألقي فيها فوج سألهم خزتها ألم يأتكم نذير ( قالوا بلى }، وبقوله تعالى:{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً }، ومن ينكر القول بالعموم لا يسلم هذا الاستدلال. وهذا البناء الذي بناه بعض أهل الأصول فيه نظر، ذلك أن قصارى ما فيه أن ليس بالأرض أمة إلا وقد بلغتها دعوة ما، وقد يكون عند هؤلاء في الأرض قوم لم يعلموا ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - ونبوته، ويظنون أن القتال على جهة تطلب الملك، فيؤمرون بالدعوة.
وقد اختلف الناس أيضًا إذا قاتل من يؤمر بدعوته ولم يدعه فقتله، هل عليه ديته أم لا ؟ فمذهب مالك وأبي حنيفة: لا دية عليه، ومذهب الشافعي: أنه عليه الدية. وحجتنا: أن النهي عن قتالهم قبل الدعوة لا يوجب مخالفته الدية كقتل النساء والصبيان. قال ابن القصار: ولو أقام المسلم بدار الحرب مختارا وهو قادر على الخروج منها فوقع أيضًا قتله خطأ فإنه لا يودى.
قال القاضي: وفي هذا الحديث جواز استرقاق العرب، ولأن بني المصطلق من خزاعة، وقد ذكر سبيه ذراريهم وسبيهم، وهو قول مالك وعامة أصحابه وأن الجزية تؤخذ منهم، وقاله الأوزاعي. وقال ابن وهب من أصحابنا: لا تؤخذ الجزية منهم، فتأول عليه أنهم لا يسترقون. وحكى بعض شيوخنا ذلك عن الشافعي وأبي حنيفة، والمعروف عن الشافعي أخذ الجزية منهم، ومنعها أبو يوسف، وقال مثله أبو حنيفة في أهل الأوثان منهم، قالوا: ما أسلموا أو قتلوا. والأحاديث كلها في بني المصطلق وهوازن وبني العنبر وبنى فزارة وغيرهم يدل على استرتاقهم.(6/415)
وبنو المصطلق هؤلاء كانوا أهل كتاب على اليهودية، وكانوا من مجاورة المدينة بحيث بلغتهم الدعرة بغير شك. قال القاضي إسماعيل: أمر الله تعالى بقتال العرب عبدة الأوثان على الإسلام خاصة، وسائر الكفرة على الاسلام أو الجزية. واختلف في نصارى العرب، هل حكمهم حكم المشركين أو أهل الكتاب، قال: وكتاب الله عز وجل يشهد أنهم منهم، قال الله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم }.
وقوله: " وكان إذا أقر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله سبحانه ومن معه من المسلمين خيرًا "، قال القاضي: والسرية: دون الجيش، وهي القطعة تخرج منه تغير وترجع إليه. وسميت بذلك لأنها تسرى بالليل. قال الحربي: السرية الخيل تبلغ أربعمانة ونحوها.
وفيه وصاة الإمام أمواله/ وجيوشه، وتعريفهم بما يمر عليهم من مغازيهم، وما يجري لهم ويحرم عليهم، ومنه قوله:« ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا »، أي صغيرًا. ولا خلاف في تحريم الغلول والغدر وكراهة المثلة في الحرب.
قال الإمام: إنما نهى عن قتل الأطفال لأنه لا نكاية فيهم ولا قتال، ولا ضرر بأهل الإسلام، بل هم من جملة الأموال ولم يبلغوا التكليف، فلهذا لم يقتلوا.
قال القاضي: وسيأتى الكلام في هذا.(6/416)
وقوله:« وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال أوهما بمعنى، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجرى عليهم حكم الله الذي يجرى على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفئ شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم »، كذا روايتنا، وكذا في جميع النسخ في أول الكلام: " ثم ادعهم إلى الإسلام "، وصوابه: " ادعهم " بإسقاط " ثم "، وكذلك جاء في غير كتاب مسلم، وكذا رواه أبو عبيد في كتاب الأموال بإسقاط: "ثم"، وأبو داود في مصنفه وغيرهما ؛ لأن ذلك هو تفسير الثلاث خصال التي ذكر قبل هذا وليست أشياء أخر غيرها وبعدها.
قال الإمام: وهو يوهم أنها غير الثلاث خصال، إنما دخلت " ثم "، هاهنا لاستفتاح الكلام والأخذ في التفسير.
وأما قوله في التحول:" أنهم لهم ما للمهاجرين، فإن أبوا فكالأعراب " فيمكن أن تكون الإشارة لتمييز المهاجرين عن غيرهم، ولو لم يكن إلا يغزوهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وخروجهم معه كلما خرج، فيستحقون الغنائم. ولعله على هذا نبه بقوله:« فيكونون كأعراب المسلمين، ولا يكون لهم من الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ».(6/417)
قال القاضي: قد يحتمل أنه على وجهه ؛ لأنهم إذا لم يجاهدوا لم يكن لهم جزء من الغنانم، وخمسها إنما يدفعه الإمام باجتهاده، ولاشك أن من خرج عن بلاده وأمواله يحتاج من المرافق مالا يحخاج المقيم بها، فكان المهاجرون أولى بالخمس. وكذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيدهم على الأنصار، للعلة التي ذكرناها من شغمناء الأنصار عن ذلك، وأنه كان يريد إعطاء المهاجرين حتى لا يحتاجون إلى مواساة لهم ؟ ولهذا لما قحت عليه الفتوح وجاء الله سبحانه بالخير أمرهم برد ما كان الأنصار منحرهم من الأموال.(6/418)
قال الشافعي: لم يختلف أحد ممن لقيته أنه ليس للأعراب حق في العطاء، ويحتج الشافعي بهذا الحديث ؛ لأنه لا يرى للأعراب شيئًا من الفيء، وإنما لهم الصدقة الماخوذة من أغنيائهم فترد على فقرائهم. كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم من الصدقة عنده ويصرف كل مال في أهله. وسوى مالك وأبو حنيفة بين المالين، وجوزا صرفهما للصنفين. وذهب أبو عبيد إلى أن هذا الحديث منسوخ / ؛ لأن هذا كان حكم من لم يهاجر أولاً، في أنه لا حق له في الفيء ولا الموالات للمهاجر ولا موارثته، قال الله تعالى:{ والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا }، ثم نسخ ذلك بقوله:{ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض }، وبقوله:« انقطعت الهجرة، ولكن جهاد ونية »، وبقوله:« المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم ». ولهذا ما رأى عمر - رضي الله عنه - أن حق كل واحد كائنًا من كان في الفيء، وتأول قوله تعالى:{ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول } الآية، ثم قال:{ للفقراء المهاجرين }، وفي الآية بعدها:{ والذين تبؤءوا الدَّار والإيمان }، فقال: الآيتان مسبوقتان على الآية الأولى ومعطوفتان عليها، وأن معنى:{ للفقراء }، أي: وللفقراء أن الفيء لجميع هؤلاء فيه حق، وليس أحد منهم إلا وله فيه نصيب، وهذا مذهب مالك في الفيء والخمس، إذا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يملك جميعه ولا اختص بخمس لخمس منه، كما قال الشافعي، وإنما كان يصرفه فيما يحتاج إليه هو وأهل بيته، ويصرفه في مصالح المسلمين كلهم، وكذلك كان فعل الخلفاء بعده. وقائلون يقولون: إنما يكون لمن فيه عناء على المسلمين في جهاد عدوهم أو قيام بأمرهم، أو يكون من أهل الفاقة والمسكنة. ويأتي الكلام على هذا بعد.(6/419)
وقوله:« وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن يجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك »، وفي رواية الطبري:« ذمتك وذمة أبيك وذمم أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله »، الذمة: العهد، هذا على الاحتياط إذ قد يخفرها من لا يعرف حقها، وما في ذلك من جهلة الأعراب وسواد الجيش. ومعنى "تخفروا": تنقضوا، خفرت الرجل: نقضت عهده، وخفرته: أجرته وحميته.
وقوله:« وإذا حاصرت أهل حصن فارادوك أن تنزلهم على حكم الله سبحانه فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك. فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ؟ »
قال الإمام: أما نهيه - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم ذمة الله وذمة رسوله، فإعظامه لذلك ؛ لئلا يكون منهم تقصير يكاد أن يومعهم في إخفار الذمة، فيكون ذلك إذا أعطوا ذمة أنفسهم أهون منه إذا أعطوا ذمة الله.
وأما نهيه أن ينزلهم على حكم الله سبحانه وإشارته للتعليل: لأنك لا تدري. أتصيب حكم الله فيهم، فقد يتعلق بظاهر هذا من يقول من أهل الأصول: إن الحق في مسائل الفروع في طرف واحد. وقد يجيب عن هذا من يقول من أهل الأصول: ليس لله جلت قدرته حكم يطلب في مسائل الفروع حتى يخطئ مرة ويصيب أخرى سوى ما أدى المجتهد إليه اجتهاده، فهو حكم الله تعالى عليه بأن يقول: فإن النبي طقض معرض لنزول الأحكام عليه كل حين وساعه، ونسخ الأحكام وتبديلها في كل وقت. فلعله أراد: لا تنزلهم على ما أنزل الله تعالى مما أنت غالب عنه لا تعلمه؛ لأنك لا تدري إذا فعلت معهم، هل تصادف ما أنزل على وأنت غائب عنه أم لا ؟(6/420)
قال القاضي: في قوله:« فإن لقيت عدوك من المشركين فادعه إلى ثلاث خصال »، وذكر فيها أخذ الجزية منهم وهم العدو، وذكر الإشراك، فيه حجة لمالك وأصحابه في أخذ انجزية من كل كافر، عربيًّا كان أو غيره،?كتابيًّا أو غيره /، وهو قول الأوزاعي. وذهب أبو حنيفة إلى أن الجزية تقبل من الجميع إلا مشركي العرب ومجوسهم، وهو قول ابن وهب من أصحابنا. وعند مالك: أنها لا تقبل من مجوس العرب. وقال الشافعي: لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب، عربًا كانوا أو عجمًا، ولا تقبل من غيرهم، والمجوس عنده أهل كتاب.
واختلفوا في استرقاق العرب، فعند مالك والجمهور: أنهم كغيرهم، ويسترقون كيف كانوا. وعند أبي حنيفه والشافعي: لا يسترقون، فإما أن يسلموا أو يقتلوا، وهو قول بعض أصحابنا، إلا أن أبا حنيفة كان لا يسترق الرجال الكبار، واسترق النساء الصغار. واختلف في القدر المفروض منها، فقال مالك: هي أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهما على أهل الورق. واختلف عندنا هل ينقص منها الضيف أم لا ؟ وقال الشافعي: هي دينار على الغني والفقير. وقال أبو حنيفة والكوفيون: على الغني ثمانية وأربعون درهما، والوسط أربعة وعشرون، والفقير اثنا عشر، وهو قول أحمد بن حنبل، ويزاد وينقص على قدر طاقتهم. وهي عند مالك على الرجال الأحرار البالغين العقلاء دون غيرهم، وهو قول كافة العلماء، غير أنها إنما كانت تؤخذ ممن كان تحت قهر المسلمين لا ممن بأن بداره، ويجب تحويلهم إلى بلاد المسلمين أو قربهم.
وذكر مسلم في آخر الباب: نا محمد بن عبد الوهاب، عن الحسين بن الوليد، عن شعبة. بهذا ثبت هذا السند للعذري وابن ماهان، وسقط لغيرهما. وكان في كتاب لشيخنا القاضي الشهيد عن العذري: " الحسن " مكان " الحسين "، قال لي: والصواب ما عند غيره " الحسين ".(6/421)
قال القاضي: قال البخاري في"تاريخه" في باب الحسين مصغرًا:الحسين بن الوليد، وهو حسين بن الوليد بن علي النيسابوري القرشي، توفي سنه ثلاث ومائتين، ولم يذكر في باب الحسن مكملاً مكبرًا من اسمه الحسن بن الوليد. وذكر البخاري في صحيحه في كتاب الطلاق: الحسين بن الوليد النيسابوري، عن عبد الرحمن، عن عباس بن سهل، عن أبيه وأبي أسيد: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أميمة بنت شراحيل. كذا ذكره مكبرًا، ولم أر هذا الاسم في كتاب أبي عبد الله الحاكم لا مصغرًا ولا مكبرًا، لا فيمن اتفقا عليه ولا فيمن اختلفا فيه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن:« يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا »، فيه ما يجب الاقتداء به من التيسير في الأمور، والرفق بالناس، وتحبيب الايمان إليهم، وترك الشدة والتنفير لقلوبهم، لاسيما فيمن كان قريب العهد به.
وكذلك يجب فيمن قارب حد التكليف من الأطفال ولم يتمكن رسوخ الأعمال في قلبه ولا التمرن عليها، ألا يشدد عليه ابتداء ؛ لئلا ينفر عن عمل الطاعات.
نعم، وكذلك يجب للإنسان في نفسه في تدريبها على الأعمال إذا صدقت إرادته ألا يبتدئها أولاً إلا بتدريج وتيسير، حتى إذا أنست بحاله ودامت عليها، ينقلها لحال آخر، وزاد عليها في عمل أكثر من الأول، حتى يرى قدر احتمالها، ولا يكلفها ما لعلها تعجز عنه ولا يدوم عليه، /فقد ذم هذا - صلى الله عليه وسلم - وحض على الأحسن ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -:« كلفوهم من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا »، وقد تقدم الكلام عليه.
وفيه الأمر بالاتفاق، وهو في أولى الأمر أشد، وفيمن أسند إليه أمر من الأمور وما كان، فإنه لا يتم مع اختلافهم.(6/422)
وذكر مسلم في الباب: نا محمد بن عباد، عن سفيان، عن عمرو. وهذا السند مما استدركه عليه الدارقطني، وقال: لم يتابع ابن عباد عليه عن سفيان، عن عمرو، عن سعيد بن أبي بردة. وقد روى عن سفيان عن معمر عن سعيد، ولا يثبت. ولم يخرجه البخاري من طريق سفيان.
وقوله:« إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء، يقال: هذه غدرة فلان »، وفي بعض طرقه:« يعرف به »، وفي آخر: « يرفع له عند استه ». وفي آخر: " بقدر غدرته، ولا غادر أعظم غدرًا من أمير عامة، أصل رفع اللواء للشهرة والعلامة، ولهذا قال:« لكل غادر لواء بقدر غدرته »، ولما كان الغدر مكتومًا ومستترًا به شهر به صاحبه، وكشف ستره لتتم فضيحته، ويتشنع ذلك معاقبة كما شهر امرؤ القيس في الآخرة بلواء الشعر، وبعد ذلك في الفخر والمجد شهرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - بلواء الحمد. واشتمل عليه عموم الحمد باسمه محمد وأحمد، فيكون من المبالغة في حمد فعاله وخصاله، ومن المبالغة في حمده هو نعم ربه وثناؤه عليه، كما قال:« فأحمده بمحامد »، ثم يفتح عليه فيه من المحامد ما لم يعط غيره، ويبعثه ربه المقام المحمود كما وعده، يحمده فيه الأولون والآخرون، وسمى أمته الحامدين. وفي هذا كله دليل على قبح الغدر، ووعيد شديد، لاسيما في معاهدة العدو. وقد رأى بعض أهل العلم الجهاد مع الولاة الظلمة، وإن جاروا ولم يقسموا الغنائم وغير ذلك ؛ إذ لو ترك الجهاد معهم لتغلب العدو، إلا إذا كانوا يعدون ويجهزون، لهذا الذي قدمناه، والله أعلم.
ورأى بعضهم الجهاد معهم على كل حال، وأباه بعضهم على كل حال. واختلفوا بهذين القولين فيه قول مالك، وفي مذهبنا الأقوال الثلاثة.(6/423)
وقوله:« ولا غادر أعظم غدرًا من أمير عامة »، لأن غدره متعد إلى كثرة وجماعة، بخلاف غدر الواحد للواحد. وقد يكون تعظيمه لغدر أمير العامة لأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته وسلطانه على الوفاء، كما عظم في حقه الكذب في الحديث الآخر في قوله:« ثلاثة لا يكلمهم الله »، الحديث، وذكر منهم:« وأمير كاذب »، وقد قدمنا الكلام عليه أول الكتاب، ويكون المراد يغدر أمير العامة إما للغدر في عهده معه، أو لرعيته بخيانته لهم وقلة حوطته عليهم، وغدره لأمانتهم التي قلدها، وعهدهم الذي لزم عنقه. أو يكون المراد: أن الأمير هو المغدور، كما جاء في الحديث الآخر في الثلاثة الذين لا يكلمهم الله:« ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطى له ما يريد له، وإلا لم يف »، وعظم هذا لإخفائه ؛ لأن فيه الخروج على الأئمة، وشق العصا، وإثارة الفتن.
قال الإمام: وذكر مسلم في الباب: نا محمد بن المثنى وعبيد الله بن سعيد، قالا: نا عبد الرحمن بن مهدى، نا سعيد، عن خليد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد. وقع في نسخة الرازي: سعيد عن خالد. قال بعضهم: والصواب:" خليد " كما تقدم / وهو: خليدبن جعفر.
وقوله:« الحرب خدعة »، قال القاضي: قال أهل العلم: الخداع في الحرب جائز كيفما تمكن لهذا الحديث، إلا أن يكون بنقض عهود وأمان فلا يحل. قال الطبري: وإنما يجوز من الكذب في الحرب مالا يجوز في غيرها من المعاريض والكلام بما يحتمل الألغاز والقصد إلى الإخبار عن الشيء ما هر عليه يعني في ظاهره.
قال الإمام: يقال: خذعة، بفتح واسكان الدال، على جهة المصدر المحدود، كضربة ونفخة. وخذعة، بضم الخاء واسكان الدال، وهو اسم على تقدير لعبة، ولا يراد به المرة الواحدة كما يراد بالمصدر المحدود. وخدعة، بضم الخاء وفتح الدال، وهو صفة لها، ومعناها: أنها تخدع الرجال، كما يقال ضحكة للذى يضحك بالناس، وهزأة للذى يهزأ بهم.(6/424)
قال القاضي: لغة النبي - صلى الله عليه وسلم - " خدعة " بالفتح، وهي أفصح اللغات. قال ثعلب: قال بعضهم: ومعناه: أنها تخدع أهلها، وصف الفاعل باسم المصدر، وقيل: ويحتمل أن يكون وصفا للمفعول، كما قيل: درهم ضرب الأمير، أي مضروبه. وقيل: معناها المرة الواحدة، أي لا يقبل العثرة إذا اتفقت فيها الخدعة، قال: ومن قال:" خدعة" بالضم والسكون، إلى أنها تخدع ؛ لأن أحد الفريقين إذا خدع صاحبه فيها فكأنها خدعت فيها. ومن قالها بالضم وفتح الدال فهي تخدغ أهلها، أو تمنيهم الظفر أبدًا، وقد تنقلب بهم الحال لغيرها.
وقوله:« لا تمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا »، فقيل: يستفاد معنى هذا من قوله تعالى:{ واقعدوا منهم كل مرصد }.
قال الإمام: قد يشكل في هذا المعنى أن يقال: إذا كان الجهاد طاعة فتمني الطاعات حسن، فكيف ينهى عنه، قيل: قد يكون المراد بهذا أن التمنى ربما أثار فتنة أو أدخل مضرة، إذا سهل في ذلك واستخف به، ومن استخف بعدوه فقد أضاع الحزم. فيكون المراد بهذا: أي لا تستهينوا بالعدو فتتركوا الحذر والتحفظ على أنفسكم وعلى المسلمين، أو يكون: لا تتمنوا لقاءه على حالة يشك في غلبته لكم، أو يخاف منه أن يستبيح الحريم، أو يذبب الأنفس والأموال، أو يدرك منه ضرر.(6/425)
قال القاضي: قال بعضهم: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته عن تمني المكاره، ولهذا قال السلف الصالح: العافية من الفتن والمحن لاختلاف الناس في الصبر، ولهذا قال متصلاً بقوله هذا في الحديث:« واسألوا الله العافية ». ولذلك اختلفوا في الدعاء إلى المبارزة، فروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: يا بني، لا تدعون أحدًا إلى المبارزة، ومن دعاك إليها فاخرج إليه، فإنه باغ، وقد تضمن الله سبحانه وتعالى نصر من بغي عليه. وقال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه العلم على جواز المبارزة. والدعوة للبراز شرط بعضهم فيها إذن الإمام، وهو قول الثوري والأوزاعي وأحمد واسحاق. وبعضهم أجازها مطلقًا ولم يشترط فيها أمر الإمام، وهو قول مالك والشافعي. واختلف في ذلك قول الأوزاعي. وقال الحسن: أكره المبارزة ولا أعرفها. واختلفوا هل يجوز أن يعين للمبارزة غيره في أهل العسكر على مبارزة أم لا ؟
وقوله في هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان لا يقاتل حتى تزول الشمس ؛ وذلك للتمكن من القتال بوقت ألا يراد بهبوب الرياح، وأن الحرب كلها /استجرت وحمى المقاتلون بحركتهم فيها ومصارعتهم، وما حملوه من سلاحهم. هبت أرواح العشى فبردت من حرهم ونشطتهم، وخففت أجسامهم، بخلاف لو إشتد عليهم التهجير وهم في مقاستها لكسلهم وثبطهم وقطع نياطهم. وقد ذكر البخاري ذلك مبينًا، فقال: إحتى تهمب الأرواح وتحضر الصلوات. قيل: ولما فيه مع ذلك من فضل أوقات الصلوات واستجابة الدعاء فيها. قيل: بل كان يفعل ذلك لانتظار ريح الصبا وهبوبها بعد الزوال، وقد قال:« نصرت بالصبا »، وجاء في حديث آخر: أنه كان ينتظر حتى تزول الشمس وتهب رياح النصر.
وقوله:« فإذا لقيتموهم فاصبروا »، حض على الصبر، وتوطين النفس في هذا يكون الثبات ويرجى النصر، ومع الهلع تحذر اليد والرجل، ويستولى العدو.(6/426)
وقوله:« واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف »، أي: أن ثواب الله سبحانه حاصل على عمل الجهاد ومشي المجاهدين فيه. وعبر عن المجاهدة بالمشي تحت ظلال السيرف ؛ إذ معظم الجهاد بها، ولكونها مرفوعة للضرب بها غالبًا. وقيل: بل المراد بهذا الكلام: الدنو من الأقران حتى يكونوا تحمت ظلال سيوفهم ولا يفرون منهم ؛ لأن كل ما علاك ودنا منك فقد أظلك، وإلى نحو هذا أشار الخطابي.
وقوله:« اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، وهازم الأحزاب، اهزمهم، وانصرنا عليهم »، وفي الحديث الآخر:" زلزلهم " معناه: ازعجهم وحركهم بشدائد ذعرك. والزلزال والزلزلة: الشدائد التي تحرك الناس، قال الله عزوجل:{ وزلزلوا زلزالاً شديدًا }. فيه جواز الدعاء على المشركين والاننصار به على العدو، وقيل: الإشارة بقوله:« منزل الكتاب، سريع الحساب » في هذا الموطن توصل منه - صلى الله عليه وسلم - بما أنزل عليه من كتابه العزيز فخالفه عدوه. وسرعة الحساب إشارة إلى شدة الأخذ والبطش، كما قال: "هازم الأحزاب ».
وقوله في هذا الحديث: عن أبي النضر، عن كتاب رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الدارقطني: الحديث صحيح، واتفاق البخاري ومسلم على إخراجه حجة في جواز الإجازة والمكاتبة.
قال القاضي: وإلى صحة الحديث والعمل بذلك ذهب كافة المحدثين والفقهاء والأصرليين. وقالت فرقة: لا تجوز الرواية به وهو خطأ. وقد كتب - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك الأمم فكان حجة عليهم، وكتب لعماله وأمرائه فلزمهم العمل به، ولأن الثقة بالكتاب كالثقة بالكلام.
وقوله: كان يقول يوم أحد:« اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض »، تسليم منه - صلى الله عليه وسلم - لربه، ورد على علة القدرية من أن الشر غير مراد لربهم، وجاء هنا: أنه قال يوم أحد، والذي ذكره أهل السير وجاء بعد هذا في مسلم: أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قال هذا الكلام يوم بدر، وأول موطن حرب الإسلام. ويحتمل قوله لها في الموطنين.(6/427)
وقوله:" نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان "، قال الإمام: تقدم الكلام في قتل الصبيان. وأما المرأة فلا تقتل أيضًا ؛ لأنها من جنس من لايقاتل، لكنها إن قاتلت فقتلت في حال القتال ؛ لأن المعنى المبيح لقتل الرجال قد وجد منها. وإن كانت قاتلت ثم برد القتال ففي قتلها خلاف، بخلاف الرجل إذا برد القتال فإنه يقتل إذا شاء الإمام. وأما قتل الشيوخ والربان فعندنا وعند أبي حنيفة: أنهم لايقتلون، خلافًا للشافعي. وأما قول الله تعالى:{ وقاتلوا / المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة }، وهؤلاء ليسوا ممن يقاتل. وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - عن علة النهي عن قتل المرأة بأن قال - صلى الله عليه وسلم -:« ما كانت هذه تقاتل »، وللشافعى قوله سبحانه وتعالى:{ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } الآيتين، وهذان مشركان. وقد قتل دريد بن الصمة وهو شيخ.
وخرَّج النسائى وأبو داود أنه - صلى الله عليه وسلم - قال:« اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم »، ولأن الجزية تؤخذ منهم كما تؤخذ من الشبان، والجزية تحقن الدماء. فلولا أن دمه غير محقون ما أخذت منه الجزية.
وجوابنا أن الآية مخصوصة بما قدمناه من أدلتنا، ودريد بن الصمة كان له رأى ونكاية فقتل لها، وعلى مثله يحمل ما تقدم من الجزية، الحديث. والجزية لانسلم أنها تحقن الدماء بل عوض المسكن والقرار تحت يد الإسلام. وقد التزم أبو حنيفة أنها لاتؤخذ من الشيخ الفاني، فالانفصال ساقط عنه. فالمراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -:" شرخهم "، أي: صبيانهم. وشرخ كل شيء أوله. فالصبيان أول الشباب.(6/428)
قال القاضي: أجمع العلماء على الأخذ بهذا الحديث في ترك قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا. واختلفوا إذا قاتلوا، فجمهور العلماء كافة - من يحفظ عنه العلم منهم - أنهم إذا قاتلوا يقتلوا. قال الحسن: وكذلك لو خرج النساء معهم إلى بلاد الإسلام. قال الأوزاعي: وكذلك إذا كانت حارسة للعدو. ومذهبنا: أنها لا تقتل في مثل هذا إلا إذا قاتلت. واختلف أصحابنا إذا قاتلوا ثم لم يظفر بهم إلا بعد أن برد القتال وأسروا، هل يقتلون كما يقتل الأسرى، أم لا يقتلون إلا في نفس القتال، وكذلك اختلفوا إذا رموا الحجارة، هل ذلك حكم القتال بالسلاح أم لا ؟
وقوله - صلى الله عليه وسلم - عن الدار من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -:« هم منهم »، كذا الرواية الصحيحة للكافة، وعند العذري، عن "الذراري" "مكان " الدار،، وليس بشيء وهو تصحيف، وما بعده يبين فيه الغلط.
قال الإمام: المراد بقوله: " هم منهم "، أن أحكام الكبار جارية عليهم في مثل هذا، والدار دار كفر. فكل من كان فيها منهم ومن ذراريهم. وإن اعترض هذا بالنهي عن قتل النساء والولدان، قلنا: هذا وأراد فيهم إذا لم يتميزوا فقتلوا من غير قصد لقتلهم، بل كان القصد قتل الكبار، فوقعوا في الذراري من غير عمد ولا معرفة، والأحاديث المتقدمة وردت فيهم إذا تميزوا. وقد قال في هذا الحديث:" يبيتون فيصيبون من نسائهم "، وهذه إشارة إلى ماقلناه.
قال القاضي: أكثر العلماء عن الأخذ بهذا الحديث، وأنه خير معارض للنهي عن قتل النساء والصبيان والأطفال لما تقدم من العلة قبل، وأنهما أصلان يستعملان ذلك على الانفراد، وهذا على الاختلاط. وممن قال به مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري، ورأوا أن رميهم بالمجانيق.(6/429)
واختلف في رميهم في حصونهم أو مراكبهم بالنيران وتحريقهم، فأجاز ذلك الشافعي والثوري، إلا أنه يستحب ألا يرموا بالنار ما أطيق تغليبهم بغير ذلك ؛ للنهى عن التحريق، وأنه لايعذب بالنار إلا الله سبحانه وتعالى، هذا مذهب مالك وعلماء المدينة، إلا أن يكون فيهم مسلمون فيمنعه مالك جملة.
واختلف أصحابنا، هل يرمون بالنار وإن كان ذراريهم فيهم ونساؤهم؟ على قولين. ومعنى البيات: يبيتون، أي يؤخذون / على غرة، أو بليل حيث لا يستبين الرجل من المرأة، والصغير من الكبير، ويدل عليه أنه جاء في الحديث الآخر:« لو أن خيلاً أغارت من الليل ». والذراري تطلقه العرب على الأولاد والعيال من النساء. وفي جواز التبييت في هذه الأحاديث دليل?على أن الدعوة ساقطة لمن بلغته، وأنه لايلزم الدعوة في كل قتال.
وقوله:" حرق نخل بني النضير وتطع، وهي النويرة، فأنزل الله عز وجل:{ ما قطعتم من لينة } الآية، قال الإمام: من الناس من تأول أن ذلك كان مقاتل المسلمين القوم، فاحتاج إليه لجولان الخيل، وهذا تأويل من لم ير قطع الشجر على ظاهر ما وقع للصديق - صلى الله عليه وسلم -. والمشهور من مذهبنا جواز قطعها إذا لم يرج مصيرها للمسلمين، وكان قطعها يضر بالعدو ويؤذيه.
قال القاضي: يجوز ذلك، وبمثل مذهب مالك قال جماعة من العلماء ؛ أبو حنيفة والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق. واختلف في ذلك عن الاوزاعي، وبمنع ذلك قال الليث بن سعد وأبو ثور، وتأول الجمهور الحديث للنهي، أي بعد وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - مصير ذلك للمسلمين. واللينة: أنواع التمر كلها إلا العجوة، وقيل: كرام النخل، وقيل: كل نخل، وقيل الأشجار للينها. والبويرة المذكورة في شعر حسان من جلاء بني النضير. مستطير: منتشر.(6/430)
ذكر مسلم في حديث:" أن نبيًّا من الأنبياء غزا فقال:" لايتبعنى رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها أمره ولم يبن بها، ولا آخر بنى دارًا ولم يرفع سقفها، ولا آخر اشترى غنمًا أو خلفات وهو منتظر ولادها "، البضع، بضم الباء، كناية عن الفرج، فيه تحضيض أولي الحزم وفراغ البال بالأمور المهمات، وألا تناط بمن باله متعلق بغيرها، ونفسه مائلة لسواها، فإن ذلك يضعف جده ويوهن عزمه. والخلفات: الحوامل.
ما ذكر من حبس الشمس عليه ودعائه بذلك حتى فتح الله سبحانه القرية قيل: ردت على أدراجها، وقيل: أوقفت ولم ترد، وقيل: بطئ بحركتها، وذلك كله من علامات النبوة وخصائص كراماتها. ويقال: إن الذي حبست عليه الشمس هو يوشع بن نون، والله أعلم. وقد روى أن هذه الآية كانت لنبينا أيضًا - صلى الله عليه وسلم - في موطنين: أحدهما: في حفر الخندق، وحين شغلوا عن صلاة العصر حتى غابت الشمس، فردها الله تعالى عليه حتى صلى العصر، ذكر ذلك الطحاوى، وقال: إن رواته ثقات. والثانية: صبيحة الإسراء، حين انتظر العير التي أخبر بوصولها مع شروق الشمس، ذكره يونس بن بكير في زيادته في سير ابن إسحاق.
وقوله:" فلما أدنى للقرية "، هكذا في جميع النسخ رباعي، فأما أن يكون تعدية دنا أي قرب، فمعناه: أدنا جيوشه وجموعه لها، أو يكون أدنى هنا بمعنى حان، أي قرب وحان فتحها، من قولهم: أدنت الناقة:إذا حان نتاجها. ولم يقل في غير الناقة.
وماذكره في الخبر:" فيكم غلول، وأمره أن يبايعه من كل قبيلة رجل، فلصقت يده بيد رجلين أو ثلاثة، فقال: فيكم غلول "، من دلائل النبوة وخصانصها، وفيه معاقبة الجماعة بفعل سفهائها، وأن من فعل الإنسان مايكون يوحى ومعجزة مثل هذا، أو مثل قصة البقرة، ومنها ماهو بالاجتهاد وأجزأ الأمور على ظواهرها لغيرهم، وفيه كل تعظيم لأمر الغلول.
وقوله: " فوضعوه في المال وهو بالصعيد ": أي بوجه الأرض.(6/431)
وقوله:" فاقبلت النار/ فأكلته، ولم تحل الغنانم لأحد قبلنا "، بيان ماخصت به هذه الأمة من حل الغنائم، وقيل: إنما كانت لجمع، فتأتى نار من السماء فتأكلها، وكذلك كان أمر قربانهم إذا تقبل، وجاءت نار من السماء فاكلته.
وقوله في حديث مصعب بن سعد عن أبيه:" أخذ أبي من الخمس شيئًا "، وفي الحديث الآخر: " سيفًا "، فأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هب لى هذا، فأبى فأنزل الله سبحانه:{ يسألونك عن الأنفال } الآية، وفي الرواية الأخرى: فقلت: نفلنيه، فقال:« ضعه من حيث أخذته »، فقلت: يا رسول الله ! أأجعل كمن لا غناء له فقال:« ضعه من حيث أخذته »، فنزلت الآية: فيه حجة ألا نفل إلا من الخمس، وأن أخذ سعد هذا كان قبل الخمس، ألا تراه كيف قال:« ضعه من حيث أخذته »، ويحتمل أن يكون هذا قبل نزول حكم الغنائم وتحليلها والحكم فيها، وهو الأظهر والصواب وعليه يدل الحديث. وقد روى في تمامه مايبينه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بعد نزول الآية: « خذ سيفك، إنك سألتنيه وليس لي ولا لك، وقد جعله الله لي وجعلته لك »، ويحتمل أن يكون بعد بيان الخمس وقبل القسمة. وهذا على الخلاف في هذه الآية، هل هي محكمة أو منسوخة ؟ فقيل: هي منسوخة بقوله تعالى: { واعلموا أنما غنمتم من شيء } الآية، وأن مقتضى آية الأنفال الأولى والمراد بها: أن الغنائم كانت للنبى - صلى الله عليه وسلم - خاصة كلها، ثم جعل أربعة أخماسها للغانمين بالآية الأخرى، وهو قول ابن عباس وجماعة، وقيل: هي محكمة، وللامام أن ينفل من الغنائم ماشاء لمن شاء لما يراه منه، وروى هذا عن ابن عباس أيضًا، وقيل: هي محكمة مخصوصة فيمن شد من المشركين إلى المسلمين من عبد أو أمة أو دابة وشبهها، وهو قول عطاء والحسن، وقيل: هي محكمة مخصوصة أيضًا والمراد بها أنفال السرايا.(6/432)
وقوله: " نزلت في أربع آيات " ولم يذكر منها هنا غير واحدة في هذا الحديث، وقد جاءت الأيات الأربع مذكورة فبم كتاب مسلم بعد هذا في كتاب الفضائل وقصصها: آية بر الوالدين، وتحريم الخمر:{ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } الآية، وآية الأنفال.
وقوله:" بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سرية قبل نجد فغنموا إبلاً كثيرة، فكانت سهامهم اثنا عشر أو أحد عشر بعيرًا، ونفلوا بعيرًا بعيرًا "، قال الإمام: النفل عندنا من الخمس يفعله الإمام على حسب الاجتهاد، وعند المخالف أنه من رأس الغنيمة قبل الخمس.
قال القاضي: حكى منذر بن سعيد عن مالك: أن الأنفال من خمس الخمس.
قال القاضي: وهو قول ابن المسيب والشافعي وأبي حنيفة والطبري، والمعروف عن مالك ما تقدم من أنه لانفل إلا بعد القسم من الخمس. وأجاز الشافعي النفل قبل إحراز الغنيمة وبعدها، وهو قول أبي ثور والأوزاعي وأحمد والحسن البصري وجماعة. وقد اختلف في نفل ابن عمر هذا، هل كان قبل القسم أو بعده ؟ واختلفت الآثار في ذلك. وفي "مسلم" مايدل أنه بعد القسم من الخمس نص في أحاديث ذكرها، وأيضًا فإن قوله:" نفلوا بعيرًا بعيرًا "، لو كان من المغنم نفسه لم يكن لهذا القول معنى بعد ذكره ما حصل لهم في القسم، ولكان الكلام مختل اللفظ. ورواية مالك ومن تابعه من الحفاظ أنه كان من الخمس بعد / القسم.
وقال أبو عمر: النفل على ثلاثة أوجه:
أن يريد الإمام تفضيل بعض الجيش لعنائه وبلائه، فينفله من الخمس، بل استحبه بعضهم من خمس الخميس المختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
والثاني: أن يبعث الإمام سرية من العسكر فينفلها مما غنمت دون العسكر، فحقه أن يخمس ما غنمت ثم يعطى السرية مما بقي بعد الخمس ما شاء ولا يزيد على الثلث ؛ لأنه أقصى ماروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفل، ويقسم الباقي بين جميع أهل العسكر والسرية على السواء.(6/433)
الثالث: أن يحرض الإمام آهل العسكر على القتال قبل لقاء العدو، وينفل من شاء منهم أو جميعهم مما يفتح الله سبحانه عليهم الربع أو الثلث قبل القسمة. وكره. مالك هذا لخبث النية بسببه، وقد أجازه بعض السلف. وأجاز النخعي وبعض العلماء أن تنفل السريه جميع ماغنمت والكافة على خلاف ذلك.
وقوله في حديث ابن عمر، وفي بعض الررايات: " فبلغت سهماننا اثنى عشر بعيرًا "، بين أنه نصيب كل واحد منهم، ورافع لشك الراوي ورافع لاحتمال من قال: يحتمل أن جميع الغنيمة كانت اثنى عشر، كما قال بعضهم. وهذا بعير ؛ لأنه لو كان هذا جملة السهام غير الخمس كان خمسها وهو مثل ربع السهام ثلاثة أبعرة. وقد قال في الحديث:" وقد نفلوا بعيرًا بعيرًا "، فيأتي من هذا أن السرية كانت ثلاثة بعد استيفاء الخمس في النفل، وهذا بعيدأن يكون بسرية النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى نجد هذا العدد، لاسيما وقد قال في الحديث:" فأصبنا إبلاً كثيرة "، ولايقال في خمسة عشر: كثيرة. وأيضًا فإن هذه السرية إنما توجهت من جيش وإنما كان الاثنى عشر بعيرًا سهما لكل واحد من أهل الجيش، ونفل أصحاب السرية بعيرًا بعيرًا. كذا جاء مفسرًا في روايات أبي داود وغيره، الحديث في بعض رس ايات مسلم:" ونفلوا بعيرًا"، فلم يغيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". بيانه ماجاء في رواية أبي إسحاق في كتاب أبي داود: " فنفلنا أميرنا بعيرًا بعيرًا، فما عاب علينا ذلك رسرل الله - صلى الله عليه وسلم -، ويجمع بين هذا وبين رواية من روى:" نفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، أي أجاز ما فعل وأمضاه. ويرد هذه الرواية قوله:" ونفلوا " في رواية مالك وغيره. وقد قال بعضهم: إنما النفل في السرايا كما جاء في حديث ابن عمر أنه في سرية.(6/434)
والأنفال: الغنائم. قال صاحب العين: والأنفال: العطايا، وأصل النفل العطية تطوعًا والزيادة على الواجب. ومذهب الشافعي والشاميين أن النفل من جميع الغنيمة بعد إخراج الخمس، وهو قول إسحاق وأحمد وأبي عبيدة ومابقي للغانمين. وفيه من الفقه: إخراج السرايا، وأن ماغنمت يدخل فيه الجيش الذي خرجت السرية فه، وجواز النفل من الخمس أو من الغنيمة على اختلاف الاثار في ذلك وماتقدم في هذا الحديث، وأن الأصح أنه من الخمس، وتحريض الجيش على الإقدام والضرب على مافعله من الإرضاخ لهم من ذلك. واختلفوا هل النفل من جميع الغنائم أو في أولها؟ فذهب الأوزاعي وسليمان بن موسى والشاميون إلى أنه لانفل في أول مغنم، ولا في ذهب ولا في فضة، وعامة الفقهاء على أنه جائز في أول مغنم، وغيره في الذهب والفضة.
وقوله: " فاصابني شارف "، والشارف: المسن الكبير. وكذا قال في الأم، وتمامه من النوق، لايقال ذلك للذكران /، والشارف المسنة الكبيرة، إلا أن يريد بقوله: المسن الكبير: البعير ؛ لأنه ينطبق على الذكر والأنثى، فذكر الوصف على اللفظ حديث أبي قتادة.(6/435)
وقولهء:« من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه »، قال الإمام: اختلف الناس في السلب، فقالت طائفة: هو للقاتل، أخذًا بظاهر هذا الحديث، فجعله بعضهم له على الإطلاق. واشترط الشافعي أن يقتله في حومة القتال، ومقبلاً غير مدبر. ومذهب مالك أنه لايكون للقاتل ضربة لازم ولكن للامام أن ينفله إياه إذا بردت الغنيمة من الخمس، وحمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من قتل قتيلاً " على أن المراد به ابتداء إعطاء الآن، لاخبر عن حكم حكم الله تعالى به في هذه الوقعة وفي غيرها، كما يحمله المخالف عليه، واللفظ يحتمل أن يقال خيرًا عن الحكم في سائر الوقائع، واستئناف حكم في هذه الوقعة وخبرا عن التزام مالا يلزم، لي اذا احتمل سقط التعلق به. وقال أصحابنا: مما يؤكد تأويلنا أنه أعطاه أبا قتادة من غير بينة ولم يحلفه، مع شهادة من هو في يديه، ولو كان حقا تستحق المطالبة به لم يعط إلا ببينة لحق أهل الجيش في المغنم، ولكن لما كان من الخمس على جهة الاجتهاد أداه - صلى الله عليه وسلم - اجتهاده إلى إعطائه إياه على هذه الصفة. وقد أعطى سلب أبي جهل أحد قاتليه مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كلاكما قتله »، وهذا لايصح إلا على مذهبنا أنه يصرفه حيث شاء، وقد كانت وقائع لم يعط فيها السلب للقاتلين، وقد قال عز من قائل:{ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول }، فعم السلب وغره.(6/436)
قال القاضي: واختلف العلماء في حمل هذا اللفظ على العموم والخصوص، فحمله بعضهم على العموم فيمن يسهم له ومن لايسهم له، رجلاً كان أو امرأة أو صبيًّا، وهو أحد قولى الشافعي. وعندنا أنه لايستحق إلا من يقاتل، وقاله الشافعي مرة. وقال الليث والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق والطبري والثوري وأبو ثور: السلب للقاتل على كل حال، قاله الأمراء ولم يقله، وهي قضية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن الشافعي اشترط أن يقتله مقبلاً، والأوزاعي اشترط أن الحرب إذا التحمت فلا سلب حينئذ لقاتل وإنما ذلك قبل التحامها، وهو مذهب الثاميين، وغيرهم لايشترطون شيئًا، ويرون ذلك لكل قاتل في معركة أو غيرها، قتل مقبلاً أو مدبرًا. وذهب مالك وأبو حنيفة والثوري أنه ليس بحق للقاتل وأنه غنيمة الجيش، إلا أن يجعل الأمير ذلك للقاتل.
واختلفوا في تخميسه فقال مالك والأوزاعي ومكحول: يخمس، وقاله إسحاق إذا كثر، ونحوه عن عمرو. قال الشافعي: يخمس، وقاله أحمد والطبري وحكى. ابن خويزمنداد عن مالك أن الإمام مخير بالاجتهاد فيه، إن شاء خمسه وإن شاء لم يخمسه. واختاره إسماعيل القاضي.(6/437)
واختلفوا ماهو السلب الذي يستحق القاتل، فقيل: فرسه الذي يركبه وكل شيء عليه من لبوس وسلاح ووآلة له ولفرسه ولسلاحه ؛ كالشوكار والمنطقة والسوار والخاتم والطوق والتاج واللجام والسرج / وان كان فيها الذهب والفضة والجوهر، وهذا مذهب الأوزاعي، وبه قال ابن حبيب من أصحابنا، وبه عمل جماعة من الصحابة، ونحوه مذهب الشافعي، إلا أنه تردد في السوارين والحلية ومافى معناها من غير حلية الحرب. ومذهب ابن عباس: الفرس والسيف والدرع والرمح وفي معناه السلاح، وهو معنى مذهب مالك. وذهب سحنون إلى نحو مذهب الشافعي من الفرس واللباس والسلاح، وحلية السلاح دون حلية الحرب، ولم ير أحمد الفرس من النفل ووقف في السيف وشز في هذا، ورأى ابن حبيب من أصحابنا ما في منطقته من دنانير ودراهم لنفقة داخلة في السلب، ولم ير ذلك الأوزاعي ولاغيره. رللشافعى قولان فيما وجد في عسكر العدو من أموال المقتول، هل هو من سلبه أم لا ؟
واحتج مخالفنا بقوله في هذا الحديث: " من قتل قتيلاً له عليه بينة "، وقالوا: لايستحق السلب القاتل إلا بالبينة أو شاهد ويمين، وهو قول الشافعي والليث وبعض أصحاب الحديث. وقال الأوزاعي: يعطى بقوله ولايحتاج إلى بينة، وهو قول المالكية، وحجتهم في هذا الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه بشاهد واحد ولم يحلفه معه، وأنه لم يرد ئ البينة وإنما أراد أن يعلم ذلك، ونحو هذا الليث أيضًا، وأنهم عندهم باب خبر لا باب شهادة.
وأجاب المخالف بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أعطاه أبا قتادة بإقرار الذي حازه لنفسه، ولقول أبي بكر - رضي الله عنه - ماقال، فحصل شاهدان له واعترات الذي في يديه الشيء يكفي. وهذا لاحجة فيه ؛ لأن أبا بكر لم يشهد إنما رد قوله بما قاله، ولأن المقر إنما ينفع إقراره لغيره بخلاف مالك لغيره فيه، وإنما النزاع فيه بينه وبين المقولة، وهذا السلب ملكه صحيح لجميع الجيش حتى يثبت لقاتل صاحبه.(6/438)
قالوا: وفي هذا الحديث من الفقه من الحديث جواز كلام الوزير والمستناب عن الأمير وغيره، ممن يتقدمه بما يعلمه من جراب الأمير ومقدمة قبل كلامه ؛ لقول أبي بكر - رضي الله عنه -: " لاها الله، إذا لايعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه ".
ومعنى قوله: " يقاتل عن الله ورسوله، أي: لتكون كلمة الله وكلمة رسوله هي العليا. فيه حجة أن من قاتل في الجيش من أهل الذمة وقتل قتيلاً فلا سلب له.
وقوله: " فيعطيك سلبه ": مما قد يحتج به المخالف باستحقاقه السلب باضافته إليه، ولاحجة له إنما استحق بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فله سلبه، وتسويغه له ذلك. وقول أبي بكر - رضي الله عنه -:" لاها الله إذًا "، قال الإمام: هكذا روي، وصحيحه عند أهل اللغة: لاها الله ذا، بغير ألنط قبل الذال، و" ها " بمعنى الواو التي للقسم، فكأنه قال: والله ذا. وفي الكلام حذت تقديره: لا والله يكون ذا يميني وذا قسمي. وقال أبو زيد:" إذًا " صلة في الكلام. وود تقدم الكلام عليه في حديث بريرة.
وقوله: " فابتعت به مخرفًا "، قال الإمام: المخرف، بفتح الميم والراء: البستان، والمخرف، بكسر الميم وبفتح الراء: الوعاء الذي يجعل فيه مايخترف من الثمار.(6/439)
قال القاضي: روبناه بفتح الميم وبكسرها، فس كسرها / جعله مثل مربد، ومن فتحه جعله مثل مضرب. ورويناه أيضًا بفتح الميم وكسر الراء، كما قالوا: مسكن ومسجد ومسجد وممكن. وقيل: المخرف: السكة من النخل هل يكون صغيرة تخترف من أيها شاء، أي يجتني. قال أبو عبيدة: والمخرف: التمر الذي يجتنى. وأنكره عليه ابن قتيبة، وقال: إنما هي النخل، وأما التمر نفسه فمخروف. قال ابن وهب: هي الجنينة الصغيرة، وقال غيره: هي النخلات غير الكثيرة، وقال غيره: هو ما يجتنى. وقال أبو عبيد: يقال للنخل نفسه: مخرف. وقال الأصمعي: المخرف: جنى النخل؛ لأنه يخترف منها، أي يجتنى. وفيه حجة أن التمر من الفاكهة ؛ لأن الخرفة الفاكهة. فمن حلف ألا يكل فاكهة فأكل تمرا حنث، إلا أن تكون له نية أو عرف استعمال عندهم.
قال الإمام: وقوله: " إنه لأول مال تأَثَّلْتُه "، أي: تأصلته. وأثلة الشيء: أصله.
قال القاضي: وبقى في هذا الحديث ألفاظ ؛ منها: قوله: " فكانت للمسلمين جولة "، يريد انهزاما وخفة ذهبوا معها، وهذا إنما كان في مقدمة الجيش دون النبي - صلى الله عليه وسلم -. والخبر بذلك معلوم، وسيأتى في حديث يوم حنين. وقد ذكر بعض علمائنا الإجماع أنه لايجوز أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - انهزم أو هزم، ولم ير واحد قط في حقه ذلك ظتئ، بل خلافه في الثبات والإقدام.
وقوله:" فرأيت رجلاً قد علا رجلاً من المسلين "،: يحتمل أنه ظهر عليه وأشرف على قتله أو صرعه وجلس عليه ليقتله.
وقوله: " فضربته على حبل عاتقه، قيل: هو موضع الرداء من العنق. قال الخطابي: هو وصل مابين العنق والكاهل. وقيل: الحبل: الوريد نفسه. والوريد عرق بين الحلقوم والعلباوين، قال الله عز وجل:{ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }.
وقوله: " فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت "، أي شدته وألمه، ويحتمل أن يكون استعارة لمقاربته لما يجد من الموت ؛ لأنه من شيء وجد ريحه، ومن بعد عنه لم يجده.(6/440)
وقوله في حديث الليث: " كلا، لايعطيه أصيبغ من قريش "، كذا عند السمرقندي بالصاد المهملة والغين المعجمة. قيل: كان حقره وذمه بسواد لونه، وقيل: أي ذا لون غير محمود، وقيل: وصفه بالمهانة والضعف. قال الخطابي: والأصيبغ نوع من الطير. قال: وقد يجوز أن يشبهه بنبات ضعيف يقال له: الصيبغا، أول مايطلع من الأرض فيكون مايلى الشمس منه أصفر. قال الهروي: الطاقة من النبت أول مايخرج يكون صبغا، مايلى الشمس من أعاليها أخضر.
قال القاضي: الأشهبه على هذا أن يسمى به لتغير لونه لالضعفه أو بهما. وعند سائر الرراة " أضيبع " بضاد معجمة وعين مهملة. وكذلك اختلف فيه رواة البخاري أيضًا. قيل: هو تصغير ضبع على غير قياس، كأنه لما وصف الآخر بالأسد صغر هذا بالإضافة إليه. وشبهه بالضبع لضعف افتراسها وما توصف من الحمق والعجز.
وقوله:" بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، نظرت عن يمينى فإذا أنا بين غلامين من الأوس، فتمنيت لو كنت بين أضلع منهما "، لا أعلمه وقع في كتاب مسلم في جميع النسخ إلا هكذا، ووقع في بعض روايات البخاري: "أصلح" بالحاء، وهكذا رواه مسلم دون رواية جماعة من الحفاظ " أضلع "، / وهو أصوب.
قال الإمام: كذا وقع في بعض الروايات - يعني أضلع - والأشبه أحد، أراد به: لو كنت بين رجلين أقوى منهما. ويقال للرجل الشديد الخلق: إنه لضليع الخلق، وفي حديث علي - رضي الله عنه - في وصف النبي - صلى الله عليه وسلم -: كما حمل فاضطلع بأمرك. هو افتعل من الضلاعة وهي القوة، ويقال: هو مضطلع عليه، أي قوى عليه، وقد تقدم ذكر السلب قبل هذا.
قال القاضي: وقوله:" لئن رأيته لايفارق سوادى سواده حتى يموت الأعجل منا "، أي: شخص شخصه. والشخص يسمى سوادا، وفي الحديث:« أنت السواد الذي رأيت أمامي ».
وقوله:" حتى يموت الأعجل منا "، قيل: هو شيء استعمل في كلام العرب، كأنه يريد الأعجل أجلاً والأقرب موتًا.(6/441)
وقوله:" فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس "، كذا روايتنا عن كافة شيوخنا في الكتاب وعند بعضهم عن ابن ماهان: " يرفل "، والرواية الأولى أظهر وأوجه. ومعنى " يزول ": أي يتحرك ويترجح ولايستقر على حال ولافى مكان. والزوال الزمام والقلق ويصححه رواية من رواه: "يرقل" إن صحت، أي يسبل ثيابه أو درعه ويجرها. ومعنى " لم أنتشب ": لم يطل الأمر، أي لم أشتغل بشيء ولم يشغلنى وهو استعارة لمن تعلق بشيء، يقال: نشب فيه.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما:« أيكما قتله ؟» فقال: كلنا قتله، فقال:« هل مسحتما سيفيكما ؟» قالا: لا، فنظر في السيفين فقال:« كلاكما قتله »، وقضى بسلبه لمعاذ ابن عمرو بن الجموح. قال ابن القصار وغيره: لما خص النبي - صلى الله عليه وسلم - به أحدهما بعد قوله:"كلاكما قتله "، علم على أن السلب غير مستحق للقاتل إذ يعطيه الإمام.(6/442)
وقد اختلفوا في الرجلين إذا قتلا قتيلاً، لمن سلبه، فقيل: ذلك لمن أجهز عليه إذا كان يقدر على التخلص من ضرب الأول، وإن كان لا يمتنع فلمن أثخنه، كما لو قطع الأول يديه ورجليه وقتله الآخر فالسلب للأول، وهذا مذهب الشافعي. ولو جرحه الأول عنده وأثخنه بذلك وذبحه الآخر كان للآخر، ولو عانقه الأول فقتله الآخر فللآخر سلبه. وقال الأوزاعي: سلبه للمعانق. وقال مكحول: إذا قتله الأول وأجهز عليه الآخر فالسلب للأول. ولم أجدهم يختلفون لو كانا مشتركين فيه على سواء أنه بينهما على السواء، فقال أصحاب الشافعي في هذا الحديث: إنما خص النبي - صلى الله عليه وسلم - به أحدهما لأنه استطاب نفس الآخر، وليس في الحديث مايدل عليه، وهذا تحكم. وقد قال بعضهم: بل كان هو الذي أثخنه، وإنما قال: " كلاكما قتله "، تطييبًا لنفس الآخر إذ كان شاركه فيه بعض المشاركة. وهذا أيضًا لادليل عليه ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين نظر إلى سيفيهما قال لهما: " كلاكما قتله " ونظره ليرى في ذلك دليلاً يرجح به جهة القاتل،من أثر طعام أو مبلغ الدم وشبهه. وهذا كله مع تسليمنا أصل المسألة لهم في هذا الحديث، إذ لم يكن من النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك عهد، والا فعل ماقد ورد في رواية أصحاب السير وغيرهم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر:« من قتل قتيلاً فله سلبه »، كما قال يوم حنين، فإنما أخذها من أخذها / في اليومين بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذنه، ولو كان هذا حكما منه تمليكًا لازمًا فيما مضى ويأتي لما اختلف الصحابة بعده في ذلك والخلفاء، وأخذوا باجتهادهم في ذلك. فإن صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك فتخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذا به مع قوله: " كلاكما قتله"، إما لأنه رجح في نظره إلى السيفين أن معاذأ هو الذي أجهز عليه، أو يقدر على مقاتلته، أو يكون باجتهاده - صلى الله عليه وسلم - بحسب ماعلم من نجدة(6/443)
معاذ وإقدامه، ويكون الآخر كالمعين له إن كان لم يقل ذلك.
وقوله آخر الحديث:" والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء "، كذا في كتاب مسلم وكتاب البخاري من طريق يوسف بن الماجشون. وقد جاء في البخاري أيضًا في حديث إبراهيم بن سعد: أن الذي ضربه ابنا عفراء. وذكره أيضًا من حديث ابن مسعود، وأن ابنا عفراء ضرباه حتى برد. وذكر ذلك مسلم بعد هذا، أو ذكر غيرهما: أن ابن مسعود هو الذي أجهز عليه وأخذ رأسه، وكان وجده وبه رمق، وله معه خبر معروف وكلام مروي ذكروه. وهو قول أكثر السير.(6/444)
وفي هذا الحديث من الفقه: أن المبادرة والسبق للفضالل والغضب لله سبحانه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - لقولهما: إنه سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وجواز ستر نية الإنسان مايريد به من الخير عن غيره مخافة أن يسبق إليه. وفيه الحجة لمالك ومن تابعه أنه لايلزم البينة لمن قتل القتيل ويصدق إذا علم ذلك ولم يخف ؛ إذ لم يسالهما النبي - صلى الله عليه وسلم - البينة على ذلك. وقوله: قتل رجل من حمير رجلاً من العدو، فأراد سلبه فمنعه خالد بن الوليد وكان واليًا عليهم، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالد:« مامنعك أن تعطيه سلبه ؟» قال: استكثرته، وأنه أمره بدفعه إليه، ثم ذكر الحديث وفيه آخر:" لا تعطه ياخالد "، قال الإمام: في هذا الحديث - وفيما وقع في حديث قاتل أبي جهل - حجة لمالك في السلب وقد تقدم، ولو كان حقًّا للقاتل على كل حال ما أمر به - صلى الله عليه وسلم - ثم رجع عنه. فإن قيل: وأنتم إذا قلتم بأنه يعطيه على جهته الاجتهاد فلم رجع عنه ؟ قلنا: لتبدل اجتهاده لأنه رآه أولاً أهلاً لأن ينفل السلب، فلما وقع مايدل على الرد على الأمير وتوقع فيه أن يجسر على أمرائه فيما بعد، رأى من المصلحة إمضاء مافعلوه أولاً ؛ ليكون ذلك أبلغ في نفوذ أوامرهم وأمنع من الجرأة عليهم. فإن قيل: فقد صارت هبة، والهبة لايرجع فيها، قلنا: في الوجوب عنها خلافًا مع أن هذه خارجة من هذا القبيل، وإنما هو مال الله يعطيه من يشاء بحسب الاجتهاد، فإذا ظهر له اجتهأد آخر هو أولى رجع إليه.
وقد وقع في بعض طرقه أن عوفا قال: ياخالد، أما علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالسلب للقاتل، فقال: بلى، ولكني استكثرته، فإن قال الشافعي: ظاهر هذا أنه حكم قضى به وشرع خلاف تأويلكم، قلنا بعد أن نسلم أن ظاهر هذا اللفظ هكذا، فإنما هو قول الصاحب وفيه احتمال /، وقد قدمنا من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مادل على ماقلناه.(6/445)
قال القاضي: وقوله: فمر خالد بعوف فجر رداءه، فقال: هل أنجزت لك ماذكرت لك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فسمعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستغضب وقال: "لاتعطه ياخالد، هل أنتم تاركون لي أمرائي "، فيه ما يلزم من ترك الطعن على الأمراء وتوقيرهم وبرهم، وأن للإمام أن يترك ما أمر به ويرجع عنه أو يامر بما قد نهى عنه في أشياء، إذا رأى فيها مصلحة المنهى عنه أو غيره أو معاقبته، لنهيه هنا عن إعطاء السلب بعد تسويغه لما أنفهم له ما على خالد في ذلك من الغضاضة من كلام عوف، وهذا كقوله:« اسق يازبير حتى تبلغ الجدر »، فاستوعب له حقه بعد أن كان اقتصر به على بعضه لما رأى من حضه عدم الرضا بقوله.
وقوله في الأمراء في هذا الحديث: " إنما مثلكم ومثلهم كمثل رجل استرعى إبلاً » الحديث، وقوله:" فصفوه لكم وكدره عليهم "، صفو الشيء: خالصه، بفتح الصاء لاغير. فإذا ألحقوه التاء قالوا: صفوة وصفوة، يريد أنه تقاضاه جميع المال وحيطة البلاد، ومداراة الناس على الأمراء، وللناس أعطياتهم صافية، ثم ماكان من خطأ في ذلك أو غفلة.، أو عبث، أو سوء قالة فعلى الأمراء، والناس منه أبرياء.
وقوله: " فشرعت ": أي شربت، والمشارع أمكنة الشرب من المياه ومواردها.
وقوله:" خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة "، حكاها ثعلب رالفراء بالهمز.
وقوله:" رافقني مددي من اليمن ": يريد ممن جاء في مدد اليمن الذي مد بهم جيش مؤتة وحشد ما معه.
وقوله: " غزونا مع رسول الله ئ هوازن، فبينا نحن نتضحى إذ جاء رجل على جمل أحمر، فأناخه ثم انتزع طلقًا من حقبه فقيد به الجمل" الحديث، إلى أنهم كانوا يتقدمون في ذلك الوقت. والطلق: القيد من الجلود. والحقب:حبل يشد على حقو البعير.(6/446)
قال القاضي: " نتضحى هنا نحوها، قال الخطابي معناه: نتغدى، كما جاء مفسرًا في الحديث: ثم قعد يتغدى مع القوم. وأما الحقب فقال بعض شيوخنا فيما كتبناه عنه: الصواب أن يكون هذا الحرف من حقبه بسكون القاف، أي مما احتقب ضلعه وجعله في حقيبته، وهي الرفادة في مؤخرة القتب.
قال القاضي: ولم نروه إلا بالفتح في القاف، وكذلك انطلق في الدار، وروى أبو داود هذا الحرف " حقوه "، وفسره: مؤخره.
قال القاضي: وأشبه عندي أن يكون معنى " حقوه " على هذه الرواية حجزته وحزامه، والحقو: معقد الإزار من الرجل، وبه سمى الإزار حقوا، وقد يكون ربط هذه الطلق وشده بالحقب صونًا له فتستقيم الرواية والمعنى على مافى الكتاب، وبه فسر القتبي. ووقع في رواية السمرقندي: " من جعبته "، فإن صح ولم يكن تصحيفا فله وجه إن علقه بجعبة سهامه وأدخله فيها.
وقوله: " وفينا ضعفة ورقة "، كذا ضبطناه بسكون العين هنا، وهو الصواب، أي حالة ضعف وهزال.
قال القاضي: ومن رواه بفتح العين فجمع ضيف، والأول أوجه.
وقوله: " إذا خرج يشتد "، أي: يجري، فأتى جمله فأطلق قيده فقعد عليه فأثاره، أي: بعثه وأقامه ليمشي / به. وناقة ورقاء: في لونها بعض سواد كالغبرة، وقد تقدم.
وقوله:" فاخترطت سيفى "، أي: فسللته " فضربت رأسه فندر ": كذا رويناه بالنون في مسلم وغيره، أي زال عن ساكنه وبان منه.
قال الإمام: " فندر " يشبه أن يكون أراد سقط، قال: وقد تقدم الكلام على هذه اللفظة وتصريفها قبل.(6/447)
وقوله:" فاستقبلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه فقال:« من قتل الرجل؟» قالوا: ابن الأكوع، قال:« له سلبه أجمع ». قال القاضي: فيه استقبال السرايا، والتنويه بمن فعل جميلاً، وأن السلب إنما يكون للقاتل بتسويغ الإمام، وأن قول النبي ظظ هذا في هذا الموطن - وفي غيره من المواطن التي قالها فيه - لو كان أمرًا أوجبه لكل قاتل أبدا، وجعله له حقًا، لاكتفى بالمرة الواحدة فيه، ولم يحتج إلى تكراره في قوله:« له سلبه أجمع » دليل على هذا. وفيه حجة أنه لايخمس كما قاله المخالف وكما ذكر في الشاذ عن مالك. وفيه أن للإمام ان ينفل جميع ما أخذته السرية من الغنيمة لمن يراه من أهلها، على قول من رآه من أهل العلم إذ جاء أنه قد كان مع سلمة غيره. وفيه قتل الجاسوس من الحربيين، ولا خلاف في ذلك. وقد ذكر النسائي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أمرهم بطلبه وقتله. واختلف في الجاسوس المعاهد والذمي، فعندنا أنه نقض للعهد ويقتل، وإن رأى الإمام استرقاقه استرقه، وهو قول الأوزاعي. وقال معظم الفقهاء: لا يكون نقضا للعهد ومجمجنهم الإمام.
واختلفوا في الجاسوس المسلم، فجلهم على اجتهاد الإمام فيه بغير من الضرب والحبس، وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي، وللشافعي وبعض أصحابنا. وقال مالك: يجتهد فيه الإمام ولم يفسر. وقال كبار أصحابه: يقتل. واختلفوا في إقالته بتوبته. وقال ابن الماجشون: إن عرف بذلك قتل وإلا نكل، قال القابسى: هذا الحديث أصل في قتل الجاسوس والسارق من المشركين من أهل الحرب وكل داخل إلينا منهم بغير أمان، إلا أن يدعى أنه أتى نازعا فيرد إلى مامنه أو أشكل أمره فيقبل قوله.(6/448)
وقوله:" غزونا فزارة مع أبي بكر - رضي الله عنه - فلما كان بيننا وبين الماء ساعة "، كذا للجماعة، وعند الهوزني:" بيننا وبين المساء ساعة "، وكلاهما صحيح؛ لأن الماء هو موضع اجتماعهم. وفي المساء أيضًا وقت هدوئهم وسكونهم واجتماعهم لمائهم، لكن قوله:" أمرنا أبو بكر فعرسنا، ثم شن الغارة فورد الماء فقتل من قتل "، يدل على صواب رواية غيره، فإنما يكون التعريس بالليل وهو النزول فيه، وكذلك الغارات إنما عادتهم بها مع الصباح.
قال الإمام: وقوله: " شن الغارة "، أي: فرقها. وقيل: صبها عليهم صبا، كما يقال: شن الماء، أي صبه.
قوله:" وأنظر إلى عنق من الناس فيهم الذراري"، أي: جماعة، قال القاضي: وقوله: " فيهم الذراري" هذه الكلمة تنطلق عند العرب على الأطفال والنساء.
قوله:" فيهم امرأة عليها قشع " بالفتح رويناه عن الأسدى،وبكسرها عن الصدفي، وبالكسر ذكرها الهروي، وبالوجهين ذكرها الخطابي وفسره في الحديث بالنطع وهو صحيح.(6/449)
قال الإمام /: وفيه لغتان: كسر القاف، وفتحها. وقشعت الشيء. إذا قشرته. وقوله: معها ابنة لها من أحسن العرب فسقتهم، حتى أتيت بهم أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - فنفلنى ابنتها، فقدمنا المدينة، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -:« هب لي المرأة »، ففعلت، فبعث بها - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل مكة، ففدى بها ناسًا من المسلمين كانوا أسروا بمكة، قال الإمام في الرجل الكافر إذا أسره: أن يقتله أو يبقيه للجزية، وله أن يمن عليه أو يفادى به. ومنع أبو حنيفة المن والفداء. وفي هذا الحديث المفاداة بهذه المرأة، وقد تقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - فادى بالرجل الذي أظهر الإسلام ولم يقبله منه برجلين من أصحابه. وقد قدمنا الكلام على هذا الحديث، فإن كان يمنع المفاداة بالمرأة فهذا الحديث حجة عليه. قال بعض الناس: فيه التفرقة بين الأم وولدها، خلافًا لمن قال: لايفرق بينهما أبدًا ؛ لأنه لم يذكر أنه لما نفلها إياه جمع بينها وبين أمها.
قال القاضي: وممن قال بقول مالك في جواز المن والفداء: الشافعي وأحمد وأبو ثور وكافة العلماء، وأجازوا هذا بالمال وبالأسرى. وقال أبو حنيفة: فمرة لايفادى ولا يمن جملة، وقال مرة: لابأس بفدائهم بالمسلمين، وهو قول محمد وأبي يوسف.
قال القاضي: ويحتج بهذا الحديث من يرى النفل قبل الخمس. وليس فيه حجة، إذ قد يمكن أنه علم قيمتها حتى يخمس أو كان بعد التخميس. وفيه استيهاب الإمام أهل جيشه بعض ماغنموا ليفادى به أو يصرفه في مصالح المسلمين،كما فعل في هوازن وكذلك لما نفله، وأنه ليس من باب الرجوع في الهبة ؛ إذ لم يهبه ماله ولا استرجعه أيضًا لنفسه.?(6/450)
وقوله:« أيما قرية أتيتموها وأقمتم فسهمكم فيها، وأيما قرية عصت الله ورسول الله فإن خمسها لله ورسوله »، يحتمل أن يكون الأول في النفى مما لم يوصف عليه بخيل ولاركاب مما أجلى عنه أهله أو مما لحق عليه، فيكون حقهم فيها، أي قسمهم في العطاء، ويكون المراد بالثانى ما فيه الخمس مما أخذ عنوة. ولم يختلف العلماء أنه لاخمس في الفيء إلا الشافعي وحده، وقد خالفه بعض أصحابه في ذلك.
وقوله:« فخمسها لله ورسوله ثم هي لكم »، مثل قوله في الحديث الآخر:« مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس وهو مردود عليكم ». وقد اختلف العلماء في معنى قوله عز وجل:{ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول }، فقيل:" لله " هنا استفتاح كلام للتبرك باسمه تعالى ؛ إذ كل شيء لله تعالى، قال: وللرسول سهم يختص به، غاب أو حضر. وقيل: خمس الله وخمس الرسول واحد، ويخمس الخمس على خمسة أخمس: خمس لله وللرسول، وخمس لذوى القربى، وخمس لليتامى، وخمس للمساكين، وخمس لابن السبيل. وهذا قول الشافعي. وقيل:"لله ورسوله " أي مما يقرب لله ورسوله، أو الحكم فيه لله ورسوله، ويفرق سائره على اجتهاد الإمام في أقرباء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، وليس هو مقسوم على السهام، وأن المراد بمن سمى في الآية من يجوز ذلك من الأصناف لا على القسمة عليه، وان شاء أوقفه لنوائب المسلمين، وهو قول مالك وأصحابه. وقيل: معناه: خمس واحد كان يعزله النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقسم الأربعة بين الناس، ثم يقبض على الخمس. فما خرج بيده جعله للكعبة، فهذا هو المسمى لله، ثم يقسم بقية الخمس المعزول ؛ سهم منه للنبي - صلى الله عليه وسلم - يخصه، وسهم لذى القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. فيقسم خمس الخمس عند قائل / هذا على ستة أسهم.
وقيل: يقسم الخمس كله على أربعة بينهم: لله ورسوله، ولذى القربى واحد، والثلاثة للباقين، وروي هذا عن ابن عباس.(6/451)
وقيل: يقسم الخمس على ستة أسهم: سهم لله يرد على عباد الله المحتاجي، وسهم للرسول، وأربعة أسهم لمن سمى الله سبحانه في كتابه.
وقال ابن عيينة: إنما افتتح الكلام في الفيء والخمس بذكر نفسه لأنها أطيب الكسب، وإنما ينسب إليه مايشرف وبعظم. ولم يقل ذلك في الصدقات لأنها أوساخ الناس.
وقوله:" كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله مما لم يوجف عليه بخيل ولاركاب، فكانت للنبى - صلى الله عليه وسلم - خاصة ينفق منها على أهله نفقة سنه، ومابقى يجعله في الكراع والسلاح "، قال الطبري: كان ما أفاء الله سبحانه على رسوله طعمة من الله له على أن يكل هو منه وأهله ما احتاجوا، ويصرف مافضل عن ذلك في تقوية الإسلام. وعن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أنه - عليه السلام - كان يعود منها على فقراء بني هاشم ويزوج أيمهم. ومعنى:" ما أفاء الله "، أي ما رد وصرفه عليهم من أموال الكفر.
قال الإمام: أما ماغنمه المسلمون بالقتال فلاخلاف أنه يخمس ويصرف خمسه حيث أمر الله عزوجل، والأربعة الأخماس هي للغانمين على ظاهر القرآن. وما أجلى عنه أهله من غير قتال فعندنا أنه لايخمس ويصرف في مصالح المسلمين، كما كان ظيش يصرف مايؤخذ من بني النضير، وعند الشافعي أنه يخمس كالذى غنم بالقتال، يصرف خمسه فيما يصرف فيه خمس ماغنم بالقتال.
وقوله: " ما لم يوجف ": الإيجاف: الإسراع، ووجيف الخيل والركاب إسراعها بالسير.
قال الإمام: خرج مسلم سند هذا الحديث عن جماعة من شيوخه، كلهم عن سفيان ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الزهري. هكذا إسناده عند أبي أحمد الجلودي، وسقط ذكر الزهري في هذا الإسناد من نسخة ابن ماهان والكسائي، والحديث محفوظ لابن عيينة عن عمرو بن دينار، عن الزهري، عن مالك بن أوس، عن عمر.(6/452)
قال القاضي: في هذا الحديث جواز ادخار قوت سنة، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا لم يكن لنفسه شيئًا، وأن الادخار لرب العيال مما لايقدح في التوكل. ولاخلاف عند الفقهاء في جواز ادخار مايرفعه الرجل من أرضه وزراعته، مما لم يشتره من السوق. ورفع النبي - صلى الله عليه وسلم - قوت سنة لعياله إنما كان من زراعته. واختلفوا في ادخار قوت سنة من السوق، فأجازه قوم واحتجوا بهذا الحديث. ولاحجة فيه لما قدمناه، وضفه الأكثر على مقدار مالا يضر بالسعر، فإن كان ضيقًا لم يثتره إلا بحسب الحال لشهره أو يومه، وهو مع الرجاء أوسع للسنة، وأكثره بجواز الاحتكار. قال معمر وابن المسيب وغيرهما: وهذا في غير الضرر. ومنعه آخرون للحديث الآخر: " لا يحتكر الأخاطير ". قال بعضهم: ليس ادخار قرت سنة من الحكرة.
وفيه حجة لمالك ومن لم ير تخميس الفيء ولاقسمته على الأخماس، ومن سمى في الآية خاصة، وأنه موكول إلى اجتهاد الإمام، إذ لم يذكر في الحديث منه إلا نفقته منه أ على أهله، وتصريفه في العدة والسلاح. وفيه أن للإمام الأكل من / الفيء والنفقة على عياله لأنه من العاملين. هذا إذا لم يقل بقولنا: إن معنى السائر لرسوله أي له فيه نصيب، أو لأن له حقا في الفيء كما لسائر المسلمين.
وقوله: " كانت للنبى - صلى الله عليه وسلم - خاصة،: ظاهر في أنه لايخمس كما قال الشافعي. وذكر مسلم حديث مالك بن أوس في قصة على والعباس رضي الله عنهما ومكالمتهما بين يدى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في صدقات النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله:" فوجدته على سرير مفضيًا إلى رماله " أي ليس على السرير فراش. ورمال السرير وهو ما ينسج للمضجع فيه عليه من سعف وشريط وشبهه، يريد أنه باشر رمال السرير بجنبه.(6/453)
وقوله أول الحديث:" يا مال "، قال الإمام: وهو ترخيم مالك، كما يقال: ياحار، في ترخيم حارث. وقد قرئ في الشاذ: " ونادوا يا مال ". ولك فيه وجهان: إذا رخمت مالكًا فتكسر اللام ؛ إشعارًا بالمحذوف. والثاني: رفعها ورد إعراب آخرها عليها كأنه لم يكن، وكان الباقي هو الكلمة كلها، فيقع الضم في آخرها، وتقديرًا أن الضمة مع حذفه علامة عليه، وإذا ضممت قدرت المحذوف كأنه لم يكن، وكان الباقي هو الكلمة كلها فيقع الضم في آخرها.
وقوله: " قد دفَّ أهل أبيات من قومك »، الدف: المشى بسرعة، فكأنهم جاؤوا يسرعون لضر أصابهم.
قال القاضي: الدف: السير ليس بالشديد.
وقوله: " حين تعالى النهار "، أي: ارتفع، وهو بمعنى متع في رواية البخاري.
وقوله:" قد أمرت فيهم برضخ "، بسكون الضاد، قال الإمام: الرضخ: هو العطية القليلة، يقال: رضخت له من مالي رضخة.
وقوله: " أنشدكما بالله "، معناها: يسألكما بالله. يقال: نشدتك بالله ذكرت به مستحلفًا، والنشيد: رفع الصوت.(6/454)
قال القاضي: وقوله:" اتئدا " معناه: تمهلا ولا تعجلا. وقول العباس: " اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الخائن الغادر "، قال الإمام: اللفظ الذي وقع من العباس لايليق بمثله، وحاشا عليًّا منه أن يكون فيه بعض هذه الأوصاف، فضلاً عن كلها، أو عن يلم بها، ولسنا نقطع بالعصمة إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو لمن شهد له بها، لكنا مأمورون بتحسين الظن بالصحابة - رضي الله عنهم - ونفي كل رزيلة عنهم، وإضافة الكذب لرواتها عنهم، إذا استدت طرق التأويل. وقد حمل بعض الناس هذا الرأي على أن أزال من نسخته ماوقع في هذا الحديث من هذا اللفظ، وما هو بعده مما هو في معناه ؛ تورعًا عن إثبات مثل هذا، أو لعله يحمل الوهم على رواته. وإن كان هذا اللفظ لابد من إثباته ولا يضاف الوهم إلى رواته، فامثل ماحمل عليه أنه صدر من العباس على جهة الإدلال على ابن أخيه ؛ لأنه في الشرع أنزل منزلة أبيه، وقال في ذلك مالا يعتقد وما يعلم براءة ابن أخيه منه، ولعله قصد بذلك ردعه وزجره عما يعتقد أنه مخطئ فيها، أو أن هذه الأوصاف وقع فيه على مذهبه من غير قصد لها، بل كان على - رضي الله عنه - عنده متأولاً فيها، فكأنه يقول: أنا على رأي إذا فعلت هذا عن قصد أو وقعت في مثل هذا الرصف، وإن كان عند علي - رضي الله عنه - لايوجب على مذهبه وقوعه فيها، وهذا كما لو قال المالكي في رجل شرب النبيذ: هو عندي ناقص الدين ساقط القدرات، لكان ذلك كلاما صحيحًا على أصله، وإن كان الحنفي يعتقد أنه أتى من ذلك / مباحًا لايفسد مروءته، ولايسقط عدالته.(6/455)
ومن الدليل على أن هذه الطريقة هي التي تسلك في التأويل أو ما في معناها: أن مجلسًا حضر فيه عمر بن الخطاب رضوان الله عليهم وهو أمير المؤمنين، وقد عرف من تشدده في الحدود والأعراض، وبعده عن المداهنة ما فات به الناس، وفيه عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد رضوان الله عليهم، ثم قال هذا ولاينكره منكر، ولايزجر عنه عمر - رضي الله عنه - وهو الخليفة، وإليه صيانة الأعراض، وما ذاك إلا لما تأولناه من أنهم فهموا بقرينة الحال أنه قال مالا يعتقد على جهة المبالغة في الزجر لعلي - رضي الله عنه - وزاد له حرمة الأب، والأب لاينبغي أن ينصف منه في العرض. هذا عندي وجه تأويل ماوقع في هذا. وكذلك قول عمر - رضي الله عنه -: "إنكما جئتما أبا بكر - رضي الله عنه -، وذكر ما قال لهما، وذكر عقيب ذلك:" فرأيتماه كاذبًا آثِمًا خاذلاً خائنًا "، وكذلك أيضًا ذكر عن نفسه أنهما رأياه كذلك وتأويل هذا أيضًا نحو مما تقدم ذكره المراد به: أنكما تعتمدان أن الواجب يفعل في هذه القضية خلاف ما فعلته أنا وأبو بكر، فنحن على موجب مذهبهما لو أتينا ما أتينا، ونحن معتقدان أن ماتعتقد أنه على هذه الأوصاف. أو يكون المراد: أن الإمام إنما يخالف إذا كان على هذه الأوصاف ويتهم في قضاياه، فكان مخالفتكما لنا تشعر من رآها أنكما تعتقدان ذلك. هذا أمثل ما تأول عنهم - رضي الله عنهم -.(6/456)
وأما الاعتذار عن علي وعباس رضي الله عنهما في أنهما ترددا إلى الخليفتين مع قوله:« لانورث، ما تركناه صدقة » هو تقدير عمر عليهما لأنهما يعلمان ذلك، فأمثل مافيه مما قاله بعض الأئمة: إنهما إنما طلبا أن يقسماها بينهما بنصفين ينتفعان بها، على حسب ما ينفعهما الإمام بها لواليها بنفسه. فكره عمر - رضي الله عنه - أن يوقع اسم القسمة عليها ؛ لئلا يظن بذلك مع تطاول الأزمنة أنها ميراث، وأنه ورث، لاسيما وقسمة الميراث بين البنت والعم نصفان، فيكون مطابقة للشرع بما يقع اتفاقًا واجتهادًا من آكد مايلبس ويوهم في ذلك: أنه - صلى الله عليه وسلم - ورث ماترك، وإن كان منهما ومن فاطمة - رضي الله عنهم - قبل ذلك مايرهم أنهم طلبوا التمليك. فلعلهم قبل سماعهم ا لخبر: " لانورث ".
ومما يدل على ماقلناه: ماقاله أبو داود: أنه لم يختلف على - رضي الله عنه - أنه لما صارت الخلافة إليه لم يغيرها عن كونها صدقة، وبنحو هذا احتج السفاح. قال ابن الأعرابي: فإنه لما خطب أول خطبة قام بها، قام إليه رجل معلق في عنقه المصحف، فقال له: أناشدك الله إلا ماحكمت بينى وبين خصمي بهدا المصحف. وقال: من هو ؟ قال: أبو بكر في منعه فدك. قال: أظلمك ؟ قال نعم. قال: فمن بعده ؟ قال: عمر. قال: أظلمك ؟ قال نعم. وقال في عثمان مثل ذلك، وسأله عن علي: أظلمك ؟ فسكت الرجل، فأغلظ له السفاح. هكذا حكى ابن الأعرابي أو نحوا منه.(6/457)
قال القاضي: قطع مسلم هذا الحديث عند قوله:" فإن عجزتما عنها فرداها علي "، زاد البخاري:" فأنا أكفيكماها "، فلم يكملا الحديث. وقد ذكر مسلم بعد هذا أيضًا زيادة، قال: فدفعها عمر إلى علي وعباس - رضي الله عنهم - فغلبه عليها على، أي / على القيام بها. وقد خرجه بتمامه / أبو بكر البرقاني في "صحيحه"، قال: فغلب على عليها العباس، فكانت بيد علي، ثم كانت بيد حسن بن علي، ثم بيد حسين بن علي، ثم بيد علي بن الحسين، ثم بيد الحسن بن الحسين، ثم بيد زيد بن الحسن، ثم بيد عبد الله بن الحسن،ثم تولاها بنو العباس. وقد ذكر البخاري في بعض هذا كما تقدم إلى قوله: ثم بيد حسين بن علي، ثم قال: ثم بيد علي بن حسين وحسين بن حسن. كذا قال ولم يزد. وقد بين مسلم أيضًا أن الذي دفع لهما عمر - رضي الله عنه - إنما هي صدقات النبي - صلى الله عليه وسلم - مما أفاء الله تعالى عليه بالمدينة، يعني بني النضير ومخيريق وغيره لك مما أمسكه لنوائب المسلمين.
وقد تأول قوله: إن طلب فاطمة رضي الله عنها ميراثها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يحتمل أنها تأولت الحديث إن كان بلغها فيما له بال ويختص بالأصول من الأموال، فهي التي لا تورث عن الأنبياء صلوات الله عليهم لا ما يتركون من طعام أو دابة وأسباب وسلاح. واحتجوا بقوله: "ماتركت بعد نفقة نسائي "، وأن ظاهر هذا ما تأولوه، ولم يكن الأمركذلك لأن نفقة نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجبها لهذا فيما ترك لا على طريق الميراث، بل يحق كونهن محبوسات عن الأزواج بسببه، أو لما لهن من الحقوق في بيت المال. لقدم هجرتهن وفضلهن. والأول أظهر لتحخصيصه - صلى الله عليه وسلم - إياهن بالذكر، وكذلك اختصاصهن بمساكنهن لحياتهن ؛ بدليل أنه لم يرثها وورثتهن عنهن.(6/458)
وحكى الماوردي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاهن ذلك. ووصى لهن بدورهن. ولا امتراء أن الحديث كان مشهورا أيام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إذ كان قد قرره أبو بكر على على والعباس وفاطمة - رضي الله عنهم - وذكرته عائشة لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ، وأيضًا نفى الحديث في كتاب مسلم أن فاطمة رضي الله عنها سألته ميراثها مما أفاء الله سبحانه على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وفدد وبقية خمس خيبر.
وفي ترك فاطمة منازعة أبي بكر رضي الله عنهما بعد احتجاجه عليها بالحديث التسليم والإجماع على القضية، وأنها لما بلغها الحديث أو بين لها التأويل تركت رأيها إذ لم يكن بعد ولا أحد من ذريتها في ذلك طلب بالميراث، واذ قد ولى على - رضي الله عنه - الأمر فلم يعدل به عما فعل فيه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فدل أن طلب على والعباس إنما كان طلب العباس تولي القيام على ذلك بانفسهما أو قسمته بينهما كما تقدم. وماذكر من هجران فاطمة لأبي بكر رضي الله عنهما إنما معناه انقباضها عن ترك لقائه وترك مواصلته، وليس مثله هذا من الهجران المحرم من ترك السلام والإعراض هنا فلم تكلمه، أي في هذا الأمر أو في غيرها لانقباضهما عنه، فلم تطلب منه حاجة ولا اضطرت إلى كلامه، ولم يأت في خبر أنهما التقيا فلم تسلم عليه ولاكلمته.(6/459)
وفي قول عمر - رضي الله عنه -: جئتما تكلمانى وكلمتكما واحدة، جئت ياعباس تسلمنى نفسك من ابن أخيك، وجاءنى هذا يسلبنى نصيب امرأته من أبيها: فيه إشكال يبين تعريف أبي بكر لهم قبل هذا بالحديث، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لايورث، فمعناه الكل واحد إئ كانت القيام وحده على ذلك، ويحتج هذا بحكم نصيبه وحقه من ولاية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمومة، وهذا بحكم حق زوجه ونصيبها من قربى النبوة /، لا أنهما طلبا منه ما قد عرفا منع النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما منه مما منعهما منه أبو بكر - رضي الله عنه - وبينه لهما وسلما له ذلك، ثم لعمر أول أمرهما، ثم جاء مرة أخرى يطلب كل واحد منهما الانفراد بذلك. وقد جاء في بعض الآثار أن عمر - رضي الله عنه - قال لهما أول مرة: إن شئتما طابت نفس أحدكما للآخر دفعتها إليه، على أن يعطيه لتعلمن به بما عمل أبو بكر - رضي الله عنه - وذكر أن العباس طابت نفسه بدفعها لعلى - رضي الله عنه - فكان ذلك، ثم اختلفا بعد حول فرجعا إلى عمر - رضي الله عنه - فهذا دليل أن نزاعهما أولاً وآخرًا في ولايتها لا في تمليكها، ويدل على صحة هذا قوله في مسلم: " فدفعها إلى علي وعباس فغلبه عليها يعني عليًّا.(6/460)
قال أهل العلم: وفي هذا الحديث من السنن والفقه أنه يجب أن يولي أمر كل قبيل سيدهم، ويسند أمر كل جماعة لكبيرهم ؛ لأنه أعرف بمصالحهم وأسرار أحوالهم. وفيه جواز نداء الرجل غيره باسمه من غير تكنيه وترخيمه على عادة العرب. وفيه جواز حجاب الخلفاء والأئمة في بعض الأوقات ليتفرغ لما يخص من أمور المسلمين ويعنيه من أحواله. وفيه تبول خبر الواحد والقضاء به. وفيه الشفاعة عند الإمام. وفيه حض على فصل الحق. وفيه استشهاد الإمام على ما يقوله بحضرة الخصمين من حضره من العدول، لتقوى حجته في إقامة الحق وقمع الخصم، وتقرير الشهود والخصمين على مايعترفون من الحق. وفيه الانقياد للسنن والرجوع للحق عن التأويل إذا ظهر بطلانه.
وقوله: " إن الله قد خص رسوله بخاصة لم يخصص بها أحدًا غيره "، وقيل: معناه، والله أعلم: تحليل الغنائم له ولأمته، أو كونها له، أو تخصيصها مما أفاء الله عليه على قول أكثرهم ملكا كما قال بعضهم، أو تصريفًا وحكمًا كما عليه الجمهور. وهذا الوجه أظهر لاستشهاد أبي بكر - رضي الله عنه - على هذا بالآية.
وفيه جواز تنزيه الإنسان نفسه ومدحها إذا اضطر إلى ذلك، كما فعل عمر - رضي الله عنه -. قال بعضهم: وفيه جواز حكم الحاكم لنفسه إذا كان الحق له مشهورًا، وهذا غير بين ولا موافق عليه لأن هذا المال لم يأخذه أبو بكر لنفسه، وإنما حكم به للمسلمين عامة، وإن كان هو المتولي للنظر فيه فيحكم بخلافه لابحكم التمليك، كما يحكم في سائر أمور المسلمين العامة وأموالهم التي يرجع النظر فيها إليه. وعلى هذا يتأول قوله في الحديث الآخر من رواية أبي الطفيل:" إذا أطعم الله نبيًّا طعمة ثم قبضه جعلها للذى يقوم بعده "، أي النظر فيها. وعلى هذا يتأول فعل عثمان - رضي الله عنه - فيها وإقطاعه لمن أقطعها ؛ تمسكًا بظاهر اللفظ في هذا الحديث، وهو مذهب الحسن وقتادة: أن هذه الأموال جعلها الله تعالى لنبيه طعمة، ثم هي لمن ولى بعده.(6/461)
وفي قول عمر - رضي الله عنه -:" جئتمانى وأمركما جميع "، أي: غير مختلف به ؛ لأنهما لم يطلبا قسمتها قبل وإنما طلب القيام بها، فدفعهما عمر لهما على ذلك. فلما طلبا الآن قسمتها منعهما لما تقدم قبل، أو لأن قيام الاثنين عنده أحفظ وأنظر لهذا المال من الواحد، أو لأن دفعها لواحد مخصوص / من باب الأثر، أو مخافة نسيان سبب ذلك بحكم من الزمان فيظن أنه كان أحق بها من الآخر، أو انها مصوغة له ملكًا.
وقوله:" فلما توفيت فاطمة رضي الله عنها استنكر علي - رضي الله عنه - وجوه الناس، والتمس مصالحة أبي بكر - رضي الله عنه - ومبايعته ولم يكن بايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر: أن ائتنا ولايأتنا معك غيرك كراهة محضر عمر - رضي الله عنه - وقول عمر: والله لاتدخل عليهم وحدك. وقول أبي بكر: والله لأتينهم وماعساهم أن يفعلوا بي، قال الإمام: إنما تأخر على عن البيعة، فقد ذكر عذره عنه في كتاب مسلم واعتذار الصديق عنه. ويكتفى في بيعة الإمام بآحاد من أهل الحل والعقد، ولايفتقر إلى بيعة كل الأمة، ولايلزم كل الأمة أن يأتوا إليه يضعون أيديهم بيده، وإنما يلزم إذا عقد أهل الحل والعقد، ولا انقياد البقية ألا يظهروا خلافًا ولايشقوا العصا. وهكذا كان علي - رضي الله عنه - ما ظهر على أبي بكر - رضي الله عنه - خلافًا ولاشق عصاه، ولكنه تأخر عن الحضور عنده في هذا الأمر العظيم، مع عظم قدره هو نفسه ؛ لموجدة في نفسه ذكرها في الكتاب، وهو أنه قال لنا: نرى لنا في هذا الأمر نصيبًا، فاستبد علينا به فوجدنا في أنفسنا. ولعله أشار إلى أن أبا بكر استبد عنه بقصص وأمور عظام، وحق مثله أن يحضر فيها ويشاور عليها. وقد يوهم قول عمر لأبي بكر: " والله لاتدخل عليهم وحدك " أنه خاف عليه أن يغدروه. ومعاذ الله أن يظن بهم ذلك، ولعله قد رآهم يغلظوا على أبي بكر - رضي الله عنهم - في العاقبة، ويبدو منهم مايكون عند أبي بكر جفاء فتتغير نفسه عليهم أو يتأذى بذلك ذكره(6/462)
عمر انفراده لذلك، وكذلك ماحكاه من كراهيتهم هم محضر عمر بن الخطاب؛ إنما ذلك لما كانوا يعلمونه من تشدده وتغلظه فيما يظهر له من الحق، فخافوا أن ينتصر لأبي بكر، فيغلظ عليهم فتتغير نفوسهم عليه.
وقوله:" ولم ننفس عليك "، يقال: نفست في الشيء بكسر الفاء، نفاسة رغبته. وأيضًا: حسدتك عليه ولم أرك أهلا له.
قال القاضي: كلام أبي بكر لعلي رضي الله عنهما وقوله: وأما الذي شجر بينى وبينكم في هذه الأموال أي اختلفت الحال فيه بيننا ووقع النزاع، قال الله تعالى:{ حتى يحكموك فيما شجر بينهم }، والمشاجرة: الخصومة.
وقول على - رضي الله عنه -: " موعدك العشية للبيعة. فلما صلى أبو بكر - رضي الله عنه - صلاة الظهر رقى المنبر فتشهد "، فيه مايدل أن العشي من بعد الزوال كما جاء في الحديث الآخر: " إحدى صلاة العشي ". وفيه أن بيعة الأئمة تجب أن تكون بحضرة الملأ والجمع ولايستتر بها، وأن التزامها واجب لجميع الناس.
وقوله:" فعظم حق أبي بكر - رضي الله عنه - وأنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر "، زاد في رواية الليث في غير مسلم: " وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع "، وهو بيان الكلام. وفي هذا كان صحة مذاهب أهل السنة في صحة خلافة أبي بكر أ الصديق - رضي الله عنه - والإجماع عليها، بخلاف ما تدعيه الشيعة والرافضة. وقد يكون الذي وجد علي - رضي الله عنه -/ ما في نفسه من الحق الذي استبد عليه فيه؛ أنه لم يشاور عند عقد البيعة لأبي بكر - رضي الله عنه - ولاعقدت لمحضره، وكان من حق مثله ذلك. لكن عذر ذلك بين المبادرة خوف الخلاف حينئذ.
وقوله:" لحقوقه التي تعروه ونوائبه "، يريد ماتطرأ عليه من حق ويغشاه. يقال: عروته واعتريته وعررته واعتررته: إذا أتيثه تطلب منه حاجة.(6/463)
وقوله في حديث زهير بن حرب والحلواني: فقال لهما أبو بكر - رضي الله عنه -:" لا نورث، ما تركنا صدقة "، وعاشت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة أشهر، فيه حذف ونقص، وتمامه في الحديث قبله: " فوجدت فاطمة على أبي بكر - رضي الله عنه - فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة أشهر ".
قال الإمام: خرَّج مسلم في بعض طرق هذا الحديث: نا زهير بن حرب وحسن الحلواني، قالا: نا يعقوب بن إبراهيم، قال:نا أبي عن صالح، عن ابن شهاب، عن عروة.هكذا إسناده عند الجلودي، وفي نسخة ابن العلاء: نا يعقوب بن إبراهيم. وخرجه أبو مسعود الدمشقي عن مسلم فقال: نا زهير بن حرب، قال بعضهم: وأكثر ما يجىء مسلم بنسخة صالح بن كيسان هذه عن زهير وحسن جميعًا عن يعقوب.
قال القاضي: تفسير صدقات النبي - صلى الله عليه وسلم - للذكور في هذه للأحاديث، وذلك أن صدقاته التي تخلفها لحش تصيرت إليه بثلاثة حقوق:
أحدها: ما وهبه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك وصيته مخيريق اليهودى عند إسلامه يوم أحد، وكانت سبعة حوائط في بني النضير، وما أعطاه الأنصار من أراضيهم، وذلك مالم يبلغه الماء، وكان منه موضع بسوق المدينة، وكان هذا ملكًا له - صلى الله عليه وسلم -، ومن هذا، والله أعلم أقطع الزبير بالمدينة ماجاء من مال بني النضير، والله أعلم إذ لا يقطع إلا ما يملك لا ملك غيره.(6/464)
الثاني: حقه من الفيء من سائر أرض بني النضير حين أجلاهم، كانت له خاصة ؛ لأنه لم يوجف عليها بخيل ولاركاب، وقسم بين المسلمين أموالهم إلا ما حملته الإبل غير السلاح،حسبما كان وافقهم عليه عند إجلائهم، وحبس الأرض لنفسه ولنوائب المسلمين. وكذلك نصف أرض فدك صالح أهلها بعد خيبر على نصفها، فكان خالصا لها. وكذلك ثلث أرض وادي القراء أخذه في الصلح مع يهود أهلها، وكان لهم ثلثا الأرض وكذلك حصنان من حصون خيبر، الوطيح والسلالم، أخذهما صلحًا على أن إجلاء من فيه عنهما.
الثالث: سهم من خمس خيبر وما افتتح منها عنوة، وهو حصن الكتيبة، كان من خمس الغنيمة منها، واقتسم الناس سائر ما أخذه منها عنوة. قال أكثرهم: فكان هذا خاصا بانبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستاثر به، وصرفه في مصالح المسلمين بعد إخراج حاجته وحاجة عياله وآله، ووضع ذلك حيث شاء مما فيه المنفعة للمسلمين. وكافة العلماء على أنها صدقات محرمات التمليك بعده.(6/465)
فأما ما كان من ذلك بالمدينة من أقرال بني النضير ووصيته مخيريق في جملتها، فهي التي وضع عمه العباس وعلى رضي الله عنهما ليقوما عليها ويصرفاها في مصالح بني هاشم، وأما ماعداها فامسكها عمر عنهما لنوائب المسلمين، وصرفها في المصالح التي كان / - صلى الله عليه وسلم - يصرف بقية صدقاته فيها. وأما أبو بكر - رضي الله عنه - فكان يرى أنه خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القائم مقامه في جميع ذلك، ففعل ما كان يفعل في مصالح قرابته وغيرهم، ولم ير إخراج ذلك عن نظره. قال الشافعي: كان للنبى - صلى الله عليه وسلم - خالصًا من هذا كله، خمس الخمس من الغنيمة والفيء والأربعة الأخماس الباقية من الفيء، وهو حقه الذي يسرغه الله تعالى له وغير ذلك، يقسمه على من سمى الله سبحانه في كتابه من الأصناف الأربعة: ذى القربى واليتاس والمساكين وابن السبيل. يقسمها بينهم لكل صنف ربع ذلك حق عنده من حقوقهم، وهو قول جماعة من العلماء غيره. وقال مالك: الخمس والفيء سواء، وهو مرصد لمصالح المسلمين اخرا ما كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولاً ليهس لأحد فيه حق معين ولانصيب مقدر، وإنما بين الله بماسماه مواضع تصريفه لا قسمته بينهم لا ذوى القربى ولاغيره، والنظر فيه للإمام كما كان - صلى الله عليه وسلم - يفعل فيه باجتهاده من قسمته على هؤلاء بما يراه، أو على من يستحقه منهم غده، ويعطى أقرباء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم باجتهاده وكذلك أقرباؤه، ويوقفه لنوائب المسلمين إذا رأى ذلك، كما كان يفعل - صلى الله عليه وسلم -، وكما قال:« إنما يأكل آل محمد من هذا المال كفافًا »، وهو قول جماعة من العلماء.(6/466)
اختلف القائلون أولاً بتقرير نصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - ونصيب ذوى القربى في حكم ذلك بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال الشافعي مرة: سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يرجع لمصالح المسلمين يصرفه الإمام في الأهم فالأهم،وقال مرة: يرجع إلى أصحاب السهام الباقين ويسقط كرة فيكون القسم على أربعة. وقال مرة: هي للمقاتلة خاصة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يأخذه لمكانه من الهيبة في قلوب العدو وطلبه لهم، فالمقاتلة مقامه وعنده في كل ذلك بقائهم ذوي القربى على ماكان. وقال أبو حنيفة: يسقط بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - النصيبان، ويقسم الفيء والخمس على الثلاثة الباقية: اليتامى والمساكين وابن السبيل. وعنه أيضًا: يرجع سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسهم ذى القربى في السلاح والكراع. وقال بعض العلماء نصيب النبي - صلى الله عليه وسلم -تض للأئمة ب هده ملكًا، ونصيب قرابته لقرابتهم، وهو قول أبي ثور في سهم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
واختلفوا في ذى القربى من هم ؟ فالجمهور أنهم بنو هاشم وبنو المطلب. وذهب بعض السلف أنهم قريش أجمع. واختلفوا هل يستحقه الفقير منهم خاصة دون الأغنياء أم جميعهم ؟ ثم اختلفوا في قسمهم إياه بعد موته، أهو على السواء، أم بحكم قسمة المواريث لرجرعه إليهم واستحقاقهم له بالقرابة؟ ومذهب الشافعي أنه حق لهم، يسوى فيه بين كبيرهم وصغيرهم وغنيهم وفقيرهم، ولذكرهم سهمان وللأنثى سهم.(6/467)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« لانورث ماتركنا صدقة »، حديث مجتمع على صحته وقبوله من أهل السة، وأن الكلام جملتان و "ما تركنا" في موضع رفع بالابتداء و " صدقة " مرفوعة بخبره، خلافًا للإمامية في تأويل الحديث وتحريفه عن موضعه،وقولهم: إنما هو يورث بالياء " وصدقة " بالفتح، أي ماتركه صدقة فلايورث " وما "/ في موضع المفعول "وصدقة لما منصوب على الحال والتفسير. وهذا تدافع من قائله ومخالفة لما فهم منه أهل اللسان، وماحمله عليه أئمة الصحابة من رواة هذا الحديث، وماوقع في سائر الروايات والألفاظ الأخر من قوله:« لانورث ماتركنا فهو صدقة ». وقوله:" كل مال النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقة لايورث ".
وقد اعترض بهذا الهوس أبو عبد الله بن المعلم، أحد أئمة الإمامية على القاضي أبي علي بن شاذان، صاحب القاضي أبي بكر الباقلاني وأحد أئمة متكلمي أهل السنة، لما استدل عليه بهذا الحديث، وقال له: إنما نفى وراثة ماتركوه صدقة، وأما ما ترك على غير الصدقة فلا تمنع وراثته. واعتمد بهذه النكتة لعلمه بقصور أبي علي في العربية، فقال له أبو علي في جوابه: لا أعلم ماصدقة من صدقة، ولا أحتاج إليه في هذه المسألة، فإنه لا شك عندي وعندك أن فاطمة رضي الله عنها من أفصح العرب وأعلمهم بالفرق بين اللفظين، وكذلك العباس وهم ممن يستحقون الميراث، وعلي كذلك - رضي الله عنه - لم وقد طلبت ميراثها رضي الله عنها من النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبي بكر- رضي الله عنه - فجاوبها أبو بكر بهذا اللفظ، بما فهمت منه أنه لا شيء لها. وكذلك علي وسائر الصحابة - رضي الله عنهم -، ولم يعترض أحد منهم بهذا الاعتراض، وكذلك أبوبكر المحتج به. ولاخلاف أنه من أفصح الفصحاء العالمين بذلك، ولو كان اللفظ لا يقتضي المنع لما أورده أبو بكر - رضي الله عنه - ولاتعلق به ولم يسلمه له الآخرون أيضًا، فإن الرفع هو المروي، ومدعى النصب مبطل ونحو هذا أو مافي معناه.(6/468)
وقال المهلب: معنى قوله هذا - صلى الله عليه وسلم - من معنى قوله:« وإنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة »، وذلك أن الله تعالى بعثه وبعث رسله ليبلغوا عنه، ولا يسألوا على ذلك أجرًا ولا مالاً، كما نص عنه وعنهم في محكم كتابه. فحرمت عليهم الصدقة وعلى آليهم، وأن يورث عنهم شيء، نفيًا لاكتساب المال، وجمع الدنيا على الأنبياء وتشبثهم بها وتنزيها لهم عنها. هذا في معنى ما أشار إليه، وذهب الحسن في معنى قوله: " لانورث ماتركناه صدقة " أنه خاص للنبى - صلى الله عليه وسلم - من بين الأنبياء. وقال غيره: إلا أن يكون منهم من لم يعرف حكمه، واحتج بقوله عز وجل عن زكريا:{ يرثني ويرث من آل يعقوب }، وقول من قال: يريد وراثة المال بدليل قوله:{ خفت الموالي }، خلاف من قال: أراد وراثة النبوة إذ لايخاف الموالي عليها. وذهب الجمهور إلى أن ظاهره العموم. وقد روى:« إنا معشر الأنبياء لانورث »، وفي كتاب أبي داود:« كل مال النبي صدقة، إلا ما أطعمه هبة أو كساهم لا يورث ».
وقوله:« لا يقتسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا »، قيل:هو تنبيه على مابعده، ومن الأدنى على الأعلى، والقليل على الكثير، كما قال تعالى:{ ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك }، وكما قال تعالى:{ فمن يعمل مثقال ذزة خيرًا يره }. وقال الطبري: وليس قوله هذا بمعنى النهي ؛ إذ إنما ينهى عما يمكن وقوعه ولا ينهى عما لاسبيل إلى فعله، وإنما هو بمعنى الخبر، أي لايقسمونه، أي إنى لا أخلفها. وذهب ابن علية وبعض أهل البصرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يورث /؛ لأن الله سبحانه خصه بأن جعل ماله كله صدقة.
قال القاضي: وقوله:" لا "، وفيه قول الجمهور،وهو أصح وأشهر وأولى، بمعنى الحديث، إذ آخر الحديث راجع إليه ومفسر له. من قوله: "ماتركت صدقة " لأنه جاء به بغير واو العطف، وتأول سياق الكلام، ولو كان كما قال لكانت جملتين منقطعتين يحتاج لابتداء الثانية واو الابتداء أو واو العطف.(6/469)
وقوله:« ماتركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة »، رفع للإبهام الذي دخله بتغيير الإعراب من تقدم ؛ إذ لايتفق له هنا دعوى الحال والنصب وتحريف الكلام.
وقوله: " ومؤونة عاملي "، فقيل: هو القائم على هذه الصدقات والناظر فيها، وقيل: كل عامل للمسلمين من خليفة وغيره ؛ لأنه عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمته، وقي العامل هنا حافر القبر، وهذا بعيد، إذ لم يكونوا يحفرون حينئذ بأجرة، فكيف له - صلى الله عليه وسلم - استدل بعضهم من هذا الحديث أن الحبس لايكون بمعنى الوقف حتى تقول... الوقف صدقة... على أحد قولى مالك وتسميته ترك صدقة بمعنى الوقف، لمصالح المسلمين، لا بمعنى ما يعرف أصله ويملك للمتصدق عليه.
وللوقف ثلاثة ألفاظ: وقف وحبس وصدقة، إذا كان المراد بها بمعنى الوقف. وقد اختلف المذهب عندنا إذا أطلق مجرد أحد هذه الألفاظ لمعين، هل يكون مؤبدًا ؟ أو يكون - صلى الله عليه وسلم - بمعنى العُمْرَى ترجع لمالكها حتى لو كان اللفظ بصدقة حبس ؟ أو لا تباع ولا توهب أو مؤبدًا أو لايورث ؟ وقد قال بعض أصحابنا: وإن لفظ الوقف من بينهما على التأبيد بلاخلاف، بخلاف اللفظين الأخريين. وقد قيل: وإنها وران كانت لمعين فسواء أطلق، أو قال: حبس صدقة، وكذلك قيل: هي لا تباع ولا توهب، فهي على معنى التعمير حتى الآن، حتى يذكر التأبيد أو مايرفع الإشكال.
وقوله:" قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النفل: للفرس سهمين، وللرجال سهما"، كذا للعذري والخشني، ولغيرهما:" وللرجل ". فيه تسمية الغنيمة نفلا. ويحتج به من ذهب إلى أن المراد بالآية الأولى في سورة الأنفال الغنائم المذكورة في الآية الثانية.(6/470)
قال الإمام: هكذا مذهب مالك في القسمة المستحقة في أصل القتال، يقسم للفرس سهمان، وللرجل سهما. وقال أبو حنيفة: بل يقسم للفرس سهم كما يقسم للرجل، ولايكون أعظم منه حرمة، ولو كان معه ثلاثة أفراس لم يسهم للثالث. واختلف في الإسهام للثاني، فقيل بإثباته، وقيل بنفيه. وحمل أبو حنيفة ماوقع من الأثر على أن المراد بقوله:" سهمان للفرس"، أي هو وفارسه، خروج عن الظاهر ؛ لأنه إنما أضاف هذا للفرس.
قال القاضي: أما مع رواية: " وللرجل " فبين، وأما مع رواية: "وللراجل " فمحتمل، لكن يرفع هذا الاحتمال ماورد مفسرًا في حديث ابن عمر هذا من رواية أبي معاوية وابن نمير وأبي أسامة وغيرهم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه. ومثله عن أبي عمرة الأنصارى وابن عباس. وبقول مالك قال سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وأبو عبيد والطبري، وروي مثله عن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنهم - والحسن وابن سيرين ومجاهد. ولم يتابع أحد أبا حنيفة على قوله، إلا شيء روى عن على وأبي موسى / وبقول مالك أيضًا أنه لا يسهم إلا لفرس واحد قاله الشافعي وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن، وروي مثله عن الحسن. وذهب الثورى والأوزاعي وأبو يوسف والليث بن سعد إلى أنه يسهم للفرسين. وروى أيضًا مثله عن الحسن ومكحول ويحيى بن سعيد وابن وهب ومحمد بن الجهم من المالكيين، ولم يقل أحد إنه يسهم لأكثر من فرسين إلا سفيان، روي عن سليمان بن موسى أنه يسهم لمن غزى بأفراس، لكل فرس سهمين.
ذكر مسلم في غزوة بدر حديث هناد بن السري: نا ابن المبارك عن عكرمة بن عمارة، وذكر الحديث، وزاد في رواية الطبري بعد قوله:" لما كان يوم بدر ": وحدثنى زهير بن حرب - واللفظ له -، نا عمر بن يونس الحنفى، عن عكرمة بن عمارة، وذكر بقية السند ورجع إلى الحديث بكماله، ولم يكن عند غير الطبري.(6/471)
وقوله:" فمازال يهتف بربه "، أي يصيح بالدعاء والاستغاثة به، كما قال تعالى في هذه اللفظة:{ إذ تستغيثون ربكم }.
وقول أبي بكر له:" كذاك مناشدتك ربك "، كذا لكافة الرواة، وللعذري بالفاء، وهما بمعنى: وكذاك حسبك، وقد رواه البخاري: "حسبك". قال القتبي: معنى: كذاك: حسبك، ومثله قولهم: إليك عني، أي تنح، وأنشد:
يقلن وقد تلاحقت المطايا كذاك القول إن عليك عينا
معناه: كف القول، ويصح أن تكون " مناشدتك ربك "، مرفوعًا بـ "كفاك"، ومن نصب " مناشدتك ربك "، على ماضبطناه عن أبي بحر، فعلى المفعول بما في احسبك وكذاك وكفاك " من معنى الفعل من الكف. وتقدم تفسير المناشدة وهو السؤال، وأصله رفع الصوت. ومناشدة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليراه أصحابه بتلك الحال، فتقوى قلوبهم بدعائه وتضرعه. وقد كان وعده الله تعالى، وتثبيت إحدى الطائفتين أنها له وعلم فوات الواحدة. وقد كان على ثقة من ربه في ذلك ولم يشك فيما وعده حتى يثبته أبو بكر - رضي الله عنه - بقوله: إن الله منجز لك ما وعدك، فقوة يقين النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق قوة أبي بكر بغير مرية ؛ ولهذا أمسك لما قال له أبو بكر - رضي الله عنه - ما قال ؛ إذ ظهر له من قوة يقينه وطمأنينة نفسه ماعلم الله تعالى به وجواب دعائه، وأيضًا فليبين لأمته اللجأ إلى الله والاستغاثة إليه في الشدائد.
وقوله:" أقدم حيزوم "، وكذا ضبطناه عن أبي بحر بضم الدال، كأنه من التقدم. وقال ابن دريد:" أقدم " بقطع الألف وكسر الدال من الإقدام، قال: وهي كلمة زجر للفرس معلوم في كلامهم. وعند الجمهور:" خيروم "، وهو اسم فرس. في رواية العذري: " خيزون " بالنون، والأول المعروف.(6/472)
وقوله:" فإذا هو قد خطم أنفه "، الخطم: الأثر على الأنف، كما يخطم البعير بالكي. يقال خطمت البعير: إذا وسمته بالكي بخط من الأنف إلى أحد خديه، وقد يكون معناه: أنه إن أبقت به الضربة أثرا مثل أثر الخطام، وهو نحو الزمام إلا أن الزمام أرق منه، ويبين هذا كله قوله متصلاً كضربة سوط، وأنه أراد الأثر. ماذكر من خبر اختلاف أبي بكر وعمررضي الله عنهما في شأن فداء الأسرى.
وقوله: جئت من الغد، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -/ وأبو بكر قاعدان يبكيان، وقوله:« أبكي للذى عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة »، وذكر نزول الآية:{ ما كان لنبي أن يكون له أسرى }، وقوله:" فأحل الله الغنيمة لهم "، هذا الفصل كله من مشكلات القرآن والحديث، وبيانه إن شاء الله تعالى: أنه لايعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه عصوا فيما فعلوه من ذلك حتى استحقوا العذاب ؛ إذ لايعذب إلا على مخالفة أمر، ولم يتقدم في ذلك نهى فتقع مخالفته فيه، بل قد تقدمت الإباحة لسرية عبدالله بن جحش الكائنة قبل هذا بأزيد من عام، وهي التي قتل فيها ابن الحضرمي كافرًا، وفودي فيها بابن كيسان وصاحبه، فما عاتبهم الله عليها ولا أزرى بهم، لكن لما كان أمر بدر عظيم الموقع عتبهم الله في نزلهم إلى أهون الخطبين من الفداء، ووبخهم على ذلك، وأراهم ضعف اختيار من اختار ذلك منهم، وتصويب رأى من كان رأى القتل. وقيل:بل الآية كلها على معنى المن بنعمته تعالى عليهم من قليل الغنائم لهم، وهو معنى قوله:{ لولا كتاب من الله سبق }، أي: بتحليل الغنائم لكم، أو بأنه لايعذبكم بما فعلتم. فهذا كله يدل أنه لاذنب لهم ؛ إذ أنهم إنما فعلوا ما أحل لهم في الكتاب. وقيل: هذا كله المراد به غير النبي - صلى الله عليه وسلم -ن وعليه أصحابه - رضي الله عنهم - بل من كان ركن إلى غرض الدنيا منهم. وقيل: هم الذين شغلوا بالنهب دون القتال حتى خشي عمر كرَّة(6/473)
العدو عليهم، وأنه المراد بقوله:{ تريدون عرض الدنيا }.
وبكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وإشفاقه لما ورد في التشديد على هؤلاء من التوبيخ والتقريع، أو لما أعلم به - صلى الله عليه وسلم - أنه سيقتل منهم عام قابل مثل من فدى. وقد يكون هذا إشارة إلى معنى عذابهم ومعاقبتهم على فعلهم ؛ إذ ورد في بعض الأخبار أنه أمر - صلى الله عليه وسلم - بتخييرهم على أن يقتلرا الأسرى أو يفادوهم على أن يقفل من عام قابل مثلهم.
ومعنى " فهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر "، أي: مالت إليه نفسه ووافقه. يقال منه: هوى يهوى هوى، قال الله تعالى:{ بما لا تهوى أنفسكم }، وقد جاء هوى يهوى بمعنى مال، قال الله عز وجل:{ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم }.
وقوله:{ حتى يثخن في الأرض }، أي: حتى يكثر القتل والإيقاع بالعدو، وقيل: حتى يقهر، ومعناه قريب.
وقوله في حديث ثمامة: " إذ جيء به أسيرًا فربط بسارية المسجد "، ولعل هذا كان قبل نزول قوله تعالى:{ إنما المشركون نجس }، وقد كان المشركون يدخلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجده أولاً كثيرًا وهذا مما يحتج به الشافعي في جواز دخول الكفار المساجد كلها، وقاله أبو حنيفة في أهل الكتاب خاصة. قال أبو حنيفة: وكذلك الحرم ومسجده. ومنع ذلك لجميعهم في الحرم ومسجده وسائر المساجد، وهو قول عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وقتادة، وقاله المزنى. وقيل: لعله كان أعلم بإسلامه، والأول أظهر لما قدمناه. وفيه جواز ربط الأسير وتقييده، وكذلك من عليه حق وألدَّ به.
وقوله: " إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر "، معناه: ذا قدر يشتفى بدمه وقتله.
وقوله: " أطلقوا ثمامة "، قال الإمام: فيه دلالة على جواز المن على الأسير، وقد تقدم ذكر الخلاف فيه.(6/474)
وقوله:" فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل "، قال الإمام: أما غسله عند الإسلام فإن مالكًا يأمر به، ويقول: الكافر جنب إذا أسلم اغتسل / وبعض أصحابه يقول: إن جنابته في حال الكفر ذمها الإسلام وأبطل حكمها، فلايلزمه غسل. وقد ألزمه بعض شيوخنا أن يصلي بغير وضوء، ويكون حدثه الأصغر أبطل حكمه الإسلام.
قال القاضي: بايجاب الغسل عليه قال أحمد وأبو ثور، وبسقوط وجوبه عليه قال الشافعي، قال: وأحب إلى أن يغتسل، ونحوه لابن القاسم. ولمالك أيضًا أنه لم يعرف الغسل، رواه عنه ابن وهب وابن أبي أويس.
وقوله: " فانطلق إلى نخل قريب من المسجد "، كذا ضبطناه في كتاب مسلم والبخاري. قال بعضهم: صوابه: " بنجل " بالجيم، وهو الماء القليل المنبعث. وقيل: الجاري. قال ابن دريد: النجل أول ماينبعث من البئر إذا حفرت. واستنجل الوادي: إذا ظهر ماؤه. وفي تكرار النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه السؤال أيامًا ثلاثة طعامًا في إسلامه، واستئلافًا لمثله من أشراف الناس ليسلموا فيتبعهم من وراءهم، ثم تركه هو الإجابة حتى من عليه دليل على صحة يقينه وعلو همته، وأنه لم يسلم على القسر والقهر أو من اختياره وطيب نفسه.
وقوله:" إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة "، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يعتمر. هذا وإن لم يكن واجبًا عليه ماعقده في الكفر فهو مستحب ليتم ماعقده لله سبحانه وإن لم يلزمه حين كفره، وأن يكون يفعل ذلك بعد إسلامه فينال أجره، ولما في ذلك من غيظ الكفار بمكة، إذ أتاها مثله مسلمًا من صناديد العرب ورؤساء القبائل، ممن يحذرونه ويرجونه ولا يقدرون على أذاه. فلم يكن حينئذ بعد الحج واجبًا ولا العمرة على من قال بوجوبها.(6/475)
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهود:« أسلموا تسلموا »، فقالوا: قد بلغت، قال: «ذلك أريد »، أن تشهدوا على أنفسكم أنى بلغتكم. وفيه تجنيس الألفاظ وهو من أبواب البديع وخصائص البلاغة. وإجلاء النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود من المدينة، وإجلاء عمر - رضي الله عنه - لهم من جزيرة العرب، وما ذكره مسلم من الأحاديث في ذلك تقدم الكلام عليه في الوصايا.
وقوله:« فإن الأرض لله ورسوله »، أي: ملكها والحكم فيها. وفيه: "وأقر قريظة ومن عليهم، حتى حاربت، فقتل رجالهم وسبى نساءهم وأولادهم وأموالهم "، فيه أن المعاهد والذمي إذا نقض العهد كان حكمه حكم المحارب، وأن للامام محاربتهم. ولا خلاف فيم إذا حاربوا أو أعانوا أهل الحرب وله أن يبتديهم بالحرب. إذا صح عنده نقض عهده، قال الله تعالى:{ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } الآية. قال أبو عبيد: أي توقعت لهم خيانة أو غدرًا أو غشًّا أونحو ذلك.
قال الأوزاعي: وكذلك إذا أطلعوا أهل الحرب على عورة المسلمين أو عيوبهم. وليس هذا نقصًا عند الشافعي.
وقوله: " نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ "، فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين العظام، ولم يخالف في التحكيم إلا الخوارج. والنزول على حكم الإمام وحكم غيره جائز، ولهم الرجوع عنه ما لم يحكم، فإذا حكم لم يكن للعدو الرجوع، ولهم أن أ يستقلوا من حكم رجل قبل حكمه إلى غيره. وهذا / كله إذا كان الحكم ممن يجوز تحكمه من أهل السعة والعلم والديانة، فإذا حكم لم يكن للمسلمين ولا للإمام المجيب لتحكيمه نقض حكمه. وهذا إذا حكم بما هر نظر للمسلمين من قتل أو سبى أو إقرار على الجزية أو إجلاء، فإن حكم بغير هذا من الوجوه التي لا تتيحها الشريعة لم ينفذ حكمه، لا على المسلمين ولا على العدو.(6/476)
وقوله فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى سعد بن معاذ، فأتاه على حمار، فلما دنا قريبًا من المسجد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:« قوموا إلى سيدكم »، قال بعضهم: انظر قوله:" من المسجد "، وكذا جاء في حديث شعبة في مسلم والبخاري، وأراه وهما، فإن كان أراد مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد جاء سعد بن معاذ وفيه كان، على ما سيأتى تفسيره في الحديث الآخر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان - وحين وجه إليه - نازلاً على بني قريظة، ومنها وجه في سعد ليأتيه، إلا أن يريد مسجدًا اختصه النبي - صلى الله عليه وسلم - هناك كان يصلي فيه مدة مقامه، قال: والصحيح ماجاء في غير كتاب مسلم: " فلما دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو فلما أطلع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كذا جاء في كتاب أبي داود وابن أبي شيبة، فيحتمل أن المسجد تصحيف من لفظة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن صوابه: ! فلما دنا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما جاء في الحديث الآخر في الأصول: " فلما دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(6/477)
وفي قوله:« قوموا لسيدكم »، فيه ما يلزم من إكبار عظيم القوم وأهل الخير وتلقيه، والقيام له إذا أقبل، وأن هذا القيام ليس المنهي عنه عند أكثر العلماء ومحققيهم، وإنما القيام المنهي عنه أن يقام عليه وهو جالس، قيامًا طول جلوسه. ويدل على صحة هذا التأويل قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - لتلقي غير واحد، وقوله حين نهاهم عن القيام عليه إذا صلى جالسًا، وذكر لهم أنه فعل فارس والروم لملوكها. ويبينه قول عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - للناس: إن تقرموا نقم، وان تقعدوا نقعد. فقد بين أن القيام الذي كره إنما هو إذا كانوا قيامًا على رأس الجالس. وقد تأول الحديث بعض من يمنع القيام جملة أنه إنما أمرهم بالقيام لينزلوه عن الحمار لمرضه الذي به. وقد اختلف تأويل الصحابة من عنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ؟ هل الأنصار خاصة ؟ أم جميع من حضر من المهاجرين معهم ؟
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« لقد قضيت فيهم بحكم الملك »، كذا رويناه في هذا الكتاب بغير خلاف، وقد ضبطه بعضهم في كتاب البخاري بالوجهين: فتح اللام وكسرها. فالمعنى، والله أعلم بالملك: الله تعالى. والملك بفتح اللام - إن صحت هذه الرواية - جبريل، والرواية الأولى أصح لقوله في الحديث الآخر: " بحكم الله ".
قال الإمام: ووقع في حديث مصاب سعد يوم الخندق: أن الذي رماه رجل من قريش ابن العرقة، بالعين المهملة وكسر الراء، بالقاف. قال أبو عبيد: هي أمه. قال ابن الكلبي: اسم هذا الرجل حِبّان، بكسر الحاء، ابن أبي قيس بن علقمة/بن عبد مناف بن الحارث بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤى بن غالب /، قال: واسم العرقة: قلابة، بكسر القاف وبالباء المنقوطة بواحدة، بنت سعيد بن سهم بن عمرة ابن هُصيص. وهي أم عبد مناف بن الحارث. قال: سميت بالعرقة لطيب ريحها. قال: والعرقة تكنى أم فاطمة.(6/478)
قال القاضي: كذا قال ابن الكلبي في اسم ابن العرقة:" حبان "، وكذا ذكره ابن إسحاق، إلا أنه قال ابن قيس. وكذا قال هشام بن عروة في ابن حبان، وكذا ضبطه الدارقطني وغيره - من أصحاب الضبط والإتقان - بكسر الحاء. وذكر ابن عقبة أن اسم ابن العرقة: جبار بن قيس، أحد بني العرقة. وخالف أبو عبيد بن الكلبي فيما تقدم، فقال: إن العرقة هي حبان، وخالف الواقدي في ضبط اسمها فقال: إنما هي العرقة، بفتح الراء. وقال: أهل مكة يقولون ذلك.
قال القاضي: وأكثر الناس على ما تقدم. وكذلك ضبطناها عن شيوخنا في الصحيح والسير. واختلف في اسم أبيها، فقيل: سعيد، كما تقدم. وقيل:سعد، وأن كحل عرق معروف.قال الخليل: إذا انقطع في اليد لم يرقا الدم وهو عرق الحياة في كل عضو.
وقوله في الحديث الآخر:" فنزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحكم فيهم إلى سعد "، يجمع بينه وبين الأول أنهم رضوا بذلك، فنسب الحكم إلى سعد. وقيل: بل كانوا هم رغبوا أن يرد حكمهم إلى سعد، والأشهر أن الأوس رغبوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العفو عنهم ؛ لأنهم كانوا مواليهم، وسألوه أن يفعل بهم ما فعل في بني قينقاع من العفو عنهم، حين سأله فيهم عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي، وكانوا أولئك حلفاء الخزرج، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -:« أما ترضرن أن يحكم فيهم رجل منكم »- يعني من الأوس - يرضيهم بذلك، فرد حكمهم إلى سعد بن معاذ الأوسي، فرضوا بذلك.
وقوله: " وتحجر كلمه للبرء "، قال الإمام: الكلم: الجرح، وتحجر قيل: يبس.
قال القاضي: في تمنى سعد انفجار جرحه، وأن يكون موته من ذلك، ليس من تمنى الموت للضر المنهي عنه والدعاء به، وإنما هو من تمني الشهادة ؛ لأنه لما كان جرحه في سبيل الله تمنى موته منه، ودعا بذلك لتتم شهادته ويموت عليها.(6/479)
وقوله: " فانفجرت من لبته ": كذا روايتنا عن الأسدي، وروايتنا عن الصدفي:" من ليته "، وعند الخشني من طريق الباجي: ! من ليلته "، قالوا: وهو الصواب، كما جاء في الحديث الآخر. واللبة: المنحر، والليت: صفحة العنق.
وقوله: " فإذا جرحه يغذ دما "، كذا رويناه بكسر الغين عن كافتهم، وعند ابن ماهان: " يصب،، وعند بعضهم: " يغذ دما " كل صحيح، وهو بمعنى يصب في الرواية الأخرى. ومعنى " يغذ "، أي: يدوم سيلانه. يقال: غذ الجرح يغذ: إذا لم يرق، وغدا يغدو، كما قال في الحديث الآخر: " فما زال يسيل حتى مات ".
وقوله في الشعر:
ألا يا سعد سعد بني معاذ فما فعلت قريظة والنضير
وقوله كذا الرواية في الأم عند كافة شيوخنا، وصواب الشعر ووجهه: لمافعلت. وكذا روبناه في السير، ورواه بعضهم في مسلم.
وقوله:
تركتم قدركم لا شيء فيها وقدرالقوم حامية تفور
ضرب مثلا لعزة الجانب وعدم الناصر ومن يغضب لكي يقال للمستثير الغضب: تأبر. يريد بقوله: " تركتم قدركم " الأوس ؛ لقتل حلفائهم من قريظة. " وقدر القوم حامية"، / " تفور "، يعني الخزرج ؛ لشفاعتها في حلفائها بني قينقاع، حتى من عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتركهم لعبد الله بن أبي، وهو أبو حباب المذكور في الشعر.
وقوله:
كما ثقلت بميطان الصخور
وكذا ضبطناه عن رواية الفارسي والسجزي بالميم المفتوحة بعدها باء باثنتين تحتها، وكذا ذكرها أبو عبيد البكري في المعجم، إلا أنه ضبطه بكسر الميم، قال: وهو من بلاد مزينة من أرض الحجاز، ووقع في رواية العذري: " بميطار " بالراء مكان النون، وفي رواية ابن ماهان:" يحيطان"، بالحاء مكان الميم، والصواب ماتقدم. وقال هذا الشعر إنما قاله يحرض سعدًا على استبقاء بني قريظة حلفائه، ويلومه على حكمه فيهم، ويذكره بفعل أبي حباب عبدالله بن أبي بن سلرل وشفاعته في حلفائه بني قينقاع، ويمدحه بذلك.(6/480)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - حين انصرف من الأحزاب:« لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة »، فتخرف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لانصلي إلا حيث أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن فاتنا الوقت. قال: فما عنف، واحدا من الفريقين، قال الإمام: هذا فيه دلالة على أن الإثم موضوع في مسائل الفروع، وأن كل مجتهد غير ملوم فيما أداه اجتهاده إليه بخلاف مسائل الأصول، وكان هؤلاء لما تعارضت عندهم الأدلة فالأمر بالصلاة لوقتها يوجب تعجيلها قبل وصول بني قريظة، والأمر بألا يصلى إلا في بني قريظة يوجب التأخير وإن فات الوقت. فأي الظاهرين يقدم وأي العمومين يستعمل ؟ هذا موضع الإشكال، وللنظر فيه مجال.
قال القاضي: مفهوم مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستعجال إلى بني قريظة دون التواني، لا قصد تأخير الصلاة نفسها. فمن أخذ بالمفهوم صلى حين خاف فوات الوقت، ومن أخذ بظاهر اللفظ أخر، ففيه حجة للقائلين بالظاهر وللقائلين بالمفهوم.
وذكر الحديث في مواساة الأنصار للمهاجرين. فيه فضيلة الأنصار، وماكانوا عليه من الأخلاق الحميدة وكرم النفوس وحب الإسلام وأهله. وأما كفايتهم للعمل والمؤنة على أن يعطوهم أنصاف ثمار أموالهم، فاصل في المساقاة أيضًا، وليس كل أحد كان معهم بهذا السبيل، إنما ذلك لمن لم يرض أخذ ذلك بغير عوض من المهاجرين.
وقوله:" وكانت أعطت أم أنس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عذاقًا ": جمع عذق، وهي النخلة ؟ مثل كلب وكلاب.
وقوله: " فأعطاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم أيمن مولاته "، مما يدل على ماقلناه أنه لم يكن كذ ما واسوا به على المساقاة ؛ إذ لم يأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أم أيمن على ذلك، وإنما كانت مواساة وإرفاقًا.(6/481)
وقول أنس: " فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار منانحهم، ورد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أمى عذاقها "، لأنهم استغنوا بما فتح الله تعالى عليهم من الإجحاف بالأنصار، وكذلك في الحديث الآخر:" حتى فتحت عليهم قريظة والنضير "، وقد جاء في الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - / قال للأنصار لما فتح الله سبحانه قريظة والنضير:« إن شئتم قسمتم أمرال بني النضير بينكم وبينهم، وأقمتم على مواساتكم المهاجرين في ثماركم، وإن شئتم أعطيتها المهاجرين دونكم، وقطعتم عنهم ماكنتم تعطونهم»، فقالوا: أعطهم دوننا ونقيم على مواساتهم. فاعطاها النبي - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين، ورد الأنصار منائحهم واستغنوا عنها. وليس في هذا حجة في الرجوع في الهبة ؛ لأنها لم تكن هبة أصول، إنما كانت هبة منافع وميراث غير مؤبدة يصح استرجاعها في كل وقت. والمنائح: العطايا.(6/482)
كانت أم أيمن وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب من الحبشة، وذكر تزويجها زيد بن حارثة. وكذا ذكره الواقدي أنها حبشية، يبين ماذكرنا أنها كانت سوداء، وأن لها خرج أسامة بن زيد، وأنها على ماذكر بعض المؤرخين كانت من سبى الحبشة أصحاب الفيل حين هزمهم الله سبحانه لكن يبقى من الاعتراض على ماذكرنا أنه لو كان ذلك لم ينكر الناس شبه ابنها أسامة لها في الواد. واسمها بركة وتكنى بأم الضياء، وقد نسبوا بركة بنت حصن بن ثعلبة بن عمر بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان، كنيت بابنها أيمن بن عبيد الحبشي زوجها قبل زيد بن حارثة. والمعروف أن الحبشية إنما هي بركة أخرى جارية، كانت لأم حبيبة، كانت تخدم النبي ئ أيضًا. وقد قال ابن عبد البر: وأظنها أم أيمن المذكورة، وقد تقدم من هذا في باب الضيافة، وإباءة أم ايمن من يرد ما كان أعطاها من مال أهل أنس، مما أعطوه في عوضها النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة أمثالها ؛ ظنًّا منها أنها كانت منحة مؤبدة، وأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - استردادها بدلها ؛ لأنه كان يبرها، ولها عليه حق الرضاع والحضانة.(6/483)
قال الإمام: هذا فيه رد الهبة إن كانوا أعطوها على التأبيد، وقد ذكرنا الاختلاف في المنافع، هل ينهى عن شرائها كما ينهى عن شراء الرقاب الموهوبة ؟ والظاهر أن أم أنس أعطت النبي ذ العذاق ملكًا، وقد رده - صلى الله عليه وسلم - عليها. وقد كان بعض شيوخنا يقول: إن كان شراء الهبة بسؤال من الموهوب ورغبة من الواهب والرفق والحض للموهوب في ذلك فإنه خارج عما نهى عنه، والأنصار لم يطلبوا هاهنا رد الهبة، وإن كان أنس حكى عنه مسلم أن أهله أمروه أن يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيسأله ماكان أهله أعطوه، قال: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعطانيهن. ولعله أعطاه لأنس وليس بواهب، أو علم منه خفة ذلك عليه ورغبته فيه. والعذق: بفتح العين: النخلة، وبكسر العين: الكباسة. فلعل عذاقا جمع عذق المفتوح العين.
قوله: أصبت جرابًا من شحم يوم خيبر، فالتزمته، فقلت: لا أعطي اليوم منه أحدًا شيئًا "، وفي الرواية الأخرى:" فيه طعام وشحم "، الجراب: بكسر الجيم: المزود.
قال الإمام: هذا لأنه من قليل الطعام الذي يحتاج لأكله بعض أهل الجيش. ومالك - رضي الله عنه - يبيح للواحد من الجيش أن يأكل قدر ما احتاج إليه من الطعام والمغنوم، ولايرى ذلك غلولاً.(6/484)
قال القاضي: أجمع علماء المسلمين على إجازة أكل طعام الحربيين ما دام / المسلمون في دار الحرب، يأخذون منه قدر حاجتهم. وجمهورهم على جواز ذلك بإذن الإمام وغير إذنه، وحكى عن الزهري أنه لايكون إلا بإذنه ولم يوافق عليه. وقال الشافعي: لا يأخذ منه إلا بقدر حاجته، فإن أخذ منه فوقها أدى قيمته في المقام، وكذلك إن أخذ ما لا يضطر إليه في القوت من الأشربة والأدوبة، وأجاز مالك له أخذ ما فضل وأكله في أهله بعد رجوعه. وقال الأوزاعي: وذلك فيما قل منه. وقال سفيان: يرد ذلك للإمام، وهو قول أبي حنيفة. واختلف في ذلك قول الشافعي، فأجاز له مرة جملة. وجمهورهم على منعه أن يخرج بشيء منه إلى أرض الإسلام، إذا كان له قيمة، وحكموا له حكم الغنيمة. وقال الأوزاعي: ما أخرج من ذلك إلى أرض الإسلام فهو له.
واختلفوا بعد ذلك فيما يحتاج إليه من غير الطعام من السلاح والدواب والثياب، ليقاتل عليه ويركبه في رجوعه، ويلبسه مدة مقامه. واختلف فيه قول مالك وأصحابه. وباجازته قال الثوري والحسن، وممن أجاز استعمال ذلك في وقت الحرب دون غيره الشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور وأبو حنيفة وأبو يوسف. وذكر ابن المنذر والخطابي أن هذا مما لم يختلف فيه أهل العلم، إلا أن الأوزاعي شرط في هذا إذن الإمام. وكذلك فيما قل قدره مما يحتاج إليه كالجلد تقطعه خفافا ونعلاً والإبرة وشبهها، فأجازه مالك وغيره، ونحوه قول ابن حنبل، ومنع ذلك الشافعي وأصحاب الرأى جملة. قال الشافعي: وعليه قيمته إن تلف وأجرة استعماله ومانقصه الانتفاع. ولم يختلف فيما بيع من طعام وغيره إذ ثمنه مغنم.(6/485)
وقوله في الحديث: " فرآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستحييت منه "، أي: لما رآه يحرص على أخذه، أو لقوله:" لا أعطي اليوم منه أحدًا شيئًا ". وفيه أن الزكاة لا تتبعض ؛ إذ لر تبعضت لم تكن إلا على مايجوز اكله لهم وبحل، ولو لم تجز على الشحم ونعمه لما حل لنا اكله. وفيه جواز أكل شحوم اليهود التي حرمت عليهم، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وعامة الفقهاء، إلا أنه مكروه في المشهور عن مالك، وهو عند غيره دون كراهة، وله نحوه أيضًا. وذهب كبراء أصحاب مالك إلى تحريمها، وحكى ابن المنذر ومحمد بن مالك نحوه، وهو مبنى على أن الزكاة تتبعض، وأنه لا تعمل فيما حرم كما لا تعمل في اللحم. ومالك في المشهور عنه والكافة لم تقم عندهم فيه دلالة على التحريم، وقد أحل لنا طعامهم. وجاءت هذه الآثار في أكل شحومهم فلم يحرم عندهم، لكن مالكًا لما كان المباح طعامه وليس الشحم من طعامهم الذي أحل لهم اتقاه.
وفيه جواز اكل ذبائح أهل الكتاب، وقد أجمع أهل العلم على حلها إذا ذكر اسم الله عليها، وأكثر العلماء على أن المراد بقوله:{ وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لهم }: أنها الذبائح، إلا ماروى عن ابن عمر من كراهتها. قال الداودى عنه قال: وأى شرك أعظم من قولهم في المسيح وعزير، قال: ولعله شك أن تكون الآية منسوخة، والمعروف عن ابن عمر: لا تؤكل ذبائح أهل الكتاب إذا لم يسموا عليها اسم الله سبحانه ولم يقل أحد في الآية: إنها منسوخة، وإنما قيل /: إنها ناسخة لآية الأنعام، قوله:{ ولا تكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه }. وقيل: مخصوصة مستثناة منها.(6/486)
واختلفوا فيما أهلوا به لغير الله من اسم المسيح أو كنائسها وشبهها، فكرهه مالك والليث والثوري وأصحاب الرأي والنخعي وحماد وإسحاق وأكثرهم، وروى مثله عن على. وأباحه عطاء ومجاهد ومكحول والشعبي، وقالوا: آية المائدة ناسخة لآية الأنعام، ومستثناة مخصصة منها، وقالوا: قد علم الله تعالى أنهم يقولون ذلك، وقاله ابن حبيب، وكرهه الشافعي.
واختلف إذا ذبح ولم يسم شيئًا، فمنعه أبو ثور، وهو مذهب عائشة رضي الله عنها وعلى وابن عمر - رضي الله عنهم -. وقال أحمد وإسحاق: لاباس به واختلفوا إذا ذبحوا ما كان لمسلم وغير ملكهم، فمنعه ربيعة. واختلفوا فيه عن مالك.
قول أبي سفيان:" انطلقت في المدة التي كانت بيت وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" يريد مصالحته مع أهل مكة سنة الحديبية عشرة أعوام إلى أن نقضوا عليه، فكان سبب غزوة الفتح. وذكر في الحديث أن الذي جاء بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دحية الكلبي، قال الإمام: ويقال بفتح الدال وكسرها. وقال ابن السكيت: هو بالكسر لاغير. وقال أبو حاتم: هو بالفتح لاغير. قال المطرز: والدحيى الدوساء، واحدهم دحية.
قال القاضي: إنما هو هنا اسم لا صفة، وهو دحية بن خليفة، معروف. " وعظيم بصرى " بضم الباء: أميرها، وهي من مدن الشام، وهي مدينة حروان. وقول هرقل: " هل هاهنا أحد من قوم هذا الرجل " ثم قوله: فئ أيكم أقرب نسبًا منه، دليل على أن قوم الرجل أعلم به وبما يشينه ويلحق به؛ لقربه منهم.
وقوله: " فاجلسونى بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي "، وقول هرقل لهم:" إن كذب فكذبوه "، قيل: إنما أجلسهم خلفهم لئلا يستحيوه بالمواجهة إن كذب. وفيه أن خبر الجماعة أوقع في النفوس من خبر الواحد، لاسيما إن كانوا عددًا كثيرًا، فقد يقع العلم بخبرهم.
وقول أبي سفيان:" لولا مخافة أن يؤثر عني الكذب "، دليل على أن الكذب مذموم مهجور في الجاهلية والإسلام.(6/487)
وقوله: " كذلك الرسل تبعث في أحساب قومها "، دليل على أن الحساب أولاً بالتقديم في أمور المسلمين ومهمات الدنيا والدين، ولذلك جعلت الخلافة على قول دهاة المسلمين، وصحيح الاثار في قريش ؛ ولأن ذوى الأحساب أحفظ على تدنيس أحسابهم بما لا يليق بهم.
وقوله في الضعفاء: أتباع الرسل دون أشرافهم: لأن الرياسة والشرف يأبى من انحطاطه لغيره وتسويد غيره عليه برياسة، وأنفسهم تأنف من الاتباع إلا من هداه الله سبحانه لرشده. والضعفاء ليس عليهم معنى للشيطان من ذلك، فكانوا أقبل للاتباع وأطوع للهدى من أولئك، وأعدم لأسباب الأنفة والحسد في الظهور منهم.
وقوله: " كذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب "، أصل البشاشة: اللطف بالرجل وتأنيسه، يقال: بش وبش. وهذه الرواية أصح من رواية: بشاشة القلوب.
قال الإمام: الذي استدل به هرقل على نبوته - صلى الله عليه وسلم - مما لاينتصب دليلاً قاطعًا عند المحققين، وإنما الدليل القاطع على النبوءة المعجزات الخارقة للعادات المعلوم منها المعارضات.
وأما قوله: " ذو حسب "، وكون أتباعه شرفاء / أو ضعفاء يزيدون أو ينقصون، وهل الحرب سجال أم لا ؟ فليس بأدلة قاطعة على نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قلنا. ولعل هرقل كان عنده أخبار عن كون هذه علامات في هذا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال في الحديث: " وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم ".
وكتابته - صلى الله عليه وسلم - إليه فيه دلالة على أن اليسير من القرآن كالأية ونحوها بخلاف حكم كثيره ؛ لأن القرآن لايسافر به إلى بلد الحرب والجنب أبيح له منه الآية والآيتان على جهة التعوذ.
وقوله: " الحرب سجال،: أصل المستقيان بالسجل يكون لكل واحد منهما سجل. والسجل: الدلو الملأى.(6/488)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين »، قال الإمام: ويروى " اليريسيين " بالياء و " الأريسيين " بالهمزة، وقد اضطرب في معنى هذه اللفظة اضطرابًا كثيرًا، وأمثل ما أحفظ في ذلك أن المراد به: الأكارون أو الملوك والرؤساء. قال ابن الأعرابي: أرس الرجل يأرس أرسًا صار أريسًا، أي أكارًا، وآرس يورس مثله وهو الأريس، وجمعه الأريسيون، والإريس وجمعه الأريسون وأرارسة.
قال الإمام: فيكون المعنى على هذا: إن عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون لك. ونبه بالأكارين على الرعايا ؛ لأنهم الأغلب في رعاياه ؛ إذ هم أكثر انقيادًا من غيرهم، وقد يراد به أيضًا الملوك والرؤساء فيكون المعنى على هذا التأويل: فإن عليك إثم الملوك الذين يقودون الناس إلى المذاهب الفاسدة ويأمرونهم بها، وهذا يعود إلى قريب من المعنى الأول.(6/489)
قال القاضي: يعضد التأويل الأول الذي اختاره أنه قد جاء منصوصًا في الحديث. ذكره أبو عبيد في كتاب الأموال، وقال فيه: وإن لم تدخل في الإسلام فاعط الجزية، ثم قال: وإلا فلاتحل بين الفلاحين وبين الإسلام. وفي رواية ابن وهب: " واثمهم عليك ". قال أبو عبيد: الفلاحون هنا: الزارعون خاصة، لكن أراد بهم جميع أهل مملكته ؛ لأن كل من يزرع عند العرب فلاح، ولى ذلك بيده أو وليه له غيره. وأصل هذا في كتاب الله قوله تعالى:{ ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا }، وقوله تعالى: {يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين }. وقال بعضهم: من قال: " اليريسيون " فمن التبختر، يقال: رأس يرأس ريسًا وريسانًا: إذا تبختر، ورأس يرأس روسًا أيضًا. وحكى الخطابي: إن الذين كانوا يحرثون أرضهم كانوا مجوسًا، يقول: عليك إثم المجوس. وأنكر أبو عبد الله القزاز الياء في ذلك، وقال: صوابه عندي: "الأريسيون ". وقال أبو عبيدة: المحفوظ: " الأريسين "، وفي كتاب ابن السكن في تفسيره: يعني اليهود والنصارى، قيل: هم أتباع عبد الله بن أريس، وهذا الذي ينسب إليه الأروسية من النصارى، ولهم مقالة معروفة في عيسى - عليه السلام - ويقال لهم: "الأروسيون " أيضًا، وهم لايقولون بإلهية عيسى، متمسكون أيضًا بما كان عليه.
وقوله: " ولو أعلم أنى أخلص إليه لأحببت لقاءه "، كذا في مسلم، وكذا في "البخاري":" لتجشمت لقاءه "، وهو أصح في المعنى من أحببت. ويحتمل أن " أحببت " مغيرة / منها. والتجشم منها أشبه، وهو تكلف الوصول إليه على مافيه من المشقة عليه ؛ لبعد داره، ومخالفة حاله، ولكنه رأى أن تخلصه إليه بعيد من كثرة من بينه وبينه، ممن كان يختطفه ويحول بينه وبين الوصول إليه، ولما كان من الملك الذي كان يزول عنه، وكان الإسلام لم يتمكن من قلبه ولم يرد الله سبحانه هدايته كما أراد هداية النجاشي جل اسمه.(6/490)
وقوله:" ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه وليبلغن ملكه ماتحت قدمى"، يعني أرضه ومكانه ؛ لأنه كان حيننذ بالشام وتحقيقًا منه أنه علم أنه النبي حقًّا، لكنه شح بحاله وخشي خلع قدمه له، على ماجاء مفسرًا في "البخاري"، فأصر على كفره بعد علمه به وكان أشد في الحجة عليه.
قال الإمام: وقول أبي سفيان لأصحابه:" لقد أمر أمر ابن أبي كبشة "، يعني عظيم أمره، إنه ليخافه ملك بني الأصفر: ونسبه لأبي كبشة، قيل: لأنه كان جدًّا من أجداده لأمه، وقيل: إنه خالف العرب وكان يعبد الشعرى - العبور - ويقول: فإنها تقطع السماء عرضًا، وليس في النجوم مايقطع السماء عرضًا سوى هذا النجم، فعبده دونها ؛ لمخالفته لها. والمنجمون ينكرون هذا القول، كأنه أشار إلى أنه خالف مذهب العرب في العبادة كما خالف أبو كبشة.
قال القاضي: قال أبو الحسن الجرجاني النسابة: في معنى نسبة الجاهلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي كبشة عداوة له، ودعوة له إلى غير نسبه المعلوم المشهور ؛ إذ لم يمكنهم الطعن في نسبه الشهير. وكان وهب بن عبد مناف بن زهرة جده أبو امنة يكنى أبو كبشة، وكذلك عمرو ابن زيد بن أسد البخاري أبو سلمى بن عبد المطلب كان يدعى أبا كبشة، وكذلك أيضًا في أجداده من قبل أمه أبو كبشة جده من غالب بن الحارث، هو أبو قيلة أم وهب ابن عبد مناف أبو آمنة أمه - صلى الله عليه وسلم -، وهو خزاعي، وهو الذي كان يعبد الشعرى، وكان أبوه من الرضاعة يدعى أبا كبشة، وهو الحارث - صلى الله عليه وسلم - عبد العزى السعدي. وقال مثله كله محمد بن حبيب البغدادى. وزاد أبو نصر بن ماكولا: وقيل: أبو كبشة هم ولد حليمة مرضعته - صلى الله عليه وسلم -.(6/491)
وقوله:" إنه ليخافه ملك بني الأصفر "، قال ابن الأنباري: وسمى الروم بنو الأصفر لأن جيشًا من الحبشة غلب على ناحيتهم في بعض الدهور، فوطن نساءهم، فولدن أولادًا أصفر من بياض الروم وسواد الحبشة، فنسب الروم إليهم. وقال أبو إسحاق الحربي: إنما نسبوا إلى الأصفر بن الروم بن عبصى بن إسحاق بن إبراهيم، وهذا أشبه من قول ابن الأنباري.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« أسلم تسلم »، من محاسن الكلام وبليغه وايجازه واختصاره، وجمع بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " تسلم "، نجاة الدنيا من الحرب والخزي بالجزية، وفي الآخرة من العذاب. وقوله في كتابه مسلم:" إلى عظيم الروم "، أي: الذي تعظمه الروم، ولم يقل له: إلى ملك الروم، وتحت هذه الكلمة من المعاني التي لايستحقها إلا من أوجبها له الإسلام، ولما فيه من التسليم له بالملك لهم، لكنه لم يخله من المبرة والتكريم بما تقدم من مخاطبته بعظيم الروم ؟ تاليفًا وحسن أدب وتليين كلمه، وتأنيسًا على الإسلام.
