وقول عائشة:" خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بالحج " الحديث، وفيه:" ولم أهل إلا بعمرة "، قال الإمام: وذكرت في غير هذا: خرجنا لا نرى إلا الحج "، فيحتمل أن يكون قولها أن(1) ذلك كان اعتقادها من قبل أن تهل، ثم أهلت بعمرة، ويحتمل أن تريد بقولها:" لا ترى "، حكاية عن فعل غيرها من(2) جل(3) الصحابة، ولم ترد نفسها.
قال القاضي: وقال الداودي: وذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل منتظرًا لما يؤمر به من إفراد أو قران، أو تمتع، وذكر الخطابي حديثا في ذلك عن جابر بن عبدالله، وأنه - عليه السلام - أحرم من ذي الحليفة إحراما موقوفًا، وخرج ينتظر القضاء، فنزل الوحي عليه وهو على الصفا، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان معه هدي أن يحج، ومن ليس معه هدي أن يجعله عمرة.
__________
(1) في (هـ):" قولها لا نرى أن ".
(2) قوله:" غيرها من " ليس في (ط).
(3) في (أ):" فعل ".(5/72)
واختلفت الآثار عن عائشة فيما فعلته اختلافًا كثيرًا فذكر منها مسلم ما تقدم، وذكر أيضًا عنها في حديث القاسم:" لبينا(1) بالحج "، وعنها في حديثه أيضًا:" خرجنا مهلين بالحج "، وفيه حين أمر الناس بالعمرة، قولها: " سمعت كلامك فمنعت العمرة "، وقوله(2) لها:« عسى الله أن يرزقكيها(3)»، وفي حديث آخر عنها(4) لا يذكر إلا الحج، وكل هذا يصرح أنها أهلت بالحج، وذكر عنها من رواية الأسود:" نلبي لا نذكر حجًا ولا عمرة"، فاختلف تأويل العلماء في الكلام على هذا، فقال مالك: ليس العمل على حديث عروة عن عائشة عندنا قديمًا ولا حديثًا، وذهب بعضهم إلى ترجيح الحديث بأنها كانت مهلة بالحج، بدليل أنها رواية عمرة والأسود، والقاسم، وغلطوا رواية عمرة في العمرة، وإلى هذا ذهب إسماعيل القاضي. ورجحوا أيضًا رواية غيره، بأن عروة قال في حديث حماد بن زيد عن هشام عنه: حدثنى غير واحد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها:« دعي عمرتك »، فقد أبان أنه لم يسمع الحديث منها، ولا بيان في هذا، فقد يحتمل أنها ممن حدثه ذلك. قالوا: وبأن رواية عمرة والقاسم نسقت(5) عمل عائشة في الحج من أوله إلى آخره، ولهذا قال القاسم في رواية عمرة(6):" أنباتك بالحديث على وجهه "، وقالوا في رواية عروة: إنما أخبر عن مآل حالها، وأن الجمع بين ذلك ممكن، وكان(7) إهلالها بالحج كما نص عليه أولئك أولاً، وكما أنه الأثبت، والصحيح عن النبي - عليه السلام - وأصحابه، ثم أهلت بالعمرة حين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه(8) بفسخ الحج في العمرة، وهذا فسره القاسم في حديثه، فأخبر عروة عنها باعتمارها الآخر، الذي جرى لها فيه الحكم في حيضها قبل
__________
(1) في (ط):" له منا ".
(2) في (ط):" وقولها ".
(3) في (أ):" يرزقكها ".
(4) في (أ) و(ط):" عنه ".
(5) غير واضحة في (هـ).
(6) في (ط):" غيره ".
(7) في (ط) و(هـ):" فكان ".
(8) قوله:" أصحابه " ليس في (ح).(5/73)
تحللها منه، ولم يذكر أول أمرها. وقد يعارض هذا بما جاء مما أخبرت به عن فعل الناس واختلافهم في الإحرام مما سنذكره، وأنها هي إنما أهلت بعمرة، فقد يتأول هذا على ثانى فعلها أو استقرار أمر الناس على مفرد أو قارن ممن معه من الهدي، وتمتع بالعمرة إلى الحج كما سنذكره، ولم يكن معها هي هدي فلم تقرن، وأهلت حين الفسخ بعمرة، بخلاف من كان معه هدي ممن أردف العمرة على حجة، كما سيأتى إن شاء الله.
قال الإمام: واختلف الناس ما الأفضل: هل الإفراد أم القران أم التمتع، فقال مالك وغيره: الإفراد، وقال أبو حنيفة القران، وقال الشافعي وأهل الظاهر: التمتع، وسننبه على ما احتج به هؤلاء، وعلى ما اختاروه فيما بعد. واختلف الرواة أيضًا فيما فعله النبي - عليه السلام - هل كان إفرادا أم قرانًا أم تمتعا ؟ وقد اعترض بعض الملحدة على هذا الاختلاف، وقالوا: هي فعلة واحدة، فكيف اختلفوا فيها هذا الاختلاف المتضاد، وهذا يؤدي إلى الخلف في خبرهم، وقلة الثقة بنقلهم، وعن هذا الذي قالوا(1) ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن الكذب إنما يدخل فيما طريقه النقل، ولم يقولوا: أنه - عليه السلام - قال لهم: إني فعلت كذا، بل إنما استدلوا على معتقده بما ظهر لهم من أفعاله، وهو موضع تأويل، والتأويل يقع فيه الغلط، فإنما وقع لهم فيما طريقه الاستدلال لا النقل. والجواب الثاني:أنه يصح أن يكون - عليه السلام - لما أمر بعض أصحابه بالإفراد، وبعضهم بالقران، وبعضهم بالتمتع، أضاف النقلة إليه ذلك فعلاً، وإن كان إنما وقع ذلك منه قولاً، فقالوا: فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، كما قالوا: رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا وقتل السلطان اللص، أي: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجمه، والسلطان بقتله.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" قالوه ".(5/74)
والجواب الثالث: أنه يصح أن يكون - عليه السلام - قارنًا، وفرق بين زمان إحرامه بالعمرة وإحرامه بالحج، فسمعت طائفة قوله الأول:« لبيك بعمرة»، فقالوا: كان معتمرًا، وسمعت طائفة قوله آخرًا:« لبيك(1) بحج »، فقالوا: كان مفردًا، وسمعت طانفة القولين معا، فقالوا: كان قارنًا، وهذا التأويل يكون فيه حجة لأبي حنيفة في قوله(2): إن القران أفضل إذا كان هو الذي فعله - عليه السلام -.
قال القاضي: قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث من علمائنا وغيرهم، فمن مجيز منصف، ومن مقصر متكلف، ومن مطيل مكثر، ومن مقتصد مختصر، وأوسعهم نفسًا في ذلك أبو جعفر الطحاوي الحنفي المصري، فإنه تكلم في ذلك في نيف على ألف ورقة، وتكلم في ذلك أيضًا، معه أبو جعفر الطبري، وبعدهما أبو عبد الله بن أبي صفرة وأخوه المهلب، والقاضي أبو عبد الله بن المرابط، والقاضي أبو الحسن بن القصار البغدادي، والحافظ أبو عمر بن عبد البر، وغيرهم، وأولى ما يقال في هذا على ما فحصناه(3) من كلامهم واخترناه من اختياراتهم، مما هو أجمع للروايات وأشبه بمساق الأحاديث: أن النبي - عليه السلام - أباح للناس فعل هذه الثلاثة أشياء ليدل على جواز جميعها، إذ لو أمر بواحد لكان غيره لا يجزئ، وإذ كان - عليه السلام - لم يحج سوى هذه الحجة، فأضيف الكل إليه كما تقدم، وأخبر كل واحد بما أمره به، وأباحه له، ونسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، إما لأمره بذلك أو لتأويله عليه، وأما في حقه - عليه السلام - فاخذ بالأفضل أنه إنما أهل بالحج مفردًا، وبه تظاهرت الأخبار الصحيحة.
__________
(1) في (ط):" قوله آخر النسك ".
(2) قوله:" في قوله " ليس في (أ).
(3) في (ط) و(هـ):" لخصناه ".(5/75)
وأما الروايات(1) بأنه أهل معتمرًا ضعيفة إن لم تصرف إلى أمره، وفعل بعض الصحابة وما جاء بأنه أهل بهما جميعًا، وأنه كان قارنًا فحاله ثابتة له، والله أعلم، وذلك حين أمر أصحابه بالتحلل بالعمرة من حجهم ؛ لمخالفة الجاهلية، إلا من معه الهدي، ممن لا يمكنه التحلل، فيكون - عليه السلام - حينئذ هو وغيره ممن ساق الهدي أردف العمرة،مواساة لهم في فعلها في أشهر الحج، وتأنيسًا لما كانوا ينكرونه، ولم يمكنه التحلل لأجل الهدي، واعتذر لهم بذلك عن مساواتهم له في كل حال، فكان - عليه السلام - بفعله هذا قارنًا، وإن كان حكم القران عند مالك وكافة العلماء إرداف الحج على العمرة، ما لم يطف بالبيت، لم يختلفوا في جواز هذا وكونه قرانًا، وشذ بعض الناس فقال: لا يدخل إحرام على إحرام، كما لا تدخل صلاة على صلاة.
__________
(1) في (ط):" وأما والروايات "، وفي (هـ):" والروايات.(5/76)
واختلفوا في إرداف العمرة على الحج، فأجاز ذلك أصحاب الرأي، وقالوا: يكون قارنًا اتباعًا لظاهر هذه الأحاديث، ومنعها غيرهم، واختلف قول الشافعي في ذلك، وحكى المنع عن أبي حنيفة وأصحابه أيضًا، وأن(1) يكون فعل النبي - عليه السلام - هذا خصوصًا لضرورة الاعتمار حينئذ في أشهر الحج بفسخ الحج في العمرة، وكذلك يتأول قول من قال: إنه متمتع، أي: تمتع بالعمرة في أشهر الحج، بفعلها مع الحج، إذ لفظة: المتعة بالعمرة تنطلق على معان كثيرة عند العلماء، سنذكرها بعد، فتجمع الأحاديث وتأتلف على هذا، ولا يبعد رد ما جاء عن الصحابة في فعل ذلك إلى مثل هذا مع الروايات الصحيحة أنهم أحرموا بالحج، فيكون الإفراد لما فعلوه أولاً، والقران لمن اعتمر ممن معه هدي وأردف عمرته على الحج والتمتع، لفسخهم الحج في العمرة، ثم إهلالهم بالحج بعد التحلل منها، كما فعله كل من لم يكن معه هدي، والله أعلم بالصواب. وقد قال بعض علمائنا: إنه - عليه السلام - أحرم منتظرًا ما يؤمر به من إفراد أو تمتع أو قران، إذ كان أمر بالأذان بالحج مطلقًا، كما ذكرناه عن أحمد بن نصر الداودي وأبي سليمان الخطابي، وحديث جابر بن عبد الله، قالوا: فأحرم بالحج مفردًا لظاهر أمر الله به له، فنقل ذلك عنه من سمعه حينئذ، ثم زاد في تلبيته ذكر العمرة، ولعل ذلك لقوله:{ وأتموا الحج والعمرة لله }، فنقل ذلك عنه من سمع القران هنا تلبية أيضًا(2) ولم يسمع ما قبله، ثم جاءه الوحى بالعقيق على ما جاء في الحديث الصحيح بقوله: «صل في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة في حجة »، فنقل التمتع عنه من نقله، ولعل من نقل القران نقله من هذا اللفظ، وما تقدم قبل أبين وأحسن في التأويل، والله أعلم.
__________
(1) قوله:" أن " ليس في (ط) و(هـ).
(2) في (هـ):" القران هذا منه أيضًا ".(5/77)
قال الإمام: وأما قوله لعائشة:« وأهلي بحج واتركي العمرة »، فقيل: ليس المراد هاهنا بترك العمرة إسقاطها جملة وإنما المراد ترك فعلها مفردة، وإرداف الحج عليها حتى تصير قارنة، ويؤيد هذا أن في بعض طرقه: «وامسكي عن العمرة »، ويؤيده أيضًا أنه - عليه السلام - ذكر بعد هذا أنه قال لها يوم النفر:« يسعك طوافك لحجك وعمرتك »، فأبت، فأمرها - عليه السلام - أن تمضي مع عبد الرحمن أخيها فتعتمر، فإن عورضنا في هذا التأويل بقوله في آخر الحديث لما مضت مع أخيها:« هذه مكان عمرتك »، قلنا: يحتمل أن يكون ذلك لأنها أرادت أن تكون لها عمرة مفردة، كما كانت أحبت أن تفعل أولاً، فقال - عليه السلام - لها: هذه مكان التي أردت إفرادها.
قال القاضي: ويدل عليه قوله - عليه السلام - في حديث أبي أيوب الغيلاني: "فأهللت منها - يعني من التنعيم - بعمرة(1)، جزاء بعمرة الناس التي اعتمروا".
قال الإمام: وقد قيل: إنها كانت من جملة من فسخ الحج في عمرة، ولم تشرع في العمرة حتى حاضت، فأمرها - عليه السلام - أن تبقى على حكم الحج من غير فسخ.
قال القاضي: ويكون على هذا التأويل، وهو أظهر على ما قدمنا: أنها كانت حاجة.
__________
(1) قوله:" بعمرة " ليس في (أ).(5/78)
معنى قوله لها:« أهلي بالحج »، أي: استديمي فعله، إذ لم يتفق لها فسخه بالعمرة والتحلل منه لأجل عذرها المذكور، ويعضد هذا قوله في الحديث الآخر :« كونى في حجك »، ولأن رفض الإحرام لا يصح عند مالك وأصحابه، فلما لم يمكنها فسخ حجها في عمرة بقيت على حجها، أوجدي(1) الإهلال به ؛إذ كانت نوت رفضه والتحلل منه، وقد قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور ومن وافقهم، في المعتمرة تحيض قبل الطواف، وتخشى فوت عرفة، أنها تهل بالحج، وتكون كمن قرن، خلافًا للكوفيين بأنها ترفض العمرة أخذا بظاهر هذا الحديث، ومما يدل أن اعتمار عائشة آخرًا غير قضاء، وانما كان تحللا منها رغبة في عمرة منفردة كما فعله أكثر الناس،[ وظاهر الأحاديث كلها أن عائشة كانت قد أحرمت، خلافًا لما تأوله الداودي من قوله: يحتمل أن عائشة لم تحرم بعد، وأن معنى قوله:« دع العمرة »، أي: لا تهل بها وأهلي بالحج، ولا معنى لهذا، لأن إحرامهم منه قد تقدم بالمدينة، وهذا الكلام بمكة ](2).
وقوله في حديث جابر:" وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهلاً إذا هويت الشيء(3) تابعها عليه "، قال الإمام: وقوله - عليه السلام - لها:« انقضي رأسك وامتشطي »، تأول بعض شيوخنا أنها تحمل على أنها كانت مضطرة لذلك لأذى برأسها، فاباح لها ذلك كما أباح لكعب بن عجرة الحلاق لأذى برأسه، وقد ذكر فيه تأويل ثان فيه تعسف، وهو أنها أعادت الشكوى بعد جمرة العقبة، فأباح لها الامتشاط حينئذ، وهذا بعيد من ظاهر لفظ الخبر.
__________
(1) في (أ):" أوجدي هذا ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(3) في (هـ):" لشيء ".(5/79)
قال القاضي: وقد ذكر الخطابي أيضًا فيه تأويلاً آخر، أنه كان من مذهبها: أن المعتمر إذا دخل مكة كان له أن يستبيح ما يستبيحه المحرم إذا رمى جمرة العقبة، ومالك قال: حديث عروة عن عائشة في هذا ليس عليه العمل عندنا قديما ولا حديثًا، وقد يكون هنا نقض الرأس والامتشاط حل شعرها لغسل الإحرام بالحج، لا سيما إن كانت لبدت، فلا يصح لها غسل للإهلال إلا بنقض ضفره، وإدخال أصابعها بالماء فيه ليتخلل تلبيده، ويصل الماء إلى جميعه، وقد يكون المراد بمشطه تسريحها له بأصابعها للغسل، لا بالمشط الذي يزيل القمل، ويذهب الشعث، هذا إذا قلنا: إنها كانت رفضت فعلها الأول من حج، ونوت فسخه في العمرة، أو نوت رفض العمرة على القول أنها كانت اعتمرت، وعلى القول بأن العبادات ترتفض، ولقوله في حديث جابر عنها في هذا الحديث:« فاغتسلى ثم أهلى بالحج »، وقد جاء في البخاري من رواية بعضهم في حديث عائشة:" هذه مكان عمرتي التي نسكت(1)"، فإن صحت هذه الرواية فهي مما يحتج بها(2) من تأول أنها فعلت ذلك لضرورة وشكوى، ورواية أبي ذر والأصيلي عن الجرجاني في هذا الحرف: "نسكت "، وعند المروزي:" سكت "، قال الأصيلى: معناه: سكت عنها، فهاتان الروايتان تدل أنها لم يرفضها، وقال بعضهم: إنما أمرها بنقض رأسها والامتشاط، يعني بأصابعها، لتخليل شعر رأسها عند طهورها من الحيضة، وهذا فيه بعد ؛ لأن ظاهر أمره(3) لها بذلك في الحال لا في المآل.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" شكت ".
(2) في (هـ):" به ".
(3) في (هـ):" وأمره "، وفي (ط):" ظاهره أمره ".(5/80)
وقوله - عليه السلام -:« من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة »، قال الإمام: يحتمل أن يكون قال لهم ذلك عند عقد الإحرام ليكون ما فعلوه قرانًا، أو قال ذلك بعد إحرامهم بالعمرة المفردة، فيكون ذلك إردافًا، وقد قال أبو حنيفة: المعتمر في أشهر الحج المريد للحج إذا كان معه هدي فلا يحل من عمرته، ويبقى على إحرامه حتى يحج، تعلقا بظاهر هذا الحديث، وقد قلنا: إنه يحتمل أن يكون أمرهم بذلك عند عقد الإحرام، فلا يكون له فيه حجة، وتعلق أيضًا بإخباره - عليه السلام - أن المانع له من الإحلال سوق الهدي، واعتذر بذلك لأصحابه لما أمرهم بالإحلال وهذا لا يسلم له(1)؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن معتمرًا، وقد أخبرت عائشة أن الذين أهلوا بالعمرة طافوا وسعوا وحلوا، ولم يفرق بين من كان معه هدي أو لم يكن.
__________
(1) قوله:" له " ليس في (أ).(5/81)
قال القاضي: الذي يدل عليه المنصوص في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من رواية عائشة وجابر وغيرهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قال لهم هذا القول بعد إحرامهم بالحج ومنتهى سفرهم، ودنوهم من مكة بسرف على ما جاء في حديث عائشة، وبعد طوافه بالبيت وسعيه على ما جاء في حديث جابر، ويحتمل تكراره الأمر بذلك بالموضعين، وأن العزيمة كانت آخرًا، على ما نذكره بعد حين(1) أمرهم بفسخ الحج في العمرة، ومخالفة الجاهلية بإنكار الاعتمار في اشهر الحج، ولما امتنع من(2) معه هدي الإحلال حتى يبلغ الهدي محله، ولم يمكنه فسخ حجه بعمرة أمره - عليه السلام - بالاعتمار، وإدخاله على الحج، فيكون قرانًا، ويكون معنى:" يهل بالحج مع العمرة ": أي: يضيف إلى لي حجه عمرة ويجمعهما، وكان هذا - والله أعلم بمراد نبيه - للضرورة، إذ لم يمكنهم الفسخ حتى يكون جميعهم معتمرا، كما كان الفسخ لهم خاصة، للعلة المذكورة قبله، وبهذا يتأول قران من قرن ورواية من روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن ليكون معتمرا كما اعتمروا، ويكون هذا بما روى عنه وعنهم بالتلبية بهما جميعًا، لا أن ذلك كان أول الإحرام، ويدل على أنهم كانوا مفردين أولاً قوله - عليه السلام -:« من لم يكن معه هدي فاحب أن يجعلها عمرة فليفعل »، ولو كانوا قارنين لقال: فليجعلهما عمرة، أو فليتحلل بعمرته.
قال الإمام: وقولها:" وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافًا واحدًا "، فيه حجة على أبي حنيفة في قوله:" إن القارن لا يطوف طوافًا واحدًا"، وقد تأول قولها: " طوافًا واحدًا "، أي: طوافين على صفة واحدة، وهذا فيه بعد، ويؤيد قولنا قوله - عليه السلام - أيضًا المتقدم: « سعيك وطوافك، يجزيك لحجك وعمرتك ».
__________
(1) في (أ):" خبر".
(2) في (ط):" فمن ".(5/82)
قال القاضي: في هذا الحديث دليل على أنها لم ترفض العمرة [ كرة ؛ إذ جعل الطواف يجزئ لهما جميعًا، على هذا كانت العمرة](1) مقدمة أو مؤخرة على ما ذكرناه. قال الإمام: وذكر قول عائشة:" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل بحج ": فيه حجة لمالك على أن الإفراد أفضل ؛ لأن عائشة تعلم من حال النبي - عليه السلام - في حله وحرمه ما تعرف المرأة من زوجها، فكانت روايتها أرجح، ولمالك أيضًا حديث جابر، وقد استقصى فيه ما جرى في حجته - عليه السلام - وذكر الإفراد.
قال القاضي: وقد ذكر مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد من رواية أبي سعيد، وابن عمر، وابن عباس نصًّا، وعن أسماء نحوه.
قال الإمام: ومما يرجح به الإفراد أن الخلفاء بعده - عليه السلام - ورضى الله عنهم أفردوا، ولو لم يكن - عليه السلام - مفردًا لم يواظبوا على ذلك، ويتفقوا على اختيار الإفراد ؛ إذ لا يتركرن فعله - عليه السلام - ويفعلون خلافه ؛ ولأن الإفراد لا جبران فيه، فكان أفضل مما يجبر بالدم.
قال القاضي: تقدم الخلاف في ذلك، وبقول مالك قال الشافعي - في أحد قوليه - وهو قول الأوزاعي وأبي ثور وابن الماجشون، وجماعة من الصحابة والتابعين والمروي من فعل أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم -، مدة خلافتهم، واختلف في ذلك عن على، وبقول أبي حنيفة في تفضيل القران قال الثوري والمزني وإسحاق والطحاوي، وذكر أنه مذهب على وإسحاق وجماعة من التابعين وغيرهم، وبقول الشافعي الآخر - في أن التمتع [ أفضل - قال أحمد بن حنبل، وحكى عن إسحاق، وذهب أبو يوسف إلى أن التمتع](2) والقران سواء، وهو(3) أفضل من الإفراد، مع أنه لا خلاف بين العلماء أن الجميع جائز ومباح. وما روى عن عمر وغيره في إنكار المتعة يأتى الكلام عليه ومعناه إن شاء الله.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (هـ).
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(3) في (هـ):" وهما ".(5/83)
وقال بعضهم: ليس شيء من ذلك أفضل من بعض، لأن النبي - عليه السلام - لم يحج إلا مرة وهو لا يمكن جمعه هذه الوجوه الثلاثة في مرة، ولا بد من فعل أحدها، فليس فيما يثبت(1) عنه من ذلك من فعل ما فعل، ما يدل أنه الأرجح، وإنما يستدل بالأرجح على ما ثابر عليه، وهذا يعكس عليه بأن يقال: إذا لم يمكن الجمع فاختياره لما اختار يدل أنه الأفضل.
قال الإمام: وقوله لصفية:" عقرى حلقى "، معناه: عقرها الله، وأصابها بوجع في حلقها، وهذا ظاهره الدعاء عليها، وليس بدعاء في الحقيقة، وهذا من مذهبهم معروف. قال أبو عبيد: صوابه: عقرى حلقى(2)؛ لأن معناه: عقرها الله عقرًا، قال غيره: مثل سقاه الله سقيًّا، ورعاه رعيًا، وقيل: عقرى حلقى، بغير تنوين صواب ؛ لأن معناه: جعلها الله كذلك، عقرى حلق(3) فالألف للتأنيث، مثل: غضبى وحبلى، وقيل: عقرى، أي: جعلها الله عاقرا، وحلقى من قولهم: حلقت المرأة قومها بشؤمها.
قال القاضي: قيل: يقال للمرأة: عقرى حلقى: أي: مشؤومة مؤذية، وقيل: تعقر قومها وتحلقهم.[ وقال الأصمعي: يقال ذلك للأمر تعجب منه](4)، وقيل: هي كلمة تقولها اليهود للحائض. قال الأصمعي: والعرب تقول: أصبحت أمه حالقًا، أي: ثاكلاً، وقيل: ثكلى فتحلق أمه رأسها، وهي عاقر لا تلد، وقال الداودي(5): معناه: أنت طويلة اللسان لما كلمته بما يكره مأخوذ من الحلق الذي منه خروج الصوت، وكذلك عقرى مثله، من العقيرة وهو الصوت، وهذا تفسير خرج عن قول جميعهم لغة ومعنى، وعن مقتضى الحديث ومفهومه.
وقوله:« لا بأس انفري »، دليل أنه لا يلزم الحائض طواف الوداع، ولا الصبر حتى تطهر، وعليه كافة الفقهاء خلافًا لبعض السلف.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" ثبت ".
(2) في (ط) و(هـ):" عقرًا حلقًا ".
(3) قوله:" عقرى حلق " ليس في (أ) و(ط).
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(5) قوله:" الداوي " ليس في (ط).(5/84)
وقول عائشة:" نفست "، وقولها في الحديث الآخر:" طمثت "، وفي الآخر:"عركت"،:بفتح الراء، كلها بمعنى: حضت، يقال: حاضت المرأة، وتحيضت ونفست ونفست وعركت وطمثت وطمثت ودرست وعصرت، وفي هذين الحديثين وغيرهما خروج النساء إلى الحج مع أزواجهن، ولا خلاف في وجوب الحج على المرأة كالرجل إذا استطاعته، لكن اختلف هل المحرم من الاستطاعة أم لا ؛ لنهيه - عليه السلام - عن سفرها مع غير ذي محرم، على ماسنذكره بعد عند ذكر هذا الحديث، واختلفوا هل لزوجها منعها من حج الفريضة، فجمهورهم على أن ليس له ذلك، واختلف قول الشافعي، فوافق على هذا مرة، وقال مرة(1): له منعها، ولم يختلفوا أن له منعها من حج التطوع.
وقول عائشة:" خرجنا نلبي لا نذكر حجًا ولا عمرة "، قال الإمام: يحتمل أن يكون قولها: " لانذكر "، أي: لاننطق بذلك، وهذا مذهب مالك أن النية تجزئ في ذلك دون النطق، ويحتمل أن تكون أنها أرادت أنها عقدت إحرامها مبهما، وهذا احد التأويلات أيضًا في إحرامه - عليه السلام - في حجته أنه كان أولاً مبهمًا، حتى أوحى إليه بتعيين ذلك على الخلاف المذكور فيه، والأظهر من التأويلين الأول وأنها أرادت النطق ؛ لأنها ذكرت - فيما تقدم - أنها كانت أهلت بعمرة، فيبعد تأويل الإبهام عليها.
قال القاضي: هذا هو الصحيح الذي لايجب أن يقال سواه، وهي تصرح في غير حديث بإهلالهم بالحج، ولا يصح ماروى من الإبهام عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الرواية عن جابر رواية وغيره من الصحابة تخالف في الآثار الصحيحة المشهورة، وقوله:" لولا إني أهديت لأهللت بعمرة "
__________
(1) في (هـ):" مرة أخرى ".(5/85)
وقوله:« لو استقبلت من أمري ما استدبرت ماسقت الهدي معي(1)، حتى أشتريه ثم أحل »، قال الإمام: يتعلق به من يقول: إن التمتع أفضل ؛ إذ لايتمنى - عليه السلام - إلا ما هو أفضل، ويحتمل أن يريد بهذا الفسخ الذي هو خاص لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجل مخالفتهم الجاهلية، ولم يرد(2) بذلك المتعة التي يذهب إليها المخالف.
قال القاضي: وانما قاله - عليه السلام - تطييبًا لأنفس الناس ؛ ولأنه لم يمنعه أن يفعل هو ما أمرهم به إلا ما معه من الهدي، ولولا ذلك لفسخ حجه في عمرة كما أمرهم به، لا أنه قال(3) ذلك متمنيا، وفيه دليل أنه لم يكن معتمرًا، وإنما كان مفردًا.
__________
(1) قوله:" معي " ليس في (هـ).
(2) في (ط):" ير ".
(3) في (ط):" فعل ".(5/86)
وقول عائشة:" فقضى الله حجنا وعمرتنا، ولم يكن في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم "، قال القاضي: أي: أتمه، وفيه حجة أنها كانت في حج مفرد ولم تكن متمتعة ولا قارنة ؛ إذ لم يختلف العلماء في وجوب الدم أو الصوم لمن لم يجد هديا فيهما، إلا داود في إسقاط دم القران، وأن عمرتها التي كانت بعد حجها لم تكن قضاء، وأنها كانت مبتدأة، وأن الاعتمار بعد الحج ليس بمتعة(1)، ويكون هنا إخبارها عن نفسها خاصة وأنها كانت أحرمت بالحج ثم نوت فسخه في العمرة، فلما حاضت ولم يتم لها ذلك رجعت إلى حجها، فلما اكملته اعتمرت، فلم تكن على هذا متمتعة ولا قارنة، ويكون قوله(2) على هذا: أن " ارفضي عمرتك "، على ظاهره، وعلى رواية: " استمري على عمرتك "، أي: إحرامك الأول، والحج تسمى عمرة، أو يكون الدم والصيام إنما يجب على المتمتعين والقارنين القاصدين لذلك لرفع مشقة أحد السفرين على ما عللوا به وجوب الدم، ويكون غير القاصد لذلك بخلافهم، وأما من فسخ من هؤلاء حجه في عمرة أو أضافها إليه بحكم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليظهر الاعتمار في أشهر الحج مخالفة للجاهلية، وليعلموا به في حضرته فتطمئن نفوسهم لما كانوا عهدوه قبل من غليظ إنكار ذلك، والله أعلم.
__________
(1) في (ط):" يتبعه ".
(2) في (ط):" قولها ".(5/87)
وقولها: " وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة، فلم يحلوا حتى كان يوم النحر "، هذا حكم القارن والمفرد، أنه لا يحل حتى يتم حجه، وهذا ما لا اختلاف فيه، لكن تعارضه الأخبار الأخر، الذي ألزمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها فسخ الحج في العمرة(1)، وأنهم حلوا، ولعل(2) قولها فليس معه هدي، كما جاء مفسرًا في الحديث الآخر:" فأحل الناس إلا من كان معه هدي، وكان الهدي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وذوي اليسار من أصحابه " وهو أولى ما يحمل عليه، بل لا يصح سواه ؛ إذ هو حديث واحد، وحجة واحدة. وقوله في الحيض:« هذا شيء كتبه الله على بنات آدم »، وظاهره العموم، وهو يرد قول من قال: أول ما أرسل الحيض على بني إسرائيل، ويرد هذا أيضًا قوله تعالى في قصة إبراهيم وهو جد بني إسرائيل:{ وامرأته قائمة فضحكت }، قال أهل التفسير: أي: حاضت، وهو معروف في لغة العرب.
وقوله:« لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي »، دليل على منع الحائض- وإن انقطع عنها دمها - من دخول المسجد، وهو في هذا أشد ؛ لأن الطواف صلاة، وتتصل به الركعتان، ولا صلاة بغير طهارة، وفيه تنزيه المساجد عن الأقذار، والحائض والجنب(3)، وقد تقدم من هذا قبل.
وقولها:" فلما كانت ليلة الحصبة "، بسكون الصاد، أي: ليلة النزول بالمحصب،كما جاء في الرواية الأخرى:" فلما طفنا بالبيت ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحصب "، وهي ليلة النفر، والمحصب(4): هو موضع بين مكة ومنى، وهو إلى منى أقرب، وإليها يضاف، ولذلك قال الشعراء:
بالمحصّب من منى
__________
(1) في (ط) و(هـ):" الحج بالعمرة ".
(2) في (ط) و(هـ):" فلعل ".
(3) في (أ):" والخبث ".