وقوله:« السلام على من اتبع الهدى »، حجة على منع السلام على غير المسلم. وقد اختلف الناس في ذلك، فأجازه كثير من السلف ومنعه آخرون، وأجازه بعضهم إذا كان للاستئلاف أو لحاجة له إليه أو للإمام معه، وقد جاء في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - النهي عن ابتدائهم بالسلام، وسيأتي هذا بعد بأفسر من هذا في كتاب السلام والاستئذان. وقال بعضهم: إنما يسلم عليهم كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، وقد اتخذه الناس أصلاً في صفة السلام على من كره السلام دينًا أو دنيا، واضطر إلى مخاطبته. وفي الحديث حجة لأحد القولين في جواز معاملة المشركين بالدراهم المنقوشة فيها اسم الله سبحانه للضرورة إلى ذلك، وان كان عن مالك الكراهة فيها، ولأن مافى هذا الكتاب من ذكر الله تعالى أكثر مما في الدراهم.(6/492)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« يؤتك الله أجرك مرتين »، أي: لإيمانك بعيسى واتباعك شريعته، ثم إيمانك واتباعك لى، بخلاف الجاهلية وأهل الأوثان الذين لم يكونوا على شيء من دين ولا كتاب.
وقوله:« أدعوك بدعاية الإسلام » بكسر الدال، أي بدعوته. والدعاية مصدر كالرماية والشكاية. ودعوة الإسلام: التوحيد، وهي مستعارة من الشهادتين، وهي الكلمة التي احتج عليه بها في الكتاب من الآية. وأما على الرواية الأخرى:« داعية الإسلام » راجع إلى ما تقدم بالكلمة الداعية إلى الإسلام، أو تكون:" داعية " هنا بمعنى دعوة، كما قال بعضهم في قوله: { خائنة الأعين }، أي: خيانة، وأنه قد جاء فاعله مصدر، ومثله:{ ليس لها من دون الله كاشفة }، أي: كشف.
وقوله:" شكرًا لما أبلاه الله "، أي: اختبره به وفضله به، ويستعمل في الخير والشر، يقال: أبلاه الله بلاء حسنًا وبلاء سيئًا.
قوله في غزوة حنين:" ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلة له بيضاء "، وفي الحديث الآخر: " بغلته الشهباء "، وهي تلك المسماة دلدل، لايعلم له سواها " أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي "، كذا لجميعهم في هذا الموضع أول حديث بالفاء وبالثاء المثلثة بعد الألف، وعند ابن أبي جعفر من طريق الباجي " ابن نباتة " بالباء أو كلا بواحدة بعد النون وبالتاء بالثنتين فوقها بعد الألف، وذكر مسلم بعد هذا من رواية معمر بن نعامة، والمعروت الأول. واختلف في إسلامه، فذكر الطبري أنه أسلم وعمَّر عمرًا طويلاً، وذكر أنه القائل في شعر له:
الحمدلله إذلم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالاً(6/493)
وذكر أبو عمر بن عبد البر أن الذي أسلم وقال هذا الشعر هو فروة بن نباتة السلولي. وقد روى أيضًا هذا البيت الليث، وأنه لم يقل منذ أسلم شعرًا سواه، وقد قيل: إن البيت الذي قاله غير هذا، وقد جاء في غير كتاب مسلم: أن مهدي البغلة البيضاء التي كان يركبها النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو مقوقس صاحب مصر، وفي "البخاري": أن مهديها له ملك أيلة، واسم ملك أيلة - فيما ذكر ابن إسحاق - بحينة بن ريبة، والله أعلم. ولا يعارض في قبوله - صلى الله عليه وسلم - الهدية من المسلم والمشرك مع قوله:« هدايا الأمراء غلول »، ورده بعض الهدايا من المشركين، وقال:« إنا لانقبل زبد المشركين»، أي: رفدهم، وذلك مما نسخ عند بعضهم، لما تقدم من قبوله ماقيل، والأكثر أنه لانسخ في ذلك، إنما ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مخصوص بكل ما أفاء الله عليه من غير قتال أن يتملكه وتصرف فيه لنفسه فيما يحتاج إليه، وغيره بخلافه. فقبل - صلى الله عليه وسلم - ممن طمع في إسلامه واستئلافه لذلك، ولمصلحة يرجوها / للمسلمين، وكافًا بعضهم عليها، كل ذلك تمامًا للاستئلاف. ورد هدية من لم يطمع في إسلامه، أو لم يكن لقبول هديتهم وجه ولامنفعة من الكفار ؛ إذ قبول الهدية يوجب التواد والمحبة، وغيره من الأنمة والأمراء لم يسوغ له ذلك ولا أخذها لنفسه عند أكثر العلماء. ومن قبلها فهي كسائر فيء المسلمين ؛ إذا لم يهدها له إلا لأنه أمامهم.وإن كان في جيشه حاضر فهي غنيمة، وهذا قول الأوزاعي ومحمد بن الحسن وابن القاسم وابن حبيب من أصحابنا، وحكاه ابن حبيب عمن لقيه من أهل العلم. وذهب آخرون إلى أنها له خاصة وهو قول أبي يوسف، وبه قال أشهب وسحنون من أصحابنا. وقال سحنون: إذا أهدى ملك الروم إلى أمير.المسلمين هدية فلا بأس بقبولها، قال: إلا أن يكون الروم في ضعف فهي رشوة.(6/494)
وذهب الطبري إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رد من هدايا المشركين ما أعلم أنه أهدى إليه في خاصة نفسه، وقبل ماعلم منه خلاف ذلك مما فيه استئلاف المسلمين، قال: ولاحجة لمن احتج بنسخ أحد الحديثين الآخرين ؛ إذ لم يأت في ذلك بيان، وحكم الأئمة بعده تصريفها مجاري مال الكفار من الغنيمة والفيء بحكم اختلاف الحال كما قدمناه، والى هذا يرجع قوله:« هدايا الأمراء غلول»، والله أعلم أي إذا خصوا به أنفسهم لأنه لجماعة المسلمين، إما بحكم الفيء أو بحكم الغنيمة، ومايخمس كما تقدم. وقد يرجع إلى مايهديه إليهم رعاياهم. وأصل الغلول: الخيانة ؛ لأنهم إنما أهدوا لهم من قبل ولايتهم ؛ ولهذا أنكره - صلى الله عليه وسلم - وقال: " هلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى يرى يهدى له "، كل هذا حماية عن الهوادة لهم في الحقوق بسببهما. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلها لتنزيهه - صلى الله عليه وسلم - عن هذا وعصمته منه، وقيل: إنما قبل - صلى الله عليه وسلم - هدايا الكفار من أهل الكتاب ممن كان على النصرانية كمقوقس والنجاشي وملوك الشام، فلا تعارض بينه وبين قوله:« إنا لا نقبل زبد الممثسركين »، وقد أبيح لنا طعام أهل الكتاب وذبائحهم ومناكحتهم، فهم خلاف غيرهم.(6/495)
وركوبه - صلى الله عليه وسلم - البغلة في مواطن الحرب تعويلاً على الثبات، وليكون فيه، يرجع إليه المسلمون وتطمئن قلوبهم إلى مكانه. وقد كانت له - صلى الله عليه وسلم - أفراس معروفة مسماة. وفيه ما كان - صلى الله عليه وسلم - من الشجاعة والإقدام، من تقدمه بركض بغلته إلى جمع المشركين والناس كلهم قد فروا. نزوله إلى الأرض في الرواية الأخرى: " لما غشوه، مبالغة في ذلك ونهاية في الثبات. وقيل: مواساة لمن كان نازلاً معه بالأرض راجلاً، وقد اعترف الصحابة كلهم - رضي الله عنهم - بشجاعته. وفي "مسلم":" أن الشجاع منا الذي يحاذى به "، وأنهم كانوا يتقون به. وفيه: أن ذمة الرحم وقاية القرابة فوق كل ذمة، وشفقتها تربى على كل شفقة، إذ فر في تلك المواطن كل أحد إلا آل النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمه وبني أعمامه ومواليه.
وقوله:" ناد أصحاب السمرة"، أي: الذين بايعرا عند الشجرة.
وقوله: " وكان عطفتهم عطفة البقر على أولادها "، دليل على أن فرارهم لم يكن / بعيدًا أولاً من جميعهم، وإنما شق عليهم من في قلبه مرض من سالمه أهل / مكة ومشركيها، الذين لم يسلموا حتى قالوا: لا يردهم إلا البحر، لرانما كانت هزيمتهم فجاة من انصبابهم عليهم بحرة ورشقهم بالسهام، ولاختلاط أهل مكة معهم ممن لم يقر الإيمان في قلبه، وممن يتوقع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الدوائر، وفيهم نساء وصبيان خرجوا للغنيمة وصف إخفاؤهم وحسارهم كما ذكر في الحديث: " فرجعت أولاهم لأخراهم "، وإن أنزل الله سبحانه سكينته - كما ذكر في كتابه - على المؤمنين وأيدهم بجنوده.?(6/496)
وقوله: " الآن حمي الوطيس "، قال الإمام: قال أ أبو عمر المطرز: الوطيس: شبه التنور يخبز فيه، ويضرب مثلاً لشدة الحرب التي يشبه حرها بحره. وقال غيره: الوطيس: التنور نفسه. وقال الأصمعي: هي حجارة مدورة إذا حميت لم يقدر أحد يطا عليها، فيقال: الآن حمى الوطيس، على وجه المثل للأمر إذا اشتد. وقيل: الوطيس جمع، واحده وطيسة.
قال القاضي: وقوله: " وأخذ حصيات"، وفي الروايه الأخرى:" قبضة من تراب، ورماهم بها، فما في خلق الله تعالى منهم إنسانًا إلا ملأ الله عينيه بتلك القبضة ترابًا، فولوا مدبرين "، هو دلالة من دلائل نبوته، وفي قوله: «انهزموا ورب محمد »، قال العباس: فنظرت فإذا القتال على هيئته فيما أرى إلا أن رماهم بحصياته، فمازلت أرى حدهم بعد كليلاً، أي: شدتهم ضعيفة، آية أخرى من إخباره مالم يكن، ثم كان على ما أخبر بها ثان. في هذا الموطن معجزتان: إحداهما فعلية، والأخرى خبرية.
وقوله: " خرج شبان أصحابه وأخِفَّاؤهم حُسَّرًا "، أي: بغير دروع ولا ما يتقون به النبل، كما فسره في الحديث نفسه: " ولا سلاح معهم "، أو ليس معهم كثير سلاح. والحاسر: الذي لا درع عليه. وفي الرواية الأخرى: " انطلق أخفاء من الناس وحسر "، والأخفاء هنا المسارعون المستعجلون. وروى أبو إسحاق الحربي وأبو عبيد الهروي هذا الحرف: " فانطلق جفاء من الناس " بجيم مضمومة وتخفيف الفاء. قال القتبي والهروي: أي سرعانهم، شبههم بجفاء السيل.
قال القاضي: إن صحت هذه الرواية فإنما معناها ماتقدم من خروج من خرج معهم من أهل مكة، ومن انضاف إليهم ممن لم يستعد للقتال، وإنما خرج للغنيمة، من النساء والصبيان والضفاء، ومن مرض من مسالمة الفتح. فهؤلاء شبه جفاء السيل الذي لا ينتفع به ويرميه بجانبيه، وهو الغثاء أيضًا.
وقوله: " فرشقوهم رشقًا "، بكسر الراء في الاسم، قال الإمام: يقال: رشقت بالسهم وأرشقت: إذا رميته. وأما قوله:" كأنها رجل من جراد " فهي الجماعة منها.(6/497)
وقوله:« شاهت الوجوه »، أي: قبحت.
قال القاضي: الرشق، قيل: اليد الواحدة من السهام، وقيل: الوجه من الرس، ومعناه هنا: رموا بمرة واحدة لغرض واحد منهم ؛ ولهذا صح تشبيهه لهم برجل الجراد، هكذا بكسر الراء. فأما الرشق بالفتح والمصدر بمعنى: انكشفوا، أي انهزموا وولوا عن مواضعهم وكشفوها.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب »، قال الإمام: أنكر بعض الناس أن يكون الرجز شعرًا لوقوعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال الله تعالى:{ وما علمناه الشعر وما ينغي له }، وهو مذهب الأخفش، واحتج بهذه الآية على فساد مذهب الخليل في قوله: / إنه شعر. وجواب الخليل عن هذا: أن الشعر ماقصد إليه، واعتمد الإنسان أن يرقعه موزونا مقفى، يقصد إلى القافية والروي. وقد تقع من كثير من العوام ألفاظ موزونة وليست بشعر؛ لأن الشعر إنما يسقى به فيما قصد إليه، مأخوذ من شعر الشاعر بالمعنى، فقد قال الناس: فإن الجزار يقول في ندائه على اللحم:" لحم الخروف بزبد أمه "، وهذا موزون، ولا يظن بالجزار أنه شاعر قصد إلى عمل الشعر، إلى غير ذلك مما يكثر التقاطه من ألفاظ العامة.
وهكذا وجه الجواب عما وقع في القرآن من الموزون ؛ أنه ليس بشعر ؛ لأنه لم يقصد إلى تقفيته وجعله شعرًا، كقوله سبحانه وتعالى:{ نصر من الله وفتح قريب }، وقوله تعالى:{ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون }، ولا شك أن هذا لا يسميه أحد من العرب شعرًا لما قلناه.
وقد أدى بعض الناس غفلته عن هذا الجواب إلى أن قال بأن الرواية: «أنا النبي لا كذب »، بفتح الباء، حرصا منه على أن يفسد الوزن فيستغنى عن هذا الاعتذار.(6/498)
فإن قيل: فإن الاعتزاز إلى الآباء والافتخار بهم من عمل الجاهلية، فكيف قال - صلى الله عليه وسلم -:« أنا ابن عبد المطلب »، قيل: إنما كان هذا لأنه يحكى أن سيف بن ذى يزن لما قدمت عليه قريش، أخبر عبد المطلب أنه سيكون جد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يقتل أعداؤه، وذلك مشهور عند العرب، وأراد - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذا الاسم ليذكرهم بالقصة، فتقوى منتهم في الحرب، وربما ثارت الطباع في الحروب بهذا وأمثاله. وقيل: بل رؤيا رآها عبد المطلب، تدل على ظهوره - صلى الله عليه وسلم - وغلبته، وكانت مشهورة عندهم، أراد أيضًا أن يذكرهم بها.
قال القاضي: لا ينكر السجع في كلامه - صلى الله عليه وسلم - ودعائه وخطبه، وإذا كان هذا فمجيئه بـ " ابن عبد المطلب " سجع لا كذب، لا يحتاج إلى عذر، وأيضًا فإنه ى إنما كانت الجاهلية تنسبه إلى عبد المطلب، وبذلك كان يعرف؛ لأن عبد المطلب كان سيد مكة، وبنوه وبنو بنيه ينسبون إليه ؛ ولأن أباه عبدالله مات شابًّا في حياة أبيه قبل اشتهاره في العرب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يدعوه كثير منهم بابن عبد المطلب، وفي حديث ضمام: " أيكم ابن عبدالمطلب "، فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا نفسه ونسبه تعريفًا لأصحابه بنفسه، وأنه ثابت ملازم مركزه لم يخف مع من خفى، ولازل فيمن زل وراعه هول الأعداء، ولا زعزعوه عن مكانه لما ناداهم عمه العباس بشدة صوته وميزوه، فرجعوا إليه وقربوا منه، ناداهم هو بنفسه ليفيؤوا إليه، وتقرى عزائمهم بمكانه.(6/499)
ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -:« أنا النبي لا كذب »، أي: حقًّا، ويرجع مراده في ذلك إلى وجوده هناك حقًّا ؛ ليعلمهم بنفسه فيثبتوا بثباته، أو يكون ثبتًا حقًّا. ومن صفات الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين: أنهم لا يفرون، أو أنه لا كذب في حديثه، وما أخبرهم من غلبتهم وظهورهم على عدوهم، وليذكرهم بنبوته / لتقوى بصائرهم بوفاء عهده وظهور أمره. وفيه جواز قول الرجل في الحرب: " خذها وأنا ابن فلان،، وقد روي في ذلك عن جماعة من السلف، وقاله ابن عبد الحكم من أصحابنا. وإنما يكره من هذا الانتماء على طريق الافتخار بالأب، كفعل الجاهلية.
وقول البراء:" كنا والله إذا احمر الباس نتقى به "، كناية عن اشتداد الحرب واحمرارها، إما لحمرة الدم وجريانه من الجراح والقتل، أو لاستعار الحرب واشتعالها كاحمرار الجمر، كما قال - عليه السلام -: " حمى الوطيس "، وكما قال الشاعر:
ضرب كعمق إلا بالمحرق
وقول ابن الأسوع: وأرجع منهزمًا، إلى قوله: ومررت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهزمًا، فقال: " لقد رأى ابن الأكوع فزعًا "، كما قال أولاً:" وأرجع منهزمًا "، ولم يرد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انهزم، ولا يصح هذا عنه، وقد قالوا كلهم: إنه ما انهزم، ولا يجوز أن يقال ذلك فيه في خاصة نفسه. وقد ذكر بعضهم الإجماع على هذا، وأنه لا يجوز أن يعتقد فيه، ولا يجوز عليه. والحديث كله يدل على أنه لم ينهزم، بل ثبت وتقدم حتى كان العباس أو أبو سفيان يأخذان بلجام بغلته يكفيانها عن التقدم، شفقة عليه على ما قررناه، وعلى ما صرح به البراء في حديثه.
ذكر مسلم في حصار أهل الطائف حديث سفيان، رفعه عن عبد الله بن عمرو،قال: حاصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف.(6/500)
قال القاضي: كذا في رواية الجلودي وأكثر الأصول، وعند ابن ماهان: عن عبد الله بن عمرو. قال لنا القاضي الشهيد أبو على: صوابه: ابن عمر، وكذا ذكره البخاري عن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -. وكذا صوبه الدارقطني، وذكر ابن أبي شيبة في "مسنده" الحديث عن سفيان، فقال: عن عبد الله ابن عمرو بن العاص، ثم قال: ابن عيينة حدث به مرة أخرى عن عبد الله بن عمر.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« إنا قافلون غدًا »، فقال أصحابه: نرجع ولم نفتحه، فقال لهم:« اغدوا على القتال »، فيه ترك الانسان رأيه لرأى الجماعة ومساعدتهم، لاسيما وكان هو ذهب إلى الرفق بهم والحيطة عليهم، لما رأى من تحصين أهل الطائف وجدهم ورجاءه، أو تيقنه فتح ذلك عليه بغير مشقة بعد كما كان، فلما رأى منهم الجد والصبر في الجهاد ساعدهم على ذلك، فلما أصابهم من الجزع ما أصابهم رجع إلى رأيه من الرفق بهم، وقال:« إنا قافلون غدًا »، فساعدوه إذا رأوا أنه الرأي ؛ لما خبروه من الحال.
وضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حين وافقهم ذلك تعجب من اختلات قولهم بين أمس واليوم للحالين المختلفين، ورجوعهم إلى الرأى السديد.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في مشاورة المسلمين في خروجهم إلى بدر وإعراضه عمن تكلم من المهاجرين ؛ لأنه ما كان المقصود إلا أن يعرف ما عند الأنصار ؛ إذ لم يكن في بيعتهم الخروج معه وطلب عدوه، وإنما كان فيها منعه من الأحمر والأسود. فلما عرض الخروج لعير أبي سفيان أراد أن يعلم: هل يجيبوه إلى هذا. ففيه المشاورة ومعرفة الرأى من أهله قبل الفعل. وكان من إجابة الأنصار له ما ذكره في الحديث.(7/1)
وقوله: " لو أمرتنا أن نضرب أكبادها - يعني الخيل - إلى برك الغماد لفعلنا "، كذا / ضبطناه هنا بفتح الباء وسكون الراء من " برك،. وقال أهل اللغة: صوابه:" برك " بكسر الباء. وكذا قيده شيوخ أبي ذر في "البخاري"، وضبطنا " الغماد " في "الصحيحين" بكسر الغين المعجمة، وحكى ابن دريد الكسر والضم في الغين. " وبرك الغماد: موضع بأقاصي هجر. وضبط الأصيلى " برك " بفتح الراء وسكونها معا، والمعروف السكون. قال أبو إسحاق الحربي: برك الغماد، وسعفان هجر، وذي بليان كان يقال فيما تباعد، وذكر ألفاظًا أخر اختصرناها.
قال القاضي: ويقال فيه:" بليان " بكسر الباء وتشديد الياء أيضًا، ويقال: " بذي بلى " بتخفيف اللام أيضًا.
وفي ضرب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - غلام قريش ليسألوه، جواز تهديد المتهم وتخويفه ليصدق، وجواز ضرب الأسير من العدو لمعنى يوجب ذلك، ويستخبر ما عنده من سر العدو. ويحتج به في تهديد الحكام للمتهمين ليصدقوا عن أحوالهم، وينكشف لهم تهمتهم.
واختلف في إقرارهم في تلك الحال هل يقبل أم لا ؟ فعند أصحاب الشافعي وكثير من أصحابنا: لايقبل حتى يتمادى على إقراره، سواء عين ما أقر به من سرقة أو قتل أم لا. ومن أصحابنا من ألزمه ذلك إذا المقر به وإن رجع عن إقراره، ومنهم من أجازه وإن لم يعين، ومنهم من منعه وإن تمادى عليه لأن خوفه أن يعاد عليه العقاب باق. وأما ضربه ليقر فلايجوز عندهم، ولايعتد بإقراره إلا أن يتمادى عليه. ويختلف في التمادي على ما تقدم.
وإعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بانهم يضربونه إذا صدق ويتركونه إذا كذب، من آيات نبوته - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن أصحابه كانوا يكذبونه فيما يقول من أمر قريش ؛ إذ لم يكن عندهم إلا خبر العير ولا طلبوا سواها. وكذلك إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بمصارع قريش وإشارته لها وتعيينها فلم يعد، ذلك اية أخرى ومعجزة ثانية في هذا الحديث.(7/2)
وقوله: " فما ماط أحدهم عن موضعع يده "، قال الإمام: أي تباعد، يقال: ماط الرجل: إذا تباعد، وأماط غيره: إذا باعده، ويقال: ماط الرجل وأماط: إذا تباعد، لغتان.
قال القاضي: وقوله في حديث فتح مكة: " وفدت وفود على معاوية، فكان يصنع بعضنا لبعض الطعام " وفي الحديث الآخر: "فكان كل رجل منا يصنع طعامًا يومًا لأصحابه فكانت نوبتي "، وفي الحديث الآخر: " فقال أبو هريرة: سبقتني فيه مكارمة الرفقاء بعضهم بعضًا، وجواز جعل ذلك نوبًا بينهم، وأن مثل هذا من باب المكارمة لا من باب المعاوضة، وفيه ما كان عليه الصدر الأول من الكرم والمسابقة فيه، والبر بعضهم لبعض. ومعنى " نوبتى، أي: وقتى. وفي قول أبي هريرة: " إن سبقتنى، دليل أن نوبهم ومكارمتهم لم تكن على المشاحنة والمنافسة. وحديث أبي هريرة لهم بفتح مكة ليقيد بذلك من لم يحضر من أبناء الأنصار ؟ ولذلك قال لهم: " ألا أعلمكم بحديث من بحديثكم "، وفيه أن أحسن ما يحدث به عند الاجتماع في الولانم وانتظار الطعام أ أمثال هذا من أخبار الحدثان / وما جرى من الحروب وغيرها ؟ لنشاط النفوس لسماعه، وقطع مدة الانتظار بذلك ؛ إذ ليس في ذلك ما يدخل إثِمًا، لاسيما ما فيه للنبى - صلى الله عليه وسلم - فخر، والذي ذكر وكان حديثهم هذا كما جاء في الحديث: " وهم ينتظرون نفخ الطعام "، وهو معنى قوله: " ولم يدرك طعامنا ".
وقوله: " وبعث أبا عبيدة على الْحُسَّر "، كذا رريناه، وهو الصواب. قال الهروي: أي على من لأ درع عليه، والذي يظهر لى فيه أنه سمى الرجالة ومن ليس عليه شكاية كاملة حسرا، ليى عليهم كبير سلاح. وبينه في الحديث إلآخر:" وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادى "، أي الرجالة. وأصله بالفارسية: أصحاب ركاب الملك ومن يتصرف في أموره. كذا رويناه في هذا الحرف هنا.(7/3)
وقد وقع في بعض روايات " الساقة "، مكان "البياذقة "، و " الجيش " مكان " الحسر "، في الرواية الأخرى. ورواه بعضهم: " الشارفة "، مكان " البياذقة " وفسروه: الذين يشرفون على مكة وليس بشيء، والأول أظهر ؛ لأنه ذكر أنه قدم على المجنبتين خالدًا على الواحدة، والزبير على الأخرى، وكان هو - صلى الله عليه وسلم - في القلب في الدارعين من المهاجرين والأنصار، وقدم أبا عبيدة على الرجالة، وقد يعبر بها عن ساقة الجيش، وقد تكون ساقة ورجالة فيجتمع الوصفان وهم الحسر أيضًا.
وقوله:" وبطن الوادى ". أي جعل طريقه بطن الوادى كما بينه في الحديث الآخر: " فأخذوا بطن الوادى "، وهذا يبطل رواية " الشارفة "، المتقدمة ويناقضه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« اهتف لي بالأنصار »، أي: ادعهم لي.
وقوله:" لايأتني إلا أنصاري "، فأطافوا به: ثقة منه بهم واستماعه إليهم، وتقريبا لهم لما قرب من داره وقومه، وقد كان معه هناك المهاجرون أيضًا يحيطون به، كما كان في كتيبته، ومعنى " يهرولون ": يسرعون، وإنما أراد: لا يأتني من قابل العرب النافرين معه، والله أعلم غير الأنصار. وهذا يجمع بين ما جاء في "البخاري" من أن كتيبة الأنصاركانت مع سعد بن عبادة،وأن كتيبة المهاجرين مع الزبير فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبعض ماجاء في السير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في كتيبة من المهاجرين والأنصار، فيدل ما في كتاب مسلم أنه دعا الأنصار فجمعهم بعد افتراقهم،أو أنه فرقهم بعد هذا الاجتماع بذي طوى، على ما جاء في السير. فوجه بعضهم من أسفلها وبعضهم من اعلاها، والله أعلم.
وقوله: "وَوَبَّشت قريش أوباشًا لها " بشد الباء، قال الإمام: أي جمعت جموعًا من قبائل شتى، وهم الأوباش والأوشاب.(7/4)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" احصدوهم حصدًا "، وأخفى بيده ووضع يمينه على شماله: يحاكى صفة الحصد والقطع باليد اليمنى لما قبضت عليه بالشمال، يريد قتلهم واستئصالهم. ومعنى " أخفى ": استأصل، كذا روايتنا، وروى بعضهم: "وأكفى بيده "، أي: مال.
قال الإمام: يقال: حصدت الشيء والقوم بالسيف حصدًا وحصادًا، وحصد الأمر والحبل: صار وثيقا محكما، وأحصد الشيء: حان حصاده.
قال / القاضي: وقوله: " موعدكم الصفا "، لخالد بن الوليد ومن معه من الذين أخذوا من السفلة في بطن الوادى، وأخذ هو ومن معه على أعلى مكة.
وقوله: " فما أشرف لهم أحد إلا أناموه ": أي ما ظهر لهم إلا قتلوه، فوقع إلى الأرض كالنائم وقد يكون بمعنى أسكتوه، وقطعوا حينئذ بقتله. يقال: قامت الريح وأسكتت، كما قالوا: ضربه حتى سكت، أي مات.
قال الإمام: يقال: نامت الشاة وغيرها: إذا ماتت، ونامت السوق: كسدت. وقال الفراء: النائمة الميتة، وفي حديث علي - رضي الله عنه - في قتال الخوارج: " إذا أتيتموهم فأنيموهم "، أي: اقتلوهم.
قال القاضي: وقوله:" وما أحد يوجه إلينا شيئًا "، أي: يدفع عن نفسه. وقول أبي سفيان:" أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم "، كذا جاء في حديث شيبان بن فروخ، وفي حديث الدارمي:" أبيدت "، وكلاهما بمعنى متقارب، أي استؤصلوا. " وأبيدت " بمعنى فنيت. و " خضراء قريش "، كناية عن جماعتهم، ويعبر عن الجماعة المجتمعة بالسواد والخضرة ؛ ولهذا قالوا: السواد الأعظم. ويقال في مثل هذا:" غضراؤهم " أيضًا، وهم بمعنى الأول، أي: استؤصلوا. والصلة من الغضارة، وهو الجيش النائم، وكذلك غضارة الشباب.
قال الإمام: قال الهروي: أباد الله خضراءهم: أي جماعتهم. وقال ابن الأعرابي: معناه: أباد الله سوادهم. قال ابن الأنباري: سواد القوم معظمهم. قال ابن الأعرابي: الخفرة عند العرب السواد، يقال لليل: أخضر لسواده. وأنشد:
يا ناق خبي خببًا زورًا وعارض الليل إذا ما اخضرَّا(7/5)
ويقال: أباد الله خضراءهم، أي: حصدهم وشعثهم. قال النابغة:
يصونون أبدانًا قديِمًا نعيمها بخالصة الأردان خضر المناكب
قال الإمام: اختلف الناس في فتح مكة، هل كان صلحا أو عنوة، فذهب مالك وجمهور الفقهاء وأهل السير: أنها عنوة، وقال الشافعي: بل هي صلح، وانفرد بهذا المذهب. ودليل الجماعة عليه قوله سبحانه وتعالى: { إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا }، ومثل هذا اللفظ لا يستعمل في الصلح وإنما يستعمل في الغلبة والقهر.
وقولهم:إن ذلك إنما أراد به صلح الحديبية ؛ لما ذكره مسلم في قصة الحديبية، قال: فنزل القرآن على رسول الله ئ بالفتح، فأرسل إلى عمر - رضي الله عنه - فاقرأه إياه، فقال: يا رسول الله ! أفتح هو ؟ قال:« نعم »، لا يصح لأن هذه الآية إنما نزلت والمراد بها فتح مكة. وهذا الحديث يؤكد ما قلناه ؛ لأنه قال فيه:« إذا لقيتموهم غدًا أن تحصدوهم حصدًا »، وهذا أمر بقتلهم. ولا يكون ذلك إلا مع العنوة. وقد اغتروا بقوله:« إذا لقيتموهم غدًا »، وظنوا أن هذا القول كان منه قبل الفتح بيوم، ثم وقع الصلح في غده. هذا غير صحيح؛ لأنه قال:" فما أشرف لهم يومئذ أحد إلا أناموه "، وقال أبو سفيان: " أبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم "، وهذا يدل على القتال، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:« من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن»، فلو كانوا كلهم آمنين لم يحتج إلى هذا. وهذا كله واضح في هذا الحديث دال على فساد ما قال الشافعي. وتأويلهم: أنه إنما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل من لم يقبل أمانه /، وأن المعاقدة على ذلك كانت دعوى، وإضافة إلى الحديث ما ليس منه، وكيف تتفق المعاقدة على مثل هذا. ومن آكد أيضًا مايدل على ماقلناه: حديث أم هانئ، وقد ذكر فيه أن عليًّا - رضي الله عنه - أراد أن يقتل الرجلين، وأنها أجارت، وأمضى - صلى الله عليه وسلم - جوارها، فكيف يدخل مكة صلحًا ويخفى ذلك عن علي - رضي الله عنه - حتى(7/6)
يحاول قتل الرجلين، وكيف يحتاج أحد إلى أمان أم هانئ وهو أمن بالصلح، وقد تقدم حديث أم هانئ.
وإنما شبه على القوم لأجل أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستبح أموالها، ولاقسمها بين الغانمين. فلما رأى الشافعي هذا وخروجه عن الأصل اعتقد أنه صلح. وهذا لاتعلق له فيه ؛ لأن الغنيمة لايملكها الغانمون بنفس القتال على قول كثير من أصحابنا، وللإمام أن يخرجها عن الغانمين ويمن على الأسرى بانفسهم وحريمهم وأموالهم، وكانه ئ رأى من المصلحة بعد إثخانهم والاستيلاء عليهم، أن يبقيهم لحرمة العشيرة وحرمة البلد، ومارجى من إسلامهم وتكير عدد المسلمين بهم، فلايرد ما قدمناه من الأدلة الواضحة بمثل هذا المحتمل.
وقد قال بعض العلماء: يمنع من بيع بيوتها لقول الله عز وجل:{ سواء العاكف فيه والباد }. وقد حكى منع بيعها وكراء دورها عن مالك، وذكر أبو جعفر الأبهري عنه أنه كره بيعها وكراءها، فإن بيعت أو أكريت لم يفسخ. وكان بعض شيوخنا يستقرى من "المدونة" الجواز من قوله في فض الكراء إذا انهارت البئر: إنه يفض، قال في مثل دور مكة في نفاقها أيام الموسم. وقد اختلف هل من بها على أهلها أو أقرت للمسلمين فعلى القول بانه من بها على أهلها يجب الجواز، وقد تقع الكراهة حرصًا على المواساة وندبًا إليها ؛ لشدة حاجة الناس وضرورتهم، ومراعاة للخلاف. وذكر ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:« مكة كلها مباح، لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها ».(7/7)
قال القاضي: تقدم الكلام في دور مكة في كتاب الحج، وأما أمرها في العنوة أو الصلح فمضى فيه الآن كفاية، لكن ذهب بعض العلماء إلى جمع هذه المذاهب والاثار، واختصار مكتم بكة لم يختص به غيرها، فقال أبو عبيد: افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة ومن على أهلها وردها ولم يقسمها، ولم يجعل شيئًا منها غنيمة ولا فيئًا، فرأى بعضهم أن ذلك جائز له ولغيره من الأئمة. قال: والذي أرى أنه خاص له في مكة وليس ذلك لغيره في غيرها أو مكة لا يشبهها شيء من البلاد، ولأن الله سبحانه خص رسوله من الأنفال بما لم يخص به غيره. وأنكر بعضهم قول أبي عبيد هذا وقول أبي يوسف: عفا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مكة وأهلها ولم يجعل شيئًا منها فيئًا. وقال أصحاب الشافعي أراد الشافعي بقوله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة صلحًا، أي فعل فيها فعله فيمن صالحه فملكه نفسه وأرضه وماله ؛ لأنه لم يدخلها إلا بعد أن / أمن أهلها كلهم، وهذا من قول أصحابه اعتذار عن قوله الذي انفرد به، وميل إلى قول الجماعة من أن افتتاحها عنوة، وإنما من عليهم وعفا وملكهم أموالهم.
قال بعضهم: والصحيح أن مكة بلدة مؤمنة لم يجز فيها شيء من أحكام العنوة، ولا شيء من أحكام الصلح فتتفق معانى المذاهب على هذا، وأن قول مالك والجمهور: دخلت عنوة، وأن هذا في ابتداء أمرها، لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - جيوشه بقتل من لقوه وقاتلهم، وندائه بالأمان لمن دخل المسجد وأغلق عليه بابه، إلا من اسثمناه، وصورة هذا كله صورة العنوة والقهر، لا أن حكم العنوة جرى في أهلها وأرضها وأموالهم بمن النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم، وأن حالهم جرى في هذا مجرى حال أهل الصلح لا أنهم عقدوا معه صلحًا ؛ إذ لم يأت أثر في في شيء من هذا بمصالحتهم إياه، وبالله التوفيق.(7/8)
وقال أبو عبد الله بن أبي صفرة: انظر لما أسلم أهل مكة كل - صلى الله عليه وسلم - النبي - صلى الله عليه وسلم - وترك لهم أموالهم ولم ينزل في شيء لمنه عليهم بها ونزل في الوادي، ولما أبطات هوازن بإسلامها قسم الفيء بين أصحابه، ثم وهبهم سبيهم على استطابة نفوس أصحابه ؛ لأنه مال الله لا شيء للغانمين فيه إلا أن يقسمه عليهم. وفيه الحجة لمذهب مالك.
قال القاضي: وقول الأنصار: " والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - " بكسر الضاد، أي البخل إن يرحل عنا، قال الله تعالى:{ وما هو على الغيب بضنين }، في قراءة من قرأه بالضاد، أي: ببخيل. ومعناه هنا: محبة الاختصار به، والغيرة عليه أن يرجع إلى بلده. يقال: فلان ضنين من بين إخواني، أي الذي اختص به، وأضن بمردته، ألا ترى قولهم: أدركته رغبة في قربته ورأفة بعشيرته، وليس في هذا ما يكون عليهم فيه إثم ؛ إذ ليس فيه عيب للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولا نقص له، بل هو من مكارم أخلاق الأشراف الحنين للأوطان. فأجابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه وإن كان ذلك من رأفته بعشيرته وبلدته فإنه لا يفارقهم ؛« المحيا محياكم، والممات مماتكم ». وبكاؤهم فرحًا بما قاله لهم، وخجلاً لما بلغه من ظنهم به غيرذلك.
وقوله - لما اعترفوا له بقوله -:« فما اسمي إذًا »، يحتمل معنيين ؛ أحدهما: أني نبي، لإعلامه إياهم بما تحدثوا به بينهم، بدليل قوله بعده: «كلا إنى عبد الله ورسوله »، والآخر: أي كان فعلى لا يطابق اسمي من مفارقتكم، وترك الوفاء لكم والرجوع إلى قومي، إما لأن هذا غير مطابق معنى الحمد لله الذي اشتق منه اسمي، وأن هذا من فعلى كان يرصف بغير وصف الحميد من الأخلاق، أو لأن اسمي كان ينتقل إلى غيره من أوصاف الغدر وقلة الرفاء لو فعلت ذلك.(7/9)
وقوله: " فاقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحجر فاستلمه ثم طاف بالبيت " فيه السنة بالبداية - لمن دخل مكة - أن يكون أول / ابتدائه استلام الحجر والطواف بالبيت. وقد تقدم هذا في كتاب الحج، والاختلاف في دخول امكة بغير إحرام ولغير الحج والعمرة لمن لا يتردد عليها دائما مستوعبًا. ولم يختلف في دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة أنه كان حلالاً بدخوله والمغفر على رأسه، ولأنه دخلها محاربا حاملا للسلاح هو وأصحابه. ولم يختلفوا في تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. ولم يختلفوا في أنه من دخلها لحرب بعده أو بقي أنه لا يحل له دخولها حلالاً.
وقوله:" فأتى صنمًا إلى جانب البيت كانوا يعبدونه "، وأنه طعنه بسية قوسه، وهو معنى قوله في الحديث الآخر في النصب: " فجعل يطعنها بعود في يده "، وسية الجيوش - بكسر السين وفتح الياء -: ما عطف من طرفها.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« لا يقتل قرشي صبرًا بعد اليوم إلى يوم القيامة »، إعلام منه - صلى الله عليه وسلم - بأنهم سيسلمون كلهم كما كان، وأنهم لا يرتدون بعده كما ارتد غيرهم ممن حورب وقتل صبرًا. ولم يرد أنهم يقتلون ظلمًا صبرًا وغير صبر، فقد جرى على قريش بعد ذلك ما هو معلوم.(7/10)
وقوله:" لم يكن أسلم من عصاة قريش غير مطيع بن الأسود كان اسمه العاص فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - مطيعًا ": عصاة هنا - جمع العاص - من الأسماء لا من الصفات، أي لم يسلم ممن كان اسمه العاص، مثل العاص بن وائل السهمي، والعاص بن هشام أبو البختري، والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية، والعاص بن هشام بن المغيرة المخزومي، والعاص بن منبه بن الحجاج وغيرهم، سوى العاص بن الأسود العدوي، فغير النبي - صلى الله عليه وسلم - اسمه فسماه مطيعًا، وإلا فقد أسلم عصاة قريش وعتاتهم كلهم بحمد الله، لكنه قد ذكر أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو، وهو ممن أسلم واسمه أيضًا العاص. فإذا صح أيحتمل أن هذا غلبت عليه كنيته وجهل اسمه لم يعرفه المخبر، فلم يستثنه كما استثنى مطيع بن الأسود.
وقوله في أحاديث الحديبية في الصلح الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين وكتب علي - رضي الله عنه -:" هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وفي الرواية الأخرى:" هذا ما قاضى عليه "، فقالوا: لا تكتب: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك، وفي الآخر: ولكن اكتب محمد بن عبدالمطلب، فقال لعلي:« امحه »، فقال: ما أنا بالذى أمحاه، فمحاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده، قال: وفي الرواية الأخرى: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« أرني مكانها »، فمحاها، وكتب:" ابن عبدالله "، وفي الرواية الأخرى: فقال لعلي: «اكتب من محمد بن عبد الله »، معنى " قاضى ": أي فاصل، وأمضيا أمرهما عليه وأتماه، ومنه: قضاء القاضي، أي فصل الحكم وأمضاه ؛ ولذلك سميت عام المقاضاة لما كان فيها، وسميت عمرة القضية لذلك وعمرة القضاء أيضًا، وليس كما يظن من لا يعلم أنها سميت بذلك لقضاء العمرة التي صد عنها ؛ إذ لا يلزم قضاء ما صد عنه من ذلك، إلا أن يريد أنها لما كانت عوضًا عنها وبمآثرها كانت كأنها قضاء عنها.(7/11)
قال الإمام: أنكر بعض / المتأخرين أن يقال في افتتاح الوثائق: هذا ما اشترى فلان، وهذا ما أصدق فلان، وشبه ذلك هروبًا من أن يدل ذلك على الجحد والنفى، وهذا الحديث حجة عليهم ا لأنه كتب باللفظ الذي كرهوه، فقال:" هذا ما كاتب ".
قال القاضي: وفيه حجة أيضًا على أنه يكتفى بالاسم المشهور وان اقتصر عليه، خلافًا لمن ذهب إليه من الموثقين من أنه لابد من أربع ؛ اسم المذكور، وأبيه، وجده، ونسبه.
قال الإمام: في هذا الحديث دلالة على أن للإمام أن يعقد الصلح على ما يراه صلاحًا للمسلمين، وإن كان يظهر في بادئ الرأي أن فيه ماظاهره اهتضام للحق ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - محا اسمه وعاقدهم - على ما ذكر مسلم - فيمن جاء منهم إلينا ومنا إليهم. وقد قال عمر - رضي الله عنه -:يارسول الله !، ألسنا على حق وهم على باطل ؟ قال:« بلى »، قال: ألسر قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال:« بلى »، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا، الحديث. ومذهبنا أنه إذا عاقد الإمام على الرد لمن جاء مسلمًا ينفذ عقده في الرجال دون النساء، لقوله تعالى:{ فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار }، ولكن اختلف الناس إذا طلب زوجته التي جاءت مسلمة، هل يعاض عنها الصداق الذي كان أعطاها، فقال بعضهم: يعاض عنها لقوله عز وجل:{ وآتوهم ما أنفقوا }. وقال بعضهم: لايعاض عنها، والآية منسوخة. وقال بعض العلماء: إن مع رد النساء بالقرآن نسخ لما تقدم من السنة وفيه نسخ السنة القرآن وفي ذلك خلاف بين أهل الأصول.(7/12)
قال القاضي: قد قيل: إن هذا ليس فيه نسخ ولا معارضة بين الكتاب والسنة ؛ لأن الشرط إنما كان على رد الرجال دون النساء، وكذا جاء مبينًا في بعض طرق هذا الحديث في "صحيح البخاري" في كتاب الشروط:« ولا يأتيك منا رجل وهو على دينك إلا رددته إلينا »، ألا ترى أن في هذا الحديث نفسه - في غير مسلم -: أنهم أخرجوا معهم بنت حمزة من العام المقبل، وفي جملة الحديث: " ولا يخرج من أهلها بأحد ".
وذهب أهل الكوفة إلى أن الصلح ومهادنة الكفار على رد من جاء منهم مسلمًا رجلاً كان أو امرأة لا يجرز، وأنه منسوخ بآية النساء، خلاف ما ذهب إليه مالك. وحكى أصحاب الشافعي أن ذلك يجوز في الرجال إذا كانوا مأمونين على ذمتهم وإلا لم يجز، وحكى مكى في كتاب الناسخ والمنسوخ مجملاً: أنه لا يجوز أن يهادن المشركون اليوم على شيء من هذه الشروط، وإنما هو السيف أو الإيمان أو الصلح على غير شيء من هذه الشروط، التي لا يجوز في الدين، وأما مع أهل الكتاب والمجوس فجائز، قال: وقيل: إن قوله تعالى:{ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ناسخ للهدنة بيننا وبينهم، وقال في أهل الكتاب:{ حتى يعطوا الجزية }، فيه نفي حكم الهدنة معهم. وقال ابن زيد: نسخت كلها بسررة براءة، ونفذ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كل ذى عهد عهده، وأن يقتلوا حيث وجدوا، وبقتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، ونحوه لقتادة. وقيل: إنما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك مع الضرورة وضعف الإيمان ورجاء الصلاح لهم. فيه - كما تقدم -: أنه إنما ردهم لآبائهم وعثائرهم وأمن إهلاكهم وقتلهم لعطفهم أ عليهم، ليس في ذلك إلا إمساكهم وخوف الفتنة عليهم، وقد عزرنا الله سبحانه/ وأباح لنا التقية بإظهار كلمة الكفر مع إضمار الإيمان، فلم يكن في ردهم إهلاكهم، ولا ردهم من الإيمان إلى الكفر. وقد جاء في الحديث ما دل على ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم - بصلاح حالهم وسلامتهم بقوله:« سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا(7/13)
». وأما إمساكهم من صار إليهم منا فلا إشكال فيه لأنه كافر مثلهم، وقد بينه - صلى الله عليه وسلم - بقوله:« ومن ذهب منا إليهم فابعده الله ».
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه - لما أمره يمحو " رسول الله "، فقال: لا، والله لا أمحاها:« أرنى مكانها »، فأراه فمحاها، وكتب، لم يكن من علي - رضي الله عنه - خلافًا لأمره - صلى الله عليه وسلم -، ولكن أدبًا أن يمحي وصفه الكريم من النبوة، ومساعدة النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركين في ذلك غير ضار ؛ إذ علم قيام الحجة عليهم بذلك فيما يكتبونه على أنفسهم من ذلك، وأنه كالإقرار والاعتراف، ومثل هذا إذا احتيج إليه للضرورة صنع، إذا لا يلزم من لايعتقد شيئًا أن يقوله.
ومثله منعهم - فيما ذكره مسلم - بعد لما كتبوا:{ بسم الله الرحمن الرحيم} في ذلك، وأنهم لا يعرفون ما الرحمن الرحيم، ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم، فساعدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ؛ رغبة في تمام الصلح، الذي أثمر بعد ذلك الظهور التام والغلبة، ومعنى التسميتين واحد ؛ لأنه راجع كله إلى اسم الله سبحانه. وقد تقدم الكلام على معنى " اللهم " وقول من قال معناها: بالله أمنا بخيرك واقصدنا، فذكر بعض الحروف اختصارًا، فإنما ساعدهم على مخالفة القادتين منه ومنهم لا فيما اختلف من جهة المعنى لا لبس في ترك وصفه بالنبوة نفيًا لها عنه، ولا في ترك بعض صفات الله تعالى نفيًا لها عنه، وإنما الذي لا يجوز لو طالبرهم أن يكتب لهم ما لايحل قوله واعتقاده للمسلمين ؟من ذكر المهتهم وشركهم. وقد قيل: إن حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا للصلح وتمامه بكل حال،إنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فهم عن ربه عز وجل من إرادته ذلك لخلاء ناقته به.(7/14)
وقوله:« حبسها حابس الفيل »، يريد أمر الله ومراده. وقد يحتج بما تقدم أن النصارى والمجرس لا يلزمون الحلف في الحقوق بالله الذي لا إله إلا هو، وفيها خلاف عندنا في المذهب، واختلاف في التأويل على مراده في "المدونة" بقوله: " لا يحلفون إلا بالله ".
وقوله في رواية زكرياء عن أبي إسحاق عن البراء: " فمحاها وكتب: "ابن عبد الله "، احتج بهذا اللفظ بعض الناس على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب ذلك بيده على ظاهر هذا اللفظ، ونحوه منه ذكره البخاري من رواية إسرائيل عن أبي إسحاق، وقال:" فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب فكتب "، وزاد عنه من طريق آخر ولا يحسن أن يكتب فكتب، وقال هؤلاء فإن الله سبحانه أجرى على يديه ذلك إما بأن كتب ذلك القلم في يده وهو غير عالم بما يكتب، أو أن الله سبحانه علمه ذلك حيننذ حتى كتب، وجعل هذا زيادة في معجزته - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان أميًّا، فكما علمه / ما لم يعلم من العلم وجعله قرأ ما لم يقرأ، وتلا ما لم يتل، فكذلك علمه أن يكتب ما لم يكتب، وخط مالم يخط بعد النبوة وأجرى ذلك على يديه، وأن هذا لا يقدح في وصفه بالأمية، واحتجوا بأقوال حاتم عن الشعبي وبعض السلفيين، هذا وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى كتب. وإلى جواز ذلك ذهب الباجي وحكاه عن الشيباني وأبي ذر وغيرهما.(7/15)
وذهب الأكثر إلى منع هذا جملة،أن وصفه الله تعالى بالأمية وقوله تعالى: { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخظه بيميك }، وقوله - عليه السلام -:« إنا أمة أمية لا نكتب ولانحسب » يرده. وزعم هؤلاء أن كتابه هذا وإن صورناه معجزة لو صح يبطل معجزته بالأمية، وأن لفظ " كتاب " يحتمل أن يرجع إلى أمره بذلك ؛ إذ يقال: قتل الأمير، وقطع السارق، وإنما أمر به، واحتجوا بالرواية الأخرى: فقال لعلي - رضي الله عنه -:« اكتب: من محمد بن عبد الله»، والأولون يقولون: إنما وصفه الله سبحانه بأنه لم يقل ولم يخط من قبل تعليمه، كما قال من قبله، فكما جاز أن يتلو فكذلك جاز أن يخط، ولا يقدح هذا في كونه أميًّا ؛ إذ ليست المعجزة مجرد كونه أميًّا، وإنما المعجزة أن كان أولاً كذلك ثم جاء بعلوم لا يعلمها الأميون ولم يقدح ذلك في حالته، فكذلك يجوز أن يكون بخط فلا يقدح فيه، بل يكون تكيدا في معجزته. قالوا: وظاهر قوله:" ولا يحسن أن يكتب فكتب "، كالنص أنه هو بنفسه كتب، وعدوله إلى غيره تجوز في الكلام، وحمل على ما لم يفهم فه لغير ضرورة. وطال كلام كل فرقة في هذا الباب وشنعت كل واحدة على صاحبتها { فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاُ }.
وقوله في الشرط: " أن يدخلوا مكة فيقيموا بها ثلاثًا "، وذلك أن المهاجر لا تحل له الإقامة بمكة أكثر من ثلاث، وهذا أصل في مدة الإقامة في تقصير الصلاة في السفر أنها فيما زاد على الثلاث، وأن الثلاث غير إقامة. وهذا الشرط إنما كان من العام القابل، وأن إلنبى - صلى الله عليه وسلم - غير بدنه بى تحلل. وهذا الحديث أصل في تفسير قوله عز وجل:{ فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي }، وقد تقدم في الحج بيانه، ومعنى الكلام هناك على معنى " حصر " و" أحصر "، واختلفت رواية مسلم هنا، فعند أكثرهم:" لما حصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعند السمرقندي:" لما أحصر ".(7/16)
وقوله:" لما أحصر عند البيت"، كذا في جميع النسخ، وفي رواية ابن الحذاء: " عن البيت " وهو الوجه.
قال الإمام: وقوله:« ولا يدخلها إلا بِجُلُبَّان السلاح: السيف وقرابه »، قال الأزهري: القراب: غمد السيف، والجلبان: شبه الجراب من الأدم يوضع فيه السيف مغمود، فيطرح فيه الراكب سوطه وأداته، ويعلقه من آخرة الرحل أو واسطته. وقد قال شمر: كان اشتقاق الجلبان من الجلبة، وهي الجلدة التي تجعل على القتب، والجلدة التي تغش التميمة لانها كالغشاء للقراب، يقال: أجلب قتبه: إذا غشاه الجلبة. وروى ابن قتيبة في هذا الحرف: " جُلُبَّان "، بضم اللام وتشديد الباء، والجلبان: أوعية السلاح بما فيها، قال: ولا أراه يسمى به إلا لجفائه، ولذلك قيل للمرأة الجافية الغليظة: / جلبانة. قال الهروي: والقول ما قال الأزهري وشمر.
قال القاضي: وفائدة اشتراطهم ألا يدخلوا إلا بالسلاح في القرب لوجهين:
أحدهما: ألا يظهروا عليهم دخول المحاربين الغالبين المشهرين السلاح من تنكب القسي، واعتقال القنا، وتقليد السيوف، ولكن بزى الأمن والمهادنة والسفر.
والثاني: فإن كون السلاح في القرب أمن التقلد بها وحبسها في الأيدي؛ لسرعة السلمت والمبادرة بها لأول هيشه وهيعة. وفي هذا الحديث على الجملة: جواز مصالحة الكفار لما فيه من مصلحة المسلمين ومهادنتهم. ولم يختلفوا إذا دعت إلى ذلك ضرورة، إذ يكون على غير شيء أو على مال يأخذه منهم، فإن لم تدع إلى ذلك ضرورة ولم يكن في العدو قوة إلا لما بذلوه من أموالهم، فأجاز ذلك جماعة، منهم الأوزاعي وغيره. ومنع ذلك مالك وأصحابه وعلماء أهل المدينة وغيرهم ؛ لما فيه من ضيعة الثغور تلك المدة، وأن المسلمين بمغاوراتهم وجيوشهم قد ينالوا منهم أكثر من ذلك غالبًا، وإنما صالح النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة لقلة أهل الإسلام حينئذ.(7/17)
واختلف العلماء في أمدها فمالك يرى ذلك مفوضا إلى اجتهاد الإمام، ولا حد له من القلة والكثرة،إلا لما يراه مصلحة لهم. والشافعي يحد أكثرها بعشرة أعوام لا يكون أكثر ؛ لأنه الأمد الذي عاقد عليه - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة. وقيل: إنما كان عاقدهم على ثلاث سنين. وقيل: على أربع.
فأما على ما يؤخذ من الكفار فجائز ما كان من مال أو روس من أحرارهم أو عبيدهم، وإن كانت مما يغيرون به ويأخذونه من غيرهم، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق واختلف إذا كان من أبنائهم ونسائهم، فمنعه أبو حنيفة قال: لأن الصلح وقع عليهم وعلى ذراريهم، وأجازه أصحاب مالك إذا كتبوا ذلك في شرط عهدهم، فإن لم يكتبوه فلا يجوز: ولهؤلاء من العهد ما لرجالهم، ونحوه عن مالك.
واختلف إذا دعت ضرورة لشغل المسلمين بفتنة، أو غدر آخر، أو خوف استيلاء العدو عليهم، هل يصالحونه على أن يعطيهم المسلمون مالاً، فأجاز ذلك الأوزاعي، ومنعه الشافعي إلا أن يخافوا استئصال العدو لهم.(7/18)
وقول سهل بن حنيف يوم صفين:" اتهموا أنفسكم "، وذكر كراهة المسلمين صلح الحديبية: يريد سهل بن حنيف بتبصير الناس ما في الصلح من الخير، وأنه قد يدل - وإن كان ظاهره مكروهًا - إلى المحبوب، كما كان في شان الحديبية، وإنما كان ذلك لما ظهر في أصحاب علي - رضي الله عنه - من كراهة شأن التحكيم ومراوضة الصلح، وكان الظهور لهم حتى رفع لهم أهل الشام المصاحف ودعوهم إليها، ورغبوا في المصالحة. وما كان مراجعة عمر - رضي الله عنه - النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن صلح الحديبية وما عظم على قلوب المسلمين منه وكرهوه، وما خالطهم من الحزن والكآبة، لرجرعهم دون تمام عمرتهم، وصد الكفار لهم عن البيت، وتثبطهم عن التحلل، رجاء تمام ما خرجوا عليه، وقهر النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم على الصلح، وكانوا متبصرين في قتال عدوهم، وكان ذلك رأيهم، والله ورسوله أعلم بمصلحتهم /ولهذا قال عمر - رضي الله عنه -:" علام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ". والدنية: النقيصة والحالة الخسيسة. والدني بغير هاء: الخسيس من كل شيء، ومنه قوله: المنية ولا الدنية، أي: ولا الحالة التي توجب على الإنسان ذلاًّ وخساسة.
وجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - بما جاوبه به من تثبته ووعده الفتح الذي كان من خيبر ثم من مكة، ولم يكن ما كان من عمر- رضي الله عنه - وسؤاله له - صلى الله عليه وسلم - عما سأله عنه شكًّا من عمر ولا ريبًا، بل كشفا لما خفي عنه من ذلك، وحثًّا على إذلال الكفر، وحرصًا على ظهور المسلمين، بما كان عليه من القوة والعزة في دين الله.
وموافقة جواب أبي بكر لما جاوبه به النبي - صلى الله عليه وسلم -، دليل على فضل علمه وإيمانه، وقوة يقينه على سائرهم.
وقوله:" ما وضعنا أسيافنا على عواتقنا لأمر يفظعنا "، أي: يشق علينا ويعظم.(7/19)
وقوله:" إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه "، استعارة بنزول السهل من الأرض، والخروج إلى السعة من الضيق، وإلى اللين من الشدة.
وقوله: " إلا أمركم هذا "، يريد الفتنة مع أهل الشام.
وقوله:" ما فتحنا منه من خصم إلا انفجر علينا منه خصم " بضم الخاء، قال الإمام: خصم كل شيء طرفه وناحيته، ومنه قيل للخصمين: خصمان؛ لأن كل واحد منهما يأخذ في ناحية من الدعوى غير ناحية صاحبه. قال القاضي: كذا جاء هذا الكلام في كتاب مسلم: " ما فتحنا منه من خصم إلا انفجر علينا منه خصم "، وفيه وهم وتغيير في الكلام، وصوابه:" ماسددنا" مكان "فتحنا"، وكذا جاء في "البخاري" وغيره:" ما شذ منها خصم إلا انفجر علينا خصم "، وبهذا يستقيم الكلام، ويتقابل " انفجر " لـ" سددنا". وأحسن معاني الخصم هنا أن يكون مأخوذًا من طرف الرواية، وهو الخصم، لقوله:" ما نسد "، ولقوله:" انفجر "، فشبهه بانفجار الماء من طرف الرواية، وكذلك خصم العدل طرف جانبه الذي يؤخذ به.
وقول حذيفة: " خرجت أنا وأبي حُسيل "، كذا صوابه مرفوعًا على البدل، وهو اسم اليمان والد حذيفة بن اليمان، وهو رواية ابن أبي جعفر. وبعضهم رواه - الصدفي عن العذري -: " حسرًا "، ورواه أبو بحر:"حسير"، بالراء مكان " حسيل "، وكلاهما وهم، وإنما سمى اليمان لأنه كان أصاب دمًا في قومه ففر إلى المدينة، فحالف بني عبد الأشهل، فسماه قومه اليمان لحلفه اليمانية. وقيل: بل سمى بذلك باسم جده الأعلى وهو حذيفة بن حسيل بن جابر بن ربيعة بن عمرو بن اليمان العبسى.(7/20)
وقوله: فأخذه كفار قريش فقالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لا نقاتل معه،وأنهم ذكروا ذلك للنبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: " انصرفا "، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عبيهم، فيه أولاً: جواز الكذب للحالف والتعريض إذا أمكنه وعند الضرورة. وفيه وجوب الوفاء بالعهد وإن كان مكرهًا. وقد اختلفوا إذا عاهدوا الأسير ألا يهرب، فرأى الكوفيون والشافعي: لا يلزمه هذا العهد. وقال مالك: لا يجوز له ذلك. وقال ابن القاسم ومحمد بن المواز ذلك، بخلاف لو أجبروه أن يحلف ألا يهرب لم يلزمه اليمين لأنه مكره. وقال بعض العلماء: لا فرق بين اليمين والعهد وهجرته عن ملك الكفر / واجبة، والحجة فعل أبي بصير وتصويب النبي ئ فعله ورضاه به، ولا حجة في هذا إذ ليس فيه أن أبا بصير عاهدهم على ذلك، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما عاهدهم على ألا يخرج معه بأحد منهم ولا يحبسه عنهم، ولم يعاهدهم على ألا يخرج منهم من أسلم فيلزم ذلك أبا بصير.
وقول القائل:" لو أدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلت معه وأبليت "، أي بالغت في امتحانها في نصرته وأغنيت.
وقول حذيفة له:" أنت كنت تفعل ذلك ؟ " كأنه فهم منه أنه قام بباله أنه كان يفعل أكثر مما كانت تفعله الصحابة، ويأتى بابلغ مما أتوه، ثم أخبره بخبره ليلة الأحزاب. والقر، بضم القاف: البرد، وكذلك قوله بعد ذلك: "قررت ".
قال الإمام: أي أصابني القر، يقال: قر الإنسان قرًّا.
وقوله:« لا تذعرهم علي »، أي: لا تفزعهم.
قال القاضي: ولشدته لم يجبه أحد حين دعا من يأتيه بخبرهم، وتواكل الناس بعضهم لبعض لعله يكفى، فلما عينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة وجبت عليه الإجابة.(7/21)
ومعنى قوله:« لا تذعرهم علي »، هنا عندي: أي لا تفزعهم على، كأنه، والله أعلم خاف ما يصيبه هو من ذلك إن حرك عليهم ما يدعرهم، فيتحسسون له، فيأخذونه، فيعود ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل عينه ورسوله، والله أعلم. وأما تنفيرهم مما يخاف منه وهو كان المطلوب.
ومعنى: " يصلي ظهره بالنار "، أي يدنيه منها من البرد، وهو الصلاة ممدود مكسور، وهو الصلى أيضًا مفتوح مقصور. " وكبد القوس ": مقبضها. قال الخليل: كبد كل شيء وسطه.
وقوله: " فرجعت كأني أمشي في حمام "، يعني أنه لم يصبه من القر وبرد تلك الريح شيء ببركة إجابته للنبى - صلى الله عليه وسلم -، وتصرفه فيما وجهه فيه، أو لأنه دعا له. وكذلك ذكر في انصرافه، ألا تراه كيف قال: فلما أتيته وأخبرته بخبر القوم قررت، أي أصابني البرد الذي كان يجده الناس. فتعد هذه من آياته - صلى الله عليه وسلم -. والعباءة: الكساء فيه خطوط، وقد تقدم.
وقوله في أول أحاديث أحد: نا هداب بن خالد الأزدي. كذا في الأصل، وكذا نسبه البخاري أخاه أمية بن خالد في بابه، فنسبه قيسيًّا. وذكر الباجي فقال: القيسي الأزدي، وهذان نسبان في الظاهر مختلفان ؛ أزد في اليمن وقيس في معد، تلك حقيقة هذا، أن قيسًا هنا ليس قيس غيلان، لكنه قيس بن ثوبان من الأزد، فيصح النسبان. وقد جاء مثل هذا أيضًا لمسلم في زياد بن رياح القيسي، ويقال: رباح، كذا ذكره في غير موضع، ونسبه في النذور: التيمي. قيل: لعله من تيم بن قير بن ثعلبة بن بكر بن وائل، فيجتمع النسبان، والا فتيم قريش لا يجتمع مع قيس بن غيلان.(7/22)
وقوله:" أفرد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش"، وأن العدو لما رهقه، أي غشيه، قال الله سبحانه:{ ولا ترهقني من أمري عسرًا }، أي: لا تغشني. وذكر أن السبعة قاتلوا عنه واحدًا بعد آخر حتى قتلوا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لصاحبيه:« ما أنصفنا أصحابنا »،/ بالنصب يعني بهذا القرشيين، أي لم يدلهما القتال حتى قتلوهم خاصة وقد روى بعض شيوخنا: " ما أنصفنا أصحابنا "، وهذا يرجع إلى من مر عنه وتركه، والله أعلم.
قال الإمام: قد ذكر مسلم في الباب: أبو بكر بن أبي شيبة، نا عبدالعزيز بن أبي حازم. كذا إسناده عند الرازى في بعض الطرق، وكذلك في رواية السجزي، جميعًا عن أبي أحمد. وفي نسخة أبي العلاء بن ماهان في مسلم: نا يحيى بن يحيى التميمي، قال: نا عبد العزيز بن أبي حازم. كذا في نسخة الكسائي، وخرجه أبو مسعود الدمشقي من حديث يحيى بن يحيى، عن عبد العزيز، قال بعضهم: وهو الصواب.
قال القاضي: رواية الطبري مثل رواية الرازي. وذكر في الحديث ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من كسر رباعيته وجرح وجهه. والرباعية، مخففة الياء: السن التي بعد كل ثنية، وهي أربع رباعيات.
فيه ما ابتلى به الأنبياء وأهل الفضل لينالوا جزيل الأجر، ويسهل على أممهم وغيرهم ما أصابهم، ويتأسوا بهم، وليعلم أنهم من البشر يصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ليتحققوا أنهم مخلوقون مربون، ولا يدخل اللبس في المفعول بسبب ما ظهر على أيديهم من العجائب والأيات ما يشكك في بشريتهم، ويلبس الشيطان من أمرهم ما لبس به على النصارى وأشباههم، حتى اعتقدوا في عيسى - عليه السلام -أنه إله. والمجن: الترس. و " يسكب ": يصب. " وشج: جرح. وحمل الماء في المجن يدل أن ترسهم أو ما كان منها مقعدًا، وفيه استعمال السلاح في مصالح المسلمين، وإن كان في غير ما وضعت له. وفيه المداواة وجواز ذلك.(7/23)
وقوله عن بعض الأنبياء أنه قال - حين ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه -:« اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون »، وفي الرواية الأخرى: "ينضح" بكمسر الضاد، أي: ينسل، وجاء في غير "مسلم": " ينضح الدم عن جبينه "، ومعناه هنا: يفور ويسيل، يقال: نضحت العين: فارت. وقد يكون هنا بمعنى: يغسل الدم الذي على جبينه. وقد روي مثل هذا القول عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد. فيه ما كانوا عليه صلوات الله عليهم من الحلم والصبر والشفقة على قومهم وأممهم، وأنهم مع فعلهم بهم وأذاهم لهم دعوا بالغفران، وعذروهم بالجهل وقلة العلم بما أتوه.
وقوله:« اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الله"، كذا ذكر هذا اللفظ مسلم. لم يزد.
قوله:" في سبيل الله " أي وهو يقاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما جاء في حديث آخر:« أشد الناس عذابًا من قتله نبي أو قتل نبيًّا »، فقوله: " في سبيل الله "، تخصيص ممن قتله في حد أو قصاص.(7/24)
قال القاضي: وثبات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة حين طرح عليه كفار قريش سلا الجزور، دليل على طهارة ما يخرج من أجواف الحيوان المأكول اللحم ؛ من فرث ورطوبة. وغيرها، ما خلا الدم ؛ لأن السلا لا ينفك منه. وسلا الجزور هو: اللفافة التي يكون فيها الوليد في / بطن الناقة، وهي الجزور هنا، وكذلك السلا من سائر البهائم وهي المشيمة / من بني آدم. وأشقاها الذي ذكر أنه طرحه عليه " عقبة بن أبي معيط " فسره في الكتاب. وصبره - عليه السلام - حتى نزع منه إما لأنه خشى بحركته بها وقيامه وهي عليه انفتاق ما فيها وتمريث ثيابه، أو لأنه أطال السجود للدعاء عليهم، لا لغرض غيره، فاتفق في طوله مقدار مابلغ الخبر ابتته، وجاءت فأزالته. وقد استدل به بعضهم على أحد القولين عن مالك ؛ فيمن صلى بثوب نجس فتذكر في الصلاة أنه يطرحه عنه وتجزيه صلاته، ومشهور مذهبه القطع، وعبد الملك يقول: يتمادى ويعيد للخلات قى حكم النجاسة. كما رأى مالك فيها الإعادة في الوقت للناسي، ولا حجة له عندي بهذا الحديث ؛ إذا ليس فيه حقيقة نجاسة، وأيضًا فإن من ألقي عليه فإنه ينبغي أن يكون بخلاف من ابتدأ الصلاة وقضى منها جزءًا بالنجاسة ؛ لأنه إذا ألقى عليه ثوب نجر فيطرحه لخبثه كان الأظهر هنا إجزاؤه، ولا يقطع إذا لم يقض ركنًا من صلاته بنجاسته.
وقول ابن مسعود: " لو كانت لي منعة طرحته "، بفتح النون، أي من يمنعنى من أذاهم. وقد كان ممن يؤذى في الله تعالى ؛ لأنه كان عربيًّا فيهم، إنما هو من هذيل.(7/25)
ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم ثلاثًا:« اللهم عليك بأبي جهل »، وسماهم وسمى فيهم الوليد بن عقبة: كذا وقع في جميع نسخ مسلم الواصلة إلينا، وفي أصول جميع شيوخنا. وصوابه:" عتبة " بالتاء، وكذا هو في "صحيح البخاري". وقد نبه عليه مسلم آخر الحديث، أو ابن أبي سفيان، وقال:" الوليد بن أبي عقبة" غلط في هذا الحديث، وقد جاء في بعض الروايات للسجزي:" عتبة " على الصواب، وهو إصلاح لاشك فيه لاعتذار مسلم عنه، أو رواية ابن سفيان لاختلاف الشيوخ في كلامه من هو، وأن مسلمًا إنما سمعه من شيخه عقبة.
والوليد بن عقبة هو ابن أبي معيط، ولم يكن في هذا الحين مولود، أو كان طفلاً صغيرًا. وقد أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح ليمسح على رأسه وهو صبي، وقال بعضهم: قد ناهز الاحتلام.
وقوله:" ونسيت السابع ولم أحفظه "، ذكر أبو بكر البرقاني في "صحيحه" هذا السابع، وسماه عمارة بن الوليد. وكذا ذكره البخاري أيضًا في "الصحيح". اعترض بعضهم ذكر عمارة بن الوليد في هذا الحديث لقوله آخره:" لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر ". وذكر أهل السير أن عمارة المذكور كان عند النجاشي فاتهمه بأمر في حرمة، وكان جميلاً وسيمًا، فنفخ في إجليل سحرًا فهام مع الوحش في بعض جزيرة الحبشة. وهذا عندي لا يعترض به. ويكون قوله: " رأيت الذين سمى صرعى ببدر " يعني أكثرهم ؛ بدليل أن عقبة بن أبي معيط منهم ولم يقتل ببدر، بل حمل منها أسيرًا، وإنما قتله النبي - صلى الله عليه وسلم - صبرًا بعد منصرفه عن بدر وبعرق الطيبة، و" قليب بدر ": بئرها، والقليب: كل بئرلم تطو.
وقوله في حديث ابن أبي شيبة: " وكان يستحث ثلاثًا "، كذا هو بالثاء بثلاث نقط عند العذري، وكان / عند السمرقندي والطبري:" يستحب " بالباء، والأول أظهر، بريد ما جاء في الرواية الأخرى من تكراره الدعاء ثلاثًا. واستحث بمعنى: ألح في الدعاء واستعجل الاجابة، والله أعلم. والأخشبان: جبلا مكة.(7/26)
وقوله: " فلم أستفق إلا بقرن الثعالب "، أي:لم أنتبه حتى أتبت هذا الموضع، لقوله قبل:" فسرت مهمومًا على وجهى ". وقرن الثعالب أو قرن المنازل: وهو ميقات أهل نجد، على يوم وليلة من مكة. وأصله الجبل الصغير ينقطع من الجبل الكبير. وتوله: دميت إصبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض تلك المشاهد فقال:
"هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله مالقيت "
في التمثل بالأرجاز في الحوادث تحدث على عادة العرب، وقد تقدم الاختلاف في الرجز وهل هو شعر ؟ وجه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - له وإنما قاله فيما روى الوليد بن الرليد بن المغيرة في هجرته، وروى أيضًا لزيد بن حارثة في مؤتة. وقد رواه بعضهم:" دميت " و " لقيت " ليذهب وزنه، وذلك لا يغنى من وزنه وزن ثابت.، وقد تقدم الكلام تجبل على أن مثل هذا كان من قوله أو متمثلاً به غير معارض لقوله:{ وما علمناه الشعر وما ينبغي له }.
وقوله في الرواية الأخرى:" كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار فنكبت إصبعه "، قال القاضي أبو الوليد الكناني: لعله غار مصحف من غرو، ولما جاء بعد:" في بعض المشاهد ". ورواية البخاري: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يمشى إذا جاءته حجر.
قال القاضي: قد يراد بالغار هنا الجيش والجمع، لا واحد الغيران التي هي الكهوف، فيوافق قوله: " في بعض المثاهد،.
وقوله: يمشى ولا يعد شيء منه وهمًا، وفي حديث على جمع بين هذين الغارين، أي الجمعين والعسكرين.(7/27)
قال الإمام: ذكر مسلم في حديث جندب بن صفوان في إبطاء جبريل بالوحي: عن إسحاق بن إبراهيم، عن ابن عيينة، عن الأسود، عن جندب. كذا إسناده عند الجلودي والكسائي، وكذا أخرجه الدمشقي من حديث مسلم. وفي نسخة ابن ماهان: نا أبو بكر ابن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعًا، عن ابن عيينة. زاد في الإسناد: نا أبو بكر بن أبي ثيبة قال. وقول المشركين: قد ودع محمد، فانزل الله تعالى:{ والضحى ( والليل إذا سجى ( ما ودعك ربك وما قلى }، إلى آخرها، قال الإمام: قال ابن عباس: { ما ودعك }: ماقطعك منذ أرسلك، { وما قلى }: ما أبغضك. وسمى الوداع وداعًا ؛ لأنه فراق ومتاركة. وفي الحديث:« الحمد لله غير مودع ربي ولا مكفور »، أي: غير تارك طاعة ربي.
قال القاضي: هذه قراءة الجمهور مشددة، وقرأ بعضهم:" ما ودعك "، مخففة. قال أبو عبيدة: من ودعه يدعه، معناه: ماتركك. وأهل النحو ينكرون أن يأتي منه ماض أو مصدر، وإنما جاء منه المستقبل والأمر لا غير عندهم، وكذلك " يذر ". وقد جاء الماضى والمستقبل منهما وفي "مسلم": «لينتهين قوم عن ودعهم الجمعة »، وفي "مسلم" و"البخاري":« من ودعه الناس لشره أو فحشه ». وقال الشاعر:
وكان ما قدموا لأنفسهم أكثر نفعًا من الذي ودعوا
وقال آخر:
............ ما الذي غاله في الود حتى ودعه(7/28)
وإنما قال في النبي - صلى الله عليه وسلم - / هذا المشركرن ومن في قلبه مرض، ألا ترى قول المرأة:" إنى لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك "، وإن صح ماجاء في كتاب التفسير أن قائلة هذا له خديجة:" أحسب أن ربك قلاك "، فإانما يصح ذلك منها قبل إيمانها، وفي حين نظرها قبل في تصحيح نبرته - صلى الله عليه وسلم -، وإلا فلا يصح ذلك منها بعد إيمانها. وقولها: " ولم أره قربك منذ ليلتين" بكسر الراء، إذا كان معدًّا، أقرب بالفتح، فإذا لم يعذ كان بضمها، فقلت: قرب الرجل، وكقولك: قربت منه، إذا عديته بحرف الجر يقرب فيها، فإذا أضفت فعله إلى الماء خاصة فتحتها فقلت: قرب الماء: إذا طلبه ليلاً، يقربه فهو قارب. ولا يقال ذلك لطالبه نهارًا.
وقوله: " ركب النبي - صلى الله عليه وسلم - حمارًا عليه إكاف "، تحته قطيفة فدكية ": كذا هي الرواية الصحيحة، صحفه بعضهم وقال مكان " فدكية "،: "فركبه"، ولا وجه له ؛ لأنه قد ذكر ركوبه أولاً. وفدكية منسوبة إلى فدك. والإكاف بكسر الهمزة مثل الستر لليل.
قوله: " حتى مر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود "، وذكر أنه سلم عليهم. واحتج به بعضهم في جواز السلام على مجلس فيه المسلمون وغيرهم من الكفار، وهذا لاخلاف فيه. وعجاجة الدابة: ما ارتفع من غبار جوافرها.
وقوله: " فخمر عبد الله بن أبي أنفه، أي غطاه، ثم قال:" لاتغبروا علينا " مع ماهر أجفى من هذا في الحديث الآخر.
وتسليم النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم ووقوفه ثم نزوله كما جاء في الحديث. ودعاؤهم إلى الله سبحانه وتلاوته عليهم القرآن كل ذلك استئلافًا لهم، وطمعًا في إسلامهم، وتبليغًا لما أمره الله تعالى به من ذلك. وفيه من الصبر على الأذى والحلم والإغضاء ماكان من خلقه - صلى الله عليه وسلم - وأدب الله تعالى له بقوله:{ واصبر على ما يقولون }، { فاعف عنهم واصفح }.(7/29)
وقول ابن أبي:" لا أحسن من هذا، إن كان ماتقول حقا فلا تؤذنا في مجالسنا فمن جاءك منا فاقصص عليه "، كذا رواية الكافة بالمد، وكان عند القاضي أبي على: " لأحسن من هذا " بالقصر، وهو عندي أوجه وأشبه بصلة قوله: " إن كان حقًّا "، وإلا كيف يشك في قوله " حقًّا "، ويضعفه بأنه لا شيء أحسن منه وإنما مراده، والله أعلم: لأحسن من قصدك لنا رتسورك علينا في مجالسنا، إن كان الذي يأتي به حقًّا ألا تؤذنا وتقعد في رحلك، فمن جاءك أسمعته ماعندك، وهو أليق بمقصد المنافق الشَّاك، والله أعلم. وقد قيل: إن ابن أبي لم يكن حينئذ بعد إلا على شركه، لم يظهر الإسلام بعد، وهو دليل لفظ الحديث ومساقه، ولقوله: " لاتؤذنا به " يعني: القرآن، ولقوله:" في أخلاط من المشركين والمسلمين ".
وقوله:" لما استب حينئذ المشركون والمسلمون "، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم: أي يسكنهم ويسهل الأمر بينهم.
وقول سعد له: " لقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة، كذا ضبطناه " البحيرة " هنا مصغرًا. قال: نا أبو الحسن بن سراج. وقال: " البحيرة "، ورويناه في غير "مسلم": " البحرة "، غير مصغر وكله بمعنى. قال الإمام: البحيرة مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -، / والبحار: القرى، قال الشاعر:
ولنا البدو كله والبحار
أي: والقرى.
وقوله:" يعصمثوه، أي: يسودوه، كانوا يسمون السيد المطاع معصبًا لأنه يعصتب بالتاج، أو يعصتب به أمور الناس، وكان أيضًا يقال له: المعمم. والعمائم: تيجان العرب وهي العصائب.
وقوله: " شرق بذلك "، أي غص به. يقال: شرق بكسر الراء شرقًا، فالشرق الغصص واسم الفاعل شرق، على مثال حذر، قال الشاعر:
لو بغير الماء حَلْقِي شرق كنت كالغصان بالماء اعتصارى(7/30)
قال القاضي: قد يكون هنا " يعصبوه " على وجهه، لاسيما مع قوله: " بالعصابة "، وهذا بيان أنه حقيقة لا مجاز، أي يربطون له عصابة الرياسة والملك، فقد ذكر ابن إسحاق وأصحاب السير في هذا الخبر: لقد جاءنا الله بك وإنا لننظم له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أن سلبته ملكًا. والعمائم تيجان العرب، فإذا انضمت لملوكهم فهي تاجه. وقد قال: " يتوجوه ويعصبوه بالعصابة "، والأرض السبخة: التي لاتنبت لملوحة أرضها، وهي كثيرة الغبار.
وقوله في مقتل أبي جهل: " ضربه ابنا عفراء حتى برد "، كذا رواية الجمهوو، أي: مات. يقال: برد، أي مات. وفي رواية السمرقندي: "حتى برك " بالكاف، والأول المعروف، لايبعد صحة هذا ؛ فإن ابني عفراء تركاه عقيرًا لم يمت بعد، ألا تراه كيف كلم ابن مسعود، وله معه كلام كثير في غير مسلم. وابن مسعود هو الذي اجتز رأسه وأجهز عليه.
وقوله:" وهل فرق رجل قتلتموه "، أي: هل على عار غير قتلكم إياي.
وقوله: " فلو غير اكَّار قتلني "، إشارة إلى الأنصار لعملهم النخيل. وسار: الزراع والفلاح. ووقع مكان الكلام في بعض نسخ مسلم: " فلو غيرك كان قتلني "، وهو تصحيف من الأول، والأول المعروف.
حديث كعب بن الأشرف ذكر مسلم أول حديثه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور الزهري. كذا لجمهورهم،وعند شيخنا القاضي أبي على عن العذري: وعبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال لنا. وهو خطأ، والصواب الأول، وكذا سقط من نسبه محمد، وفي رواية ابن الحذاء وصحح نسبه، كما تقدم أولاً. وكذلك نسبه النسائي وغيره. وجده المسور بن عبد الله بن الأسود بن عرف أخي بعد الرحمن بن عوف.
قال الإمام: إنما قتل كعب بن الأشرف على هذه الصفة ؛ لأنه نقض عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهجاه وسبه، وكان عاهده ألا يعين عليه أحدًا، ثم جاء مع أهل الحرب معينًا عليه. وقد أشكل قتله على هذه الصفة على بعضهم، ولم يعرف هذا، والجواب ما قلناه.(7/31)
قال القاضي: اختلف الناس في تأويل قتل كعب بن الأشرف على وجه مخادعة أصحابه له، فقيل: إنما كان ذلك لأن ابن سلمة لم يصرح له بتأمين في شيء من لفظه، إنما كلمه في أمر بيع وشراء وتشكر، وليس في خبره معه عهد ولا أمان، فيقال: إنه أ نقضه عليه، وإنه غدر. وقيل ما تقدم ؛ لأن من أذى الله ورسوله لا أمان / له، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قتله بوحي، فصار قتله أصلاً في هذا الباب. ولايحل أن يقال: إن كعبًا قتل غدرًا، وقد قال ذلك في مجلس على بن أبي طالب - رضي الله عنه - فأمر به علي فضربت عنقه، وقاله في آخر في مجلس معاوية فأنكر ذلك محمد بن مسلمة وأنكر على معاوية سكوته له، وحلف ألا يظله وأياه ثقف أبدًا، ولايخلو بقائلها إلا قتله، وإنما يكون الغدر بعد العهد والأمان، وهو قد نقض عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يؤمنه الآخرون، لكنه استأمن إليهم وظفروا به بغير أمان. وأما ماترجم البخاري عليه: باب "الفتك في الحرب"، لم فليس بمعنى الغدر. والفتك: القتل على غرة وغفلة، والغيلة نحو منه. وقد استدل بقصة كعب وأشباهها للعلماء على جواز اغتيال من بلغته الدعوة من الكفار وتبينه وانتهازه الفريضة منه دون دعوة، وقد تقدم الكلام على الدعوة قبل القتال والاختلاف فيها. وقول محمد بن مسلمة: "ائذن لي فلأقل، قال: قل، دليل على جواز التعريض للضرورة، وأن المؤاخذة بالنية والمقصد.
وقوله: " عنانًا "، ظاهره أتعبنا، وباطنه صحيح ؛ لأن التعب في مرضاة الله سبحانه والعناء فيه مشروع ماجور عليه، والجهاد والصلاة والصدقة وغير ذلك من أعمال البر، كله من التعب والعناء المحمود، والدعة والتضجيج عن القربات مذموم.(7/32)
وقوله: " يُسبُّ ابن أحدنا فيقال: رهن في وسقين من تمر "، كذا لكافتهم بالسين المهملة من السب، وعند الطبري: " يشب "، بالشين المعجمة من الشباب، والوجه الأول. وقول كعب لامرأته: " إنما هو محمد ورضيعه وأبو نائلة "، كذا في سائر النسخ، قال لنا شيخنا القاضي الشهيد: صوابه:" إنما هو محمد ورضيعه أبو نائلة "، وكذا ذكره أهل السير أن أبا نائلة كان رضيعًا لمحمد بن مسلمة، وفي صحيح البخاري:" ورضيعي أبو نائلة "، وهذا عندي - إن صح -أنه كان رضيعًا لكعب فله وجه، والمعروف ماذكرناه. وقوله: فوعده أن يأتيه بالحارث وأبي عيسى بن جبر، ولم ينسب هنا الحارث، هو الحارث بن أوس ابن أخي سعد بن معاذ.
وذكر مسلم حديث فتح خيبر واجراؤه في زقاقها، وانحسار الإزار عن فخذه حتى رأى أنس بياضها، وإن ركبتيه كانت تمس فخذ النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الإمام: استدل بعض العلماء على أن الفخذ ليس بعورة ؛ إذ لو كانت عورة لم يصح انكشافها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن كان عن قصد فذلك آكد في الدلالة، وإن كان غير قصد فلأنه منزه عن انكشافها. وقد ذكر الراوي إنه رآه.
قال القاضي: وفي تصبيحهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يدعهم، حجة في أن من بلغته الدعوة لايدعى، وفيه أن المستحب في الضرب على العدو أول النهار وصبيحته ؛ لأنه وقت غرتهم وغفلة أكثرهم، ثم ينتشر له النهار وضوءه لما يحتاج إليه. بخلاف ملاقات الجيوش ومناصبة الحصون، فهذا المستحب فيه أن يكون من بعد الزوال ليدوم النشاط ببرد الهراء بخلاف صده.
وقوله:" مكاتلهم "/: أي قففهم وزنابيلهم، واحدها مكتل. و "مرورهم"، قيل: حبالهم التي يصعدون بها النخل واحدها مر ومر، وقيل: مساحيهم واحدها مر لا غير.(7/33)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« خربت خيبر »، قيل: يقال بذلك في لما رآه بأيديهم من آلات الهدم من القوس والمساحي، وقيل: بل من اسمها لما فيه من حروف الخراب، وقد يكون ذلك لما ألقى الله تعالى إليه من علم ذلك ووقوعه.
وقولهم: " محمد والخميس "، أي: الجيش، قد جاء مفسرًا كذا في بعض روايات البخاري:" محمد والجيش "، ورويناه برفع السين على العطف، وبنصبها على المفعول معه، أي مع الجيش. قيل: سمى خميسًا لقسمته على خمسة: ميمنة، وميسرة، وقلب، ومقدمة، وساقة، وقيل: الخميس لقسم الخمس منه، والأول أولى لتسميته بذلك قبل ورود الشرع بالخمس، وإنما كانت تعرف العرب المرباع وهو إخراج الربع للرئيس.
وقوله:«إنا إذا أنزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين »، الساحة: الفناء، وأصلها الفضاء بين المنازل، ويجمع السوح، وهي أيضًا السوحة والسمح والساحة: فيه جواز النزاع بايات القرآن والاستشهاد بها في الأمور الحقيقية، وقد جاء في هذا كثير في الآثار، ويكره عن ذلك ماكان على ضرب الأمثال في المحاورات والأمزاح ولغو الحديث، تعظيما لكتاب الله عز وجل.
وقوله: " أصبناها عنوة "، قال الإمام: ظاهره إنها كلها عنوة، وقد قال ابن شهاب: فما حكى مالك عنه بعضها عنوة، وبعضها صلح. والكتيبة: وهي أرض خيبر نفسها، بعضها أيضًا صلح، قال مالك: وهي فيها أربعون ألف عذق، يريد نخلة، وقد تقدم. العذق بفتح العين: اسم النخلة، وبكسرها: الكباسة. وقد تشكل من هذا ماروى في كتاب أبي داود أنه قسمها نصفين، نصف لنوائبه وحاجته، ونصفًا للمسلمين. وقال بعضهم: كان حولها من الضياع والقرى ما أجلى عنه أهله، فكان خاصًّا للنبى - صلى الله عليه وسلم - وماسواه للغانمين، فكان تقدير ما أجلى عنه أهله النصف ؛ فلهذا قسمها له بعين.
قال القاضي: تقدم الكلام على حديث خيبر ومافيه مستوعبًا في كتاب المساقاة.(7/34)
وقوله:" ألا تسمعنا من هنياتك "، أي: من أراجيزك. والهنة تقع على كل شيء. وفيه جواز سماع الأراجيز والشعر وقول ذلك، إذا لم يكن فيه ماينكر من الهجر وذكر الحرام والهجر من القول كما جاء في الحديث: «الشعر كلام، فحسنه حسن، وتبيحه قبيح ».
وقوله:" فنزل يحدو بالقوم "، فيه جواز الحداء في الأسفار ؛ لأن فيه تحريكا لنفوس الدواب، وتنشيطا لها ولمن معها على قطع الطريق.
وقوله:
« اللهم لولا أنت ما اهتدينا »
كذا الرواية، وصوابه في الوزن: لاهم أو تالله أو والله لولا الله، كما جاء في الحديث الأخر:
والله لولا الله ما اهتدينا ولاتصدقنا ولاصلينا
فاغفر فداءً لك ما اقتفينا وثبت الأقدام إن لاقينا
وألقين سكينة علينا إنا إذا أصيح بنا أتينا
بالتاء باثنتين فوقها، وفي رواية السجزي بالباء بواحدةٍ، وكلاهما صحيح، أي أبينا الفرار، والأخر: أي أتينا أعداءنا وتقدمنا إليهم ولم نهب صياحهم / وجعجعتهم.
وقوله: " إن الملأ قد بغوا علينا "، الملأ: الأشراف مقصور مهموز ومهملة هنا للوزن، قال الله سبحانه وتعالى:{ إن الملأ يأتمرون بك }، أي: الرؤساء والأشراف، ومعنى قوله في الرواية الأخرى:" إن الأولى ".
وقوله:" وبالصياح عولوا علينا، كذا روايتنا في كتاب مسلم بياء باثنتين تحتها، وهو الصحيح. ومعنى " عولوا ": استعانوا، من التعويل على الشيء أو من الأعوال والعويل بالصوت والنداء.
وقوله: " فداء لك ": يقال بالمد والقصر، والفاء مكسورة. حكاه الأصمعي وغيره، فأما في المصدر فالمد لاغير. وحكى الفراء:" فدا " مفتوح مقصور، وروياناه بالرفع: "فداء، على المبتدأ، وخبره، أي نفسى فداء أو فداء نفسي لك، وبالنصب على المصدر، ومعنى " اقتفينا "، أي: اكتسبنا، وأصله الاتباع. قال الخليل: قفوت الرجل: قذفته بريبة، وقال الله سبحانه: { ولا تقف ما ليس لك به علم }، أي لاتتبعه بظنك وتقول فيه بغيرعلم.(7/35)
قال الإمام: وقع في بعض النسخ: " فداء لك "، وفي بعضها:« فاغفر لنا فداك ما ابتغينا »،، وهذه الرواية الثانية سالمة من الاعتراض، وأما " فداء لك "، فإنه لايقال: أفدى الباري تعالى، ولايقال للباري سبحانه: "فديتك "، لأن ذلك إنما يستعمل في مكروه يتوقع حلوله ببعض الأشخاص فيحب شخص آخر أن يحل به ويفديه منه. ولعل هذا وقع من غير قصد إلى حقيقة معناه، كما يقال: قاتله الله، وكما قال - صلى الله عليه وسلم -:« تربت يميك»،«وويل أمه مسعر حرب »، وقد تقدم، أو يكون فيه ضرب من الاستعارة ؛ لأن الفادي لغيره قد بالغ في طلب رضا المفدى حتى بذل نفسه في محابه، فكان المراد في هذا الشعر: أنى أبذل نفسى في رضاك.
وعلى كل حالى، فإن المعنى وإن صرف إلى جهة يصح فيها، فإطلاق اللفظ واستعارته والتجوز به يفتقر إلى شرع. أو يكون المراد بقوله:« فداء لك » رجلاً يخاطبه، وقطع بذلك بين الفعل والمفعول، فكأنه يقول: فاغفر، ثم عاد إلى رجل ينبهه فقال:« فداء لك »، ثم عاد إلى الأول فقال:« ما اقتفينا »، وهذا تأويل يصح معه اللفظ والمعنى، لولا أن فيه تعسفًا اضطر إليه تصحيح الكلام، إن صحت الرواية. وقد يقع في لسان العرب من هذه الفواصل بين الجملة المعلق بعضها ببعض ما يسهل هذا التأويل.
قال القاضي: وقوله: " أصابتنا مخمصة "، أي: ضيق من العيش وعدم الإكساء.
قال الإمام: وأما ما وقع بعد هذا من قوله - صلى الله عليه وسلم -:« على أي شيء توقدون؟» قالوا: على لحم. قال:« أي لحم ؟» قالوا: لحم الحمر الإنسية، فقال - صلى الله عليه وسلم -:« أهريقوها واكسروها »، فقال رجل: أو يهريقونها ويغسلونها، فقال - صلى الله عليه وسلم -:« أوذاك »، فإن في الناس من تأول في ذلك أنهم أخذوها من المغنم قبل القسمة، ومنهم من يقول: أراد استبقاءها للحاجة إليها، ومنهم من يقول: لأنها حرام لحمها.
قال القاضي: تقدم الكلام عليه في النكاح.(7/36)
وقوله: " لحم حمر الأنسية ": كذا ضبطناه بفتح الهمزة والنون هنا عن / بعضهم، وكذا قيده بعض اللغويين منسوبة إلى الإنس. والإنس: الناس. رواه أكثر الشيوخ: الإنسية بكسر الهمزة وسكون النون، منسوبة إلى الإنس، وكلاهما بمعنى صحيح.
وقوله:« لجاهد مجاهد » بكسر الهاء فيهما وضم الميم والدال وتنوينها في الحرفين، كذا لاكثر شيوخنا. وعند ابن أبي جعفر: لجاهد مجاهد بفتح الهاء في الأول، وفتح الميم وكسر الهاء من الثاني، وفتح الدال فيهما. وكذا أيضًا عند بعض رواة البخاري، والأول الصواب ووجه الكلام. وكذا جاء في الحديث الآخر بعده:« مات جاهدًا مجاهدًا »، قال ابن دريد: يقال: رجل جاهد مثل ضارب، اسم فاعل، أي جاد في أمره.
قال القاضي: كرر اللفظين للمبالغة. وقال ابن الأنباري: العرب إذا بالغت في الكلام اشتقت من اللفظ الأول لفظة على غير بنانها وزيادة في التوكيد، ثم أتبعوها إعرابها فقالوا: جاد مجدٌّ، وليل لائل، وشعر شاعر، وقد يكون قوله:" جاهد " أي: جاد مبالغ في سبيل الخير والبر وإعلاء كلمة الإسلام مجاهد عداه.
وقوله:« قل عربي مشى بها مثله »، كذا للرواة بفتح الميم، وللفارس: " مشابها " بضم الميم وتنوين الهاء، وكذا رواه المروزي في "البخاري". قال الأصيلى: وكذا قرأه لنا، ووجه هذه الرواية بعيد، والأول أشبه. والهاء في " بها "، عائدة على الحرب، أي فيها. وقذ وقع في "البخاري"أيضًا: "نشأ بها " أي شب وكبر، يحتمل أن يريد الحرب أيضًا أو بلاد العرب، وهي أوجه الروايات.
قال الإمام: خرَّج مسلم في غزرة خيبر: حدثنا أبو الطاهر، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني عبد الرحمن، قال مسلم: ونسبه غير ابن وهب فقال: ابن عبد الله بن كعب بن مالك أن سلمة بن الأكوع قال:" لما كان يوم خيبر ".(7/37)
قال الإمام: قال بعضهم: كان ابن وهب يهم في إسناد هذا الحديث فيقرل: عن الزهري، عن عبد الرحمن وعبد الله ابنى كعب. فغيره مسلم وأصلحه، ولذلك قال: ونسبه غير ابن وهب. قال: هكذا قال أحمد بن صالح وغيره: عن ابن رهب. وقال الدارقطني: خالف ابن رهب في هذا القاسم بن مبرور،ورواه عن يونس عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبدالله بن كعب، قال: وهو الصواب. وقال بعضهم: وقد نبه أبو داود في كتاب "السنن" على وهم ابن وهب في هذا الإسناد، وكذلك فعل أبو عبد الرحمن النسائي وذكر الصواب في ذلك.
قال القاضي: وفي حفر الخندق وعمل النبي - صلى الله عليه وسلم -، جواز على التحصن والاستخفاء من العدو بما تلر عليه من الخنادق والأسرار وغيرها، وعمل الفضلاء والصالحين فيه ؛ لأن ذلك كله من التعاون على البر وتأسي غيره به من الناس. وجواز الارتجاز في مثل هذا. وهذا الرجز وان كان كثيرًا فليس من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد تقدم قبل أنه من قول عامر، والأخر من قول الأنصار، مع أنه في كثير من الروايات في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير الوزن في بعض الأجزاء.
وفي قول سلمة:" صرخت ثلاث صرخات: ياصباحاه "، جواز قول هذا لإنذار الناس / وإشعارهم بالعدو.
وقوله: فجعلت أرميهم وأقول:
أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع
فيه جواز مثل هذا عند الرمي والطعن وتعريف الإنسان مثله في الحرب، وقد مضى في هذا وفعله السلف، وكذلك الإعلام بعلامة يميز بها في الحرب. وكرهه آخرون في الإعلام لإخفاء أعمال البر. وقد روي من فعل ذلك عن الصحابة - رضي الله عنهم - ما لايخفى.
وقوله:" واليوم يوم الرضع "، قال الإمام: معناه: يوم هلاك اللئام، من قولهم: لئيم راضع. ومعنى " لئيم راضع ": أي رضع اللؤم في ثدي أمه، وقيل: إنه يمتص الدر حتى لايسمع اللبن وقع في الحلاب فيسيل.(7/38)
قال القاضي: وهذا أكثر ماقيل فيه وأظهره، وقيل: لأنه يرتضع طرف الخلالة التي يتخلل بها بعد طعامه، ويمص ما بقى فيها، وقيل: معناه: اليوم يعرف من رضع كريمه فأنجبته أو لئيمة فهجنته، وقيل: اليوم يعلم من أرضعته الحرب من صغره ويظهر.
وقوله: " حديت القوم الماء "، أي منعتهم، ومنه: حمية المريض: منعه أكل ما يضره.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له:«ملكت فاسجح »، أي: أحسم وارفق. والسجاحة: السهولة، أي لا تاخذ بالشدة وتتبعها، فربما كانت العاقبة، والحرب، سجال، وقيل: لعله طمع في إسلامهم فلم يرد استئصالهم.
وقوله في الحديث الآخر: " قدمنا الحديبية ونحن أربع عشرة مائة، وعليها خمسون شاة لا ترويها، فقعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على جَبَا الركية: بفتح الجيم والباء بواحدة مقصور، كذا رواية الكافة، وهو المعروف في الحديث. والجبي ما حول البئر. والركية: البئر، والأشهر فيها الركى بغير هاء، وحكى بعضهم عن الأصمعي: الركية: البئر، وجمعه ركى. وفي رواية العذري: جب الركية، الجب: البئر، ليست ببعيدة العقر، وليس هذا موضعه.
وقوله:" فإما دعى فيها وإما بسق، فجاشت فسقينا واستقينا "، أي: فاضت. وهذا من آياته - صلى الله عليه وسلم - وعظيم معجزاته، وهذا باب منقول منها بالتواتر من تكثير قليل الماء في مواطن عدة.
قال الإمام: وقوله: " فجاشت "، معناه: ارتفعت، يقال: جاش البئر: إذا ارتفع، يجيش جيشانًا، قال الشاعر:
وقوله: " رآنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عزلاً "، قال القاضي: كذا رويناه هنا، وفسره في "الأم": يعني ليس معه سلاح، بفتح العين وكسر الزاي، وفي الحرف الذي بعده كذلك. قال بعضهم: وصوابه: أعزل، ولايقال: عزل. ورويناه في غير "مسلم": " عزل " بضمها، وكذلك ضبطناه على شيخنا أبي الحسن، وكذا قيده بعضهم، وكذا ذكره الهروي.
قال الإمام: كما يقال: ناقة غلظ، وجمل فنق، والجمع أعزال. كما يقال: جنب وأجناب، وماء سدم ومياه أسدام.(7/39)
قال القاضي: هذا نص ماذكره الهروي، وأنشد.....
رأيت الفتية الأعزال مثل الأنيق الرعد
قال: ورجل أعز مثله. والحجفة: الترس.
وقوله:" أبغني حبيبًا، أي: أعطنى بغي طلب. وأبغيته: أتيته ماطلب وأعنته عليه.
وقوله: " ثم إن المشركين راسُّونا الصلح "، كذا رويناه بضم السين مشددة على الخشني عن الطبري، وسمعناه من / أبي بحر من غير طريق العذري بفتح السين، ورويناه من طريق العذري:" راسلونا " بزيادة لام بإسقاطه، صحيح بمعناه. يقال: رسى الحديث يرسه: إذا ابتداه، ورسست بين القوم: أصلحت بينهم.
وقوله:" وكنت تبيعًا لطلحة، أي خديمًا له أتبعه ".
وقوله:" أسقى فرسه وأحسه "، قال الإمام: أي أنفض عنه التراب.
وقوله: " أتيت شجرة فكسحت شوكها "، قال ابن القوطية: كسح الشيء كسحًا: كنسه، وكسح كسحًا: عرج.
وقوله: " فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثًا في يدى " الضغث في اللغة: الحزمة.
وقوله: " فخرجت معه بفرس طلحة أنديه مع الظهر.
قال الإمام: قال أبو عبيد عن الأصمعي: التندية أن يورد الرجل الإبل حتى تشرب فتثمرب قليلاً، ثم يرعاها ساعة ثم يردها إلى الماء. وهو في الإبل والخيل أيضًا. قال الأزهري: وأنكره القتبي وقال: والصراب: لأبَدِّيَه، أي لأخرجه إلى البدو، وقال: ولا تكون التندية إلا للابل. قال الأزهري: أخطا القتبي، والصواب ما قال الأصمعي. وللتندية معنى آخر وهو تضمير الفرس، وإجراؤه حتى يسيل عرفة. ويقال لذلك العرق إذا سأل: الندى.
وقوله:" أردِّيهم بالحجارة ": أي أرمهم بها.
وقوله:" جعلت عليه آرامًا من الحجارة يعرفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيشبه أن يريد بها الأعلام. قال الأعشى:
وبيداء تحسب آرامها رجال إياد بأجلادها
يعني: بأشخاصها. قال: فالآرام: الأعلام. والأرأم بالهمز بعد الراء الظب. قال زهير:
بها العين والآرام يمشين خلفة وأطلاؤها ينهض من كل مجثم
قال القاضي: قال بعضهم: لعله جعلت عليه اثار من الحجارة، أي علامته.(7/40)
قوله:" فلحق أبو قتادة بعبد الرحمن فطعنه "، وذكر قتل عبد الرحمن للأخرم. كذا قال مسلم، وذكر ابن إسحاق أن صاحب هذه القصة حبيب بن عيينة بن حصن، ولم تكن العرب تسمى بعبد الرحمن في الجاهلية.
قال الإمام: وقوله: " لقينا من هذا البرح "، يعني الشدة، وقد تقدم.
وقوله:" يتخللون الشجر "، أي: يدخلون بين خلال الشجر. وخلالها أوساطها، والخلال جمع خلل، مثل جبل وجبال. ومنه:{ ولأوضعوا خلالكم }، يعني: وسطكم.
قوله:" مذقة لبن "، قال القاضي: أي شيء قليل من لبن مشوب بالماء.
قال الإمام: يقال: مذقت اللبن، أي خلطته بالماء. ومذق المودة: لم يخلصها، ومذقها أيضًا: ملها.
وقوله: " شاكي السلاح ": أي تام السلاح، يقال: رجل شائك السلاح، وشاك في السلاح، من الشكة وهي السلاح أجمع، وشوكة الأسنان: شدته، قال الله سبحانه وتعالى:{ غير ذات الشوكة }، أي: غير ذات السلاح التام. قال القاضي: تحقيق هذا: رجل شاك السلاح، ورجل شاك وشاك مخففان وشائك، كله للذى جمع عليه سلاحه. والشكة: السلاح، والشوكة أيضًا، وسلاح شاك.
قال الإمام: وقوله: " بطل مغامر " يثبه أن يكون أراد: يركب غمرات الحرب، وهي شدائدها.
وقول علي - رضي الله عنه -: " أنا الذي سمتني أمي حيدرة "، قيل: إنما تمثل على ابتداء عند مبارزة مرحب هذا ؛ لأنه كان رأى في المنام أن مرحبًا يقتله سبع وكان علي - رضي الله عنه - سمي أول ما ولد أسدًا وسبعًا. وحيدرة: / الأسد، فارتجز بذلك لينبه على المنام ويذكره به خى تضعف منته ويخاف.
وقوله:" أو فيهم بالصاع كيل السندرة "، معناه: أقتلهم قتلاً واسعًا ؛ لأن السندرة مكيال واسع، وقيل: السندرة: العجلة، فيكون معناه على هذا: اقتلهم قتلاً عاجلاً. قال القتبي: ويحتمل أن يكون مكيالاً اتخذ من السندرة، وهي شجرة يعمل منها النبل والقسي.(7/41)
قال القاضي: قال صاحب العين: كيل السندرة: ضرب من الكيل غراف جزاف، وإنما سمي علي - رضي الله عنه - عند ولادته أسدًا باسم جده لأمه أسد بن هاشم بن عبد مناف، سمته أمه فاطمة بنت أسد بذلك على اسم أبيها، فكان أبو طالب غائبًا حينئذ، فلما قدم سماه عليًّا، فهو الذي أراد. وعبر بحيدرة عن أسد، فهو من أسماء الأسد، سمى بذلك لغلظه. والحادر: الغليظ، يريد: أنا السبع في جرأته، والأسد في إقدامة، وبه سمتني أمي.
قال القاضي: وبقي من الغريب في حديث سلمة - مما لم يذكره - قوله: " اخترطت سيفي "، معناه: سللته.
وقوله: " وجاء عمي برجل من العبلات في سبعين من المشركين "، هو بطن من بني عبد شمس، وهم أمية الأصغر وأخواه نوفل وعبد شمس بن عبدمناف من قريش، نسبوا إلى أم لهم من تميم اسمها عبلة بنت عبيد بن البراجم.
وقوله:" على فرس مجفف ": أي عليه تخفاف بكسر التاء، هو شبه الجل.
وقوله: " دعهم يكن لهم بدء الفجور وثناه "، بكسر الثاء ومقصور، أي عودة ثانية، وفي رواية ابن ماهان: " وثنياه " بضم الثاء، وهو بمعنى الأول.
وعفو النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهم وتزلهم لمجيئهم بهم، واللة أعلم ؛ لأنه بعد تمام الصلح، وكان هذا الخبر في الحديبية التي كان فيها الصلح على ماتقدم في الحديث. وإنما فعل هذا سلمة وعمر لما ذكر من قتل المقتول من المسلمين أسفل الوادي، فرأى المسلمون أن الصلح منتقض ولم ينقضه - صلى الله عليه وسلم -، فإما أن يكون لم يحقق أن المشركين قتلوه بعد الصلح، أولم يرتض الصلح بذلك لجهل قاتله فأمضى الصلح.
وقوله:" فنزلنا منزلاً بيننا وبين بني لحيان جبل وهم المشركرن "، هكذا ضبطناه بفتح الهاء وتثديد الميم على بعض شيوخنا، ومعناه: هم النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين أمرهم لئلا يغدروهم ويبيتوهم لقربهم منهم، يقال: همنى الأمر وأهمني، وقيل: همني أذابني، وأهمني: غمني.(7/42)
واستغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن يكون طليعه في الجبل يدل عليه. وضبطه بعضهم: " وهم المشركون "، على الخبر عنهم.
"وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهره "، أي: بإبله التي تحمل أثقاله. والسرح: الإبل والمواشي الراعية وهي السارحة أيضًا، سميت بسرحها للرعي، وهو إرسالها له بالغداوات. والأكمة: ما ارتفع من الأرض دون الجبل.
وقوله:" فأصكه بسهم في نُغض كتفه "، كذا روايتنا عن شيوخنا، وفي بعض النسخ:" إلى كعبه "، والمعنى بالرواية الأولى أشبه، لأنه يمكن أن يصيب بها أعلى آخرة الرجل، فيصيب حينئذ إذا / نفذته كتفه. ومعنى "أصك ": أضرب.
وقوله: " فما زلت أرميهم وأعقر بهم "، ورواه بعضهم: " أزد بهم " بفتح الهمزة، ومعناه: أرميهم. وكذا روايتنا فيه. ورواه بعضهم هنا: "أرميهم " والرادي: الرامي، رديت الحجر: رميته، والمرداة: الحجارة، والأشبه في الأول:" أرميهم "؛ لأنه إنما أخبر عن رميه بالقوس. ومعنى قوله: " وأعقر بهم ": أي أعقر خيل فوارسهم، وكذلك قوله بعد: " فعقر بعبدالرحمن "، أي: قتل فرسه، ويقال: عقر به: إذا عرقت دابته. و "يتضحون "، فسره في الحديث:" يتغدون "، و"يقرون": يضافون. أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوصولهم إلى بلادهم وفوتهم الطلب، وأنهم يقرون هناك، ونطعمهم من في أولهم. وذكر بعضهم أنه يروى:" يقرون " بفتح الياء، أي يضيفون غيرهم، وأن سبب هذه الفعلة الحميدة ترك أتباعهم ورعا بهم، وهذا بعيد جدًّا من مقصد الحديث. والقرن: جبل صغير منفرد منقطع من جبل كبير.
وقوله: " فحليتهم منه ": يريد الماء، كذا روايتا فيه غير مهموز مشدد الام بحاء مهملة، أي: طردتهم عنه، كما فسره في الحديث نفسه: "أجليتهم عنه". وأصله الهمز، فسهل هنا، وجاء مهموزًا بعد هذا في الحديث نفسه. ونغض الكتف: العظم الرقيق على طرفها، سمى بذلك لكثرة تحركه، وهو الناغض أيضًا.(7/43)
وقوله:" وأردوا فرسين "، كذا رواية الكافة فيه بالدال المهملة ورواه بعضهم بالمعجمة، وكلاهما متقارب المعنى. فبالمعجمة معناه: خلفوا، والردى: الضعيف من كل شيء. وبالمهملة فمعناه: أهلكوهما وأتعبوهما حتى أسقطوهما وتركوهما، ومنه: المتردية. وأردت الخيل الفارس: أسقطته. ومذقة اللبن: القليل منه الممزوج بالماء. والمذق ما مزج منه الماء. والسطيحة: إناء من جلود، سطح بعضها على بعض.
وقوله في خبر الذي سابقه:" فطفرت "، أي: قفزت وعدوت وجريت.
وقوله: " فربطت عليه شرفًا أو شرفين أستبقى نفسي" بفتح الفاء، أي حبست عليه قليلا لأروح نفسي، ولايقطع البهر وطول الجري نفسي. والشرف: ما ارتفع من الأرض. والشد: الجري.
وقوله: " يخطر بسيفه "، أي: يرفعه مرة ويضعه أخرى، وقد تقدم معنى قول علي:" أنا الذي سمتني أمي حيدرة ".
وقوله: " وذهب عامر يسفل له "، أي: يضربه من أسفله. ومما في هذا الحديث من الفقه والفوائد - سوى ماتقدم - أربع معجزات للنبى - صلى الله عليه وسلم -:
الأولى: تقدمت في تكثير قليل الماء.
والثانية: في إبراء الأمراض وذوي العاهات بنفسه وريقه، كما ذكر هنا أنه قيل له: علي وهو أرمد، فبصق في عينه فبرئ.
والثالثة: إخباره عن الغيب عن حالة غطفان، وأنهم يقرون حين قال ذلك، فجاء الخبر بذلك.
والرابعة: قوله في علي - رضي الله عنه -: " يفتح الله على يديه "، فكان كما قال فإن لم يكن هذا اللفظ في خبر علي - رضي الله عنه - في "مسلم" فهو في غيره.
وفيه جواز اتخاذ الطلائع كما فعل - صلى الله عليه وسلم -، ومصالحة العدو إذا رأى في ذلك مصلحة المسلمين.
وجواز / المسابقة على الأرجل كما جاء في الحديث، وفي حديث مسابقة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عانشة رضي الله عنها، وماكان عليه سلمة من القوة على المشي والشجاعة وجودة الرمي وفضل الرمي.
وجواز عقر خيل العدو في القتال.
وجواز قول الرامي والطاعن في الحرب: خذها، وأنا ابن فلان.(7/44)
وجواز الأرجاز في الحرب وبين الصفوف،وما كان عليه الصحابة - رضي الله عنهم - من حبهم الشهادة. وجواز الاستقتال في سبيل الله تعالى وطلب الموت والقاء الإنسان نفسه في غمرات الحروب والعدد الكثير من العدو كما فعل الأخرم وسلمة.
وجواز المبارزة، ولاخلاف بين العلماء في جوازها بإذن الإمام، إلا الحسن فإنه شذ ومنعها. واختلف بغير إذن الإمام، ومنع ذلك إسحاق وأحمد والثوري، واختلف فيه عن الأوزاعي، وأجازه مالك والثسافعي. وهذا الحديث حجة لهما إذ لم يذكر فيه أن عليًّا وعامرًا استأذنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في المبارزة.
واختلفوا بعد في معونة المبارز على من برز إليه، فرخص في ذلك أحمد وإسحاق والشافعي، واحتجوا بقصة علي وحمزة وعبيدة يوم بدر. قال الشافعي: إلا أن يقول له: لا يقاتلك غيري، أو لم يقل إلا أنه يعرف أنه قصد واحدًا فهو كالأمن من الجميع، وأكره معونته. وكره معاونة المبارز الأوزاعي بكل حال وان خشوا قتل العدو لصاحبهم ؛ لأن المبارزة إنما تكون هكذا، إلا أن يعين المبارز من العدو وأصحابه، فلا بأس أن يعين المسلمون صاحبهم. وفيه أن ما بقاه المشركون حكمه حكم ماغنم منهم.
وقوله في على - رضي الله عنه -:« بحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله »، من خصائص علي - رضي الله عنه - وكراماته. وفيه من الفقه: أن للإمام الإرضاخ من النافلة والزيادة لمن راه مستحقًا لذلك كما فعل لسلمة.
وقوله: " أعطاني سهمين: سهم الفارس، وسهم الراجل "، أما سهم الراجل فحقه، وأما سهم الفارس فلغنائه ما لا يغنيه فوارس عدة، كما نصه في الخبر. فيحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصه بذلك لذلك ؛ ولأنه استنقذ تلك الغنائم قبل ورود العسكر، ويحتمل أنه أعطاه سهم الفارس من الخمس، والله أعلم.
وفيه أن ما استنقذ من يد العدو من مال المسلمين فصاحبه أحق به، كما استنقذ هؤلاء لقاح النبي - صلى الله عليه وسلم -.(7/45)
وقوله في الذين أرادوا غرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فأخذهم سلمًا "، كذا ضبطناه بسكون اللام، وفي نسخة:" سلمًا " بفتح اللام. وكذا ضبطناه عن هشام بن أحمد الفقيه عن أبي على الغساني، وهو أظهر هنا، أي أسارى. والسلم: الأسير، سمى بذلك لأنه أسلم. والسَّلم والسِّلم، بسكون اللام وكسر السين وفتحها: الصلح، وهو السلام أيضًا.
وقوله: " فاستحياهم "، يدل على صحة الرواية بالفتح في اللام، وأنها أظهر.
وفي حديث أم سليم خروج النساء في الغزو ومباشرتهن القتال. والخنجر، بفتح الخاء: السكين. وبقرت بطنه: شققته.
قال الإمام: أصل التبقر: التوسع / والتفتح، ومنه يقال: بقرت بطنه. وفي الحديث: نهي عن التبقر في الأهل والمال. قال أبو عبيد: يراد به الكثرة والسعة.
قال القاضي: وقول أم سليم:" اقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك"، استحقوا عندها ذلك لتهمتهم قصد ذلك لقرب إسلامهم، ومنهم من لم يكن أسلم بعد، ومعنى:"من بعدنا "، أي: من سوانا ومن درانا. و " الطلقاء ": هم أهل مكة الذين أسلموا بعد الفتح ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عليهم ومال لهم: "أنتم الطلقاء ".
وفي قوله في النساء: " يسقين الماء ويداوين الجرحى " جواز تناول المرأة الفاضلة مثل هذا من الرجال الفضلاء، لاسيما في هذا الموطن الذي لايشغل فيه شيء عما هم فيه، وأن أكثرهن كن متجالات، وأن المداواة قد لايكون فيها لمى ومباشرة.
وقوله:" وأبو طلحة بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - مجوب عليه بحجفة "، قال الإمام: يعني مترسًا يقيه بالحجفة، وهي الترس. والجوب: الترس.
وقوله: " وكان أبو طلحة راميًا شديد النزع "، يعني شديد الرمي بالسهام.(7/46)
قال القاضي: وفيه التترس والتوقي من العدو، وفضل الرمي، وجواز قول الرجل للأخر: بأبي أنت وأمي، وتفديته ؛ لقول أبي طلحة ذلك، ولقول غير واحد ذلك للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكره. وقد كره بعغر العلماء التفدية بالآباء، وقال: لايفدي بمسلم أحدٌ، وإنما فدى هؤلاء بأبيهم لأنهم مشركون، ورويت في ذلك آثار ولم تثبت. وقد فدى أبو بكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبوه مسلم، وفدته عائشة رضي الله عنها في حديث أم زرع في بعض الروايات. وقوله من السلف بعضهم لبعض غير منكر والمراد به التعظيم وغاية البر.
وقوله:" أرى خدم سوقها "، أي خلاخيلهن. والسوق جمع ساق، وواحد الخدم خدمة. وقيل. هي سور كالحلقة تجعل في الرجل.
قال الإمام: وفي حديث سلمان أنه رُئ على حمار وخدمتاه تذبذبان: أراد بخدمتيه: ساقيه، فسميتا بذلك لأنها موضع القدمين، وهي الخلخالين، ويقال: أريد بهما مخرج الرجل من السراويل، ومنه الحديث:" بادية خدامهن "، أي ظاهرة خلاخلهن، ومنه قيل: فرس مخدم إذا كان أبيض الرسغين.(7/47)
قال القاضي: قيل: وفي حاجة الجيوش إلى مثل هذا - مداواة الجرحى وسقي الماء - تكليف ذوي الصناعات الخروج في الجيوش مع المقاتلة، مما جعلهم يضطرون إلى عمله في غزوهم. وأما ظهور خدم سوقهن ورؤية الرجال ذلك منهن، فلعله كان عن غير قصد وتعمد، وللضرورة حينئذ للتشمير واستقاء الماء وحمله، ولايمكن ذلك مع إرخاء الذيل وستر الأرجل، مع الشغل حينئذ بما هم فيه بعضهم عن بعض. وقد قال بعض علمائنا - وهو القاضي أبو عبد الله بن الرابط -: إذا دخل الحرج على النساء في ستر ما أمرنا ستره من المعصم والصدر والساق رفع عنهن للضرورة. وهذا الحديث يشهد له. أو يكون هذا قبل أمرهن بالستر، والحديث كان في يوم أحد، وذلك في أول الإسلام قبل نزول الحجاب، وقبل الأمر بالستر وإرخاء الذيل، والضرب بالخمر على الجيوب، والنهي عن إبداء الزينة، إلا لمن خصه الله سبحانه ممن ذكر في كتابه العزيز في سورة النور. وإنما نزل كثير منها بعد قصة الإفك وفي غزوة المريسيع / بعدها سنة ست على قول ابن إسحاق، أو أربع على قول ابن عقبة، أو خمس على قول الواقدي. وفي حضور النساء أيضًا في معارك الحرب ومظان القتال، إثارة غيرة الرجال، وحمية الأنوف ؛ لصونهن عن النساء.
وفي حديث نجدة وابن عباس ماتقدم الكلام عليه ؛ من منع قتل النساء والصبيان. وفيه أنه لايضرب لهن بسهم، وهو قول كافة العلماء ؛ مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري والليث، خلافًا للأوزاعي في أنه يسهم لهن إذا قاتلن، وأنهن كن يداوين الجرحى.(7/48)
وقوله: " ويحذين من الغنيمة "، قال الإمام: أي يعطين. قال ابن ولاد: الْحُذيا والْحُذيَّا: ما يعطى الرجل من الغنيمة أو من الجائزة، وكذلك الحذوة. قال القاضي: واختلف العلماء في هذا، فقال مالك لايرضخ لهن ولم يبلغني ذلك، وقال الباقون: إنه يرضخ لهن. وذهب بعض العلماء إلى إنما ذلك لقلة غنائهن في القتال، ولو ظهر من امرأة غناء لكان الإسهام لهن صوابا، وقاله ابن حبيب. وذكر في الحديث أنه لايسهم للعبد، وبه قال جمهور العلماء، قالوا: ويرضخ، إلا مالك فلا يرى الإرضاخ، كما قال في النساء، ورواه بعض أصحابه، وذهب الحكم وابن سيرين والحسن وابراهيم إلى أن العبد إن قاتل أسهم له.(7/49)
قال القاضي: وقوله: " وسألت متى ينقضي يُتم اليتيم، فلعمري: إن الرجل لتنبت لحيته، وإنه لضعيف الأخذ لنفسه، ضعيف العطاء منها، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم "، وفي الحديث الآخر: " حتى يبلغ ويؤنس منه رشد "، واختلف الناس في هذا، فذهب مالك وأصحابه وكافة العلماء إلى أن يتم اليتم لا يخرجه مجرد البلوغ ولاعلو السن، حتى يؤنس فه الرشد وضبطه المال، وهو قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمسة وعشرين سنة دفع إليه ماله وان كان غير ضابط له. واختلف عندنا هل من شرط ذلك العدالة في الدين، وهو قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة: إنه لايشترط إلا حسن الحال في ضبط المال دون الرضا في الدين، وهو مشهرر المذهب. ثم اختلفوا إذا كان عليه مغرم، هل بنفس صلاح حاله يخرج من الرلاية وهو أحد قولي الشافعي وأحد القولين عندنا، والثاني مشهور مذهبنا وأحد قولي الشافعي: أنه لايخرج من الحجر إلا الإطلاق لمن حاكم أو وصى، ومالك وجمهور العلماء على جواز الحجر، بل وجوبه على الكبير إذا ثبت سفهه، خلافًا لأبي حنيفة. وقد حكى ابن القصار أن المماله كانها مسألة إجماع على خلاف من الخلفاء والصحابة والتابعين. وقول أهل المدينة وأهل الشام وأثمة الفتوى وعلماء الأمصار سواه.
وقوله: " وكتبت تسألني عن الخمس لمن هو ؟ وإنا نقول: هو لنا، فأبى علينا قومنا ذلك "، تقدم الخلاف في هذا الكلام في سهم ذي القربى ومن هم؟ وإنما كان يسأله عنه بدليل بيانه في الحديث الآخر، وقوله عن ذوي القربى: " من هم ؟ ".(7/50)
وقوله: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقتل الصبيان / فلا تقتل الصبيان، إلا أن تكون تعلم ماعلم الخضر من الصبى الذي قتل "، يريد أن الله سبحانه أعلمه أنه كافر، وقتله إنما يكون بإذن الله تعالى فلا يقاس عليه غيره. وقد قال سبحانه وتعالى حاكيًا عن الخضر:{ وما فعلته عن امري }.
وقوله: " لولا أن يقع في أحموقة ماكتبت إليه "، أي: فعلاً من الخصال الحمقى ورأيا من ارائهم. ومثله في الرواية الأخرى: " عن نتن "، أي: عن فعل قبيح، ويعبر عن كل شيء مستقبح بالخبيث والنتن والرجس والقذر والقاذورة.
وقوله: " ولا نعمة عين "، يريد به: أي لم أجاوبه إكرامًا له، وادخالاً للمسرة عليه، يقال: أنعم الله سبحانه بك عينا، ونعم بك عينا، بفتح العين وكسرها، ثلاث لغات. وحكى: نعمك الله عينا كله، أي أقر الله عينك بما يسرك. ويقال: نعمة عين، ونعمة عين، ونعم عين، ونعم عين، ونعامى عين، ونعيم عين، ونعام عين، ونعام عين.
ومعنى قوله:" إذا حضروا الباس "، أي: الحرب، قال الله سبحانه وتعالى:{ وسرابيل تقيكم بأسكم }. وأصل الباس والباساء: الشدة.
قال الإمام:خرَّج مسلم في عدد غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا يحمى بن آدم، نا زهير عن أبي إسحاق. قال بعضهم: هكذا روى هذا الإسناد عن الكسائى على الصواب. وفي نسخة السجزي والرازي عن أبي أحمد: نا يحيى بن آدم، قال: نا وهيب. وكذلك كان في نسخة ابن ماهان فغيره. قال عبد الغني: الصواب: زهير، وأما وهيب فخطأ ؛ لأن وهيب لم يلق أبا إسحاق.
قال القاضي: وقول جابر:" لم أشهد بدرًا ولا أحدًا منعني أبي "، كذا في هذا الحديث. وقد ذكر أبو عبيد في حديثه عن جابر: كنت منيح أصحابي يوم بدر. قال ابن عبد البر:والصحيح أنه لم يشهد ذلك للحديث المتقدم. وقد ذكر ابن الكلبي أنه شهد أحدًا.(7/51)
وقوله:" فنقبت أقدامنا ": أي قرحت من الحفى. وبقية الكلام في الحديث يبينه من قوله: " وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع لذلك "، قد قيل: إنها سميت بذلك باسم جبل هناك، كان فيه بياض وسواد وحمرة. وقيل: بل باسم شجرة هناك. وقيل: بل كان في ألويتهم رقاع. وكراهة أبي موسى لذكر هذا بعد، وأن يفشى شيئًا من عمله: فيه أن ما أصاب في ذات الله في نفس أو مال أن كتمه أولى وأعظم للأجر ؛ لئلا يلحق بالتشكى، أو بالعجب بالعمل والتزين به، فتدخل فيه هذه الآفات، فخشي حط الأجر لذلك.
وقوله: "فلما كان بحرة الوبرة "، كذا هو بفتح الباء هنا عندنا، وكذا ضبطناه عن شيرخنا في كتاب مسلم. وقد ضبطه بعضهم بسكون الباء. وهو موضع على نحو أربعة أميال من المدينة.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للذى قال له: جئت لأتبعك وأصيب معك:« ارجع فلن أستعين بمشرك »، كافة العلماء على الأخذ بهذا الحديث، والتمسك بهذه السنة، وهو قول مالك وغيره. / وقال مالك وأصحابه: ولا بأس أن يكونوا نواتية وخدَّامًا. قال ابن حبيب: ويستعملون في رمي المجانيق. وكره رميهم بالمجانيق غيره من أصحابنا، وأجاز ابن حبيب أن يتعمل من سالمه في قتال من حاربه منهم، ويكونوا ناحية من عسكره لا في داخله. وقال بعض علمائنا: إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا في وقت مخصوص لاعلى العموم. واختلفوا بعد إذا استعين بهم مايكون لهم ؟ فذهب الكافة ؛ مالك والشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور إلى أنه لايسهم لهم. وذهب الزهري والأوزاعي إلى أن لهم كسهام المسلمين. وهو قول سحنون، إذا كان جثر المسلمين إنما قوى بهم، وإلا فلا شيء لهم. وقال الشافعي مرة: لا يعطوا من الفيء شيئًا، ويعطوا من سهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال قتادة: لهم ما صولحوا عليه في ذلك.
كتاب الإمارة(7/52)
قوله:« الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم لمسلمهم، وكافرهم لكافرهم »، زاد في الرواية الأخرى: " تبع لقريش في الخير والشر "، وقوله: « لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان »، وفي "البخاري":« ما بقي منهم اثنان »، هذه الأحاديث وما في معناها في هذا الباب حجة أن الخلافة لقريش، وهو مذهب كافة المسلمين وجماعتهم. وبهذا احتج أبو بكر وعمر على الأنصار يوم السقيفة، فلم يدفعه أحد عنه. وقد عدها الناس في مسائل الإجماع ؛ إذ لم يؤثر عن أحد من السلف فيها خلاف، قواًأ ولا عملاً قرنا بعد قرن إلا ذلك، وانكار ما عداه. ولا اعتبار بقول النظام ومن وافقه من الخوارج وأهل البدع: إنها تصح في غير قريش. ولا بسخافة ضرار بن عمرو في قوله: إن غير القرشي من النبط وغيرهم يقذم على القرشي، هو أن خلعه إذا وجب ذلك ؛ إذ ليست له عشيرة تمنعه، وهذا كله هزؤ من القول ومخالفة لما عليه السلف وجماعة المسلمين.
ومعنى قوله:« الناس تبع لقريش، مسلمهم لمسلمهم، وكافرهم لكافرهم »، إشارة لقوله في الرواية الأخرى:« في الخير والشر »؛ لأنهم كانوا في الجاهلية رؤساء العرب وأصحاب حرم الله وحج البيت، وكانت الجاهلية تنتظر إسلامهم واتباعهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلما أسلموا وفتحت مكة اتبعهم الناس، وجاءت وفود العرب من كل جهة. كذلك حكمهم في الإسلام في تقديمهم للخلافة، فنبه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كما كان كفار الناس تبعا لقريش في الجاهلية في الخير والشر، كذلك يجب أن يتبع مسلمهم لمسلمهم، فيكون المقدم عليهم. وقد أشعر - صلى الله عليه وسلم - أن هذا هو الحكم والحال، ما بقيت الدنيا وبقي من الناس أو من قريش اثنان. وقد ظهر ما قاله - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: هذا مثل قول العرب: دعوه وقومه وإن قتلوه كفيتموه، وإن ظهر عليهم كنتم ورأيكم. وقيل: لعل هذا في أمر الجور، والأئمة المضلين.(7/53)
وقد استدلت بهذه الأحاديث الشافعية وبما قارب معناها على إمامته وتقديمه على غيره، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الأئمة من قريش "، وقوله: " قدموا قريشًا ولا تقدموها، وتعلموا منها ولا تعلموها، وهذا لا حجة فيه لهم ؛ إذ المراد بالأئمة هنا الخلفاء، وكذلك بالتقديم، ولتقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - سالِمًا - مولى أبي حذيفة - يؤم في مسجد قباء وفيهم أبو بكر وعمر، وتقديمه زيدًا وابنه أسامة ومعاذًا وغير واحد وقريش موجودون.
وأما الحديث الآخر في التعليم فليس بصحيح لفظًا ولا معنى ؛ لإجماع العلماء على التعليم من غير قريش ومن الموالى، وتعليم قريش منهم، وتعليم الشافعي من مالك وابن عيينة، ومحمد بن الحسن، وابن أبي يحيى، ومسلم بن خالد الزنجى، وغيرهم ممن ليس بقرشي.
وقوله:« إن هذا الأمر لا ينقضي، حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش »، وفي الرواية الأخرى:« لا يزال الدين قائمًا حتى تقوم الساعة، ويكون عليكم اثنا عشر خليفة »، وفي الرواية الأخرى:« لا يزال هذا الدين عزيزًا منيعًا إلى اثنى عشر خليفة »، أعلم - عليه السلام - بعزة الدين والأمر حتى يلي اثنا عشر خليفة، وأن الدين لا يزال قائمًا حتى تقوم الساعة، ويلي هذا العدد المذكور، فأما بقاء الدين إلى قيام الساعة فثابت صحيح من أحاديث أخر أيضًا، وقد تقدم الكلام عليه وعلى ما تظهر مخالفته له. مما جاء:« لا تقوم الساعة حتى لا يبقى من يقول: الله، الله »، وأن هذا حال من تقوم عليه الساعة عند قيامها، وقبض أرواح المزمنين، وهذه الأحاديث الأخر بتمادى الإسلام إلى ذلك الحين.
وأما تخصيصه بالاثنى عشر خليفة، فقد يوجه عليه سؤالان ؛ لأن: أحدهما: أن قوله:« الخلافة بعدى ثلاثون ثم تكون ملكًا »، يعارض ظاهره، وقوله:« اثنا عشر خليفة »؛ إذ لم يكن في الثلاثين إلا الخلفاء الأربعة، والأشهر التي بويع فيها الحسن بن علي.(7/54)
والجواب عن هذا: أنه أراد هنا خلافة النبوة، وكذا جاء مفسرًا في بعض الروايات: «خلافة النبوة بعدى ثلاثون ثم تكون ملكًا ملكًا »، ولم يشترط في الآخر خلافة النبوة، وبينه قوله:« ثم تكون ملكًا ».
والسؤال الثاني: أنه قد ولي أكثر من هذا العدد ؟
وهذا اعتراض غير لازم فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: لا يلي إلا اثنا عشر خليفة، وإنما قال:« يلي اثنا عشر خليفة »، فقد ولي هذا العدد، وكان ما أعلم به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ولي غيرهم. هذا إن جعل اللفظ واقعًا على كل وال، وقد يحتمل أن يكون المراد به: مستحقي الخلافة من أنمة العدل، وقد مضى منهم من علم، ولابد من تمام العدد قبل قيام الساعة إن كان هذا مراد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل:إنهم يكونون في زمن واحد يفترق الناس عليهم.
ولا يبعد أن هذا قد كان إذا تتبعت التواريخ. فقد كان بالأندلس منهم وحدها في عصر واحد بعد أربعمائة وثلاثين سنة: ثلاثة، كلهم يدعيها ويلقب بها، ومعهم صاحب مصر كذلك، وخليفة الجماعة العباسي ببغداد إلى من كان يدعى ذلك في ذلك الوقت أيضًا في أقطار الأرض من بلاد البرابر وخراسان من العلوية والخوارج وغيرهم. ويعضد هذا التأويل قوله في كتاب مسلم بعد هذا:« ستكون خلفاء فتكثر »، قالوا: فما تأمرنا ؟ قال:« فوا بيعة الأول فالأول ». وقد يحتمل أن المراد بذلك إعزاز الخليفة وإمارة الإسلام، واستقامة أمرها، والاجتماع على من تقدم لها، كما جاء في كتاب أبي داود:« كلهم تجتمع عليه الأمة »، وهذا قول قد وجد فيمن اجتمع عليه إلى أن اضطرب أمر بني أمية، واختلفوا وتقاتلوا زمن يزيد بن الوليد على الوليد بن يزيد، واتصلت فتونهم، وخرج عليهم بنو العباس فاستأصلوا أمرهم، وهذا العدد موجود صحيح إلى حين خلافتهم إذا اعتبر. وقد يحتمل وجوهًا أخر، الله أعلم بمراد نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيها.(7/55)
ومعنى "صمنيها الناس "، كذا لكافة شيوخنا، وعند بعضهم:"أصمنيها الناس "، أو لم أسمعها من لفظهم، وقيل: الوجه " أصمني عنها "، وأما الرواية الأولى فمعناها: سكتوني عن السؤال عنها، والنبى - صلى الله عليه وسلم - يخطب. والصواب: المعنى الأول، وهو أشبه بمساق الحديث.
وقوله:« إذا أعطى الله أحدكم خيرًا فليبدأ بنفسه وأهل بيته »، مثل قوله في الأحاديث الأخر:« وابدأ بمن تعول »، وكقوله:« وأدناك ثم أدناك »، وكقوله:« إذا أنعم الله على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه ».
وقوله:« أنا الفرط على الحوض »، بفتح الراء، تقدم معناه، وتفسيره: السابق لكم إليه والمنتظر لسقيكم منه. والفرط: الذي يتقدم القوم إلى الماء ليهيئ لهم ما يحتاجون إليه فيه. وهو الفارط أيضًا. وأصله من السبق. والفرط بالسكون: السبق والتقدم. وقوله في حديث محمد بن رافع: عن عامر بن سعد بن أبي وقاص: أنه أرسل إلى ابن سمرة العدوى. كذا في الأصل، وليس بعدوي، إنما هو عامري ثم سوائيٌ. فلعله تصحف العامري بالعدوي ؛ لأن سواة بن عامر بن صعصعة هو زهري الحلف، خاله سعد بن أبي وقاص، وأمه خالدة بنت أبي وقاص، واسمه: جابر.
وقول عمر حين أثنى عليه: راغب وراهب، أي: راج وخائف. يقال: رغب في الأمر: إذا طلبه، ورغب عنه: إذا كرهه، هو من الأضداد، ورهبه: إذا خاف منه، وهذا أولى عندي بمعنى الحديث من قول من جعله في باب الاستخلاف، وأن له معنيين ؛ أي أن الناس فيها على صنفين: راغب فيها فلا يجب تقديمه، وكاره لها يخشى عجزه، وقيل: راغب في حسن رأيي وتقديمى، وكاره لذلك راهب بإظهار ما بنفسه منه، والأول أشبه بمجيئه به بعد أن أثنوا عليه، وذكر الاستخلاف إنما كان بعد هذا الكلام.(7/56)
وقوله لما قيل له: استخلف:" إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني - يريد أبا بكر - وان أترككم فقد ترككم من هو خير مني - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -، فيه أن الاستخلاف غير لازم ؛ إذ لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيه جواز انعقاد الخلافة بالوجهين بالتقديم والعقد من المتولي كفعل أبي بكر لعمر، أو بعقد أهل الحل والعقد والاختيار كفعل الصحابة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مما أجمع المسلمون عليه.
وفيه أنه لابد من إمامة خليفة، وهذا أيضًا مما أجمع المسلمون عليه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - / وفي سائر الاعصار، خلافًا للأمم، حتى ذهب بعض الناس إلى أن ذلك واجب عقلاً ؛ إذ صلاح الناس في رجوع أمرهم إلى واحد يقيم أمورهم، وأن في تركهم فوضى مختلفي الأراء فساد دينهم ودنياهم ؛ لاختلاف الأراء وتضاد المقاصد، وهذا خطأ إذ لا يوجب العقل شيئًا ولا يحسنه ولا يقبحه إلا بحكم العادة لا بالأمر القطعي. ولا حجة للأمم في بقاء الصحابة دون خليفة مدة التشاور في يوم السقيفة وأيام الشورى بعد موت عمر ؛ إذ عمر ؛ إذ لم يتركرها كرها،.وإنما كانوا في النظر في تعيين الخلافة، إقامتها تلك المدة.(7/57)
وفيه حجة بينة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينص على خلافة أبي بكر، ولا على على، ولا على العباس، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وأن عقد ولاية أبي بكر - رضي الله عنه - بالاخنيار والإجماع لا بالنص، خلافًا لقرل بكر بن أخت عبدالواحد ؛ من أن تقديم أبي بكر بالنص من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتنبيه عليه، ولابن الراوندي في دعواه النص على القياس، ولجماعة الشيعة والرافضة في دعواهم النص والوصية لعلي. وإجماع الصحابة على الاختيار بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى تنفيذ عهد أبي بكر لعمر، وتنفيذ شورى عمر في الستة، يرد هذا كله ؛ إذ لو كان ما قالوه صحيحًا لم يخالفه الصحابة، ولا أقرت على ما فعله فاعله بوجه، ولكن نقل ذلك من الأمور المهمة التي لا تغفل.
وقوله: " لم يستخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، ليس بمنع الاستخلاف، ولا حجة لذلك، وإنما احتج أنه لم يعين للخلافة أحد ؛ لأنه لم ير الاستخلاف.
وقول ابن عمر: " فآليت أن أقولها "، أي: حلفت.
وقوله في الإمارة: " إن أعطيتها عن مسألة أكلت إليها "، كذا في النسخ مهموز، وصوابه: " وكلت، بغير همز، أي أسلمت إلى مسألتك ورغبتك ولم تعن، بخلاف إذا جاءت من غير مسألة، كذا جاء بقية الحديث. والوكيل: الضامن للشيء والقائم به.
وقوله:« إنا لا نولي هذا الأمر أحدًا سأله ولا حرص عليه "، لما تقدم من أنه لا يعان عليهما ؛ ولأن في الحرص على الشيء التعاطي للقيام به، وذلك في الغالب مقرون بالخذلان، ولما يقع من تهمة الطالب للولاية في ذلك. وقد اختلف العلماء في طلب الولاية مجردًا، هل يجوز أو يمنع ؟ وأما إن كان لرزق يرتزقه، أو فائد جائز يستحقه بسببها، أو لتضييع القائم بها، أو خوفه حصولها في غير مستوجبها، ونيته في إقامة الحق فيها فذلك جائز له، وقد قال يوسف - عليه السلام -:{ اجعلني على خزائن الأرض }.(7/58)
وقول معاذ في المرتد:" لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله ". فقتل، ولم يذكر استتابته. اختلف الناس في استتابة المرتد، فجمهور السلف وأئمة الفقهاء الفتوى وفقهاء الأمصار على استتابته. وحكى ابن القصار: أنه إجماع من الصحابة، وعن الحسن وطاووس وبعض السلف: أنه لا يستتاب، حكي عن عبد العزيز بن أبي سلمة، وهو قول أهل الظاهر. وحكاه الطحاوي عن أبي يوسف، قالوا: وتنفعه توبته عند الله، ولكن لا ندر عنه القتل ؟ لقوله - صلى الله عليه وسلم -:« من بدل دينه فاقتلوه »، وفرق عطاء بين من ولد مسلمًا وبين من أسلم ثم كفر، فاستتاب هذا ولم يستتب الأول.
واختلف من قال باستتابته في مدة الاستتابة، وهل يضرب له أجل ؟ فقال أحمد وإسحاق: ثلاثة أيام، واستحسنه مالك وأبو حنيفة، وقاله الشافعي مرة، وحكى ابن القصار عن مالك فيه قولين: الوجوب والاستحباب. وقال الزهري: يدعى إلى الإسلام ثلاث مرات فإن أبي قتل، وقال الشافعي: مرة، والمزني: يقتل مكانه إن لم يتب. وروى عن علي: أنه يستتاب شهرًا. وقال النخعى: يستتاب أبدًا، وقاله الثوري. وعن أبي حنيفة أيضًا: يستتاب ثلاث مرات أو ثلاث جمع أو ثلاثة أيام، مرة في كل يوم أو جمعة، وأن الرجل والمرأة سواء، والحر والعبد عند الجمهور، وفرق أبو حنيفة في آخرين بين الرجل في ذلك والمرأة، فقالوا: تسجن المرأة ولا تقتل. وشذ قتادة والحسن فقال: لا تسترق ولا تقتل، وروى مثله عن علي. وخالف أصحاب الرأي في الأمة فقالوا: تدفع إلى سيدها ويجبرها على الإسلام.
وقتله بالسيف عن كافة العلماء. وذهب ابن شريح من أصحاب الشافعي إلى أنه يقتل بالخشب ضربًا ؛ لأنه أبطأ لقتله، لعله يراجع التوبة أثناء ذلك.(7/59)
وفيه الحجة أن لأئمة الأمصار إقامة الحدود في القتل وغير ذلك، وهو مذهب كافة العلماء ؛ مالك وأبو حنيفة والشافعي وغيرهم. واخنلف أصحاب مالك وغيرهم في إقامة ولاة المياه وأشباههم لذلك، فرأى أشهب: أن ذلك لهم إذا جعل ذلك لهم الإمام. وقال ابن القاسم نحوه،وقال الكوفيون: لا يقيمه إلا أمراء الأمصار، ولا يقيمه عامل السواد. وقال الشافعي:إذا كان عدلاً والى الصدقة فله عقوبة من ولى صدتته، وليس ذلك لغير العدل.
واختلف هل ذلك للقضاة إذا كانت ولايتهم مطلقة غير مقيدة على نوع من الأحكام ؟ قجمهور العلماء أن للقضاة إقامة الحدود والنظر في جميع الأشياء ؛ من إقامة الحقوق، وتنيير المناكر، والنظر في المصالح قام بذلك قائم أو اختص بحق الله، وحكمه عندهم حكم الرحى المطلق اليد في كل شيء، إلا ما يختص بضبطه البيضة، من إعداد الجيوش، وجباية الخراج واختلف أصحاب الشافعي، هل من نظره مال الصدقات وللتقديم للجمع والأعياد أم لا، إذا لم يكن على هذا ولاة من السلطنة مخصوصون ؛ على قولين. ولا يخنلفون إذا كانت هذه مختصة بولاية من قبل السلطنة أنه لا نظر له فيها. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا نظر له في إقامة حد، ولا في مصلحة ولا لطالب مخاصم، ولا تنطلق يده إلا على ما أذن له فيه، وحكمه عنده حكم الوكيل.(7/60)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الإمارة:« يا أبا ذر ! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزى وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها »، وقوله: « إنى أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم»، تشديد في الحض على البعد من هذا، لاسيما لمن يخيل فيه الضعف عن القيام / بها. وواضح المعين في أن الخزي والندامة إنما هو لمن لم يعدل فيها ولا قام بما يجب عليه، فيفضحه الله ويخزيه يوم القيامة، ويندم على ما فرط منه، وإلا فقد جاء في الإمام العادل من الفضل والثواب ما جاء، لكن لكثرة الحظر في أمرها وشدة العهدة، وعظم الأمانة فيها ما رغبه عنها، وزهده فيها، وحضه على تركها ؛ لما خافه عليه من الضعف عنها حتى قرر عنده بمحض نصحه له في ذلك، وأنه إنما يحب له ما يحب لنفسه من الخير ودفع الضرر.
قال الإمام: وذكر مسلم في سند هذا الحديث:نا عبد الملك بن شعيب بن الليث، قال: نا أبي، نا الليث، قال: نا يزيد بن أبي حبيب، عن بكر بن عمرو، عن الحارث بن يزيد. هكذا روى هذا الإسناد عن أبي أحمد الجلودي، ووقع عند ابن ماهان: حدثني بزيد بن أبي حبيب وبكر بن عمرو، بواو العطف، والصواب: عن بكر بن عمرو، كما تقدم. قاله عبد الغني. وخرَّج في الباب أيضًا: نا زهير وإسحاق، كلاهما عن المقرئ، قال زهير: نا عبد الله بن يزيد، نا سعيد بن أبي أيوب، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن سالم بن أبي سالم، عن أبيه، عن أبي ذر. وقال الدارقطني في كتاب "العلل"، وذكر الحديث: اختلف فيه على جمبيد الله بن أبي جعفر، فرواه سعيد بن أبي أيوب، كما تقدم، وخالفه عبد الله بن لهيعة، فرواه عن عبيد بن أبي جعفر، عن مسلم بن أبي مريم، عن أبي سالم الجيشاني، عن أبي ذر، والله أعلم بالصواب. قال: ولم يحكم الدارقطني فيه بشيء. وأبو سالم: هو سفيان بن هانئ الجيشاني، يروى عن على وأبي ذر.(7/61)
وقوله: " المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين " الحديث، قال القاضي: المقسطون: العادلون، وقد فسره آخر الحديث بقوله:« الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا »، فدل هذا الفضل لكل من عدل فيما تقلده من خلافة، وإمارة، أو ولاية يتيم، أو صدقة، أو غير ذلك. أو فيما يلزمه من حقوق اهله، أو من يقوم به. والأقساط والقسط: العدل، قال الله تعالى:{ قائمًا بالقسط }. يقال: أقسط: إذا عدل، وشط: إذا جار، قال الله تعالى:{ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا }، وقال:{ وأقسطوا إن الله يحب المقسطين }.
قوله:« على منابر من نور »، أصل تسمية المنبر لارتفاعه، فيحتمل أن يكون " منابر" كما ذكر على وجهها، أو منازل رفيعة وأماكن علية، كما جاء في الحديث الآخر:« يجىء يوم القيامة على تل»، وفي آخر:«على كوم ».
وقوله:« عن يمين الرحمن »، معناه: في الحالة الحسنة والمنزلة الرفيعة. قال ابن عرفة: يقال: أتاه عن يمينه: إذا أتاه من الجهة المحمودة، والعرب تنسب الفعل المحمود والإحسان إلى اليمين، وضده اليسار. قالوا: واليمين من اليُمن وتسمى اليمين، وتسمى الشمال الشؤمى من الشؤم، ومنه أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة. وقال المفسرون في قوله:{ وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين }، أي: أصحاب المنزلة الرفيعة، { وأصحاب الشمال }، أي: أصحاب المنزلة الخسيسة /، وقيل: يسلك بهم يمينًا إلى الجنة، وقيل: لأن الجنة عن يمين الناس، وقيل: سموا بذلك ؛ لأنهم أخذوا بذلك كتبهم بأيمانهم، وقيل: لأنهم ميامين على أنفسهم. وبضد هذا كله أصحاب الشمال وأصحاب المشامة. وقيل: سموا أصحاب اليمين، لأن الله تعالى أودعهم أول الخلق جانب آدم اليمين، وضده أصحاب الشمال.(7/62)
وفي قوله:« وكلتا يديه يمين »، تنبيه أنه لم يرد بيمين الرحمن ولا بيده هنا الجارحة، تعالى الله عنها ؛ إذ لو كان المراد الجارحة لكان لها مقابلة الشمال، ويكون فيهما تحديد لله تعالى وتقدير جهات له، عز وجل عن ذلك، وذلك إنما يصح في الأجسام والمتحيزات والمغلرات.
وقول عائشة: كيف كان صاحبكم في غزاتكم ؟ قال: ما نقمنا عليه شيئًا، قال الإمام: أي ما كرهنا، أو ما في معناه.
قال القاضي: يقال في هذا: نقم ينقم، ونقم ينقم إذا أنكر وكره، وقرئ بهما جميعًا:{ وما نقموا }، و { وما ينقموا }، وأما من الانتقام فبفتح الماضى.
وقولها: " أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر - أخي - أن أحدثك الحديث "، تعنى: قتله له. فيه أن قول الحق وذكر فضك ذى الفضل مرغب فيه مع العدو والصديق، وكان هذا الأمير المذكور على يديه جريء مثل محمد بن أبي بكر بمصر، وأنه كان صاحب الجيش المتحرك إلى محمد بمصر في فتنة معاوية، وهو كان أمير هذه الغزاة التي ذكرت فيها عائشة ما ذكرت في كتاب مسلم.
واختلف أهل التاريخ فيمن كان من الأمراء صاحب الجيش لحرب محمد بمصر، فقيل: عمرو بن العامر، فيما قاله خليفة بن خياط، وقيل: معاوية بن خديج التجيبي، فيما قاله الهمذاني، قال: وكان سيد تجيب ورأس اليمانية بمصر، وهو الذي عنت عائشة بقولها هذا فيه في هذا الحديث.
واختلف في صفة قتل محمد بن أبي بكر، فقيل: قتل في المعركة، وقيل: جيء به أسيرًا فقتل، وقيل: دخل بعد الهزيمة في حربه فوجد حمارًا ميتًا فدخل في جوفه فأحرق فيه. وقوله:« اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه »، وذكر في الرفق بهم مثله، فيه الحض على الرفق والنهى عن المشقة، وهو الذي أمر الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم - ووصفه به، وحض عليه - صلى الله عليه وسلم - في غير حديث، وأثنى عليه، وأنه يثيب على الرفق ما لا يثيب على المشقة. والمشقة: المضرة، والجهد ومثله.(7/63)
قوله في الحديث الآخر:« شر الرعاء الحطمة »، قال الإمام: يعني الذي يكون عنيفًا برعيه الإبل يحطمها، يلقي بعضها على بعض، ويقال أيضًا: حطم بلا هاء، ومنه قول الحجاج في خطبته:
قد لفها الليل بسواق حطم
وقوله: " ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الحديث، قال القاضي: الراعي: هو الحافظ المؤتمن، وأصله: النظر. رعيت فلانًا: نظرت إليه، ومنه: رعيت النجوم، ومنه قولهم: راعنا، أي حافظنا، وقيل: استمع منا، وأرعني سمعك: استمع إلي، وقال الله تعالى:{ لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا }. وهذا يصحح أن أصل الكلمة النظر، كما ذكرنا.
فيه أن كل من تولى من أمر أحد شيئًا فهو مطالب بالعدل فيه، وأداء الحق الواجب، والقيام بمصلحة ما تولاه ؛ كالرجل في أهل بيته، والمرأة فيما تتولاه من بيتها ومال زوجها وولده، والعبد فيما يتولاه ويتصرف فيه من مال سيده./ وفيه حجة أنه لا قطع على العبد في مال سيده، ولا على المرأة في مال زوجها، إلا ما حجبه عنها، ولم يجعل لها فيه تصرفا، خلافًا لأبي حنيفة، وأحد قولى الشافعي: أنه لا قطع على أحد الزوجين فيما سرق من مال الآخر كيف كان. وفيه حجة على جواز إقامة السيد الحد على عبده.
وقوله:« ما من عبد يسترعيه الله رعية فيموت وهو غاش لها، إلا حرم الله عليه الجنة »، وفي الحديث الآخر:« لا يجتهد لهم وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة » يفسر أحد الحديثين الآخر في وجوب نصحها، والنظر لها، والعدل فيها، وأنه لا يدخل معهم الجنة عند دخولهم إن عاقبه الله، بل يحبسه دونها ويحرمها عليه مدة معاقبته إياه في جهنم أو البرزخ، أو طول المحاسبة بما الله أعلم بمدته، إلى أن يرحمه وينقضى أمد ما أراد من عقابه.(7/64)
وفي قوله:« يموت يوم يموت وهو غاش لها »، دليل أن التوبة قبل الموت مكفرة السيئات، وأن الأعمال بخواتيمها. وقول معقل لعبيد الله بن زياد في هذا الحديث:" لو علمت أن لي حياة، وفي الرواية الأخرى:" لولا أني في الموت ما حدثتك به، إما لأنه خافه على نفسه من توبيخه بهذا الحديث ووعيده، أو لأنه رأى وجوب ذلك الحديث عليه قبل أن يموت ؛ لئلا يكون كتم علما علمه حتى مات، فيخرج بذلك.
وقول عبيد الله بن زباد لعائذ بن عمرو:" وإنما أنت من نخالة أصحاب محمد "، يعني لست من صفرهم ولبابهم ومشاهيرهم، وإنما أنت من حشوهم وسقطهم. والنخالة: ما ينخل عن الدقيق من قشوره ونفايته، ومثله الحثالة والخصالة والحشافة، وهو ما يتساقط من قشور الشعير والتمر وغيره.
وقوله:" وهل في أصحاب محمد من نخالة ؛ إنما كانت النخال عندهم وفي غيرهم "، رد صحيح وكلام حق، فإن أصحاب محمد كلهم صفوة الناس وفضلاؤهم، وأفضل من يأتي بعدهم، كلهم معدلون قدوة، وإنما جاء التخليط والفساد فيس بعدهم. وذكر الغلول، ومعناه في الأصل: الخيانة، ثم صار عرفًا في خيانة المغانم. قال نفطويه: سمى بذلك ؛ لأن الأيدى مغلولة عنه محبوسة يقال: غل وأغل غلولاً وإغلالاً.
وقوله:« لا ألفين أحدكم يوم القيامة يجىء على رقبته بعير »، كذا رويناه بالمد وبالفاء، وهو وجه الكلام، أي: لا تفعلوا فعلاً أجدكم فيه على هذا الصفة. ووقع عند العذري: " لا ألقين "، بالقاف، وله وجه على ما تقدم، وكذلك في الحديث الآخر:" لا أعرفن " على ما تقدم، وعند كثرهم: " لأعرفن "، بغير مد، والأول أعرف.
قال الإمام: قوله:« له رغاء »، الرغاء: صوت البعير، وكذا ما ذكره بعده صوت كل شيء وصفه به.
وقوله:« لا يأتي أحدكم وعلى رأسه رقاع تخفق »، فيه دلالة على زكاة العروض، وقد يستدل به أيضًا من يرى الزكاة في الخيل بذكره الفرس في هذا الحديث، وقد تقدم الكلام على ذلك.(7/65)
قال القاضي: لورود هذا في كتاب الزكاة ومعرض عنها أمكن الاحتجاج به لنا وعلينا في المرضعين، وإنما ورد في باب الغلول / فبعيد الاستدلال به على غيره. وفي الحديث تعظيم أمر الغلول والعقوبة عليه. ولا خلاف أنه من الكبائر وشهرة المعاصي في الآخرة يوم تبلى السرائر، وكشفهم على رؤوس الناس، وهتك سترهم بحملهم على رؤوسهم ما اختانوه واغتالوه، واستتروا به عن الخلق في الدنيا، كما قال تعالى:{ ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة }. وبزيادة شهرة ذلك فتصويب الناطق وخفق غير الناطق، ومن رغاء الإبل وحمحمة الفرس، وثغاء الشاة، وصياح الآدمي، وخوار البقرة، وبعار المعز - وهو صوتها خاصة - وهو معنى قوله:" شاة تيعر "، وتصويب الرياح في الثياب، وما لا ينطق وهو قوله: " رقاع تخفق "، وقد يكون حمله لها من عقابه لها وثقلها عليه في ذلك المقام، وتعظيمها بما الله أعلم به. كما جاء في حمل من غصب من الأرض شبرًا، وتطويقه إياه من سبع أراضين، وتكون النفس التي غل هنا من سبي الغنائم وأساراها، والله أعلم.
وقوله:« لا أملك لك من الله شيئًا »، إما من المغفرة أو من الشفاعة، إلا أن يأذن الله في ذلك، ويكون فيه ذلك - صلى الله عليه وسلم - أولاً غيظًا عليهم، ألا تراه قال: " قد بلغت "، ثم بعد ذلك أدركه من الرقة والرأفة التي خصه الله ووصفه بها ما سأل ربه الشفاعة فيهم، حتى يأذن له في الشفاعة فيمن شاء منهم، على ما مض في حديث الشفاعة. وفيه أن العقوبات من جنس الذنوب، كما جاء في غير حديث. والصامت: الذهب والفضة.(7/66)
وأجمع العلماء على أن الغال رد ما أغل، وأخذ في المقاسم ما لم يفترق الناس. فإذا افترقوا وفات فاختلفوا في ذلك، فذهب معظمهم إلى أنه يدفع خمسه إلى الإمام ويتصدق بالباقي، هذا قول الحسن ومالك والزهري والأوزاعي والثوري والليث، وروى معناه عن معاوية وابن مسعود وابن عباس وأحمد. وقال الشافعي: في هذا الأصل ليس له الصدقة بمال غيره. ثم اختلفوا ما يفعل بالغال، فجمهور العلماء وأئمة الفتوى والأمصار: أنه يعزر باجتهاد الإمام، ولا يحرق رحله. ولم يثبت عندهم الحديث عن ابن عمر في تحريق رحله ؛ لأنه مما انفرد به صالح بن محمد عن سالم وهو ضعيف، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحرق رحل الذي وجد عنده الخرز والعباءة. وقال قوم بحديث ابن عمر، وقالوا: يحرق رحله ومتاعه كله، وهو قول مكحول والحسن والأوزاعي. قال الأوزاعي: إلا ما غل وسلاحه وثيابه التي عليه، وقال الحسن: إلا الحيوان والمصحف. قال الطحاوى: ولو صح حديث ابن عمر لحمل على أنه كان إذا كانت العقوبة في الأموال، كما جاء في التضعيف على مانعى الزكاة، وضالة الإبل، وسارق التمر، وذلك كله منسوخ.
وقوله: " استعمل رجلاً يقال له: ابن اللتبية "، كذا ضبطناه في الحديث الأول بفتح التاء، وصوابه سكونها. ولتب، بضم اللام وسكون التاء: بطن من / العرب. وجاء في الحديث الآخر في رواية السمرقندي والسجزي: "الألتيبية "، وفي غير "مسلم":" الألتبية "، والصواب ما ذكرناه.(7/67)
وفي إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها باسم الهدية، وأن عقابه عقاب الغال، كما ذكر في الحديث من أنه يجيء به على عنقه، كما ذكر في الغال، مطابق لقوله: « هدايا الأمراء غلول »، وإن كان ذلك كأنه خيانة لله تعالى وللمسلمين، إما لأنه يأخذه لنفسه منهم باسم الهدية ليسامحهم في بقية ما يأخذ منهم، فهي خيانة للطائفتين. أو لأجل مجرد ولايته والتصنع إليه بما يهدى إليه، فهي خيانة لأمانة الله. وكله غلول. وبين له النبي - صلى الله عليه وسلم - علة المغ من ذلك،وأنه إنما يهدى إليه لما ذكر لقوله:« هلا جلس في بيت أبيه وأمه، فينظر هل يهدى له»، وقد تقدم الكلام على هدايا الأمراء، وقبول النبي - صلى الله عليه وسلم - للهدية قبل هذا وردها، ووجه ذلك بما فيه كفاية.
قال الإمام: قوله:" حتى رأينا عفرتي إبطيه "، قال الأصمعي: العفرة هو البياض وليس بالناصع، لكنه لون الأرض، ومنه قيل للظباء: عفر، سميت بعض الأرض وهو وجهها. قال شمر: هو البياض إلى الحمرة قليلاً.
قال القاضي: رويناه:" عفرتي إبطيه " مثنى، بفتح العين وضمها، والصواب الفتح مع فتح الراء، مما يقال: عفرة وعفرة وعفر. وتقدم أول الكتاب قوله:"بصر عيني، وسمع أذني"، وذكر مسلم في الباب: نا إسحاق بن إبراهيم، ورفع الحديث عن عروة بن الزبير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلاً. كذا لجميعهم، وعند الهوزني والسمرقندي: عن عروة بن الزبير، عن أبي حميد الساعدي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -. لكنه متصل مسند ؛ لأن في آخره: قال عروة: فقلت لأبي حميد الساعدي: أسمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: من فيه إلى أذنى، لكن مسياق، رواية الهوزني والسمرقندي أحسن وأبين.
وقوله في الحديث: " فجاء بسواد كثير "، أي: بأشياء كثيرة وأشخاص ظاهرة. والسواد يغير به عن شخص كل شيء، وكأنه ضد الفراغ ؛ لأن الموضع الفارغ أبيض والمعمور بشيء فيه سواد شخصيه، ومنه: سواد العراق.(7/68)
وقوله:« من استعملناه فكتم مخيطًا فما فوقه كان غلولاً »، المخيط: الإبرة. وفيه تعظيم القليل من الغلول بقوله:" فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتى منه أخذ ». ذلك على قدر ما يراه الإمام له، من استحقاقه في عمله أو حاجته أو سابقته. وقد جاء أنه أباح لمعاذ قبول الهدية حين وجهه إلى اليمين ليخبر بها ما جرى عليه من التفليس، والظن بمعاذ أنه لا يقبل منها إلا ما طابت به نفس مهديه، وأنه ممن لا يصانع أحدا في حق من أجلها، فكانت خصرصا لمعاذ ؛ لما عليه منه النبي - صلى الله عليه وسلم - من النزاهة والورع والديانة، ولم يبح ذلك لغيره ممن لم يكن عنده بمنزلته، وحذر عليه ما قدمناه. وعدى بن عميرة، بفتح العين، وهو اسم مشهور في الرجال والنساء من الصحابة فمن بعدهم، وأما عميرة / بضم العين. فلا يعرف في الرجال جملة، وهو في النساء خاصة.
وقوله: " نزل:{ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }، في عبدالله بن حذافة، قيل: المراد بأولي الأمر: من اوجب الله عليك طاعته، أي أولي الطاعة والانتمار. والائتمار: الطاعة، فظاهره أن المراد بأولي الأمر الولاة والأمراء. وهو قول أكثر السلف، واستدل بعضهم بما جاء قبل الآية من قوله:{ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل }، وقيل: هم العلماء، وقيل: هم عامة الأمراء والعلماء، وقيل: هم أصحاب محمد.
وقوله:« من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني »، بين ؛ لأن الله تعالى قد أمر بطاعة رسوله، فمن عصاه فقد عصى أمر الله. وأمر الرسول بطاعة أميره، فمن عصاه فقد عصى أمر رسوله. ولا خلاف في وجوب طاعة الأمراء فيما لا يخالف أمر الله وما لم يامر بمعصية، كما جاء في الحديث الصحيح بعد.(7/69)
وفي الباب في حديث أبي كامل الجحدري عن أبي عرانة، عن يعلى بن عطاء، عن أبي علقمة الهاشمى. كذا جاء نسبه في بعض الروايات، وسقط نسبه من أصول أكثر نسخ شيوخنا، وفي تاريخ البخاري: أبو علقمة مولى بني هاشم، ويقال: مولى ابن عباس، ويقال: حليف بني هاشم، روى عنه يعلى بن عطاء ومحمد بن الحارث، وذكر له البخاري في التاريخ حديثًا عن أبي هريرة في أشراط الساعة، ولم يخرج عنه البخاري في صحيحه شيئًا، وذكره أبو عبد الله الحاكم، ونسبه الهاشمى، لكنه لم يذكره في التابعين فوهم.
وذكر مسلم في الباب أحاديث في السمع والطاعة في منشطك ومكرهك وأثرة عليك. فيه وجوبها فيما يشق ويكره في باب الدنيا لا فيما يخالف أمر الله، كما قال في الحديث الآخر:« إلا أن يامر بمعصية فلا سمع ولا طاعة »، وبهذا يجمع بين الأحاديث، وهذا يفسر عمرم الحديث المتقدم. قال الطبري: فيه أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأخبار رسول الله ظظ لا تضاد، وإنما أحاديث السمع والطاعة مجملة تفسرها الأحاديث الأخر المفسرة ما لم يخالف أمر الله، وهذا قول عامة السلف.
وقوله:« في عسرك ويسرك »، يحتمل أن يكون مثل ما تقدم من حاله، ويحتمل أن يختص بالمال.
وقوله:« اسمع وأطع وإن كان عبدًا حبشيًّا مجدع الأطراف »، الجدع: القطع. وإنما أشار بهذا الوصف إلى أدنى العبيد السود، ووحشهم ووغدهم لاستعمالهم في الرعية للأبل وغليظ الخدمة، فقد تنقطع أصابع أرجلهم من خشونة الأرض وشديد الأعمال، على طريق المبالغة في طاعة الأمراء كيف ما كانوا من شرف أو ضعة.
وفي قوله في آخر الحديث:« يقودكم بكتاب الله »، تفسير لما تقدم ؛ إذ الطاعة في هذا فيما لم يخالف أمر الله.(7/70)
وذكر بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - الجش وتأميره عليه رجلاً، وأنه أوقد نارًا، وقال: " ادخلوها "، واحتج عليهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالسمع والطاعة، واختلاف الناس عليه في ذلك ؛ منهم من أراد امتسال طاعته / ومنهم من قال: إنما فررنا منها، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« لو ه دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة »، ثم قال:« لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف »، هذا ما تقدم، وهذا الرجل قيل: هو عبد الله بن حذافة السهمى. قيل: فعل ذلك اختبارًا لهم، وقيل: كان مازحا، فكان كثير المزح، وله في ذلك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر. لكن جاء في كتاب مسلم في حديث ابن نمير:" استعمل عليهم رجلاً من الأنصار ".
وقوله:" ما خرجوا منها إلى يوم القيامة "، تفسير احتمال قوله في غير هذه الرواية: " ما خرجوا منها "، وزيادة:" أبدًا " في بعضها ؛ إذ لا يخلد أحد بذنب على مذهب جماعة أهل السنة.
وقوله: " بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، هو من بيعة الأمراء.
وقوله:" ولا ننازع الأمر أهله إلا أن يكون كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان "، كذا رواية كافة شيوخنا هنا بالواو، أي جهارًا، ويفسره بقية الكلام. يقال: باح الشيء يبوح: إذا ظهر واشتهر، وأباحه: جهر به، وعند ابن أبي جعفر وبعضهم:" بواحًا " بالراء، وهما بمعنى الراء لا ينافي سمعًا. يقال: برح الشيء وبرح الخفى: إذا بأن وصفه. وقال ثابت: رواه النسائي:" بواحًا " وغيره: " بواحًا "، قال: ولا معنى لقوله:" بواحًا "، إلا أن يكون " بوحًا " و " بووحًا "، من قولك: باح الشيء: إذا ظهر.(7/71)
قال الإمام: لا يجوز الخروج على الإمام العدل باتفاق، فماذا فسق وجار؛ فإن كان فسقه كفرًا وجب خلعه، وإن كان ما سواه من المعاصي فمذهب أهل السنة أنه لا يخلع، واحتجوا بظاهر الأحاديث وهي كثيرة ؛ ولأنه قد يؤدى خلعه إلى إراقة الدماء وكشف الحريم، فيكون الضرر بذلك أشد من الضرر به. وعند المعتزلة أنه يخلع، وهذا في إمام عقد له على وجه يصح ثم فسق وجار، وأما المتغلبون على البلاد فالكلام فيهم يتسع، وليس هذا موضعه. والاسثشاء بقوله: " إلا أن تروا كفرا بواحا ا يؤكد ما قلناه من التفرقة بين الكفر وغيره.
قال القاضي: لا خلاف بين المسلمين أنه لا تنعقد الإمامة للكافر، ولا تستديم له إذا طرأ عليه، وكذلك إذا ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها، وكذلك عقد جمهورهم البدعة. وذهب بعض البصريين إلى أنها تنعقد لها وتستديم على التأويل، فإذا طرأ مثل هذا على وال من كفر أو تغير شرع أو تأويل بدعة، خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته، ووجب على الناس القيام عليه وخلعه، ونصب إمام عدل أو وال مكانه إن أمكنهم ذلك، وإن لم يتفق ذلك إلا مع طانفة وفتنة وحرب فيجب القيام بذلك على الكافر. ولأ يجب على المبتدع إذا لم يتخيلوا القدرة عليه، ويجب في المبتدع إذا تخيلوا القدرة عليه، فإن حققوا العجز عنه فلا يجب القيام، وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها ويفر بدينه. وقد يحتج في المبتدع بقوله:« إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان »، فهذا يظهر أنه فيما لا تأويل فيه.(7/72)
وكذلك لا تنعقد ابتداء للفاسق بغير تأويل، وهل يخرج منها بموافقة المعاصي. ذهب بعضهم إلى ذلك، وأنه يجب خلعه، فإن لم يقدر عليه إلا بفتنة وحرب لم يجز القيام عليه، ووجب الصبر عليه ؛ لأن ما تؤدى الفتنة إليه / أشد، وقال جمهور أهل السنة من أهل الحديث والفقه والكلام: لا يخلع بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يجب الخروج عليهه بل يجب وعظه وتخويفه، وترك طاعته فيما لا تجب فيه طاعته ؛ للأحاديث الواردة في ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم -:« أطعهم وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك، ما أقاموا الصلاة »، وقوله:« صل خلف كل بر وفاجر »، وقوله:« إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان »، وقوله:" وألا ننازع الأمر أهله "، وأن حدوث الفسق لا يوجب خلعه. وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد في هذه المسألة الإجماع.
وقد رد عليه بعضهم هذا القيام لحسين وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية، وجماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج مع ابن الأشعث، وتأولوا قوله:" وألا ننازع الأمر أهله " في أئمة العدل وأهل الحق، وقيل: بل هذا مخاطبة للأنصار ألا ينازعوا قريشًا الخلافة.(7/73)
وحجة الآخرين أن قيامهم على الحجاج ليس لمجرد الفسق، بل لما غير من الشرع وظاهر الكفر لبيعة الأحرار، وتفضيله الخليفة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقوله المشهور المنكر في ذلك. وقيل: بل كان في هذا الخلاف أولاً ثم وقع الاتفاق بعد على ترك القيام. ومعنى قوله:" بايعنا ": س من بيعة الأمراء. واختلف في أصل اشتقاقها، فقيل: أصله من البيع ؛ لأن المتبايعين يمد كل واحد منهما يده إلى صاحبه لسببه، ولما كان الأمراء عند التوثيق بمن يأخذون عليه العهد يأخذون بيده، شبه بذلك فسميت مبايعة، وقيل: بل كانوا يضربون بأيدي بعضهم على بعض عند التبايع ؟ ولهذا سميت صفقة لصفق الأيدي عندها، فسميت بها، وقيل: بل سميت مبايعة لما فيها من المعاوضة، تشبها بالبيع أيضًا ؛ لما وعدهم من الجزاء والثواب على الإسلام وطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى:{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقثلون ويقتلون وعدًا عليه حقًا في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم }.
وقوله:" على أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم "، فيه لزوم قول الحق والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وألا يداهن فيه الناس ولا يلتفت إلى لالميهم، بل ينير بكل ما يقدرعليه ؟ من فعل أو قول، ما لم يخش إثار فتنة وتسبب منكر أشد منه. واختلف في قول الحق عند من يخشى منه، وإنكار المنكر عند من تتقي منه أذاه في نفسك أو مالك، فالجمهور على أنه إن خشي ما يقوله عليه في إنكار المنكر أو على غيره فليكن إنكاره بقلبه، وذهب بعضهم إلى قول الحق وإنكاره كيف كان. وقد تقدم الكلام عليه أول الكتاب.
وقوله:" وعلى أثرة علينا "، أي: على الصبر عليها، ظاهره استتاب السلاطين على المسلمين / بمال الله وحقوقهم. وفي البارع: الأثرة: الشدة، ويروى: " أثرة علينا ".(7/74)
وقوله:" إنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه ويتقى به "، الحديث: أي أنه كالساتر وكالترس لمنعه وحمايته بيضة المسلمين، وإتقانهم بمكانه ونظره عدوهم، وهو معنى قوله: " يقاتل من ورائه "، وكذا جاء في إمام الصلاة، لأنه ساتر من وراءه من المأمومين، وواق لهم السهو والزلل، وقطع المار بين أيديهم، كما بقى الترس سلاح العدو. وقيل: معنى "من ورائه "، من أمامه، كما قال تعالى:{ وكان وراءهم ملك }، أي: أمامهم. قيل:
وقوله: " ويتقي به ": أي يرجع إليه في الأمور، وقيل: هو جنة بين الناس بعضهم من بعض،وتظالمهم في أموالهم وأنفسهم، فهو ستر لهم وحرز لهم من ذلك.
وقيل في قوله: " يقاتل من ورائه "، إنه على ظاهره، خصوصًا في الإمام العدل، فمن خرج عليه وجب على الناس قتاله مع إمامهم وحمايته ونصرته.
وقوله:« ستكون خلفاء فتكثر »، قالوا: فما تأمرنا ؟ قال:« فوا ببيعة الأول فالأول »، كذا ضبطناه بضم الثاء المثلثة من كثرة العدد، وضبطه: "فتكئر" كأنه من إكثار قبيح أفعالهم وما ينكر منهم، والأول الصواب، بدليل ما بعده بقوله:« فوا ببيعة الأول فالأول »، وقوله في الحديث الآخر بعد:« فاضربوا عنق الآخر »، وفي الآخر بعد هذا:« فاقتلوا الآخر منهما ». هذه الأحاديث يفسر بعضها بعضًا، وأن معنى " قتله "، ظاهر من ضرب عنقه، لا على ما ذهب إليه بعضهم أن المراد بقتله قتلة الحياة، بإماتة ذكره وخلعه، لكن هذا إذا نازع، ولم يجب إلى الخلع وإماتة الذكر بغير حرب، فإن دعت ضرورة إلى قتله في محاربته قتل.(7/75)
قال الإمام: العقد لإمامين في عقد واحد لا يجوز، وقد أشار بعض المتأخرين من أهل الأصول: أن ديار المسلمين إذا اتسعت وتباعدت، وكان بعض الأطراف لا يصل إليه خبر الإمام ولا تدبيره حتى يضطروا إلى إقامة إمام يدبرهم، فإن ذلك يسوغ لهم. ويحمل هذا الحديث على أن الثاني امتنع من العزلة ودعا إلى طاعته، حتى صار ذلك سببا للفتنة وشق العصا، فإنه يقاتل لينخلع وإن أدى قتاله إلى قتله، ولو كان عقد لهما ولم يعلم الأول لم يستحق أحدهما الاستبداد بالإمامة، لجواز أن يكون الآخر والعقد له باطل، وتكون كمسألة المرأة يزوجها وليها من رجلين، ولم يعلم الأول منهما، فإنه لا يثبت نكاح أحدهما إذا لم يقع دخول.
قال القاضي: اختلف العلماء فيما إذا عقدت البيعة لإمامين في وقت واحد في بلدين، من الإمام منهما ؛ مع أنهم متفقون: لا تنعقد إمامتهما معا مع القرب، فقيل: ذلك للذى عقدت له في بلد الإمام المتوفى قبله ؛ لأن أهلها أخص بالعقد، وعلى الناس تفويض ذلك إليهم وتسليم عقدهم، وقيل: بل يقرع بينهما، وقيل: على كل واحد دفعها عن نفسه للآخر، وقيل: بل ذلك للسابق إن علم، وهو مذهب المحققين من الفقهاء وغيرهم، وان كان في وقت واحد فسد / العقد لهما، كعقد النكاح لزوجين في حال. ثم اختلف إذا لم بطلت في حقها إذا لم يعلم أولهما، هل يجوز عقدها لغيرهما، وتركهما؟ قيل: لا يجوز العدول عن أحدهما.
وقوله:« ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها »، كذا قيدناه هنا بضم الهمزة، ومعناه: الاستئثار بمال الله وبمال المسلمين عليهم، وإيثار بعضهم به دون بعض، أو الاستئثار بالخلافة والملك بالعهد لمن لا يستحقه، أو لعقد ذي السلطان والقوة ذلك لغير أهل، أو يكون المراد بالأثرة: الشدة. وقد روينا هذه الكلمة في هذا الموضع عن بعض شيوخنا: " أثرة، بفتح الهمزة والثاء، ويقال أيضًا: " إثرة ا. بكسر الهمزة وسكون الثاء. قال الأزهري: هو الاستيثاب، وهذا التفسير بالحديث أليق.(7/76)
وقولهم: كيف تأمر من أدرك ذلك منا ؟ قال:« تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم »، حض على الصبر ولزوم الطاعة على كل حال والاستسلام والضراعة إلى الله في كشف ما نزل، وهو مثل الحديث المتقدم في البيعة: " وعلى اثرة علينا ".
وقوله في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص:" ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشرة "، قال الإمام: المناضلة معروفة، وهي المراماة. والجشر: خروج القوم بدوابهم للمرعى، فلعله هذا المعنى أراد.
وقوله: " فيه دخن ": قال أبو عبيد: أصل الدخن: أن يكون في لون الدابة كدرة إلى سواد، وفي الحديث: " هدنة على دخن "، يريد: لا تصفوا القلوب بعضها لبعض، ولا ينصع حبها كما كانت. وتفسيره في الحديث، وهو قوله:" لا ترجع قلوب قوم على ما كانت عليه "، والدخن أيضًا: الدخان، ومنه الحديث، وذكر فتنة فقال:« دخنها تحت قدمي رجل من أهل بيتى »، يعني: إثارتها وهيجها، شبه بالدخان الذي يرتفع.
قال القاضي: وقد قيل في قوله في الخير الذي يأتي بعد الشر وفيه دخن: إنها أيام عمر بن عبد العزيز.
وقوله:« تعرف منهم وتنكر منهم من جاء بعد ». وقوله:« إن أمتكم جعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها »، بيق في حالة الصدر الأول من زمن الخليفة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلو كلمة الإسلام وظهوره، واجتماع كلمتهم، وسلامة حالهم، واستقامة طريقتهم، ثم جاء من البلاء والفتنة وتغير الحال ما كانوا عليه قبل، والاختلاف من زمن عثمان - رضي الله عنه - إلى وقتنا هذا.(7/77)
وقوله: " فيجىء فتنة فيرقق بعضها بعضا "، كذا رويناه عن كافتهم بالراء المفتوحة والقاف أولاً، ومعناه: يسبب بعضها بعضًا ويثير إليه، كما قيل: عن صيوح نرقق، وقد يكون يرقق هنا أي: يدور بعضها في بعض، ويذهب ويجيء به، كما قيل: شراب رقراق. ورويناه عن الخشني عن الطبري، عن الفارسي:" فيدفق " بالدال الساكنة والفاء بمعناه، أي يسوق بعضها بعضًا، ويدفع شرها غرة. ومنه: الماء الدافق.
وقوله:« وليؤت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه »، من جوامع كلمه، واختصار حكمه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا / معيار صحيح فيما يعتبره الإنسان من أفعاله، وتمييزه قبيحها من حسنها.
وقوله:" فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه "، تقدم الكلام في معنى الصفقة.
وقوله:" ثمرة قلبه "، إشارة إلى صدق بيعته وسلامة نيته في ذلك.
وقوله:" هذا ابن عمك معاوية، يأمرنا أن نكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا "، الحديث هذا، والله أعلم فيما أورده حيهن سمعه يذكر الحديث في منازعة الخلافة وقتل المنازع، فاعتقد ذلك لمنازعته عليًّا، وقد لقدمت بيعته، ورأى أن النفقة في حربه ومنازعته والقتال فيه ؛ من أكل المال بالباطل، وقتل النفس.
وقول ابن العاصي:" أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله "، يدل أن هذا لازم في الملوك الثوار الذين لم يقدمهم خليفة، ولا تقدموا بإجماع ولا عهد. وأحاديث مسلم التي أدخل في الباب كلها حجة في منع الخروج على الأمراء الجورة ولزوم طاعتهم.
وقوله عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة الصاندي. كذا هو بالصاد والدال المهملة في سائر النسخ، وصوابه: "العائذي" بالعين والذال المعجمة، ونسبه ابن البيع: الأزدي. وعائذ في الأزد، وهو عائذ وأخراه عياذ وعوذ بنو أسود بن الحجي بن عمران بن عمرو بن عامر ماء السماء. قاله ابن العباب النسابة.(7/78)
وقوله في حديث حذيفة:« دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها »، وفي رواية الطبري:« رعاة » بالراء، والصواب الأول هؤلاء، والله أعلم من كان من الأمراء والسلاطين يدعو إلى بدعة أو ضلالة ؛ كأصحاب المحنة والقرامطة والخوارج ؛ بدليل قوله:« تلتزم جماعة المسلمين وإمامهم »، وأمره - إن لم تكن لهم جماعة - باعتزال تلك الفرق.
وقوله: وذكر مسلم حديث محمد بن سهل بن عسكر التميمي يرفعه عن أبي سلام، قال: حذيفة بن اليمان قال الدارقطني: هذا عندي مرسل، أبو سلام لم يسمع من حذيفة، وقد قال فيه: قال حذيفة.
وقوله:«من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية »، بكسر الميم، أي على هيئة ما مات عليه أهل الجاهلية، من كونهم فوضى لا يدينون لإمام.
وقوله:« من خلع يدًا من طاعة لقي الله ولا حجة له »؛ لأنه محجوج بفراق الجماعة وتغريق الألفة، ولا حجة له في فعل ما فعله ولا عذر ينفعه.
وقوله:« ومن قاتل تحت راية عُمِّية »، يقال: بكسر العين وبضمها، وكسر الميم وتثديدها وتشديد الياء، قال الإمام: قيل: الأمر الأعمى كالعصبية، لا يستبين ما وجهه، قاله أحمد بن حنبل. وقال إسحاق: هذا في تجارح القوم وقتل بعضهم بعضا، وكأنه من التعمية وهو التلبيس.
وفي حديث ابن الزبير: " يموت ميتة عمية "، أي: ميتة فتنة وجهل.
قال القاضي: وقوله:" يغضب لغضبه أو يدعو إلى غضبه، أو ينصر غضبه ": كذا رواية العذري بالغين والضاد المعجمتين. ورواية غيره فيها كلها: " عصبة " بالمهملتين، وهو يؤيد تفسير ابن حنبل المتقدم في العمية، ويدل على صحتها الحديث بعدها: " يغضب للعصبة، ويقاتل للعصبية "، وفي معناها الرواية الأخرى، أي أنه إنما يقاتل لشهوة منه وغضبها له أو لقومه وعصبيته.(7/79)
وقوله:« من خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، لا يتحاش من مؤمنها، ولا يفي لذى عهدها، فليس مني ولست منه »، ويروى: " لا يتحاشى "، أي لا يكترث بما يفمعله بها، ولا يحذر من عقباه / وفي معناها الرواية الأخرى: إيمانه إنما يقاتل لشهوة نفسه وغضبها أو لقومه وعصبته. هذا، والله أعلم في الخوارج وألثعباههم من القرامطة. يرجح هذا التأويل قوله في الحديث الأخر: " فليس من أمتي "، ويصح أن يكون في طالبي الملك في الثوار في الأطراف، ويكون تبرئ النبي - صلى الله عليه وسلم - منه، أي من أفعاله وسيرته، لا أنه ليس من أمته، وأمره بعد إلى مشيئة الله من العفو عنه أو مجازاته، ويكون قوله: " فليس من أمتى " في الحديث الأخر مثل قوله: " فليس منا " أي لم يهتد بهدى أمتي ولا استن بسنتها. ومعنى:" شق عصا المسلمين ": أي فرق جماعتهم، كما تتفرق العصا إذا شقها، وهو كلام يعبر به عن مثل هذا.
وفي اتخاذ ابن عمر على ابن مطيع القيام على يزيد بن معاوية وخلعه، ما تقدم من منع القيام على أئمة الجور. وعبد الله بن مطيع كان أميرًا لقومه حيننذ بالمدينة عند قيام عبد الله بن الزبير على يزيد بن معاوية في جماعة أبناء الأنصار والمهاجرين وبقية من مشيختهم، وجماعة من الصحابة. وعلى يديه كانت وقعة الحرة في الجيش الذي وجهه يزيد لحربهم، فهزموا أهل المدينة وقتلوهم، واستباحوهم ثلاثة أيام، وقتل فيها عدة من بقية الصحابة وأبناء المهاجرين والأنصار، وعطلت الصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الأيام والأذان فيه. وفي الحديث الآخر من رواية ابن نمير في بعض النسخ: ابن أبي مطيع، والصواب ما للجماعة: ابن مطيع، كما تقدم في الحديث الأول.
وقوله: " ستكون هنات وهنات "، أي: أمور وأحداث وفتهن. والهنات جمع هنة. وقدتقدم أنه يعبربه عن كل شيء.(7/80)
وقوله: " فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم "، أي من معاقبة الله له على الإقرار على المنكر، وبرئ بكراهيته من الرضا والمتابعة. وفيه حجة على لزوم قول الحق وإنكار المنكر.
وقوله:" ولكن من رضي وتابع "، دليل على أن المعاقبة على السكوت على المنكر إنما هو لمن رضيه، وأعان فيه بقول أو فعل أو متابعة، أو كان يقدر على تغييره فتركه. فاما مع عدم القدرة فبالقلب وعدم الرضا به، كما فسره بعد في الحديث الآخر ج أي كره بقلبه وأنكر بقلبه، وكما قال في الحديث الآخر:« فأكرهوا عمله ولا تنزعوا يدًا من طاعة الله »، وكما قال أيضًا:« وذلك أضعف الإيمان » كما تقدم أول الكتاب. ووقع في حديث هداب:« فمن عرفه فقد برئ »، وما في رواية أبي غسان أبين:« من كره فقد برئ ».
وقوله: أفلا نقاتلهم ؟ قال:« لا، ما صلوا » على ما تقدم من منع الخررج على الأئمة والقيام عليهم ما داموا على كلمة الإسلام، ولم يظهروا كفرا بينا، وهو الإشارة هاهنا:" ما صلوا "، أي ما كان لهم حكم أهل القبلة والصلاة، ولم يرتدوا ويبدلوا الدين ويدعوا إلى غيره. والإشارة أيضًا بقوله: «عبدًا حبشيًّا يقودكم بكتاب الله »، أي بالإسلام وحكم كتاب الله وان جار.
وفي الباب: عن رزيق بن حيان عن مسلم بن قرظة. اختلف في تقديم الراء أ على الزاي في هذا الاسم وتاخيرها عنه، فالذى رويناه في مسلم تقديم / الراء على الزاي في هذا الاسم، وفي الموطأ تقديم الزاي. قال أبو عبيد: أهل العراق يقدمون الراء، وأهل المدينة والشام يقدمون الزاي، والذي ذكره البخاري والدارقطني وعبد الغني وأصحاب "المؤتلف" تقديم الراء وبينوه. وأبو قيس بن رياح، واسمه زياد بن رياح القيسي، براء مكسررة وياء باثنتين تحتها،كذا قيده عبد الغني، وكذا قيدناه عن شيوخنا في "الأم"، وكذا قيده ابن الجارود، ويقال فيه: رباح، بباء واحدة مفتوح الراء وحكى البخاري فيه الوجهين.(7/81)
وقوله: " فجثا على ركبتيه"، قال الإمام: ويقال: جثا يجثو: إذا جلس على ركبتيه، وأما " جذا " بالذال فإن يجلس على أطراف أصابعه، والجاذي أشد استيفازًا من الجاثي، وقد وقع في بعض الروايات:" فحذا ".
قال القاضي: وقوله في حديث جابر:" بايعناه على ألا نفر، ولم نبايعه على الموت "، وفي حديث سلمة: "بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الموت "، ومثله في حديث عبد الله بن زيد، وفي حديث مجاشع بن مسعود، وذكر البيعة على الهجرة والبيعة على الإسلام، وفي الجهاد وفي حديث ابن عمر وعبادة بن الصامت:" بايعنا رسول الله على السمع والطاعة، وألا ننازع الأمر أهله "، وفي حديث نافع عن ابن عمر في غير "مسلم" البيعة على الصبر. قال بعضهم: وهذه اللفظة تجمع المعاني كلها، وكان الأمر في البيعة على الموت على ما جاء في حديث سلمة هو بمعنى: ألا نفر، في حديث جابر. وبمعنى الصبر الذي ذكره في حديث نافع فكانت بيعة الشجرة على الصبر وألا نفر حتى يغلب وبفتح له أو نقتل، وهو معنى: على الموت، وكذلك بيعته - صلى الله عليه وسلم - على المنشط والمكره والعسر واليسر، كل هذا كان أول الإسلام، وكذلك البيعة على الهجرة، وفي نسخها: الجهاد أيضًا. وقد ارتجز المسلمون يوم الخندق:
نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا
قالوا: فحكم من بايع قبل الفتح وأول الإ اسلام الجهاد أبدا وبكل حال، بخلاف من بايع بعد الفتح أن الجهاد ليس بواجب عليه، إلا أن يتعين عليه بنزول عدوه وضرورة داعيه. وأما بيعة الإسلام والجهاد فبعد الفتح وسقوط الهجرة، وظهور المسلمين. وكانت مختلفة على ما كانت أولاً وآخرًا ؟ على ألا يفر الواحد من العشرة وهو في سعة في الفرار من أكثر منها، أو يصبر، ثم نسخ ذلك بألا يفر من اثنين لقوله تعالى:{ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } الآية، وقيل: ليس نسخ، وإنما هو تخفيف، والصواب أنه نسخ بكل حال، والتخفيف نسخ.(7/82)
قال أبو القاسم الطبري: بيَّن الله أن الواحد في ابتداء الإسلام يعدل العشرة لأمور: منها: النصرة منه تعالى، ومنها: الصبر والقوة، ومنها: قوة النية والبصيرة. ثم بعد زمان نجعخ ذلك لنقصان القوة في الدين وضعف النية في الجهاد، وهو معنى قوله:{ وعلم أن فيكم ضعفًا }. واختلف هل المراد بهذا الكلام مجرد العدد بالعدد أو بمراعاة القوة والشجاعة، فالجمهور على أن المراد بالمائة والمائتين والألف / والألفين العدد دون مراعاة القوة في الأقل، والضعف في الأكثر. وذكر آخرون أن المراد بذلك القوة والمكافاة دون لفظ العدد، حكاه ابن حبيب عن مالك وعبد الملك. قال ابن حبيب: والأكثر من القول أن ذلك في العدد، فلا يفر المانة من المائتين، وإن كانوا أشد جلدًا وأكثر سلاحًا، والأول أظهر.
قال القاضي: وهو الذي عليه الناس. قال بعض شيوخا: ولا أعلمهم يختلفون أنه متى جهل فزلة بعضهم من بعض في القوة أن المراعى العدد، وقد ورد القرآن بالعدد عاما ولم يفرق بين الأمم في ذلك، وهم مختلفون في الشجاعة، ومنهم من لم تعرف العرب حال قتاله قبل.
وفي حديث عبادة الآخر في صحيح غير مسلم: " بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ألا تشركرا بالله شيئًا، ولا تسرقوا ولا تقتلوا أولادكم "، على مضمن آية بيعة النساء، فهذا إنما كان أول بيعة بمكة، وهي بيعة العقبة الأولى قبل فرض الحرب، وهي بيعة النساء، ذكره أهل السير.(7/83)
وقوله:" سألت جابر بن عبد الله عن أصحاب الشجرة، فقال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا ألفًا وخمسمائة "، هو حديث مختصر من حديث الحديبية في بركة النبي ظئى في برها وكفايتهم ما جاش فيها من الماء ببركة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه، على قلة ما كان فيها أولاً من الماء. وإنما كان بيض بمثل السواك فأشكل الكلام، وكذلك اختصر في الحديث الآخر فقال: " دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - على بئر الحديبية "، يريد بالبركة في مائها و "على" هنا" بمعنى " في". وفي سند هذا الحديث: نا رفاعة بن الهيثم كذا لجمهورهم وهو الصحيح، وعند بعض الرواة: رفاعة بن القاسم وهو خطأ. وفي حديث الشجرة: أنهم نسوها من العام المقبل، قيل: هذا رحمة للمؤمنين وعصمة لهم ؛ إذ لو بقى مكانها لخيف تعظيم الأعراب والجهال لها، وعبادتهم إياها.
وقول الحجاج لابن الأكوع:" ارتددت على عقبيك ؟ تعرَّبت ؟ قال: لا، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن لي في البدو "، أجمعت الأمة على تحريم ترك المهاجر هجرته ورجوعه إلى وطنه وأن ارتداد المهاجر من الكبائر. وإلى هذا أشار الحجاج، حتى أعلمه سلمة بن الأكوع أن تبديه كان بأمر النبي ئ، ولعله لغير وطنه أولى ؛ إذ الغرض في ملازمة المهاجر أرضه التي هاجر إليها، وفرض ذلك عليه إنما كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لنصرته، ولكونه معه وذلك أول الإسلام وقبل الفتح.(7/84)
ولما كان الفتح، وأظهر الله الإسلام على الدين كله ودحر عدوه واعتز أهله سقط فرض الهجرة، فقال - صلى الله عليه وسلم -:« لا هجرة بعد الفتح »، وقال: «مضت الهجرة لأهلها »، أي لهؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم، وفارقوا أهليهم لمواساة أهليهم، ومؤازرته، ونصر دينه، وضبط شريعته، والفرار بدينهم ممن يفتنهم. ولم يختلف في وجوبها على أهل مكة قبل الفتح، واختلف في غيرهم، فقيل: لم تكن على غيرهم واجبة لكن ندبًا ومرغبًا فيها. ذكره أبو عبيد في كتاب الأموال / واستدل بالحديث الذي يأتي بعد هذا. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي عن الهجرة:" إن شأنها لشديد "، ولم يأمره بها ويحضه على التزام إبله، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يامر الوفود عليه قبل الفتح بالهجرة، وقيل: إنما كانت الهجرة واجبة على من لم يسلم جميع أهل بلده ؛ لئلا يبقى في طوع أحكام الشرك ودوله الكفر وخرف الفتنة.
وقوله:« ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا »، فيه دليل أن الجهاد بعد الفتح م يجب بكل حال، ولا وقعت البيعة عليه حتمًا كما كان قبل الفتح، لكن من شاء جاهد ومن ثاء ترك بنية الجهاد متى أمكنه ونشط له، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولكن جهاد ونية "، الله أعلم ؛ إلا أن ينزل بقوم عدو، أو تدعو إلى خروجه للجهاد ضرورة فيتعين عليه.
قال الإمام: كانت الهجرة فرضًا أول الإسلام ليسلموا بها من ذل الكفار لغلبتهم على لدار، وليكونوا له - صلى الله عليه وسلم - من الأعوان والأنصار، يشدون أزره، ويدفعون عنه، فلما فتحت مكة سقط فرض الهجرة لزوال الذل عمن سكنها من المسلمين، ولاستغناء النبي - صلى الله عليه وسلم - بمن معه عمن يحامي عنه. وصارت ندبًا لما في القرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومشاهدته والصلاة معه، وتلقي الوحي منه من الفضيلة على الغيبة عن ذلك.(7/85)
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -:« إذا استنفرتم فانفروا »، فإنه إذا استنفر الناس للجهاد وجب عليهم إذا كان قعودهم عنه يؤدى إلى استباحة الحريم والأموال، وإن كان طلبًا للاستظهار على العدو وقد قام بالجهاد من يكفي كان ندبًا في حق الباقين.
قال القاضي: وقوله:« وإذا استنفرتم فانفروا »، هو على وجهين، فأما الاستنفار لعدو صدم أرض قوم، فنفيرهم له واجب فرض متعين عليهم، وكذلك لكل عدو غالب ظاهر حتى يقع، وأما لغير هذين الوجهين فيتأكد النفير لطاعة الإمام لذلك، ولا يجب وجوب قوله في الأعرابي الذي سأله عن الهجرة:« إن شان الهجرة لشديد »، فهل لك من إبل ؟» قال: نعم، قال: «فهل تؤدي صدقتها ؟» قال: نعم، قال:« فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئًا »، فيه أن الأعراب لا تجب عليهم الهجرة، وقد تقدم الاستدلال بهذا الحديث.
قوله: " فاعمل من وراء البحار "، والعرب تسمى القرى البحار، ومنه الحديث المتقدم: لقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه، قال أبو داود: ولنا البدو كله والبحار.
قال أبو جعفر الداودي: الهجرة التي سأل عنها الأعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم - هو لزوم المدينة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومفارقة أهله وداره، كما كان فرض أهل مكة، فأشفق - صلى الله عليه وسلم - عليه،{ وكان بالمؤمنين رحيمًا }، وخشي عليه أن يخلف الله ما وعده، وينكفئ على عقبيه. وإنما كانت هجرة الأعراب نفور طائفة من كل فرقة منهم ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، كما قال الله تعالى.
وقوله:« لن يترك من عملك شيئًا »، /قال الإمام: يعني ينقصك، وفه قوله تعالى:{ ولن يتركم أعمالكم }، يقال: وترته: إذا نقصته.(7/86)
وقوله:« تؤدي صدقتها »، وقوله:« فهل تحلبها يوم وردها »، قال القاضي: يريد إذا حقوقها، ومنها: " حلبها يوم وردها " كما جاء في كتاب الزكاة، وذلك أن الضعفاء والمحاويج من الأعراب يكونون على المياه، فإذا حلبت يوم الورد كثر الطالب والسائل، فواساهم الحالب من ذلك اللبن، ومن لا يريد ذلك لا يحلبها يوم الورد حتى يصرفها إلى مرضعها من مرعاها، حيث لا يكون أولئك.
وقول عائشة:" كان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمتحنهن بآية الممتحنة، فمن أقر بهذا من المؤمنات فقد أقر بالمحنة ": اختلف هل هذه الآية ناسخة لما كان هادن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة وشارطهم عليه ؛ من رد من أسلم منهم إليه، فنزلت الآية بنسخ ذلك في الآية إذا امتحن فاعترفن بالإسلام بقوله:{ فلا ترجعوهن إلى الكفار }، فهو من نسخ السنة بالقرآن، وقيل: إنما كان الشرط بالرجال خاصة دون النساء، ثم نسخ الله حكم الآية من قوله:{ وآتوهم ما أنفقوا }، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرد إليه مهرها الذي دفع لها وتمك هي عند المسلمين، ونزول عصمتها عنه بقوله:{ لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن }، ثم نسخ رد المهر عند زوال المهادنة بزوال علته التي أوجبته. وفي القصة كلها حجة لنا، واثافعى أن موجب الفراق علته الإسلام بقوله: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار }، لا أن العلة اختلاف الدار على ما قاله أبو حنيفة.
وقولها:« لا، والله ما مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة قط، إنما يبايعهن بالكلام »، فيه مع ملامسة شيء من المرأة الأجنبية، يدًا أو غيرها مما نهيت عن إبدائه، أو أبيح لها. وفيه أن كلام المرأة ليس بعورة.(7/87)
وقوله: كنا نبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة فيقول لنا:« فيما استطعت »، في ما كان - صلى الله عليه وسلم - من الرأفة والرحمة بأمته وألا يتركهم من القول لما عساه أن يشق عليهم مطلقه، كما لم يتركهم. في ذلك من الفعل وقال: «عليكم بما تطيقون »، وامتثالاً لقوله تعالى:{ لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها}، وقوله:{ ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به }. وفيه: أن أعمال المكره وعقوده لا حكم لها.
وقول ابن عمر: إن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يجزه فى أحد وهو ابن أربع عشرة سنة وأجازه في الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة، وقول عمر بن عبد العزيز:إن هذا الحد ما بين الصغير والكبير، وكتب لعماله بالفرض لمن بلغ هذا السن وأن يجعل من دونه فى العيال، هذا عند مالك وعند جماعة من العلماء في طاقة القتال لا فى مراعاة البلوغ، ودليله أنه لم يسأل عن سنه وإنما رآه مستحقًّا للفرض حين عرض عليه لما ظهر له من قوته وطاقته وشبابه. وجعل عمر بن عبد العزيز هذا السن أصلاً فى الفرض، وذهب الشافعي والأوزاعي وابن حنبل وابن وهب من أصحابنا: أن هذا السن من تمام خمس عشرة سنة بعد البلوغ لمن لم يحتلم بعد ولا حاض من النساء، وأن ببلوغه يتوجه عليهم حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، ويلزمهم التكليف. وقال نحوه إساحق، لكنه قال: إذا دخل فى الخامس عشرة سنة فهو بلوغ، وأبى عن ذلك مالك وأبو حنيفة وغيرهما من الحجازيين والمدنيين والكوفيين. قال مالك: لايحكم لمن لم يحتلم بحكم البلوغ حتى يبه لغ سنًا لا يبلغه أحد إلا احتلم وذلك سبع عشرة إلى ثمان عشرة. وقال أبو حنيفة: ثمان عشرة فى الغلام وسبع عشرة سنة فى الجارية.
وهذا كله فى حقوق الله المجردة، وعباداته، وما يتعلق بها فهذان وجهان.(7/88)
ووجه ثالث وهو من يستوجب القتل فى الحرب من الكفار ويحكم له أيضًا بحكم الكفار أو بحكم الذرية، ففيه سنة مخصوصة بقوله:« اقتلوا من جرت عليه المواسي»، فهذا أصل فى هذا الباب أيضًا، وهو قول الشافعي.
ووجه رابع وهو ما تعلق بحقوق الآدميين وحقوق الله من الحدود فى الزنا ومن القذف والسرقة، فهذا أيضًا يراعى فيه الإثبات البين ؛ لأنا نتهمه على كتم البلوغ لتسقط عنه الحقوق، وبه قال مالك مرة وبعض أصحابه، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور، وروى عن القاسم وسالم. وقال الزهري وعطاء: لا حد على من لم يحتلم، وهو قول الشافعي، ولم يراع الإثبات. ومال إليه مالك مرة، وقال به بعض أصحابه. وعلى الاختلاف في هذا الأصل اختلف عندنا في إنكاح اليتيمة بمجرد الإثبات.
وقوله:" نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله يد العدو": والمراد بالقرآن هنا المصحف، وكذا جاء مفسرًا في بعض الحديث من رواية مالك.
وعلة نيل العدو له لاستخفافهم به وامتهانهم إياه. وقد نبه على العلة في الحديث، فإذا أمنت العلة في الجيوش العظام قيل: ارتفع النهي، وهو مذهب أبي حنيفة. وقال به غيره من العلماء، واليه أشار البخاري، وحملوا النهي على الخصوص للعلة المذكورة، ولأن نيل العدو له في الجيوش الكثيرة نادر، والنادر لا يلتفت إليه، وقاله بعض متأخري أصحابنا. ولم يفرق مالك بين الحالين. ورأى بعض أصحابنا المنع على العموم في كل حال لتوقع. سقوطه ونسيانه فتناله أيديهم. وإليه ذهب سحنون وابن حبيب وقدماء أصحابنا وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة جواز السفر به مطلقًا، والصحيح عنه ما قدمناه.(7/89)
وما ذكر مسلم في الروايات الأخر عنه - صلى الله عليه وسلم -:« إنى لا آمن أن يناله العدو»، في الروايات الأخر من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من قول مالك، كما ظنه بعضهم وصححه، وإن كان جاء في "الموطأ" من رواية يحيى بن يحيى الأندلسي، ويحيى بن بكير وجماعة من قول مالك، فيحتمل أنه شك، هل هي من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل بتحريه هذه الزيادة من كلامه / على التفسير، وإلا فهي صحيحة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من رواية الثقات إسماعيل بن أبي أمية، وليث بن أبي سليمان والضحاك بن عثمان وعبد الله العمري وأيوب وغيرهم. وقد رويت عن مالك متصلة من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كرواية غيره من رواية عبد الرحمن بن مهدى ومن رواية ابن رهب عنه.
وأجاز الفقهاء أن يكتب لهم بالآية ونحوها إذا كان الكتاب ليدعوا به إلى الإسلام ويوعظوا به، وشبه هذا. والحجة كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم بمثل ذلك في كتبه. واختلفوا في تعليمهم شيئًا من القرآن، فمنعه مالك، وأجازه أبو حنيفة. واختلف فيه قول الشافعي. وحجة من أجازه: لعله يرغب في الإسلام، وحجة من منع: كونه نجسًا كافرًا في الحال عدوا لله ولكتابه، فلا يعرض لإهانته والاستخفاف به. ولو طلب العدو أن يجهز إليهم مصحفًا لينظروا فيه لم يمكنوا من ذلك ولا جاز. وقد كره مالك وغيره معاملة الكفار بالدنانير والدراهم التي فيها اسم الله تعالى أو ذكر اسم الله إذ لم يكن في الدراهم التي كانت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في الدنانير شيئًا من ذلك، إنما كانت ضرب فارس أو من ضرب الروم وملساء.(7/90)
وذكر مسلم حديث المسابقة من الخيل المضمرة وغيرها. فيه جواز المسابقة بين الخيل وجواز تضميرها، وهذا مما لا خلاف فيه، وما كان في الجاهلية فاقره الإسلام، وليس من باب تعذيب البهائم، بل من تدريبها للجرى واعدادها لحاجتها والكر. واختلف هل من باب المباح أو من باب المرغب فيه والسنن.
ولا خلاف في جواز المراهنة فيها وأنها خارجة عن باب القمار، لكن لذلك صور: أحدها متفق على جوازه، والثاني متفق على منعه، وفي الوجوه الأخر خلاف.
فأما المتفق على جوازه، فإن يخرج الوالي سبقًا يجعله للسابق من المتسابقين، ولا فرس له هو في الحلبة فمن سبق له. وكذلك لو أخرج أسباقًا، أحدها للسابق، والثاني للمصلي، والثالث للتالي وهكذا، فهو جائز ويأخذونه على شروطهم. وكذلك إن فعل ذلك متطوعًا رجل من الناس ممن لا فرس له في الحلبة ؛ لأن هذا قد خرج من معنى القمار إلى باب المكارمة والتفضل على السابق، وقد أخرجه على يده بكل حال.
وأما المتفق على منعه، فإن يخرج كل واحد من المتسابقين سبقًا فمن سبق منهما أخذ سبق صاحبه وأمسك متاعه، فهذا قمار عند مالك والشافعي وأبي سفيان وجميع العلماء ما لم يكن بينهما محلل، فإن كان بينهما محلل فجعلا له السبق إن سبق ولا شيء عليه إن سبق، فأجازه ابن المسيب، وقاله مالك مرة، والمشهور منه أنه لا يجوز.
وقال الشافعي مثل قول ابن المسيب، قال: فإن سبق أحد المتسابقين أحرز سبقه وسبق صاحبه. وإن سبقا جميعًا كان لكل واحد منهما ما أخرج، وكانا كمن لم يسبق أحدهما صاحبه،وإن سبق المميز جاز السبقين.وسمي محللاً ؛ لمقابلة السبق لتحليله السبق بدخوله لأنه علم أن المقصد بدخوله السبق في المال.وإذا لم يكن بينهما محلل فمقصده بالمال والمخاطرة فيه، وقال محمد بن الحسن نحوه، وهو قول الزهري وا لأوزاعي وأحمد وإسحاق.(7/91)
ومن الوجوه المختلف فيها: أن يكون الوالي أو غيره ممن أخرج للسبق له فرس في الحلبة فيخرج سبقًا على أن سبق يحبس مسبقه، وإن سبق أخذه السابق. وأكثر العلماء يجيزون هذا الشرط، وهو أحد أقوال مالك وبعض أصحابه. وهو قول الشافعي والليث والثوري وأبي حنيفة، قالوا: إلا سباق على ملك أربابها، وهم فيها على شروطهم، وأبي ذلك مالك - في الرواية الأخرى - وبعض أصحابه وربيعة والأوزاعي وقالوا: لا يرجع إليه سبقه، قال مالك: وإنما يأكله من حضر إن سبق مخرجه إن لم يكن مع المتسابقين ثالث، فإن كان معهما ثالث فالذى يلى مخرجه إن سبق، فإن سبق غيره فهو له بغير خلاف فخرج هذا عندهم عن معنى القمار جملة ولحق بالأول ؛ لأن صاحبه قد أخرجه عن ملكه جملة وتفضل بدفعه، وفي الوجوه الأخر يعني من القمار، والحظر لأنها مرة ترجع الاسباق لمخرج أحدهما، ومرة تخرج عنه إلى غيره.
ومن شرط وضع الرهان في المسابقة أن تكرن الخيل متقاربة الحال في سبق بعضها بعضا، فمتى تحقق حال أحدهما في السبق كان الرهن في ذلك قمارًا لا يجوز، وإدخال المحلل لغو لا معنى له. وكذلك إن كانت متقاربة الحال مما يقطع غالبًا على سبق جنسها كالمضمرة مع غير المضمرة، والعراب مع غيرها. فلا يجوز المراهنه في مثل هذا، ويجوز فيها المسابقة بغير رهان، وإنما يدخل التحليل والتحريم مع الرهان، وليس في حديث مسابقة النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الرهان، وفيه تمييز ما ضمر وسباقه. منفردًا عما لم يضمر.
وقد ذكر أبو داود وغيره في ذلك عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن أدخل فرسًا بين فرسين، وقد أمن أن يسبق فهو قمار، ومن شرطهما أيضًا ضرب الأصل لسباقها.
والتضمير هو تقليل علفها مدة وإدخالها بيتًا كنينًا، وتحليلها فيه لتعرق ويجف عرقها، فتصلب ويخف لحمها، وتقوى على الجري. يقال: ضمرت الفرس وأضمرته.(7/92)
وقوله:" من الحفياء إلى ثنية الوداع "، الحفياء تمد وتقصر. قال سفيان: بينهما خمسة أميال أو ستة. وقال ابن عقبة: ستة أميال أو سبعة. وثنية الوداع موضع بالمدينة، سمى بذلك الخارج منها يودع مشيعه. وقيل: بل سمي بذلك لوداع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بعض المسلمين، والأول أصح ؛ لقول نساء الأنصار حين مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم -:
طلع البدرعلينا من ثنيات الوداع
فدل أنه اسم قديم.
وقوله في التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق: بتقديم الزاي، وذلك / ب ميل ونحوه وهذه اللفظة أصح وأثبت في أمر التي لم تضمر مما جاء / فيه من غير هذا. والمسابقة في الإبل مثل ذلك، وكذلك في الرمي والمناضلة بالسهام، ووضع الرهان لمن سبق أو أصاب في ذلك كله جائز، ولا تجوز المراهنة في غير هذه الأشياء عند مالك والشافعي وغيرهما، للحديث في ذلك عن أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم -:« لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل ».
وقد ذهب بعض الناس إلى أن الرهان لا تجوز إلا في الخيل وحدها ج إذ هي التي كانت عادة العرب المراهنة فيها، وبقى غيرها على عموم النهي عن القمار ولم يقل شيئًا. وأما المسابقة على الأقدام وفي غير ذلك من الأعمال بغير رهان، فمن باب الجائزات، وقد تقدم ذلك في حديث سلمة بن الأكوع. ومنه مسابقة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة فهذا من الجائز المباح لا غير، وقد تكون مسابقة الرجال على الأقدام من باب مسابقة الخيل المنسوبة والمرغب فيها على من رأى ذلك، لما فيه من التدريب والتجربة للحاجة إلى سبق المسابق في ذلك كما احتيج إلى سلمة في غزوة ذى قرد كما يحتاج إلى الخيل في ذلك، والباب واحد، وروى عن عطاء: السبق في كل شيء جائز، ولعله أراد بغير رهان، وإلا فهو خلاف الجمهور،وباب القمار المنهي عنه وأكل المال بالباطل. وفي الحديث جواز قول:" مسجد فلان، أو مسجد لفلان، وقد ترجم البخاري عليه بذلك.(7/93)
قال القاضي: ذكر الإمام أبو عبد الله هنا ما جاء في إسناد هذا الباب من العلة في كتاب مسلم من رواية أيوب عن نافع، وكان في النسخ الداخلة إلينا من المعلم في ذلك تلفيق ونقص وتغيير حكاية عما قاله مسلم، فرأينا أن نأتي بالكلام على وجهه من لفظ شيوخنا أبي على الغساني الحافظ الذي منه اقتضبه الإمام أبو عبد الله إلا ما اختصرنا منه مما لا يخل بمعنى كلامه ثم أتبعه الدارقطني.
قال أبو على الحافظ رحمه الله: ذكر مسلم حديث مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر بمثل حديث مالك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع، الحديث، ثم ذكره من حديث الليث عن نافع وحماد بن زيد عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر هذا في الكتاب من جميع الطرق التي رويناه بها، وذكر أبو مسعود الدمشقي عن مسلم، عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن ابن نافع، عن نافع عن ابن عمر بمثل حديث مالك، فزاد في الإسناد: ابن نافع، والذي قاله أبو مسعود محفوظ عن جماعة من أصحاب ابن علية.
قال الشيخ أبو الحسن في كتاب " العلل "، وذكر هذا الحديث، فقال: يرويه أحمد ابن حنبل وعلى بن المديني وداود بن رشيد عن ابن علية، عن أيوب، عن ابن نافع، عن نافع، عن ابن عمر. وهذا شاهد ذكره أبو مسعود عن مسلم، عن زهير، عن ابن علية، قال أبو الحسن: وخالفهم مسدد وزياد بن أيوب، روياه عن ابن علية، عن أيوب، عن نافع، لم يذكر بينهما أحدًا. قال: وكذلك رواه حاتم بن دردان عن أيوب، عن نافع، وقول عبد الله بن عمر:" فجئت سابقًا / فطفف بى الفرس المسجد "، كذا ضبطناه، وفي بعض النسخ: " فطفف في الفرس المسجد "، ولا وجه لهذا. وقد جاء الخبر أن الفرس اقتحم بعبد الله جرفًا فصرعه، وفي خبر آخر: أنه وثب به المسجد إلى الجرف "، فيجتمع الحديثان، وذلك، والله أعلم بعد أن طفف كما قال.(7/94)
ومعنى:" طفف "، هنا، والله أعلم وثب وعلا المسجد من وراء الغاية واستعلى، والطف: ما أشرف من أرض العرب على ريف العراق، قال الأصمعي: سمى بذلك لأنه دنا من الريف، يقال: طف كذا، وطفف عليه وأطف: أي علا عليه، وزاد: وأصل التطفيف هذا، وإناء طفَّان علا ما فيه ولم يمل، والتطفيف في الكيل منه إذا لم يكمل مليه، ونقص عن ذلك واقتصر فيه على ارتفاعه ومقاربته.
وقوله:« الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والغنيمة»، وهذا من كلامه البليغ - صلى الله عليه وسلم -، وتحسينه الألفاظ العذبة السهلة بعضها ببعض، وفي الحديث الأخر: "معقوص " وهو بمعنى معقود، أي ملوى بها ومضفور فيها والعقصة: الضفيرة. وفي الحديث الأخر:« البركة في نواصى الخيل ». الناصية: هذا الشعر المسترسل على الجبهة. قاله الخطابي: وكنى بها عن الذات نفسها. يقال: فلان مبارك الناصية، أي الذات والنفس، وهذا كله دليل على تفضيل الخيل وارتباطها في سبيل الله، واتخاذها عدة لجهاد أعدانه، وأن خيرها وبركتها ما فسر في الحديث من الغنيمة. وفيه أن الجهاد باق ثابت إلى يوم القيامة، واستدل بعض العلماء باستمراره تحت راية كل بر وفاجر بهذا الحديث. وفيه بقاء الإسلام والمجاهدين الذابين إلى يوم القيامة.(7/95)
قال بعضهم: وإذا كان الخير والبركة في نواصيها، فيبعد أن يكون فيها شؤم على ماجاء في حديث أبي هريرة، وقد تأول العلماء ذلك أن معناه إنعقاد الناس في ذلك، لا أنه خبر من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إثبات الشؤم، وروى عن عائشة نحوه، قالت: إنما كان يحدث - صلى الله عليه وسلم - عن أقوال الجاهلية، وسيأتي الكلام على هذا وشبهه من الطيرة والفأل في بابه إن شاء الله تعالى. وقد يحتمل أن يكون الشؤم في غير هذه التي ارتبطت للجهاد وأنها المخصوصة بالخير والبركة وقد تكون البركة المذكورة في هذا الحديث الثبات واللزوم وبقاء الخير المذكور فيها إلى يوم القيامة، وهو أحد معانى البركة وأحد التأويلات في قوله تعالى: { تبارك الله }. وقد يكون معناه: الزيادة بما يكون من نفسها والكسب عليها والمغانم والأجر. وفي فتله ناصية فرسه العقل في خدمة الرجل دابته المعدة للجهاد.
وذكر مسلم كراهة النبي - صلى الله عليه وسلم - الشكال في الخيل، وفسره في حديث عبدالرزاق: أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض وفي يده اليسرى، وفي يده اليمنى وفي رجله اليسرى، قال الإمام: قال أبو عبيد: هو أن / تكون منه ثلاث قوائم محجلة وواحدة مطلقة، أخذ من الشكال الذي يشكل به الخيل، شبهه به لأن الشكال إنما يكون في ثلاث قوائم، وقد فسره في كتاب مسلم.
قال القاضي: قد بقي من كلام أبي عبيد قال: أو تكون ثلاث قوائم مطلقة وواحدة محجلة، ولا يكون الشكال إلا في الرجل لا يكون في اليد، إنما يكون في الشكال إذا كانت الرجل هي المطلقة وحدها أو المحجلة وحدها، وقال ابن دريد: الشكال أن يكون تحجيله في يد ورجل من شق واحد، فإن كان مخالفًا قيل: شكال مخالف. وقال أبو عمر المطرز: وقيل: الشكال بياض الرجل اليمنى واليد اليمنى، وقيل: بياض الرجل اليسرى واليد اليسرى، وقيل: بياض اليدين، وقيل: بياض الرجلين، وقيل: بياض اليدين ورجل واحدة، رقيل: بياض الرجلين ويد واحدة.(7/96)
وفي سند هذا الحديث في رواية يحيى بن يحيى عن سفيان، عن سالم بن عبد الرحمن، عن أبي زرعة. كذا جاء في جميع النسخ، وكذا هي رواية شعبة، لكن يحيى حكى رواية شعبة، وقال أيضًا، هو عن سلم بن عبدالرحمن، كذا في جميع النسخ. قال بعضهم: وذكر الحاكم سليمان بن عبد الرحمن.
قال القاضي: وهو عندي وهم من قائله، أو تصحيف في كتابه، والذي عندنا في أصل الحاكم من روايتنا عن غير واحد، عن الحميدي، عن أبي زكريا البخاري اجازه، وعن الحميدى، عن أبي علي البيهقى، عن أبيه، عن سالم، وكذا قاله البخاري. وفيه في رواية ابن مثنى سعيد عن عبد الله بن يزيد النخعى، عن أبي زرعة، كذا في جميع النسخ، وكذا هي رواية شعبة، وقال: إنما هو عن سالم بن عبد الرحمن.
وقوله في فضل الخارج للجهاد لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته الشهادتين: يريد خلوص نيته لذلك، وبريد لتصديق كلماته الشهادتين وعداوة من أباهما، وقيل: يحتمل أن يريد الأمر بالجهاد وتصديق ما جاء في ثوابه.
وقوله في فضل الجهاد: " فهو على ضامن أن أدخله الجنة،، قال الإمام: يجيء فاعل بمعنى مفعول، كقوله:{ ماء دافق } بمعنى مدفوق و { عيشة راضية }، بمعنى مرضية، فعلى هذا يكون ضامن بمعنى مضمون.
قال القاضي: قيل في هذا: إن معناه: ذو ضمان على الله لقوله تعالى: { ومن يخرج من يته مهاجرًا إلى الله ورسوله } الآية. وذا عيشة راضية.
وقوله:« تكفل » كقوله:" ضمن "، في الرواية الأخرى، ومعناه هنا: أنه تعالى أوجبه له بفضله. قيل: وبذا الضمان والكفالة بما سبق في أزل علمه، وما صرح به في كتابه بقوله:{ إن الله اشترى من المؤمنين } الآية. قال بعض العلماء: وليهعكي في الآية شرط بانهم يقتلون بكل حال، بل ذكر الحالين فقال:{ فيقتلون ويقتلون }، ولهذا قال بعض الصحابة: ما أبالي قتلت في سبيل الله أو قتلت، ثم تلا الآية.(7/97)
وقوله:« أن يدخله الجنة »، له وجهان: أحدهما: أن يدخله إياها عند موته، كما جاء في الشهداء في كتاب الله:{ أحياء عند ربهم يرزقون }، ويحتمل أن يريد دخوله الجنة عند دخول السابقين / والمقربين لها دون حساب ولا عقاب ولا مؤاخذة بذنب، له إذ الشهادة كفارة لما تقدم من ذنوبه، كما جاء في الحديث الآخر بعد هذا.
وقوله:« أو يرجعه إلى مسكنه مع ما نال من أجر أو غنيمة »، فيه وجهان: أحدهما: مع ما نال من أجر مجرد إن لم تكن غنيمه أو أجر وغنيمة إذا كانت، فاكتفى بذكر الأجر أولاً عن تكراره، وقيل:" أو " ها هنا بمعنى الواو، وقد روى أبو داود: "من أجر وغنيمة "، وكذا وقع عندنا في "الأم" في حديث يحيى بن يحيى. وقيل: فيه أن الغنيمة لا تنقص من الأجر، خلافًا لمن ذهب لذلك للأثر الذي ذكره بعد هذا. وقال أبو عبد الله بن أبي صفرة: فيه أن المجاهدين لما وجدناهم غير متساوين في الأجر متساوين في القسم في الغنيمة، دل أن أجورهم استحقوها بالقتال والغنيمة بفضل الله تعالى عليهم.
وقوله:« ما من كلم يكلم في سبيل الله »، الكلم: الجرح.
وقوله:« إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم »، قيل: في هذا دليل أنه لا يغسل الشهيد، وأنه يحشر على هيئته التي مات عليها.
قوله:« والله أعلم بمن يكلم في سبيله »، تنبيه على أن هذا إن أخلص نيته لله تعالى وخرج ابتغاء مرضاته ونصر الله. وظاهر السبيل هنا الجهاد، وقيل: قد يكون هذا الفضل عموما لكل من خرج في سبيل الله من جهاد الكفار وغيرهم من المارقين اللصوص والبغاة، وفي الأمر بالمعروف.
وقوله:« وجرحه يثعب دما »، قال الإمام: ويقال: ثعبت الماء: إذا فجرته فانثعب.(7/98)
قال القاضي: وهو بمعنى ما في الرواية الأخرى:" يفجر دما "، وقوله: « اللون لون دم، والريح مسك »، يحتج به على أن المراعي في الماء تغير لونه دون رائحته ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى هذا الخارج من جرح الشهيد دمًا وإن كان ريحه ريح المسك، ولم يقل: مسكًا بقلب الاسم للونه على رائحته، فكذلك الماء مالم يتغير لونه لم يلتفت إلى تغيير رائحته، وهذا قولنا فيما تغيرت رائحته بالمجاورة. فأما بما خالطه فعبدالملك يقول: لا يعتبر بها كرائحة، وإنما الاعتبار باللون والطعم. ومالك وجمهور أصحابه يعتبرون الرائحة كاعتبار اللون والطعم، ويحكمون لتغيره بالرائحة بالإضافة والنجاسة، وقد تقدم الكلام على هذا الباب.
ويحتج بهذا الحديث أيضًا أبو حنيفة في جواز استعمال الماء المضاف المتغير أوصافه لانطلاق اسم الماء عليه، كما انطلق على هذا اسم الدم وإن تغيرت أوصافه إلى الطيب، وحجته بذلك تضعف. وقد احتج به البخاري في ترجمة ما يقع من النجاسات في الماء والسمن، فقد يحتمل أن حجته فيه للرخصة في الرائحة كما تقدم، أو التغليظ به عكس الاستدلال بأن الدم لما ينتقل بطيب رائحته من حكم النجاسة إلى الطهارة، ومن حكم القذارة إلى التطيب بتغير رائحته، وحكم له بحكم المسك / والطيب للشهيد، فكذلك الماء ينتقل، أي على العكس بخبث الرائحة أو تغير أحد أوصافه من الطهارة إلى النجاسة، والله أعلم.
وقوله:« والذي نفس محمد بيده »، حجة في جواز الحلف بمثل بذا، واليد ها هنا ظاهر في معنى القدرة والملك، واستعمال العرب لها في هذا الباب مشهور.
وقوله:« لولا أن أشق على المؤمنين ما بقيت خلاف سرية »، قد بين في الحديث صورة المشقة، من أنه يشق عليهم التخلف بعده، ولا تطيب أنفسهم بذلك، وأنه لا يقدر على حملهم كلهم ولا يقدرون هم على ذلك لضيق الحال. وفيه رفقه - صلى الله عليه وسلم - بأمته ورأفته بهم، وأنهم يترك من أعمال البر لئلا يتكلفوه هم فيشق عليهم.(7/99)
وقوله:« وددت أن أغزو فاقتل »، وفي الرواية الأخرى:« ثم أحيىَ »، فيه فضل عظيم الشهادة، وجواز التمني للشهادة وللخير والنية فيه فوق ما يطيق الإنسان، وما لا يمكنه لو قدر له. وفيه أن الجهاد ليس بفرض على الأعيان وكافة الناس، وإنما هو من فرض الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين. وكان في أول الإسلام فرضًا على كل من يحضره النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال الإمام: خرَّخ مسلم في فضل الشهيد: نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا أبو خالد الأحمر، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال بعضهم: ظاهر هذا الإسناد أن شعبة يرويه عن قتادة وعن حميد عن أنس. وصوابه أن أبا خالد الأحمر يرويه عن حميد، عن أنس، وعن شعبة، عن قتادة، عن أنس، وهكذا قال فيه عبد الغني بن سعيد.
قال القاضي: فحميد في الحديث عطف على شعبة لا على قتادة، وقد ذكره ابن أبي شيبة عن أبي خالد، عن حميد وشعبة، عن قتادة، عن أنس، فبينه وإن كان فيه تلفيق في أن ظاهره رواية حميد له عن قتادة، والمعنى ما تقدم. وتمثيله المجاهد بالصائم القائم القانت بآيات الله الذي لا يفتر من صلاة ولا قيام حتى يرجع، تعظيم لأمر الجهاد جدًّا ؛ لأن الجهاد والصلاة والصيام والقيام بآيات الله أفضل الأعمال، فقد عدلها المجاهد وصارت جميع حالاته من فعله في تصرفاته من أكله ونومه وبيعه وشرائه لما يحتاجه، وأجره في ذلك كاجر المثابر على الصوم والصلاة وتلاوة كتاب الله الذي لا يفتر، وقليل ما يقدر عليه، وكذلك قال:« لا يستطيعونه ». وفيه أن الفضائل لا تدرك بالقياس، وإنما هي عطاء من الله وإحسان.(7/100)
وقوله:« إلا الشهيد »، سمي بذلك، قيل: لأنه حيّ. قال ابن شميل: الشهيد: الحي، من قوله تعالى:{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم }، شهيد في الجنة وما لهم فيها. وقال ابن الأنباري: هو بمعنى مشهود له ؛ لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة، وقال غيره: سمى بذلك لأنه شهيد يوم القيامة على الأمم، كما قال: {لتكونوا شهداء على الناس }.
وقول عمر للذين ذكروا فضائل الأعمال:" لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - /، هو يوم الجمعة "، فيكون هذا التحدث ورفع الصوت في مساجد الجماعات، وإن كان في باب الخير والعلم، إذا كان وقت اجتماع الناس وانتظارهم الصلاة ؛ لأن منهم حينئذ المتنفل والذاكر فيشغله ذلك. وفي هذا الحديث.وغيره مما ذكر مسلم فضل على سائر الأعمال وبذلك نزل كما ذكر في الحديث:{ أجعلتم سقاية الحاج }.
وقوله:« لغذوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها »، الغدوة: بفتح الغين: السير بالغدو. والغدوة، بالضم: من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس. والغدوة بالفتح: السير إلى الزوال. والروحة: السير بالرواح، وذلك من الزوال إلى آخر النهار. والغدوة والروحة الذهاب مرة واحدة في هذين الوقتين، ومعناه: أن أفضل ذلك وثوابه ونعيمه - على قلة هذا العمل - خير من نعيم الدنيا كله لو ملكه مالك على اتساعه في التقدير، ومحل ذلك من العظم في النفوس لشاهديه، وذلك لأنه زائل ونعيم الآخرة باق. وقد قيل: معناه ومعنى ما جاء من يبحث له من تمثيل أمور الاخرة أثرًا بها بأمور الدنيا، أنهما خير من الدنيا وما فيها لو ملكه مالك فانفقه في الآخرة، فإن الجهاد أفضل من ذلك، وأما تمثيل الباقي بالفاني على وجهه فغير مراده، ولا يصح التمثيل به. وقع في بعض الشيوخ في حديث يحيى بن يحيى:« والغزوة يغزوها » بالزاي، والصواب ما لغيره بالدال، وإن صح المعنى فيها لكن المعروف في رواية الحديث حيث وقع ما تقدم.(7/101)
قال الإمام: خرَّج مسلم في الباب: نا ابن أبي عمر، نا مروان بن معاوية، قال بعضهم: في نسخة أبي العلاء: نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا مروان أ بن معاوية جعل " ابن أبي شيبة " بدل " ابن أبي عمر "، والصواب ما تقدم: أنه من رواية ابن أبي عمر، وهي رواية الجلودي.
قال القاضي: وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد في سبيل الله أنه أفضل الأعمال: بذلك تظاهرت الآثار وصحت الأخبار. وقوله للذى سأله في تكفير خطاياه إن قتل في سبيل الله. قال:" نعم "، إن قتلت وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، فيه أن الأجر في ذلك لمن صدقت نيته، واحتسب أجره ولم يقاتل حمية، ولا طلب دنيا، ولا طلب ذكر وثناء، وأن من قتل مدبرًا فإنه ليس له من هذا الأجر شيء.
وقوله:« إلا الدين »، فيه تنبيه على أن حقوق الآدميين والتبعات التي للعباد لا تكفرها الأعمال الصالحة وإنما تكفر ما بين العبد وربه، ويكون هذا فيمن له يقضاء ما عليه من الدين وأتلفه على ربه عن علم أو عزة من ذمته وملائه، واستدانه في غير واجب، وتحذيرًا وتشديدًا لمن يسارع لإتلاف أموال الناس بهذا الوجه. وقد يحتفل أن هذا كان أولاً، وقيل: قوله:« من ترك دينًا أو ضياعًا فعلي »، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكفل بمن مات من أمته وعليه دين معسرًا، وتحمل دينه وعياله، مما أفاء الله عليه من المغانم، إذ فيها حث في قضاء دين المعسر / والنفقة على العيال أو من احتاج. وقيل: قوله هذا - صلى الله عليه وسلم - ناسخ لما تقدم، وليس بصحيح، وإنما هو بيان لانتقال الحال وتبديل أمر المسلمين من العسر إلى حكم اليسر بما فتح الله عليهم، وقد قيل: إن هذا مما يحتمل أن يختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله:« أنا أولى بالمؤمنين »، وقد تقدم الكلام على هذا.(7/102)
وقوله في الجواب أولاً: " نعم،، ثم قال بعد: " إلا الدين "، يحتمل انه أعلم بهذا بعد، إن لم يعلمه، ويحتمل أنه أعلم أولاً لفظًا مع علمه باستثناء الدين، ثم رأى بيانه في فضل الجهاد: " يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، يحتمل أنه على ظاهره، وأن الدرجة هنا المنازل التي بعضها أرفع من بعض في الظاهر، وكذلك منازل الجنة، كما جاء في أهل الغرف:« يتراءون كالكوكب الدري »، ويحتمل أن يريد فيها الرفقة بالمعنى من كثرة النعم وعظيم الإحسان، مما لم يخطر على قلب بشر، ولا يصفه واصف، وأن أنواع ما أنعم به عليه وبوأه من البر والكرامة يتفاضل تفاضلاً كثيرًا، وينسى بعضه بعضًا، ومثل تفاضله في البعد بما بين السماء والأرض، والأول أظهر.
وقوله في الباب: نا سعيد بن منصور، نا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن محمد ابن قيس، قال: وحدثنا ابن عجلان عن محمد بن قيس. كذا جاء مبينًا معطوفًا في مصنف سعيد بن منصور الذي سمعه منه مسلم.
قال الإمام: ذكر مسلم في باب الشهداء: عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة حديث مسروق: سألنا عبد الله عن هذه الآية:{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا } بالحديث موقوفًا، وهكذا جاء عبد الله غير منسوب. قال بعضهم: قال أبو مسعود الدمشقى: من الناس من ينسبه فيقرل: عبد الله بن عمرو، والله أعلم. وذكره أبو مسعود الدمشقي في مسند أبي مسعود.
قال القاضي: كذا هو ابن مسعود عندنا في الأصل من رواية أبي بحر، وسقط لغيره من شيوخنا، وأراه من إلحاق شيخه الكناني، والله أعلم.(7/103)
وقوله:« أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل »، في هذا أولاً إثبات أن الجنة مخلوقة موجودة، وهو مذهب أهل السنة، وأنها التي أهبط منها آدم، وهي التي ينعم فيها المؤمنون في الآخرة، خلافًا للمعتزلة وطوائف من المبتدعة بأنها بعد لم توجد، وأن الجنة التي كان فيها آدم غيرها. والآثار وظاهر القرآن يدل على مذهب أهل السنة.
وفيه دليل على مجازاة الأموات بالثراب والعقاب قبل القيامة، وقد ترى من هذا في عذاب القبر. وفيه أن الأرواح باقية لا تفنى، فينعم المحسن ويعذب المسيء كما جاء في القرآن والاثار، وهو مذهب أهل السنة، خلافًا لغيرهم من أهل البدع القائلين بفنائها. وقال / هنا:« أرواح الشهيد »، أو قال في حديث مالك:« إنها نسمة المؤمن »، والنسمة تنطلق على ذات الإنسان جسمًا وروحًا، وتنطلق على الروح مفردًا، وهو المراد بها هنا لتفسيرها في هذا الحديث بالروح ؛ لأن الجسم يفنى ويكله التراب، ولقوله في الحديث: «حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه »، وذكر في حديث مالك:« نسمة المؤمن »، وقال:" هنا الشهداء »، فقيل: المراد:" هناك الشهداء "، إذ هذه صفتهم لقوله تعالى:{ أحياء عند ربهم يرزقون }، حسبما فسره في هذا الحديث، رخصة بهم، وأن غيرهم إنما يعرضر عليه مقعده من الجنة أو النار بالغداة والعشي كما جاء في حديث ابن عمر، وكما قال تعالى في آل فرعون: { النار يعرضون عليها غدوًّا وعشيًّا }، وقيل: بل المراد سائر المؤمنين المستوجبين لدخول الجنة دون عقاب، بدليل عموم الحديث وغير ذلك من الأحاديث، وتيل بل أرواح المؤمنين على أفنية قبورهم.(7/104)
وقوله في هذا الحديث:« في جوف طير خضر »، وفي غير مسلم: «كطير خضر »، وفي حديث آخر عن قتادة:« في صور طير بيض »، قال بعض المتكلمين على هذا: الأشبه صحة قول من قال:" طير " أو " صورة طير "، وهو أكثر ما جاءت به الروايات، لا سيما مع قوله:« وتأوى إلى قناديل تحت العرش »، وأبعد بعضهم هذا، ولم ينكره آخرون، وليس فيه ما ينكر، ولا بين الأمرين فرق، بل رواية " طير "، أو " أجواف طير "، أصح معنى وأبين وجهًا، وليس بالأقيسة والعقول في هذا محكم، فكل من المجوزات. فإذا أراد الله أن يجعل هذه الروح إذا خرجت من المؤمن، والشهيد في قناديل أو أجواف طير أو حيث يشاء كان ذلك، ولم يبعد، لا سيما مع القول: إن الأرواح أجسام، كما سنذكره ونذكر الخلاف في ذلك، ولما أبعدنا أن تكون رواية أنها طير على ظاهره، إذ لر غيرت الأرواح عن حالها وصفاتها إلى صفات طيور خضر لم تكن حينئذ أرواحًا.
وأما على القول: إن الروح معنى وهي الحياة، فبعيذ أيضًا أن ترجع صورة طير؛ لأن المعاني لا تتجسم ولا تقوم بنفسها، وإنما تقوم بغيرها من أجسام يخلقها الله تعالى لذلك، وقد قيل على هذا: إن المعذب أو المنعم من الأرواح جزء من الجسد يبقى فيه الروح، فهو الذي يألم ويعذب، ويلتذ وينعم، وهو الذي يقول { رب ارجعون }، وهو الذي يعلق بشجر الجنة، فغير مستحيل أن يصور ذلك الجزء طائرًا، ويجعل في جوف طائر وفي قناديل تحت العرش، وغير ذلك مما يريده الله تعالى على المعاني التي تقدم، والله أعلم بمراد نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
وقال بعض أهل المعاني: إنما ورد هذا الكلام مورد التمثيل والتقريب للأفهام ولسرعة تناول هذه الروح لما تريد من نعيم الجنة، وإدراك متناولها وما تشتهيه من لذاتها كسرعة طيران الطير، وقطعه المسافة البعيدة في الزمن القصير.(7/105)
وقد اختلف الناس في الأرواح ما هي؟ اختلافًا لا يكاد ينحصر، فذهب كثير من أرباب المعانى وعلم الباطن، والمتكلمين إلى أنه مما لا تعرف حقيقته، ولا يصح وصفه، ومما جهل الخلق علمه، واستدلوا بقوله / سبحانه: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً}، قالوا: وهو أمر رباني إلهي. وغلا بعضهم فقال بقدمه، وهو مذهب الفلاسفة. وقال آخرون منهم - وهو قول جمهور الأطباء -: إنه البخار اللطيف السائد مع الدم. وعول كثير من شيوخنا أنه الحياة، وقال آاخرون: الحياة معنى آخر، والروح غيره يبطل الجسد بفقده، وقال آخرون: هي أجسام لطيفة مشاركة للجسم يحيا بحياة الجسم، أجرى الله العادة بموت الجسم عند فراقه. وقيل: هو بعض الجسم، ولذلك وصف بالخروج والقبض وبلاغ الحلقوم، وهذه صفة الأجسام لا المعاني. وذهب بعض المتقدمين من أئمتنا إلى أنه جسم لطيف مصور على صورة الإنسان داخل الجسم. وذهب بعض مشايخنا وغيرهم إلى أنه النفس الداخل والخارج، وهذا خطأ بين، وقال آخرون: هو الدم، وهذا خطأ أيضًا.
وكذلك اختلفوا في النفس، فقيل: هي الروح، لفظان لمعين واسمان لشيء واحد، وقيل: هي الدم، وقيل: النفس الداخل والخارج، وقيل: هي الحياة. ولا خلاف أنها تقع على ذات الشيء وحقيقته.
وأما قوله:« تعلق في ثمار الجنة »، فمن رواه بضم اللام فمعناه: تأكل ولصيب، وقيل: تتناول، ويؤيد هذا قوله في الحديث:" تأكل ثمار الجنة، وترد أنهارها »، وكما قال في الكتاب العزيز:{ أحياء عند ربهم يرزقون }، وقيل:" تعلق ": تشم، وهذا أشبه بالأرواح وتغذيها مجردة عن الأجسام، ولعل هذا هو معنى أكلها في الحديث الآخر، ورزقها في القرآن، ومن قاله بالفتح فمعناه الأول، وقيل: معناه: تتعلق وتقع عليها، وقيل: تأوى إليها، ويؤيده رواية:" تسرح ". وقد يكون الاكل والورود راجعًا إلى الجزء الذي تقوم به الروح على أحد الوجهين المتقدمين، والله اعلم.(7/106)
وأما النسمة المذكورة في الحديث الآخر فقيل: هي هنا الروح، والنسمة تقع على النفس والروح والبدن، وقال الخليل: النسمة: الإنسان، وفي الحديث:« لا والذي برأ النسمة ». قال الشاعر:
أرى النسمات ينفضن الغبارا
يعني البعث، وقد تعلق بحديثنا هذا وبشبهه بعض الملحدة ممن يقول بالتناسخ وانتقال الأرواح، وتنعيمها في الصرر الحسان المرفهة، وتعذيبها في الصور القبيحة المسخرة، وأن هذا هو معنى الثواب والعقاب والإعادة حتى إذا استوت بنيته، وإنما الصور قوالب لهذه الأرواح تنتقل فيها. وهو ضلال وابطال لما جاء به الشرع من الحشر والنشر، والجنة والنار؛ إذ قد قال في الحديث:« حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه »، أعني يوم يجيء جميع. فإنما تكون هذه الطيور قبل البعث مقاعد لها كقناديل الذهب المذكورة معها، ولعل هذه الطيرر كانت على صورها من ذهب أو يواقيت أو ما شاء الله تعالى، كما جاء في صفات خيل أهل الجنة، وأنها كلها مراكب ومجالس لأهل الجنة ولأرواحهم قبل البعث كما قيل في سدرة المنتهى: إليها تنتهى أرواح الشهداء، وذكر أنه غشيها فراش من ذهب. ولعلها والله أعلم أنها من تلك الطيور التي تسرح بها أرواح الشهداء التي تأوي إليها فكل يحتمل، غيرمستحيل، ولايبعد.
وأما قوله تعالى لهم:« هل تشتهون شيئًا »، فمبالغة في الإكرام والنعيم ؛ إذ قد أعطاهم ما لا يخطر على قلب بشر، ثم رغبهم في سؤال الزيادة، فلم يجد وراء ما أعطاهم من مزيد، لكن تلقوا ذلك بالشكر بأن سالوه بأن يرد أرواحهم إلى أجسادهم حتى يجاهدوا فيه، ويبذلوا أنفسهم، ويقتلوا في شكر إحسانه، ويستلذوا ألم القتل والموت لمكافاة بره، ويجودوا بذواتهم له، إذ لم يقدروا على غاية فوق ذلك والجود بالنفس أقصى غاية الجود.(7/107)
وقوله: أي الناس أفضل ؟ قال:« رجل يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله»، هذا ليس على العموم، وإلا فالأنبياء والصديقون أفضل، وكذلك العلماء بما شهدت الاحاديث الصحيحة بذلك، والمراد من أعمال البر غير ما ذكرنا.
وقوله:« ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه، ويدع الناس من شره »، فيه فضل العزلة والانحياش عن الناس، وكانه - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى ما يكون بعده من الفتن، بحيث تكون العزلة والتغرب عن الناس أفضل من الدخول فيما هم فيه، أو فيمن لا قدرة له على الجهاد وفي غير زمن الجهاد، أو ممن ليس ينتفع بعلمه ونظره في مصالح المسلمين، فهو أيضًا خصوص في بعض الناس. والشعب هو الشعبة أيضًا بضم الشين، وعند الصدفي بالكسر: ما انفرج بين الجبلين، ولم يرد نفس الشعب خصوصًا، وإنما مثل به للانفراد والعزلة عن الناس، والبعد منهم ؛ إذ هذه المواضع فارغة من الناس غالبًا، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر - حين سئل عن النجاة فقال -:« أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك ».
وقوله « من خير معاش الناس رجل ممسك عنان فرسه »، الحديث: فيه تفضيل الجهاد وشرفه والمواظبة عليه، وأنه وإن ترى فيه أخذ المغانم والاكتساب فهذا لا يؤثر في الأجر، إذا كان الباعث فضل الجهاد والاحتساب فيه، بدليل قوله:« طار عليه يبتغي القتل في سبيل الله »، وبقوله:« يطير على متنه »، أي يسارع للجهاد على ظهر فرسه.
وقوله:« كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليها »، قال الإمام: الهيعة: الصوت الذي يفزع منه، يقال: هاع يهيع هيوعًا وهياعًا: إذا جبن، وهاع يهاع: إذا جاع وإذا تهوع.
وقوله: « في رأس شعفة من هذه الشعف »، الشعفة، بفتح العين غير معجمة، واحدة الشعف، وهي رؤوس الجبال.(7/108)
وقوله:« يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة »، الحديث، الضحك هنا استعارة في حق الله، ولا يجوز عليه الضحك المعلوم ؛ لأنه إنما يصح من الأجسام وممن يجوز عليه تغير الحالات، والله تعالى منزه عن ذلك، وإنما يرجع إلى الرضا بفعلهما والثواب عليه، والإحسان إليهما أو حمد فعلهما ومحبته، وتلقي رسل الله لهما بذلك ؛ لأن الضحك إنما يكون من أحدنا عند موافقة ما يراه وسروره به وبره لمن يلقاه، وقد تقدم الكلام عليه مشبعًا / في صدر الكتاب، وقد يكون الضحك هنا على وجهه المعلوم، والمراد به ملائكة الله ورسله الذين يوجههم للقائه وقبض روحه، وإدخاله الجنة، كما يقال: نادى الأمير في البلد، وقتل السلطان فلانًا: رجاله وأمره.
وقوله:« لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدًا »، يحتمل أن هذا مختص بمن قتل كافرًا في مجاهدة العدو، وأن ذلك تكفير لذنوبه حتى لا يعاقب عليها، أو تكون بنية مخصوصة، وحاله. والله أعلم بها. ويحتمل أن تكون عقابه إن عوقب بغير النار في الأعراف، كالحبس عن دخوله الجنة، فلا يدخل النار، أو يكون إن عوقب بها لا يكون حيث يعاقب الكفار، ولا يجتمع معهم في إدراكها.(7/109)
وقوله في الحديث الآخر:« اجتماعًا يضر أحدهما الآخر »، يدل أنه اجتماع مخصوص، وهو مشكل المعنى، وأوجه ما فيه أن يكون يحتمل ما أشرنا إليه ألا يجتمع معه في وقت إن استحق للعقاب فيعيره بدخوله معه، وأن إيمانه وقتله إياه لم يغنه، وقد جاء مثل هذا في بعض الاثار، ولكن قوله في هذا الحديث:« مؤمن قتل كافرًا ثم سدد »، رادٌّ إشكالاً ؛ لأن المؤمن إذا سدد، ومعناه: استقام على الطريقة ولم يخلط ولا راع. والسداد والسدد: الفضل، لم يدخل النار جملة، قتل كافرًا أو لم يقتله، ووجهه عندي أن يرجع قوله:" ثم سدد " على الكافر القاتل، ويكون بمعنى الحديث المتقدم: لإ يضحك الله لرجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة، يقالل هذا فيستشهد فيدخل الجنة، ثم ينوب الله على القاتل فيسلم فيستشهد "، وقد ذكر البخاري هذه الترجمة على نحو ما ذكرناه: " باب الكافر يقتل المسلم ثم يسلم فيسدد، لكن لم يدخل هذا الحديث المثعكل، وأدخل حديث الضحك بنصه، فلعله لم يدخله لإشكاله، أو لأنه رأى فيه فهما، وأن صوابه: مؤمن قتله كافر ثم سدد. فهذا يطابق ترجمته لو جاءت به رواية، ولكن الأحاديث الأخر جاءت بمثل هذا، ويكون معنى قوله في هذا الحديث:« لا يجتمعان في النار اجتماعًا يضر أحدهما الآخر »، أي لا يدخلانها للعقاب، ويكون هذا تخصيصًا واستثناءً من اجتماع الورود وتخاصم العباد على حبس جهنم، كما جاءت به الآثار، والله أعلم بمراد نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأن ذلك من تجاذبهما ومطالبة المقتول للقاتل لا تضره ولا تدبى كه تباعته ؛ لأنه إنما قتله في الله وفي سبيل الله.(7/110)
قوله في الذي جاء بناقة في سبيل الله:« لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة»، مطابق لقوله - صلى الله عليه وسلم - في تضعيف الحسنات إلى سبعمائة ضعف، وأصله قوله تعالى:{ كمثل حبَّة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبَّة }، ويحتمل أن يكون على ظاهره، تكون له في الجنة يركبها حيث شاء، كما جاء في خيل الجنة ومجيئها، وقد يكون ذلك إشارة إلى تضعيف ثوابه، وتسمية الثواب باسم الحسنة والطاعة، لكن قوله:" مخطومة " يقوى أنه على ظاهره، ومعناه: عليها خطام وهو مثل الزمام.
قوله:" إني بدع بي فاحملنى "، كذا / رويناه عن جميعهم، وفي بعض النسخ:" أبدع "، بالألف، وهو الصواب، ومعروف اللغة، وكذا رواه أبو داود وسعيد بن منصور في "مصنفيهما". قال الإمام: أي أهلك فرسي، يقال للرجل إذا كتت ركابه أو عطبت، وبقي مقطوعًا به: قد بدّع به.
قال القاضي: قدمنا أن صوابه: " أبدع "، وكذا قال هذا الحرف جميع أهل اللغة وفسروه بما تقدم، واختصاصه هنا بالفرس لا وجه له، والأشبه أنه في غيره ؛ لأنهم إنما كانوا يطلبون من النبي - صلى الله عليه وسلم - الحملان من الإبل وأما الخيل فلا، قال الله تعالى:{ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } الأية.(7/111)
وقوله:« من دل على خير فله مثل أجر فاعله »، مثل قوله:« من جهز غازيًا فقد غزا »، أي له أجر فعل الخير، وأجر الغزو، وإن لم يلحق بجميع تضعيف أجر معطى الخير، وأجر الغازى ؛ لأنه يجتمع في تلك الأشياء أفعال أخر وأعمال من البر كثيرة، ولا يلحق بها الدال الذي ليس عنده إلا بمجرد النية في الحسنة، ويموت المسلم بما فعل. وقد بين في هذا الحديث الآخر بقوله:« فله أجر نصف أجر الخارج »، أو لأن الخارج بجهاز هذا ليس له الأجر في إخراج المال أيضًا، وإنما أجره في الجهاد والخروج ؛ ولهذا أجر إخراج المال فيه بمثل نصف أجر من خرج مجاهدا بنفسه وماله، وكذلك مجهز الغازي وخالفه في عياله بالخير الذي ليس له إلا حسن عونه، وبذل ماله في جهازه، والقيام بمن خلفه، وكذلك المعونة في جميع أعمال البر، وبعكسه المعونة في السياق كما جاء في الحديث المشهور: بعث إلى بني لحيان بن هذيل، فقال:« لينبعث من كل رجلين أحدهما، والأجر بينهما»، يعني بعث لغزو بني لحيان وهم كفار، وقال للذين بعثهم هذا الكلام، أي ليخرج من كل جماعة نصفها من العدد والأجر بينهما ؛ لأن الباقى يعين من الخارج بما يحتاج إليه، وبخلافه من يتخلفه في القيام عليه، كما فسره في آخر الحديث، وكما ذكر في الحديث الآخر من ضد ذلك في خلافته له فيهم بشر وخيانة. وبنو لحيان بفتح اللام وكسرها، وأبو سعيد مولى المهري.
وقوله:" أعطيه الذي تجهزت به ولا تحبسي عنه شيئًا، فوالله لا تحبسي منه شيئًا فيبارك لك فيه "، إما لأنه كان أخرجه لله ليتجهز به، كما قال في الحديث:" فمنعه المرض "، أو لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له في الحديث يرفعه إليه وترغيبه في ذلك.
قوله في الذي يخون المجاهد في أهله: أنه يأخذ من حسناته يوم القيامة ما شاء فما ظنكم ؟ يعني لما ترون في رغبته في أخذ حسناته والاستكثار منها في ذلك المقام، أي أنه لا يبقى له شيئًا منها إن أمكنه ذلك وأبيح له.(7/112)
وحديث ابن أم مكتوم وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب الآية في الكتف: فيه جواز كتب القرآن في الألواح والأكتاف، ودليل على طهارة عظام ما ذكى مما يؤكل لحمه أو ذكى لأخذ عظامه. وقد يستدل به على طهارة العظم وعلى استعمال عظام الفيل جملة، إذ لم يرد اختصاصهم بما كانوا / يكتبون فيه من اكتاف الإبل ما ذكى مما لم يذك، ولا ما أخذ قبل الإسلام أو بعده، وقد اختلف الناس في هذا الباب، وتقدم منه.
وقوله: " فنزلت :{ غير أولي الضرر }، في الآية دليل على أن الأجور على قدر الأعمال، وأن الذي لا يجاهد ليس له ثواب المجاهد، إلا من منعه عذر فله بقدر نيته،كما قال:{ غير أولي الضرر }، وكما قال تعالى: {فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة }، يعني القاعدين من أولي الضرر، { وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا}، يعني في من غير أولي الضرر الذين ذكر أنهم لا يستوون معهم. وفيه رد على المعتزلة لتسويتهم الأجر لأولي الضرر على فاسد أصولهم في الثواب والعقاب، وقول الله تعالى في كتابه يرد عليهم، وتفريقه بين القاعدين والمجاهدين واستثنائه أولي الضرر وتفضيل المجاهدين عليهم بدرجة.
وقوله تعالى:{ وكلا وعد الله الحسنى }، أي المجاهد، والقاعد أولي الضرر، لصدق نيتهم معهم، وأن الله حبسهم. واختلف القراء والنحاة في نصب راء "غير أولي الضرر " على الاستثناء، أو رفعها على النعت للقاعدين أو البدل، وقد قرأها بعضهم بالكسر على وصف المؤمنين أو البدل منهم.
وقوله:{ درجات منه }، أي: فضالل ومنازل، قيل: الإسلام درجة، والجهاد درجة، والقتل فيه درجة، والهجرة درجة. وقيل: هي سبع درجات المذكورة في " براءة " بأنه لا يصيبهم ظمأ ولا نصب الآيتان، وقيل: هي سبعون درجة.(7/113)
وفي الآية والحديث دليل أن من حبسه عن طاعة عذر أو غلبه نوم أو مرض فله اجر، كما جاء في حديث قيام الليل وغيره، لصدق نيته في ذلك، وهو أحد التأويلات في معنى قوله تعالى:{ فلهم أجر غير ممنون }، أي غير مقطوع بزمانه أو كبر أو عذر، وأحد التأربلات في قوله:« نيه المؤمن خير من عمله »؛ لطول أمد النية وكثرة أملها في الخير مما لم يقدر على عمله.
وفيه اتخاذ الكتاب وتقييد العلم، ولا خلاف في كتابة القرآن، وإنما كان الخلاف بين السلف في جواز كتابة العلم والحديث لعلل ذكرناها في غير هذا الموضع، ثم وتع الإجماع على جوازه، والاحاديث الصحيحة تدل عليه، وقد بسطنا هذا في كتاب "الإلماع".
وقوله: " بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بسيسة عينًا "، كذا في جميع النسخ بياء باثنتين تحتها بين السينين مصغرًا، وكذا ذكره أبو داود وأصحاب الحديث. والمعلوم في كتب السير: " بسبس " بباء واحدة غير مصغر، وهو بسبس بن عمرو، ويقال: ابن بشر من الأنصار من الخزرج ويقال: حليفهم، وأنشد ابن إسحاق في خبره قوله:
أقم لها صدورها بسبس أن ترد الماء بها يا كيس
ومعنى " عينًا "، أي: متجسسًا ورقيبًا. والعير الإبل والدواب التي تحمل الأحمال.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة:« إن لنا طلبة - أي شيء نطلبه - من كان ظهره حاضرًا فليركب معنا »، فيه كتم أمور الحرب، وأن الحزم ترك إنشائها والتورية بهم ؛ لئلا يطلع العدو عليها ولتؤخذ على غرة. والظهر: الإبل التي تحمل، ويركب عليها. فظهر أنهم جمع ظهر بضم الظاء كأنه جمع ظهير، وهو البعير الذي يحمل عليه لشدة ظهره. ومعنى: بخ بخ،: كلمة تقال لتعظيم الأمر وتهويله، يقال بسكون الخاء وبكسرها منونًا.
وقوله:" رجاءة أن أكون من أهلها "، ممدود، قال ابن دريد: تقول العرب: فعلته رجاتك، أي رجاك.(7/114)
وقوله: " فأخرج تمرات من قرنه "، كذا عند الفارسي بفتح الراء والنون، وفي رواية العذري: " قربة " بسكون الراء والباء وضم القاف، ورواه بعضهم:" قرقرة ".
قال الإمام:" من قرنه "، أي: من جعبته، وفي الحديث:" صلِّ في القوس واطرح القرن ". قال الهروي: القرن: جعبة من جلود تشق ثم تخرز، وإنما تشق كي يصل إليها الريح، ولا يغسل الريش. وأمره بنزع القرن لأنه كان من جلد غير ذكي ولا مدبوغ ومنه حديث عمر، قال للرجل: " ما مالك ؟" فقال: أقرن وآدمة في المنيئة. الأقرن: جمع قرن، وهي جعبة من جلود تكون للصيادين فيشق جانب منها، كما فسرنا.
قال القاضي: وأما من رواه: " قربة "، بالباء أو " قرقرة " فتغير، والله أعلم، وبعيد الوجه، إلا أن يريد بالقرقرة الثوب الذي يلبسه النساء، يشبه ثوبه الذي عليه به. وكانت التمرات في جيبه أو حجزته، والله أعلم. وأما قربة فلقرب خاصره، فإن كان أراد أيضًا حجزته أو بإطلاقه، فسمى ما على القرب باسمه كما سمى الإزار حقوا، إنما الحقو مقعده من الجسد فيكرن له معنى، أو يكون القرب هنا بضم القاف والراء جمع قراب وهما مما يجعل فيه الراكب سيفه وخفيف الله وزاده، فيكون له أيضًا وجه.
وقوله:" لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما معه فقاتلهم حتى قتل "، ومثله الحديث الذي بعده. فيه جواز الاستقتال في الحرب، رمنية الشهادة، وحمل الإنسان وحده على الكفار إن علم أنهم يقتلونه في حملته تلك، وليس هو من إلقاء اليد إلى التهلكة، وقد فعله كثير من الصحابة والسلف، وروى عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وعلى مما أجازه هذا، قالوا فيه:{ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله } ونحوها من الأيات. وروي عن مالك مثله في الرجل إذا علم من نفسه قوة وعنى أن يبارز الجماعة.(7/115)
وقال محمد بن الحسن: لو حمل واحد على ألف وحده لم يكن به بأس إذا طمع في نجاة أو نكاية، أو أن يفعل المسلمون مثل فعلته أو يرهب العدو بما يريهم من صلابة المسلمين في دينهم، وإلا فهو مكروه، إلا أنه كره العلماء أن يفعل ذلك من يكون رأس كتيبة، وعلم إن أصيب هلك من معه من الجيش. فالصواب ألا يتعرض للقتل إلا أن يضطر إلى ذلك، وقد روي أيضًا عن عمر كره هذا الاستقتال، وقال: لأن أموت على فراشي خير من أقتل بين يدى صف، يعني يستقتل. ورأى بعضهم هذا من إلقاء اليد للتهلكه، النهي عنه في الآية. وأحسن ما قيل في هذه الآية: أنها في ترك الإنفاق في الجهاد والخروج له، وقيل في تأويل الآية غير هذا من الإسراف في الإنفاق، وقيل: اليأس والقنوط من رحمة/ الله.
وقوله:« أبواب الجنة تحت ظلال السيوف »، وهذه استعارة، يعني أن الجهاد وحضور المعارك سبب لدخولها ومقرب إليها.
وقوله في صفة أصحاب بئر معونة: "كانوا يجينون بالماء فيضعونه في المسجد "، فيه جواز وضع الماء في المسجد والطعام لمن احتاج إليه، وقد كان يفعل ذلك باقناء التمر في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا أيضًا، وكانت لهم في آخره صفة، وهو مكان مقتطع من المسجد مظلل عليه، يبيتون فيه، قاله الحربي. وأصله صفة البيت، وهو مثل الظلة أمامه. وذكر عن بعضهم أنهم إنما سموا أصحاب الصفة لأنهم كانوا يصفون على باب المسجد.
وقوله:" بلغ عنا نبينا أنا لقيناك، فرضينا عنك ورضيت عنا "، من قوله تعالى:{ رضي الله عنهم ورضوا عنه }، أي رضي عنهم بطاعتهم وإيمانهم، ورضوا عنه بثوابهم وما أعطاهم من الخير. والرضا من الله إفاضة الخير والإحسان والرحمة على عبده، فيكون من صفات الأفعال، أو إرادته ذلك لهم فيكون من صفات الذات.(7/116)
وقوله:" لئن شهدت فيما بعد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليرين الله ما أصنع، فهاب أن يقول غيرها "، يشير أنه أبهم الأمر إلى ما يراه الله، ولم يفسر ما يصنع وهابه، لئلا يكون قوله مردودًا إلى قوته وحوله فيعجزه الله عنه.
وقوله:" واها لريح الجنة "، كلمة تحنى وتلهف، وقد قيل: إنها بمعنى الإغراء، وقد يصح هنا، ولها معان أخر في غير هذا، فقد تأتي بمعنى الاستهانة للشيء، وبمعنى الترحم عليه.
وقوله: " أجده دون أحد "، يحتمل أن يكون حقيقة، وأن الله أوجده إياه تقدمة لما كتب له من الشهادة ؛ ولأن ريح الجنة يوجد على مسيرة خمسمائة عام، كما جاء في الحديث، أو يكون على التمثيل والتقريب، أي أنها موجبة لمن شهد أحدًا أو يستشهد عنده.
وقوله:" ففيه نزلت هذه الآية:{ رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه }، قيل: فيه حجة بجواز الاستقتال المقدم ذكره، والوفاء بذلك لمن عقده في نيته، على أنه ليس في الحديث هنا إلا قوله:" ليرين الله ما أصنع "، لكن ظاهر ما في البخاري ذلك لأنه حمل على المشركين حين انكشف المسلمون وقال: "اللهم إنى أعتذر إليك مما صنع هؤلاء " يعني أصحابه.
وقوله في الحديث:" فرفع رأسه إليه، وما رفعه إليه إلا أنه كان قائمًا "، يعني السائل، فيه أن مثل هذا من سائل وطالب حاجة وهو قائم للجالس أنه لا حرج فيه، وليس من القيام المنهى عنه على رأس الجالس.(7/117)
وقوله:" تفرق الناس عن أبي هريرة، فقال له قاتل أهل الشام أيها الشيخ" الحديث، قال الإمام: قال الهروي: في الحديث: أنه رأى الحسن يلعب ومعه صبيه في السكة، فاستنتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمام القوم، أي تقدم، قال أبو بكر: وبه سمي الرجل ناتلا، ونتيلة أم العباس بن عبد المطلب، ومنه حديث أبي بكر، أنه ارتاب بلبن شربه، أي لم يحل له فاستنتل يتقيا، أي تقدم. وذكر الهروى أنه يقال: نتل أيضًا إذا تقدم، ومنه أن عبد الرحمن بن أبي بكر برز يوم بدر فقال: هل من مبارز ؟ فتركه الناس لكرامة أبيه - رضي الله عنه - قتل أبو بكر ومعه سيفه، أي تقدم.
قال القاضي: حمله / على أنه صفة، وإنما هو اسم رجل مشهور وهو ناتل بن قيس الجذامي. ويدل عليه قوله في الرواية الأخرى: " فقال له ناتل الشامي " وكذلك يعرف. وحديث أبي هريرة هذا في الغازي الذي استشهد والذي يعلم العلم والذي وسع الله عليه، وعقابهم لفعل ذلك لغير الله واحتسابه الأجر شديد في الاشتراك في العمل وتخليصه.
وقوله: " تفرج الناس عن أبي هريرة، أي: افترقوا عن الاجتماع عليه، كما قال في الحديث الأول: " تفرق الناس "، والفرجة: الفسحة بين الجبلين.
وقوله: " ما من غازية أو سرية تخفق وتصاب إلا تم أجورهم "، قال الإمام: قال أبو عبيد: الاخفاق أن تغزو فلا تغنم شيئًا، وكذلك كل طالب حاجة إذا لم يقضها فقد أخفق، وأخفق الصائد: إذا خاب.(7/118)
قال القاضي: ذهب غير واحد أن هذا الحديث يعارض الحديث المتقدم في قوم مع ما قال: " من أجر أو غنيمة "، قالوا: ولا يصح أن تنتفص الغنيمة من أجورهم كما لم تنقص من أجر أهل بدر، وكانوا أفضل المجاهدين، وأفضلهم غنيمة، حتى قال بعضهم: لا يصح الحديث. وأبو حميد بن هانئ راوية ليس بمشهور، ورجحوا الحديث المتقدم عليه لشهرته وشهرة رجاله، لكن إدخال مسلم له من طريق يضعف قوله، قد ذكره البخاري في التاريخ، فقال: أبو حميد الخولاني مصري، سمع بعبد الرحمن الحبلي، وعمرو بن مالك سمع من حيوة وابن وهب.
وقيل في الجمع بينهما: إن هذه التي أخفقت تزداد من الأجر بالأسف على ما فاتها من المغنم، ويضاعف لها كما يضاعف لمن أصيب بماله وأهله. وقيل: بل لعل الذي تعجل من أجره بالغنيمة في غنيمة أخذت على غير وجهها، وهذا بعيد لا يحتمله الحديث، وأصح ما يجمع فيه بين الحديثين?أن الأول قال فيه:« لا يخرجه إلا للجهاد في سبيله وتصديق كلماته »، فهذا الذي ضمن له الجنة، أو يرد إلى بيته مع ما نال من أجر او غنيمة. وهذا الحديث الآخر لم يشترط فيه هذا الشرط، فيحتمل أنه فيمن خرج بنية الجهاد وطلب المغنم، فهذا شرك بما يجوز له الشريك فيه، وانقسمت نيته بين الوجهين فنقص أجره، والأول أخلص فكمل أجره.(7/119)
وأوجه من هذا عندي في استعمال الحديثين على وجههما أيضًا: أن أجر المغانم بما فتح عليه من الدنيا وحساب ذلك عليه وتمتعه به في الدنيا وذهاب شظف عيشه في غزوة وبعده إذا قوبل، فمن أخفق ولم يصب منها شيئًا، وبقى على شظف عيشه والصبر على حالته في غزوة، وجد أجر هذا أبدًا في ذلك وافيًا مطردًا بخلاف الأول، ومثله قوله في الحديث الآخر:" فمنا من مات لم يكل من أجره شيئًا، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها "، فكان هذا إذا لم يهدب ثمرة الدنيا والاتساع فيما فتح عليه من مغانمها، وبقي على حالته الأولى، كان أجره في الصبر والتقلل على ما كان عليه، فلما خالف لم يكن له ذلك الأجر، فكأنه نقص بما كان له في التقدير وكذلك هذا، والله أعلم.
ويدل على صحة هذا التاوبل قوله: "إلا تعجلوا ثلثي أجرهم"، / أي أنهم نالوا من الدنيا ما هو حساب ما فاتهم منها بقدر ثلثي الأجر، ولو كان نقصًا من الأجر في الأصل كان على ثلث أجرمن لم يغنم،كما قال في صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، لما كان حظ الأجر في أمل العمل، والله أعلم. وأما على ما جاء في الحديث فيخفق ويصاب الإثم أجورهم فبين؛ لأن لهم أجر الجهاد كاملاً، وأجر ما فاتهم من الغنيمة، وأجر ما أصابهم من العدو، ونال منهم واستشهدوا، بخلاف من لم يصب الذي له أجر الجهاد فقط. ولا شك أن المصائب كثيرة الأجور، فكيف إذا كانت في ذات الله ؟ فهي مضاعفة على تقدير ما جاء في الحديث من الثلثين وأكثر، فيكون معنى قوله في التي غنمت ولم تصب:" أنها تعجلت ثلثي أجورها "، بالإضافة إلى الأخرى إلى تضاعف أجرها عليها مرتين ساوتها في أجر الجهاد، وفضلت عليها باجر الإخفاق وأجر الإصابة، فجاء نقصها عن درجتين من درجات هذه، كأنه تعجيل بما حصل لها من الدنيا، والأخرى بخلافها، كما قال في الحديث المذكور قبل: " فمنا من لم يكل من أجره شيئًا " على ما قدمناه.(7/120)
وقوله:« إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى »، الحديث. ذكر الأئمة أن هذا الحديث ثلث الإسلام، وقيل: ربعه، وأن أصول الدين وعمدة من عمل الطاعات، ومفسر لقوله تعالى:{ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين }. قال بعض شيوخنا: قوله:« إنما الأعمال بالنيات، يرجع إلى معنيين: أحدهما: تجريد العمل من الشرك بالله بخالص التوحيد، والآخر: تجريده بخالص السنة.
وفي قوله:« إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى »، دليل أن ما عمل بغير نية غير جائز ولا لازم، وإنما يلزم منه ويصح ما قارفته. ورد على من أجاز الطهارة وغيرها من بعض القرب بغير نية، وقد مر في موضعه، ودليل أن من توضأ ليعلم أو يتعلم أو ليتبرد لا ينوي بذلك رفع الحدث والتقرب أنه لا يجزيه. ودليل أن المعتبر في الأيمان وألفاظ الطلاق والعتاق وغيرها النية دون اللفظ. لكن اختلف العلماء في هذا الأصل خلافًا كثيرًا، فعندنا أنه يلزم ما نوى به الطلاق والعتاق كان من ألفاظ الطلاق والعتاق أو كناياتها. واختلف عندنا إذا نطق بذلك ولم ينو به طلاقا ولا عتاقًا، هل يلزم أم لا ؟ وإذا نرى ولم ينطق أو إذا نطق بلفظ ليس من ألفاظ الطلاق وكناياته، وعند غيرنا أنه لا يلزم إلا في ألفاظ الطلاق أو كناياته، وذلك كان فيما بينه وبين الله تعالى. وتفترق هذه الصور في الحكم فيها ظاهرًا إذا لم يأت مستفتيًا، ويلزمه ظاهر لفظه في اعترافه وكلامه فيما تعلق بحقوق الآدميين ويحكم بظاهر ذلك، ولا نصدقه في ادعاء ما يخالفه بنيته. وقد تقدم الكلام على نية الحالف في الحقوق.
وقوله:« من طلب الشهادة صادقًا أعطيها وإن لم تصبه »، وفي الرواية الأخرى:« بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه »، مما تقدم معناه من تبليغ من نوى خيرًا واعتقد فعله أجر ما نواه وإن عاقه عندنا عنه عائق، تفضلاً من الله / وأجرًا على نيته. ومثله الحديث الآخر فيمن حبسه المرض عن الغزر.(7/121)
وقوله:« من مات ولم يغزو ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق »، بين في أن من منعه مانع من أداء فرض أو مسارعة إلى ركن من أركان الشرع أو سننه المشهورة، أن يكون على نيته فيه متى أمكنه فعل ذلك، وأن العزم على الشيء بدل من فعله إذا لم يتعين وقت فعله.
قوله:« مات على شعبة من نفاق »، فسره في الكتاب ابن المبارك: أنه مخصوص بزمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث كان الجهاد واجبًا، وحمله على النفاق الحقيقي، وقد بحتمل أنه على العمرم، ويكون معنى هذا: أنه تشبه بأخلاق المنافقين التي منها التخلف عن الجهاد، وهو أحد شعب النفاق وأخلاق المنافقين.
وقوله:" أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه وتفلى رأسه "، أم حرام هذه قيل: اسمها: الرميصاء، وقيل: بل الرميصاء أم سليم أختها، وأم حرام الغميصاء، وكذا ذكرها البخارى فى أم سليم بالراء. وفي "مسلم": " الغميصاء "، وفيها بالغين المعجمة، وهما بمعنى متقارب، وهو اجتماع القذا فى ماء العين وهدابتها. وقيل: الرمص هذا، والغمص: استرخاء فيها وانكسار، والأظهر أنه صفة لها.(7/122)
قال أبو عمر بن عبد البر: أم سليم هى الرميصاء والغميصاء. وخرَّج أبو داود من رواية معمر: أن أخت أم سليم الرميصاء. قال أبو داود: الرميصاء أخت أم سليم من الرضاعة، وهذا وهم. قال ابن وهب: وأم حرام هذه إحدى خالات النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة ؛ فلهذا كان يدخل عندها ويعمل عندها، وبنام فى حجرها. وقال غيره: بل كانت خالة لأبيه أو لجده ؛ لأن أم عبد المطلب من بني النجار، وفيه جواز مثل هذا من ذوي المحارم، وأنه لا يجوز مثله إلا لذوي المحارم. والنبى لحش وان كان معصومًا، فإنه يقتدي به في مثل هذا من أفعاله. وفيه جواز إذن ذوات المحارم محارمهن، وإن لم يحضر الزوج. وفيه إباحة أكل ما قدمته المرأة لضيفها في بيتها من مالها ومال زوجها ؛ لأن الأغلب أن ما في البيت من الطعام للزوج، إذا علم أنه ممن لا يكره أن يؤكل ما في بيته. وفيه جواز مثل هذا للوكيل والمتصرف للرجل إذا علم من صاحب المال الإذن والسرور بذلك. ومعلوم من سرور زوج أم حرام إن كانت تحت زوج حنيئذ، وغيرة المسلمين ومحبتهم لدخول النبي - صلى الله عليه وسلم - بيوتهم وأكله طعامهم.
وقوله:" فاستيقظ وهو يضحك "، ضحكه لما بشر به من أمر أمته، وغزوهم في البحر، وسروره بما يفتح الله عليهم في الدنيا، وبدخله عليهم من الأجر في الأخرى.
وقوله:" يركبون ثبج هذا البحر »، قال الإمام: الثبج: الوسط. قال أبو زيد: ضربت بالسيف ثبج الرجل، أي وسطه. والثبج ما بين الكتفين. وفي حديث وائل بن حجر تطرى الثبجة يقول: أعطوا الوسط في الصدقة لا من خيار الأموال ولا من رذالتها.
قال القاضي: قال الخطابي: الثبج: أعلى متن الشيء، قال غيره: ثبج متن البحر: ظهره، وقد جاء في الحديث الآخر:« يركبون ظهر البحر ».(7/123)
وقوله:« ملوكا على الأسرة أو كالملوك على الأسرة »،/ بين في الحديث أنه شك من الراوي، وقد جاء في الحديث الآخر بغير شك:« كالملوك على الأسرة »، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قال أحدهما. فيه تأويلان: أن أحدهما أراد مصالحهم في الاخرة، كما قال تعالى:{ على سرر موضونة }، { على الأرائك متكئون }. وقيل: يحتمل إذ يريد حالهم في الدنيا من ركوب مراكب الغزاة، وسعة حالهم، وقوة أمرهم، وكثرة عددهم، وجودة آلتهم، فكانهم الملوك على أسرتهم. وقرله لها في المرة الثانية بعد أن دعا لها في المرة الأولى:« أنت من الأولين »، يدل أن رؤياه الثانية غير الأولى، وأنه في كل نومه عرض عليه صنف غير الآخر، وفيه جواز ركرب البحر للجهاد لسرور النبي - صلى الله عليه وسلم - بما عرض عليه من ذلك، وكذلك ينبغى للحج. وفيه جواز ركوب النساء فيه. وقد كرهه لهن مالك ؛ لأنهن غالبًا لا يمكنهن التستر ولا غض البصر عن المتصرفين، ولا يؤمن انكشاف عوراتهم في تصرفهم ونظر النساء إليهم شديد، مع ثدة الخرف عليهن في هذا الباب، ولاسيما فيما صغر من السفن، وضرورتهن إلى تضاء الحاجة مع حضور الرجال، قالوا: وهو فيما كبر من السفن، وحيث يختصصن بإماكن يستترن فيها جائز.
وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إباحته عام الرمادة، ولا خلاف في مع ركوبه حين ارتجاجه، وقيل: إنما منعه العمران رضي الله عنهما للتجارة، وطلب الدنيا لا للطاعات وأداء الفرائض، والمروى عن عمر منعه، وقد روى عبد الله عن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن ركوب البحر، إلا لحاج أو معتمر أو غاز. وضعفه أبو داود وقال: رواته مجهولون.
وفيه الترغيب في الجهاد تحت راية كل بر وفاجر، لذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأولين والآخرين ؟ وفيه فضيلة معاوية، وكونه من هؤلاء المجاهدين الذين رحصل هذا الفضل والمنقبة ؛ لأن في زمانه ركبت أم حرام البحر كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن حالها.(7/124)
واختلف في معنى قوله:" أيام معاوية "، فكثر أهل السير والخبر أن ذلك كان في خلافة عثمان بن عفان، وأن فيها ركبت أم حرام معه وزوجها إلى فرس، وبها توفيت وصرعتها دابتها ودفنت بها. وقيل: بل ماتت بعد انصرافها بعد خروجها من البحر بأيام، وكذا ذكره البخاري، ويكون معنى قوله:" في زمن معاوية " على هذا، أي: في زمان غزوه في البحر، وقيل: بل كان ذلك في خلافته، وهو أظهر في الكلام ؛ لقوله:" زمانه "، والله أعلم.
وفيه وجوه من علامات النبوة، أخبر بهاء، فكانت كما أخبر من الغزو في البحر، وكرن هؤلاء النزاة أولاً وآخرًا، كما ذكر من ركوب أم حرام في الأولين، ولم يجعلها في الآخر ولا دعا لها بذلك لأنها ماتت قبل. وقيل: فيه أن الموت في سبيل الله والقتل سواء في الأجر ؛ لأن أم حرام ماتت ولم تقتل، وليس في هذا الحديث بيان لهذا؛ إذ لم يصفهم أنهم شهداء كلهم، وإنما رصفهم بما ذكر ؛ لأنه قد جاء بتسوية الحالين أثر آخر ذكره مسلم بعد هذا، أو مصداق هذا قوله تعالى/:{ ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت } الآية، وفي حديث آخر من رواية ابن وهب:« من صرع في سبيل الله عن دابته فمات فهو شهيد ».
وقوله في الحديث الأول:" وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت "، ظاهره أنه كان زوجها حين قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عندها، لكن جاء في الحديث الآخر ما يبين غير ذلك، وأن عبادة تزوجها بعد ذلك. فأخبر الآن في الحديث الأول عن حالها بعد لا في ذلك الوتت، وفسره في الثاني، والله أعلم.
ولم يذكر في كتاب مسلم نومه في حجرها كما ذكر ابن وهب، وإنما ذكر في حديثه: " فوضع رأسه عندها "، وفي آخر: " فنام قريبًا مني، وقد تفلي رأسه "، ورأسه على وسادة أو ما شاء الله غير حجرها.
قال الإمام: ذكر مسلم في الباب: نا محمد بن رمح، نا الليث، وفي نسخة الرازي: نا محمد بن رمح ويحيى بن يحيى، قالا: نا الليث، وسقط ذكر يحيى بن يحيى لابن ماهان والسجزي.(7/125)
قال القاضي: ثبت عندنا من رواية السجزي والعذري عن الرازى، وسقط من رواية السمرتندى وغيره.
وقوله في فضل الرباط:" وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله "، فضيلة مختصة به، أن عمله يجرى له أجره بعد موته. وقد جاء هذا مبينًا في غير مسلم:« كل ميت يختم على عمله إلا المرابط، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ».
وقوله:« وأجرى عليه رزقه »، من قوله تعالى في الشهداء:{ أحياء عند ربهم يرزقون }، ومن قوله تعالى في الحديث:« تعلق في شجر الجنة »، أي تأكل.
وقوله في الحديث:« وأمن الفتان »، رويناه عن أكثرهم بالضم جمع فاتن، وعن الطبري بالفتح، وذكره أبو داود مفسرًا:« وأمن من فتاني القبر ».
وقوله في الذي أخر غصن الشوك عن الطريق:« فشكر الله له ذلك فغفر له »، أي: أحبه منه ورضي فعله، ثم جازاه عليه. فيه فضل إماطة الأذى عن الطريق، وتقدم قبل أنه أدنى شعب الإيمان في الحديث الصحيح.
وقوله:« الشهداء خمسه: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله »، وفي حديث مالك في "الموطأ" - حديث جابر بن عتيك -:« الشهداء سبعة »، سوى القتل في سبيل الله، فذكر الأربعة التي هنا سوى القتل، وزاد صاحب الجنب، والحرق، والمرأة تموت بجمع. وذكر مسلم في الحديث الآخر:« من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد »، ولم يخرج البخاري ولا مسلم حديث مالك هذا في السبعة، وهو صحيح في سند حديث مالك، وحديث جابربن عتيك لم يختلف فيه.
قال الإمام: المطعون: هو الذي يموت في الطاعون، ولم يرد المطعون بالسنان ؛ لأنه قال في آخره: والشهيد في سبيل الله، وهو في طريق آخر: «ومن مات في الطاعون فهو شهيد ».(7/126)
قال القاضي: ذكر مسلم أيضًا:« الطاعون شهادة لكل مسلم »، وفي غيره عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« فناء أمتي بالطعن والطاعون ». قلت: أما الطعن فقد عرفناه، فما الطاعون ؟ قال:« غدة كغدة البعير، تخرج في المراق والإباط »، وأما المبطون: فهو صاحب ذا البطن، قيل: هو صاحب البطون الذي بها الاستسقاء وانتفاخ البطن، وقيل: هو صاحب انخراق البطن بالإسهال، وقيل: الذي يشتكى بطنه. والغريق: الذي مات غرقا. وصاحب الهدم: الذي يموت تحته. وصاحب ذات الجنب: هي قرحة بالجنب وداء معروف، وهي الشوطة. وفي بعض الروايات فيها المجبون، يقال: رجل جنب مثل غرق. والحرق: الذي أحرقته النار.
وقوله في غير كتاب مسلم:« المرأة تموت بجمع شهيد ». يقال بضم الجيم وكسرها وفتحها، والضم أكثر وأعرف. واختلف في تأويلها، فقيل: تموت حاملاً وقد جمعت ولدها في بطنها، وقيل: تموت من نفاسه وبسبب ولادته وإن كانت ولدته، وقيل: تموت بكرًا لم تطمث، والأول أشهر. وقال في المرأة: " شهيد "، كما يقال للرجل، كما قيل خصم لها، وكما قيل: جمل ضامر وناقة ضامر.
وإنما كانت هذه الموتات شهادة بتفضيل الله على أربابها لشدتها وعظيم الألم فيها، فجازاهم الله على ذلك، بأن جعل لهم أجر الشهداء، أو يحتمل أنهم سموا بذلك لمشاهدتهم فيما قاسوا من الألم عند الموت وشدته، ما أعد لهم كما أعد للشهداء، أو سموا بذلك على أحد التأويلات. وقد ألحق النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك من مات في سبيل الله بغير القتل كما تقدم. وجاء عنه أيضًا وصف الشهادة لأنه كقوله:« من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ».(7/127)
ذكر مسلم في الباب في حديث عبد الحميد: قال عبيد الله بن مقسم: أشهد على أبيك أنه زاد في هذا الحديث: " ومن غرق فهو شهيد ". كذا لابن ماهان، وفي رواية الجلودي: " على أخيك "، وهو خطأ، والصواب: " على أبيك "، كما قال في حديث زهير من غير خلاف. وإنما قاله ابن مقسم لسهيل بن أبي صالح،وتبيينه ما ذكره بعده في الباب في حديث محمد بن حاتم: أخبرني عبيدالله بن مقسم عن أبي صالح، وزاد فيه:" والغرق شهيد"، القائل: " وأخبرنب عبيدالله " هو سهيل بن أبي صالح. روى هذه الزيادة عن عبيد الله عن أبيه أبي صالح، إذ لم يسمعها هر من أبيه كما سمع بقية الحديث. وقد جاء مبينًا في كتاب أبي داود. قال سهيل: وحدثني عبيد الله بن مقسم عن أبي ولم أسمعه منه، وذكر بقية الحديث.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في تفسير قوله تعالى:{ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوَّة }: «ألا إن القوة الرمي» ثلاثًا: يقضي على سائر التفاسير فيه أنه العدة والسلاح، وقد يحتمل أن مراده - صلى الله عليه وسلم -: أن الرمي أنكأ للقذف ورأس أنواع القوة، فسماه قوة لهذا، لما كان معظمها وأنفعها وأنكاها للعدو.
وقوله:« ستفتح عليكم أرض ويكفيكم الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه »، فيه جواز المناضلة والمسابقة بالسهام والحض على ذلك، وألا يترك ذلك، وإن استغنى عنه بما كفى الله من الفتح على الأعداء وظهور الدين، وقد تقدم هذا، ومثله جواز اللعب بالسلاح والمثاقفة واجراء الخيل وأشباه هذا، مع ما عضده من الآثار/ الأخر ؛ إذ في كل ذلك التمرن والاستعداد، ومعاهدة الجسم، ورياضة الأعضاء بها.
وقوله:«من علم الرمي ثم تركه فليس منا، أو قد عصى »، تحريض على المثابرة عليه وعلى المناضلة.(7/128)
وقوله:« فليس منا »، أي: ليس ممن أخذ بسيرتنا، ولا متصف بصفات العرب، وإن صحت الرواية:" فقد عصى"، أي: عصى ماحض عليه نبينا - صلى الله عليه وسلم - من المناضلة والرمي، وعصى قوله:« ارموا بني إسماعيل »، وغير ذلك من الأحاديث.
وقوله:« لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم وخالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك »، وفي رواية: " ظاهرين على الناس "، وفي رواية:« لا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون ظاهرين على الحق، ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة »، وفي رواية:« يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم »، وفي رواية:« لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة »، قال على بن المديني: هم العرب، والمراد بالغرب: الدلو الكبيرة لاختصاصهم بها، وقيل: إنه على ظاهره، وإنما أراد غرب الأرض، قال معاذ في الحديث: " وهم بالشام "، وقد جاء مفسرًا في حديث رراه الطبري:« ببيت المقدس أو كناف بيت المقدس »، وقيل: هم أهل الشام وما وراء ذلك، وقيل: المراد بأهل الغرب: أهل الشدة والجلد. وغرب كل شيء حده، ولا يعارضه قوله - صلى الله عليه وسلم -:« لا تقوم الساعة حتى لا يقول أحد: الله، الله، و « لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق »، وما جانسه من الأحاديث، وقد قال الطبري: إنه لا تعارض بينهما ؛ لأن المراد بهذا الخصوص ومعناه: لا تقوم الساعة على أحد يوحد الله إلا في موضع كذا، التي بها الطائفة المذكورة، وقيل: بل هذا في وقت دون وقت، وأن هذه الطائفة تبقى إلى حين قيام الساعة التي تقبض روح كل مؤمن، كما جاء في الحديث في الباب في كتاب مسلم:« ثم يبعث الله ريحًا فلا تترك نفسًا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس، عليهم تقوم الساعة »، فقد فسر في الحديث نفسه القصة، وجمع الحديثين، وأن أولئك يموتون بين يديها، فلا تقوم حينئذ إلا على شرار الخلق، ومن لا يؤمن بالله.(7/129)
وقد قال أحمد بن حنبل في هذه الطائفة: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدرى من هم؟ وإنما أراد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث. وقال البخاري: هم أهل العلم. وقوله:" ناوأهم ": أي عادل لهم. وأصله أنه ناء إليهم وناؤوا إليه، أي نهضوا للقتال.
وقوله:« إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في السنة فاسرعوا عليها السير »، وفي الرواية الأخرى: " فبادروا بها نقيها " بكسر النون، قال الإمام: المراد بالسنة هنا: القحط. قال الله تعالى: { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين }، أي بالقحوط، والسنة: الأزمة، ومنه حديث عمر: كان لا يجيز نكاح عام سنة، يقول:" لعل الضيقة تحملهم أن ينكحوا غير الاكفاء "، وكذلك حديثه:" لا يقطع عام سنة "، و " نقيها ": يعني مخها. يقال: نقيت العظم ونقوته وأنقيته: إذا استخرجته منه.
قال القاضي: يريد أنها في الجذب / لا تجدها ترعى فالإسراع بها وبها قوتها أصلح من التأني بها، ولا تجدها ترعى فتهزل وتضف، وربما كتت ووقفت. وإذ كان في الخصب، وهو كثرة العشب والمرعى، فتعطى حظها من الأرض، ويرفق بها، فترعى في بعض النهار وأثناء المراحل، فيكون أرفق بها في الحالين، وهو مقصد الحديث. وقد جاء في أوله في حديث مالك في "الموطأ":« إن الله رفيق يحب الرفق »، وذكر الحديث.
وقوله:« إذا عرستم بالليل »، التعريس: النزول بالليل للنوم بعد الإسراء فيه، وقيل: آخر الليل للنوم والراحة، قاله الخليل وغيره. وقال أبو زيد: هو النزول أي وقت كان من ليل أو نهار، وقد جاء في الحديث: معرسين في نحر الظهيرة.(7/130)
وقوله:« فاجتنبوا الطريق، فإنها ماوى الهوام وطرق الدواب بالليل »، إرشاد منه - عليه السلام - لمصالح الدنيا والآخرة، وحض على مصالح العباد في أنفسهم وزكاتهم وأموالهم، وذلك أن الطرق المسلوكة المذلَّله بها يدب جميع الحيوانات الكامن بالنهار بالليل، إما لسقطها لها وتذليلها، أو بطلب ما يسقط للماشى بها من ماكل وتقص آثارهم بشم الدواب لها، فربما يصيبه منها ذو الأذى النائم فيها، أو يضره، أو يطا عليه المسافر برجله فتنهشه ذوات السموم منها.
قوله:« السفر قطعة من العذاب »، يريد لما فيه من المشقة والتعب، ومقاساته الرياح والشمس والحر والبرد، وامتناع الاكل والشرب في وقته المعتاد وعدمه أحيانًا، وهو معنىء قوله:« يمنع أحدكم طعامه وشرابه »، والمخافة في الطريق والوحدة والاستيحاش.
وقوله:« فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهه فليعجل إلى أهله »، النهمة بفتح النون: بلوغ الهمة والارادة، وقوله:" فليعجل إلى أهله "، يحتمل أن يريد تعججل الأوبة، أو تعجيل السير، والأول أظهر. وعلى الوجه الثاني يكون الإسراع بالدواب وأعمالها لذلك ؛ لضرورة قيامه على أهله وحاجتهم إليه.
قال الإمام:ذكر مسلم في سند هذا الحديث: حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، وإسماعيل بن أبي أويس، وأبو مصعب الزهري ومنصور بن أبي مزاحم، وقتيبة بن سعيد، قالوا: حدثنا مالك. كذا عند الجلودي والكسائي، وأما ابن ماهان فقال: عن مسلم: نا عبد الله بن مسلمة وابن أبي الوزير إبراهيم بن عمر بن أبي الوزير: فكنا نأتي إسحاق ممن روى عن مالك، قال بعضهم: لم يدركه مسلم ولا أعلم لمسلم عنه رواية، قال: وأما البخاري فقد خرَّخ عنه عن عبد الله الجعفي عن أبي الوزير، مقرونًا بالحسين بن الوليد عن ابن الغسيل في كتاب الطلاق حديث الجونية التي تزوجها - عليه السلام - فاستعاذت منه.(7/131)
قوله - عليه السلام -: " كان لا يطرق أهله ليلاً، وكان يأتيهم غدوة أو عشية "، قال القاضي: وفي الحديث الآخر: النهي أن يأتي أحد أهله طروقًا، بضم الطاء، أي بالليل، وكل آت بالليل طارق، وفي الحديث الآخر:« أمهلوا حتى ندخل ليلاً - أي عشاء - كى تمشط الشعثة وتستحد المغيبة ». لا تعارض بين هذين الحديثين الأول: لا يطرقهم ليلاً بغتة لئلا يجدهم على ما يكره من الأحوال على ما جاء في الحديث: "يتخونهم "، أي يطلب عثراتهم، ومعنى:" يتخونهم " أي: يكشف عنهم / هل خانوا في أنفسهن وعلى صورة من التبذل تكره المرأة أن يجدها زوجها بهما.
والحديث الآخر: مهل حتى يدخل ليلاً، أي عشاء، كما قال في الحديث الأول:" عشية "، وقد سبق الخبر واستعدت بما يحتاج إليه، مما ذكر في الحديث. ومعنى:" تستحد المغيبة ": هو حلق شعر أسفل الإنسان، وهو استفعال من فعله بالحديد.
**************
كتاب الصيد والذبائح والضحايا
قول عدي وأبي ثعلبة:" إنى أصيد، وإنا قوم صيد، وإنا بأرض صيد": لا خلاف بين المسلمين في جواز الصيد على الجملة، قال الله تعالى: {يَسْألُونَكَ ماذا أُحِل لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبَات، إلى قوله:{ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُم } } (1) { ، وقوله:{ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } } (2) { ، واختلف في قوله:{ لَيَبلوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ منَ الصَّيْد } } (3) { ، هل المراد بها الإباحة أو المنع لذكر الابتلاء لقوله:{ لِيَعلَمَ اللهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْب فَمَنِ اعْتَدَى} } (4) { الآية، ثم هو لمباح للاكتساب والحاجة للأكل والانتفاع. واختلف فيه للَّهو مع قصد التزكية، وللانتفاع، فكرهه مالك، وأجازه ابن عبد الحكم، وهو ظاهر قول الليث: ما رأيت حقًّا أشبه بباطل منه.
__________
(1) } ) الآية من سورة المائدة
(2) } ) الآية من سورة المائدة
(3) } ) الآية من سورة المائدة.
(4) } ) الآية من سورة المائدة.(7/132)
وأما إن فعله لغير نية التذكية فهو حرام ؛ لأنه من الفساد في الأرض، وإتلاف نفس لغير منفعة. قال داود الأصفهاني: للصيد ثلاثة شروط: ممتنعًا، لا لملك أحد، حلال الله.
وقوله:" إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل "، وفي بعض طرقه:" واذكر اسم الله ". قلت: وإن قتلن ؟ قال:" وإن قتلن، ما لم يشركهن كلب ليس معها "، وفي بعض طرقه:" فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيرها "، وفي بعض طرقه:" إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل فلا تأكل، فإنى أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسها "، وفي بعض طرقه:" ما أمسك عليك ولم يأكل منه فكله، فإن ذكاته أخذها ".(7/133)
قال الإمام: الحيوان الذي يحل أكله لا يستباح في الشرع إلا بتذكية. والتذكية: عقر، أو ذبح، أو نحر. فأما الذبح والنحر ففي المقدور عليه. وأما العقر: فكل حيوان مأكول اللحم متوحش طبعُا، غير مقدور عليه، فذكاته العقر. فقولنا: حيوان ؛ لأن ما ليس حيوان لا يذكى. وقولنا: مأكول اللحم؛ لأن الخنزير وما يحرم من الحيوان لا يصح تذكيته. وقولنا: متوحش: احترازًا من الإنسى كالبقر والشاة، فإنه لا يذكى بالعقر، وقلنا: طبعًا؛ احترازًا من الإنسى إذا ندَّ، فإنه لا يستباح بالعقر؛ لأن التوحش ليس من طبيعته. وقلنا: غير مقدور عليه؛ احترازًا من الوحش إذا حصل في قبضة الصائد، فإنه لا يذكى بالعقر. هذا ضبط ما يذكى بالعقر. وأما الآلة التي يعقر بها، فكل حيوان يصيد ويقبل التعليم فإنه يجوز به الصيد عندنا، وما وقع من النهي عن التصيد ببعضه في المذهب فمحمول على أنه لا يقبل التعليم، هذا مذهب مالك وأصحابه. ومن الناس من قصر الاصطياد على الكلاب خاصة، تعلقأ بقوله تعالى:{ وَمَا عَلمتم منَ الْجَوَارِح مُكَلِّبِين} } (1) { ، ومنهم من يستثنى الكلب الأسود، والدليل عليه قوله في كتاب مسلم:" وان رميت سهمك فاذكر اسم الله " الحديث. وخرّج الترمذي عن عدي بن حاتم: سألت النبي?- صلى الله عليه وسلم - عن صيد البازي ؛ فقال: "ما أمسك عليك فكل، وإن أكل فلا تأكل "؛ فثبت بهذه الأحاديث جواز الصيد بالرمي والطير.
__________
(1) } ) الآية من سورة المائدة.(7/134)
وأما قوله:" وإن أكل فلا تأكل ": فمذهب مالك: أنه يأكل وإن أكل. ومذهب الشافعي في أحد قوليه: أنه لا يأكل، وهو مذهب أبي حنيفة رضى الله تعالى عنه. وهذا الحديث الذي ذكره مسلم من آكد ما يحتجون به، ويتعلقون أيضًا بظاهر قوله تعالى:{ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } } (1) { ، ولو أراد كل إمساك لقال: فكلوا مما أمسكن، فزاده: عليكم ؛ إشارة لما قالوه، لما كان الإمساك يتنوع عندهم خصص الجائز منه بهذه الزيادة، قالوا: ولو كان القرآن محتملاً لكان هذا الحديث بيانًا له؛ لأنه أخبر أنه إنما أمسك على نفسه. وأما أصحابنا فلا يسلمون كون الآية ظاهرًا فيما قالوه، ويرون أن الباقي بعد أكله ممسك علينا. وفائدة قوله:{ عليكم } الإشعار بأن ما أمسكه من غير إرسال لا يأكله. وأما الحديث الذي?أخرجه مسلم فيقابلونه بحديث أبي ثعلبة، وقد ذكره أبو داود وغيره. ومنه إباحة الأكل مما أمسك وإن أكل، ويحمل حديث مسلم في النهي عن التنزيه. والاستحباب، وحديث أبي ثعلبة على الإباحة حتى لا تتعارض الأحاديث.
قال القاضي: واختلف قول الشافعي في سباع الطير إذا أكلت، هل هى كالكلب عنده لا يؤكل صيدها أم لا؛ وكافة الفقهاء: أنها بخلاف الكلب، لم يختلفوا في أكل صيدها إن أكلت، وقد جاء ذكر صيد البازي في بعض طرق حديث عدي.
__________
(1) } ) الآية من سورة المائدة.(7/135)
قال الإمام: وأما قوله:" وذكرت اسم الله فكل " فإن التسمية عند التزكية اختلف الناس فيها، فمن الناس من ذهب إلى أن الحيوان المذكى إن تركت التسمية عند تذكيته سهوًا أو عمدًا، لم يؤكل، وهذا مذهب أهل الظاهر. ومنهم من لا يحرم أكله هان تركها عمدًا، قاله بعض أصحاب مالك في تاركها عمدًا غير مستخف. ومنهم من منع الأكل مع العمد وأباحه مع النسيان، وهو المشهور من مذهب مالك وأصحابه. فأما أهل الظاهر فتعلقوا بظاهر قوله:{ وَلا تَأكلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْه } وإن لم يخرق، وأصحابنا يرون الآية إنما وردت في تحريم الميتة، ويذكرون قول الجاهلية، واعتراضهم على الشرع بأنا نأكل ما قتلناه، ولا نأكل ما قتله الله، فرد الله عليهم بهذه الآية، وقد يتعلق أهل الظاهر بهذا الحديث، وقد علّق إباحة الأكل بذكر الله، والناسي غير ذاكر. وقال أيضًا فيمن وجد كلبًا آخر مع كلبه لا يدرى أيهما أخذه: } } فلا تأكل، إنما ذكرت اسم الله على كلبك، ولم تذكر على غيره { { ؛ وهو في تركه التسمية على كلب غيره أغرب من تركه إياها على كلب نفسه نسيانًا، وأصحابنا يحملون التسمية في هذا وأمثاله على ذكر القلب وقصده، فيكون المراد هاهنا قصد الكلب إلى التذكية، ولا شك أن الصائد الغير مع الاصطياد لا يأكل ما صادوا ؛ إذا لم يسلم أصحابنا كون هذا الظاهر دلالة على منع الأكل مع النسيان. وقد ورد: } } رفع أمتي خطؤها ونسيانها { { ، وقد أباح أكل ما يأتي من اللحوم، ولا يدرى هل سم الله عليه أهله أم لا ؟ الحديث المشهور، قالوا: ولم يكن شرطًا لمن يستبيح ذلك للشك في حصول التذكية، والجمهور من أصحابنا المانعون من أكلها مع العمد، يتمسكون بالظواهر المتقدمة، ويرون أن العامد غير معذور، وقاصد لمخالفة ما عليه الشرع وعمل المسلمين، فوجب أن يمنع.(7/136)
قال القاضي: حكى منذر بن سعيد عن مالك في ترك التسمية عمدا: أنها تؤكل، وهو أحد قولى أحمد بن حنبل، وهو خلاف مذهب مالك المشهور عنه في التفريق بين العامد والناسى، ومذهب كافة فقهاء الأمصار، ومن شيوخنا من يرى ترك أكلها في العمد على الكراهة. واختلف عن الشافعي في الساهي، ومشهور قوله كقولنا.