(4) قوله:" المحصب " ليس في (أ).(5/88)
ويعرف أيضًا بالبطحاء، والأبطح، وهو خيف بني كنانة. قال الخطابي: وهو فم الشعب الذي يخرج إلى الأبطح، وهو منزل النبي - عليه السلام - في حجته، وبه كانت تقاسمت قريش على بني هاشم وبنى المطلب في شأن الصحيفة، وقد اختلف السلف في التحصيب، وهو النزول يوم النفر به، وصلاة الظهر والعصر والعشاءين به، ويخرج منه ليلاً إلى مكة كما فعل النبي - عليه السلام - به، اقتداء بالنبى - صلى الله عليه وسلم -، فقال به بعضهم، وقاله الشافعي ومالك ولم يره بعضهم، وقال: إنما هو منزل نزله النبي - عليه السلام - ليكون أسمح لخروجه، يعني للمدينة، مع اتفاقهم على أنه ليس من نسك الحج، وسيأتي بعد هذا أمره لها ولعبد الرحمن(1) أن تعتمر من التنعيم، يقتضي أن الإحرام بالعمرة إنما يكون من الحل؛ لأن النسك يقتضي الجمع(2) بين الحل والحرم، وعمل العمرة كله في الحرم فلابد من الإحرام لها من الحل، والمعتمر أقرب إلى البيت وهو قول الجمهور.
واختلفوا فيمن اعتمر من مكة ولم يخرج إلى الحل، فذهب أصحاب الرأي، وأبو ثور والشافعي في قول: أن عليه دمًا، كتارك الميقات، وقال عطاء: لا شيء عليه، وقال مالك والشافعي أيضًا: لا يجزئه ويخرج إلى الحل ثم يعيد عمل العمرة، وقال قوم: لابد من الإحرام من التنعيم خاصًّا، وهو ميقات المعتمرين من مكة.
__________
(1) في (ط):" بعد الوجهين " بدل:" وعبدالرحمن".
(2) في (ط):" الحج ".(5/89)
وقولها:" فأتينا بلحم بقر "، فقلت: ما هذا ؟ قال: أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه(1) البقر "، فيه إهداء الرجل عن أهله ومن يمونه، وإن لم يجب عليه ذلك، وهذه الهدايا - والله أعلم - كانت تطوعًا عنهن. فيه جواز التطوع عن الرجل بالصدقة والعتق، وما يكون من باب المال، وإخراج الكفارات عمن وجبت عليه، وإن لم تكن بأمره. وعندنا في هذا الباب اختلاف في العتق الواجب بغير أمر المعتق عنه، وقد تأولها بعضهم أنه عن متعتهن أو قرانهن(2)، ففيه جواز هذا البقر في هذا، ولم يختلف في جواز إهداء البقر إلا شاذ، وقد روي أنه أهدى عن نسائه(3) بقرة،[ وروى أبو داود: أنه - عليه السلام - نحر في حجة الوداع عن آل محمد بقرة ](4) واحدة، فيستدل بهذا من يرى الشريك(5) في الواجب، وقد تقدم الكلام والخلاف فيه، وأن مالكًا لا يراه،ويحتمل أنه ذبح عن كل واحدة بقرة، ويدل قوله: " البقر ": أنها جماعة، ويكون رواية من روى عنهن:" بقرة "، أي: عن(6) كل واحدة(7)، وقد رواه النسائي مفسرًا، كذا عن نسائه بقرة بقرة، وهذا يرفع الإشكال، أو يكون أدخلهن وشركهن في ذلك مع نفسه كما يفعل في الضحايا عن أهل البيت، كما قال: " عن آل محمد ".
__________
(1) في (ط):" عائشة ".
(2) في (هـ):" أقرانهن ".
(3) في (ط):" عائشة ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(5) في (ط) و(هـ):" التشريك ".
(6) في (هـ):" على ".
(7) في (ط):" واحدة بقرة ".(5/90)
وقد اختلف المذهب عندنا في تشريك أهل البيت في هدي التطوع، وسيأتي الكلام عليه بعد هذا بأشبع إن شاء الله، واذا قلنا: إنه تطوع فإنه يجوز الاشتراك فيه عند جميعهم، إلا في أحد قولي مالك، وأما قوله في الرواية الأخرى في هذا الحديث:" وضحى عن نسائه بالبقر "، فليس المراد بها الأضحية هنا، إذ لا أضحية على الحاج، وإنما معناه: أهدى، بدليل الروايات الأخر، لكن في هذا اللفظ ما يستروح إلى أنه تطوع، أي: جعلها مكان الأضحية لغير الحاج.
قال القاضي: قال مسلم في هذا الباب: ثنا سليمان بن عبيد الله أبو أيوب الغيلاني. كذا لهم، وهو الصواب. ووقع عند السمرقندي: سليمان بن عبد الله.
وقولها:" " خرجنا مع رسول الله - عليه السلام - مهلين بالحج في أشهر الحج وفي حرم الحج،[ وليالى الحج،: اختلف في أشهر الحج ](1)، والمراد بقوله تعالى: {الحج أشهر معلومات }، ما هي ؟ فقيل: شوال وذوالقعدة وذو الحجة، وهذا مشهور مذهب مالك، وروى عن ابن عباس وابن عمر وعامة العلماء على أنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، والمراد عندهم بالآية في أشهر معلومات، وروى مثله عن مالك وابن عباس وابن عمر أيضًا، وقال الشافعي: شهران وتسعة أيام من ذي الحجة وليلة النحر دون يومه، وفائدة الخلاف في ذلك جواز تأخير طواف الإفاضة في بقية الشهر ولا يكون عليه دم، وتأخيره حتى يخرج يوجب الدم، واختار ابن القصار هذا من قول مالك، وعلى القول الآخر أيضًا إذا غربت الشمس من يوم النحر حصل التحلل، وإن لم يطف ولم يرم جمرة العقبة.
وقولها: " خرجنا موافين لهلال ذي الحجة "، على معنى المقاربة لقولها في الحديث الآخر:" خرجنا لخمس بقين من ذي القعدة "، وليس معناه: موافقين للهلال.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ك).(5/91)
وقولها في حديث القاسم حين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحب أن يجعلها عمرة: "فمنهم الآخذ بها والتارك لها، ممن لم يكن معه هدي، يدل أنهم بعد كلهم أصفقوا على فسخها في عمرة، والتحلل بها قوله - عليه السلام -:« افعلوا ما آمركم به»، وغضبه على من ترك فعل ذلك.
وقوله لعائشة:« أو ماشعرت أني(1) أمرت الناس بأمر فإذا هم يتردّدون(2)»، وقوله:« إني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا هدي لحللت(3) كما تحلون» الحديث، وقولهم:" فحللنا وسمعنا وأطعنا ": فهذا يدل أنها كانت بعد عزمة منه، بعد أن خيرهم في ذلك ؛ لتأنس نفوسهم للاعتمار في أشهر الحج وأيامه، ولا ينكرون ذلك على إلفهم في الجاهلية، ألا تراه كيف قال في حديث جابر:" فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا "، وقول عائشة في هذا الحديث: سمعت كلامك مع أصحابك، فسمعت العمرة"، فقال:« أما لك ؟»، قالت: لا أصلي، قال:« لا يضرك، كوني في حجك »، كذا الرواية عند جمهور رواة مسلم، وفي كتاب(4) ابن سعيد: "فمنعت العمرة "، وهو الصواب.
وقوله:« كوني في حجك »، أصح حجة على(5) أنها لم تكن اعتمرت، ولا فسخت حجها، أي: اثبتي على حجك.
وقوله:« فعسى الله أن يرزقكها »، يعني العمرة، والله أعلم، كما كان من اعتمارها بعد تمام حجها، وقد يحتمل أنه يريد أن يرزقك تمام حجك وتفوزي بأجره(6)، وكذا ذكره البخاري.
__________
(1) في (ط):" أي ".
(2) في (أ):" مترددون ".
(3) في (هـ):" لتحللت ".
(4) في (هـ):" رواية ".
(5) قوله:" على " ليس في (ط) و(هـ).
(6) في (هـ):" مأجورة ".(5/92)
وقولها:" فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح، ثم خرجنا إلى المدينة"، فيه سنة طواف الوداع، وأنه مشروع مسنون، ولا خلاف فيه، وأبو حنيفة يوجبه. ومن سننه(1) أن يكون آخر عمل الحج، ويكون سفره بإثره وآخر عهده البيت، ألا ترى كيف أخره النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى اعتمرت عائشة؛ لأنه كان ينتظرها بالمحصب موضع مبيته، فلما أكملت ذلك طاف وخرج راجعًا، وهذا قول جمهور العلماء، لكن رخص له مالك في شراء بعض جهازه بعد طوافه وطعامه، وقاله الشافعي: إذا اشترى ذلك في طريقه، ولم ير مالك طوله إلا يومًا وليلة(2) في أشهر قوليه، ولم ير اليوم والليلة طولاً في قوله الآخر، وأجاز أبو حنيفة إقامته ما شاء بعده، وغيرهم لا يجيزون له الإقامة بعده، قليلاً ولا كثيرًا ؛ لقوله - عليه السلام -:« ليكن آخر عهده الطواف بالبيت »، فمتى بقى بعده عند هؤلاء شيئًا أو عند مالك يومًا وليلة لزمه إعادة الطواف، وسيأتي الكلام عليه بعد. ويدل أنه غير واجب، وأن طواف الإفاضة يجزئ منه قوله لصفية حين حاضت:« أو ما كنت طفت يوم النحر ؟» قالت: بلى، قال:« لا بأس، انفرى ». واختلف فيمن تركه فخرج ولم يطف، مع اتفاقهم على أنه إن كان قريبًا رجع على اختلاف بينهم في حد القرب، واتفاقهم على أنه إن تباعد جدًّا لم يرجع، فقال مالك: ولا دم عليه، وهو أحد قولي الشافعي، وقال جمهورهم: عليه الدم، وقد ذكرنا من خالف في الحائض في حديث صفية. وترك النبي أمر صفية بوجوب الدم عليها وتعليمها ومن حضر ذلك، وهو موضع تعليم دليل أنه لا يلزم مع قوله:« لا باس »، وحكم كل من كان خارج مكة في طواف الوداع ما تقدم، قرب منها أو بعد، دون أهل مكة نفسها عند جمهور العلماء وكافتهم، خلافًا لأصحاب الرأي فيمن قرب كأهل المواقيت وشبههم أنهم كأهل مكة لا يلزمهم طواف وداع.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" سنته ".
(2) في (أ):" وليلته ".(5/93)
وقوله:« ولكنه على قدر نصبك أو نفقتك »، أي: أجرك في هذا بقدر تعبك وسعيك في العمرة، أو نفقتك في ذلك، وهذا قد استدل(1) به من يكره العمرة من مكة بعد الحج، وقد سئل عنها على، فقال: هي خير من لا شيء. وقال علىأيضًا: هي خير من مثقال ذرة. وقالت عائشة: العمرة على قدر النفقة. وكرهها جماعة من السلف.
وقوله في حديت الأسود عن عائشة: فلما قدمنا تطوفنا بالبيت، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن ساق الهدي أن يحل،:ونحو هذا في حديث جابر لا يعارضه ما جاء في الأحاديث الأخر: أنه أمرهم بذلك حين دنوا من مكة، ويحمل(2) على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كرر أمرهم(3) بذلك وحضهم عليه، فأمرهم أولا بفسخ الحج في العمرة، فلما طافوا أمرهم بالتحلل، فعلى هذا يجمع بين الخبرين.
وقولها:" فلقينى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة "، أو "أنا مصعدة وهو منهبط منها"، كذا جاء في حديث الأسود، وجاء في حديث القاسم: فجئنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في منزله - صلى الله عليه وسلم - فقال:« هل فرغت؟» قلت: نعم، فأذن في أصحابه فخرج فمر بالبيت وطاف.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" يستدل ".
(2) في (أ):" ويحتمل ".
(3) في (ط) و(هـ):" كبر وأمرهم " بدل:" كرر أمرهم ".(5/94)
وفي حديث صفية بنت شيبة عنها:" فأقبلنا حتى أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالحصبة "، ووجه الجمع بين هذه الروايات أن بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بعائشة مع أخيها بعد نزوله بالمحصب هو مفسر في الحديث، وأنه الموضع الذي جعلت منزله ووعدها أن تلحقه به، وهو مفسر أيضًا في حديث آخر، ثم إنه - عليه السلام - خرج لطواف الوداع ثم رجع، وكذلك ذكر البخاري أنه - عليه السلام - رقد رقدة في المحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به. ويدل عليه لقاؤها له وهي سائرة إلى مكة لقضاء عمرتها وهو صادر عنها، فلقاؤها له قبل تمام عمرتها وفي عملها، وفي انصرافه هو من الطواف ونزولها عليه بالمحصب بعد تمامها.
ولكنه يبقى بعد هذا من الإشكال قولها(1): فجئنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في منزله، فقال:« هل فرغت ؟»، قلت:نعم، فأذن في أصحابه، فخرج فمر بالبيت وطاف، فيحتمل أن طوافه هذا غير طواف الوداع، وأنه أعاد(2)؛ لأن منزله بالأبطح كان بأعلى مكة، وخروجه من مكة إنما كان من أسفلها، فلما رحل إلى المدينة واجتاز بمكة ليخرج من أسفلها على عادته ومر بالمسجد، كرر الطواف ليكون آخر عهده البيت(3). وقد جاء في البخاري من رواية الأصيلى في هذا الموضع: " فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن طاف بالبيت "، فلم يذكر في هذه الرواية أنه أعاد الطواف، وقد يحتمل أن طوافه - عليه السلام - هذا هو طواف الوداع، وهو أولى تاويلاته، وأنه لم يطف(4) قبل، وأن لقاءه لعائشة كان حين انتقل من المحصب كما روى عبد الرزاق في مصنفه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره أن يقتدى الناس بإناخته في البطحاء فبعث حتى أناخ على ظهر العقبة أو من ورائها ينتظرها، فيحتمل أن لقاءه لها كان في هذا الرحيل، ثم طاف بعد للوداع، والله أعلم.
__________
(1) قوله:" قولها " ليس في (أ).
(2) في (ط) و(هـ):" أعاده ".
(3) في (هـ):" بالبيت ".
(4) في (ط):" يطفه ".(5/95)
وقوله:« أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر، فإذا هم يترددون - قال الحكم: كأنهم يترددون، أحسب - ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي » الحديث، كذا وقع هذا الكلام، ومعناه صحيح وإن كان فيه إشكال، وزاد إشكاله تغيير فيه في قوله: قال الحكم: " كأنهم يترددون، وإنما صوابه: كأنه يترددون، وكذا ذكره ابن أبي شيبة عن الحكم، ومعنى ذلك: أن الحكم شك في لفظه - عليه السلام - هذا، مع ضبطه لمعناه، وهل قال: يترددون ؟ أو مثل هذا اللفظ وما في معناه، ألا تراه كيف قال بعده: "أحسب"، أي: أظن أن هذا لفظه، ويدل عليه قول مسلم بعد في حديث غندر: ولم يذكر الشك من الحكم في قوله:" يترددون ".
وقوله - عليه السلام -:« لو أني(1) استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ثم أحل »، فيه حجة أنه كان مهلاً بالحج، ويفسره قوله في الحديث الآخر: «ولأهللت بعمرة »، وقوله هذا تطييب لأنفسهم لما رأى من توقفهم عن الإحلال إذ لم يحل هو لما كانوا(2) من التأسي به.
وقوله:" فاعتمرت بعد الحج "، يدل أنها غير قاضية لعمرة، وإنما هي مبتدئة لها.
وقوله: في الحديث الآخر بعده:« يجزئ عنك طوافك عن حجك وعمرتك »، احتج به من يقول:إنها قارنة، وأن القارن إنما عليه طواف واحد، أنها لم ترفض عمرتها قبل، وقد تقدم كلامنا على نسك عائشة في خاصتها بما فيه كفاية ومعنى:" يجزئ " هنا: يكفي.
وقوله في الحديث الآخر:« فأهللت بعمرة » جزاء بعمرة الناس، أي: عوضًا عنها، ومنه: جزاء الصيد، أي: ما يقوم مقامه، وأصله مما يقوم(3) من المكافأة عن الشيء.
__________
(1) قوله:" إني " ليس في (أ).
(2) في (ط):" كان ".
(3) في (ط):" تقوم ".(5/96)
وقولها:" فأردفني خلفه "، فيه جواز إرداف ذوى المحارم وقربهن من محارمهن، وهذا في مراكب الجمال وما شاكلها مما لا يضغط الأرداف الأجسام بعضها إلى بعض، والله أعلم، وقد احتج بعضهم بحديث عائشة هذا واعتمارها الآن مع عمرتها الأولى على جواز العمرة في السنة مرتين. وسيأتي الكلام(1) في ذلك والخلاف فيه إن شاء الله.
وقولها في هذا الحديث من رواية صفية بنت شيبة:" فجعلت أرفع خماري أحسره عن عنقي " بكسر السين وضمها، أي: أزيله وأكشفه.
وقولها:" فتضرب رجلي بعلّة(2) الراحلة، قلت له: وهل ترى من أحد؟"، كذا وقع(3) في كتاب مسلم من جميع الروايات، وهو كلام مختل. قال بعضهم: صوابه ثفنة الراحلة، أي: فخذها، يريد ما خشن من مواضع مباركها، قال أهل اللغة: كل ما ولى الأرض من كل ذي أربع إذا برك فهو ثفنة.
قال القاضي: وحتى الآن لا يستقيم الكلام على هذا، ولا جوابها. بقولها:" هل ترى من أحد ؟" ولأن رجل الراكب قلما تبلغ ثفنها(4)، ووجدته بخط شيخنا القاضي التميمى:" بعلة " بباء واحدة، وعلم عليه علامة الجياني، وفي بعض الأصول:" ثقلة(5)"، وكل ذلك وهم، والصواب عندي في ذلك: فيضرب رجلى بنعلة السيف، يعني أخاها لما حسرت خمارها عن عنقها، ولذلك قالت له:" وهل ترى من أحد ؟ " والله أعلم.
وقوله في حديث جابر عن عائشة:" حين طهرت وطافت "، يقال: طهرت المرأة من حيضتها، بفتح الهاء وضمها، وقد تقدم.
__________
(1) من هنا بداية سقط في نسخة (أ) بمقدار لوحة.
(2) في (هـ):" بغلة ".
(3) في (هـ):" وقع اللفظ ".
(4) في (ط):" نفسها ".
(5) في (هـ):" ثيملة ".(5/97)
وقوله:" قد حللت من حجك وعمرتك جميعًا "، يدل أن عمرتها لم ترتفض، كانت متقدمة على ظاهر حديث عروة أو متأخرة على حديث غيره، وأنها كانت قارنة على ما قدمناه، وفيه حجة أن الطواف الواحد يجزئ في القران، وقد تقدم، وهو بين في حديث طاوس، ومجاهد:" يجزئ عنك طوافك وسعيك، طوافك(1) لحجك وعمرتك "، وفي حديثها الآخر:" فإنما طافوا طوافًا واحدًا ".
وقولها: " وقد حل الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت ": تريد من العمرة التي كان أمر - عليه السلام - الناس بفسخهم حجهم بها.
وقوله (2): " اغتسلى ثم أهلى بالحج "، تقدم الكلام عليه، وقولها: " إني أجد في نفسى الحديث، وأمر النبي - عليه السلام - أخاها بإعمارها(3)، يدل أن ذلك كله ليس بقضاء بل عمرة مبتدأة، ويدل عليه قوله في الرواية الأخرى عنه: "وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهلاً إذا هويت الشيء تابعها عليه "، وفيه حسن العشرة مع الأزواج ومساعدتهن، لاسيما فيما هو من باب الطاعات، وما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الخلق العظيم، وهو معنى قوله:" سهلاً "، أي: حسن الخلق ميسرًا مساعدًا، كما وصفه الله تعالى.
وقوله:" فكانت إذا حجت صنعت كما صنعت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " معناه - والله أعلم - من إفراد الحج، وهو كان مذهبها، وأما اعتمارها بعد الحج من التنعيم، فقد روى عنها أنها قالت:" وددت أني صمت ثلاثة أيام، أو أطعمت عشرة مساكين ولم أعتمر من التنعيم "، وقالت:" العمرة على قدر النفقة "، وقد تقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لها(4) نحو هذا.
__________
(1) قوله:" طوافك " ليس في (هـ).
(2) في (هـ):" مع قوله ".
(3) في (هـ):" باعتمارها ".
(4) في (ط):" لهما ".(5/98)
وقوله:" خرجنا معنا النساء والولدان "، فيه حج الصبيان والحج بهم، وأن لهم حجًّا، ويلزمهم من أحكامه مايلزم الكبير في كل شيء، ولا يسقط عنهم الفرض إذا بلغوا، وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفتوى، والسلف الصالح، وخالف أبو حنيفة فقال: لا يصح له إحرام ولا له حج، ولا يلزمه شيء من أحكامه، وإنما يحج به للتمرن ويتعلم، ويتجنب محظوراته للتعليم لا لغير ذلك، وكذلك يقول في صلاته: إنها ليست له صلاة، وسيأتي الكلام على المسألة مستوعبًا آخر الكتاب.
وقوله: " فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر، كل سبعة منا في بدنة "، يحتج به من يقول: الاشتراك(1) في واجب الهدي(2)، إن كان هذا الهدي للقران، أو التمتع الذي فعلوه كما تقدم، على أن ذكر الاشتراك والهدي لم يأت في هذا الحديث إلا في هذه الرواية من طريق أبي خيثمة عن أبي الزبير عن جابر، وإنما قصة الاشتراك في عمرة الحديبية، وسيأتي ذكرها إن شاء الله.
وقوله: " أمرنا - عليه السلام - لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، فأهللنا من الأبطح،: قد تقدم الكلام على إهلال أهل مكة ومن بها، ومكانه ووقته، ويأتى منه أيضًا. والأبطح: هو بطحاء مكة، وهو المحصب والخيف، واستحباب مالك أن يكون إهلالهم من المسجد.
وقول عطاء في أمره - عليه السلام - لهم أن يحلوا أو يصيبوا النساء، قال:" ولم يعزم عليهم ولكن أحلهن لهم "، يعني لم يعزم في وطء النساء، وأما في الإحلال فكانت عزيمة.
__________
(1) في (هـ):" بالاشراك ".
(2) في (ط):" أهدى ".(5/99)
وقوله:" فقدم على من سعايته "، أي: من عمله، قيل في السعي في الصدقات. قال بعض علمائنا: الذي في غير هذا الحديث: إنما بعث على أميرًا لا عاملاً على الصدقة ؛ إذ لا يجوز لبني هاشم استعمالهم عليها، إذ لا تجوز لهم، وقد قال النبي - عليه السلام - للفضل بن عباس وعبد المطلب بن ربيعة حين سألاه ذلك:« إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد »، وقيل: يحتمل أن عليًّا ولي الصدقات وغيرها احتسابًا، أو أعطى عمالته عليها من غير الصدقة، وهذا أشبه لقوله:" من سعايته(1)"، والسعاية إنما تختص بالصدقة، وقد تكون على ما قاله من ذكرنا من إمارته. قال أبو عبيد: كل من ولي شيئًا على قوم فهو ساع عليهم.
__________
(1) في (ط):" عامته ".(5/100)
وقوله: فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:« أهد وامكث حَرامًا »، ومثله في حديث أبي موسى في الحديث الذي(1) بعده، وكان أيضًا قدم من اليمن، وأهل بما أهل به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال:« هل سقت من هدي ؟» قال: لا، فقال:« طف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل »، اتفق أول الحديثين في تعليق النية، واختلف آخرهما في التحلل لأبي موسى والمكث لعلي حرامًا. أخذ بظاهر هذين الحديثين الشافعي، وجوز(2) الإهلال بالنية المبهمة، قال: ثم له بعد أن ينقلها لما شاء من حج أو عمرة، وله عنده أن ينتقل من نسك إلى غيره وخالفه سائر العلماء والأئمة، لقوله - عليه السلام -:« إنما الأعمال بالنيات »، ولقوله تعالى: {وأتمّوا الحجَّ والعمرة لله }، ولقوله:{ ولا تبطلوا أعمالكم }؛ ولأن هذا كان لهؤلاء خصوصًا، إذ كان شرع الحج بعد، وما يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك لم يستقر ولم يكمل بعد، فلم يمكنها الإقدام على أمر بغير تحقيق، وأمره لأبي موسى بالإحلال على معنى ما أمر به غيره من الفسخ بالعمرة لمن ليس معه هدي، وأمره لعلى أن يهدى ويمكث حرامًا، إما لأنه - والله أعلم - كان معه هدي، وفي الحديث:« أهد وامكث حرامًا(3)»، أو يكون قد اعتقد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يهدى عنه، أو يكون قد خصه بذلك، أو لما كان النبي - عليه السلام - أمره بسوق هذه البدن من اليمن، فكان كمن معه هدي، ولا يظن أن هذه البدن من السعاية والصدقة بوجه ؛ إذ لا يحل للنبي - صلى الله عليه وسلم - الصدقة ولا يهدي منها، والأشبه أن عليًّا اشتراها باليمن كما اشترى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقيتها وجاء بها من المدينة، على ما جاء في حديث جابر بعد هذا وغيره، وفي الحديث في غير "الأم": أنه اشترى - عليه السلام - هديه بقديد، وفي "الأم" بعد هذا في حديث ابن عمر:" فساق
__________
(1) قوله:" الذي " ليس في (ط).
(2) في (ط):" جواز ".
(3) قوله:" حرامًا " ليس في (ط).(5/101)
الهدي معه من ذي الحليفة "، أو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعلمه أنه سيعطيه هدايا منها، ففى حديث جابر: أنه قدم ببدن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد يحتمل أنه كان له فيها هدي لم يحتج إلى ذكره في الحديث، فلم يمكنه أن يحل، ويدل على هذا سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى:« هل ساق معه هديًا ؟ » ولم يسل عليًّا، فدل على علمه بأنه كان ممن أهدى أو ممن حكمه حكم من أهدى، واحتج لخطابى بحديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا، فلهذا أمر عليًّا أن يثبت، إذ لا يحل لقارن(1)، استدل بأمره بالهدي، والهدي لا يجب على غير القارن.
قال القاضي: وهذا لا حجة فيه، لأنه قد أمر أبا موسى بالإحلال، وقد أهل بمثل ما أهل به على من التعليق على إهلال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قارنًا -كما زعم - كان حكمهما سواء، وإنما ذلك لكون الهدي مع عليّ، كما قدمناه،ولا حجة له في قوله:« وأهد »، وتخصيص ذلك بالقارن ؛ لأن المتمتع أيضًا يلزمه الهدي، بل هو تنبيه - والله أعلم - على تسويغ الهدي الذي جاء به له، أي: معك هدي فأهده، وتأول الخطابي أن إحرامهما كان مختلفًا، فإحرام على بمئل إحرام النبي - عليه السلام - وإحرام أبي موسي معناه عنده بمثل ما سنه وشرعه، وهذا تفريق بعيد.
__________
(1) في (ط):" القران ".(5/102)
وقول سراقة في هذا الحديث: لعامنا هذا أم لأبد(1)، قال:« لأبد(1)»، وفي الحديث الآخر: فشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابعه، وقال(2):« دخلت العمرة في الحج - مرتين - لا، بل لأبد أبد »، قال الإمام: جمهور الفقهاء على أن فسخ الحج في العمرة إنما كان خاصا للصحابة، وأنه - عليه السلام - إنما أمرهم بذلك ليخالفوا ما كانت الجاهلية عليه، من أنها لا تستبيح العمرة في أشهر الحج(3)، وتقول: إذا ير(4) الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلّت العمرة لمن اعتمر. وقال بعض أصحاب الظاهر: ذلك جائز إلى الآن، واحتجوا بقوله - عليه السلام -: لسراقة:« بل لأبد »، ويحتمل عندنا أن يريد بقوله:" بل لأبد ": الاعتمار في أشهر الحج لا فسخ الحج في العمرة، واحتجوا أيضًا بما في بعض طرق هذا الحديث:« دخلت العمرة في الحج، بل لأبد أبد »، ويحتمل عندنا أن يريد بقوله:« دخلت العمرة في الحج »، أي: جازت في أشهر الحج، خلافًا لما كانت الجاهلية تعتقده، ويحتمل أن يكون دخولها في الحج في عمل القارن، وقد تأوله بعض من لم ير العمرة واجبة على أن المراد به سقوط فرض العمرة بالحج، فمعنى دخول العمرة في الحج: سقوط وجوبها، وقد ذكر النسائي إنه قال - عليه السلام - في هذا الحديث:" لكم خاصة "، فهذا يؤكد ما قلناه، ويحمل هذا - على الفسخ، وهو الذي لهم خاصة، والأول على إجازة العمرة في أشهر الحج، وهو الذي لهم، وللناس بعدهم.
__________
(1) في (هـ):" للأبد ".
(2) في (ط):" وهذا ".
(3) قوله:" الحج" ليس في (هـ).
(4) في (هـ):" دبر ".(5/103)
قال القاضي: قد ذكر مسلم بعد هذا في حديث أبي ذر: " كانت لنا رخصة "، يعني المتعة في الحج، وفي الحديث الآخر:" لأصحاب محمد خاصة"، وذكر النسائى حديث سراقة، وفيه: تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: لنا خاصة أم للأبد ؟ فقال:« بل للأبد »، وذكر حديث الحارث بن بلال عن أبيه، وفيه: فقلت:يا رسول الله ! فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة، فقال:« بل لنا خاصة »، فقد بين بمجموع هذه الأحاديث وتفسير ما فسر منها في رواية وبيانه لما أجمل في غيرها: أن الخصوص لفسخ(1) الحج في العمرة، وعموم الإباحة فعل العمرة في أشهر الحج.
وقوله لمن أمره بالحل:« طوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصروا »، بين هذه الزيادة ما لم يذكره في الأحاديث الأخر، هذا ما(2) لا خلاف فيه أن التحلل من العمرة بعد تمامها بالخلاف، وسيأتي الكلام على التحليق والتقصير بعد هذا.
وقوله:« حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج، واجعلوا ما قدمتم به متعة »، قالوا: كيف يجعلها متعة وقد سمينا الحج ؟ دليل على أن إحرامهم كان بالحج، وأن معنى رواية من روى أنهم تمتعوا إنما أخبر عن ثاني حال، وهو فسخهم الحج في العمرة، ثم الحج بعدها، وفيه حجة على أن الإهلال للمكيين ومن بها يوم التروية، وقد تقدم الكلام فيه، وقد احتج داود بما جاءه في هذه الأحاديث ومن روى فيها القران، على أنه لا دم على القارن ؛ إذ لم يات في الحديث ذكر الدم، بخلاف ما جاء من النص على الدم على المتمتع، ولم ير القياس كما قاسه غيره.
__________
(1) في (ط):" يفسخ ".
(2) في (هـ):" مما ".(5/104)
وذكر مسلم اختلاف ابن عباس وابن الزبير في المتعة، وأن ابن الزبير كان ينهى(1) عنها، وقول جابر: على يدى دار الحديث، تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، وإن القرآن قد نزل منازله، فأتموا الحج والعمرة لله،، وفي بعض طرقه " فافصلوا حجكم من عمرتكم "، قال الإمام: اختلف في المتعة التي نهى عنها عمر في الحج، فقيل: هي فسخ الحج في العمرة، وقيل: بل هي العمرة في أشهر الحج، والحج بعدها، ويكون نهيه عن(2) ذلك على جهة الترغيب فيما هو الأفضل الذي هو الإفراد، وليكثر تردد الناس إلى البيت. والتمتع عندنا له ستة شروط: أن يعتمر ويحج في عام واحد، في سفر واحد، ويقدم العمرة على الحج ويفرغ منها، ثم ينشئ الحج، ويوقع العمرة أو بعضها في أشهر الحج، ويكون غير مكي، فإن اختل من هذه الشروط الستة شرط واحد لم يكن عليه دم.
__________
(1) هنا نهاية اللوحة الساقطة من النسخة (أ).