وقوله في الحديث المتقدم: } } إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله { { : حجة في وجوب التسمية أنها شرط في صحة الذكاة مع الذكر، وقال تعالى:{ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ الله عَلَيْه }،، وقال:{ وَلا تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ }.
وقوله:" كلبك المعلم "، ولم يخص كلبًا من كلب، حجة في اشتراط التعليم، وهو مما لم يختلف فيه، وحجة في عموم أجناس الكلاب المعلمة خلافًا للحسن والنخعي وقتادة في منعهم صيد الكلب الأسود البهيم.
وقوله: } } فإن أدركته حيًّا فاذبحها { { : لا خلاف في ذلك إذا أدركه مجتمع الحياة، إلا شيئًا روى عن الحسن والنخعي مما شذ فيه: إذا لم يكن معك حديد فإن أرسلت الكلب عليه حتى يقتله وإن أدركه وقد نفذت الجوارح مقاتله فهو ذكى بغير خلاف، واستحب مالك تذكيته.
وقوله: } } فإن وجدت صعه كلبًا آخر فخشيت إن أخذه فلا تأكل منه { { : إن في ذلك مهلكة الجوارح مقاتله لا فيما أدرك حيًّا ؛ لأنه ذكاة متوصل إليها حقيقة، والآخر مشكوك في ذلك، مثل قوله: } } فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه { { -(7/137)
قال الإمام: وهذا أصل في أن الشك في التذكية يمنع من تأثيرها، ويبقى الحيوان على المنع، وهو الأصل الذي كان عليه فيما قبل ؛ لأنه علق هذا بالشَّك والجواب، ومحمل قوله: } } فإن وجدت عنده كلبًا آخر { { ؛ على أنه كلب غير مرسل على الصيد، وأما لو كان كلبًا معلمًا أرسله رجل آخر على هذا الصيد فأخذاه معًا لكان مذكى، ويكون شركة بينهما، وقوله: } } هان وجدت عنده كلبًا آخر فخشيت إن أخذه معه وقد قتله فلا تأكل { { . وقوله في المعراض: } } إذا أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيدٌ { { : فيه إشارة إلى أحد القولين: أن الموقوذة والمنخنقة وما صار إلى حالة لا تدوم حياته معها فإنه مذكى ؛ لأنه قيدها هنا بالقتل، وذلك يشير إلى أن القتل إذا لم يقع لم يحرم الأكل بالتذكية. وقد ذكر مسلم أيضًا: } } وما أصبت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل { { ، ولم يشترط أن يدركها وبها حياة تدوم، مع أن قوله: } } ?أدركت?? { { إشارة إلى أنه لو لم يدركه لمات. وأما قوله في المعراض: } } إذا أصاب بعرضه فإنه وقيذ { { ؛ فإن من شرط العقد أن يقع على صفة فيها تنييب وإدماء أو ما في معنى ذلك، فإذا مات الصيد انتهارًا أو روعًا من غير مماسة أداة الصائد وإدمائه على ما ذكرناه عنه أكل بغير خلاف، وإن كان بعد مماسته أداة الصائد مصادمًا أو ما في معناها، ففي أكله قولان إذا كان ذلك من الكلاب، فوجه المنع قوله سبحانه وتعالى:{ وَمَا عَلَّمْتُم مِنَ الْجَوَارِح مُكَلِّبِينَ }، وظاهره ما جرح، ولأنه في معنى المعراض، وقد ورد الحديث، ووجه الجواز في قوله تعالى:{ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيكُم } وهذا إمساك.(7/138)
قوله - صلى الله عليه وسلم - لعدي: } } فإن ذكاته أخذه { { ؛ أورده مسلم، ولأنه فعل حيوان غير مميز، ولا مضاف للصائد الذي هو مميز ؟ وهو مما يعمل أحيانًا، فوجب ألا يمتنع قياسًا على التنييب والإدماء، بخلاف المعراض الوارد به الحديث الذي يصير به الصيد موقوذة. قال الهروي: المعراض: سهم لا ريش فيه ولا نصل.
وقوله: " خزق ": معناه: نفذ، يقال: سهم خازق وخاسق للنافذ. والموقوذة: يعني التي تقتل بعصا أو حجارة لا حد لها فيموت بلا ذكاة، يقال: وقذتها أقذها: إذا أثخنتها ضرابًا، وفي حديث عائشة رضى الله عنها تصف أباها - رضي الله عنه -:" فرقذ النفاق "، تريد أنه دمغه وكسره.
وقوله: } } إنى أرمى بالمعراض الصيد فأصيب { { ، فقال: } } إذا رميت فخزق فكله، وإن أصاب بعرضه فلا تأكله { { ، وفي الرواية الأخرى: } } فما أصاب بحده فكل، وما أصاب بعرضه فهو وقيذ { { - ?
قال القاضي: المعراض: خشبة ثقيلة، أو عصا في طرفها حديدة، وقد تكون بغير حديدة. قال غير واحد: وهو أولى من التفسير الأول، وقال ابن دريد: المعراض: سهم طويل، له أربع قذذ رقاق، فإذا رمى به اعترض. وقال الأصمعي لقول الخليل الذي حكاه الهروى: أنه سهم دون ريش، وزاد: يذهب عرضًا، وقيل: هو عود رقيق الطرفين غليظ الوسط، إذا رمى به ذهب مستويًا. وجمهور العلماء وكافتهم أنه لا يؤكل ما أصاب بعرضه إلا ما خزق بحده، وذهب مكحول والأوزاعي وفقهاء أهل الشام إلى أكل صيده كيف كان. ونص السنة يرد عليهم، وكذلك قالوا في البندقة أنها تؤكل صيدها، وخالفهم كافة فقهاء الأمصار وأئمة الفتوى، فلم يرد أكلها إلا ابن أبي ليلى وسعيد بن المسيب، فأجازوا أكل ما صيد بالبندقة لقول الشافعي. وحديث المعراض أصل في منع ذلك؛ لأن ذلك كله رض ووقيذ، وهو معنى قوله: } } فإنه وقيذ { { ؛ أي: مقتولة بغير محدد.
والموقوذة. المقتولة بالعصا وشبهها. وأصل ذلك من الكسر والدفع والمرض وشبهه.(7/139)
وفي قوله: } } فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره { { : دليل أنه لا يؤكل إلا ما صاده، لكنه اصطاده وبكلب خرج عنه قصد الصائد وأشلائه لا ما صاده بأشلاء غيره لغير حضره أو بأشلائه من قتل نفسه، أو بأشلائه على صيد فأخذ غيره، واختلف مالك أو أشلائه وليس هو في يده، والصحيح أنه يؤكل في هذه، كذا هو مشهور، وخلافه في المهمات المدونة وغيرها، وفي كتاب محمد: إنما اختلف قوله إذا كان معه وخرج فانتشلا من قبل نفسه، والصحيح في هذا أنه لا يؤكل.
وقوله: } } فإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله، فإن غاب عنك يومًا فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، دران وجدته غريقًا في الماء فلا تأكل { { : زاد في الرواية الأخرى: } } فإنَّك لا تدري الماء قتله أو سهمك { { ، وفي الحديث الآخر: } } إذا رميت سهمك فغاب عنك فكله ما لم ينتن { { ، وقال في الحديث الآخر في الذي يدرك صيده بعد ثلاث: } } كله ما لم ينتن { { ، وفسره في الرواية الأخرى في صيد الكلب .
قال الإمام: من شرط استباحة أ الصيد، أن يتبعه الصائد، رجاء أن يدركه فيذكيه، فإن لم يفعل وتأخر عنه من غير عذر، ثم أتاه فوجده ميتًا وبه أثر سهمه أو كلبه، فالمشهور من المذهب أنه لا يأكل، لجواز أن يكون لو اتبعه لأدركه وصار أسيرًا له، حتى لا يجوز تذكيته بالعقر. وحكى ابن القصار أكله، وكأنه رأى أنه لا يسقط التذكية المحققة بهذا الأمر يجوز وقد قال في كتاب مسلم: } } فإنَّ أخْذَهُ ذكاته { { ، ولم يشترط أيضًا في هذا الذي مات ولم ينتن أن يكون اتبعه أو لم يتبعه. وأما إن غاب عنه الصيد، ثم وجده بعد ذلك وفيه أثر سهمه أو كلبه، ففي المذهب ثلاثة أقوال:
?????أحدها: أنه يؤكل ؛ لهذه الأحاديث.
?????والثاني: أنه لا يؤكل ؛ يقول ابن عباس: } } كل ما أصميت ولا تأكل ما أنميت { { ؛ ومعنى: ما أصميت: ما لم يغب عنك، و } } ما أنميت { { : ما غاب عنك.(7/140)
?????والقول الثالث: إجازة ذلك في السهم ومنعُه في الكلب، لأن السهم يقتل بالرمية الواحدة، والكلب يقتل على جهات مختلفة.
وأما قوله: } } ما لم يُنْتِن { { : فإن ذلك لأن النفوس تعافه وتستقذره الطبائع، فنهى عنه تنزيهًا، أو لكون ذلك يضر بالأجسام ويسقمها، فنُهي عنه تحريمًا، وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أكل إهالة سَنخة. والسَّنِخة: المغيرة، ومحملها على أنها لم تضر ولم تستقذر، فلا يكون ذلك مخالفًا لهذا الحديث.
قال القاصضي: قيل: يحتمل قوله: } } ما لم ينتن { { نتونة تغيره إلى حال لا يجوز أكله معها من تغيره صيد أو نحوه ؛ لأنه صيد من الأنجاس والأرجاس والخبائث، أو يكون لما يخاف أن ذلك أصابه من نهش ذوات السموم وإفساد حاله، والخوف على أكله بسببه، وقد جاء مثل هذا عن ابن شهاب قال: كل مما قتل وأكل منه، إلا أن تجده يتعطن، فإذا تعطن فإنه تهميس، وذلك الذي يكره. وفسروا الحديث: } } يتعطن { { : أنه إذا مددته تمرط، وقال ابن الأعرابي: يقال: إنما سمي عطينة؛ أي: منتن كالإهاب المعطون، وهو الذي تمرط شعره عنه وأنتن. قال بعض اللغويين: يقال: أنتن اللحم: إذا تغير بعد طبخه، وصَلَّ وأصَلَّ إذا تغير وهو نيٌّ. وهذا الحديث في البحر. وسماه منتنًا خلاف ما قال، وقد ذهب بعض الناس قديمًا إلى الأخذ بهذا الحديث في ترك أكل ما أنتن، ثم وقع الاتفاق على جوازه.(7/141)
وقوله: } } فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك { { : بيِّن في أنه لو تحقق الرامي أن سهمه قتله بأن يجده قد أنفذ مقاتله لأكله، وكذلك إذا تحقق فيما رماه في الهواء أو من شاهق فسقط، أن سهمه أنفذ مقاتله أكله، وإن شك فيه لم يأكل؛ لأنه لا يدرى هل مات من السقطة أو الرمية، وتمثل هذا مالك وأصحابه والشافعي والليث وإسحق وأصحاب الرأى والحسن البصري وعطاء وقتادة والأوزاعي وأبو ثور، إلا أن الشافعي قال فيما رمي في الهواء فسقط ميتًا، ولم يدر مم مات: أنه يؤكل، وقاله أبو ثور وأصحاب الرأى. قال ابن المنذر: واختلف فيه عن مالك، فروى ابن وهب عنه لقول هؤلاء. وروى ابن القاسم: إن كان السهم لم ينفذ مقاتله لم يؤكل.
وقوله في حديث عدي: } } وكان لنا جارًا ودخيلاً وربيطًا بالنهرين { { : الدخيل والدخال: الذي يداخل الرجل في أموره، والدخلة: الخاصة، والدخل أيضًا: الباطنة. والربيط هنا: المرابط الملازم من الرباط.(7/142)
وذكر مسلم حديث أبي ثعلبة الخشني: } } إنا بأرض قوم أهل الكتاب نأكل في آنيتهم { { ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - - ? } } إن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها، ثم كلوا فيها { { . جاء هذا الحديث مفسرًا في غير مسلم، وفيه: } } وأنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر { { ؛ من سؤاله عن أهل الكتاب لهذا ؛ لأنهم يستعملونها في الأنجاس عندنا في الميتات ولحم الخنزير والخمر وغير ذلك، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - التنزه عنها أولى لما عساه بداخلها وتعلق بها، فإن اضطر إليها غسلت فاستعملت، والماء طهور لكل شيء. وجاء في حديث ابن عباس: } } ما كان من حديد أو نحاس فاغسلوه، وما كان في فخار فاغلوا فيها الماء، ثم اغسلوها واطبخوا فيها، فإن الله جعل الماء طهورًا { { ، وهذا مبالغة فيما عساه يتعلق به، وأصلها مما يشرب فيها من ودك النجاسات ورطوبتها، ويجب أن يكون حكم الإناء المطلي والزجاج غير حكم أواني النحاس والحديد ؛ لأنها مصمتة ليست كمحلِلة الأجزاء كالفخار فيداخلها شيء، وهذا فيما يطبخون فيه، فأما ما يستعملونه في غير الطبخ من إذابتهم للماء وشبهه فخفيف؛ لأنه طهور لكل ما حل فيه، إلا ما علم أنهم يستعملونه للحم، وقد توضأ عمر من ماء في جرة نصرانية.
وقوله: } } وما أصبت بكلبك الذي غير معلم فأدركت ذكاته فكل { { : هذا مما لا خلاف فيه أن غير المعلمة لا تأكل صيدها، إلا ما أدركت حياته.(7/143)
وقوله: } } نهى - عليه السلام - عن كل كل ذى ناب من السباع { { ، وفي حديث آخر: } } وكل ذى مخلب من الطير { { ، وفي طريق آخر: } } كل ذي ناب من السباع أكله حرامًا { { ، قال الإمام: اختلف الناس في السباع، ففي ذلك عندنا روايتان: التحريم والكراهة، وبالتحريم قال أبو حنيفة والشافعي. وهذا الحديث أورده مسلم نص في التحريم، وكان أصحابنا تعلقوا في الكراهة بقوله سبحانه وتعالى:{ قل لأ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَي مُحَرَّمًا} الآية، وليس فيها ذكر السباع، وهذا فيه نظر ؛ لأنه إنما أخبر عن أنه لا يجد، وتحريم السباع حكم محرمًا، ووجدنا نحن محرمًا إلا ما ذكر، وقد يمكن أن يوجد فيما بعد، وقد ذكر أن الحديث ورد بعد؛ لأن الآية مكية وهو مدني، وأيضًا فإن الآية خبر عن أنه لم يجد، وتحريم السباع حكم والأحكام يصح نسخها، والأخبار لا يصح نسخها،?ولا يمكن تعارضها إلا على وجه يمكن فيه البناء، فماذا أخبر أنه لا يجد محرمًا ووجدنا نحن محرمًا، حملناه على أنه أوحى إليه به فيما بعد؛ لأنه لو كان أوحي إليه فيما قبل وكان الخبر عامًا، صار الخبر كذبًا، وهذا لا يصح. وأيضًا فإن قوله:{ قُل لا أَجِدُ في ما أُوحِيَ إِلي محرمًا، لا يقضي بتحليل سوى المستثنى؛ لأنه إذا نفي التحريم لم يكن ذلك نص في إثبات التحليل. ونحن نقول: إن الاستثناء قبل ورود الشرع لا ينسبها محرمة، ولا يكون ذلك منا تصريحا فإنها محللة، بل الغرض نفي ورود الحكم، وتكون باقية على أصلها قبل الشروع، فيه خلاف بين أهل الأصول، لكن إن كان المراد من الاحتجاج بالآية في وجود التحريم الشرعي في زمن نزولها فهذا صحيح، ولكن إثبات حكم معين أو نفي نزول حكم فيما بعد لا يصح ادعاؤه.(7/144)
وأما نهيه عن كل ذى مخلب من الطير، فيه قال أبو حنيفة والشافعي، ومذهبنا أن أكلها ليس بحرام، ولعل أصحابنا يحملون هذا النهي على التنزيه، ويرون أنها قد تكون تتصيد المسموم ما يخشى منه على أكلها. وهذا ضعيف، ولا يمكن ترك الأحاديث على هذا التشديد، لكن إنما يجب النظر بين الآية وهذا الحديث. وقد تكون الآية تقتضي جواز أكل كل ذي مخلب أولا تقتضيه، وقد نبهنا على التخفيف في ذلك. وإن كان لا يقتضيه نظر في النهي، هل يحمل على التحريم أو الكراهة، وفيه خلاف بين أهل الأصول. ونظر أيضًا في قول الراوي فيها، ولم يكن لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - هل يوجد بذلك على ظاهره أم لا ؟ وهذا أيضًا مبسوط في كتب الأصول فهذا التحقيق فيه. قال القاضي: الخلاف في أصل هذا الباب على ما ذكره، لكن الاختلاف عندنا في الكراهة، والتحريم عند مالك إنما هو في السباع العادية، فأما عداها فلا خلاف عندنا أنها غير محرمة. وقد أجاز ابن كنانة من أصحابنا ما لم يفترس ويأكل اللحم، وقال: لم يأت فيه نهي. ثم وقع خلاف آخر بين المحرمين لأكلها في أعيان السباع ومن غيرها، فاختلفوا في الضبع والثعلب والهرة والآنس والوحشي وشبهه، فأجاز الشافعي أكل الضبع وهو قول أحمد وإسحق وأبي ثور، ولم يروها من السباع ورأوها صيدًا، وهو قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في أحد قوليه ورآها من السباع، وأجاز الشافعي أيضًا أكل الثعلب وهو قول طاووس وقتادة وأبي ثور، وحرمها الآخرون، وكرهه مالك. وأجاز الليث أكل الهر، ومنعه الآخرون. وأحل مالك أكل الآنس منها والوحشي. واختلفوا في القرد، فمنعه عكرمة ومجاهد والشافعي والحسن ومكحول وعطاء وابن حسن من أصحابنا. قال الباجي: والأظهر من قول مالك وأصحابه أنه ليس بحرام.(7/145)
واختلف في الفيل، فأجاز الشافعي أكله وابن شهاب، وكرهه الحسن والكوفيون؛ لأنه ذو ناب عندهم. واختلفوا في جواز أكل الوبر واليربوع والضب والقنفذ، فأجازه الجمهور، وهو قول أبي يوسف في الوبر، وقول مالك والشافعي وغيره في الجميع وإن كان ذا ناب؛ لأنه ليس من السباع،?ومنعها أبو حنيفة وبقية أصحابه في الجميع لأصل الناب. وقال قوم: الضب حرام أكله، وروى عن مالك كراهة أكل القنفذ، حكاه ابن المنذر. ومشهور مذهب مالك في الطير ما تقدم، وحكى عنه ابن أبي أويس كراهة أكل كل ذى مخلب من الطير، واختلف عنه في أكل الخطاطيف بالكراهة والإباحة، وحكى عن عروة كراهة أكل الغراب والحدأة. وكره النخعي وطاووس أكل ما تأكل من الطير الجيف، وكره بعض أهل الحديث أكل الغراب الأبقع دون غيره من الغربان والطير، ونحوه عن محمد بن الحسن.
وقد اختلف الناس، هل الأشياء أصلها على الإباحة وعلى ما كانت عليه قبل ورود الشرع ؛ وهو قول طائفة من الفقهاء والأصوليين، وقاله أبو الفرج من المالكيين إلا ما ورد الشرع بتحريمه، وقالت طائفة أخرى: ذلك على الحظر والتحريم إلا ما ورد الشرع بتحريمه أو إباحته، وقاله أبو بكر الأبهرى من شيوخنا، ومعظم المتكلمين والفقهاء وغيرهم على الوقوف في ذلك، حتى يستدل على حكمه من جهة الشرع بدليل، وذهبت المعتزلة ومن قال بالتحسين والتقبيح إلى أن ما تستقبحه العقول من ذلك ممنوع ؛ كالظلم والفساد في الأرض وما تستحسنه واجب كشكر المنعم، وما عدا هذين البابين على الوقوف. ومذهب أهل السنة والحق أن التحسين والتقبيح إنما يرجع إلى الشرع لا إلى العقل ؛ بدليل اختلاف العقلاء فيه.
وذكر مسلم في الباب حديث شعبة عن الحكم وأبي بشر، عن ميمون، عن ابن عباس. وقد ذكر البخاري في "تاريخه" هذا الحديث عن إبراهيم، عن سعيد، عن علي الأرقط، عن ميمون. ثم قال: قال سعيد: وأظن بين ميمون وابن عباس سعيد بن جبير.(7/146)
حديث جيش أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - فيه: } } بعثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - نتلقى عير قريش، وأمَّرَ علينا أبا عبيدة { { : فيه وجوب التأمير على الجيوش والسرايا ليرجع الرأي إلى واحد، وقد استحب هذا العلماء أن يمثل ذلك في الوقعة في السفر وغيره ليرجع رأيهم إلى واحد، فإن الرأي متى انتشر وخرج عن واحد وقع الخلاف وفسد النظام.
وقوله: } } نتلقى عير قريش { { : فيه جواز الرصد للعدو والخروج لأخذ ماله والغزو لذلك، لأن في جميع ذلك نكاية.
وقوله: } } وزودنا جرابًا من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة { { ؛ وأنهم كانوا ثلاثمائة، وقال في الحديث الآخر: } } نحمل أزوادنا على رقابنا { { ، وفي الحديث الآخر: } } ففنى زادهم { { وكان مزود تمر، وفي "الموطأ": } } مزودي تمر كان يقوتنا حتى كان نصيب كل يوم تمرة { { ، وفي الرواية الأخرى: } } كان يعطينا قبضة قبضة، ثم أعطانا تمرة تمرة { { : الجمع بين هذه الروايات بيِّن ؛ زودهم النبي - صلى الله عليه وسلم - المزود زائد إلى ما كان عندهم من زاد أموالهم، أو مما زودهم به غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وواساهم به، ويشهد لذلك قولهم: } } وكنا نحمل أزوادنا على أعناقنا { { ، فقد أخبروا أنه كان لهم زاد، وقولهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمزود، ويحتمل أنه لم يكن عندهم تمر غير الجراب، وكان عندهم غيره من الزاد، وزادهم النبي - صلى الله عليه وسلم - آخر.(7/147)
وأعطى أبو عبيدة لهم تمرة تمرة إنما كان في الحال الثاني بعد أن فنى زادهم وطال لبثهم، وفسره في الحديث الآخر. فإنما أخبر في الحديث الأول عن مثال الحال لا عن أوله وظاهر ما بين في الثاني إنما كان تمرة تمرة، فهو بعد أن قسم عليهم قبضة قبضة، ثم فقدوها عند تمام ذلك، كما قال في الحديث الآخر: } } لقد وجدنا فقدها حين فنيت { { . وانتفعوا بهذه التمرة ببركة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وما زودهم في ذلك ما ذكر في الحديث من أكلهم الخبط مع ذلك حتى سُمي جيش الخبط، ومعهم التمرة، وتطيب أفواههم بها.(7/148)
وقوله: } } وجمع أبو عبيدة زادهم فكان يقوتنا { { : يحتمل أن أبا عبيدة فعل ذلك بمرضاتهم وموافقتهم عليه، وإن كان بعضهم قد فنى زاده وليس معه شيء على طريق المواساة قبل، ويحتمل أنه بحكم أداه إليه اجتهاده، أو خشي عليهم أو على بعضهم الهلاك، ورأى عند بعضهم ما يكفيه فألزمهم التساوى فيما عندهم، والأولى أنه كان بتراضيهم وموافقتهم عليه كما جاء في حديث الأشعريين في مثل هذه القصة، وكما قال تعالى في وصفهم:{ رُحَمَاءُ بيْنهم} } (1) { . وقد استدل بعض العلماء من هذا الحديث وما جاء من مثله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع الأزواد عند الحاجة: أن للإمام إذا رأى من عنده فضله قرت إجباره على بيعه وإخراجه في المجاعة. وقد ألزم عمر أهل كل بيت مثل عددهم عام الرمادة، ويحتفل عندي وهو أيضًا ظاهر العادة أن أبا عبيدة فعل ذلك إذا رأى أن أكثر ما كان عندهم من الزاد، وما بقى إنما كان مما زودوا به من مزودهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره مما أعطوه معونة لهم، ومثل هذا معلوم من فعل الصحابة، ولم يخص واحدًا دون آخر، وكان حقهم فيه سواء، فعدل بينهم فيه عند الضرورة، وكان حالهم فيه أولاً مع الإخسار خلاف ذلك، بأخذ كل واحد قدر حاجته. قيل: وفيه جمع الأزواد في السفر، قال بعض العلماء: وهو سنة، وأن يَخْرج القوم إذا خرجوا بِعُفَّتِهم جميعأ وهو أحرى إن يبارك لهم وأطيب لأنفسهم.
__________
(1) } ) الآية (29) من سورة الفتح.(7/149)
وقوله: } } فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، وإذا به دابة تدعى العنبر، قال أبو عبيدة: ميتة. ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد اضطررتم { { ، وذكر إقامتهم عليها شهرًا وهم ثلاثمائة حتى سمنوا...، الحديث: وفيه أنهم تزودوا منها وشائق، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال لهم حين ذكروا ذلك له: } } هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم منه شيء فتطعمونا ؟ { { ، وأنه أكل منه. قال الإمام: جميع ما في البحر مباح عند مالك على الجملة على اختلاف أشكاله وأسمائه، حية وطافية، لكنه توقف في خنزير الماء واستثنى الشافعي الضفادع، وقال أبو حنيفة: ما سوى السمك لا يؤكل، ومنع من أكل الطافي، وأجاز ما مات بسبب كالذي يجذر عنه الماء فيموت، أو يموت من شدة حر أو برد. ولنا في إباحة جميع ما فيه على الإطلاق، قوله تعالى:{ أُحِل لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَا مُهُ } } (1) { فعمَّ. وإنما توقف مالك في خنزير الماء ؛ لأن هذه الآية يقتضى عمومها الإباحة. وقوله عز وجل:{ وَلَحْمَ الْخِنزِير } } (2) { ، يقتضي تحريمه إن صح أن يسمى خنزيرًا في اللغة، فلما تعارض العمومان توقف، أو يكون لم يتوقف من ناحية التعارض، لكن من ناحية التسمية ؛ هل هى بائنة في اللغة أم لا ؟ ولنا في إباحة الطافي منه قوله - صلى الله عليه وسلم - - ? } } ?هو الطهور ماؤه، الحل ميتته { { } (3) { ، وحديث أبي عبيدة هذا، وقد ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل منه اختيارًا.
__________
(1) } ) الآية (96) من سورة المائدة.
(2) } ) الآية (173) من سورة البقرة، و (3) المائدة.
(3) } { ?(7/150)
وتضمن حديث أبي عبيدة أيضًا الرد على أبي حنيفة في منعه ما سوى السمك؛ لأن هذه الدابة التي تسمى العنبر الظاهر أنها ليست من السمك. وأما منع أبي حنيفة والشافعي الضفدع فلعلهما تعلقًا يما خرجه النسائي: أن طبيبًا ذكر ضفدعًا في دواء عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتله، لعل هذا الحديث لم يثبت عند مالك، أو يحمل إن ثبت على الاستحباب.
قال القاضي: ظاهر قول أبي عبيدة: } } ميتة { { ، ثم قال: } } لا، أنتم مضطرون { { ؛ أنه حكم لهم بحكم الميتة، وإنما الاستباحة للاضطرار.
وفيه: } } زودهم منها الوشائق { { ، ففيه على هذا الظاهر حجة في جواز التزود من الميتة للمضطر والشبع. وقد اختلف في ذلك؛ لأن أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - مما حملوه عنها وبيانه لهم حلها يقضس على تأويلهم والحجة به، وقول مالك في "موطئه": له أن يأكل حتى يشبع ويتزود، وهو قول غيره، وذكر أنه أحسن ما سمع. وحكى عنه ابن المنذر وعبدالوهاب أنه يأكل منها ما يقيم رمقه، وهو قول عبدالعزيز بن الماجشون وابنه وابن حبيب والحسن والنخعي وقتادة في آخرين، قالوا: ثم لا يأكل منها حتى لا يضطر إلى ذلك ثانية، قال عبد الملك: إن تغذى حرمت عليه يومه، وإن تعشى حرمت عليه ليلته. واختلفوا في سفر الباغي والعاصي بسفره، فقال: لا رخصة ؛ وإنما رخص لمن خرج في سفر طاعة وغير معصية، وهو قول مجاهد وابن جبير وغيرهما، وتأولوا قوله تعالى:{ غَيْرَ بَاغ ولا عَاد} } (1) { ، وهو قول الشافعي ورواية آخر عندنا، وقول ابن حبيب، وقال آخرون بجواز ذلك له، وهو مشهور قول مالك وأصحابه وأبي حنيفة، وظاهر قول ابن عباس، وقال:{ غير باغ } في الميتة، { ولا عاد } في الأكل، وإليه نحا إسماعيل القاضي قال: لأن قتله نفسه إذا لم يأكل معصية ثانية.
__________
(1) } ) الآية (173) من سورة البقرة.(7/151)
قال الأمام: وأما قوله: } } كنا نضرب بعصينا الخبط { { : وهو أن نضرب الشجر بعصا لتتحات ورقه، واسم الورق المخبوط خبط، وهو من علف الإبل.
وقوله: } } من وقب عينه { { : يعني داخل عينه، من قوله سبحانه: {ومِن شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَب } } (1) { ؛ يعني: دخل في الظلمة.
وقوله: } } ?يزودنا من لحمه وشائق { { : قال أبو عبيد: هو اللحم يؤخذ فيغلى إغلاءةً ويحمل في الأسفار، ولا ينضج فيتهرأ. يقال: وشقت اللحم فاتشق، والوشيقة: القديد، ومنه الحديث: } } فتواشقوهم بأسيافهم { { ؛ أي قطعوه كما يقطع اللحم إذا قدد.
وقوله: } } حتى ثابت أجسامنا { { ؛ أي: رجعت إلى ما كانت عليه، والراجع هو الثائب، من ثاب يثوب.
وقوله: } } في حجاج عينها { { : يقال: حِجاج وحَجاج، بفتح الحاء وكسرها.
قال القاضي: الوشائق: شرائح اللحم بيبس الشمس، الواحد وشقة، وهو منكة القديد، والمراد في هذا الحديث. ووقب العين: حفرها، والوقبة: الحفرة في الحجر، ووقب الدهن متقعره، وكذلك وقب الثريد: حفرته التي يجعل فيها دسمه.
وقوله فيه: } } كهيئة الكثيب الضخم { { : يفسر معنى قوله في مالك: } } مثل الظرب { { . ويصحح تأويل مالك أنه الجبل الصغير وقاله غيره من أهل اللغة، وقال الخليل: هو ما نتأ من الحجارة، وما قاله مالك أصح ؛ لقوله - عليه السلام - في حديث الاستسقاء: } } على الظراب والآكام وبطون الأودية { { ؛ واحدها ظرب مثل وعل، وظرب مثل: قرد. وقال غيره: الظرب ما كان من الحجارة. أصله ثابت في الجبل وطرفه محدد، فإذا كانت خلقة الجبل كذلك سمى ظرب، وهذا يجمع التفسيرين.
وقوله: " ونقطع الفدر كالثور، وكقدر الثور: أي القطع. الفدرة: القطعة من اللحم، ووقع عند السجزي: أو كقدر الثور بألعاب، وهو تصحيف.
وقوله: } } سيف البحر { { - ?هو ساحله، ويفسره قوله في الحديث الآخر: } } فأقمنا بالساحل { { - ?
__________
(1) } ) الآية (3) من سورة الفلق.(7/152)
وأكلهم منه هذه المدة الطويلة، ومثلها يتغير فيها اللحم ويفسد في الكلية، فاما أن يكون لكثرة شحمه وودكه، كما ذكر في الحديث أنهم اغترفوا من وقب عينه بالقلال الدهن وكثرة الشحم، والودَك مما يصون اللحم عن التغيير، أو يكون لكبره وعظمه فما يفسد منه يطرح ويطلب ما تحته مما لم يصبه الهواء، فإذا صين عنه تماسك، وقد يكون هذا الحديث إلقاء البحر إلى ساحله ميتًا لكن شخصه في الماء، بحيث يصونه الماء ويحفظه ببرده، ومثل هذا موجود في الموتى الذين يدفنون في الأرض الباردة الندية لا يتغيرون، ويحتمل أنهم أولاً أكلوه طريًا، ثم اتخذوه وشائق وقديدًا فكلوا بقية الأيام من ذلك، والله أعلم. واحتج به من أجاز أكل الصيد وإن أنتن، وأنه ليس بحرام، وقد مرّ الكلام فيه. قيل: وحمل الحديث على الكراهة أو على التغيير للطعام لأنه حينئذ من الخبائث والرجس.
وذكر في الباب حديث حجاج بن الشاعر،?وفيه: حدثنا أبو المنذر القزاز. كذا للعذرى والسجزي بالقاف، ولغيرهم: } } البزاز { { وبالقاف ذكر أبو على الجياني لا غير وهو إسماعيل بن عمر الواسطي يعدد به مسلم.
وفي الحديث جواز طلب الصديق لصديقه الطعام على جهة الاستلطاف والمودة ؛ لطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم ومنه، وقد يكون فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، تطيبً لقلوبهم لأكله لغير ضرورة أو بيانا لفعلة.
وقوله: إن ميتة العنبر بخلاف غيرها، وذكر في أحد الروايات أنهم أكلوا منه نصف شهر، وفي آخر: ثمانية عشر يومأ، وكل ذلك متقارب المعنى، وأما قوله في الرواية الأخرى: } } فأقمنا عليه شهرًا { { ، فقد يجمع بينه وبين ما تقدم أنهم أقاموا على الأكل منه طريأ نصف شهر ونحوه، وأكلوا بقيه الشهر منه وشائق ومقددًا كما ذكر. وإجلاس أبي عبيدة لمن أجلس في عينه، وما فعله بضلعه، تعجبًا من عظم قدرة الله وخلقه، واعتبارًا بذلك، ويتحقق التحدث به لغيره ليعتبروا بذلك، والله أعلم.(7/153)
وقوله: } } نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الأَنسية { { ؛ بفتح الهمزة، قد مضى في النكاح والحج الكلام على هذين الأصلين بما يكفي، وقول من قال في لفظه أن صوابه: } } الأنسية { { بفتح الهمزة وبالنون، وبالوجهين ضبطناه.
قال الإمام: المذهب عندنا على قولين في الحمر الإنسية، فقيل بالتحريم وقيل بالكراهة المغلظة، فمن قال بالتحريم أ تعلق بالحديث المذكور فيه التحريم،، وهو نص في بابه، فيكون هذا النص مؤكدًا لظاهر القرآن، وهو قوله عز وجل:{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}، فذكر المنافع التي ذكرها لها، ولو كان أكلها مباحًا لنبه عليه سبحانه، وذكر وجه المنَّة به على عباده كما ذكر غيره من المنافع. ووجه القود بالكراهة ما وقع من الاضطراب بين الصحابة في هذا النهي. فذكر مسلم، قال: } } تحدثنا بيننا فقلنا: حرمها البتة، وحرمها من أجل أنها لم تخمس { { ، وفي بعض طرقه: } } فقال ناس: إنما نهى عنها لأنها لم تخمس { { ، وقال آخرون: } } نهى عنها البتة { { ، وذكر ابن عباس قال: لا أدرى أنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل أنه كانت حمولة الناس، فكره أن يحمل، تذهب حمولتهم أو حرمه في يوم خيبر لحوم الْحُمر الأهلية، وفي بعض طرقه: جاء رجل فقال: يا رسول الله ! أُكِلَت الْحُمر، ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله ! أُفنيت الحمر، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا طلحة فنادى: إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر، فإنها رجس أو نجس، وفي بعض طرقه أنه: لما فتح الله خيبر أصبنا حمرًا خارجًا من القرية، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا إن الله ورسوله نهاكم عنها، فإنها رجس من عمل الشيطان، فكفئت القدور بما فيها.(7/154)
وقد خرّج أبو داود: قلت يا رسول الله ! أصابتنا سنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر، وإنكّ حرمت لحم الحمر الأهلية، فقال: أطعم أهلك من سمين حُمُرك، وإنما حرمتها من أجل جوال القرية { { ، فلما رأي بعض أصحابنا هذا الاضطراب في علة النهي، هل لأنها لم تخمس أو لأنها فنيت، أو من أجل جوال القرية ؛ قالوا بالكراهة المغلظة دون التحريم؛ لأن هذه العلل قد تذهب فيذهب التحريم بذهابها، ولكن يبقى على هذا سؤال يقال: لو كانت هذه علة التحريم لما أمر بإكفاء القدور وكسرها، ولا عدل عنه لما روجع إلى غسلها، بل هذا يُشرِ إلى ما وقع في الطريق الأخرى وهى قوله: } } فإنها رجس أو نجس { { ، قيل: لأجل هذا التعليل الآخر قوي التحريم عند بعض أصحابنا، وقد تكون العلل المتقدمة أسبابًا يزول عندها الحكم معللاً بما ذكر مناديه - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله في حديث أبي داود: } } من أجل جوال القرية { { : مأخوذ من الجلة وهى العذرة ؛ سميت بذلك لأكلها لها، وأشد ما في هذا قوله عند أبي داود: } } أطعم أهلك من سمين حُمُرك { { ، ولعل هذا الحديث لم يثبت عند أصحابنا، أو تكون قضية في عين لا تتعدى، أو القصد منه نفي التحريم وإن كان لحومها مكروهة، وقد ذكر أنه ما عنده ما يطعم أهله إلا الحمر، وهذه ضرورة.
قال القاضي: وقوله: } } اكفؤوا القدور { { : وكذا ضبطناه بألف الوصل، وفتح الفاء من كفأت، ومعناه: قلبت، ويصح فيه قطع الألف وكسر الفاء من أكفأت، وهما بمعنى عند كثير من أهل اللغة.
قال الإمام: يقال كفئت القدر: كببتها وقلبتها لتفرغ ما فيها، وكفأت الإناء: إذا أملته. وقال ابن السكيت: يقال: كفأت وكفأت.
قال القاضي: قال الكسائي: أكفأت الإناء، وكل شيء قلبته،ولا يقال: أكفأته، قال القتبي: أكفأته أيضًا لغة.(7/155)
قال الإمام: خرّج مسلم في حديث البراء: } } أصبنا يوم خيبر حُمُرًا { { الحديث عن ابن مثنى وابن بشار، وذكر السند، قال البراء: } } أصبنا يوم خيبر حُمرًا، فنادى منادي النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن اكفؤوا القدور { { ، وقال أبو مسعود: لهذا الحديث تعليل وهو مرسل.
قال الإمام: وهذا مما يجب النظر فيه لأنه لم يعين المنادي، ولا ذكر إضافة نص قوله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الأظهر أن النداء في الجيش لا يخفي على الإمام والصاحب إضافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا مما يعلم بقرينة الحال، وقد قال بعد هذا: فأمر النبي كلدة أبا طلحة فنادى: أن الله ورسوله. فأضاف الأمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على الجملة، وسمى المنادي، وذكر ما نادى به. والظاهر أن النبي علدة أمره بذلك اللفظ.
قال القاضي: وقوله: } } أهريقوها واكسروها { { فقالوا: أوْ نهريقها ونغسلها، قال: } } أوْ ذاك { { : فيه ما تقدم الآنية التي طبخت فيها النجاسات إذا غسلت، كما تقدم في آنية المجوس، وهى علة كسر هذه القدور وغسلها لقوله: } } إنها رجس من عمل الشيطان { { ورجس ونجس ؛ ولأن ما حرم أكله لم يعمل الذكاة في لحمه، وكل هذا مما يغلظ تحريمها، وقد يكون وصفها بذلك لأنها من جوال القرية على ما تقدم.
وقوله: } } وكان الناس احتاجوا إليها { { : على أحد العلل في الحديث من خوف فناء الظهر، وفي الرواية الأخرى: } } وكانت لم تخمس { { على العلة الأخرى، وفي الحديث الآخر: } } لأنها كانت جوال القرية { { على التعليل الثالث، فالعلل الثلاثة جاءت في الحديث.
باب في أكل لحوم الخيل
وقوله: } } وأذن في لحوم الخيل { { ، قال الإمام: اختلف الناس فيها، فأباح أكلها الشافعي، ومذهبنا أنها مكروهة، وقال الحكم: حرم القرآن الخيل، وتلا الآية، فتعلق الشافعي بقوله: } } وأذن { { والإذن إباحة.(7/156)
وقد خرّج النسائي وأبو داود عن خالد بن الوليد أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: } } لا يحل أكل لحوم الخيل والبغال والحمير { { ؛ قال النسائى: يشبه إن كان صحيحًا أن يكون منسوخًا ؛ لأن قوله: } } أذن في لحوم الخيل { { دليل على ذلك، ولما رأى أصحابنا اختلاف هذه الأحاديث، وكان حديث جابر أصح قدّموه، في نفي التحريم، وقالوا بالكراهة لأجل ما وقع في معارضته بالحديث الآخر، ولما يقتضيه ظاهر الآية وقد ذكر فيها الخيل كما ذكر الحمير، وقد بينه على المنة بما خلقت له ولم يذكر الأكل.
قال القاضي: عامة فقهاء أصحاب الحديث أحمد وإسحق وأبو داود وابن المبارك على جواز أكل لحوم الخيل لقول الشافعي، وهو قول الثورى وأبي يوسف وشريح والحسن وعطاء وحماد بن أبي سليمان وسعيد بن جبير في جماعة السلف، ووافق أبو حنيفة ومحمد بن الحسن والأوزاعى مالكًا في كراهة ذلك، وروى مثله عن ابن عباس، واختلف في إباحته أو كراهته على محمد بن الحسن.
باب إباحة الضب
وقوله: } } لست بآكله ولا محرمه { { ، وفي الحديث الآخر: } } لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه { { ، قال الإمام: اختلف طرق الأحاديث في علة امتناعه - صلى الله عليه وسلم - من أكله، فذكر مسلم أنه تركه لأنه - عليه السلام -?عافه، وذكر في طريق آخر: أنه قال: } } لا أدرى لعله من القرون التي مسخت { { ، وفي غير مسلم: أنه، قال - صلى الله عليه وسلم - - ? } } إنى تحضرني من الله حاضرة { { ؛ يريد الملائكة عليهم السلام فأحترمهم ؛ لأنه له رائحة ثقيلة، واتقاه لأجلهم كما يتقي الثوم. وأما التعليل بأنه يخاف أن يكون من المسوخ فإن هذا لم يتحقق، وفيه التوقّى لأجل الشك، وقد تقدم أصل هذا.(7/157)
وقوله: } } أعافه { { معناه: أكرهه، يقال: عفت الشيء أعافه عيفأ: إذا كرهته، وعفته أعيفه عيافة?من الزجر، وعاف الطير يعيف: إذا حام على الماء ليجد فرصة فيشرب. والمحنوذ: المشوي، وقيل: المشوي على الرضف، وهى الحجارة المحماة. قال أبو الهيثم: أصل المحنوذ من حناذ الخيل وهى أن يظاهر عليها جُل فوق جُل لتعرق تحته. قال ابن عرفة في قوله عز وجل:{ جَاءَ بِعِجْل حَنِيذٍ } } (1) { ؛ أي شوي بالرضاف حتى يقطر عرقًا، يقال: حنذته النار والشمس: إذا شوته.
وقوله: } } في غائط مضبَّة { { : يريد أرضًا متطامنة ذات ضباب. قال القاضي: كذا ضبطناه هنا } } بأرض مَضَبة { { بفتح الميم والضاد، ويقال: } } مُضِبة { { بضم الميم وكسر الضاد، وكلاهما معناه: ذات ضباب، وكذلك أرض مسبعة، ومأسدة: ذات سباع وأسود. وقد ذكر سيبويه أن مفعلة بالهاء والفتح للتكثير، وقد ذكرنا قبل من كره أكل الضب ومن حرمه، والكافة على إباحته.
وقوله: } } أكل على خُوان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -? { { ؛ أي مائدته، يقال: بضم الخاء وكسرها، والجمع أخونة وخون. وفي قولها: أخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يريد أن يأكل، ولم يكن يأكل شيئًا حتى يعلم ما هو سنة في هذا الباب؛ لئلا يقع الإنسان فيما لا يحل أكله إذا علم أنه لم يعلم ما هو، ولم يعلم مذهبه فيه.
__________
(1) } ) الآية (69) من سورة هود.(7/158)
وقوله: } } أهدته لها أختها أم حفيدة { { ؛ بضم الحاء مصغر، وفي الرواية الأخرى: } } أم حفيد { { بغير هاء كذا للعذري عن مسلم بالهاء في حديث أبي النضر ولغيره بغيرها، وعند أكثر رواة البخاري: } } أم حفيدة { { ، وكذا في رواية أبي الطاهر وحرملة في مسلم، اسم لا كنية، والأشهر: } } أم حفيد { { بغير هاء، واسمها: هذيلة. فكذا ذكره أبو عمر في الصحابة، وهى رواية النسائي عن البخاري، وكان في رواية بعض شيوخ ابن أبي جعفر: } } أم حميد { { وهو خطأ، وعند ابن السكن: } } أم جعيرة { { وهو خطأ أيضًا.
وقوله: } } ولو كان حرامًا ما أكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -? { { : حجة في أن إقرار النبي كله دليل على جواز ما أقره، إذا كان لا يقر على منكر، ولا يحرر ذلك في حقه لأنه جاء بالبيان والبلاع وهذا ضده ؛ لما فيه من الإشكال والالتباس.
وقوله: } } وهى خالته وخالة ابن عباس { { : الهاء عائدة على خالد بن الوليد، وبسبب المحرمية كان دخولهما عليها وإدلالهما في بيتها. أم ابن عباس أم الفضل لبابة الأكبر، وأم خالد لبابة الصغرى وهى العصماء، وهما شقائقها وهما معًا، وأم حفيد هذيلة وميمونة أخوات بنات الحارث بن جرن الهلالي، وزينب وسلمى وأسماء بنت عميس أخوات ميمونة أيضًا لأمها. أمهن هند بنت عوف الجرشية. وزعم الباجي أن أم حفيدة لبني الصغرى لأم خالد، وأما ابن عمر فجعلها غيرها، وقال: في صحبة لبني الصغرى إسلامها نظر.
وفي أكل خالد له باجتراره، ولم يأت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أذن له في ذلك وهو بيته ؛ إما لعلمه بأن ميمونة وهى ربة البيت، والمهدى لها أخرجته لجميعهم وهو الأظهر، أو بحكم إدلال خالد في بيت خالته وهو ما أباح الله الأكل منه.(7/159)
وقوله: } } غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات نأكل الجراد { { ؛ قال الإمام: اضطرب المذهب عندنا فيه، واختلف الناس أيضًا، هل تحرم ميتته لعموم قوله عز وجل: { حُرِّمتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } } (1) { ، أو يحل لقوله - عليه السلام - - ? } } أُحلت لي ميتتان: السمك والجراد { { ؛ والمشهور عندنا افتقاره إلى الذكاة، وقال مطرِّف: يؤكل بغير ذكاة، وعامة السلف أجازوا أكل ميتة الجراد، وعلى القول بافتقاره إلى الذكاة اختلفوا في ذكاته، فقال ابن وهب: أخذه زكاته. وابن القصار قال: لا تؤكل ميتته، ولو وقع في قدر أو نار وهو حي لأكل، وفي "المدونة": لا يؤكل إلا أن يموت من فعل من يفعله بها، من قطع أرجلها وأجنحتها، أو بطرحها في نار فيسلقها أو يقليها. وقال أشهب في "مدونته": لا يؤكل إذا قطعت أجنحته أو أرجله ثم مات قبل أن يسلق، ولا يؤكل إلا بقطع رأسه، أو يعمل صبًا، يريد يطرح في ماء أو نار. واختلف إذا سلقت الأحياء والأموات أو الأرجل معها، فقال أشهب في "مدونته": يطرح كله، وجميعه حرام. وقال سحنون: يؤكل الأحياء بمنزلة خشاش تموت في القدور. وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئل عن الجراد، فقال: } } أكثر جنود الله، لا آكله ولا أحرمه { { -
باب إباحة الأرنب
قوله: } } فاستبعجنا أرنبًا بمرّ الظهران فسعوا عليه فلغبوا { { : قال ابن القوطية: بعج بطنه بعجًا: شقه، وتبعج السحاب بالمطر، وبعجه حب كذا: اشتد وجده به، وقوله: } } فلغبوا { { : اللغوب: الإعياء، يقال: لغب- بفتح الغين- يلغب لغوبًا ولغب- بكسر الغين- لغة.
__________
(1) } ) الآية (3) من سورة المائدة.(7/160)
قال القاضي: لم نر من رواه: } } استبعجنا { { بالباء والعين، وهو تصحيف ممن رواه لا شك فيه فاسد المعنى، فكسِف يشقوا بطنها، ثم يسعون خلفها حتى لغبوا، ثم بعد ذلك يأخذونها ويذبحونها ؟! وكيف يصح ذبحها وفتها بعد شق بطنها ؟! وإنما الحرف في الرواية واللغة: } } استنفجنا { { بالنون والفاء، وكذا في سائر النسخ وسائر المصنفات والشروح، وكذا رويناه عن جميع من لقيناه، ومعناه: أثرناها من لحمها. تنفجت: يقال: نفجت الأرنب: إذا وثبت. قال الهروي: يقال: أنفجت الأرنب من جحرة فنفج؛ أي أثر به فثار، وهذا الفعل هو الذي يصح معه السعى خلفها، ويحصل الإعياء حتى يؤخذ ويذبح. فأكل الأرنب حلال عند جمهور العلماء وكافة الأمة ؛ إلا ما ذكر عن ابن أبي ليلى وعبدالله بن عمرو بن العاص من كراهة ذلك، وجاء في حديث خرّجه أبو داود وغيره من أصحاب المصنفات: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عنها، ولم يأمر بأكلها، وزعم أنها تحيض. قال بعضهم: وهذا من نحو تقذره أمر الضب.
باب إباحة ما يستعان به على الاصطياد
وقوله: } } كان ينهى عن الخذف { { بالخاء والذال المعجمتين، قال الإمام: قال الليث: رميك حصاة أو نواة، تأخذها بين سبابتيك، أو تجعل مخذفة من خشبة ترمي بها بين إبهامك والسبابة. قال القاضي: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه إذ لم يره من آلات الحرب فيتمرن به التمرن الجائز في رمي السهام، ولا من آلات الصيد فينتفع بذلك؛ لأنه إنما يرض فقتله موقوذ كما تقدم في السرقة، فلم يكن فيه منفعة، ولم يكن اللهو به مباحًا، مع ما يخشى من عقباه من كسر السن وفقء العين.(7/161)
وقوله: } } لا ينكأ العدو { { : كذا رويناه أ عن، مهموزًا، وفي الروايات: } } ينكى { { ?بكسر الكاف، وهو أوجه في هذا الموضع؛ لأن المهموز إنما هو نكأت القرحة، وليس هذا موضعه إلا على تجوز، هانما هذا من النكاية، ويقال منه: نكيت العدو وأنكيته نكاية. قال صاحب العين: ونكأت لغة: فعلى هذا تتوجه رواية شيوخنا في الخذف.
وقول عبدالله: } } ?أحدثك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخذف ثم تخذف، لا أكلمك أبدًا { { : فيه هجران من خالف السنن على علم، وتأديب أهل المعاصي بالهجران.
وقوله: } } إذا قتلتم فأحسنوا القتلة { { : عام في كل شيء من التذكية والقصاص وإقامة الحدود وغيرها، من أنه لا يعذب خلق الله وليجهز في ذلك. والقتلة، بالكسر: الهيئة والصفة، وبالفتح: الفعلة من ذلك.
وقوله: } } إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته { { : تفسير الإحسان: الذبح الذي إذا حدّ الشفرة أراح الذبيحة فأحسن الذبح بخلاف ضد ذلك، ومن إحسان القتلة ألا يحد الذبيحة إلى مذبحها، قاله عمر بن الخطايب ومنها: ألا تذبح وآخر ينظر، قاله ربيعة، وحكى عن مالك جوازه.
قوله: } } نهى أن تصبر البهائم { { ، قال الإمام: معناه: أن نحبسها وهى حية، ثم نرميها، وكل من حُبس لقتل أو يمين فهو قتل صبر أو يمين صبر. قال القاضي: ونهيه أن يقتل شيء من الدواب صبرًا في الحديث الآخر.
قوله: } } لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا { { : يفسر صبرًا للبهائم، وقد تقدم صدر الكتاب وتصحيف من صحفه فيه، وحكاه في تفسيره في الاسم ؛ وذلك لابنه قتل روح لغير منفعة كان الذكاة لا تحصل بهذا، وإنما هى ميتة لأنها ليست بصيد ولا ذكيت بما يذكى به الإنسي المقدور عليه، مع ما فيها من تعذيب الحيوان وإتلاف نفسه لغيرِ منفعة جائزة.
وقوله: } } وجعلوا لصاحب الطير كل خاطئة، من ضرب بأسهم { { : أي ما لم يصب الغرض.
- - - - -
كتاب الضحايا(7/162)
قوله - عليه السلام - - } } من ذبح أضحيته قبل أن يصلى- أو نصلى- فليذبح مكانها أخرى { { : يقال: أضحية، وإضحية، بالضم والكسر مشددة الياء، وجمعها أضاحي، مشدد الآخر. وضحية وجمعها ضحايا، وأضحاه وجمعها أضحى وأضاح، ومنه قيل: يوم الأضحى، ومنه سميت بذلك، وقيل: سميت بذلك اليوم ؛ لأن وقتها وقت ضحى النهار، وهو ارتفاعه. وقيس تذكر الأضحى، وتميم تؤنثه. قال الإمام: اختلف الناس في الأضحية، فعندنا أنها سنة مؤكدة، وقال أبو حنيفة والأوزاعي والليث: إنها واجبة. واشترط أبو حنيفة في الوجوب أن يكون المضحى يملك نصابًا. وقد زعم بعض شيوخنا أن المذهب على قولين في وجوبها، وخرج القول بالوجوب من قوله في المدونة: إذا اشتراها ولم يصحّ حتى ذهبت أيام الأضحى أثم. وكان شيخنا رحمه الله تعالى ينكر هذا الاستقراء ويقول: لعله رآه باشترائها ملتزمًا لذبحها، فأثم لترك ما التزم. وخرّجوا القول بالوجوب أيضًا من قوله في الموازية: هى سنة واجبة، وهذا قد يقال فيه أيضًا: إنهم ربما يطلقون هذا اللفظ بالتأكيد للسنة، ولكن ابن حبيب نص على التأثيم، وهو من كبار أصحاب مالك، ولكن قد وقعأيضًا لأصحابنا التأثيم بترك السق على صفة، وقد يكون هذا النحو نحى ابن حبيب وإن كان الأظهر حمل هذا الجواب على إفادة الم يجًاب.(7/163)
وقد تعلق } (1) { من نفي الوجوب بقوله - صلى الله عليه وسلم - - ? } } من رأى هلال ذى الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى يضحي { { ؛ فوكل الأضحية إلى إرادته، وذلك يدل على نفي وجوبها، وهذا قدح فيه بأنه قد يستعمل مثله في الواجب، فيقال: من أراد أن يحج فليلبِّ، ومن أراد أن يصلى الظهر فليتوضأ. وتعلقوا أيضًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - - ? } } أمرت بالنحر وهو لكم سنة { { ، وروى: } } ثلاث هن على فرائض، وهن لكم تطوع: النحر، والوتر، وركعتا الفجر { { -
__________
(1) } ) الترمذي، ك الأضاحى، ب ترك أخذ الشعر لمن أراد أن يضحى 4/ 102 (1523)، النائى، ك الأضحية 7/ 1 1 2 (1 436). الدارقطنى في سننه، ك الاشربة وكيرها، ب الصيد والذبائح والأطعمة رقم عن جابر الجعفي، وهو ضعيف جدأ عن ابن عباس تال: قال رسول الله طه: " أمرت بالنحر وليس بواجب، 4/ 282. أحمد في المسند 1/ 231، الحاكم في المستدرك عن ابن عاس. قال الذهبى: سكت الحاكم عنه، وفيه أبو جناب الكلبى وقد ضعفه النسائى والدارقطنى 1/ 300. ساقطة من نسخ الاكمال، والمثبت من ع. سقط من الأصل، والمثبت من س، ع. أبو داود، ك الضحايا، ب ما جاء في إيجاب الأضاحى رقم (2788)، الترمذي، ك الاضاحى، ب الأذان في أذن المولود رقم (1518) وقال: حسن غريب ولا نعرت هذا الحديث إلا من هذا الوجه، النسائى، ك الفرع والعتيرة، ب نفسه رقم (4224)، ابن ماجه، ك الأضاحى، ب الأضاحى واجبة هى أم لارقم (3125)، أحمد في المسند 215/4، 16/5، كلهم عن مخنف بن سليم. أبو داود السابق، رقم (2788 { -(7/164)
وتعلق من أثبت الوجوب بقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبى بردة: } } اذبحها، ولن تجزي عن أحد بعدك { { ، وقوله: } } فمن ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى { { ، وهذا الأمر، وذكر الإجزاء يدلان على الوجوب، وقدح في هذا بأنه لما خالف السنة بأن أوقعها على غير الجهة المشروعة بين الجهة المشروعة، فقال: } } اذبح مكانها { { ، وقال: } } لن تجزي { { ؛ يعني عن السنة التي شرعت. وخرّج الترمذي والنسائي وغيرهما: } } على أهل كل يت في كل عام أضحية وعَتيرة، أتدرون ما العتيرة ؟ هذه التي يقول الناس: الرجبية، ولفظه غلب تقييد الوجوب، وهذا الحديث لعله لم يثبت عند من أنكر الوجوب. وقد قال بعض المحدثين: هو ضعيف المنهج، وأظنه أحد رواته مجهولاً، لا سيما وقد عطف على الأضحية العتيرة، وهى غير واجبة باتفاق. ولو صح نسخ وجوب العتيرة، كما قال أبو داود، لأمكن أن يحمل قوله: } } على أهل كل بيت { { أن المراد به: عليهم إن أرادوا إقامة السنة، وقد قال في المتعة:{ حَقًا على الْمُتَّقِينَ}، وقال: } } غسل الجمعة واجب على كل محتلم { { ، ولم يحمل مالك ذلك على الوجوب لأدلة قامت، عليه، فكذلك هذا. وأما العتيرة فقد فسرها في الحديث بأنها الشاة التي تذبح في رجب، وهو الذي يشبه معنى الحديث، وأما العتيرة التي تعرفها الجاهلية: فهى الشاة تذبح ويصب من دمها على رأس الصنم، والعتير بمعنى الذبح، قال الحارث بن حلزة:
عننًا باطلاً وظلما كما تتر …عن حجرة الربيض الظباء(7/165)
قال أبو عمرو الشيباني: سمعت الأصمعي ينشد هذا، فصحف البيت: تعتر بتعنز، فقلت له: وما تعنز. قال: تنحر بالعنزة وهى الرمح الصغيرة، فقلت: إنما هى تعتز فصاح عليّ فأكثر، فقلت له: إنك لا ترويها بعد اليوم إلا كما قلت لك، وذكر بقية الحكاية، وفيه: أن الأصمعي أيضًا ألقى عليه بيتًا غلطه فيه " الفراء "، ففسره الشيباني أنه على أنه جمع فروء، فقال له الأصمعي: أخطأت، إنه جمع فِرى مقصور، وهو حمار الوحش. هذا الكلام في وجوب الضحية.
وانما تفسير البيت: فمعنى: عننًا: إعراضًا، وكانوا في الجاهلية إذا طلب أحدهم أمرًا نذر إن ظفر به ذبح عددًا من الغنم في رجب وهي العتاير، فإذا ظفر به قد يضن بغنمه وهى الربيض فيذبح عددها ظباء، فيضرب مثلُ لمن أخذ بذنب غيره.
قال القاضي: قد أجمع المسلمون أن الذبح لأهل الحضر لا يجوز قبل الصلاة، وإنما اختلفوا إذا ذبح بعدها وقبل الإمام، واختلف فيه الآثار. وأما أهل البوادي ومن لا إمام له أو إذا لم يبرز الإمام أضحيته، فعندنا في المذهب قولان، وقال ربيعة وعطاء فيمن لا إمام له: إن ذبح قبل طلوع الشمس لم يجزه، ويجزئه بعد، وقال أهل الرأي: يجزئهم من بعد الفجر، قال بعض المفسرين: وإنما كره الذبح قبل الصلاة والإمام لئلا يشتغل الناس بذلك عن الخروج للصلاة، وتركه دعوة المسلمين، وسماع الخطبة والذكر فيها، مع حض النبي كلية على حضورها حين أمر بخروج العواتق وذوات الخدور.
وقال الهروى في العتيرة: كان الرجل ينذر النذر إن كذا وإذا بلغ نساؤه كذا فعليه أن يذبح من كل عشرة منها في رجب كذا، فكانت تسمى العتاير، قال أبو عبيد: وهى الرجبية، وقال ابن دريد: العتيرة: شاة كانت تذبح في رجب في الجاهلية يبقون بها، وكان ذلك في صدر الإسلام أيضًا، والعتر: الذبح، وعامة أهل العلم على تركها للنهى عنها ؛ لأن ابن سيرين كان يذبح في رجب العتيرة، ولم يره منسوخًا، وسيأتى حديثها آخر الباب.(7/166)
قال الإمام: وأما ما تضمنه الحديث من إعادتها إذا ذبح قبل الصلاة، فاختلف الناس فيه، فعند مالك: لم يشرع الذبح إلا بعد صلاة الإمام وذبحه، إلا أن يؤخر تأخيرًا يتعدى فيه فيسقط الاقتضاء به، وعند أبي حنيفة: الفراغ من الصلاة دون مراعاة ذبح، وعند الشافعي: إذا حلت الصلاة، وذهب مقدار ما يتوقع فيه فبانصرام وقتها شرعت الذبيحة، فاعتبر الوقت دون الصلاة، واعتبر أبو حنيفة الصلاة دون الذبح، واعتبر مالك الصلاة والذبح جميعًا. فأما أصحابنا فيتعلقون بما ذكر مسلم عن جابر قال: صلى بنا رسول الله كلمة يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا، وظنوا أن النبي كلنا قد نحر، فأمر النبي أكلت! من كان نحر قبله أن يعد نحرًا آخر، ولا تنحروا حتى ينحر النبي - عليه السلام -. وهذا نص في مذهب مالك؛ لأنه أمر بالإعادة من نحر قبله، وذكر أنهم ظنوا أنه - عليه السلام - نحر؛ فدل أن هذا الحكم مشهور ولم يعذرهم بظنهم وغلطهم، وهذا يؤكد ما قاله مالك. وأما أبو حنيفة فتعلق بهذا الذي أخذنا بالكلام عليه وهو قوله: } } من ذبح قبل أن يصلي أو نصلي فليذبح مكانها أخرى { { ، وفي بعض طرقه: } } من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها { { ، وفي بعض طرقه: } } ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين { { ، فاعتبر في هذه الأحاديث الصلاة دون الذبح، وقد قال في بعضها: } } فمن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه { { ، واشتراط الذبح زيادة تفتقر إلى دليل، وأما الشافعي فرأى أن المراد بذكر الصلاة الوقت، وجعل الفراغ منها علمًا عليه، فلهذا اعتبر الوقت. هذا الكلام في مبتدأ زمن الذبح، وأما منتهاه: فمن الناس من قال: يوم النحر خاصة، ومنهم من قال: يوم النحر ويومان بعده، وهو مذهب مالك، ومنهم من قال: يوم النحر وثلاثة بعده، ومنهم من قال: إلى آخرِ الشهر، وقال أصحابنا: قوله عز وجل: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيامٍ معْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزقَهُم مِنْ بَهِيمَةِ(7/167)
الأَنْعَامِ} } (1) { ، يرد قول من قال: يوم النحر خاصة؛ لأن الأيام أ جمع، لا يعبر بها عن اليوم الواحد، وأقل الجمع ثلاثة على رأي كثير من أهل الأصول، فيحمل على هذا المتيقن، وزيادة أيام عليه يفتقر إلى دليل. قال القاضي: اختلف أهل العلم، هل يضمن ذكره تعالى الأيام لياليها في قوله: { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيامٍ مَعْلُومَات عَلَى مَا رَزَقَهُم مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَام} } (2) { ، فرأى مالك في مشهور قوله وعامة أصحابه: أنها لا تتضمن الليالي، ولا يجزي الهدي والضحية ليلاً. وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد واسحق وأبو ثور: الليالى داخلة في الأيام وتجزي فيها، وقد روى عن مالك وأشهب نحوه، ولأشهب تفريق بين الهدي والضحية، وأجاز الهدى ليلاً ولم يجز الضحية فيه ليلاً.
وقوله: } } صلى يوم أضحى ثم خطب { { : الحديث حجة على أن خطبة العيد بعد الصلاة، وقد تقدم الكلام على ذلك في كتاب الصلاة. وقوله للذى ذبح قبل الصلاة: } } تلك شاة لحم { { ؛ أي: ليست بنسك وضحية ولا فيها أجر، ولكن ينتفع بلحمها، كما قال آخر الحديث: } } من ضحى قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين { { ، وكما قال في الحديث الآخر: } } إنما هو لحم قدمته لأهلك { { - ?
وقوله: } } فليذبح على اسم الله { { ؛ معنى قوله في الحديث الآخر: } } فليذبح باسم الله { { ، ويحتمل معاني:
أحدها: فليذبح لله والباء بمعنى اللام، والاسم هو المسمى.
الثانى: فليذبح بملة الله ومشيئته.
الثالث: فليذبح بتسمية الله على ذبيحته إظهارًا لإسلامه ومخالفة لمن ذبح لغيره، وقمعأ للشيطان.
الرابع: تبركًا باسمه ويمنا بذكره، كما قال: يقول: سر على بركة الله، وسر باسم الله. وكره بعض العلماء أن يقول: افعل كذا على اسم الله، قال: لأن اسمه على كل شيء ولم يقل شيئًا يرد قوله.
__________
(1) } ) الآية (28) من سورة الحج.
(2) } ) الآية (28) من سورة الحج.(7/168)
وقوله: } } يا رسول الله، إن عندي جذعة من المعز قال: ضح بها، ولن تجزي عن أحد بعدك { { ، قال الإمام: فيه دلالة على أن الجذعة من المعز لا تجزي في الضحايا، وأما الجذع من الضأن فيضحي به، خلافًا لمن منعه. والحجة في الإجزاء ما ذكره مسلم بعد هذا عن عقبة بن عامر: أن النبي كلمة أعطاه غنما يقسمها على أصحابه ضحايا، فبقى عتود، فذكره لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: } } ضح به أنت { { ، وفي بعض طرقه عن عقبة بن عامر قال: قسم فينا رسول الله?- صلى الله عليه وسلم - ضحايا، فأصابني منهم جذع، فقلت يا رسول الله! إنما أصابني جذع، فقال: } } ضح به { { ، وعند النسائي وأبي داود: أنه - عليه السلام - كان يقول: } } إن الجذع يوفي بما يوفي منه الثني { { ، وعند الترمذي عن أبى هريرة: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: } } نِعم - أو نعمت - الأضحّية الجذج من الضأن { { -
فإن تعلق المخالف بقوله في كتاب مسلم: } } لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن، قيل: يصح حمل هذا على الاستحباب للمكثر ؛ أن يذبح فوق سن الجذعة، لا على أنها لا تجزيء أصلاً. كيف وقد قال - صلى الله عليه وسلم - - } } إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن، فلو كانت مدخل لها في الأضاحي لم يقل هذا، كما لم يقل بما لا يجزئ من الحيوان.(7/169)
قال القاضي: وقوله: } } إن هذا يومٌ اللحم فيه مكروه أ: كذا رويناه بالهاء والكاف من طريق السجزي والفارسي، وكذا ذكره الترمذي، ورويناه من طريق العذري: "مقدوم" بالقاف والميم، وصوب بعضهم هذه الرواية، وقال: معناه: يوم يشتهي فيه اللحم ! يقال: كرمته إلى اللحم، وكرمته: إذا اشتهيته، وإنما معنى قوله في الحديث الآخر في غير مسلم: } } عرفت أنه يوم أكلٍ وشربٍ فتعجلت وأكلت وأطعمت أهلي وجيراني، وكما قال في الحديث الآخر: } } إن هذا اليوم يوم أكل وشرب، يشتهى فيه اللحم { { ، وكذا رواه البخاري أيضًا. وأما على رواية: " مكروه" فمَال بعض شيوخنا: صوابه: اللحم فيه مكروه، بفتح الحاء ؛ أي ترك الذبح والضحية فيه، وأن يترك العلة بلا لحم خى يشتهوه. واللحم، بالفتح: اشتهاء اللحم. وقال لى الأستاذ أبو عبد الله بن سليمان: معنى قوله:" اللحم مكروه": أي ذبح ما لا يجزئ في الأضحية، كما هو لحم مكروه لمخالفته السنة، كما قال في الحديث: } } شاتك شاة لحم { { - ?
وقوله: " عندي عناق لبنى - : العناق: اللبنى من المعز. قال غيره: ابن خمسة أشهرًا ونحوها، وهو سن الجذعة. وقوله هاهنا:"عناف لبن ": يشير لصغرها، وأنها ترضع بعد. كما قال جذعة من المعز، وقيل: معناه: أنثى، وليس بشيء.
وقوله:" هى خير من شاتي لحما ": يريد لطيب لحمها وسمنها. قيل: فيه حجة أن المقصود في الضحايا طيب اللحم لا كثرته، وحجة مالك وأصحابه في ذلك لإجازته هذه الجذعة على صغرها ؛ لما ذكره من أنها عناق لبن خير من شاتي لحم؛ أي مما يراد به مجرد اللحم وكثرته. قال بعضهم: وخصه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأجزائها دون غيرها لما ذكر من ذبحه قبل ما ذبح، وإطعامه منه جيرانه لما ذكر من حاجتهم وخصاصتهم، فسمح له الجميل فعله، وقد قال في الحديث نفسه:" وكان النبي عذره ".(7/170)
وقوله:" خير نسيكتيك ": أي خير من الذي زعمت نسكت بها قبل الصلاة ؛ إذ لا يجزيك، ثم خصه بأجزاء هذه، وأنها لا تجزئ لأحد بعده. وقد يحتمل أنه سماها بنسيكة وأن لم يكن ضحته لقصده بها إطعام جيرانه المساكين.
قال الإمام: قال أبو الحسن القابسي: فيه دلالة على أن ما ذبح قبل الإمام أنه لا يباع وإن كان لا يجزئ؛ لأنه سماه بنسيكة، والنسك لا يباع.
قال القاضي: وفي هذا نظر.
وقوله في هذا الحديث:" وذكر هنة من جيرانة ": كذا لأكثر الرواة؛ أي: حالة وأمرًا وحاجة، كما جاء في الرواية الأخرى عند البخاري. وإنما قال:" هنة " خطأ، وإنما قال:" لهم فقر "، وفي رواية الفارسي: "سنة" والأول أوجه، قيل: لأجل ما ذكر في الحديث من حاجة جيرانه، فإنه رخص له النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذبح الجذعة وخصه بها، إذ ذكر أنه ليس عنده سواها، ألا ترى قوله:" وكأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقها. ويحتمل أن يكون هذا من الضحية بالجذع من المعز جائزًا، وبدليل إجازته لعقبة في الحديث الذي يأتي بعد هذا، ثم نسخه النبي - عليه السلام - بقوله هنا:" ولن تجزئ عن أحد بعدك " على ما قاله بعضهم.
وقوله في حديث أنس:" فلا أدرى أبلغت رخصته من سواه أم لا ؟": قال بمبلغ علمه وإذ بيّن في حديث البرَاء ذلك بقوله:" ولن تجزئ عن أحد بعدك ".(7/171)
وقوله:" لا تذبحوا إلا مُسِنَّة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن ": هذا خصوص أنه لا يجزئ من غير الضأن، وهو موضع بيان، ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجزئ الجذع إلا من الضأن وحدها، وهو عند بعضهم ابن ستة أشهر، وقيل: ابن سبعة، فإذا تمت له سنة فهو ثنى. وقيل: الجذع ابن سنة تامة وهو أشهر، وقيل: ابن عشرة أشهر، وقيل: ابن ثمانية أشهر. قال الداودي: التي قاربت سقوط بنيتها، وقال الأخفش: هى التي سقطت لها بنية،?فإذا سقطت بنتاها فهى ثنية، وقال أبو عبيد في المعز والضأن: يكون جذعًا في السنة الثانية ثم تثنى، والمسن التي من كل ثنى من الأنعام فما فوقه. وفيه الاستحباب أن يكون الثنى من الضأن مقدمًا على الجذع.
وقوله:" انكفأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كبشين قد ذبحهما ؛ أي مال وعطف. قال الإمام: والأصناف التي يضحى بها: غنم وإبل وبقر. وعندنا أن الغنم أفضل ؛ اتباعًا لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في أضحيته. وعند المخالف الإبل أفضل؛ لأنها أكثر ثمنًا وأعم نفعًا، ولم يرد عند مالك هذا الذي ظنه المخالفة، وإنما أراد ما هو أطيب لحمًا. واختلف عندنا إذا عدل عن الغنم، ما الذي يليها في الفضل ؛ فقيل: الإبل، وقيل: البقر، وقيل: الغنم.
قال القاضي: ولا خلاف بين العلماء سمينها وطيبها وفضيلة ذلك، واختلف في تسمينها، فالجمهور على جوازه، وفي البخاري عن أبي أمامة: شنمييمزإلأضجية بالمدينة؛ وكان المسلمون يسمنون، وحكى ابن نصر عن ابن القرطى أنه كان يكره ذلك لئلا يتشبه باليهود. وفي ذبحه - عليه السلام - كبشين حجة في جواز الضحية بالعدد وكثر من واحد.(7/172)
وفي قوله في حديث عقبة:" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه غنمًا يقسمها على أصحابه ضحايا "، جواز ضحية الرجل بما وهب له بذلك. وفي فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك دليل على تأكيد الضحية، فإن كان أعطاها الأغنياء فكانت من الفيء والخمس، وإن كان خص بها الفقراء فمن الصدقة، والله أعلم.
وقول عقبة:" فبقى عتود، فقال: ضح به أنت ". العتود: الصغير من ولد المعز. قيل: حديث أبى بردة ناسخ لهذا لقوله في الجذعة من المعز: " لن يجزئ عن أحد بعدك"، وقال في الحديث الآخر عن عقبة:" جذع "، فتبين أن سنة العتود سن الجذع، ومما يعضد أنه منسوخ بحديث أبى بردة، وأنه كان أولاً يجزئ على ما جاء ها هنا، قوله في أول هذا الحديث: " أعطاه غنما يقسمها على أصحابه ضحايا "، وقوله:" فأصابني منها عتود"، ولا يعطى للضحايا كان قد بلغ سن ما يجوز في الضحايا، بدليل قول من قال من أهل اللغة: العتود الجدي الذي بلغ السفاد ".
وقال ابن الأعرابي: المعز والإبل والبقر يضرب فحولتها إلا بعد أن يثنى، فإذا كان هذا فهو جائز في الضحايا لكن قوله في الرواية الأخرى:" العتود، الذي بلغ السفاد ". وقيل: الذي استكرش، وقال عمر: العتود من أولاد المعز ما شق وقرب، وقال أبو عبيد: العريض إذا ادعى وقوى، والعتود نحو منه. وقد أجمع العلماء على الأخذ بحديث أبي بردة، وأنه لا يجزئ الجذع من المعز.
باب استحباب الضحية(7/173)
وقوله:" بكبشين أملحين ": اختلفوا في تفسير هذا الحديث، فقال الأصمعي: هو الأبيض لون الملح، قال: وهو بياض يشوبه شيء من سواد، وقال أبو حاتم: هو الذي يخلط بياضه حمرة، وقال بعضهم: هو الأسود يعلوه حمرة، وقال الكسائي: هو الذي فيه بياض وسواد والبياض أكثر، وقال الخطابي: هو الأبيض الذي فيه خلال صوفه طبقات سود، وقال الداودي: هو المتغير الشعر بالبياض والسواد كالشهبة، وقال ابن الأعرابي: هو النقى البياض. وقوله:" أقرنين ": اسثحب العلماء القرناء على الجماء والذكران على الإناث اقتداء بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا خلاف بين العلماء في جواز الضحية في الأجم. واختُلف في مكسورة القرن، فجمهورهم على جوازه. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عنه أثر، وكرهه مالك إن كان يدمى؛ لأنه رآه مرضًا، فإذا لم يدم فأجازه،?واستحب جميعهم فيها غاية الكمال واجتناب النقص. وأجمعوا أن العيوب الأربعة في حديث البراء من المرض والعجف والعور والعرج لا يجزئ فيها الضحية، وكذلك ما هو من نوعها أشنع كالعمى وقطع الرجل وشبهه. واختلف فيما عدا ذلك، فذهب قوم إلى أن تجزئ بكل عيب غير هذه الأربعة إذا لم
ينص النبي - صلى الله عليه وسلم - على غيرها وهو موضع بيان، وبه قال بعض أئمتنا البغداديين وذهب الجمهور إلى اعتبار ما كان نقصًا وعيبًا، ثم اختلفوا في أعيانها على ما ترتب في علم الفقه. ولم يجمع مسلم ولا البخاري حد عيوب الضحايا ؛ لأنه مما تفرد به عبيد بن فيروز ولا يُعرف إلا بهذا الحديث، وأدخله مالك في "الموطأ" لما صحبه عنده العمار من المسلمين ووطأه اتفاقهم على قبوله.(7/174)
وقوله في الحديث الآخر:" يطأ في سواد ويبرك في سواد "؛ أي: أن قوائمه وبطنه وما حول عينيه أسود، فإن كان هو أحد الكبشين الأولين فهذا تفسير للحجة، وحجة لمن قال: إن فيه بياضًا وسوادًا، وأمره بشحذ المدية؛ أي: حد السكين ليذبح، يقال: شحذت السكين بالحجر: حددته به. وهذا لما تقدم من أمره بذلك لإحسان الذبح وإراحة الذبيحة.
وقوله:" فأضْجعه ثم ذبحه ": سُنَّة في صفة الذبح، من إضجاعه برفق، ولا تذبح قائمة ولا باركة، ومضى العمل بإضجاعها على الشق الأيسر؛ لأنه أهنأ لمناولة ذبحها باليمين وإمساك رأسها باليسار.
وقوله:" ووضع رجله على صفاحهما ": أي صفحتي أعناقهما، وهما جانباها. وصفحة كل شيء جانبه. قال الأزهري: صفحة كل شيء وجهه وجانبه، وإنما فعل ذلك ليكون أثبت له، ولئلا يضرب الكبش برأسه عند الذبح فتزهق يد الذابح. وهذا أصح من الحديث الآخر الذي جاء بالنهى عن هذا.
وقوله:" فسمى وكبر"، وفي الحديث الآخر:" فقال بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد وأمة محمد "، وتولي النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح أضحيته بيده سنة في الضحايا مستحبة تولي ذلك بيده. قال مالك: وذلك من التواضع، ولأنها نسك وفدية ودم مهراق لله فنحر لنا، فيستحب أن يتولاه ويجوز أجره، ولا يوليه غيره، فمان ولى ذلك مسلمًا أجزأه، والأولى توليه بيده إلا من عذر، وكذلك الهدي فإن ولاه ذميًّا فاختلف عندنا، هل يجزيه عن الضحية أم لا؟ ورأى مالك في أحد القولين: عليه الإعادة ؛ إذ هي قربة لا تصح على يد كافر، وكره ذلك جماعة من السلف وعامة أصحاب الفتوى وأئمة الأمصار إلا أنهم قالوا: تجزئ إذا فعل ذلك عطاء ابتداء. وفي الحديث الآخر قال: " باسم الله ".(7/175)
وقوله:" فسمى وكبر ": فيه التسمية على الضحية والذبيحة، وقد تقدم ذكر صفة التسمية والتكبير، وهو استحباب كافة العلماء، ولا خلاف أن " باسم الله " تجزئ فيها. قال ابن حبيب: وكذلك لو قال:" الله أكبر" فقط و " لا إله إلا الله" أو "باسم الله " أو شيئًا من كل تسمية. ولكن ما مضى عليه العمل من " باسم الله، والله أكبر " أحسن. وقال نحوه محمد بن الحسن، قال: ولو قال:" الحمد لله " ولا يريد بذلك تسمية لم يجزه ولا يؤكل، وقاله الشافعي. ولا يجزئ شيء من ذلك عند أبي ثور، وقال: التسمية كالتكبير في الصلاة، لا يجزئ من ذلك غيرها. وكره كافتهم من أصحابنا وغيرهم الصلاة على النبي عند التسمية في الذبح أو ذكره، وقالوا: لا يذكر هنا إلا الله وحده، وأجاز الشافعي الصلاة عليه عندنا.
وقوله: " اللهم تقبل من محمد وآل محمد وأمة محمد": أجاز أكثر العلماء من أصحابنا وغيرهم أن يقول في الضحية:" اللهم تقبل مني " اقتداء بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -. واستحب ذلك بعض أصحابنا، واستحب بعضهم أن يقول ذلك بعد الآية:{ رَبنَا تَقَبَّلْ مِنا إنكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } } (1) { . وكره أبو حنيفة أن يقول شيئًا من ذلك عند الذبح والتسمية، قال: ولا بأس به قبل ذلك، وكره مالك قولهم:" اللهم منك وإليك "، وقال هذه بدعة. وأجاز ذلك الحسن وابن حبيب من أصحابنا.
وقوله:" اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد " حجة لمالك وكافة علماء الأمصار في تجويز ذبح الرجل عنه وعن أهل بيته الضحية، وإشراكهم فيها معه، مع استحباب مالك أن يكون واحد عن كل واحد. وكان الثورى وأبو حنيفة وأصحابه يكرهون ذلك. وقال الطحاوي: لا يجزئ، وزعم أن الحديث في ذلك من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمته منسوخ أو مخصوص، وما ادعاه من النسخ يحتاج إلى توقيف. وضبط من يصح أن يدخله الرجل عندنا في أضحيته بثلاث صفات:
__________
(1) } ) الآية (127) من سورة البقرة.(7/176)
أن يكونوا من قرابته والد، وحكم الزوجة وأم الولد حكمهم عند مالك والكافة، وأباه الشافعي في أم الولد، وقال: لا أجيز لها ولا للمكاتب والمدين والعبد أن يضحوا.
والثانى: أن يكونوا في نفقة وجب عليه أو تطوع بها.
الثالث: أن يكونوا في بيته ومساكنه غير بايتين عنده. فإن انخرم شرط من هذه الشروط لم يصح إشراكهم في أضحيته، والنبي مع أمته كالرجل مع قرابته، ومن في بعضه لقوله: } } أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم { { ، ولقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ، وَأَزْوَاجُهُ أُمهَاتُهم} } (1) { ? وكما حكم أزواجه حكم الأمهات، فكذلك حكمه هو حكم الأب.
ولا يجوز عند جميعهم شركة جماعة في ضحية يشترونها ويذبحونها عن أنفسهم أو في هدي، إذا كانوا أكثر من سبعة. واختلفوا فيما دونها، فمذهب الليث ومالك: أن الشركة لا تجوز بوجه فيها، كانت بدنة أو بقرة أو شاة، أهدوا أو أضحوا. وذهب جمهور الفقهاء من الحجازيين والكوفيين والشاميين إلى جواز اشتراك السبعة فما دون ذلك في البدنة والبقرة في الهدي والضحية، ولا تجزئ شاة إلا عن واحد.
جواز ذبح كل ماأنهر الدم...
وقوله: " إنا لاقو العدو غدًا، وليس معنا مدي ": أي سكاكين. وقوله:أ فنذكى بالليطأ: هى شظايا القصب، وأصله قشوره، وليط كل شيء: قشره. وقد جاء مفسرًا في الحديث الآخر:أ أفنذبح بالقصب "، ويي كتاب أبي داود وغيره: ! أفنذب! بالمدور!وشقة العصا ". --- نص.-- مس* ص* ص. !/ صء، !/* !!؟ !!!- أ قال الإمام: قال عيسى: الليطة: فلقة القصبة، والشطير فلقة. العصا،، والضرر فلقة الحجر، فكل ما ذبح به هذا فلا بأس به إذا قطع الأوداج والحلقرم، قال: والشطاط عود محدد الطرف، والذكاة به جائزة في حال الضرورة.
__________
(1) } ) الآية (6) من سورة الأحزاب.(7/177)
قال القاضي: قوله: الضرر، كذا هو بالضاد في النسخ الواصلة إلينا من المعلم، وصوابه بالظاء. والشظاظ فلقة العود أيضًا. وفي الحديث دليل أنه إنما يعدل بغير الحديد في التذكية عند عدمه، ولا خلاف في هذا، والأمر بحد الشفار وإحسان القتلة يعضده ؛ ولهذا ترجم مالك على الذكاة بشظاظ: ما يجوز في الذكاة على الضرورة. وإَنما سألوه عن الذبح بالقصب وشبهه إذا لم يكن معهم مدي، وعندهم السيوف وأسنّة الرماح؛ استبقاء للسلاح وصيانة لها- والله أعلم- عن امتهانها في الذبح، لا أنه لا يجوز بها الذبح؛ إذ لا خلاف في جوازه بكل آلة محدررة من حديد أو غيره، ما لم يكن ظفرًا أو سنِّا، وما في معناهما من القرن والعظم، على ما يذكره بعد - ?
وقوله:" أعجل أو أرنى ": اختلف في ضبط هذا الحرف وتفسيره، وكذا رويناه هنا بسكون الراء وياء الإضافة بعد النون مثل: أقضى، ووقع في كتاب أبي داود بنون مطلقة وسكون الراء، وفي كتاب البخاري من رواية الأصيلي:" أرنى بكسر الراء، ومن رواية السبعي وغيره: " أرن " بسكون النون، مثل: فخذ، وكذا في بعض روايات أبي داود.
قال الإمام: هذه اللفظة تفيد قريبًا من معنى الأول، وهى بمعنى النشاط والسرعة، من قولهم: أرن، المهر يأرن، وقال بعض أهل اللغة: صوابه أن يكون مهموزًا.(7/178)
قال القاضي: قال أبو سليمان الخطابي: طالما استفتيت فيه الرواة وسألت عنه أهل العلم، فلم أجد عند أحد منهم شيئًا يقطع بصحته وخرجه، فهو على وجوه، منها: أن يكون صوابه:" أرن " على وزن أعجل وبمعناه؛ أي: خف وانشط لئلا تموت حتفًا، فإن الذبح إذا كان بغير الحديد خشي عليه ذلك، يقال: أَرن المهر يأرن إذا نشط، قال: ويكون أرنا بكسر الراء من أران القوم: إذا هلكت مواشيهم؛ أي: أهلكها ذبحا. قال: ويكون " أرن " بالسكون؛ أي: أرن الحز ولا تغتر من رنوت؛ أي: أدمت النظر، ويحتمل أن يكون " أزن" بالزاي؛ أي: شديدك على المحز من أزرت الجرادة: إذا أدخلت ذنبها في الأرض لتبيض إن ساعدت هذا الوجه رواية، ويكون "أرن": بمعنى هات. وقد رد بعضهم من قول الخطابي أنه من أران القوم إذا هلكت مواشيهم؛ لأن هذا لا يتعدى والذي في الحديث تعدى على ما فسره، ورد أيضًا عليه قوله:" أارن "؛ إذ لا يجمع همز ثان في كلمة أحدهما ساكنة، وانما يقال في هذا:" أيرن " بالياء، وقال بعضهم: معنى "أرنى" على رواية من رواه: أي سيلان الدم، وقال لنا بعض المسندات من رواية على بن عبد العزيز وضبطه: } } أرنى وأعجل ما أنهر الدم { { ، كأن الراوى شك: أي اللفظين قال النبي كله من ذلك ؛ فإذ أبيت هذا فقد اتضح الإشكال كأنه قال: ما أسرع ما أنهر الدم أو أعجله أو أدناه وبالله التوفيق.
وقوله: } } ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكُلْ { { : أي أساله وصبه بكثرة، أفعل من النهر، يشبه خروج الدم من المذبح يجرى الماء في النهر أن المعبر في الذكاة بما يقطع ويجرى الدم، لا بما يدفع ويقتل من غير ذلك، وذكر الخشني في شرحه هذا الحرف } } ما أنهز الدم { { بالزاى، والنهز بمعنى الدفع. والمشهور بالراء كما تقدم، ذكره الحربي وغيره. قال بعض العلماء: حكمة الله في الذبح وإنهار الدم يميز ما أحل من اللحم والشحم مما حرم من الدم، وتأكد تحريم الميتة لبقاء دمها أ فيها واختلاطه بلحمها.(7/179)
وقوله: } } ليس السن والظفر { { الحديث، قال الإمام: كل ما تمكن الذكاة به وينهر الدم، وليس فيه معنى يمنع من حصول التذكية فالتذكية به تصح، وأما ما استثناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السن والظفر، فقد اضطرب العلماء في ذلك. والذي وقع في مذهبنا منصوصًا: التفرقة بين المتصل في ذلك والمنفصل، فيمنع حصول التذكية بالسن والظفر المتصلين بالإنسان، ويحصل التذكية بالمنفصلين عنه إذا تأتت بهما التذكية. وقد وقع في بعض ما نقل عن مالك المغ مطلقأ، ووقع لبعض أصحابنا ما يشير إلى صحة التذكية مطلقأ إذا أمكنت بهما. فمن منع على الإطلاق أخذ بعموم الحديث، لا سيما والإشارة للتعليل منه بالعظم يدل على المساواة بين المتصل والمنفصل لكون السن عظمًا في الحالين. وأما الإجازة على الإطلاق فيحتمل الحديث على أن المراد به سن يصغر عن التذكية، ولا يسلم القول بالعموم فيه. ولذلك ندعى التخصيص والتعليل فنقول: لما علم أن العظم لا تتأتى به الذكاة، وأن ذلك مما تعلمونه أحال التعليل عليه، وأما المنصوص من المذهب فهو التفرقة فكأنه يرجع إلى هذا القول الآخر الذي هو الإجازة على الإطلاق؛ لأن المجيز على الإطلاق يشترط كون التذكية متأتية بهما، ولكنه لم يعين الوجه الثاني وعينه في المنصوص، فرأى أن كونه متصلاً يمنع من الثاني، ومنفصلاً لا يمنع منه ؛ فلهذا فرق بينهما. وأما العظم فإنه يجوز التذكية به إذا أمكن ذلك، ولم ير فيه نص خلاف، وتعليل النهي في الحديث به يقتضي أن يقال فيه ما قيل في السن، وقد كان بعض شيوخنا يشير إلى هذا أ ويجريه مجرى السن،، ويعتل بما عللناه من التعليل به في الحديث. فإن قيل: ما وجه أمره كلمة الذابح هنا بالعجلة؛ قيل: يحتمل أن يكون ذلك لان الحديد يجهز القتل بحدته وغيره لا يفعل ذلك، فإذا لم يشرع الذبح به خشى أن يقتل الذبيحة بالضغط والخنق، فكان الأحوط الإسراع في الفعل، وهذا يظهر?صوابه الحسن.(7/180)
وقوله:" أما الظفر فمدي الحبشة، وأما السن فعظم"، قال القاضي: فيه بيان أن العلة في الظفر كقوله مدي الحبشة وأنه به يذبح، وقيل: يغرز أظفارها في موضع الذبح فيخنقه، وهذا تنبيه على المتصل.
وقوله:" وأما السن فعظم "؛ تنبيه على علته، وحجة لمن منعه بالعظم، وظاهره في المتصل والمنفصل، وبه يحتج المخالف. وقد اختلف الناس في الذبح بهما فذهب النخعي والحسن بن صالح والليث والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث إلى مغ الذكاة بالعظم والظفر كيف، وأجازوه بما عداهما للحديث المتقدم، وهو قول مالك في كتاب محمد بن القصار؛ أنه حقيقة?مذهب مالك. وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى أنه بالسن والظفر المنفصلين المنزوعين، ولا يجوز بالمتصلين، ولا يؤكل لأنه خنق. وحكى هذا عن مالك، وهو قول ابن حبيب، وعن مالك التفريق بين السن والعظم وأنه يجزيه بالعظم وهو مشهور مذهبه ويكرهه بالسن وفي المبسوط، وحكى ابن المنذر عنه جوازه بالقرن والعظم، وكل شيء يمر مرًا، وهذا نحو قول من أجاز جميع ذلك بما كان بعظم أو سن أو ظفر أو غيره. واختاره ابن القصار إذا كان عريضا محدودًا يقطع الحلقوم والأوداج بمدوة كان مما يؤكل لحمه أولا، ويمنعه ابن جريج بما لا يؤكل لحمه، وقال في الحديث: } } كل ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل { { كذا رواه مسلم والبخاري، وفيه حذف وتمامه في رواية غيرهما وذكر اسم الله عليه. وقد بين في غيره تتمة المسألة بقوله: } } وفرا الأوداج { { ، وفي حديث آخر: } } ما فرى الأوداج فكل { { . فأخذ بظاهره قوم، منهم ابن عباس وعطاء، وتأوله بعض شيوخنا عن مالك من ألفاظ وقعت له فيما قطعت أوداجه أنه قد تمت ذكاته، ولم يشترط غير الودجين. ومشهور مذهبه ومذهب أصحابه اشتراط قطع الحلقوم مع الودجين، وهو قول الليث، وحكى عنه البغداديرن شرطأ رابعًا وهو قطع المريء، وهو قول أبو ثور باشتراط الأربعة.(7/181)
ثم اختلف أصحابنا في مراعاة قطع ذلك من الحلقوم أو أكثره، واختلاف عن مالك في جواز قطع أحد الودجين والحلقوم. وذهب الشافعي إلى اشتراط الحلقوم والمدي دون الودجين، لكن من تمامهما الودجان ولا يجزى دونهما، ويجريان دون الودجين. ثم عن قدماء أصحابنا خلاف كثرِ في مراعاة الغلصمة، وكون الذبح تحتها. والناس مجموعون متى كان ا القطع في الأعضاء المذكورة تحت الغلصمة فقد تمت الذكاة، وكذلك يتعلق بقوله: } } ما أنهر الدم { { ?من يتخير نحر ما يذبح وذبح ما ينحر، وأن الذبح والنحر ذكاة للجميع لإنهاره الدم، وهو قول عامة السلف والعلماء وفقهاء الأمصار. وأشهب من أصحابنا ومالك يمنع أكله، مرة بالكراهة، ومرة جملة، وله قول في أكل ذبح ما ينحر دون نحر ما يذبح. وقال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا حرم أكل شيء من ذلك كله. ولم يختلفوا أن الذبح أولى في الغنم، والنحر أولى في الإبل، والتخير في البقر. وقيل: الذبح لأنه الذي ذكر الله.(7/182)
وقوله: } } وأصبنا نهب الإبل { { : يريد غنيمة إبل، ومنه قوله: } } أتجعل نهبى ونهب العبيد { { . وقوله: فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال - عليه السلام - - } } إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فاصنعوا به هكذا { { . معنى " ند ": شرد ونفر. قال الإمام: اختلف الناس في الإنسي إذا توحش حتى صار غير مقدور عليه، فمذهب مالك: ألا يذكى إلا بما يذكى به الإنسية، والحجة له لاستصحاب الأصل الذي كان عليه قبل استيحاشه، ولامن الأحكام باقية عليه كبقاء الملك إلى غير ذلك، وكذلك يجب أن يبقى عليه حكم المنع من التذكية بالعقر، وأما أبو حنيفة والشافعي فإنهما أخرجاه عن الأصل ورأيا تذكيته بما يذكى به الوحش؛ اعتبارًا بالحالة التي هو عليها، ووجود العلة التي من أجلها أبيح العقر في الوحش وهو عدم القدرة عليه، وكذلك هذا المستوحش قد صار غير مقدور عليه، واعتمدوا على هذا الحديث، وقد قال فيه - صلى الله عليه وسلم - - } } إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فاصنعوا به هكذا { { ، فقد أباح كله اصطياد البعير إذا ند بالرمي وهذا نفس ما قالاه. وقد قال بعض أصحابنا في الانفصال عن هذا إن الحديث خبر عن فعلة واحدة، لا ندرى كيف وقعت، وجوابه كللت محال عليها، فيقع في جوابه من الاحتمال ما يقع فيها، ويحتمل أن يكون هذا البعير حبسه السهم ولم يقتله، فكأنه عليه أخبرهم أن حبسه بالرمي وغيره، مما فيه ألم له وتعريض لتلفه يجوز لا على أنه يحصل التذكية به، ويحتمل الحديث سقط التعلق به. وقد يتعلق المخالف بما خرجه الترمذي عن رجل ذكره، قلت: يا رسول الله! أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة ؟ فقال له: } } لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك { { . قال يزيد بن هرون: هذا في الضرورة. وهذا الحديث لم يسلم بعض أصحابنا بثبوته، وقال ييم بعضهم: يمكن أن يراد به الصيد الذي لا يقدر عليه، وكأن علي فهم عن الإبل بقرينة حال أنه(7/183)
سأله عن صيد أراد أن يتصيد، هلا يزكي إلا في الحلق واللبة ؟ فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بما قال. وأما ابن حبيب المجيز لقتل ما سقط في مهواه بالطعن في الجنب ونحوه، فإنه قد يحمل هذا الحديث على مثل هذا الذي انفرد بإجازته دون أصحاب مالك، وقد ألزم على هذا الذي انفرد به جواز صيد البعير إذا ند بالعقر كما حكيناه عن المخالف، وقد لا يلزمه أ ذلك لأنه إذا سقط في مهواه يتبفي تلفه، فقد يبيح صيانة المال عن التلف هذا النوع من التذكية، والبعير إذا ند فقد يعود إلى التأنس والى الملك كما كان أول أ مرة، فيذكى ذكاة الإنسية، وقد يتحيل عليه قبل أن يعود بنفسه حتى يحصل سليمًا أو جريحًا جرحًا يؤمن عليه معه فيذكى ذكاة، الإنسية، فلا يلزمه عندي أن يقول فيما ند ما قاله المخالف. ومعنى قوله: } } أوابد كأوابد الوحش { { فإن الأوابد قد تأبدت: أي توحشت، ونفرت من الإنس، وقد أبدت تأبد، وتأبدت الديار: توحثت وخلت من قطانها، ومنه قولهم: جاء بآبدة؛ أي: بكلمة أو خصلة ينفر منها ويستوحش. قال ابن الأنبارى: وقد أبدى الشاعر: إذا أتى بالعويص في شعره وما لا يعرف معناه، وهى أمثال مؤبدة: إذا كانت وحشية معتاصة على المخرج لها والباحث عنها.
وقوله: } } فرميناه بالنبل حتى وهصناه { { ، قال القاضي: قيل: معناه: رميناه رميًا عنيفًا، ويكون بمعنى: أسقطناه إلى الأرض، ويكون بمعنى: أنخناه وشدخناه، ويكون بمعنى: أثقلناه. ورواه بعضهم في غير مسلم:" رهصناه " بالراء، ومعناه: حبسناه، وفيه قوة لتأويل المالكية أنه لم ينفذ السهم مقاتله، وإنما أشواه وحبسه حتى أدركت ذكاته كما قال في الحديث:" فحبسه ".(7/184)
قال الأمام: في الحديث: } } إلا وَهَصه الله إلى الأرض { { ، قال بعض أهل اللغة: أي حطه الله ودقه، يقال: وهصت الشيء ووقصته ووطسته ومنه الحديث: } } إن آدم - عليه السلام - حين أهبط من الجنة وهصه الله إلى الأرض { { . وقال أبو حمزة رُمي رميًا عنيفًا، وكل من وضع قدمه على شيء فشدخه فقد وهصه.
وقوله: } } أصبنا غنمًا وإبلاً فعجل القوم، فأغلوا بها القدور، فأمر بها فكفئت { { الحديث، قال القاضي: أي قلبت، وقد تقدم. قال القاضي: يمكن أن يكون أمره ب!كفاء القدور لأنهم استباحوا منها على القرب ما كانوا يعرفون فيما بعد عن بلاد الإسلام، وموضع الأمر مطاع مما هو مضطرون إليه، وفي هذه الغنيمة كانوا بذى الحليفة- كما جاء في الحديث- قريبًا من المدينة ومن منازلهم، فلم يكونوا مضطرين إليها، فمنعهم من ذلك إلا بإذنه، وأراهم أن ما فعلوه فلا يجوز لهم، وأنه من باب الغلول. قال: ولو قيل إن ذلك كان من قبل أنهم بادروا قبل القسم لكان داخلاً في المعنى، وقال غيره: إنما أبيح كل الطعام والحيوان في بلاد العدو، وقيل: تخليص الغنيمة إلى أرض الإسلام، وأما في أرض الإسلام فلا يأخذوا منها إلا ما قسم لهم لأنها غنيمة خالصة، وقد يكون عندي من باب أنهم إن نهبوها ولم يأخذوها باعتدال وقدر الحاجة، وكذلك وء في غير مسلم في غير هذا الحديث: } } فانتهبناها { { ، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإكفاء القدور بما فيها، وقال: } } إنها لا تحلى النهبة { { الأثر. كيف قال في هذا الحديث: } } فأصبنا نهب إبل وغنم { { ، وأنه عدل بينهم فيما بقي بعد ذلك، فقد عدل عشرًا من الغنم بجزور. ولم يذكر هنا قرعة، ولا خلاف أن ما اختلف أجناسه ولم يدخله قرعة أنه جائز، تفاضلوا فيه أو تساووا لأنها مراضاة، ولا يجوز القرعة إلا في التساوي والجنس الواحد، والتعديل في عدل النبي كله جزورًا الأصل عندنا المذهب، والأظهر وأكثر جوازه وفيه حجة لنقوص ذلك في الهدايا على ما تقدم(7/185)
في الحج. قال المهلب: إنما أمرهم بإكفاء القدور وطرح ما فيها عقوبة لهم؛ لاستعجالهم وتركهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في أخريات القوم، ولما يخشى من مكيدة، كما جاء في الحديث: } } ?والنبي في أخريات القوم فعجلوا ويقدم مسرعًا والناس، فنصبوا القدور فحرمهم ما تعجلوا له عقابًا لهم ؛ كما منع القاتل الميراث وشبهه.
قال مسلم في أول باب النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث: حدثني عبدالجبار بن العلاء، حدثنا سفيان، حدثنا الزهرى...، وذكر الحديث. هذا الحديث عند أهل الصنعة علة في رفعه ؛ فإن الحافظ عن سليمان لم يرفعوه، وكذلك لم يخرجه البخاري من رواية سفيان، وخرّجه من غير طريقه. قال الدارقطني: هذا مما وهم فيه عبدالجبار بن العلاء ؛ لأن ابن المدينى وابن حنبل والقعنبي وأبا خيثمة وإسحق وغيرهم رووه عن سفيان بن عيينة موقوفًا، ورفع الحديث عن الزهري ومالك من رواية جويرية، كلهم رووه عن الزهري مرفوعًا، وقول عليّ: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نأكل من نُسكنا بعد ثلاث فلا تأكلوا، ومثله عن ابن عمر، قال سالم: } } فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحى بعد ثلاث، ثم ذكر حديث جابر بمثله في النهي، ثم قال: } } كلوا بعد وادخروا وتزودوا { { ، وحديث عائشة فيه:" دَفَّ أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى من أهل البادية زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: } } ادخروا ثلاثة أيام ثم تصدقوا بما بقي { { الحديث، وفيه: } } إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت، فكلوا وادخروا وتصدقوا { { ، وذكر معناه من حديث سلمة بن الأكوع وأبي سعيد وثوبان وبريدة. الدافة: قوم يسيرون جماعة سيرًا ليس بالشديد. ودافة الأعراب من يرد منهم المصر، والمراد هنا من ورد عليهم من ضعف الأعراب للمواساة والدفف.(7/186)
وقوله:"حضرة الأضحى ": كذا رويناه عن أكثرهم بالسكون، وفيه بعضهم بالفتح، وهما بمعنى القرب والمشاهدة. قال يعقوب: يقال: كلمته بحضرة فلان وحضرته وحضرة. قال أبو عبيد: وحضرته. اختلف في الأخذ لهذه الأحاديث، فذهب قوم إلى تحريم إمساكها والأكل منها بعد ثلاث، على ما تقدم عن على وابن عمر، وأن حكم المنع باق، وذهب آخرون إلى إباحة ذلك ونسخ النهي جملة، وهو قول الكافة والجمهور، وظاهر الأحاديث. وهذا من نسخ السنة بالسنة.
وقيل: كان النهي الأول على التحريم فوردت الإباحة، والإباحة بعد التحريم نسخ، وقيل: ليس بنسخ وإنما كان تحريمًا لعلة، فلما ارتفعت ارتفع الحكم، واستدل قائل هذا بما في حديث سلمة وقد سألوه عن ذلك، فقال: إن ذاك عام كان الناس فيه بجهد، فأردت أن يفشوا فيهم، وعن عائشة وسُئلت: أحرَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت: لا، ولكنه لم يكن ضحى منهم إلا قليل، ففعل ذلك ليطعم من ضحى من لم يضح. وقيل: بل كان النهي الأول على الكراهة، وعلى هذا فيحتمل أن تكون الكراهة باقية مع الإباحة والجواز، والنهي باق ورد مورد العموم، والمراد به الخصوص للعلة الواردة المذكورة، وأن الحاجة لو نزلت اليوم بقوم قذفت الناس مواساتهم، وعلى هذا يحتمل مذهب، على وابن عمر، وقيل: يحتمل أن تكون الكراهة منسوخة وهو أظهر.
وقوله: } } ?بعد ثلاث { { : يحتمل من أول يوم النحر فلا يتعدى وإن ذبحت في أخراها، ويحتمل أن تكون بعد ثلاث ثم ذبحها متى ذبحها من أيام النحر ؛ لئلا يضيق عليهم في أمد ذبحها إن أرادوا التأخير، والأول أظهر إذا لم يعتد ذلك بذبحها، وإن ما أطلقه فهو محمول من يوم قوله.
واستدل بقوله: } } بعد ثلاث { { بعض مشائخنا على مذهب مالك أن أيام الذبح ثلاث، خلاف من قال: هى أربع أو أكثر من ذلك على ما تقدم لغيره.(7/187)
وقوله: } } فكلوا وتصدقوا وادخروا { { ، قال الإمام: جمهور الفقهاء على أن اجل من الضحية غير واجب، وشذ يعضهم فأوجب الأكل منها لظاهر هذه الأوامر، والجمهور لما كانت عندهم أ جاءت، بعد الحظر حملت على الإباحة، كقوله تعالى:{ وإذَا حَلَلْتُمْ فَاصطَادوا } } (1) { ، { فَإذَا قُضِيتِ الصلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْض } } (2) { - ?
قال القاضي: لمالك في كتاب ابن حبيب ما يدل أن ذلك على الندب، وأنه كان لم يأكل مخطى، وقال: لو أراد أن يتصدق بلحم أضحيته كله، كان كأكله كله حتى يفعل الأمرين جميعًا. وقال الطبرى: جميع الأمصار على جواز ألا يأكل منها إن شاء ويطعم جميعها، وهو قول محمد بن المواز. وقد اختلف الأصوليون من الفقهاء والمتكلمين في لفظة " أفعل " إذا جاءت بعد الحظر، هل يحتمل على الوجوب أو الإباحة ؛ فجمهور محققيهم من القائلين بالنصيفة واقتضائه بمجرده، الوجوب من أصحابنا، وغيرهم يحملها على الوجوب هاهنا. قال القاضي أبو بكر: لو كنت من القائلين بالنصيفة لقلت بأنها لو أطلقت بعد الحظر يقتضي الوجوب، وذهبت طوائف منهم من فقهاء أصحابنا وغيرهم من المتكلمين أنها تحمل على الإباحة ورفع الحرج، وهو مذهب الشافعي. وقال قائلون: إن كان الحظر موقفًا فهو على الإباحة، وكان من قال بوجوب الأكل في مشينا إلى هذا الأصل استروح، كما أشار إليه الإمام أبو عبدالله، واسترواحه عندي في ذلك غير صحيح ؛ لأن هذا الحظر معلق بعلة نص عليها الشارع، وأبان أن نهيه لسببها، فإذا ارتفعت ارتفع موجبها وبقى الأمر على ما كان عليه قبل الإباحة، فليس في ذكره له بعد الحظر من زائد على ما يوجبه سقوط العلة بقوله: } } إنما نهيتكم من أجل الدافة { { ؛ لفهم أن سقوط العلة سقوط الأمر على الإباحة.
__________
(1) } ) الآية (2) من سورة المائدة.
(2) } ) الآية (10) من سورة الجمعة.(7/188)
وقوله: } } وتصدقوا { { : لا خلاف أن الأمر بالصدقة باق غير منسوخ، فإنه على الاستحباب دون الوجوب، إلا مذهب من مغ الأكل من السلف وبعض العلماء: أن الصدقة منها على الوجوب، ولا حد له عند مالك وأكثرهم في ذلك، فيتصدق بما شاء، ويأكل ما شاء، ويطعم ما شاء، واستحب الشافعي الصدقة بالثلث. واختار بعض شيوخنا وغيرهم الصدقة بأكثر وأكل الثلث والأقل، واستحب آخرون الصدقة بالنصف.
وقوله: } } وادخروا { { : لا خلاف بين العلماء اليوم أنه على الإباحة أيضًا، منسوخ الحكم الأول من النهي عن الادخار بعد ثلاث. وقوله: } } ويجملون منها الودك { { : أي يذينون، يقال: جملت وأجملت أجمل وأجمل. وقول ثوبان: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح أضحيته، ثم قال: } } أصلح لحم هذه { { فلم يزل يأكل منه حتى بلغ المدينة: فيه جواز الادخار والتقيد للحم الأضحية في السفر، وهو قول الكافة ؛ أنها على المسافر كما هى على الحاضر، وخالف في ذلك أبو حنيفة والنخعي، وروي عن علي: فلم يروا على المسافر أضحيته، واستثنى مالك من المسافرين والمقيمين الحاج من أهل منى ومكة وغيرها فلم ير عليهم أضاحي، وهو قول النخعي، وروى ذلك عن أبي بكر وعمر وابن عمرو وجماعة من السلف، ورأى الشافعي وأبو ثور الأضحية واجبة على الحاضر بمنى.
وقوله: } } نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها { { : تقدم في الجنائز. ونهيه عن الأسقاء تقدم في كتاب الإيمان، ويأتي في كتاب الأشربة، ويأتى معنى قوله: } } اشربوا في الأسقية { { ؛ يذكره هناك، وما فيه من تفسير وصوابه إن شاء الله.(7/189)
وقوله في حديث أبي بكر بن أبي شيبة عن ابن مشهور قلت لعطاء: قال جابر: حتى جئنا المدينة، قال: نعم. كذا في كتاب مسلم. وفي كتاب البخاري قال:" لا" مكان قوله:" نعم "، وقوله في حديث سلمة: } } إن ذلك كان عام للناس فيه بجهد، فأردت أن يفشوا فيهما: كذا في جميع نسخ مسلم وتأويله: يفشوا فيهم لحم الضحايا، وفي البخاري:" فأردت أن تعينوا فيها "، ويحتمل أن يكون أحد اللفظين مغير من الآخر ومصحَّف منه، وما في كتاب مسلم أشبه.
قال الإمام: خرَّج مسلم في الباب حديثا محمد بن المثنى: حدثنا عبدالأعلى، حدثنا سعيد بن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدرى. هكذا عند أبي العلاء، وأما عند الجلودي والكسائي فهو: حدثنا ابن مثنى، نا عبد الأعلى، نا سعيد عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد: فزاد في الإسناد: قتادة. قال بعضهم: الصلاة عندي ما عند أبي العلاء، وكذلك خرجه الدمشقي في كتاب "الأطراف" عن مسلم، عن محمد بن مثنى، عن عبدالأعلى، عن سعيد، عن أبي نضرة، ليس فيه: عن قتادة.
قال القاضي: وفي الباب: حدثنا إسحق بن منصور، حدثنا أبو مسهر، حدثنا ثوبان. كذا لكافة الرواة. ورواه لنا الخشني عن الطبري: حدثنا إسحق بن إبراهيم، مكان: إسحق بن منصور.
باب الفرع والعتيرة
وقوله: } } لا فرع ولا عتيرة { { ، وفي رواية الطبري: " لا قرعة ": قال ابن عمر: وهى القرعة، والفرع بنصب الراء، كانوا يذبحونها في الجاهلية، فنهوا عنها. وقيل: كانوا يفعلون ذلك إذا بلغت إبل الرجل مائة.(7/190)
قال الإمام: أما الفرع فقد فسره مسلم بأنه أول النتاج في سياق الحديث، كان ينتج لهم فيذبحونه، قال غيره: يذبحونه لآلهتهم. قال أبو عبيد عن أبي عمر: والفرع والفرعة، بنصب الراء: هو أول ما تلد الناقة، وكانوا يذبحون ذلك لآلهتهم، فنهى المسلمون عن ذلك. وقد أفرع القوم: إذا بلغت إبلهم ذلك، وقال شَمِر: قال أبو مالك لم: كان الرجل في الجاهلية إذا تمت إبله مائة قدم بكرًا فنحره لصنمه، فذلك الفرع. وذكر أبو عبيد تفسير العتيرة، والذي ذكر أنها الرجبية، ذبيحة كانت تذبح في رجب يتقرب بها أهل الجاهلية، ثم جاء الإسلام فكان على ذلك، ثم نسخ بعد، وذكر أن هذا الحديث فيما يرى هو الناسخ لقوله: } } على كل مسلم في كل عام أضحية وعتيرة { { ، وذكر في موضع آخر من كتابه في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الفرع، فقال: } } حق، وأن يتركه حتى يكون ابن مخاض وابن لبون زخزبا } (1) { خير من أن تلقى أباك { { ، وقوله: ناقتك وتذبحه يلصق لحمه بوبره، فقال: الفرع أول شىء تنتجه الناقة، وكانوا يجعلونه لله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - - ? } } هو حق { { ، ولكنهم كانوا يذبحونه حين يولد، وفيه من الكراهة أنه لا ينتفع به إلا بَرَى.
قوله: } } ويذبحه يلصق لحمه بوبره { { : وفيه أيضًا أن ذهاب ولدها يرفع لبنها إلا بَرَى.
__________
(1) } ) أبو داود في الأضاحي في العقيقة رقم (2842)، انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 299). هكذا في الأصل. والرخزُبُّ بالضم وتشديد الباء: القوى الشديد، وقيل: الغليظ، وقيل: هو من أولاد الإبل الذي قد غلظ جسمه واشتد لحمه. يقال: صار ولد الناقة زُخْزُبا: إذا غلظ جسمه واشتد لحمه، انظر"لسان العرب" مادة "زخزب". والحديث أخرجه البيهقى في "السنن الكبرى"...(7/191)
قوله: } } خير من أن تكفأ إناك { { ؛ يعني: إذا فعلت ذلك فكأنك كفأت إناك وهرقته وإشارته إلى ذهاب اللبن، قال: وفيه- أيضًا- أن يكون فجعها به، فيكون آثما، ألا تراه يقول: } } وتوليه ناقتك { { ، ومنه الحديث في السبي، أنه نهى أن توله والدة على ولدها، فأشار - صلى الله عليه وسلم - بتركه حتى يكون ابن مخاض وهو ابن سنة، ثم يذبح وقد طاب لحمة واستمتع لم بلبن أمه، ولا يشق عليها مفارقته ؛ لأنه استغنى عنه. والزخزب هو الذى غلظ جسمه واشتد لحمه.
قال القاضي: قال أبو إسحق الحربي: جاءت في الفرع الأحاديث في الغنم بخمسة مذاهب، وفي الإبل واحد. فأما الإبل فحديث نبيشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - - } } في كل سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استحمل ذبحته فتصدقت بلحمها { { ، فأوجبه في السائمة. وفي حديث الحارث: } } فمن شاء فرع ومن شاء لم يفرع { { ، وعن عائشة: } } أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفرع في كل خمسين شاة شاة { { ، وفي حديث أبى هريرة:? } } ?لا فرع ولا عتيرة { { ؛ يدل أنها ليست واجبة. قال ابن المنذر: حديث نبيشة وعائشة يأتيان وكانت العرب تفعلها، وفعلها بعض أهل الإسلام بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم نهى عن ذلك، فانتهى الناس، وهو منسوخ عند كافتهم، وقد تقدم مذهب ابن سيرين في بقاء سنة?ذبح العتيرة في رجب، وهو شذوذ، وتقدم الكلام فيها.
باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة....
وقوله: } } إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعر بشره شيئًا { { ، وفي الرواية الأخرى: } } وعنده أضحية يريد أن يضحي { { ، وفي الرواية الأخرى: } } من كان له ذبح فلا يأخذن شعرًا، ولا يقلمن ظفرًا { { ، وفي الحديث الآخر: } } حتى يضحي { { ، وقول ابن المسيب: هذا حديث قدسي وترك- وذكر الحديث: الذبح، بالكسر: الكبش الذي يذبح. قال الله تعالى:{ وَفَدَيْنَا بِذِبحٍ عَظِيم } } (1) { - ?
__________
(1) } ) الآية (107) من سورة الصافات.(7/192)
قال الإمام: مذهبنا أن هذا الحديث لا يلزم العمل به، واحتج أصحابنا بقول عائشة رضى الله عنها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يهدى من المدينة فاختل قلائد هديه، ثم لا يجتنب شيئًا مما يجتنب المحرم، وظاهر هذا الإطلاق أنه لا يحرم تقليم الأظفار، ولا قص الشعر، ومذهب ربيعة وأحمد وإسحق وابن المسيب المنع ؛ أخذًا بالحديث المتقدم، ويرون أن النص على ما ذكر فيه أولى من التمسك بالاطلاق الذي وقع من لفظ عائشة رضى الله عنها. ومذهب الشافعي حمله على الندب، وحكى عن مالك، ورخص فيه أصحاب الرأى.(7/193)
قال القاضي: احتج بهذا من لم يوجب الأضحية لقوله: } } وأراد أن يضحي { { ، وإسنادها إلى إرادته وهذا لا يلزم، وقد تقدم الكلام عليه قبل، وأن مثله قد يستعمل في الواجب. وقال الليث: قد جاء هذا الحديث وأكثر الناس على خلافه. قال الطحاوي: ولما رأينا الجماع الذي يفسد الحج لا يحرم على من دخل عليه غير ذلك، ووجه الندب لما في الحديث التشبه بالحاج. وقوله: كنا في الحمام قبل الأضحى فاطّلى فيه ناس، فقال بعضهم: إن سعيدًا يكره هذا وينهى عنها، وقول سعيد: " هذا حديث قد نسي: إنما أشار لكراهة سعيد حلق الرأس لما كان في عشر ذى الحجة للحديث المذكور لا مجرد الإطلاق، بدليل استدلال سعيد بحديث أم سلمة في ذلك، وقد حكى ابن عبد البر أن سعيد بن المسيب كان يجيز الإطلاء بالنورة في العشر، وأنه ترك لما روى من الحديث، وما في كتاب مسلم يضاد القول عنه، وقيل: لعله أفتى بذلك لمن يريد أن يضحى. وذكر مسلم في الباب الخلاف في راوى الحديث عن سعيد بن المسيب، فذكره عن شعبة، عن مالك، عن عمرو بن مسلم. وذكره من رواية أخرى عن سعيد، عن مالك، عن عمر أو عمرو بن مسلم من رواية ابن معاذ عن محمد بن عمرو الليثي، عن عمرو بن مسلم بن عماد بن أكيمة الليثى. كذا لجميعهم، ولابن مسلم ابن عمار الليثي، وذكره من رواية سعيد بن أبي هلال عن عمر بن مسلم، ونسبه الجندعي، وقال فيه: ابن أبي خيثمة، وقال فيه ابن معن: عمرو، وقيل فيه: عمار بن مسلم. وقال البخاري في تاريخه: عمرو بن مسلم الجُنْدَعِي ثم الليثي، يروى عن ابن المسيب، روى عنه مالك وسعيد بن أبي هلال. وقال بعضهم: الخناعى، ويمَال فيه: عمر، وجندع بفتح الدال وضمها. وجناع بطن من ليث والخزاعي لا شك بعيد من الجندعي، والله أعلم.
باب تحريم الذبح لغير الله ?????(7/194)
وقول علي: ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسر إلىّ شيء يكتمه عن الناس، وما خصنا بشيء يعم به الناس، وغضبه على من ذكر له غير هذا: فيه رد على الشيعة والإمامية والرافضة فيما تدعيه من الوصية إلى علي بالخلافة وبغير ذلك.
وقوله:" حدثني بكلمات أربع، وذكر: لعن الله من لعن والده، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثًا، ولعن الله من غيّر منار الأرض": أما من لعن والده فقد تقدم معناه?وشرحه في كتاب الإيمان: أن من الكبائر أن يشتم الرجل والديه، وفسره: } } يسب أبا الرجل فسِب أباه ويسب أمه { { . وأما الوجوه الأخر فينبه، ويكون الحديث في الدين وقد تقدم أيضًا.
وقوله: } } من غير منار الأرض { { : أي علامات حدودها، وظلم غيره فيها، ودخوله في ملكه مثل قوله في الحديث الآخر: } } تخوم الأرض { { ، وقد جاء في الوعيد في ذلك وتطويقه من سبع أرضين ما تقدم، كما قال في الحديث الآخر: } } من سرق منار الأرض { { ، قال أبو عبيد: وقد يكون ذلك في تغيير حدود الحرم التي حد إبراهيم.
وقوله: } } إلا ما كان في قراب سيفي { { : تقدم تفسير القراب، وهو كالجراب يدخل فيه السيف بغمده وما خف من الآلة.
- - - - -
كتاب الأشربة
ذكر حديث على وحمزة: وقوله:" أصبت شارفا "، وقوله:" ألا ياحمز للشرف النواء"، قال الإمام: الشارف: المسن من الإبل، وكذلك الناب، وجمع الشارف شرف.والنواء:السمان، يقال:نوت الناقة تنوي: إذا سمنت.
قال القاضي: هذا صواب الرواية، ومن رواه:" النوى " بالقصر أخطأ، أو بفتح النون. وقال الخطابي: إن أبا جعفر الطبري رواه:"الشرف النوى" بفتح الشين والراء وفتح النون وقصرها. قال: وفسره بالبعد. قال الخطابي: وهكذا رواه أكثر المحدثين والرواية والتفسير غلط. ورواه الخطابي: " ذا الشرف "، وأسنده هكذا أبو عمر المطرز فيما ذكره.
قال القاضي: وصوابه مافي الأم وصحيح البخاري. وأكثر المصنفات للشرف لتغريه بنحرها.(7/195)
قوله:" ومعى صائغ من بني قينقاع ": يريد لنا بجمعه معه من الإذخر لبيعه من الصواغين ليستعملوه في الصياغة، كما فُسَر في الحديث، وليستعين به على وليمة فاطمة كما ذكر.
فيه أن الوليمة مشروعة، وقد تقدم الكلام عليها في النكاح، وفيه جواز قطع إذخر مكة وحده من بين سائر عشبها كما استثنى في الحديث الآخر المقهور والصاغة، وجواز الصياغة وأكل ثمنها، وهذا فيما يجوز صياغته، بخلاف لو صاغ صورًا أو حليًا للرجال.
وقوله:" فبينا أنا أجمع لشارفي متاعًا من الأقتاب " إلى قوله:" وجمعت حين جمعت ماجمعت ": كذا للسجزي والسمرقندي، وللعذري والطبري وابن ماهان:" حتى مكان معين ". واتفقت النسخ على قوله أولاً: "وجمعت"، وسقط من بعضها، وسقوطه مع ثبوت " حتى " أو إصلاحه مع ثبوت " حتى" مكان " معين " يصح الكلام، وإلا فلا معنى لجمعت هنا مع الحرفين، ولعله مغير من "حيث "، وأنه بنحوه. ذكره الحميدي في مختصره، قال:" وأقبلت حين جمعت ماجمعت " ماذكره من فعل حمزة وشربه الخمر. وماذكر في الحديث من القصة، فذلك قبل أن يحرم أكله. وليس?في فعل حمزة من جب أسمنتها وبقر خواصرها واستخراج أكبادها حجة لجواز أكل ذلك مما لم يذك، فكل ما أخذ من الحي ميتة لايحل أكله، وقد ذكر أهل المصنفات في هذا الحديث:" إلا سنمًا فبقره لخواصرها " كان بعد أن نحرها وذكاها، فيصح أكلها حينئذ على قول كافة العلماء في جواز كل ماذبح وذكى بغير إذن مالكه، مما ذبحه غاصب أو سارق أو متعد، وهو قول مالك وقول أبي حنيفة والثورى والشافعي والأوزاعي. وخالف في ذلك إسحق وداود فقالا: لاتؤكل، وروى عن عكرمة، وهو قول شاذ عند العلماء. وقد روى ابن وهب حجة للكافة في جواز أكلها أثرًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدل أن حمزة قد ذكاها بقية الشعر وهو فيما أنشده ابن قتيبة:
ألا ياحمز للشرف النواء …وهن معقلات بالفناء
صنع السكين في اللبان منها…وضرجهن حمزة بالدماء(7/196)
وعجل من أصايبها لشرب …قديد أوطبيخ أوشواء
ومعنى: جب واجتب: أي قطعها واستأصلها. والأسنمة: الحدب، واحدها سنام. وبقر: شق. ومعنى ثمل: أي سكران. والشرب، بفتح الشين: الجماعة يشربون. ولم يذكر تغريم النبي كلمة لحمزة ما أفسده السكران من الأموال ولا إسقاطه عنه، ولا أعلمه في شيء من المصنفات، لكن عمر بن أبي شيبهّ ذكر الخبر في كتابه وزاد فيه من رواية أبي بكر بن عياش: " فغرمها النبي - صلى الله عليه وسلم - لحمزة ".
ولاخلاف فيما أفسده السكران من الأموال أنه يضمنه، ويحتمل أن عليًّا لم يطلب منه تغريمه، أو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عوّض عليًّا من ذلك لحكم حقه من العمومة، كما قال في العباس في الذكاء:" هى علي معها " على أحد الروايات والتأويلات، وقد تقدم. وقد احتج بهذا الحديث من لايرى طلاق السكران لما لم يلزمه شيء على خشين، كلامه للنبى - صلى الله عليه وسلم -، الذي لو قاله صلح لوجب نكاله، ولاحجة فيه لأنه إنما ألزمه من ألزمه ذلك ؛ لأنه أدخله على نفسه بمعصية الله تعالى بخلاف لو سكر بلبن شربه أو من عارض عرض له من طباعه، فهذا لاحكم لطلاقه ولأحكامه؛ إذ هو كالمغمى والجنون بإلزامه، وبه قال مالك والشافعي والكوفيون والثورى والأوزاعى، وهو قول ابن المسيب في جماعة من السلف وكافة العلماء كالحسن والنخعي وعطاء وغيرهم، وحكى عن عثمان وابن عباس وعمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد وطاووس والليث وربيعه: أنه لايلزم، وقاله إسحق وأبو ثور والمزني، ووقف فيها ابن حنبل.
وقوله:" فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقهقر حتى خرج عنهما: قال أبو عمر: القهقر: الإحضار، فهو على هذا بمعنى خرج مسرعًا. وقال الأخفش: رجع القهقرى: إذا رجج وراءه ووجهه إليك.(7/197)
قال القاضي: وهذا أعرف في معنى اللفظة وأشبه بمعنى الحديث، كأنه حذر منه مايبدر منه إن ولاه ظهره، لما كان عليه من السكر، وهو بمعنى مافي الحديث الآخر:" نكص على عقبيه القهقري "؛ أي: رجع وانصرف.
وقوله:" فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردائه فارتداه، ثم انطلق يمشي ": فيه أخذ أهل الهيئات زينتهم في المحافل وفي الخروج عن منازلهم، ومراعاة هيأتهم بين الناس، فهى من المروءة، ومما يلزم استعمالها ويكره خلافها. ومعنى:" طفق يلوم حمزة ": أي: جعل، يقال بفتح الفاء وكسرها، والكسر أشهر. وقال أنسى: "كنت ساقى القوم يوم حرمت في بيت أبي طلحة وماشرابهم إلا الفضيخ البسر والتمر، فإذا منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن الخمر قد حُرّمت " الحديث،: قال الحربي: الفضيخ: هو أن يفضخ البسر ويصب عليه الماء ويتركه حتى يغلي،. قال أبو عبيد: هو مافضخ من البسر من غير أن تمسه نار، فإن كان معه تمر فهو خليط. وقوله في الحديث:" من فضيخ وتمر "، وفي الرواية الأخرى: " أنها البسر والتمر " يصحح هذا التفسير، وفي رواية أخرى في تفسيره:" هو بسر ورطب ": وفيه اتفاق من حضر من الصحابة على تحريم مسكر الفضيخ والخليط من البسر والرطب والتمر، وأنه خمر، وهم أرباب اللسان. قال الإمام: قد حصل الاتفاق على تحريم عصير العنب التي إذا اشتد فأسكر، واختلف الناس فيما سواه، فذهب مالك والشافعي وجماعة من الصحابة والتابعين- لايحصون كثرة- إلى تحريم كل مسكر من أي نوع كان، مطبوخًا كان أو نيًّا، وذهب قوم من البصريين إلى قصر التحريم على عصير العنب ونقيع الزبيب، والنيّى، فأما المطبوخ منهما والنيئ والمطبوخ مما سواهما فحلال، مالم يقع الإسكار. وذهب أبو حنيفة إلى قصر التحريم على المعتصر من ثمرات النخل والأعناب وتحليل ماسواهما مالم يقع الإسكار، وله في ثمرات النخيل والأعناب، تفصيل، فيرى أن سلافة العنب تحرم?قليلها وكثيرها إلا أن يطبخ حتى ينقص(7/198)
ثلثاها، وأما نقيع الزبيب والتمر فيحل مطبوخهما إن مسته النار مسًّا قليلاً، من غير اعتبار بحد كما اعتبر في سلافة العنب، وأما التي منهما فحرام، ولكنه مع تحريمه إياه لايوجب الحد فيه. وهذا كله مالم يقع الإسكار، فإن وقع الإسكار استوى الجميع عند الجميع. والحجة لجمهور العلماء الاستنباط من الكتاب وظواهر الأخبار، فأما المستنبط من الكتاب: فإن الله سبحانه نبَّه على أن علة تحريم الخمر كونها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوقع العداوة والبغضاء على حسب ماقال الله عز وجلِ:{ إنمَا يُرِيدُ الشُّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدكُمْ عن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاة } } (1) { ، وهذا المعنى بعينه موجود في كل مسكر على حد سواء، لا تفاضل بين الأشربة فيه، فيجب أن يكون حكم جميعها واحدًا. فإن قيل: إنما يتوقع هذا في الاسكار المغير للعقل، وتلك حالة اتفق الجميع على منعها، قلنا: قد اتفق الجميع على مغ عصير العنب وإن لم يسكر، وعلل الباري سبحانه التحريم بما ذكرناه، فإذا كان ماسواه في معناه فيجب أن يجري في الحكم مجراه، وصار التحريم، للجنس، وعلل بما يحصل من الجنس على الجملة، وهذا وجه صحيح. هذا مأخذ التعليل من تنبيه الشرع، وتلقى التعليل من سياق التنزيل أولى وآكد من سائر مايتعلق به في هذا النوع.
__________
(1) } ) الآية (91) من سورة المائدة.(7/199)
وللتعليل مأخذ ثان، وهو أنا نقول: إذا شربت سلافة العنب عند اعتصارها ولم تشتد وهى حلوة فهى حلال إجماعًا، وإن اشتدت وأسكرت حرمت إجماعًا، فإن تخلل أيضًا من قبل الله تعالى حلت أيضًا، فنظرنا إلى تبدل هذه الأحكام وتجددها عند تجدد صفات وتبدلها، فأشعر ذلك بارتباط الأحكام بهذه الصفات، وقام هذا مقام النطق بذلك، فوجب جعل ذلك علة، وحكم بكون الشدة والإسكار علة التحريم ؛ لما رأينا التحريم يوجد بوجودها ويفقد بفقدها، ماذا وضح ذلك ثبت ماقلناه. هذه إحدى الطريقتين من ثصحيح ماعليه الجمهور، والطريقة الأخرى: الأحاديث الكثيرة، منها ماذكر مسلم لقوله - صلى الله عليه وسلم - - } } كل مسكر حرام { { ، وقوله: } } نهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة { { ، وقوله: } } إن الله عهد لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال { { ، قالوا: يارسول الله، وماطينة الخبال ؟ قال: } } عرق أهل النار أو عصارة أهل النار { { -
قال القاضي: وقول أبي طلحة لأنس:" أهرقها " عند سماع المنادي، وفي الرواية الأخرى: أن رجلاً جاءهم فأخبرهم أن الخمر قد حرمت، وفي الرواية الأخرى:" قم إلى هذه الخمرة فاكسرها، فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت ". فيه قبول خبر الواحد على هذه الرواية، وامتثال الأوامر لأول حال على الفور، وأن المحرمات لاينتفع بها ولايحل بيعها ولاتصريفها، وأن النداء في البلد على الأمير والحاكم الذي يعرف أنه لاتخفي عليه مقام قوله وسماعه منه، وأن الإقرار على الشيء من قول أو فعل لقوله أو فعله. وفيه كسر أوانى الخمر وهى إحدى الروايتين عن مالك على كل حال ؛ لما داخلها من أجزاء الخمر وعسر زوال ذلك منها بالغسل، والرواية أنها إذا طبخ فيها الماء وغسلت فلا بأس باستعمالها، وشدد مرة في الذقاق لتعلق الرائحة بها، وهى معتبرة عنده على مشهور مذهبه. والمهراس: الحجر الذي يدق به ويهرس بعض الأشياء، وقد مضى من ذلك أول الكتاب حديث وفد ربيعة.(7/200)
وقوله: فجرت في سكك المدينة ؛ أي: طرقها، وأصله الطريقة المستوية من النخل.
قال الإمام: خرّج مسلم في الباب: حدثنا محمد بن أيوب، حدثنا ابن علية، أنبأنا عبد العزيز بن صهيب. وفي بعض النسخ:" يحيى" مكان "ابن أيوب"، وهو وهم. قال الإمام: وفي أصل ابن ماهان:"ابن عيينة" مكان "ابن علية"، وهو وهم، والصواب: ابن علية، نبه عليه عبد الغني وقال: كان في أصل ابن العلاء: ابن عيينة عن عبد العزيز بن صهيب، وهو خطأ، ليس عند ابن عيينة عن عبد العزيز شيء.
باب تحريم تخليل الخمر
وقوله: إنه سُئل - عليه السلام - عن الخمر تتخذ خلاًّ ؛ فقال: " لا "، قال الإمام: قد اختلف الناس في تخليلها، فمنعه قوم، والمشهور عندنا أنه مكروه، فإن فعل أكل، وقالت بعض أصحابنا: لايؤكل، وهذا الحديث حجة في النهي.
قال القاضي: تقدم الكلام على هذه المسألة في كتاب البيوع.
وقوله:" إنما أصنعها للدواء. فقال عليه الصلاة والسلام:" ليس بدواء، ولكنه داء ": حجة في أنه لايتعافي بالخمر ولابما حرّم الله، وقد ثقدم الكلام على هذا أيضًا هناك وماللعلماء فيه، وفيه حجة لمن لايرى تخليلها لابنه لو جاز لم أريقت؛ لأنه كان إذًا من إضاعة المال.(7/201)
وقوله: } } الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة { { ؛ وفي الرواية الأخرى: " الكرمة " مما يتعلق به أبو حنيفة، ولاحجة له فيه؛ إذ ليس فيه أنه لاخمر إلا منهما وإنما الخمر منهما، وقد ذكر مسلم: حديث: } } كل مسكر خمر "، وحديث:" كل ما أسكر حرام "، وحديث معاذ في السؤال عن شراب العسل والذرة والشعير فقال:" نهى عن كل مسكر "، وهذا كله تفسير وبيان يرفع الإشكال. وتسميته شجرة العنب الكرمة، وقد جاء حديثه بالنهى عن ذلك، لاتعارض فيه إن شاء الله ؛ لأنه - عليه السلام - كره أن يسمى ماحرم الله، وذمه بأنواع الذم تسميته المدح والفضل، وأما أوصاف المسلم فربما حمل ذلك سامعه بما تضمن أسمها بذلك من صفة المدح على استعمالها، وقاله هو - عليه السلام - هاهنا للبيان كاستعمالهم ذلك الاسم غالبًا، ويحتمل أن النهي عن ذلك إنما كان بعد هذا؛ إذ قوله هذا إنما كان بعد استقرار التحريم للخمر والله أعلم.
ونهيه - عليه السلام - عن الخليطين، وانتباذ التمر والبسر والزبيب والتمر، أو الرطب والزبيب والبسر، أو الرطب والزبيب، أو الزهو والرطب، أو البلح والزهو، جميعًا على ماجاء من اختلاف ألفاظ الأحاديث، والأمر بانتباذ كل واحد من ذلك على حدته، وأن يشرب كل واحد من ذلك فردًا: علة ذلك عند العلماء من أجل انتزاع السكر والغليان إليهما باجتماعهما، فربما كان أعجل في بعض الأحيان بتعاون قوتيهما من معهود بهما، أحدهما قبل فساده، فيدخل اللبس ويخاف السكر، فحمى ذلك للذريعة.(7/202)
قال الإمام: اختلف العلماء، في الخليطين ومذهبنا النهي عنها، وبعض المتقدمين من أصحابنا يشدد في ذلك ويعاقب عليه، وبعض المتأخرين منهم يشير إلى ألا يبلغ به ذلك، وقد يتعلق من يرخص فيه بقول عائشة:" أنه عليه الصلاة والسلام كان ينبذ له زبيب فيلقى فيه تمر أوبسر، فيلقى فيه زبيبًا،?هذا إذا كان الخليطان كل واحد منهما لو انفرد صار منه نبيذًا، فأما إذا كان أحدهما لو انفرد لم يصر منه نبيذًا فاضطرب المذهب في ذلك في مسائل ذكرناها.
قال القاضي: نهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك عند الانتباذ والشرب يقتضى التحريم في الوجهين عند القائلين؛ أي: مجرد النهي في ذلك يقتضيه. وبالأخذ بهذه الأحاديث في المنع من الانتباذ والاستعمال قال جمهور العلماء وكافة أهل الفتوى وفقهاء الأمصار، إلا أبا حنيفة وأبا يوسف في أحد قوليه فلم يقولانه، وقالا: لابأس باستعماله وشربه، وماحل مفردًا حل مجموعًا، وهذا تحكم على الشرع. ولأول أصحابهما النهي أنه من باب السرف، وجمع إدامين في إدام. وقد أشار البخاري إلى ذلك وترجم عليه في الباب، وقال الليث بقول الجماعة، لكنه قصر النهي على الانتباذ وأجازه حين الشراب والاستعمال، وكأنه لم يبلغه حديث النهي عن جمعه للشرب، والتفت إلى العلة لمغ انتباذهما لأجل إسراع الشدة والسكر بخلطهما وإشكال ذلك، فيكون سبب مواقعة الحرام. وأبَى مالك والشافعي وغيرهما من خلطهما على حال الأحاديث في ذلك وللعمل بالمدينة. واختلف أصحابنا: هل هو نهى تحريم أو كراهة؟?واختلفوا: هل يختص ذلك بالشرب أو بعمد وغيره إن خلط ذلك للتخليل ؟ وعن مالك في ذلك قولان، واختصاصه في النهي بالانتباذ والشرب يرجح أحد الروايتين، ويصحح ماذهب إليه أصحابنا وغيرهم في جواز فعل ذلك لغير الانتباذ والشرب، كجعل العصير والعسل في المربى أو في المربات.(7/203)
وذكر مسلم نهيه عليه الصلاة والسلام عن الدباء والحنتم والمزفت أن ينبذ فيه، ونهى عن نبيذ الجر، وفسر الحنتم بالجرار الخفبر. وهذا تفسير أن الجر هو الحنتم. وذكر أيضًا في بعضها النهي عن الانتباذ في النقير وقد جاء تفيسر هذا كله في الحديث أ في الأم، وقد تقدم في صدر الكتاب في حديث وفد ربيعة الحديث، والكلام عليه،
وما حكاه الحربي في تفسير الحنتم والخلاف. ومن قال: إنها جرار مزفته، ومن قال: إنه معنى الخضر السود من المزفت وإنها المزفت. وقيل: جرار كان يُحمل فيها الخمر، فنهى عنها حتى تغسل ويذهب منها رائحة. ومن قال: غنها جرار كانت من طين عجين بالشعر والدم، وهو قول عطاء.
قال الإمام: وبالنهى عن الانتباذ في الأوعية التي ورد فيها النهي عن الانتباذ قال مالك، قال: وأجاز ذلك ابن حبيب فقال: لم يكن بين نهيه عن ذلك هاباحته إلا جمعة. وقد ذكر مسلم: } } نهيتكم عن الظروف، فإن الظروف لاتحل شيئًا ولاتحرمه، وكل مسكر حرام { { ، فنهاهم أولاً حماية للذريعة لئلا يقع الإشكال ؛ لكون هذه الأوعية معينة عليه، وأباح مرة، ووكلهم إلى أمانتهم، ولهذا قال في آخره: } } وكل مسكر حرام { { . وأما ما وقع في الحديث الذي قدمناه أولاً أنه لما جاء رجل بتحريم الخمر أراقوها وكسروا الجرار، فإنه إن كان التحليل ثابتًا عندهم بالشرع المقطوع به فإن هذا قبول النسخ من خبر الآحاد، وقد قدمنا، أن الإجماع على منع النسخ به بعد زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن بعض الأئمة زعم أن النسخ كان يجوز به في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. هذا على أنه قد يتناول الأمر في ذلك على تأويلات يصح معها مافعلوه مع منع النسخ.(7/204)
قال القاضي: قد مر من هذا أول الكتاب، وقد روى عن مالك الترخيص في الزقاق المزفتة، وفي الانتباذ في الجر. ذكر مسلم في الباب في حديث الجهضمي: أنهاكم عن الدباء والحنتم المزادة المجبوبة لكن اشرب في سقائك وأوكه، كذا رواية الكافة، وكذا في سائر النسخ، ورويناه عن أبي جعفر من طريق الهوزني: } } والحنتم والمزادة المجبوبة { { ، وهذا هو الصواب، والأول تغيير ووهم. كذا ذكره النسائي: } } ?والحنتم وعن المزادة المجبوية { { . و كتاب أبي داود: } } والحنتم والدباء والمزادة المجبوبة { { ، وكله يصحح ماقلناه. وكذ ضبطناه في هذه الكتب: } } المجبوبة { { بجيم بباء بواحدة فيهما. ورواها بعضهم:" المخنوثة " بالخاء المعجمة والنون أولاً والثاء المثلثة آخرًا، وكأنه عنده من الحديث الآخر: } } نهى عن اختناث الأسقية { { ، وليس بشيء، والصواب الأول.
قال الهروى: في حديث ابن عباس نهى عن الجُب، بضم الجيم، وفسره: أنها المزادة يخاط بعضها إلى بعض ينتبذ فيهما حتى تضمرا، ويقال لها: المجبوبة أيضًا. قال الحربي: وماجب: هى التي قطع رأسها فصارت كهيئة الدن ؛ وذلك لأنها لاتوكأ فيعلم إذا غلا ما فيها. وأصل الجب: القطع. وقال الخطابي: لابنها ليست لها عزلاء يتنفس منها، فقد يتغير شرابها ولايشعر به. وقوله بعد ذلك: ولكن اشرب في سقايك وأوكها تفسيره: لأنه السقاء إذا وكى وشد متى تغير مامنه واشتد، وغلا بتشقيق جلده، فما دام فيه النبيذ على حاله أمن من فساده، بخلاف السقاء المجبوب وغيره من الأوعية التي يخفي فساد ما فيها.
وقوله: نهى عن نبيذ الجرس وتفسير ابن عباس له: كل مايصنع من المدد، وفسره بعضهم بأنه الحنتم، كما تقدم أيضًا من تفسير الحنتم بأنها: الجرار في الحديث. قيل: وقد مضى هذا كله مشبعًا أول الكتاب.(7/205)
وقوله في تفسير الدباء: القرعة. كذا هوى بسكون الراء. وتفسيره النقير بالنخلة تنسح نسحًا وتنقر نقرًا، بالسين والحاء المهملتين، معناه: يقشر عنها قشرها ثم يحفر فيها وينبذ ليسرع فيه الشدة، وهو معنى قوله: وينقر نقرًا، كذا رويناه بالنون. وعند بعضهم عن ابن الحذاء بالباء، والوجه هنا مارويناه.
والبقر، بالباء: الشق. وكذا عنده ينسج نسجًا بالجيم، وهو وهم أيضًا، والنساجة، بضم النرن: مايتساقط من قشر التمر.
قوله: } } كان ينتبذ له?- عليه السلام - في توْرٍ من حجارة، وفي الحديث الآخر: } } من برام { { هما بمعنى واحد. والبرام: جمع برمة، وتجمع أيضًا: بُرم، وهو قدر من حجارة وهو التور. قال الخليل: التور معروف، يذكره العرب. وقيل: هو دخيل. وذكر مسلم كذا في الباب: حدّثنا شيبان بن فروخ، حدثنا القاسم؛ يعني: ابن المفضل. كذا قيدناه عن أبي بحر، وضبطناه عن الصدفي والخشنى: ابن الفضل. كذا ذكر أبي عبدالله الحاكم. قال القاسم بن المفضل: أعرفه بالدلل الحرابي فيما تفرد به مسلم، وكذا جاء بعد هذا في باب نبذ رسول الله على الصواب،. ذكره مسلم- أيضًا- في الباب: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن يحى بن أ أبي، عمر، عن ابن عباس. كذا قيدناه عن جميع شيوخنا، ورواه بعضهم هنا. وفي حديث إسحق في باب نبيذ النبي - صلى الله عليه وسلم -: عن يحيى بن أبي عمر، وهو وهم، وإنما هو يحيى بن عبيد أبو عمر البهراني. وكذا جاء بعد هذا في باب نبيذ النبي عليه الصلاة والسلام: شعبة عن يحى بن وأبي عمر البهراني، سمعت ابن عباس في حديث عبيد الله العنبري، وكذا ذكره ابن البيع فيمن تفرد به مسلم، وقال البخاري في التاريخ مثله، وقال: كوفي سمع ابن عباس، يروى عنه الأعمش وشعبة.(7/206)
وذكر في الباب: عبد الخالق بن سلمة، عن سعيد بن المسيب. ضبطناه بكسر اللام وفتحها، وبالوجهين ذكر البخاري في تاريخه وأصحاب المؤتلف في كتبهم. قال الإمام: وذكر مسلم في الباب في حديث ابن أبي شيبة وابن أبي عمر قالا: حدثنا سفحِان، عن سليمان الأحول، عن مجاهد عن ابن أبي عياض، عن عبد الله بن عمرو، قال: } } لما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النبيذ... { { الحديث: هكذا عن ابن ماهان، ووقع في النسخة: عن أبي العباس الرازي، عن عبد الله بن عمر- يعني ابن الخطاب-. قالى بعضهم: كذا عند السجزي والكسائي، كلهم قال: عن عبدالله بن عمر بن الخطاب والمحفوظ: لعبد الله بن عمرو بن العاص، وكذا جعله الحميدي وابن أبي شيبة عن سفيان ابن عيينة في مسند عبدالله بن عمرو بن العاص.
قال القاضي: وكذا ذكره البخاري، وكذا رويناه عن الأسدي من طريق السجزي والسمرقندي، وروينا من طريق الكسائي وابن الحذاء: عمرو. ذكر مسلم في حديث الخليطين: عن أبي كثير الحنفي. كذا في جميع النسخ. قال بعضهم: صوابه: السحمي، واسمه يزيد بن عبد الرحمن، وكذا نسبه الحاكم أبو عبد الله، لكن قال فيه: يزيد بن عبد الله بن أزنية.
باب بيان أن كل مسكر خمر...
وذكر مسلم في حديث معاذ وتوجيهه - عليه السلام - له إلى اليمن مع أبي موسى وتوصيت التي لهما بالتيسير والمطاوعة، وقد تقدم تفسير التيسير. فيه ذم المخالفة ومخافة مغبتها وفساد الأحوال معها، وفيه التعاون على البر ومصالح المسلمين، وفيه مسأله النبي - صلى الله عليه وسلم -?ن البتع وهو شراب العسل، وعن المزر وهو شراب الشعير، وفسره في موضع آخر من الذرة والشعير وعما يطبخ من شرابه العسل حتى يعقد.(7/207)
وقوله - عليه السلام - - ? } } كل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام { { : نبه بهذا عن المسكر من غيرها ؛ بدليل إطلاقه هذا اللفظ فى سائر الأحاديث دون ذكر الصلاة، وقد كان أولاً قبل تحريم الخمر وردّ النهي عن قرب الصلاة فى حال السكر، على قول أكثر العلماء فى المراد بالآية أنه من سكر الخمر. ثم اختلفوا فى ذلك، فذهب بعضهم إلى أن مفهوم منها السكر دون غيره وذلك قبل تحريم الخمر، ثم نسخ جميع ذلك بقوله: { فَاجْتَنِبُوه } } (1) { ، وبقوله:{ فَهَلْ أَنتُم مُنتَهُون } } (2) { ، وقيل: بل نسخ ذلك، بقوله: { إِذَا قُمتمْ إلَى الصَّلاة } } (3) { ، فلم يبح لهم تأخير الصلاة جملة وقيل: المراد سكر النوم.
__________
(1) } ) الآية (90) من سورة المائدة.
(2) } ) الآية (91) من سورة المائدة.