(2) في (ط):" عنها ".(5/105)
قال القاضي: جاء من الاختلاف في المتعة في "الأم" ما تقدم، وجاء فيه بعد هذا عن أبي موسى أنه كان يفتى(1) بالمتعة، ويحتج بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالإحلال بها، كما تقدم عنه، وقول عمر له: أن تأخذ بكتاب الله، فإن الله يأمر بالتمام، وذكر عن عثمان -أيضًا - أنه كان ينهي عن المتعة أو العمرة، ومخالفة على له في ذلك، وأنه أهل بهما جميعًا، وقول أبي ذر: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وفي الرواية الأخرى: رخصة، وقول عمران بن حصين: إن النبي - عليه السلام - أعمر طائفة من أهله في العشر، فلم تنزل آية تنسخ ذلك، وفي الرواية الأخرى جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينزل فيها كتاب ولم ينه عنها، وظاهر هذا في حديث جابر وعمران، وأبي موسى: أن المتعة التي اختلفوا فيها إنما هي فسخ الحج في العمرة، ولذلك جاء ضرب عمر عليها، وما كان ليضربهم على مجرد التمتع في أشهر الحج، وإنما ضربهم على ما اعتقده(2) هو وسائر الصحابة: أنه كان خصوصًا قبل ذلك في تلك الحجة من فسخ الحج في العمرة.
قال أبو عمر الحافظ: لا خلاف بين العلماء في أن التمتع المراد بقوله تعالى:{ فمن تمتع بالعمرة إلى الحجِّ فما استيسر من الهدي }، أنه الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج، على ما تقدم من صفته، ومن التمتع أيضًا عند العلماء القران ؛ لأنه تمتع بسقوط سفره الثاني من بلده كما صنع الأول.
ووجه ثالث من التمتع: فسخ الحج في العمرة.
__________
(1) في (ط):" يقضى ".
(2) في (ط):" اعتقدوه ".(5/106)
والوجه الرابع: ماذهب إليه ابن الزبير من تمتع المحصر بعدوٍّ أو عذر حتى تذهب أيام الحج، فيحل بالطواف بالبيت والسعي، وتمتع بحله إلى قابل، ثم يحج ويهدي، وأما نهي عمر عن متعة النساء فهو أمر كان خاصًّا أولاً -كما جاء في حديث أبي ذر -، ثم نسخ، وكان فيه خلاف في الصدر الأول ثم وقع الإجماع، وسيأتي بيانه(1) في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.
وعلى ما ذكره من شروط التمتع الموجب للهدي الذي ذكره الله كافة فقهاء الأمصار، وروى عن الحسن إسقاط شرط الحج من عامه، ورأى أن على التمتع(2) في أشهر الحج هديًا حج أو لم يحج، وروي عنه أيضًا إسقاط شرط العمرة في أشهر الحج، وقال: إن اعتمر في غير أشهر الحج ثم حج من عامه فعليه الهدي، وهذان القولان شاذان لم يقل بهما أحد من العلماء غيره، وروي عنه أيضًا إسقاط شرط الإقامة وإلزام(3) الهدي، وإن حج من عامه بعد أن رجع بعد العمرة إلى بلده (4).
حديث جابر الطويل
__________
(1) في (ط):" بابه ".
(2) في (ط) و(هـ):" المتمتع ".
(3) في (ط) و(هـ):" وألزم ".
(4) في (هـ) زيادة:" كمل السفر الثاني بحمد الله وعونه وحسن توفيقه ويتلوه في السفر الثالث حديث جابر الطويل ".(5/107)
قال القاضي (1)- رحمه الله -: قد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا(2)، وقد ألف فيه أبو بكر بن المنذر جزءًا كبيرًا، وخرَّج فيه من الفقه مائة نوع ونيفًا(3) وخمسين، ولو تقصى لزيد على هذا العدد قريب منه، وقد تقدم الاحتجاج أثناء ما تقدم فيه من(4) الكلام بنكت(5) منه وسنذكر هنا فصولاً مما يحتاج إلى التنبيه(6) عليه من غامض فقهه(7)، أو مما يحتاج الاحتجاج به في موضع الخلاف إن شاء الله، ففيه أولاً قول محمد بن على بن حسين لما دخل عليه: أنه سال عن القوم حتى انتهى إليّ، لأن جابرًا كان قد عمي حينئذ، وفيه الاهتيال(8) بالداخلين على الرجل والسؤال عنهم لينزل كل واحد منزله(9)، كما جاء في الحديث ويعرف لأهل الحق حقه، كما فعل جابر وتقديمه في السؤال لمحمد بن علي، وتأنيسه له، وقوله:" مرحبًا بك يا ابن أخي، سل عما(10) شئت"، وحله إزاره بيده، وجعله كفه بين ثدييه، كل هذا برًّا بالزائر، ويستفاد من هذا إكرام(11) الزائر بنزع ردائه، وخلع خفيه.
__________
(1) من هنا بداية العمل في نسخة (ك) لانتهاء نسخة (هـ).
(2) في (ك):" فأكثروا ".
(3) في (ط):" ونيف ".
(4) قوله:" من " ليس في (ط).
(5) في (ح):" بنكث ".
(6) في (أ):" إليه إلى التنبيه ".
(7) في (ط):" فقه ".
(8) في (ط):" ففيه الاهتبال ".
(9) في (ك):" منزلته ".
(10) في (ط):" عم ".
(11) قوله:" إكرام " ليس في (ط).(5/108)
وقوله: " وأنا يومئذ غلام شاب "، تنبيه أنه(1) موجب فعل جابر(2) له ذلك تانيسًا له لصغره، ورقة عليه ؛ إذ لا يفعل هذا بالرجال الكبار، من إدخال اليد في جيوبهم إكبارًا لهم، وفيه أن لمس الغلمان الأجانب على وجه الرقة ولغير التلذذ جائز، بخلاف شباب(3) الجواري، وحكم لمسهم كالنظر إليهم، وإنما يحرم من لمس الغلمان والنظر إليهم، ما كان من ذلك على وجه التلذذ، وقد(4) تقدم تفسير " مرحبا ".
وقوله:" وحضر وقت الصلاة فقام في ساجة ملتحفًا بها "، وذكر صغرها، قال: "ورداؤه على المشجب "، الساجة: ثوبٌ كالطيلسان وشبهه، وكذا في رواية الجمهور وهو الصواب، وعند الفارسي:" نساجة(5)"، وفي كتاب ابن(6) عيسى: " نساجة "، وكذا رواه أبو داود(7):" نساجة "، وقال: يعني ثوبًا ملففًا(8)، قال بعضهم: وهو خطأ وتصحيف، والمشجب(9): أعواد توضع(10) عليها الثياب، ومتاع البيت، وفيه جواز الصلاة بمثل هذا، وإمامة الأعمى، وقد مر منه في الصلاة أتم من هذا.
وقوله: مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين لم يحج ": يعني في المدينة، وقد روى أنه - عليه السلام - حج بمكه حجتين.
__________
(1) في (ط):" أو ".
(2) في (ط):" جايز ".
(3) في (ك):" شاب ".
(4) قوله:" وقد " ليس في (ط).
(5) في (ك):" ساجة ".
(6) في (ط):" أبي ".
(7) في (أ):" أبو ذر ".
(8) في (ك):" ملفقًا ".
(9) في (ط):" الشجب ".
(10) في (ط) و(ك):" يوضع ".(5/109)
وقوله: " ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاج، فقدم المدينة خلق كثير "، يحتج به من لم ير الحج على الفور، وقد تقدم أن فرض الحج كان في سنة تسع، وقيل: خمس، والأول أصح. وأول من أقام للمسلمين الحج(1) عتاب بن أسيد سنة ثمان، ثم أبو بكر سنة تسع. وحج - عليه السلام - في(2) سنة عشر، وقد يجيب عنه من خالفه بأنه - عليه السلام - إنما أخره حتى لا يرى منكرًا بالمسجد الحرام ؛ من حج(3) المشركين وتلبيتهم، وطواف العراة، وقد جاء ذلك في حديث مبينًا (4)، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يحج ذلك العام، ثم ترك ذلك لأجل المشركين، ووجّه أبا بكر وعليًّا، وقيل: بل كان النبي - عليه السلام - قد أدى فرضه(5) بمكة، وهذا يعترض عليه بأن الفرض إنما نزل بالمدينة، وبأنه لم يأمر الناس بالمبادرة للحج حين فريضته.
__________
(1) في (ك):" الحج للمسلمين ".
(2) قوله:" في " ليس في (ك).
(3) في (ط):" ترجح ".
(4) في (ك):" مبينًا في حديث ".
(5) في (ط):" فديته ".(5/110)
وقد اختلف العلماء في حجة أبي بكر سنة تسع، هل كانت حجة الإسلام بعد نزول فرضها، وهو الأظهر لوقوف جميع الناس بعرفة ولإنذار على فيها ببراءة، وفيها ذكر النسيء وشرائع الحج(1)، وقيل: بل كانت على غير الفرض، وعلى ما كانت عليه قبل الإسلام، والأول أظهر(2)، وقيل بل كان يقع حج الناس تلك السنة في ذي القعدة على تحقيق الحساب لأجل نسى الجاهلية، فتركه - عليه السلام - للعام الثاني حتى وقع الحج بموضعه. ولهذا قال:« إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض »، وقد أنكر هذا بعضهم، وقيل: بل كان حجه في ذي الحجة(3) صحيح كما تقدم ذكره القاضي إسماعيل، وسيأتى الكلام على حديث استدارة الزمان في موضعه من الكتاب. وفيه ما يستحب من فعل الأئمة من إنذار الناس للتأهب للأمور العظيمة، لاسيما في(4) مثل هذه العبادة المفترضة ابتداء، الكثيرة الأحكام، المحتاجة إلى البيان بالقول والفعل، المضطر فيها إلى الاقتداء به - عليه السلام - ولهذا قال(5): « خذوا عنى مناسككم ».
__________
(1) في (ك):" النبي ".
(2) في (ط) بعد ذلك:" ولا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك ".
(3) في (ط):" ذي القعدة ".
(4) قوله:" في " ليس في (ك).
(5) في (ط):" ما قال ".(5/111)
وقوله: كلهم(1) يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا مما يبين أنهم كانوا كلهم حجاجًا ؛ إذ كان - عليه السلام - أحرم بالحج لائتمامهم به، وبعيد أن يخالفوه فيما أحرم به، وهذا جابر، يقول في حديثه:« وما عمل من شيء عملنا(2) به»، ومن هذا في(1)، الحديث توقفهم عن التحلل بالعمرة لما لم يتحلل(3) حتى أغضبوه واعتذر لهم، وقال:« افعلوا ما آمركم به »، وهذا علي وأبو(4) موسى لما غابًا لم يقدما على تعيين شيء، وعلقا إحرامهما بما أحرم به - عليه السلام - وتقدم الكلام في(5) قصة أسماء بنت عميس.
وقوله:« استثفري(6)»، أي: اجعلي لنفسك كثفر الدابة(7)؟» ليمتنع(8) ذلك الموضع من سيلان شيء من الدم، تنزيهًا للعبادة عن إظهار هذه النجاسة على صاحبها. إذ لم يقدر على أكثر من هذا، وتقدم الكلام على إحرامه من المسجد والخلاف فيه، وذكر الصلاة قبل الإحرام.
وقوله:" ثم ركب القصواء "، ممدود بفتح القاف، ووقع عند العذري بضم القاف والقصر، وهو خطأ في هذا الموضع، والصواب الفتح هنا والمد.
قال الإمام: يعني ناقته. قال ابن قيتبة: كانت للنبي - عليه السلام - نوق، منها: القصواء، والجدعاء، والعضباء. قال أبو عبيد: العضباء: اسم ناقة للنبي - عليه السلام -(9) ولم تسم بذلك لشى أصابها.
__________
(1) قوله:" كلهم " ليس في (ك).
(2) في (ك):" عملناه ".
(3) في (ك):" يحلل ".
(4) في (أ):" أبي"،وفي (ك):" أبو" ثم وضع الناسخ حرف الألف فوق الواو كأنه صوبها "أبا".
(5) في (ك):" على ".
(6) في (ط):" استنفري ".
(7) في (ك):" مثل ثفر الدابة "، وفي (ك) بعد "الدابة " كلمة زائدة غير واضحة.
(8) في (ط) و(ك):" ليمنع ".
(9) في (ك):" اسم ناقته - عليه السلام - ".(5/112)
قال القاضي: جاء هنا أنه ركب القصواء، وفي آخر الحديث أنه خطب على القصواء، وفي غير مسلم أنه خطب على ناقته الجدعاء، وفي حديث آخر على ناقة خرماء، وفي آخر مخضرمة. وفي الحديث: أنه كانت له ناقة لا تسبق تسمى(1): القصواء، وفي حديث آخر تسمى: العضباء، فدليل هذا كله أنها ناقة واحدة، خلاف ما قال ابن قتيبة، وأن ذلك كان اسمها، أو وصفها لهذا الذي بها، خلاف ما قال أبو عبيد. لكن يأتي في كتاب النذور ما يدل أن العضباء غير القصواء على ما بيناه(2) هناك. قال الحربي: العضب والجدع والخرم والقصو والخضرمة مثلة(3) في الأذن، قال ابن الأعرابي: القصواء الذي قطع طرف أذنها، والجدع أكثر منه، وقال الأصمعي في القصواء مثله، قال: وكل قطع في الأذن جدع(4)، فان جاوز الربع فهى عضباء، والمخضرم: المقطوع الأذنين، فإذا اصطلمتا فهى صلماء، وقال أبو عبيدة: القصواء: المقطوعة الأذن عرضا، والمخضرمة: المستاصلة، والعضباء: النصف فما فوقه، قال الحربي: فالحديث(5) يدل أنه اسمها وان كانت عضباء الأذن، فقد جعل اسمها، قال(6) الخليل: الخضرمة: قطع الواحدة، والعضباء: المشقوقة الأذن.
__________
(1) من هنا بدأت المقابلة في نسخة ( ر ) بدلاً من (ك).
(2) في (ر) و(ط):" قلناه ".
(3) في (ر):" مثلثة ".
(4) في (أ):" جذع".
(5) في (ر):" في الحديث ".
(6) في (ر):" وقال ".(5/113)
وقوله: " نظرت إلى مد بصري من بين راكب وماشٍ(1)"، فيه جواز الحج للركبان والمشاة، وقد اختلف العلماء أيهما أفضل ؟ فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل ؛ لأنه الذي فعله النبي - عليه السلام - ولفضل النفقة فيه، ولأن في راحة جسمه من تعب المشي توفيرًا(2) على إقامة وظائف المناسك(3)، والصبر على استيعابها(4). قال بعضهم: ولما فيه من تعظيم شعائر الحج بابهة الركوب في تلك المناسك. ولا خلاف بينهم أن الركوب في الوقوف بعرفة أفضل لما ذكرناه، وذهب غيرهما إلى أن المشي أفضل، لما فيه من المشقة على النفس(5)، ولأنها عبادة في نفسها. وقد اختلف على هذا في الراحلة، هل هي شرط في(6) الاستطاعة أم لا ؟ فذهب أكثرهم على أنها القدرة على الحج على العموم، إما بنفسه إن قدر على المشي، أو بالراحلة إن لم يكن ممن يقدر على المشي مع الزاد ووجود السبيل. والاستطاعة في اللغة: القدرة، وهو قول مالك في كافتهم، وذكر عن جماعة من السلف أن الاستطاعة: الزاد والراحلة، وهو قول أبي حنيفة والثورى وأحمد وإسحاق، وبه قال الشافعي. فلم يروا على من لا يملك راحلة حجًّا، وإن قدر على المشي لما فيه من المشقة، وأنه ليس من الاستطاعة، وأن الاستطاعة هنا بالمال، قاله مرة لمن قدر على هذا، وإن لم يستطع الركوب يستأجر عنه من يحج عنه(7)، وسيأتي تمام الكلام على هذا، وقد تأول القاضي إسماعيل ما جاء عن السلف من هذا التغليظ لمن ترك الحج بعد قدرته على الزاد والراحلة.
وقوله:" فاهل بالتوحيد: إشارة إلى قوله:" لا شريك لك "، ومخالفة لقول المشركين في تلبيتهم، وقد تقدمت، وتقدم الكلام على تفسير التلبية.
__________
(1) في (ر):" وماشي ".
(2) في (ر) و(ط):" توفر ".
(3) في (أ):" مناسك الحج ".
(4) في (ر) و(ط):" استيفائها ".
(5) قوله:" على النفس " ليس في (ر).
(6) في (أ):" من ".
(7) قوله:" عنه " ليس في (ر).(5/114)
وقوله: " وأهل الناس بهذا الذي يهلون(1) به، فلم يرد(2)، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم(3) شيئًا منه، إشارة إلى ماروى من زيادة الناس فيها في الثناء على الله والذكر، كما روي في ذلك عن عمر، وذلك أنه كان يزيد:" لبيك ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك مرهوبًا منك، ومرغوبًا إليك"، وعن ابن عمر: " لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل "، وعن أنس: "لبيك حقًا تعبدًا ورقًا ".
والاستحباب عند أكثر العلماء أن يلبي بما لبى به النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال مالك: وإن اقتصر عليها فحسن، وإن زاد فحسن. وقال الشافعي: الأفضل الاقتصار عليها إلا أن يزيد ألفاظًا رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أيضًا(4) مثل قوله:" لبيك إله الحق " ونحوه.
وقول جابر: لسنا ننوي إلا الحج ولا نعرف العمرة، مع قوله في الحديث الآخر(5):"مهلّين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج مفرد "، يرد كل ما خالفه من رواية: أن منهم من كان معتمرًا ومتمتعًا وقارنًا، وكيف وهو(6) يقول:" لا نعرف العمرة "، وكذلك كانوا لا يعرفون العمرة في أشهر الحج حتى جاء الإسلام، ولذلك جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عمره كلها في أشهر الحج على الصحيح، وسيأتي هذا، وقد أرينا قبل ترتيب هذه الأخبار وتأليف مختلفها، وإنّ ما خالف حديث جابر ومن وافقه، إنما هو إخبار عن مآل الحال واستقرار العمل كما تقدم.
__________
(1) في (ط):" تهلون ".
(2) في (أ):" يزد ".
(3) قوله:" عليهم " ليس في (ر).
(4) قوله:" أيضًا " ليس في (أ).
(5) في (ط):" الآخر قبل ".
(6) قوله:" وهو " ليس في (ر).(5/115)
وقوله:" حتى أتينا البيت "، فيه أن الواجب على داخل مكة لنسك البداية به، إلا مضطرًا(1) يخشى على رحله، فله الصبر على تثقيفه(2) وحرزه. والبداية بذلك لئلا يضيع. وفي قوله: " لا ننوي(3)"، حجة على أن التسمية غير واجبة، وقد تقدم. وذكر البداية باستلام النبي - صلى الله عليه وسلم - للركن ورمله(4) ثلاثًا ومشيه أربعًا "، وهذا طواف الورود. وللحج ثلاثة أطواف:
أولها: طواف الورود: وهو طواف القدوم، وهو سنة لغير المكي عند جميعهم وأنه لا رجوع على تاركه. واختلف هل على تاركه دم ؟ فعن مالك روايتان، وإن(5) كان مراهقًا فلا شيء عليه، فقال مالك مرة: إن كان غير مراهق فعليه دم، وقال - أيضًا- إنه يجزئه منه طواف الزيارة، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي، وأوقع مالك عليه(6) مرة أنه واجب، قالوا: معناه: وجوب السنن، وقال أبو ثور: عليه لغير المكى دم.
والطواف الثاني: طواف الزيارة: وهو طواف الإفاضة، وهو فريضة بغير خلاف.
والثالث: طواف الوداع: وهو طواف الصدر، وهو سنة، وسيأتي الكلام على كثير منها في مواضعها(7) إن شاء الله.
والبداية باستلام(8) الركن الأسود سنة، وهي تحية المسجد ولا يبتدئ(9) بالركوع.
__________
(1) في (ر):" مضطر ".
(2) في (ط):" تثقفه ".
(3) في (ط):" ينوي ".
(4) في (ط) يشبه أن تكون:" ورميه ".
(5) في (ر):" إن ".
(6) قوله:" عليه " ليس في (أ).
(7) في (ر):" موضعها ".
(8) قوله:" باستلام " ليس في (أ) وموضعها إشارة لحق، ولم يظهر شيء في الهامش.
(9) في (ط):" يبتدأ ".(5/116)
وقوله: ثم نفذ(1) إلى مقام(2) إبراهيم، وقرأ:{ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى }، فجعل المقام بينه وبين البيت، وذكر ما قرأ به في الركعتين: أجمع المسلمون على أن صلاة الركعتين على الطائف بالبيت، وأن سنة ذلك أن يكون عند المقام، وأن من صلاها حيث شاء من المسجد أجزأه، وأن يتبع كل أسبوع ركعتين. واختلفوا في جواز جمع أسابيع ثم يركع آخرها ركوعًا واحدًا، فكرهه مالك وكافة فقهاء الأمصار، وروي عن بعض السلف إجازته، وهو قول أبي يوسف وأحمد وإسحاق، فمن نسيهما وهو بمكة ركعهما. واختلف عندنا هل يعيد الطواف لهما أم لا ؟ واختلفوا فيمن نسي ركعتي(3) الطواف حتى خرج من الحرم أو رجع إلى بلاده، فرأى مالك عليه الدم، ولم ير غيره عليه دمًا، وقالوا كلهم: يركعهما متى ما(4) ذكرهما حيث كان. قال الثوري: ما لم يخرج من الحرم.
وقوله:« نبدأ بما بدأ الله به »، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبله: هذا المستحب فعله، وكل ما فعل الراقي من ذلك أجزأه، ويكره الجلوس عليهما، وهذا حكم الرجال، وأما النساء فيقفن أسفلهما لأجل مخالطة الرجال، إلا أن يكون الموضع دون رجال فحكمهن حكم الرجال حيننذ، والبداية(5) بالصفا هي السنة، واحتجاج النبي - عليه السلام - بما بدأ الله به، احتج به من قال: إن الواو ترتب لامتثال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك،[ واحتج به من قال: لا ترتب ؛ لقوله - عليه السلام -:« بما بدأ الله به ](6)»، وأنه إنما امتثل ذلك تأسيًا لا التزامًا، ولو كانت الواو تعطي الرتبة لما احتاج إلى هذا التوجيه(7)، وقد تقدم من هذا.
واختلف في وجوب السعي بين الصفا والمروة وسيأتي الكلام عليه في حديث عائشة.
__________
(1) في (ر) و(ط):" نفر ".
(2) في (ط):" مكان ".
(3) قوله:" ركعتي " من نسخة (ك) فقط.
(4) قوله:" ما " ليس في (ر).
(5) في (أ):" بالبداية ".
(6) مابين المعكوفين ليس في ( ر ).
(7) في (ط):" الوجهة ".(5/117)
واختلف فيمن نكس وبدأ بالمروة، فرأى مالك أن يلغى ذلك ويحسب من سعيه من الصفا ويعيد(1) شوطًا، وهو قول الشافعي والحسن وأصحاب الرأي والأوزاعي، وروى عن عطاء أنه إن جهل ذلك أجزأ عنه. وسنته أن يكون بعد الطواف، فمن سعى قبله كمن لم يسع عند مالك وجملة العلماء، وعليه ما على من لم يسع، إلا الثوري فإنه قال: يجزئه، في أحد قوليه. وقال أبو حنيفة وصاحباه: عليه دم ولا إعادة عليه، وحكمه عندنا إذا كان بالقرب أن يعيد السعي وحده حتى يأتى به(2) بعد الطواف.
وقوله: فوحَّد الله وكبره، إلى آخر ما ذكره من الذكر والدعاء: مما يستحب أن يفعل،وهو من مواطن الدعاء، ويستحب فيه من الذكر(3) والتكبير والتهليل ما جاء عن النبي - عليه السلام - وليس فيه دعاء مؤقت.
وقوله: حتى إذا انصبت(4) قدماه في(5) بطن الوادى حتى إذا صعدتا(6) مشى "، كذا في جميع النسخ الواصلة إلينا من مسلم، ليس في أصول شيوخنا فيها اختلاف، وفيه وهم واسقاط لفظة رمل وبها يتم الكلام، وكذا جاء في غير مسلم:"حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادى رمل، حتى إذا صعدتا مشى "، وعلى هذا ذكره الحميدى في "اختصار الصحيح"، وفي "الموطأ": "حتى إذا انصبت(7) قدماه من بطن الوادي سعى حتى يخرج منه "، وهو بمعنى رمل، وهذه سنة(8) أيضًا في السعي.
__________
(1) في (أ):" ويعد ".
(2) قوله:" به " ليس في (ر) و(ط).
(3) في (أ):" ويستحب تبيين الذكر ".
(4) في (ر):" إذا نصبت ".
(5) في (ط):" من ".
(6) في (ر):" صعدنا ".
(7) في (ر):" انتصبت ".
(8) في (ر) و(ط) و(ك):" منه ".(5/118)
وقد اختلف على من لم يرمل في الطواف والسعى، هل عليه إعادة أو دم؟ واختلف فيه(1) قول مالك. واختلف في علة ذلك، فقيل: فعله النبي - عليه السلام - ليرى المشركون جلد أصحابه، كما فعل في الطواف، وقيل: بل اقتدى بهاجر في سعيها لطلب(2) الماء لولدها، على ما جاء في الحديث. وقوله: حتى إذا كان آخر طواف على المروة: قيل: فيه استحباب ما يقال في الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، وتسمية ذلك طوافًا وسعيًا، ولا يقال: شوطًا ولا دورًا. وقد كره ذلك الشافعي وغيره من السلف، وتقدم أمره لهم بالإحلال.
وقوله لسراقة(3):« دخلت العمرة في الحج مرتين، لا(4) بل لأبد أبد »، وما ذكر من إحلال فاطمة على ما تقدم من إحلال غيرها بعمرة، وقول(5) عليّ: فذهبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - محرشًا عليها: أي: مغريًا بها، لما أنكر من إحلالها حتى أعلمه النبي - عليه السلام - بأمره بذلك، وتقدم الكلام على إهلال علي كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى إحلال الناس.
وقوله: " فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه الهدي: دليل على ما تقدم من أنهم كانوا مفردين، وفسخوا في عمرة إلا من كان معه الهدي، ولو كانوا قارنين لم يمكنهم الإحلال. وفيه الإخبار بالعموم عن الأكثر، وقد صحت الأخبار أن عائشة لم تحل لعذرها المذكور، ولم تكن ممن معه هدي.
__________
(1) قوله:" فيه " ليس في (أ).
(2) في (أ):" لطلبها ".
(3) قوله:" لسراقة " ليس في (أ)، وموضعه علامة لحق ولم يظهر شيء في الحاشية.
(4) قوله:" مرتين لا " ليس في (أ)، وقوله:" لا " ليس في (ر).
(5) في (ط):" قوله ".(5/119)
وقوله:" فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج ". يوم التروية: هو(1) اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي بذلك لأن قريشًا كانت تحمل الماء من مكة إلى منى للحاج تسقيهم وتطعمهم(2) فيرووا منه وهذا هو المستحب عند كثير من العلماء ؛ ليكون إحرامهم متصلاً بسيرهم، وتلبيتهم مطابقة لمبادرتهم للعمل(3). واستحب بعضهم أن يكون ذلك أول هلال ذي الحجة ليلحقهم من الشعث إلى وقت الحج ما لحق غيرهم، والقولان عن مالك، وقد تقدم. وورد في بعض طرق حديث جابر:" أهللنا من البطحاء"، وأجمع العلماء أن مهل أهل مكة من مكة بالحج، وقد تقدم هذا، وقد تقدم في المواقيت الكلام على من أهل بالحج من مكة من أهلها، أو غيرهم من المتمتعين بها، والخلاف في وقت استحبابه وموضعه، واستحباب مالك أن يكون من المسجد. وفيه أنه لا يتقدم إلى منى قبل يوم التروية، وقد كره ذلك مالك وأباحه غيره، واستحب مالك أن يكون خروجه إلى منى قدر ما يصل(4)، فيصلي بها الظهر.
وذكر صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر بمنى، فيه سنة هذه الصلوات بمنى، والمبيت فيها وهو مستحب عند جميع العلماء،ولا حرج عليهم في تركه. وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم بطواف قبل الخروج، وأن ذلك غير لازم، ولو كان لأمرهم به - عليه السلام -. وقد ذهبت(5) جماعة من العلماء إلى استحبابه.
__________
(1) في (أ):" وهو ".
(2) في (ط):" يستقيهم ويطعمهم ".
(3) في (أ):" بالعمل ".
(4) في (أ):" يصلي ".
(5) في (أ):" ذهب ".(5/120)
وقوله:" ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس فأمر بقبة من شعر فضربت بنمرة فسار"، في هذا أن السنة في الخروج من منى هذا الوقت بعد طلوع الشمس، وفيه جواز الركوب في أعمال الحج، لاسيما في(1) الوقوف بعرفة، فقد استحبه العلماء اقتداء بالنبى - عليه السلام -، ولما فيه من القوة على طول الوقوف للدعاء والذكر، ولاسيما في حق النبي - عليه السلام - ؛ فيما(2) روى من طوافه راكبًا(3) وسعيه راكبًا فليراه الناس، وليسمعوا قوله، ويروا فعله فيقتدوا به، وسيأتي الكلام على طوافه - عليه السلام - راكبًا.
وفيه جواز استظلال المحرم في القباب والخيام ولا خلاف فيه. واختلف في استظلال الراكب في حال الوقوف، فكرهه مالك وأهل المدينة وأحمد بن حنبل، وأجاز ذلك غيرهم، وعليه عند مالك الفدية، وكذلك استظلاله عندنا في سائر سفره في الحج حال ركوبه، وكذلك لو كان نازلاً بالأرض أو راجلاً فاستظل بما يقرب من رأسه، وسيأتي بقية الكلام عليه.
ونمرة المذكررة في هذا الحديث موضع بعرفة، وهو الجبل الذي عليه أنصاب(4) الحرم على يمين الخارج من مازمى منى إلى الموقف. ونمرة أيضًا موضع بقديد آخر.
وقوله:" حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت(5)"، أي: رد عليها رحلها الذي يركب عليه. فيه أن وقت زيغ الشمس - وهو ميلها وزوالها - وقت الرواح إلى عرفة.
__________
(1) قوله:" في " ليس في (ر).
(2) في (أ):" وما "، وفي (ر):" فما ".
(3) قوله:" راكبًا " ليس في (ر).
(4) في (أ):" أيضًا ".
(5) بعدها في (ر) كلمة تشبه أن تكون:" لهم ".(5/121)
وقوله:" فخطب "، هي من سنن الحج للأئمة عندنا في قول جميع المدنيين والمغاربة، وقال الشافعي وأبو حنيفة: ليس عرفة بموضع خطبة، وهو قول العراقيين من أصحابنا، وزعموا أن هذه الخطبة إنما هي تعليم. وخطب الحج ثلاثة قبل يوم التروية بيوم: خطبة بعد صلاة الظهر في المسجد الحرام عندنا، وقيل: قبل الزوال. الثانية(1): بعرفة، خطبتان لا(2) يجلس بينهما(3)، وهو تعليم للناس لمناسكهم. والثالثة: بعد يوم النحر بيوم، وهو أول أيام الرمي، واحدة أيضًا بعد صلاة الظهر تعليم لما بقي من المناسك. ووافق أبو حنيفة في جميعها، وخالف الشافعي في خطبة ثاني النحر وزاد خطبة يوم النحر بعد الظهر، وذلك بعد يوم النفر.
وفيه استدلال بخطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على راحلته لاتخاذ المنابر للخطابة، مع اتخاذه هو له - عليه السلام -.
وفيه أن الوقوف على ظهور الدواب لمنافع وأغراض لراكبها جائز، ما لم يكن(4) ذلك مجحفًا بالدابة أو لغير(5) غرض صحيح، وأن النهي(6) في ذلك في الأغلب والأكثر، ولمن يتخذ ذلك عادة للتحدث عليها لا لغير ذلك وشبهه، كما كانت تفعله الجاهلية، وأما من كان راكبًا عليها فأخذه الحديث مع جماعة ولم يطل ذلك كثيرًا حتى يضر بها فلا يدخل في النهي، ومن فعل ذلك قاصدا لغرض صحيح كفعل النبي - عليه السلام - في تبليغ كلامه من لم يسمعه، أو لخوف على الدابة إن تركها، أو على نفسه، فركبها يحرزها(7) أو يحرز نفسه بذلك فلا حرج.
وفيه أن تحريم الأموال والدماء على حد واحد ونهاية من التحريم.
__________
(1) في (ر):" والثانية ".
(2) قوله:" لا " ليس في (أ)، وفي (ر):" وهما.
(3) في (أ):" فيهما ".
(4) قوله:" يكن " ليس في (ر).