(3) } ) الآية (6) من سورة المائدة.(7/208)
وقوله:" يطبخ حتى يعقد " بفتح الياء وكسر القاف، يقال: عقد العسل فهو عقيد، وأعقدته أنا فهو معقد: إذا شددته بالنار، وعقدت الحبل وغيره فهو معقود. واختلف فيما طبخ من العصير بالحد المباح منه، فجمهور العلماء على أن ينقص الثلثين يبيحه ويؤمن معه السكر، وهو المذكور فى حديث?عمر، وحكى مثله عن مالك. وكافة العلماء وفى كتاب محمد: لاحد فى ذلك، إلا أن يكون لايسكر، والأكثر أنه يحل بذهاب الثلثين وليس في كل شراب ولا كل عصير، وأما الموضع المعروف فلا بأس بذلك. وجواب النبي - عليه السلام - عن هذا بقوله: } } كل ما أسكر { { يعضد هذا كله. وأجاز أبو حنيفة وأصحابه شرب ما ذهب منه ثلثاه وإن أسكر، وجعلوا ذهاب الثلثين حدًّا للحل، وروى عن جماعة من السلف أن ذهاب النصف بالطبخ حد يبيح شربها، وروى- أيضًا- عن أبي حنيفة وأبي يوسف. والمراعاة في ذلك ماذهب إلى أصحابنا، وهى حقيقة قول مالك: مراعاة عدم الإسكار، وأن حديث عمر: أن عصير عنبهم كان إذا ذهب ثلثاه بالطبخ أمن منه ذلك. قال ابن حبيب: ومن تحفظ التزم الشرطين: عدم الإسكار، وذهاب الثلثين، كأنه احتاط لرفعه واختزانه، وحديث أبي موسى ومعاذ هذا له علة، فذكره مسلم عن شعبة، عن أبي بردة، عن أبيه، 1 عن جدهأ 1 عن أبي موسى. وذكره- أيضًا- عن محمد بن عباد، عن سفيان بن عمر- وهو ابن كيثار- عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده، وذكره- أيضًا- عن زيد بن أبي أُنَيْسَة، عن سعيد بن أبي بردة، حدثنا أبو بردة، عن أبيه. قال الدارقطني: اختلف فيه على شعبة، فأخرجه البخاري عنه، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه: بعث النبي - عليه السلام - جده أبا موسى ومعاذ...، الحديث. كذا قاله البخاري من رواية مسلم عن شعبة وتابعه العبدي ووهيب عنه، وقال وكيع والنضر وأبو داود: عن أبيه، عن جده. كما ذكر مسلم هنا. وأما رواية ابن عباد، فقال الدارقطني: لم يتابع ابن عباد عليه، ولايصح هذا عن عمرو بن دينار، وقد روى عن ابن عيينة(7/209)
عن ابن مسعود، ولايثبت، ولم يخرجه البخاري من حديث عيينة، وهذا مما استدركه الدارقطني على مسلم.
والذي عندي: إنما ذكر مسلم حديث محمد بن عباد ليسشهد به على رواية وكيع لموافقته له في إسناد الحديث، وهذا ومثله يبين أن مسلمًا استوفي في كتابه الاقسام التي أشار إليها، والعلل التي وعد بذكرها، خلاف ماذهب إليه الحاكم أبو عبد الله من تأويله أنه مات قبل أن يؤلف من ذلك إلا الضرب، وقد بينا هذا أولى الكتاب.
وقوله: } } نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء { { ، كذا لفظه في حديث ابن أبي شيبة، وفيه تغيره مش النعلة، وصوابه: } } إلا في ظروف الأدم { { بدليل الحديث قبله: } } نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء { { ، وأنه - عليه السلام - حين نهاهم عن الأوعية أباح أسقية الأدم للغاية التي ذكرناها من أمر خفاء التغيير ؛ لما فيها من شد أعلاها، كما قال: ولايشرب إلا من موكأ لهم ثم أباح - عليه السلام - سائر الظروف مالم يسكر، ولذلك قوله في حديث ابن نمير: } } نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقحِة كلها { { ؛ قيل: فيه تغيير أيضًا، وصوابه: } } فاشربوا في الأوعية أو الظروف كلها { { ؛ إذ كانت الأسقية كلها قبل مباحة كما تقدم، وبدليل قوله في حديث حجاج بعده: } } نهيتكم عن الظروف { { - ?(7/210)
وقوله في حديث ابن أبي شيبة: } } فاشربوا في كل وعاء { { : فالنسخ إذا كان في الأوعية والظروف عن الأسقية، وفيها اختلف الحكم. وأما الأسقية فلم تزل مباحة، وقد ذكر البخاري في حديث عبد الله بن عمرو: لأ نهيتكم عن الأوعية، فقالوا: ليس كل الناس يجد سقاء. وهذا هو الصحيح، وقد ذكره من رواية أخرى عن الأسقية، والصواب الأول. وكان نهى النبي لهم أولاً حيطة لهم على دينهم في أن يوقعهم الانتباذ فيها في شرب المسكر، وعلى أموالهم في أن يفسمد أنبذتهم لسرعة الشدة والإسكار فيها، فلما أعلموه بضرورة بذلك راعى أخف الضررين، وأن منيعتهم بالانتباذ أُخذ من خوف فساد أنبذتهم، وحذرهم من موافقة الحرام المسكر.(7/211)
وقوله:" وكان أوتى جوامع الكلم وخواتمه": المراد بجوامع الكلم هنا: الإيجاز في اللفظ، وجمع المعانى الكثيرة في الألفاظ القليلة، وهو في غير هذا الحديث القرآن، ومعنى خواتمه من هذا، كأنه يختم على المعاني ويضمها لوجيز اللفظ كما يختم الكتاب ويجمعه به. وقوله: } } كل مسكر خمر، وكل خمر حرام { { ، قال الإمام: نتيجة هاتين المقدمتين أن كل مسكر حرام، وقد أراد بعض أهل الأصول أن يمزج هذا بشيء من علم أصحاب المنطق فيقول: إن أهل المنطق، يقولون: لايكون القياس ولاتصح النتيجة إلا بمقدمتين. فقوله: } } كل مسكر خمرأ مقدمة لايبح بانفرادها شيئًا، وهم يسمون اللفظة الأولى من المقدمة موضوعًا، واللفظة الثانية محمولاً ؛ بمعنى أن اللفظة الأولى وضعت لأن تحمل الثانية محمولاً عليها، فيكون المحمول في المقدمة الأولى هو الموضوع في المقدمة الثانية، وتكون النتيجة موضوع المقدمة الأولى ومحمول الثانية، فيصير: كل مسكر حرام. ويجعل أصحاب المنطق هذا أصلاً يسهلون به معرفة النتائج والقياس. وهذا وإن اتفق لهذا الأصولى هاهنا وفي موضع أو موضعين في الشريعة، فإنه لايستمر في سائر أقيستها، ومعظم طرق الأقيسة الفقهية لايسلك فيها هذا المسلك، ولايعرف من هذه الجهة، وذلك أنَّ مئلًا لو عللنا تحريمه كلها التفاضل في البُّرِ بأنه مطعوم، كما قال به الشافعي، لم يقدر أن نعرف هذه العلة إلا ببحث وسير وتقسيم، فإذا عرفناها فللشافعي أن يقول حينئذ: كل سفرجل مطعوم، وكل مطعوم ربوي، فتكون النتيجه: السفرجل ربوي، على حسب ماقلناه من كون النتيجة، موضوع الأولى ومحمول الثانية، ولكن هذا مايفيد الشافعي فائدة؛ لأنه إنما عرف هذا وصحة هذه النتيجة بطريقة أخرى، فلما عرفها من تلك الطريقة أراد أن يضع عبارة يعبر بها عن مذهبه، جاء بها على هذه الصيغة. ولو جاء بها على أي صيغة أراد مما يؤدى عنه مراده لم يكن لهذه الصيغة مزيد علمها، وإنما نبهنا على ذلك لما ألفينا بعض(7/212)
المتأخرين ؛ صنَّف كتابًا أراد أن يرد فيه أصول الفقه لأصول علم المنطق. وقد وقع في بعض طرق مسلم: } } كل مسكر حرام { { : هذا نتيجة تينك المقدمتين من غير أن تذكر، وتانك المقدمتان ذكرتا في طريق أخرى من غير نتيجة، وفي طريق ثالثة: } } كل مسكر خمر وكل مسكر حرام { { ، وهذا ذكر فيه إحدى المقدمتين مع نتيجتهما لو اجتمعتا، وهذا يشعرك بأن الشرع لايلتفت إلى الناحية التي التجأ إليها هذا المتأخر.
قال القاضي عياض: اختلف في هذا الحديث عن نافع في رفعه عن ابن عمر، فرواه أبو الزناد، وعبد الله العمرى، وابن عجلان، وأيوب، والليث، وحماد بن زيد، وموسى بن عقبة، وجماعهَ من الحفاظ مرفوعًا، واختلف فيه عن مالك موقوفًا على عبد الله، والعمري، قد ذكره مسلم وأصحاب الموطأ عن مالك موقوفأ جملى عبد الله بن عمر، ولم يرفعه من أصحاب الموطأ غير معن ؛ ولذلك رواه عنه عبد الملك بن الماجشون مرفوعا. واختلف فيه عن عبدالله بن عمر، فكان مرة يوقفه، وربما قال أحيانًا: لا أعلمه إلا عن النبي - عليه السلام - وكذلك رفعه جماعة عن ابن عمر غير نافع، فيهم أبو سلمة ابن عبد الرحمن وزيد بن أسلم، وعبد الله بن كسار، وسالم، كلهم رفعوه عن ابن عمرو، ورفعه صحيح.(7/213)
وقوله: } } إن على الله عهدًا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال { { ، وفسرها بعرق أهل النار أو عصارة أهل النار. السكر، بفتح السين هنا: الخمر المسكر، وكذا وقع في رواية الطبري: } } المسكرة { { ، وفيه الحديث: } } حرّمت الخمر بعينها، والسكر من غيرها { { ، كذا رواه أحمد بن حنبل: } } والمسكرات كلها من غيرها { { . وقال المفسرون في قوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } } (1) { ؛ أي: خمرًا، قالوا: وذلك قبل تحريم الخمر. قال ابن عرفة: السكر خمر الأعاجم، ويقال لما يسكر: السكر. ومعنى: أن على الله عهدًا: أي ألزم ذلك وأوجبه، وقضى به، والعهد الموثق. وهذا الحديث حجة أيضًا في تحريم الخمر، وأن شرب ذلك من الكبائر؛ لأن ما أوعد الله عليه بالعقاب فهو حرام.
وقوله: } } من شرب الخمر في الدنيا فمات وهو مدمنها لم يتب منها لم يشربها في الآخرة { { : ففي قوله: } } لم يتب { { ؛ دليل أن التوبة تكفر الذنوب على ماتظاهرت به دلائل الشريعة، ولم يختلف أئمة أهل السنَّة. أن قبولها وتكفير الخطايا بها واجب شرعًا، واختلف أئمة المتكلمين من أهل السنة: هل هى مسألة قطعية أو ظنية ؛ فيرجح فها بعضهم، وذهب غيرهم من المعتزلة إلى أن ذلك واجب عقلاً على أصولهم.
__________
(1) } ) الآية (67) من سورة النحل.(7/214)
وقوله: } } حرمها في الآخرة { { : أي أن عاقبه الله بها، وأنفذ عليه وعيده، وأنه بعد العفو عنه أو المعاقبة في النار إن عاقبه الله وأنفذ عليه وعيده، وحينئذ يحرم شربها في الجنة؛ إذ هى من أشربة الجنة، وإن كانت بخلاف خمر الدنيا كما قال تعالى:{ لا فِيهَا غوْل وَلا هُمْ عَنْها يُنزَفُون} } (1) { . قال بعض العلماء: ينساها، وقال غيره: يحتمل ألا يشتهيها، وقيل: بل دليله أنه يحرم الجنة جملة بأنه إن حرم شربها وهو في الجنة، عالم بمنعه لذتها الحقة حزن وغم، والجنة لاحزن فيها ولاغم، وإن كان لم يعلم بذلك ولم يخطر بباله فلا عقوبة في هذا أيضًا. ومعنى هذا عند هذا القائل أن يُحبس عن الجنة ويحرمها مدة ما كما جاء في غير حديث في العقاب: لم يُرْح رائحة الجنة، ولم يدخل الجنة. فيكون عقابه منعه من الالتذاذ تلك المدة، ويكون إما من أصحاب الأعراف وأهل البرزخ، وإما أن يحرم الجنة بالكلية، فليس مذهب أهل السنة في أصحاب الذنوب، ويقول الأولون: لايقول: إن في ذلك كله عليه حسرة، ولايكون بتنسيتها إياه أو ترك شهوتها عقوبة، وإنما هو نقص نعيم ومباينة لغيره ممن تم نعيمه، كما اختلفت درجاتهم ومنازلهم فيها دون نقص ولا غم على أحد منهم، ولا تطلع نفس وحسرة على ما مالت.
وقوله: كان ينبذ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك والليلة التي تجىء والغد والليلة الأخرى والغد إلى العصر، فإن بقي شيء سقاه الخادم، أو أمر به فصبا: فيه جواز شرب النبيذ مادام حلوًا ولم يتغير ولم يغل، وجواز الانتباذ، ولاخلاف في هذا وأنه بعد ثلاث يخشي تغيره ولايؤمن أن تداخله داخلة فتحرّى النبي ملك ذلك بعد ذلك ولم يشربه وسقاه غيره، كراهية ما لعله يوجد فيه من رائحة لا أنه مسكر، إذا لو كان مسكرًا لما سقاه الخادم ولاغيره، كما لم يشربه هو.
__________
(1) } ) الآية (47) من سورة الصافات.(7/215)
وأما قوله:" أو صبه أو أراقه "؛ إذا رأى فيه شبهة التغيير والفساد، وأنكر أخذه وسقيه بعد ثلاث مالم يخش ذلك منه وتحفظ هو عنه تنزها عن تغير رائحته وابتداء فساده، ولايتفق صبه وإراقته وقت جوازه سقيه لغيره لانه من إتلاف المال، هانما الوجهان من سقى الخادم أو غيره أو صبه واراقته بإختلاف الحالين- والله أعلم- والحالة الأولى التي كان يشربها هو فيها قبل تمام الثلاث حيث لاتغير فيه في رائحة ولاطعم ولامغل. وقد ذكر مسلم عن عائشة أنه كان ينتبذ له عشاء فيشربه غدوة، وينتبذ له غدوة فيشربه عشيةإ: وهذا حال فيما انتبذ من النبيذ القليل والذي يفرغ ويشرب من يومه وليلته، والحديث الآخر فيما كثر منه وسقى فلم يتعد بعد ثلاث لما تقدم، وقد يحتمل أن حديث عائشة في زمن الحروب يخفي فساده في الزيادة على يوم وليلة أو تتغير رائحته، وفي حديث ابن عباس في زمن آخر بخلافه مما يؤمن عليه الفساد، وتغيير الريح والطعم إلا بعد ثلاث، والله أعلم.
وقوله:" وله عزلاء ": أي فم أسفل يكون في السقاء.
وقوله:" أوكيه ": أي شد فمه بالوكاء، وهو الخيط الذي يشد به القربة.
وقوله:" فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الطعام أماثته فسقته تخصه بذلك ": يعني ما أنقعت له من تمر، كذا رويناه بالثاء المثلثة في الأولى والمثناة في الثانية. قال الإمام: وقع في بعض النسخ:" أماتتها " بتائين، كل واحدة منهما معجمة باثنتين فوقها. وفي بعض النسخ:" أماثتها " بالثاء المعجمة ثلاثًا أو مابعدها معجمة باثنتين، ومعناه: إذا إذابته. قال ابن السكيت: يقال: ماث الشيء يمثه ويموثه موثًا وموثانًا: أذابه. لكن ابن السكيت، ذكره ثلاثيا، والذي وقع في الحديث هنا رباعيًّا.(7/216)
قال القاضي: الوجهان فيه معروفان ؛ رباعى كما جاء في الحديث، وثلاثى كما قال ابن السكيت. وفسره غيره بمعنى: غركته ولبنته ليستخرج قوته وعسيلته، وهو أحسن عبارة وأولى بالتفسير. وقال الهروى: مثت الشيء أمثه وأمتثه: دقته، وهو بهذا المعنى وقد تقدم تفسيره، وقال آخر في أماث الطعام: لينه، وكله بمعنى.
وقوله:" تخصه بذلك ": أي تخص به النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ لم يكن ذلك الشراب يتسع لكل من حضر الوليمة. فيه جواز خصوص بعض أهل الوليمة والحاضرين بنوع من اللبن والطعام دون الآخرين؛ لأن هذا موكول إلى صاحب الدعوة، لكن مكارم الأخلاق وحسن المروءة توجب اجتناب هذا لئلا يخدش الصدور. ولايعترض على قولنا بما ذكرناه من تخصيص هذا للنبى بكرامتها، فإن الكل كان مسرورًا بتخصيصها إياه، مفضلا له على نفسه أكلف. كذا جاء هذا اللفظ عند مسلم:" تخصه"، وكذا رواه بعض رواة البخاري وعند ابن السكن منهم:" تتحفه بذلك " وهو قريب من " تخصه "، وبمعناه قال ابن دريد: أتحفت الرجل بالشيء إتحافا: إذا أطوقته به أو تخصه به. و " أُجُم بنى ساعدة " بضم الهمزة والجيم، خصه بها. قال أبو عبيد: الأجام: الحصون، واحدها أجم.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للذى دخل عليها ليخطبها واستعاذت منه: } } أعذتك مني { { : يحتمل أنه كافأها فيها بذلك لسوء مابدا له من قلة حرصها وزينتها، ويحتمل أنه فعل ذلك كراهة لها لما تخيل فيها من التكبر والزهو؛ إذا ذكر أنه دخل عليها وهى منكسة رأسها ثم استعاذتها منه،، أو أنها لم تعجبه، مع أن الحديث يدل أنها لم تعرف أنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا لما دعيت له، فهي أعذر في قولها.(7/217)
وفي استيهاب عمر بن عبد العزيز القدح الذي يشرب فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -?وشرب فيه،??فعلاً المسلمين تبركًا به: جواز التبرك بما مسه - صلى الله عليه وسلم - أو شرب فيه، أو كان له سبب، لم يزد المسلمون على استعمال هذا وتعظيم جميع ما كان منه له سبب، والتبرك به والسقى به للمرضى، وسيأتى في الكتاب منه في باب غسل عيادة للمرضى، ومضى منه في اقتسامهم شعره ومافعله - صلى الله عليه وسلم - من إعطائه حقوه لكفن ابنته، وإعطائه القميص لعبد الله بن أبي، وجعله الجريدتين على القبر وغير ذلك، وما استمر به عمل المسلمين من دخول الغار لدخول النبي كلقع فيه، ومن صلاتهم في مصلاه في الروضة ومثل هذا. وقول أنس: لقد سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدحي هذا الشراب كله العسل والنبيذ والماء واللبن: فيه جواز شرب النبيذ والعسل وغيره إذا كان حلوًا، ولاخلاف في هذا.
- - -
وقوله:" مررنا براع وقد عطش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحلبت له كُثبة من لبن "، بضم الكاف: قال بعضهم: هو قدر حلبة. وقال الخليل: هو القليل منه، وكل ماجمعته من شيء فهو كثبة.
وقوله:" شرب منها حتى رضيت ": أي حققت أنه أخذ حاجته وروى، فأرضاني ذلك. وشربه - صلى الله عليه وسلم - من لبن الغنم وربها غير حاضر ؛ إما لأنها العادة عندهم لكل أحد، أو أنه لاقيمة للبن الغنم في الطرق هناك، وإنما هو للرعاة الذين يلون أمرها ويتعيشون به في فلواتهم، وقد تكون الغنم لمن يعلم - صلى الله عليه وسلم - أنه يسره شربه للعجماء.
وقد جاء في مسلم آخر الكتاب: أنها لرجل من أهل المدينة، وهو وَهْم، والصحيح من أهل مكة إن شاء الله، وقد ذكر البخاري فيه من رواية إسرائيل:" لرجل من قريش "، وفي رواية أخرى:" من أهل مكة أو المدينة ".(7/218)
وقد سُئل مالك عن مثل هذا على الجملة فكرهه، وسئل يضًا فيما يشبه في الرجل يدخل الحائط فيجد التمر ساقطًا، فمنعه إلا أن يعلم أن نفس صاحبه تطيب بذلك، أو يكون محتاجًا. وقد تقدم الكلام على هذه المسألة، وهل يغرم المضطر ؟ ومن أباح ذلك ومنعه قيل آخر الأقضية.
وقوله:" أتى ليلة الإسراء بقدح من خمر ولبن فأخذ اللبن، فقال جبريل له: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك،: قيل في قوله لأخذه اللبن: هداك للفطرة؛ لأن اللبن أول مايتغذاه الصبي، وأصل الفطرة: الابتداء، فاستدل من ذلك على الجبلة التي خلق الله عليها بنى آدم في صلب أبيهم من الاسلام، كما قال - صلى الله عليه وسلم - - ? } } كل مولود يولد على الفطرة { { ، وقد يحتمل أنها علامات وصفها الله لجبريل ليعلم بظاهرها ما قسمه الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولأمته من الهداية، ويحتمل أنه لما كان اللبن غذاء الأجام ومصلحة لهم مجردة عن المضار غالبا في دنياهم، دل أخذه له على توفيقه، وسداد أمته لما فيه مصلحتهم في أحوالهم وهدايتهم لذلك. ولما كانت الخمر تذهب العقول وتثير الفحشاء والعداوة والبغضاء، دل على خلاف ذلك.
وقوله:" غويت وغويت أمتك ": أي ملت عن الخير والاستقامة والغى والانهماك في الشر. وفيه حجه على تحريم الخمر؛ لأن ماهو سبب للغى والفساد محرم، وبهذا وضعها الله وعللى تحريمها في الآية.(7/219)
وقوله:" أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدح من النقيع ": كذا روينا هذا الحرف عن أبي بحر بالباء بواحدة، وعن غيره من شيوخنا بالنون. واختلف فيه الرواة- أيضًا- عن البخاري، قال أبو ذر والقابسى هنا بالنون، وكذا ذكره الهروي في هذا الحديث. وهو حد وادي العقيق على عشرين فرسخًا من المدينة، وهو موضع حمى عمر لنعم الصدقة. وقد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حماه قبل، وإنما زاد عمر في حماه. وضبطه أبو عبيد السكري بالباء وصححه، ولم يذكر خلافًا. والأشهر فيه النون، وبالنون ذكر الخطابي، وقال: البقيع: القاع، وقال السكري: البقيع: قاع ينبت، وأصله كل موضع يستنقع فيه الماء، وأما بقيع الغرقد- وهو مدفن موتى المدينة- بالتاء بغير خلاف. وبقيع بطحان بالباء أيضًا. قال الخليل: البقيع، بالباء: كل موضع من الأرض فيه شجر شتى.
وقوله:" ليس مخمرًا "، فقال:" ألا خمرته "؛ أي: غير مغطى، وتخمير الإناء: تغطيته.(7/220)
وقوله: } } ولو تعرض عليه عودًا { { بضم الراء: أي تمده. عليه عرضًا، يريد عند عدم مايغطيه به، كما قال في الحديث الآخر: } } إن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودًا، ويذكر اسم الله { { ، كذا رويناه بضم الراء، وكذا قاله الأصمعى، ورواه أبو عبيد بكسر الباء الموحدة، والراء، والوجه الأول؛ لأنه من جعله بالعرض الذي هو خلاف الطول، أما ماخصه على تغطيته بكل حال فإنه أنظف؛ مخافة مايسقط فيه. وأما أمره به بذلك بالليل فقد بين العلة فيه من أجل ولوغ الشيطان فيه، أو أذاه بما يقدر عليه بقوله: } } فإن الشيطان لايكشف إناء { { وقد أعلم - عليه السلام - أنه إذا اجتهد العبد فيما أمر به من ذلك وسمى اسم الله على كل ذلك جاء في الحديث الآخر:" كفاه الله الشيطان "، ولم يجعل له قدرة على كشف غطاء ولا حل سقاء ولا فتح باب، ولايصل إليه إذا أخذ في ذلك، ولا ينال بها في هذه الأشياء شيئًا، ولو لم يحجبها إلا بعود وذكر اسم الله، وكما منعه المبيت إذا سمى عند دخوله منزله كما جاء في الحديث الآخر، وكما منعه أن يجول بين المصلى وقبلته إذا دنى من سترته وامتثل في كل ما أمر به حدود الشرع ولم يتعدها، وللعلة الأخرى التي ذكرها في الحديث الآخر من نزول الوباء في ليلة من السماء فيما لم يغط. قال الليث بن سعد: والأعاجم يتقون ذلك في كانون الأول. وأيضًا فمخافة ماعساه يدخله من الهوام والحشرات المؤذية إذا لم يغط، ولعل صاحبه يقوم إليه من الليل فيشرب منه ولايعلم ما فيه.
ومعنى قوله:" وأوكوا السقاء ": أي شدوا فمه بالوكاء، وهو الخيط الذي يشد به ويربط، وعلى أن ذلك بالليل حمل أبو عبيد في الكتاب الأمر بتغطية الإناء في الباب كله. والفويسقة هنا الفأرة، وقد جاء أيضًا في حديث ابن عباس أنه من فعل الشيطان، وأنه - عليه السلام - قال: } } إن الشيطان يدلها على ذلك فتحرقكم { { -(7/221)
وذكر مسلم في الباب: حدثنا عمرو الناقد، حدثنا هشام بن القاسم، حدثنا الليث ابن سعد، حدثنا يزيد بن عبد الله عن يحيَى بن سعيد عن جعفر بن عبد الله، قال الإمام: هكذا إسناده عن الرازي والكسائي، وفي النسخة المقروءة، على الجلودى: حدثني يزيد بن عبد الله ويحيى بن سعيد بواو العطف، وكذلك عند ابن ماهان، والمحفوظ في هذا الإسناد: عن يزيد عن يحيى، وهكذا أخرجه أبو مسعود الدمشقى عن مسلم.
وقوله: } } إذا أجنح الليل { { : أي أقبل ظلامه. وأصل الجنوح: الميل، والجنح والجُنح الظلام،، بالضم والكسر. وقوله: " لاترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت أ الشمس، يذهب فحمة العشاء، قال الإمام: فحمة العشاء: سواده، والفواشى: البهائم، كذا فسره بعض الناس.
قال القاضي: أصله كل مافشى وانتشر من المال، يقال: أفشى الرجل: إذا كثرت فواشيه من الإبل والغنم السائمة وغيرها. قال ابن الأعرابي يقال: أفشى وأمشى وأوشى بمعنى واحد؛ إذا كثرت فواشيها، وقد علل نهيه عن ذلك بانتشار الشياطين حتى تذهب؛ لئلا يصيبها منها ضرر أو روع.
كتاب الأطعمة والأشربة
وقوله:" كنا إذا حضرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعامًا لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيضع يده "، قال القاضي: هذا من أدب الأكل ألا يتقدم الكبير والفاضل أوالمعظم،، لا في غسل اليد ولا في ابتداء الطعام ولا الشراب، إلا أن يؤاكلهم صاحب الطعام. فقد استحبوا أن يكون هو البادئ للحاضرين بالغسل والأكل لتنشيطهم بذلك، وبعكسه في رفع اليد وغسلها عند انتهاء الطعام ؛ لئلا يظهر منه، بالبداية حرصه على رفع أيديهم.(7/222)
وقوله:" فجاءت جارية كأنها تدفع "، وفي الرواية الأخرى:" كأنما يُطرد "؛ أي لشدة إسراعها فذهبت لتضع يدها في الطعام، وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدها. وذُكر عن أعرابي نحوه. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - - ? } } إن الشيطان يستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه، وأنه جاء بهذه الجارية ليستحل بهاء الحديث: فيه أن التسمية مشروعة في أول الطعام والشراب، مع ما جاء في الحديث الآخر: } } سم الله، وكل مما يليك { { ، كما أن الحمد مشروع في أخره كما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله: } } إن الشيطان كان يستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه { { ، يحتمل أن يكون على ظاهره، وأنه يصيب منه إذا لم يسم عليه، ويحتمل أن يكون استحلاله له استحسانه له لرفع البركة منه إذا لم يسمّ عليه الله، وهذا مثل الحديث الآخر: إذا دخل الرجل بيته فذكر اسم الله عند دخوله وطعامه، قال الشيطان: } } لا مبيت لكم ولا عشاء { { - ?(7/223)
وقد اختلف في معنى ما جاء في الآثار من أكل الشيطان وشربه، فجعله الأكثر من أصحاب الحديث والفقهاء وغيرهم على الحقيقة؛ إذ قد جاء بذلك آثار كثيرة متظاهرة، وليس ثم ما يحيله ويمنعه، ولا للأقيسة والعقول فيها مجال. وهم وإن كان ليس منهم أجام لطيفة روحانية، فلا يبعد أن يكون لهم ببعض الأغذية إلام من لطيف لرطوبتها أو روايحها، فقد جاء في الحديث: } } من بات وفي يده غمر فأصابه شيء، فلا يلومن إلا نفسه، فقد قيل: وقد يكون له طعام يختص به من الأنجاس والأقذار، ويشارك الناس فيما نبهت الآثار عليه من الروائح والطعام والأرواث، وما لم يذكر اسم الله عليه وبات غير مغطى، وما أكل بالشمال، ونحوه. وقيل: بل هذا كله على الاستعارة والمجاز، وأن معنى ذلك أنه من أمر الشيطان وموافقته وإغوائه ؛ ليبعد فاعله عن امتثال السنة، ومخالفة أمر النبي - عليه السلام - ونهيه، وليضر المسلمين من ذلك بما عليه من رفع بركة طعامهم بترك التسمية عليه، والمخالفة للسنة. وقد قيل: إن أكلهم شئمُ واسترواح؛ إذ المضغ والبلع لذوات الأجسام والأمعاء وآلات الأكل، وقد جاء في الآثار: أن منهم ذوات أجسام وجنان، ومنهم جنان البيوت، ومثل هذا يتهيأ منه الأكل والشرب المعلوم، هان كانت تلك جميع خليقتهم الأصلية، أو في الوقت الذي يصورهم الله فيها بتلك الصورة والله أعلم. وروى عن وهب بن منبه قال: هم أجناس: فخالص الجن لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون، هم ريح، ومنهم أجناس يأكلون ويشربون ويتناكحون ويتوالدون، ومنهم السعالى والغيلان والقبطارية.(7/224)
وقوله: } } إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء { { : مما تقدم الكلام عليه، وأن يذكر اسم الله واستعمال العبد ما ندب إليه منه فى مواطنه منع الشيطان من الاستفذار واصل من عشائه، ولم يجعل له قدرة عليه إذا جعل الحديث على وجهه وظاهره، لمان صرف إلى المجاز كان معناه: أى لا منفعة لكم بالمبيت؛ إذ كفاه الله بذكره إغوائكم له وضركم إياه، ومنعه رغبتكم من نقص طعامه ورفع البركة منه، وقلة الانتفاع به بمعاقبة الله إياه بذلك؛ إذ لم يسمه ولا امسّل أمر الله فى ذلك.
وقوله: } } والذى نفسى بيده ! إن يده فى يدي مع يدها { { : ظاهره مباشرة الشيطان الاكل بنفسه ويده على أحد التأويلين المتقدمين، وكذا فى النسخ: " مع يدها "، قالوا الوجه مع أيديهما ؛ لأنه ذكر فى الحديث أخذه بيد الجارية والأعرابي.
وقوله: } } ثم ذكر اسم الله عليه وأكل { { : فيه أن التسمية مشروعة عند ابتداء الطعام، كما شرع الحمد آخره، واستحب بعضهم ذلك فى كل لقمة يأكلها.
وأمره - صلى الله عليه وسلم - بالأكل والشرب باليمين ونهيه عن ذلك بالشمال، وزاد في حديث نافع: } } ولا يعطى بها، ولا يأخذ بها { { على ما تظاهرت به سنته - صلى الله عليه وسلم - من أمره بذلك في غير شيء، وحبه التيامن في أمره كله، ولما في اللفظة من اليُمن، ولثناء الله على أصحاب اليمين، واختصاصه أصحاب اليمين باليمين ؛ لأخذهم كتبهم بذلك، ولكونهم عن يمين العرش وتشريفهم بذلك، وتفضيل اليمين في قوتها وبطشها، إضافة العرب كل خير لها، وضد ذلك لضدها، وتسميتهم إياها شؤمًا، وقد قال الله في أصحاب الشمال:{ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَة } } (1) { ، وقال الشاعر:
أبينى أفي يمينى يديك جعلتني ……فأفرح أو صيرتني في شمالِك
وليتناول إزالة الأقذار من الجسم وغيره بالشمال.
__________
(1) } ) الآية (9) من سورة الواقعة.(7/225)
وقوله: } } فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله { { . كمثل أكله هو على الحقيقة، أو أنه على ما تقدم على المجاز. فإن قيل: إنه حقيقة فنهى عن التشبه في مخالفته ومضادته الاستقامة في أموره، وقد تكون الهاء هنا فيأ شمالهأ عائدة على الشارب والطاعم؛ أي: يأكل بها الشنيطان معه. أو يكون على المجاز؛ أي: ذلك من محبة الشيطان ونزغه حتى خالف سنة نبيه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - للذي أكل عنده بشماله فقال: } } كل بيمينك { { ، فقال: لا أستطيع، فقال: } } لا استطعت - قال-: ما منعه إلا الكبر { { فما أكل بها بعد: فيه إجابة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعجيل معاقبة من خالف أمره في الدنيا، وهذا يدل على أن الرجل كان منافقًا - والله أعلم- لقوله: } } ما منعه إلا الكبر { { ؛ أي لن يتواضع بنفسه مخالفة هواها، وطاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما أمر به، ولهذا استحباب النبي - صلى الله عليه وسلم - الرعاء عليه، ولو علم أن قوله: " لا أستطبع " صحيحًا لما دعا عليه. وقد أجاز العلماء لمن به عذر بيمينه أكله بشماله وشربه به ؛ إذ هو غاية مقدوره. وقد ذكره العلماء تباعًا لهذه الأحاديث كما تحب لمناوله بالشمال والصدقة بها. روى ذلك عن نافع وعطاء.
وقوله: " كنت في حجر رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - " بفتح الحاء: أي في حضانته، هذا إذا أريد به المصدر، وبالكسر إذا أريد به الاسم.(7/226)
وقوله:" فكانت يدي تطيش في الصحفة ": أي تحف في جوانبها، وتفسيره قوله في الرواية الأخرى:" فجعلت أكل من لحم حول الصحفة"، وفي البخاري:" من نواحي الصحفة "؛ كذا رواية جميعهم، وللهوزني: "تبطش " وليس بشيء، والأول المعروف. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - - } } يا غلام ! سمّ الله، وكُل بيمينك، وكُل مما يليك { { ؛ فيه ثلاثة سنن في أدب الطعام مشهورة، مضى الكلام على اثنتين منها، والثالث قوله: } } كل مما يليك { { . وهى أيضًا سنة متفق عليها؛ لأن كل كل جاء ما يليه من الطعام فإدخال غيره يده عليه وتركه ما أمامه قبيح، ومشاركته له فيما فيه حوزة بغير إذنه، مع ما في ذلك من تقزز النفوس بما خاضت فيه الأيدي، واختلف فيه أصابع الغير، وليس كل أحد يستحسن ذلك منهم لاسيما في الطعام الرطب والأمراق وأشباهها ؛ ولما فيه من الجشع والحرص على الطعام، وإيثار النفس على المؤاكل، وكل هذا مذموم ؛ ولأنه إذا كان نوعًا واحدًا فلا فائدة في ذلك إلا سوء الأدب وشرههم بذلك، بخلاف إذا اختلف أجناس الطعام، فقد أباح العلماء اختلاف الأيدى في الطبق والصحفة وشبهها لطلب كل نفس ما تشتهه من ذلك، بخلاف إذا كان جنسًا واحدا.
وقوله:" نهى - صلى الله عليه وسلم - عن اختناث الأسقية "، قال الإمام: أصل هذه الكلمة من التكسر والتثني واللين، ومنه سمى الرجل المشبه بالنساء?في طبعه وكلامه مخنثًا ؛ لتكسره ولين معاطفة، ويحتمل أن يكون نهى عنها لئلا ينال الشارب أذىً مما يكون في الماء ولا يشعر به؛ لأنه يشرب مالا يبصر، أو يكون ذلك لأنه يغير رائحة السقاء بما يكتسبه نكهة الشارب.(7/227)
قال القاضي: فسره الحديث نفسه قال:" واختناثها أن يُقَلَبَ برأسها ثم يشرب منه ". قال ابن دريد اختناث الأسقية: كسر أفواهها إلى خارج ليشرب منها، فأما كسرها إلى داخل فهوى. والنهي عن هذا الباب كله، والأمر به عند العلماء من باب الأدب والترغيب لا من باب الواجب والغرض، وقد قيل في النهي عن اختناث الأسقية والشرب من فم السقاء: أنه للتقذر أيضًا، لإدخالها في فيه أو إدخال شفتيه فيها، أو لما يخشى من وقوع بصاقه فيها، أو غيره. أ وفي النهي عن اختناث الأسقية، قيل: قد يكون للتقذر أيضًا؟ مخالفة ما يكون برأسها، وما تطويه من خارجه من قذر، فينعكس عند جلبه في الماء فيقذره.
وقد روى عن أبي سعيد: رجلاً شرب من في سقاء فانساب جان في بطنه، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اختناث الأسقية، ذكره ابن أبي شيبة من رواية الزهرى.
وقد خرَّج الزبيري وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام إلي قربة فخنثها وشرب من فيها، فهذا يدل على وجه التعلل بالتقذر ؛ إذ لا يتقذر منه - عليه السلام - شيء، ولأنه في قربة نفسه.(7/228)
وذكر مسلم الأحاديث في نهيه - عليه السلام - عن الشرب قائمًا، قيل فالأكل، قال: } } أشْرُّ أو أخبث { { ، وفي الحديث الآخر: } } فمن نسي فليستقئ { { ، وذكر مسلم حديث ابن عباس: } } سقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - من زمزم فشرب وهو قائم { { ، قال الإمام: اختلف الناس في الشرب قائمًا، فأجازه عمر وعثمان وعلي وجمهور الفقهاء - رضي الله عنهم - ومالك بن أنس، وكرهه آخرون لهذا الحديث المذكور في كتاب مسلم، وحجة الجمهور قوله هاهنا: " شرب من زمزم وهو قائم "، وما خرّجه البخاري والترمذي وأبو داود عن علي - رضي الله عنه - أنه شرب قائمًا وقال:" إن ناسا يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم، وإنى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كما رأيتموني فعلت ". وقد قال بعض شيوخنا: لعل النهي منصرف لمن أتى أصحابه بماء ورده ليشربه قائمًا قبلهم، استبدادًا به، وخروجًا عن الأحسن من كون ساقي القوم آخرهم شربًا، وأيضًا فإن في حديث أبي هريرة: } } ومن شرب فليستقئ { { . ولا خلاف من أهل العلم أن من يشرب قائمًا ناسيًا فليس عليه أن يستقئ. قال بعض الشيوخ: والأظهر أن هذا موقوف على أبي هريرة، ولا خلاف في جواز الأكل قائمًا وإن كان قتادة قال: فقلنا: فالأكل، قال: } } ذلك أشر وأخبث { { ، لكن حكى بعض شيوخنا أنه لا خلاف في جواز الأكل، والذي يظهر لى أن الأحاديث الواردة بشربه - صلى الله عليه وسلم - قائمًا تدل على الإباحة والجواز، إن قلنا بتعدى أفعاله، ويحمل حديث النهي على جهة الاستحسان والحث على ما هو أولى وأجل، أن يكون لأن في الشرب قائمًا ضررًا ما، فكره من أجله وفعله - صلى الله عليه وسلم - لأمته منه. وعلى هذا التأويل يكون قوله محمله على أن ذلك حرك منه خلطًا يكون السقاء منه في فيه، وقد قال النخعي في النهي عنأ ذلك: إنما ذلك لداء في البطن، هذا نحو ما قلناه. هذا الأظهر عندي إن كان لابدمن بناء الحديثين.(7/229)
قال القاضي: لم يدخل مالك في موطئه، ولا البخاري في صحيحه أحاديث النهي عن الشرب قائمًا، فأدخلا إباحة ذلك من الأحاديث والآثار إذا لم يصح عندهم النهي عن ذلك، والله أعلم.
وذكر مسلم في الباب ثلاثة أحاديث: حديث قتادة عن أنه وهو معنعن،?وكان شعبة يتقي من حديث قتادة من لا يقول فيه: حدثنا، وحديث قتادة- أيضًا- عن أبي عيسى الأسواري عن أبي سعيد مثله، وأبو عيسى- أيضًا- هو غير مشهور، واضطراب قتادة في سند هذا الحديث مما يعلله في مخالفة الأحاديث الأخر وأئمة الصحابة والخلفاء والتابعين. وحديث عمر بن حمزة لا يحتمل مثل هذا الحديث لمخالفة غيره عن أبي غطفان عن أبي هريرة، قالوا: وعمر بن حمزة لا يتحمل مثل هذا الحديث لمخالفة غيره له، والصحيح أنه موقوف على أبي هريرة.
وشرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم لا يقال فيه: ترك ما هو الأولى لعلة إنما كان في الحج، والله أعلم. على ماجاء في كتاب الحج. وحاله حينئذ من ألا يخفي في أعمال الحج وقلة التمكن للجلوس لكثرة الناس، بحيث لا يخفي أولا يراه الناس فيعلموا أنه غير صائم، وإن كان في غير هذا اليوم فليس إباحة ذلك، إن كان النهي أولاً على ما تقدم، ولئلا يظن نهيه على العموم وللوجوب، أوليبين نسخ ذلك إن كان النهي أولا على الوجوب.
وقوله: } } أشر وأخبث { { : قد تقدم مثل هذا في الحديث:" من أشر وأخير "، وإيجاز النحاة مثل هذا، وأن وجهه خير وشر، ولا يقال فيه: أفعل، قال الله تعالى:{ شَرٌّ مكَانًا } } (1) { ، { خَيْر عِندَ رَبكَ ثَوَابًا } } (2) { -
__________
(1) } ) الآية (60) من سورة المائدة.
(2) } ) الآية (77) من سورة مريم، و (34) الفرقان.(7/230)
وقوله في شرب النبي - صلى الله عليه وسلم - من زمزم: " فشرب قائمًا واستسقى " هو كذا ؛ أي: سألهم أن يسقوه، كما جاء مفسرًا في حديث الحج، وفي رواية ابن الحذاء:" وأسقى " من الإسقاء، وهو غلط، بل قد نص أنه لم يفعله، وقال: } } لولا أن يغلبوا عليه لأسقيت معكم { { -
وقوله:" كان - صلى الله عليه وسلم - يتنفس في الإناء ثلاثًا "، وفي الرواية الأخرى:" في الشراب "، ويقال: } } إنه أروى وأبرأ وأمرأ { { . الأول مقصور والآخران ممدودان مهموزان، ومعنى: أروى من الرى؛ أي: أكثر ريًّا ؛ لأنه في شربه في مدة واحدة قد يقطع عليه تمام نفسه دره فلا يستوفيه، و" أبرأ وأمرأ " بمعنى: أحسن شربًا وأهنأه وأقله ضررًا، قال الله تعالى:{ هَنِيئًا مَرِيئًا } } (1) { ؛ أي: سائغًا غير منغض. يقال: هنأ في الطعام وهنأني بالفتح والكسر، هنأ وهنأ يهنأ، وأصله في كل ما أتاك بغير مشقة، ويقال: استمريت الطعام: إذا انساغ لك، وهو إذا شرب في مرة بنفس واحد فقد بعّض به وسوف ويكثر عنه فيضرّ به ويولد أدواء. ومعنى قوله هنا في الحديث الواحد:" في الإناء " يفسره قوله في الحديث الآخر:" في الشراب"؛ يعني أن يتنفس حين شربه ويقطعه، لا أنه يتنفس داخل الإناء، وقيل: "في الإناء " هنا بمعنى: عن الإناء بمعنى قوله:" أبن القدح عن فيك". وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في مسلم وغيره عن النهي في التنفس فيه، وعن النفخ في الطعام والشراب، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: } } أبن لقدح عن فيك ثم تنفس { { ؛ وعلة ذلك إما للتقزز أو التقذر، مما لعله يخرج عند التنفس والنفخ، من أنفه أو فيه من ماء أو غيره، أو لما يكتسب الإناء من بخر ورائحة قبيحة بالنفس، أو لما لعله يكون متغير النكهة فيتعلق ذلك بالإناء وبفيه. وقال عمر بن عبد العزيز: إنما نهى عن التنفس في الإناء، فأما إذا لم يتنفس فاشرب إن شئت بنفس واحد. وقد حمل بعضهم تنفسه - صلى
__________
(1) } ) الآية (4) من سورة النساء.(7/231)
الله عليه وسلم - في الإناء على ظاهره ليرى جواز ذلك، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتقذر أحد بسؤره، ولا ولاماتنفس فيه، بل كانوا يتبركون به، كما أمر بالأكل مما يلي وكان هو يتبع الدبى من حول القصعة ؛ لعلمه أنه كان يستحسن ذلك منه، بخلاف غيره، كما سنذكره بعد إن شاء الله. وقال بعض العلماء: هذا في أ غير، حق الشارب وأما الإنسان ومع من يعلم أنه لا يتقذره فلا بأس بتنفسه في الإناء، كما فعل - صلى الله عليه وسلم -.
قال الإمام: مذهبنا جواز الشرب في نفس واحد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - للذي شكى إليه أنه لا يروى من نفس واحد: } } أبن القدح عن فيك، ثم تنفس { { ، فظاهره أنه أباح له الشرب في نفس واحد إذا كان يروى منه. وقد استحب بعض العلماء الحديث الوارد في مسلم في التنفس ثلاثًا.
قال القاضي: اختلف السلف في الأخذ بظواهر هذه الأحاديث، فكره بعضهم الشرب من نفس واحد، منهم: ابن عباس، وطاووس، وعكرمة، وقالوا: هو شرب الشيطان. وأباحه جماعة منهم ابن المسيب، وعطاء بن ابى رباح، وعمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس، وقد ذكرنا مذهب عمر بن عبد العزيز في الجمع بين الحديثين.
قال الإمام: ذكر مسلم في الباب: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا الثقفي، عن أيوب، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قئادة، عن أبيه. قال بعضهم: هكذا روى إسناده مجردًا في النسخة عن الجلودي، وفي رواية السجزي فيه وهم، قال: عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله، عن أبي قتادة، وليى هذا بشيء، وإنما هو عبد الله ابن أبي قتادة عن أبيه. واتفق الرازي مع الكسائي وابن ماهان على الصواب.(7/232)
قال القاضي: وذكر مسلم في الباب في سند حديث يحيى بن يحيى: أنبأنا عبد الوارث، عن أبي عصام. كذا لكافتهم،?وعند الهوزني: عن أبي عاصم. ولم يختلفوا في حديث قتيبة عن أبي عاصم، وهذا هو الصواب. قال البخاري: أبو عصام عن أنس روى عنه الدستوائي وعبد الوارث، وقال أبو عبد الله بن البيع، أبو عصام عن أنس أخرى له مسلم.
قوله:" أتى بلبن قد شيب بماء، وعن يمينه أعرابى، وعن يساره أبو بكر، فشرب ثم أعطى الأعرابي، وقال: الأيمن فالأيمن "، وفي الحديث الآخر: فقال عمر: هذا أبو بكر يارسول الله، يريه إياه، وأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأعرابي وترك أبا بكر وعمر، وقال: } } الأيمنون { { ??ثلاثًا. قال أنس: فهى سنة، وفي الحديث الآخر: عن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: } } أتأذن لي أن أعطى هؤلاء ؟ { { فقال: لا والله، لا أوثر بنصيبي منك أحدًا، فتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يده: قيل: إنما استأذن الغلام ولم يستأذن الأعرابي استئلافًا للأعرابي وحذر الحماسة من استئذانه في صرفه عنه لأصحابه، وقرب عهده بأنفة الجاهلية واستأذن الغلام- وهو ابن عباس- ثقة منه بطيب نفسه باستئذانه بدفعه للأشياخ والكبراء من آله وقومه، وفي بعض الروايات: } } عمك وابن عمك أتأذن لي أن أعطيه؟ { { يعني: خالد بن الوليد، ولحمله عليه، دلاله لقرباه منه وصغر سنه، واستئلاف الأشياخ أيضًا بهذا الاستئذان من تعريف الحكم في ذلك، بأنه لا يصرف عنه إلا بإذنه لمن لم يكن علمه منهم، فشح ابن عباس على نصيبه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفضل شرابه وبركته لا على نصيبه من المشروب، وقد يكون لم يستأذن الأعرابي للعادة عندهم في جرى الشراب عندهم عن اليمين، كما قال:
صددت الكأس عنا أم عمرو ……وكأن الكأس مجراها اليمينا(7/233)
فلو استأذنه لظن به غضاضة منه، وتقصيرًا في حقه مع أنفة الجاهلية، وجفاء الأعرابي، لاسيما قد بدا من عمر - رضي الله عنه - قبل ذلك،??ما بدا له من قوله: أعطه أبا بكر يا رسول الله، فإنه هو يدفعه إليه دون استئذانه. وفيه أن مثل هذا من الحقوق إذا تميزت لأحد أن صاحب الحق أولى به، لا يلتفت في ذلك إلى الأسن، ولا الأفضل. كصاحب الدابة أولى بمقدمها، وإمامة صاحب الدار، وإنما يراعى الترجيح بالفضائل والمزايا مع استواء الأقدام في ذلك الحق، وترك السبق إليه، كالبداية بالشرب، وغسل اليد، وبالشهادة، والتقديم للصلاة، وغير ذلك.
قال الإمام: هذا مطابق لأصرل الشرع من استحباب التيامن، فإن عورض هذا بما وقع في الحديث الآخر من تقدمه الأبر، قلنا: هذا مع تساوى الأحوال فيرجح بالسن، وهكذا الرواية عند استحباب التيامن في الشهادات المثبتة في الكتاب وفي الوضوْء، وغيره تقدم الأيمن.
وشوب اللبن بالماء لشربه يجوز، وشوبه لبيعه لا يجوز؛ لأنه تدليس. ومعنى " شيب بماء ": أي خلط بماء.
وقوله:" فتله في يده ": قال ابن الأنباري في قوله - صلى الله عليه وسلم - - } } بينا أنا نائم أتت بمفاتيح خزائن الأرض فتلت في يدي { { ؛ معناه: ألقيت في يدي، يقال: تللت الرجل: إذا ألقيته، وقال ابن الأعرابي،: معناه: فصبت في يدي، والتل الصب، يقال: تل يتل: إذا صب، وتل تيل بكسر التاء: إذا سقط، وقوله تعالى:{ وَتَلَّهُ لِلْجَبِين } } (1) { ؛ أي صرعه، والتل: الدفع والصرع، قاله غير ابن الأعرابي. قال القاضي وذكر في حديث الغلام والأشياخ في حديث ابن أبي شيبة مفسرًا: أن الغلام: عبد الله بن عباس الذي عن يساره، والأشياخ: خالد بن الوليد. يريد أقربهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - - ?
__________
(1) } ) الآية (103) من سورة الصافات.(7/234)
قال: المهلب: التيامن في الأكل والشرب وجميع الأشياء من السنن. قال غيره: وما روح عن مالك أن ذلك في الشراب خاصة لم يقل غيره، وفي حديث عائشة:" أنه كان يحب التيامن في أمره كله "؛ يقضي عليه ويعم كل شيء. قال أبو عمر: ولا يصح ما روى نى ذلك عن مالك مما ظاهره خلافه.
قال القاضي: يشبه أن يكون قول مالك: إن ذلك في الشرب خاصة، يعني أن فيلأ لم جاءت السنة مثبتة بتقديم الأيمن فالأيمن، وغير ذلك إنما هو بالاجتهاد، والقياس عليه، وأن حديث التيامن في غير ذلك، والبداية باليمنِن إنما جاءت في فعل الإنسان بنفسه وتقديمه مِمينه من أعضائه في أعماله على شماله. ص وفي الحديث من الفقه: شرب اللبن المشوب بالماء، وانما يشابه ليبرد أو ليكثر إن كان قليلاً، وأنه ليس من باب الخليطين؛ إذ ليس كل واحد ينبذ بنفسه، وإنما الخليطان في النبيذين أو فيما يكون منهما ينبذ، وفيه مشاركة المهدى له من حضر؛ أي: فيما أيكون، قصد به من هدية وإكرام، وقبول الأفاضل ذلك واستعمالهم ممن يعرف صحة قصده في ذلك، ومناولة الفضلاء، وتواضع الأجلاء ومجالستهم الضعفاء والأعراب وأهل البوادي، أبيض إلى مجلس كان أولى به، وإن جاء من هو أفضل منه أن يعرف له قدره، ويوسع له أو يجلسه مكانه، على ماجاء في الحديث، وسيأتى الكلام على هذا إن شاء الله وقد يحتمل أن بكون هذا الأعرابي من زعماء القبائل الذين كانوا يتسابقون على الإسلام ؛ فلذلك أيضًا تمكن من النبي - صلى الله عليه وسلم - وجلس منه هذا المجلس، ولم يسبقه أحد إليه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - - ? } } ليليني منكم أولو الأحلام والنهى { { . قال بعضهم: وفيه دليل على أن من قدم إليه شيء مما يأكله أو يشربه، ولم يعرف هو مكسب مقدمه، أنه لا يلزمه السؤال من حيث كان لما لم يسأل هذا وهذا لا حجة في ظاهره دان كان صحيح المعنى؛ لأنه قد فسر في حديث أنس أنه حلبه من شاة لهم وشاة بما من يبدأهم والأظهر أن تلك بمرائى من النبي -(7/235)
صلى الله عليه وسلم - - ??????
وأمره - صلى الله عليه وسلم - بلعق الأصابع، ولعقه إياها، وأمره ألاَّ يمسح يده بالمنديل حتى يفعل ذلك من بدء الطعام، وأنه لا يتهاون بقليله ولا كثيره، وكذلك أمره بسلت الصحفة ولعقها وهما بمعنى، ومن مروءة البدء وتنظيفها إن لم يكن الغسل واللعق وذهاب وضر الطعام وبقيته عنها، مع ما جاء في ذلك في الحديث من قوله: } } فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة { { ، ومعنى ذلك- والله أعلم- زيادة التغذية وكفاية التقليل منه والتقوى به. وأصل البركة: الزيادة والاتساع في الشيء، ويكون بمعنى الثبات واللزوم.
وقوله:" كان يأكل بثلاثة أصابع ": هو من أدب الأكل وسننه ومن المروءة؛ لأن الأكل بأكثر منها إنما هو من الجشع وسوء الأدب فيه وتكثير اللقم، وذلك من غير آدابه ومستحسناته، ولأنه غير مضطر، لاكثر من ثلاث لجمع لقمته وإمساكها من جهاتها، إلا أن يضطر إلى غير ذلك لخفة الطعام، وعدم تلفيفه بالثلاث فيدعمه بالرابعة. وفيه جواز مسح اليد بعد الطعام بالمنديل وهذا- والله أعلم- فيما لم يحتج فيه لغسل مما ليس فيه غمر ولزوجة مما لابد منه إلا الغسل، فقد جاء في الحديث في الترغيب في غسله أو الحذر من تركه، فذكر أبو داود في مصنفه، والترمذي وغيره من رواية أبي هريرة: } } من نام وفي يده غمر ولم يغسله فأصابه شيء، فلا يلومن إلا نفسه { { ، وسئل مالك عن هذا الحديث فلم يعرفه، وقال الترمذي فيه: حديث حسن غريب. وقد ذكر أصحاب المصنفات من حديث سلمان عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: } } بركة الطعام الوضوء قبله وبعده { { ، قال أبو عيسى: ولا نعلمه إلا من حديث قيس بن الربيع وهو ضعيف. وقد ذكروا حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قُرب إليه طعام، فقيل له: ألا نأتيك بوضوء ؟ فقال: } } إنمّا أمرت بالوضوء إذا أقيمت الصلاة { { - ?(7/236)
وكان سفيان ومالك والليث يكرهون الوضوء قبل الطعام، وقال مالك: هو من فعل الأعاجم، وحكى الدراوردي كراهة مالك له أيضًا بعد الطعام، وكان الليث يراه بعد الطعام، ولعل مالكًا إنما كرهه فيما لا معنى له لمن يده طاهرة، ومن طعام لا دسم فيه ولا دهونة، وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بالمضمضة من اللبن وقال: } } إن له دسمًا { { -
وقوله: } } إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها، فليمط ما كان بها من أذى، وليأكلها ولا يدعها للشيطان { { : أي يزيله وينحيه عنها، ومعنى ذلك: ألا يتركها كبرًا عن أكل ما سقط واستهانة بالنعمة، فإن الذي يحمله على ذلك الشيطان ترفيعًا لنفسه، وكبرا عن أكلها بعد سقوطها، وقد يحتمل أن يكون بركتها للشيطان أن يكون له فيها غذاء، والأول أظهر.
وذكر في سند حديث الباب: حدثنا أبو بكر بن نافع، حدثنا عبدالرحمن نب مهدي، كذا في أكثر الأصول، ووجدت تقييدي فيه عن أبي بحر بن أبي نافع، وإصلاح ذلك من ابن نافع، والأول الصواب إن شاء الله، وإن كانا جميعا من شيوخ مسلم والبخاري وممن خرجا عنهم، لكن المكنى بأبى بكر هو ابن نافع، وأما ابن رافع فيكنى بأبى عبد الله.
وذكر حديث أبي شعيب وأنه كان له غلام لحّام ؛ أي: يبيع اللحم، وأنه دعى النبي خامس خمسة واتبعهم رجل، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: } } إن شئت أن تأذن له، وإن شئت رجع { { ، قال: بل آذن له، وفي الحديث الآخر في الفارسي الطيب المرق، إذ جاءه يدعوه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - - ? } } ?وهذه { { ؛ يعني: عائشة، فقال: لا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - - } } لا { { ، ثم قال في الثانية: نعم، قال الإمام: ذكرها هنا أنه استأذن صاحب المحل، وذكر في حديث أبي طلحة أنه قال لمن معه: } } قوموا { { وهم سبعون أو ثمانون، ولم يستأذن، وعن هذا ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن يقال: علم من أبي طلحة رضاه بذلك فلم يستأذن، ولم يعلم رضا أبي شعيب فاستأذنه.(7/237)
والجواب الثاني: أن أكل القوم عند أبي طلحة إنما خرق به العادة لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، وبركة أحدثها سبحانه وتعالى لا ملك لأبي طلحة عليها، إنما أطعمهم مما لم يملكه فلم يفتقر إلى استئذانه.
والجواب الثالث: أن يقال: فإن الأقراص جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجده ليأخذها منه، فكأنه قبلها وصارت ملكًا له، فإنما استدعى لطعام ملكه، فلا يلزمه أن يستأذن في ملكه.
قال القاضي: فيه جواز أ صناعة، الجزارة وأكل مال الجزار، وجواز اتخاذ الأمراق الطيبة وألوان الطعام الحسنة وأكلها، واستعمال ما أخرج الله لعباده وأحله لهم والطيبات من الرزق. وفيه وفي حديث أبي طلحة، وجابر، وأبي الهيثم بن التيهان: ما كان - صلى الله عليه وسلم - فيه من شظف العيش، وما اختار لنفسه من ذلك في الدنيا، وما ابتلى به.
وأما استئذانه الفارسي حين دعاه أن يأذن لعائشة فقال: لا، فيحتمل أنه إنما كان صنعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة لما رأى في وجهه من الجوع، وقدر ما يكفيه، فرأى أن مواساة النبي فيه مما يضر به في نفسه، وأراد إفراد النبي - صلى الله عليه وسلم - به ليقع منه بموقع ويسد خلته، فأبى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا مشاركة من حضره في الكرامة، على ما كان عليه من الخلق الجميلة، وكانت عائشة مع خصوصيتها به حيث كانت. ولعله رأى من حاجتها مثل حاجته، فلما لم يأذن لها وقال: لا، قال?له النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه أيضًا: } } لا { { ممتنعًا من إجابة دعوته، وكراهة للاستئثار على من حضر بكرامته. ومثل هذا قول مالك في الرجل يدعو الرجل يكرمه، قال: إذا أراد: فليبعث بذلك إليه بأكله مع أهله، فإنه قبيح بالرجل أن يذهب بأكل الطيبات ويترك أهله.(7/238)
وفيه إجابة دعوة الجار والصديق، وجواز الشفاعة في مثل هذا، وجواز كله بعد الإذن وطيب نفسه وإن تقدم منعه لِعِلة ومنع ذلك بغير إذنه وتحريم طعام الطفيليين، ومغ أن يحمل الإنسان غيره إذا دعى إكرامه، إذ لا يدرى ما يوافق صاحب الطعام من ذلك، وقاله مالك إلا أن يأذن له صاحب الطعام أو يأمره بذلك، ومنع أن يظهر الرجل دعوة الرجك وفي نفسه الكراهة؟ لابنه يطعمه ما نفسه تكرهه ولا علم عند الآخر، فجمع الرياء والبخل وصفة ذى الوجهين، وإطعامه المسلم ما لم يطب له به نفسه.(7/239)
وذكر مسلم حديث أبي هريرة وخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر، وأن الجوع أخرجهم، وقصدهم رجلاً من الأنصار، وهو أبو الهيثم بن التيهان، واسمه مالك، واكرامه لهم وإطعامه إياهم...، الحديث: فيه ما ابتلى به الأنبجاء والفضلاء من ضيق العيش أحيانًا، وصبرهم على ذلك، وفيه دلال الصديق على صديقه وقصده إياه ليطعمه ويطعم عنده والحركة في طلب الرزق، وفيه ما كان ينالهم أول الإسلام من الجهد وقلة ذات اليد، وذلك قبل فتوح الله عليهم ما فتح واستغنائهم بذلك، وفي بعض الأخبار دون بعض فقد مات - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير. وقد فتح الله عليه من الفتوح، وأفاء الله عليه من أموال أهل القرى ما علم، وقسم في آل بيته وغيرهم من الأموال ما قسم، وأعطى الجزيل، لكنه - صلى الله عليه وسلم - كانت تأتيه وتأتي أصحابه أوقات يضيق بها حالهم ؛ لإخراجهم قبل ذلك ما بأيديهم في نوائب الحقوق، ومواساة المسلمين، وتجهيز الجيوش. وكان أهل اليسار من المهاجرين والأنصار مع برهم له - صلى الله عليه وسلم - وإكرامهم إياه، واتحافهم له في الأحيان، وبما لم يعرفوا ما يبلغ منه الحاجة ولا فراغ ما عنده بإيثاره على نفسه، وبذله ما عنده، ومن علم ذلك ربما كان حاله في تلك الأحيان كحاله، كحال أبي بكر وعمر في هذا الحديث، وإيثارهم بما عندهم في وجوه البر، والنفقة في السبل المرضية، والحقوق الطارئة، وقد خرج أبو بكر عن ماله كله مرة، وعمر عن نصفه مرة، وعثمان جهز جش العسرة، وهكذا غيرهم. فلا يبعد أن تأتي عليهم أحوال وليس عندهم ما يواسى به بعضهم بعضأ، ومن عنده وقد?لا ينكشف له حال غيره، فإذا انكشف له بادر إلى تلاقيها كما جاء في حديث أبي طلحة إذ قال: سمعت صوت رسول الله كلمة أعرف فيه الجوع، وكما قال في حديث جابر:، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمصًا، وفي حديث مولى الغلام اللحام:" فعرف في وجهه الجوع "، ومثل هذا.(7/240)
ولا يظن بهم أنهم عرفوا من حاله ضرورة فأعرضوا عنها، أو من حال بعضهِم بعضًا، وقد وصفهم الله بأنهم:{ رُحَمَاء بَيْنَهُم } } (1) { ، وبأنهم:{ وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنفُسِهِمْ ولَو كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة } } (2) { ، فكيف معه - صلى الله عليه وسلم - وقد كانوا يفدونه بأنفسهم ؟ فكيف بأن يشحوا عليه بأموالهم ؟ فهذا يدفع الاعتراض والتعارض بين الأحاديث في هذه الأبواب، ولنحو ما ذكرناه أشار أبو جعفر الطبري.
وفي قوله: } } فأنا أخرجني الجوع { { : جواز إجهار الرجل بما يصيبه عند الضرورة، لا بطريق التشكي وقلة الرضا، بل لفائدة، وتسلية المسلم كما كان هناك، لصاحبيه، وفيه برُّ الضيف والصديق والمبالغة في ذلك، والاختيار لطيب الطعام له. ودخوله منزل الأنصارى وهو غائب، فيه جواز إذن الزوجة في منزل زوجها لمن تعلم أنه لا يشق أذلك عليه.
__________
(1) } ) الآية (29) من سورة الفتح.
(2) } ) الآية (9) من سورة الحشر.(7/241)
وفي قولها:" يستعذب لنا الماء ": جواز استعذاب الماء والمشروب، وقد منّ الله بذلك على عباده فقال:{ هَذَا عَذْبٌ فُرَاث سَائِغٌ شَرَابه } } (1) { . وقول الأنصاري:" الحمد لله! ما أحد اليوم أكرم أضيافًا مني ": شكرًا لله تعالى على ما منحه من مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه، وإدلاله في منزله وطلبه أكل طعامه. وفيه تلقي الضيف بالكلام الحسن وإظهار المبرة به ؛ وجواز قول الرجل للآخر: مرحبا وأهلاً، وهى من البر؛ أي: صادفت رحبًا وسعة وأهلاً تأنس بهم. ومجيؤه إياهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب. العذق هنا بكسر العين: الكباسة وهو العرجون، وإنما جاءهم بمثل هذا العذق لاختلاف ألوانه، وليأكلوا من أنواع فاكهته لاختلاف طعوم أجناسها، وقد قال بعض المتكلمين: لعله:" بعرق " يعني الزنبيل، فعبر بعذق لما ذكر من جمعه فيه البسر والتمر والرطب، ولا ضرورة لما قاله، ولا ينكر أن يجمع العذق الواحد ما أرطب بتبكير ويبس بعضه، ويبقى بعض ما فيه بعد ليأخذه بسرًا، وقد روى هذا الحرف أبو عيسى الترمذي فقال فيه: "يقنو " وهذا تصحيح أنه العرجون.
وفيه المبادرة إلى الضيف أولاً كما حضروا كرامة له به إلى أن يجيء ما يتكلف له، لاسيما إن علم حاجته إلى الطعام، وهذا من أدب الضيف، فقد يكون محتاجًا إلى تعجيل ما تقدم إليه ويضر به انتظار، ما يتكلف له، وقد يكون مستعجلاً للحركة فيضر به الانتظار، وقد روى عن السلف كراهة التكلف للضيف لما ذكرناه- والله أعلم- لما عليه فيه مشقة، فأما بما قدر عليه فمن السق، قد ذبح إبراهيم لأضيافه عجلاً، وقال - صلى الله عليه وسلم - في الضيف: } } جائزته يوم وليلة { { على أحد التأويلين في المحافة والتكلف له، وهو تأويل قدمه أصحابنا وغيرهم تناول أن يُعطَى ما يجوز، به يومًا وليلة. وفيه استعمال الفاكهة قبل الطعام وهو أوفق للمعدة وقوام الصحة لسرعة هضمها، بخلاف غيرها مما يبطئ هضمه.
__________
(1) } ) الآية (12) من سورة فاطر.(7/242)
وقوله:" وأخذ المدية "؛ يعني السكين. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - - ? } } إياك والحلوب { { ؛ هى: التي تحلب، فعول بمعنى: مفعولة، مثل ناقة ركوب، وقد تكون بمعنى فاعلة؛ أي: ذات حلب ومعطية من نفسها، مثل ماء طهور، بمعنى مطهر وطاهر، وهو من باب المبالغة. وفي الحديث الاخر: " فكف عن ذوات الدر ؛ أي: ذات اللبن. وفيه حجة لمن لم ير من أصحابنا ذبح حوامل الماشبة، وكذلك فيما كان يصلح من البقر للحريث؛ لأن هذا -إذا لم يضطر إليه - من الفساد.
وقوله:" فأكلوا حتى شبعوا ": فيه جواز الشبع في الأكل وما جاء من كراهة الشبع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف فذلك حكم المداومة عليه ؛ لأنه يقسي القلب، وينسي أمر المحتاجين وحالهم، ويكثر عليه المحاسبة، غير أن المباح منه ما لم يزد على القدر، ويشغل عن أداء الواجب، ويضر بالنفس، ويضيقه ويورث التخمة، ويثقل المعدة وما زاد على هذا فغير مباح، قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: } } إن كان ولابد فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس { { ، وخرجه أصحاب المصنفات.(7/243)
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - - ? } } لتسألن عن نعيم هذا اليوم { { : قال المفسرون: كل شيء من لذة الدنيا من النعيم الذي يسأل عنه، والسؤال عنه: هل يتهيم بحق شكره ومنة الله عليه فيه بنعمته ؛ وذكر مسلم في سند هذا الحديث: حدثنا إسحق بن منصور، أنبأنا أبو هشام - يعني المغيرة بن سلمة- حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا يزيد- هو ابن كيسان- حدثنا أبو حازم، سمعت أبا هريرة- الحديث، قال الإمام: هكذا روى هذا الحديث مجردا عن أبي أحمد الجلودى من طريق السجزي، وسقط منه في رواية ابن ماهان والرازي رجل وهو: عبد الواحد بن زياد، ولا يتصل إلا به. وكذلك خرجه أبو مسعود الدمشقي عن مسلم، عن إسحق عن مغيرة، عن عبد الواحد بن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة. قال بعضهم: والذي عند ابن ماهان خطأ بين، قال البخاري: مغيرة بن سلمة أبو هشام سمع عبد الواحد بن زياد وهشام ومروان الفزارى، مات سنة مائتين.
حديث جابر وفضله يوم الخندق
قال القاضي: قوله:" رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمصًا { { ؛ أي: رأيته ضامر البطن، وأخمص: حالة البطن من الجوع. وقوله: " فانكفأت إلى امرأتي: أي انصرفت وانقلبت.
وقوله: " فأخرجت لي جرابًا فيه صاع من شعير ": الجراب: وعاء من جلد.
وقوله:" ولنا بهيمة داجنًا "، قال الإمام: لعله أراد تصغير بهمة. والبهم: صغار الغنم. والداجن: ما ألف البيت.
وقوله:" إن جابرًا صنع لكم سورًا فحيهلا بكم ": السور: هو الطعام بالفارسية. قال القاضي: وقال غيره: هو الدعوة للطعام بالفارسية. قال الطبرى: أي اتخذ طعامًا لدعوة الناس، كلمة فارسية. فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كان يتكلم بالفارسية وغيرها من لغات الأمم.(7/244)
وقوله:" فحيهلا بكم "، قال الإمام: ذكر الهروى في الحديث:" إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر "، أن معناه: حى هلم، وهلا حثًّا، فجعلا كلمة واحدة، يريد: إذا ذكروا فهات وعجل بعمر، وذكر في موضع آخر من كتابه: معنى " حي ؛ أي: أسرع بذكره، ومعنى " هلا ": أي أسكن عند ذكره حتى تنقضي فضائله، ومنه قول ليلى: وأى حصان لا يقال لها هلا ؛ أي أسكن للزوج، فإن شددت اللام من " هلا " صارت للوم والتحضيض.
قال القاضي: كان في هذا الكلام من العلم تعبير عما في كتاب الهروي، فجئنا به على الصواب، إذ عنه حكاه.
وفي هذه اللفظة لغات: قال الأحمر: يقال: حي هل وهل وهلا. وحكى أبو عبيد: حي هلك، قال غيره: يقال: حى هل، مثل بل لكثرة الحركات والوقف، تشبيها بصه وَمَه، وحي هلا مثل "على" مقصور، و "حي هلاً " منون على المصدر، و "حي هلن " بالنون،، و"حي هلَ " بنصب اللام لكثرة الحركات، و "حي هلْ " بسكونهما مثل بخ بخ، تشبيهًا بها، و " حى هلك " بالكاف. وجاء فيها- أيضًا-:" حي على " بمعناها. ومعناه عند أبي عبيد: عليك بكذا أو ادع بكذا. وقال السلمي: حي: أعجل، و هلا: صلة.(7/245)
وتقدم الكلام على حمل النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى منزل أبي طلحة ولم يستأذنه في ذلك، وكذلك فعل في حديث جابر هذا. وقول امرأة جابر: " بك وبك ": إشفاقًا من فضيحتها بأن طعامها لا يقوم بالناس، وكذلك في حديث أبي طلحة من قوله: " قد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس وليس عندنا ما يطعمهم "، لكن كان عند زوجته من اليقين ما يثبثه بقولها: "الله وسوله أعلم "، وقد يحتمل أن امرأة جابر ظنت أنه لم يبين للنبي - صلى الله عليه وسلم - مقدار الطعام ؛ ولذلك قال لها:" وقد فعلت الذي قلت لي "؛ يعني قولها: لا تفضحني برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه "؛ أي: لا تدع إلا بمقدار الطعام، ولذلك ساره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمر. ومعنى قولها:" بك وبك " عتبًا، كأنما قالت له: برأيك وسوء نظرك للإفتاء فعلت هذا، وبك تلحق الفضيحة، وبك يتعلق الذم. أو يكون كالدعاء عليه بذلك، أوقع الله بك الفضيحة وأدناك اللوم. وقد تكون الباء بمعنى: من أجل؛ أي: من أجلك حل بنا ما يتوقعه من الفضيحة والخزى مع الناس.
وقوله:" فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدم الناس ": هذا جاء له هنا؛ لأنه دعاهم لهذا الطعام، فهم يسيرون خلفه له فلا يتقدمونه، وكانت عادته في غير هذا إذا مشى مع الناس أن يتقدمهم بين يديه ؛ كيلا يتخلق بأخلاق أهل الكبر والدنيا في وطء عقبه الذي ذم فاعل ذلك - صلى الله عليه وسلم -.(7/246)
وفي حديث جابر وأبي طلحة أن صاحب الدار لا يستأذن في داره، وأن من يدخل معه يستغني عن الإذن؛ لأن دخوله معه إذن له في الدخول. وفي حديث أبي طلحة أن الناس لم يدخلوا إلا بإذن ؛ لقوله: } } ائذن لعشرة { { ؛ إذ لم يدعوا ولا أتوا مع أبي طلحة، وإنما دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما جاء الطعام أذن لهم حينئذ. ففيه أن أحدًا لا يدخل منزل أحد إلا بإذنه وإن علم أنه خال ممن يستتر منه؛ لأن دخول العشرة الأولين، والإذن لهم لم يكن إلا بعد تمام امرأة أبي طلحة من شغلها، فلم يكن الإذن للعشرة الأول، إذنًا للباقين حتى أذن لهم في الدخول،?مع أن في هذا الإذن مصلحة للكافة؛ إذ لو أذن لجميعهم لضاق بهم المحل ولم يتمكنوا من الأكل، فالإذن لهم عشرة عشرة من صلاح حالهم.
وفيه مواساته - صلى الله عليه وسلم - فيما خص به ولما لم يكن قسم ذلك بينهم على حاله دعاهم إليه جميعًا، وجمعهم عليه زمرة بعد أخرى ببركته وآياته. وما ذكر?فيه من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بصق في العجين والبرمة وبارك، هذا كما فعل في الماء- أيضًا- رجاء بركته كما كانت، وليس فيه ما يعترض به؛ إذ كان بصاق النبي كلتا غير متقذر عند المسلمين، بل كانوا يرغبون في ذلك، ويحكون بها وبنخامته وجوههم.
وقوله: } } ادعي خابزة 9؛ كذا للسجزي، وهو صواب الكلام، ووجهه بأنه إنما خاطب المرأة، ورواه غيره: } } ادعني { { بنون، وبعضهم: } } ادعوني { { بزيادة واو. كله له وجه ؛ أي اطلب أو اطلبوا لي، كما يقال: بغيته كذا وبغيته له بمعنى. قال الله تعالى:{ يَيْغُونَكُمُ الْفِتْنَة } } (1) { - ?
__________
(1) } ) الآية (47) من سورة التوبة.(7/247)
وقوله: } } اقدحي من برمتكم { { : أي اغرفي. والمقدحة: المغرفة. وأمر النبي بذلك، ودعاء النبي لجابر: فيه إدلال الضيف والصديق في دار صديقه، وأمره في ذلك بما يراه، لاسيما في هذه القصة التي كان أمر النبي فيها وتناوله لها، بسبب البركة والمعجزة البينة. وفيه قبول مواساة الصديق وأكل طعامه.
وقوله:" إنهم أكلوا من ذلك وهم ألف، وانحرفوا "؛ أي انصرفوا، "والبرمة تغط "؛ أي: تغلي وتسمع غليانها. والغطغطة، والغطيط: الصوت من ذلك وما يشبهه، وكذلك صوت النائم.
وفيه آيتان بينتان من علامات نبوته - صلى الله عليه وسلم -:
إحداهما: فعلته في تكثير القليل من الطعام وبركة بصاقه وإجابة دعوته.
والثانية: قوليه بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - العدد الكثير لما قد علم قلته، وأنه على ذلك بارك فيه ويكفيهم بوحى الله، ويقين منه بذلك، ومثله في حديث أبي طلحة، وقوله: ة فإن الله سيجعل فيه بركة.
ودعاء النبي الناس لطعام غيره تقدم الكلام عليه أيضًا في حديث الغلام اللحام، وغيره معنى مما نبهنا عليه قبل مما هو في حديث جابر أيضًا، وفيه أنه لا يجب لإنسان أن يدعو لطعامه أكثر من قدره فيفضح نفسه، ويخجل الحاضرين، إلا عند الضرائر والشدائد والمواساة. وفيه فضل الثريد، وكون البركة معه، ومعونة المرأة زوجها في أضيافه وخدمتها في بيتها وطعامها.(7/248)
وذكر حديث أبي طلحة وقوله:" لقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعيفًا أعرف فيه الجوع ": فيه من معنى ما تقدم من ابتلاء الفضلاء وصبرهم على ذلك وكتمانه، وغير ذلك مما تقدم في حديث جابر من المعاني والفقه الذي طابقت هذا الحديث، مما نبهنا عليه من المعجزتين. قال بعضهم: وفيه الحجة في جواز الشهادة على الصوت لقوله:" أعرف فيه الجوع" وإنكاره منه ما عرف، قيل: وفي هذا ضعف جدّاً؛ أي: إنما هو حكم على ما دل عليه الصوت من ضعفه، فأما سماع الصوت فمع المشاهدة كان، وإنما الشهادة على الصوت، المتكلم فيها قمع غيبة العين. وقد نازع فيه الخالف،?وقال: إنه دليل على منع الشهادة على الصوت؛ إذ إنما علم تغير صوته بالمشاهدة، فلا يبعد أن يعترى بعض الناس تغير في أصواتهم، فكيف تصح الشهادة على الصوت، وهذا أضعف؛ لأنه إنما شهد على ما حققه ولم يتغير عنده وأما ما تغيرفلا يشهد به.
وفي حديث أبي طلحة- مما لم يتقدم في الأحاديث الأخر-: الخروج لتلقي الضيفان إلى الطريق، وتحسين الهدية، وإكرام المهدى لها ؛ للف أم سليم تلك الأقراص في خمارها. وفيه أن الخبز كان عندهم- من شعير أو غيره- أفضل الطعام، فقد كان أبو طلحة من أكثر أنصاره بالمدينة مالاً ونخلاً، فإنما عدل عن التمر للخبز لفضله. ويحتمل أن يكون في وقت قد نفد ما عنده من التمر، ألا تراه كيف قال لزوجته: } } هل عندك شيء { { ، في وقت قد نفد ما عنده من التمر، ألا تراه كيف قال لزوجته: هل عندك شيء من شيء، ويحتمل أن يريد شيئًا حاضرًا لتعجيل ذهاب ما بالنبي مما أضعفه من الجوع، أو كان تمره يبعد تناوله، إما من حيث أخبرته أو لمعاناة جمعه والمجيء به من حائطه. وأما على الحديث الآخر ففيه: أن أم سليم قالت له: عندنا كسر من الخبز وتمرات، فقد زاد هنا - إن صح الخبر- تمرًا.(7/249)
قوله:" ثم دسته تحت ثوبي ": كذا في مسلم من رواية يحى بن يحيى التميمي عن مالك، وفي رواية غيره في الموطأ:" تحت يدي "؛ أي إبطي؛ صيانة لما حمله من ذلك، ولعله ليحبس ما فيها من دفء وسخانة.
وقوله:" وردتني ببعضه ": فيه تأويلان: أحدهما،: قيل: ردتني بطرف خمارها. فيه- أيضًا- تجميل الرسول ما أهدته. وقيل: ردت جوعى ببعضه ؛ أي: أعطتنى من ذلك شيئًا. فيه مناولة الخادم من طعام مخدومه حتى لا يتعلق باله إليه، وتنازعه شهوته له، لاسيما الصبيان الصغار ومن يتعلق باله بالطعام. قالوا: وفي هذا الحديث من الفقه أن من استحق شيئأ مع غيره وعلم أن ذلك يصح قسمته بالاعتدال أو بإسهام، أنه لا بأس أن يبدأ به من شاء على غير قرعة كالمكيل والموزون، إذا كان إقسامهم له بالقرب. وفيه دليل أنه يستحب ألا يكون على مائدة أكثر من عشرة ؛ لإدخالهم هنا عشرة عشرة. وقد يكون هذا قدر ما يتخلق بهذه الجفنة، وإذا كانت كبيرة يتخلق عليها أكثر من هذا العدد فلا يجب أن يقتصر هنا على العشرة، بل ذلك على قدر الموائد والجفان، ويقدر ما لايضربعضهم في التضايق عليها بعضًا.
وقوله:" لم وعصرت عليه عكة لها فأدمته ": العكة، بضم العين: وعاء من جلد صغير للسمن خاصة والنجى أكبر منه، ومعنى " أدمته " بمد الألف وقصره، قال الإمام: أي جعلت فيه إدامًا، يقال منه: أدم الطعام وأدمه.
قال القاضي: وفيه جواز اتخاذ الأدم، وأنه ليس من الإسراف، وفي بعض روايات مسلم في أكل القوم:" وأخرج لهم فيه شيئًا من بين أصابعه"، بينه في الرواية الأخرى:" فوضع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - يده وسمى عليه "، وذلك كبركة يده، وأنهم أكلوا من بين أصابعه، كما نبع الماء بوضع يده فيه من بين أصابعه.(7/250)
وقوله:" ثم أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو طلحة، وأم سليم، وأنس ": فيه أن المضيف هو يأكل آخر القوم، والنبي هان كان المدعى فقد صار ناظرًا في إطعام الناس من هذا الطعام الذي كان إنما صنع له، فكان حكمه حكم أصحابه مُطْعَمِيهِ وكواحد منهم، وقد قال - عليه السلام -:" ساقى القوم آخرهم شربًا " أصل فيه، وهو إن كان الشرب لا يتأتى فيه المشاركة في إناء واحد في وقت واحد بخلاف الأكل، فقد يتفق أحيانًا أن يكون المشروب كثيرًا والأواني كثير فيوافق الأكل. وفيه مآكلة النبي - صلى الله عليه وسلم -?لأم سليم وزوجها، وأكل الضيف مع المضيف وزوجه إذا شاء، وقد أجاز العلماء ذلك.
وقال مالك: لا بأس للمرأة أن تأكل مع غير ذى محرم أو مع غلامها إذا كان على وجه ما يعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال، وهذا ليس فيه إلا إبداء كفيها ووجهها، وذلك مباح منها النظر إليه لغير تلذذ ومداومة لتأمل المحاسن. قال ابن عباس:{ وَلا يُيْدِينَ زِينَتَهُن إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } } (1) { قال: الوجه والكفان، وقاله عطاء، وذكر ابن بكير: أنه قول مالك وغيره، وإليه مال إسماعيل القاضي قال: لأنه الذي يبدو من المرأة في الصلاة. ففيه دليل أن للغرباء والأجانب رؤيته من المرأة. وقال الأزهري: معنى قول مالك المتقدم في المؤاكلة ذلك في الحِجَال. وقد يحتمل أن تكون أم سليم امرأة أبي طلحة ذات محرم من النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ ذكر أن أختها أم حرام كانت خالته من الرضاعة، فقد تكون هذه - أيضًا- مثلها، أو تكون أجنبية على ما تقدم، إذ ليس كل أخت خالة من الرضاعة والسبب حاله. وفيه مآكلة المضيف مع الضيف؛ لأنه أبسط له.
وقوله:" وتركوا سؤرًا ": هى البقية من الطعام أو الشراب.
__________
(1) } ) الآية (31) من سورة النور.(7/251)
وقوله في آخر الروايات:" رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتقلب ظهرًا لبطن، وأظنه جائعًا "، وفي الأخرى عن أنس:" وقد عصب بطنه على حجر، فسألت، فقيل: من الجوع، فذهبت إلى أبي طلحة فأخبرته " وذكر الحديث: فليس في هذا كله بمخالف، وإنما هي زيادات من بعض الرواة، وحفظ بعضهم ما لم يحفظ آخرون؛ إذ يحتمل أن أنسًا نَبَّه أبا طلحة متثبتًا فرأى ذلك منه وسمع صوته، فأتى أم سليم عند ذلك فأخبرها بصفة ما صنعت.
ومعنى قوله:" عصب بطنه على حجر ": قيل: هو استعارة وكناية على شدة الحال به، وقيل: بل هو على وجهه، وهى عادتهم في بلاد الحجاز؛ لأن ما يصل من برد الحجر إلى باطن الحشا يبرد حرارة الجوع ويسكن سورته، أو لأن عادتهم كانت عند ضمور بطونهم شد الحجارة عليها ليعتمد، وقيل: إنما فعل هذا - صلى الله عليه وسلم - موافقة لأصحابه، أو ليعلمهم أنه ليس عنده طعام استأثر به دونهم، وإن كان هو في هذا الباب بخلافهم لقوله: } } إنى لست كهيئتكم، إنى أبيت يطعمنى ربى ويسقيني { { . وفي الباب في سند هذا الحديث: حدثنا حسن بن الحلواني، حدثنا وهب بن جرير بن يزيد، حدثنا أبي، سمعت جرير بن يزيد،، بزيادة ياء على مثال يعيش، وهو وَهْم، وإنما هو: جرير بن زيد،?وهو جرير بن حازم، ذكره البخاري وابن أبي حاتم الرازي.
وقول أنس:" فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبع الدباء حوالي الصحفة "، قال القاضي: الدباء، بالمد وضم الدال: القرع المأكول في هذا الحديث، وقد جاء مقصورا أيضًا، فمن مده قال في واحده: دباءة، ومن قصر قال في الواحدة: دباة. أنبأنا به بعض شيوخنا عن أبي مروان بن سراج: لم يذكر فيها أبو على غير المد.(7/252)
وقوله:" وجعلت ألقيه إليه ولا أَطْعَمه ": فيه جواز مناولة من على المائدة ما بين أيديهم بعضهم بعضا مما بين أيديهم؛ لأن جميعه لهم، وإنما يكره من ذلك أن يتناول من على مائدة لمن على مائدة أخرى، وقاله ابن المبارك، وكذلك أن يتناول إنسان ما أمام غيره لآخر؛ لأنه يجمع سوء الأدب، وعلة الأكل مما بين يدى غيره، وأنس هنا لم يكن معه غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان الطعام بين أيديهما معا لا غير، فانما ناول أنس ما بين يدي نفسه، وغير ذلك كان بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - - ?
قال الإمام: وتتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - الدباء يحتمل أن يكون من باب الطعام المختلف، أو لأنه كان يأكل مع من يعلم سروره بذلك ولا يستثقله.
قال القاضي: أو لأن الطعام إنما كان عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان جميعه له ؛?لأن حكم الزمن والرجل المعظم عندهم جواز ذلك، وهو نحو ما تقدم من أن ذلك لا يستقذر منه ولا يكره، بل يتودد له بذلك ويستحب منه، ويحابى به وان لم يتناوله هو بنفسه.(7/253)
وقول أنس:" فما زلت أحب الدباء من يومئذ ": لأجل ما رأى من حب النبي - صلى الله عليه وسلم - له، ومن تمام الإيمان حب كل ما أحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتتبع آثاره في كل شيء، والتخلق بأخلاقه. فقد كان ابن عمر يحب موافقة ذلك منه في كل شيء حتى في مواطى حافر ناقته، وقد قال ابن المنذر: يستحب أكل الدباء لأجل هذا الحديث. وفي طبخ القديد بالدباء جواز استعمال ذلك، وطبخ اللحم والقديد مع غيره من الخضر وغيرها لتكثير الطعام وتطييبه، وليس من باب إدامين ولا من السرف، وقد جاء في الخبر الآخر يكثر به طعامنا، مع ما في ذلك من تدبير طى لكسر حرارة القديد، وتعديل يبسه ببرد القرع ورطوبته، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في أكل القثاء بالرطب: } } يكسر برد هذا حر هذان { { . وفي أكل أنس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إما بإذن صاحب الطعام، أو لأنه كان صنع للنبي - صلى الله عليه وسلم - وملكه، فلو شاء أكله كله إذا كان قدر كفايته، فله مواساة غيره منه.
وفيه أن الخياط لم يؤاكلهما، ففيه دليل أنه ليس من الواجب على المضيف أكله، لكن قد يستحب له أحيانا لتبسطه بذلك وتنشطه، لاسيما إذا كان الضيف وحده، وقد يستحب له ترك ذلك إذا كان الطعام قليلاً يؤثره به، ولا يضيق عليه فيه، وقد يأتى مواضع يكون الحال فيها سواء والخيار له فيما فعل، وكل واسع.(7/254)
قوله:أ فقربنا إليه طعاما ووطئة ": كذا ضبطناه على أبي بحر بالواو وكسر الطاء مهموزًا، وكان في كسَاب العذرى مهملاً، وقيده في كتاب ابن عيسى: 9 رطبة " أ بالراء وفتح، الطاء وباء موحدة، والصواب من هذا كله الأول، قال ابن دريد: الوطية: التمر يستخرج نواه ويعجن باللبن، وفي كتاب البزار:! فقربنا له طعاما ووطئة فجاؤوه / أ بحيس/ فأكل منهأ، قال أبو مروان بن سراج: لعله طعامأ وطية على البدل؟ لقوله: فأكل منها، وهو خير من العطف، وهو طعام يتخذ من اللبن. وفي كتاب ثابت قال سهل بن سعد: إن النبي استسقاه، قال: فحصب له وطية فشرب. قال ثابت: قال بعض أهل اللغة: هو طعام للعرب ثتخذه من ثمر أراه كالحيس، قال: وهذا أولى مما ذكر ابن قتيبة، ويعضد ما قاله رواته: فجاؤوه بحيس فثل، ثم جاؤوه بتمر- الحديث، فقال:ا حيسا كان وطية) فدل أنهما بمعنى، ومسلم والبزار جاءا أنه عن شيخ واحد بسند ومعناه. وقال ابن دريد: الوطية: عصيدة التمر، وقال القتبى في الحديث: " أتيت رسول الله كله من تبوك فأخرج لنا ثلاث أكل من كل وطيةا، قال: س+. و ا لوطية: ا لغرا رة. 9 قال القا!ى: فعلى هذا تكون الواو الأولي في الأم مغيرة من " في "، أو من 9 من)؛ أي: طعاما من وطية، أو في وطية، ومعنى! ثلاث أكُل ": أي ثلاث لقم، أو يكون ثلاث لقم من هذا الحيس- والله أعلم. وقوله:أ ثم أتى بتمر فكان يأكله ويلقى النوى يين إصبعيه، ويجمع بين السبابة والوسطىإ: دليل على?قلة ما كان يأكله- صلى الله عليه وسلم - لا"ن ما يجتمع بين السبابة والوسطى إنما يكون من تمر قليل. وفيه أنه لم يلقه فى الممر لنهيه عن ذلك لما فيه من إفساد للطعام، وخلطهُ بغيره مما يطرح فيه، وهذه سنة، وفيه أنه لم يلق النوى من حوله وفي المنزل، فيزيل نظافته فيه الكناسات، وهذا من الأدب والمروءة. وذهب ابن المنذر أن معناه: أنه كان يجمعه على ظهر إصبعيه فيرمي به، وقول شعبة: وفيه ظني، وهو فيه إن شاء الله إلقاء النوى(7/255)
بين الإصبعين، يعنى أنه شك هل هو فى الحديث، ثم غلب ظنه فيه، كذا الرواية للكافة وهو صواب بيِّن، ألا تراه قال فى الحديث الآخر: " ولم يشك?فى ذلك "، وعند السمرقندي قال شعبة: ضبطه وهم، والصواب ما تقدم. وفى دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم أخذًا بالبركة فى الرزق وفى الآخرة بالمغفرة والرحمة، دعاء جامع لمصالح الدنيا والآخرة، وفيه دعاء الضيف للمضيف، وسؤال الناس الرجل الفاضل الدعاء.?
وقوله:" كان يأكل القثاء بالرطب ": فيه جواز أكلهما معًا، وجواز التطبيب والعلاج وأكل الطعامين، لاسيما إذا كان فى ذلك مصلحة، كما فسره فى بعض الحديث بقوله: يكسر حر هذا برد هذا، وبرد هذ حر هذا، وجواز التوسع فى اليسير وأكل الطيبات، وفيه أكل الفاكهتين وخلطهما معًا وخلط الطعامين؛ لأنه زيادة الطيب، وجواز أكل إدامين معًا، ولا خلاف بين العلماء في ذلك إلا ما روى عن عمر من براهته، ونحوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فى معناه فى العسل باللبن، على جهة التواضع، والتقلل توترك السرف لا على التحريم.(7/256)
وقوله: والحديث الآخر:" أتى بتمر فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسمه وهو محتفز" بالزاى: مستعجل مستوف، وغير متمكن في جلوسه، والاحتفاز: الاستيفاز، وفسره في الرواية الأخرى بقوله:" مُقْعِيًا "، والإقعاء: جلسة المستوفز على أطراف إليتيه، وهذا هو تفسير قوله: " أما أنا فلا آكل متكئًا " عند أبي سليمان الخطابي: أي متمكنا في الجلسة من التربع وشبهه، والاعتماد على الوطاء الذي تحته، قال: وكل من استوى قاعدًا على وطاء فهو: متكيء، ومعناه عنده: أي لا آكل أكل من يريد الاستكثار من الأطعمة، ويتمكن للقعود لها قعد مستوفز، أو أكل العلقة للضرورة، كما قال آخر الحديث: " بل آكل كحا يكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد ". وروى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس إذا أكل مقعيًا، وهو نحو قوله هناة "مستوفزًا "، وإنذار الخطابي أن يكون تفسير الحديث: الاتكاء على الجانب، وهو تأويل اكثر الناس، وعلته عندهم وجهان:
أحدهما: أنه من شيم أهل الكبر والترفه.
والثانى: يخشى ضرره لأجل ضغط مجارى الطعام بضغط الجانب والأضلاع بالاتكاء.
وقوله:" ويأكل منه أكلا ذريعًا ": أي كثيرًا، وفي الرواية الأخرى: "حثيثًا ": أي مستعجلاً، وهو تفسير معنى الذريع الكبير المتقدم، أنه في صفة الأكل، وحثه وكثرة استعجاله لاستيفازه لأكثرة المأكول؛ إذ لم يكن صفته - صلى الله عليه وسلم - الإكثار من الأكل، وقيل: إن هذا التمر لم يكن من الصدقة؛ لأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - منه، أو يكون استعجاله لإكثاره الأكل لحاجته إليه.(7/257)
وقوله:" نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإقران، إلا أن يستأذن الرجل أخاها": وفي النهى عن القران فائدتان، ولمنعه علتان: أحدهما: الشَّرَة والجشع، وبهذا عللته عائثة بقولها لإنهاء سؤاله، وجابر يقول: لا بأس به إلا أنها طعمة قبيحة. والثانية: إيثار الإنسان نفسه بأكثر من حقه مع مؤاكله أو شريكه، أو رفيقه، وحكمهم في ذلك كله التساوي، ولذلك قال: " إلا أن يأذنا "، وكما روى عن أبي هريرة:" بعث إلينا النبي - صلى الله عليه وسلم -?بتمر فكنا نقرن من الجوع، فكان أحدنا إذا قرن قال: قد قرنت فأقرنوا "، وقد روى مثل هذا الكلام عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحمل أهل الظاهر هذا النهي على الوجوب، وقال غيره من علمائنا: وهذا فيما اشتركوا فيه أو هرقوه، وأما ما كان على طريق النقلة وغير التقوت والمجاعة فليس القران في ذلك بممنوع، إلا على سبيل الأدب والمروءة.
قال الإمام: يحتمل إذا علم من أصحابه أن ذلك مما يرضوه ويخف عليهم ألا يمنع منه، وقد قال: " إلا أن يستأذن أخاه "، ولا فرق بين أن ينطق بإذن أو يفهم عنه، ويقال: قرنت بين التمرتين: أكلتهما عبرة، وقرنت بين الحج والعمرة: جمعتهما، والشيء بالشيء: شددته إليه.
قال القاضي: قال الخطابي: هذا كان في زمنهم لما كانوا عليه من الضيق والمواساة ؛ فأما اليوم مع اتساع الحال فلا يحتاجون إلى الاستئمار، وفي الأمر نظر.
قوله هنا:" الإقران " كذا في جميع النسخ، إنما يأتى من أقرن، وقد قال الفراء: قرن في الحج والعمرة، ولا يقال: أقرن، وقال غيره: وإنما يقال: أقرن على الشيء: إذا قوى عليه وأطاقه.(7/258)
وقوله: } } من تصبح بسغ تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سحر ولا سم { { ، وخص في الرواية الأخرى ذلك مما بين لابتي المدينة، وعم التمر ولم يخص العجوة، وقال في الحديث الآخر: } } عجوة العالية شفاء أو ترياق أول البكْرَةِ { { : والعالية: ما كان من الحوائط والقرى والعمائر في جهة المدينة العليا مما يلى نجد، والسافلة من الجهة الأخرى مما يلى تهامة، وأدنى العالية ثلاثة أميال، وأبعدها ثمانية أميال من المدينة. والعجوة: ضرب من جيد التمر. قال الإمام: هذا مما لا يعقل معناه في طريقة علم الطب، ولو صح أن يخرج لمنفعة التمر في السم وجه من جهة الطب لم يقدر على إظهار وجه الاقتصار منه على هذا العدد الذي هو، السبع، ولا هذا الجنس الذي هو العجوة، ولعل هذا كان لأهل زمنه خاصة أو لأكثرهم؛ إذ لم يثبت عندي استمرار وقوع الشفاء بذلك في زمننا غالبًا، وإن وجدنا ذلك في زمننا في أكثر الناس حمل على أنه أراد وصف غالب الحال.
قال القاضي: تخصيصه - صلى الله عليه وسلم - ذلك بعجوة العالية وبما بين لابتي المدينة، يرفع هذا الإشكال، ويكون خصوصا لها، كما وجد الشفاء لبعض الأدواء في بعض الأدوية التي تكون في بعض البلاد دون ذلك الجنس في كيره، لتأثير يكون في ذلك من الأرض أو الهواء، والله أعلم.(7/259)
وكثير من النباتات في بعض البلاد عذبة مأكولة، وفي بعضها سموم قاتلة، أو مؤذية لاختلاف الأهوية والأراضي، مع أنه لا يبعد أن يعقل معناه على قانون الطب، فقد نص أئمة الأطباء أن التين نافع من السموم، وخص بعضهم يابسه وهو في الحرارة بقرب من التمر، وقد ذكر بعضهم أن منفعة التصبح على العجوة من السموم؛ أن معظم السموم إنما تقتل بإفراط بردها ويبسها فتجمد دم القلب تخنق الحرارة الغريزية، فمن دام على التصبح على العجوة تحكمت فيه الحرارة، واستعانت بها الحرارة الطبيعية التي ركبها الله في عباده على مقاتلة برد السم ويبسه فيغلب بردها. وأكثر السموم الحيوانية كالأفاعي والعقارب والريقلي والحيات باردة يابسة، وهى التي تخشى عادثها ببلاد الحجاز والصحارى والفيافي غالبا، وكذلك أكثر النباتات كالبنج والأفيون وأشباههما من السموم النباتية التي معاناتها بالمواد المقوية حرارة القلب، بخلاف غرائب السموم التي لا يوجد في بلادهم ولانبتها من النباتات والموكبات، كالبيش، والبلادر والأفربيون التي سمها يفرط حرارتها لتذويبها الدم وحلها الحرارة الغريزية. وأما تخصيص هذا العدد فأمر جاء في الشرع في هذا الباب كثير، كقوله: } } صبوا علي سبع قرب { { ، وكان هذا العدد مبالغة كثيرة ويرد الإيراد والاشفاع؛ لأنه زاد على ب نصف العشرة، وفيه إشفاع ثلاثة وإيتار أربعة فجمع جمع الشفعِ والوتر الأعداد، كما جاء في غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعأ ولقوله تعالى:{ سبع سَنَابل } } (1) { ، وكما أن السبعين مبالغة كئيرة العشرات، كما جاء في قوله تعالى:{ إن تَسْتغْفِرْ لَهمْ سَبْعِينَ مَرَّة } } (2) { ، وفي ذكر سبعين حجابًا في الحديث، وكما أن سبعمائة مبالغة في كثرة المبين لقوله: } } إلى سبعمائة ضعف { { ، وهكذا ما جاء في السبعين ألف ملك وغير ذلك، وقال بعض أهل اللغة: العرب يضع السبع موضع
__________
(1) } ) الآية (261) من سورة البقرة.
(2) } ) الآية (80) من سورة التوبة.(7/260)
الكثرة ولا يريد به الحصر، ولابتى المدينة: حرتاها، وأراد جانبيها، وتقدم تفسير الحرة. والترياق بكسر التاء، ويقال: درياق وطرياق أيضًا، وهو دواء مركب معلوم لدفع السموم. قوله:? } } لا يجوع أهل بيت عندهم التمر { { ، و } } بيت لا تمر فيه جياع أهله { { : حجة في جواز إدخار الأقوات من التمر وشبهه مما يدخر وتحريض عليه.
وقوله: } } والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين { { ، قال الإمام: قال أبو عبيد: يقال: إنما شبهها بالمن الذي كان يسقط على بنى إسرائيل؛ لأن ذلك كان ينزل عليهم عفوًا بلا علاج منهم، وإنما كانوا يصبحون وهو بأفنيتهم فيتناولونه، وكذلك الكمأة ليس على أحد منها مؤونة في بذر ولا سقى ولا غيره، وءانما هو شيء ينشئ الله- عز وجل- في الأرض حتى يصير إلى من يجتنيه.
قال القاضي: جاء في الرواية الأخرى في الأم": } } من المن الذي أنزل على بنى إسرائيل { { ، فيحتمل أنه على وجهه، وهو ظاهر الكلام، ويحتمل أنه على التشبيه كما تقدم.
قال الإمام: } } وماؤها شفاء للعين { { : يقال: إنه ليس معناه أن يؤخذ ماؤها بحتًا ؛ أي: صِرفًا، فيقطر في العين، ولكنه يخلط ماؤها في الأدوية التي تعالج بها العين فعلى هذا يوجه الحديث.
قال القاضي: قال بعض أهل المعرفة بالطب والحذق فيه وغيره في بعض ما ألفه وتكلم عليه في معنى هذأ الحديث: إما لتبريد العين من بعض ما يكون فيها من الحرارة فشفي بنفسها مفردة، وأما لغير ذلك فمركبة مع غيرها.
قوله:" كنا نجنى الكباث، فقال - صلى الله عليه وسلم - - ? } } عليكم بالأسود منها { { ، قال الإمام: هو النضيج من ثمر الأراك.
قال القاضي: هذا قول الهروى، وهو قول الأصمعي وغيره، وقال كذا أبو الحسين بن سراج حين قرأت عليه هذا الحرف: صوابه أن الكباث الذي لم ينضج، والمراد هو الذي نضج واسود، وأنشدنا عليه بيت أبي ذؤيب:
وسود ماء المرد فاها فلونه …كلون النؤر وهى أدماء سارها(7/261)
أي سايرها، وحكى مئل هذا عن الأصمعى أيضًا.
قال القاضي: ويدل على صحة هذا قوله في الحديث: " عليكم بالأسود منه "، وقال الحربي عن الأصمعى: المراد هو: الغض. والكباث: النضج، وكلاهما بفتح الكاف والضم، وحكى عن ابن الأعرابي أن الذي لم يسود هو الكباث والأسود هو البرير، وجماعه المزد، وحكى عن مصعب: ثم الأراك إذ ورد فهو مر فإذا حصوم وهو الكباث، فإذا اسود فهو البرير، ويحكى عن عمه: العصير، فإذا نضج بالعنب فهو البرير، فإذا تدنب فهو الكباث، وقال في كتاب آخر: الغض ونضيجه المراد وكله البرير، وحكى عن الأصمعي.
وقوله: كأنك رعيت الغنم ؟ قال: " نعم، وهل من نبى إلا رعاها { { : في هذا تدريب الله لأنبيائه برعاية الغنم ؛ للين جانبها وقلة تعبها ؛ لسياسة أممهم بغيرهم، ولما أراده الله لهم من الخلوة، والاستعداد لهدايته، والعزلة عن?الناس ؛ لصفاء قلوبهم ؛ ولما أعد الله من كرامته لهم؛ وليأخذوا حظهم من التواضع في رعايتها.(7/262)
وقوله: } } نعم الإدام الخل { { : قال بعضهم: سماه إدافا لأنه يصطنع به، قال: وكل ما يصطنع به، فهو إدام، هذا قول أصحاب أبي حنيفة، يقال: طعام مأدوم، وجمع الإدام: أدم، مثل إهاب وإهب، والأدم بالسكون رواه أيضًا، وجمعه أدم، ومنه في الرواية الأخرى: } } نعم الأدم الخل { { ، وفيه إثبات أن الخل أدم ولم يختلف فيه. وقد اختلف الناس فيما ينطلق عليه اسم الإدام، فمن حلف لا يأكل إدامًا، فحقيقة. مذهبنا أن ذلك راجع إلى اعتياد البلاد في الائتدام، ومعرفة الناس ذلك فيه، ويحنث بما هو عند الحالف إدام، ولكل قوم عادة أكلهم لخبزية غالبًا، كان مائعًا أو غيره؛ السمن، والعسل، والخل، والزيت، والودك، وا لشحم، والزيتون، والجبن، وا لحالوم، واللحم، والحوت مشويًا وطبيخًا، طريهما أو مملوحهما، والطير، والسلجم، والمركب، والسراز، وشبهه. ولم يروا الملح الجريش ولا المطيب إدامًا، وجعله بعضهم إدامًا. وذهب الكوفيون إلى أن الإدام: كل ما يصطنع به مما يستهلكه الخبز، مثل: اللبن، والزيت، والخل، وشبهه. وقال أبو ثور مثل قولنا، قال: والإدام: كل ما كان من طبيخ، أو شواء، أو لبن، أو سمن، أو خل، أو زيت، أو خبز، أو زيتون، وسمك طرى أو مالح، أو بيض، أو تمر، أو ما يأتدم به الناس، ونحوه قاله الشافعي وابن الحسين، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف في الخبز، والبيض، واللحم المشوي، وشبه ذلك مما لا يصطنع به، ليس بإدام، ولا يحنث به. وحجتنا وحجة الجمهور.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - - } } وقد أخذتموه { { ، وكسره هذه إدام هذه، وقوله: فما إدامهم ؟ قال: زيادة كبد النون { { ؛ لأن المعنى في الائتدام الجمع بين الخبز وما يطيبه عند الأكل ويسيغه، فما كان لهذه السبل معهود وهو إدام س. قال الخطابي: وقصده في الحديث التي على الاقتصاد في الأكل ولا يتألق في المأكل، كأنه يقول: ائتدموا في الخل وما تيسر.(7/263)
وقول جابر:" فما زلت أحب الخل منذ سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - " مثل قول أنس في الدباء، وقد تقدم الكلام فيه. وإدخال النبي - صلى الله عليه وسلم - جابر بعض حجر نسائه بعد إذنه له، وقوله:" دخلت الحجاب عليها "، ليس فيه أنه رآها، فقد يحتمل أن يكون قبل نزول الحجاب، وقد يحتمل أنه بعد دخل الحجاب بعد استتارها في جهة منه واحتجابها بشيء دونه.
واستدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - هل من غداءه من كريم أخلاقه - صلى الله عليه وسلم -?وكرمه، وبره بأصحابه.
قوله:" فأتى بثلاثة أقرصة فوضعن على بتي "، كذا ضبطناه عن الصدفي والأسدي من شيوخنا بفتح الباء بواحدة، وبعدها تاء باثنين من فوقها مكسورة مشددة، وبعدها ياء باثنين تحتها مشددة منونة. قال: البت: كساء من وبر أو صوف، فلعله منديل وضع عليه هذا الطعام كما لفته أم سليم بخمارها. وكان في كتاب الخشني عن الباجي نحوه، وكان عنده لابن ماهان مثله، إلا أنه بفتح الباء والتاء معا. وعنده للطبري:" بني" بضم الباء أوله بكسر النون في ثانيه وتشديدها.
قال القاضي الكناني: وهو صواب، وهو طبق من خوص. قال ابن وضاح: بني طبق أو مائدة من خوص أو حلفي، وجاء في بعض النسخ: "على نبي" بتقديم النون المفتوحة وكسرها الباء بواحدة بعدها. وقيل في تفسيرها: إنها مائدة من خوص، قال ثعلب: الثقبة شيء مدور يعمل من خوص وشريط، وهى التي تسميها العرب الثنية، قال ابن الأعرابي: هى البعتة والنعتة والمكيل والمكيلة، وفي كتاب العينى: البقعة: طبق من خوص عريض يبقى فيه الطعام. وقال كراع: البقعة: سفرة مدورة يتخذ من خوص.(7/264)
وقوله:" فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرصًا فوضعه بين يديه، وأخذ آخر فوضعه بين يدى، وكسر الثالث باثنين،، فجعل نصفه بين يديه ونصفه بين يدي ": هذا حقيقة المواساة، وموافق لقوله: } } طعام الواحد كافي الاثنين { { ، ولاشك أن هذه الأقرصة كانت صغارا مقدار غذائه - صلى الله عليه وسلم - - ?
ويحيى بن صالح الوحاظى، المذكور في سند الحديث، بضم الواو وحاء مهملة وآخره ظاء معجمة. ووحاظة قبيلة من حمير، كذا قيدناه عن شيوخنا، وقال القاضي أبو الوليد الباجى: بفتح الواو.
وقوله في الثوم حين سئل عنه؛ إذ لم يأكل منه: أحرام هو؟ قال: } } لا، ولكني أكرهه من أجل ريحها { { : نص في الباب، ورد على من حرمه من الظاهرية الموجبين حضور الجماعات، وقد تقدم الكلام في المسألة في كتاب الصلاة.(7/265)
وقوله فيه:" وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤتى ": كذا في روايتنا، وفي بعض الروايات:" يؤتى بالوحي "، وهو معناه، وتفسره الأحاديث الأخر: } } إني أناجي من لا تناجون، وإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم { { . وفي إرساله فضلة الطعام الذي كان يوجهه إليه أبي أيوب: أدب من آداب الطعام، أن يفضل الآكل والشارب مما يثل ويشرب، وقد أمر السلف بذلك، قد يحتمل أن يكون هذا الطعام الموجه به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عثاء جميعهم، فكانوا يبدؤون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيأخذ حاجته ويبقى فضله. ونزول النبي - صلى الله عليه وسلم - أولاً عند أبي أيوب في السفر فسره في الحديث: } } هو أرفق بي { { ؛ لقلة العناء له في طلوع العلو والمشقة في ذلك، ولمن يغشاه- أيضًا- من المسلمين، فيكون من في السفل أستر وأرفق لقلة العناء له في طلوع العلو، والمشقة بهم هم أيضًا، لكن أبا أيوب استقبح بقاءهم فوق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العلو ومشيه فوق رأسه، ومخافة ما يناله في ذلك من ضرر من شيء يسقط عليه لتحركهم فوقه، أو ما ينصب من ماء وغيره، فلم يزل به حتى نقله، فآثر - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أخف الضررين. وتتبعه مواضع أصابع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطعام تبركًا بذلك. وكراهة أبي أيوب لماكره النبي - صلى الله عليه وسلم -، مما تقدم ؛ لحبهم ما أحبه، وأن هذا كله من تمام الإيمان، ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن من أحب أحدًا أحب ما يحب، وكره ما يكرهه، وقد قال الله تعالى:{ قتُلِ إن كُنتُمْ تُحِبونَ اللهَ فَاتبِعُونِي يحْبِبْكُمُ اللهُ } } (1) { - ?
__________
(1) } ) الآية (31) من سورة ظظظىل عمران.(7/266)
وقول مسلم في سند هذا الحديث:حدثنا حجاج بن الشاعر وأحمد بن سعيد بن صخر، قال: حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا ثابت في رواية حجاج بن يزيد- أبو زيد الأحول- حدثنا عاصم. كذا في أصل الكتاب، وكذا ضبطناه عند شيوخنا، إلا أنه كان عند القاضي أبي على عن العذرى، وفي رواية حجاج بن زيد: أخو زيد، وكتب عليه خطأ.
قال القاضي: أما قوله:" أخو " فخطأ محض، كما قال: وإنما أراد مسلم بن حجاج، قال في نسب ثابت الذي روى عنه أبو النعمان: ثابت بن يزيد وهو أبو زيد الأنصارى، قال البخاري: ثابت بن يزيد أبو زيد سمع عاصما الأحول، وهلال بن حبان كناه لنا موسى ابن إسماعيل، وهو ثابت الأحول، ويعد في البصريين، قال أبو داود: عن ثابت بن يزيد أبو زيد، والأول أصح، فقد ذكر البخاري الاختلاف في اسم أبيه كما تقدم، وهو بصرى خرج عنه البخاري ومسلم، قال أبو حاتم الرازي: هو ثقة أحفظ من عاصم، وذكر أن شعبة دل عليه.
وقال يحى بن سعيد: هو وسط، وعاصم هو عاصم بن سليمان أبو عبد الرحمن البصرى، يعرف بالأحول أيضًا.
قال البخاري: مولى تميم، ويقال: مولى عثمان بن عفان، قاضي المدائن، خرج عنه البخاري ومسلم: وقال الثورى: كان حفاظ البصرة يليه سليمان التيمي، وعاصم الأحول، وداود بن أبي هند، وعاصم أحفظهم. وقال شعبة: عاصم أحب إلي من قتادة وأبي عثمان النهدي؛ لأنه أحفظهما. وقال يحى بن سعيد القطان: لم يكن بالحافظ وكان يضعفه. وقال ابن المدينى: هو ثبت. وقال ابن معين وأبو زرعة الرازي: هو ثقة. قال أبو حاتم: هو صالح الحديث. وروى عن ابن سيرين أنه قال: ما أبالي سمعت الحديث أو حدثنيه عاصم الأحول، توفي سنة ثنتين وأربعين ومائة.(7/267)
وحديث الذي نزل في قصته:{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَئ أَنفُسِهِم } } (1) { الآية، وقوله:" إنى مجهود": أي أصابنى الجهد؛ أي: الهزال، رجل مجهود: أي هزيل، وقد يكون من الشدة والمبالغة في الحاجة، ومنه جهد البلاء، وكله بالفتح. ومنه في حديث المقداد بعده:أ فذهبت أبصارنا وأسماعنا من الجهد".
وسؤال النبي - صلى الله عليه وسلم -?بعض نسائه عما تصنعوا به ؟ فقالت: ما عندي إلا ماء، وكذلك سائر أزواجه: فيه ما كان يتحفهم أحيانا من الضيقة وشدة العيش.
وقوله بعد:" من يضيفُ هذا ": فيه أنه بدأ أولاً بنفسه، وهذا حكم المواساة في الشدائد. وقصة الأنصاري معه، فيه غاية بر الضيف، والإيثار، وحسن السياسة في الأمور؛ إذ لو لم يطفي السراج لرأى الضيف أنهم لا يأكلون ويؤثرونه، فربما امتنع من الأكل وأكل قليلا. ومعنى: أهوى?بيدها: أي أمالها لشيء يأخذه، وقد تقدم.
وقوله: } } عجب ربكم من صنيعكم الليلة { { : قيل: فيما جاء في القرآن، والحديث من إضافة العجب إلى الله ؛ أي رضى فعل ذلك، وقيل: جازى وأثاب عليه، وقيل: عظم فعله ذلك عند الله، وقد يكون التعجب مضافًا إلى ملائكة الله وكتبه ورسله أفعال العباد وأقوالهم، وأضيف إلى الله تشريفًا لهم، كما قيل في قوله: } } اهتز العرش لموت سعد { { ، أي ملائكة، وفي غير حديث } (2) { - ?
__________
(1) } ) الآية (9) من سورة الحشر.
(2) } ) كل هذه التأويلات فاسدة لصرف النص عن ظاهره، والبعد عن الحق من إثبات صفة العجب لله تبارك وتعالى كما يليق بجلاله.(7/268)
وقد فسر مسلم في الرواية الأخرى أن صاحب هذه القصة هو: أبو طلحة. وقوله في حديث المقداد وأصحابه أنهم عرضوا أنفسهم على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقبلوهم، يعني- والله أعلم- القيام بهم؛ إذ ليس بفرض عين ويعلمهم أنهم لا يهلكون ولابد من قائم بهم، فكان متولى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلاف الأعنز الثلاثة بينهم وبينه، ولعل الصحابة في ذلك الوقت كانوا من القلة والجهد حيث كان ذلك موجب قعودهم عن القيام بهم.
و " الجُرعة": الشربة الواحدة، بضم الجيم، وشرب شراب النبي - صلى الله عليه وسلم - -
وقوله:" فلما وغلت في بطني ندمني الشيطان "، قال الإمام: الوغول: الدخول في الشيء وإن لم يتعد فيه، وكل داخل فهو واغل، يقال منه: وغلت أغل وغولاً ووغلاً، ولهذا قيل للداخل على الشرب من غير أن يدعى: واغل ووغل، والذي جاء في الحديث: } } هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق { { . قال الأصمعي وغيره: الإغال: السير الشديد والإمعان فيه، يقال: أوغلت إبغالاً.
قال القاضي: وخوفه من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فعله من شرب شرابه، ولقاء النبي ذلك بالتسليم، والدعاء بأن يطعم الله من يطعمه ويسقى من سقاه، بما كان جبل عليه من العفو، والصبر، والإغضاء، وحسن الكلام، والمباشرة، وكرم النفس، والنزاهة. وذهاب المقداد بالشفرة ليذبح من تلك الشياة فوجدها حفلا، كلها آية من آيات النبي، وبركة من بركاته؛ لحاجته إلى شرابه ذلك الوقت، وكما كن حلبن قبل هذا واستخرج ما فيهن من لبن.(7/269)
وقوله:" فلما عرفت أن النبي روى وأصبت دعوته، ضحكت حتى ألقيت إلى الأرض ": أي سقط من كثرة الضحك، يريد: ذهبت بما كان من الحزن على فعله من شرب شراب النبي، وسرّ بإجابة دعوة النبي ليسقي من سقاه، وإطعام من أطعمه. وبشرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وريه من اللبن وتعجبه من قبح فعله أولاً وحسنه آخرًا، وكون ذلك على يديه وذريعة لإعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقضية، ولذلك قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:" إحدى سوآتك "، وفي رواية الهوزني وأراها رواية، وابن ماهان: " أخبرنى بسوأتك"، وليس بشيء، هو تصحيف، والصواب الأول؛ أي: ضحكك هذا من أحد الأفعال السيئة من أفعالك. فأخبره خبره فقال - صلى الله عليه وسلم - - ? } } ما كانت هذه إلا رحمة من الله { { : أي إحداث هذا اللبن في غير حينه وعادته، وإن كان الكل من فضل الله.
وقوله: " روى " بكسر الواو، وكذا يقال في الشرب: روى يروَى، بفتحها في المستقبل. وأما " روى" بفتحها في الماضي وكسرها في المستقبل كذا الاستقاء على الإبل وغيرها في الرواية ونحوها، وكذلك في رواية الحديث وغيره.
وقوله في حديث عبد الرحمن بن أبي بكر:" هل مع أحد منكم طعام؟" فإذا مع رجل صالح من طعام، فأمر به فعجن، وذكر أنهم كانوا مائة وثلاثين: فيه استدعاء الفاضل من أصحابه ما معهم، لاسيما إذا كان ليطعمهم إياه ويشبع جميعهم. فيه: واشترى لي الشاة، وأنهم جعلوا الطعام قصعتين، فأكلوا أجمعون من ذلك، وفضلت فضلة من القصعتين حملت على البعير، وأنه أمر بسوادِ بطن الشاة فشوى، وأنه حز لكل واحد من المائة وثلاثين حزة من سواد بطنها، إن كان شاهدًا أعطاه دخان كان غائبأ خبأ له. وسواد البطن قيل: الكبد، وقد يححمل أنه جميع الحشى. وكيف كان ؟ ففي هذا الخبر معجزتان: إحداهما: في تكثير سواد البطن حتى وسع هذا العدد، والأخرى: تكثير الصاع ولحم الشاة حتى وسعهم أجمعين وشبعوا، كما جاء في الحديث:" وفضلت منه فضلةٌ ".(7/270)
قال الإمام: وقوله في الحديث: فجاء رجل مشرك مشعانُ قال الأصمعي: رجل مشعان، وشعر مشعان، وهو الثائر المتفرق.
قال القاضي: هو بضم الميم وشين معجمة وتشديد النون، يقال: اشعان الشعر إشعانا: إذا انتفش.
وقوله- صلى الله عليه وسلم - - ? } } ?من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث { { : كذا صحيح الحديث، وكذا ذكره البخاري، وجاء في جميع نسخ مسلم:" فليذهب بثلاثة "، والأول الصواب. ثم قال: } } ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، بسادس { { : هذا حقيقة المواساة بثلث القوت؛ لأن المد إذا نقصه ثك قوته لم يضره، وهذا مثل الحديث الآخر: } } طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة { { . وقد ذكر مسلم في حديث جابر: } } طعام الواحد كافي الاثنين، وطعام الاثنين كافي الأربعة، وطعام الأربعة كافي الثمانية { { : وهذا على المواساة بنصف القوت، دمالى هذا ذهب عمر في سنة الجماعة، وهو أن يجعل على كل بيت مثلهم، وقال: ا لن يهلك أحد عن نصف قوتها. قيل: يحتمل أن يريد بذلك- صلى الله عليه وسلم - التغذي وكفاية القوة ورد كلب الجوع لا الشبع والتملي؛ أي: طعام الواحد يغذي اثنين كان لم يشبعهما؛ إذ فائدة الطعام التغذى وحذر القوة. قيل: ويحتمل أن يريد به الحض على المواساة بما يضطر إليه الإنسان، وأن الله يجعل فيه البركة حتى يكفي اثنين. وفيه حض على التقليل من المأكل لأنه أصفى للذهن، وأنتج للجسم. وفي الإكثار من التملي والتخم الأسقام، وجادة النفس، وكلالة الذهن.
وقوله:" فجاء أبو بكر بثلاثة، وانطلق النبي بعشرة ": هذا على أخذ النبي بأفضل الأمور وأعظم المواساة، دهان جعل لواحد مثله؛ لأن عيال النبي لم يكونوا عشرين حتى تكون العشرة من حساب لكل اثنين واحد، وإنما هذا على الحديث الآخر عن جابر.(7/271)
وأما فعل أبي بكر ومجيؤه بثلاثة وعد من عياله نحو خمسة، فهو على الحديث الأول عن أبي هريرة: } } طعام الاثنين كافي الثلاثة { { ، وعلى مضمون حديث عبد الرحمن هذا: } } من كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، بسادس { { - ?وما ذكر من تعشى أبي بكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتغيبه عن أضيافه، فيه: جواز مثل هذا إذا كان وراءه من يقوم بأمرهم كعبدالرحمن هذا.
وقوله: } } أفرغ إلى أضيافك { { : أي اقصد لهم واعتمد على شغلهم، وهو التأويل في قوله تعالى:{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقَلان } } (1) { ، وقد يكون } } أفرغ إلى أضيافك { { : أي يفرغ من كل شغل إلا شغلهم، كما قال تعالى:{ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا } } (2) { ، من كل شيء إلا من ذكره والاهتمام به، وقيل غير هذا. وقوله:أ وكان أبي يتحدث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل، وقوله:، ولبث حتى تعشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - ?فيه جواز السمر بعد العشاء إذا كان علم أو مصالح المسلمين، ومسامرة الرئيس مع وزرائه لتدبير أموره ومصالح رعاياه. وإنما نهى عنه للحديث في غير فائدة. إيابة الأضياف من الأكل حتى يأتى أبو بكر أدب منهم؛ لئلا يتعشوا دونه ولم يعلموا أنه يتعشى عند النبي- صلى الله عليه وسلم - لكن الصواب للضيف ألا يتحكم على رب الدار فيما أدياه من طعام، وألا يكون له اختيار معه في ذلك، فربما كان لرب الدار عذر لا يمكن إبداءه فتحرجه مخالفتهم له كما كان من قصة أبي بكر وحرجه. وقول عبد الرحمنأ فذهبت فاختبأت ؛ يعني: خوفُا من أبي بكر، وكان - رضي الله عنه - في خلقه حدة، كما قال في الحديث نفسه:" إنه رجل حديد "، وأخشى أن يصبني منه أذى. ورواه القابسي:" فاحتبذت "، والأوجه الأول.
__________
(1) } ) الآية (31) من سورة الرحمن.
(2) } ) الآية (10) من سورة القصص.(7/272)
وقول أبي بكر له:" يا غنثر ! فجدع وسب " بضم العين المعجمة وفتح الثاء المثلثة وضمها معًا، قال الإمام: قال الهروي: أحسبه الثقيل الوخيم، وقيل: هو الجاهل. والغثارة: الجهل، يقال: رجل غثر والنون فيه زائدة.
قال القاضي: وقيل: الغنثر: سفهاء الناس. وقال كراع: الغنثر: ذباب أزرق، وقال غيره: هو مأخوذ من الغثر وهو اللؤم والسقوط، كأنه قال له: يالئيم. النون هاهنا زائدة، وهذه الكلمة إنما قالها له أبو بكر على سبيل السب والتعنيف له والتحقير؛ إذ لم يبلغه أمله من بر أضيافه وتقديمهم، وظن به السفريط فيهم، ألا تراه كيف قال: " فجدع وسب ".
قال أبو عمر الشيباني: جادعته مجادعة: ساببته، والمجادعة بالدال المهملة: المساببة والمساررة، وقال غيره: معناه دعى عليه بالجدع، وهو قطع الأنف والأذن وقد ذكر الخطابي هذا الحرف ورواه:" يا عنتر " بفتح العين المهملة وتاء بثنتين مفتوحة. وقال: هو الذباب تحقيرًا له، وقيل: هو الأزرف منه، وحكى في الرواية الأخرى عن البخاري وغيره كما تقدم. وعلقنا عن بعض الشيوخ أن صوابه: " غَنثَر" بفتح الغين المعجمة وفتح الثاء المثلثة، وبضم الغين ضبطها الخطابي في الرواية الأخرى، وبها ضبطناها عن عامة شيوخنا.(7/273)
وقوله:" كلوا لا هنيئًا " في الحديث الأول صفة للحال التي أخرجته، وأخرجه الحال بتأخرهم عن قِراهم وقت أتاهم، وأنهم لم يتهيؤوه حينئذ، إلا أنه دعا عليهم. وقد يحتمل أن الحرج والضجر الذي طبع عليه بنو آدم حمله على هذه الكلمة. وحلفه ألا يطعمه وحلفهم هم ألا يطعموا حتى يطعم، كله من عدم الهناء. وتحنيث أبي بكر نفسه، من كرم الأخلاق، والأولى تحمل المضيف على نفسه، إذ لو لم يحنث نفسه لا هو ولا هم خرجوا عنه دون قِركما، وفيه ما فيه وهم أعذر منه، فكان الأولى بصاحب المنزل والمضيف الحمل على نفسه والصبر، وتحنيث نفسه، وتطييب قلوب أضيافه بأكله معهم وإزالة حرجه، بذلك سنتهم، وتمام برهم بإجابتهم إلى مرادهم وتأنيسهم. والحديث الثانى في أكله معهم مفسر للأول، وهو أحسن مساقًا، وفي الأول تقديم وتأخير، ولم يذكر فيه أكله معهم. قوله: " أما الأولى فمن الشيطان ": يعني: حلفه ألا يطعمه، وقد جاء كذا في الحديث نفسه مفسرًا، يعني، يمينه. وقيل: بل أراد اللقمة الأولى للشيطان؛ أي: لقمعه وأخرى به ومخالفته الذي أغواه باليمين إذ بها وقع الحنث فيها. وما ذكر في بقية الحديث من أنهم ما كانوا يأخذون منها لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، وأنهم أكلوا حتى شبعوا وصارت أكثر مما كانت، وأنهم بعد أكل جميعهم حملوا منها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأصبحت عنده حتى أكل منها الناس الكثير. الذي ذكر في الحديث فيه كرامات الصديقين والأولياء، هاظهار الله قدرته وبركته على أيديهم. وقول زوجه:" لا وقرة عيني، لهن الآن أكثر منه قبل ذلك بثلاث: معنى لا، هنا- والله أعلم-: أي ما نقصت شيئًا، بل زادت فحذفت اختصارًا، وأقسمت بما رأته من قرة عينها من بركة بعلها وطعامها وسرورها بذلك. وقرة العين يعبر بها عن المسرة ورؤية ما يحبه الأنسان ويوافقه. قيل هو: ألا تستشرف عنة لشيء، ويقر لبلوغه أمنيته، مأخوذ من القرار. وقيل: هو مأخوذ من القر وهو البرد؛ أي: بقى(7/274)
الله عينه باردة. قال الأصمعي: معنى: أقر الله عينهأ: أي أبرد دمعته؛ لأن دمعة الفرح باردة. وضده عنده: أسخن الله عينه ؛ لأن دمعة العين سخنة.
وقول أبي بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم -: بروا وحنثت، فقال له: } } بل أنت أبرهم وأخيرهم { { : دليل على أنه لا حرج في تحنيث الإنسان نفسه إذا كفر كفارة يمينه، ولاسيما إذا أدى حنثه إلى مكرمة وفعل خير وصلاح. قال مسلم: بل هو مندوب إلى الحنث في مثل هذا، وربما وجب عليه أحيانًا بحسب تغير ذلك، وهذا مثل الحديث الآخر: } } من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه { { - ?
وقوله هنا:" قال: ولم تبلغني كفارة ": حجة للكافة من الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار في جواز الحنث قبل الكفارة؛ لأن أبا بكر لم يكفر قبل أكله، ولو كان لرواه في الحديث، فجاء أن كفارته إنما كانت بعد، وقد تكلمنا على المسألة فيمن منعها قبل.
وقوله: "ما لكم ألا تقبلوا عنا قراكم"، بتخفيف اللام على التحضيض، واستفتاح الكلام عند الجمهور، وعند ابن أبي جعفر بتشديدها، ومعناه: ما لكم لا تقبلوا قراكم، وما منعكم ذلك وأحوجكم إلى تركه، كما قيل في قوله:{ مَا مَنَعَكَ أَلأتَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُك } } (1) { ، ومثل قوله:{ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ الساجِدِين} } (2) { . والقرى، بالكسر والقصر: ما يصنع للضيف من مأكول ومشروب.
وقول أبي بكر:" يا أخت بني فراس ": نسب أم رومان، وفراس هو ابن غنم بن مالك بن كنانة. ولا خلاف في نسب أم رومان إلى غنم بن مالك. واختلف في رفع نسب أبيها إلى غنم اختلافا كثيرًا، وهل هي من بني فراس بن غنم؟ أو من بني الحارث ابن غنم؟ وهذا الحديث تصحيح كونها من بني فراس بن غنم - ?
__________
(1) } ) الآية (12) من سورة الأعراف.
(2) } ) الآية (32) من سورة الحجر.(7/275)
وقوله: " فعرفنا اثنا عشر رجلاً مع كل رجل ناس ": أي جعلناهم عرفاء فيه جواز العرافة. وفي كتاب أبي داود عنه - صلى الله عليه وسلم - - ? } } ?العرافة حق { { ، وذلك لما فيه من المصلحة للناس، وقوله في الحديث الآخر: } } العرفاء في النار { { ، قيل: يريد التعرض للرياسة والأثارة ؛ لما يخشى في ذلك من الغيبة، وتحذير القيام فيها بحق الله، والتقصير المؤدي للنار، وفيه نهيه عن مثل هذا.
وقوله: } } الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في مِعى واحد { { ، وذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضافه ضيف - وهو كافر- فأمر له بشاة فحلبت، فشرب حلاب شاة، ولم يستتم أخرى، فقال - صلى الله عليه وسلم - - ? } } المؤمن يشرب في معى واحد، والكافر يشرب في سبعة أمعاء { { ، وذكر قول ابن عمر لنافع في المسكين الذي رآه يأكل أكلاً كثيرًا: } } لا يدخلن هذا عليّ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر الحديث، قال القاضي: قوله:" ضافه ضيف " يقال: ضفت الرجل: إذا نزلت به، وأضفته: أنزلته إلى ضيافتي، وكذلك ضفته. والضيف: اسم الواحد والجميع، يقال: هذا ضيفي، وهؤلاء ضيفي وأضيافي وضيفاني وضيوفي، قال الله تعالى:{ وَلا تُخْزُوني فِي ضَيْفِي} } (1) { وكانوا جماعة من الثلاثة، قال الله تعالى عنهم:{ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى? { } (2) { الآيات.
__________
(1) } ) الآية (78) من سورة هود.
(2) } ) الآية (69) من سورة هود.(7/276)
قال الإمام: قيل: إن هذا في رجل بعينه، وقيل: إنه على جهة التمثيل، وقيل: المراد به أن المؤمن يقتصد، قال الله تعالى:{ وَالذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَعُونَ وَيَأكُلُونَ كَمَا تَأكلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوً ى لَهُم } } (1) { ، ويمكن أن يراد به: أن المؤمن يسمى الله عز وجل عند طعامه، أولا يشركه الشيطان فيه، والكافر لا يسمى الله تعالى عند طعامه، وقد روى مسلم أنه كل قال: } } إن الشيطان يستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه { { ، فإذا شاركه الشيطان فيه يضاعف الأكل وأربا على أكل المؤمن.
وقوله:" ضافه ضيف "؛ يعني: صار ضيفه، وأضفته: أنزلته على نفسك. وفيه ضيافة الكافر، ولعله استئلافًا له لِيسلم، أو لأن له عهدًا فخاف أن يضيع، وقيل: إنه ثمامة بن آثال، وقيل: هجاجة الغفاري. وكره مالك أن يؤكل مع النصراني في إناء واحد.
قال القاضي: وقيل: إن الرجل اسمه: نضلة، وقد جاء كذلك مسمى في حديث وهو: نضلة بن عمرو الغفارى، وقيل: هو، نضرة بن أبي نضرة الغفاري.
__________
(1) } ) الآية (12) من سورة محمد.(7/277)
وزعم أهل الطب والتشريح أن أمعاء الإنسان سبعة: المعدة،?ثم ثلاثة أمعاء بعدها متصلة بها: التواب، والصايم، والرقيق، وهى كلها رقائق. ثم ثلاثة غلاظ: الأعور، والقولون، والمستقيم، وطرفة الدبر، فيكون على هذا موافقًا لما قاله - صلى الله عليه وسلم -: أن الكافر المذكور إن كان يعنيه، أو بعض الكفار، أو من يأكل منهم بشرهة أو جشعة، أولا يسمى اسم الله على أكله، لا يشبعه إلا بملء أمعائه السبعة كالأنعام وأكلة الخضر، والمؤمن المقتصد في أكله بسبعة ؛ بل وعاء واحد، ويكفيه شغله بالطعام وتسكين ثورة الجوع عن استيفاء ما يوضع بين يديه وملء أمعائه به، قال الله تعالى:{ ذَرْهُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَل } } (1) { . وقيل: المراد بالسبعة: صفات سبعة: الحرص، والشره، وبعد الأمل، والطمع، وسوء الطبع، والحسد، والسِّمن. وقيل: شهوات الطعام على سبعة: شهوة الطبع، وشهوة النفس، وشهوة العين، وشهوة الفم، وشهوة الأذن، وشهوة الأنف، والضرورة سابعها وهو الجوع. والمؤمن لا يأكل إلا للضرورة، ولا يأكل للشهوة، فهو سُبع ما يأكله الكافر، ومن لا يأكله للضرورة، يأكل لهذه الأسباب السبعة وأن يملأ من الطعام، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - - } } ما ملأ إبن آدم وعاءً شرًّا من بطن، فإذا كان لابد فثلث للطعام، وثلث للشراب وثلث للنفس { { ، ففي قوله: " لابد " كان غاية المباح، فيجب أن يكون المستحسن بصفة وهو السدس أو أقل منه شيئًا وهو السبع. كا قال القاضي: والذي عندي أن قوله: "فإن كان ولابد" غاية إلى ضرورة الأكل لا إلى غاية مقداره، وأن الثلث في خير الاستحباب والإباحة، وقيل: المراد بالمؤمن هنا: التام الإيمان، المعرض عن شهواته والآخذ بالضرورة من أكله وشرابه.
__________
(1) } ) الآية (3) من سورة الحجر.(7/278)
وفائدة الحديث على الجملة- والله أعلم-: التقلل من الدنيا، والزهد فيها، وقصر الأمل، والقناعة، قال الله تعالى في الكفار:{ ذَرْهُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهمُ الأَمَل } } (1) { ، مع أن قلة الأكل من محاسن أخلاق الرجال، وضده كثرته، وبه مدحت أم زُرْعَ أبا زرع بأنه " يشبعه ذراع الجفرة، ويروية قبعة البعرة "، وذمت صاحبتها زوجها بأنه " إذا أكل لف، ماذا شرب اشتف ". وكراهة ابن عمر أن يدخل عليه المسكين الذي أكل كثيرًا ؛ لشبهه بالكافر، ولما رأى من حرصه وشرهه، وأن ما يتصدق به عليه من الطعام يكفي جماعة غيره ويسد خلتهم.
وقوله:" ما عاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعامًا قط..." الحديث: هو من آداب الطعام. وذكر مسلم في الباب حديث أبي معاوية: حدثنا الأعمش عن أبي يحيى- مولى أبي جعدة- عن أبي هريرة، من رواية ابن أبي شيبة وأبي كريب ومحمد بن المثنى وعمرو الناقد. وذكره- أيضًا- من رواية أبي كريب وابن المثنى عن أبي معارية، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، وهو مما ذكره الدارقطني وعلله. ومن جملة الأحاديث المعللة في كتاب مسلم التي أبان مسلم علتها كما وعد، وذكر الوجهين فيها والآراء والاختلاف، وأبو معاوية هذا: خالفه جماعة من الحفاظ في أبي يحيى منهم: الثورى، وشعبة، وجرير، وزهير، فرووه عن الأعمش عن أبي حازم، وقد ذكر مسلم روايتهم هذه إلا طريق شعبة أول الباب، وجاء بحديث أبي معاوية أخرًا بعدهم لعلته، ولم يذكر البخاري حديث أبي معاوية، لعلة، ولا خرجه من طريقه، وخرجه من طريق غيره.
باب تحريم إستعمال أواني الذهب والفضة
__________
(1) } ) الآية (3) من سورة الحجر.(7/279)
قوله - صلى الله عليه وسلم - - ? } } الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم { { ، وفي بعض الطرق: } } الذي يكل ويشرب في آنية الذهب والفضة { { ، قال الإمام: النهي عن ذلك؛ لأنه من السرف والتشبه بفعل الأعاجم، والمذهب عندنا: كراهية الشرب في إناء مضبب بالفضة، كما كره أن ينظر في المرآة فيها حلقة فضة، قال عبد الوهاب: ويجوز استعمال المضبب إذا كان يسيرًا.
قال القاضي: قال بعض شيوخنا: وعلة مجرد السرف لا يقتضي التحريم، كأواني البلاد، التي لها الثمن الكبير والياقوت، فإن استعمالها عندنا جائز غير حرام، لكنه مكروه للسرف. واختلف قول الشافعي في ذلك، فرأى مرة تحريمها لعلة السرف، قياسًا على الذهب والفضة، وكذلك يلزم هذا على مجموع العلة بالسرف واتخاذ الكفار لها، والصحيح أن تحريمها لعينها، وأن تعليلها لكونها قيم المتلفات، فإذا اتخذت أواني قلت في أيدي الناس، كما حرم فيها التجارة والربا. وأجمع العلماء أن الاعل والشرب في آنية الفضة والذهب واستعمالها لا يحل، وما روى عن بعض السلف في إجازة ذلك فشاذ، والظن به أنه لم يبلغه السنة في ذلك. واختلفوا في اقتنائها لغير الاستعمال، فمذهبنا ومذهب جمهور العلماء: أنه لا يجوز، وذهبت طائفة من العلماء إلى جواز اتخاذها دون استعمالها، كاتخاذ ثياب الحرير واقتنائها، وذهب بعض شيوخنا إلى تخريج ذلك من مسائلنا في التجارة بها، ولشيوخنا في هذه المسائل تأويلات معروفة. واختلف في المتوضي من ذلك، فعندنا: أنه يصح مع تحريم فعله، وقال داود: لا يصح، بناء على الأصل في الصلاة في الدار المغصوبة، وعندنا وعند الكافة: يصح، واختيار بعض أصحابنا الإعادة في الوقت، وهو مبني على الصحة، وعند أهل الظاهر: أنها باطل. واختلف فيما ضبب منها أو كانت، فيه حلقة، فمذهبنا ومذهب الجمهور من السلف والعلماء: كراهة ذلك كما تقدم، وأجاز ذلك أبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحق إذا لم يجعل فاه على الفضة، وروى(7/280)
مثله عن بعض السلف قالوا: وهو كالعلم في الثوب، والخاتم في اليد يشرب به، وفرق بعض العلماء بين الحلقة والضبة فاستخف الحلقة. واختلف إذا غشيت آنية الفضة والذهب برصاص أو نحاس أو كانت من نحاس فموهت بالذهب والفضة، فإن اعتبرنا مجرد السرف، جاز في الأول ولم يجز في الثانى، وهو أصل الشافعي، وإن اعتبرنا تحريم العين لم يجز فيهما، وهر أظهر ما في المذهب، وقيل: يجوز في الثانية لاستهلاك العين فيها. وأجمعوا على إيجاب الزكاة فيها إذا بلغ ذهبها النصاب.
وقوله: } } إنما يجرجر في بطنه نار جهنم { { ، رويناه بالفتح والضم، قال الأمام في معنى يجرجر: يصوت. والجرجرة: صوت البعير عند الهدير، فعلى هذه الرواية تكون الرواية:"نار جهنم " بالرفع، وقد يكون "يجرجر" بمعنى: يتجرع، وتكون الرواية على هذا: " نار جهنم " بالنصب. وقال الزجاج:" يجرجر في جوفه": أي يردده في جوفه.
قال القاضي: اختار الخطابي نحو هذا من النصب، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر:" نارًا من جهنم "، قيل: معنى هذا أنه يعاقب عليها في جهنم، فيحتمل أن يكون العقاب بجنس كسبه، كما جاء في عقاب شارب الخمر غير حديث، وذلك بأن يسقى المهل، أو حميم شرابها الذي يوصف بأنه نار أو كالنار، أو يكون أي عقاب عوقب به عليها من شربها المسبب له جرجرته. واختلف في المراد بالحديث، فقيل: المراد به: الخبر عن الكفار من ملوك العجم التي هى عادتهم: ! هى لهم في الدنيا ولكم في الآخرة "، وصفتهم كما قال في الحديث الآخر: } } هى لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ومن شرب بهما في الدنيا لم يشرب بهما في الآخرة { { ، وكقوله في ثوب الحرير: } } إنما يلبس هذه من لا خلاق له { { ، يريد: أنها لباس الكفار من الأعاجم، فأعلمنا بحالهم وحذرنا أن نتشبه بهم، وقيل: بل المراد بذلك نهى المسلمين عن ذلك، وأن من ارتكب نهيه استوجب هذا الوعيد إلا أن يغفر الله له.(7/281)
قوله:" أمرنا بسبع ونهانا عن سبع "، قال الإمام: تشميت العاطس: هو الدعاء له، يقال: شمت العاطس وسمته، بالسين والشين، والمعجمة أعلاهما،، قال ابن الأنباري: يقال: سمت فلان، وشمت فلانًا، وشمت عليه، فكل داع بالخير مسمت ومشمت. قال ثعلب: الأصل السين من السمت: وهو القصد، ومنه الحديث:" فدعى لفاطمة وسمت عليها ".
- - - - -
كتاب اللباس والزينة
وقوله:" ونهانا عن المياثر والقسي وعن لبس الحرير والإستبرق والديباج "، قال الإمام: المياثر سميت بذلك للينها، فإذا حمل النهي فيها على كونها حريرًا، كان فيه دلالة على النهي عن الجلوس على الحرير؛ لأنها إنما تكون في السروج، والسروج مما يجلس عليها، والمشهور عندنا: منع الجلوس على الحرير، وقال عبدالملك بإجازته، وعلى المنع باللبس المذكور في الحديث، وفي الحديث: النهي أن يجلس عليه، خرجه البخاري، وهذا يرد ما قاله عبد الملك، وكذلك المذهب عندنا النهي عن الجلوس عليه وإن كان بطانة لما يجلس عليه، أو محشوًا فيها يجلس عليه كما يحشى الصوف. والقسي: قيل: إنه المقزي، وأبدلت الزاي سينًا، وقيل: منسوب إلى موضع يقال له: القس، قال بعض أصحابنا: وهى ثياب يخالطها حرير.
قال القاضي: جاء عن على بن أبي طالب - رضي الله عنه - بعد هذا أنه قال: القيسة ثياب أتتنا من الشام، أو من مصر مضلعة، قال في البخاري: فيها حرير أمثال الأترج.(7/282)
والميثرة: كان النساء تصنعه لبعولتهن مثل القطائف الأرجوان، وقيل: الميثرة: جلود السباع، قال أبو عبيد: وأصحاب الحديث يقولونه: القسي، بالكسر. وأهل مصر يفتحون القاف، ينسب إلى بلاد يقال لها: القس. قال ابن وهب وابن بكير وأصحاب الحديث: هى ثياب مضلعة بالحرير تعمل بالقس من بلاد مصر مما يلي الفرما، وجاء في الحديث، حديث آخر:" المياثر الحمر "، وقال الطبري: المياثر: المنثرة، وكان النساء يصنعنه لأزواجهن من الأرجوان الأحمر، ومن الديباج على سروجهم، وكان من مراكب العجم والأرجوان: الصوف، بفتح الهمزة وضم الجيم. وقال الحربي عن ابن الأعرابي: هو كمدفقة تتخذ أ بصفة الشرح. وقال غيره هي: أغشية السروج من الحرير. وقال النضر: هى مرفقة محشوة ريشًا، أو قطن ويبسطه الرجل، وقيل: هى سروج من الديباج. قال بعضهم: وجه النهى عنهما إن لم يكن حريرًا حماية للذريعة أو يتشبه لراميها أنها حرير، وفي النهي عنهما النهى عن افتراش الحرير. ورمى حذيفة للدهقان ببناء الفضة، وذكر علته في الحديث: أنه كان نهاه أن يسقيه به، ولذلك عاقبه إذ غاظه ذلك من فعله بعد نهيه عنه. والدهقان: فارسي معرب، وهم زعماء القرى من العجم والفرس. قال أ أبو عبد،: يقال: دِهْقَان ودُهْقَان بالكسر والضم، ويحتمل إن سمى من جمع المال أو صبه وملأ الأوعية منه، يقال: دهقت الماء إدهاقا ودهقته: إذا أفرغته إفراغًا، ودهق لي دهقة من المال: أعطانيه، وأدهقت الإناء: ملأته، قال الله تعالى:{ وَكَأسًا دِهاقًا} } (1) { ، أي ملأى. فقد يكون اسم الدهقان من هذا، قال الشاعر: دهقانة تسجد الملوك لها يجبى إليها الخراج في الجرب أو يكون من اللين. والدهقة لين الطعام والدهقنة؛ لأنهم يلينون طعامهم وعيشهم لسعة أحوالهم، أو يكون دهقنة الطعام ولينه مشتقا من اسمهم؛ إذ هى عادتهم- والله أعلم. وقيل: معناه: الحذق والدهاء.
__________
(1) } ) الآية (34) من سورة النبأ.(7/283)
وذكر في حديث عمر أنه رأى حلة سيراء تباع، وقيل: مضلعة بالحرير، وكذا فسرها في الحديث في كتاب أبي داود، ونحوه للأصمعي، كأنها شبهت خطوطها بالسيور وهى الشركة، قال ابن شهاب: هي الثياب المضلعة بالقز، وقيل: الأشبه أنها مختلفة الألوان، وقيل: ضروب من الثياب، وقال مالك: هو وشى من الحرير، وقيل: هى الحرير الصافي. وقد جاء في الحديث الآخر في كتاب مسلم: " ديباج أو حلة حرير"، وفي آخر:" حلة من إستبرق "، وفي آخر " حلة سندس ". فهذه الآثار تدل على أنها حرير محض، والمحدثون، ينونون " حلة "، والمتقنون منهم لا ينونونها، ويرونها على الأضافة. وبالإضافة رواه ابن سراج، وقال سيبويه: ولم يأت فعلاء صفة على الصفة.
قال الخطابي: قيل:" حلة سيراء " كما قيل:" ناقة عشراء " لقولهم: ثوب وشى. والإستبرق: فسره في الحديث بغليظ الديباج وخشنه، وهو فارسي عربته العرب. والسندس: ما رق منه. وتقدم الكلام على معنى الحلة، وفيه جواز التجارة بثياب الحرير لقوله:" تباع عند المسجد ".
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -?له آخر الحديث: } } إنما بعثت بها إليك لتستمتع بها { { ؛ يعني: تبيعها، كذا جاء.
وقوله:" لو اشتريتها فلبستها يوم الجمعة وللوفد ": فيه جواز التجمل للوفود، والأعياد والمحافل ومجامع الإسلام، لأن فيها إظهار الإسلام، وجمالهم، وغيظ الكفار بهم، إلا أن يكون المجامع لآية وحالة مخوفة؛ كالكسوف والزلازل والاستسقاء، فليس بموضع تجمل، وهى مظان تضرع هاظهار الفاقة والمسكنة.(7/284)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - - ? } } إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة { { ، قال الإمام: اختلف الناس في لباس الحرير، فذهب قوم إلى منعه على الإطلاق، وآخرون إلى جوازه على الإطلاق، وجمهور العلماء على إباحته، ومنعه للرجال، والدليل على ما ذهب إليه الجمهور قوله - صلى الله عليه وسلم - - ? } } ?إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة { { . وأخرج مسلم في حديث الحلة: " فلما كان بعد ذلك أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بحلل سيراء، فبعث إلى عمر بحلة، وبعث إلى أسامةأ الحديث: وفيه أن أسامة راح بحلته، فنظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - نظرًا عرفت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر ما صنع، فقال: يارسول الله! ما تنظر إليّ، أنت بعثت بها إليّ، فقال - صلى الله عليه وسلم - - ? } } إني لم أبعث إليك بها لتلبسها، ولكن بعثت بها إليك تشققها خُمُرا بين نسائك { { : ففرق في هذا بين الرجال والنساء. وفي بعض طرقه:" أهدى إليه كلمة ثوب حرير فأعطاه عليًّا - رضي الله عنه - فقال: } } شققه خمرًا بين الفواطم { { : وفيه صلة الإخوان والقرابة وإن كانوا على غير الإسلام،?وجواز البيع والشراء على باب المسجد. وفي بعض طرقه:" فأمرني فأطرتها على نسائي "، وأظهر النكير على نسائه، فلما اعتذر إليه أ بأنه، بعثها، أخبره - صلى الله عليه وسلم - أنه بعثها ليشققها خمرًا بين نسائه. هذا حكم الحرير المحض، وأما المختلط كالذي سداه حرير ولحمته قطن أو كتان، فروى عن مالك أنه يكره من الثياب ما كان سداه حريرًا أن يلبسه الرجال، هو مذهب ابن عمر. وأجاز ابن عباس، قال بعض أصحابنا: اختلف فيه، وأجيز وكره، وإجازته أكثر.(7/285)
وأما الخز، فذكر ابن حبيب عيى خمسة عشر من الممحابة إجازته ويذكر عن مالك جوازه، قال عبد الوهاب: يجوز لبسه، وكرهه مالك لأجل السرف. وأما العلم يكون في الثوب، فذكر ابن حبيب أنه يرخص في لبسه والصلاة فيه لسان عظم، وقد روى عن مالك في غير كتاب ابن حبيب اختلاف في قدر الأصبع من الحرير تكون علمًا في الملاحف أو الثياب، فنهى عنه مرة وأجازه أخرى، ودليل إجازة اليسير منه: ما خرجه مسلم أن عمر - رضي الله عنه - خطب فقال:" نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير إلا موضع إصبعيه أو ثلاث أو أربع "، وفي بعض طرقه: فجاءنا كتاب عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: } } لا يلبس الحرير إلا من ليس له منه شيء في الآخرة، إلا هكذا { { ، قال أبو عثمان بإصبعيه اللتين تليان الإبهام، فرأيتهما إلا أزرار الطيالسة، فدل هذا على جواز العَلَم اليسير يكون في الثوب. وأما لو كان حريرًا محضًا فإنه يحرم منه القليل والكثير، وفي كتاب ابن حبيب النهي عن اتخاذ الجيب منه، وقد عورض ما في كتاب ابن حبيب، بما خرجه مسلم عن عبد الملك- مولى أسماء- قال: أرسلتني أسماء إلى ابن عمر فقالت: "بلغنى أنك تحرم أشياء ثلاثة: العلم في الثوب "، وذكرت ما سواه فحدثنا ابن عمر: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: } } إنما يلبس الحرير من لا خلاق له في الآخرة { { ، فخفت أن يكون العلم منه، قال: فرجعت إلى أسماء فأخبرتها، فقالت: هذه جبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخرجت إليّ جبة طيالسة بروونية، لها لبنة ديباج وفرجاها مكفوفان، بالديباج، فقالت: هذه كانت عند عائشة رضى الله عنها حتى قبضت، فلما قبضت قبضتها، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يستشفي بها. وهذا خلاف ما ذكر ابن حبيب.(7/286)
وقد أجاب بعض أصحابنا عن هذا بأن قال: لعل هذا الحرير أحدث فيها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن النبي كلدة لبسها وفيها هذا الحرير، فيكون في ذلك حجة على جوازه، هاذا احتمل سقط التعلق به. قال بعض أصحابنا: ما وقع في الحديث من استثناء العلم يدل على جواز اتخاذ الطوق منه أو اللبنة.
وأما السيراء فعند النسائي: أنه المضلع بالقز، قال الخليل: هو المضلع بالحرير. قال بعض شيوخنا: والأشبه أنها حرير مختلف الألوان، سميت سيراء لاختلاف ألوانها، وقد ذكر في بعض الطرق أنها من إستبردتي وهو كله حرير.
واختلف في علة النهي عن لبس الحرير فقال الأبهري: لئلا يتشبه بالنساء، وقال غيره: لما فيه من الخيلاء، واختلف في لباسه في القز، فمذهب مالك المنع، واستحب ابن الماجشون لباسه في الغزو؛ إذ لا يقصد به فيه الخيلاء الممنوعة، وأما لبسه للحكة فرخص فيه - صلى الله عليه وسلم - لبعض أصحابه، وقال القاضي عبد الوهاب: يجوز لبسه للضرورة والحاجة، وظاهر كلام مالك النهي عنه. والحلة ثوبان ؛ إزار ورداء.
وقوله:" فكساها عمر أخا له مشركًا له ": قيل: إنه كان أخاه لازمه. وفيه جواز صلة الكافر، وكان يقال في المذاكرة: إن هذا إنما يظهر وجهه على القول بأن الكافر غير مخاطب بفروع الشريعة ؛ فلهذا استجاز عمر - رضي الله عنه - أن يكسوها لمشرك. وذكر مسلم في حديث: أنه لمحة أرسل إليه قباءً ديباج، فقال: يا رسول الله ! كرهت أمرًا وأعطيتنيه ؟ فقال: } } إنى لم اعْطكَهُ لتلبسه إنما اعْطَيْتُكَهُ تبيعها { { ، فباعه بألفي درهم: وإنما أجاز له بيعه وإن كان محرمًا لباسَه على الرجل؛ لأنه يحل لبسه للنساء، وهى منفعة مقصودة تصح المعاوضة عليها.(7/287)
وأما قوله: } } إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة { { : الخلاق: النصيب الوافر من الخير، ومنه قوِله تعالى:{ فَاستمْتَعُوا بخَلاقِهِم} } (1) { ؛ أي: انتفعوا به،{ أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرة } } (2) { - ?
قال القاضي: قال الطبري: اختلف في قوله: } } إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة { { ، فقيل: من لا حرمة له، وقيل: من لا قوام له، وقيل: من لا دين له، قال: ومن لبسه لباس اختيال ممن لا خلاق له في الآخرة.
وقوله:" فكساها عمر أخًا له مشركا بمكة ": قيل: كان أخاه من أمه، وكذلك ذكر النسائي فيه صلة الرحم المشرك، وجواز الهدية له بما يصح استعمال المسلم له وما لا يصح، وقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - الحلل من أصحابه مما لا يجوز لهم لبسه لينتفعوا بها، كما قال في الحديث الآخر. فيه صحة ملك المسلم لثياب الحرير وشرائه وبيعه لها؛ لأن من المسلمين من ينتفع بها على ما تقدم من إناثهم، ولم يختلف العلماء في هذا. ومعنى قوله: "ليستمتع بها" يفسره قوله:" لينتفع بها وتصيب بها ما لا ومضى، حاجتك وتنتفع بثمنها " على ما جاء في الأحاديث الأخر.
والأرجوان، بفتح الهمزة وضم الجيم،: الصوف الأحمر.
وقوله في الحلة التي وجهها إليهما: } } شققها خمرًا بين نسائك { { ، وكذلك قال لأسامة: فيه جواز لباس النساء الحرير وهو قول الجمهور، والخلاف فيه شاذ. وقول علي في الحديث: - فأطرتها بين نسائي "، قال الإمام: معناه: قسمتها، يقال: طان لي في القسم كذا؛ أي: صار لي. قال الشاعر:
فما طار لي في القسم إلا ثمينها
__________
(1) } ) الآية (69) من سورة التوبة.
(2) } ) الآية (77) من سورة آل عمران.(7/288)
وقول النبي في الرواية الأخرى: } } شققه خمرًا بين الفواطم { { : قال ابن قتيبة: الفواطم ثلاث: إحداهن: فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - زوج علي، والثانية: فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي، وهى أول هاشمية ولدت لهاشمي، قال: ولا أعرف الثالثة. قال الأزهري: هى فاطمة بنت حمزة الشهيد. قال القاضي: كذا ذكره ابن قتيبة والأزهري كما قال، وذكره الهروي، وقد ذكر عبد الغني بن سعيد وأبو عمر بن عبد البر الحافظ: أن هذا الحديث رويناه من حديث يزيد بن أبي زناد، عن أبي فاختة عن جعدة بن هبيرة، عن على، وفيه أسماء النسوة المذكورات، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: } } اجعلها خمرًا بين الفواطم { { قال: فشققت منها أربعة أخمرة: خمار لفاطمة بنت أسد أم علي، وخمار لفاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم -، وخمار لفاطمة بنت حمزة. قال يزيد بن أبي زناد: فاطمة أخرى نسيتها. قال القاضي: يشبه أن تكون الرابعة فاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب لاختصاصها بعلي، وقربها بالمناسبة، وهى بنت شيبة بن ربيعة، شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حنينًا، ولها قصة مشهورة في المغانم ؛ إذ دفع إليها عقيل إبرة وقال: تخيطين بها ثيابك، فلما سمع منادي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألقاها في المغانم،، وقيل هي: فاطمة بنت الوليد بن عتبة، وقيل: فاطمة بنت عتبة، وهي التي تفاقم ما بينها ومن عقيل، فوجه عثمان ابنَ عباس ومعاوية حكمين بينهما، والقصة مشهورة في "المدونة" وغيرها. وما في الحديث من ذكر فاطمة بنت أسد صحيح ويصحح هجرتها، قال غير واحد خلافًا لمن زعم أنها لم تهاجر، وأنها ماتت قبل الهجرة. وذكر مسلم في الباب: حدثني محمد بن مثنى، حدثنا عبد الصمد، سمعت أبي يحدث قال: حدثنا يحيى بن أبي إسحق قال: قال لي سالم بن عبدالله في الإستبرق، قلت: ما غلظ من الديباج وخشن منه، ثم ذكر حديث عمر كما كذا وقع في جميع النسخ في مسلم، ووقع في كتاب البخاري في الجامع(7/289)
وفي النسائي: قال لي سالم: ما الإستبرق؟ وهو وجه الكلام وصوابه.
وذكر مسلم في الباب: حدثنا يحيى بن يحيى، أنبأنا خالد بن عبدالله، عن عبد الملك، عن عبدالله مولى أسماء بنت أبي بكر، وكان خال ولد عطاء قال: أرسلتني أسماء إلى عبدالله فقالت: بلغنى أنك تحرم أشياءً ثلاثة: العلَمُ في الثوب، وميثرة الأرجوان، وصوم رجب كله، قال الإمام: هكذا رواية ابن ماهان والكسائي، ووقع في أصل الجلودي:" وكان خال ولد عطارد " بزيادة راء ودال بدلا "عطاء" قال نعمتهم: والصحيح ما في رواية ابن ماهان.
قال القاضي: وأمَّا قول عبد الله- وهو ابن عمر- في جوازها: أما ما ذكرت من رجب فكيف بمن يصوم الدهر: دليل على إنجازه ما بلغها عنه من ذلك، وفيه حجة على جواز صيام الدهر، وأن مذهب ابن عمر إجازته. وأنا ما ذكر عنه من كراهة علم الحرير، فقد أخبر أن ذلك لورع منه، وخوف أن يدخل في جملهّ النهي عن لباس الحرير، ومذهبه منع قليله وكثيره، وقد تقدم الكلام عليه.
وقوله: وأما ميثرة الأرجوان، فهذه ميثرة عبدالله، فإذا هي أرجوان، يعني: التي يركب أو يجلس عليها، يريد أيضًا إنكار ما بلغها عنه من ذلك. وقول أسماء:" هذه جبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخرجت جبة طيالسية كسروانية": كذا روايتنا عن الجمهور بكسر الكاف، هى عند الخشني عن الهروى:" طيالسة خسروانية، لها لبنة ديباج، وفرجاها مكفوفان، بالديباج": اللبنة، بكسر اللام وسكرن الباء: رقعة في الجيب، قاله صاحب العين، والفرج في الثوب: الشق يكون فيه خلفه وأمامه في أسافله، وإنما يكون في الأقبية وشبهها من ملابس العجم.
ومعنى " مكفوفان بالديباج"؛ أي: جعلت لهما كفة- بالضم- وهو ما يكف به جوانبها، وكل شيء مستطيل كفة- بالضم-. قال الخطابي: المكفف من الحرير: ما اتخذ جنبه منه، وكان لذيله وأكمامه كفاف منه، تقدم الكلام على معنى هذه الجبة.(7/290)
وقول من قال: لعل الحرير كان محدثًا فيها بعد موت النبي- صلى الله عليه وسلم -، وهذا بعيد جدًا؛ لأن أسماء إنما احتجت بها على العلم للباس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?إياها لأجل الحرير الذي فيها، وقيل: لعل النبي إنما كان يلبسها في الحرب، وقد تقدم الكلام على هذا الفصل.
وقولها: " فنحن نغسلها للمرضى يستشفي بها ": لما في ذلك من بر ما لبسه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لمسه، ولقد جرت عادة السلف والخلف بالتبرك بذلك منه - صلى الله عليه وسلم - ووجود ذلك وبلوغ الأمل من شفاء وغيره.
وذكر في الحديث بعده: حدثنا أبو بكر بن أبي لمصيبة، حدثنا عبيد بن سعيد. كذا لكافة شيوخنا، وفي بعض النسخ: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عبيد، وفيه: سمعت عبد الله بن الزبير يخطب يقول: لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإنى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: } } لا تلبسوا الحرير فمن لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة { { ، هذا مذهب عبد الله ومن قال بقوله بتحريمه على الرجال والنساء، وحمله له على العموم. وقد انعقد الإجماع بعد من العلماء على جوازه للنساء، وقد ذهب قوم إلى نسخ هذا الحديث لما ورد مما يخالفه في أمر النساء، وتخصيص تحريمه بالذكور، وقيل نسخ في النساء والرجال بالإباحة، والجمهور على أنه ليس فيه ناسخ ولا منسوخ، وإنما هذه أحاديث مجملة، وحديث تخصيص الرجال بذلك مفسر لها، وحمل بعضهم النهى العام في ذلك على الكراهة لا على التحريم.(7/291)
وفي قوله: } } من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة { { ؛ وروى ابن الزبير أنه قال: } } لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة { { ، قال الله تعالى:{ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِير } } (1) { : يحتمل أنه يريد بالحديث كفار ملوك العجم والأمم الذي كان زيهم، ويحتمل أنه يريد من أراد الله عقابه بذلك من مذنبي المؤمنين فتحريمه في الآخرة وقفًا قبل دخول الجنة، وإمساكه عنها مدة حسابه.
وقد يحتمل أنه يمنع من لباسه بعد دخول الجنة لكن ينسيه الله أمره، وشغله عن ذكره، يشغله بلذات أخر عنه حتى يقضي الله أمر حبسه عنه أو أبدًا، ويكون أهذا منها، أثناء ذلك بحالة غير ملتفت إلى ما نقصه من لباسه، ولا حاسد غيره عليه، ولا منتغص بذلك، ولا ذاكر له؟ ليتم لذته دون نغص، ولا حسد ولا رؤية نقص لحاله؛ إذ لا حزن ولا نغص في الجنة، ولا يرى أحد منهم أن منزلة غيره فوقه، ولا لذة فوق لذته، كما أن أهل الغرف في عليين يراهم من دونهم كالكوكب الدري في أفق السماء، ثم من دونهم لا نقص عنده بحالهم ولا نقص لحاله دونهم. وقد يكون معنى قوله: " لم يلبسه في الآخرة! إذ حرم أن يلبسه في الآخرة مدة عقابه إذا عوقب على معصيته بارتكاب النهي. وهذا الحديث وشبهه يدل على تحريم لباسه مع النص، وفي بعضها بقوله: } } حرام على ذكورها { { - ?
وقوله:" أن أكيدر دومة أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثوب حرير ": فيه قبول الخليفة هدية الملوك والمشركين، وكان ملك أيلة، وأسلم بعد هذا، وقبول الأمراء هدايا المشركين، وقد تقدم الكلام على هذا قبل.
و " دومة " بالفتح حكاه ابن دريد، قال: والمحدثون يضمون الدال وهو خطأ. قال القاضي: وقد رويناه عن الجُلة بالوجهين، وكذا ضبطناه عن ابن سراج وغيره.
__________
(1) } ) الآية (23) من سورة الحج، و(33) فطر.(7/292)
وقوله في حديث عقبة: " أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فروج حرير فلبسه، ثم صلى فيه، ثم نزعهأ الحديث، وكذلك في حديث جابر في قصة عمر: لبس النبي له كان قبل تحريمه على الرجال ونزول الوحى بذلك، ألا تراه كيف قال في حديث عمر:أ إن جبريل نهانى عنها. وهذا أولى من قول من قال: لعله نزعه لكونه من زى العجم.
وقوله:" أوشك أن نزعه "؛ أي: أسرع وأقرب، وكذا قوله: "فأوشك ما نزعته "، هذا يرد قول الأصمعي في أن هذه اللفظة لا تأتي في الماضي، ولا يقال: أوشك، وإنما تأتي في المستقبل:" يوشك " بكسر الشين، وقد ذكر فيه " أوشك " الخليل وغيره.
والفروج - بفتح الفاء وضم الراء وتخفيف الراء-، وقيل: قباء مشقوق من خلف، أما من الطير فكذلك، لكنه بالتثقيل فقط.(7/293)
وقوله:" رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن عوف والزبير في القميص الحرير في السفر من حكة كانت بهما، أو وجع كان بهما "، ولم يذكر في الحديث الآخر السفر، وفي حديث آخر: أنهما اشتكيا إليه القمل، فرخص لهما في ذلك في غَزَاة لهما،: مذهب مالك منعه في الوجهين، وبعض أصحابه يبيحه فيهما، وقد تقدم الكلام في ذلك. قال الطبرى: يستدل به إن كان علة بالإنسان تضطره إلى لبس الحرير، ويرجأ بلبسه خفتها أنه يجوز معها لباسه. وحديث أبي عثمان:"كتب إلينا عمر ونحن بأذربيجان: يا عتبة بن فرقد..." الحديث: قال الدارقطني: خرجه البخاري ومسلم، وهو مما لم يسمعه أبو عثمان، إنما هو عن كتاب عمر، وهذا الحديث هو مما تتبعه عليهما، وهو حجة في جواز الحديث من الكتاب وإن لم يقل: حدث بما فيه عنى، كما قال منصور وأيوب: إذا كتبت إليك فقد حدثتك. والحجة في ذلك أيضًا: كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عماله وأمرائه وامتثالهم ما فيها، وقوله في الرواية الأخرى: " أتانا كتاب عمر ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد"؛ يريد أنهم معه بأذربيجان، فالكتاب جامعه بدليل الحديث الأول:" أتانا كتاب عمر ونحن بأذربيجان:أ يا عتبة بن فرقد" كما تقدم، ويدل عليه من هذا الحديث أيضًا قوله:" أو بالشام".
وقوله: } } ليس من كدك ولا من كد أبيك وأمك { { : يعني: مال المسلمين. والكد: التعب والمشقة والشدة؛ أي: ليس من كسبك وتعبك في ذلك فتشح به.
وقوله: } } فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع به في رحلك { { : يعني: إدرار أرزاقهم، وقسم مال الله عليهم ولا يؤثر نفسه عليهم بلين العيش ولا كثرة مأكول.(7/294)
وقوله: " وإياك والتنعم وزى أهل الشرك ولبوس الحرير، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبس الحرير إلا هكذا "، ورفع إصبعين: وهذا طرف من حديث أبي عثمان هذا، وفيه زيادة كثيرة. وروى شعبة عن قتادة عن أبي عثمان، النهدي قال:" أتانا كتاب عمر ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد: أما بعد، فاتزروا، وارتدوا، وانتعلوا، وألقوا الخفاف والسراويلات وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، واياكم والنعم وزي العجم، وعليكم بالشمس، فإنها خيام العرب، وتمددوا، واخشوشنوا، واخلولقوا، واقطعوا الركب، وانزوا وارموا على الأغراض، فإن رسرل الله كلتا نهى عن الحرير إلا هكذا، وضم إصبعيه السبابة والإبهام ؛ يعني الأعلام. وذكر مسلم أيضًا في الحديث:" فرئيتهما إزار الطيالسة" يريد أطواقها والله أعلم. قوله في الحديث الآخر:" قال عثمان: فما غنما إلا أنه الأعلام ": كذا روايتنا عن الصدفي والأسدي، ومعنى ذلك: أي لم يتردد ولم يبطئ. وفي رواية الطبري:" فما علمنا إلا أنه يريد الأعلام "، قال بعضهم: صوابه:" فأعلمنا أنه يريد الأعلام "، كذا وقع في رواية، أبي بكر بن المهندس في "فوائده"، رواه قاسم بن أصبغ:" فعلمنا أنه يريد الأعلام ". وذكر مسلم- أيضًا- في الباب: حدثنا قتادة عن الشعبي، عن سويد بن غفلة: أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية. وذكر فيه:" إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع ". وقد تقدم الكلام على العلم من الحرير والخلاف بين العلماء في تقديره ممن رخصه، ومنع من منع قليلة وكثيره، وقد احتج بعضهم بالترخيص في قليله والعلم، على أن النهي عنه نهي كراهة للسرف والاختيال. وهذا الحديث أيضًا مما استدركه الدارقطني على مسلم وقال: له يرفعه عن الشعبي إلا قتادة وهو مدلس، ورواه شعبة، عن أبي السفر، عن الشعبى من قول عمر، ورواه بيان وداود بن أبي هند عن الشعبى، عن سويد، عن عمر قوله، وكذا قال شعبة: عن الحكم، عن خيثمة عن سويد، وابن عبد الأعلى، عن سويد، وأبو حصين عن(7/295)
إبراهيم عن سويد.
وقوله: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليَّ ثوبين معصفرين فقال: } } هذه من لباس الكفار فلا تلبسها { { ، وفي الحديث الآخر: } } أأمك أمرتك بهذ ؟ { { قلت: أغسلهما ؟ قال: } } بل أحرقهما { { ، وفي الآخر النهي عن لبس الذهب والمعصفر، قال الإمام: رُوي عن مالك أنه أجاز لباس الملاحف المعصفرة للرجال في البيوت وفي أفنية الدور، وكره لباسها في المحافل وعند الخروج إلى الأسواق، فكأنه رأى أن التصرف بها بين الملأ من الناس اشتهار؛ فلهذا نهى عنه، وفي الديار ليس فيها اشتهار فأجازه. وأما المصبوغ بالمشق هو المغرة فيجوز لباسه. وأما المغير بالزعفران فاختلف الناس فيه، وبالجواز قال مالك لما وقع في حديث ابن عمر:" رأيتك تصنع أربعًا " فيه الصبغ بالصفرة وقد تقدم الحديث. وحجة من نهى عنه ما ورد من النهي عن نهى تزعفر الرجل. ومجمل هذا عندنا على أنه غير بدنه بالزعفران تشبها بالنسوان وهو أظهر من هذا اللفظ، هكذا قال بعض أصحابنا. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - - } } أحرقها { { فلعله على وجه التغليظ والعقوبة في المال.
قال القاضي: اختلف الناس في لباس المعصفر، فأجاز لباسه جماعة من الصيجإبة والتابعين والفقهاء، وهو قول الشافعية وأهل الكوفة ومالك، إلا أنه قال: وغير ذلك من اللباس أحب إلى ولا أعلم فيه شيئًا حرامًا. واختلف في لباس المعصفر عن ابن عمر، وكره بعضهم جميع ألوان الحمرة، وأباح بعضهم ما خف، وكره ما اشتدت حمرته، وهو قول عطاء وطاووس، ورخص بعضهم فيما يمتهن منها وكره ما يلبس، وهو قول ابن عباس.
وحمل الطبري النهي عن ذلك على الكراهة؛ لأنه- صلى الله عليه وسلم - قد لبس حلة حمراء لتعلم منه جواز ذلك، وفي حديث ابن عمر:" رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بالصفرة "، وقد تقدم في الحج الكلام عليه.(7/296)
وقال الخطابي في النهي: إنه منصرف إلى كل ما صبغ من الثياب بعد النسج، وأما ما صبغ غزله ثم نسج فغير داخل في النهي، وحلل اليمن إنما يصبغ غزلها وهي حمر وصفر وخضر ما بين ذلك من الألوان ولا يصبغ بعد النسج. وحمل بعضهم النهي عن ذلك للمحرم خاصة كما جاء في حديث ابن عمر:" نهى أن يلبس المحرم ثوبا مصبوغا بورس أو زعفران". وقد مر الكلام على تختم الذهب، ومر الكلام على القراءة في الركوع والسجود في الصلاة.?
وقوله: } } أمك أمرتك بهذا { { : إشارة- والله أعلم- إلى لباس المعصفر للنساء ومن أخلاقهن.
وقوله:" وكان أعجب اللباس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحبَرَة ": فيه جواز لباسها، وهى ثياب كتان أو قطن يمنية محبرة؛ أي: مزينة محسنة والتحبير: التحسين.
وقوله:" خرج - صلى الله عليه وسلم - وعليه مرط مرحل من شعر أسود ": كذا رويناه عن الجمهور بالحاء المهملة وعند الهوزنى بالجيم، وهذا حديث وصله، مسلم ومن فوقه لإثبات هذه السنة من لباس ما هذه صفته من المروط. والمرط: كساء من صوف مربع، يجمع مرط ومروط. قال ابن الأعرابي وأبو زيد هو: الإزار. قال الخليل: هو كساء من صوف، أو خز أو كتان. قال الخطابي: هو كساء يؤتزر به. وقال النضر: لا يكون المرط إلا درعا وهو من خز أخضر، ولا يسمى المرط إلا الأخضر، ولا يلبسه إلا النساء، وما جاء في الحديث من قوله:" من شعر أسود". وتمام الحديث بعد هذا من إدخال على وفاطمة وابنيهما فيه ودعائه لهم، وهذا مما يصحح أنه كساء لا إزار.
قال الإمام:" مرط مرحل " بالحاء: أي موشى، سمي بذلك؛ لأن عليه تصاوير الرحال. وجمعها المراحل ومنه الحديث: " حتى يبني الناس بيوتًا يوشونها وشى المراحل،، ويروى: " المراجل" بالجيم أيضًا، ويقال لذلك العمل: الترجيل.(7/297)
قال القاضي: المرجل، بالجيم: الذي عليه تصاوير الرجال. قيل: الذي عليه تصاوير المراجل وهى القدور، ومنه قيل:" مرط مرجل"، على الإضافة. وقال الخطابي: المرجل الذي فيه خطوط.
وقوله:" كان وساد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يتكئ عليه من أدم، حشوها ليفًا "، وفي الحديث الآخر: " كان فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وضجاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي ينام عليه أدم، حشوه ليف ": وهما بمعنى. فيه جواز اتخاذ الوسائد والاتكاء عليها والارتفاق بها، واتخاذ الفراش للنوم محشوًا، واستعمال الأدم وهى الجلود في كل ذلك.
وقول جابر: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تزوجت: } } أتخذت أنماطًا ؟ { { قلت: أنى لنا أنماط، قال: } } إنها ستكون { { ، قال جابر: وعند امرأتي نمط، فأقول: نحيه غني، فتقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: } } إنها ستكون { { فأدعها.(7/298)
قال الخليل: النمط: ظهارة الفراش، وقال ابن دريد: النمط: ثوب من صوف يطرح على الهودج. والذي يدل من حديث جابر: أنها من غير هذا، أو أنها فرش- كما قال الخليل- أو ستور تعلق لقول عائشة- في الحديث الآخر الذي ذكره مسلم بعد هذا:" فأخذت نمطا فسترته عن الباب ". ففيه جواز اتخاذ الستر من الصوف، وإن كان كرهها بعض السلف ورآه من السرف، واحتجوا بالحديث الذي ذكره مسلم بعد هذا: " أن الله لم يأمرنا أن نكسوا الحجارة والطين "، وهذا ليس فيه دليل تحريم، لكن فيه التنزه عنه، وهو كقوله في الحديث الآخر:" كلما دخلت هذا ذكرت الدنيا "، فيه جواز اتخاذ الأنماط فرشًا إذ لم تكن حريرًا أو كان مما يجلس عليها النساء خاصة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - - ? } } إنها ستكون { { ، ولم ينكر اتخاذه،. وقد تكون هذه الأنماط من غير الحرير فيجوز اتخاذها للرجال والنساء، يدل عليه حديث عائشة فى النمط، وأنها قطعت منه وسادتين فلم يعب ذلك على، وفى الرواية الأخرى:" وكان يرتفق بهما فى البيت "، ويكون قول جابر قوله:" نحه عني "؛ أى: من بيتي ؛ لما فيه من زينة الدنيا كما قال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة، لا لأنه كان يجلس عليه أو يغطيه، كما يظن بعضهم أنه كاللحف والطنافس وشبهها. وفيه أنه آية بينة من علامات نبوته - صلى الله عليه وسلم - واخباره فيما لم يكن بعد أنه يكون، ثم كان كما قال.
وقوله:" كان ضجاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفراش رسول الله الذى ينام عليه "؛ لكن يفسره الحديث الآخر:" كان وساد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": يريد ما يجعل تحت رأسه لا ما يجعله تحته. والضجاع: ما يضجع عليه. وفي حديث ابن عباس:" فاضجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى طول الوسادة واضجعت فى عرضها "، فهذا يدل أنه وضع رؤوسهما عليها.(7/299)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - - } } فراش للرجل، وفراش لامرأته، والثالث للضيف، والرابع للشيطان { { : يريد أن ما زاد على الحاجة فاتخاذه إنما هو للمباهاة والاختيال، وما لبس للتزين لا من ضرورة الحياة الدنيا فهو من المكروه المذموم، وكل مذموم مضاف للشيطان. وقد يحتمل أن يكون على وجهه، وأنه إذا كان هنا متخذا لغير حاجة كان للشيطان عليه مبيت ومقيل، كما له في البيت إذا لم يسم الله، عند دخوله، وفي الطعام عشاء إذا لم يسم الله عليه، أو لم يغط بالليل. وفيه حجة أنه لا يلزم الرجل النوم مع أهله ولا من حقها، وأن له أن يتخذ فراشا لنفسه، ولو كان لا ينبغى له لم يكن هنا اتخاذه جائز، أو لكان زائدا، لكن هو جائز بإجماع، ولذلك يدل حال النبي وكونه مع أهله في فراش في حديث ميمونة وعائشة وغيرهما. لكن كون كل واحد?منهما بمعزل إلا عند الحاجة للاستمتاع مما يستحب؛ لإصلاح الجسم، وقلة استدعاء المواقعة، وتحريك الشهوة بالمباشرة في كل حال.
قوله: } } لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء { { ، زاد في رواية أخرى: } } يوم القيامة { { ، وفي الآخر: } } ومن جر إزاره لا يريد إلا المخيلة { { ، وفي الآخر: } } بطرًا { { : المخيلة والخيلاء والبطر: بمعنى، وهو الكبر والزهو والتبختر، قال الله عز وجل:{ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } } (1) { ، وقال:{ إنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِين } } (2) { ، قال سيبويه: الخيلاء: فعلاء - ممدود- اسم بضم الخاء، ويقال بكسرها،. قال الإمام: المخيلة: يعني الكبرياء، يقال: خال الرجل خالا واختال اختيالا: إذا تكبر، وهو رجل خال: أي متكبر، وذو خال: أي ذو تكبر، ومنه قول ابن عباس: كل ما شئت، والبس ما شئت إذا أخطأتك حالان: سرف ومخيلة، ومنه قول أبي طلحة لعمر: ولا تخول عليك؛ أي: لا تتكبر.
__________
(1) } ) الآية (23) من سورة الحديد.
(2) } ) الآية (23) من سورة النحل.(7/300)
قال القاضي: قوله: } } من جر ثوبه { { عموم في كل ثوب ؛ إزار وغيره، وقد روى أصحاب المصنفات: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: } } الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جر منهما شيئًا لم ينظر الله إليه يوم القيامة { { ، قالوا: وإنما خص الإزار في بعض الحديث؛ لأنه كثر ما كان يستعمل في عهده - صلى الله عليه وسلم - ويجر ويرخى. وأجمع العلماء: أن هذا ممنوع في الرجال خاصة دون النساء.
وقوله: } } خيلاء { { : دل أن النهي إنما تعلق لمن جره لهذه العلة، فأما لغيرها فلا، من استعجال الرجل لحاجته وجر ثوبه خلفه، أو من قلة ثياب ردائه على كتفيه فلا حرج.
وقد جاءت في ذلك كله أحاديث صحيحة فِي الرخصة فيه، وكذلك إن كان جره خيلاء على الكفار أو في الحرب؛ لأن فيه إعزازًا للإسلام وظهوره في استحقار عدوه وغيظه، بخلاف الأول الذي إنما فيه استحقارُ المسلمين وغيظهم والاستعلاء عليهم، وفي ذلك أيضًا أثر صحيح، وإن كان قد روى عن ابن عمر كراهة ذلك على كل حال.
وقوله: } } لا ينظر الله إليه يوم القيامة { { : أي لا يرحمه، كما قال تعالى:{ وَلا يَنظرُ إلَيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يزَكِّيهِم } } (1) { الآية.
وقوله في حديث ابن عمر في جر الإزار أنصاف الساق مثل حديث أبي: } } إزار المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، ما أسفل من ذلك ففي النار { { ، وجعل الحد المستحسن المشروع إلى نصف الساقين، والإباحة والرخصة إلى الكعبين، وما دون ذلك محظور متوعد عليه فاعله بالنار، وذلك القدر من رجليه وساقيه في النار، وذلك إن عاقبَهُ الله وأنفذ عليه وعيده، وبهذا فسره نافع. قال أهل العلم: ويكره بالجملة كل ما زاد على الحاجة والمعتاد في اللباس من الطرل والسعة. وقد كره ذلك مالك وغيره من أهل العلم، وروي عن عمر وعلى مثله.
__________
(1) } ) الآية (3) من سورة آل عمران.(7/301)
وقوله: } } بينما رجل يتبختر يمشي في برديه أعجبته نفسه، فخسف الله به، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة { { ، قال الإمام: يتجلجل فيها: أي يتحرك أ يعني في الأرض، والجلجلة: الحركة مع صوت؛ أي: يسوخ فيها حتى يخسف به.
قال القاضي: قال الخليل: التجلجل: السيوخ في الأرض مع التحرك والاضطراب. وقال الحربي: الجلجلة: الذهاب بالشيء والمجيء به. قال بعضهم: يحتمل أن يكون من هذه الأمة فأخبر عما يكون بعد، ويحتمل أنه ممن تقدم، وهذا أظهر، وقد أدخله البخاري في باب ذكر بنى إسرائيل.
قوله:" نهى - صلى الله عليه وسلم - عن خاتم الذهب "، وفي الحديث الآخر: أنه رآه في يد رجل فطرحه،وقال: } } يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده { { ، فقيل له: خذ خاتمك انتفع به، فقال: لا والله لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي الحديث الآخر: أنه اصطنع خاتمًا من ذهب فصنع الناس، وذكر أنه نزعه فقال: } } لا ألبسه أبدًا { { ، فنبذ الناس خواتيمهم. فيه تحريم اتخاذ خاتم الذهب، ونسخ جواز فعله بعد أن كان لبسه، ونزعه له على المنبر ليراه الناس، وينقلوا فعله وقوله معأ في منعه. وقد وقع الإجماع بعد من جمهور العلماء على هذا وتخصيصه بالرجال دون النساء؛ لنص النبي في الحديث الآخر في الحرير والذهب: } } هذان حلاِل لإناث أمتي، حرامان على ذكورها { { ، وما حكى فيه عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم من تختمه بالذهب فشدود، والأشبه أنه لم تبلغه السنة، والناس بعد على خلافه مجمعون، وكذلك ما روى فيه عن خباب ؛ بدليل إلقائه له حين قال له ابن مسعود:" أما آن لهذا الخاتم أن يلقى "، وقوله له:" لن تراه عليّ بعد اليوم "، وقد ذهب بعضهم إلى أن لبسه للرجال بمعنى الكراهة لا التحريم،?ولأجل السرف، كما قال في الحرير.
وقوله:" فنبذ الناس خواتيمهم ": فيه امتثال ما يلزمهم من الاقتداء بأوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله.(7/302)
وقوله في حديث الرجل: " لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"؛ مبالغة في امتثال طاعته واجتناب نهيه، وفيه أن أصحابه فهموا من طرحه وطرح النبي خاتم نفسه صحة الملك والانتفاع، وإنما طرحه عنه تحينًا للبسه، ويحتمل أن الرجل تركه لغيره ممن يستحقه من المساكين؛ لأن تركه لذلك من إضاعة المال.
وقوله:" اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا من ورق ": أجمع العلماء على جواز اتخاذ خواتم الورق للرجال جميعًا، لا ما ذكر عن بعض أهل الشام من كراهتهم لبسه لغير ذي سلطان، ورووا في ذلك أثرًا، وهو شذوذ أيضًا. قال الخطابي: وكره للنساء التختم بالفضة؛ لأنه من زى الرجال، فإن لم يجدن ذهبًا فليصفرنه بزعفران وشبهه.
وقوله:" ونقش فيه محمد رسول الله ": فيه جواز النقش في الخواتيم، ونقش أسماء أصحابها، ونقش اسم الله فيها، وهو ول مالك وسعيد بن المسيب وغيرهما، وحكى عن ابن سيرين وبعضهم كراهة ذلك.
وقوله:" لا ينقش أحد على نقش خاتمي هذا "؛ لأنه إنما نقش فيه ذلك ليختم به كتبه، ولو نقش على نقشه لدخلت الداخلة على خاتمه وكتبه من ذلك. قال العلماء: وسواء نقش فيه اسمه، أو نقش فيه كلمة حكمة، أو بعض الأذكار، لم يمغ أن ينقش عليها لذلك. وفيه جواز تسمية الأمير نفسه بذلك، أو الخليفة بأمير المؤمنين، أو القاضي بالقاضي لتمييز ختمه، ولنقشه - صلى الله عليه وسلم -: محمد رسول الله في خاتمه.(7/303)
وقوله:" وجعل فصه مما يلى كفه ": ليس في لباس الخاتم على هذا أمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن الاقتداء به حسن، وجرى من عمل الناس باتخاذه في الظهر أو في البطن، وروى عن ابن عباس جعله في الظهر، وقال: لا أخاله إلا قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس خاتمه كذلك. وسئل مالك عن اتخاذه في باطن اليد فقال: لا، معناه: أنه ليس بلازم وإذا وجد عمل الناس بخلافه، لكن وجه فعله كما فعل - صلى الله عليه وسلم - حسن في لبث الخاتم وصيانة لفصه إن كان من غيره أو منه، وحفظه على تغيير نقشه ؛ لأنه إذا كان بظاهره لمن يأمن ضربه في بعض إشاراته لما لعله، يؤثر في الفص، أو يطمس نقشه، وأيضًا فإنه أقرب للتواضع، وأبعد من المخيلة والتزيين بإظهاره لظاهر كفه كفعل أهل الزهو.
وقوله: إن سبب اتخاذ الخاتم كتابه إلى العجم وأنهم لا يقرؤون كتابًا إلا مختومًا: فيه مخالقة الناس بأخلاقهم واستثلاف العدو بما لا يضر.
وقوله:" كان فصه حبشيًا "؛ يعني: حجرًا حبشيًا، وقد روى أنه كان فصه منه، وخرجه البخاري قال أبو عمر: وهو أصح، وقال غيره: ليس بتخالف، كان للنبى خواتم، فص أحدهما حبشي والآخر منه، وقد روى أنه تختم بفص عقيق.
وقوله:" فكان في يده، ثم في يد أبي بكر، ثم في يد عمر، ثم في يد عثمان حتى سقط منه في بئر?أريس ": فيه أن خواتيم الخلفاء وأولى الأمر يجب الاهتبال بها وحفظها. وفيه التبرك بكل ما كان للنبي، مما لبسه، أو لمسه، أو كان بسببه. وفيه أنه- صلى الله عليه وسلم - لم يورث، وإنما كان ما ترك صدقة، فهذا الخاتم مما اختص به الخلفاء بعده ولم يرثه ورثته.
وقد روى هشام بن الكلبي: أن أبا بكر دفع آلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته لعلي ؛ دابته، وحذاءه، وألبسته، وقال: ما سوى ذلك فهو صدقة، ويحتمل أن دفعه لهذا ليس على سبيل الميراث، بدليل أنه لم يعط نصفها للعباس عاصبه، وإنما دفعها لهم تسلية وتبركا ونظرا، وحبس هو الخاتم.(7/304)
وقوله في حديث ابن شهاب: عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طرح خاتم الورق من يده لما اتخذها الناس: توهم عند جميع أهل الحديث عن ابن شهاب: من خاتم الذهب، والمروي عن أنس من غير طريق ابن شهاب- أيضًا- اتخاذ النبي خاتمًا من ورق، وقال بعضهم: يمكن الجمع بين الحديثين عن أنس من رواية ابن شهاب ورواية غيره ؛ أنه يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما غدا على طرح خاتم الذهب وحرمه اتخذ خاتم الفضة، فلما لبس خاتم الفضة أراه الناس ذلك اليوم لتردهم إباحته، ثم طرح عند ذلك خاتم الذهب، فطرح الناس خواتمهم، يعني الذهب.
قال القاضي: وهذا كان يشاع لو جاء الكلام مجملاً، ولكن في الحديث من رواية ابن شهاب المذكورة عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذها خاتما من ورق يومًا واحدًا، ثم إن الناس اضطربوا الخواتم من ورق، فلبسوها، فطرح النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتمه فطرح الناس خواتمهم، ذكره مسلم.
واختلف العلماء في خواتم الحديد ؛ فروي عن ابن مسعود أنه لبسه، وكرهه غيره، وجاءت آثار في كراهته وكراهة خاتم الصفر.(7/305)
وقوله في رواية سليمان بن بلال وطلحة بن يحيى عن يونس، عن ابن شهاب، عن أنس ؛ أنه - صلى الله عليه وسلم - لبس خاتم فضة في يمينه، ومن رواية حماد عن ثابت، عن أنس:" كان خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى "، وعن على بن أبي طالب - رضي الله عنه -:" نهاني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أجعل خاتمى في هذه أو التي تليها "، وأومأ إلى الوسطى والتي تليها، وروى غير مسلم: "السبابة والوسطى": ولا خلاف بين العلماء ولا في الآثار أن اتخاذ خاتم الرجال في الخنصر، قالوا: لأنه أحفظ، قالوا: لأنه أحفظ له من المهنة وما يستعمل فيه اليد للدية طرفًا منها ؛ ولأنه لا يشغل اليد عما يتناوله من إشغاله بخلاف غيره، وإنما اختلفت الآثار ما بين اليمين والشمال، وبحسبها اختلف فعل السلف، فتختم كثير منهم في اليمين وكثير في الشمال، واستحب مالك التختم في الشمال وكرهه في اليمين. وقال الدارقطنى: لم يتابع سليمان بن بلال على هذه الزيادة " بيمينه "، وخالفه الحفاظ عن يونس، مع أنه لم يذكرها أحد من أصحاب الزهري، مع تضعيف إسماعيل بن أبي أويس راويها عن سليمان.
قال القاضي: قد تكلم فيه النسائي ويحيى بن معين، وقد خرج عنه البخاري ومسلم، وقد ذكر مسلم رواية طلحة بن يحيى عن يونس بمثل حديث سليمان. واختلف العلماء إذا كان في الخاتم نقش " اسم الله" واتخذ في اليسار، هل يستنجي به ويدخل به الخلاء ؛ فخففه سعيد بن المسيب ومالك وبعض أصحابه، ومنعه أكثر أصحابه. وفي حديث علىّ ذكر القسي والمياثر، ومضى تفسيره.
وقوله في القسي:" ثياب مضلعة يؤتى بها من مصر أو الشام فيه شبه الأترج ": كذا رواه البخاري:" فيه شبه الأترج من الحرير"، يحتمل أن يرجع قوله من الحرير على ما فيها من شبه الأترج فلا يكون كله حريرًا، ويحتمل أن يرجع على جملة الثوب.(7/306)
وقوله: } } لا يزال الرجل راكبًا ما انتعل { { : يريد كالراكب في خفة المشقة والتعب، والراحة من مقاساة الرجل وخشونة الأرض، وأذى ما يطأ عليه من حجارة وشوك ونحوه.
وقوله: } } إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، واذا خلع فليبدأ باليسرى، ولينعلهما جميعا أو ليخلعهما جميعا { { : في هذا الحديث ثلاث سنن في الانتعال: البداية في الانتعال باليمين على ما تقدم من سنة التيامن في الأمور الشرعية والاعتيادية، ولإكرام اليمين بالوقاية أولا والصيانة لفضلها على الشمال. وبعكس هذا إذا خلع، يجعل خلع اليمين آخرًا ؛ إبقاءً لصيانتها وحفظها، واكراما لها. وأما النهى عن المشى في نعل واحدة والأمر بأن ينعلهما جميعا أو يخلعهما جميعًا ؛ فلما في?ذلك من التشويه والمثلة، ومخالفة زى الوقار، واختلال الحال في المشى باختلاف حال الرجلين. فربما عثر ونزل العدل من جوارحه. وهذه جملة لم يختلف العلماء فيها، وأنها أوامر أدب وتحضيض لا تجب، إلا شيئًا روى عن بعض السلف في المشي في نعل واحد أو خف واحد، أثر لم يصح وله تأويل في المشي اليسير وبقدر ما يصلح الأخرى، وإن كان نص الحديث يخالفه بقوله: } } من انقطع ثسِعُ نعله فلا يمش في نعل واحدة حتى يصلح شِسْعَهُ { { - ?
وقد اختلف العلماء في هذا واختلف المذهب عندنا في ذلك: هل يقف حتى يصلحها، أو يمشي أثناء ما يصلحها، ومنع من ذلك مالك وإن كان في أرض حارة وقال: ليجعلهما معًا ولا يخلع الأخرى إذا كان المشي اليسير، أو يخلعهما حتى يصلح الأخرى، ولا يقف منتعلاً بها ولا يخلعها إلا أن يكون الوقوف الخفيف. والاستحباب خلعها حتى يصلحها عندهم.(7/307)
قال الأمام: وذكر مسلم في الباب: عن على بن مسهر، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة، قال بعضهم. كذا وقع في جميع النسخ عندنا: عن أبي رزين وأبي صالح. وقال أبو مسعود الدمشقي: إنما يرويه أبو رزين عن أبي صالح عن أبي هريرة، وكذلك خرجه في كتابه عن مسلم، وذكر أن على بن مسهر انفرد بهذا.
?? وقوله:" نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشتمل الصماء "، وفي الرواية الأخرى:" ألا يلتحف الصماء "، قال الإمام: قال الأصمعي: هو أن يشتمل الرجل بالثوب حتى يجلل به جسده، ولا يرفع منه جانبًا فيكون فيه فرجة يخرج منها يده. قال القتبي: إنما قيل لها الصماء؛ لأنه إذا اشتمل به سدت على يديه ورجليه المنافذ كلها، كالصخرة الصماء التي ليس فيها خرق ولا صدع. قال أبو عبيد: أما تفسير الفقهاء: فهو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على أحد منكبيه. قال غيره: من فسر هذا التفسير ذهب إلى كراهة التكشف وإبداء العورة، ومن فسره تفسير أهل اللغة فإنه كره أن يتزمل به شاملاً جسده ؛ مخافة أن ترفع منها إلى حالة تداخله بعض الهوام المهلكة، فلا يمكنه نفضها عنه.
قال القاضي: وقوله:" وأن يحتبي في ثوب واحد كاشفًا عن فرجه ": كانت هذه عادة العرب في مجالسها أن يحتبى فمنهم العظيم الموقر بردائه، ويشده على ركبتيه وظهره، كان عليه الإزار أو لم يكن، فإذا لم يكن انكشف فرجه مما يلي السماء لمن كان مكتفًا ومطبقًا عليه، فنهى النبي- صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. وقد مَرَّ من هذا في كتاب الصلاة ما فيه كفاية.(7/308)
وقوله في حديث جابر:" ولا تضع إحدى رجليك على الأخرى إذا استلقيت "، وذكر حديث عباد بن تميم عن عمه:" أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستلقيًا في المسجد واضعًا إحدى رجليه على الأخرى "، قال الإمام: قال بعض أهل العلم: يجب أن تبين هذه الأحاديث، فيحمل النهي على حالة تبدو فيها العورة، وفعله كله على حالة كان مستترًا فيها. وقد أدخل مالك في "الموطأ" حديث استلقائه كلها في المسجد، واضعًا إحدى رجليه على الأخرى، قال بعض أصحابنا: وإنما قصد بإدخاله الرد على من كرهه من فقهاء الأمصار.
قال القاضي: فيه جواز الاستلقاء للراحة وللنوم في المسجد، ويحتمل أن فعل النبي هذا بغير محضر جماعة وعند خلائه، أو لضرورة وإعياء ناله، ?وطلب راحة، والا فقد علم أن جلوسه- صلى الله عليه وسلم - كان في المجامع على خلاف ذلك من التربع والاحتباء، وهو كان أكثر جلوسه بالقرفصاء والإقعاء، وشبهها من جلسات الوقار والتواضع، وعند الأكل والاستيفاز.
قال الإمام: خرج مسلم في باب الاستلقاء في المسجد: حدثنا إسحق بن إبراهيم وعبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر هكذا في رواية الجلودي والكسائي،، وكذلك خرجه الدمشقي عن مسلم. ووقع عند ابن ماهان: حدثنا إسحق بن منصور وعبد ابن حميد. فجعل "إسحق بن منصور" بدل "إسحاق بن إبراهيم". قال بعضهم: الذي أعتقد صواب من قال: إسحاق بن إبراهيم، ؛ لأنهما كثيرًا ما يجيئان مقرونين في رواية مسلم هذه النسخة عنهما عبد الرزاق، وإن كان إسحق بن منصور يروى عن عبد الرزاق.
وقوله:" نهى عن التزعفر "، تقدم الكلام فيه، وفي بعض طرقه:" عن أن يتزعفر الرجل ": ومحمله عندنا على تغيير يديه بالزعفران، تشبهًا بالنسوان.(7/309)
وقوله:" ورأسه ولحيته مثل الثغام "، وقال - صلى الله عليه وسلم - - ? } } غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد { { ، وفي طريق أخرى: } } أن اليهود والنصارى لا يصنعون فخالفوهم { { : قال أبو عبيد: هو نبت أبيض الزهر، والثمر شبه بياض الشبه. وقال ابن الأعرابي: هى شجرة تبيض كأنها النخبة.
قال الإمام: لم يحرم مالك - رضي الله عنه - التغيير بالسواد، ولا أوجب الصباغ. فلعل يحمل النهي على التغيير بالسواد على الاستحباب، والأمر بالتغيير على حالة هجن المشيب صاحبها. قال عبد الوهاب: يكره السواد؛ لأن فيه تدليسًا على النساء، فيوهم الشباب فتدخل المرأة عليه.
قال القاضي: اختلف السلف من الصحابة والتابعين في الخضاب وفي جنسه، فرأى بعضهم أن ترك الخضاب أفضل، وبقاء الشيب أولى من تغييره. ورووا حديثًا في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تغيير الشيب، وأنه لم يغير هو شيبه ولا اختضب، وممن ذكر ذلك عنه علي، وعمر، وأبي في آخرين، قال: فرأى آخرون: الخضاب أفضل، وخضب جمإعة من الخلفاء والصحابة والتابعين فمن بعدهم، واحتجوا بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخضاب بالأحاديث التي ذكر مسلم وغيره في ذلك.
ثم اختلفوا: فكان أكثرهم يخضب بالصفرة، منهم علي وابن عمر وأبي هريرة، في آخرين، وكان منهم من يخضب بالحناء وبالكتم، ومنهم من يصبغ بالزعفران، وكان منهم من يخضب بالسواد وذكر ذلك عن عمر، وعثمان والحسن، والحسين، وعقبة بن عامر، ومحمد بن علي، وعلي بن عبد الله بن عباس، وعروة، وابن سيرين، وأبي بردة في آخرين، وروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: هو أشار للزوجة، وأبي وأهيب للعدو. وكان بعضهم لا يخضب، وبه أخذ مالك وذكره عن على بن أبي طالب، قال:" وتغيير السواد أحب إلىّ ".(7/310)
قال الطبري: والصواب عندنا أن الآثار التي رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتغيير الشيب وبالنهى عن تغييره كلها صحاح، وليس فيها شيء يبطل ما خالفه، لكن بعضها عام وبعضها خاص، فالمراد بأحاديث التغيير الخصوص مما كان مثل شيب أبي قحافة. فأما الشمط ففيه النهي عن التغيير والبقاء على الشيب. واختلاف السلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك، مع أن الأمر والنهي في ذلك ليس على الوجوب للإجماع على هذا ؛ ولهذا لم ينكر بعضهم على بعض خلافه في ذلك، ولا يصح أن يقال: إن أحدهما نسخ الآخر ؛ لعدم دليل ذلك ومعرفة المتقدم من المتأخر من ذلك. وقال غيره: الأمر في ذلك على وجهين وحالين:
أحدهما: عادة البلد، فمن كانت عادة موضعه ترك الصبغ أو الصبغ فخروجه عن المعتاد شهرة تقبح وبلده.?
والثاني: اختلاف الناس في حل شيبهم، فرب شيبة نقية هي أجمل منها مصبوغة، ومنهم من يستبشع منظر شيبه فالصبغ أولى به. قال أهل العلم: وللخضاب فائدتان:
إحداهما: تنظيف الشعر مما يتعلق به مما يغير بياضه من الغبار والدخان ويسمج لونه.
والأخرى: مخالفة أهل الكتاب ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث ذلك كما تقدم، ويكون مخالفتهم لمعنيين:
أحدهما: لئلا يعتقدوا التسنن بهم، كما قالوه في غير ذلك، وقد كان يجب موافقتهم حتى أمر بمخالفتهم.
الثانى: إظهار الشبيبة والكهولة للأعداء وغيظ الكفار.
وفيه أيضًا ما تقدم في حق النساء والمباعلة.
وقوله:" أصبح يومًا واجمًا "، قال الإمام: الواجم: المغتم. يقال: وجم يجم وجومًا، ووجم أيضًا: حزن، وأجم الطعام وأجمًا: كرهه.
قال القاضي: ونَضْحُ النبي - صلى الله عليه وسلم - مكان الجرو مما يحتج به المخالف في نجاسته، وقد يحتمل أن نضحه لما نهى أن يصسِب الموضع من بوله ورجيعه.(7/311)
وقوله: } } إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب ولا صورة { { : هذا أيضًا مما يحتج به المخالف في نجاسته أ ورجيعه فيه، ؛ إذ لا يقال في الصور: إنها نجسة، لكن لمعنى آخر، والله أعلم. كما أنهم لم يدخلوا البيت لأجل الصور التي ضاهى صانعها خلق الله، ونصب أمثلتها للعبادة من دون الله، فأبغضوها لله، وتجنبوا مواضعها. وكذلك الكلاب ؛ إما لأكلها النجاسات، وهم المطهرون المقدسون عن مقاربتها، أو لأنها من الشيطان على ما جاء وبيناه في كتاب الصلاة ؛ إذا الملائكة أضاد الشياطين في كل حال، أو لقبح روائحها، وهم يكرهون الروائح القبيحة، ويستحبون ضدها. أو لما نهى عن اتخاذها عوقب متخذها بذلك وتجتنب الملائكة دخول بيته غضبًا عليه لمخالفته، فحرم بركتها وصلاتها، واستغفارها ومعونتها له على طاعة ربه، ومقاومة عدوه وشيطانه. وكذلك ممسك الصورة المنهي عنها. وقال بعض العلماء: وهؤلاء الملائكة هم: ملائكة الوحي، فأما الحفظة فيدخلون كل بيت ولا يفارقون بني آدم على حال. وفيه حجة في منع اتخاذ الكلاب في الدور، والقرى، والبيوت، وحراسة السراق وغير ذلك، بخلاف ما رخص فيه من كلب الصيد والزرع والماشية، وأن الملائكة إنما لا تدخل البيت الذي فيه الكلب المنهي عن اتخاذه.
وقوله:" فأمر بقتل الكلاب، فكان يقتل كلب الحائط الصغير، ويترك كلب الحائط الكبير ": للحاجة إلى حماية جوانبه. وحفظ أرجائه، بخلاف الصغير الذي يحميه ساكنه، ويستغنى عن كلب وغيره ممن يحميه، فأشه اتخاذه في الدور. وقد كرهه مالك وغيره من العلماء، وتقدم الكلام فيها في كتاب البيوع.
وقولها:" جرو كلب تحت فسطاط لنا ": يقال بفتح الفاء وكسرها. الفسطاط: شبه الخباء، يريد به هاهنا: بعض حجر البيت ؛ بدليل قوله في الحديث الآخر:" تحت سرير عائشة ". وأصل الفسطاط: عمود الأبنية التي يقام عليها. وفيه لغات أخر: فستاط بالتاء، وفسَّاط بتشديد السين وبضم الفاء، وبكسرهما فيهما أيضًا.(7/312)
وقوله في الصور:" ألم تسمعه حين قال: إلا رقمًا في ثوب "، وفي الحديث الآخر:" كان لنا ستر فيه تمثال طائر، وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - ? } } ?حولي هذا، إني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا { { ، وفي الحديث الآخر:" سترت على بيتى درنوكًا فيه الخيل ذوات الأجنحة، فأمرني فنزعته": هو بضم الدال وفتحها: ثوب له خمل، وفي الحديث الآخر: " نمرقة، والنمرقة - بضم النون والراء وكسرهما-: الوسا دة، وقيل: المرفقة،. ويقال: نمروق. ويدل عليه قولها:" اشتريتها لك لتوسدها وتقعد عليها "، وقال الله تعالى:{ وَنَمَارِقُ مَصفُوفَة } } (1) { ، وقيل في هذه المجالس أيضًا عن ابن عباس، وفي الرواية الأخرى:" وقد سترت سهوة لي بقرام فيه صور، فتلون وجهه ثم هتكه، وقال: من أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله ".
قال الإمام: قال الأصمعي: السهوة: شبيه بالرف أو بالطاق، يوضع فيه الشيء. قال أبو عبيد: وسمعت غير واحد من أهل اليمن يقولون: إن السهوة عنده بيت صغير منحدر في الأرض، وسمكه مرتفع من الأرض، شبيه بالخزانة الصغيرة يكون فيها المتاع، قال: وهذا عندي أشبه ما قيل في السهوة.
والقرام: الستر الرقيق فإذا خيط فصار كالبيت فهو كله، وقال لبيد يصف الهودج:
من كل محفوف يظل عصيه …زوج عليه كله وقوامها
والعصى: عيدان الهودج، والزوج: النمط.
قال القاضي: قال الخليل: السهوة أربعة أعواد أو ثلاثة يعارض بعضها على بعض، ثم يوضع عليها شيء من الأمتعة، قيل: هو أن يبنى من حائط البيت حائط صغير، ويجعل السقف على الجميع. فما كان في وسط البيت فهو سهوة، وما كان داخله فهو المخاع.
وقال بعضهم: السهوة كالصُّفَّة، تكون بين يدى البيت. وقيل: هي شَبيه دخلة في ناحية البيت. وقيل: السهوة: الكوة بين الدارين، قاله ابن الأعرابي. وقيل: بيت صغير شبه المخدع.
__________
(1) } ) الآية (15) من سورة الغاشية.(7/313)
واستدل بعضهم بهذا الحديث على منع دخول الوليمة إذا رأى فيها منكرًا. قال الإمام: وقال بعض أصحابنا: وما وقع في حديث?عائشة من كراهة الصور المرقومة يحتمل أن يكون ذلك أولا عند كونهم حديثي عهد بجاهلية وعبادة الصور، فلما طال الأمر وأمن عليهم، أبيح لهم الرقم في الثوب، ويكون ذلك كالناسخ لما وقع في حديث عائشة. ولم يحرم مالك من الصور المرقومة ما كان يمتهن ؛ لأن امتهانه ينافي تعظيمه على حسب ما كانت الجاهلية تعظم بعض الصور.(7/314)
قال القاضي: اختلف الناس في هذه الأحكام، فذهب بعضهم إلى أن الممنوع من ذلك ما كان له ظل، فأما ما لا ظل له فلا بأس به وذهب بعضهم إلى منع الصور على العموم واستعمال ما هى فيه، ودخول البيت التي هي فيه رقمًا كانت أو غير رقم، في ثوب أو آلة أو حائط، يمتهن أو لا يمتهن، وهو مذهب ابن شهاب على ظاهر بعض الأحاديث العامة في ذلك، ومنه حديث النمرقة وغيره. وذهب آخرون إلى جواز كل ما كان منها رقمًا في ثوب تمتهن، أو لا يمتهن، مما يعلق أم لا، وكره ما كان له ظل أو كان مصورأ في الحيطان وشبهها، مرقومًا أو غير مرقوم، وحجتهم: قوله:" رقما في ثوب "، فخصوه بالثوب وهو مذهب القاسم بن محمد. وذهب آخرون إلى كراهة ما كان منها في غير ثوب، وكراهة ما كان منها، في ثوب لا يمتهن، أو يعلق لنصبه منصب العبادة، وعادة الكفار المعظمين لها، وأجازوا ما كان من ذلك رقمًا في ثوب يمتهن ويوطأ، وحجتهم: هتك النبي - صلى الله عليه وسلم - القرام، واستعماله للوسادتين منه بعد ذلك، واتكاؤه على إحداهما، على ما جاء في الأحاديث، وهو أوسط الأقاويل وأصحها. والجامع للأحايث المختلفة في ذللث وهو قول كثير من الصحابة والتإبعين، وقول مالك والثوري وأبي حنيفة والشافعي. ولا يختلف في كراهة ما كان له ظل ووجوب تغييره وكسره، إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات والرخصة في ذلك، لكن كره مالك شراء الرجل لها لابنته؛ لأنه ليس من أخلاق أهل المروءة والهيئات. وقد ذهب بعض الناس إلى أن اللعب بالبنات وإباحته منسوخ بهذه الأحاديث.(7/315)
وفيه وجوب تغيير الصور بهتك النبي - صلى الله عليه وسلم - الستر، وفيه أن عملها من الذنوب الكبار المتوعد عليها بالنار والعذاب، وفيه جوار اتخاذ النمارق والوسائد للقعود عليها والارتفاق واتخاذ الستور والكمال إذا كانت لعلة ستر الأبواب والأسرة وبعض الأمتعة في البيت وشبهها عن الأبصار، فهذا ما يكره، وهو الذي صنعته عائشة، ودلَّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هتكه للعلة التي ذكر من أجل الصورة، وفي الحديث الآخر لتذكيره له الدنيا وزينتها.
وأما الستر بالأنماط للحيطان وتزيينها بذلك فمكروه ؛ للحديث المتقدم، أو لأنه لمجرد زينة الحياة الدنيا وليس بحرام، قال بعض علمائنا: ويحتمل ما قاله - صلى الله عليه وسلم - في النهي في جميع الصرر على الكرام، ويحتمل أنه على التحريم إلا ما استثناه من الرقم في الثوب.
وقوله: } } أشد الناس عذابا يوم القيامة: المصورون { { ، وفي الحديث الآخر: } } الذين يضاهون خلق الله { { ، وفي الأخر: } } كل مصور في الدنيا يجعل بكل صورة صورها نفس تعذبه في جهنم { { : يحتمل أن الصورة التي صور هى تعذبه بعد أن يجعل فيها نفس أو روح، والباء بمعنى " في "، ويحتمل أن يجعل له بعدد كل صورة ومكانها نفس أي شخص يعذبه، وتكون الباء بمعنى لام السبب، أو من أجل.(7/316)
وقوله: } } من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ { { ، وما جاء في لعن المصورين؛ كل هذا يدل على تحريم صنعة الصور، وأنها من الكبائر، قيل: قوله: } } من أشد الناس عذابًا { { في عمل ذلك على القصد لعبادتها ونحت الأصنام فهى في الكفار؛ إذ لا يكون مذنب أشد عذابًا من كافر، وقيل: بل ذلك فيمن قصد المعنى الذي جاء في الحديث من مضاهاة خلق الله واعتقد ذلك، فهو كافر بقصده، فله من أشد العذاب ما للكفار. وأما من لم يضاه بذلك خلق الله ولا قصده ولا نواه، فليس يناله هذا الوعيد وإن كان مخطئا في فعله وعاصيًا، وفي قوله: "يضاهون" دليل أن هذا مما له ظل وشكل قائم.
وقوله: } } أحيوا ما خلقتم { { وحتى ينفخ فيه الروح { { ؛ دليل على أن هذا الوعيد في المصور لما له روح، خلاف ما لا روح فيه من الثمار، فقد أجاز هذا العلماء، وأجازوا صنعته والتكسب به، إلا مجاهدًا فإنه جعل الشجر المثمر من المكروه ولم يقله غيره.?وقد استدل بعضهم على هذا بقوله: } } ومن أظلم ممن ذهب أن يخلق خلقا كخلقي { { فعم، وبقوله: } } فليخلقوا حبة { { ، هذا أشد ما جاء في هذا الباب. قال المهلب: ثم استقرت الكراهة على ما فيه الروح.(7/317)
وقال بعض العلماء: إن رأس الصورة إذا قطعت فهو تغيير لها، ويباح اتخاذها حينئذ. وقد جاء هذا في أثر ذكره أبو داود، وعليه تأول بعضهم اتخاذ القرام وسائد؛ إذ لعله في قطعه وهتك النبي كلها له تقطعت صورته وانقسمت أشكالها، فلم يبق منها في وسادة منها صورة كاملة، وهذا يقوله من يمنعها في الممتهن وغيره، وإذا كان هذا لم تكن فيه حجة في جواز اتخاذها فيما يمتهن. وليس في شيء من هذه الأحاديث أن هذا الدرنوك أو الستر أو القرام أو النمط كان من حرير أو ديباج حتى يحتج به عبد الملك من أصحابنا، والمخالف في جواز أ افتراش الحرير وتخصيص تحريمه باللباس على ما تقدم منها،. وجمهور العلماء على خلافه والتسوية بينهما، ونص الحديث في النهي عن افتراشه.
وقولها:" كانت لنا قطيفة، كنا نقول عَلَمُها من حرير، وكنا نلبسها"، زاد النسائى:" فلم يقطعه "، وفي غيره:" ولا ينهانا عنه ": وفيه حجة للرخصة في العلم، وهو قول الكافة وقد تقدم، والقطيفة: كساء فيه خمل. قال الإمام: وخرج مسلم في باب كراهة الصور: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا على بن مسهر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن النضر بن أنس، قال: كنت جالسًا عند ابن عباس، هكذا إسناده في هذا الحديث، رواه سعيد بن أبي عروبة عن النضر ابن أنس، ووهم بعضهم فأدخل بينهما قتادة وليس بشيء، فإنه قد سمع سعيد أ بن النضر، هذا الحديث وحده، ذكره البخاري في الجامع: حدثنا عياش، حدئنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، قال: سمعت النضر بن أنس يحدث قتادة، قال: كنت عند ابن عباس...، فذكر الحديث. قال البخاري: سمع سعيد بن أبي عروبة من النضر بن أنس هذا الحديث أ الواحد.
قال القاضي: قال عبد الغنى: ذكر قتادة هنا خطأ، وأما في الحديث الذي بعده عن معاذ بن هشام، حدثنى أبي، عن قتادة، عن النضر فإثباته صواب.(7/318)
وقوله: } } لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس { { : هو مما تقدم من منافرة لم الملائكة، الكلاب للعلل التي ذكرناها، وفيه حجة على مغ اتخاذها في الأسفار لحراسة ممر الدواب والسراق، وهو قول أصحاب مالك، وأجاز هشام بن عروة اتخاذها لحراسة البقر منه. وفيه كراهة الأجراس، وهو قول مالك وغيره، ومنافرة الملائكة لها إما لشبهها بالنواقيس، أو لأنها من باب المعاليق المنهى عنها في الأعناق، وقيل: لصوته، وهو تأويل مالك، وعليه يدل قوله في الحديث: } } الجرس من مزامير الشيطان { { ، وهذا يعضد أن منافرة الملائكة لها وللكلب من سبب الشيطان. وفرق أهل الشام بينهما فقالوا: هذه الكراهة إنما هى في الجرس الكبير، فأما الصغير فلا بأس به، وروينا هذا الحرف بفتح الراء وهو الأكثر، وضبطناه عن أبي بحر بسكونها اسم الصوت، وأصله الصوت الخفي. وقوله في الحديث الآخر: } } لا تدخل الملائكة بيتا فيه تماثيل أو تصاوير { { ، قيل: يحتمل أنه شك من الراوى في اللفظ. والمعنى واحد، وقيل: لعله أراد بالتماثيل: ما كان قائم الشخص. وبالتصوير: ما كان رقمًا وتزويقًا في ثوب أو حائط، ويحتمل أن تكون " أو " بمعنى الواو.(7/319)
وقوله: } } لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة إلا قطعت { { : قال مسلم: قال مالك: أرى ذلك من العين. قال الإمام: الظاهر من مذهب مالك قصر النهى على الوتر خاصة، وأجازه ابن القاسم بغير الوتر، وقال بعض أصحابخا: فيمن قلد بعيره شيئًا ملونا فيه خرز قال: إن كان للجمال فلا بأس به. وقد اختلف الناس في تقليد البعير وغيره من الحيوان- والإنسان أيضًا- ما ليس بتعاويذ قرآنية مخافة العين، فمنهم من نهى عنه ومنعه قبل الحاجة إليه، وأجازه عند الحاجة إليه لنفي ما أصابه من ضرر العين وشبهه، ومنهم من أجازه قبل الحاجة وبعدها، كما يجوز الاستظهار بالتداوى قبل حلول المرض، قال عبد الوهاب: يكره للمسافرين الأجراس والأوتار، واحتج بقوله: } } لاتصحب الملائكة رفقة، فيها كلب ولا جرس { { ، وأما الأوتار فقد تؤدى إلى جناية تكره ؛ يعني: الاختناق بها، وشبه ذلك. وقد خرج مسلم: } } لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس، وقد قال بعضُ الناس: إن النهي عن تقليد الأوتار محمول على الدخول وما اعتادوا من طلب الدماء عليها.
وقول الراوي:" قلادة من وتر أو قلادة "، يحتمل أن يكون على الشك من التخصيص للوتر أو التعميم لسائر القلائد فيكون الوتر ثابتًا في الحالين مع القول بالعموم، ولهذا قصر مالك النهي على الوتر كما قدمنا.
قال القاضي:" قوله هنا: قلادة من وتر " يضعف تأويل من تأول في تقليد الأوتار الدخول.(7/320)
وقوله: " نهى عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه "، وأنه لعن فاعله الذي وسم حمارًا في وجهه، وقوله في حديث ابن عباس:" قال: فلا والله لا أسمه إلا في أقصى شيء من الوجه، فكوى حماره في جاعرتيه، فهو أول من كوى الجاعرتين ": قائل هذًا هو العباس والده لا ابنه عبدالله صاحب الحديث، وكذا بينه في كتاب أبي داود، وكذا ذكره البخاري في التاريخ مفسرًا، وهو في كتاب مسلم مشكل ليس فيه ذكر لقائله، وتوهم أنه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيانه ما تقدم. وكذا ضبطنا هذا الحرف "الوسم" بالسين المهملة، وبعضهم يقول: فيه الوجهين السين والشين، وبعضهم فرق فقال: بالمهملة في الوجه، وبالمعجمة في سائر الجسد. والجاعرتان حرفا الورك المشرفان مما يلى الدبر. وأما نهيه عن الضرب في الوجه، فإن فيه المحاسن وأقل أثر فيه يشينه، وربما آذى البصر أو أذهبه، مع إهانة الصورة التي اختص الله بها بني آدم وكرمهم أ بها،، ونبه في الحديث الآخر على إكرامها بخلق نبيه آدم أبي البشر عليها.
قال الإمام: قال عبد الوهاب: تكره السمة في الوجه ولا أكرهه في غيره؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن السمة في الوجه وأرخص فيها في الأذن، قال: ويجوز في غيره ؛ لأن بالناس حاجة إلى علامات يعرفون بها بهائمهم.
قال القاضي: وما ذكره مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وسم غنمًا،، وذكر في آذانها: يدل على ما ذكر وعلى جواز الوسم بالقطع والشق؛ لأنه الذي يمكن في الأذن.
وقوله: " في مربد ": هانما المربد للإبل، فقد يحتمل أنه على ظاهره، فأدخلت فيه الغنم فوسمها فيه، ويحتمل أنه استعار لحظيرة الغنم اسم المربد، وهو ما تحبس به الإبل مثل الحظيرة للغنم.(7/321)
وقوله:" رأيته وفي يده ميسم وهو يسم إبل الصدقة ويسم الظهر ": أي الإبل التي تحمل الثقل، يدل على جواز الوسم بالكي. والميسم: المكواة، بكسر الميم. وفيه ما كان - عليه السلام - من التواضع وخدمة مال نفسه ومال المسلمين، والنظر في مصالحهم.
وقول أم أنس:" انظر هذا الغلام، ولا يصيبن شيئًا حتى تغدو به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تحنكه ": فيه أن هذه سنة مستحسنة مرغب فيها من حمل الأطفال عند ولادتهم للفضلاء للدعاء لهم، وأم سليم ذلك ما قصدته، وألا يدخل جوفه شيء حتى يحنكه النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يمضغه من تمر كانت وجهته معه، فتناله بركة ريقه وطعامه ودعائه.
وقولها:" وعليه خميصة حوينية ": كذا رويناه عن العذري بالحاء المفتوحة المهملة، وبعد الواو الساكنة تاء باثنتين فوقها مفتوحة بعدها نون، ووقع عندنا من رواية الهوزني:" حونية " بضم الحاء وكسر النون بعد الواو، وعن عبد الغافر الفارسي:" خويتة " بضم الخاء المعجمة وفتح الواو وسكون الياء باثنتين تحتها بعدها تاء باثنتين فوقها، ورواه البخاري: "حريثية" منسوبة إلى حريث، قيل: رجل من قضاعة، وصوبه ابن مفرج: "حونبية " بفتح الحاء المهملة وفتح النون بعدها وكسر الباء بواحدة بعدها. والخميصة: كساء أسود مربع. قال الإمام: قال الأصمعي: الخمائص: ثياب خز أو صوف معلمة، كانت من لباس الناس.
وقوله:" نهى عن القزع " بفتح القاف والزاي، قال الأمام: إذا كان ذلك في مواضع كثيرة فمنهى عنه بلا خلاف، وقال نافع: هو أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعضه، وان لم يكن كذلك كالناصية وشبهها، فاختلف في جوازه.(7/322)
قال القاضي: ومذهب مالك منعه، وقال: هو من جهة القزع،?وكرهه في الجارية والغلام. وقال نافع: أما القصة والقفا للغلام فلا بأس به، وأما أن يترك ناصيته شعرًا دون غيرها فذلك القزع، وقد ذكر مسلم في حديث بعد هذا: أن التفسير ملحق في الحديث، يريد لم يذكره من قول نافع، وقد ذكر بعضهم أن علة ذلك: أنه تشويه. وقال بعض العلماء: إن الكراهة في ذلك لعلة؛ لأنه زى أهل الدعارة والشر، وأن الأمر في ذلك راجع إلى عادة البلاد، فحيث يكون زى غير هؤلاء، فلا ينبغي أن ينكر، وفي هذا نظر، لأن العوايد لا تغير السنن، والنهي عن ذلك سنة مأثورة، وقد ذكر أبو داود فيه علة في الحديث وقال: إنه زي اليهود.?
وقولها:" إن ابنتي عُرَيِّسًا أصابتها حصبة ": الحصبة، بفتح الحاء وسكون الصاد: مرض معروف ومنها قولها:" عَرق شعَرها " بالراء والقاف، وفي الرواية الأخرى:" تمرط " بالطاء؛ أي: انتتف، وهو التمرط أيضًا، وقد جاء في الرواية الأخرى: مفسرًا:" فتساقط شعرها "، يقال: مرق الصوف عن الإهاب. يمرق مرقا وتمرق وانمرق.
وقوله:" لعن الله الواصلة والمستوصلة "، قال الإمام: وصل الشعر عندنا ممنوع للحديث. قال القاضي عبد الوهاب: والمعنى فيه، أنه غرر وتدليس.(7/323)
قال القاضي: اختلف العلماء في معنى نهيه- صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال بعضهم: لا بأس في وصلها شعرها بما وصلته من صوف أو خرق ما لم يكن شعرًا، والنهي إنما يختص بالصلة بالشعر، وهو قول الليث بن سعد. وقال آخرون: الوصل بكل شيء ممنوع لعموم الخبر، وهو قول مالك وجماعة من العلماء واختيار الطبري. وأباح آخرون وضع الشعر على الرأس، قالوا: وإنما ينهى عن الوصل، وهو قول إبراهيم، وقال آخرون: كل ذلك جائز، وروى عن عائشة نحوه وتأولت أن الحديث على غير وصل الشعر، ولا يصح عنها، والصحيح عنها مثل قول الجمهور. فأما ربط خيوط الحرير الملونة وشبهها مما لا يشبه الشعر، فليس من الوصل، ولا هو مقصده وإنما هو للتجميل والتحسين، كما يشد منه في الأوساط، ويربط من الحلى في الأعناق، ويجعل في الأ يدى والأرجل. وفيه من الفقه أن هذا ممنوع لضرورة وغيرها، للعروس وغيرها، وأنه من الكبائر للعن فاعله، وفيه أن المعين على الشيء مثل فاعله في الإثم والأجر بأن هذه التي وصلت شعر غيرها وهى الواصلة قد لعنت كما لعنت المستوصلة، وهى طالبة ذلك لنفسها.
وأما قوله: } } والواشمة والمستوشمة { { قال الإمام: قال أبو عبيد: الوشم في اليد وذلك أن المرأة كانت تغرز ظهر كفها أو معصمها بإبرة أو مسلة حتى تؤثر فيه، ثم تحشوه كحلاً أو بالنَّور فيخضر بفعل ذلك بدارات ونقوش، يقال منه: قد وشمت تشم وشمًا فهى واشمة والأخرى موشومة ومستوشمة.
وقوله:" المتنمصات ": قال أبو عبيد: النامصة: التي تنتف الشعر من الوجه، ومنه قيل للمنقاش: المنماص ؛ لأنه ينتف. والمتنمصة التي يفعل ذلك بها. و " المتفلجات ": الفلج في الأسنان، والمراد أنها تعالج أسنانها، وكذلك: الواشرة المذكورة في غير هذا الموضع، هى التي تنشر أسنانها تفلجها وتحددها حتى يكون لها أشر، والأشر: تحدد ورقة في أطراف الأسنان، ومنه قيل: ثغر موشر، وانما يكون ذلك في أسنان الأحداث؛ تفعله المرأة الكبيرة تشبيها بأولئك.(7/324)
قال القاضي: جاء في صحيح البخاري من قول نافع: الوشم في اللثة، وكل هذا غير مختلف ؛ لأن أبا عبيد أخبر بالغالب من وشم ظهر الكف والمعصم، وقد تشم لثتها وغير ذلك، روي جمن الحسن وابن مسعود في قوله تعالى:{ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُن خَلْقَ الله } } (1) { ، قال: هو الوشم، وعن ابن عمر وأنس وطائفة: هو الخصي، وعن مجاهد:{ خَلْقَ الله } } محرم { : دين الله. ووقع عندنا في كتاب مسلم في حديث محمد بن نمير من رواية الهوزني في الواشية والمسترشية والمشهور المعروف ما تقدم، لكنه صحيح المعنى ؛ لأنها توشى يديها بذلك الوشم، وقد روي عن عائشة اختلاف في ذلك، ورخصة في جواز النمص وحف المرأة جبينها لزوجها وقالت: "أميطى عنك الأذى "، وكذلك قالت في التي تقشر وجهها: إن كانت للزينة فلا يحل، وإن كان بوجهها كلف شديد فكأنها كرهته ولم تصرح. قال بعض علمائنا: وهذا المنهي عنه المتوعد على فعله فيما يكون باقيًا، فإنه من تغيير خلق الله، فأما ما لا يكون باقيًا كالكحل فلا بأس به للنساء والتزين به عند أهل العلم، وقد أجازه مالك للنساء، وكرهه للرجال، وكذلك أجاز أن توشي المرأة يديها بالحناء، وروى عن عمر إنكار ذلك وقال: إما أن تخضب يديها كله، أو تدع، وأنكر مالك هذا عن عمر، وجاء في حديث النهي عن تسويد الحناء، ذكره صاحب النصائح. قال أبو جعفر الطبري في هذا الحديث: إنه لا يجوز لامرأة تغيير شيء من خلقها الذي خلقها الله عليه بزيادة فيه أو نقص منه التماس الحسن لزوج أو غيره، سواء فلجت أسنانها أو نشرتها، أو كان لها سن زائدة فأزالتها، أو أسنان طوال فقطعت أطرافها طلب التحسين والتجمل، كل ذلك منهي عنه، وهى مقدمة على ما نهى عنه الله على لسان نبيه، وكذلك لا يجوز لها حلق لحية أو شارب أو عنفقة إن نبت ذلك لها؛ لأن كل ذلك تغيير لخلق الله.
__________
(1) } ) الآية (119) من سورة النساء.(7/325)
قال القاضي: ويأتى على ما ذكره وأدخله في جملة النهي، أن من خلق بأصبع زائدة أو عضو زائد أنه لا يجرز له قطعه ولا نزعه عنه ؛ لأنه من تغيير خلق الله، إلا أن يكون هذا الزائد مما يؤذيه من أصبع أو ضرس ويؤلمه. فلا بأس على كل حال بنزعه عند هذا وغيره.
وقول عبد الله بن مسعود للتى قالت له أرى شيئًا من هذا على امرأتك. تريد ما تقدم أول الحديث من ذكر الواشمة وأصحابها فقال:" لو كان ذلك لم أجامعها "؛ أظهر ما فيه: لم أبق معها وأفارقها، ويحتمل لم أطأها. فيه وجوب هجرة أصحاب الذنوب، فإن هجرة الرجل زوجته لسبب معصية جاءت بها ليست بإثم رلا حرج عليه فيه، وقد قال الله تعالى:{ وَاهْجُرُوهُن فِي الْمَضَاجِع وَاضرِبُوهن } } (1) { -
وذكر مسلم في الباب: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا جرير، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. هذا السند مما استدركه الدارقطني وتتبعه على مسلم، وقال: الصحيح عن الأعمش إرساله، ولم يسنده عنه غير جرير، وخالفه أبو معاوية وغيره فرووه عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله مرسلاً، وهو صحيح مسند من رواية منصور عن إبراهيم.
قال القاضي: وقد ذكره مسلم عن منصور مسندًا كما قال من رواية جرير وشعبة وسفيان ومَفْضَل بن مهلهل.
وقوله في حديث جابر:" زجر النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن تصل المرأة شعرها بشيء: حجة لمالك والكافة في منعه بكل شيء، خلافًا لمن يخص بذلك الشعر على ما تقدم. وقول معاوية، وتناول قُصةَ شعرٍ كانت في يد حَرَسِي:" يا أهل المدينة ! أين علماؤكم ؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن مثل هذا " الحديث.
القُصة: ما أقبل على الجبهة من شعر الرأس، قاله الأصمعي.
__________
(1) } ) الآية (34) من سورة النساء.(7/326)
وفيه حجة أيضًا على من ذهب إلى جواز إلقاء الشعر والجمة على الرأس، وخص النهي بالوصل، وقد تقدم ؛ لأن القُصة مما توضع وليست موصولة. وفيه قيام الأئمة بالنهي عن المنكر والتعريف به على المنابر، ولا سيما إذا رآه مشتهرًا.
وفي قوله:" أين علماؤكم ": قيل: استعانة بهم على التعريف بهذا المنكر وتغييره والإنكار عليهم إن كانوا لم ينكروه، وهذا أظهر بقصده على مساق كلامه. واحتج به بعضهم على المالكية، ومن قال بإبطال الحجة بإجماع أهل المدينة وعملهم، ولا حجة له في هذا؛ إذ لم يثبت أن هذا كان شائعًا بالمدينة، وغير منكرٍ بها، وإنما تناولها معاوية، من يد حرس وجدها على امرأة، ولم تسلم المدينة ولا غيرها في وقت من مذنب ولا مرتكب للمعاصى بمشيئة الله في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده.
وليس في قوله:" أين علماؤكم ؟ " ما يدل أنهم جهلوه أو رأوه ولم ينكروه، والحجة بعمل أهل المدينة أشهر على التحقيق فيما نقلوه، النقل المستفيض، وتداوله عملهم خلفًا عن سلف إلى زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - كالأذان والصاع ونحو ذلك، وهذا مما وافق عليه المخالف فيه حين بين له، ورجع إليه أبو يوسف حين مناظرته لمالك في المسألة. واختلفوا فيما أجمعوا عليه من جهة الاجتهاد. واختلف فيه تأويل شيوخنا على مذهب مالك، فذهب قدماء أصحابه العراقيين أنه ليس بحجة ولا هو مراد مالك، ومذهب بعض المدنيين والمتأخرين من العراقيين والمغاربة من أصحابه أنه حجة. وذهب الكثير من أئمة الأصوليين إلى أنه ترجيح للآثار التي اختلفت، وكل هذا غير موجود في مسألتنا.(7/327)
وقوله: } } إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم { { : إعلام بتعجيل العقوبة لهم بذلك، قيل: ويحتمل أنه كان محرما عليهم فعوقبوا باستعماله وهلكوا بسببه، وقيل: يحتمل أن الهلاك كان به وبمجموع أ غيره مما، ارلّكبوه، فكان هلاكهم لذلك كله عند ظهور هذا فيهم وزمنه. وفيه معاقبة الكافة أ بفشو المنكر بين أظهرهم،. وفي تناوله قصة الشعر وهو على المنبر: حجة على طهارة شعر بنى آدم، خلافا للشافعى وقد تقدم الكلام عليه.
وقول معاوية:" إن نبى الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الزور. وجاء رجل بعَصًا على رأسها خرقة فقال: وهذا من الزور، يعني ما يكثر به النساء أشعارهن من الخرق ": حجة لعموم النهى عن ذلك بكل شيء على ماتقدم.
قوله: } } صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس { { : يحتمل أن وجوب النار لهم من أجل ظلمهم وتعذيبهم واستطالتهم على الناس بالضرب بهذه السياط وغيرها، ويحتمل أن ذلك لمعاصٍ أخرى أوجبت النار لهم من كفرهم وغير ذلك، وأن ذكر سياطهم وضربهم قصد الوصف لا قصد علة التعذيب بالنار.
وقوله: } } نساء كاسيات عاريات { { الحديث، ذكره الإمام وفسره آخر الكتاب حيث كرره فلم يكرره هنا، وذكرنا هناك ما قاله وما فيه من زيادات في التفسير والمعانى.
وقوله: } } في رؤوسهنَّ كأسنمة البخت المايلة { { : بياء باثنتين من تحتها، كذلك الرواية في جميع النسخ، وكان القاضي أبو الوليد الوقشي يقول: صوابه:" الماثلة " بالثاء المثلثة، يعني الظاهرة، ولا معنى للماثلة هنا، وقد تكلمنا عليه هناك وعلى تصويب الرواية، فانظره في موضعه مع الكلام على بقية الحديث.(7/328)
وقول المرأة التي قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -:" إن لي ضرة فهل على جناح أن أتشبع من مال زوجي بما لم يعطني "، فقال: } } المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور { { ؛ الضرة: الشريكة في الزوج، سميت بذلك لاستضرار الأخرى بها، ويقال: تزوجت المرأة على ضرة،?وضرة بالضم والكسر: إذا تزوجها على أخرى.
قال الإمام: المتشبع: المتكثر بأكثر مما عنده يتصلف به، وهو الرجل يرى أنه شبعان وليس كذلك، وتفسير " ثوبى زور": هو أن يلبس المرائي ثياب الزهاد يرى أنه زاهد. وقال غيره: هو أن يلبس قميصًا يصل بكميه كمين آخرين، يرى أن عليه قميصين.
قال القاضي: وفيه وجهان آخران ذكرهما الخطابي:
أحدهما: أن ذكر الثوبين هنا كناية عن حاله ومذهبه، والعرب تكنى بالثوب عن حال لابسه، والمعنى أنه بمنزلة الكاذب القائل مالم يكن.
الوجه الثانى: الرجل في الحى يكون له هيئته، فإذا اخيج إليه في شهادة زور شهد بها، فلا يرد لأجل هيئته وحسن ثوبه، فأضيفت شهادة الزور إلى ثوبه إذ كانت بسببها.(7/329)
قال الأمام: وخرج مسلم هذا الحديث عن محمد بن عبد الله بن نمير، قال: حدثنا وكيع وعَبْدَةُ، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضى الله عنها: أن امرأة قالت يا رسول الله! إن تشبعت من زوجي...، الحديث. ثم أردف عليه أبو العلاء بن ماهان عن مسلم: حدثنا أبو بكر، حدثنا أبو أسامة، حدثنا إسحق بن إبراهيم، حدثنا أبو معاوية كلاهما عن هشام. بهذا الإسناد. قال بعضهم: هذه المتابعة لا تصح، أن تكون على أثر حديث ابن نمير هذا، وإنما أتت في رواية الجلودي وغيره على أثر حديث ابن نمير، عن عبيدة عن هشام عن فاطمة عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن لي ضرة...، الحديث. قال عبد الغني: وقع في نسخة ابن ماهان حديث أبي بكر وإسحاق على أثر حديث ابن نمير عن وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضى الله عنها يزعم أنه مثل الأول، وهذا خطأ قبيح؛ لأنه عند غيره يعقب حديث فاطمة عن أسماء، قال: وليس يعرف حديث هشام عن أبيه عن عائشة إلا من حديث مسلم عن ابن نمير، ومن رواية معمر بن راشد. وقال الدارقطني في كتاب العلل: في حديث هشام عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها، إنما يروى هذا معمر ومبارك بن فضالة، ويرويه غرِهما عن فاطمة عن أسماء وهو الصحيح. وقال في إخراج مسلم حديث هشام عن أبيه عن عائشة،: لا يصح، والصواب حديث عَبْدَة ووكيع وغيرهما عن هشام عن فاطمة عن أسماء.
- - - - -
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الأداب
قال الإمام: قوله - صلى الله عليه وسلم -:« سموا باسمي، ولاتكنوا بكنيتي، فإنما بعثت قاسمًا أقسم بينكم »، ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذا مقصور على حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه قد قد ذكر سبب الحديث: أن رجلاً نادى: يا أبا القاسم ! فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: لم أعنك، إنما دعوت فلانًا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تسموا باسمي ولاتكنوا بكنيتي » الحديث.(7/330)
قال القاضي: ذكر مسلم في أول أحاديث:" تسموا باسمي": حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء وابن أبي عمر، قال: أبو كريب: أنبأنا، وقال ابن أبي عمر:حدثنا - واللفظ له - قال: حدثنا مروان الفزاري. كذا جاء في النسخ، وفيه إشكال ؛ لأنه قال عن ابن أبي عمر وحده: حدثنا، ثم قال: قالا حدثنا. وصوابه: وقال ابن أبي عمر: حدثنا - واللفظ له - قال: حدثنا مروان فكرره.
وقوله: نادى رجل رجلاً بالبقيع: يا أبا القاسم ! فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنى لم أعنك، إنما دعوت فلانًا، فقال - عليه السلام -:« تسموا باسمي، ولاتكنوا بكنيتي »، قال الإمام: ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذا مقصور على حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه قد ذكر سبب الحديث: أن رجلاً نادى: يا أبا القاسم ! فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: إنى لم أعنك، إنما دعوت فلانًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:« تسموا باسمي ولاتكنوا بكنيتي »، وقد أجاز مالك أن يتسمى محمدًا، ويكنى بأبي القاسم، وقد كان محمد بن أبي بكر جمع الأمرين الكنية والاسم، وجماعة من المحمديين، ولم ينكر ذلك عليهم، وقد أخذ بعض الناس بظاهر الحديث ولم يقصره على زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال القاضي: كان المنافقون والمستهزئون يعنون النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل هذا، فلما أجابهم قالوا: لم نعنك ؟ استهزاء واستخفافًا، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا. ففيه ما يجب من توقير النبي - صلى الله عليه وسلم - وتخصيصه بالبر والإكرام، وأن يتميز في حقوقه من غيره، وقد قال الله تعالى:{ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا }، قيل فيه: لاتنادوه باسمه ولكن عظموه ووقروه، ونادوه بأشرف مايحب: يانبى الله، يارسول الله، على أحد التأويلين.(7/331)
واختلف الناس، هل النهي عام أو خاص أو هو منسوخ ؟ فذهب طائفة من السلف - وهو مذهب أهل الظاهر - إلى أن التكني وحده بأبي القاسم ممنوع، كيف كان الاسم، على ظاهر هذا الحديث. وذهب آخرون من السلف إلى مع التكني بأبي القاسم، وكذلك تسمية الولد: القاسم ؛ لئلا يكون سببها /التكنية، حتى غير مروان حين بلغه الحديث اسم ابنه عبد الملك، وكان اسمه القاسم، فسماه حينئذ عبد الملك، وفعله بعض الأنصار أيضًا وحجتهم ظاهر هذا الحديث أيضًا. وذهب آخرون من السلف أيضًا إلى أن الممنوع الجمع بين الكنية والاسم، وأنه لاباس بالتكني بأبي القاسم مجردًا، ما لم يكن الاسم محمدًا أو أحمد، أو بالتسمية بأحمد أو محمد مجردًا، مالم تكن التكنية بأبي القاسم. وروى في ذلك حديث جابر عنه - عليه السلام -:« من تسمى باسمي فلا يتكنى بكنيتي، ومن تكنى بكنيتي فلا يتسمى باسمي ».
وذهب آخرون إلى أن النهي في ذلك منسوخ بالرخصة، والإباحة لذلك منهم بحديث على، وطلحة، واستشهاد على ناسًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في ذلك، وهو قول أكثر السلف، وقول جماعة فقهاء الأمصار وجمهور العلماء، وقد سمى جماعة ممن لاتنعد منهم أبناءهم: محمدًا، وكنوهم بأبي القاسم. وذهب الطبري إلى أن هذا ليس بنسخ، وإنما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - على جهة الندب لا على الإيجاب.(7/332)
قال القاضي: وهذا لا يخلصه من النسخ ؟ فإن الندب حكما من أحكام الشرع، وإذا نهى عن شيء لذلك ثم أباحه، فقد نسخ حكمه من الندب والكراهة إلى حكم الجواز والإباحة. وشذ آخرون، فمنعوا التسمية باسم النبي جملة، كيفما تكنى، وروى في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث:« تسموا أولادكم محمدًا، ثم تلعنوهم ». وقد كتب عمر إلى الكوفة: لا تسموا أحدًا باسم نبي. وأمر جماعة بالمدينة بتغيير أسماء أبنائهم محمدًا، حتى ذكر له جماعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماهم بذلك فتركهم، والأشبه أن فعل عمر لهذا إعظامًا لاسم النبي وتوقيرًا له، كما جاء في الحديث:" يسمون أبناءهم محمدًا، ثم يلعنونهم". وقيل: إن سببه أنه سمع رجلاً يقول لابن أخيه محمد بن زيد بن الخطاب: فعل الله بك يامحمد وصنع بك، فدعا عمر به وقال: لا أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسب بك، والله لاتدعى محمدا أبدًا ما بقيت، وسماه بعبد الرحمن، فبذلك يعرف.
وقوله:« فإنما أنا قاسم، أقسم بينكم »، يشعر أن الكنية إنما تكون بسبب وصف صحيح لازم في المكنى، أو بسبب اسم ابنه. وقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ابن من خديجة اسمه القاسم، ولما ولد له من مارية إبراهيم جاء في حديث: أن جبريل قال له:« السلام عليك يا أبا إبراهيم »، لكن ذلك جائز كيف كان. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأخى أنس وهو صغير:" يا أبا عمير ".
وفي هذا الحديث وغيره من الأحاديث جواز التكني ؛ لأن فيه إلطافًا وبرًّا وإكبارًا عن ذكر اسم المكنى، وقد جاء في حديث:" تكنوا، فإنه أكرم للمكنى"، وقال عمر:" عجلوا بكنى أبنائكم، لاتسرع إليهم ألقاب السوء". ولاخلاف بين العلماء في التكنية للرجل بابنه.(7/333)
وقوله:" كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم "، حجة في جواز التسمي بأسماء الأنبياء، وقد ذكر أبو داود وغيره حديئا عن أبيه أنه قال فيه: " تسموا بأسماء الأنبياء "، وقد ذكر عن عمر:" لايتسمى أحد باسم نبي "، وكتب بذلك إلى أهل الكوفة. ولعل تأويله ماقدمناه ؛ من تنزيه أسمائهم عن العبث بها فيمن سميت به، توقيرًا لهم، وتنزيها عن ذم أسمائهم، وأن يسمى بها غيرهم. وقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنه إبراهيم وسمى غيره محمدًا، وتسمى / جماعة بأسماء الأنبياء فلم ينكر عليهم، وقد وردت الكراهة بالتسمي بأسماء الملائكة عن بعض العلماء، وروى ذلك عن الحارث بن مسكين، وكره?مالك التسمي بجبريل وياسمين.
وقوله: " نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن نسمي رقيقنا بأربعة أسماء: أفلح، ورباح، ويسار، ونافع "، وفي الحديث الآخر:" نجيحًا " مكان " نافع "، وفي حديث جابر: نهانا أن يسمى: بيعلى، أو بركة وأفلح ويسار ونافع، ونحو ذلك، وفي بعض نسخ مسلم:" يعلى "، مكان " مقبل "، والأشبه أنه تصحيف، والمعروف: " مقبل "، وقال آخر الحديث: " ثم سكت عنها ": دل اختلاف هذه الروايات مع قوله:" ونحو ذلك "، على أنه لم يختص هذه الأسماء المنصوصة، بل في معناها ؛ للعلة التي ذكرت في الحديث في كتاب مسلم من قوله: " أثم "، فلا يكون فيقول: " لا " بينه في غير مسلم، يعني: يقال: أثم أفلح أو نجيح ؟ فيقال: لا.
وقول سَمُرَة: " إنما هي أربع، فلا تزيدوا علي ": يعني التي سمع، وروى هو، وإلا فقد جاء في حديث جابر ماذكرناه.
وقول جابر: " ثم سكت عنها "، دليل أنه ترك النهي، وأن نهيه أولاً إنما كان نهي تنزيه وترغيب ؛ مخافة سوء القال، ومايقع في النفس مما ذكره وعكس ماقصده المسمى بهذه الأسماء من حسن الفال. وقد كان للنبى - صلى الله عليه وسلم - غلام اسمه رباح، ومولى اسمه يسار، وسمى ابن عمر غلامه نافعًا.(7/334)
ومثل هذا كراهته اسم حزن وسماه سهلاً. وكراهية اسم حرب ومرة لقبح معانيها، وكراهة النفوس لها. وكذلك غير اسم غراب لتشاؤم العرب به، ولما في اسمه من الغربة ولخبثه وفسقه.
وقد غير اسم شيطان وحباب، وقيل أيضًا: لأنه اسم الحية. وغير اسم أصرم ؛ لما فيه من ذكر الصرم وهو القطيعة، واسم شهاب ؛ لأنه شعلة من نار.
ذكر مسلم في آخر الباب: حدثنا محمد بن أحمد بن أبي خلف، ثم ذكر بعده حديث أحمد بن حنبل في تغيير اسم عاصية، وهما ثابتان في النسخ للرواة إلا عند السمرقندي فسقطا له.
وقوله: " كانت جويرية اسمها برة، فحول اسمها جويرية "، وكان يكره أن يقال: خرج من عند برة، وقوله: " إن زينب كان اسمها برة فقال: تزكي نفسها، فسماها زينب "، ذكر ذلك في ابنة جحش وفي بنت أبي سلمة، ونهى عن هذا الاسم، وقال:« لاتزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم »، فقد بين في هذين الحديثين علة تغيير هذين الاسمين وما في معناهما من التزكية أو مخافة سوء الفأل. وكره مالك التسمي بمهدي ؛ لما فيه من التزكية، والله أعلم.
وقوله:" إن ابنة لعمر كان يقال لها: عاصية، سماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميلة "، ففيها النهي عن التسمى بما فيه تزكية، أو بما فيه قبح من الأسماء، أو شارك في معناه صفات الذم ؛ من العصيان وشبه ذلك، ألا ترى أنه قد نبه في الحديث المتقدم في الجهاد: أنه غير اسم العاص بن الأسود بالمطيع.
وقد غير - عليه السلام - اسم حكيم وعزيز لما فيه من التسمية بأسماء الله وصفاته، وكذلك بـ " ملك الأملاك "؛ لما في ذلك من التعاظم والكبر المذموم عند الله، وأن "ملك الأملاك " صفة لاتليق بغير الله تعالى كما ذكر في الحديث. وكذلك الذي تسمى بـ" عتلة "؛ لما فيه من القوة والوصف بالغلظة، وهو من جهة الكبر والتجبر.(7/335)
وفيه تحويل الأسماء إلى ماهو أحسن وأولى، وذلك على طريق الندب / والترغيب، إلا ما جاء في "ملك الأملاك"، فذلك ممنوع بالجملة وحرام، وقد جاء فيه من الوعيد.
وقوله:«أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لاملك إلا الله»، فسره أبو عمر، في الكتاب بمعنى: أوضع، أي أشد ذلاً وصغارًا. وفيه تجوز على حذف المضاف أن ذلك راجع إلى أصحابها والمسمين بها عند الله بقدر ماقصدوا من ضد ذلك، ويدل عليه قوله في الرواية الأخرى:« أغيظ رجل على الله يوم القيامة ». وقد يستدل بهذا على أن الاسم هو المسمى.
وقيل:" أخنع" بمعنى: أفجر، يقال: خنع الرجل إلى المرأة وخنعت إليه: إذا أتاها إلى الفجور، وهذا بمعنى أخبث، في الرواية الأخرى: أي أكذب الأسماء، وقيل: أقبح وأفجر، وجاء في بعض روايات البخاري " أخنا "، وهو بمعنى ماتقدم، أي: أفحش وأفجر.
والخنا: الفحش، ويكون أيضًا بمعنى: أهلك لصاحبه المسمى بذلك. والإخناء: الهلاك، يقال: أخنا عليه الدهر: أهلكه، وخنا الدهر: أماته، وقد ذكر أبو عبيد أنه روى: " أنخع "، أي: أقتل وأهلك، والخنع: القتل الشديد.
وقوله:« وأخبثه وأغيظه عليه » كذا جاءت الرواية في جميع النسخ: "أغيظ " تكررًا في الموضعين من الغيظ، وليس وجه الكلام، ولاشك أن فيه وهما إما من تكريره أو من تغييره. قال بعض الشيوخ: لعل أحدهما: "أغيظ"، بالنرن والطاء المهملة، أي أشده عليه. الغنط: شدة الكرب، وكلا اللفظين مشكل المعنى.
قال الإمام:" أغيظ "، هنا مصروف عن ظاهره، والباري سبحانه لايوصف بالغيظ، وقد يريد به هاهنا معنى الغضب، وتد تقدمت الإشارة إلى معنى الغضب والرحمة، وبسطنا القول في الطلاق هذه التسميات والمراد مايكون عنها على حسب ماتقدم بيانه في مواضعه.
قال: والأسماء تكره لمعان:
أحدها: ماذكر في الحديث المتقدم في:" رباح وأفلح ".(7/336)
والثاني: يقبح المعنى الشتق منه كتغييره اسم عاصية بجميلة، وقد يكره أيضًا لتزكية النفس، كنهيه عن اسم برة، وتغييره اسمها، وقال:« لاتزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم »، فقالوا: بم نسمها ؟ قال:« سموها زينب »، وفي بعض طرقه:" فحول اسمها جريرية"، وكان يكره أن يقال: خرج من عند برة، وهذا يعود إلى المعنى الأول، فقد يكره لما فيه من التعظيم والكبر كالتسمية بملك الأملاك.
قال القاضي: مفهوم ماذكره في تغيير اسم برة بزينب وجويرية: أنه اختلاف في اسم امرأة واحدة وليس كذلك، وإنما هي ثلاثة أحاديث في ثلاث نسوة بينة في الكتاب غير مشكلة ؛ أحدهما: في جويرية بنت الحارث، والأخرى: في زينب بنت جحش، والثالث: في زينب بنت أبي مسلمة، ربيبته.
وقوله:" قال سفيان مثل: شاهان شاه "، كذا روايتنا في هذا الكتاب، وفي رواية:" شاه شاه "، قال بعضهم: قول من قال في هذا:" شاه شاهان"، بالعكس أصوب، وكذا جاء في بعض الأخبار عن كسرى وشاه ملك، وشاهان الملوك، وكذلك يقولون في قاضي القضاة: موبذ موبذان.
قال القاضي: ولاينكر ماجاءت به الرواية من لاينكر في كلام العجم قلب الكلام والتثبيه، فهو أصل من أصول كلامهم، كأنهم يقولون: الملوك هذا ملكهم، وكذلك اثن كلامهم. وفسر الحديث عن سفيان:هو أن يتسمى بأسماء الله، كالعزيز، والجبار، والرحمن، وغيره.
وقوله:" ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة حين ولد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، فيه التبرك بالصالحين ودعائهم، وأن / هذه سورة حسنة في المولود: أن يذهب به للرجل الصالح والعالم يدعو له ويسميه.
وقوله:" فوجدته في عباءة "، هي كساء فيه خطوط سود واسعة، وجمعه عباء.
وقوله:" يهنأ بعيرًا له "، قال الإمام: قال أبو عبيد: يقال: هنأت البعير أهنأه وأهنوه، والهناء: القطران، قال الشاعر:
مبتذلاً تبدو محاسنه يضع الهناء مواضع النقب(7/337)
وقوله:" فتناول تمرات فألقاها في فيه فلاكهن "، قال القاضي: أي مضغهن وردهن في فيه ليرطبهن للصبي، واللوك يختص بمضغ الشيء الصلب.
وقوله:" فغر فا الصبي فمجه في فيه "، قال الإمام: فغره: أي فتحه.
قال القاضي: ومجه فيه: أي طرحه، والمج: الطرح من الفم من مائع، وهو مثل قوله في حديث ابن الزبير: " فمضغها ثم بصقها في فيه ".
قوله:" فجعل الصبي يتلمظه "، أي يحرك لسانه لطلبه في فيه. والتلمظ واللمظ: فعل ذلك باللسان إثر الأكل لتتبع بقاء الطعام في الفم والشفتين، وأكثر مايستعمله الإنسان فيما يستطيبه. واسم الذي في الفم منه: لماظة بضم اللام.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« حب الأنصار التمر »، وسماه عبد الله، ومثله في حديث ابن الزبير: " وأنه مسحه وصلى عليه "، أي: دعى، كما قال في الحديث الآخر، وذكر أيضًا في حديث أبي موسى:" ولد لي غلام فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسماه إبراهيم، وحنكه بتمرة "، وفي حديث سهيل:" أنه سمى ولد أبي أسيد: المنذر "، في هذا كله جواز التسمي بالأسماء الحسة والصحيحة المعنى والسالمة من الوجوه المتقدمة المذكورة، وأن قوله:« أحب الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرحمن »، عير مانع من التسمية بغير ذلك ؛ إذ لو اقتصر الناس على التسمية بذلك وشبهه لاشتبهت الأسامي ولم يقع التمييز والتعارف التي لأجلها وضعت. وفيه أن فعل مثل هذا من تحنيك الصبي مستحسن ولاسيما بالتمر ؛ اتباعًا لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وتبركًا باتباعه، وإنما فعلوا ذلك ليكون أول شيء يدخل في جوفه ما خالط ذلك من ريق النبي - عليه السلام -.
وفيه: جواز تسمية المولود حين يولد. وفيه ماكان - عليه السلام - من كرم الأخلاق وحسن العشرة من وضع الأطفال والمواليد على فخذه رفى حجره.(7/338)
وفي قصة أبي طلحة وأم سليم وقولها في ابنه حين مات:" هو أسكن مما كان " حتى تعشى أبو طلحة وأم سليم، وأصاب من زوجته: ماكانت عليه أم سليم من الفضل والصبر والتسليم. وفيه جواز المعاريض، وأنها ليست من الكذب، كما يقال: في المعاريض مندوحة عن الكذب ؛ إذ أرادت س سكون حركاته بالموت، وجاءت بلفظ مشترك، وفهم أبو طلحة منه سكون مابه من وجع وألم.
وقوله - عليه السلام -:« أعرستم الليلة »، كناية عن المجامعة، قال الأصمعي: يقال: أعرس الرجل: إذا دخل بامرأته، ولايقال في هذا: عرس، وقال الخليل: أحسن ذلك أن يقال: أعرس: إذا اتخذ عرسًا. وفيه إجابة دعوة، النبي لقوله:« اللهم بارك لهما »، فولدت غلامًا، فكان من أفاضل الصحابة، ثم ولد فضلاء عدة، فقهاء علماء: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وأخوته العشرة.
وقوله:" أحمله إلى النبي، فبعث معه بتمرات "، لتقريب ذلك وتيسيره كيلا يحتاج إلى طلب ذلك، كما جاء في حديث ابن الزبير: " فمكثنا ساعة نلتمسها "، وفي الحديث /:" فعز علينا طلبها ".
وقوله في حديث أسماء:" أنها حملت بعبد الله بمكة قالت: فخرجت وأنا متم فأتينا المدينة "، كذا وجدته مضبوطًا في كتابي الذي سمعته وقيدته عن شيوخنا الأسدي وغيره بسكون التاء، وعند ابن عيسى:"متم "، بكسر التاء، وكذا في سائر النسخ. ولغيره وهو أصوب ؛ لأنها قد ذكرت أنها وضعت قبل وصولها للمدينة بقباء، وكذا ذكره البخاري، يقال للمرأة إذا حان لها أن تضع، قاله الكسائى. وأما " المتم " بالسكون: فالتي تأتي بتوأمين معًا في بطن وليس من هذا، والله أعلم ممن جاء الوهم فيه. وفي الحديث كله مناقب لابن الزبير من أنه أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه دعى له وبارك عليه، وأنه أول مولود ولد في الإسلام.(7/339)
وفي قوله: " مسحه وصلى عليه "، أي دعى، جواز المسح على من يدعى له من مريض أو غيره، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك، وفعله الأنبياء والفضلاء والصالحون.
قال الإمام: ذكر مسلم سند حديث أبي طلحة في الباب: حدثنا أبو بكر بن ابى شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك. هكذا جاء في الإسناد: " ابن سيرين " غير مسمى. وأخرجه البخاري عن نضر، عن يزيد بن هارون، عن أنس بن سيرين، عن أنس بن مالك. فسماه.
قال القاضي: وقوله في حديث أبي أسيد: " فنهى عنه "، كذا رويناه بفتح الهاء، يقال: لهيت عن الشيء، بالكسر، ألهى عنه: إذا انصرفت عنه، ولهى عنه، بالفتح: إذا اشتغل عنه بطرب أو نحوه، وألهاني كذا وكذا: شغلني، ومنه قول عمر: " ألهاني السفق بالأسواق "، وقيل: " لهى " لغة طئ في هذا الباب، وكذا: رقى وثوى وتوى، وغيرهم يقولون: لهى ورقى وثوى وتوى بالكسر. وأما من اللهو فلا يقال: إلا لهى، بالفتح، يلهو.
قوله:" فأقلبوه "، أي صرفوه، كذا رويناه في الكتاب، والمعروف في مثل هذا قلبره مخففًا ثلاثيًّا، قال صاحب الأفعال: قلبت الشيء: رددته، وقلبت الصبي. قال الأصمعي: ولا يقال: أقلبته، وتسميته له بالمنذر، قيل: لموت ابن عم أبيه المنذر بن عمرو، استشهاده يوم بئر معونه، وهو كان أميرهم وهو المنعي ليموت تفاؤلاً ليكون خلفًا منه، وكلاهما من بني ساعدة. وأبو أسيد أبوه مالك بن ربيعة، بضم الهمزة. وحكى ابن مهدي فيه عن سفيان بن أبي أسيد، بفتحها. قال ابن حنجل: بالضم قاله عبد الرزاق ووكيع، وهو الصواب.(7/340)
قوله:" كان لي أخ يقال له أبو عمر، أحسبه قال: " فطيمًا "، فكان إذا جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآه قال:« أبا عمير ! ما فعل النغير »، قال: فكان يلعب به، النغير: تصغير النغر، وهو طائر. قال صاحب العين: النغر: فراخ العصافير، الواحدة نغرة، والنغر أيضًا ضرب من الحمر. وقال الخطابي: النغر: طائر صغير، ويجمع نغران.
قال الإمام: وفيه من الفقه جواز صيد المدينة وقد تقدم ذكره، وجواز التكنية للصغير ولا يكون كذابًا، واستعمال السجع في بعض الأحايين.
قال القاضي: وفيه جواز المزاح والدعابة فيما ليس فيه إثم، وفيه جواز تصغير بعض الأسماء والمخلوفات، وفيه جواز لعب الصبي بالطير الصغير. ومعنى هذا اللعب عند العلماء إمساكه له وتلهيته بحبسه لا بتعذيبة والعبث به، وفيه ماكان عليه - عليه السلام - من الخلق الحسن والعشرة الطيبة مع الصغير والكبير، والانبساط إلى الناس. وقوله في كتاب مسلم: ما فعل النغير، قال: فكان يلعب به، كذا له. قال بعضهم: لعل هذا الكلام راجع إلى / النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي يمازحه. وسمى اللعب مزاحا كما جاء في الحديث الآخر:" يمازحه "، والأظهر هنا في قوله: " يلعب هنا به " عائد إلى النغير، كما فسره في الرواية الأخرى: " كان نغيرا يلعب به فمات ".
وقوله:" يا بني "، فيه جواز قول الرجل للصبى والشاب: يا بني، وياولدي. وجواز تصغير ذلك كما هنا. وتحقيقه: أنك في السن بمنزلة ولدي، أو في الحنان والمحبة.(7/341)
وقوله في الدجال:« وما ينصبك منه »، من النصب والمشقة، أي: مايشق عليك ويعنتك، وهو ناصب، بمعنى: منصب شاق. وهذه رواية الكافة، وفي رواية الهوزني:" مضيك " بالضاد بعدها ياء باثنتين تحتها، وهو بعيد - والله أعلم - بعد التخريج، وأقرب ما فيه من معانى هذه اللفظة: الهزال، جمل نضو: أنضاه السفر أي أهزله، والرجل مثله وهو في الدواب أكبر استعمالا، فإن صحت هذه الرواية فمعناه قريب من الأول، أي ماتهمك حتى في يهزلك ويذهب يجدها.
وقوله في الدجال:" يزعمون أن معه أنهار الماء وجبال الخير،« هو أهون على الله من ذلك »، مع ماجاء في الأحاديث الأخر مما يظهره الله من الفتن والعجائب على يديه، قد جاء الكلام عليها مستوفيًا آخر الكتاب.
حديث الاستئذان
قصة أبي موسى في ذلك مع عمر بن الخطاب إذا استأذن عليه ثلاثًا فرجع. وقوله: إن ألنبى - صلى الله عليه وسلم - قال:« إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع »، وقول عمر له:" أقم البية عليه وإلا أوجعتك " الحديث، قال الإمام: الاستئذان مشروع، وقد جاء الحديث بكونه ثالثًا، اختلف أصحابنا: إذا ضن أنه لم يسمع هل يزيد على هذا العدد ؟ فقيل: لايزيد عليه أخذًا بظاهر الحديث، وقيل: له أن يزيد عليه ؛ لأن التكرير المذكور في الحديث يكون يراد به الاستظهار في الإعلام فإذا ظن أنه لم يعلم فله الزيادة ليعلم به، وقال بعض أصحابنا: هذا إذا كان بأن يستدعي رجلاً باسمه فله أن يدعوه فوق الثلاث.
والاستئذان صورته أن يقول: السلام عليكم. وهو بالخيار أن يسمي نفسه مع هذا أو يقتصر على التسليم.
وقد ذكر مسلم في بعض طرقه أن أبا موسى قال: السلام عليكم هذا عبد الله بن قيس، السلام عليكم هذا أبو موسى، السلام عليكم هذا الأشعري، فأضاف إلى السلام تسميته. وخالف بين ألفاظها طلبًا للتعريف لئلا يكون جهل الأول فعرف بالثاني، وكنى نفسه لعله ظن أن به يعرف.(7/342)
وقد تعلق من رد خبر الواحد بقول عمر لأبي موسى:" أقم عليه البينة وإلا أوجعتك "، وهذا لاتعلق فيه ؛ لأن من يرد خبر الواحد لا يلزمه أن يضرب المخبر إذا لم يتبين كذبه، وعمر قد تهدده هاهنا.
قال بعض الناس: إنما هذا حرص على التقليل من الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولئلا يكون إكثار الثقات سببًا لتقول الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل، وقد روى عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال:" أقلوا الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا شريككم ". قيل: معناه: شريككم في التقليل، ومما يؤيد أنه لم يذهب المذهب الذي ذهبوا إليه: أنه قال له في بعض طرق مسلم:" يا أبا موسى ! أوجدت ؟ قال: نعم، أبي بن كعب، قال: عدل، قال: يا أبا الطفيل ! مايقول هذا ؟ قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - / يقول ذلك يا ابن الخطاب، فلا تكونن عذابًا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: سبحان الله ! إنما سمعت شيئًا فأحببت أن أتثبت. وقيل: إنما ذلك ؛ لأنه صار كالدافع عن نفسه المعتذر عن فعله، فطلب شهادة غيره.
وقوله:" ألهاني عنه الصفق بالأسواق "، قال الأزهري: الصفاق: الكثير الأسفار والتصرف في التجارة، وقال غيره: لأنهم كانوا يصفقون أيديهم عند المبايعة، وسميت المبايعة بذلك فيكون المراد: ألهاني التجر في الأسواق.
قال القاضي: اختصاصه بالثلاث لئلا يخفي صوته، واستئذانه في المرة الأولى، فكرر ثانية للبيان، ثم ثالخة لذلك، وليكون وترًا. وكذلك كان - عليه السلام - يكرر كثيرًا مما يامر به، ويزكده ثلاثًا لهذين المعنيين، والله أعلم.
فيه القيام بالحق بين أيدى الخلفاء لقول أبي لعمر ما قال. وفيه حماية الأئمة للشرع والتبيين أن يزاد فيها أو يتقول على النبي - عليه السلام - شيء. وفيه التغليظ بالقول.(7/343)
ويحتمل قوله:" لأجعلنك عظة، أو لأوجعن ظهرك وبطنك "؛ أن يكون إذا تبين له أنه قال على النبي ما لم يقل وافترى عليه، لاسيما من قول أبي موسى:" هكذا كنا نؤمر "، فأحال القصة على جماعة، وسنة فاشية عندهم إن لم يجد ما ساعده عليها فيطرأ الوهم عليه.
وأما ضحكهم من ذعر أبي موسى فلعجب رأوه من فرط هلعه وخوفه من إنفاذ عمر وعيده فيه لظاهر قوة لفظه، وكانوا قد أمنوا أن يجرى عليه شيء من ذلك لعلمهم بقوة حجته وسماعهم ما أنكر عليه من النبي - عليه السلام - فلم يهتموا بأمره.
وقوله: في حديث جابر: " أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعوت، فقال النبي - عليه السلام -: «من هذا ؟» قلت: أنا، فخرج وهو يقول:« أنا أنا »، وفي بعض طرقه: "كأنه كره ذلك "، قيل: إنما كره - عليه السلام - هذا من قوله ؛ لأنه لم يزده من قوله: " أنا " إلا إبهامًا لما استفسره من قوله:« من هذا ؟» إذ لا يقتضي " أنا " تفسيرًا وتعنيفًا ؛ إلا لمن يعرف الصوت، وإلا فهو تعنيفًا غير مفيد، وقيل: بل أنكر عليه الاستئذان باندق وتغيير السلام ؛ لأنه في غير كتاب مسلم: "فدققت الباب". واستدل به بعضهم على جواز ذلك، وجواز ضرب باب الحاكم وإخراجه. وقد كره بعض العلماء أن يكون الاستئذان بغير السلام، والذي جاء في الآثار الجمع بينهما، وفي حديث أبي موسى:" السلام عليكم هذا أبو موسى "، وفي حديث عمر:" السلام عليكم ! أيدخل عمر ؟" وهذا قد يعرف صوته ويميز كلامه.(7/344)
وقوله:" أن رجلاً اطلع في جحر من باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدرى يحك بها رأسه ". وفي رواية:" يرجل "، وقول النبي - عليه السلام -: «لو أعلم أنك تنظرني لطعنت بها في عينك، إنما جعل الإذن من أجل البصر»، وفي الحديث الآخر:" فكأني أنظر إلى النبي يختله ليطعنه "، وفي الأخرى: « لو أن رجلاً اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه ماكان عليك من جناح »، المدرى، بكسرالميم: المشاط، وقال ثابت: نحو المشط، وقيل: هي أعواد تحدد وتجمع صفافًا يجعل منها شبه المشط، تجمع مدارى. قال النضر: المدرى: هو من عاج تنشر به المرأة شعرها وتجعده وترفعه في السماء ثم تضعه. قال ابن كيسان: هو عود تدخله المرأة في شعرها لتضم بعضه إلى بعض، وبه يشبه القرن، قاله ثابت، ومن أثبه قال: مدرارة قال: ويقال: مدرية، قال غيره ويقال: مدراية.
وقوله:" يحكه " يفسره قوله:" يرجل "، وفيه جواز ترجيل الشعر، وأنه من زي النبي - عليه السلام - وأصحابه - رضي الله عنهم -، وقد جاءت به الأحاديث من فعله - صلى الله عليه وسلم - بذلك وهو من النظافة وتحسين الزي وإكرام الشعر، وكره من ذلك الإكثار وهو الذي جاء فيه الحديث النهي عن الإرفاه، وفسره في الحديث: الترجل في كل يوم، ولأنه خارج عن عادة الرجال ويشبه بعادة النساء واشتغال لازم بزينة الدنيا، ومضادة لقوله في الحديث الآخر: التذاذه من الإيمان، يريد في بعض الأحيان، فلا يغفل. عن الترجل بيده حتى يتشعث وتنكر حالته وصورته حتى يكون ثائر الرأس كأنه شيطان، ولا يواظب على ذلك كل يوم حتى يكون في عدد المترفين والمشبهين بالنساء في لزوم الزينة. وهذا يجمع هذه الأحاديث إن شاء الله تعالى وقد روى الحديث المذكور:" كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن كثير من الأرفاه "، وهذا اللفظ يبين ماذكرناه.(7/345)
وقوله:« إنما جعل الإذن من أجل البصر »، تنبيه على علة الاستئذان. وفيه حجة للعاصين وأصحاب المعاني، ورد على أهل الظاهر من المانعين من ذلك.
ومعنى ايختله ": أي يراوغه ويغفله. وأصله الحذر، ومخادعة العبيد ومراوغته. وقوله: " فحذفته " بالحاء: أي رميته بحجر من أصبعيك، وقد تقدم تفسيره في أول الكتاب 10 وبعده أ . قال الإمام: قد تقدم الكلام على هذه الأحاديث، وذكرنا الخلاف بين العلماء وبين أصحابنا في ضمان العين لو فقئت على هذه الصفة، عند كلامنا على المعضوض أصبعه فاندر ثنية العاض، فيطالع هناك.
وقوله - عليه السلام -:« فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه »، فحمله على أنه لم ينزجر ولاقدروا على كفه عن النظر إلى عورتهم إلا بفعل أدى إلى ذهاب عينه.
قال القاضي: وقيل في هذا كله: إنه على طريق التغليظ والزجر والمبالغة في التكبر.
وقوله:« لو علمت إنك تنتظر في »، كذا الرواية لغير العذري، وعند العذري:« تنظرني »، وهو الصواب. النظر يقع بمعنى الانتظار ولايقع الانتظار بمعنى الهنظر إلا على تجرز من تكلف المنظر مثل النظر.
وقوله:"سألته عن نظرة الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري "، الفجاءة، مهموز ممدود: ماكان من غير قصد، يقال: فجاءة الأمر وفجاه أيضًا. ومعنى: نظرة الفجاة: التي لم يقصد صاحبها تأملها والنظر إليها، فتلك معفو عنها. والمنهى عنه المحرم من ذلك إدامة النظر وتأمل المحاسن على وجه التلذذ والاستحسان والشهوة ؟ ولهذا قال في الحديث: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي: « لاتتبع النظرة بالنظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الثانية ». وأمر الله تعالى المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار، كما أمرهم بحفظ الفروج، وقال - عليه السلام -:« العين تزني ».(7/346)
وفي هذا كله عند العلماء حجة أنه ليس بواجب أن تستر المرأة وجهها، وإنما ذلك استحباب وسنة لها، وعلى الرجل غض بصره عنها. وغض البصر يجب على كل حال في أمور: كالعورات وأشباهها. ويجب مرة على حال دون حال مما ليس بعورة، فيجب غض البصر إلا لغرض صحيح من شهادة أو تقليب جارية للشراء، أو النظر لامرأة للزواج، أو نظر الطبيب، ونحر هذا.
وقد اختلف السلف من العلماء في معنى قوله:{ ولا ييدين زينتهن إلا ما ظهرمنها }، فذهب جماعة من السلف: أنه الوجه والكفان.
قال القاضي إسماعيل: وهو الظاهر ؛ لأن المرأة يجب عليها أن تستر في الصلاة كل موضع منها لايراه الغرباء إلا وجهها وكفيها، فدل أنه مما يجوز للغرباء أن يروه وهو قول مالك. قالوا: والمراد بالزينة: مواضع الزينة، وقيل: المراد: الثياب، ولاخلاف أن فرض ستر عورة الوجه مما اختص به أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ نزل الحجاب، وسيأتى الكلام عليه بإثر هذا الكتاب إن شاء الله.
كتاب السلام
قوله:« يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير »، قال الإمام: ابتداء السلام سنة، ورده واجب. هذا المشهور عند أصحابنا ، وهو من عبادات الكفاية التي فعل الواحد فيها ينوب عن الجميع ؛ ولهذا يجزئ أن يبتدئ من الجماعة. واحد، ويرد منها واحد. وقال أبو يوسف: لا بد أن يرد الجماعة كلها .
وإنما شرع سلام الراكب على الماشي لفضل الراكب عليه من باب الدنيا، فعدل الشرع بأن جعل للماشي فضيلة أن يبدأ. واحتياطًا على الراكب من العبر والزهو وإذا حاز الفضيلتين ؛ ولهذا المعنى أشار بعض أصحابنا.
وإذا تلاقى رجلان كلاهما مار في الطريق، بدأ الأدنى منهما الأفضل إجلالاً للفضل وتعظيمًا للخير ؛ لأن فضيلة الدين مرعية في الشرع مقدمة.(7/347)
وأما بدء المار للقاعد، فلم أر في تعليله نصًّا، ويحتمل أن يجرى في تعليله على هذا الأسلوب، فيقال: فإن القاعد قد يتوقع شرًّا من الوارد عليه أو يوحس في نفسه خينة، فإذا ابتدأه بالسلام أنس إليه، أو لأن التصرف والتردد في الحاجات الدنيوية وامتهان النفس فيها ينقص من مرتبة المتصاونين والآخذين بالعزلة تورعًا، فصار للقاعدين مزية في باب الدين ؛ فلهذا أمر بابتدائهم. أو لأن القاعد يشق عليه مراعاة المارين مع كثرتهم والتشوف إليهم، فسقطت البداية عنه وأمر بها المار ؛ لعدم المشقة عليه.
وأما بداية القليل للجماعة الكثيرة، فيحتمل أحيانًا أن يكون الفضيلة للجماعة؛ ولهذا قال الشارع: عليكم بالسواد الأعظم، ويد الله مع الجماعة، فأمر ببدايتهم فضلهم، أو لأن الجماعة إذا بدؤوا الواحد خيف عليه الكبر والزهو، فاحتيط له بألا يبدأ، وقد يحتمل غير ذلك، ولكن ما ذكرناه هو الذي يليق بما قدمناه عنهم من التعليل، ولا يحسن معارضة مثل هذه التعاليل بآحاد مسائل شذت عنها ؛ لأن التعليل الكلي لموضع الشرع لا تتطلب فيه ألا يشذ عنه بعض الجزئيات.
قال القاضي: وقوله: قال أبو عمر بن عبد البر: أجمع العلماء أن ابتداء السلام سنة، والرد فرض. وقال القاضي عبد الوهاب: لا خلاف أن ابتداء السلام سنة أو فرض على الكفاية، فإن سلم واحد من الجماعة أجزأ عنهم.
قال القاضي: معنى قوله: أو فرض على الكفاية، مع ما تقدم من قول غيره: أنهم أجمعوا أنه سنة من غير خلاف، أي أن إقامة السنة وإحياءها فرض على الكفاية.
وللسلام أحكام في صفته وصفة رده ومعنى لفظه وحكمه، وحكم رده ومن المخاطب بالابتداء به، وقد مض الكلام في هذه الأحكام الثلاثة الأخيرة.(7/348)
فأما صبته فأان يقول: السلام عليكم، أو سلام عليكم، قال الله تعالى: { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم }، وقال:{ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ( سلام عليكم }، وقال:{ سلام على إل ياسين }. وفي التشهد:« السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته »، ودخول الألف واللام فيه عندهم للتعظيم. قال أهل العربية: وهي تدخل لثلاثة معان: للتعريف: كقولك: الرجل، وللجنس: كقولك: النساء والذهب. وللتعظيم: كقولك: العباس والحسن.، وهاتان لغتان في السلام معروفتان، ولغة / ثالثة: سلم، بكسر السين، وأنشدوا:
وقفنا فقلنا إيه سلمًا فسلممت كما انهل بالبرق والغمام اللوائح
فان زاد: " ورحمة الله وبركاته " فحسن، وقد استدلوا بقول الملائكة بعد ذكر السلام:{ رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت }. وقد جاء في التشهد: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وقد جاءت بذلك عن السلف آثار. ويكره أن يقول في الابتداء: عليك السلام، وجاء في الحديث النهي عنه، وأنه تحية الموتى ، ومعناه: أنه عادة الشعراء المؤبنين للموتى في أشعارها ومراثيها، كقوله:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما
لا أن هذه هي السنة، وقد قال - عليه السلام -:« السلام عليكم دار قوم مؤمنين»، فحياهم تحية الأحياء. قال بعضهم: ولأن عادة العرب في تحية الموتى قد جرت في تقديم اسم المدعو عليه في الشر ، كقولهم: عليه لعنة الله وغضبه، وقال الله تعالى:{ وإن عليك لعنتي إلى يوم الدِّين }، وهذا لا حجة فيه ؛ لأن الله قد نص في الملاعنة بتقديم اللعنة والغضب على الاسم، وقيل: لأن السلام اسم الله، وهو أولى بالتقديم وهذا حسن لو سلم، وقد تقدم الخلاف فيه، ويناقضه جواز ذلك في الرد وهو ما لا يختلف في جوازه، وقد روي عن الملائكة في حديث آدم، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الرد كذلك:« عليك السلام ».(7/349)
وأما في الرد فيقول:« السلام عليك »، أو: « عليك السلام ورحمة الله وبركاته »، وإن اقتصر على السلام أجزأه إلا أن يكون المسلم أولاً قد زاد الرحمة والبركة، فعلى الراد مثل ذلك. وقد جاء في الحديث الصحيح عند خلق ادم وأمر الله له أن يسلم على الملائكة وأن يسمع ما يحيونه به فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا:« السلام عليك ورحمة الله وبركاته »، وهو أحد التأويلين في قوله:{ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها }.
وأما معنى السلام، فقيل: معناه هنا: اسم الله، أي كلاءة الله عليك وحفظه كما يقال: الله معك، والله يصاحبك. والسلام: اسم من أسماء الله هو:{ السلام المؤمن المهيمن }، ومعناه: السالم من النقائص والمعايب، وقيل: المسلم لعباده، وقيل: المسلم على أوليائه في الجنة، وقيل: مسلمهم من عذابه، وقيل: معنى سلام عليك: أي السلامة والنجاة لكم، كما قال:{ فسلام لك من أصحاب اليمين }. وقيل معناه: أنا مسالم لك، وسلم لك غير حرب. والسلم والسلام: الصلح.
قوله:« اجتنبوا مجالس الصعدات »، بضم العين، قال الإمام: هي الطرق مأخوذة من الصعيد، وهو التراب، وجمعه صعد، ثم صعدات، مثل: طريق. وطرق، ثم طرقات.
قال القاضي: قد جاء في الروايات الأخرى مفسرًا بذلك:« إياكم والجلوس بالطرقات »، وقيل: الصعيد: الطريق الذي لا نبات فيه، مأخوذ من الصعيد،وهو التراب أو وجه الأرض.
وقوله:« فإما لا فأدوا حقها »، بكسر الهمزة، معناه: إلا لم تتركوها فأدوا حقها، كما قال في الحديث الأخر:« إن أبيتم إلا المجلس فاعطوا الطريق حقه ». قال ابن الأنباري: ومعناه: افعل كذا وكذا إن كنت لا تفعل كذا وكذا، فدخلت " ما " صلة، وقد مر من هذا الحرف.(7/350)
وقوله: وما حقه ؟ قال:« غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر »، وفي الحديث الآخر:« وحسن الكلام»، قد بين من هذا معنى علة ما نهى عنه من الجلوس على الطرقات من التعرض للفتن بحضور النساء الشواب، وخوف ما يلحق من ذلك من النظر إليهن والفتنة بسببهن، ومن التعرض لحقوق الله وللمسلمين بما لا يلزم الإنسان إذا كان في بيته وحيث ينفرد أو يشتغل بما يلزمه، ومن رؤية / المناكر وتعطيل المعارف، فيجب على المسلم الأمر والنهي عند ذلك، فإن ترك ذلك، فقد تعرض لمعصية الله، وكذلك هو يتعرض لمن يمر عليه وسلم، وربما كثر ذلك عليه فيعجز. عن رد السلام على كل مار ورده فرض فيأثم والمرء مأمور ألا يتعرض للفتن، ولا لإلزام نفسه ما لعله لا يقوم بحقه فيه فندبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ترك هذا، فلما أعلموه أنه لا بد لهم من ذلك لما يقصده الإنسان بمجالسة جيرته وأصحابه في أفنية منازلهم لترويح قلوبهم وقضاء حوائجهم والمباحثة عن أحوالهم. قال لهم: إن أبيتم إلا ذلك فأدوا الحقوق اللازمة لكم.
وفيه دليل أن أمره - عليه السلام - لم يكن لهم على الوجوب، وإنما كان على طريق الترغيب والحض لما هو أولى ؛ إذ لو فهموا منه الوجوب لم يراجعوه هذه المراجعة، وقد يحتج به من لا يرى الأوامر على الوجوب. وفيه حجة على وجوب رد السلام، وحجة على أن الماشى يسلم على القاعد، كما تقدم في الحديث قبل.
وأما قوله: " وكف الأذى "، فيحتمل أن يكف أذى الناس بعضهم عن بعض، وهو من نحو قوله:« والأمر بالمعررف والنهى عن المنكر »، وقد يكون أن تكف أذاك عن المار فيه بألا تجلس حيث يضيق عليه الطريق، أو من يتأذى بجلوسك على باب منزله، أو طريق واردته، أو حيث يكشف عياله، أو ما يريد التستر به من حاله.(7/351)
وقوله:« وحسن الكلام »، ندب إلى حسن معاملة المسلمين بعضهم لبعض، وأن الجالس على الطريق يمر به العدد الكثير من الناس، فربما سألوه عن بعض شأنهم، ووجه طرقهم، فيجب أن يتلقاهم بالجميل من الكلام، ولا يتلقاهم بالضجر وخشونة اللفظ، ولعل هذا من باب كف الأذى المتقدم.
قال الإمام: خرَّج مسلم في هذا الباب: حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، الحديث. ثم أردف عليه: حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا عبد العزيز بن محمد، الحديث. وحدثني محمد بن رافع، حدثنا ابن أبي فديك، عن ثام بن سعد، كلاهما عن زيد بن أسلم. هكذا رواه الرازى عن الجلودي. وأما السجزي فلم يتكرر عنده ولا عند ابن ماهان ولا غيرهما، وتكررت عند الجلودي والكسائي في مواضع أخر من كتاب الأدب، فذكر أحاديث، سويد، ثم أعقبا بعده، فقالا: حدثنا يحيى ابن يحيى، حدثنا عبد الله بن يزيد، عن زيد. فجعل مكان "عبد العزيز بن محمد" " عبد الله بن يزيد ". قال بعضهم: والصواب ما تقدم، وكذلك خرجه الدمشقي في كتاب "الأطراف": عن يحيى بن يحيى، عن عبد العزيز. وكذلك رواه ابن ماهان في الموضعين معًا، لم يكن عنده فيه خلاف.
قال القاضي: قوله:« حق المسلم على المسلم خمس »، فذكر: رد السلام، وتشميت العاطس، واجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، فلا خلاف أن القيام بذلك على الجملة فرض، لكنه في الجنازة على الكفاية، حتى إذا لم يكن بالحضرة عدة كثيرة إلا من يقوم تعين عليهم.
واختلف في رد السلام وتشميت العاطس، هل هو فرض على الكفاية أو على العين ؟ وقد تقدم منه، وسيأتى الكلام في تشميت العاطس /.
وأما إجابة الدعوة، ففي الوليمة فرض وقد تقدم الكلام عليه، وفي غيرها ندب، وقد يكره ذلك في غير الوليمة لأهل الفضل.(7/352)
وأما عيادة المريض فمندوب إليه إلا فيمن لا قائم عليه، فعلى المسلمين فرض على الكفاية، القيام عليه، وتمريضه ؛ لئلا يضيع ويموت جوعًا وعطشًا. وذلك أصل سنة العيادة لتفقد حال المرضى والقيام عليهم. وأما ابتداء السلام، فقد تقدم الكلام فيه.
وأما النصيحة، فمرغب فيها غير واجبة،لكنه إذا استنصح كان مندوبًا إلى أن ينصح ؛ لأنه حض - عليه السلام - على النصيحة لكل مسلم، فإذا استنصح ؛ وجب عليه النصيحة، ولا يداهن في ذلك. ولفظة:"حق"، لا تقتضى الوجوب حيث وقعت، وقد تقدم هذا في الوصايا.
وقوله:" وتشميت العاطس "، هو الرد عليه. يقال بالسين المعجمة والمهملة، وأصله: الدعاء، وكل داع بالخير فمشمت.
قوله:« إذا سلم عليكم أهل الكتاب، فقولوا: وعليكم »، وفي الرواية الأخرى:" إن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم: السام عليكم، فقولوا: وعليك، وكذا في رواية السجزي، ولغيره: " عليك " بغير واو، وفي الحديث الآخر في رده - عليه السلام - عليهم، فقال: " قد قلت: عليكم، وفي الآخر " وعليكم "، قال الإمام: اختيار بعض الناس في الرد أن يقول: عليك، بغير واو ، ورأى أن إثبات الواو تفيد إثباته على نفسه حتى يصح العطف عليه، وقاله ابن حبيب من أصحابنا ، ووقع لغيره من أصحابنا إثبات الواو في الرد، وهكذا وقع في كتاب مسلم إثباتها إلا في بعض طرقه في رد النبي - عليه السلام - فإنه قال:« قلت: عليكم »، وفي بعض طرقه:« قلت: وعليكم »، والانفصال عما قاله ابن حبيب أن يكون الواو للاستئناف لا للعطف والتشريك بين الأول والثاني، واستعمالهما للاستئناف كثير، فاستعملت له ها هنا. واختار بعضهم أن يرد عليهم السلام - بكسر السين - وهي الحجارة.
قال القاضي عبد الوهاب: والأول أولى ؛ لأن السنة وردت بما ذكرناه ؛ ولأن الرد إنما يكون بجنس المردود لا بغيره.(7/353)
وقد تعلق بعض الناس في إباحة لفظ السلام بقوله سبحانه وتعالى: {سلام عليك سأستغفر لك ربي }، وبقوله عز وجل:{ وقل سلام فسوف يعلمون }. والجواب عن هذا: أنه لم يقصده بهذه التحية، وإنما قصد المباعدة والمتاركة ؛ ولهذا قال بعض الناس في قوله جلت حضرته قدرته:{ وقل سلام فسوف يعلمون }، إنها منسوخة بآية السيف لما كان القصد بها المباركة.?
وقوله:« السام عليكم، هو الموت، ومنه الحديث الآخر:« لكل داء دواء إلا السام »، قيل: يا رسول الله، ما السام ؟ قال:« الموت »، قال القاضي: تأول قتادة السام في هذا الحديث على خلاف ما تقدم، وأنه بمعنى تسامون دينكم، وهو مصدر سئمت سآمة وسآمًا، مثل: لذاذة ولذاذًا، ورضاعة ورضاعًا. وقد جاء مثل هذا مفسرًا من قول النبي، وكذلك رواه بقي/ بن مخلد في تفسيره أنه قال في معناه: أي يسمون دينكم، وعلى هذا فرواية من رواه بحذف الواو أحسن ممن رواه بالواو، وقاله الخطابي.
وقد اختلف العلماء في رد السلام على أهل الذمة، فألزمه جماعة إلزامه الرد على المسلمين لعموم الأية والحديث، وهو مذهب ابن عباس والشعبي وقتادة. وذهب غيرهم إلى أن الآية والحديث مخصوص بالمسلمين بدليل تفسير هذه الأحاديث التي في الباب، وأنه لا يرد عليهم، ورواه أشهب وابن وهب عن مالك. قال: فإن رددت، فقل: عليك. قال بعض شيوخنا: ومعنى قولهم هذا: لا يرد علبهم، أي بلفظ السلام المشروع، وليرد عليهم بما جاء في الحديث:" عليكم "، وهذا قول أكثر العلماء. وقال ابن طاووس: يقول: علاك السلام، أي ارتفع عنكم. قيل: في هذا الحديث دليل أنهم لا يبدؤون بالسلام ؛ لقوله:« إذا سلم عليكم اليهود »، ولم يذكر ابتداء السلام عليهم، فدل أنه غير مشروع ولا جائز .(7/354)
وقول عائشة:" بل عليكم السام والذام "، مخفف الميم، وفي رواية العذري:" الهام " مكان " الذام "، فأما الذام: فهو من الذم، وكذا رواه الهروي: " والدام "، ويكون ألفه منقلبة من ياء، ويقال: ذممته ذمًّا: إذا لمته في إساءته، وذمته أذيمه ذيمًا: عبته، أو يكون ألفه منقلبة من همزة من الذأم وهو الاستحقار. يقال ذامه ذأمًا: إذا حقره، وهذا من نحر قولها في الرواية الأخرى:« بل عليكم السام واللعنة »، ولم تختلف الرواية فيه أنه بالذال المعجمة، ولو كان بالمهملة ؛ لكان له وجه .
قال ابن الأعرابي: الدام: بمعنى الدائم، وبكرن معناه: عليكم الموت الدائم. وأما الهام، فلا وجه له إلا أن يكون بمعنى الموت أيضًا، من قولهم: فلان هامة اليوم وغد. والعرب تزعم أن الميت إذا مات خرج من رأسه طائر يقال له: الهام. ويقال: ذلك يختص بمن قتل ولم يدرك بثأره، فيقال لمن كبر وشاخ ذلك: إن موتك قريب، فيكون معنى قول عائشة هذا، أو يكون الهام ها هنا بمعنى: الطيرة، على ما كانت العرب تطير به من الهام، أي: عليكم الموت والطيرة والشؤم، والله أعلم.
قال القاضي: وقوله في الحديث الآخر:" ففطنت بهم عائشة، فسبتهم"، كذا روايتنا عن شيوخنا في هذا الحرف بالفاء والنون، وقد روى: "فقطبت" بالقاف وتشديد الطاء والباء، بمعنى ما جاء في الحديث الآخر: " فقالت عائشة وغضبت.(7/355)
سب عائشة لهم قيل: فيه الانتصار للسلطان وأهل الفضل، ووجوب ذلك على حراسهم وغيرهم من المسلمين. وفي قول النبي - عليه السلام - لها:« إن الله يحب الرفق في الأمر كله »، وفي الرواية الآخرى:« لا تكوني فاحشة »، وفي الأخرى:« إن الله لا يحب الفحش والتفحش »، الفاحش ذو الفحش في كلامه، والمتفحش: المتكلف لذلك ومتعمده. قيل: ويكون المتفحش الذي يأتي الفاحشة المنهى عنها / والفواحش: القبانح، والفحش من القول ما يقبح، ومن الذنوب كذلك، وقيل: الفحش: الزيادة على ما عهد من مقدار اثىء والعدوان فيه. وتد تأول ذلك الهروي في حديث عائشة وأنه نهاها النبي - عليه السلام - عن العدوان في الجواب ؛ إذ لم يكن منها إليهم فحش .
قال القاضي: لا أدرى ما قال، وأى فحش في الكلام أفحش من اللعنة وما قرنته من السب معها.
وقولها:" ألا لسمع ما قالوا ؟ "، فقال:« قد رددت عليهم »، قالوا: قد قلت:" وعليكم "، إنا نجاب فيهم ولا يجابون فينا فأنزل الله تعالى:{ وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله }، كله يبين أن النبي سمع ما قالوه مما وصفهم الله به، والله بعد قد أعلمه بذلك، وفضح تلببسهم وتحريفهم الكلم عن مواضعه الذي قد وصفهم الله به في الآية الأخرى .
وفيه الحض على محاسن الأخلاق وترك فحش الكلام أحد، وانخداع أهل الفضل وتغافلهم عن أهل السفه، كما قيل: العاقل الفطن المتقابل، والانتصار والمعارضة بالتى هي أحسن إذا أمكن ذلك، والصبر على أذى من ترجى فيه، ورجوعه وائتلافًا للخير، وقد كان النبي - عليه السلام - يستألف الكفار والمنافقين بالأقوال الطائلة، فكيف بالكلام الحسن الظاهر.(7/356)
وقوله:« لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام »، هذه سنة، بها أخذ عامة السلف والفقهاء ومالك وغيره، وذهب آخرون إلى جواز ذلك ابتداء، وروى ذلك عن ابن عباس وأبي أمامة وابن محيريز، واحتج من قال هذا بقوله - عليه السلام -:« أفشوا السلام »، وذهب آخرون إلى جوازه ابتداء للضرورة أو لحاجة تعن له إليه، أو لذمام وسبب، يروى ذلك عن إبراهيم وعلقمة. وقال الأوزاعي: إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون.
وقوله:« إذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه »، والمراد بذلك والله أعلم ألا يظهر برهم بالتنحي لهم عن منهج الطريق وسبيله ويؤثرهم به، وينضم هو إلى ضيقه وجوانبه، بل يسلكه المسلم حتى يضطر هر إلى حواشي الطريق وضيقه، ولم يرد - عليه السلام - والله أعلم، إذا كان الطريق واسعًا لحملهم أن يضيق عليهم ذلك فضلاً ويمنعهم منه حتى يضطروا إلى غيره.
وقوله:" مر - عليه السلام - بصبيان فسلم عليهم "، وفي الرواية الأخرى:" غلمان" وهما بمعنى، يقال للمولود: غلام، من حين يولد إلى بلوغه. وتقول العرب للرجل المستجمع قوة: غلام.
فيه تواضعه - صلى الله عليه وسلم - وحسن عشرته مع الصغير والكبير وتدريب الجميع على السنن والآداب ورياضة لهم بخلق الشريعة، وفيه سنة السلام على الصبيان الذين يعقلون ذلك ويفهمونه اقتداء به - عليه السلام - وأنه من جملة المسلمين، ومن تشملهم احكامه.
وأما التسليم على النساء، اختلف العلماء في ذلك، فجمهورهم مالك وغيره على جواز ذلك على المتجالاَّت ابتداء، وكراهيته على الشابة ؛ مخافة الفتنة من خلطتها ومكالمتها وردها وسماع صوتها، وحجتهم: عموم الأمر بإفشاء السلام في الأحاديث، وحديث سلامهم على العجوز بعد صلاة الجمعة التي كانت تطبخ لهم أصول السلق بالشعير وتطعمهم .(7/357)
وقال الكوفيرن: لا يسلم الرجال على النساء إذا لم يكن منهم ذوات محارم، وقالوا: كما سقط عنها الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة، سقط عنها رد السلام، ولا نسلم عليهن. وقال ابن وهب: بلغني عن ربيعة أنه لا يسلم الرجل على النساء ولا النساء على الرجال.
وقوله:" إذنك على أن يرفع الحجاب وأن تستمع سوادي حتى أنهاك "، السواد، بكسر السين: السود، أصله دنو سواد الشخص من سواد الآخر.
فيه أن من على بابه حجاب عن شيء فإذا رفعه، فهو إذن، فمن كان حجابه بسد بابه عن العامة من الأمراء والحكام والكبراء ، فإذا فتحه كانت علامة إذنه، وكانمت العادة حينئذ الدخول عليه دون استئذان، فلا يحتاج الداخل عليه إلى إذن، وكذلك عادة الرجل في بيته مع خدمه ومماليكه وحاشيته متى ما أرخى حجابه، فلا دخول عليه إلا بإذن، فإذا رفعه جاز لهؤلاء الدخول بغير إذن بدليل هذا الحديث، وقد قال الله تعالى:{ ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات } الآية. قيل: اختص هذا الإذن في هذه الثلاث ؛ لأنها أوقات للاكتشاف والخلوة بالأهل / قال ابن عباس: كان الناس لا سترة لبيوتهم، فربما دخل الخادم والرجل على أهله وهذا يبين ما بيناه من مراعاة الحجاب وعدمه.
واختلف في المراد بالآية، قال ابن عباس:{ الذين ملكت أيمانكم }: هم الذين لم يبلغوا الحلم، والتقدير عنده: ليستاذنكم الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم. وقيل: المراد بما { ملكمت أيمانكم }: إلا ما دون الذكور الكبار ؛ لأن حلم هؤلاء في هذه الأوقات وغيرها على سادتهم ؛ إذ لا يحل النظر إلى أجسامهم.