(5) في (ط):" ولغير ".
(6) في (ر):" النبي ".
(7) في (أ):" ليحرزها ".(5/122)
وفيه ضرب الأمثال وقياس ما لم يعلم على ما علم ؛ لقوله:« كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا،: لإصفاقهم(1) على تحريم ذلك وتعظيمه.
وفيه وضعه - عليه السلام - أمور الجاهلية ورباها ودخولها، والبداية في ذلك بما(2) يختص به ليتاسى(3) بذلك غيره، ويطيب بذلك نفس من بقى في نفسه شيء من قرب عهده بالإسلام.
وقوله:« وأول دم أضعه دم ابن ربيعة بن الحارث »، كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل »، كان طفلاً صغيرًا اسمه إياس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وقيل: اسمه حارثة، وقيل: آدم. قال الدارقطني: وهو تصحيف، وما أراه تصحف(4) إلا من دم المذكور قبل(5)، ويقال:" تمام " كان صبيًّا يحبو من البيوت، فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد وبني ليث بن بكر، قاله الزبير(6)، وسماه: آدم. ورواه بعض رواة مسلم:" دم(7) ربيعة بن الحارث "، وكذا رواه أبو داود عن سليمان بن عبد الرحمن، قيل: هو(8) وهم بين، وإنما هو ابنه(9) وربيعة(10)، قد عاش بعد النبي - عليه السلام - إلى زمان عمر، وقال أبو عبيد: معنى قوله : " دم ربيعة " لأنه وليّ الدم فنسبه إليه.
وقوله في الوصاة بالنساء وقوله(11):« استحللتم فروجهن بكلمة الله »، قال الإمام: قيل: المراد بالكلمة(12) قوله تعالى:{ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان }، ويحتمل أن يكون:" بكلمة الله ": بإباحة الله تعالى المنزلة(13) في كتابه.
__________
(1) في (ر):" لأطباقهم ".
(2) قوله:" بما " ليس في (ر).
(3) في (ر):" ليتأتى ".
(4) في (أ):" تصحيفًا "، وفي (ر):" تصحيف ".
(5) في (ر):" قيل ".
(6) في (ط):" ابن بكر والزبير ".
(7) في (ر):" أم ".
(8) في (أ):" وهو ".
(9) في (ر):" أبوه ".
(10) في (أ) (ر):" ربيعة " بدون واو.
(11) قوله:" وقوله " ليس في (أ).
(12) في (أ):" بكلمة الله ".
(13) في (ر):" له "، وفي (ط):" البرّ له ".(5/123)
قال القاضي: وقيل: المراد " بكلمة الله (1)": التوحيد، وقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله ؛ إذ لا يحل لمن كان على غير الإسلام أن يتزوج مسلمة، قاله بكر القشيرى، وعن مجاهد في قوله { وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا }، هي كلمة النكاح التي تستحل بها الفروخ.
وقوله:« ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح »، قال الإمام: قيل: المراد بذلك ألا يستخلين مع الرجال، ولم يرد زناها ؛ لأن ذلك يوجب(2) حدها، ولأن ذلك حرام مع من نكرهه نحن أو لا نكرهه، وقد قال:" أحدًا تكرهونه أنتم(3)".
قال القاضي: كانت عادة العرب حديث الرجال مع النساء، ولم يكن عيبًا ولا ريبة عندهم، فلما نزلت آية الحجاب نهى عن ذلك. ومعنى:" غير مبرح "، أي: شديد شاق. والبرح: المشقة. وفيه إباحة تأديب الرجل زوجته.
وفي قوله:« ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف »، ايجاب(4) ذلك لهن. وقوله: فقال بإصبعه السبابة ينكتها(5) إلى الناس:« اللهم اشهد »، كذا الرواية بالتاء باثنتين من فوقها(6)، وهو بعيد المعنى قيل: صوابه:" ينكبها" بباء بواحدة(7)، وكذا رويناه عن شيخنا أبي الوليد هشام بن أحمد من طريق ابن الأعرابي عن أبي داود في "مصنفه(8)" بالباء بواحدة وبالتاء باثنتين من طريق أبي بكر التمار عنه، ومعناه: يردها ويقلبها إلى الناس مشيرًا إليهم. ومنه: نكب كنانته: إذا قلبها، ثم ذكر أنه صلى بعد ذلك. فيه أن سنة خطبة عرفة قبل الصلاة كخطبة الجمعة دون غيرها.
__________
(1) في (ر):" بالكلمة ".
(2) في (ق):" موجب ".
(3) قوله:" أنتم " لم تتضح في (أ).
(4) في (ق):" يجب ".
(5) في (ر):" ينكثها "، وف ي(ق):" ينمكتها.
(6) في (ر):" من فوق ".
(7) في (ر):" واحدة ".
(8) في (أ):" تصنيفه ".(5/124)
قال القاضي: قال(1) أبو عبد الله: أجمعوا أن الخطبة يوم عرفة قبل الصلاة، وأنه لو صلى الظهر فيها بغير خطبة أجزأته صلاته.
وقوله:" ثم أذن ثم أقام " دليل على أن الأذان متصل بالصلاة، وهو أحد أقوال مالك: أنه(2) يؤذن في آخر خطبة الإمام، حتى يكون فراغ الإمام من الخطبة، مع فراغ المؤذن من الأذان، وهو قول الشافعي، وروي عن مالك أيضًا [أنه يؤذن بعد تمام الخطبة، فيجلس الإمام على المنبر ثم يؤذن(3) المؤذن، وروى عنه](4) أنه يؤذن لها إذا جلس بين الخطبتين، وقال أبو ثور: يؤذن المؤذن(5) والإمام جالس(6) على المنبر قبل خطبته(7) كالجمعة، وروي أيضًا مثله عن مالك، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئًا، وقال(8) مثله بعد(9) في صلاته بالمزدلفة بأذان واحد وإقامتين،ولم يسبح بينهما شيئًا، أي: لم يتنفل. هذه سنة صلاة الجمع في عرفة ومزدلفة وليلة المطر ألا يتنفل بينهما إلا لمن يرى الأذأن لكل صلاة، فيباح التنفل ما دام يؤذن المؤذن لمن يخف عليه ذلك، فقد رخص فيه(10)، وجمعه في عرفة والمزدلفة بأذان واحد وإقامتين، اختلف العلماء في جمع الصلاة بمزدلفة للإمام لاختلاف الآثار ؛ إذ روى هذا وروى الجمع بإقامة واحدة لهما، ولم يذكر أذانا،[ وقد ذكر مسلم بعد هذا](11) وروى الجمع(12)، ولم يذكر إقامة لكل صلاة، فقيل بأذان واحد وإقامتين على حديث جابر، وإلى هذا ذهب أحمد وأبو ثور وعبد الملك ابن الماجشون والطحاوي، وقال مالك: يؤذن
__________
(1) قوله:" قال " ليس في (ر).
(2) قوله:" أنه " ليس في (ح).
(3) في (أ):" المنبر ويؤذن ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (ر).
(5) في (أ) و(ر):" المؤذنون ".
(6) في (أ):" يخطب ".
(7) قوله:" خطبته " ليس في (ق).
(8) في (ر) و(ق):" وقاله ".
(9) في (ر) مكانها بياض، وفي (ق):" عنه ".
(10) قوله:" فيه " ليس في (ق).
(11) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(12) قوله:" وروى الجمع " ليس في (أ).(5/125)
ويقيم لكل صلاة قياسًا على سائر الصلوات، وهو مذهب عمر بن الخطاب وابن مسعرد، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أذان واحد واقامة واحدة، وقال الشافعي وأحمد - في أحد قوليه - بإقامتين دون أذان لهما، وروى هذا عن القاسم وسالم، ومثله عندنا في كتاب الجلاب في عرفة ومزدلفة، وقال الثوري: تجزئ(1) إقامة واحدة لا أذان معها، وحكى عن ابن عمر، وأما جمع عرفة فقال الطحاوي: إنهم لم يختلفوا أن الأولى منهما يؤذن لها ويقام، وقد حكى شيوخنا الخلاف في ذلك كالخلاف في صلاة المزدلفة(2) سواء ومذهب مالك.
__________
(1) في (ق):" يجزي ".
(2) في (ط):" مزدلفة ".(5/126)
وقوله: في صلاة عرفة ومزدلفة سواء، وخالف أبو حنيفة فقال في صلاة عرفة مثل قول الشافعي سواء، بأذان واقامتين، وهو مذهب أبي ثور وقال أحمد(1): هما سواء بإقامتين دون أذان، وهو قول إسحاق، قالا: أو بأذان(2) وإقامتين إن شاء، واختار الطبري على مذهبه(3) العمل بما شاء من ذلك، ولا خلاف أن صلاتهما بعرفة هكذا بالجمع، وصلاة العشاءين بمزدلفة هكذا مع الإمام، وإنما اختلفوا فيمن فاتته صلاة عرفة مع الإمام، فجمهورهم على أنه يجمع بينهما اتباعًا لفعله - عليه السلام - ولقوله:" خذوا عني مناسككم "، و "صلوا كما رأيتموني أصلي "، وقال الكوفيون: يصليها من فاتته لوقتها، ولا يجوز الجمع إلا مع الإمام. قال الطحاوي: ولم يختلفوا أن من صلاهما في وقتهما غير الإمام أن صلاته جائزة، واختلفوا فيمن صلى قبل أن يأتي المزدلفة العشاءين، فذهب الكوفيون أنه لا يجزئه ويعيدهما، وإن صلاهما بعد مغيب الشفق، وقاله ابن حبيب من أصحابنا، وقال مالك: لا يصليهما قبل المزدلفة إلا من به عذر أو بدابته، ولا يجمع هذا بينهما حتى يغيب الشفق، وقال محمد: يصليهما كل صلاة لوقتها، وقيل: تجزئه صلاته لهما في وقتهما قبل مزدلفة، كان إمام(4) الحاج أو غيره، وهو مروى عن جماعة من الصحابة والتابعين، وقاله الشافعي والأوزاعي وأبو يوسف وأشهب من أصحابنا وفقهاء أصحاب الحديث، وفيه دليل أنه لا يجهر بالقراءة في ظهر عرفة، وكونها سرًّا (5)؛ إذ لو كان جهرًا لنقل إلينا، وهو اتفاق من العلماء، وفيه دليل على(6) أن أوقات هذه الصلوات للجمع.
__________
(1) في (ق):" أبو ثور ".
(2) في (ق):" أذان ".
(3) في (ط):" مذهب ".
(4) قوله:" إمام" في مكانها بياض في (ق).
(5) قوله:" سرًّا " ليس في (ق).
(6) في (أ):" دليل أن ".(5/127)
قال القاضي: قال الخطابي: سميت مزدلفة لاقتراب الناس بها إلى منى للإفاضة من عرفات، يقال: ازدلف القوم: إذا اقتربوا، وقال ثعلب: لأنها منزلة من الله وقربة، قال: ومنه(1) قوله:{ فلمّا رأوه زلفة }. وقال الهروى: سميت بذلك لاجتماع الناس بها. والازدلاف: الاجتماع. وقال الطبري:[ سميت بذلك لازدلاف آدم إلى حواء، وتلاقيهما بها. وقد يقال](2): سميت بذلك للنزول بها بالليل(3) وفي(4) زلفة وصلاة العشاءين بها ليلاً، وهي المشعر، سميت بذلك بمعنى الأعلام، والمشاعر: المعالم، وهي جمع، سميت بذلك للجمع فيها بين العشاءين، وقيل: لاجتماع الناس بها. قال ابن حبيب: وهي قزح أيضًا. قال القاضي (5): وقزح إنما هو موضع منها، فيه كانت تقف قريش في الجاهلية، وهو داخل الحرم، وسميت منى لما يمنى بها من الدم، أي(6): يراق، وقيل: لأن آدم تمنى بها الجنة. قال الطبري: واختلف في تسمية عرفة، فقيل: لأن جبريل حج بإبراهيم عليهما السلام فكان يعرفه المواضع والمناسك، فيقول: قد عرفت، وقيل: بل عرفه عرفة، فقال(7): قد عرفت لأنه كان قد راها مرة قبل ذلك، والمعرف موضع الوقوف بعرفة، والتعريف الوقوف بها.
وقوله:" حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء(8) إلى الصخرات، [وجعل حبل(9) المشاة بين يديه](10) واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة، فيه أن سنة الوقوف هذه الهيئة، واستحبوا هذا الموضع. والوقوف بعرفة ركن من أركان الحج لا خلاف فيه.
__________
(1) في (ط):" منه ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط ) و(ق).
(3) في (ق):" في الليل ".
(4) في (ق):" في ".
(5) قوله:" قال القاضي " ليس في (ط).
(6) في (ق):" أو ".
(7) في (ق):" فقيل ".
(8) قوله:" القصواء " ليس في (أ).
(9) في (ق):" جبل ".
(10) مابين المعكوفين ليس في (أ).(5/128)
[ وقوله:" وجعل(1) حبل المشاة بين يديه "، يريد صفهم ومجتمعهم. وحبل الرمل: ما طال منه وضخم، وقيل(2): حبل المشاة حيث تسلك الرجالة، أي: طريقهم، والأول أشبه بالحديث](3).
وقوله: " حتى غربت الشمس "، إبانة عن وقت الوقوف وأنه من بعد الزوال، ولا خلاف أنه لا يجزئ قبله. واختلف هل يكفى فيه وقوف النهار دون الليل ؟ وهل محل(4) الفرض الليل وحده، أو النهار والليل ؟ مع الاتفاق(5) على أن وقوف الليل يجزئ، وأكثرهم على أن وقوف النهار يجزئ إلا مالكًا، فإنه عنده في(6) معروف قوله كمن لم(7) يقف، وفيه الاحتياط(8) بالمكث حتى تزول الصفرة، وأن تحقق المغيب ليأخذ(9) جزءًا من الليل، وكذا يجب(10) الاحتياط للفطر والصلاة، لاسيما فيما تستره(11) الجبال وخرج عنه أيضًا كقول الكافة، واختلف القائلون بالجواز، هل عليه إذا لم يقف(12) دم أم لا ؟ وأجمعوا على أنه لا دم على من وقف بالليل دون النهار.
وقوله:" وذهبت الصفرة حتى غاب القرص"، كذا في النسخ كلها، قيل: لعل صوابه ووجه الكلام:" حين غاب القرص ".
__________
(1) قوله:" وجعل " ليس في (ق).
(2) من قوله:" بين يدية...." إلى هنا ليس في (ق).
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(4) في (ط):" يحل ".
(5) في (أ):" أن الاتفاق ".
(6) قوله:" في " ليس في (ق).
(7) في (ق):" قام ".
(8) في (ق):" الاجتزاء ".
(9) في (ط):" ليأخذوا ".
(10) في (ق):" يجوز ".
(11) في (ط):" يستره ".
(12) قوله:" إذ لم يقف " ليس في (ط).(5/129)
وقوله:" وقد شنق للقصواء(1) الزمام حتى إن رأسها ليصيب(2) مورك رحله"، مورك الرحل، بفتح الراء، وموركته أيضًا: قطعة من أدم، يتورك عليها الراكب، تجعل في مقدم الرحل، شبه المخدة الصغيرة. فيه الرفق في السير من الراكب بالمشاة، كما جاء في الحديث بعد هذا:"وهو كاف ناقته"، وشنق(3): ضم وضيق، وما جاء في الحديث من ضم رأسها يفسر ذلك.
وقوله: ويقول بيده:« أيها الناس ! السكينة، السكينة »، فيه صفة الدفع من عرفة وسنتها، وهو(4) سنة العبادات، لاسيما في الجموع الكثيرة، مع ما فيه من الرفق والتؤدة(5) لهم ولركابهم، وأمن الأذى مع ذلك، بخلاف العجلة.
وقوله:" كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد "، قال الإمام: الحبال دون الجبال. قال ابن السكيت: الحبل: مستطيل الرمل.
قال القاضي: قال غيره: هو ما ضخم من الرمل وطال، وفي هذا الفعل الرفق بالدواب ؛ لئلا تتكلف(6) في صعود ذلك مشقة مع مشقة الشنق(7)، مع عادة الدواب من الترسل في المشي في الصعود.
وقوله: " حتى تصعد ": ويروى تصعد ثلاثي ورباعي، ويقال: صعد في الجبل، وأصعد وصعد وأصعد في الأرض، ذهب مبتديًا للذهاب، وفي الرجوع: انحدر، وتقدم الكلام في صلاته بالمزدلفة.
وقوله:" ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى حين تبين له الصبح(8) بأذان وإقامة "، فيه سنة المبيت بمزدلفة(9)، وصلاة الصبح بها غلسًا، إلا لمن رخص له النبي - عليه السلام - ممن ضعف من أهله.
وفيه الأذان في السفر ولصلاة(10) الأئمة حيث كانوا، خلافًا لمن قال: يقتصر المسافر على الإقامة.
__________
(1) في (ط) و(ق):" شق القصواء ".
(2) قوله:" ليصيب " ليس في (ق).
(3) في (ط) و(ق):" شق ".
(4) قوله:" وهو " في مكانها بياض في (ق).
(5) في (ط):" والمودة ".
(6) في (ق):" يتكلف ".
(7) في (ط):" الشق "، وفي (ق) تشبه ان تكون:" الشفق ".
(8) في (ق):" الفجر ".
(9) في (ط) و(ق):" بعرفة ".
(10) في (أ):" لصلاة ".(5/130)
وقوله:" ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدًّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس "، فيه الوقوف بالمشعر، وكونه من المناسك، وقد قال(1) تعالى:{ فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام }، وقد اختلف في وجوب الوقوف، وفيه، وفيما تقدم استحباب استقبال القبلة للدعاء والذكر، وفيه سنة الذكر فيه(2) بما فعله - عليه السلام - من التكبير والتهليل والدعاء، وفيه أن(3)" جمعًا " كلها موقف ؛ إذ لم يخص منها موضعًا إلا ما خصه بقوله(4) في الحديث الآخر:" ارتفعوا عن بطن محسر "، وفيه كون الدفع من مزدلفة بعد أن أسفر قبل طلوع الشمس، خلافًا للجاهلية،كانوا لا يفيضون من جمع حتى يروا(5) الشمس على رؤوس الجبال، ويقولون: أشرق ثبير(6) كيما نغير، وفي إردافه أولاً أسامة وآخرًا الفضل، جواز ركوب الاثنين(7) على الدابة، وخاصية هذين به - عليه السلام - من بين من حضره من آله، وأن ذلك من سنة أهل الفضل والتواضع، وقد روي أيضًا أنه أردف عليًّا.
وقوله: " مرَّ بظعن(8) يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على وجه الفضل "، فيه سنة غض البصر خوف الفتنة، وأن ذلك في حق النساء والرجال جميعًا بعضهم لبعض، ألا تراه كيف قال في الفضل: " وكان أبيض(9) وسيمًا حسن الشعر" فخاف(10) فتنة الظعن به، وفتنته بهن. ولهذا وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده على وجه الفضل ليمنع(11) من الفتنتين، قال بعضهم: وهذا يدل على أن هذا ليس بواجب إذ لم ينهه.
__________
(1) في (ق):" وقوله " بدل:" وقد قال ".
(2) قوله:" فيه " ليس في (ق).
(3) في (ط):" وفيه جواز أن ".
(4) في (ط):" ولقوله ".
(5) في (ق):" ترول ".
(6) في (ق) تشبه أن تكون:" تبير ".
(7) في (ق):" اثنين ".
(8) في (أ):" فمرت ظعن ".
(9) في (أ):" أبيضا ".
(10) في (ق):" يخاف ".
(11) في (أ) و(ق):" ليمتع ".(5/131)
قال القاضي أبو عبد الله بن المرابط: الاستتار للنساء سنة حسنة، والحجاب على أزواج النبي - عليه السلام - فريضة.
قال القاضي (1): وعندي(2) أن فعله في ذلك أبلغ في النهي من القول، ولعل الفضل لم ينظر إليهن نظرًا ينكره النبي - عليه السلام - وإنما خشى فتنة بعضهم لبعض أو كان هذا قبل نزول الآية بإدناء الجلابيب عليهن.
وقوله:" حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى "، وهذه سنة السير(3) في هذا الموضع أن يحرك فيه الدابة، وسلوك هذه الطريق اتباعًا لفعله(4) - عليه السلام -.
وقوله (5):" حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف "،[ كذا في أكثر الأصول، وصوابه مثل: "حصى الخذف](6)"، وكذا(7) رواه غير مسلم، وكان في كتاب القاضي ابن عيسى: " كل حصاة منها مثل حصا الخذف "، وهو صواب، لا خلاف أن جمرة العقبة - وهي هذه - من مناسك الحج، واختلف عندنا هل هي من فروضه وأركانه أم لا ؟ فقال مالك: إن لم يرمها حتى، خرجت أيام السنة(8)، انفسد(9) حجه وعليه دمٌ، وقال عبد الملك: يفسد حجه، وجمهور العلماء على أن عددها سبع كما جاء في الحديث، وسيأتى الكلام على تمامها بعد.
وقوله:"مثل حصى الخذف"، قال الإمام: قال الليث: الخذف رميك حصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك، أو تجعل(10) مخذفة من خشب ترمى(11) بها بين إبهامك(12) والسبابة.
__________
(1) قوله:" قال القاضي" ليس في (ط)، وفي مكانها بياض في (أ).
(2) في (ق):" عنه ".
(3) في (ط):" الستر ".
(4) في (ق):" للنبي ".
(5) في (ق):" قوله ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (ق).
(7) في (ط):" وكذلك ".
(8) قوله:" السنة " في مكانها بياض في (ق).
(9) في (ط):" لم يفسد " ويبدو أنها مصححة بخط مغاير.
(10) في (ط):" أو يجعل ".
(11) في (أ):" يرمي ".
(12) في (ق):" إبهاميك ".(5/132)
قال القاضي: وهذا حد حصى الرمي، وقد روي نهي النبي - عليه السلام - عما سواه، وقال:« لا يقتل بعضكم بعضًا ».
وقوله:« رمى من بطن الوادي »، هي سنة رمي جمرة العقبة، أن يكون من أسفلها، وحيث ما رمى فواسع، وسيأتي الكلام على هذا، وفيه أن رميها بعد طلوع الفجر.
وقد استدل بعضهم من هذا(1) الحديث بأن رميها بعد طلوع الشمس، إذ دفع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أسفر جدًّا فلا يبلغ إليها(2) إلا بعد طلوع الشمس، مع أمره(3) - عليه السلام - بذلك في حديث ابن عباس، وسيأتى الكلام عليها(4) وخلاف العلماء فيها بعد.
وقوله:" ثم انصرف إلى المنحر "، دليل على أنه موضع معلوم بمنى، وقد قال - عليه السلام - في الحديث الآخر:" هذا المنحر، وكل منى منحر ". قال مالك: إلا ما خلف العقبة، وقد قال ابن الأنباري: إنما سميت منى من منيت الدم(5)، إذا صببته،[ وذلك لما تمنى بها(6) من الدماء، وقال غيره: بل لأن آدم تمنى بها الجنة](7). والمنحر للحاج بمنى إجماع(8) من العلماء.
والنحر(9)، بها عندنا بثلاثة شروط، إن(10) انخرم منها واحد لم يصح النحر بها: أحدها: أن يكون الهدي قد وقف بعرفة.
الثانى: أن يكون النحر في أيام منى، وهي أيام التشريق، وهي الأيام المعدودات(11).
__________
(1) في (ق):" بهذا ".
(2) في (ق):" بها ".
(3) في (ق):" وأمره ".
(4) في (ط):" عليه ".
(5) في (ق):" منحر الدم ".
(6) في (ق):" يمنى فيها ".
(7) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(8) في (ق):" بإجماع ".
(9) في (ق):" المنحر ".
(10) في (ق):" وإن ".
(11) في (ق):" المعلومات ".(5/133)
الثالث: أن يكون النحر في حج لا في(1) عمرة. ولا يجوز النحر بهذه الشروط بمكة ولا بغيرها(2)، وهذا في نقل محمد، ومذهب مالك، وقال القاضي إسماعيل: إنه يجوز(3) إن نحر بمكة في أيام منى، وحكى غيره أنه مذهب مالك، وأجاز(4) عبد الملك أن ينحر بمنزله ما لم يوقف به بعرفة، وأما في العمرة(5) فالنحر في هديها بمكة حيث شاء منها، ولا خلاف في هذا أيضًا فيما اشتملت عليه بيوتها، وقد قال - عليه السلام -: في العمرة هذا المنحر: يعني المروة وكل(6) فجاج مكة وطرقها منحر، وقد اختلف عندنا فيما خرج عن بيوتها من فجاجها، ويجزئ عند مالك: أن ينحر في العمرة بمنى، فإن نحر بغير منى ومكة(7) في(8) الحج أو العمرة لم يجز عنده، وأجزأ عند أبي حنيفة والشافعي إذا كان يأتي(9) موضع من الحرم، قالا(10): والمقصود مساكين الحرم لا الموضع(11) منه، وأجمعوا أنه لا يجوز فيما عدا الحرم، ولا يجوز لأحد في البيت والمسجد ذبح ولا نحر.
__________
(1) قوله:" في " ليس في (ق).
(2) في (ق):" ولا غيرها ".
(3) في (أ):" لا يجوز ".
(4) في (ق):" حكى ".
(5) في (ق):" الحج ".
(6) في (ق):" فكل ".
(7) في (أ):" مكة ومنى ".
(8) في (ق):" هي ".
(9) في (ق) تشبه ان تكون:" به " أو " جاه ".
(10) في (ق):" قالوا ".
(11) في (أ):" إلا الموضع ".(5/134)
وقوله:" فنحر ثلاثًا وستين بيده "، كذا لهم، وعند ابن ماهان: "بدنة " مكان "بيده "، وكلٌ صواب، لكن نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده هو(1) المروي، وهو أصوب هنا إن شاء الله ؛ لقوله:" ثم أعطى عليا فنحر ما غبر(2) وكانت عدتها مائة"، على ما جاء في الحديث. فيه تولى الرجل نسكه(3) بنفسه(4)، وأنه أفضل. ويكره له إذا كان يقدر على ذلك توليته لغيره، وقوله: " إلى المنحر": يدل أن البدن تختص بمنحر، وسيأتي تفسيره، وفيه كون النحر بعد الرمي. وقوله: ثم أعطى عليًّا فنحر ما غبر، أي: ما بقى، قال بعضهم: فيه جواز الاستنابة في نحر النسك لغير صاحبها، وهو جائز بغير خلاف(5) إذا كان المستناب مسلمًا.
واختلف عندنا إذا كان كتابيًا، لكن يضعف الاستدلال بها(6) هنا ؛ إذ جاء في غير كتاب مسلم: أنه أعطاها عليًّا يهديها عن نفسه، وحكى بعض شيوخنا أنه رأى رواية أن من نحر(7) أضحيته(8) غيره كان عليه الإعادة ولم تجزه(9)، ومحمل هذا - والله أعلم - أنه بغير أمره، وهو موضع خلاف أهل(10) العلم فأما بأمره فلا.
__________
(1) في (ق):" وهو ".
(2) في (ق):" فنحرها ".
(3) قوله:" نسكه " ليس في (ق).
(4) في (أ):" بيده ".
(5) في (ق):" بخلاف ".
(6) في (ق):" بها ".
(7) في (ق):" أنه إن نحر ".
(8) في (ط):" أصحية ".
(9) في (ط):" تجزه ".
(10) في (أ):" من أهل ".(5/135)
وقوله:" وأشركه معه في هديه "، استدلوا به أيضًا على الاشتراك في الهدايا، وقد تقدم ويأتي بعد، وعندى أيضًا أنه يضعف الاستدلال بكل حال لما قدمناه من رواية من روى أنه لم يكن بشريك إشاعة، وإنما أعطاه منها عددًا (1)، وقال هنا: " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر ثلاثًا وستين بدنة(2) بيده(3)"، ونحر علي ما بقى. ذكر بعض أصحاب المعاني أن نحر النبي - عليه السلام - ثلاثًا وستين بدنة بيده إشارة إلى منتهى عمره، ويكون قد نحر(4) عن كل عام من عمره بدنة.
__________
(1) في (ط):" عوضا ".
(2) قوله:" بدنة " ليس في (ط)، وفي (ق):" بذنة ".
(3) في (أ):" بيده إشارة إلى ".
(4) في (ق):" فيكون نحر ".(5/136)
قال القاضي: والذي يظهر لي(1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر بدن نفسه(2) بيده، [وهي التي أتى بها من ذي الحليفة، على ما ذكر(3) مسلم في حديث(4) ابن عمر(5)](6) وهي كانت عدة(7) ما جاء به من المدينة، على ما ذكره الترمذي في الحديث ثلاثًا وستين، وأن البقية هي التي أتى(8) بها على، هي(9) التي أعطاها له النبي - صلى الله عليه وسلم -، على ما تقدم في بعض الروايات، فلم يكن(10) هنا(11) حجة في الاستنابة، ولا في التشريك، لكن يبقى هنا إشكال في هبتها(12) بعد تقليدها وإشعارها، وقد وجبت بذلك لمقلدها ومهديها، وقد ذكر أصحاب الأخبار والمغازي(13) أن عليًا ساقها على أن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء منها، فإن كان(14) قلدها وأشعرها عن نفسه على(15) هذه النية(16)، فقد أبقاها له النبي - عليه السلام - وتركها هديا عنه، وأهدى هو ما أتى به من المدينة.
وقوله:" ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها،[ قال الإمام: لما كان الأكل من جميع لحمها فيه كلفة، جمعه في قدر واحد ليكون تناوله من المرق كالأكل من الجميع ](17).
__________
(1) في (ق) يشبه أن تكون:" له ".
(2) قوله:" نفسه " ليس في (ق).
(3) في (ق):" ذكره ".
(4) في (ق):" حديثه ".
(5) قوله:" ابن عمر " ليس في (ق).
(6) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(7) في (ق):" عدد ".
(8) في (أ):" كانت أتى "، وفي (ق):" جاء " بدل:" أتى".
(9) في (ق):" وهي ".
(10) في (ط):" تكن ".
(11) في (أ):" بها ".
(12) في (ق):" وهيئتها ".
(13) في (ط):" والمعاني ".
(14) في (ط):" ما كان ".
(15) في (ط):" وعلى ".
(16) قوله:" على هذه النية " ليس في (أ).
(17) مابين المعكوفين ليس في (ق).(5/137)
قال القاضي يحتج بهذا على قولنا: إن من حلف ألا يأكل لحمًا فشرب مرقه، أنه حانث لحصول اللحم فيه، إلا أن يكون له مقصد ونية، وذكر الداودي أنه روي أنه:" أخذ من كل بدنة بضعة صغيرة فينظمها في خيط فتطبخ ويأكلها " لقوله تعالى:{ فكلوا منها }، والأكل باتفاق ليس بواجب، لكنه من سننها(1)، ويطعم باقيها، وقال النخعي: من شاء أكل ومن شاء لم يأكل، وسيأتي الكلام على الأكل من الهدايا، والخلاف فيها(2) بعد هذا، وما ذكره الداودي حديث غير معروف منكر، وفي هذا(3) الحديث من خصائص على - رضي الله عنه - في تشريكه معه في هديه وتفضيله بذلك دون غيره، واستدل به على جواز الأكل من هدي المتعة والقران، على القول أنه كان متمتعًا أو قارنًا، ولا حجة فيه ؛ لأن(4) هذا لم ينص أنه كان للمتعة ولا للقران، وقد بينا أنه كان غير متمتع ولا قارن، وسيأتي الكلام على الأكل من الهدايا والبدن. وقوله:" ثم ركب فافاض بالبيت "، فيه أن وقت(5) طواف الزيارة هو يوم النحر، قال الله تعالى:{ ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق }، وهذا هو(6) الطواف الواجب بإجماع، وهو طواف الإفاضة، وطواف الزيارة، وهو ركن من أركان الحج عند جميعهم لا يجزئ دونه، واختلفوا فيمن طاف غيره من(7)، طواف قدوم أو وداع أو تطوع، وترك طواف الإفاضة أو نسيه حتى رجع إلى بلاده، فعن مالك وأصحابه في إجزاء طواف الوداع عنه روايتان، فأكثر العلماء ومشهور قوله(8) أنه لا يجزئ، واختلف أيضًا عندنا هل يجزئ عن طواف الإفاضة طواف الوداع ؛ والأشهر هنا أنه يجزئ، وكذلك طواف التطوع، ولم يختلف العلماء، أنه لا رمل(9)
__________
(1) في (ط):" سنتها ".
(2) في (ق):" في هذا ".
(3) قوله:" هذا " ليس في (ق).
(4) في (ق):" لأنه ".
(5) قوله:" وقت " ليس في (ق).
(6) في (ق):" بعد ".
(7) قوله:" غير من " في (أ) موضعها لحق ولم يظهر شيء في الحاشية.
(8) في (ط):" فيه ".
(9) في (ق):" رمي ".(5/138)
فيه ولا سعى بعده، إلا لمن لم يطف طواف القدوم ولم يسع فيه.
وقوله: فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون(1) على زمزم، فقال: " انزعوا بني عبد المطلب لولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم(2)"، فيه بقاء هذه(3) الحظية(4) والتكرمة لبني العباس، كبقاء الحجابة لبني شيبة وسنذكره، وفيه(5) إشفاقه عليها حوطة على مكرمتهم ؛ إذ لو نزع لعد الناس ذلك من النسك فاستعملوا ذلك فيخرج الأمر عن يد بني عبد المطلب، وقيل: لعله إشفاق أيضًا على أمته ؛ لئلا يلحقهم بذلك حرج، والأول أظهر لمقتضى لفظه، وتعليله بغلبتهم لا بغير ذلك، والنزع: الاستقاء بالرشا، يقال منه: نزع بالفتح، ينزع بالكسر، ولم يأت في هذا الباب على فعل يفعل إلا نزع ينزع، وهنا يهنى، وإلا فكل ما جاء على فعل مما عينه أو لامه حرف حلق فمستقبله يفعل، بالفتح أيضًا. والنرح(6)، بالحاء، الاستقاء بالدلو.
وقوله:" فناولوه دلوًا فشرب "، فيه استحباب الشرب من زمزم.
وقوله:"[ نحرت(7) هاهنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم "، توسعة، وقد قال في الحديث الآخر:" حتى أتى المنحر "، وقال في ](8) الآخر: "هذا المنحر، ومنى كلها منحر "، وقد تقدم الكلام عليه.
__________
(1) في (ق):" وهم يسقون ".
(2) في (ق):" ماءكم ".
(3) قوله:" هذه " ليس في (ق).
(4) في (ط):" الخطة ".
(5) في (ق):" في ".
(6) في (ق):" النزع ".
(7) في (ط):" يحدث ".
(8) مابين المعكوفين ليس في (ق ).(5/139)
وقوله:« وعرفة كلها موقف »، ووقفت هاهنا، وجمع كلها موقف، تعريف بتوسعة الأمر على أمته، وبيان لهم. وجمع، بفتح الجيم(1)، مزدلفة سميت بذلك لاجتماع الناس بها، وقيل: لجمع(2) العشاءين بها، وهو المشعر الحرام. واستحب العلماء الوقوف بموضع وقوف النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن قدر عليه، وجاء في رواية مالك: عرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة ". اتفق العلماء على(3)، أنه لا موقف فيه، واختلفوا إذا فعل. وبطن عرنة: وادى عرفة، كذا ذكروه بضم العين والراء، وذكره ابن دريد بفتح الراء، قالوا: وهو الصواب، وهو بطن وادى عرفة. قال ابن حبيب: وفيه مسجد عرفة، وهو من الحرم. واختلف فيمن وقف في المسجد، فعند مالك يجزئ، وقال أصبغ: لا يجزئ، ورواه من بطن عرنة، وكذلك قال أبو مصعب فيمن وقف ببطن عرنة: إنه كمن لم(4) يقف لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوقوف به، وحكى عن الشافعي، وقال مالك: حجه(5) تام وعليه دم، حكاه عنهما ابن المنذر، وحجته قوله: وعرفة كلها موقف.
وقوله:" وجمع كلها موقف "، وفي رواية مالك(6):" فارتفعوا(7) عن بطن محسر:[ اتفق العلماء أيضًا على الأخذ بهذا، وترك الوقوف بمزدلفة ببطن محسر](8)، واستحبوا الوقوف حيث الممارة(9)، وحيث تقف(10) الأئمة بين(11) الجبلين. ومحسر ليس من المزدلفة.
__________
(1) في (ق):" الميم ".
(2) في (ق):" لأن ".
(3) قوله:" على " ليس في (أ).
(4) قوله:" لم " ليس في (ق).
(5) في (ط):" حجة ".
(6) في (ق):" البخاري ".
(7) في (أ):" وارتفعوا ".
(8) مابين المعكوفين ليس في (ق).
(9) في (ق):" المنارة ".
(10) في (أ):" يقف ".
(11) في (أ):" من ".(5/140)
ذكر مسلم:" كانت قريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة، ويسمون الحمس، وأنهم كانوا يقولون(1): لا نفيض إلا من الحرم وسائر العرب يقف(2) بعرفة، فلما جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه أن يأتى عرفات فيقف، ثم يفيض منها، وذكر أن أبا سيارة كان يدفع بالعرب على حمار عري(3)، وأن قريشًا لم تشك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتصر(4) على المشعر، وأنه أتى عرفات، وفسر في الحديث: أن الحمس قريش وما ولدت.
قال الإمام: قال أبو الهيثم: هم قريش، ومن ولدت قريش، وكنانة(5) وجديلة قيس سموا(6) حمسًا(7) [ الأحمس: الشديد الصلب في الدين والقتال، قد حمس بالكسر فهو حمس وأحمس بين الحمس والحماسة. والأحمس: الشجاع، وإنما سميت قريش وكنانة حمسًا لتشددهم في دينهم ؛ لأنهم كانوا لا يستظلون أيام منى، ولا يدخلون البيوت من أبوابها، ولا يساؤون ولا يلقطون الجلَّة، قاله الجوهري في الصحاح](8)، لأنهم تحمسوا في دينهم، أي: تشددوا، وكانوا لا يقفون بعرفة، يخرجون من الحرم، ويقولون: نحن أهل الله،[ فلا نخرج من حرم الله](1)، وكانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها، وقال الحربي عن بعضهم: سموا حمسا بالكعبة(9) لأنها حمساء ، حجرها أبيض يضرب إلى السواد.
قال القاضي: وذلك قوله(10) عز وجل:{ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس }، قيل: المراد بالناس هنا آدم(11) - عليه السلام -، وقيل: إبراهيم - عليه السلام - ومن معه، وقيل: سائر الناس غير الحمس الذين ابتدعوا الإفاضة من مزدلفة.
__________
(1) في (ق) تشبه أن تكون الجملة:" وإن كانوا يقفون ".
(2) في (ق):" تقف ".
(3) في (ط) و(ق):" عربي ".
(4) في (ط) و(ق):" يفيض ".
(5) في (ط):" كناية ".
(6) في (ق):" سموا بذلك ".
(7) قوله:" حمسًا " ليس في (ق).
(8) مابين المعكوفين ليس في (ق).
(9) في (ق):" والكعبة ".
(10) في (ط) و(ق):" وقوله ".
(11) في (ق):" بالناس العرب ءادام ".(5/141)
وقوله:" كانوا يطوفون عراة "، يعني العرب، إلا أن تعطيهم الحمس ثيابًا، هذه كانت سيرة العرب في الجاهلية ؟ ولهذا أمر - عليه السلام - قبل حجه بعام ألا يطوف بالبيت عريان إلا الحمس، فإنها كانت تطوف في الثياب، أو من أعطاه(1) الحمس من ثيابها، فمن لم يرد أن يطوف عريانًا ولم يجد ثوبًا من ثياب الحمس، وطاف من العرب في ثيابه، فإذا أكمل طوافه ألقاها في الأرض، ولبس غيرها، ولم يعد إليها هو، ولا غيره، ولا انتفع بها، وكانت تسمى تلك الثياب المطروحة اللقى ؛ لإلقائها بالأرض، واختلف في اشتقاق لفظة "الإفاضة" هنا، فقال الطبري: معناه: الرجوع، أي: يرجعون(2) من(3) المشعر الحرام(4) إلى منى، وقال الأصمعي: الإفاضة: الدفعة، ومنه: فيض الدمع(5)، قال الخطابي: أصل الفيض السيلان، وقول(6) جبير بن مطعم:" أضللت بعيرًا لي، فظللت(7) أطلبه يوم عرفة، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفًا مع الناس بعرفة، فقلت: هذا من الحمس، فما شأنه ؟ كان هذا - والله أعلم(8)- قبل الهجرة في حج النبي - عليه السلام - بمكة، وجبير إذ ذاك كافر ؛ لأنه اختلف في إسلامه، فقيل: يوم الفتح، وقيل: عام خيبر، فانكر مخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - لقريش، وهذا يدل أن أمره بذلك(9) كان بمكة قبل فرض الحج عليه.
قال الإمام: ذكر مسلم في هذا الباب: نا أبو كريب، نا أبو أسامة، نا هشام عن أبيه. هكذا عند أبي أحمد والكسائي، وعند ابن ماهان: نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا أبو أسامة، فجعل ابن أبي شيبة، بدل(10)" أبي كريب"، وحديث أبي موسى في إهلاله وحجه تقدم.
__________
(1) في (ق):" أعطيته ".
(2) في (ط):" ترجعون ".
(3) في (ق):" إلى ".
(4) قوله:" الحرام " ليس في (أ).
(5) في (ق):" الماء ".
(6) في (ق):" وقال ".
(7) في (أ):" فذهبت ".
(8) قوله:" والله أعلم " ليس في (ق).
(9) في (ق):" ذلك ".
(10) في (ق):" مكان ".(5/142)
وقوله: " فكنت أفتي الناس بذلك "، يعني بالتمتع بالعمرة(1) إلى الحج، كما جاء مفسَّرًا بعد، إذ لم يكن هو ممن أهل بحج. وقول عمر:" إن نأخذ بكتاب الله، فكتاب الله يأمرنا بالتمام، وإن نأخذ بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحل(2) حتى بلغ الهدي محله ": ظاهره إتمام الحج، وإنكار فسخ الحج في العمرة لاحتجاجه بالآية وبفعل النبي - عليه السلام - وهو الأظهر، وقيل: يحتمل احتجاجه بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، على أن منعه(3) للتمتع والقران إنما هو من باب الأولى والأفضل، لا(4) على منعه جملة، وعليه يدل قوله في الحديث الآخر بعده:" قد فعله "، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا(5) معرسين بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم، وهذا مثل استحبابه الإهلال لأهل مكة إذا رأوا هلال ذي الحجة ليبعد ما بين إحرامهم وعمل الحج، ليظهر عليهم الشعث، وقيل: ونهى عمر وعثمان عن المتعة على ما تقدم، إما بفسخ الحج في العمرة [ فيكون نهي لزوم، أو بالتمتع بالعمرة في أشهر الحج ](6) فيكون نهي ندب(7) وحض على الأولى عندهما من الإفراد، وكذلك نهي عثمان(8) عن القران من هذا، وقد يكون ذلك ليفصل الحج من العمرة برحلتين وسفرين كما جاء في حديث عمر: ليكثر قصَّاد البيت، ويتصل(9) عمارته سائر العام، ومخالفة علي له في ذلك ليرى جواز ذلك، ولئلا يظن الظان إذ نهي عنه الخليفة أن غير الإفراد لا يجوز، وقد قيل: إن نهي عمر عن المتعة وضربه عليها: أنه رأى الناس يميلون
__________
(1) قوله:" بالعمرة " ليس في (أ).
(2) في (ق):" لم يخل ".
(3) في (ط):" يصنعه ".
(4) قوله:" لا " ليس في (أ).
(5) في (ق):" بضلوا ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (ق).
(7) في (ق):" نزب ".
(8) في (ط) طمست هذه الكلمة ويبدو أنها :" عمر ".
(9) قوله:" ويتصل " ليس في (ق)، وفي (ط):" وتتصل ".(5/143)
إليها لخفتها ويسارتها، فخشي ضياع الإفراد والقران، وجهل سنتهما.
وقول عثمان: أجل، أي: نعم. وقوله:" ولكنا " كنا خائفين،: يعني - والله أعلم - فسخ الحج. وقول أبي ذر:" لا تصلح المتعتان(1) إلا لنا خاصة؛ متعة النساء، ومتعة الحج "، تقدم أنه أراد فسخ الحج(2) في العمرة، وأن ذلك كان خاصًّا في حجة الوداع للعلة المتقدمة من مخالفة(3) الجاهلية(4).
وقول سعد في المتعة:" فعلناها وهذا - يعني معاوية(5)- كافر يومئذ(6) بالعرش(7)"، قال الإمام: أي: هو(8) مقيم بعرش مكة، وهي بيوتها. قال أبو العباس: يقال(9): أكتفر الرجل: إذا لزم الكفور، وهي القرى، وفي حديث أبي هريرة: " لتخرجنكم الروم منها كَفْرًا كَفْرًا، أي: قرية قرية، وفي حديث عمر:" أهل الكفور هم أهل القبور "، يعني(10) القرى النائية عن الأمصار، ومجتمع أهل العلم.
قال أبو عبيد: وسميت بيوت مكة عرشًا ؛ لأنها عيدان تنصب ويظلل(11) بها، ويقال لها: عُروش، ومن(12) قال: عروش فواحدها عرش، ومن قال: عرش فواحدها عريش، مثل قليب وقلب. وفي حديث عمر: " إذا نظر إلي عروش مكة قطع التلبية "، والعرش(13) في غير هذا عرق في أصل العنق، ومنه قول أبي جهل لابن مسعود يوم بدر:" خذ سيفي فاحتزَّ به رأسِي من عرشِي.
__________
(1) في (ق):" لا تصح المتعات ".
(2) قوله:" الحج " مطموس في (ط).
(3) في (ط):" المقدمة مخالفة ".
(4) في (ق):" في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفة للجاهلية ".
(5) قوله:" معاوية" مطموسة في (ط).
(6) في (ق):" يومئذ كافر ".
(7) في (ط) يشبه أن تكون:" بالعراق ".
(8) قوله:" هو " ليس في (ق).
(9) قوله:" يقال " ليس في (أ).
(10) مطموسة في (ط).
(11) في (ق):" يظل ".
(12) قوله:" ومن " ليس في (ط)، وفي (أ):" فمن ".
(13) مطموسة في (ط).(5/144)
قال القاضي: الأولى(1) أن يحمل الكفر هاهنا علي المعروف، وأن المراد بالمتعة المذكورة الاعتمإر في أشهر الحج، والإشارة بذلك إلى عمرة القضاء لأنها كانت في ذي(1) القعدة، وقد قيل: إن في هذا الوقت كإن إسلام معاوية، والأصح(1) أنه من مسلمة الفتح، وأما غير هذه من عمرة الجعرانة وإن كانت أيضًا في ذي القعدة(2)، فمعاوية قد كان أسلم، ولم يكن مقيمًا بمكة، وكان في عسكر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هوازن في جملة(3) أهل مكة، وكذلك في حجة الوداع لم يكن معاوية ممن تخلف عن الحج مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا تخلف عنه غيره إلا أن يكون أراد فسخ الحج في العمرة(4) الذي(5) صنعها من قدم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمعاوية أيضًا لا يثبت أنه كان مقيمًا بمكة حينئذ، وكيف(6) وقد استكتبه النبي - عليه السلام - وكان معه بالمدينة، فلم يكن حينئذ مقيمًا بمكة، وقاله(7) بعضهم: كافر بالعرش: بفتح العين وسكون الراء، وتأوله عرش الله، وهو(1) تصحيف.
وقول عمران بن حصين:" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعمر طائفة من أهله في العشر، فلم تنزل آية تنسخ(8) ذلك "، معني هذا مبين في الرواية الأخرى:" أنه - عليه السلام - جمع بين حجة وعمرة ثم لم ينه عنه، وفي الرواية الأخرى(9):" تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم(10) ينزل قرآن ينسخه، فهو محتمل لإجازة(11) المتعة(12) في أشهر الحج، أو لإجإزة القرآن.
__________
(1) في (أ):" والأظهر ".
(2) في (ق):" ذي الحجة ".
(3) في (ق):" حملة ".
(4) قوله:" الحج في العمرة " مطموس في (ط).
(5) في (ق):" التي ".
(6) في (ق):" كيف ".
(7) في (ق):" وقال ".
(8) في (ق):" بفسخ ".
(9) في (ق):" وفي رواية أخرى ".
(10) في (ط):" ثم لم ".
(11) في (ق):" للاجازة ".
(12) في (أ):" العمرة ".(5/145)
وقوله:" قال رجل برأيه ما شاء(1)"، يعني عمر، يريد(1) في نهيه عن ذلك وأمره بإلإفراد، ويتأول قوله: " جمع بين حجة وعمرة ": علي ما تقدم من إضإفته إليه وإن كان من فعل غيره، أو علي ما(2) تأولناه من إضافتها إلي الحج للقران.
وقول ابن عمر:" تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج "، قد مر من الحجة علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج مفردًا، ومن جملة من(3) رواه ابن عمر صاحب هذا الحديث، وقد ذكره مسلم بعد هذا، ويتأول في حديث ابن عمر(4) هذا ما مرّ في تأويل حديث غيره علي قران ذلك بعد الإفراد، ومال الحال لا(5) في ابتدائه(6) به.
وقوله:" فأهل بالعمرة ثم بالحج(7)"، يعني - والله أعلم - حين أراد القرآن بعد وصوله مكة، وإضإفته العمرة إلى الحج التي أفردها علي ما تقدم ليتأسي به الناس في الاعتمار في أشهر الحج قال:" لبيك بعمرة وبحجة "، كم جإء في حديث أنس، فبدأ بالعمرة، وهذا هو الاستحباب عند مالك في القرآن تقديم لفظ العمرة، وهذا حجة له وتقدم الكلام علي هذا.
__________
(1) في (ق):" يزيد ".
(2) قوله:" ما " ليس في (ط).
(3) في (ق):" ما ".
(4) قوله:" عمر " مطموس في (ط).
(5) في (ق):" لأنه ".
(6) قوله:" ابتدائه " مطموس في (ق).
(7) مطموسة في (ط).(5/146)
وقوله للمتمتعين:« فمن لم يجد هديًا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع »، نص ما(1) في كتاب(2) الله تعالى فيما(3) يلزم المتمتع، وقد اختلف العلماء في تفسير هذه الجملة، فقال جماعة من السلف: ما استيسر من الهدي شاة، وهو قول مالك، وقال جماعة أخرى منهم: بقرة دون بقرة، وبدنة دون بدنة، وقيل: المراد: بدنة أو بقرة(4) أو شاة، أو شرك في دم، وهذا عند مالك للحر دون العبد، إذ لا يهدي إلا أن يأذن له سيده وله(5) الصوم، وإن كان واجدًا للهدي، ولا يجوز عند مالك وأبي حنيفة نحره قبل(6) يوم النحر، وأجإز ذلك الشافعي(7) بعد إحرامه بالحج.
وأما قوله:« فليصم ثلاثة أيام في الحج »، ذهب مالك والشافعي إلى أن ذلك لا يكون إلا بعد الإحرام، وهو مقتضى الآية والحديث، وقال أبو حنيفة والثوري: يصح له بعد الإحرام بالعمرة، وقبل(8): الإحرام بالحج ولا يصومها بعد أيام الحج، وهذا تناقض(9) بين(10)، والاختيار عندنا تقديمها في أول الإحرام، وآخر وقتها آخر أيام التشريق عندنا وعند الشافعي، فمن فاته صومها(11) في هذه الأيام - وهي أيام الحج - صامها عندنا بعد، وقال أبو حنيفة: آخر وقتها يوم عرفة، فمن لم يصمها إلي يوم عرفة فلا صيام عليه، ووجب عليه الهدي، وقال مثله الثوري إذا ترك صيامها أيام الحج، وللشافعي قول كقول أبي حنيفة.
__________
(1) مطموسة في (ط).
(2) قوله:" ما في كتاب" مطموسة في (ط).
(3) في (ق):" مما ".
(4) في (ق):" بقرة أو بدنة ".
(5) في (ق):" وهو ".
(6) في (ق):" عند ".
(7) مطموسة في (ط).
(8) في (ق):" قيل ".
(9) في (ق):" يناقض ".
(10) قوله:" بين " ليس في (ق).
(11) في (ط):" صومهما ".(5/147)
وقوله:" وسبعة إذا رجع " حمله مالك والشافعي - في أحد قوليهما - أن ظاهر المراد(1) به هنا(2) في الآية: إذا رجع من منى، وأنه يصومها إن شاء بمكة أو بلده، وهو قول أبي حنيفة، ولمالك(3) والشافعي(4) قول آخر: إن ظاهر المراد به: إذا رجعتم إلي بلادكم، وأنه لا يصومها حتي يرجع إلى أهله. وحمل بعضهم القولين أن مالكًا(5) يستحب تأخيرهما حتي يقدم بلده، وأن صومها ببلده أفضل لاحتمال المراد بالآية، وليأتي بالعبادة علي ما يتفق عليه.
وقوله في حديث حفصة حين قالت له: ما شأن الناس، حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ قال:« إني لبدت رأسي، وقلدت هديي » الحديث، تسميتها إيإها عمرة يحتج به من قال(6): إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا بحج وعمرة(7)، وقد(8) قيل: بل ظنت أنه كان ممن فسخ(9) الحج في العمرة، كما أمر به(10) لمن لا هدي معه وهم كانوا الجمهور، وقيل: معناه: ما شأنك لم تحلل من إحرامك كما أحل(11) النإس من إحرامهم الذين أحرموا معك، وجعلوه عمرة، فسمت الجميع بمال(12) حال الأكثر، وقيل: معني "من عمرتك: بعمرتك، أي لم تفسخ بالعمرة كما فسخوا، كما قال الله تعالي:{ يحفظونه من أمر الله }، أي: بأمر الله، وقيل: معني:" من عمرتك ": من حجك ؛ لأن معناهما معا القصد، وقال محمد بن أبي صفرة: مالك يقول في هذا الحديث: من عمرتك، وغيره يقول: ولم تحلل(13) أنت من حجك.
__________
(1) في (ق):" الرجوع ".
(2) في (ط):" هاهنا "، وفي (ق):" هنا به ".
(3) في (ق):" أبو حنيفة ومالك ".
(4) في (ق):" للشافعي ".
(5) في (ق):" مالك ".
(6) قوله:" من قال " ليس في (ق).
(7) في (ق):" بين الحج والعمرة ".
(8) قوله:" قد " ليس في (أ).
(9) في (ق):" قيل أنها ظنت أنه من فسخ ".
(10) في (ق):" لمن لا أمر به ".
(11) في (ق):" حل ".
(12) في (ق):" بما آل ".
(13) في (ط):" يحلل ".(5/148)
وقول ابن عمر:" إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بعمرة، ثم ذكر بعد أنه قال(1):" ما أمرهما إلا واحد أشهدكم أني قد جمعت الحج مع العمرة "، فيه جواز إرداف الحج علي العمرة وهو قول جمهور العلماء، وقد تقدم الكلام فيه، وإنما قال:" أشهدكم "، ولم يكتف بالنية علي ما تقدم ؛ ليعرف من كان معه ويقتدى به ممن أعلمه أنه معتمر، ذلك(2) وانتقال نظره(3)، وأنه بان(4) له أن حكم الحج في الحصر والعمرة سواء(5)، وأنه إذا كان التحلل جائزًا في العمرة وليست محدودة بوقت، ففي الحج(6) أجوز. وفيه قولهم بإلقياس، والنظر في الشريعة. وذكر أنه فعل فعل القارن، واكتفي بطواف واحد وسعي واحد، فقوله: " إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، يعني في المآل والإحلال، وأما قوله أول الحديث: " أصنع كما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أشهدكم أني قد أوجبت عمرة "، فيحتمل أن يريد في المآل إن(7) حيل بينه وبين البيت وصد، كما جاء آخر(8) الحديث، وقيل: إنه في(9) ابتداء الإحرام،: أي: أهل بعمرة، كما كانت حالة النبي - صلى الله عليه وسلم - حين صد في عمرة الحديبية، وقيل: يحتمل أنه أراد الوجهين، من الانتهاء والابتداء، وهو أظهر(10)، لاسيما أنه يشهد له قوله [ في الحديث: ما شأنهما إلا واحد، إن حيل بين وبين العمرة ](11) حيل بيني وبين الحج، وقد تقدم الكلام(12)
__________
(1) في (ق):" فقال ".
(2) قوله:" ذلك " ليس في (أ) في موضعها لحق ولم يظهر شيء في الحاشية.
(3) في (ط):" نظيره ".
(4) في (ق):" إذ بان ".
(5) في (ق):" حكم الحج والعمرة في الحصر سواء ".
(6) في (ق):" فالتحلل في الحج ".
(7) في (ق):" وإن ".
(8) في (ق):" في آخر ".
(9) قوله:" في " ليس في (ق).
(10) في (ق):" الوجهين من الإنشاء وهو الأظهر ".
(11) مابين المعكوفين ليس في (ق).
(12) في (ط):" الخلاف ".(5/149)
علي بعض هذا، ولم يصد ابن عمر في هذه الحجة، ولكنه توقع ذلك ولم يكن منه علي يقين قبل إحرامه، ولو كان(1) علي يقين منه لم يكن حكمه حكم المحصور ؛ لأن من هذه سبيله غرر بإحرامه فلا تثبت(2) له رخصة المحصور، وسيأتي الكلام في المسألة بعد هذا.
وقول نافع عن(3) ابن عمر:" أهللنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج مفردًا "، وفي الرواية الأخرى:"أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل(4) بالحج مفردًا، وفي الأخرى(5): " لبى(6) بالحج وحده(7)" موافق للأحاديث المتقدمة عن جابر، وعائشة، وابن عباس وغيرهم، وبيان للمشكل عنه من غير هذه الرواية، وتقدم(8) التأويل فيما جاء عنه مخالفًا لهذا.
__________
(1) في (ط):" يكون ".
(2) في (ط):" بثت ".
(3) في (ق):" مع ".
(4) في (أ):" أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".
(5) في (ق):" الرواية الأخرى ".
(6) قوله:" لبى " ليس في (أ).
(7) في (ق):" وهذا ".
(8) في (ق):" وقد تقدم ".(5/150)
وقول أنس: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:« لبيك عمرة وحجًّا »، يحتج به من قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا، وإن القران كان أفضل، وإن الجواب عنه والجمع(1) بينه وبين ما تقدم: أن يكون هذا في الحالة الثانية لا في أول إحرامه، علي ما قدمنا الكلام عليه، وحسّنا التأويل فيه بمجموع الأحاديث فأخبر أنس عما سمع آخرًا من حال النبي - صلى الله عليه وسلم -، حُجَّة لجواز القران، ويصح هذا التأويل أنه قد روى أبو أسماء عن أنس: " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصرخ بالحج صراحًا(2)، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة "، فجاء حديثه هذا موافق حديث(3) الجماعة، أو لعله لم يسمع إهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - أولاً بالحج مفردًا، وإنما(4) سمعه عند إضافة العمرة له(5)، وهو أظهر في إنكاره غير(6) هذا، ولعله لم ينكر الإفراد أولاً، وإنما أنكر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضف إليها(7) العمرة، ولا قرنها، وقيل: لعله سمع ذلك من غيره ممن كان بقربه(8)، فجعله(9) من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من(10) أمره واباحته، فإضافه إليه. قال أبو عبد الله بن أبي صفرة: معني قول أنس، أي(11) أهل بحجة(12) فعلا وبعمرة أمرًا، كما قال: رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا معه رجموا هم فعلاً، ورجم - عليه السلام - أمرًا، وقيل: لعله لم يضبط ذلك، وكذلك أنكره عليه ابن عمر وعائشة، وقالا: كان أنس يدخل
__________
(1) في (ق):" يجمع ".
(2) في (أ):" نصرح بالحج صراخًا ".
(3) في (أ):" يوافق حديث "، وفي (ق):" موافق لحديث ".
(4) في (ط):" أولاً وإنما ".
(5) في (ط):" لها ".
(6) في (ق):" غيره ".
(7) في (أ):" إليه ".
(8) في (ك):" يقربه " وبدأ العمل في نسخ (ك).
(9) في (ط) يشبه أن تكون:" فحمله ".
(10) قوله:" من " ليس في (ك).
(11) قوله:" أي " ليس في (أ).
(12) في (ط):" الحجة ".(5/151)
علي النساء حينئذ متكشفات وهو(1) صغير، وكذا قال أنس: ما تعدونا إلا صبيانًا، وكيف وقد لوح البخارى لعلة(2) حديث أنس من رواية أيوب عنه، فقال: وقال بعضهم: أيوب عن رجل عن أنس، وقد جاء الحديث من رواية أبي(3) أسماء عن أنس، وفيه ما تقدم من تصريحه بالحج(4) مفردًا.
وقول ابن عباس:" لا تطف(5) بالبيت(6) حتي تأتي(7) الموقف "، ومخالفة ابن عمر له واحتجاجه بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، هو الذي عليه جماعة فقهاء الأمصار في القادم: أنه لا يقف حتي يطوف ويسعي، وهو طواف الورود، إلا المراهق. وهو سنة عند(8) جميعهم وقد تقدم، وجمهورهم علي أنه ليس علي أهل مكة أو من بها من غيرهم(9) إذا أحرموا هذا الطواف، وقال عطاء: إن أحرم من جاور مكة أول العشر طاف حين يحرم.
وقول السائل لابن عمر:" أنت أحب إلينا منه، رأيناه قد أفتنته الدنيا "، كذا لجميعهم، وعند الهوزني:" فتنته "، وهما لغتان صحيحتان عندهم(10)، وأنكر الأصمعي " أفتنته(11)"، وإنما قال ذلك لأن ابن عباس ولي البصرة ولم يتقلد ابن عمر(12) شيئًا من الأمور جملة، وقول ابن عمر: " وأينا لم تفتنه الدنيا"، قول مثله في فضله وخيره، وتواضعه وإنصافه.
وقوله:" فتصدى لي الرجل "، أي: تعرض.
__________
(1) قوله:" وهو " مكانه بياض في (ط).
(2) في (أ):" بعلة ".
(3) قوله:" أبي " ليس في (ك).
(4) في (ط) و(ك):" الحج ".
(5) في (ك):" لا طفت ".
(6) قوله:" بالبيت " ليس في (أ) و(ك).
(7) في (ط):" يأتي ".
(8) في (ط):" عندهم ".
(9) في (ك):" عدهم ".
(10) قوله:" عندهم " مكررة في (ط).
(11) في (ط):" أفتنت ".
(12) في (ط):" ابن عباس ".(5/152)
وقوله (1): سألنا ابن عمر عمن قدم بعمرة فطاف بالبيت ولم يطف بين الصفا والمروة، أياتي امرأته ؟ فقال له: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطاف بالبيت سبعًا، وصلي خلف المقام ركعتين، وبين الصفا والمروة سبعًا "، وعلي هذا كافة العلماء، وأنه لا يحل المعتمر الطواف دون السعي، إلا ما روي عن ابن عباس، وبه قال إسحاق: من إن الطواف يحل المعتمر وإن لم يسع.
وقول عروة عن عائشة:" أول شيء بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة: أنه توضأ ثم طاف بالبيت "، فيه الحجة أن حكم الطواف حكم الصلاة في الحاجة إلى الطهارة، وأنها شرط في صحته، ولأنه تتصل(2) به ركعتا الطواف، ولا تستباح(3) بإتفإق إلا بطهارة، وعلي هذا الشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وكافة العلمإء، إلا أبا حنيفة وأصحابه وبعض سلف الكوفيين، فيرون أنه واجب فيه وليس بشرط، ويستحبون(4) له إعادته، وأنه(5) إن لم يمكنه أن يعيده(6) بطهارة حتي رجع إلي بلاده أجزأه عن ذلك دم، وقال بعضهم: عليه الدم علي كل حإل، وقالى أبو ثور: يجزئ في الناسي ولا يجزئ في العامد(7)، واختلف العلماء فيمن انتقض وضوؤه أثناء طوافه، فعند علي وعطاء ومالك: يتوضأ ويبتدئ، قال مإلك: ولا يضره ذلك في سعيه، ويتمه(8) بغير طهارة، وقال الشافعي: يتوضأ ويبني، وهو قول النخعي وأحمد وإسحاق، قال الشافعي: فان تطاول استأنف. وحكم التطوع فيه عند مالك حكم الصلاة إن شاء توضأ واستأنف أو ترك. وقوله: " ثم حج أبو بكر - رضي الله عنه - فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم يكن غيره، وذكر مثل ذلك عن عمر وعثمان وسائر من
__________
(1) في (ك):" وقولنا ".