قوله: وذكر مسلم أحاديث حجاب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر خروج سودة، وقصة عمر وقوله لها، وفي رواية هشام عن أبيه أنه بعد الحجاب وقول النبي:« قد أذن لكم أن تخرجن لحاجتكن »، وذكر في رواية الزهري عنه: أنه كان قبل الحجاب، وان قول عمر حرصًا على نزول الحجاب، فأنزل الحجاب.(7/358)
فرض الحجاب مما اختص به أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا خلاف في فرضه عليهن في الوجه والكفين الذي اختلف في ندب غيرهن إلى ستره. قالوا: ولا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة وغيرها، ولا ظهور أشخاصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه الضرورة من الخروج للبراز كما جاء في الحديث: وقد كن إذا خرجن جلسن للناس من وراء حجاب، وإذا برجن لضرورة حجبن وسترن أشخاصهن. كما جاء في حديث حفصة يوم موت عمر، لما ماتت زينب صنع على نعشها قبة تستر جسمها، وقد قال تعالى:{ وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب }.
وفيه تنبيه أهل الفضل غيرهم على ما يكره منهم بقول عمر: قد عرفناك، وفيه فضل عمر، وصحة نظره، وصواب رأيه، حتى وافق الوحي والشرع في أمور كثيرة ؛ منها الحجاب وغيره، مما سيأتى ذكره في فضل عمر.
وفيه عرض الوزير والصاحب الرأي على الأمير من قبل نفسه لما يراه من الصلاح، وسبب تأكيد ذلك وتكريره عليه إن لم يسمع منه أو لا.
قال الإمام: قوله: " تفرع النساء "، يعني تطولهن، يقال: فرعت القوم، أي طلتهم.
وقوله:" يعني البراز " بفتح الباء وكسر الباء مما يستعمل في المبازرة، والبراز، بفتح الباء: هو المكان الطاهر الواسع.
وقوله:" كن يخرجن إلى المناصع، وهو صعيد أفيح "، قيل: هي المواضع التي يتخلى فيها لبول أو حاجة، واحدها منصع.
قال القاضي: قال الأزهري: أراها مواضع خارج المدينة، وعليه يدل قوله في الحديث:" وهي صعيد أفيح "، أي أرض متسعة، والصعيد أيضًا: الطريق الذي لا ينبت. ومعنى قوله:" أفيح "، أي: واسع.
وقوله:" فانكفأت راجعة "، أي انصرفت وانقلبت على أدراجها.(7/359)
قوله:" وإنه ليتعشى وفي يده عرقًا "، هو بفتح العين وسكون الراء، قال صاحب العين: العراق، بضم العين: العظم إذا لم يكن عليه لحم، فإذا كان عليه اللحم فهو العرق، وزعم الكلابي أن العرق: العظم الذي أخذ أكثر ما عليه من اللحم، وهذا قد لا يمكن أن يكون اختلافًا. يقال: تعرقت العظم واعترقته وعرقته: إذا تتبعت ما عليه من اللحم، وقيل لعرق العذرة من اللحم.
وقوله:« إياكم والدخول على النساء »، وفي الحديث الأخر:« لا يبيتن رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحًا أو ذا محرم »، خص الثيب دون الأبكار ؛ إذ العادة احتجاب الأبكار عن الرجال، فكيف أن يدخل عليهن أو يباح عندهن.
وقوله:" إلا ناكحًا"، يعني: ذات روح حاضر يكون مبيته بحضرة زوجها، وقد أ يضمن الحديث الآخر الدخول، وإن لم يكن مبيت، والشرع قد حرم / أن يخلو الرجل بامرأة ليست منه بذات محرم.
وقوله: أفرأيت الحمو ؟ قال:« الحمو الموت »، فسره الليث في "الأم": أنه أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج: العم ونحوه. وفي رواية: ابن العم ونحوه، وكلاهما صحيح. قال ابن السكيت:كل شيء من قبل الزوج أخوه، أو أبوه أو عمه فهم الأحماء. قال غيره: يقال: هذا حموك، مضموم الميم في الرفع، ورأيت حماك، ويورث بحميك، ولغة أخرى: هذا حمؤك، بسكون الميم وهمزة مرفوعة، ورأيت حمأك، ومررت بحمئك، أجرى الإعراب في الهمزة، ولغة ثالثة: هذا حمك، ورأيت حمك، ومررت بحمك بغير همزة، ولا واو. ولغة رابعة، يقال: هو حماوها، ورأيت حماها، ومررت بحماها. قال الأصمعي: الأحماء: أهل أ الرجل، ، والأختان: أهل المرأة، والأصهار يقع عليهما، ويقال: هذا حم، في الانفراد إذا لم يضف، ويقال في أم زوج المرأة: هذه حماتها لا غير.(7/360)
وقوله:" الحمو الموت "، قال الإمام: قال أبو عبيد: يقال: فلتمت ولا تفعل هذا، فإذا كان ذلك في أبي الزوج وهو محرم فكيف بالغريب، قال ابن الأعرابي: هي كلمة تقولها العرب كما تقول: الأسد الموت، أي لقاؤه مثل الموت.
قال القاضي: يريد في هذا لما فيه من الغرر المؤدى إلى الموت، فكذلك الخلو بالأحماء مؤد إلى الفتنة والهلاك في الدين، فجعله كهلاك الموت، فأورد هذا الكلام مورد التغليظ والتشديد. والأشبه أنه في غير أبي الزوج ومن عدا المحارم منهم - والله أعلم - بدليل قوله في الحديث المتقدم:« إلا أن يكون ناكحًا أو ذا محرم »، فقد فسر أن الحرج والمنع إنما هو لغير ذوى المحارم.
وقوله:« لا يدخل رجل على امرأة مغيبة إلا معه رجل أو اثنان »، هذا لئلا يحصل الخلو معها، فإذا كانوا جماعة ارتفعت التهمة وما وقع بالنفس وهذا في ذلك الذين وصلاح العامة والخاصة واستتار من عساه يلم بأمر عن غيره، فاما في الأزمنة الفاسدة فلا يجب أن يخلو بالمرأة لا واحد ولا أكثر للحقوق المظنة بهم، إلا أن يكون الجماعة الكثيرة أو يكون فيها قوم صالحون، ومن يعرف أنه لا يتواطأ على ريبة فتزول المظنة بحضوره.
والمغيبة، بضم الميم وكسر الغين: هي التي غاب عنها زوجها، وسواء كان مغيبة عن البلد أو المنزل بدليل هذا الحديث الذي في الكتاب، وأن القصة التي قال فيها - عليه السلام - إنما كان أبو بكر غائبًا عن منزله لا في سفر، فأنكر دخول من دخل منزله في غيبته، وذكر ذلك للنبى - صلى الله عليه وسلم -، وقال: لم أر إلا خيرًا.(7/361)
وقوله للذين رأيا معه صفية:« إنها صفية »، وقوله:« إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم، وإنى خشيت أن يلقى في قلوبكما شيئًا »، زاد في غير مسلم " فتهلكا "، هو إشفاق منه على أمته، فقد كان بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا، وخشيته من ظنهم به شيئًا فيهلكوا، كما قال - عليه السلام - إذا ظن السوء بالأنبياء كفر، والكبائر غير جائزة عليهم بإجماع عند الجميع، ومن مقتض دليل المعجزة غد الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني. وقد كشفنا هذا الباب غاية الكشف في كتاب الشفا.
وفي هذا الحديث من الفقه: من قال في النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من هذا أو جوزه عليه فهو كافر مباح الدم.
وقوله:" يقذف "، أي: يلقى. وفيه جواز زبارة النساء المعتكف له في معتكفه، وتحدثهن معه، وأن ذلك غير مفسد لاعتكافه، لكنه يكره كثرة مجالسته لهن خوف الذريعة، وأما الممنوع فاستلذاذه بهن / كيف كان، من قليل أو كثير، ليلاً أو نهارًا، في المسجد أو غيره. وفيه ما يجب على المسلم من التحرز من الناس من سوء الظن، وطلب السلامة من الناس، والتحفظ من صغير الذنب. وقد مر من هذا في الاعتكاف.
وقولها:" ثم قمت لأنقلب فقام معى ليقلبني "، بفتح الباء، أي ليصرفني ويشيعني. ظاهر هذا جوازه للمعتكف ما لم يخرج من المسجد ؛ ولذلك ترجم عليه البخاري:" خروج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد "؛ لأنه في هذا الحديث إنما بلغ معها باب المسجد، فمر رجلان من الأنصار، وذكر الحديث. فليس فيه أنه شيعها خارج المسجد، وكان بيت صفية خارج المسجد.(7/362)
ولم يختلف العلماء في جواز خروجه خارج المسجد لما لا غنى له عنه ؛ من وضوء، وغسل جنابة، أو غانط، وبول وشبهه، إذ لم يمر تحت سقف واختلفوا إذا دخل تحت سقف. واختلف قول مالك في خروجه لشراء، حاجته، على ما قدمناه في الاعتكاف. ولم يختلفوا أنه لا يفسد اعتكافه خروجه إلى باب المسجد أو مشيه في المسجد للإمامة والأذان وشبهه، وان اختلفوا في كراهة تصرفه لغير ضرورة ؛ كزيارة مريض فيه، أو صلاة على جنازة، أو الصعود إلى المنار للأذان، أو الجلوس إلى قوم ليصلح بينهم. وكره مالك ذلك كله أن يفعله.واختلف قوله في صعوده للمنار وقد تقدم هذا كله.
وقوله:« على رسلكما »، بكسر الراء، الرسل والترسل: السكون والسير اللين، وحكى فيه فتح الراء أيضًا، وكل شيء هيّن رسل.
وقولهما له:" سبحان الله "، فيه جواز مثل هذا عند تعظيم الأمر والتعجب، قال الله تعالى:{ ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك }.
وقوله:« إن الشيطان يجرى من الانسان مجرى الدم »، قيل: هو على ظاهره، فإن الله جعل له قوة وقدرة في الجرى في باطن الإنسان في مجاري دمه، وقيل: هذا على الاستعارة لكثرة إغوائه ووسوسته، فكأنه لا يفارق الإنسان كما لا يفارقه دمه.
وقوله في حديث الثلاثة:« فأما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه »، هذا من تحسين الكلام ومقابلته بالمماثلة في اللفظ، كما قال:{ مستهزئون ( الله يستهزئ بهم }، { ومكروا ومكر الله }، أي جازاهم على فعلهم، فسمى مجازاتهم مثل أسماء أفعالهم واستعار لها ألقابها.(7/363)
وقوله:« أما أحدهما فاوى إلى الله فآواه الله »، الأول مقصور ثلاثي غير متعد، والثاني ممدود رباعي معدّى، وهو قول الأصمعي. وهذه لغة القرآن، قال الله تعالى:{ إذ أوى الفتية إلى الكهف }. وقال في الثاني: {ألم يجدك يتيمًا فآوى }، وقد حكى بعض أهل اللغة فيها جميعًا اللغتين: المد والقصر، قالوا: وسواء قوله: أويت إلى الرجل، وأويته بمعنى: نزلت، وآويت الرجل: أدخلته منزلي وأنزلته، والأشهر في اللازم القصر.
ومعنى " أوى إلى ": أي لجا إليه، ومعناه عندي هنا: دخل مجلس ذكر الله، أو دخل مكان رسوله ومجمع أوليائه، وانضم إليه لدخوله الحلقة، وقربه من نبيه، يقال: أويت إلى منزلي، والمأوى: المنزل، أي أدخلته، وأويت الرجل: أدخلته منزلي وضممته إليه، وأنزلته. " فآواه الله "، أي قبله وقربه وأجاب رغبته، وقيل: رحمه، وقد يكون آواه إلى جنته، وكله بمعنى متقارب.
وقوله في الذي جلس خلف الحلقة:« وأما الآخر فاستحيا »، أي ترك المزاحمة والتخطي كما فعل الآخر حياء من النبي وممن حضر، أو استحيا من النبي أن يعرض ويذهب كما فعل الآخر. واستحياء الله منه: أي فرحمه ولم يعذبه وترك معاقبته على ما تقدم له من ذنب وغفر له. قال بعضهم: أي جازاه على فعله ولم يلحقه بدرجة / صاحبه من قبوله وبره بإيوائه إليه، وتقريبه منه.
وأما قوله:« وأما الأخر فأعرض، فأعرض الله عنه »، أي: لم يرحمه وسخط عليه، وهو معنى الإعراض من الله تعالى ؛ لأن من أعرض عن نبيه وزهد فيه فليس بمؤمن، وان كان هذا مؤمنا وذهب لحاجة من حوائج الدنيا وضرورة دعته إلى ذلك، فيكون إعراض الله تعالى عنه ترك رحمته وعفوه، وتقريبه وقبوله الذي أعطاها صاحبيه، فلم يثبت له حسنة ولا نفى عنه سيئة ؛ إذ لم يكن منه ما يثاب بذلك.(7/364)
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه والعلم منها: أولاً: قوله في الحديث: فأقبل اثنان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلما عليه تسليم الوارد على القوم، وأنه ابتدأهم بالسلام وتسليم القائم على القاعد، ولم يذكر في الحديث رد السلام عليهما اكتفاء بشهرة الأمر، وكذلك لم يذكر أنهما حيبا المسجد بالركوع، ولا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهما بذلك. يحتمل أن إتيانهم كان من جانب المسجد، أو كانوا على طهارة، أو في غير وقت ركوع أو قبل شرع الركوع، أو أنهما ركعا فلم يذكر ذلك الراوي، أو لأنه ليس بواجب، وقد سبق تعليم النبي له ولم يلزم أمرهم به.
وفيه أدب مجالسة العالم، والحرص على القرب منه، وجواز التخطي إلى فرجة في الحلقة إن كانت فيها كما فعل الأول، والجبرس حيث انتهى به المجلس كما فعل الثاني، والاقتداء بالله في إيواء من آوى إليه، والتفسح لقاصد المجلس، وجواز الإخبار عن أهل المعاصي والتعريف بأحوالهم وبواطنهم، وإن كان الثالث منافقًا أو كافرًا، وأن ذلك ليس بغيبة في مثله وإن كان مؤمنًا، إنما فعل ذلك لضرورة، فليس في ذلك إخبار عن شيء لم يعرفه الحاضرون، وإنما أخبر عن خيبته من الأجر الذي حصل لصاحبيه والثواب الذي عملاه دونه. وفيه الثناء على الحياء والحض على تعليم العلم.
وقوله:« لا يقيمن الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، لكن تفسحوا وتوسعوا »، زاد في بعضها:" يوم الجمعة "، وفي حديث ابن جريج:" في الجمعة وغيرها "، وذكر أن ابن عمر كان إذا قام له الرجل من مجلسه لم يجلس فيه، وقد قال الله تعالى:{ إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم }.(7/365)
اختلف أهل العلم في معنى الآية، فقيل: هو مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، كانوا يتنافسون فيه، فإذا رأوه أتى تضايقوا حرصًا على القرب من النبي - عليه السلام -م. وقيل: المراد بذلك مجلس القتال. وقيل: الآية على العموم في كل مجلس من مجالس النبي - عليه السلام - والحرب والذكر. والمراد بالمجلس هنا: المجالس، اسم للجنس. واختلف الناس في تأويل هذا الحديث أيضًا فتأوله قوم على الوجوب، وقالوا: هو حق بمجلسه ما دام فيه.
وقد ذكر مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:« إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به »، وإذا كان هذا بعد قيامه فما لم يقم منه أولى. وذهب آخرون أنه على الندب، قالوا: وهو موضع غير متملك لأحد قبل الجلوس فكذلك بعده، والأول أظهر. وكذلك اختلفوا في معنى حديث أبي هريرة إذا قام منه وأنه أحق به.
وأما معنى القيام المذكور، فذهب مالك إلى أن ذلك على الندب وذلك إذا كانت أوبته قريبة، وإن بعد ذلك حتى يذهب ويبعد فلا أرى ذلك، وأنه لحسن من محاسن الأخلاق.
وقال محمد بن مسلمة: معنى الحديث في مجلس / العالم هو أولى به إذا قام لحاجة، فإذا قام تاركًا له فليس هو بأولى. وعلى هذا اختلف العلماء فيمن ترسم من العلماء والقراء بموضع من المساجد للتدريس والفتيا، فحكى عن مالك أنه أحق به إذا عرف به. والذي عليه الجمهور أن هذا استحسان وليس بحق واجب، ولعله مراد مالك . وكذلك قالوا فيمن قعد من الباعة في موضع من أفنية الطريق وأقضية البلاد غير المتملكة وأصحاب الحوائج والمرافق، فهو أحق به ما دام به جالسًا، فإذا قام منه ونيته الرجوع إليه من عنده بمتاعه، واختلفرا فقيل: هو أحق به حتى يتم غرضه، وحكاه الماوردي عن مالك قطعًا للتنازع، وقيل: هو وغيره فيه بعد قيامه سواء والسابق يعد أحق به، وهو قول الجمهور.(7/366)
وقوله في حديث المخنث:" أدلك على بنت غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان "، وقوله - عليه السلام -: « ألا أرى هذا يعرف ما ها هنا لا يدخل هؤلاء عليكم » فحجبوه، قال الإمام: قال أبو عبيد: يعني أربع عكن تقبل بهن ولهن أطراف أربعة من كل جانب فتصير ثمانية تدبر بهن، وإنما أنث فقال: "بثمان " ولم يقل:" بثمانية "، وواحد الأطراف طرف، وهو مذكر: لأنه لم يذكرها، ولو ذكر الأطراف لم يجد بدا من التذكير، وهذا كقولهم: هذا الثوب سبع في ثمان، والثمان يراد بها الأشبار، فلم يذكرها لما لم يأت بذكر الأشبار، والسبع إنما يقع على الأذرع، فلذلك أنث، والذراع أنثى .
ووجه دخول المخنث على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه يمكن أن يكون عند النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير أولي الإربة، فلما وصف هذا علم - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس من أولئك فأمر - عليه السلام - بإخراجه، ألا تراه يقول:« ألا أرى هذا يعرف ما هاهنا ».
قال القاضي: في هذا الحديث من الفقه: منع المخنثين من الدخول على إلنساء ومحادثتهن، ومنع وصف محاسن المرأة بحضرة الرجال، ومنع انكشاف النساء عليهم، وتحريم نظرهم إلى ما لا يحل للأجانب النظر إليه منهن وكذلك الخصيان الأحرار. واختلف في المماليك منهم إذا لم يكن وغدًا أو كان وغدًا ملكًا لغيرهن، هل يدخل عليهن ويرى شعورهن وما يرى منهن ذوو المحارم.
واختلف في اسم هذا المخنث، والأشهر أن اسمه:" هيت " بياء ساكنة باثنتين تحتها وآخره تاء باثنتين فوقها، وقيل: صوابه:" هنب "، بالنون والباء بواحدة أخرى، قاله ابن لرستويه، وقال: إن غير هذا تصحيف، قال: والهنب: الأحمق، حكاه لنا أستاذنا أبو عبد الله بن سليمان النحوي.(7/367)
وجاء في خبر آخر أن قائل هذا " ماتع " مولى فاختة المخزومية، وهو بتاء باثنتين فوقها، قال: وكان هو وهيت في بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبي لا يرى أنه يفطن لشيء من أمر النساء، وذكر له قصة ابنة غيلان بنحو حديث هيت المتقدم، وفيه زيادة " وشعر "، وذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه كما هنا، وأنه غربهما معًا إلى الحمى، ذكر ذلك الواقدي. وذكر أبو منصرر الباوردي نحو الحكاية عن مخنث، كان بالمدينة يقال له: " أنة " ولم يسم ابنه غيلان ولا عبدالله بن أبي أمية في حديثه، وذكر أن النبي - عليه السلام - نفاه إلى حمراء الأسد، والمحفوظ أنه لهيت.
وقد استدل بهذا الحديث بعضهم على جواز دخول المخنثين على النساء إذا كانوا ممن لا إرب له فيهن، وأنهم من غير أولى الإربة، وكالخصيان وشبههم وممن لا يفرق بين الحسنة والقبيحة / وقد قال ذلك في تأويل الآية في أولى الإربة عكرمة وغيره، وأنه المخنث الذي لا إرب له في النساء. قالوا: ولهذا لم ينكر النبي - عليه السلام - أولاً دخوله بعد الحجاب على أزواجه، ولم يحكم له بحكم الرجال في هذا حتى سمعه يصف ما وصف فقال:« ألا أرى تعرف ما ها هنا »، فأخرجه ونفاه عن المدينة إلى الحمى.
وفيه جواز النفي، وحجة لكافة العلماء القائلين به وقد تقدم، واستدل به أيضًا أن المخنث الذي هو خلقة لا حرج عليه ولا عقوبة عليه ؛ إذ لا اكتساب له فيه وإذ لم ينكر النبي - عليه السلام - أولاً أمره، وأن الذي لعنه في الحديث الآخر من المخنثين من الرجال إنما عنى بهم، المتشبهين بالنساء المستعملين ذلك، وأما من خلق خلقه فلا ؛ إذ لا يقدر على تغيير خلقه وطبعه الذي طبعه الله عليه، ولو كان كل مخنث ملعونًا من النبي كان خلقة أو تخلقًا لما شرع النبي بقاء هذا أولاً في المدينة، ولا أخرجه لأول وهلة. قالوا: وإخراج النبي له لثلاثة معان:(7/368)
أحدها: المعنى المتقدم: أنه كان يحسبه من غير أولي الإربة، فظهر له من يفطنه لما تتفطن إليه الرجال أنه صار منهم.
الثاني: وصف النساء ومحاسنهن وعوراتهن بحضرة الرجال، وقد نهى النبي - عليه السلام - المرأة أن تصف لزوجها جارتها حتى كأنه يراها، فكيف الرجل ؟
الثالث: أنه إن كشف له منه أنه كان يطلع من النساء وأجسامهن وعوراتهن على ما لا يطلع عليه كثير من النساء، فكيف الرجال، لا سيما في الزيادة في غير "الأم" من أوصافها في الحديث:" حتى وصف ما بين رجليها" يريد عورتها ؛ ولهذا قال - عليه السلام - حيننذ:« لقد غلغلت النظر، أي عدو الله ».
وفي قوله:« لا يدخل هؤلاء عليكم »، عموم في المخنثين، وإشارة إلى الجنس، لما انكشف له من هذا ما انكشف، إطلاعهم على أجساد النساء وعوراتهن ووصفهن للرجال.
وقولها في حديث أسماء والزبير:" كنت أخدم الزبير خدمة البيت، وكنت أعلف فرسه، وأسوس فرسه "، في الرواية الأخرى:" أي أقوم عليه وأخدمه، وأخرز غربه " أي: الدلو الذي يسقى به في أرضه. والغرب: الدلو الكبيرة. وذكر الحديث، وفيه:" وأعجن وأنقل النوى من أرضه "، فيه معونة المرأة زوجها في الخدمة، فأما ما هو خارج بيتها مثل خدمة الفرس ونقل النوى فلا يلزمها بإجماع، إلا أن تتطوع بذلك معونة له، وحسنًا لصحبته.
وأما خدمة البيت كالعجن والكنس والطبخ فعلى العوائد ومقادير النساء واليسار. قال بعض شيوخنا: على كل امرأة من خدمة بيتها بقدرها وخدمة مثلها حتى على الشريفة من ذلك الأمو والنهى للخدم بذلك، وليس بواجب عليها عند مالك إلا أن تطوع . قال في "المبسوط": إلا لمثل أصحاب الصفة. قال بعض أصحابنا: وليس عليها إلا أن تمكن من ننكلسها، وفي كتاب ابن حبيب: عليها في العسر الخدمة الباطنة كما هي على الدنيئة ونحوه لربيعة.(7/369)
وقولها:" وأنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، هذه الأرض التي أقطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزبير قيل: من موات البقيع، أقطعه من ذلك ركض فرسه فأجرأه، ثم رمى بسوطه رغبة في الزيادة فاعطاه ذلك كله. وفي "البخاري" عن عروة: أقطع النبي - عليه السلام - أرضًا من أموال بني النضير. والأشبه في هذا الحديث ما تقدم.
وقد جاء في حديث أسماء:" وهي مني على ثلثي فرسخ "، يريد من مسكنها بالمدينة. وفي هذا جواز الإقطاع ولكن لا يكون ذلك إلا من الإمام فيما يجوز فيه تصرفه من عامر الأرض، مما لا يتعين مالكه، مما اصطفاه الأئمة لبيت المال من الفتوح نحو الخمس، أو باستطابة نفوس الغانمين، أو استحقه بيت المال بالميراث، أو من موات ألأرض وأذن الإمام فيه. واقطاعه شرط في إحيائه عند أبي حنيفة. وعند مالك والشافعي والجمهور ليس إذن الإمام شرط في إحياء الموات ؛ إذ يجوز ذلك بغير إذن الإمام، وعلى القولين فإقطاع الإمام وإن لم يحييه يوجب لمن أقطعه أنه أحق به من غيره .
وقولها: فلقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه نفر من أصحابه فدعاني ثم قال: «إخ إخ »، ليحملني خلفه فاسحييت كذا روينا هذا الحرف بكسر الهمزة وسكون الخاء. قال ابن دريد: يقال ذلك للجمل ليبرك، ولا فعل له إلا أناخ . فيه ما كان - عليه السلام - جبل عليه من الخلق الكريمة والضرائب المبرة لجميع الناس والإشفاق والرأفة لبني أصحابه ونسائهم وجميع أمته، وإكرامهم وتقريبهم وخلطهم بنفسه.(7/370)
وأما إرادته إردافه لها خلفه وليست بذى محرم منه، وهذا خاص له - عليه السلام - بخلاف غيره. وقد أمر بالمباعدة بين أنفاس الرجال والنساء، وكان غالب حاله البعد من ذلك لتقتدى به أمته، وأنه لم يبايع امرأة إلا بالكلام ولم يصفق لواحدة منهن على يد، ولا كانت هذه من الخصوصية ببنوة أبي بكر، وأخوة عائشة، وزوجية الزبير، كانت كإحدى أهله ونسائه وكان هو من المالك لإربه، حيث كان يخصها بهذا كما خص بذلك الغفارية التي حاضت على الحقيبة خلفه، وأما إرداف ذوات المحارم فلا حرج فيه.
وفيه ركوب اثنين على دابة والآثار بذلك كثيرة. وفيه إباحة لفظ المطروحات فما كان متملكا قبل. كالنوى الذي كانت تلتقطه من أرض الزبير، وفيه مما كان يأكل الناس من تمرهم وكذلك لقط خرق المزابل وسقطاتها، وما يطرح الناس من سقط المتاع ونفاية الخضر وغيرها، مما تعرف أنهم لم يتركوها ليرجعوا إليها، وإنما أخرجرها عن أملاكهم استحقارا لها، فقد لقطها الصالحون الورعون، ورأوا أنها من الحلال المحض، فأكلوا منها ولبسوا.
وقولها في الفقير الذي جاء يستأذنها في أن يبيع في ظل دارها. فيه أن الجلوس في أفنية الدور وحيث قد يتأذى بالجلوس فيها لا يباح إلا بأذن أربابها، إلا أن يكون لهم حق في الفناء، ولا تأذى عليهم من انكشاف أوتضييق طريق أو غيره.
وفيه أن صاحب المنزل مندوب إلى إباحة ذلك ؛ لقول الزبير:" مالك أن تمنعني رجلاً فقيرًا يبيع "، وفي توقفها هي عن إجابته مخافة منع الزبير ؛ إما لغيرته أو لما توقعته من ذلك. وأمرها له أن يسألها ذلك بحضرته ؛ لعلمها أنه إذا لم يكن ابتداء من قبلها لم يمنعه، فيه حسن الملاطفة في الأمور والمداراة الحسنة مع الأزواج وغيرهم.(7/371)
وفيه أن للزوج أن يمنع زوجته من الإذن في أمر يخشى ضرره أو عقباه، وأنه ليس له التحكم في مال زوجته وحقوقها إلا برضاها إذا لم يبح له هو ذلك وإنما نهاها عن منعه، وفيه سؤال الزوج الهبة من زوجته، وأنه لا يراعى بينهما ثلث المال كما يراعى في الأجنبى إذا كان ثمن المملوكة التي سألها جملة مالها إذا لحق الزوج، فإذا كانت الهبة / له بجميع مالها، وقبل ذلك فهو رضا وتسويغ كما لو سوغ ذلك له أجنبي.
وقوله:« إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون واحد »، زاد في الحديث الآخر:« حتى يختلطوا بالناس، من أجل أنه يحزنه »، قال الإمام: وكذلك الجماعة عندنا: لا يتناجون دون واحد لوجود العلة ؛ لأنه قد يقع في نفسه أن الحديث عنده بما يكره، وأنه لم يروه أهلاً لاطلاعه على ما هم عليه، ويجوز إذا شاركه جماعة لأنه يزول الحزن عنه بالمشاركة.
قال القاضي: وقيل: إنما المراد هذا الحديث في السفر، وفي المواضع التي لا يأمن، الرجل فيها صاحبه ولا يعرفه ولا يثق به ويخشى غدره، وقد روى في ذلك أثر وفيه زيادة:" بأرض فلاة "، وأما في الحضر وبين العمارة فلا، وقيل: بل هذا كان في أول الاسلام، فلما فشى الاسلام وأمن الناس سقط هذا الحكم، وذلك ما كان يفعله المنافقون بمحضر المؤمنين، قال الله تعالى: { إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا } الأية، ومذهب ابن عمر حمله على عمومه، وهو مذهب مالك وجماعة العلماء.
كتاب الطب
قوله: " كان - عليه السلام - إذا اشتكى رقاه جبريل: باسم الله أرقيك "، وذكر فيه:" من شر كل ذي عين "، وفي الحديث الآخر:" من شر كل نفس أو عين حاسد "، فيه جواز الرقية بأسماء الله، وسيأتي ذكر ذلك.(7/372)
وقوله:" من شر_ّ كل نفس "، فيحتمل أن مراده به أنفس الحيوان، ويحتمل أن المراد به العين. والنفس: العين، ورجل نفوس: إذا كان يصيب بعينه، كما قال في الحديث الأول:" من شر كل ذى عين "، ويكون قوله: " أو عين حاسد " تخصيصًا بالحساد، أو شكا من الراوي في لفظه - عليه السلام -.
وقوله - عليه السلام -:« العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استنسلتم فاغسلوا »، قال الإمام: بظاهر هذا الحديث أخذ الجمهور من علماء الأمة، وقد أنكره طوانف من المبتدعة. والدليل على فساد ما قالوه: أن كل معنى ليس بمحال في نفسه ولا يؤدى إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل، فإنه من مجرزات العقول، فماذا أخبر الشرع بوقوعه فلا معنى لتكذيبه. وهل فرق بين تكذيبه في هذا إذا ثبت جوازه ومن تكذيبه فيما يخبر من أخبار الآخر؟
وقد زعم بعض الطبائعيين المثبتين لما أثبتناه من هذا: أن العائن تنبعث من عينه قوة سقبة يتصل بالمعيون فيهلك أو يفسد، قالوا: لا يستنكر هذا، كما لا يستنكر انبعاث قوة سمية من الأفعى والعقرب يتصل باللديغ فيهلك، وإن كان ذلك غير محسوس لنا، فكذلك العين.(7/373)
وهذا عندنا غير مسلم لأنا بينا في كتب علم الكلام أن لا فاعل إلا الله تعالى، وبينا إفساد القول بالطبائع، وبينا أن المحدث لا يفعل في غيره شيئًا. وهذه الفصول إذا تقررت لم تكن بنا حاجة معها إلى إثبات ما قالوه، ونقول: هل هذا المنبعث من العين جوهر أو عرض، فباطل أن يكون عرضًا، إذ البرض لا ينبعث ولا ينتقل، وباطل أن يكون جوهرا ؛ إذ الجواهر متناجسة، فليس بعضها بأن يكون مفسدًا لبعض أولى من أن يكون الآخر/ مفسدًا له، فإذا بطل أن يكون عرضًا أو جوهرًا مفسدًا على الحقيقة بطل ما يشيرون إليه. وأقرب طريقة سلكها من ينتحل الإسلام منهم أن يقول: غير بعيد أن تنبعث جواهر لطيفة غير مرئية من العين فتتصل بالمعيون وتتخلل مسام جسمه فيخلق الباري عز وجل الهلاك عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السم، عادة أجراها الله سبحانه وتعالى لا ضرورة، وطبيعة ألجا العقل إليها.
وهكذا مذهب أهل السنة: أن المعيون إنما يفسد ويهلك عند نظر العائن بعادة أجراها الله سبحانه أن يخلق الضرر عند مقابلة شخص لشخص آخر. وهل ثم جواهر تخفى أم لا من مجوزات العقول ؟ والقطع إنما يختص بنفي الفعل عنها، وبإضافته إلى الله سبحانه، فمن قطع من الأطباء المنتحلين للإسلام على انبعاث الجواهر بلا يد فقد أخطأ في قطعه، وإنما التحقيق ما قلناه من تفصيل موضع القطع والتجويز. هذا القدر كاف فيما يتعلق بعلم الأصول.
وأما ما يتعلق بعلم الفقه، فإن الشرع ورد بالوضوء له في حديث سهل بن حنيف لما أصيب بالعين عند اغتساله، فأمر - صلى الله عليه وسلم - عائنه أن يتوضأ. خرَّجه مالك رحمه الله في "الموطأ".(7/374)
وصفة وضوء العاين عند العلماء: أن يؤتى بقدح من ماء، ولا يوضع القدح في الأرض، فيأخذ منه غرفة فيتمضمض بها ثم يمجها في القدح، ثم يأخذ منه ما يغسل به رجهه، ثم ينسل بشماله ما يغسل به كفه اليمنى، ثم بيمينه ما يغسل به كفه اليسرى، ثم بشماله ما يغسل به مرفقه الأيمن ثم بيمينه ما يغسل به مرفقه الأيسر، ولا يغسل ما بين المرفقين والكفين، ثم قدمه اليمنى، ثم اليسرى، ثم ركبته اليمنى، ثم اليسرى على الصفة المتقدمة والرتبة المتقدمة. وكل ذلك في القدخ ثم داخلة إزاره، وهو الطرف المتدلي الذي يلي حقه الأيمن. وقد ظن بعضهم أن داخلة الإزار كناية عن الفرج، وجمهور العلماء على ما قلناه. فإذا استكمل هذا صبه خلفه من على رأسه.
وهذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه، وليس في قوة العقل الاطلاع على أسرار المعلومات كلها، فلا يدفع هذا ألا يعقل معناه.
وقد اختلف في العائن هل يجبر على الوضوء للمعيون أم لا ؟ واحتج من قال بالجبر بقوله في "الموطأ":"توضأ له "، وبقوله في "مسلم":« وإذا استغسلتم فاغسلوا »، وهذا أمر يحمل على الوجوب.
وبتضح عندي الوجوب وببعد الخلاف فيه إذا خشى على المعيون الهلاك وكان وضوء العانن مما جرت العادة بالبر به أو كان الشرع مما أخبر به خبرًا عاما ولم يمكن زوال الهلاك عن المعيون إلا بوضوء هذا العائن، فإنه يصير من باب من يتعين عليه إحياء نفس مسلم، وهو يجبر على بذل الطعام الذي له ثمن ويضر بذله، فكيف بهذا ؟ هذا مما لا يرتفع الخلاف فيه.(7/375)
قال القاضي: بقى من تفسير هذا الغسل على قول الجمهور، وما فسر به الزهري وأخبر أنه أدرك العلماء يصفونه، واستحسنه علماؤنا مضى به العمل إن غسل العائن وجهه، إنما هو صبة واحدة بيده اليمنى، وكذلك سائر أعضائه إنما هو صبه على ذلك العضو في القدح، ليس على صفة غسل الأعضاء في الوضوء وغيره، وكذلك غسل يده، وكذلك غسل داخلة الإزار، إنما هو إدخاله وغمسه في القدح، ثم يقوم الذي في يده القدح فيصبه على رأس المعين من ورائه على جميع جسده، ثم يكفا القدح وراءه على ظهر الأرض، وقيل: يغتفله بذلك عن صبه عليه، هذه رواية ابن أبي ذئب عن ابن شهاب، وقد جاء وصف ابن شهاب من رواية عقيل بمثل هذا، إلا أن فيه البداية بغسل الوجه قبل المضمضة، وفيه في صفة غسل كفه اليمنى مرة واحدة في القدح وهو ياء زائدة وذكر في غسل القدمين أنه لا يغسل جميعهما، وإنما قال: ثم يفعل مثل ذلك في طرف قدمه اليمنى من عند أصول أصابعه، واليسرى كذلك.
" وداخلة الإزار ": هو ما فسرته، والإزار هنا المئزر وداخلته مما يلى جسده، وقيل: كناية عن موضعه من الجسد فقيل أراد مذاكيره كما يقال: فلان عفيف الإزار، يراد الفرج. وقيل أراد وركه إذ هو مقعد الإزار. وقد جاء في حديث سهل بن حنيف من رواية مالك في صفته. أنه قال للعائن: «اغتسل له »، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبثيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره، ومن رراية معمر: فغسل وجهه وظاهر كفيه ومرفقيه، وغسل صدره وداخلة إزاره وركبتيه وأطراف قدميه، ظاهرهما في الإناء. قال: وحسبته قال: وأمره فحسى منه حسوات.(7/376)
وقد ذهب بعض شيوخ متكلمي أهل الباطن أن معنى قوله:« العين حق»، يحتمل أن يريد به القدر والعين التي تجرى منها الأحكام والقضاء السابق، وأن ما أصاب بالعادة من ضرر عند نظر الناظر إنما هو بقدر الله السابق، لا شيء يحدثه الناظر في المنظور ؛ إذ لا يحدث المحدث في غيره شيئًا، ولا هو محل قدرته لمحدثه، لكنه لما كان منهيا عن تجديد النظر وإدامته، لا سيما مع جرى عادته بذلك، ولم يمتثل ما أمره به الشرع من التبريك والدعاء، كان مذمومًا مؤاخذًا بنظره.
وفيه من الفقه ما قاله بعض العلماء: ينبغي إذا عرف أحد بالإصابة بالعين اجتنابه والتحرز منه، وينبغي للإمام منعه من مداخلة الناس، ويأمره بلزوم بيته، وإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به ويكف أذاه عن الناس، فضرره أشد من ضرر آكل الثوم والبصل الذي منعه النبي دخول المسجد لئلا يؤذي المسلمين، ومن ضرر المجذوم الذي منع عمر والعلماء اختلاطهم بالناس، ومن ضرر العوادي من المواشي الذي أمر بتغريبها حتى لا يتأذى منها. وهذا الحديث وشبهه أصل في جواز النشرة والطيب بها. ووقع في "الأم" في سند هذا الحديث:حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمى وحجاج بن الشاعر وأحمد بن خواش. كذا هو في الأصول بالخاء المعجمة والواو والشين المعجمة، وقيل: هو وهم، وصوابه: أحمد بن جواس، بالجيم والواو المشددة والسين المهملة.
وقوله:« لو سبق شيء القدر سبقته العين »، بيان أن لا شيء إلا ما قدره الله، وأن كل شيء من عيهن وغيره إنما هو بقدر الله ومشيئته، لكن فيه صحة أمر العين وقوة داله.(7/377)
وقوله:« سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهودي »، وقوله:" حتى كان يخيل إليه انه يفعل الشيء وما يفعله "، وفي الروايه الأخرى:" حتى أنه يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيهن "، الحديث، قال الإمام: أهل السنة وجمهور العلماء من الأمة على إثبات السحر، وأن له حقيقة كحقائق غيره من الأشياء الثابتة، /خلافًا لمن أنكره ونفى حقيقته وأضاف ما يتفق منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها. وقد ذكر الله سبحانه في كتابه العزيز، وذكر أنه مما يتعلم، وذكر ما يشير إلى أنه مما يكفر به، وأنه يفرق به بين المرء وزوجه، وهذا كله لا يمكن أن يكون فيما لا حقيقة له، وكيف يتعلم ما لا حقيقة له وهذا الحديث فيه أيضًا إثباته، وأنه أشياء دفنت وأخرجت، وهذا كله يبطل ما قالوه.
والذي يعرف بالعقل، من هذا أن إحاله كونه من الحقائق محال، وغير مستنكر في العقل أن يكون الباري سبحانه يخرق العادات عند النطق بكلام ملفق أو تركبب أجسام، أو المزج بين قوى على ترتيب ما لا يعرفه إلا الساحر. ومن يشاهد بعض الاجسام منها قتالة كالسموم، ومنها مسقمة كالأدوية الحادة، ومنها مصحة كالأدوية المضادة للمرض، لم يبعد في عقله أن ينفرد الساحر بعلم قوى قتالة ،أو كلام مهلك أو مؤد إلى التفرقة.
وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث من طريق ثانية، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أنه تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع، ولعله يتخيل إليه جبريل وليس ثم ما يراه، أو أنه أوحي إليه، وما أوحي إليه.
وهذا الذي قالوه باطل ؛ وذلك أن الدليل قد قام على صدقه فيما يبلغه عن الله سبحانه وعلى عصمته فيه، والمعجزة شاهدة بصدقه، وتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث بسببها، ولا كان رسولاً مفضلاً من أجلها، وهو في كثير منه عرضة لما يعترض البشر فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حفيقة له.(7/378)
وقد قال بعض الناس: إنما المراد بالحديث: أنه كان يخيل إليه أنه وطن زوجاته وليس بواطف، وقد يتخيل في المنام للإنسان مثل هذا المعنى، ولا حقيقة له. فلا يبعد أن يكون ت يتخيله في اليقظة وإن لم يكن حقيقة. وقال بعض أصحابنا: يمكن أن يكون تخيل إليه الشيء أنه فعله وما فعله، ولكن لا يعتقد ما تخيله أنه صحيح، فتكون اعتقاداته كلها على السداد، فلا يبقى لاعتراض الملحدة طريق.
قال القاضي: ظهر لي في تأويل هذا الحديث ما هو أجلى وأبعد من مطاعن الملحدين، مع استفادته من نفس الحديث وخروجه عن حد الاحتمال والاستنباط إلى النص والبيان، رذلك أن هذا الحديث روى عن ابن المسيب وعروة، وفيه عنهما:" سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهود بني زريق فجعلوه في بئر حتى كاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينكر بصره، ثم دله الله عليه واستخرجه من البئر ". وروى نحوه الواقدي عن عبدالرحمن بن كعب وعمرو بن الحكم، وذكر عن عطاء الخراساني عن يحيى بن يعمر حبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة سنة، وذكره عبد الرزاق، وزاد:" حتى أنكر بصره "، وروى محمد بن سعد عن ابن عباس: مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحبس عن النساء والطعام والشراب، فهبط عليه ملكان وذكر القصة.(7/379)
فقد استبان من معاني هذه الروايات أن السحر إنما يسلط على جسده وظواهر جوارحه، لا على عقله وقلبه واعتقاده، ويكون معنى قوله في الحديث:" حتى يظن أنه يأتي أهله ولا يأتيهن "، ويروى:" يخيل إليه "، أي يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن وزوال ما أنكر قبل من حاله، فإذا دنى منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن ولا يتمكن من ذلك، كما يعترى من وخذ / وسحر عن ذلك، ويكون معنى قول عائشة في الرواية الأخرى:" حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل شيئًا وما فعله "، من باب ما اختل من بصره، فيظن أنه رأى شخصا من بعض أزواجه أو غيرهن أو شاهد فعلاً من غيره، ولم يكن على ما يخيل إليه للآفة الطارئة على بصره، لا لشيء طرأ عليه في ميزه. وإذا كان هذا لم يكن فيما ذكر من إصابة السحر له وتأثيره فيه ما يدخل لبسا على الرسالة، ولا يوجب طعنا لأولي الضلالة.
قال الإمام: واختلف الناس في القدر الذي يقع به السحر، ولهم في ذلك اضطراب كثير. وقد رأيت بعض الناس ذهب إلى أنه لا يبلغ الأمر فيه إلى غريبة تربى على التفرقة بين المرء وزوجه، وذكر أن الله سبحانه، إنما ذكر ذلك تعظيمًا لما يكون عنده وتهويلا له في حقنا، فلو كان يقع عنه ما هو أعظم لذكره ؛ إذ لا يضرب المثل عند المبالغة إلا بأعلا أحوال المذكور.
ومذهب الأشعرية أنه يجوز أن يقع عنه ما هو أكثر من ذلك والذي قالته الأشعرية هو الصحيح عقلاً، وإذا قلنا: إنه لا فاعل إلا الله سبحانه، وأن ما يقع من ذلك عادة أجراها الله تعالى فلا تفترق الأفعال في ذلك، وليس بعضها أولى من بعض، وهذا واضح، لكن إن ورد السمع بقصوره عن مرتبة ما وجب اتباع السمع في ذلك وسمع قاطع يوجب الاقتصار على ما قاله من حكينا قوله لا يوجد. وذكر التفرقة بين الزوجين ليس بنص جلي فيما قاله، ولكنه إنما يبقى النظر في كونه ظاهرًا، والمراد في المسألة القطع، فلذلك لم نشتغل ها هنا بتحرير ما تعلق به من الآية.(7/380)
فإن قيل: إذا جوزت الأشعرية خرق العادة على يدي الساحر فبماذا يتميز من النبي الصادق، قيل: العادة تنخرق على يدي النبي، وعلى يدي الولى ، وعلى يدي الساحر، إلا أن النبي يتحدى بها ويستعجز سائر الخلق، ويحكى عن الله سبحانه خرق العادة لتصديقه. فلو كان كاذبًا لم يخرق العادة على يديه، ولو خرقها لأظهرها على يد غيره من المعارضين له مثل ما أظهر على يده،والولي والساحر لا يتحديان ولا يستعجزان الخليقة ليستدلوا على صدقهما وعلى نبوتهما، ولو حاولا شيئًا من ذلك لم تنخرق لهما العادة، أو تنخرق، ولكنها تنخرق لمن يعارضهم.
وأما الولي والساحر فإنهما يفترقان من طريق أخرى، وهي أن الساحر يكون ذلك علمًا على فسقه وكفره، والولي لا يكون ذلك علمًا على ذلك فيه، فافترق حال الثلاثة بعضهم من بعض.
والساحر أيضًا يكون ذلك منه على أشياء يفعلها وقوى يمزجها ومعاناة وعلاج، والولي لا يفتقر إلى ذلك. وكثيرًا ما يقع له ذلك بالاتفاق من غير أن يستدعيه أو يشعر به. هذا القدر كاف فيما يتعلق بعلم الأصول من المسألة، وأما ما يتعلق بعلم الفقه: فالساحر عندنا إذا سحر بنفسه قُتل، فإن تاب لم تقبل توبته، خلافًا للشافعي. وهذه المسألة مبنية على الخلاف في قبول توبة الزنديق؛ لأنه مسر لما يوجب قتله كالساحر، وإنما قلنا: إنه يقتل على الجملة؛ لأن من عمل السحر وعلمه فقد كفر، والكافر يقتل، قال الله تعالى:{ وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر }، فإذا ثبت كونه كفرًا وجب القتل به. قال بعض أصحابنا: وقد قال تعالى:{ ولبئس ما شروا به أنفسهم }، أي: باعوها، وبيعه نفسه يتضمن قتله، وقال الشافعي: إن عمل السحر وقتل به سئل، فإن قال: تعمدت القتل به، قتل. وإن قال: لم أتعمد القتل به، كانت فيه الدية. وإذا ثبت أنه كافر استغنى عن هذا التفصيل الذي قاله الشافعي.(7/381)
قال القاضي: بقول مالك قال أحمد بن حنبل، وروي عن جماعة من الصحابة والتابعين، وللشافعي فيها قول آخرغير ما ذكر: ألا يقتل بسحره إلا أن يقتل دون تفصيل، وروى عنه أيضًا أنه سئل عن سحره، فإن كان كفرًا استتيب منه. وقال مالك في المرأة تعقد زوجها: تنكل ولا تقتل. وقال سعيد بن المسيب في رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، يحل أو ينشر، قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، أما ما ينفع فلم ينه عنه. وأجاز سعيد أن يسأل الساحر حل السحر عن المسحور، وكرهه الحسن البصري، وإلى الجواز مال الطبري .
قال الإمام: وقوله:" ما وجع الرجل ؟" قال: مطبوب، المطبوب: المسحور، يقال: طب الرجل: إذا سحر، فكنى بالطب عن السحر، كما كنوا بالتسليم عن اللديغ. قال ابن الأنباري: الطب حرف من الأضداد، يقال لعلاج الداء: طب، وللسحر: طب، وهو من أعظم الأدواء، ورجل طبيب حاذق، ويسمى طبيبًا لحذقه وفطنته.
وقوله: " في مشاطة "، المشاطة: الشعر الذي سقط من الرأس واللحية عند التسريح بالمشط.
وقوله:"وجب طلعة ذكر "، الجف وعاء الطلع، وهو الغشاء الذي عليه، ويروى: " جب طلعة، أي في جوفها. قال شمر: أراد بالجب داخلها إذا خرج عنها المكفرى، كما يقال لداخل الركية من أسفلها إلى أعلاها: جب.
قال القاضي: قال أبو عمرو : جب وجف معًا يقال: لوعاء الطلع، وقد قيل في تفسير جب طلعة: أنه من قولهم في زمن التلقيح، قد أتى زمن الجباب. وقد جب الناس كأنه من القطع، أي ما قطع من قشورها عنها. وقد رواه ابن عيينة في كتاب البخاري. " ومشاقة " بالقاف، قيل: هو ما يخرج من الشعر إذا مشط وهذا مثل المشاطة، وهي من مشاقة الكتان.
وقوله:" في بئر ذي أروان "، كذا هو في الأصل وخارج الحاشية: " في يبرذ روان ". ووقع في البخاري في كتاب الدعوات:" في دروان بيرني بني زريق "، وقال القتبي: الصواب: " ذى أروان "، كما في الأم.(7/382)
وقوله: " فقلت: يا رسول الله ! أفلا أحرقته "، يعني السحر، كذا الرواية عندنا في جميع النسخ. قيل: صوابه: " أفلا أخرجته "، وكذلك وقع بعد في "مسلم" في الحديث الآخر وفي غير مسلم، وبدليل قوله بعد:"كرهت أن أثير على الناس شرًّا، فأمرت بها فدفنت "، يريد - والله أعلم -: يثير عليهم شرًّا بإخراجها واطلاع بعضهم عليها، وتعلم السحر وعمله لمن يراها، فأمر بدفن البئر، أي ردمها. ولا يبعد عندي صواب:" أحرقته "، ولا يعترض عليه بما تقدم، بل لا يحرقه حتى يخرجه فيخشى الوقوف عليه، بل أحرقته أظهر لما أراد به من إفناء ذاته لم ابطال عمله، وما يتوقع من بقاء شره مع بقائه ولم يغير.
وقد رواه بعضهم عن سفيان، وفيه: " فاستخرجه "، وقال في موضع: " أفلا استخرجته، أفلا تنشرت "، فرجح بعضهم رواية سفيان لحفظه، وأن السؤال عن النشرة، وجمع بعضهم بين الروايتين وأن إثبات الاستخراج من البئر ونفيه من الجف، وهو الذي كان يثير على الناس بين المشاهدة صفة عقده وعمله، ثم يكون ردم البئر بعد هذا - والله أعلم - لما لعله يخشى أن يبقى فيها منه أو لفساد / مائها للاستعمال، وعدم الانتفاع بها ؛ لكون مائها كنقاعة الحناء، ويكون في هذا حجة في منع استعمال الماء المتغير في الطهارة لدفنه هذا البئر ؛ إذ ليس فيه أنه كان صفة مياه تلك الأرض، وأن تغييره إنما كان مما ألقى فيه.
وفيه حجة على جواز النشرة على أحد الروايات، إذ لم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عملها، وإنما قال:" أما أنا فقد عافاني الله ".
واختلفوا في عمل النشرة ، فأجازها الشعبي ويحيى بن سعيد وجماعة، وجاءت بها آثار، وروى عن الحسن أنها من السحر، وعن جابر بن عبدالله: من عمل الشيطان. وقد أسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتاب أبي داود .(7/383)
وقوله: إن امرأة يهودية أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة مسمومة فجيء بها إليه، فقالت: أردت قتلك، قال:« ما كان الله ليسلطك على ذلك »، أو قال:« علي »، فيه عصمة النبي - عليه السلام - من الناس كما قال تعالى:{ والله يعصمك من الناس }، ومعجزته في كفاية الله له من السم المهلك لغيره، ومعجزته إعلام الله تعالى بأنها مسمومة، وكلام عضو ميت له - صلى الله عليه وسلم -، فقد جاء في غير"الأم":أن النبي - عليه السلام - قال:« إن هذا الذراع يخبرني بأنها مسمومة».
وقوله:« فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »، اللهاة: هي اللحمة الحمراء المعلقة في أصل الحنك. قاله الأصمعي: وقال أبو حاتم: هي ما بين منقطع اله لسان إلى منقطع القلب من أعلى الفم والقلب من أعلى الفم ما خلف الفراشة بكسر الفاء، ومعنى:" ما زلت أعرفها ": كأنها أثرت فيها أثرًا من اسوداد أو ما الله أعلم به.
وقوله: ألا نقتلهما ؟ قال: " لا "، اختلفت الآثار واختلف العلماء، هل قتلهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟ فذكر ها هنا ما تقدم، ومثله عن أبي هريرة من رواية ابن وهب وجابر، وذكر عنه في رواية أبي سلمة أنه قتلها . وفي رواية ابن عباس: أنه دفعها لأولياء بشر بن البراء، وكان أكل منها فمات، فقتلوها. وقال ابن سحنون: أجمع أهل الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتلها.
قال القاضي: وجه الجمع عندي - والله أعلم - أنه لم يقتلها أولاً لما فعلته من السم إذ اطلع عليه، وأشار عليه من حضر بقتلها فقال: " لا ". فلما مات بشر بن البراء من ذلك السم، وكان أكل منها أسلمها، كما قال في الحديث لأوليائه فقتلوها. فهو قول من قال: قتلها. فلم يقتلها في حين وقتلها في حين آخر، والله أعلم. قال الداودى: إنما لم يقتلها لاحتمال ألا ينقص من عذابها في الآخرة، ويبقى له أجره موفورًا. قال: ويحتمل أنه لم يقتلها لأن لها ذمة ولم تقتل بسمها.(7/384)
اختلف العلماء فيمن سقى رجلاً سمًا، فمذهب مالك: أن تقتل به، وبمثل ما قتله به. قال مالك: وذلك أنه إذا استكرهه على شربه. وقال الكوفيون: لا قصاص عليه في هذا، وفيه الدية على عاقلته . ولو دسّه له في طعام أو شراب فناوله إياه فشربه لم يكن عليه شيء ولا على عاقلته.
وقال الشافعي.: إذا فعل ذلك به غير مكره ففيها قولان: أحدهما: عليه القود. وهو أشبههما. والثانى: لا قود، وإن فعل ذلك ووضعه فأخذه الرجل فكله فلا عقل ولا قود ولا كفارة عليه.
وقوله: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرقى بهذه الرقية " الحديث وفي الحديث الآخر: كان إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه، وقال:« أذهب الباس رب الناس »، الحديث، وفي الآخر: كان إذا اشتكى الإنسان الشيء بجسده، لو كانت به قرحة أو جرح قال النبي بإصبعه هكذا - ووضع سفيان سبابته / بالأرض، ثم رفعها -:« بسم الله، تربة أرضنا بريقة بعضنا، يشفى به سقيمنا بإذن ربنا »، هذا من فعله - عليه السلام - حقيقة الطب مع التبرك باسم الله والتشفي به، وذلك أن تراب الأرض لبرده ويبسه يقوى الموضع الذي به الألم، ويمنع انصباب المواد إليه يبسه وتجفيفه مع منعته في تجفيف الجراح وإدمالها. واختصاص بعض الأرضين بتحليل الأورام والريق مختص بالتحليل والإنضاج والإدمال وإبراء الجراحات والأورام والقوباء والثأليل والجراحات، لاسيما من الصائم والجائع، ومن بعد عهده بالأكل والشرب، وذلك بانفراده في الأجسام الرخيصة، وأما في القوية فقد يضاف إليها في علاج الأورام الحنطة الممضوغة وأشباهها من المحللات المضحات.
وذهب بعضهم إلى أن تخصيص قوله " أرضنا " بالمدينة تبركًا بتربتها لفضلها، والصواب ما قلناه، وسيأتي الكلام على الرقي شافيًا إن شاء الله، ويأتي الكلام بعد في فضل عائشة على قوله:« مع الرفيق الأعلى ».(7/385)
وقوله في الحديث أ الآخر:" كان إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات"، وفي الآخر:"كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث"، وفي الأخر:" ومسح عنده بيده "، وفي الآخر:" رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل البيت من الأنصار في الرقية من الحمة "، وفي الأخرى:" والنملة والعين "، وأمر بالاسترقاء من العين، ومن الحية "، وقال في الذي رأى في وجهها سفعة: « استرقوا لها »، وقال أول الكتاب:« لا رقية إلا من عين أو حمة »، قال الإمام: جميع الرقى عندنا جائزة إذا كانت بكتاب الله عز وجل وذكر الله، وينهى عنها بالكلام الأعجمي ومالا يعرف معناه ؛ لجواز أن يكون فيه كفر أو إشراك. وقد كره مالك أن يحلف بالعجمية، وقال: ما تدريه أن الذي قال كما قال.
وأما رقية أهل الكتاب فاختلف فيها ، وأخذ مالك كراهيتها على أنه روى في "موطئه" عن الصديق - رضي الله عنه - أنه أمر الكتابية التي وجدها ترقى أن ترقى بما في كتابها، ولعل مالكًا رحمه الله رأى أن التبديل لما دخلها خيف أن تكون الرقية بما بدل منه مما ليس بكلام الله سبحانه، ويكون المجيز لذلك رأى أن التبديل، لم يأت عليها، ولعلهم لم يبدلوا مواضع الرقي منها ؛ إذ لا منفعة لهم في ذلك.(7/386)
وقد قال في كتاب مسلم:"لا بأس بالرقي ما لم يكن فيه شرك، وذكر مسلم أيضًا في بعض طرقه أنه أتاه رجل فقال: يا رسول الله ! إنك نهيت عن الرقي، وأنا أرقي من العقرب، فقال - صلى الله عليه وسلم -:« من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل »، فيحتمل أن يكون النهي ثابتًا ثم نسخ، أو يكون كان النهي لأنهم كانوا يعتقدون منفعتها بطبيعة الكلام كما كانت تعتقد الجاهلية، فلما استقر الحق في أنفسهم وارتاضوا بالشرع أباحها لهم، مع اعتقادهم أن الله هو النافع الضار، أو يكون النهي عن الرقى الكفرية، ألا تراه قال للذي قال له: نهيت عن الرقى، قال: فعرضوها عليه - صلى الله عليه وسلم - فقال:« ما أرى بأسًا ». وقد وقع في بعض الأحاديث:« لا رقية إلا من عين أو حمة »، وهذا تأوله أهل العلم على أنه لم يرد به نفي الرقى عما سواها، بل المراد به: لا رقية أحق وأولى من العين والحمة. وقد وقع في بعض الأحاديث: أنه سئل عن النشرة فأضافها إلى الشيطان.
والنشرة أمر معروف عند أهل التعزيم، وسميت ذلك لأنها تنشر عن صاحبها أي تحل عنه. وقال الحسن: هي من السحر ويحمل هذا على أنها أشياء خارجة عن كتاب الله وعن ذكره، وعن المداواة المعروفة التي هي من جنس الطب المباح، ولعلها ألفاظ لا تجوز، أو استعمال بعض الأجساد / على غير جهة مهبناعة الطب والتداوي، على حسب ما كانت تعتقده الجاهلية من إضافة الأفعال لذوات هذه الأشياء، وقد رأيت بعض المتقدمين مال في حل المعقودين إلى نحو من هذه الطريقة، وإن كان البخاري حكى عن سعيد بن المسيب أنه قيل له في رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر، قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه.(7/387)
قال القاضي: ذكر في أحاديث مسلم كلها أن الرقية إنما جاءت بعد الشكوى، وذكر البخاري عن عائشة كان - عليه السلام - إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه:{ قل هو الله أحد }" والمعوذتين، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يده من جسده.
قيل فيه جواز الاسترقاء للصحيح لما عساه يخشاه من طرارق الليل وهوامه وغير ذلك مما يسترقى له، فيمنعه الله من أذى ذلك، قيل: وهو مثل قوله في الحديث الآخر:« من قرأ الايتين من آخر سورة البقرة كفتاه »، أي كل هامة وشيطان لم يضره ليلته.
قال القاضي: قال أبو عمر : لا أعلم خلافًا في جواز الرقية من العين والحمة، وهي لدغة العقرب وما كان مثلها، إذا كانت بأسماء الله وما يجوز به الرقى، وكان ذلك بعد نزول الوجع والبلاء به، وإن كان ترك الرقى عندهم أفضل وأعلى لما فيه من اليقين أن العبد ما أصابه لم يكن ليخطئه ولا يعدو شيء وقته، وذكر حديث عكاشة.
وقوله في هذا الحديث:" ونفث فيه " جواز النفث في الرقية. قال بعض علمائنا: هذه سنة في نفث الراقي، وبالأخذ بهذا والاقتداء بالنبى - صلى الله عليه وسلم - قال جماعة من الصحابة ومن بعدهم ، وهو قول مالك. قال الطبري: وأنكر بعضهم النفث والغفل في الرقى، وأجازوا فيها النفخ. قال بعض علمائنا القدماء: وهو شبيه البزق ولا يلقى شيئًا، وهو بخلاف التفل الذي معه شيء.
قال القاضي: وهذا نحو قول من قال: النفخ، فان كان هذا النفث الذي أجازه أولئك فهو النفخ الذي أجازه الآخرون فلا خلاف إذا فيه على هذا الوجه.(7/388)
وقد اختلف في التفل والنفث، فقيل: هما بمعنى، ولا يكونان إلا ومعهما شيء من الريق، وقال أبو عبيد: لا يكون التفل إلا ومعه شيء من الريق بخلاف النفث، وقيل بعكس هذا. وقال بعضهم: والتفل، بالفتح: البصاق نفسه. وسئلت عائشة عن نفث النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرقية، فقالت:كما ينفث آكل الزبيب . قال بعض شيوخنا: وهذا يقتض أنه يلقى اليسير من الريق، وليس كما قال، بل هو كما قاله الأول لأن نافمث الريق لا بزاق معه، ولا اعتبار بما يخرج عليه من بله ولا يقصد ذلك، لكن قد جاء في حديث الذي رقى بفاتحة الكتاب: " فجعل يجمع بزاقه ويتفل.
وفائدة ذلك - والله أعلم - التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء والنفس المباشر للرقية والذكر الحسن والدعاء والكلام الطيب، كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء الحسنى في النشر. وقد يكون على وجه التفاؤل بزوال ذلك الألم عن المريض وانفصاله عنه، كانفصال ذلك النفث عن فيّ الراقي. وقد كان مالك ينفث إذا رقى نفسه وكان يكره الرقية بالحديدة والملح والذي يعقد أو الذي يكتب خاتم سليمان، وكان العمد عنده أشد كراهة لما فيه من مشابهة السحر، كأنه تأول قوله تعالى:{ النفاثات في العقد }.
وفيها سنة المسح باليد اليمنى عند الرقية. قال الطبري: ومعنى ذلك: تفاؤلاً لذهاب الرجع لمسحه بالرقى. وفيه جواز الرقى بالقرآن وبالمعوذات وبالدعاء إلى الله بالشفاء وتخصيصه - عليه السلام - الرقى بالمعوذات في هذه / الأحاديث لعمومها الاستعاذة من كثر المكروهات من شر السواحر النفاثات، وشر الحاسدين، والشيطان ووسوسته، ومن شر شرار الناس، وشر كل ما خلق، وشر ما جمعه الليل من المكاره والطوارق. واختلف قول مالك في رقية اليهودى والنصرانى للمسلم، فله في المستخرجة كراهة ذلك، وروى عنه جوازه، وهو قول الشافعي.(7/389)
قال الإمام: الحمة، بضم الحاء وفتح الميم وتخفيفها: السم، والنملة قروح تخرج في الجنب. قال ابن قتيبة وغيره: كانت المجوس تزعم أن ولد الرجل من أخته إذا خط على النملة شفي صاحبها ، ومنها قول الشاعر:
ولاعيب فينا غير عرق لمعشر كرام وأنا لا نخط على النمل
قال القاضي: النملة هذا، وقد يكون أيضًا قرحتها في غير الجنب، والنملة أيضًا النميمة، وحكاها الهروي بالضم، والنملة بالكسر: المشية المتقاربة، حكاها الفراء .
وقوله: في الجارية التي بوجهها سفعة، فقال:« بها نظرة فاسترقوا لها»، قال في الحديث: يعني بوجهها صفرة. قال الحربى: به سفعة، وسفع من الشيطان: أى سواد في وجهه. قال الهروي: رأى بها نظرة أي عينًا أصابتها، قال: وقيل: أى ضربة واحدة، يقال: سفعه: إذا لطمه. قال غيره: يعني أخذه من الشيطان، وفي كتاب "الدلائل": النظرة كاللمم والمس. وأصل النظرة: العيب. قال أبو عبيد: ويقال: رجل به نظرة، أي شحوب، وقال الأصمعي: هي حمرة يعلوها سواد، كذا ضبطناه هنا:" سفعة " بفتح السين، وفسره بما تقدم. وبالفتح ضبطناه في الهروي و"الدلائل" وغيرهما على أبي الحسين، ورأيته في كتابي عن القاضي أبي علي بالضم، وفي كتاب العين: السفعة: سواد وشحوب في الوجه .
وهذا الحديث مما تتبع الدارقطني إخراجه على مسلم والبخاري لعلة فيه، ولرواية عقيل عن الزهري عن عروة مرسلاً، وإرسال مالك وغيره له من أصحاب يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن عروة. قال الدارقطني: وأسنده أبو معاوية فلا يصح، وقال: عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد، ولم يصنع شيئًا.
وقوله:«مالي أرى أجساد بني أخي ضارعة »، يعني بني جعفر. الضارع: الضارى النحيف.(7/390)
وقوله في الذي رقى اللديغ بفاتحة الكتاب فأعطى قطيعًا من الغنم:« ما أدراك أنها رقية، خذوا منهم، واضربوا لي بسهم معكم »، فيه جواز الرقية بأم القرآن لما فيها من لاخلاص والعبودية لله والبناء عليه، وتفويض الأمر إليه بالاستعانة به. وفيه جواز أخذ الأجرة على الرقية والطب وعلى تعليم القرآن، وهو قول مالك وأحمد والشافعي وأبي ثور وإسحاق، وجماعة من السلف وأهل العلم. ومنعه أبو حنيفة وأصحابه في تعليم القرآن، وأجازوه في الرقية. وفيه جواز المعارضة على ترك المعروف وإن كان ضد ذلك أحسن لقوله:" استضفناكم فلم تضيفونا "، فمنعوهم معروفهم في الرقية إلا بأجر مكافاة لهم. وفيه لزوم الضيافة على ما كانت عليه أولاً، وقد تقدم الكلام في هذا.
وقوله: " اقسموا واضربوا لي بسهم "، إنما قسموها بمراضاتهم إذا كانت الأجرة للراقي وحده وفيه جواز القسمة بالقرعة.
وقوله: " وما يدريك أنها رقية "، دليل أن القرآن وإن كان كله مرجو البركة، ففيه ما يختص بالرقية دون جميعه. قيل: وموضع الرقية في أم القرآن قوله:{ وإياك نستعين }؛ لعموم التفويض إليه سبحانه، واللجأ والرغبة في هذا وغيره.
وقوله:" إن سيد الحي سليم "، أي: لديغ. السليم: هو الملدوغ. قيل: سمي بذلك على طريق التفاؤل بالسلامة، وقيل: لأنه مستسلم لما به.
وقوله:" ما كنا نأبنه برقية "، قال الإمام: أي ما كنا نتهمه بها. قال الهروي: وفي حديث أبي الدرداء:" أنؤبن بما ليس فينا "، أي: نتهم. يقال: أبنت الرجل ابنه، وآبنه: إذا رميته بخلة سوء، قال ابن الأنباري: رجل مابون: أي معيب، والأبنة في كلام العرب: العيب، ومنه قولهم: عود مأبون: إذا كانت فيه أبنة وهي العقبة، يعاب بها وتفسده، قال الأعشى:
سلاجم كالنخل ألبستها قضيب سراء قليل الابن
السلاجم: النصال العراض. وقال غيره: يقال: أنبت الرجل خيرًا أو شرًّا ؛ إذا قذفته به.(7/391)
قال القاضي: قد روينا هذا الحرف في هذا الحديث من رواية الباجي: "ما كنا نظنه برقية "، وهي تفسير الرواية الأخرى، وذكر أيضًا من رواية ابن أبي شيبة:" ما كنا نظنه ".
وقوله:« ذاك شيطان يقال له: خنزب »، ضبطناه بكسر الخاء "خنزب" على الصدفي، وعن غيره بفتحها ، وبالفتح قيدها الجياني .
وذكر في هذا الحديث:« تعوذ بالله »، وفيه:« واتفل عن يسارك ثلاثًا»، وفي الأخرى:« قل: بسم الله ثلاثًا »، و « قل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر »، فيه اختصاص هذه الأمور بالوتر، وتخصيص الثلاث منها والسبع، وذلك كثير في موارد الشرع، لا سيما تخصيص السبع بما هو في باب الشفاء والمعافاة والنشر، ودفع السحر وأمر الشيطان والسم، كقوله:« صبوا على من سبع قرب »، و « من تصبح بسبع تمرات لم يضره سم ».(7/392)
قوله:« لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ باذن الله تعالى »، قال: الدواء والذواء بالفتح والكسر، والكسر لغة الكلابيين، وفي حديث آخر:« إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم، أو شربة من عسل، أو لدغة بنار »، وقال:« ما أحب أن أكتوي »، وذكر في حديث سعد بن معاذ:" أنه رمى في أكحله فكواه - عليه السلام - "، وفي آخر:« الحمى من فيح جهنم، فاطفئوها بالماء »، وذكر في حديث آخر: فدخلت عليه بابن لي وقد أعلقت عليه من العذرة، فقال:« علامه تدغرن أولادكن بهذا العلاق، عليكن بهذا العود الهندي، فإن فيه سبعة أشفية، منها ذات الجنب يسعط من العذرة ويلد من ذات الجنب »، وفي بعض طرقه: قال يونس:" أعلقت": غمزت، فهي تخاف أن تكون به عذرة، فقال - صلى الله عليه وسلم -:« علامه تدغرن أولادكن بهذا الأعلاق ؟ عليكن بهذا العود الهندي - يعني به: الكست - فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب "، وذكر في حديث آخر:« إن في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام »، والسام: الموت، والحبة السوداء: الشونيز، وفي حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها:" إذا مات الميت من أهلها وتفرق النساء إلا أهلها وخاصتها أمرت ببرمة من تلبينة ثم صنع ثريد فصبت التلبينة عليها ثم قالت: كلن منها فإنى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: « التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب بعض الحزن »، وذكر في حديث آخر: قال رجل: يا رسول الله! إن أخي استطلق بطنه، فقال - صلى الله عليه وسلم -:« اسقه عسلاً»، فسقاه ثم جاءه، فقال: إنى سقيته فلم يزده إلا استطلاقًا، فقال له ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة فقال:« اسقه عسلا »، فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقًا، فقال - صلى الله عليه وسلم -:« صدق الله، وكذب بطن أخيك »، فسقاه فبرأ .(7/393)
قال الإمام: ذكر ههنا هذه الفصول من الطب والعلاج، وقد وقع في بعضها تشنيع ممن في قلبه مرض. ومن ناشئة المتلاعبين من يلهج بذكر هذه الأحاديث استهزاء، ويقول: الأطباء مجمعون على أن العسل مسهل، فكيف يوصف لمن به الإسهال ما يسهل ؟ ويقولون أيضًا: الأطباء مجمعون على أن استعمال المحموم الاغتسال بالماء البارد خطر وقرب من الهلاك لأنه يجمع المسام، ويحقن البخار المتحلل ويعكس الحرارة لداخل الجسم فيكون ذلك سببًا للتلف، وكذلك أيضًا يقولون: إن الأطباء ينكرون مداواة ذات الجنب بالقسط مع ما فيه من شدة الحرارة والحراقة، ويرون ذلك خطرًا ! وهذا الذي قالوه جهالة، وهم فيها كما قال الله تعالى:{ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه}.
ونحن نبدأ بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الأول:« لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله »، فهذا فيه تنبيه حسن بيّن، وذلك أنه قد علم أن الأطباء يقولون: إن المرض خروج الجسم عن المجرى الطبيعى، والمداواة رده إليه وحفظ الصحة بقاؤه عليه، فحفظها يكون بإصلاح الاغذية وغيرها، ورده يكون بالموافق من الأدوية المضادة للمرض. وبقراط يقول: الأشياء تداوى بأضدادها، ولكن قد تدق وتغمض حقيقة المرض وحقيقة طبع العقار والدواء المركب، فتقل الثقة بالمضادة التي هي الشفاء، ومن ههنا يقع الخطأ من الطبيب، فقد يضن العلة عن مادة حارة وتكون عن غير مادة أصلاً، أو عن مادة باردة أو حارة دون الحرارة التي قدر فلا يكون الشفاء.
فكأنه - صلى الله عليه وسلم - تلافى بآخر كلامه ما قد يعارض به أوله، بأن يقال: فإنك قلت:" لكل داء دواء " ونحن نجد كثيرًا من المرضى يداوون فلا يبرؤون. فنبه على أن ذلك لفقد العلم بحقيقة المداواة لا لفقد الدواء، وهذا تتميم حسن في الحديث، وما قلناه واضح حتى نظمه الشعراء فقالوا:
والناس يلجون الطبيب وإنما غلط الطبيب إصابة المقدار(7/394)
وأما الحديث الآخر وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -:« إن كان في شيء من أرديتكم خير ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار »، فإن هذا من البديع عند من علم صناعة الطب، وذلك أن سائر الأمراض الامتلائية ؛ إما أن تكون دموية، أو صفراوية، أو سوداوية، أو بلغمية. فإن كانت دموية فشفاؤها بإخراج الدم. وإن كانت من الثلاثة أقسام الباقية فشفاؤها بالإسهال المسهل الذي يليق بكل خلق منها، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - نبه بالعسل عند المسهلات، وبالحجامة عن الفصد. ووضع القلق وغيرهما مما في معناهما.
وقد قال بعض الناس فإن الفصد قد يدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -:« شرطة محجم »، فإذا أعيني الدواء فآخر الطب الكي، فذكره - صلى الله عليه وسلم - في الأدوية لأنه يستعمل عند غلبة الطباع لقوى الأدوبة، وحيث لا ينفع الدواء المشروب. فيجب أن يتأمل ما في كلامه - صلى الله عليه وسلم - من هذه الإشارات وتعقيبه بقوله - صلى الله عليه وسلم -:« ما أحب أن أكتوي»، إشارة إلى أن يؤخر العلاج به حتى تدفع الضرورة إليه، ولا يوجد الشفاء إلا فيه ؛ لما فيه من استعجال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي.
ثم نعود إلى الانفصال عما طعنت به الملحدة من المطاعن التي ذكرناها عنهم، فنقول: قل ما يوجد في علم الافتقار إلى التفصيل مثل ما يوجد في صناعة الطب، حتى إن المريض يكون الشيء دواه في هذه الساعة، ثم يعود داء في الساعة التي تليها لعارض يعرض له من غضب بحمى مزاجه، / فينتقل علاجه، أو هذا يتغير بنقل علاجه، إلى غير ذلك مما لا يحص كثرة. فإذا وجد الشفاء بشيء ما في حالة ما فلا يطلب التشفي في سائر الأحوال في سائر الأشخاص به. والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن، والدين، والعادة، والغذاء المتقدم، والتدبير المألوف وقوة الطباع.(7/395)
فإذا أحطت بهذا علما فينبغى أن يعلم أن الإسهال يعرض من ضروب كثيرة، لو كان كتابيًّا هذا كتاب طب لذكرناها، ولكن منها الإسهال الحادث من التخمة والهيضاب، والأطباء مجمعون في مثل هذا على أن علاجه بأن يترك الطبيعة وفعلها، وان احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت، ما دامت القوة باقية، فاما جنسها فضرر عندهم واستعجال مرض.
فإذا وضح هذا قلنا: يمكن أن يكون هذا الذي أصابه الإسهال إصابة من امتلاء وهيضة على حسب ما قلنا، فدواؤه تركه، والإسهال، أو تقويته فامره لحظ بشرب العسل فزاد منه فزاده إلى أن فنيمت المادة فوقف الاسهال، فيكون الخلط الذي كان بالرجل يوافق فيه شرب العسل، فإذا خرج ذلك على صناعة الطب فإنما يؤذن الاعتراض عليه بجهل المعترض هذا، ولسنا نستظهر على قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يصدقه الأطباء بل لو كذبوه لكذبناهم، وكفرناهم وصدقناه - صلى الله عليه وسلم - حتى يوجدون المشاهدة بصحة ما قالوه فيفتقر حينئذ إلى تأويل كلامه - صلى الله عليه وسلم -، وتخريجه على ما يصح إذ قامت الدلالة على أنه لا يكذب. فجعلنا هذا الجواب وما بعده عدة للحاجة إليه، إن اعتضدوا بشيء من المشاهدة، أو ليظهر به جهل المعترض بالصناعة التي اعترض بها وانتسب إليها.
وكذلك القول في استعمال الماء بالمحموم، فانهم قالوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل، وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يقل كثر من قوله:« أبردوها بالماء »، ولم يبين الصفة والحالة. فمن أين لهم أنه أراد الانغماس ؟! والأطباء يسلمون أن الحمى الصفراوية يؤمر صاحبها بسقى الماء البارد الشديد البرد ، تعم ويسقونه الثلج ويغسلون أطرافه بالماء البارد، فغير بعيد أن يكون - صلى الله عليه وسلم - أراد هذا النوع من الحمى والغسل على مثل ما قالوه أو قريبًا منه.(7/396)
وقد خرخ مسلم عن أسماء رضى الله عنها: أنها كانت تؤتى بالمرأة المرغولة فتدعو بالماء فتصيبه في جنبها، وتقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ابردوها بالماء ». فهذه أسماء شاهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي في القرب منه على ما علم، فتأولت الحديث على ما قلناه، ولا يبقى للملحد إلا أن يتقول الكذب ويعارض كذبه بنفسه، وهذا مما لا يلتفت إليه.
وأما إنكارهم التشفي من ذات الجنب بالقسط فغير صحيح، وقد ذكر عن بعض قدماء الأطباء أنه قال: فان ذات الجنب إذا حدثت من البلغم كان القسط من علاجها. وقد رأيت في كلام دسقور بروش أنه قال: إذا شرب نفع من أوجاع الصدر، وذكر جالينوس: أن ينفع من وجع الكزاز ومن وجع الجنبين وذكر ابن سينا في كتابه أنه ينفع من وجع الصدر، وهذا خلاف ما حكى هؤلاء الملحدون من الأطباء، وقد ذكر بعض القدماء منهم قال: يستعمل بالجملة حيث يحتاج إلى إسخان عضو من الأعضاء وحيث يحتاج على أن يحدث الخلط من باطن البدن إلى ظاهره، وبهذا أيضًا وصفه ابن سينا في كتابه وغيره، وهذا يحقق ما قلناه، ويبين كذبهم على الأطباء.(7/397)
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -:« فيه سبعة أشفية »، فقال الزهري: بين / اثنين ولم يبين خمسة، وقد رأيت الأطباء تطابقوا في كتبهم على أنه يدر البول والطمث، وينفع من السموم، ويحرك شهوة الجماع، ويقتل الدود وحب القرع في الأمعاء إذا شرب بعسل، ويذهب بالكلف إذا طلي عليه، وينفع من ضف الكبد والمعدة وبردهما، ومن حمى الورد والدبغ. قال بعضهم: ينفع من النافض لطوخًا بالزيت، وكذلك قال جالينوس: ينفع من البرد الكائن بالزور، غير أنهم يدهنون البدن قبل تهييج البرد، وكذلك يفعلون في أصحاب عرق النساء، يسخنون بعض أعضائهم، وقال بعضهم: يعمل منه لطوخ بالزيت لمن به نافض قبل أخذ الحمى، ولمن به فالج واسترخاء. وهو صنفان: بحرى وهندى، والبحرى هو القسط الأبيض يأتون به من بلاد العرب، وزاد بعضهم فيه على هذين الصنفين، وبعضهم ينص على أن البحرى أفضل من الهندى وهو أقل حرارة منه. قال إسحاق بن عمران: هما حاران يابسان في الدرجة اليابسة، والهندي أشد حرًّا في الجو الثالث من الحرارة. وقال ابن سينا: القسط حار في الثالثة يابس في الثانية. فأنت ترى هذه المنافع التي اتفق عليها الأطباء فقد صار ممدوحًا شرعًا وطبًّا.
وأما وصفه في الحبة السوداء، فيحمل أيضًا على الأعلال الباردة على حسب ما قلناه في القسط، وهو لحش قد يصف بحسب ما يشاهد من غالب أحوال أ أصحابه، في الزمن الذي يخاطبهم فيه، وإنما عددنا هذه المنافع في القسط من كتب الأطباء لذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - منها عددا على الجملة لم نفصله. وقول الزهري: لم يبين لنا الخمسة، فبينا نحن منها ما يمكن أن يراد بالحديث.(7/398)
قال القاضي: قد ذكر الأطباء في منفعة الحبة السوداء التي هي الشونيز منافع لعلل كثيرة وخواص عجيبة ما يصدقه قوله - صلى الله عليه وسلم - فيه، فذكر جالينوس أنها تحل النفخ، وتقتل ديدان البطن إذا أكل أو وضع على البطن، وتشفي الزكام إذا قلي وصر في خرقة واشتم، ويزيل العلة التي يتقشر منها الجلد ويقلع الثآليل المتعلقة والمنكسة والخبلان، وتدر الطمس، المحتبس إذا كان احتباسه من أخلاط غليظة لزجة، وينفع الصداع إذا طلي به الجبين، ويقلع البثور والجرب ويحلل الأورام البلغمية إذا تضمد به مع الخل، وينفع من الماء العارض في العين إذا استسعط به مسحوقًا بدهن الأريا، وينفع من انصباب النفس، ويتمضمض به من وجع الأسنان، ويدر البول واللبن، وينفع من دهشة الرتيلاء، وإذا بخر به طرد الهوام.
قال غيره: خاصيته إذهاب حمى البلغم والسوداء، ويقتل حب القرع، وإذا علق في عنق المزكرم نفعه، وينفع من حمى الربع. قال بعضهم: ولا يبعد منفعة الحار من أدواء حارة بخواص فيها كوجودنا ذلك في أدوية كثيرة فيكون الشونيز منها العموم قوله - عليه السلام -، ويكون أحيانًا مفردًا وأحيانًا مركبًا.(7/399)
وفي جملة هذه الأحاديث ما حواه - عليه السلام - من علوم الدين والدنيا وصحة علم الطب. وجواز التطبيب على الجملة وبالأمور التي ذكر فيها من وجوه العلاج والطب من الكي، والحجامة، وشرب الأدوية، والسعوط، واللدود، وقطع العرق، والرقي، والعوذ، والنشر. ورد على من أنكر ذلك من غلاة الصوفية وإن كان كل شيء بقضاء وقدر، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:« أنزل الدواء الذي أنزل الداء »، ففيه التفويض إلى الله تعالى وأنه فاعل ذلك كله، وأن الله تعالى قد قدر في أزله أن مرض هذا سيكون ويتطبب فيه، هذا واذ لم يتطبب لم يبرأ، ولكن لا بد له أن يتطبب، فهو من باب علمه لما لا يكون أو لو كان كيف كان يكون، وهو مثل الأمر بالدعاء / لباقي الأمور، والأمر بالتوقي من القتل والمعاطب والهلاك، مع أن الأجل لا يزاد فيه ولا ينقص، والمقادير لا يسبق أوقاتها ولا يتأخر عنه، ولا بد ما هو كائن أن يكون وتفسر هذا الحديث الآخر، وقد سئل عن الرقي والأدرية والإبقاء، هل يرد ذلك من قدر الله من شيء، فقال:« فإنه من قدر الله ».
ومعنى قوله:« أنزل الدواء الذي أنزل الداء »، أي: أعلمهم إياه وأذن لهم فيه، كما ابتلاهم بالداء وأحدثه فيهم، وقد يكون إنزاله أنزل الملائكة، خلقه من الأرض وتيسيره بها كما جعل الداء في الأجساد، وقد يكون إنزاله إنزال الملائكة من السماء الموكلين بمباشرة مخلوقات الأرض من داء ودواء، والله أعلم، وبعضد هذا قوله في غير مسلم:« لم يضع داء إلا وضع له دواء»،(7/400)
قال بعض أهل العلم بالطب: في نصه - عليه السلام - في الأدوية في الحديث المتقدم على « شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة نار »، إشارة إلى جمع ضروب المعاناة القياسية الموهومة، إذ ضروب المعاناة أربعة: ثلاثة منها مفهومة السبب، وذلك أن ما كان من العلل من ضف الجسم أو قواه مما يعتريه من غلبة أحد الأخلاط عليه، فمعالجته بالثلاث التي ذكر في الحديث من " شربة عسمل، أو لذعة نار،أو شرطة محجم "، فما كان من امتلاء أو فور خلط بها بالاستفراغ بالدواء رالبطء والشرط والكي، وذلك لأنه تخفيف رطوبة الموضع. وما كان سببه من ضعف أحد القوى فيقابل بما يغذيها وهو شربة عسل وما في معناه من شرب ما يقوى تلك القوة من الأشربة والأدوية واللطوخ. والمعاناة الرابعة مما يتعلق بالنفس والروح، وقد يؤدى ذلك إلى ضراعة الجسم وفتور الأعضاء واختلالها ؛ كالسحر، والعين، ونظرة الجن ومسه، فمعاناة هذا بالرقي، والكلام الطيب، والتعوذ، وأنواع من الخواص مغيبة السر لا تدرك بقياس.
وتفسيره في الحديث الحبة السوداء بالشونيز هو الأشهر، والمراد في هذا الحديث، والله أعلم. وذكر الحربي عن الحسن أنها الخردل، وحكاه الهروي عن غيره أنها الحبة الخضراء، قال: والعرب تسمى الأخضر أسود، والأسود أخضر. والحبة الخضراء ثمرة البطم، وهو شجر الضرو، قال: وقال ابن الأعرابي: هو الشينيز، كذا تقوله العرب.
قال الإمام: ورأيت غيره قاله الشونيز.
وقوله:" إن أبا طيبة حجّم أم سلمة، قال: وحسبت أنه كان أخاها من الرضاعة أو غلامًا لم يحتلم "، حجة في أن الأخ من الرضاعة له أن يطلع على ما يزيد على الوجه والكفين ؛ من الرأس والمعصم ونحو ذلك، وقد تقدم، إذ الحجامة إنما يكون فيما عدا الوجه والكفين.
وفيه أن الأجنبي ليس له رؤية ذلك ولا مباشرته إلا أن يدعو إلى ذلك ضرورة فادحة. وفيه أن الغلام الذي لم يحتلم ليس حكمه في هذا حكم الرجال، لأنه أخف، لاسيما لما تدعو إليه الحاجة.(7/401)
وقوله: " في شرطة محجم " بكسر الميم: هي الحديدة التي يشرط بها مرضع الحجامة.
وقوله: " أعلق عليه محجما "، هي الآلة التي تمص ويجمع بها مواضع الحجامة.
وقوله: عن جابر: رمى أبي يوم الأحزاب على كحله فكواه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كذا للسجزي بضم الهمزة وفتح الباء، وللعذري والسمرقندي:" أبي" بفتح الهمزة وكسر الباء وهو غلط، والصواب الأول ؛ بدليل الحديث الأخر قبله: وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع منه عرفًا ثم كواه، وأيضًا فإن أبا جابر لم يدرك يوم الأحزاب واستشهد بأحد، وخبره مشهور.
والأكحل عرق معروف. قال الخليل: هو عرق الحياة، يقال: هو نهر الحياة في كل عضو منه شعبة، له اسم على حدة فإذا قطع في اليد لم يرقا / الدم. وقال أبو حاتم: هو عرق في البدن يقال له في الفخذ: النساء، وفي الظهر: الأبهر. ومر الكلام في أجرة الحجام.
وقوله عن أسماء: " أنها كانت تؤتى بالمرأة الموعوكة فتدعو بالماء فتصيب في جنبها"، وفي "الموطأ":" بينها وبين جيبها، قال عيسى بن دينار: تصب الماء بين طوقها وجسدها حتى يصل الماء إلى جسدها. هذا كله يرد قول الأطباء وتصحح البرء من الحمى بصب الماء، ولولا تجربة أسماء والمسلمين لمنفعته لما استعملوه، ويدل على ظاهره لا على ما تقدم من التأويل، قوله في حديث آخر رواه قاسم بن ثابت: أن رجلاً شكى إليه الحمى فقال له: اغتسل له ثلاثة أيام قبل طلوع الشمس، وقل: بسم الله، اذهبي يا أم ملدم، فإن لم تذهب فاغتسل سبعًا.
وقوله: " لددنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،: اللدود، بالفتح: ما صب في أحد جانبى الفم، أو أدخل من هناك باصبع، وحنك به للمريض. فيه إكراه المريض على الدواء. وقوله: " لا يبقى أحد في البيت إلا لد إلا عمي العباس، فإنه لم يشهدكم "، فيه معاقبة أبي أني، والقصاص بمثل ما فعل، وقد زعم بعضهم أن بهذا الحديث أخذ عمر هتك من تمالأ على قتل الغلام بصنعاء.(7/402)
وقوله:« الحمى من فور جهنم »، بمعنى: فيح، في الرواية الأخرى. وهو قوة حرها وانتشاره، ومنه فارت القدر، وفار التنور. وذات الجنب: الشوصة ، وقال الترمذي: ذات الجنب: يعني السل.
قال الإمام: اختلف الرواة في:" أعلقت عليه "، فقال أحدهم: أعلقت عنه، أشار إلى أنه الخيار، ومعناه: عالجت رفع إهابه باصبعها.
وقوله:" تدغرن "، معناه: تدفعن، ووقع في بعض طرقه: " الإعلاق ". والعدوة: وجع نهج في الحلق، فإذا عولج منه صاحبه يقال: غدرة فهو معذور.
وقوله:" فحسمه " أي: قطع الدم بالكي، وقد تقدم ذكره، وذكر المشقص، وذكر فيح جهنم.
وقوله: " التلبينة مجمة "، معناه: أن تسرو همه، وهو كالحديث الآخر: « الحساء تسرو عن فؤاد السقيم »، وفي حديث طلحة - رضي الله عنه - رمى إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفرجلة، وقال دونكها، فإنها تجم الفؤاد »، وقال ابن عائشة : معناه مرتجة ، وقال غيره: معناه: تجمعه وتحمل صلاحاه ونشاطه.
قال القاضي: لم يروه في الكتاب كله مسلم إلا " أعلقت عليه "، وفسروه في كتاب يونس:" غمزت "، لكن في كتاب البخاري الخلاف فيه، فعمر وغيره يقول:" عليه "، وسفيان بن عيينة يقول:" عنه "، وفسره فيه سفيان برفع الحنك بالإصبع، وكله متقارب المعنى وهو معنى ما فسره به القتبي وأبو عبيد من رفع اللهاة، قال الخطابي: كذا يروونه المحدثون والصواب:" أغلقت عنه". وقال الأصمعي: العذرة قريب من اللهاة، وفي البارع: العذرة: اللهاة، وذكر بعض المتكلمين على الحديث. ومضى الكلام في نضح النبي - صلى الله عليه وسلم - بول الصبي الذي بال في حجره.
وقوله: " أتيت ببرمة من تلبينة "، تقدم تفسير البرمة أنه البور ، قدر من حجارة. و" مجمة لفؤاد المريض " بفتح الميم والجيم، ويقال بضم الميم وكسر الجيم، ومضى تفسيره.
وقوله: " يذهب بعض الخدر "؛ لأن الجوع وحرارة المعدة منه والأحشاء يزيد في حرارة القلب، فيزيد / الغم والحزن.(7/403)
وقوله: إن أخي عرب بطنه، قال: " اسقه عسلاً »، كذا رويناه عن الأسدي وغيره براء مكسورة، ومعناه: فسد هضمه، واعتلت معدته. والاسم: العرب، بفتح الراء. والذرب أيضًا بالذال، وقد عربت وذربت، ورويناه عن الخشني وعن القاضي الشهيد:" عزب "، بالزاي، والصواب الأول.
وفي قوله:« صدق الله وكذب بطن أخيك »، حجة للعاملين أن المراد بقوله تعالى:{ فيه شفاء للناس }: العسل، وأن الهاء ضميره، وهو قول ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة. وقال آخرون: الهاء عائدة إلى القرآن، وهو قول مجاهد، والأول أظهر. وقال بعض العلماء: الأية على الخصوص، أي شفاء لبعض الناس ومن بعض الأدواء .
وقوله في الطاعون:" إن هذا الوجع أو السقم "، العرب تسمي كل مرض وجعًا.
وقوله:« رجزًا أرسل على بني إسرائيل » الحديث: الرجز: العذاب، وفي الحديث الآخر: " الرجز أو عذاب،، وفي الآخر:« رجز عذب به بعض الأمم قبلكم ».(7/404)
وقوله:« إذا سمعتم به بأرض وأنتم بها فلا تفروا منه »، وفي الرواية الأخرى:« فلا تخرجوا فرارًا منه »، ويروى:« إلا فرارًا منه »، وهذه الرواية ضعيفة عند أهل العربية مفسدة للمعنى ؛ لأنها مقتضية المنع ألا يخرجهم شيء من الأسباب والأعراض إلا الفرار فيجوز، حتى رواه بعضهم: " إلا فرار "، وهذا لا يجوز أيضًا إذ لا يقال: أفروا، وإنما يقال: فروا. كذلك قال جماعة أيضًا في رواية النصب، وقالوا: إن إدخال " إلا " ها هنا غلط على كل حال، وإنما هو كما جاء في الأحاديث الأخر:« لا تخرجوا فرارًا منه »، أو: « لا يخرجكم فرار عنه »، وبعض المحققين من أهل العربية خرج في رواية النصب الجراز على الحال، وأن " إلا " هالة إيجاب، لا للاسثناء ؛ لأنها توجب هنا بعض ما نفاه من الجملة، ونهى عنه من الخروج ؛ كأنه قال: لا تخرجوا منها إذا لم يكن خروجكم إلا فرارًا من الطاعون، وأباح الخروج إذا كان لغرض آخر ما لم يكن قصدا إلى الفرار، وهذا تفسير معهنى الحديث الآخر المجمل " ولا تخرجوا منها "، فبين أن النهي عن الخروج على الخصوص لا على العموم.
قوله: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون فقال:« غدة كغدة البعير، يخرج في المراقي والآباط »، قال أبو عمر بن عبد البر: قال غير واحد من أهل العلم: وقد يخرج في الأيدي والأصابع وحيث شاء الله من البدن، وما أخبر به - عليه السلام - حق، لكنه الغالب، والله أعلم .
وقال الخليل: الوباء: الطاعون، وقيل: هو كل مرض عام. وقال القاضي الباجي: الوباء هو الطاعون، وهو مرض يعم الكثير من الناس في جهة من الجهات دون غيرها، تخالف المعتاد من أمراض الناس، ويكون مرضهم واحد بخلاف سائر الأوقات باختلاف الأمراض.(7/405)
قال القاضي: أصل الطاعرن القروح الخارجة في الجسد، والوباء: عموم الأمراض، فسميت طاعونا لشبهها بالهلاك بذلك، وإلا فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونا على ما ذكرناه، ويدل على ما أشرنا إليه قوله - عليه السلام -/ في حديث أبي موسى:« الطاعون وخز أعدائكم من الجن »، ووباء الشام الذي وقع به إنما كانت طاعونًا وقروحًا، وهو طاعون عمواس. في هذا الحديث من العلم: توقى المكاره ومن منها قبل وقوعها، وفيها التسليم لأمر الله وقدره إذا وقعت المصائب والبلايا، وهذا كما قال - عليه السلام -:« لا تمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا »، وفيه أن الأمور كلها بقدر الله، وأنه لا ينجى الفار من القدر فراره، وفيه منع القدوم على بلاء الطاعون والوباء، وتحريم الخروج عنها فرارًا من ذلك.
وقد اختلف السلف في هذا، فمنهم من أخذ بظاهر الحديث وهم الأكثر، روى عن عائشة وقالت: هو كالفرار من الزحف، ومنهم من خرج إلى بلاد الطاعون وخرج عنها، وروى هذا المذهب عن عمر بن الخطاب، وأنه ندم على رجوعه من شرغ، وقال: اللهم اغفر لي رجوعي من شرغ. وكتب إلى عامله بالشام: إذا سمعت بالطاعون قد وقع عندكم فاكتب إلى حتى أخرج إليه. وكتب إلى أبي عبيدة في الطاعون الذي وقع بالشام، فعزم عليه أن يقدم عليه مخافة أن يصيبه الطاعون.
قوله: وروى عن مسروق والأسود بن هلال وأبي موسى الأشعري: أنهم فروا من الطاعون، وروى عن عمرو بن العاص أنه قال: تفرقوا عن هذا الرجز في الشعاب والأودية ورؤوس الجبال، فقال معاذ: بل هو شهادة ورحمة ودعوة نبيكم . قال ابن قلابة : ومعناه: دعوة نبيكم. قال: دعى أن يجعل فناء أمته بالطعن والطاعون.(7/406)
قال القاضي: كذا رواه جماعتهم، والصحيح من الرواية أنه - عليه السلام - أخبره جبريل أن فناء أمته بطعن أو طاعون، فقال:" اللهم فبالطاعون "، وهذا هو الذي وافق حديثه الآخر:« ألا يجعل بأسهم بينهم ولا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم »، وإن ثان مع من إحداهما كما جاء في الحديث.
قال بعض أهل العلم: لم ينه عن دخول أرض الطاعون والخروج عنها مخافة أن يصيب غير ما كتب عليه ويهلك قبل أجله، لكن حذار الفتنة على الحي، من أن نظن أن هلاك من هلك من أجل قدومه، ونجاة من نجى لأجل فراره. وهذا نحو نهيه عن الطيرة والقرب من المجذوم، مع قوله: " لا عدوة"، دليل أن من خرج من بلاد الطاعون على سبيل الفرار فجانز له الخروج، ومن دخله إذا أيقن أن دخوله لا يجلب إليه قدرا لم يسبق فساثغ له الدخول.
وقد روى عن ابن مسعود أنه قال: الطاعون فتنة على المقيم، وعلى الفار. أما الفار فيقول: فررت فنجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت فمت، وإنما فر من لم يجئ أجله، وأقام فمات من جاء أجله. قال المدائني: ويقال: مافر أحد من الطاعون فسلم من الموت، وقد قيل في قوله تعالى:{ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت }: أنهم خرجوا فرارًا من الطاعون فماتوا، فدعا لهم نبي من الأنبياء أن يحييهم الله، فأحياهم.(7/407)
وقوله:« رجزٌ أرسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم »، ذكر أنه مات في بني إسرائيل في ساعة / واحدة عشرون ألفًا، وقيل: سبعون ألفًا. قيل: يحتمل وجهين: أنه أول ما بدا في الأرض وحدث بالناس، والوجه الثاني: أنهم عذبوا به. وقد جاء في "الصحيح" - في غير كتاب مسلم -: «أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء، فجعله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرًا، يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد »، وفي حديث آخر:« الطاعون شهادة لكل مسلم »، وفي الحديث المشهور:« المطعون شهيد »، وقد تقدم تفسيره، ويأتي على ما جاء في الحديث الذي قبل هذا أنه إنما يكون شهيدًا إذا أقام وصبر وسلم.
قوله: وذكر مسلم أسانيد هذه الأحاديث من رواية مالك وغيره، مرة عن عامر بن سعد عن أبيه أنه سمعه سئل أسامة بن زيد، ومرة لم يذكر فيه أباه، وكلاهما صحيح ؛ لأنه إذا سمع أباه سئل أسامة عنه، فقد سمعه من أسامة، قالوا: والاكثر روايته له عن أسامة، وقد روي عن سعد عن النبي وهو وهم.
وذكر مسلم في كتاب حديث عمر بن الخطاب ورجوعه من سرغ إذا بلغه أن الوباء بالشام، واستشارته أولاً المهاجرين الأولين ثم الأنصار، واختلافهم عليه، ثم مشاورته مشيخة قريش من مهاجرة الفتح واتفاقهم على الرجوع بالمسلمين ورجوعه، وقول أبي عبيدة له: أفرار من قدر الله يا عمر، ومحاجة عمر معه وإخبار عبد الرحمن بن عوف بما سمعه فيه من النبي - عليه السلام - أنه قال:« إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه »، سرغ: بسكون الراء أشهر ما يقال فيه، ورويناه عن بعضهم بسكونها وفتحها، ولم يصوب ابن مكى غير السكوت. قال ابن حبيب: سرغ: قرية بوادى تبوك، وحكاه الجوهري عن مالك، وقيل: من آخر عمل الحجاز الأول، وقيل: مدينة بالشام، قال ابن وضاح: بينها وبين المدينة ثلاثة عشر مرحلة.(7/408)
فيه خروج الأئمة بانفسهم ليطلع أعمالهم مشاهدة، وفيه تلقى الأمراء الإمام الأعظم واعلامهم إياه ما حدث ببلادهم، واستشارة الإمام أهل العلم والرأي، وتقديمه في ذلك أولى السابقة والدين والفضل.
والمهاجرون الأولون هم من صلى القبلتين، وأما من لم يسلم إلا بعد تحويل القبلة فلا يعد في الأولين. ومهاجرة الفتح قيل: الظاهر أنهم هم الذين هاجروا قبل الفتح، خصهم لفضل الهجرة ؛ إذ لا هجرة بعد الفتح، وقيل: بل أراد مسلمة الفتح الذين هاجروا بعد، فحصل لهم الاسم دون الفضيلة، وهو عندي أظهر لأنهم الذين ينطلق عليهم مشيخة قريش وظاهر هذا أن عمر - رضي الله عنه - قد رجع لرأيهم ورأى من وافقهم، ولا يبعد هذا ؛ إذ لم يكن هذا الأمر إلا من باب النظر للمسلمين والحيطة عليهم، وأيضًا فإنهم لم ينفردوا بهذا الرأي حتى يكون هو يؤثر لرأيهم على رأى المهاجرين الأولين والأنصار، بل قد وافقهم عليه كثير من الأنصار والمهاجرين كما تقدم من اختلافهم، فحصل ترجيح الرأي بالكثرة، لا سيما لأولي السن والحنكة والتجربة والعقول الراجحة.
وحجة الطائفتين / في اختلافهم بينة كلها مبنية على أصلين من أصول الشريعة ؛ الأول: التوكل والتسليم للقضاء والقدر، والثاني: الحيطة والحذر وترك إلقاء اليد للتهلكة، وكلاهما فرعان متشعبان من أصل قاعدة القدر.
وقيل: بل رجوع عمر إنما كان لحديث عبد الرحمن بن عوف، كما قال عبد الله بن عمر: إنما رجع بالناس عن حديث عبد الرحمن بن عوف، ورجح هذا بعض العلماء لإخبار عبد الله عن أبيه به وهو العالم بحقائق أبنائه، ولأن عمر لم يكن ليرجع لرأى دون رأى بغير حجة، حتى وجد علمًا، وتأول قوله:" إنى مصبح على ظهر " قبل هذا، أي على سفر لوجهه الذي كان توجه له، لا أنه راجع، وهذا بعيد. وتأول الأولون أن عبد الله بن عمر لعله لم يبلغه قول عمر هذا قبل إخبار ابن عوف له بما أخبر. ومعنى "مصبح على ظهر ": أي على سفر وعلى ظهور الركائب.(7/409)
وقول أبي عبيدة:" أفرارًا من قدر الله ؟ "، دل أن أبا عبيدة ممن أشار عليه من المهاجرين بألا يرجع، وأن يتوكل ويسلم للقدر، وأن ما قدر عليه لم يكن لينجيه منه رجرع ولا فرار، ولا تغنى فيه حيلة.
وقول عمر له:" لو غيرك قالها يا أبا عبيدة "، يريد من ليس عنده من العلم ما عندك، وأن رجوعي ليس بفرار من قدر، ولكنه أخذ بالحذر والحزم الذي أمرنا الله به، وطلب الأسباب التي هي سوابق القدر وأسرار القضاء، كما أمر باتخاذ الحبن من العدو واجتناب المخاوف والمهالك، وكل شيء إنما يكون بما سبق به القدر، ثم مثل له مثلاً صحيحًا في هذا الباب مما يستعمله جميعهم كل وقت، ولا يختلف فيه من الانتقال في الرعي من الجنبة الجدبة إلى الخصبة، وأن هذا من الانتقال من وجه إلى وجه، لا فرق بينه وبين الانتقال من القدوم على الوباء أو الرجوع ؛ إذ لا يكون من هذا كله إلا ما قدره الله، لكن على الإنسان طلب الأسباب واستساب، وهو مثل قوله - عليه السلام -:« اعملوا فكل ميسر لما خلق له »، وقوله:« اعقلها وتوكل ».
وحمد لله على ما حدثه به ابن عوف ؛ لبيان الصواب فيما اختلف فيه عليه من أمره، وأن انصرافه لسنة وشرع لآدم بحسب الاتفاق عليه، لا الرأي واجتهاد يقع الخلاف فيه.
وقوله لما ورد المدينة:" هذا المحل " بفتح الحاء وكسرها محل القوم ومحلهم ومحلتهم: موضع حلولهم، وهذا الحرف في أحرف قليلة شذت في اسم ما جاء على مفعل بالضم بالوجهين، وإلا فبابه المطرد مفعل بالفتح.
ووقع في سند هذا الحديث: عن مالك، عن ابن شهاب،عن عبدالحميد بن عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب، عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن ابن عباس، قال الدارقطني: كذا قال مالك، وقال معمر ويونس: عن عبد الله بن الحارث، قال: والحديث صحيح على اختلافهم.
وقد أخرجه مسلم أيضًا عن يونس عن عبد الله ابن الحارث، وأما البخاري فلم يخرجه إلا من طريق مالك وحده .(7/410)
قوله - عليه السلام -:« لا عدوى ولا طيرة ولا صفر »، وفي بعضها:« ولا نوء»، وفي بعضها:« ولا غول ولا هامة »، الحديث، وقوله:« فمن أعدى الأول ؟»، وقوله:« لا يوردن ممرض على مصح »، وحديث أبي هريرة / بالحديثين أولاً ثم صمت عن قوله:« لا عدوى »، وأقام على الآخر، وقول أبي سلمة: لقد كان يحدثناه فلا أدري أنسي، أم نسخ أحد القولين الآخر، وهذا مثل قوله في الصحيح في غير مسلم في آخر حديث:« لا عدوى وفر من المجذوم كما تفر من الأسد ». وقوله في مسلم بعد هذا للمجذوم:« قد بايعناك فارجع »، وفسر جابر في "الأم": الصفر: البطن. يقال: ذوات البطن، ووقع في روايه العذري بتاء باثنتين فومها وذال معجمة، كانت العرب تقول: إنها تعدى من كانت به إلى غيره فسيأتي تمام تفسيره.
وقال أبو الزبير في تفسير الغول: هذا الغول التي تغول، كذا لكافتهم وهو الصواب، وعند الطبري: قال أبو هريرة:" كان أبي الزبير "، وفي بعضها:" وكان يعجبه الفأل "، قال: وفسره قال:" الكلمة الطيبة والكلمة الحسنة "، وفي رواية:" الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم ".
والطيرة: التشاؤم، وهو مصدر التطير، قالوا: تطير طيرة،كما قال: تحير حيرة، وليس في المصادر غيرهما، وفي السماء حرفان، قالوا لنوع من السحر، وشىء طيبة أي طيب. قال الخطابي: وكذلك ضبطناه عن شيوخنا بفتح الباء، وحكى الصابوني: أن بعضهم قال: إنما هي بسكون الياء.(7/411)
قال الإمام: اضطرب الناس فيما ذكر عن أبي هريرة من الحديثين اللذين أسقط أحدهما،فقال بعض أصحابنا:« لا يورد ممرض على مصح»، منسوخ بقوله:« لا عدوى »، وقال آخرون: ليس بينهما تناف فيقتصر إلى المنسوخ، ولكن نفى العدوى، وهي اعتقاد كون بعض الأمراض بفعل في غيرها بطبيعتها، وأما أن يكون سببًا بخلق الله سبحانه عندها مرض ما وردت عليه فلم ينفه، فإنما نهى أن يورد المرض على المصح ؛ لئلا يمرض الصحاح من قبل الله جلت قدرته عند ورود المرضى، فيكون المرضى كالسبب فيها. وقال آخرون: إنما المراد هذا الاحتياط على اعتقاد الناس لئلا يتشاءم بالإبل المبيضة ويعتقد أنها أمرضت إبله، فيأثم في هذا الاعتقاد، وقال آخرون: إنما ذلك التأذي بمشاهدة المرض، ويقبح صور الجذماء، وتعذيب النفس برؤيتهم،?والتاذي بها قد يكون منهم من رائحة تؤذي، وهو المراد بما يوقع في بعض الأحاديث:" فإنه أذى "، وقال بعض اصحابنا: هذا إن كان مندوحة عن مخالطة من يتأذى به كره للوارد وإلا فلا، وكذا في أهل الجذام إذا تم ذي الناس بمخالطتهم في البئر، فإن كان لهم مندوحة بماء آخر ينصرفون إليه أمروا أن ينصرفوا إليه، دفعا للضرر عن هؤلاء، وإن لم يكن لهم مندوحة قيل للآخرين: أوجدوهم العرض وإلا فشاركوهم ؛ لأن كل ذى مال أحق بماله.
وقوله: " لاعدوى "، تفسيره: أن العرب كانت تعتقد أن المرض يعدى وينتقل إلى الصحيح، فأنكر - صلى الله عليه وسلم - اعتقادهم، ونهى عنه.
وأما قوله:« ولا صفر »، ففيه قولان: قيل: تأخيرهم المحرم إلى صفر في النسيء الذي كانوا يفعلونه، والى هذا ذهب مالك وأبو عبيدة، وقيل: الصفار: دواب في البطن، وكانوا يعتقدون أن الصفر دابة في البطن يهيج عند الجوع وربما قتلت، ويراها العرب أعدى من الجرب / وإلى هذا ذهب مطرف وابن وهب وابن حبيب من أصحاب مالك، وهو اختيار أبي عبيد، وقد تقدم ما في "مسلم" من التفسير لهذا.(7/412)
وأما قوله:" ولا هامة "، فاختلف فيه، فقيل: كانت العرب تتشاءم بالهامة إذا سقطت على دار أحدهم، فيراها ناعية نفسه أو أحدا من أهله، وإلى هذا التفسير ذهب مالك. وقيل: كانت العرب تعتقد أن عظام الميت تنقلب هامة تطير، فأنكر - صلى الله عليه وسلم - هذا كله وأبطله، ويسمى الطائر الذي يعتقد خروجه من هامة الميت صيدًا، وجمعه: أصدى، وقد قيل: إن المراد بالحديث هذا الطاثر الذي يخرج من الرأس، قال لبيد:
فليس الناس بعدك في بعير ولا هم غير أصداء وهام
وقال أبو زيد:" هامة "، مشددة الميم.
وأما الفأل بالهمز وجمعه: فؤول، فقد فسره في كتاب مسلم. والطيرة مأخوذة مما كانوا يعتادونه في الطير ويعتقدونه في البوارح والسوائح. وكان لهم في التشاؤم والتيامن طريقة معروفة، وقيل: منها أخذ اسم الطيرة، وقال بعضهم: فإن الفأل رجوع إلى قول مسموع وأمر محسوس، يحسن معناه في العقول، فتخيل للنفس وقوغ مثل ذلك المعنى. وتحسين الظن بالله سبحانه ورجاء الخير منه بأدنى سبب لايقبح، الطيرة أخذ المعاني من أمور غير محسوسة ولا معمولة ولا معنى يشعر العقل بما يتوقع من ذلك، فلهذا فارقت الفأل وبأنها لاتقع إلا على توقع بأمر مكروه، والفأل يقع على ما يحب ومايكره، والمستحسن منه ما يحب ويكره ما ينفي فألاً كان وهو أحسن ، فسمي الفأل أو طيرة هكذا قال بعضهم.
قال القاضي: وقيل في الفرق بين الطيرة والفأل: وكلاهما فال من سماع كلام يستحسن أو يستقبح أو رؤية حيوان يمثل ذلك تعليق النفس بمايقتضيه المسموع أو المرئي، فإذا عقلها بخير على ماسمعه أو راه من خير واقعه فهو من حسن الظن بالله، وبضده التطير بالمكروه والشر، وتعليق النفس به، فهو من سوء الظن، وقد قال الله تعالى:« أنا عند ظن عبدي بي ».(7/413)
وقوله: فمن أعدى الأول، بيّن واضح في الحجة في قطع دعوى العدوى؛ لأنه إذا وجدنا هذا الداء أولاً من غير عدوى في الأول فبم يحكم في الثاني أنه من سبب الأول، ولم يكن للأول سبب إلا مشيئة الله وقدره، والممرض صاحب المشيئة المريضة، والمصح صاحب المشيئة الصحيحة.
واختلف في قوله:« لا عدوى »، هل هو على جهة النهي أن يقال ذلك أو يعتقد ؛ فعلى هذا يصح دخول النسخ فيه، وأن يكون ناسخًا على قول بعض لقوله:« لايوردن ممرض على مصح »، وقيل: هو على وجه الخبر لنفيها، وأنه غير موجود ولا مملق، وعلى هذا لايصح دخول النسخ فيه. وكذلك اختلفوا، هل قوله على العموم أو الخصوص ؟ وقد تقدم فيه ماتقدم / من التأويلات، وهو على جملة العموم، وذهب في معنى قوله في زيادة في حديث:« لايوردن ممرض على مصح »، فإنه أذى، هل ذلك راجع إلى نفس العدوى أو إلى تأذى النفس بذلك.
وقيل معنى إعجابه بالفأل الحسن ؛ فلما جبلت عليه النفوس من استحسان الحسن من كل شيء بالميل إليه، كما جاء أنه كان يعجبه الأترج والفاغية والحمام الأحمر ونحوه.
وقيل في قوله:« ولاغول »، أي أن الجني لاتستطيع أن تغول أحدًا، أو تضله، أو تغيّر صفته، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر ولا غول ولكن السعالى قالوا: والسعالى: شجرة الجن. ومثله حديث عمر:« أن أحدًا لايستطيع أن يغير أحدًا عن خلق الله، ولكن للجن شجرة كشجرتكم، فإذا رأيتموهم فأذنوا بالصلاة »، ومضى الكلام في قوله:« ولا صفر »، وبقى منه ما حكاه بعضهم أن أهل الجاهلية كانوا يتشاءمون بصفر.
قال الإمام: وأما الخط فقد تقدم الكلام عليه فيما سبق، وأما النوى فقد تقدم الكلام عليه فيما سبق أيضًا، وأما البوم فالأنثى منه الهامة والذكر يسمى صدى.
قال القاضي: لم يقع عند أشياخنا وفي جميع الروايات التي في كتبهم في هذا الحرف إلا النوء وحده.(7/414)
قال الإمام: وأما قوله: " ولا غول ": فإن العرب كانت تقول: إن الغيلان في القلوب برأى للناس فتتغول تغولاً، أي تتلون تلونًا، فيضلهم عن الطريق فيهلكهم وقد ذكروها في أشعارهم فأبطل ذلك - عليه السلام -.
وقوله: في حديث ابن عمر:« الشؤم في الدار والمرأة والفرس »، وفي رواية أخرى عنه:« إنما الشؤم »، وفي رواية أخرى عنه:« إن يكن من الشؤم شيء حق »، وذكر مثله، ومثله في حديث سهل بن سعد، وجابر بن عبد الله.
قال الإمام: أما ذكره الشؤم في الدار والمرأة والفرس، فإن مالكًا أخذ هذا على ظاهره ولم يتأوله، فذكر في كتاب "الجامع" من العتبية أنه قال: "زيد أرسلها قوم فهلكوا، وآخرون بعدهم فهلكوا "، وأشار إلى حمل الحديث على ظاهره، فإن هذا محمله على أن المراد به: أن قدر الله سبحانه ربما اتفق بما يكره عند سكنى الدار، فيصير ذلك كالسبب، فيتسامح في إضافة الشؤم إليه مجازًا واتساعًا، قالوا: وقد قال في بعض طرق مسلم:" إن يكن الشؤم حقًّا، فهذا لفظ ينافى القطع، ويكون محمله أن يكون الشؤم حقًّا، فهذه الثلاث أحق به، بمعنى أن النفوس يقع فيها التشاؤم بهذه أكثر مما يقع بغيرها.
وقد وقع في بعض الأحاديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما شكى إليه في بعض الديار ذهاب الأهل والمال، قال:" دعوها ذميمة ". وقد اعترض بعض أهل العلم في هذا الموضع بأن قال: فإنه نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الفرار من بلد الطاعون، وأباح الفرار من هذه الدار، فما الفرق ؟ قيل: قال بعض أهل العلم إن الجامع لهذه الفصول كلها ثلاثة / أقسام:
فأحد الأقسام: مالم يقع التأذي به ولاضطرب فيه عادتهم خاصة ولاعامة، نادرة ولامتكررة. فهذا لايصغى إليه، والشرع أنكر الالتفات إليه وهو الطيرة لأن نفي الغراى، في بعض الاسفار ليس فيه إعلام ولا إشعار بما يكره، أو يختار بلا جهة النذور ولا التكرار، فلهذا قال - عليه السلام -: " لاطيرة ".(7/415)
والقسم الثاني: مما يقع به الضرر، ولكنه يعم ولايخص، ويندر ولاينكر كالوباء، فان هذا لايقدم عليه احتياطًا، ولايفر منه، لعدم أن يكون وصل الضرر إلى الفأل على الندور والتكرار.
والقسم الثالث: يخص ولايعم، ويلحق منه الضرر كالديار، فإن ضررها مختص بساكنها. وقد ذهب فيها أهله وماله، على حسب ما قال الشاكي للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا يباح له الفرار.
فهذا التقسيم الذي قسمه بعض العلماء يشير إلى الفرق بين هذه المسائل بعضها من بعض.
قال القاضي: وقد عارض بعض الملحدة هذا الحديث بقوله:" لاطيرة ".
قال القتبي: وهذا تعسف، ووجهه: أن هذا الحديث مخصوص بحديث الشؤم، كأنه قال: لاطيرة إلا في هذه الثلاثة، والطيرة على من تطير. كان أهل الجاهلية يقولون ذلك، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الطيرة، فلم ينتهوا فبقيت في هذه الثلاثة الاشياء. وقد روى أبو هريرة عنه - عليه السلام -: ا الطيرة على من تطير، وان يكن في شيء ففي المرأة والدار والفرس "، وهذا يعضد قول من قال: إنه على الاستثناء، وقد جاء في حديث آخر:" لاشؤم "، وقيل: معناه: أن هذه الأشياء مما يطول التعذب بها وكراهة أمرها، وذلك لملازمتها بالسكنة والصحبة، وان دفع الإنسان ذلك عن اعتقاده، فكلامه - عليه السلام - بذلك بمعنى الأمر بفراق ذلك وزوال التعذب به، كما قال:" اتركوها ذميمة ".
قال الخطابي: معنى هذا الحديث: إن طال مذهبهم في التطير بالسوانح والبوارح، إلا أنه قال: إن كانت لأحدكم دار يكره سكناها، وامرأة يكره صحبتها، أو فرس لاتعجبه ارتباطه فليفارقه، بأن ينتقل عن الدار، ويبيع الفرس، ويفارق المرأة. وكان مجرى هذا الكلام عن استثناء الشيء من غير جنسه، وتسهل الخروج من كلام إلى غيره.
وقد قيل: شؤم الدار ضيقها، سوء جارها، وشؤم الفرس ألا يغزى عليه. وشؤم المرأة ألا تلد.(7/416)
وقد يكون الشؤم هنا على غير المفهوم منه من معنى التطير، لكن بمعنى قلة الموافقة وسوء الطباع، كماجاء في الحديث الآخر: ة سعادة ابن آدم في ثلاثة، وشقوة ابن آدم في ثلاثة: فمن سعادته: المرأة الصالحة، / والمسكن الواسع، والمركب الصالح. ومن شقاوته: المسكن السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، وجاء في حديث آخر من رواية جويرية عن مالك عن الزهري: أن بعض أهل أم سلمة زوج النبي أخبره أن أم سلمة كانت تزيد السيف في الحديث.
قوله: كنا نأتي الكهان، قال:« فلا تأتوا الكهان »، قالوا: كنا نتطير، قال:« ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم »، أي: لا يصدنكم عما كنتم تريدون فعله. قيل: دل من هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن الطيرة أن تعتقد أن لها تأثيرًا، ويصمم على العمل بها عمل أهل الجاهلية، وأن نفيه لها نفى لحكمها لا نفي لوجودها إذا كانت الجاهلية تعتقدها، وتدين بها، ويجدون تأثيرها مما يقع في أوهامهم وتصادف قدر الله وما أمر الكهان.
وقوله في الحديث الآخر: إنهم يحدثونا بالشىء فنجده حقًّا، قال:« تلك الكلمة الحق يخطفها الجني، فيقذفها في أذن وليه ويزيد فيها مائة كذبة »، كذا لهم، وهو الصواب. وفي رواية:" يحفظها "، والأول المحفوظ ونص كتاب الله، قال الله سبحانه:{ إلا من خطف الخطفة }.
قال الإمام: أما الكهان فهم قوم يزعمون أنهم قوم يعلمون الغيب بأمر يلقى في أنفسهم، وقد أكذب الشرع من ادعى علم الغيب، ونهى عن تصديقهم، وقد ذكر مسلم عن النبي - عليه السلام - وجه إصابة بعضهم في بعض الأحايين، وأنه من استراق السمع، يسترقه ولي الكاهن من الجن ويوصله إليه.
قال القاضي: الكهانة كانت في العرب على أربعة ضروب:
أحدهما: أن يكون له إنسان أي من الخير، فيخبره بما يسترق من السمع من السماء، وهذا القسم قد بطل منذ بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، كما نص الله تعالى في الكتاب.(7/417)
الثاني: أن يخبره بما يطرأ في أقطار الأرض وما خفى عنه بما قرب أو بعد، وهذا لا يبعد وجوده ونفت هذا كله المعتزلة وبعض المتكلمين وأحالوه، ولا إحالة ولا بعد في وجود مثله، لكنهم يصدقون ويكذبون، والنهي عام في تصديقهم والسماع منهم.
الثالث: التخمين والخرز، وهذا يخلق الله منه لبعض الناس قرة ما لكن الكذب في هذا الباب أغلب. ومن هذا الفن العرافة، وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور باسباب ومقدمات يدعى معرفتها بها، وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر والطرق والنجوم وأسباب معتادة وهذا الفن هي العيافة بالياء، وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة عندهم، ويعلمها في أكثر كتبهم.
وفي الحديث الذي ذكر مسلم:« من أتى عرافًا فسأله عن شيء لن تقبل له صلاة أربعين يومًا »، تقدم معنى العرافة، وأنه من الكهان. قال الهروي: العراف: الحاذي والمنجم الذي يدعي علم الغيب، وقد استأثر الله به. وأما معاقبته بترك قبول صلاته، فمذهب أهل السنة: أن السيئات لا تبطل الحسنات ولا يحبطها شيء إلا الكفر، والمراد بهذا القبول، والله أعلم. قبول الرضى وتضعيف الأجر، ولا قبول الأداء وسقوط العهدة. وما اختصاصه بأربعين ليلة في قبول صلاته، وقد جاء مثل هذا في شارب الخمر، فمن أسرار الحكمة الشرعية، وقد جاء عدد الأربعين في تنقل أطوار الخلق في الرحم ؛ من النطفة، والعلقة، والمضغة، وجاء الحد في قصة الأظافر والشارب، وحلق العانة أربعون يومًا، وجاء:« من أخلص الله أربعين صباحًا، ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه »، فيحمل في شارب الخمر أنه ينتقل اللحم المتولد عما شرب من الخمر وتبدله بغيره. وقد ذكر أهل التجارب أن السمن يظهر في الحيوان في أربعين يومًا. وكذلك المخلص أربعين يومًا يظهر بذلك تغيير طباعه عما كانت عليه وانتقال صفاته، ولذلك تغير نبات الشعر والاظفار في أربعين يوما.(7/418)
وقوله فيهم:« ليسوا على شيء »، دليل على بطلان قولهم، وأنه لا صحة ولا حقيقة له، وفيه جواز الغلو في اللفظ وإطلاق مثل هذا اللفظ العام، والمراد به الخاص من أحوالهم لا ذواتهم ؛ لأنهم أشياء بلا شك، ولا يعد هذا كذبا. والخط تقدم الكلام فيه أول الكتاب.
وقوله:« أن نبيًّا كان يخط فمن وافق خطه فذاك »، أي الذي يصيب، وليس فيه دليل على جوازه، وإنما أخبر عن وقوعه وسبب الإصابة فيه أحيانًا إذا وافق، كما ذكر أن علم النجوم كان آية لبعض الأنبياء، ثم حرم الشرع النظر فيه. ودخل كل هذا تحت النهي عن الكهانة وتخرص علم الغيب. وقيل: فيه رخصة للنظر في الخط، وقد تقدم أول الكتاب.
وقوله: في الحديث الآخر:« تلك الكلمة من الجن يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة ». قال الإمام: يقال: قررت الخبر في إذنه أقره قرًّا: أودعته، وقر الطائر قرًّا: صوت، قال بعضهم. وقال غيره: قرت الدجاجه قرًّا. وفي رواية المقريزي عن البخاري: " قر الدجاجة "، بكسر القاف، وهو حكاية صوتها. قال الخطابي في "غريبه": قرت يقر قرًّا: وإذا رجعت فيه، قيل: قرقرت وقرقريرا، قال الشاعر:
إذًا قر قرت هاج الهوى قرقر يرها
وقال الراجز: صوت الشقراق إذا قال قرقر.
فأظهر لعلة التضعيف على الحكاية، قال: والمعنى: أن الجني يقذف بالكلمة إلى وليه الكاهن فيتسامع بها الشياطين، كما يؤذن الدجاجة بصوتها صواحباتها فيتجاوب، قال: وفيه وجه آخر وهو أن تكون الرواية كقر الدجاجة، يدل عليه رواية البخاري:« فيقرها في أذنه كما تقر القارورة »، فذكر القارورة في هذه الرواية يدل على ثبوت الرواية بالدجاجة.(7/419)
قال القاضي: أما مسلم فلم تختلف الرواية فيه " الدجاجة " بالدال، وأما رواية:"الزجاجة" بالزاي فاختلفت فيها الروايات عن البخاري، فقد ذكر الدارقطني أنه مما صحفوا فيه، وأن الصواب:" الدجاجة "، بالدال، تكن رواية " القارورة " تصحح ذلك، وأنه بمعنى الزجاجة، ويكون قرها بمعنى، قال القابسي: معناه: يكون لما يلقيه لوليه حس كحس القارورة عند تحريكها مع التدار وعلى صفا، وكذا يفهم من الإسناد الآخر، وكذا في الحديث الآخر الذي فيه:" كقرقرة الدجاجة "، أي كما يسمع من صوت الدجاجة إذا حكت على شيء.
وقد قيل: قر الزجاجة: صوت صب الماء فيها، أو الشيء يلقى، يقال: قر عليه دلوا من ماء: إذا صبها عليها. قال صاحب الأفعال: قررت وأقررت الماء في السقاء: صببته، أو يكون صوت تردد الماء في القارورة حين صبها. وكذا جاء في الحديث:" كما تقر القارورة "، إذا فرغ ما فيها.
وقال ابن الأعرابي: القر: ترديد الكلام في أذن الأبكم حتى يفهمه، وقال: قر ذلك في أذنه: إذا ساره به. وقال صاحب الأفعال: قررت الخبر في أذنه أقره قرًّا: أودعته. وقال أبو زيد: أقره بالكسر، قال بعضهم: فالمعنى على هذا: أنه يقر الكلمة في أذن الكاهن من غير صوت وعلى القرقرة، والتفاسير الأخر: أنه يضها بصوت، قالوا: وقوله:" كما يقر القارورة"، و " قر الزجاجة" على من رواه، وإنما هو الاتسا، أي كما يقر الشيء في القارورة أو يصب الماء فيها، كما قال تعالى:{ بل مكر الليل والنهار }: أي مكر بالليل والنهار.
وقيل: إن معناه: أن الجني يقرها في أذن وليه الكاهن يسامع بها الشياطين، كما تؤذن الدجاجة بصوتها صواحبها، فيتجاوبن، وذلك من شأنهن قوله وأما ما ذكر عن الفربرى أنه رواه: " قر "، بكسر القاف، فلم يضبطه عن الفربرى من جميع الطرق ولا عن غيره، ولا يصح الكسر فيه ولو / صحت به الرواية، لكنه وضع في كتب بعض الشيرخ كما قال.(7/420)
وقوله: " فيقذفها في أذن وليه ": أي بلغتها، قال الله تعالى:{ إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب }. قال نفطويه: أن يلقى الحق في قلب من يشاء، ويحتمل أن يكون معناه: أن يقول في أذن وليه ما لا يعلم، ولاحقيقة عنده منه إلا ما استرق من كلمة من قصة لا يدرى شرحها وتمامها، قال الله تعالى: { ويقذفون بالغيب من مكان بعيد }، أي يتخرصون ويقولون ما لا يعلمون.
وفي الحديث الآخر من رواية صالح عن الزهري:" يقرفون فيه ويزيدون فيه " بالذال، هذه رواية الجلودي وغيره، وهي بمعنى ما تقدم من التخوص، وقول مالا يعلمون. وفي رواية ابن ماهان من طريق الهوزنى: "ويقرفون " بالراء، وكذا جاء بغير خلاف ى رواية الأوزاعي ومعقل، ومعناه عندي: أن يكون من الخلط. قال صاحب العين: قرف: الخلط، أي يخلطون فيها من الكذب، كما قال ويزيدون.
وفي حديث يونس:« يرقون فيها ويزيدون »، كذا قيدناه على شيوخنا بضم الياء، وفتح الراء وتشديد القاف، وفي بعض النسخ:" يرقون " بفتح الياء وسكون الراء، قال بعضهم: وهو الصواب، ومعناه بمعنى: يزيدون، يقال: رقى فلان على الباطل: إذا تقوله، بكسر القاف. وهو من أكبر وهو الصعود، أي أنهم يدعون فوق ما سمعوا.
قال القاضي: ولا فرق بين اللفظين، أحدهما مضعف والآخر على أصله.
وقوله:« لكن ربنا إذا قضى أمرًا سبح حملة العرش وسبح أهل السماء الذين بلونهم، حتى يبلغ التسبهيح أهل هذه السماء الدنيا، قال الذين يلون حملة العرش: ماذا نال ربكم ؟ فيخبرونهم »، ثم ذكر استخبار بعضهم بعضًا حتى يبلغ الخبر هذه السماء، فيخطف الجن السمع: فيه جواز التسبيح عند استعظام الأمور، وذلك أن عظمتها من عظمته تعالى وتحت قدرته فتسبح لك.
وقيل: إن حملة العرش من أقرب الملائكة وأعلاهم منزلة وأكثرهم علمًا، وأنهم أول ما يطلع على ما ينكشف من الأمور ويظهر الله من قضائه وعلم غيبه، وأن ملائكة كل سماء إنما تستمد العلم من ملالكة السماء التي فوقها.(7/421)
قال الإمام: وأما التنجيم، فمن اعتقد اعتقاد كثير من الفلاسفة في كون الأفلاك فاعلة لما تحتها، وكل فلك يفعل ما تحته حتى ينتهى الأمر إلينا وسائر الحيوان والمعادن والنبات، ولا صنيع للباري سبحانه وتعالى في ذلك، فإن ذلك مروق من الإسلام. وأما من قال: لا فاعل إلا الله جلت قدرته، وهو عز وجل فاعل الكل، ولكن فعل الباري سبحانه في هذه الجواهر قوى طبيعية يفعل بها، كما خلق في النار قوة وطبيعة يحرق بها، ويحتجون على ذلك بمشاهدتهم الشمس تسخن ويصلح أكثر النباتات، فيقولون: على هذا غيره مستنكر أن يكون امتزاج قوة المشترى وزحل في قرانها الأصفر، يكون من التأثير عنه كذا وكذا، ويكون التأثير عن قرانها الأوسط أعظم لزيادة القوة الطهبيعية، وقرانهما الأعظم يكون فيه التأثير عظيمًا مهولاً ؛ لعظم قوتها، وزيادة الطبيعة المؤثرة بانتقالها على صفة أحما .
ويعتذر الحذاق منهم المنتسبون إلى الإسلام العاطلون بهذه الشبهة، التي هي القياس على ما شوهد من الشمس عن خطاياهم في كثير من القضايا، بأن يقولوا: فإن القوة الحادثة عن امتزاج الكوكبين واتصالهما على بعض صفات الاتصال التي يذكر، ومنها لا يوقف على حقيقتها، وإنما تؤخذ بالحدس والتخمين فيقع الغلط لأجل ذلك، كما يعرف الطبيب قوة كل عقار عوإنفراده، ولكنه إذا مزج الكثير منها لا يقف على حقيقة المزاج المركب ؛ فلهذا لا يقع الشفاء بكل دواء يشفيه.
ويقولون أيضًا: وربما صادمت بعض القوى الأرضية القوى السماوية فمنعها التأثير، فيغلط المنجم حينئذ، وهذا كما أن السم قتال يقضي بذلك إلطببب، فإذا تقدم شاربه بشرب بازهر ذلك السم وترياقه بطل تاثيره.(7/422)
وهذا مسلك الحذاق منهم، والرد عليهم أن يبطل القول بالطبيعة أصلاً، وهذا مستقصى في كتب الأصول، ومن أقر به أن الفاعل من شرطه أن يكون عالِمًا قادرًا حيًّا، والطبيعة ليست كذلك عندهم، فلو صح قوة الفعل إلى قوة ما وليست بحية ولا عالمة، صح إضافة الفعل إلى الموت أمنا، ويقع هؤلاء في نفي الباري سبحانه ولا حاجة على أصلهم إليه ولا دليل يقوم على إثبات فاعل عالم مختار، وما المانع على أصلهم أن يكون الذي يسمونه واجب الوجود يفعل بقوة فيه من غير أن يكون عالِمًا ولا حيًّا، كما صح أن يفعل بالطبائع عندهم وليست بحية ولا عالمة. ومن صرح بهذا وضح كفره.
وأيضًا، فان هذه القوة لا يقدرون على بيانها، ولا يزال يضطرهم إلى تفسيرها حتى يلحقوها بالجواهر أو بالأعراض، وكلاهما لايصح منه خلق الأجسام، ولا الفعل في غيره. وأيضًا، فإن المفعول عندهم على القياس على المشاهدة، على حسب ما قالوه في الشمس من شرط أفعال المحدثات بعضها في بعض، أن يكون باتصال أو محاسة أو ب بوسائط وزحل / في الفلك الشائع عندهم والإنسان في الأرض التي هي غير محسوسة عندهم بإضافتها إلى فلك زحل، لا اتصال بينه وبين رجل، ولا وسائط يتصل بعضها ببعض، حتى ينتهى الأمر إلى الإنسان، وقصارى ما يشتهون به الهواء، فإنه متصل بالإنسان بكل مكان، وهو متصل بما فوقه، هكذا إلى زحل. وهذا باطل من طريقين:(7/423)
إحداهما: أن القوة التي يقبلها الهواء التبريد والتسخين والرطوبة واليبس. فهب أنا سلمنا لهم وقوع بعض الأمراض لتغيير الهواء بفعل زحل فيه، فلما اختص المرض بهذا الإنسان والهواء شامل، وما الحيلة فيما يجرى على الإنسان من غير الأمراض لضرب عنقه، أو زوال رياسته، أو ذهاب ماله، وهذا بعيد أن يظن أنه من قتل بغير الهواء، وأيضًا فإن الكرة التي عندهم تعلو الهواء وهي النار، يجب إذا وصلت قرة زحل إليها أن ينقلب إلى طبيعة النار أو يتغير عن حقيقتها بمضار من قوة ثابتة مضادة لها فلا تصل القوة إلى الهواء على حالها فتفعل فيه.
وأيضًا، فإنه ما حصل لهم أكثر من اقتران خمسين، زعموا أنهما يؤثران فيما يحبهما، فلو ادعى مدع أن ما تحتهما أثر فيهما، وأما الذي يكون جوابه فكون الشيء فرق أو تحت لاحظ له عندهم في القوة الفاعلية. ولو زعم زاعم أن بعض اتصالات الزهرة وعطارد أو الشمس أثر ما أضافوه إلى زحل أو كسب زحل قوة على التأثير، ماذا يكون جوابه ؟ وليس له جواب إلا أن يقول: فإنا نشاهد هذا التأثير عند قران هذين النقلين، سواء كان ما تحتهما على ما قلتموه، أو لم يكن. قلنا: وأنتم أيضًا مشاهدون هذا القرآن، ولا يؤثر ما يجب تاثيره عندكم. فإذا سئلتم عن هذا قلتم: كان في البروج من الكواكب الثابتة ما أبطل فعله، فإذا أريناكم في قران آخر تلك الصفة بعينها ولم يؤثر تلتم كان قبله من قوة الاجتماع والاستقبال ما أبطل فعله، فإذا أريناكم هذه النصبة، وأيضًا ولم يؤثر قلتم: كان طالع التحويل يمنع هذا التأثير.
فإذا أيضًا عدنا للمناقضة، قلت: فإن برج الابتهاء منه معه كذا وكذا، ولا أقل من أنه يدعى أمرًا ويذكر اتصالاً ويحيل عليه، ولا قدرة لكم على منعه منه إلا بعوائد تطرد في تلك النصب، وهو ألا يتفق تكرره مع عدم المقادير، وكيف يتصور تأثير الطبيعة بأن انتهاء / عمر المولود كذا وكذا، وهذا لا مدخل له في الطبيعة حتى يقدر فعلا أو مانعًا.(7/424)
وهذه الطريقة أيضًا تضعف طريقة الإسلاميين منهم الذين يقولون: لا خالق إلا الله عز وجل، وإنما هي دلالات على الغيوب بعادة أجراها الباري جلت قدرته كما أجرى الغيوم والسحب الثقيلة دلالة على الأمطار، وان كانت ربما خانت ؛ لأن ما يذكرونه من الطرق التي يتحصل المعرفة منها يتصل جدًّا ولا ينضبط. والحذاق منهم يعترفون بهذا.
وقد حاول القاضي ابن الطيب الاعتضاد في الرد عليهم بالسمعيات وما وقع من العمومات ؛ في ألا يعلم الغيب إلا الله عز وجل، وما وقع من الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النجوم بالتخصيص. وهذا القدر كاف، وإنما يشير إلى اللباب في كل طريقة.
وقوله: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم -:« إنا قد بايعناك فارجع »، قال القاضي: هذا موافق للحديث الآخر في "صحيح البخاري":« وفر من المجذوم فرارك من الأسد »، وقد مضى الكلام على هذا المعنى، وأنه غير معارض لقوله:« لا عدوى »، وهو موافق لقوله:« لا يوردن ممرض على مصح ». وقد اعترض النظام من المبتدعة بمعارضة هذه الأحاديث. وما تقدم من الكلام في باب العدوى كاف في الرد عليه.(7/425)
وقد اختلفت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة المجذوم وحكمه، فروى عنه ما تقدم، وقد ذكر الطبري عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - واكل مجذومًا وأقعده معه، وقال:« كل ثقة بالله وتوكلاً عليه »، وعن عائشة وقد سألتها امرأة عن الحديث المتقدم في الفرار منه فقالت: كلا والله، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:« لا عدوى فمن أعدى الأول ؟»، وقد كان لنا مولى أصابه ذلك، فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي، وينام على فراشي. وهذا يدل من فحوى كلام عائشة أنها لم تنكر الحديث الأول، ولكنها ذهبت إلى نسخه بقوله:« لا عدوى »، وبفعله - عليه السلام - وقد روى أيضًا ذلك عن أئمة السلف عمر وغيره. وقد ذهب بعضهم أيضًا إلى الجمع بين الحكمين بغير طريق النسخ وترك أحد الخبرين بأن أمره - عليه السلام - بتجنب ذلك على سبيل الاحتياط ومخافة ما يقع في النفس من أمر العدوى، ثم فعله بخلاف ذلك ليرى أن أمره ليس على / الوجوب والتحريم. وإلى هذا نحا الطبري. وذهب الباجي إلى أنه بمعنى الإباحة، أي إذا لم يصبر على أذاه وكرهت مجاورته، فمباح لك أن تفر منه.(7/426)
قال بعض العلماء: وفي هذا الحديث وما في معناه: الدليل على أنه يفرق بين المجذوم وامرأته، إذا حدث به الجذام وهي عنده لموضع الضرر، إن لم ترض المقام معه. واختلف أصحابنا في منعه إماءه إذا كان في ذلك ضرر أو إباحة ذلك له. قالوا: وكذلك يمنع من المسجد واختلاط الناس. وكذلك اختلفوا هل يؤمرون إذا كثروا بأن يتخذوا لأنفسهم موضعًا خارجًا عن الناس، ولا يمنعوا من التصرف في منافعهم ومسكنهم، وهو الذي عليه أكثر الناس، أو لا يلزمهم التنحي، ولم يختلفوا في القليل منهم، ولا يمنعون من الجمعة ويمنعون من غيرها. وإذا استضر أهل القرية بمن جذم من شركائهم فيها وفي مائها، فقد قال بعض أصحابنا: إن قووا على استنباط ماء آخر من غير حرج ولا ضرر أمروا به، وإلا كلف الآخر أن يستنبطوه أو يقيموا لهم من يستقي لهم، وإلا فهم أحق بنصيبهم من الماء.(7/427)
وقوله:« اقتلوا الحيات وذا الطفيتين والأبتر، فإنهما يستسقطان الحبالى»، قال الزهري: ويرى ذلك من سمهما ويلتمسان البصر. وفي رواية:« يخطفان البصر »، وفي رواية:« يلتمعان البصر »، وفي بعض طرقه:« اقتلوا الحيات والكلاب واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر »، وفي بعضه:« اقتلوا الحيات »، لم يزد، وفي بعض طرقه نهى عن قتل الجنان التي تكون في البيوت "إلا الأبتر وذا الطفيتين "، وفي بعضها:" نهى عن قتل الجنان لم يزد "، وفي بعضها:" عن عوامر البيوت "، وذكر حديث الفتى الذي قتل الحيه فمات، وقال:« إن بالمدينة جنًّا أسلموا، فإذا رأيتم منها شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإذا بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان »، وفي بعض طرقه:" إن لهده إلبيوت عوامر، فإذا رأيتم شيئًا منها فحرجوا عليها ثلاثًا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه، فإنه كافر»، وذكر أمر النبي بقتل الحية التي خرجت عليهم في غار فسبقتهم، فقال: « وقاها الله شركم كما وقاكم شرها »، قال الإمام: أما حيات المدينة، فإنها لا تقتل بغير إنذار لهذا لحديث المذكور فيها، وأما ما سواها من البلاد فإن مالكًا نهى عن قتل حيات البيوت بغير نذار، ولكن يرى ذلك في حيات المدينة.(7/428)
وأكد ابن نافع قصر الحديث على ما ورد فيه من حيات المدينة ورأى / سائر البلاد، بخلافها لما ورد من إباحة القتل عامًا، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:« اقتلوا الحيات »، وذكرها - صلى الله عليه وسلم - في الخمس التي يقتلها المحرم والحلال في الحل والحرم، ولم يذكر إنذارًا، وأخذ هذه لأحاديث على عمومها، وخص المدينة بالحديث الوارد من هذا العموم. وأما صفة الإنذار: فحكى ابن حبيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:« أنشدكن بالعهد الذي خذ عليكن سليمان ألا تؤذيننا، وأن تظهرن لنا». وأما مالك فإنه قال: يكفى في الإنذار أن يقول: أحرج عليك بالله واليوم الآخر ألا تبدو لنا ولا تؤذينا، وأظن مالكًا إنما ذكر هذا لما وقع في كتاب مسلم:" فحرجوا عليها ثلاثًا "، فلهذا ذكر: أحرج عليك.
وأما قوله:« ذا الطفيتين »، فقال أبو عبيد: الطفية: خوص المقل، وجمعها طفا. وأراه شبه الخطين اللذين على ظهر الحية بخوصتين من خوص المقل. وقال بعض أصحابنا: هما خطان أبيضان على ظهر الحية. والجنان: الحيات، وهي جمع جان. والجان: الحية الصغيرة، وقيل: الرضعة البيضاء. وأما الأبتر فهو الأفعى. وحكى ابن مزين عن عيسى: أنه حمل على المذهب: أن الأبتر وذا الطفيتين يقتلان ولا ينذران، وقد تقدم استثناؤهما في كتاب مسلم.
قال القاضي: قال الخليل في ذى الطفيتين: هي حية لينة خبيثة. وأنشد: كما تذل الطفا من رقية الراقي، وقوله:" يلتمسان البصر ": معناه ما جاء في الأم في الرواية الأخرى:" يخطفان " وفي غيره:" يطمسان"، أي يذهبان به ويبطلانه. ومنه قوله: التمست أحشاءه بالرمح.
وقوله:« يلتمعان البصر » بمعنى ما تقدم. وفي حديث ابن مسعود:"لعل بصره سيلتمع "، قال الهروي: أي يختلس، ومنه: التمع لونه: إذا ذهب. قال الخطابي: يعني باللدغ واللسع. وقد تقدم قول الزهري في "الأم"، وظاهره أشبه أنه خصوص بنفس النظر كاذى العانن بنظره، والله أعلم.(7/429)
وقوله في حديث إسحاق:« ويتتبعان ما في بطون النساء »، كذا لأكثر الرواة، وعند بعضهم: " يبتغيان "، ورجحه بعضهم، وهما بمعنى، كما تقدم: " يسقطان "، وذلك بالروع منه، أو بخاصته كما تقدم وهو أظهر ؛ إذ يشركه غيره في الروع. ولعل صحهيح هذه اللفظة:" يلقيان "، بدليل الروايات الأخر:" يسقطان"، و " يطرحان "، والله أعلم.
وقيل: الجنان: مالا يتعرض للناس، والخيل ما يتعرض لهم ويؤذيهم، وأنشد:
يتناوح جنان بهن وخيل
وعن ابن عباس: الجنان: مسخ الجن، كما مسخت القردة في بني إسرائيل، ومثله عن ابن عمر. وقال يعقوب: الجنان: الحيات، قال ابن وهب: عوامر البيوت تتمثل في صررة حية رقيقة بالمدينة وغيرها، وتلك التي نهى عن قتلها حتى تنذر ويقتل ما وجد في الصحارى دون إنذار على كل حال. قال مالك: يقتل ما وجد منها في المساجد، وذكر الترمذي عن ابن المبارك: إنما يقتل من / الحيات الحية التي تكون دقيقة كأنها فضة ولا تلتوي في مشيتها. وقال النضر بن شميل في الأبتر: هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب، لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها.
وقوله في حديث أبي سعيد:" فاستأذن الفتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنصاف النهار، فرجع إلى أهله "، هذا امتثال لقوله تعالى:{ وإذا كانوا معه }، و"أنصاف النهار " كذا رويناه بفتح الهمزة، يريد: تنصف النهار، يقال: نصف ونصف ونصيف، وكأنه وقت لآخر النصف الأول، وأول الثاني فجمعه، كما قال: ظهور الترسين.
وقيل: يحتمل أن يكون المراد بأنصاف النهار مصدر أنصف النهار، يقال: أنصف النهار: إذا بلغ نصفه. وبعضهم يقول: إنما يقال: نصف وانتصف، ولم يعرف أنصف.
وقوله:" فرجع إلى أهله "، أي يطالع حالهم وما يحتاج إليه، لا سيما وقد جاء في الحديث أنه كان حديث عهد بعرس. ويحتمل أن يكون استئذانه لتفقد حال أهله وتأنيسها لقرب عهدها به.(7/430)
وقوله - عليه السلام -:« إن بالمدينة جنًّا قد أسلموا، فإذا رأيتم منها شيئًا فأذنوه ثلاثة أيام »، إعلام أن من الجن من قد أسلم بالمدينة، وأنه قد يتصور في صور الحيات ؛ ولهذا يذهب من ذهب إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة ؛ لتخصيصه إياها بالذكر. وحجة الآخر: أن تخصيصه بالمدينة حينئذ ؛ إما لأنه كه لم مسلمي المدينة من بني آدم، وأعلمهم بحكمهم مع من أسلم منهم من جنها، وأنه إذا أسلم سائر بني آدم في بلادهم فحكمهم ذلك الحكم مع جنهم، أو لعله لم يكن أسلم حينئذ من الجن سوى من بالمدينة، ويقتضى أن حكم بيوت المدينة وغير بيوتها سواء،وأن المراد بالحديث الآخر بالبيوت مواضع العمارة والسكنى لا الصحارى. ورتب بعض العلماء هذه الأحاديث: أن الأمر بقتل الحيات مطلقًا مخصوص بنهيه عن حيات البيرت، إلا الأبتر وذا الطفيتين فإنه يقتل على كل حال، كان في البيوت أو غيرها، أو ما ظهر منها بعد الإنذار، ويخص الإطلاق بالنهى عن قتل الجنان على ذوات البيوت أيضًا، إلا ما خص منه من الأبتر وذى الطفيتين.
وقوله:« فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان »، أي إن لم يذهب بالإنذار فقد دل أنه ليس من عوامر البيوت، ولا ممن أسلم، وأنه شيطان قتله حينئذ مباح، وأنه لا حرمة له بعد الإنذار، وأن الله لا يجعل له سبيلاً للانتصار ممن قتله كما جعل لجنان البيوت ومن أسلم.
وقوله: " ثلاثة أيام "، ظاهره ما قال مالك: أحب إلى أن ينذروا ثلاثة أيام. قال عيسى بن دينار: أينذر ثلاثة أيام، وإن ظهرت في اليوم مرارًا، ولا يقتصر على إنذارها ثلاث مرات في يوم واحد حتى يكون ذلك في ثلاثة أيام، وعلى قوله في الأحاديث الأخر:" فليؤذنه ثلاثًا " و " حرجوا عليه ثلاثًا" يحتمل ثلاث مرات، ولكن ب الحديث /الآخر أنها ثلاثة أيام يفسره.(7/431)
وقوله:" وإنا لنتلقاها من فيه رطبة " يعني بالمرسلات: هذه استعارة لما كان فيه رطوبة قبل طول مكثه كذلك شبه به غيره، أي نتلقاها ليسمعها منه لأول نزولها كالشيء الرطب في أول أحواله.