(2) في (أ):" يتصل "، وفي (ك):" متصل".
(3) في (ك):" يستباح ".
(4) في (ط):" ويبيحون ".
(5) قوله:" وأنه " ليس في (ك).
(6) في (ط) تشبه أن تكون:" بأنه يعيده"، وقوله:" أن يعيده" ملحق في حاشية (أ).
(7) في (ك):" العايد ".
(8) في (ط):" وتتمة ".(5/153)
ذكره، وفي كلها يقول: ولم يكن غيره، كذا في كتاب مسلم في جميع النسخ الواصلة إلينا، وهو(1) تغيير وصوابه:" ثم لم تكن(2) عمرة "، وهكذا رواه البخاري، وسقط عند مسلم. وبقوله: " عمرة "، يستقيم الكلام، وليس لقوله:" ثم لم يكن غيره " معني هنا، وقد كان غير ذلك العمل من النبي - عليه السلام - ومنهم من تمام الحج، ويدل علي صحة هذا قوله في الحديث نفسه:" وآخر من فعل ذلك ابن عمر ولم ينقضها بعمرة "، وكان السائل(3) لعروة إنما سأله(4) عن فسخ الحج في العمرة علي مذهب من رأى ذلك، واحتج بأمر النبي - عليه السلام - لهم بذلك للعلة التي تقدمت، فأعلمه عروة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك بنفسه ولا من جاء بعده، وقد تقدم الكلام علي هذا.
وقول عروة في الحديث:" ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام "، أي: مع والدي الزبير(5)، وليس أبي هنا كنية، ولا الزبير مضافًا، بل هو بدل من أبي.
وقوله:" ولا أحد(6) ممن مضي ما كانوا يبدؤون بشيء حين(7) يضعون أقدامهم أول(8) من الطواف بالبيت ثم لا يحلون، فيه الحجة علي أن أفضل عمل الداخل الطواف(9) بالبيت، وأنه لا يبدأ بالركوع، وتحية المسجد قبله، وفيه الحجة بعمل الخلفاء والسلف، وما عليه الكافة من سنة طواف الورود، وترك فسخ الحج في العمرة، وأن ذلك كان خاصًّا كما تقدم. وتكذيب عروة أول الحديث وآخره(10) لمن قال خلاف ذلك، دليل علي استقرار العمل علي تركه.
__________
(1) في (أ):" وفيه ".
(2) في (ك):" يكن ".
(3) قوله:" وكان السائل " ليس في (ك).
(4) في (أ):" وكان يسأل لعروة إنما سأله ".
(5) قوله:" الزبير " ليس في (أ).
(6) في (ك):" أجد ".
(7) في (ك):" حتى ".
(8) في (ك):" أولى ".
(9) قوله:" الداخل الطواف " لم يظهر في (أ).
(10) في (ك):" آخر الحديث وأوله ".(5/154)
وقوله:" ولقد أخبرتني أمي أنها أقبلت هي وأختها - يعني عائشة - والزبير وفلان وفلان بعمرة قط، فلما مسحوا الركن حلوا، وفي(1) حديث أسماء أيضًا بعده:" اعتمرت أنا وأختي عائشة والزبير وفلان وفلان(2)، فلما مسحنا البيت أحللنا، ثم أهللنا بالحج "، ليس هذا اللفظ علي عمومه، والمراد بالمسح بالبيت من عدى عائشة، فقد تقدم من الطرق الصحيحة أنها حاضت فلم(3) تتمسح بالبيت ولم تطف(4)، ولا تحللت(5) بذلك من عمرتها كما تقدم، وإنما قصدت هنا الإخبار عن حجهم مع(6) النبي - عليه السلام - علي الصفة التي ذكرت أول الحديث، كما أن عروة قصد أن(7) طواف الورود، لا يحل الحاج(8)، وأنه يحل المعتمر، وأن أولئك قدموا ومعهم عائشة بعمرة، أي: معتمرون عمرة الفسخ التي أمرهم بها - عليه السلام - أو لما روى من(9) اختلاف الناس، فيكونون ممن أهل بعمرة،[ فلذلك حلوا حين طافوا، ولم يتعرض لخبر عائشة وعذرها وخصوصها من بينهم لذلك(10)](11)، وقيل: لعل أسماء أشارت إلى عمرة عائشة التي فعلت بعد الحج مع أخيها عبد الرحمن، وأما قول من قال: لعلها أرادت في غير حجهم مع النبي، فخطأ ؛ لأن في الحديث النص أن ذلك كان في حجهم مع النبي - - عليه السلام -.
قال الإمام: ومعني " مسحوا(12)": طافوا ؛ لأن الطائف يمسح الركن، فعبر عن الطواف ببعض ما يفعل فيه، ومنه قول ابن أبي ربيعة:
ولما قضينا من مني كل حاجةٍ ومسح بالأركان منهن ماسح
__________
(1) قوله:" في " ليس في (أ) و(ك).
(2) في (ك):" وقال ".
(3) في (أ):" ولم ".
(4) في (ط):" لم يتمسح بالبيت ولم يطف ".
(5) في (أ):" حللت ".
(6) في (أ):" مع أن ".
(7) في (أ) و(ط):" إلى أن ".
(8) في (أ):" الحاج ".
(9) في (أ):" عن ".
(10) في (ط):" بذلك".
(11) مابين المعكوفين في (ط) سيأتي بعد قوله:" حجهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
(12) في (ط):" تمسحوا ".(5/155)
فكني بالمسح عن الطواف، ويحتمل أن يكون "مسحوا بالركن"، أي: طافوا وسعوا، وحذف ذكر السعي اختصارًا لما كان مرتبطًا بالطواف، ولا يصح دونه، ويؤيد هذا التأويل: أنها قالت فيما ذكره عنها بعد: " ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بالبيت [ ولا بين الصفا](1) والمروة(2)"، إلا أن يتأول عليها أنها إنما أرادت بالإتمام الكمال لا الصحة، ويحتمل أن يكون ذلك علي رأى من رأى أن السعي غير واجب، وفيه اختلاف بين الناس(3)، وقد رأيت بعض أهل العلم أشار إلى أن من الناس من ذهب إلى أن المعتمر إذا دخل الحرم حل، وإن لم يطف ويسع، وله أن يلبس ويتطيب، ويفعل ما يفعل الحلال، ويكون طوافه وسعيه كأنه عمل خارج عن الإحرام، كما يكون رمي(4) الجمار، والمبيت بمني عملاً(5) خارجًا عن الإحرام.
قال القاضي: لا حجة في هذا لمن لم(6) يوجب السعي ؛ لأن هذا الحديث إنما هو عما فعلوا مع النبي - عليه السلام - في حجة الوداع، والذي جاء فيه مفسرًا: أنهم طافوا معه وسعوا، فيحمل ما أجمل وأشكل على ما فسر وبيّن.
وقولها:" ونحن خفاف الحقائب "، جمع حقيبة، وهو كل ما حمل في مؤخر الرحل أو(7) القتب، ومنه احتقب فلان كذا. والحجون: بفتح الحاء وضم الجيم مخفف، هو الجبل المشرف عند المحصب.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط) و(ك).
(2) في (ط):" وبالمروة ".
(3) في (ك):" العلماء ".
(4) في (ك):" زمن ".
(5) في (ط) يشبه أن تكون:" عتلاً ".
(6) قوله:" لم " ليس في (ك).
(7) في (أ) و(ك):" والقتب ".(5/156)
وقوله:" كانوا يرون أن(1) العمرة في أشهر الحج من(2) أفجر الفجور "، يعني الجاهلية، ويجعلون المحرم صفرًا "، يعني النسيء، كانوا يسمون المحرم صفرًا(3) ويحلونه وينسئون(4) المحرم، أي: يؤخرونه بعد صفر لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر حرم يضيق بها الأمور عليهم، فرد الله تعالى ذلك عليهم.
وقال تعالى:{ إنما النسيء زيادة في الكفر } الآية.
وقوله:" ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر(5)، حلت العمرة لمن اعتمر "، قال الإمام:" برأ الدبر ": يريدون دبر ظهور(6) الإبل عند انصرافها من الحج، كانت تدبر بالسير عليها إلى الحج،" وعفا الأثر ": معناه امحي(7) ودرس، ويكون عفا أيضًا بمعني كثر، وهو من الأضداد أيضًا قال الله تعالى:{ حتى عفوا }، أي: كثروا، ويروى:" عفا الوبر ".
قال القاضي: قال الخطابي:"عفا الأثر"، أي: أثر الدبر، وقال في " عفا الوبر "، أي: طر وكثر، وعلى الوجه الأول: ذهب أثر الحجاج والمعتمرين من الطرق(8) ودرس.
وقول ابن عباس: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يلبون بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة دليل أن حجهم كان إفرادًا.
__________
(1) قوله:" أن " ليس في (أ) وموضعها لحق ولم يظهر شيء في الهامش.
(2) قوله:" من " ليس في (ك).
(3) في (ك):" وصفرًا ".
(4) في (ط):" ويجعلونه ويسمون ".
(5) في (ط):" الصفر ".
(6) في (ط):" فظهر ".
(7) في (ك):" مُحي ".
(8) في (ط):" الطريق ".(5/157)
وقوله: " بذي طوى ": بفتح الطاء مقصور، هو هذا(1) الوادي الذي بمكة، قاله الأصمعي، قال: والذي بطريق الطائف ممدود، وقد وقع في كتاب البخاري لبعض الرواة بالمد، وكذا ذكره ثابت، وضبطه الأصيلي مرة بكسر الطاء، وضبطه غيره بالضم، وحكي بعض أهل اللغة: ذو طوى بضم الطاء مقصور بمكة، وذو طؤًا ممدود بالهمز(2) حكاه ابن بطال. ومر الكلام علي قوله: " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ".
وقوله:" صلى رسول الله(3) - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن "، قال الإمام: الإشعار: الإعلام، وإشعار الهدي: هو أن يجعل علي البدنة علامة يعلم بها أنها من الهدي، والعرب تقول: بيننا شعار، أي: علامة وما شعرت بكذا، أي: علمت به، وشعائر الحج: علاماته وآثاره ومشاعره: معالمه، سمي المشعر الحرام مشعرًا لأنه من علامات الحج. وصفحة السنام: ناحيته، وذهب بعض الناس إلى أن الإشعار يكون في الجانب الأيمن، أخذًا بهذا الحديث، والمشهور من مذهب مالك أن الإشعار في الجانب الأيسر.
__________
(1) في (أ):" هذا هو ".
(2) في (ك):" وذو طؤًا مفتوح ممدود بالهمز "، وف ي(ط):"وذو طؤًا مفتوح مهموز بالهمز".
(3) قوله:" رسول الله " ليس في (أ).(5/158)
قال القاضي: فيه أن من ساق معه هديًا ونيته الإحرام بالحج أو العمرة فالمستحب له أن يشعره ويقلده من ميقاته، بخلاف من بعث(1) بهديه وأقام، فهذا يشعره ويقلده من حيث بعثه، ولا خلاف بين العلماء في جواز تقليد الهدي بعلامة له يعرف(2) بذلك، وهو أن يعلق من(3) عنقها نعل(4) أو شيء. والشافعي والثوري يقلدها نعلين، وكذلك فعل ابن عمر، ومالك يجيز الواحد، وأجاز الثوري فم القربة وشبهها، والنعلان عنده أفضل، قال بعضهم: خصت النعلان بذاك لدلالة السفر بها إلى محلها، وجمهورهم أيضًا علي ذلك في الإشعار والتقليد، وأنهما سنتان، إلا أبا حنيفة فرأى الإشعار مثلة، وقال: إنما كان هذا قبل النهي عن المثلة، وخالفه كبار أصحابه في ذلك، وقالوا بقول الكافة، ولأنه لفائدة لمعني صحيح كالفصد والحجامة، والختان، وكما يجوز الكي والوسم لمعرفة المالك فيها، وكذلك(5) الإشعار لمعرفة كونها هديا، وكله إيلام، ولا حجة له في تأويله، فقد أشعر النبي - عليه السلام - آخر أمره، والمسلمون بعده، والخلفإء وجمهور العلماء وأئمة الفتوى علي إشعإرها في الجانب الأيمن، والغنم تقلد ولا تشعر لأنه ليست لها أسنمة عند مالك وأصحاب الرأي، وهي(6) تقلد عند جمهورهم للحديث الثابت في ذلك، قاله بعض أصحابنا، ولم يره مالك، لعله لم يبلغه الحديث، ولم(7) يجر عليه العمل.
__________
(1) في (ط):" ذهب ".
(2) في (ك):" تعرف ".
(3) في (ك):" بين ".
(4) في (ك):" نعلاً ".
(5) في (ك):" فلذلك"، وفي (ط):" وكذا ".
(6) في (ك):" وهل ".
(7) في (ط):" أو لم ".(5/159)
والإشعار هو(1): أن يشق في سنامها شقًا يسيل دمها، والبقر تقلد ويشعر منها ما كان له سنام ليعرف أنها هدي، فلا تستطيل(2) يد عليها، ولا تؤكل(3) إن ضلت، ويطلب بها صاحبها، فإن لم(4) يوجد(5) نحرت عنه.
[ واختلف أصحابنا في إشعار ما لا سنام له من الإبل والبقر ](6).
__________
(1) في (ط):" وهو ".
(2) في (ط):" يستطيل ".
(3) في (ط) و(ك):" يؤكل ".
(4) في (ك):" وإن لم ".
(5) في (أ):" توجد ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (ط).(5/160)
وقول الرجل لابن عباس:" ما هذه الفتيا التي قد تشغفت(1) بالناس - أو تشغبت - أن من طاف بالبيت فقد حل ؟ فقال: سنة نبيكم وإن رغمتم "، قال القاضي: كذا روايتنا فيه هنا في الحرف الأول:" تشغفت " بالشين والغين المعجمتين، وبعدهما الفاء أخت القاف. وكذا ذكر الحرف ابن أبي شيبة، ووقع في مسند أبي داود(2):" ثفشغت " بتقديم الفاء علي الشين والغين، وكذا أيضًا وقع في كتاب ابن أبي شيبة من رواية هشام عن قتادة، وقد ذكر مسلم في الحديث بعده أن هذا الأمر:" قد تفشع ". ومعني الكلمة علي هذه الرواية: فشت وانتشرت،[ يقال: تفشع له الولد: إذا كبر وانتشر](3)، وقد يكون معنى ذلك كسلت الناس عن المتعة. قال الفراء: التفشع والفشاع(4): الكسل، وقد يكون معناها: أفسدت حال الناس بوقوع الخلاف بينهم، من الفشاع،[ وهو نبات يلتوي علي الثمار، وأما الرواية الأولى فإن لم تكن وهما وقلبًا(5)](6) فمعناه(7): علقت بقلوب الناس وشغفوا بها(8)، وقد قال المفسرون في قوله تعالى:{ قد شغفها حبًّا }، أي: علقها، وأما الحرف الثاني في قوله:" أو تشعبت " بالعين المهملة، بعدها الباء بواحدة، فكذا(9) رويناه عن الأسدي والتميمي من شيوخنا، وعند غيرهما:" أو تشغبت(10)" بإلغين المعجمة، وقد ذكر أبو عبيد هذا الحديث بهذا الحرف من غير شك، وذكر الخلاف لهذين الوجهين من العين والغين عن رواته(11)، واختار هو العين(12) المهملة، ومعني هذا علي رواية العين المهملة: فرقت الناس أو فرقت مذاهب الناس، وبالمعجمة من التشغيب(13)، أي: خلطت
__________
(1) في (ط):" شغفت ".
(2) في (ك):" ابن داود ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ك).
(4) في (أ):" الفشاغ ".
(5) في (ط):" وقلنا ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (ك).
(7) في (ك):" بمعناه ".
(8) في (ط):" به ".
(9) في (ك):" هكذا ".
(10) في (ط):" شعبت ".
(11) في (ك):" رواية ".
(12) في (ط):" الغين ".
(13) في (ك):" الشعيب ".(5/161)
عليهم أمرهم، وقد تقدم شذوذ ابن عباس في هذه المسألة، ومخالفة الجمهور له.
قال الإمام: قال بعض شيوخنا: لعله يريد فيمن فاته الحج: أنه يحل بالطواف والسعي وهذا التأويل فيه بعد ؛ لأنه قد قال بعد ذلك: وكان ابن عباس يقول: " لا يطف بالبيت حإج ولا غير حاج إلا حل، فقيل له: من أين تقول ذلك ؟ فقال: من قوله تعالى:{ ثم محلها إلى البيت العتيق }، قال: وكان يأخذ ذلك من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أمرهم أن يحلوا في حجة الوداع.
وقول معاوية:" قصرت من رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند المروة بمشقص ": يحتج به من قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في حجة الوداع متمتعًا، ويحتمل عندنا أن يكون ذلك في غير حجة الوداع، وإنما كان في بعض عمره - عليه السلام -. قال القاضي: لا يصح هذا من العمرة إلا أن يكون في عمرة الجعرانة ؛ لأن الصحيح أن معاوية: إنما أسلم يوم الفتح مع أبيه، أو(1) على الرواية الأخرى له: ورأيته يقصر عنه فيصح(2) فيما(3) تقدم من عمرة قبل، ولا يصح أن يكون في حجة الوداع ؛ لأنه نص أنه حلق، ولم يختلف في هذا.
وقول ابن عباس له: " لا أعلم هذا، إلا(4) حجة عليه ": يدل أنه إنما احتج عليه بالتحلل بالطواف من الحج ؛ إذ لا يختلف أحد بالتحلل به من العمرة، والصحيح ما تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحلل(5)، ولم يأت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حل بوجه إلا من تأويل(6) ابن عباس، وقد تكلمنا على تأويل قول من قال: إنه كان متمتعًا بما لا يخالف هذا، ولا(7) يوجب تحلله بحول الله.
__________
(1) قوله:" أو " ليس في (ط).
(2) قوله:" فيصح " ليس في (أ).
(3) في (ط):" مما ".
(4) في (ط) و(ك):" لا ".
(5) في (ك):" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحلل ".
(6) في (أ):" اتأويل ".
(7) في (ط):" أولا ".(5/162)
وقوله:" بمشقص وهو على المروة "، قال الإمام: قال: أبو عبيد وغيره: نصل السهم إذا كان طويلاً ليس بعريض فهو مشقص، وجمعه: مشاقص، فإذا كان عريضًا فهو معبلة، وجمعه معابل.
قال القاضي: قال أبو حنيفة: المشقص: كل نصل فيه عير، وهو الناتئ وسط الحربة، وقال الخليل: المشقص: سهم فيه نصل عريض يرمى(1) به الوحش، وقال الداودي: هو(2) السكين ولا يصح قوله، وإنما أخذه على المعنى.
وقوله:" نصرخ(3) بالحج صُراخًا "، فيه حجة لرفع الصوت بالإهلال(4)، وأنه مشروع من غير إسراف وليس بواجب، خلافًا لأهل الظاهر في وجوبه عندهم، كذلك في مسجد منى والمسجد الحرام يرفع بها(5) الصوت.
واختلف في غيرهما(6) من المساجد، فعن مالك في ذلك روايتان:
أحدهما: الرفع كسائر المواضع، والأخرى: لا(7) يرفع ويسمع نفسه ومن يليه لئلا يشهر نفسه بين أهل المسجد بأنه حاج ويخاف فتنته، وهذا مأمون في المسجدين ؛ لأن جميع من فيهما(8) بتلك الصفة، ولا ترفع المرأة بالتلبية صوتها لأن صوتها عورة.
قال الإمام: خرَّج مسلم بعد هذا: نا محمد بن حاتم، نا ابن مهدى، نا سليم بن حيان، عن مروان، عن أنس: أن عليًّا لما قدم من اليمن.. الحديث. وقع عند ابن ماهان في إسناده سليمان بن حيان بضم السين وزيادة نون، وهو وهم، وصوابه: سليم، كما رواه أبو أحمد.
__________
(1) في (أ):" ترمى ".
(2) في (ط):" هي ".
(3) في (ط):" يصرخ ".
(4) في (أ):" بإهلال ".
(5) في (ك):" فيما ".
(6) في (ط):" غيرها ".
(7) في (ك):" أن لا ".
(8) في (ط):" فيه ".(5/163)
قال القاضي: وكذا جاء في الحديث الآخر بعده من رواية حجاج بن الشاعر بغير خلاف، وهو سليم بن حيان بن بسطام الهذلي، بفتح السين وكسر اللام، بصري روى عن أبيه، وقتادة، وسعيد بن ميناء، ومروان الأصفر، وعمرو بن دينار وغيرهم، يروي عنه ابن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، ومحمد بن سنان العوفي، وعبد الصمد بن عبد الوارث، ويزيد بن هرون، وبهز وغيرهم، وخرج عنه البخاري ومسلم. وقول جابر في المتعتين: فعلناهما مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد(1) لهما، يدل أنه أراد متعة النساء، ومتعة فسخ الحج في العمرة، بدليل أن المتعة بالعمرة إلى الحج قد عمل بها الصحابة كثيرًا.
__________
(1) في (ط) و(ك):" يعد ".(5/164)
قوله (1): " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربع عمر، وذكر أن جميعها في أشهر الحج، إلا ما جاء من رواية ابن عمر: أن واحدة منها(2) في رجب، وأنكرت ذلك عليه عائشة، فسكت ولم يراجعها، وذلك دليل على إثبات قول عائشة وصحة روايتها ؛ إذ لو كان ابن عمر على بصيرة مما قال لراجعها في ذلك، وبين ما قاله. وقصده - عليه السلام - بذلك في أشهر الحج - والله أعلم - لفضلها أولاً، ولمخالفة الجاهلية في ذلك، وأنها كانت تستعظم ذلك، فقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك(3) تمرينا لقلوب المؤمنين على العمل به ؛ لكن يبقى الإشكال في الرابعة متى كانت ؛ لأن الأولى: عمرة الحديبية في ذي القعدة، والثانية: عمرة القضاء في ذي القعدة، والثالثة: عمرة الجعرانة في ذي القعدة، والرابعة: ذكر أنس أنها التي مع حجته، وهذا على تأويل أنس أنه كان قارنًا، وقد ذكرناه ورد الصحابة ذلك عليه وأن الصحيح أنه كان مفردًا، وقد ردت عائشة على ابن عمر أنه اعتمر في رجب، فجاء أن الصحيح من هذا ثلاث عمر، وقصد النبي - عليه السلام - - والله أعلم - خصوص عمرته بذي القعدة في أشهر(4) الحج مخالفة للجاهلية على ما تقدم. ولا يعلم للنبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمار(5) إلا ما ذكرناه مما اتفق عليه، واختلف فيه، وقال الداودي: وقد قيل: إن عمرتيه كانتا في شوال، وعمرة في ذي القعدة، وعلى أنها ثلاث عمر اعتمد مالك رحمه الله في "موطئه"، وأدخل الآثار بذلك، وأن إحداها في شوال، وجاء من رواية أبي الحسن الدارقطني أنه - عليه السلام - خرج معتمرا في رمضان، فلعلها التي عملها في شوال، وكان ابتداء خروجه لها في رمضان والله أعلم.
__________
(1) في (أ):" وقوله ".
(2) في (أ) و(ك):" منهما ".
(3) قوله:" ذلك " ليس في (أ).
(4) في (ط) و(ك):" وأشهر ".
(5) في (ك):" اعتمارا ".(5/165)
وقوله:" أنه - عليه السلام - حج واحدة بعد ما هاجر؛ حجة الوداع وبمكة أخرى، جاء فى غيره أنه حج بمكة حجتين.
وقول عائشة:" لعمري "،: دليل على جواز قول الرجل له، وإن كان كرهه مالك ؛ لأنه من باب تعظيم غير الله، والمضاهاة له بالحلف بغيره، وقول ابن مسعود إذ رأى ناسًا يصلون الضحى في المسجد: " بدعة "، يعني إظهار صلاتها في المسجد والاجتماع لها، لا أن صلاة الضحى بدعة، وقد تقدم الكلام على هذا وغيره، والخلاف فيها في الصلاة(1).
وقوله:« فإن عمرة في رمضان تقضي(2) حجة - أو حجة معي »، وفي الرواية الأخرى:"تعدل حجة "، ومعنى " تقضي ": تجزئ(3) من أجرها(4) وكذا جاء في بعض الروايات:"تجزئ "، وهو بمعنى تعدل، ومعنى ذلك في الأجر والثواب، لا في الإجزاء عن الفريضة بغير خلاف. وقوله:" لنا ناضحان "، أي: بعيران.
وقولها:" حج(5) هو وابنه على أحدهما، وكان الآخر يستقي عليه غلامنا "،[ كذا للشنتجالي عن السجزي، وسقط عليه للعذري، والفارسي، وعند ابن ماهان: نسقي عليه غلامنا ](6)، وأرى هذا كله تغييرًا، وأن صوابه: " نسقي(7) عليه نخلاً لنا "، فتصحف(8) منه "غلامنا "، وكذا جاء في البخاري، ويدل على صحته قوله في الحديث قبله:" ننضح(9) عليه "، وهو(10) بمعنى: نسقي(11) عليه وإنما يسمى من الإبل النواضح التي يستقي(12) عليها الماء ؛ لأنها تنضحه، أي: تصبه.
__________
(1) في (ط):" فيها للصلاة ".
(2) في (ط) و(ك):" يقضى ".
(3) في (ط):" يجزئ "، وفي (ك):" يجري ".
(4) في (ك):" أحذها ".
(5) قوله:" حج " ليس في (أ).
(6) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(7) في (ك):" يسقي ".
(8) في (ك) تشبه أن تكون:" فيصحب ".
(9) في (ط) و(ك):" ينضخ ".
(10) في (ط):" هو ".
(11) في (ك):" يستقي ".
(12) في (ط):" يسقى ".(5/166)
وقوله: " كان النبي - عليه السلام - يخرج - يعني من المدينة - من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المعرس، وإذا دخل مكة دخل من الثنية العليا، ويخرج من الثنية السفلى "، قيل فعله ذلك لأنه كان أسمح لخروجه، كذا جاء في الحديث، أي: أسهل، ولأنه كان آخر أمره وداع البيت، فيأتى في رجوعه بعد إلى أعلى مكة تكلف، وأن خروجه من هنالك(1) لأسفلها أيسر وأسهل، وقيل: تأول فيه ما يتأول في مخالفته(2) الطريق في العيد ؛ ليتبرك به كل من في طريقه، ويدعو له ويجيبهم عما سألوه(3) عنه، ولا يخص قومًا دون قوم، وليعمهم بدعائه، وقيل: ليغيظ المنافقين ومن في قلبه مرض بإظهار أمر الإسلام وظهوره، وقيل: لتكثر(4) خطاه وليكثر نوافله، وقيل غير هذا. والمعرس على ستة أميال من المدينة.
وقوله:" الثنية العليا التي في البطحاء " تفسير ذلك. وقوله في الحديث الآخر:" دخل من كداء(5) من أعلى مكة "، ممدود عندهم مفتوح الكاف، وعند السمرقندي مقصور، وقول هشام بن عروة: وكان أبي أكثر ما يدخل من كدى(6)": بضم الكاف مقصور(7) هنا، وقيل: صوابه شدّ الياء آخره، وكذلك(8) اختلف في الأعلى والأسفل في كتاب البخاري أيهما المقصور، وأيهما الممدود، وقال أبو علي القالي:" كدا(1)" ممدود غير مصروف جبل بمكة، قال الشاعر:
أفقَرْت من عبدشمسٍ كداء فكدى فالركن فالبطحاء
وأما الكدى فجمع كدية، وهو الغليظ من الأرض، وقال غيره: "كدى": جبل قريب من كدا(9).
__________
(1) في (ط):" هناك ".
(2) في (أ):" مخالفة ".
(3) في (أ):" يسألوه ".
(4) في (أ) و(ك):" ليكثر ".
(5) في جميع النسخ:" كذا "، والمثبت هو الصواب.
(6) في (ك):" كذا ".
(7) في (ك):" مقصور بضم الكاف ".
(8) في (أ):" وكذا ".
(9) في (أ):" كذا ".(5/167)
وقال ابن الأعرابي:" كدا "، بالمد عرفة(1) نفسها، وقال الخليل: كدا(2) ممدود، و"كدى(3)" بالضم وشد الياء: جبلان، الأعلى منهما هو الممدود، وقال غيره:" كدى" مضموم مقصور(4) باسفل مكة، والمشدد(5) لمن خرج إلى اليمن، وليس من طريق النبي - عليه السلام - في شيء.
وذكر المبيت بذي طوى ودخول مكة نهارأ، وليس هذا من مناسك الحج، ولكنه يستحب أن يفعل في ذلك ما فعله النبي - عليه السلام - تيمنا بفعله، واقتداء باختياره أن يفعل(6). قال أبو القاسم بن أبي صفرة: ودخول النبي - عليه السلام - مرة من أعلى مكة ومرة من أسفلها فإنما فعله ليرى الناس السعة في ذلك، ففعل ما تيسر وتمكن منه، وفعل عروة ما قال عنه ما جاء(7) في الحديث، وكانت أقربهما إلى منزله.
وذكر اغتساله لدخول مكة، وهو عندنا من سنن الاغتسال المرغب فيها، لكن ليس فيه تدلك، وإنما هو صب ماء. واغسال(8) الحج نوعان: سنن مؤكدة: وهو للإحرام، ولدخول مكة، ومستحب مرغب فيه: وهو للوقوف بعرفة وبالمزدلفة وللطواف.
__________
(1) في (ط):" عرف ".
(2) في (ط):" كذا ".
(3) في (ط):" كذى ".
(4) في (أ):" مقصور مضموم ".
(5) في (ط):" المسدد "، وفي (أ) تشبه أن تكون:" المسداد ".
(6) في (أ):" يفعل في ذلك " وكأنها مضروب عليها، وقوله:" أن يفعل " ليس في (ط).
(7) قوله:" جاء " ليس في (ط).
(8) في (ط) و(ك):" واغتسال ".(5/168)
وقوله:" رمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أطواف "، قال الإمام: الرمل عندنا مشروع خلافًا لمن لا يراه، واختلف عندنا في وجوب الدم على من تركه، واختلف في إعادة الطواف لمن تركه إذا كان بالقرب. فقال بعض الشيوخ: هذا الخلاف ينبني(1) على الخلاف في جواز رفضه(2)، وفي الكتاب قيل لابن عباس في الرمل: هو سنة، وإن قومًا يزعمون أنه سنة، فقال:" كذبوا وصدقوا(3)"، يعني صدقوا في أنه مشروع، وكذبوا في أنه سنة.
قال القاضي: الرمل شدة الحركة في المشي، ومنه الرمل لقصير(4) الأعاريض الخفيفة: وهو الخبب أيضًا، وقد ذكره كذلك في الحديث. قال الجوهرى: هو كالوثب الخفيف، وقد بين في الحديث علة الرمل، وعلى(5) أنه سنة الفقهاء أجمع. وروى الخلاف في ذلك عن بعض الصحابة، وأن المشي أفضل.
وقوله:" رمل من الحجر إلى الحجر "، هذا سنة الرمل عند العلماء، أن يكون في جميع الثلاثة أشواط، وهو نص في هذا الحديث، وجاء في الحديث الآخر في قصة عمرة الحديبية وفيه: وأمرهم أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين، قيل(6): لأنهم كانوا حينئذ لا تقع(7) عليهم أعين المشركين، وهذا لا تعارض(8) فيه لأنها في قضيتين(9)؛ الأولى في الحديبية، وهذه التي فيها الرمل من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع، رفق بهم(10) أولاً لما كان بهم من المرض، وأمرهم بالتجلد في الثلاث جهات التي كانت تقع عليها(11) فيها أعين المشركين حين جلسوا لهم على فقيقعان، وأكمل الرمل في الأدوار الثلاثة من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع حين قدروا على ذلك، وهو آخر فعليه.
__________
(1) في (ك):" مبني ".
(2) في (ك):" فضه ".
(3) قوله:" وصدقوا " ليس في (ط).
(4) في (ك):" بقصير ".
(5) في (ك):" وعليه ".
(6) في (ك):" قال ".
(7) في (ط) و(ك):" يقع ".
(8) في (ط):" يعارض ".
(9) في (ط) و(ك):" قصتين ".
(10) قوله:" بهم " ليس في (ك).
(11) في (ك):" عليهم ".(5/169)
وقوله:" إن ذلك كان إذا طاف الطواف الأول "، هذا بيان في هذه السنة، وأن ذلك إنما هو في طواف الورود، وليس في غيره من طواف الحج رمل، ويلزم في طواف العمرة ؛ لأنه مقام طواف القدوم وغيره. ولا رمل على النساء في طواف ولا سعي.
ويلزم أهل مكة وغيرهم إلا شيء روي عن ابن عمر في سقوطه عن(1) المكيين، وكذلك ذكر في الحديث علة الركوب بين الصفا والمروة، وأنه ليس سنة(2)، وإنما ذلك لأن الناس كثروا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فركب لئلا يؤذيه زحامهم، وكانوا كما قال: لا يدفعون عنه، وأيضا فانه كان - عليه السلام - يعلمهم، وقال: «خذوا عني مناسككم »، فركب ليروا كلهم أفعاله(3).[ وقيل: كان من شكاية، وسيأتي هذا بعد ](4).
وقوله:" كانوا لا يُدعُّون عنه ولا يكهرون(5)"، كذا عند العذري وابن ماهان، وعند الفارسي:" يكرهون "، والأول أصوب.
قال الإمام:" لا يدعون "، أي: لا(6) يدفعون، من قول الله تعالى: {يوم يدعّون إلى نار جهنم دعّا }.
وقوله: " يكهرون(7)": قد(8) تقدم في كتاب الصلاة قول أبي عبيد: الكهر: الانتهار(9).
وقوله:" وهنتهم الحمّى "، أي: أضعفتهم وأرقتهم. قال الفراء: يقال: وهنه الله وأوهنه.
قال القاضي:" وجلدهم "، أي: قوتهم.
وقوله: " ثلاثة أشواط ": كذا جاء هنا، وقد تقدم قول من كره أن يقال: أشواط أو أدوار إلا أطوافًا، كما جاء في أكثر الأحاديث، وهذا من(10) قول ابن عباس يدل على جوازه، ولعله إنما كره إيثارًا، ليقال ما سماه الله به من قوله:{ وليطّوفوا بالبيت العتيق }.
__________
(1) في (ط):" على ".
(2) في (ط):" بسنة ".
(3) في (ط):" أفعال ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ك).
(5) في (ك):" يباهون ".
(6) قوله:" لا " ليس في (ط).
(7) في (ك):" باهون ".
(8) في (ط):" وقد ".
(9) في (ك):" الابتهار ".
(10) قوله:" من " ليس في (ك).(5/170)
وقوله:" لم أر رسول الله يمسح إلا(1) الركنين اليمانيين "، وفي الآخر: " إلا الحجر والركن(2) اليماني "، وفي الآخر: " الركن الأسود والذي يليه ": كله(3) متفق ؛ لأن اليمانيين على أس البيت وركنان له، والآخرين(4) بعض الحائط وليسا بركنين صحيحين ؛ لأن الحجر وراهما، وجمهور العلماء على استلام(5) الركنين اليمانيين دونهما، وروى عن بعض السلف استلام الجميع، وما حكى عن ابن الزبيرمن استلامه(6) الأربع، قال القابسي: لأنه كان بني البيت على قواعده الأربع، فكانت أركانًا كلها.
__________
(1) قوله:" إلا " ليس في (أ).
(2) في (ك):" إلا الحجر بالركن ".
(3) في (ك):" كل ".
(4) في (ط):" الآخر بمنى ".
(5) في (ك):" استسلام ".
(6) في (أ) و(ك):" لاستلامه ".(5/171)
قال القاضي: ولو بني الآن على ما بناه ابن الزبير لاستلمت(1) كلها، كما فعل ابن الزبير. وقوله:" ورأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم قبل يده"، وذكره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تقبيل(2) الحجر الأسود في الطواف: من سنن الحج لمن قدر عليه، فإن لم يقدر وضع عليه يده ثم رفعها إلى فيه، فإن لم يقدر قام بحذائه وكبر، فإن لم يفعل فلا شيء عليه عند جميعهم. وجمهورهم على أنه يقبل يده، إلا مالكًا - في أحد قوليه - والقاسم بن محمد فلم يريا تقبيل اليد، ولا يسجد عليه عند مالك وحده، وقال: هو بدعة، وجمهورهم على جواز فعل ذلك، ولا يقبل الركن اليماني عند مالك ولكن يستلم باليد(3)، واختلف عنه في تقبيل اليد فيه، ولا يلزم ذلك عند جميعهم للنساء. واستحب بعض السلف(4) أن يكون(5) لمس الركنين في وتر الطواف لا في شفعه، وقال به(6) الشافعي. وهذا كله في أول شوط(7)، ولا يلزمه(8) في بقيتها إلا أن يشاء.
__________
(1) في (ك):" لاستملت ".
(2) في (ط):" يقبل ".
(3) قوله:" باليد " ليس في (ط).
(4) في (ط):" أهل السلف ".
(5) في (ط):" تكون ".
(6) قوله:" به " ليس في (ط).
(7) في (ط):" شرط ".
(8) في (ك):" ولا يلزم ".(5/172)
وقول عمر حين قبل الحجر:" لقد علمت أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك ": فيه الاقتداء وترك الاعتراض على السنن بالعقول، وأن تقبيله الحجر(1) ليس عبادة له بل لله تعالى ؛ بامتثال أمره فيه، كأمره بسجود الملائكة لآدم، وشرع مع ذلك التكبير للناس إظهارًا أن ذلك الفعل تذللاً(2) له لا لغيره، وأن التحسين والتقبيح إنما هو من قبل الشرع لا من قبل العقل، وأن كل ما جاء به الشرع فهو الحسن المحمود، وسر ذلك محض العبودية، وأن العبادات على ضربين: منها ما فهم معناها(3) وعلتها ومصلحتها، ومنها ما وضع لمجرد التعبد وامتثال الأمر وإطراح استعمال العقل وأكثر أمر الحج من هذا الباب ؛ ولهذا جاء في بعض التلبية: "لبيك بحجة(4) تعبدًا ورقًا ". ومعنى " لا تضر ولا تنفع(5)": أي بذاتك وقدرتك، وإن كان امتثال ما شرع فيه ينفع في الجزاء عليه والثواب.
قال الإمام: وقوله فيه:" رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بك حفيا "، أي معتنيًا، وجمعه أحفياء(6).
قال القاضي: وقوله: " رأيت الأصلع(7)". يعني: عمر يقبل الحجر، فيه جواز ذكر الرجل بما فيه مما لا يكرهه، إذا لم يقصد به النقص(8) والغض منه.
وقوله:" طاف - عليه السلام - بالبيت على راحلته "، قال الإمام: تعلق(9) بهذا من أجاز الطواف راكبًا لغير عذر، ومذهب مالك أن الطواف لا يركب فيه إلا لعذر، وقد ذكر في هذا الحديث أنه فعل ذلك ليراه الناس ويسألوه(10)، وهذا رآه - عليه السلام - عذرًا، فلا يكون فيه حجة للمخالف.
__________
(1) في (ط):" للحجر ".
(2) في (ط):" للإلاه ".
(3) في (أ):" معناه ".
(4) في (ط):" بحجة حقا ".
(5) في (ط):" لا يضر ولا ينفع ".
(6) في (ط):" أحفياء الرجل ".
(7) في (ط):" الأصيلع "، وفي (ك):" الأصابع ".
(8) في (ك):" التنقص ".
(9) في (ك):" احتج ".
(10) في (ك):" ويسألونه ".(5/173)
قال القاضي: قد علل في الكتاب في الحديث علة ذلك بقوله(1): لأن يراه(2) الناس وليشرف وليسألوه، وكراهة أن يصرف عنه الناس وهو مضرته(3) بتزاحمهم عليه، وقد ذكر أبو داود أنه كان - عليه السلام - في طوافه هذا مريضًا، وإلى هذا المعنى أشار البخاري عليه وتأوله، وكذا ترجم على هذا الحديث: باب المريض يطوف راكبًا، وأجاز ذلك الشافعي مع كراهته له، وألزم أبو حنيفة فيه الدم إن بعد إلى(4) مثل الكوفة، وان كان قريبًا أعاد، وقول(5) مالك كقول أبي حنيفة: إن(6) لم يعد أهدى، ومنه قوله في حديث أم سلمة: شكوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني(7) اشتكى. فقال:« طوفى من وراء الناس وأنت راكبة » على ما تقدم من جوازه للمريض، ولا خلاف في ذوي الأعذار، وكونها من وراء الناس ؛ لأن ذلك سنة طواف النساء مع الرجال ؛ لئلا [ يختلطن بهم، ولئلا](8) يضر مركبها أيضًا بالطائفين(9)، وهكذا(10) يكون حكم الرجل(11) إذا طاف راكبًا لهذه العلة. وفي هذا كله حجة لنا ولمن قال بطهارة أبوال ما يؤكل لحمه وروثه ؛ إذ لو كان نجسًا لم يدخل المسجد ؛ إذ لا يؤمن ذلك منه فيه(12). وفيه حجة لجواز طواف المحمول من عذر، ولا خلاف في جوازه ووجوبه عليه.
__________
(1) في (ط):" لقوله ".
(2) في (ك):" لا يراه ".
(3) في (ط):" مضربة ".
(4) في (ك):" وإلى ".
(5) في (ك):" وكقول ".
(6) في (ط):" أنه إن ".
(7) في (ط):" أبي ".
(8) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(9) في (ط):" بالطائفتين ".
(10) في (أ):" وهذا ".
(11) في (ط):" الراجل ".
(12) قوله:" فيه " ليس في (ك).(5/174)
وقوله في هذا الحديث:" ويستلم الركن بمحجن معه، ويقبّل المحجن "، على ما تقدم فيمن يعذر عليه التقبيل للحجر أيضًا(1). يضع يده عليه(2)، فإن لم يمكنه فما يقوم مقام يده. والمحجن: عصا معقفة، يتناول الراكب بها(3) ما سقط له، ويحرك بطرفها بعيره للمشى.
وقوله: في حديث أم سلمة:" فطفت(4)، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى جانب البيت ويقرأ بالطور، قيل: إنها صلاة الصبح، وإنها توخت(5) الطواف حينئذ لخلاء البيت عن الرجال لكونهم في الصلاة.
وقول عروة لعائشة: ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئًا فقالت عائشة:" بئس ما قلت " الحديث(6). قال الإمام: هذا من بديع فقهها ومعرفتها باحكام الألفاظ ؛ لأن الآية إنما اقتضى ظاهرها رفع الحرج عمن طاف بين الصفا والمروة، فليس هو بنص(7) في سقوط الوجوب فأخبرته أن ذلك محتمل، ولو كان نصًّا في ذلك لكان يقول: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما ؛ لأن هذا يتضمن سقوط الإثم عمن ترك الطواف، ثم أخبرته(8) أن ذلك إنما كان لأن الأنصار تحرجت أن تمر بذلك الموضع في الإسلام، فأخبرت(9) أن لا حرج عليها، وقد يكون الفعل واجبًا، ويعتقد المعتقد أنه قد يمنع من إيقاعه على صفة، وهذا كمن عليه صلاة ظهر وظن أنه لا يسوغ له إيقاعها عند الغروب، فيسأل فيقال: لا حرج عليك إن صليت، فيكون هذا الجواب صحيحًا، ولا يقتضي نفي وجوب الظهر عليه.
__________
(1) في (ط):" أنه ".
(2) في (ك):" عليه يده ".
(3) في (أ):" بها الراكب ".
(4) في (ك):" فطف ".
(5) في (ك):" توجب ".
(6) قوله:" الحديث " ليس في (أ).
(7) في (ك):" نص ".
(8) في (ك):" أخبر به ".
(9) في (أ) يشبه أن تكون:" فأخبرت ".(5/175)
قال القاضي: قد ذكر مسلم هذه العلة التي ذكر، وذكر أيضًا من رواية ابن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن أناس من الأنصار: أنهم كانوا في الجاهلية لا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما قدموا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكروا ذلك له، فأنزل الله الآية، وذكر نحوا منه من رواية الزهري، ثم ذكر في آخره: أن من العرب من كان يقول: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية، وقال أخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر به بين الصفا والمروة، فأنزل الله الآية. قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فأراها نزلت في هؤلاء وهؤلاء.
وقوله:" إن هذا لعلم(1)"، ويروى:" العلم ": استحسان لقول عائشة، وتصويب لتأويلها وتفسيرها.
قال الإمام: قد اختلف الناس في السعي بين الصفا والمروة. فقال بعض الصحابة: هو تطوع، وأوجبه مالك، ورأى أن الدم لا يجبره، وقال أبو حنيفة: هو واجب، ولكن الدم يجبره.
قال القاضي: وبقول مالك قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وهو عند جميعهم ركن من أركان الحج، وقاله جماعة من السلف، وقالوا: يرجع إليه أو إلى ما ترك منه(2) حتى يأتى به، فإن كان قد أصاب النساء قبل رجوعه أعاده قابلاً حجة أو عمرة، والواجب في الحج منه السعي في طواف واحد وهو المتصل بطواف القدوم، فمن لم يسع فيه وسعى في غيره في أطواف الحج أجزأه منه.
__________
(1) في (أ):" للعلم ".
(2) في (أ):" فيه ".(5/176)
وقوله في هذا الباب في رواية أبي معاوية:" إنما كان ذلك لأن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر، يقال لهما(1): إساف ونائلة"، كذا رواية الكافة، وعند ابن الحذاء:" في الجاهلية لمناة، وكانت صنمين على شط البحر "، وذكر مثله، وكلاهما خطأ، والصواب ما جاء في الروايات الأخر في الباب:" يهلون(2) لمناة ". وفي الرواية الأخرى: " الطاغية التي بالْمُشَلَّل(3)"، وهذا هو المعروف.
ومناة: صنم كان نصبه(4) عمرو بن لحي بجهة(5) البحر بالمشلل(6) مما يلى قديدًا(7) بجهة البحر(8)، وكذا جاء مفسرا في هذا الحديث في "الموطأ"، وله كانت الأزد وغسّان تهل بحجها(9)، وقال ابن الكلبي: مناة: صخرة لهذيل بقديد.
وأما إساف ونائلة: فلم يكونا قط بجهة البحر، وانما كانا فيما يقال: رجلاً(10) اسمه: إساف بن نفا، ويقال: ابن عمرو(11)، وامرأة اسمها: نائلة بنت ذئب، ويقال: ديك(12)، ويقال: بنت سهل(13)، قيل: كانا من جرهم، زنيا داخل الكعبة فمسخهما الله حجرين، فنصبا عند الكعبة، وقيل: بل على الصفا والمروة ليعتبر بهما ويتعظ، ثم(14) حولهما قصي(15)، فجعل أحدهما لصق الكعبة، والأخر بزمزم، وقيل: بل جعلهما جميعًا بزمزم، ونحر عندهما وأمر بعبادتهما، فلما فتح النبي - عليه السلام - مكة كسرهما.
__________
(1) في (ك):" ولها ".
(2) في (أ) يشبه أن تكون:" نهلون ".
(3) في (ط) يشبه أن تكون:" بالمشال ".
(4) في (ك):" يصبه ".
(5) في (أ) يشبه أن تكون:" لجهة ".
(6) في (ط):" بالمسال ".
(7) في (ط):" قديد ".
(8) قوله:" بجهة البحر " ليس في (أ).
(9) في (أ):" لحجها ".
(10) في (ط):" رجلٌ ".
(11) في (ط):" ابن عمر ".
(12) قوله:" ويقال ديك " ليس في (أ)، وفي (ك):" ويقال ذلك ".
(13) في (ط):" سهيل ".
(14) في (ك):" بم ".
(15) في (ط):" حولها أصنامًا ".(5/177)
وقوله:" لم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا، طوافه الأول، يصحح ما قلناه(1): إنهم لم يسعوا(2) في غيرها من الأطواف المذكورة في الحج.
وقوله: " فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشعب الأيسر - الذي دون المزدلفة - أناخ فبال، ثم جاء فصببت عليه الوضوء، فتوضأ وضوءًا خفيفًا، وفي حديث آخر: " ليس بالبالغ "، وفي آخر: " فلم(3) يسبغ الوضوء، ثم قال: "حتى أتى المزدلفة فصلى "، وجاء بعد هذا في الحديث الآخر:" فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فاسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة، يوهم لفظه(4):"لم يسبغ" أن الأول(5) لم يكن وضوء الصلاة(6)، وكذلك تأوله بعضهم، وقيل: بل وضأ بعض أعضاء وضوئه، وليس كذلك بل كان وضوؤه الأول للصلاة، ثم توضأ آخرًا(7) بالمزدلفة(8) لعذر طرأ عليه، وليس يقال في الاستنجاء: وضوءًا خفيفًا(9)، ولا: ليس بالبالغ، ومعنى " لم يسبغ "، أي: لم يكرره(10)، وقد يكون وضوؤه بالمزدلفة لتمام الفضيلة بتكراره، وتمام عدده ثلاثًا - والله أعلم - ويدل على أنه وضوء للصلاة قوله:" ذهب إلى الغائط، فلما رجع صببت عليه من الإداوة فتوضأ وخففه "، ليكون على طهارة أو لاستعجاله، فلما أتى مزدلفة أتم(11) فضيلته بالتكرار، أو ابتدأ فرضه لحدث اعتراه - والله أعلم - ولا وجه لقول من قال: إنه توضأ وضوءين ليخص كل صلاة من الصلاتين التي جمع بعد بالمزدلفة بوضوء، على عادته من الوضوء لكل صلاة. إذ تكرر(12) الوضوء قبل أداء فريضة به ممنوع، ومن السرف المنهى عنه، وإنما(13)
__________
(1) في (أ):" قلنا ".
(2) في (ط):" يسعون ".
(3) في (أ):" لم ".
(4) في (أ):" توهم لفظة ".
(5) في (ك):" الأولى ".
(6) في (أ):" وضوءًا للصلاة ".
(7) في (أ):" آخر ".
(8) في (ط):" بمزدلفة ".
(9) في (ك) تشبه أن تكون:" خفيفينا ".
(10) في (ك):" يكرر ".
(11) في (ط):" تم ".
(12) في (ك):" تكرار ".
(13) في (أ):" إنما ".(5/178)
الفضيلة في تكراره بعد صلاة فرض به.
وقوله: " فبال "، وما قال:" أهراق(1) الماء "؛ إشعار بإيراده(2) الحديث، كما سمعه بلفظ محدثه إياه، وأنه لم يورده بمعناه.
وقوله:" الصلاة أمامك "، قال الإمام: اختلف عندنا فيمن صلى تلك الليلة الصلاتين في وقتهما، هل يعيد إذا أتى المزدلفة أم لا(3)؟ فقيل: يعيد لهذا الحديث، وقيل: لا يعيد ؛ لأن الجمع سنة وذلك إذا ترك لا يوجب الإعادة، ولا يتوجه مثل هذا الخلاف فيمن ترك الجمع بين الظهر والعصر بعرفة ؛ لأن المصلي للمغرب ليلة المزدلفة لما صلاها قبل الشفق صار كمن صلاها قبل وقتها، فإنه يعيدها في وقتها، والذي أخر صلاة العصر يوم عرفة ولم يصلها مع الظهر، إن كان تركها بعد وقتها فصلاته لها بعد ذلك قضاء، فلا معنى لأن يقال له: صلها ثانية، كما قيل في المغرب.
قال القاضي: قد(4) قدمنا الكلام في هذه المسألة باشبع من هذا في حديث جابر، وكذلك على قوله:" جمع بمزدلفة بين المغرب والعشاء بإقامة واحدة".
وقوله:" فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها "، هذا سنة العمل عند العلماء اقتداء بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن يوخر(5) حط الرحال(6) حتى تصلى المغرب.
وقوله:" فلم يزل يلبي حتى رمى الجمرة "، قال الإمام: اختلف عندنا متى يقطع الحاج التلبية، هل عند الزوال ؟ أو عند الرواح إلى الصلاة أو الموقف، وذهب المخالف إلى أنه لا يقطع حتى يرمى الجمرة، وتعلق بهذا الحديث، واختار ذلك بعض شيوخنا المتأخرين، واختلف القائلون بأنه لا يقطع حتى يرمى الجمرة، هل يقطع التلبية إذا رمى أول حصاة أو حتى يتم السبع.
__________
(1) في (ك):" أهداف ".
(2) في (ك):" بايراد ".
(3) في (ك):" أولا ".
(4) في (أ):" وقد ".
(5) في (ط):" توخر ".
(6) في (ك):" الرجال ".(5/179)
قال القاضي: اختلف عن الصحابة والسلف بالأقوال الثلاثة عن مالك، وذكر مسلم: " حتى رمى جمرة العقبة "، وذكر في الحديث الآخر:" حتى بلغ الجمرة "، فالخلاف هنا مركب(1) على هذين الحديثين، وقال الشافعي(2) والثوري وأصحاب الرأي وأبو ثور: يقطعها مع أول حصاة، وقد حكى محمد بن المواز عن مالك أنه يكبر، وإن شاء لبى في سفره من منى إلى عرفة. وقال ابن الجلاب:من أحرم من عرفة لبى حتى يرمى الجمرة، وأخذ مالك في مشهور مذهبه بما روى في موطئه عن على وعائشة وابن عمر على اختلاف بينهم، مع اتفاقهم(3) أنه قبل الوقوف، وهو مذهب أكثر أهل المدينة، وجمهور فقهاء الأمصار(4) وجماعة من السلف على أنه يلبي حتى يرمي الجمرة، وقال الحسن:يلبي حتى يصلي الغداة يوم عرفة ثم يقطع، وتقدم الكلام على حصى الخذف(5) وعلى ذكر محسر في حديث جابر. وقوله هنا:" والنبي - صلى الله عليه وسلم - يشير بيده كما يحذف(6) الإنسان " بيان وزيادة في تفسير الخذف(7).
وذكر مسلم أحاديث التلبية بجمع وفي الإفاضة، وفي السير إلى عرفات، [ فأما(8) في السير إلى عرفات](9) فهم متفقون على ذلك، وأنه يرجع إليها بعد الطواف والسعي الذي للقدوم. واختلفوا متى يقطعها قبل ذلك، هل إذا دخل الحرم، أو إذا دخل مكة، أو إذا طاف، والثلاث روايات عن مالك، وهذا في أهل المواقيت، وأما التلبية بجمع وفي الإفاضة فقد يحتج به من يقول: يلبي حتى يرمي الجمرة.
__________
(1) قوله:" مركب " ليس في (ط).
(2) في (ط):" فالشافعي ".
(3) في (أ):" اتفاق ".
(4) في (ط):" أهل الأمصار ".
(5) في (ك):" الحذف " ولم تنقط في (ط).
(6) في (أ):" يخدف ".
(7) في (ك):" الحذف ".
(8) في (ط):" أما ".
(9) مابين المعكوفين ليس في (أ) وفي موضعها إشارة لحق ولم يظهر شيء في الحاشية.(5/180)
وقوله في الحديث الآخر:" غدونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منى إلى عرفة "، وفي حديث(1) آخر: " غداة عرفة، فمنا الملبي ومنا المكبر "، وفي الحديث الآخر:" يهل المهل فلا(2) ينكر عليه، ويكبر المكبر فلا(1) ينكر عليه "، قد ذكرنا عن مالك أنه قال بمثل هذا وهذا في الحاج، وأما في المعتمر فإن أحرم من التنعيم فإنه يقطع التلبية عند مالك إذا رأى البيت، وأما من أحرم بها من المواقيت فيقطع التلبية إذا انتهى إلى الحرم، وعنه: إن أحرم من الجعرانة أنه يقطع(3) إذا دخل مكة، وعند الشافعي وأبي حنيفة: يقطعها المعتمر إذا ابتدأ الطواف، ولم يفرقا بين القرب والبعد.
وقوله: " ونحن بجمع "، أي: بمزدلفة، بفتح الجيم. سميت بذلك للجمع فيها بين العشاءين، وقد يقال لاجتماع الناس بها للوقوف. قال ابن حبيب: هي جمع ومزدلفة وقزح والمشعر الحرام، وسميت مزدلفة لذلك من جمع الناس بها، وقيل: لقربهم من منازلهم بعد الإفاضة. والازدلاف: القرب.
وقوله:" لما أتى النقب " بفتح النون وسكون القاف، هو الطريق في الجبل، وقيل النقب: الفرجة بين الجبلين.
وقوله:" فما زال يسير على هينته " بكسر الهاء وأوسطه نون، ومعناه على سكينته، ورواه بعضهم على هيئته بفتح الهاء وأوسطه همزة (4).
__________
(1) في (ط):" الحديث ".
(2) في (ك):" ولا ".
(3) في (ط):" يقطعها ".
(4) في (ك):" فما زال يسير على هييئة بفتح الهاء وأوسطه همزة وروي أيضًا بكسر الهاء وأوسطه نون ومعناه على سكينة ".(5/181)
وقوله:" يسير العنق ": هو(1) سير فيه رفق. وقوله:" فإذا وجد فجوة نص "، الفجوه: المكان المتسع، " ونصّ: أسرع، يعني من زحام الناس الذي رفق(2) في السير بسبب ذلك،وليسرع إلى المناسك(3) لياتيها متسع الوقت، ويتمكن من تنسكه بها وعمله(4) فيها من غير تضييق ولا استعجال وأصل الفجوة ما اتسع من الأرض، وقد رواه بعض رواة "الموطأ": فرجة، والنص: الإسراع في السير، وهو أرفعه.
وقوله:" الذي أنزلت عليه سورة البقرة "، حجة في جواز قولك: سورة البقرة، وسورة آل عمران، ونحو هذا، وقد اختلف السلف في هذا(5)، فأجازه بعضهم، وكرهه بعضهم، وقال: يقال السورة التي يذكر فيها: البقرة، والتي يذكر فيها آل عمران، قالوا: وخص هنا سورة(6) البقرة: لأن معظم مناسك الحج فيها.
وقوله:" صلى المغرب والعشاء بجمع ليس بينهما سجدة "، أي: صلاة نافلة، وقد جاءت السجدة بمعنى الركعة، وبمعنى الصلاة، وهذا(7) حكم صلاة الجمع بين صلاتين: أنه لا تنفل(8) بينهما، وقد تقدم الكلام عليه، ومن رخص في ذلك مدة أذان المؤذن للآخرة.
__________
(1) قوله:" هو " ليس في (أ) و(ك).
(2) في (ك):" يعق ".
(3) في (ط):" المنسك ".
(4) في (ط):" عملها ".
(5) قوله:" في هذا " ليس في (أ).
(6) في (أ) يشبه أن تكون:" بسورة ".
(7) في (أ) يشبه أن تكون:" لهذا ".
(8) في (ك):" ينتقل ".(5/182)
وقوله:" وصلى المغرب ثلاث ركعات والعشاء ركعتين "، أصل السنة(1) في تقصير الحاج بمنى وعرفة ومكة الصلاة الرباعية، مكيًّا كان أو غير مكي، إلا أهل منى بمنى، وأهل عرفه بعرفة، وأهل مكة بمكة، هذا قول مالك والأوزاعي، إلا الإمام فإنه يقصر وإن كان عندهم من سكان هذه المواضع، وذهب جمهور العلماء إلى أن هؤلاء يتمون، وإنما يقصر من كان في سفره مايقصر فيه الصلاة على سنة القصر(2)، ولايختص الحاج بشىء من غيره، وذهب بعض السلف إلى مثل قول مالك، إلا أنه سوى(3) الإمام وغيره، وأنه يقصر إن كان من أهل الموضع، وهو مذهب إسحاق. وقوله: في حديث ابن عمر:" صلى المغرب والعشاء بجمع بإقامة واحدة "، حجة لمن قال بذلك، وقد تقدم الكلام عليه، أو يكون(4) بإقامة واحدة لكل صلاة دون أذان، فيحتج به من قال بذلك أيضًا، وهو يحتمل أن يكون بأذان كما ثبت في حديث جابر وهو حج واحد، لكن(5) لم يتعرض هنا لذكر الأذان ولا نفيه، فيجمع بين الروايتين على هذا، ويبقى الإشكال في إثبات جابر إقامتين، ونص ابن عمر على إقامة واحدة، فلعله يعني بواحدة في العشاء الآخرة. يعني(6) دون أذان فيها، وبقيت الأولى بأذان وإقامة، والله أعلم.
__________
(1) في (أ):" في السنة ".
(2) في (ك):" التقصير ".
(3) في (ك):" سِوّ".
(4) في (ط):" تكون ".
(5) في (ك):" ولكن ".
(6) قوله:" يعني " ليس في (ك).(5/183)
وذكر مسلم: نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا عبد الله بن نمير، نا إسماعيل بن أبي خالد،عن أبي إسحاق قال: قال سعيد بن جبير: أفضنا(1) مع ابن عمر حتى أتينا جمعًا - وذكر الحديث، قال الدارقطني: هذا عندي وهم(2) من إسماعيل، وقد(3) خالفه جماعة منهم شعبة والثوري وإسرائيل وغيرهم(4)، فرووه عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مالك، عن ابن عمر، وإن كان إسماعيل ثقة فهؤلاء أقوم بحديث(5) أبي إسحاق منه، وهو أحد المائتين من الأحاديث التي استدركها وتتبعها الدارقطني على مسلم والبخارى في صحيحيهما.
وقول ابن مسعود:" مارأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة لميقاتها(6) إلا صلاه المغرب والعشاء بجمع، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها "، قال الإمام: من يقول إن الإسفار بالصبح أفضل تعلق بهذا الحديث، قال: وقول ابن مسعود يدل على(7) أنه - عليه السلام - كان يؤخر صلاة الصبح، وأنه(8) عجلها يومئذ قبل وقتها المعتاد.
__________
(1) في (ك):" أفضنينا ".
(2) في (ط):" هذا عندهم جميعهم ".
(3) في (ك):" قد ".
(4) في (ط) و(ك):" غيره ".
(5) في (ك):" لحديث ".
(6) في (أ) و(ك):" إلا لميقاتها ".
(7) قوله:" على " ليس في (ط).
(8) في (ك):" وأن ".(5/184)
قال القاضي: لاحجة للمخالف في هذا الظاهر، فقد تقدم من تغليس النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصبح، وصلاته لها والنجوم بادية مشتبكة، وأن النساء ينصرفن مايعرفن من الغلس، وغير ذلك ما لايدفع فيه تأويل من تأول هذا ولاغيره. والمراد بهذا الحديث مخالفة(1) عادته في التغليس ؛ إذ كان في غير هذا اليوم يغلس(2) بعض التغليس، وينتظر - والله أعلم - من يأتى المسجد من الجماعة ممن يصلى به وإن لم ينتظر(3) كافتهم،وهاهنا الناس كلهم مستعدون، وجميعهم مستعجلون للإفاضة، فكان تغليسه الآن أكثر من سائر أوقاته وقبل ميقاته المعلوم له، كما كانت صلاته(4) المغرب والعشاء مؤخرتين عن ميقاتهما المعهود لصلاته لهما في غير جمع.
وقوله: " استأذنت سودة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة تدفع قبله وقبل حطمة الناس، فاذن لها، وكانت امرأة ثبطة،: فسره في الحديث:"الثقيلة"، وفي الرواية الأخرى: " ضخمة ثبطة، وحقيقته: المتانية(5) لثقلها وضخامتها. ومعنى:" حطمة الناس "، أي: زحمتهم، ومنه سمى الحطيم لانحطام الناس عليه، أي: ازدحامهم. واحتجت الشافعية بحديث سودة على مذهبهم في جواز الرمي بعد نصف الليل قبل الفجر، وإنما حديث سودة هذا رخصة لأولي الأعذار في الدفع من جمع والإفاضة بليل، والسنة المبيت بها، وصلاة الفجر بها غلسًا، والوقوف بالمشعر حتى يسفر(6) جدًّا، ثم الدفع قبل طلوع الشمس، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر وغيره من الأحاديث.
قال الإمام: عندنا أن من ترك المبيت بالمزدلفة والوقوف بالمشعر حجه تام، وعليه الدم، وعند المخالف: يبطل حجه لقول الله تعالى:{ فاذكروا الله عند المشعر الحرام }، والأمر على الوجوب.
__________
(1) في (ك):" مخالفته ".
(2) في (أ) و(ك):" تغلس ".
(3) في (ك):" يكن ينتظر ".