وقوله: " أمر بقتل الوزغ، وسماه فويسقًا "، وقوله - عليه السلام - " من قتل وزغة في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة "، في الرواية الأخرى:" فله سبعون حسنة"، وفي الأخرى:" مائة حسنة "، " ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة لدون الأولى، فان تتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة لدون الثانية: تسميته لها بالفسوق كما جاء:« خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ». وأصل الفسق الخروج، وهؤلاء فواسق لخروجهم عن طباع أجناسهم إلى الأذى.
والوزغة عندها من أنواع الضر والأذى ماخرجت به عن أجناسها من الحشرات المستضعفات. وأما تخصيصها في تكثير الأجر لمن قتلها في المرة الأولى، وتضعيفه على من ضربها ولم يقتلها إلا في الثانية أو في الثالثة، فمن أسرار الحكمة والتكليف، وأكثر ما جاءت مضاعفة الأجور على تكثير العمل ومعاودته وتكراره، وهذا بعكسه ؛ ولعل السر في ذلك: الحض على المبادرة لقتلها والحد فيه، وترك التواني، حتى تفوت سليمة والله أعلم.
وقوله في سند هذا الحديث: عن سهيل قال: حدثنى أخي، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ أنه قال:« في أول ضربة سبعين حسنة »، قال الإمام: كذا روى هذا الإسناد عن أبي أحمد الجلودي: سهيل حدثني أخي عن أبي هريرة. ومن رواية الرازي عنه: حدثني أختي عن أبي هريرة. وفي كتاب "الأطراف" لأبي مسعود الدمشقي: حدثني أخي، عن أبي، عن أبي هريرة. وفي كتاب أبي داود: سهيل حدثني أخي، أو أختي عن أبي هريرة .
قال بعضهم: وما وقع في رواية أبي العلاء هو خطأ. قال عبدالغني بن سعيد: إسماعيل بن زكريا يقول في هذا الإسناد: حدثني أخي، ولكن كذا وقع في أصل أبي العلاء: حدثني أبي.
قال القاضي: أخت سهيل سودة، وأخواه: هشام وعباد.(7/432)
وقوله:« إن نبيًا قرصته نملة، فأمر بقرية النمل فاحرقت، فأوحى الله إليه: فهلا نملة واحدة »، ظاهره أن التحريق كان غير ممنوع في شريعته، كما كان أولاً في شريعتنا حتى نسخ، ويدل عليه قوله: " فهلا نملة واحدة »، فلم يعاقب على إحراق واحدة.
وفيه دليل على جواز قتل النمل وكل مؤذ، لكن الله تعالى عتبه على التشفي لنفسه بقتله هذه الأمة العظيمة المسبحة بسبب واحدة، ودل أنه لم يأت / محظورًا ولاذنبًا ؛ أنه لم يعنف على ذلك بكثر مما تقدم. وقيل: كان عتبه بذلك تعنيفًا له لما تقدم منه من سؤاله عما لا يجب ؛ لأنه جاء في خبر: أنه مر بقرية أو بمدينة أهلكها الله تعالى، فقال: يارب، قد كان فيهم صبيان ودواب ومن لم يقترف ذنبًا، ثم إنه نزل تحت شجرة. فجرت له هذه القصة التي قدرها الله على يديه ؛ تنبيها له على اعتراضه على قدر ربه، وفعله ماشاء في عبيده، فقال له تعالى:« فهلا نملة واحدة، إذ إنما قرصتك واحدة ». وفيه أن الجنس المؤذي يقتل وإن لم يؤذ، كما يقتل الخمس الفواسق وإن لم تؤذ، ويقتل أولادها وإن لم تبلغ الأذى على أحد القولين.
وقد يكون قتل النمل في شرع هذا النبي مباحًا أو مأمورًا به، لكنه عتب على ذلك بسبب أذى واحدة، وفيه تنبيه على أن بلاد المعاصي والمناكير لا تامن العقاب العام.
قال الإمام: يكره قتل النمل عندنا، إلا أن يؤذوا، ولايقدر على دفعهم إلا بالقتل فيستحق، ولايحرقوا بالنار، ولايحرق القمل.
قال القاضي: ذكر أهل الأخبار: أن عدي بن حاتم رؤى وهو يفت الخبز للنمل، فقيل له في ذلك، فقال: إنهم جيران ولهم حرمة. وهذا من فضل كرم حاتم وجوده الموروث.
وقد خرَّج أبو داود حديثًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل النمل. قال الخطابي: قيل ذلك في نوع مخصوص منها، وهي الكبار ذوات الأرجل الطوال، فذلك أنها قليلة ا لضرر .(7/433)
وقوله:« عذبت امرأة من جراء هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض »، جراء بمعنى: من أجل هرة ومن سبب هرة، فقال: فعلته من أجلك، ومن جريرتك، ومن جراك، ومن جرائك، ومن إجلالك، ومن جلالك ومن جللك، يقول: جراء بمعنى الجريرة، أي دخلت النار بجريرتها وذنبها فيها. وخشاش الأرض: هوامها، ويفسره قوله في الحديث الآخر: "من حشرات الأرض ". وقيل: الخشاش: الهوام وصغار الطير، وهو بفتح الخاء، وقد تقدم أول الكتاب بأشبع من هذا. وتعذيب هذه المرأة بسبب قتل هذه الهرة يحصل أن يكون هذا العذاب بالنار، أو يكون بالحساب على ذلك؛ فمن نوقش الحساب عذب. وقد جاء في حديث / العصفور: أنه يحاج عند الله قاتله، يقول له: يارب ! لم قتلنى ؛ لا هو ذبحني فأكلني، ولاهو تركني أعيش. أو تكون هذه المرأة كافرة فعذبت لكفرها، وزيدت عذابًا بسيئ أعمالها، وكان منها هذا إذ لم تكن مؤمنة فتغفر صغائرها باجتناب الكبائر .
وقوله:« بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد فيها بئرًا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، وذكر باقى الحديث وسقيه له، وقوله: " فشكر الله له فغفر له "، وقوله: « في كل كبد رطبة أجرًا »، وذكر الحديث الآخر:« أن امرأة بغيًّا رأت كلبًا قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها فغفر لها »، قال الإمام: البغي: الفاجرة وقد تقدم ذكرها. وقوله:" أدلع لسانه "، أي: أخرجه، يقال: دلع لسانه وأدلعه فدلع اللسان: أي خرج.(7/434)
قال القاضي: ويقال اندلع، ومعناه: خرج عن شفته واسترخى، وهو معنى قوله: " يلهث " أيضًا. قال الخليل: لهث الكلب عند الإعياء وعند شدة الحر، وهو دلع اللسان من العطش، يقال: لهث، بفتح الهاء وكسرها، وفي المستقبل بالفتح لا غير، والاسم: اللهث، بفتح الهاء. واللهاث، بضم اللام. والموق: الخف، فارسية معربة. ومعنى " نزعت له بموقها ": أي استقت له بيدها فيه. يقال: نزعت بالدلو ونزعت الدلو معًا، والنزوع من البئر، بفتح النون: ما يستقى باليد. وأما على الرواية الأخرى:" فنزعت موقها فاستقت به "، فمعناه: خلعته من رجلها، هذا أظهر، ويحتمل أنه بمعنى الأول، وجاء: " فاستقت له به، تكرارا وبيا نا. وشكر الله يحتمل ثوابه على فعله وجزاؤه عليه، ويحتمل ثناؤه عليه لذلك. وقيل: قبل عمله ذلك، وما تقدم أظهر.
وقوله: " في كل ذى كبد رطبة أجر ": إشارة إلى الحياة ؛ لأن من مات جف جسمه وكبده أو فنى، وهذا عام في سائر الحيوان، وأن الإحسان إلى جميعها، كن مملوكات أو غير مملوكات، طاعة لله ماجور صاحبها، مكفر لسيئاته. وبحسب ذلك العقاب على الإساءة لها والوزر. وفي هذا وجوب نفقة الإنسان على ما يملكه من ما يستحيا من الحيوان، والنهي عن إهلاكه وتضييعه. قال بعضهم: راذا كان هذا، فهذا معارض للأمر بقتلها ؛ لأن قتلها ضد الإحسان إليها، وقد تقدم الكلام على حديث قتلها / في البيوع واختلاف الناس فيه، ومن قال: إنه منسوخ بجواز أكل صيدها واتخاذها للزرع والضرع والصيد، وقال غيره: ليس الأمر بقتلها مما يضاد الإحسان إليها، وان في ذلك أجرا مالم يقتل فإذا قتلت احسنت قتلتها. ففيه إحسان إليها بخلاف تعذيبها وتجويعها وإساءة قتلتها بالعبث فيها.
****************
كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها(7/435)
قوله:« يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر، بيدى الليل والنهار »، وفي الرواية الأخرى:« يؤذيني ابن ادم، يسب الدهر »، وفي الرواية الأخرى: «فلا يقل أحدكم: يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر، أقلب ليله ونهاره، وإن شئت قبضتهما »، كذا رويناه في هذه الأحاديث من جميع الطرق في جميع المصنفات، وعلى رواية الرفع فسره أبو عبيد والشافعي وغيرهما من المتقدمين والمتأخرين. وكان محمد بن داود الأصبهاني يقول: إنما هو الدهر، بالنصب على الظرف، أي أنا مدة الدهر أقلب ليله ونهاره. وحكى هذه الرواية بالنصب أبو عمرو بن عبد البر عن بعض أهل العلم. وقال ابن النحاس: يجوز النصب، أي فإن الله باق مقيم أبدًا لا يزول. وقال بعضهم : نصبه على الخصوص، والظرف أصح وأصوب.
وفي الحديث الآخر:« لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر »، قال الإمام: أما قوله:" فإن الله هو الدهر "، فإن ذلك مجاز، والدهر إن كان عبارة عن تعاقب الليل والنهار واتصالهما سرمدًا، فمعلوم أن ذلك كله مخلوق، وأنه أخص أجزاء العالم المخلوقة، ولا يصح أن يكون المخلوق هو الخالق، وإنما المراد أنهم كانوا ينسبون الأفعال، لغير الله سبحانه وتعالى جهلاً بكونه عز وجل خالق كل شيء ويجعلون له شريكًا في الأفعال، فأنكر عليهم هذا الاعتقاد، وأراد أن الذي يثيرون إليه بأنه يفعل هذه الأفعال، هو الله جلت قدرته ليس هو الدهر، وهذا كما لو قال قائل: القاضي فلان قتل فلانًا الزاني، فيقول الآخر: الشرع قتله، لم يقتله القاضي، أو يقول: الشرع هو القاضي، وإنما يعني أنه يجب إضافة الشيء إلى ما هو الأصل فيه أو التنبيه على غلط القائل، وإرشاده لموضع الصواب ؛ إذ ظن به أنه خفي عليه.(7/436)
قال القاضي: ذكر من لا تحقيق له أن الدهر اسم من أسماء الله، وهذا جهل من قائله، وذريعة إلى مضاهاة قول الدهرية والمعطلة. والمعنى فيه ما تقدم، ويفسره الحديث الأخر نفسه بقوله:« فإني أنا الدهر، أقلب ليله ونهاره »، وهذا هو معنى ما أشار إليه المفسرون من أن فاعل ذلك في الدهر هو الله عز وجل، والدهر مدة زمان الدنيا. قال بعضهم: هو أحد مفعولات الله / تعالى، وقيل: بل هو فعله، كما قيل: أنا الموت، وكما قال تعالى:{ ولقد كنتم تمتون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه }، وإنما رأوا أسبابه وقد شبه جهلة الدهرية وكفرة المعطلة بهذا الحديث على من لا علم عنده، ولا حجة لهم فيه ؛ لأن الدهر عندهم حركات الفلك، وأمد العالم ولا شيء عندهم سواه، ولا صانع عند القائلين بقدم العالم منهم سواه، فإذا كان عندهم هو المراد بالله، فكيف يصرف الدهر؟ ويقلب الشيء نفسه، تعالى الله عن كفرهم وضلالهم.
وقوله:« يؤذينى ابن ادم »، قال الإمام: هو مجاز، والباري تعالى لا يتأذى من شيء، فيحتمل أن يريد: أن هذا عندكم إذا قاله بعضهم لبعض ؛ لأن الإنسان إذا أحب آخر لم يصح أن يسبه لعلمه أن السب يؤذيه، والمحبة تمنع من الأذى، ومن فعل ما يكرهه المحبوب، وكأنه قال: يفعل ما أنهاه عنه، وما يخالفني فيه، والمخالفة فيها أذى فيما بينكم، فيجوز فيها في حق الباري سبحانه.(7/437)
وقوله:« لا تسموا العنب الكرم، فإن الكرم الرجل المسلم »، وفي حديث آخر:« فإن الكرم قلب المؤمن »، وفي رواية أخرى:« ولكن قولوا: العنب والحبلة »، بفتح الحاء والباء ومجمكن الباء أيضًا، وهي أصل الكرمة، مجمل هذا عند أهل العلم على أنه لما حرم الخمر عليهم وكانت طباعهم تحثهم على الكرم ونفوسهم، مجبولة عليه فكره - عليه السلام - أن يسمى هذا المحرم باسم وضع لمعنى يهيج طباعهم إليه عند ذكره، وتهش نفوسهم نحوه عند سماعه، فيكون ذلك كالمحرك على الوقوع في المحرمات ؛ ولهذا احتج - عليه السلام - بقوله: «وإنما الكرم قلب المؤمن »، يعني أن الكرم حبس النفس عن شهراتها، وإمساكها عن المحرمات عليها، فهذه الحالة أحق بأن يسمى كرمًا.
قال القاضي: يقال: رجل كريم وكرام وكرم، وامرأة كرم ورجال كرم ونساء كرم، كله بمعنى كريم، وصف بالمصدر. وقال الخطابي: وتسكن الراء منه، قال الشاعر:
فتنبوا المعين عن كرم عجاف
قال الأزهري: سمى به العنب لكرمه ؛ لأنه ذل لقاطفه وليس عليه شوك يؤذي جانيه ويحمل الأصل منه ما يحمل النخلة، أو أكثر، وكل شيء كثر نفعه فقد كرم. وأصل الكرم: الكثرة والنفع، فالكريم من كثر نفعه وكثرت فضائله، ومنه: نخلة كريمة للكبيرة الحمل، وناقة كريمة: الكثيرة / اللبن، وأرض كريمة: الكثيرة النبات. وقد يسمى بالكرم الرفيع القدر ؛ لأن من كثر نفعه عظم قدره.
قوله: " لا يقل أحدكم عبدي وأمتي، كلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل: فتاي وفتاتي وغلامي وجاريتي »، و « لا يقل العبد: ربي، ولا يقل العبد لسيده: مولاي، فإن مولاكم الله، وليقل: سيدي "، وفي حديث آخر:" مولاي "، وفي حديث آخر:" ولا يقل أحدكم: اسق ربك، وضئ ربك ".
قال الإمام: قال ابن شعبان في الزاهي: لا يقل السيد: عبدي وأمتي، ولا يقل المملوك: ربي ولا ربتي، وذكر حديثًا في ذلك وهو نحو مما في كتاب مسلم.(7/438)
قال القاضي: بين في الحديث العلة في ذلك من اشتراك اللفظ بين المخلوق والخالق، وأن الربوبية إنما هي حقيقة لله تعالى، فيجب للعبد المربوب ألا يسامح بتسميته بذلك وندائه بذلك بحال.
وأصل الربوبية الملك وكل من ملك شيئًا فهو ربه، والربوبية أيضًا القيام على الشيء، يقال لمن أصلح شيئًا وقام به: قد ربه يربه، ومنه سمى الربانيون؛ لقيامهم بشرائع مللهم، لكن لا رب حقيقة ولا مالك حقيقة ولا فاعل حقيقة إلا الله تعالى، فهو رب الأرباب، ومالك كل مالك، وخالق كل شيء ورازق، وقيام السموات والأرض والقائم على كل نفس بما كسبت، وغيره مخلوق بملك مملوك غير مالك لنفسه ولا قديم، الملك لما ملك ولا يدوم له ولا يعم ملكه.(7/439)
فإن قيل: فإذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا، فما الجمع بينه وبين قوله تعالى: {اذكرني عند ربك }، و { ارجع إلى ربك }،{ إنه ربي أحسن مثواي }، وقوله - عليه السلام - في أشراط الساعة:« أن تلد الأمة ربتها »، فاعلم أن هذا مما تقدم مثله في النهي عن تسمية العشاء العتمة، ثم قد سماها - عليه السلام - عتمة في بعض الأحاديث، وأن النهي عن ذلك أن يتخذ عادة، ولا يذكر اسم سواه حتى يغشوا ويستعمل استعمال مثله في الخالق تعالى، وربما أدخل اللبس باستعمال مثله على الضعفاء بعض الزنادقة، وأصحاب الإلحاد والحلول من النصارى وأصحاب التنابيح، وغلاة الرافضة، وغلاة الباطنية ؛ من تسميهتهم بعض الناس أربابًا وادعائهم ذلك حقيقة فيهم، قال الله تعالى:{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله }، تعالى الله عن قولهم. ولم ينه نهي وجوب وحتم، بل نهي أدب وحظر، ثم خاطبهم أحيانا بما فهم عنه من صحة استعمالهم له في لغتهم وعلى غير الوجه / المذموم، ولأن ذكر النبي لما ذكر فيهم أمن فيه ما يقع من المعين إذا سمع نداءه بذلك عنده، وما يقع في نفسه من التعظيم والكبر. وأما ما ذكر عن يوسف، فيحمل إنه كان استعمالهم في ذلك الوقت في حق الملوك، والنهى إنما جاء في شرعنا.
والفرق بين الرب والسيد وإن كان قال النبي - عليه السلام - للذى قال له: أنت سيد قريش: " السيد الله " على مقابلة اللفظ، وإعطاء اللفظ حقه. وقيل: إن لفظ السيد غير مستعمل، في حق الله استعمال الرب، ولا متداول على الألسن من صفاته، ولا جاء في الكتاب ولا في حديث متواثر تسميته بذلك، وقد كره مالك الدعاء بسيدي، وإن كان الله هو السيد حقيقة.(7/440)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قال ذلك على طريق التواضع، وكراهة المدح في الوجه، وقد قال للأنصار:« قوموا لسيدكم »، يعني سعد بن معاذ، وقال:« اسمعوا ما يقول سيدكم » سعد بن عبادة. والسيد: رئيس القوم ومعظمهم ومقدمهم في الخير والفضل، والقائم بامورهم ومصالحهم. وسيد المرأة: بعلها، قال الله تعالى:{ وألفيا سيدها لدا الباب }. وسيد الدار: قيمها، وهو في حق الله تعالى بمعنى مالك الخلق ومدبرهم، فليس في قول العبد: سيدي، إشكال ؛ إذ قد يستعمله غير العبد، ولا فيه ما يدخل لبسًا ولا كبرًا ولا تشبهًا بالخالق، كما يأتي في لفظ الرب.
وكذلك مولاي، فإن المولى: الناصر، والمولى والمنعم بالعتق والمنعم عليه وابن العم والحليف، وهي لفظة منصرفة مستعملة في القرآن والحديث في هذه المعاني، فأبيح هنا ذكرها في حق العبد لسيده لكئرة استعماله في المخلوقين في معنى الولاية والقيام بالأمر والإنعام، والله تعالى مولى الذين آمنوا، ونعم المولى ونعم النصير، فهو أيضًا المولى حقيقة، والمالك يقينًا، والمنعم عموما، وناصر أوليائه خصوصًا.(7/441)
لكن جاء في كتاب مسلم من رواية وكيع وأبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة:« ولا يقل العبد لسيده: مولاي »، زاد أبو معاوية: « فإن مولاكم الله »، ولم / يذكر جرير عن الأعمش هذه اللفظة في الكتاب، وإنما نهى عن قوله:" ربى "، وذكر فيه من حديث معمر عن همام عن أبي هريرة مثله، وبينه وزاد خلاف رواية وكيع وصاحبه، وقال:« فليقل سيدي ومولاي »، وهذا - والله أعلم - أصح للاختلاف فيه عن الأعمش، كما تقدم، وكما نهى العبد عن قول هذا، كذا نهى السيد في الحديث أن يقول: عبدي وأمتي، وبين العلة في ذلك بقوله:« كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله »، فنهى عن التطاول، في اللفظ كما نهى عنه في الفعل وأمر بالتواضع ؛ إذ هو عبد مثله حقيقة فليجتنب هذه اللفظة تواضعًا واعترافًا بملك الجميع لله، فإن حقيقة ملك الحر والعبد لله، وإنما ملك بنو آدم من بني آدم بحكم علة الكفر المسلطة على المالك منافعهم وحركاتهم وتصرفاتهم لا أشخاصهم ؛ ولهذا قال أصحابنا: إذا قال الرجل لعبده: وهبتك خدمتك أو خراجك أو عملك فهي حرية له.
قوله:" وأمره - عليه السلام - بأن يقول: غلامي وفتاي وجاريتي وفتاتي "، إذ هذه ألفاظ تنطلق على الحر والعبد، وليس فيها من معنى الملك ما في عبدي، وإنما هي بمعنى الاختصاص، قال الله تعالى:{ تراود فتاها عن نفسه }، أي: عبدها،{ وقال لفتيته }، وقرئ:{ لفتيانه }، { اجعلوا بضاعتهم في رحالهم }، {وإذ قال موسى لفتاه }، ولم يكن هذا عبدًا هو يوشع بن نون صاحبه. وأصل الفتوة الشباب، وهو الفتاء، بالمد. والرجل الشاب فتى، بالقصد، وفتى أيضًا، وهي بعد الغلومية. وأصل الغلومية في بني آدم في الصغر، ينطلق عليه اسم غلام، من حين يولد إلى أن يبلغ، فينقطع عنه اسمها.
قوله:« لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي»، قال الإمام: لقست نفسي، أي غثت.(7/442)
قال القاضي: قال أبو عبيد وغيره: لقست وخبثت بمعنى، لكن كره - عليه السلام - لفظ الخبث وبشاعة الاسم، وعلمهم الأدب في المنطق واستعمال الحسن منه، وهجران القبيح. وقيل: اللقس: سوء الخلق. وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: لقست نفسي، أي ضاقت. وقال الأصمعي: معناه: غثت. قال ثعلب: وقول ابن الأعرابي أحسن ؛ لأن النفس تضيق من الأمر ولا يكون فيها غثيان. ولا يعترض على هذا بقوله - عليه السلام -:« فاصبح خبيث النفس كسلان »؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا مخبر عن غيره معين، وعن مذموم من الفعل يصلح فيه استعمال هذا اللفظ، ولو أخبر به مخبر عن نفسه من نومه عن الصلاة وعقد الشيطان على قافيته.
وفي هذه الأحاديث كلها إرشاد منه - عليه السلام - لأمته عظيم إلى أن تعرف مواضع الألفاظ المشتركة بالشيء المكروه، والتجنب عنها، وترك المبالغة والإغراق في الأوصاف، واستعمالى ألفاظ التواضع والعبودية، وترك ألفاظ التطاول والجبرية والتعظيم والكبرياء، لم اشارة إلى تجنب الذرائع كلها، لما لا يجب ولا يجوز فعله أو قوله، أو التشبه بمن يفعله أو بقوله.(7/443)
ذكر مسلم حديث الإسرائيلية القصيرة، وهو اتخاذها لذلك رجلين من خشب حتى فيت بين الطريلتين فلم تعرف، واتخاذها المسك في خاتمها وهو أطيب الطيب. إذا كانت فعلت هذه المرأة هذا لتستتر لا تتميز فحسن ذلك، وإن فعلته لتظهر نفسها بالكمال للرجال والتزين لهم فغير مباح فعلها في الشرع. وأما اتخاذها المسك في خاتمها وإشارتها به، فذلك غير مباح عندنا إذا خرجن. والطيب على النساء إذا لم يخرجن غير ممنوع. وفي الحديث: «لا تقبل صلاة المرأة تطيبت لهذا المسجد، حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة »، وفيه:« فليخرجن إذا خرجن ثقات ». وقوله - عليه السلام - في المسك " وهو أطيب الطيب »، تدل على طهارته، وجواز استعماله. والإجماع قد وقع عليه وهو العمدة فيه، غير ملتفت إلى أصله، ولا ما يولد عنه، وهو غير مخصوص من سائر. ما يشبهه من النجاسات ورطوبة الميتات وأجزائها وقد مر منه، ولم يذكر فيه خلاف إلا ما حكاه عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز ولا تصح، والمعروف من السلف إجماعهم على استعماله، واقتداؤهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.
وقوله - عليه السلام -:« من عرض عليه ريحان فلا يرده، فإنه خفيف المحمل طيب الريح »، قال صاحب العين: الريحان كل بقلة طيبة الريح. وقد يحتمل عندي أن يراد به في هذا الحديث الطيب كله، وقد جاء في الحديث مثل هذا: في من عرض عليه طيب " الحديث بنصه، وذكره أبو داود. وفي "البخاري": "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لايرد الطيب "، وفي الحديث: نهى المحرم أن يكتحل بالإثمد المروح. قالوا: معناه المطيب بالمسك، وهذا يقوي: أن المراد بالريحان الطيب، والله أعلم.
وقوله:" كان ابن عمر إذا استجمر استجمر بألوة غير مطراة، وكافور يطرحه مع الألوة، وقال: هكذا كان يستجمر رسول / الله - صلى الله عليه وسلم - "، الاستجمار هنا: البخور، مأخوذ من الجمرة.(7/444)
قال الإمام: قال الأصمعي: الألوة: العود يتبخر به، وأراها كلمة فارسية عربت. قال أبو عبيد: وفيها لغتان: الألوة، بفتح الهمزة وضمها. وحكى غيره عن الكسائي: ألية. قال. غيره: وفيه لغتان: مخفف، ومشدد، بكسر الهمزة وضمها. وفي كتاب الهروي: قال بعضهم: لوة ولية، وتجمع الألوة الألويه.
قال القاضي: وقوله: " غير مطراة ": أي غير ملطخة بخلوق أو طيب غيرها. وأصله غير مطررة، من طررت الحالط: إذا غشيته بجص أو جير وحسنته وجددته. وقد يحتمل أن يكون " مطراة" محسنة، مبالغة. وذلك من الإطراء وهو المبالغة في المدح.
وفيه جواز استعمال البخور للرجال، واستعمال الأرايج الطيبة من جميع وجوهها وأنواع الطيب، وذلك مندوب إليه في الشريعة لمن قصد به مقاصده، من امتثال أمر نبيه - عليه السلام - بذلك ليوم الجمعة، والأعياد، ومجامع الناس ؛ ليدفع عن نفسه ما يكره من الروائح، وليدخل على المؤمنين راحة ويدفع عنهم مضرة، وما يوافق الملائكة من ذلك في المساجد، ومظان حلق الذكر وغيرها، وليقوى دماغه، ويصلح خاطره، ويطيب نفسه ؛ لتأثير الطيب في تقوية هذه الأعضاء، وليعينه على ما يحتاج إليه من أمور النساء، فله في ذلك من التأثير ما لا ينكر، ولتطيب رائحته عند أهله وإخوانه المؤمنين، وتظهر مروءته ونظافته، وقد بني الإسلام على النظافة. ولا يفعل هذا فخرًا أو رباء واختيالاً بدنياه ومباهاة بوجده، فالله لا يحب كل مختال فخور.
****************
كتاب الشعر(7/445)
ذكر مسلم استنشاد النبي - صلى الله عليه وسلم - للشريد بن سويد شعر أمية بن أبي الصلت وقوله:« هيه » إلى أن أنشده مائة بيت، وقوله:« إن كاد ليسلم »؛ فيه جواز سماع أشعار الجاهلية وأخبارها، والتحدث بها وإنشادها. و " هيه " مكسورة الهاء ساكنة الياء والهاء الآخرة: كلمة استزاده، أي زد، وأصلها: إيه، فإن نونت فهو استزادة ما لا يعرف، وإن كسرت ولم ينون فهو استزادة لما يعرف وفيه أن الشعر لنفسه ليس بمنكر، وإنما المنكر منه المذموم الإكثار منه، أو مايتضمنه من الهجاء للمسلمين، وقذف / المحصنات، والتشبيب بالحرم، وذكر أوصاف الحريم وأنواع الباطل مما يهيج طباع البشر المرتكبين لذلك وتجرئهم على المعاصى.
وقد جاء من ذلك أشياء في أشعار حسان وكعب وغيرهما مما مدح به النبي - عليه السلام - في وصف الخمر والتشبب بغير معين جريًا على عادة العرب فيستخف منه القليل، ولم ير أصحابنا بمثل هذا رد شهادة الشاهد، ولا جعلوه جرحة فيه.
قال الإمام: خرَّج مسلم في هذا الباب: حدثنا زهير بن حرب وأحمد بن عبدة، جميعًا عن ابن عيية، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد أو يعقوب بن عاصم ابن الشريد، عن الشريد قال: أردفنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلفه. هكذا إسناد هذا الحديث، ووقع عند أبي العلاء: عن الشريد، عن أبيه، وهذا وهم. والشريد هو الراوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أبوه، وهو الشريد بن سويد الثقفي.
قال القاضي: الأسانيد الأخر عن عمرو بن الشريد عن ابيه تصحح الوهم في هذا السند من رواية ابن ماهان، وكان في كتاب ابن أبي جعفر فيه تخليط آخر زائد قال فيه يعقوب بن عاصم: يعني عن ابن الشريد، قال: أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. كذا كان عنده، وفيه الوهم من وجوه: منها: قوله: ابن عصام، وإنما هو ابن عاصم كما تقدم.(7/446)
ومنها: قوله: يعني عن ابن الشريد، وإنما صوابه: يعني ابن السويد ، وهو يعقوب بن عاصم بن الشريد، وإنما يروي الحديث عن أبيه الشريد. ونها: أنه ليس عنده عن أبيه وأراه إنما كان إصلاحًا من بعض الشيوخ لرواية ابن ماهان، فاصلح عن الشريد، ورد ابن لتصبح له زيادة عن أبيه، فلم يتيقن في كتاب شيخنا فزاد تخليطًا.
وقوله:" أصدق كلمة قالها شاعر "، وفي رواية: أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد:« ألا كل شيء ماخلا الله باطل ». هذا على الحقيقة. ومعنى باطل هنا: مضمحل أو فان. وأما الذي هو ضد الصحيح والصدق فلم يرده ؛ إذ لاينطلق على هذا باطل من هذه الجهة.
وقوله: بينا نحن نسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بالعرج إذ عرض له شاعر ينشد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« خذوا الشيطان، أو أمسكوا الشيطان، لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا، خير له من أن يمتلئ شعرًا»، وفي الرواية الأخرى: « لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه، خير له من أن يمتلئ شعرًا ».
قال الإمام: قال أبو عبيد: قال الأصمعي: هو من الورى على مثال الرس، وهو أن تدوى جوفه، يقال منه: رجل مورى، مشدد غير مهموز. قال أبو عبيد: هو أن يكل القيح جوفه قال صاحب الأفعال: / يقال: ورى الإنسان والبعير ورئ، دوى جوفه ووراه الروا وريًّا أفسد جوفه، وورى الكلب: سعر أشد السعار.
قال أبو عبيد: وقوله - عليه السلام -:« خير له من أن يمتلئ شعرًا »، قال بعضهم: يعني من الشعر الذي هجى به النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان شطر بيت لكان كفرًا، فكأنه إذا حمل وجه الحدبث على امتلاء القلب منه فقد رخص في القليل منه، ولكن وجهه عندي: وأن يمتلئ قلبه حتى يغلب عليه فيشغله عن القرآن وعن ذكر الله عز وجل، فيكون الغالب عليه من أي الشعر كان، فإذا كان القرآن والعلم الغالب عليه فليس جوف هذا يمتلئ من الشعر.(7/447)
قال القاضي: وقوله:« أمسكوا الشيطان »، هذا الحديث وشبيهه مما يحتج به من نهى عن الشعر ومنعه جملة، قليله وكثيره، واحتج بهذا وشبهه. وإليه ذهب الحسن ومسروق وعبد الله بن عمرو بن العاص في آخرين والكافة على خلافه، وأنة كالكلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح،كما روى عن الشافعي. وقد روينا هذا الكلام مرفوعًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أنشد النبي - عليه السلام - الشعر وتمثل به، واستنشده، وقال أصحابه، وحضهم على قوله في هجاء المشركين.
وقد روى عن الخلفاء، وأئمة الصحابة، وفضلاء السلف في استشهادهم به، لرانشادهم وتولهم الجيد منه والرقيق والمثقف في ضروب أفانينه مايغني عن جلب شاهد عليه لشهرته، وإنما المذموم الوجوه المتقدمة، وبالله التوفيق.
وقوله:« من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه »، قال الإمام: مالك ينهى عن اللعب بالنرد والشطرنج، ويرى الشطرنج شرًّا من النرد وألهى منها، وهذا الحجة حجة له، فإن كان ورد في النردشير قيست الشطرنج عليها ؛ لاشتراكهما في كونهما شاغلين عما يفيد في الدين والدنيا، موقعين في القمار أو التشاجر الحادث فيهما عند التغالب، مع كونهما غير مقتدين، وقد نبه مالك على هذا بقوله: الشطرنج ألهى، وينهى عن اللعب القليل والكثير بقمار أو غير قمار ؛ لأن القليل يوقع في الكثير، واللاعب وإن ترك القمار قد يقع في القمار، لكن رد الشهادة لايكون بركوب كل محرم أو مكروه، بأن كان لاعب الشطرنج، فأمر عليها ردت شهادته، وإن قل فعله لذلك. وقال أبوحنيفة: إن كانت محاسنه أكثر من مساوئه واجتنب الكبائر جازت شهادته / على الجملة.(7/448)
والقمار إذًا كان محرمًا، أو تحريمه مشتهرًا، أو يؤذن ركوبه لسقوط المروءة، فلا معنى لقبول الشهادة، وإن لم يقامر عليها، فمالك يشترط في رد شهادة الإدمان عليها. وفسر بعض أصحابه الإدمان بلعبها مرة في السنة، وهذا تعسف وبعيد من لفظ مالك. وراعى بعض أصحابنا في رد الشهادة بانقطاعه بلعبها عن صلاة الجماعة. وراعى بعضهم الحالة التي يقع اللعب عليها، فان أذنمت لسقوط المروءة كلعب المتصون الملحوظ بعين الجلالة مع سفلة الناس معلنا بذلك، سقطت الشهادة. وإن كان مستترًا بها ملاعبًا لأمثاله من أهل الصون في بعض الأحايين لم ترد الشهادة به.
وراعى بعض الأصوليين القصد باللعب، فإن كان لتسلية النفس وشغلها عن هموم لزمتها، أو تجويد القريحة وشحذ الذهن الكال لم تسقط الشهادة، بل يميل هؤلاء إلى الجواز على هذه الحالة. وقد حكى عن أفاضل من التابعين لعبها . وقال بعض شيوخنا : لا تثبت ذلك عنهم، وإنما يتقول ذلك أهل البطالة ليجعلوا لأنفسهم أسوة في بطالتهم.
والشطرنج لعب معروف، والنردشير جنس آخر من اللعب. وقد قال بعض العلماء : كان الأوائل لما نظروا الى أمور الدنيا فوجدوها تجرى على أسلوبين مختلفين: منها مايجرى بحكم الاتفاق، ومنها مايجرى بحكم السعى والتخيل، فوضعوا النرد مثالاً لما يجري من أمور الدنيا بحكم الاتفاق ؛ لتشعر به النفس وتتصداه، ووضعوا الشطرنج مثالاً لما يجري من أمور الدنيا بحكم السعي والاجتهاد ؛ لتشعر النفس بذلك، وتنهض الخواطر إلى عمل مثله من المطلوبات. وإنما ذكرنا هذا ليعرف منه على الجملة حقيقة اللعبين حتى تعلم من علم حكمهما حقيقتهما على الجملة إن لم يكن يعرفهما تفصيلاً.(7/449)
قال القاضي: قال بعضهم: النرد يسمى الكعاب ويسمى الإرب، والنردشير، قال صاحب العين: النرد فارسي، ويقال: إن الذي وضعها من الفلاسفة، كان على رأى أصحاب الجبر عندهم وعدم القدرة والحيلة، وأن الذي وضع الشطرنج كان على رأى أصحاب الممكن عندهم، وهم أصحاب الاكتساب والقدرة.
ومذهب الشافعي وأبي حنيفة أنه لايرد شهادة اللاعب بها إذا كان موصوفًا بالعداله في أحواله. قال أصحاب الشافعي: إلا أن يلعبها قمارًا، وكان بذلك معروفًا فتسقط بذلك شهادته، لأكله المال بالباطل، هذا مذهبه، وهو نحو قول إسحاق، وكان الشافعي يكره اللعب بالنرد والشطرنج، ويرى الشطرنج / أخف من النرد. وكان الليث، يرى الشطرنج أشد من النرد ، كما ذكر عن مالك، وأسقط بذلك شهادة اللاعب بها.
*************
كتاب الرؤيا
قول أبي سلمة: "كنت أرى الرؤيا أعرى منها، غير أني لا أزمل " معناه: أحم منها لارتياعه من ظاهره، والعرواء، ممدود: نفض الحمى. وقوله:" لا أزمل ": لا أغطى وألف كما يعمل بالمحموم. الرؤيا، مقصورة: من رؤية النوم، والرؤية، بالهاء: من رزية العين.
وقوله:« الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلمًا يكرهه فلينفث عن يساره »، وفي رواية:« فليتفل وليتعوذ بالله من شرها »، وفي رواية:« وشر الشيطان، فإنها لن تضره »، وفي رواية:« فليبصق عن يساره حين يهب من نومه ثلاث مرات »، وفي رواية:« فليتحول عن جنبه الذي كان عليه »، وفي رواية:« ولا يخبر بها إلا من يحب »، وفي بعض الطرق:« الرؤيا الصالحة من الله، والرؤيا السوء من الشيطان »، وقول أبي سعيد: إن كنت لأرى الرؤيا هي أثقل على من الجبل، فما هو إلا أن سمعت هذا الحديث فما أباليها "، الْحُلْم، بضم الحاء وسكون اللام: هو الرؤيا والفعل منه حلم بفتح اللام.(7/450)
قال الإمام: كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة لما حاولوا الوقرف على حقانق لا تعلم بالعقل، ولايقوم عليها برهان، وهم لا يصدقون بالسمع، فاضطربت لذلك مقالاتهم فمن ينتهى إلى الطلب ينسب جميع الرؤيا إلى الأخلاط، ويستدل بالمنامات على الخلط المغالب، فيقول: من غلب عليه البلغم رأى السباحة في الماء ويشبهه لمناسبة الماء في طبيعته طبيعة البلغم، ومن غلب عليه الصفراء رأى النيران والصعود في العلو، ويشبهه لمناسبة النار في الطبيعة طبيعة الصفراء ؛ ولأن خفتها وانقيادها يخيل إليه الطيران في الجو، والصعود في العلو، وهكذا يصنعون في بقية الأخلاط، وهذا مذهب، وإن جوزه العقل وأمكن عندنا أن يجرى الباري جلت قدرته العادة ؛ بأن يخلق مثل ماقالوه عند غلبة هذه الأخلاط، فإنه لم يقم عليه دليل، ولا اطردت به عادة، والقطع في موضع التجويز غلط وجهالة هذا لو نسبوا ذلك إلى الأخلاط على جهة الاعتياد، وأما إن أضافوا الفعل فإنها تقطع بخطئهم، ولا يجوز ماقالوه ؛ إذ لا فاعل إلا الله.
ولبعض أئمة الفلاسفة تخليط طويل في هذا، وكانه يرى أن صور ما يجري في الأرض في العالم العلوى كالمنقوش، وكأنه يدور بدوران الآخر، فما حاذى البعض المنقوش منه انتقش فيها، وهذا أوضح فسادًا / من الأول، مع كونه تحكمًا بما لم يقع عليه برهان، والانتقاش من صفات الأجسام، وكثيرا مايجري في العالم الأعراض، والأعراض لاتنتقش ولايتنقش فيها.(7/451)
والمذهب الصحيح ماعليه أهل السنة، وأن الله سبحانه يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان، وهو تبارك اسمه يفعل مايشاء ولا يمنعه من فعله نوم ولايقظة، فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه سبحانه جعلها علما على أمور أخر، يخلقها الله في ثاني حال، أو كان قد خلقها. فإذا خلق في قلب النائم اعتقاد الطيران وليس بطائر فقصارى ما فيه أنه اعتقد امرا على خلاف ماهو عليه، وكم في اليقظة ممن يعتقد أمرًا خلاف ماهو عليه، فيكون ذلك الاعتقاد علما على غيره،كما يكون خلق الله سبحانه الغيم علمًا على المطر، والجميع خلق الله سبحانه ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي جعلها علمًا على مايسر بحضرة أو بغير حضرة الشيطان، ويخلق ضدها مما هو علم على مايضر بحضرة الشيطان، فينسب إليه مجازًا واتساعًا. وهذا المعنى بقوله - صلى الله عليه وسلم -:« الرؤيا من الله، الحلم من الشيطان »، لا على أن الشيطان يفعل شيئًا في غيره، وتكون الرؤيا اسمًا لما يحب، والحلم لما يكره.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -:« فإنها لن تضره »، فقيل: معناه: أن الروع يذهب هذا التعب المذكور في الحديث، إذا كان فاعله مصدقًا به، متكلاً على الله جلت قدرته في دفع المكروه عنه.
وقيل: يحتمل أن يريد أن هذا الفعل منه يمنع من نفوذ مادل عليه المنام من المكروه، ويكون ذلك سببا فيه، كما تكون الصدقة تدفع البلاء، إلى غير ذلك من النظائر المذكورة عند أهل الشريعة.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -:« لاتخبر بها إلا من تحب »، فيحتمل عندى أن يكون حذرًا من أن يغيرها له من يبغضه على الصفة المكروهة فيحزنه ذلك، أو يتفق وقوعها على ماعبر. ويكون وصفها بأنها حسنة بمعنى حسنها فى الظاهر. وأهل العبارة يقولون فى تقاسيمهم: فى المنامات ماهو حسن فى الظاهر مكرره فى الباطن، ومنها عكسه، إلى بقية الأقسام التي يعدونها.(7/452)
وأما قول أبى سلمة:" إنى لأرى الرؤية أعرى منها ولا أزمل "، فلم أقف على تفسيره عند أهل الغريب، غير أن صاحب الأفعال قال: عرى الرجل عرية وعروة: صار عريانا. والليلة اشتد بردها فهي عرية، وعروتك عروًا: نزلت بك، والأمر نزل به، والحمى لذعته وهي عرواء، فيحتمل أن يكون أراد: أرعدته الحمى، أو اشتد برده فزعًا مما أرى، إن لم يكن من التعري. وأما " أزمل "، فالمعروف أن الزمل التدثر.
قال القاضى: وقيل فى معناه:" الرؤيا الصالحة من الله "، وهو معنى الرواية الأخرى التى ليس فيها لفظ / الصالحة " إضافة اختصاص وإكرام ؛ لسلامتها من الأضغاث، وهو التخليط وجمع الأشياء المتضادة، كضغث الحشيش وشبهه، وطهاوتها عن حضور الشيطان وإفساده لها، وهذا مثل قوله تعالى:{ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان }، والكل من عنده. كما أن الرؤيا كلها مما حضره الشيطان أولم يحضره من خلق الله وقدرته، فخص ما طهر من الشيطان وسلم من تخليطه بالإضافة إلى الله ؛ تكريمًا وتشريفًا وتخصيصًا.
وإضافة الأخرى إلى الشيطان عند بعضهم لأنها مكروهة مخلوقه على طبعه، من التحزين والكراهة التى خلق فيها. قد تقدم غير هذا التأويل فيها، وقيل: لأنها توافق الشيطان ثم تسير ويستحسنها لما فيها قد يشغل بال المسلم واستضراره منها.(7/453)
قال بعضهم: وإن كان التحزين غالبا من الشيطان فقد يكون أيضًا نادرًا في الرؤيا الصحيحة إنذارًا من الله وعناية بعبده ؛ لئلا يفجئه ماقدر عليه بغتة، وليكون فيه على حذر وأهبة، كما أن الرؤيا الصالحة والحسنة من الصالحين، هذا أيضًا على الغالب، وقد يكون في رؤياهم أضغاث ولكن على معبيل الندور بضد الأولى لعوارض تقتضي ذلك - والله أعلم - من وسوسة النفس وحديثهما، أو غلبة خلط عليه، أو فساد ذكرها أحيانًا وتخييلها وفكرها. ويحتمل قوله: " الحسنة، والصالحة "، أن يكون راجعًا إلى حسن ظاهرها، ويحتمل أن يرجع إلى صحتها، كما أن قوله في الأخرى:" الرؤية السوء " يحتمل الوجهين ؛ سوء الظاهر، أو سوء التأويل. وفي أمره بنفثه وبصقه ثلاثًا: طرد للشيطان الذي حضر رؤياه المكروهة، واستقذاره لها، كما يبصق على مايستقذر ويكره، كما أمر بذلك عند التثاؤب. وكون ذلك في يساره ؛ لأن اليسار أبدا جهة الشيطان وجهة المزام والأقذار، والجهة المشؤومة بضد اليمين، والعرب تسميها الشؤما.
وقوله: " فليبصق، وليتفل، ولينفث، على اختلاف الأحاديث، كله بمعنى، وقد تقدم الكلام على ذلك، ومن فرق بين التفل والنفث، ومن جعلهما بمعنى في كتاب الصلاة، وفي كتاب الطب. وأمره بتحويله عن جنبه: تفاؤلاً بتحويل حالها، وظاهر مكروه تأويلها، وأنها لاتضره، وهذا يصحح أحد التأويلين في قوله: " لاتضره " أنه عائد، إلى صرف سوء تأويلها ودفع الله بما فعل عنه مكروهها.
وأما قوله:" ولاتخبر بها أحدًا " فما فائدة كتمانها ؛ فقيل: إن ذلك مخافة تعجيل اشتغال السوء بمكروه تفسيرها إن وافق ظاهرها باطنها، والتعذيب به مدة لا يدري قربها من بعدها، فقد تخرج الرؤيا بعد طول السنين، وإذا لم يخبر بها وفعل ما أمر به من النفث / والاستعاذة، كان دواء مكروهها وخروجها عن ذلك على أحد التأولين، وعلى التأويل الآخر: أن ذلك إنما يريك روعتها وتحزنه بها.(7/454)
وإذا لم يذكرها لأحد ولم يفصل له تفسيرها بقي بين الطمع والرجاء من أنه أهل لها تفسيرًا حسنًا، أو أنها من أضغاث الأحلام أو حديث النفس، فكان أسكن لنفسه وأقل لتعذيب قلبه.
واختلف المتكلمون في النائم المستغرق في النوم جميع أجزاء قلبه، فقيل: لا يصح ضرب المثل لمثل هذا ولا رؤياه ؛ لأن ضرب المثل إنما يرجع إلى الاعتقاد ووجوده بالمضروب، وهذا لا يصح من المستغرق، ولايحضر هذا ملك ولا شيطان. ورأى من قال هذا أن النوم آفة، يخرج الحى عن صفات التميز والظنون والتخيل والاعتقادات، كما يخرجه عن صفة العلم. ولم يرض آخرون هذا المذهب، وقالوا: إن النائم يصح مع استغراق أجزاء قلبه ألا يمتنع ألا يكون ظانا ومتخيلاً، واتفقوا على أنه لايصح أن يكون عالما، وذهب هذا وإن النوم آفة يمنع حصول الاعتقادات الصحيحة في اليقظة دون مافى المنام.
والصحيح عند المحققين من شيوخنا المتكلمين القول الأول، وأن الظنون والخيالات والاعتقادات جنس واحد مضادة للعلوم، وأنه لايصح منه اعتقاد إلا أن يكون بعض أجزاء قلبه ولانوم به فيه يرى ويضرب له المثل، ولا يلزم ما ألزمهم الآخرون أنه إذا كان كذلك فهو إذا مكلف، مخاطعت، وقد أسقط عنه الشرع ذلك ؛ لأن هذا ليس بحقيقة وجود العلم وصحة الميز، وإنما بقيت عندهم فيه عند الرؤيا بقية حياة وميز بضرب المثل لابحقيقة الأشياء، بدليل مشاهدته وحاله.
وقوله:« إذا اقترب الزمان لم يكن رؤيا المؤمن كذب »، قال الإمام: اختلف الناس في معناه، قال بعضهم: المراد به: إذا اقترب من اعتدال الكتاب والنهايعان، فإن الرؤيا حينئذ لم تكن تكذب، وبهذا فسره أبو داود.
وقال بعضهم: بل المراد به آخر الزمان والهرب من القيامة.(7/455)
قال القاضي: أهل العبادة والمفسرون لها يزعمون: أن أحسن الأزمان وأصدقها للعبارة حيث انفتاق الأزهار ووقت بيع الثمار، وهذان الوقتان هما وقت تقارب الزمان واعتدال الليل والنهار، وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث بلفظ آخر من رواية معمر عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:« في آخر الزمان لا تكذب رؤيا المؤمن »، وهذا يفسر الحديث، وأنه بمعنى التأويل الآخر، والله أعلم .
وقال ابن سيرين في آخر الحديث الأول في كتاب البخاري : وأنا أقول في هذه الأمة، يشير إلى عموم صدق /الرؤيا في هذه الأمة، وأن صدقها لايختص بصالح من طالح وهو بين ؛ إذ غالب رؤيا الصالح في كل حين الصدق على ماتقدم، دون اشتراط تقارب الزمان.
وقوله:« أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا »، قال بعضهم: وإنما كان ذلك - والله أعلم - لانقطاع العلم آخر الزمان، ودروس معالم الديانة، وموت العلماء والصالحين والزاجرين، والناهين عن المنكر، كما أنذر - عليه السلام - به، فجعل الله لهم صدق الرؤيا زاجرًا لهم وحجة عليهم وبينها لهم.
وقوله: " أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا، فهذا أيضًا بين ؛ لأن غير الصادق في حديثه يعترى الخلل في رزياه لوجهن:
أحدهما: أن اعتقاده وتحديثه نفسه قد يجرى في نومه على عادته من الكذب والتساهل، فيكذب رؤياه.
والثانى: عند إخباره بما راه قد يتسامح في العبارة عما رآه، ويحقر العظيم، أو يعظم الحقير، ويميل مع هوى نفسه إلى التساهل فيما يحكيه عنها أو عن غيرها من رؤياه لما يوافق ذلك، والله أعلم.(7/456)
وقوله:« رؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءًا من النبوة »، وفي رواية أخرى:« من ستة وأربعين »، وفي رواية أخرى:« رؤيا المؤمن »، وفي أخرى:« المسلم »، وفي أخرى:« الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة »، فخص هنا رؤيا المؤمن وعم في الأولى، وزاد في أخرى:« يراها أو ترى له »، وفي حديث آخر:« الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءًا من النبوة»، وفي غير مسلم عن ابن عباس:« جزء من أربعين»، وعن عبد الله بن عمرو:« من تسعة وأربعين »، وفي حديث العباس:« من خمسين »، وفي حديث أنس:« من ستة وعشرين »، وعن عباده بن الصامت:« من أربعة وأربعين »، والأكثر من ذلك والأصح عند أهل الحديث:« من ستة وأربعين».
قال الإمام: أما قوله:«" رؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة »، فإنه مما قال بعض الناس فيه: أنه - صلى الله عليه وسلم - أقام يوحى إليه ثلاثة وعشرين عامًا، عشرة بالمدينة وثلاثة عشر بمكة، وكان قبل ذلك بستة أشهر يرى في المنام مايلقيه إليه الملك - عليهما السلام - وذلك نصف سنة من ثلاثة وعشرين سنة جزءًا من ستة وأربعين جزءًا. وقد قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خص دون الخليفة بضروب وفنون، وجعل له إلى العلم طرق لم تجعل لغيره، فيكون المراد: أن المنامات نسبتها مما حصل له وميز به جزء من ستة وأربعين، فلا يبقى على هذا إلا أن يقال: بينوا هذه الأجزاء. ولا يلزم العلماء أن تعرف كل شيء جملة وتفصيلاً، وقد جعل الله سبحانه للعلماء/ حدًّا تقف عنده، فمنها ما لا تعلمه أصلاً، ومنها ماتعلمه جملة ولا تعلمه تفصيلاً وهذا منه، ومنها ماتعلمه جملة وتفصيلاً، لاسيما ماطريقه السمع، ولا مدخل للعقل فيه، فإنما يعرف منه قريبًا عرف به السمع.(7/457)
وقد مال بعض شيوخنا إلى هذا الجواب الثاني، وقدح في الأول ؛ لأنه لم يثبت أن أمد رؤياه - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة كانت ستة أشهر ومائة بعد الهجرة رأى منامات كثيرة، فيجب أن يلعق فيها مايضاف إلى الستة أشهر، فيتعين الحساب وتفسد النسبة، ولا وجه عندي لاعتراضه بما كان من المنامات خلال زمن الوحي ؛ لأن الأشياء توصف بما يغلب عليها وينسب إلى الأكثر منها، فلما كان الستة أشهر محضًا في المنامات والثلاثة وعشرون سنة جاها وحي، وإنما فيه منامات شيء يسير يعد عذا،صح أن يطرح الأقل في حكم النسبة والحساب. ويحتمل عندي أن يراد بالحديث وجه آخر، وهو أن يمره المنامات الخبر لا البر وإن كان جميع ذلك إنذار وتبشير، والأخبار بالغيب أحد ثمرات النبوة وأحد فوائدها، وهو في جنب فوائد النبوة والمقصود بها يسير ؛ لأنه يصح أن يبعث نبي ليشرع الشرائع، ويبين الأحكام، ولايخبر بغيب أبدًا، ولا يكون ذلك قادحًا في نبوته، ولا مبطلاً للمقصود منها. وهذا الجزء من النبوة - وهو الإخبار بالغيب - إذا وقع فلا يكون إلا صدقًا ولا يقع إلا حقًا.
والرؤيا بما دلت على شيء ولم يقع مادلت عليه، إما لكونها من الشيطان، أو من حديث النفس، أو من غلط العابر في أصل العبارة، إلى غير ذلك من الضروب الكثيرة التي توجب عدم الثقه بدلالة المنام. فقد صار الخبر بالغيب أحد ثمرات النبوة وهو غير مقصود فيها، ولكنه لايقع إلا حقا وثمرة المنام الإخبار بالغيب، ولكنه قد لايقع صدقًا فتقدر النسبة في هذا بقدر ما قدره الشرع بهذا العدد، على حسب ما أطلعه الله تعالى عليه، ولأنه يعلم من حقائق نبوته مالا نعلمه نحن. وهذا الجواب وان كان فيه ملاحظة لما قدمناه من الجواب الثاني عن بعض أهل العلم، فانهم لم يكشفوه لهذا، ولا بسطوه هذا البسط .(7/458)
وأما اختلاف الروايات في هذا القدر، ففي كتاب مسلم:" خمسة "، وفيه:" ستة "، وفيه:« جزء من سبعين جزءًا من النبوة ». وقد أشار الطبري إلى أن هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف حال الرائي، فالمؤمن الصالح تكون نسبة رؤياه من ستة وأربعين، والفاسق سبعين ؛ ولهذا لم يشترط في رواية السبعين في وصف الرائي ما اشترط في وصف الرائي في الحديث المذكور فيه ستة وأربعين، فقد قال في بعض طرق مسلم:« رؤيا الرجل الصالح جزء من / ستة وأربعين جزءًا من النبوة »،لم ان كان قد أطلق في بعض طرقه فقال: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين »، وقال في السبعين:« الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءًا من النبوة »، ولم يشترط كون الرائي صالحًا.
وقد يحمل مطلق قول الرؤيا الصالحة جزءًا من ستة وأربعين على أن المراد به إذا كان من رجل صالح، بدليل الحديث الآخر.
وقد قيل: إن المنامات دلالات، والدلالات منها خفى ومنها حكي، فيما ذكر فيه السبعون أريد به أنه الخفي منها، وما ذكر فيه الستة وأربعون أريد به الجلي منها.(7/459)
قال القاضي: قد قيل في تنزيل هذه الأحاديث ماتقدم، وقد قيل: إن المراد بها انها خصلة من خصال النبوة، وخصلة من خصائصها،كما قال في الحديث الآخر:" القصد والتؤدة وحسن السمت جزء من خمسة وعشرين من النبوه »، وقد جاء هذا الحديث بألفاظ مختلفة وزيادات، واختلاف في الأجزاء. فيحتمل أن حصر هذه الخصال إلى هذا العدد المذكور مراده، ويحتمل أنه مرة يأتي بها على إجمال النوع الواحد منها، كما جعل القصد والتؤدة وحسن السمت في هذا الحديث جزءًا فيكون أقسامها على عددها على هذا الترتيب، فإذا فصلت احاد أنواعها انقسمت على أكثر من ذلك وبلغت الخمسين والسبعين، بحسب الإلتفات إلى آحادها، وليس في حديث منها أنه ليس للنبوة خصال وخصائص سوى أحد هذه الأعداد حتى يحمل على التخالف والتناقض، وإنما أخبر أن هذا الشيء واحد من عدد خصائصها وترك ممام العدد، واحصاء ذلك مرة ومرة ثصد تمام عدده واحصائه، والله أعلم.(7/460)
وقد يكون جزءًا من أربعين أو دونها على ماجاء فيمن كان من أهل إسباغ الوضوء في السبرات والصبر على المكروهات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. ومن كان حاله بخلاف ذلك فبحسبها تكون رؤياه من الأربعين إلى السبعين لاينقص من الأربعين ولايزاد في السبعين، وقيل: قد يحتمل أن تكون هذه التجزئة من طرق الوحي، ومنه ماسمع من الله دون واسطة، كما قال {من وراء حجاب }، ومنه بواسطة الملك، كما قال:{ أو يرسل رسولاً}، ومنه ما يلقيه في القلب كما قال:{ وحيًا }، ثم منه مايأتيه به الملك على صورته، ومنه مايأتيه به على صورة الآدمي، وقد يعرفه كما جاء في غير حديث، ومنه مايتلقاه منه وهو لايعرفه حتى يعرفه آخر كحديث:« ردوا علي الرجل »، ومنه ما يأتيه به في منامه بحقيقة كقوله:« الرجل مطبوب »، ومنه ما ما يأتيه به بالمثال، وأحيانًا يسمع الصوت ويرى الضوء، وأحيانًا يغط ويأخذه به في الرحضاء، ومنه ما يأتيه كصلصلة الجزيئين، ومنه ما يلقيه روح القدس ؛ إلى غير ذلك مما وقفنا عليه ومما لم نقف عليه.
فنقول: الرؤيا التي هي / بضرب المثل جزء من ذلك العدد من أجزاء الوحي، والله أعلم. وبالجملة في هذا كله صحة أمر الرؤيا وتعظيم شأنها وعلمها، وأنها جزء من النبوة، وخاصية من خصائصها، وكانت حقيقة من أجزاء النبوة لما فيها من الإعلام الذي هو معنى النبوة على أحد الوجهين.
وقد قال كثير من العلماء: إن للرؤيا ملكًا وكل بها يرى الرائي من ذلك مافيه تنبيه على مايكون له، أو يقدر عليه من خير أو شر، وهذا من معنى النبوة ؛ لأن لفظ النبي قد يكون فعيلا بمعنى مفعول كجريح بمعنى مجروح أي يعلمه الله ورسله أنه نبي ويطلعه من غيبه في منامه على ما لا يظهر عليه أحدا إلا من ارتضى من رسول، وقد يكون معنى نبي: فعيل بمعنى فاعل، كعليم، أي يعلم غيره بما أوحى إليه، وهذا أيضًا صورة صاحب الرؤيا.(7/461)
وقوله:« والرؤيا ثلاث، فالرؤية الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء به نفسه، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل »، الحديث: قد تقدم هذا المعنى، وذكره هنا الصلاة لما فيها من التضرع والمناجاة ومراغمة الشيطان بالقطع به عن الرجوع إلى النوم ليعيد عليه التحزين، ويقطع عنه وسواسه وما يحدث به المرء نفسه.
وهذه الأقسام من الرؤيا لا رابع لها ؛ لأن مايكون من الأخلاط من باب مايحدث به المرء نفسه، لأن غلبة حديث المرء عليه في يقظته تعتريه في نومه حتى يسمعه يتكلم به، وقد يعتريه عند شدة مرضه وبرسامة إغمائه حتى في صحته عند اشتغال سره، يتكلم بشيء مع غيره فنقلت اللفظ ويغير الخطاب ببعض الكلمات والأسماء التي يحدث بها المرء نفسه. وكذلك غلبة الخلط عليه هو من هذا الباب. والصادقة من هذه الأقسام الثلاثة التي لا أضغاث فيها هو ماهو بشرى من الله، وكذلك ماكان إنذارا منه فيما يخشى، فهو كله عناية من الله بعبده وتقدمة له لما يصيبه من خير يفرح به ويستعد له، أو شر فيتوقاه، ويكون على أهبة له ثم هي على ضربين: منه مايخرج على وجهه كما رآه، وفه مايحتاج إلى تأويل، والوجهان الآخران هما اللذان يدخلهما الأضغاث وباطل الرؤيا.
وقوله:« من رأى رؤيا حسنة فليقص »، له الرواه بالباء، وعند العذري:" فلينشر " بالنون، وهو تصحيف، إنما هو من البشارة. بشرت الرجل مخففا أبشره بالضم، ويبشر به أيضًا مشددا، وأبشره هو وبشر من البشرى.(7/462)
وقوله:« وأحب القيد، وأكره الغل والقيد ثبات في الدين »، فلا أدري هو في الحديث أم قاله ابن سيرين. كذا ذكره مسلم في حديث الثقفي عن أيوب السختياني، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، وذكر في حديث معمر عنه قال أبو هريرة:« فيعجبني القيد، وأكره الغل »، الحديث، وكذلك ذكر الحديث / كله من رواية حماد بن زيد عن أيوب وهشام من قول أبي هريرة، ولم يذكر فيه النبي، وذكره من رواية قتادة عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: وأخرج قوله:" وأكره الغل " إلى تمام الكلام، ومعناه: أدخله متصلاً بكلام النبي - عليه السلام - وهذا النوع يسميه أهل الحديث المدرج جاء هذا الحديث في القيد والغل مجملاً، وأحب القيد لأنه في الرجلين، فهو كف في العبارة عن المعاصي والشر ومخالفة الدين، والغل إنما هو في العنق، وقد وصف الله به أهل النار فقال:{ في الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون }، فهو مذموم لهذا، لكن أهل علم العبارة تركوا هاتين المسم لتين نوازل بحسب قراءتها وأحوالها.
فإذا كان القيد في الرجلين وصاحبه في مسجد أو مشهد خير أو على حالة حسنة وفعل جميل فسره بثباته فيه،كذلك ولو رآه ذو أمر أو سلطان لدله على ثباته فيه أيضًا، وبضد ذلك فلو رآه مريض أو مسجون أو مسافر أو مكروه فهو ثباته فيه، وكذلك لو قارنه مايكره في العبارة،مثل أن يكون القيد مع الغل غلب فيه المكروه ؛ لأنها من صفات المسخوط عليهم والمعذبين، ولمعاضدة الصورة الواحدة الثابتة ظاهرًا ومعنى.
وأما الغل فمذموم مكروه لما ذكرناه، وذلك إذا كان في العنق وربما دل على الكفر والبدعة وشهادة الزور، أو حكم بجرر وعلى المرأة السوء، لقرله - عليه السلام -:« غل قمل، وليقيد ذلك في الأعناق »، وقد يدل على الولاية إذا كانت معهما قرائن ولما جاء:« أن كل وال يحشر مغلولاً حتى يطلقه عدله».(7/463)
وإن كانت المغلولة اليدان دون العنق كان عندهم حسنًا، ودل على كف اليدين عن الشر، وربما دل على بخل البخيل، ومنعه لقول اليهود:{ يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا }، ويدل على المنع والحبس عما يهم به الإنسان من أمر وتنويه في يقظته.
قوله:« من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي »، وفي رواية:« فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي »، وفي الحديث الآخر: « فقد رأى الحق ».
قال الإمام: اختلف المحققون في تأويل هذا الحديث، فذهب القاضي أبو بكر بن الطيب رحمه الله إلى أن المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -:« من رآني في المنام فقد رآني »؛ أنه رأى الحق، وأن رؤياه لاتكون أضغاثًا، ولا من تشبهات الشيطان، ويعضد ما قاله بقوله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الطرق:« من رآني فقد رأى الحق »، إن كان المراد به ما أريد بالحديث الأول في المنام.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« فان الشيطان لايتمثل بي »، إشارة إلى أن المراد أن رؤياه لاتكون أضغاثًا له إنما تكون حقًّا، وقد يراه الرائي على غير صفته المنقولة إلينا، كما لو راه شيخا أبيض اللحية، أو على خلاف لونه، أو يراه رؤيتين في زمان واحد، أحدهما بالمشرق والآخر / بالمغرب، ويراه كل واحدمنهما معه في مكانه.(7/464)
وقال آخرون: بل الحديث محمول على ظاهره، والمراد: أن من راه فقد ادركه - صلى الله عليه وسلم -. ولامانع يمنع من ذلك، ولا عقل يحيله حتى يضطر إلى صرف الكلام عن ظاهره. وأما الاعتلال بأنه قد يرى على خلاف صفته المعروفة وفي مكانين مختلفين معًا، فإن ذلك غلط في صفاته، ويخيل لها على غير ما هي عليه. وقد يظن بعض الخيالات مرئيات، لكون مايتخيل مرتبطًا بما يرى في العادة، فتكون ذاته - صلى الله عليه وسلم - مرئية وصفاته مختلفة غير مرئية، والإدراك لايشترط فيه تحديق الأبصار ولا قرب المسافات، لا يكون المرئى مدفونًا في الأرض ولاظاهرًا عليها، وإنما يشترط كونه موجودًا. ولم يقم دليل على فناء جسمه - صلى الله عليه وسلم -، بل جاء في بعض الأخبار ما يدل على بقياه صلوات الله عليه، ويكون اختلاف الصفات المتخيلة ثمرتها اختلاف الصفات المتخيلة الدلالات. وقد ذكر الكرماني في باب رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: وقد جاء في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا رؤى شيخًا فهو عام سلم، وإذا رؤى شابًا فهو عام حرب. وكذلك أحد جوابهم عنه - صلى الله عليه وسلم -، لو رؤى آمرًا بقتل من لا يحل قتله، فإن ذلك من الصفات المستحيلة له لا المرئية. وجوابهم الثاني: منع وقوع مثل هذا، ولا وجه عندي لمنعهم إياه مع قولهم في تخيل الصفات، فهذا انفصال، هؤلاء عما احتج به القاضي. وللمسالة تعلق بغامض الكلام في الإدراكات وحقائق متعلقاتها، وبسطه خارج عن طريقة هذا الكتاب.
قال القاضي: يحتمل معنى قوله:« فقد رآني » و « فقد رأى الحق »، فإن الشيطان لايتمثل بي »، إذا رؤى على الصفة التي كان عليها في حياته لا على صفة مضادة لحاله، فإن رزى على غيرها كانت رؤيا تأويل لا رؤيا حقيقة، فان حمن الرزيا مايخرج على وجهه، ومنها مايحتاج إلى تأويل وعبارة.(7/465)
قال بعضهم: خص الله نبيه بعموم صدق رؤياه كلها، ومنع الشيطان أن يتمثل في صورته ؛ لئلا يتذرع بالكذب على لسانه في النوم،?ولما خرق الله العادة للأنبياء دليلاً على صحة حالهم في اليقظة، واستحالة تصور الشيطان على صورته في اليقظة ولا على صفة مضادة لحاله ؛ إذ لو كان ذلك لدخل اللبس بين الحق والباطل، ولم يوثق بما جاء من جهه النبوة مخافة هذا التصور، فحمى الله حماها لذلك من الشيطان وتصوره ونزغه وإلقائه وكيده على الأنبياء، وكذلك حمى رؤياهم أنفسهم ورؤيا غير انبى للنبي عن تمثيل الشيطان بذلك لتصح رؤياه في الوجهين، ويكون طريقًا إلى علم صحيح لا ريب فيه.
ولم يختلف العلماء في جواز صحة رؤية الله في المنام، وإذا رئي على صفة لا تليق بجلاله من / صفات الأجسام للتحقيق أن ذات المرئي غير ذات الله ؛ إذ لايجوز عليه التجسيم ولا اختلاف في الحالات، بخلاف رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم، فكانت رؤيته تعالى في النوم من أنواع الرؤيا من التمثيل والتخيل . قال القاضي أبو بكر: رؤية الله تعالى في النوم أوهام وخواطر في القلب بامثال لا تليق به بالحقيقة، ويتعالى سبحانه عنها، وهي دلالات الرائي على أمور مما كان أو يكون كسائرالمرئيات. قال غيره من أهل هذا الشأن: وإذا قام الدليل، للعابد في رؤية الباري أنه هو المرئي لا تأويل له يغره كانت حقًّا صدقًا لا كذب فيها، لا في قول ولا فعل.
قال الإمام: وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -:« من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، أو كأنه رآني في اليقظة »، فإن كان المحفوظ:« كأنما رآني في اليقظة »، فتأويله مأخوذ مما تقدم، وإن كان المحفوظ:« فسيراني في اليقظة »، فيحتمل أنه يريد أهل عصره ممن لم يهاجر إليه - صلى الله عليه وسلم -، فإنه إذا راه في المنام فسيراه في اليقظة، ويكون الباري جعل رؤية المنام علما على رؤية اليقظة، فأوحى بذلك إليه - صلى الله عليه وسلم -.(7/466)
قال القاضي: وقيل: معناه: يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها. وأبعد بعضهم أن يكون معناه: سيراني في اليقظة، أي: في الآخرة، إذ يراه في الآخرة جميع أمته، من رآه ومن لم يره.
قال القاضي: ولايبعد عندي أنه محتمل لهذا، وأن تكون رؤياه له في النوم على الصفة التي عرف بها ووصف عليها موجبة لكرامته في الآخرة، رؤيته إياه رؤية خاصة في القرب منه أو الشفاعة فيه، ونحو هذا من خصوصية الرؤية. وقد قيل في قوله - عليه السلام - في المسلم والكافر:« لا تراءى ناراهما »، أي لا يجتمعان في الآخرة، ويبعد كل واحد منهما من صاحبه. وفيه تأويلات معروفة، ولا يبعد أن يعاقب الله بعض المذنبين في القيامة بمنعه رؤية محمد نبيه وشفيعه مدة.
وقوله للأعرابي الذي جاءه فقال: إنى حلمت أن رأسي قطع فأنا أتبعه فزجره، وفي رواية: فتدحرج فاشتددت على أثره، وقال:« لاتخبر بتلعب الشيطان بك في المنام »، قال الإمام: يحتمل أن يكون - عليه السلام - علم أن منامه هذا من الأضغاث بوحي أوحي إليه، أو دلالة في المنام دلته على ذلك، أو على أنه من المكروه الذي هو تحزين الشيطان. وحكى عن بعض العابدين أنه قال: يمكن أن يكون اختصر من المنام، أو سقط عن بعض الرواة منه مالو ذكر لدل على أنه من الأضغاث.(7/467)
وأما العابدون فيتكلمون في كتبهم على قطع الرأس، ويجعلونه على الجملة دلالة على مفارقة / ما فيه الرائي من النعم، ويفارق من هو موته، ويزول سلطانه، وغير حاله في جميع أموره، إلا أن يكون عبدًا فتدل على عتقه، أو مريضًا فعلى شفائه، أو مديانًا فعلى قضاء دينه، أو ضرورة فعلى حجة، أو مغمومًا فعلى فرجه، أو خائفًا فعلى أمنه. وينظرون أيضًا في اتساع هذا له ويصرفون دلالة ذلك فيما مضى مماذكرناه عنهم، وفي غيره مما لم يذكره حتى يخلص لهم معنى مما قلناه، أو معنى آخر يقتضيه دلالة الحال، وهذا مصروف للعابدين، وإنما ذكرنا دلالة قطع الرأس على الجملة لا الحكم بغير هذا المنام بعينه. وقد ذكر ابن قتيبة في كتابه كتاب "الأصول لعبارة الرؤيا ": أن رجلاً قال: يا رسول الله ! رأيت فيما يرى النائم كأن رأسي قطع، فجعلت أنظر إليه بإحدى عيني، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال:« بأيهما كنت تنظر إليه ؟» فلبث ماشاء الله، ثم قبض النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعبر الناس أن الرأس كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنظر إليه كان اتباع السنة.(7/468)
قوله: يارسول الله ! إني كنت أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها بأيديهم، فالمستكثر والمقل، وأرى سببًا واصلاً من السماء إلى الأرض، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر من بعدك فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به ثم وصل له فعلاً. قال أبو بكر - رضي الله عنه -: يارسول الله ! بأبي أنت وأمي، والله لتدعني فلأعبرنها. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« اعبرها »، قال أبو بكر: يارسول الله ! أما الظلة فظلة الإسلام، وأما الذي ينطف من السمن والعسل فالقرآن، حلاوته ولينه، وأما مايتكفف الناس من ذلك فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به رجل من بعدك، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يارسول الله بأبي أنت ؛ أصبت أم أخطأت ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -:«أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا »، قال: فوالله يارسول الله، لتحدثني بالذى أخطأت، قال:« لاتقسم »، قال الإمام: اختلف الناس في قوله - صلى الله عليه وسلم -:« أصبت بعضًا، واخطأت بعضًا »، فقال بعضهم: المراد بأنه أصاب عبرها، وأخطأ في تقدمه بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعبر المنام وهو - صلى الله عليه وسلم - حاضر. ورد بعض العلماء هذا التأويل بأن قالوا: قد أذن - صلى الله عليه وسلم - له في ذلك وقال له:« اعبرها »، فلا ملام عليه في التقدم. وقال / آخرون: إنما وقع الخطأ عليه في أمر أغفله وأضرب عن تفسيره، فصار كأنه قصر في العبارة لا على أنه قال قولاً أخطأ فيه.(7/469)
واختلف أصحاب هذه الطريقة على قولين فيما إذا أغفل، فقال بعضهم: ذكر الرائي أنه رأى ظلة تنطف السمن والعسل، فعبر الصديق - رضي الله عنه - ذلك بالقرآن حلاوته ولينه، وذلك عبر العسل ولم يعبر السمن، وأغفل ذكره، قالوا: وقد يكون العسل كناية عن القرآن، والسمن كناية عن السنة، فكأنه كان من حقه أن يقول: أما الذي ينطف فالقرآن وماسننت أنت من السنين. وإلى هذا التأويل أشار الطحاوي.
وقال بعضهم: فإن المنام يدل على خلع عثمان ؛ لأنه ذكر أنه أخذ بالبسبب فانقطع به، وذلك يدل على انخلاعه بنفسه، ولما انقطع به دل على خلعه قهرًا، وإذا كان عثمان - رضي الله عنه - قد خلع قهرًا وقتل، حمل الوصل المسبب على ولاية غيره من بعده من قومه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« لاتقسم »، لما سأله أن يحدث بما يجرى في الفتن عن أصحابه، ويذكر لعثمان بأنه يبتلى. وقال بعض أهل العلم فإنه - صلى الله عليه وسلم - حض على إبرار المقسم، ولم يبر قسم أبي بكر، وماهذا إلا لما رآه من المصلحة في ترك هذا وابرار المقسم إذا منع منه مانع خرج من الحديث المذكور فيه الحض عليه.
قال القاضي: قيل: خطأه في قوله: " فتوصل له فيعلو به "، وليس في الرؤيا إلا أنه يوصل وليس فيها:" له "، ولذلك لم يذكر:" له "، لكن وصله لعثمان إنما كان لعلي. وقيل: الخطأ هاهنا بمعنى الترك، أي تركت بعضًا لم تفسره كما قيل قوله.
ومن يخطئ يعمر فيهرم(7/470)
وقيل: خطأه في سؤاله إياه ليعبرها، ونحوه لأبي محمد بن أبي زيد في تأويلها، وإن كان قد أذن له في ذلك. وقيل في قوله: " لاتقسم "، لعله في ألا يوبخه بلسانه أنه في التقدم بين يديه على ماتقدم من أحد التأويلات في خطئه، أو على ترك تعيين الرجال المذكورين في الحديث الذي لم يصل أبو بكر إلى ذلك بطريق العبارة، ولم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - تعيينهم ؛ إذ لو عينهم لكان كالنص عليهم، وقد شاء الله أن تكون الخلافة على غير هذا الوجه، أو تكون لما يدخل في النفوس، لا سيما من الذي انقطع في يده السبب.
وفيه دليل على أدب الناس والمتعلمين بين يدي العالم، وألا يتقدموا بين يديه بالكلام إلا عن إذنه، ولا يفتوا من سأله إلا بأمره. قالوا: وفيه جواز سكوت العابر وكتمه عبارة الرزيا ؛ إذا كان فيها مايكره أو في السكوت عنها مصلحة وفي ذكرها مضرة وفتنة على الناس.
/ وفيه أن الرؤيا ليست لأول عابر على كل حال ؛ إذ لو كانت لأول عابر لم يخطيء النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر فيها. قالوا: وتفسير ماجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا لأول عابر معناه: إذا أصاب وجه العبارة وإلا فهي لمن أصابها بعده، ولا يجب أن يسال عنها غير أول عابر، إلا أن يظهر له منه تقصير وخطأ في العبارة، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصديق. قال أهل هذا العلم: لايعبر الرؤيا عبارة عابر ولاغيره، وكيف يصح هذا وإن تعين ماجاء في أم الكتاب غير أن الذي يستحب لمن لم تندر في علم التأويل ولا اتسع فيه أن لا يتعرض لما قد سبق إليه من ثبت علمه وصحت عبارته، ولا ينبغي أن يسأل صاحب الرؤيا عنها إلا عالمًا ناصحًا أمينًا. وقد قال مالك: وقيل له: أتعبر على الرؤيا على الخير وهي عنده على الشر ؟ فقال: معاذ الله ! أبالنبوة يتلعب ؟ هي من أجزاء النبوة.(7/471)
وقوله في الحديث:" إنى أرى الليلة "، فقال ثعلب: يقال من لدن الصباح إلى الظهر: أريت الليلة، يعني عن الماضية، ومن الظهر إلى الليل: أرأيت البارحة.
قال الإمام: وأما الظلة فهي سحابة، " وتنطف " معناها: تقطر، و"يتكففون ": يأخذون بأكفهم، و" سببًا واصلاً من السماء إلى الأرض" بمعنى موصولاً، فيكون فاعلاً بمعنى مفعول، كقوله تعالى:{ ماء دافق }، أي: فوق، و { عيشة راضية }، بمعنى مرضية، والسبب: الحبل.
قال القاضي: أصل الظلة: كل ماعلاك وأظلك. وقيل: الظلة: سحابة لها ظل. وقال ابن دريد: كل شيء جمعته فقد كففته. وقال بعض أهل هذا الشأن: إنما عبر الظلة بالإسلام ؛ لأن الظلة نعمة الله في الدنيا بالمطر والرحمة والظلال، وكذلك على أهل الجنة، وكذلك كانت على بني إسرائيل، وكذلك كانت تظل النبي - عليه السلام - وكذلك الإسلام يقي الأذى، وبنعم به المؤمن في الدنيا والآخرة، وهو رحمة له.
قال القاضي: وقد يكون غيرها بذلك لما نطفت العسل والسمن، وقد عبر فيها ذلك بالقرآن وذلك لما كان عن الإسلام والشريعة، قالوا: وأما العسل فإن الله تعالى قال:{ فيه شفاء للناس }، وقال في القرآن:{ شفاء لما في الصدور }، وهو حلو على الأسماع كحلاوة العسل على المذاق، ولأن القرآن وحي، والعسل من هذا الباب، قال الله تعالى { وأوحى ربك إلى النحل }، فقد حصل لهما إشتراك في اللفظ وإن اختلفت معانيهما.
وقوله:« لاتقسم »، وقد أقسم، حجة في أن من قال: أقسم، لا كفارة عليه ؛ إذا لم يقل: بالله ؛ لأنه لم يزد على قوله: أقسم عليك، فلم يجبه لذلك ولم يجبه ولا أمره بكفارة. واختلف إذا نوى بالله، واختلف فيه عن مالك، ومشهور قوله: أنه ليس بيمين حتى يقول: بالله، وقد ذكرنا /هذا بابسط في حديث:« خيركم قرني » بعد هذا، وكذلك جاء في السمن من البقر أنه شفاء من كل داء.(7/472)
وقوله:كان مما يقول لأصحابه:« من رأى منكم رؤيا فيقصها أعبرها له»، معنى " مما " هنا عندهم: كثيرًا ماكان يفعل كذا. قال ثابت في مثل هذا: كأنه يقول: هذا من شأنه ودأبه، فجعل " ما" كناية عن ذلك، يريد ثم أدغم نون من، فقال: " مما ". وقال غيره معنى : " مما " هنا - والله أعلم-:" ربما "، وهو من معنى ماتقدم لأن " ربما " تأتي للتكثير أيضًا.
فيه الحض على علم الرؤيا والتهمم بها وشرف علمها وصحته، ويحتمل أن أمره لهم بذلك إما لتعلمهم علمها أو تعرفهم مسراتها، ويدخل المسرات على المسلمين بسببها، أو ليزداد علما من علم الغيب وأسرار الكائنات بما يطلع علمه منها ؛ إذ هي أحد أجزاء النبوة. وفيه أنه لايعبر الرؤيا كل أحد، ولا يعبرها إلا العالم بها.
قوله: " رأيت كأنا في دار عقبة بن رافع، فأتينا برطب من رطب ابن طاب، فأولت الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة لنا في الآخرة، وأن ديننا قد طاب: وجوه عبارة الرؤيا أربعة:
فمنها هذا الباب وهو مايثتق من الأسماء ويدل عليه معاني الألفاظ.
ومنها مايعتبر بمثاله ويفسر بشكله ؛ كدلالة معلم الكتاب على القاضي والسلطان وصاحب السجن وراسى السفينة وعلى الوصى والوالد. ومنها ما يعبر بالمعنى المقصود من ذلك الشخص المرئي ؛ كدلالة فعل السفر، على السفر، وفعل السوق على المعيشة، وفعل الدار على الزوجة والخادم.
ومنها ما يعبر بما تقدم له في القرآن والسنة،أو الشعر، أو في كلام العرب وأمثالها، وكلام الناس، أو خبر معروف للمرلى، فيعبر بذلك كله كعبارة الخشب بالمنافق والكافر ؛ لقوله:{ كأنهم خشب مسندة }، ويعبر الغراب بالفاسق لتسميته - عليه السلام - إياه بذلك، واعتبار الزجاجة أحيانًا لعمر المرأة لتسمية بعض الشعراء إياه بذلك، وكاعتبارنا رؤية الأنبياء والخلفاء بما كان في أيامهم وخاص قصصهم.(7/473)
ومعنى " ديننا قد طاب "، أي: قارب الاستقامة وتناهي صلاحه، كقولة:{ اليوم أكملت لكم دينكم }. قيل: ولعله بهذه الرؤيا سمى المدينة طابة، والله أعلم. قيل: يحتمل أنه رأى هذه الرؤيا بعد أحد والخندق عند استقامة الدين، ويحتمل ان ذلك قيل بثأرة له بما يكون من حاله وحال دينه.
وقوله:« إني أراني أتسوك بسواك، فجاءني رجلان، فناولت السواك الأصغر، فقيل لي: كبر، فدفعته إلى الأكبر »، فيه تقديم الأكبر، ورؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - حق، وهذا معلوم من سنته وأمره في غير هذا الحديث. وقد تقدم/.
وقوله:« رأيت في المنام أنى أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب »، الوهل، بفتح الهاء: الوهم، وهو المراد به هاهنا.وقد يكون بمعنى الغلط والنسيان، فيه: خروج الرؤيا على وجهها المهاجرة النبي إلى أرض بها نخل، فلم يحتج هذا الفصل عبارة. وتسميته المدينة يثرب وقد جاء تركه - عليه السلام - ذلك وسماها طابة، تفاؤلاً بالطيب، إما لتطيب سكانها للمسلمين، أو لتطيب معيشتها وحالها، أو لتطييب الدين فيها، أو لتطيب في نفسها من جند الكفرة والمنافقين، وتنفيهم كما ينقى الكير خبث الحديد. وكره اسمها يثرب ؛ لما فيه من التراب، فلا يجوز تسمية إحدها بذلك، وكانت الجاهلية تسميها بذلك باسم موضع منها كان اسمه يثرب. ولعل قوله هذا - عليه السلام - كان قبل نهيه: أي التي يسمونها قبل يثرب، ألا تراه كيف قال قبل:« فإذا هي المدينة »، ثم زاد:" يثرب" للبيان.
وقوله:« رأيت كأني هززت سيفًا فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد » الحديث، كذا روايتا فيه من طريق العذري وابن ماهان، ووقع في رواية غيرهما في الموضعين: " هزته "، بتشديد الزاي وتخفيف التاء، وهي لغة بكر بن وائل. هذا الفصل من الرؤيا بخلاف الأول، هو على ضرب المثال وغرضه التأويل.(7/474)
تأولها بذلك - عليه السلام - ؛ لأن سيف الرجل أنصاره وأولياؤه الذين يصول بهم كما يصول بسيفه. وقد يكون السيف ولده أو والده أو أخاه أو عمه، وقد يكون زوجته، وقد يدل على الولاية والوديعة، وعلى لسان الرجل وحجته، وقد يدل على السلطان الجائر. وكل ذلك بحسب قراشه عند أهل الرؤيا التي تشهد لأحد الوجوه وتخصها به، أو قرائن حال الوالي في نفسه ووقته. وخص النبي - عليه السلام - هنا أصحابه وأنصاره لهزه إياه، وكون ذلك دلالة على استعماله في الحرب مع قرائن حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في محاربة أعدائه.
وقوله:« رأيت فيها أيضًا بقرًا، والله خير، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء من الخير، بعد وثواب الصدق الذي أتانا الله بعد يوم بدر »، كذا جاء الحديث في كتاب مسلم وفيه زيادة في غيره: "ورأيت بقرًا ينحرونه "، تصح عبارة الرؤيا بما جاء في الحديث ؛ إذ دل نحر البقر على قتل من قتل من أصحابه. قال بعض أهل هذا اللسان: إنما تأولهم على أصحابه ؛ لأن البقر/ شبه رجال الحرب ؛ لما ! معها من أسلحتها التي هي قرونها ولمدافعتها بها ومناطحتها بعضها بعضًا.
قال القاضي: وقد كانت العرب تستعمل القرون في الرماح عند عوز أسنة الحديد. وشبهت الفتن بصياصي البقر - وهي قرونها - وبوجوهها ؛ لتشابه بعضها بعضًا.
وخص أصحابه بذلك من غيرهم ومن عداهم، وليس في الرؤيا دليل ظاهر على تخصيصه بهم لقرائن الحال ؛ لأن البقر قد يعبر بها عن أهل الحرب والبادية، ومن يثير الأرض لأنها تثيرها، وبها يقوم ذلك، ولأن الذكر منها ثور وكانت هذه صفة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار وأصحاب المدينة ؛ لاشتغالهم بالفلاحة والزراعة، ولم تكن تلك صفة من عداهم من قريش،أو لأن أصحابه الثائرون معه على العرب والقائمون بدعوة الإسلام حينئذ، ولتحريكهم جهتهم من الأرض وقلتهم ظاهرها وباطنها.(7/475)
ويحتمل - والله أعلم - أنه إنما تأول نحر البقر بمن يقتل من اسمها،وشبهه بنفر، ألا تراه كيف قال:« ورأيت فيها بقرًا، فإذا هم النفر من المؤمنين» الحديث، والله أعلم.
وقوله:« والله خير »، قال أكثر من تكلم على الحديث: معناه: وثواب الله خير، يعني للمقتولين من حياتهم وبقارهم في الدنيا. وقيل:« والله خير»، أي: صنع الله خيرًا لهم وهو قتلهم يوم أحد، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: ورأيت والله خير بقر تنحر، والاسم هنا مخفوض على القسم لتحقيق الرؤيا، وبهذا النص ذكر الخبر ابن هشام في السير، وسمى هذا خيرًا على التفاؤل، وان كان عبارته مكروهة وشرًّا في الظاهر فسماه خيرًا لعقباه، وهذا كما يقول العابر لمن يقص عليه رؤياه: خير.
والأولى قول من قال: إن قوله:« والله خير »، من جملة الرؤيا، وكلمة ألقيت إليه وسمعها في الرزيا عند رزياه البقر ؛ بدليل عبارته لها بقوله:" وإذا الخبر ما جاء الله به بعد يوم بدر " الحديث. وكذا ضبطناه وهذه الحروف على جملتهم:« والله خير » بضم الهاء والراء على المبتدأ والخبر، " وبعد يوم بدر " بضم الدال ونصب يوم، وقد روى بضم الدال، قالوا: ومعناه: ما جاء الله به بعد بدر الثانية ؛ من تثبيت قلوب المؤمنين إذ جمع لهم الناس وخوفوا، فزادهم الله إيمانًا، وانقلبوا كما أخبر تعالى:{ بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء }، وعليه يتأول الخبر هنا مع تفرق العدو عنهم وهيبته لهم. وهذه الرؤيا تدل أنها كلها قبل الهجرة، وظاهرها أنها واحدة غير منفصلة، والله أعلم.(7/476)
وذكر مسلم حديث مسيلمة ووروده على النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ومجيء النبي - عليه السلام - إليه وبيده قطعة جريدة، وقوله:« لو سألتني هذه القطعه ما أعطيتكها»، إنما جاءه - عليه السلام - اسئلافًا له ولقومه كما نزل على عبدالله بن أبي، وليبلغ ما أمر الله بتبليغه مما أنزل عليه، وكان يقصد به من لم يأته، ويحتمل مجيئه إليه لأن مسيلمة قد قصده ليلقاه من بلده، فجاءه هو أيضًا مكافأة لفعله. ففيه تلقي كبير القوم إذا ورد وزيارته، لا سيما فيمن يرجى بذلك منه منفعة في دين أو دنيا. وكان مسيلمة إذ ذاك يرفع للإسلام ظاهرًا، ويشترط شروطًا، وإنما ظهر كفره وارتداده بعد ذلك، وقد جاء في حديث آخر: أنه هو أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أنها مرتان وقد جاء في حديث آخر: أنه بقي في ظهر القوم، فسأل عنه - عليه السلام -، ولعله أول وفادته.
قيل - والله أعلم -: وإنما قال له:« لو سألتنى هذه القطعة » للجريدة التي كانت بيده، وهي سعفة النخلة ما أعطيتكها، يريد ما تقدم أول الحديث من قوله: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته.
قوله:« لن أتعدى أمر الله فيك »، كذا في جميع نسخ مسلم، وفي كتاب البخاري:« ولن يعدو أمر الله فيك ». قال الكناني: وهو الصواب. ولعل مافى مسلم:« ولن تعدى »، والألف زائدة.
قال القاضي: والوجهان صحيحان لن يعدو أمر الله فيه خيبته مما أمل وهلاكه،أو مما قدر عليه من شقاوة وسبق أمر الله فيه. ولن يعدو النبي أمر الله فيه في أنه لا يجيبه إلى ما طلب مما لا ينبغى له، وأن ببلغه ما أنزل عنه، ويدفع أمره بالتى هي أحسن.
قوله:« ولئن أدبرت ليعقرنك الله »، أي: إن لم تجب إلى اتباعي، وتقبل ما جئت به ليهلكنك الله، كما كان من قتله بعده. وهذا من جملة آياته - عليه السلام - والعقر: القتل، ومنه:{ فعقروا الناقة }.(7/477)
وقوله:« وهذا ثابت يجيبك عني »، كان ثابت بن قيس بن شماس خطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو كان المجاوب للوفود عن خطبهم وتشدقهم.
وقوله:« وإني لأراك الذي أريت فيه ما أريت »، وذكر أنه رأى في يديه سوارين من ذهب، وفي الرواية الأخرى:« سوارين فاهمه شأنهما، فأوحي إليه في المنام: أن انفخهما، فنفخهما، فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي »، وفي الحديث / الآخر:« فأولتهما الكذابين الذين أنا بينهما: العنسى صاحب صنعاء، ومسيلمة صاحب اليمامة »، هذا يبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على اسمهما، وفي غير هذه الرواية أن النص على اسمهما من الراوي.
وقوله:« بعدي »، وقد كانا في زمنه - عليه السلام - إشارة إلى إظهار ارتدادهما بعد، ومحاربتهما المسلمين ودعواهما النبوة. وإنما يؤول ذلك - والله أعلم - فيهما لما كانا السواران في اليدين جميعًا من الجهتين، وكان حينئذ النبي - عليه السلام - بينهما، وتأول السوارين على الكذابين ومن ينازعه الأمر غير موضعهما ؛ إذ هما من حلي النساء، وموضعهما أيديهن لا أيدي الرجال. وكذلك الكذب والباطل هو الإخبار بالشىء على غير ما هو به ووضع الخبر على غير موضه،مع كونها من ذهب وهو حرام على الرجال، ولما في اسم السوارين من لفظ السوء لقبضهما على يديه،وليستا من حليته، فأهمه ذلك كله، لهذا.
وتأول ذلك قبض هذين الكذابين بعض نواهيه أوامره، ومنازعتهما نفوذ ذلك في جهتيهما، ونفخه فيهما فطارا، دليل على اضمحلال أمرهما من سببه وريح نصره وأمره بذلك ؛ لأن النفخ من هذا الباب كله ؛ ولأن كونهما من ذهب فيه إشعار بذهاب أمرهما وبطلان باطلهما، ويقال: سوار وسوار وأسوار بضم الهمزة. فأما أساورة الفرس، وهم قوادهم، وقيل: المجيدون في الرمي، فأسوار بالكسر والضم معًا.(7/478)
وقوله: ا وأوتيت خزائن الأرض، وفي غير مسلم:« وأتيت بمفاتيح خزائن الأرض »، يتأول على سلطانها ولملكها وفتح بلادها وخزائن أموالها، كما كان بحمد الله. وقوله: كان إذا صلى الصبح أقبل علينا بوجهه فقال: « هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا »، وتقدم الكلام على هذا وما فيه من الفائدة.
وفيه أن عبارة الرؤيا بعد الصبح وأول النهار أولى عندهم، اقتداء بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأن الذهن حينئذ أجمع ؛ والقلب أجلى قبل تلبسه بأشتغال النهار والفكرة في أخبار الدنيا، ولأن الرائي لما رآه أقرب عهدًا، ولم يطرأ عليه ما يشوش عليه رؤياه ويخلطها عليه بعد، وللمبادرة إلى علم تأويلها، فلعل فيها ما يحتاج إلى تعجيل علمه من التحذير عن معصيه أو فعل تحذر عقباه. وفيه التكلم في العلم بعد صلاة الصبح، والاستناد إلى القبلة في المساجد، وبإثر الصلاة واستدبارها للتحلق للعلم، وغير ذلك، / والله أعلم.
كتاب الفضائل?
قوله:« إنى لأعرف حجرًا بمكة، كان يسلم علي قبل أن أبعث »، أي لأني أعرفه الآن. زاد بعضهم في غير مسلم: وكانوا يرونه الحجر الأسود.
وقوله:« أنا سيد ولد آدم يوم القيامة »، قال الهروي: اليد: الذي يفوق قومه في الخير، وقد بين ذلك في الحديث بقوله:« وأول من ينشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول مشفع »، وقال غيره: قالها - عليه السلام - هنا لأن السيد هو الذي ينزع إليه القوم في النوائب والشدائد، فيقوم بأمورهم، ويتحمل عنهم مكارههم، ويدفعها عنهم. وبقية الحديث يفسر معناه من قوله:« أنا خطيبهم إذا وفدوا، وشفيعهم إذا حبسوا، ومبشرهم إذا ما يأسوا، ولا فخر».(7/479)
وخص - عليه السلام - ذلك يوم القيامة بهذا الحديث، وهو سيد ولد آدم في الدنيا والأخرة، كما جاء مطلقًا في غير هذا الحديث ؛ يلجأ جميعهم إليه يوم القيامة آدم ومن ولد يشفع لهم في الموقف، ولم يبق حينئذ من ينازعه السؤدد، لا حقيقة ولا باطلاً، كما نازعه إياه في الدنيا ملوك الكفرة وغيرهم من زعماء المشركين. وهذا كما قال تعالى:{ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار }، وله الملك قبل ذلك اليوم بلا شك، لكن كان في الدنيا مدعون للملك ومتصفون به، ويوم القيامة ذهب ذلك كله وانقطعت الدعاوى فيه، وخلص حقًّا لله الواحد القهار.
وفيه جواز التحدث بنعمة الله على عبده ؛ إذا أمن بها العجب والفخر، وخلص من الكبر، كما قال - عليه السلام -: "ولا فخر "، في هذا الحديث. وهو هنا في حق النبي واجب تبليغ لما يجب أن تعتقده أمته، تدين لله به في حقه وطاعته. ولا يعارض هذا قوله: " لا تفضلوا بين الأنبياء »، ولا قوله:« ما ينبغى لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى »؛ لوجوه، منها: أنه يحتمل أن ذلك كان قبل إعلام الله له أنه أفضل ولد آدم، أو يكون ذلك على طريق الأدب والتواضع، أو أن يكون ذلك نهيا أن يفضلوا بينهم تفضيلاً ينقص من البعض من المفضول أولاً يفضل بينهم في النبوة. وأما تفضيلهم بخصائص خص الله بها بعضهم كما قال تعالى:{ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } الآية.
وذكر مسلم الأحاديث أنس في نبع الماء من بين أصابعه - عليه السلام - وهي إحدى معجزاته المشهورة الغريبة الخارقة للعادة، وقد جاء النقل بها متواترًا من حديث أنس، وعبد الله بن مسعود، وجابر، وعمران بن حصين.
قال الإمام: وقوله:" فأتى بقدح رحراح "، يعني واسعًا.(7/480)
قال القاضي: وبقال: زحرح أيضًا وأزح، وجفنة زحًّا. قال ابن الأنباري: ويكون قصير الجدار / مع ذلك. وأصل الرحرح: السعة والانبساط لم وقوله: " رأيت الماء ينبع من بين أصابعه "، حمله أكثرهم على خروج الماء منها وانبعاثه من ذاتها، وإليه ذهب المزني وغيره، فقال: وهو أبهر أنه من تنجير موسى الحجر وغير ذلك ؛ إذ خروجه من الحجر معهود. وقال آخرون: يحتمل هذا، ويحتمل أن الله كثر الماء في ذاته، فجعل يندفع في الجفنة والإناء، ويفور من بين أصابعه، وكلا الوجهين فمعجزة عظيمة، واية باهرة خارقة للعادة.
وقوله: " فالتمس الناس وضوءًا "، أي: ماء، سمى بما يفعل به، وهو بالفتح، وقد تقدم في الطهارة.
وقوله:" فأتى بإناء ماء لا يغمر أصابعه "، أي لا يغطيها.
وقوله: " كانوا زهاء ثلاثمائة ": أي قدرها، يقال: لهم زهاء كذا ولها كذا باللام، أي قدره. وجاء في الحديث الآخر: " فحزرت ما بين الستين إلى الثمانين "، هذا يدل أنهما في موطنين ؛ الأول بالزوراء كما قال، والآخر في غيرها. والزوراء: سوق المدينة، وكان عليه التماسهم الماء بالمدينة حينئذ ما جاء في غير هذا عن أنس:حضرت الصلاة، فقام جيران المسجد يتوضؤون، وبقي ناس من السبعين إلى الثمانين، كانت منازلهم بعيدًا، وذكر الحديث. وجاء في حديث جابر ذلك مفسرًا في غزوة الحديبية وغزوة بواط، وحديث أنس عن الموضعين بالمدينة.
وذكر مسلم في الباب: حدثنا محمد بن هشام، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن قتادة. كذا للعذري. وعند غيره حدثنا سعيد، عن قتادة. كذا للسجزي والسمرقندي.
قال لنا القاضي أبو على: وهو الصواب، وكذا ذكره البخاري لسعيد وهو ابن أبي عروبة لا لشعبة.
وذكر في الباب أيضًا حديث مالك في قصته عام تبوك، وقد تقدم في كتاب الصلاة، والكلام على مافيه من جمع الصلاتين، واختلاف الروايات في " تبض، وتبص "، ومعنى ذلك، فاما هنا فبالضاد المعجمة عند الرواة بغير خلاف.(7/481)
قال الإمام: " تبص بشيء منها "، من رواه بالصاد المهملة معناه: ترق، يقال: بصن يبص بصيصا، ووبص يبص وبيصًا بمعنى. ومن رواه بالمعجمة فمعناه: تسيل، يقال: بفر وضب بمعنى سال.
وقوله:" بماء منهمر "، أي: كثير شديد الاندفاع،قال الله تعالى:{ بماء منهمر }، أي: كثير الانصباب.
قال القاضي: وقوله:" حتى استقى الناس "، كذا للكافة، وفي كتاب التميمي:"حتى أشفى الناس " بالشين المعجمة، وهو وهم، والمعروف الأول، وتقدم هذا وما فيه من الآيات الباهرة والعلامات الخارقة من الإعلام بما يكون من شأن العين أولاً، وأمرهم ألا يمسوا شيئًا من مائها ومن قوله:« ترى ما ها هنا قد ملئ جنانًا »، فكان ذلك كله، ومن / تكثير الماء القليل والخبر بهذا مشهور صحيح.
وهذه العلامات المقطوع بها بكثرة الأخبار بها واشتهارها وتواترها من جهة المعنى، ولأن الراوي لها والذاكر لها بمجمع الصحابة المخبر عن قصة جرت لهم في مجمع من جموعهم، ومشهد عظيم من مشاهدهم، وجيش كثير من جيوشهم، لا يمكن سكوتهم على مدعي الكذب فيها، ولا كانوا ممن يداهن في ذلك، ولا هو مما يخفى عليهم ؛ إذ هم الذين توضؤوا وشربوا، وشاهدوا الأمر المخبر به عنهم، فكان الحديث عنهم. وكذلك أحاديثه في تكثير الطعام من هذا الباب، وعلى هذا الأسلوب.
وقد بسطنا الكلام في هذا ونجيناه، وذكرنا أعيان الأحاديث، ومن روى كل واحد منهما من الصحابة، ومن رواه عنهم من التابعين بمبلغ علمنا ومنتهى إدراكنا، وما اتصل الكلام بذلك فيه في كتاب: " الشفاء " بما يغنى عن إعادته هنا.
وقوله: " فسبَّهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال لهما ما شاء الله أن يقول ": فيه تأديب الحاكم باللسان، والسب غير المقزع نفسه.
ذكر مسلم هنا حديث أم مالك، وأنها كانت تهدى للنبي في عكة لها بين أقياتها، بنوها فسيكون للإدام وليس عندهم شيء، فتعمد إليها، فتجد فيها سمنًا، فما زالت تقيم لها أدم بيتها حتى عصرتها.(7/482)
وقول النبي لها:« عصرتيها، لو تركتيها ما زالت قائمة »، مما تقدم، وذكر الحديث في الذي أطعمه النبي - صلى الله عليه وسلم - شطر وسق شعير، فما زال يأكل منه وامرأته وضيفهما حتى كاله، فقال:« لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم »، أي: ولبث ودام، ويروى:" بكم " أي لكفاكم وأغناكم. فيه رد الظرف المهدى فيهه إلى صاحبه، وفي المئل المعروف: رد الظروف.
وفيه أن هذه الأمور الكونية يجب ألا ينقضي أمرها وتترك مهملة لا تدخل تحت التقدير، ومثله حديث شعير عائشة، وأنها لما كالته فنى ؛ لأن كيلها وعصرها وتقص ما فيها مضاد للتسليم والتوكل على رزق الله ويقضي على تقدير مالا يحصيه التقدير من سعة فضل الله، وتكلف لما لا طائل وراءه، فعوقب فاعله بأن رفعت تلك البركة عنه، ورد إلى قوته وحوله التي تكلفها، والله أعلم. هذا هو وجه التأويل فيه، وظاهر معناه، وإن كان بعضهم تأول في حديث عائشة أنه لما كالته عرفت قدره بقى على حسابها، وكانت أولاً لم تؤزره، فطال ذلك في ظنها، ولم يجعل في ذلك الله بينة ولا بركة. وظاهر الحديث يرد قوله، لاسيما مع ما في هذا الحديث من قوله - عليه السلام -:« لو لم تكله لأكلتم منه، ولقام بكم »، فقد نص على ضد ما قاله هذا الشارح والله الموفق / برحمته.
ومعنى:"مقيم لها أدم بيتها"، أي: يكفيها ونفسها، ومنه: قوام العيش، أي كفايته وما يغنى منه. وكذلك قوله:" ما زال قائمًا "، ويحتمل أن يريد ثابتًا دائمًا. والعكة: بضم العين: للسمن، وهي أصغر من القربة، و"شطر وسق الشعير": نصفه.
وذكر حديث أبي حميد في خرص النبي - صلى الله عليه وسلم - حديقة المرأة: فيه جواز الخرص، وقد تقدم في الزكاة. ولا خلاف عندنا فيه في التمر والعنب في الزكاة. واختلف في الزرع والزيتون.(7/483)
وقوله:« ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، ولا يقيم فيها أحد »، وأن الريح هبت، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيئ. فيه آية بينة من إعلامه - عليه السلام - بالغيوب وما يكون.
وقوله:" وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهدى له بغلة بيضاء. " ابن العلماء ": بفتح العين المهملة وسكون اللام الممدودة، وهذه البغلة هي " دلدل "، بغلة النبي - صلى الله عليه وسلم - المعروفة، لكنه قال هنا ما ظاهره أنها أهديت له في غزوة تبوك، وقد كانت عنده. قيل: وحضر عليها يوم حنين، ولم يرو أنه كان للنبى - صلى الله عليه وسلم - بغلة سواها، ولعله يعني أنه أهداها له قبل هذا، كأنه قال: والذي أهدى له البغلة. وقد تقدم الكلام في قبول النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدايا، ورده لما رد منها، وحكم غيره في ذلك من الأئمة. وتقدم الكلام في قوله:« هذا جبل يحبنا ونحبه ».
وقوله:« خير دور الأنصار بنو النجار » الحديث: المراد بها أهلها، والدور القبائل هنا، وفضلهم بالسبق إلى الإسلام. وفيه جواز التفضيل والتخيير بين الناس، وإنزال كل أحد منزلته. وقد كره بعض العلماء التفضيل بين الناس، وهذا - والله أعلم - لغير ضرورة، إما للحاجة إلى ذلك في التعديل والتجريح في الشهادات والحديث والروايات، فمضطر إليه محتاج لذكره واعتقاده، وهذا ليس بغيبة.
وقوله:« ثم دار بني عبد الحارث من الخزرج »، كذا للسعدي الفارسي، والواو مثل، وهو وهم، والصواب بنو الحارث.
وقوله:" وكتب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببحرهم، وأهدى له بردة "، أي ببلدهم. والتجار: القرى فيه المكافاة على الهدية، وجواز الإقطاع.
وقوله:" أدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في واد كثير العضاه "، هي كل شجر ذات شوك، واحدها عضه وعضاهة.(7/484)
وقوله: فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة وعلق سيفه بغصن من أغصانها، وأن رجلاً أتاه وهو نائم فأخذ السيف، فاستيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم على رأسه بالسيف صلتًا، وقال: من يمنعك منى ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:« الله »، فشام السيف، ثم لم يعرض له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال الإمام: قوله: السيف / صلتًا، أي مجردًا. قال ابن قتيبة: فيه لغتان: بفتح الصاد وضمها، يقال: شام السيف: إذا أغمده، ويقال: شام السيف: إذا سله وإذا أغمده، وهو من الأضداد.
قال القاضي: فيه تعليق السيوف بالشجر، ونوم المقاتلة في الجيوش، وعصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعدائه، وهي إحدى آياته، وقد قال الله تعالى:{ والله يعصمك من الناس }، وفيه ما كان - عليه السلام - من الحلم والعفو والتوكل والتواضع.
واسم هذا الرجل: غورث بن الحارث، بفتح الغين المعجمة، وبعضهم بضمها، والفتح الصواب، وبعض رواة البخاري قيده بالعين المهملة، وبالمعجمة الصواب. وقال الخطابي في حديثه: غويرة أو غويرث على التصغير والشك، وقد جاء مثل هذا الخبر في حديث آخر وسمى الرجل فيه: دعثور بن الحارث.(7/485)
وقوله:« مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، ومنها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب منها طائفة أخرى،إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به »، هذا بديع في الشبه وتقسيم الكلام، ويدل بعضه على بعض وجاء الترتيب بعد مجملاً، ورده ردًّا واحدًا مرتبًا على ما قبله، ولعله آخرًا في كلام واحد، وهو من بديع الايجاز والبلاغة، فانه ذكر ثلاثة أمثلة ضربها في الأرض: اثنان منها محمودان، ثم جاء بكلام واحد تضمن لما جاء به اثنان منها محمودان، وذلك قوله: «فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به، فعلم وعلم »، فهذان مثالا المثالين الأولين على ترتيبها في التقديم والتأخير.
والأول: مثل الأرض التي قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فانتفعت بالري وأكثر في نفسها وأنفع الناس بالرعي لما أنبتته، وهذا كالذى يفقه في نفسه وعلم ما يحمله، وعلمه الناس.
والثانى: من يحمل ما تحمله ولم يفتح له بالتفقه فيه، لكنه حفظ ما يحمله، وعمل منه بما تيسر له، وبلغه غيره، فهذا مثل الذي أمسكت الماء وإليه يرجع قوله:" فشرب الناس وسقوا "،. وقوله بعد هذا: " ورعوا" راجع إلى الأول ؛ إذ ليس في هذا المثال أنها أنبتت شيئًا وهو مثل جمع المثلين.
والثالث: من لم يهتبل بما بلغه، ولا رفع به رأسًا، ولا قبله كالقيعان والصفا التي لاتنبت ولاتمسك ماء.(7/486)
وقوله:" قبلت الماء "، كذا رويناه هنا بالباء بواحدة بغير خلاف. واختلف فيه الرواية في صحيح البخاري عن شيوخه، ففي بعضها قيلت بياء باثنتين تحتها مشددة، فزعم الأصيلى وغيره أنه تصحيف. وقال غيره: بل هو صواب ومعناه بمعنى / قيلت، أي: شربت. والقيل: الشرب نصف النهار، وقيلت الإبل: شربت قائلة. وقال غيره: معناه: جمعت وحبست ورويت، فهي بمعنى قيلت أيضًا. قال أبو عبيد البكري فيما قرأته بخطه: قال أبو بكر: تقيل الماء بالمكان المنخفض: اجتمع فيه.
قال الإمام: وقوله:" سقوا ورعوا "، يقال: سقيت وأسقيت بمعنى واحد. قال لبيد:
سقى قومي بني نجد وأسقى نميرًا والقبائل من هلال
قال القاضي: وقيل: سقيته: ناولته ماء فشرب، وأسقيته: جعلت له سقيًا.
وقوله:" رعوا "، قال الإمام: يقال: رعت الماشية النبات: أكلته، وأرعاها الله: أي أنبت له ما ترعاه، وأنشد ابن قتيبة:
كأنها ظبية تعطوا إلى فنن يأكل من طيب والله يرعيها
وقوله:" ومنها أجادب "، قال القاضي: لم يروه إلا هكذا بالدال المهملة.
قال الإمام: قوله:" كان منها أجادب ": كذا ذكره بالمعجمة. وقال الخطابي: الأجادب: صلاب الأرض التي تمسك الماء فلا يسرع إليه النضوب. وقال بعضهم:" أحازب "، بالحاء والزاي، وليس بشيء. وقال بعضهم: "أجادب " بالجيم والدال، وهو صحيح إن ساعدته الرواية. قال الأصمعي: الأجادب من الأرض: ما لم ينبت الكلأ، معناه: أنه أجرد بارزة، لا يسترها النبات. وقال بعضهم: إنما هي:" أخاذات " سقط منها الألف في الأخاذات مشاكات الماء واحدتها أخاذة، وهي أمثال ضربت لمن قبل الهدى فتعلم وعلم، ولمن لم يقبل، ولمن انتفع ولم ينفع .
وفي حديث البخاري: "فكان منها ثغبة قبلت الماء "، والثغبة: مستنقع الماء في الجبال والصخور، وهو الثغب أيضًا، ويجمع على الثغاب.(7/487)
قال القاضي: قدمنا أنا لم نرو هذا الحرف هنا ولا في غير هذا الكتاب، وكذا في "البخاري" إلا بالدال المهملة من الجدب الذي هو ضد الخصب، وعليه شرح الشارحون، قالوا: وأجادب جمع جدب على غير قياس، وكان القياس أن يكون جمع: أجدب، ومثله محاسن جمع حسن، وكان قياسه أن يكون جمع: محسن، ولم يسموا، وكذلك متشابه جمع شبه، وقياسه جمع مشبه. وقد رواه بعضهم أيضًا:" أجارد "، وحكاه الهروي جمع أجرد، وهو ما لا نبات فيه. وأما حكايته عن البخاري:" فكان منها نقية قبلت الماء " تفسيره جمع مستنقع الماء في الجبال، إما ما قال فغلط من الرواية وإحالة لمعنى الحديث ؛ لأن تفسير الثغبة إنما يمكن تخرجه من الطائفة الثانية لا في الأولى. وما روينا هذا الحرف عن البخاري من جميع الطرق، إلا:" فكان منها نقية"، وهو مثل قوله في كتاب مسلم:" طائفة طيبة "، هي التي توصف بأنها تنبت الكلأ والعشب، وأما الأخرى فوصفها بإمساك الماء فقط، وهذه هي بمعنى الثغب فكان فيبطل التشبيه الأول، والثغب - كما ذكر - حفير ليستنقع فيه الماء / وهي الماء الصافى المستنقع بها نقب أيضًا.
وقوله: في التمثيل في الحديث الآخر:" أنا النذير العريان "، قال الإمام: قال ا الهروي: خص العريان لأنه أبين في العين. قال ابن السكيت: والنذير العريان: رجل من جثم حمل عليه، يؤذي الخليفة، عوف بن مالك اليشكري، فقطع يده ويد امرأته، وكانت كتابية.
قال القاضي: بقى من تمام الخبر ما فيه تفسير، وهو أنه كان يخص قومه على قيس، فضرب به المثل، وقيل: إنما قيل: " النذير العريان لأنه سلبه، فأتى قومه عريانًا، وقيل: بل قيل ذلك لأن الرجل إذا رأى ما يوجب إنذار قومه تجرد من ثيابه، وأشار بها ؛ ليعلمهم بما دهمهم. وقيل: بدء المثل في قصة أوذاني داود، وقيل: النهراني لهم وسجن النعمان له وتجهيزه جيشه إلى بهذا الانتصار الأبي داود وتجهيز النهراني امرأته إلى قومه، فلما وصلتهم تعرت، وقالت: أنا النذير العريان.(7/488)
قال الإمام: وقوله:" فإذا لجوا "، أي: ساروا من أول الليل، يقال: أدلج إدلاجًا، والاسم الدلج والدلجة بفتح الدال، فإن خرجت آخر الليل قلت: أدلجت بتشديد الدال أدلج إدلاجًا، والاسم الدلجة بالضم. قال ابن قتيبة: ومن الناس من يجيز الوجهين في كل واحد منهما، كما يقال: برهة من الدهر وبرهة.
وقوله: " فالنجاء "، قال ابن ولاد: يقال بالمد والقصر وهو بعيد ونحو علمه.
وقوله: " فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم"، أي: أصابهم وغلبهم، ويقال: حاجتهم السنة تحوجهم حوجًا وحياجة.
قال القاضي: المعروف في النجاء إذا أفرد المد، وحكى أبو زيد فيه القصر أيضًا، فأما إذا كرروه فقالوا: النجاء النجاء، ففيه الوجهان.
وقوله:« فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها »، قال الإمام: الجنادب جمع جندب، هر الجراد. وفيه لغتان: بضم الدال، وفتحها. قال الفراء: والفراش: هو غوغاء الجراد الذي يتفرش ويتراكب. قال غيره: الفراش: الطير الذي يتساقط في النار والسراخ.
قال القاضي: قوله:" الجنادب ": هو الجراد، ليس بالجراد نفسه، وإنما هو الصرار عند بعضهم، وقال أبو حاتم: الجندب على خلقة الجراد، لها أربعة أجنحة كالجراد وأصغر منها، تطير وتصر بالليل صرًّا شديدًا، وهو معروف. وحكى أبو عبيد إنكار هذا، وأن الصرار إنما هو الجرد جرد والصرى، وأما الصرار فأصغر منه. قال: والناس يقولون:. الجندب الهراز الذي يصير بالليل. وفيه لغة ثالثة:" جندب " بكسر الجيم وفتح الدال. وقال الخليل: الفراش الذي يطير معروف كالبعوض، ويقال للخفيف من الرجال: فراشة، وقال غيره: أ الفراش ما تراه كصغار البق يتهافعت في النار.
وقوله:« فأنا آخذ بحجزكم »، حجزة الإزار والسراويل: معقدها، وتحاجز القوم: / أخذ بعضهم بحجزة بعض، وإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه.(7/489)
وقوله:" وأنتم تقحمون فيها "، التقحم: التقدم والوقوع في الأهوية وشبهها، والدخول في الأمر الشاقة من غير تثبت ولا روية. فشبه - عليه السلام - تساقط الجاهلين بماضيهم وشهاداتهم في النار في الأخرى بحالة الفراش في الدنيا، وضف ميزها وتطارحها على ما فيه هلاكها من النار بجهلها.
قوله:« مثلي ومثل الأنبياء كرجل ابتنى دارًا » الحديث، إلى قوله: «فكنت أنا موضع اللبنة، حيث ختمت الأنبياء »، يقال: لبنة: بفتح اللام وكسر الباء، و" لبنة ": بكسر اللام وسكون الباء، وهي معروفة، التي يبنى بها من الطين، والتي تسمى الطوب، وكل شيء رقعته فقد لبنته، وتجمع اللبنة بفتح اللام كذلك ومن قال: "لبنة " بالكسر جمعها لبن، بفتح الباء. وتميم تسهل مثل هذا وتسكنه. فسر في الحديث المراد بهذا المثل، وأن الأمر به تم والإنذار به ختم. في هذه الأحاديث كلها جواز ضرب الأمثاك في الدين والعلم، وغير ذلك مما شوهد وعرف بقربها للأفهام.
قوله:« إذا أراد الله رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها » إلحديث، قال الإمام: هو مقطوع السند، قال: فيه حديث عن أبي أسامة، وممن رووا ذلك عنه إبراهيم بن عبدالله الجوهري، حدثنا أبو أسامة، حدثنا يزيد بن عبد الله عن أبي بردة، عن أبي موسى عنه - عليه السلام -.
قال القاضي: كذا في النسخ الواصلة إلينا من المعلم: إبراهيم بن عبد الله الجوهري، وهو وهم، وإنما هو في كتاب مسلم: إبراهيم بن سعد الجوهري، وكذلك ذكره الحاكم ممن خرَّج مسلم عنه، وقد بين عليه ما ذكره في الحديث بقوله:« فجعله لها فرطًا وسلفًا بين يديها »، هذه استعارة حسنة وتجوز بديع.
والفرط، بفتح الراء والفاء: الذي يتقدم الواردة فيهيئ لهم الدلاء والحياض، يقال: رجل فرط، وقوم فرط، وقوم فراط. يريد: أنه يكون مقدما بين أيديهم يشفع لهم وينفعهم، كالذى يتقدم الواردة في نفعهم.(7/490)
ومنه الحديث الآخر بعده في الكتاب:« أنا فرطكم على الحوض، أنا متقدمكم وسابقكم إليه »، وهو هنا أقرب إلى الحقيقة منه إلى المجاز ؛ لاستعماله في بابه. ومنه في الدعاء على الصغير: اجعله لنا فرطًا، أي: أجرًا يتقدمنا وينتفع به.
وقوله:« من شرب منه لم يظمأ أبدًا »، قال الإمام: أي لم يعطش. قال ابن ولاد: الظمأ، بالهمز والقصر: العطش، يقال: ظمأ يظمأ ظما، وظماه فهو ظمآن، والجمع ظمأ.
قال القاضي: ظاهره يدل أن الشرب منه بعد الحساب والنجاة من النار، فذلك للذى لا يظمأ، لقوله:« لم يظمأ أبدًا ». وقيل: بل لا نشرب منه إلا من لم يقدر عليه بالنار. وقد يحتمل أن من شرب منه من / هذه الأمة ثم قدر الله عليه العقوبة بالنار على ذنوبه أنه لا يعذب فيها بالظمأ بل يكون عذابه بغير ذلك ؛ إذ ظاهر حديث الحوض أنه تشرب منه الأمة كلها، إلا من ارتد على عقبه وغير وبدل. وقد قيل: إن جميع الأمم المؤمنين تأخذ كتبها بأيمانها، ثم يعاقب الله من يشاء من مذنبيهم، وقيل: إنما يختص بأخذ كتابه بيمينه الناجون، فهذا مثله.
وقوله: " ومن ورد شرب "، يعني أن الممنوع من شربه إنما هو من لم يرد عليه، وهم الذين زيدوا وذبوا عنه، واختلجوا دونه، وأن كل من ورد يشرب. وقد مض الكلام على هذا الحديث مستوفا في الطهارة، ومعنى المراد عنه.(7/491)
وقوله:« حوضى مسيرة شهر، وزواياه سواء »، أي: كأنه، ذكر بعضهم في الاستدلال على علمه - صلى الله عليه وسلم - بسائر العلوم واحتوائه على جميع المعارف، وأن هذا من علم الهندسة والتكسير والحساب، وأن معنى ذلك كونه مربعًا معتدل التربيع،كما قال في الحديث الآخر:« عرضه مثل طوله »، وفي الحديث الآخر:« وإن عرضه كما بين أيلة إلى الجحفة »، وأغنى ذكر العرض هنا خصوصًا عن الطول ؛ لأنه دليل على أن الطول مثله وأكبر منه، لكنه دل أنه مثله لقوله:« وزواياه سواء »، وفي الحديث الآخر:« ما بين ناحيته كما بين جربا وأذرح »، وفي الحديث الآخر:« ما بين عمان إلى إيلة »، وفي الحديث الآخر:« ما بين المدينة وعمان »، وفي الحديث الآخر:« عرضه من مقامي إلى عمان »، وفي الآخر:« قدر حوضي ما بين أيلة وصنعاء من اليمن»، وفي الآخر:« ما بين صنعاء والمدينة »، أيلة، بفتح الهمزة وسكون الياء مدينة معروفة على النصف ما بين مكة ومضر، وقيل: هي جبل ينبع بين مكة والمدينة، وهو شعبة من رضوى. والجحفة، بضم الجيم: قرية جامعة أحد مواقيت الحج، بينها وبين المدينة ثمانية مراحل، وهي على طريق مكة وهي مهيعة، وبينها وبين البحر نحو من ستة أميال.(7/492)
وقوله:« ما بين جربا وأذرح »، بفتح الجيم وسكون الراء وباء بواحدة: مدينة من مدن الشام مقصور، ووقع عند بعض رواة البخاري ممدود، وهو خطأ. وأذرح، بفتح الهمزة وذال معجمهة ساكنة وراء مضمومة وآخره حاء مهملة. كذا هو الصواب، وكذا ضبطناه عن جميع شيوخنا، إلا أنه كان في كتاب القاضي الصدفي عن العذري بالجيم، وهو خطأ، وهي مدينة من أداني الشامي. قال ابن وضاح: / هي فلسطين. وفي "الأم" عن نافع أنه قال: هما قريتان بالشام، بينهما ثلاثة أيام، يعني جربا وأذرح. وقوله:« ما بين أيلة وعمان »: عمان، بفتح العين وتشديد الميم. كذا ضبطناه عن شيوخنا هنا، هي قرية من عمل دمشق ويبينه قوله في رواية أبي عيسى الترمذي:«من عدن إلى عمان البلقاء »، والبلقاء بالشام. هذا الضبط هو الذي صححه الخطابي في هذا الحرف في هذة الحديث. قال البكري: ويقال فيه أيضًا: عمان، بالتخفيف والضم كالذى باليمن. ولا خلاف أن الذي باليمن هكذا، وهي مدينة كبيرة وهي قرضة بلاد اليمن، وزعم غير واحد أن الصحيح هنا عمان ؛ لذكره في الأحاديث الأخر:« ما بين أيلة وصنعاء من اليمن، وما بين المدينة وصنعاء »، وما تقدم في كتاب الترمذي من ذكر عدن. وعدن وصنعاء من بلاد اليمن، وان كانت بالشام صنعاء أخرى، لكن قد قيد هذه بصنعاء اليمن فارتفع الإشكال. وهذا كله من اختلاف التقدير، ليس في حديث واحد فيحسب اختلافًا واضطرابًا من الرواة، وإنما جاء في أحاديث مختلفة عن غير واحد من الصحابة سمعوه في مواطن مختلفة.(7/493)
ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل واحد منهما ميلاً لبعد أقطار الحوض وسعته وكبره، بما تسنح له من العبارة وقرب للأفهام، لبعد ما بين البلاد النائية البعيد بعضها عن بعض، لا على التقدير والمحقق لما بينهما بلا إعلام ببعد المسافة، وسعة القطر، وعظم الحوض. فبهذا تجتمع هذه الألفاظ من جهة المعنى - والله أعلم - كما قال في الآنية:« عددها كنجوم السماء »، إشارة إلى غاية الكثرة. وعلى هذا تأول كثير قوله تعالى:{ مائة ألف أو يزيدون }، وقوله - عليه السلام -:« لا يضع عصاه عن عاتقه »، وهو باب في المبالغة غير منكر في اللغة ولا في الشرع، ولا يعد هذا كذبًا، وإذا كان المخبر عنه بخبر الكثرة والعظم ومبلغ الغاية في بابه، بخلاف لو كان بغير ذلك. ومثله قوله: كلمته في هذا ألف مرة ولقيته مائة لقية. فهذا مباح جاثز في الكثير المنكر وكذب لا يجوز في المرات القليلة. وحديث الحوض صحيح، والإيمان به واجب، والتصديق به من الإيمان، وهو على وجهه عند أهل السنة والجماعة، لا يتأول ولا يحال عن ظاهره، خلافًا لمن لم يقل من المبتدعة الباقين له، والمحرفيهن له بالتأويل عن ظاهره. وهو حديث ثابت متواتر النقل، رواه جماعة من الصحابة. فذكره مسلم من رواية ابن عمر، وأبي سعيد، وسهل بن سعد، وجندب، وعبدالله أ ابن عمرو بن العاص، وحارثة بن وهب الخزاعى، / والمستورد، وأبي ذر، وثوبان، وأبي هريرة، وأنس بن مالك، وجابر بن سمرة.
وذكره غير واحد عن أسماء بنت أبي بكر، وأبي برزة الأسلمي، وأبي أمامة، وزيد ابن أرقم، وعبد الله بن زيد، وسويد بن جبلة، وعبد الله الصنابخي: والبراء، وأبي بكر، وخولة بنت قيس، وغيرهم. وفي بعض هذا ما يخرج هذا الحديث عن خبر الواحد إلى حديث الاستفاضة والتواتر.
وقول أم سلمة لماشطتها: كفي رأسي، أما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:« أيها الناس »، أي: ضمي أطرافه وأجمعيه.(7/494)
وقول جاريتها: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء، فقلت: إنى من الناس، حجة أولاً لأصحاب القول بالعموم، وأن له صيغة، وأن لفظة: "الناس" تعم الذكور والإناث.
قال الإمام: وقوله: " ماؤه أبيض من الورق "، وخرج هذا اللفظ على غير ما أصلته النحوية من أن فعل التعجب يكون ماضيه على ثلاثة أحرف، فإذا صار على أكثر من ثلاثة أحرف فلا يتعجب من فاعله، وإنما يتعجب من مصدره. فلا يقال: ما أبيض زيدًا، ولا زيد أبيض من عمرو، إنما يقال: ما أشد بياضه، وهو أشد بياضا من ذلك. قالوا: وقول الشاعر:
جارية في درعها الفضفاض أبيض من أخت بني أياض
إنما جاء استثناء ولا يقاس عليه، ومثله قول الآخر:
إذا الرجال شتوا واشتد أكلهم فأنت أبيضهم سربال طباخ
وهذا الذي وقع في الحديث يصحح كون ذلك لغة، وكذلك قول عمر - رضي الله عنه -: " ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع "، قد احتج به بعضهم في أن التعجب قد يكون من الزائد على الثلاثي، وأنشدوا لذى الرمة:
وماشية خرقاء واهية الكلأ سقى بهما ساق ولم شللا
بأضيع من عينيك للماءكلما توهمت ربعًا أو تذكرت منزلا
قال القاضي: قد جاء في الروايات الأخر على الوجه المعروف عند النحاة: " ماؤه أشد بياضًا من اللبن ".
وقوله:« إنى لبعقر حوضي »، قال ثابت: عقر الحوض، بضم العين وسكون القاف: موقف الإبل إذا وردته. وتال غيره: عقره مؤخره، وعقر الدار، بفتح العين: أصلها. ويقال هذا بالضم أيضًا، وفي لغة الحجازيين. وقال أبو زيد: عقر دار القوم: وطنهم، وقال ثابت: عقر الدار: معظمها وبيضتها. وقال يعقوب: العقر: البناء المرتفع.(7/495)
وقوله:« يغمت فيه ميزابان »، كذا رويناه من ريق الفارسي والسجزي بغين معجمه، وتاء باثنتين فوقها، وكذا ذكره ثابت والهروي والخطابي وأكثرهم، ومعناه أ اتباع، الصب. وأصله: اتباع الشرب الشرب، والقول / القول، فأراد ان هذين الميزابين يصبان، فيه دائمًا، واللفظ يدل على أنه دفعة بعد دفعة. وقال الهروي: معناه: يدفقان فيه الماء دفقًا شديدًا متتابعًا. ورويناه من طريق العذري:" يعب " بعين مهملة وباء بواحدة، وكذا ذكره الحربي، وفسره بمعنى ما تقدم، أي لا ينقطع جريهما، قال: والعبُّ: الشرب بسرعة في نفس واحد. ووقع في رواية ابن ماهان:" يثعب" بثاء مثلثة قبل العين، ومعناه: يتفجر، كما قال في الحديث الآخر:" وجرحه يثعب دمًا".
وقوله في الحديث الآخر:« يشخب فيه ميزابان »، بالشين والخاء المعجمتين بمعناه. والشخب، بالفتح: السيلان بصوت.
وقوله:« ما بين لابتي حوضي »، أي ناحيتيه ؛ إذ عليهما يكون العطاش، أي تحوم للورود من العطش، ومنه:« لابتي المدينة »، أي: جانباها لكثرة حرها، وما يصيب فيها من العطش سبب ذلك. وأصل اللابة. الحرة، وهي أرض ألبست حجارة سود. زاد المطرز: إذا كانت بين جبلين، الواحدة لابة ولوبة. زاد أبو عبيد: ونوبة بالنون ولم يعرف ابن الأعرابي: نوبة، والجمع لاب ولوب ولابات في القليل. قال الخليل: اللاب واللوب واللواب: العطش. قال بعضهم: أصل قولهم: ما بين اللابتين بالمدينة، ثم استعمل في غيرها، كأنه ما بين حدين. وقيل: اللوب والئوب واللواب: الحوم حول الحياض في العطش، فلم يصل إليه بعد.(7/496)
وقوله: " سحقا "، أي: بعدًا. وفي هذا الحديث من علامات نبوته ما أخبر به - عليه السلام - عن إعطائه بمفاتيح خزائن الأرض، وذلك ما ملكت أمته منها. جاء في الحديث: أن إعطاءه مفاتيحها في النوم، فيحتمل، أنها رؤيا عبرها لما دفعت إليه مفاتيحها بملكها وفتحها على أمته، ويحتقل، أنها رؤيا وحي حقيقة من إعلامه بذلك وتمليكها إياه وتحذيره وقهره. واعلامه أنه ما يخاف أن يشركوا بعده، ولكن إنما يخاف من هلاكهم بتنافس الدنيا كما كان، لم يرد - عليه السلام - بإشراكهم وإشراك بعضهم، وقد ذكر في الحديث نفسه: أن منهم من يرتد، وإنما أراد إشراك جميعهم أو عامتهم، كما خاف من هلاك أكثرهم بالتنافر في الدنيا.
وذكر مسلم، حدثنا هرون بن سعيد الأيلى، حدثنا ابن وهب، أنبأنا أبو أسامة، عن أبي حازم، عن سهل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعن النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد، كذا في الأصول، وفيه إشكال /على من ينعطف، وتقدير عطفه على سهل، والقائل عن النعمان هو غير أبي حازم، روى الحديث عن سهل، عن النبي، وعن النعمان عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله في هذا الحديث:" خرج يومًا فصلى على أهل أحد صلاته على الميت "، يعني: أنه دعا لهم بمثل دعائه على الميت، وليس فيه حجة على الصلاة في الشهداء إذا لم يكن هذا عند قتلهم ودفنهم، وإنما كان بعد ذلك. وقد تقدم الكلام على هذه المسألة أول الكتاب وفي الجنائز.
وقوله:« أزود الناس عنه لأهل اليمن »، لتشرب ويطرد غيرهم عنه وبدفعهم حتى يشربوا، إكرامًا لهم ومجازاة، كما تقدموا الناس للايمان. وزاد ما أعداه عنه وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والزود: الطرد والدفع.(7/497)
وقوله:« أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم »، أي: يسيل عليهم. وأصله من الدفع، يقال: أرفض الدمع: إذا سال متفرقا. وعصاه هذه عندي المذكورة في الحديث هي المكنى عنها بالهراوة في صفته - صلى الله عليه وسلم - في الكتب القديمة بصاحب الهراوة. قال أهل اللغة: الهراوة: العصا، وهروته: إذا ضربته بالعصا، ولم يأت لمعناها في صفته تفسير إلا ما يظهر من هذا الحديث.
وقوله:« كما تزاد الغريبة من الإبل »، معناه: أن الرجل إذا سقى إبله ودخلت بينهما ناقة ليست منها، طردها وزادها عن حوضه، ودفعها عنه، حتى يسقى إبله. وهذا كما جاء في الحديث الآخر:« كما يزاد البعير الضال».
وقوله في رواية أنس في هذا الحديث:« فيمن يزاد رجال ممن صاحبني »، يدل على صحة تأويل من تأول أنهم أهل الردة، ولذلك قال - عليه السلام - فيهم: «سحقًا سحقًا »، والنبى - عليه السلام -. لا يقول ذلك في مذنبي أمته، بل يشفع له ويهتم بأمرهم، ويضرع إلى الله تعالى في رحمتهم والعفو عنهم. وقيل: بل هم صنفان، منهم العصاة المرتدون عن الاستقامة، المبدلون عملهم الصالح بغيره. ومنهم المرتدون على أعقابهم بالكفر، واسم التبديل يشملهم كلهم، وقد تقدم الكلام عليه مستوعبًا قبل.
وقوله:« أوتيت مفاتيح خزائن الأرض » جمع بمفاتيح، ومن رواه مفاتح بغير ياء التعويض فجمع مفتح، وهما لغتان فيه إعلامه - عليه السلام - بما يفتح عليه وعلى أمته بعده من ممالك الأرض وخزائنها.(7/498)
وقول سعد:" رأيت عن يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن شماله يوم أحد رجلين، عليهما ثياب بيض، يقاتلان عنه كأشد قتال "، فيه كرامة النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وكرامة الأولياء بذلك، واستحسان الناس البياض، وتقوية قلوب المؤمنين بما أراهم الله من ذلك، ورعبًا لقلوب المشركين. وقيل: إن إظهارهم?للمشركين إنما كان عند أخذ القتل فيهم واحتضارهم الموت، كما قال تعالى: { يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين }. وقيل: يجوز أن يردهم وان لم يموتوا، إبلاغا للاعتذار، وزيادة في إقامة الحجة عليهم.
وقوله:" كان - عليه السلام - أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس "، وذكر الحديث فيه أن صفات الأنبياء على أتم صفات الكمال في الأخلاق الحميدة، والنزاهة عن كل رذيلة. وقد بينا هذا على الغاية في غير هذا الكتاب.
وقوله:" وهو على فرس لأبي طلحة عري " إلى قوله:« وجدناه بحرًا »، قال الإمام: يقال: فرس عري، وقيل: أعراء، وقد أعر ولاه: إذا ركبه عريًّا، ورجل عريان.
وقوله:« وجدناه بحرًا »، قال أبو عبيد: يقال للفرس: إنه لبحر، وإنه لحث أي واسع الجرى.
قال القاضي: قال غيره: وكذلك فرس سكب وسح وقيض وغمر، كله إذا كان سريعا كثير العدو. وقال أبو عبيد: البحر: الفرس الذي كلما بعد جرى عقبه يجرى إجراء. قال: وأصل ذلك كله من السعة والكثرة، ومنه يقال للجواد: بحر، وللعالم بحر، شبه جميعهم بالبحر الذي لا ينقطع مده.
وقوله:« لم تراعوا »، أي لم يكن شيء يفزعكم، ولا حدث ما يروعكم. والروع: الفزع. كذا قال في الرواية الأخرى:" ما رأينا من فزع".(7/499)
وقوله:" وكان فرسًا يبطأ "، كذا لجميع الجمهور وشيوخنا، وعند الطبري وبعضهم:" تبطأ "، أي: يقبلا، وهو من معنى تبطأ، فيه بركة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ركبه، وأنه من آيات نبوته، وتقدى في الشجاعة والصبر. وفيه أجر الخيل غد مهم الأمور، وسبق الإنسان وانفراده بنفسه وخروجه في طلائع العدو والحرس، إذا كان يشق بنفسه في ذلك، وركوب الرجل فرس غيره في الغزو.
وجاء في الحديث الآخر: أن اسم هذا الفرس: مندوب. يحتمل أنه اسمه، لقب لغير معنى كسائر الأسماء، ويحتمل أنه سمى بذلك لندب به، وهو أثر الجرح إذا لم يرتفع /عن الجلد، ويحتمل أنه سمى بذلك من الخطر في السباق. والندب: الخطر، إما أن يكون سبق واحد خطر صاحبه أو سبق فجعل له الخطر، والله أعلم.
وقوله:" إن جبريل كان يلقاه في كل سنة في رمضان حتي ينسلخ، فيعرض عليه القرآن "، كذا في اكئر الروايات والنسخ، وهي رواية عامة شيوخنا. وفي بعض النسخ:" كل ليلة "، وهو المحفوظ، لكنه بمعنى الأول ؛ لأن قوله:" حتى ينسلخ " بمعنى:" كل ليلة.
وقوله:" فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة "، هذا بحكم تجديد الإيمان واليقين في قلبه، يملأ فاه الملك، وزيادة ترقيه في المقامات، وعلو الدرجات، بمناقشته ومدارسته للقرآن معه.
وفي قوله:" أجود بالخير من الريح المرسلة "، جواز المبالغة والإعياء في الكلام، وقد مر منه قبل هذا. وفي فعله - عليه السلام - هذا لقوله تعالى في تقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول التي كان أمر الله بها عباده فامتثله - عليه السلام - بين يدي مناجاة الملك وإن الله تعالى قد خفف الحكم ونسخه عن أمته.(7/500)
وقوله: " خدمت النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، ما قال لي: أفًّا قط، ولا قال لي لشيء قط: لم فعلت كذا، وهلا فعلت كذا، ولا عاب على شيئًا قط "، هذا من كرم خلقه - صلى الله عليه وسلم - وصبره، وحسن عشيرته، قال الإمام: وقوله:" أفًّا"، الأف كلمة، معناها: التبرم، وهي اسم فعل، وأتى بها في الكلام للاختصار والإيجاز ؛ لأنه يستعمله للواحد والاثنين والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، ومنه قوله تعالى:{ فلا تقل لهما أف }، وفيها لغات كثيرة، فإذا لم ينون فهو معرفة، وإذا نون فهو نكرة. فمعنى المعرفة: لا تقل لهما القبيح من القول. ومعنى النكرة: لا تقل لهما قبحا من القول. قال الهروي: يقال لكل ما يضجر منه ويستقل: أف له. وقال بعضهم: معنى أف: الاحتقار والاستقذار، أخذًا من الأنف وهو العليل، وفي الحديث: فالعاتق به على أنفه، ثم قال: أف أف،. قال ابن الأنباري: معناه: الاستقذار لما بينهم.
قال القاضي: الأف والنف: وسخ الأطفال، تستعمل هذه الكلمة في كل ما يستقذر. وفيه عشر لغات: أف بغير تنوين بالفتح والضم والكسر هذه ثلاث، وكذلك بالتنوين فهذه ست، وبالسكون، وضم الهمزة، وبالفتح وكسر الهمزة، وأفى وأفه بضم الهمزة فيهما، فهذه عشرة.
وقوله في الحديث الواحد: " خدمته عشر سنين "، وفي الآخر: " تسع سنين " أخره مرة عن السنين الكاملة، ولم يحسب الزائدة من الشهور عليها، فحسبت تسعًا، ولم يحسب فيها السنة التي ابتدأ خدمته فيها بعد قدومه، ومرة حسبها، إذ مدة مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة من حين قدومه إلى حين وفاته عشرة أعوام، لم يزد ساعة واحدة ؛ إذ توفى من النهار في مثله من اليوم الذي قدم فيه، وبعد استقراره بها كان استخدامه لأنس وهو ابن عشر، وقيل: ابن ثمان.(8/1)
قال الإمام: ذكر مسلم في الباب: عن شيبان وأبي الربيع قالا: حدثنا عبد الوارث، عن أبي التياح، عن أنس. كذا عند الجلودي وغيره في نسخة أبي العلاء، قالا: حدثنا عبد الواحد، عن أبي التياح. فجعل " عبد الواحد" بدل " عبد الوارث"، وهو ابن سعيد البنودي صاحب أبي التياح.
قال الإمام: وخرج بعد هذا بيسير حديث جابر عن عبد الرحمن بن مهدي. قال بعضهم: وعن محمد بن حاتم: ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قط فقال:لا. قال: حدثنا أبو كريب عن الأشجعى قال: وحدثني محمد بن حاتم، قال: حدثنا عبد الرحمن - يعني بن مهدي - هذا في نسخة أبي العلاء، ووقع عند الجلودي: حدثنا "محمد بن مثنى" بدل " محمد بن حاتم "، عن عبدالرحمن بن مهدي. قال بعضهم وعن محمد بن حاتم، خرجه أبو مسعود الدمشقي عن مسلم.
قال القاضي: وذكر مسلم في باب جود النبي - صلى الله عليه وسلم - وكرمه وتأليفه على الإسلام بالعطاء، وقول أنس: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها، أي: يظهر الإسلام أولاً للدنيا، فما يلتزم الإسلام وتمكن منه إلا وقد انشرح صدره له، وصرفه الله.
وقول صفوان: " لقد أعطاني، وإنه لأبغض الناس إلى فما برح يعطيني حتى أنه لأحب الناس إلي، فيه التأليف على الدين وعلى الخير، والأخذ بالتي هي أحسن.
وقد كان العطاء أولاً للمؤلفة قلوبهم مشروعًا، كما نص عليه تعالى في كتابه، وجعلهم أحد أصناف الصدقات، ثم اختلف هل حكمهم باق إلى وقتنا هذا متى احتيج إلي ذلك أم لا، وقد تقدم هذا في كتاب الزكاة. والفاقة: الحاجة. ومعنى قوله:" ما برح "، أي: ما زال.
وقول أبي بكر: " من كانت له على النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة أو دين فليأت "، فيه ما يلزم الأئمة من قضاء ديون من قبلهم، وتنفيذ أوامرهم. إذا كانوا على الحق، وفي سبيل الخير والنظر للمسلمين..(8/2)
وذكر مسلم حديث موت إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقوله:" وهو يكيد بنفسه "، قال في العين: معناه: يسوق. قال أبو مروان /بن سراج: يكون من الكيد وهو العين، يقال: كاد يكيد، شبه يقلع نفسه عند الموت بذلك، أو يكون من كيد الغراب وهو نفسه، وهو نحو منه، أو من كاد يكيد: إذا قارب، كله ممكن قريب المعنى في هذا، لأنه قارب أجله. وقوله: فدمعت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال:« تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون »، فيه أن مالا يملك الإنسان من دمع العين وحزن القلب غير مؤاخذ به عند المصانب، ولا في التفريق بما يجده الإنسان من ذلك إثم ولا حرج، لقوله ذلك - عليه السلام -.
وقوله: أما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان إبراهيم مسترضعًا له في عوالي المدينة، فكان ينطلق "، الحديث، إلى قوله: "وكان ظئره قينًا فيأخذه فيقبله ثم يرجع "، كذا رواية الأكثر:" أرحم بالعيال"، وهو ظاهر سياق الحديث، وفي بعض الروايات: في بالعباد. فيه خلقه - عليه السلام - في الرحمة التي وصفه الله بها، فقال:{ بالمؤمنين رءوف رحيم}، وسماه نبي الرحمة. وفيه حب الذرية، وجواز الاسترضاع، وتقبيل الولد والصغير ورحمته. والحديث الآخر مثله.
ومعنى قوله:« وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين مرضعانه في الجنة ». أي مات في سن رضاع الثدي أو تغذية الثدي.
قال الإمام: الظئر: المرضعة، وجمعه ظؤار، هو جمع شاذ. قال ابن السكيت: لم يأت " فعال ا بضم الفاء جمعا إلا تؤام جمع توأم، وظؤار جمع ظئر، وعراق جمع عرق، ورخال جمع رخل، وفرار جمع فرير، وهو ولد الظبية، وغنم رباب جمع شاة ربا. قال ابن ولاد: وهي الثاة الحديثة العهد بالنتاج. قوله: القين الحداد، وأيضًا العبد. والقينة الأمة، وأيضًا المغنية، وأيضًا الماشطة.(8/3)
قال القاضي: جاء بالظئر هنا للمذكر. قال الخليل: يقع للمذكر والمؤنث. قال أبوحاتم: الظئر مؤنثة من الناس والإبل إذا عطفت على ولد غيرها، ويجمع ظؤار. قال ابن الأنباري: وأظوار، ولا يقال: ظور. وحكى أبو زيد في جمعه ظؤرة أيضًا. قال الهروي: ولا يجمع على فعلة إلا أربعة أحرف: ظئر وظؤرة، وصاحب وصحبة. وفاره وفرهه، ورائق ودوقة.
ذكر مسلم أبا سيف وأم سيف ظئرى إبراهيم ابن النبي - عليه السلام -. وأبو سيف هذا هو البراء بن الغنوي، وأم سيف زوجته هي أم بردة، واسمها خولة بنت المنذر الأنصارية.
قوله للذين قالوا: لا يقبلون أولادهم:« وأملك إن كان الله نزع من قلبك الرحمة »، تفسيره ما جاء في رواية البخاري:« وأملك لك إن نزع الله من قلبك الرحمه »، ومعناه: أو أملك منك في ذلك / حتى أصرفه عنك. اللام هنا بمعنى " منك "، وقد تكون الهمزة بمعنى " لا " على قول بعضهم في قوله:{ أتهلكنا بما فعل السثفهاء منا }، إن معنى لا يفعل ذلك. وقوله في حديث الأقرع بن حابس أنه ذكر له أنه لا يقبل ولده:« إنه من لا يرحم لا يرحم »، كلام عام، ليس هو راجع لخصوص رحمة الولد، إنما هو على عموم الرحمة المشروعة، كما قال في الحديث الآخر:« من لا يرحم الناس لا يرحمه الله »، وكما قال:« إنما يرحم الله من عباده الرحماء »، « ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء »، ومن الرحمة واجبة ؟ وهي كف الأذى عن المسلمين، وإغاثة الملهوف، وفك العاني، وإحياء المضطر، واستنقاذ الغريق، والواقع في هلكته وتسميته. ومن ذلك: سد خلة الضعفاء والفقراء من الواجبات، فهذا كله من لم يرد حق الله فيه عافية الله ومنعه رحمته إذا أنفذ عليه وعيده، وان شاء عفا عنه وسمح له بفضل رحمته وسعتها.
قوله: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد حياء من العذراء في خدرها: العذراء: البكر التي لم تفرغ بعد عذرتها. الخدر: ستر يجعل للجارية في ناحية البيت.(8/4)
وقوله:" كان إذا كره شيئًا عرفناه في وجهه "، أي: لا يبدى الكراهة بالكلام، ولا يؤاخذ أحدًا بما يكره، وإن تغير لذلك وعرف في وجهه. والحياء من الأخلاق المحمودة، ومن خصال الإيمان، مالم يخرج إلى الضعف والمهانة. وقد تقدم أ الكلام في أول الكتاب.
جاء في سند هذا الحديث:حدثنا زهير بن حرب ومحمد بن المثنى وأحمد بن سنان، كذا لجمهور الرواة والطبري: أحمد بن سنان، وهو غلط، وليس عنده أحمد بن يسار، وإنما هو أحمد بن سنان العطار خرَّجا عنه جميعًا.
وقوله:" ولم يكن فاحشًا ولا متفحشًا "، أصل الفحش: الزيادة والخروج عن الحد. قال الطبري: الفاحش: البذىء. قال ابن عرفة: الفواحش عند العرب: القبائح. وقال الهروي: الفاحش ذو الفحش، والمتفحش: الذي يتكلف ذلك ويتعمده، وقد يكون الذي يأتي الفاحشة. وقوله:« إن من خياركم أحاسنكم أخلاقا »، وفي وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث بعد: أحسن الناس خلقًا، حسن الخلق من صفات الأنبياء والأولياء. وحسن الخلق اعتدالها بين طرفي مذمومها، ومخالفة الناس بالجميل منها، والبشر والتودد لهم، والإشفاق عليهم، والاحتمال، والحلم والصبر في المكاره، وترك الاستطالة والكبر على الناس والمؤاخذة، واستعمال الغضب والسلاطة والغلظة، قال الله تعالى:{ ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك }. وحكى الطبري اختلاف السلف في الخلق، هل هي غريزة غير مكتسبة أو مكتسبة ؟ والصحيح أن منها ما يخلق الله تعالى عليه العبد، وأنها تكتسب أيضًا، ويتخلق بها، ويقتدى بغيره فيها، وينشأ عليها، حتى يصير له كالغريزة.
قوله: " كان لا يقوم من مصلاة الذي صلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا / طلعت قام "، هذه سنة مستحبة، كان السلف وأهل العلم يلتزمونها ويقتصرون في ذلك / الوقت للذكر والدعاء حتى تطلع الشمس، وتحين صلاة الضحى.(8/5)