(4) في (ك):" صلاة ".
(5) في (ط):" المثانية ".
(6) في (ك):" تسفر ".(5/185)
قال القاضي: لاخلاف أنه مشروع من المناسك والسنن المذكورة، إلا شيئًا روى عن عطاء، والأوزاعي: أن جمعا منزل(1) كسائر منازل السفر، من شاء طواه ومن نزل(2) به رحل متى شاء.
وفي إذن النبي - عليه السلام - بالليل لسودة وظعنه وضعفة أهله، وأن وقوفه هو بعد صلاة الصبح دونهم ولم يأمرهم بالوقوف، يدل على(3) أنه ليس بواجب، خلافًا للشافعي والنخعي وغيرهما القائلين أن من فاته الوقوف به فقد(4): فاته الحج، وذكر عن الأوزاعي، واختلف عن الثوري، واختلف من لم يوجبه وهم الجمهور، هل على تاركه دم، فاوجب ذلك عليه الكوفيون وفقهاء أصحاب الحديث، وقال الشافعي: إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه، وإن كان قبل ولم يعد إليها افتدى بشاة، وقال مالك: من نزل بها فلا دم عليه، وإن مرّ ولم ينزل فعليه دم، وقد جاء عن ابن عمر في تقديم ضعفة أهله: أنهم(5) كانوا يقفون قبل أن يدفعوا قبل وقوف الإمام، فجعل الرخصة في تعجيل الوقوف لا في إسقاطه(6). واختلف عن مالك في القدر المستحق من الزمان بمزدلفة، هل هو الليل كله أو جله، أو أقل زمان، حكى ذلك ابن خويز منداد.
وقوله:" إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَذِن لظُعُنه، أي: نسائه(7).
قال الإمام: سميت المرأه ظعينة باسم الهودج الذي تكون(8) فيه، وظعينة الرجل: امرأته.
قال القاضي: وقوله:" أي هنتاه(9)"، وأصله من الهن، يكنى به عن الشيء، والأنثى هنة، فإذا وصلتها بالهاء قلت: ياهنتاه، ومن العرب من يقول: ياهنتوه، وللرجل: ياهناه، ولاتستعمل كذا إلا في النداء.
__________
(1) في (ط):" منزلاً ".
(2) في (أ):" شاء نزل ".
(3) قوله:" على " ليس في (أ).
(4) في (أ) و(ط):" بعد ".
(5) قوله:" أنهم " ليس في (ك).
(6) في (ط):" انسقاطه ".
(7) في (ك):" لنسائه ".
(8) في (ك):" يكون ".
(9) في (ط):" هينا "، وفي (ك):" أن هنياه ".(5/186)
وقوله:" لقد غلسنا "، أي: رمينا بغلس، وهو أعلى السحر(1)، وثقل(2) الشيء بفتح القاف، نقل المسافر متاعه وجسمه.
وقوله:" كان ابن عمر يقدم ضعفة أهله، فيقفون عند المشعرالحرام بالمزدلفة بالليل "، وذكر قبل أن يقف الإمام، قال: ومنهم من يقدم(3) منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم(1) بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وقال: أرخص في أولئك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الحديث. قال الإمام:مذهب الشافعي رمى الجمرة من نصف الليل، ويتعلق بأن أم سلمة قدمت قبل الفجر، وكان - عليه السلام - أمرها أن تفيض وتوافيه الصبح بمكة، وظاهر هذا تعجيل الرمي قبل الفجر، ومذهب الثوري والنخعي: أنها لاترمى إلا بعد طلوع الشمس، ويتعلقان بحديث فيه: أنه - عليه السلام - قدم ضعفة أهله وأمرهم ألا يرموا حتى تطلع الشمس. ومذهب مالك: أن الرمي يحل بطلوع الفجر، ويتعلق بما ذكر(4) ابن عمر.
قال القاضي: قد تقدم في حديث جابر استحباب مافعل النبي - عليه السلام -.
وقوله:" رمى(5) عبد الله جمرة العقبة من بطن الوادى بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة "، وقال:" هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة "، وإنكاره رميها من فوق العقبة، وفي الحديث الآخر:" فاستبطن الوادى، فاستعرضها فرماها من بطن الوادى "، كله بمعنى واحد، أي: وقف في بطنه ووسطه، ومعنى: " استعرضها ": أي: وقف في عرض الجمرة، أي: جانبها، وفي الحديث الآخر:" وجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه ".
__________
(1) في (ك):" الشجر ".
(2) في (ط):" ونقل ".
(3) في (ك):" تقدم ".
(4) في (أ) يشبه أن تكون:" أذكر ".
(5) قوله:" رمى " ليس في (ك).(5/187)
رمي الجمرة من مناسك الحج، واختلف هل هي من واجباته وأركانه أم لا ؟ وفي مذهبنا فيها(1) الوجهان، وحكى الطبري عن بعض الناس(2) أن الجمار إنما جعل(3) حفظًا للتكبير(4)، ولو ترك الرمي تارك وكبر أجزأه، ونحوه عن عائشة. ورمى جمرة العقبة من حيث تيسّر من أعلى العقبة، أو أسفلها، أو أوسطها يجزئ، والمستحب من بطن الوادى من أسفلها، كما جاء في الحديث: هذا كله قول كافة العلماء، وأما سائر الجمرات فمن فوقها، ورميها بسبع(5) حصيات.
واختلفوا فيمن رماها بأقل، فجمهور العلماء على أن على تارك ذلك دمًا إذا فاته جبره أيام الرمي، وهو قول مالك والأوزاعي، وذهب الشافعي وأبو ثور إلى أن على تارك حصاة مدا من طعام وفي اثنتين مدين، وفي ثلاث فأكثر دمًا، وقال أبو حنيفة وصاحباه: لو ترك أقل من نصف الجمرات الثلاث ففي كل حصاة نصف صاع، وإن كان أكثرمن نصفها فعليه دم. وقال(6) مالك: إن نسى جمرة تامة أو الجمار كلها عليه بدنة، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد فشاة، وقال البصريون:على ناسي الجمرة والجمرتين دم، وقال عطاء فيمن رمى بخمس، ومجاهد فيمن رمى بست: لاشىء عليه. واتفقوا أن بخروج أيام التشريق يفوت الرمي إلا العقبة، إلا ماقاله أبو مصعب: إنه يرمي متى ذكر(7)، كمن نسي صلاة يصلها متى ذكرها.
وقوله:" يكبر مع كل حصاة "، هي السنة، وبها أخذ مالك والشافعي، وبه عمل الأئمة، وأجمعوا أن من لم يكبر لاشىء عليه. والتكبير هنا برفع الصوت، وكان بعض السلف يدعومع ذلك.
__________
(1) في (أ):" فيه ".
(2) في (ط):" بعض أصحاب الناس ".
(3) قوله:" إنما جعل " ليس في (ك).
(4) في (ط):" للتكثير ".
(5) في (ط) و(ط):" سبع ".
(6) في (ك):" قال ".
(7) في (ك):" متى ما ذكر ".(5/188)
وقوله:" هذا والذي لا إله إلا هو مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة"، حجة في(1) جواز قول: سورة البقرة، وسورة آل عمران وشبه ذلك، وقد أنكر إبراهيم النخعي(2) على الحجاج في "الأم" نهيه عن ذلك، وقوله: " السورة(3) التي يذكر(4) فيها البقرة "، وهو [ اختيار بعضهم أيضًا.
وقول الحجاج:" ألّفوا القرآن كما ألفه جبريل - عليه السلام - السورة التي تذكر فيها البقرة ](5)" الحديث، ولم ينكر عليه إبراهيم(6) قوله:" ألفه(7) جبريل " كما أنكر عليه ماتقدم، فإن كان يريد بقوله تأليف الآى في كل سورة ونظمها على ماهى عليه(8) في المصحف الآن عليه(9)، فهو إجماع المسلمين ، وأن ذلك توقيف من النبي - عليه السلام - وإن كان يريد تأليف السور بعضها إثر بعض(10)، فهو قول بعض الفقهاء والقراء والمحققون على خلافه، وأنه اجتهاد من الأمة وليس بتوقيف، وقد تكلمنا على هذا في كتاب الصلاة، وتقديمه هنا النساء على آل عمران يدل أنه لم يرد إلا نظم الآى ؛ لأن الحجاج إنما كان يتبع مصحف عثمان ولا يخالفه، ولم يرد في الظاهر ترتيب(11) السور، والله أعلم.
__________
(1) في (ك):" على ".
(2) في (ط) و(ك):" ابن مسعود ".
(3) في (ط):" للسورة ".
(4) في (ط):" تذكر ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (ك).
(6) في (ط) و(ك):" ابن مسعود ".
(7) في (أ):" ألقه ".
(8) قوله:" عليه " ليس في (ط).
(9) قوله:" عليه " ليس في (أ).
(10) في (ك):" لبعض ".
(11) في (ط):" من ثلث ".(5/189)
وقوله:" حججت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع "، وفيه فرأيته(1) على راحلته، ومعه بلال وأسامة، أحدهما يقود به، والآخر رافع ثوبه على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشمس، قال الإمام: ذهب بعض الفقهاء إلى جواز استظلال المحرم راكبًا، وتعلق بهدا الخبر(2). ومالك يكره ذلك، وأجاب بعض أصحابه عن هذا بأن هذا القدر الذي وقع في الخبر لايكاد يدوم، وقد أجاز مالك للمحرم أن يستظل بيده، وقال: ما أيسر(3) مايثبت ذلك. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون هذا الاستظلال المذكور في الحديث عند مقاربة الإحلال ؛ لأن برمي الجمرة يباح ذلك، فلعله يسهل فيه كما يسهل في الطيب عند(4) طواف الإفاضة، وقد روى أن عمر رأى رجلاً جعل ظلالة(5) على محمله، فقال:" أضح لمن أحرمت له "، يعني: أبرز إلى الضحاء. قال الرياشي(6): رأيت أحمد بن المعذل(7) في يوم شديد الحر، فقلت له: يا أبا الفضل، هلا استظللت، فإن في ذلك توسعة للاختلاف فيه(8)، فأنشد:
ضحيت له كى استظل بظله إذا(9) الظل أضحى في القيامة قالصًا
فوا أسفًا إن كان سعيك باطلاً وواحسرتى(10) إن كان أجرك ناقصًا
قال صاحب الأفعال: يقال ضحيت وضحوت ضحيًا وضحوًا: برزت للشمس، وضحيت ضحاء: أصابتنى الشمس، قال الله تعالى: {وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى }.
قال القاضي: قد قدمنا من الكلام في هذا وكافة العلماء على جوازه.
__________
(1) في (ك):" ورأيته ".
(2) في (ك):" الحديث ".
(3) قوله:" ما أيسر " ليس في (أ)، ويوجد كتابة في الحاشية لم تتضح لعلها هي.
(4) قوله:" الطيب عند " ليس في (ك).
(5) في (ط):" ظلالا ".
(6) في (ك):" الرياسي ".
(7) في (ك):" المعدل ".
(8) قوله:" فيه " ليس في (أ) و(ك).
(9) في (ط) و(ك):" إذ ".
(10) في (ك):" وياحسرتي ".(5/190)
وقوله في هذا الحديث:" وإن أمر عليكم عبد مجدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا "، الجدع: القطع، نبه بهذا على نهاية الخساسة والضعة(1) في أوصاف العبيد ؛ إذ لايكون بهذه الصفة إلا الوغد الدني منهم، المستعمل في أرذل الأعمال وأخسها. وفيه مايلزم من طاعة الأئمة إذا كانوا متمسكين بالإسلام، والدعوة لكتاب الله كيف ماكانوا هم في أنفسهم وأنسابهم وأخلاقهم.
قال الإمام: خرَّج مسلم في هذا الباب: نا أحمد بن حنبل، نا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم،[ عن زيد بن أبي(2) أنيسة...، الحديث. ثم قال مسلم: واسم أبي عبد الرحيم](3) خالد بن أبي يزيد، وهو خال محمد بن سلمة، روى عنه وكيع وحجاج الأعور، قال بعضهم: هكذا في رواية أبي أحمد والكسائي، وفي نسخة ابن ماهان: روى(4) عن وكيع وحجاج، والأول هو الصواب.
__________
(1) في (ك) يشبه أن تكون:" الصغر ".
(2) قوله:" أبي " ليس في (ك).
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(4) في (ك):" وروي ".(5/191)
وقوله: " رمى - عليه السلام - الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس، قال القاضي: هذا أصل في هذه السة، وأراد بيوم(1) النحر جمرة العقبة ؛ إذ لايرمي يوم النحر غيرها، وقد تقدم أنه وقت استحباب(2) رميها، وأما الجمار الآخر فبعد الزوال كما جاء في الحديث، وهو قول كافة العلماء والسلف، إلا أن أبا حنيفة قال(3): يستحسن أن يكون في اليوم الثالث قبل الزوال، قال: والقياس أنه لايجوز إلا بعد الزوال، وخالفه صاحباه، وقال إسحاق: يجزئه في اليوم الثالث قبل الزوال، وقال عطاء وطاوس: يجزئه في الثلاثة الأيام قبل الزوال والسنة ترد هذا كله، وقد(4) قال - عليه السلام - وهو يرمى: «خذوا عنى مناسككم». وجمرة العقبة يوم النحر ترمى بسبع حصيات - كما تقدم - والجمرات الأخر الثلاث في الثلاثة الأيام(5) بعدها(6) يرمى(7) كل يوم بأحد(8) وعشرين، كل جمرة بسبع، يبدأ بالتي(9) تلي المسجد، وهي الدنيا، ثم الوسطى عند العقبة الأولى قرب مسجد منى، ويقف في هاتين - عند مالك- ويدعو ويستقبل القبلة، ويقوم طويلاً للدعاء والذكر، وقيل: إنما يفعل هذا في الأولى، وأما الوسطى فيأخذ إذا رماها ذات الشمال في بطن المسيل، ثم يقوم مستقبل القبلة قيامًا طويلاً، ويدعو ويهلل ويذكر الله على ماجاء في حديث ابن عمر، وقاله محمد من أصحابنا، وأما الجمرة الثالثة في العقبه حيث يرمى يوم النحر، ولايقف عند هذه، وكذا جاء في حديث ابن عمر، خرجه البخاري يفعل هذا في كل يوم من الأيام الثلاثة بعد يوم النحر فعدد الجمار في هذه الأيام الثلاثة(10) ثلاث وستون، وتتم بسبع جمرة العقبة يوم
__________
(1) في (ك):" يوم ".
(2) في (ك):" استحقاق ".
(3) قوله:" قال " ليس في (ك).
(4) قوله:" قد " ليس في (ك).
(5) في (ط):" الثلاث أيام ".
(6) في (ط):" بعينها ".
(7) في (أ):" ترمى ".
(8) في (ك):" أحدًا ".
(9) في (ك):" يبدأ بالجمرة التي ".
(10) في (ط):" الثلاث أيام ".(5/192)
النحر سبعين حصاة.
واختلف في رفع الأيدى عند الدعاء عند الجمرتين، فقال به الكافة على ماجاء في الحديث. واختلف فيه قول مالك. واختلفوا فيمن لم يقف عند الجمرتين، فكافتهم على أنه لا شيء عليه، إلا الثوري فإنه رأى أن يطعم شيئًا أو يهريق دمًا.
وقوله:" وهو يرمي على راحلته "، قال القاضي: ليس من سنة الرمي الركوب له ولا الترجل ولكن يرمي الرجل على هيئته التي يكون حينئذ عليها من ركوب أو مشى، ولاينزل إن كان راكبًا لرمي، ولايركب إن كان ماشيًا، وهذا في جمرة العقبة، وأما الأيام بعدها فيرمى ماشيًا(1) لأن الناس نازلون بمنى منازلهم فيها، فيمشون للرمى ولايركبون لأنه خروج عن التواضع حينئذ هذا مذهب مالك، واستحب أحمد وإسحاق الرمي ماشيًا، وروى ذلك عن بعض الصحابة.
وقوله:" يرمي(2)"، يدل أنه رميٌ لا طرحٌ، ولاوضعٌ، وهو قول أصحابنا: أن الطرح والوضع لايجزئ، وقال أصحاب الرأي: يجزئ الطرح، ولابجزئ الوضع، ووافقنا أبو ثور، إلا أنه قال: إن كان يسمى الطرح رميًا أجزأه(3).
وقوله:« الاستجمار توّ، والسعى توّ، والطواف توّ »، قال الإمام: معناه: وتر. وفي حديث السعي: فما مضت إلا توّة، أي: ساعة واحدة، ويقال في غير هذا: جاء فلان توًّا، أي: قاصدا لايعرج على شيء.
__________
(1) في (ط):" ماشاء ".
(2) في (أ) يشبه أم تكون:" ويرمي ".
(3) في (ط):" أجزأ ".(5/193)
قال القاضي: وأما قوله آخرًا:" وإذا(1) استجمر أحدكم فليستجمر بتوّ"، وقد ذكر الاستجمار أولاً، فتكراره إما أن يكون المراد أولاً الفعل والثاني عدد الأحجار، أو يكون أحدهما الاستطابة والثاني: البخور(2)، والأول أظهر، واختلف الفقهاء، هل برمي جمرة العقبة يتم(3) تحلل الحاج من كل شيء منع منه إلا النساء، وهو قول أبي ثور. أم حتى يحلق فيحل له أيضًا كل شيء إلا النساء، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وجماعة من العلماء، أم يحل له بعض ويمنع من بعض حتى يطوف طواف الإفاضة، فذهب مالك إلى التفريق بين التحللين، وأن برمى الجمرة حل له كل شيء إلا النساء والطيب والصيد، وأن تحلله إنما يتم بطواف الإفاضة، وحينئذ يحل له كل شيء مما منع من النساء والصيد والطيب(4) وغير ذلك، وروى عن عمر. أن برمى جمرة العقبة يحل له كل شيء إلا النساء والطيب، وعن عطاء: إلا النساء. والصيد، ولاخلاف بينهم أن النساء لايبحن إلا بعد الإفاضة. واختلف قول مالك إذا تطيب قبل الإفاضة في وجوب الدم عليه للخلاف في ذلك.
وموانع الإحرام عندنا ضربان:
أحدهما: فعل ما لا يباح استحلاله وهو الصيد والرفث، والرفث: الجماع، وكل ما في معناه من الاستمتاع بالنساء، وما يدعو إلى ذلك من الطيب والعقود المختصة به كالنكاح.
والثاني: إزالة مالا يباح له اجتنابه وهو التفث، وهو الشعث، وترك حلق شعره وإزالته ومشطه وغسله بالغسول، وترك التنظف، وقص الأظفار، والتطيب، ولبس المخيط والخفاف، ومايستر الرأس والوجه والأطراف فهذا الفصل وهو التفث يقع التحلل منه عندنا بالحلاق، والفصل الأول لايقع التحلل منه إلا الطواف، وهو آخر التحللين وغايته عند الجميع.
أحاديث الحلق والتقصير?
__________
(1) في (أ):" إذا ".
(2) في (ط):" النجو ".
(3) في (ط):" تم ".
(4) من قوله:" وأن تحلله...." إلى هنا ليس في (ط).(5/194)
ودعاؤه - عليه السلام - بالرحمة والغفران للمحلقين وتكريره ذلك دون المقصرين حتى سئل فدعا للجميع وقال:« وللمقصرين »، قال الإمام: زعم بعض العلماء أن ذلك تحضيض على الحلاق لأجل أنه - عليه السلام - لما أمرهم فحلوا ولم يحل توقفوا استثقالاً لمخالفة أفعاله، فلمّا عزم عليهم مالوا إلى التقصير لأنه أخف وأقرب شبهًا به - عليه السلام - إذ لم يحل، أو لأنهم لم يكونوا اعتادوا الحلاق.
وقد اختلفوا في الحلاق، فمذهبنا أنه عند التحلل نسك مشروع لأجل ظاهر هذا(1) الحديث، ولقوله سبحانه:{ لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون }، فوصفهم(2) بذلك يقتضي كونه مشروعًا، وقال الشافعي: ليس بنسك وهو مباح كاللباس والطيب لأنه ورد بعد الحظر فحمل على الإباحة، ولأنه لو حلق في حال الحج لافتدى كما إذا لبس وتطيب، ولو كان من النسك لم يلزمه فدية، كما لو رمى الجمار قبل وقتها، فإن أقصى ماعليه أن يعيدها ولا يلزمه دم، وما ذكرناه(3) من الظاهر يرد قوله، هذا وقد استقر في الشرع تحريم السلام في أثناء الصلاة المفروضة وأمر به في آخرها. ولم يكن ذلك على وجه الإباحة بل حمل على الوجوب، واختلف الناس أيضًا في القدر الذي تتعلق به الفدية إذا حلق، والمشروع منه عند التحلل، فعند الشافعي أقله ثلاث شعرات، وعند أبي حنيفة: ربع الرأس، وعند أبي يوسف: نصفه، وعند مالك: كله في التحلل، وتتعلق الفدية عنده بما يماط به الأذى.
__________
(1) قوله:" هذا " ليس في (أ).
(2) في (ط):" ووصفهم ".
(3) في (أ):" وما ذكرنا ".(5/195)
قال القاضي: ذكر بعضهم أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا إنما كان يوم الحديبية حين أمرهم بالحلق، فما قام أحد له ؛ لما وقع في نفوسهم من الصلح. وذكر ابن إسحاق وغيره الخبر بذلك بكماله، وذكر عن ابن عباس قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" اللهم ارحم المحلقين: ثلاثًا، قيل: يارسول الله ! مابال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم، قال:« لأنهم لم يشكوا ». قال أبو عمر وكونه في الحديبية هو المحفوظ.
قال القاضي: وذكر مسلم في الباب خلاف ماقالوا، وإن كانت جاءت أحاديثه مجملة(1) غير مفسرة موطن ذلك ؛ لأنه ذكر من رواية ابن أبي شيبة ووكيع في حديث يحى بن الحصين عن جدته ؛ أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع دعا للمحلقين ثلاثًا، وللمقصرين مرة واحدة، إلا أن وكيعًا لم يذكر حجة الوداع، وقد ذكر مسلم قبل هذا في باب رمى الجمرة حديث يحيى بن حصين عن جدته هذه أم الحصين:" حججت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع "، فقد جاء الأمر في حديثها مفسرًا أنه في حجة الوداع، فلا يبعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله في الموضعين، ووجهه أن التحليق أبلغ في العبادة، وأدلّ على صدق النية في التذلل لله ؛ لأن المقصر مُبق على نفسه من زينته التي أراد الله أين يكون الحاج مجانبًا لها، ولأنه الذي فعله - عليه السلام -.
وفيه دليل على أنه من النسك ؛ إذ لو كان مباحًا لم يكن لتخصيص فاعل أحدهما بتكرار الترحم ولا للترحم لفاعلهما معنى.
__________
(1) في (ط) يشبه أن تكون :" مبجلة ".(5/196)
ومعنى قوله:" لم يشكوا "، قيل: في أن الحلق أفضل وفائدة الخلاف هل هما نسك أم لا ؛ لأن من يراهما نسكًا يوجب على تاركهما جملة الدم، وهو قول مالك والثوري وإسحاق وأبي حنيفة وابن الحسن وبذلك يقول أبو حنيفة لو ترك ذلك حتى خرجت أيام منى، وذهب الشافعي وأبو ثور وأبو يوسف وعطاء أنه لاشىء عليه في ترك ذلك جملة، وهذا على قول الشافعي أنه ليس بنسك، وله قول آخر أنه نسك، فيوافق على قوله هنا الأول، واختلف القائلون أنه نسك هل هو على المحصر، فقال أبو حنيفة: ليس عليه ذلك وقاله صاحباه، واختلف فيه عن أبي يوسف فأوجبه مرة، وقول كافة العلماء: أن المحصر في الحلاق والتقصير كغيره. ولاخلاف أن الحلاق أفضل من التقصير، وأن التقصير يجزئ وأن الحلاق لا يلزم النساء، وأن شأنهن التقصير، وعند الكثير منهم أن الحلاق لايباح لهن إلا من عذر لأنه مثلة فيهن، وشذ الحسن فرأى أن الحلاق واجب في أول حجة يحجها الإنسان، وجمهورهم على أنه من لبد أو عقص أو ضفّر، لزمه أن يحلق ولايقصر للسنة الواردة بذلك، قالوا: وعلة أن التقصير في ذلك لا يعم شعره ومن سنته(1) عموم تقصير شعره وهذا فيه ضعف، إلا أصحاب الرأي فجعلوا الملبد والمضفّر كغيره يجزئه التقصير. وفي بداية النبي - عليه السلام - يحلق رأسه بالشق الأيمن مشهور سنته في التيامن في العبادات وغيرها، وقسمته شعره - عليه السلام - على الناس تبركًا به واستشفاعًا إلى الله بأجزائه هو(2) وماهو منه وتقربًا بذلك.
وفيه حجة على طهارة الشعر وشعر الإنسان إذا انفصل عنه، وان كان قد اختلف العلماء في ذلك كما تقدم في كتاب الطهارة، وتخصيص شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - وجميع ما منه حيًّا وميتًا بالطهارة على أحد القولين هو الصحيح، وقد بسطنا الكلام في ذلك في كتاب الشفاء.
__________
(1) في (ط):" سنة ".
(2) قوله:" هو " ليس في (ط).(5/197)
وحكم الحلاق وسنته أن يكون بعد النحر وقبل الإفاضة، على ماجاء من فعله - عليه السلام - وسواء في هذا القارن والمفرد عند كافتهم، وذهب ابن الجهم من أصحابنا: أن القارن لا يحلق حتى يطوف ويسعى.
وقوله: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال:« ارم ولاحرج »، وقال آخر: لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر، قال:« انحر ولاحرج »، وفي بعض طرقه: حلقت(1) قبل أن أرمي، قال:« ارم ولاحرج »، وفي بعضها هؤلاء الثلاثة، وفي بعضها: أفضت إلى البيت قبل أن أرمى، قال:« ارم ولاحرج»، وفيه: فما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قدم ولا أخر إلا قال:« افعل ولاحرج »، قال الإمام: الذي يفعله الحاج في منى ثلاثة أشياء: رمي، ونحر، وحلق، فإن قدّم من ذلك واحدًا على صاحبه فلا فدية عليه، إلا في تقديم الحلاق على الرمي، فإن عليه الفدية عندنا لأنه حلق قبل حصول شيء من التحلل، فأشبه من حلق عقيب الإحرام. وعند المخالف: لافدية عليه ؛ لما وقع في بعض طرق هذا الحديث أنه قال:« ارم ولاحرج »، ومحمل هذا عندنا على نفي الإثم لا الفدية، وحمله المخالف على نفيهما جميعًا، وهكذا حمل ابن الماجشون أيضًا قوله في الحلق(2) قبل النحر:« انحر ولاحرج »، على نفي الإثم لا الفدية ؛ لأنه يرى أن من حلق قبل الذبح فقد أخطأ وعليه الفدية لقوله تعالى:{ ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله }، والمشهور عندنا: لا فدية عليه، ويحمل قوله - عليه السلام -:« ولاحرج » على نفى الإثم والفدية جميعًا، ويحمل قوله تعالى:{ حتى يبلغ الهدي محله }، على وصوله إلى منى موضع نحره(3)، لا نحره، وفي بعض طرق هذا(4) الحديث من غير كتاب مسلم: سعيت قبل أن أطوف، وهذا لا أعلم أحدًا قال به، واعتد بالسعي قبل الطواف إلا ماذكر عن عطاء.
__________
(1) في (ط):" فحلقت ".
(2) في (ط):" الحديث ".
(3) قوله:" موضع نحره " ليس في (ط).
(4) قوله:" هذا " ليس في (ط).(5/198)
وممنوعات الحج المتعلقة بأحوال نفس الإنسان المعتادة غالبًا شيئان(1): رفث، وإلقاء تفث. فالرفث: الجماع وما في(2) معناه، وإلقاء التفث: حلق الرأس، وتقليم الأظفار، ومافى معنى ذلك. ويمنع أيضًا من الصيد.
والمحلل من جميع ذلك شيئان أيضًا:
أحدهما: تحليل أصغر وهو جمرة العقبة فيحل به عندنا إلقاء التفث، وإن كنا نكره منه استعمال الطيب، ولكن إن فعله بعد الرمي لم يفتد(3)، ويمنع من النساء والصيد، خلافًا للمخالف في إجازة الصيد، ولنا عليه قول الله تعالى: { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا }، وهذا يسمى محرمًا حتى يفيض، لأن طواف الإفاضة أحد أركان الحج وفرض من فروضه، فلا تذهب(4) عنه تسمية المحرم حتى يفعله، ولامعنى لتفرقة الشافعي في إصابة النساء بين الفرج وغيره، لأن المنع فيهما واحد.
والثاني: تحليل أكبر وهو طواف الإفاضة فيحل به من كل شيء على الإطلاق ؛ إذ لم يبق بعده من أركان الحج وفروضه شيء إذا أتى به وقد رمى الجمرة.
قال القاضى: وقوله:« ارم ولاحرج »، قيل: هي إباحة لما فعل وقدم وإجازة له، لا أمر بالإعادة، كأنه قال: افعل ذلك كما فعلته قبل أو متى شئت ولاحرج عليك ؛ لأن السؤال إنما كان عما انقضى وتم.
__________
(1) قوله:" شيئان " ليس في (أ).
(2) في (أ):" أو ما في ".
(3) في (ط):" يعتد ".
(4) في (ط):" يذهب ".(5/199)
قال القاضي: وأجمع العلماء أن سنة الحاج أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر ثم يحلق بمنى، ثم يطوف طواف الإفاضة. ثم اختلفوا فيمن قدم شيئًا من ذلك على ماقبله، فمذهب مالك ماتقدم في الثلاثة - النحر، والحلق، والرمي - من التفريق. واختلف قوله إذا قدم الإفاضة على الرمي، فقيل: يجزيه وعليه الهدي، وقيل: لا يجزيه، وهو كمن لم يفض، وقال: يعيدها بعد الرمي والنحر، وكذلك قال: إذا رمى ثم أفاض قبل الحلاق، فقال مرة يجزيه، وقال: يعيد الإفاضة بعد الحلاق، وقال في "الموطأ": أحب إلى أن يهريق دمًا وإن قدمها على الذبح، وقال الشافعي وفقهاء أصحاب الحديث في جماعة من السلف: لاشىء عليه في الجميع(1)، قدم منها ماقدم، وأخر ما أخر، لظاهر الحديث. وقال أبو حنيفة: على من حلق قبل أن يرمي أو ينحر دم، وخالفه صاحباه، وقال: وإن كان قارنًا فحلق قبل النحر فدمان، وقال زفر: عليه ثلاثة، وروى عن ابن عباس فيمن قدم شيئًا من النسك أو أخره: عليه دم، وليس بالثابت عنه. ونحوه عن ابن جبير وقتادة والحسن والنخعي، ولم يختلفوا فيمن نحر قبل الرمي: أنه لاشىء عليه.
وفي قوله: لم أشعر فقال: " لاحرج،، وهذا(2) بين في رفع الإثم والفدية معًا كما قال عطاء: هو عام(3) فيهما، وهذا بيّن في رفع الحرج عن السّاهي، ولم يفرق العلماء بين العامد والسّاهي في ذلك، لكن رفع الحرج في الإثم بالكلية عن السّاهي بيّن، وعنهما جميعًا في الفدية بيّن(4)، ويبقى حكم المتعمد المتهاون في الإثم، والأصل أن تارك سنة غير مؤثم إلا أن يتركها متهاونًا، فهاهنا يؤثم بالتهاون لامن نفس تركها وكذلك يختلف عندنا في فساد العمل بترك السنة متهاونًا.
__________
(1) في (ط) تشبه ان تكون:" الجمع ".
(2) قوله:" وهذا " ليس في (ط).
(3) في (ط):" تمام ".
(4) قوله:" بيّن " ليس في (أ).(5/200)
وقوله: " بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم النحر، فقام إليه رجل " الحديث، وفي الرواية الأخرى:" ووقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاء رجل(1)"، وفي الرواية الأخرى:" ووقف(2) على راحلته فطفق ناس يسألونه "، وفي الرواية الأخرى(3):"وهو واقف عند الجمرة "، ذهب بعضهم إلى الجمع بين هذه الروايات وأنه موقف واحد. قال الداودي: ومعنى "خطب" هنا، أي: وقف للناس يعلمهم، لا أنها من خطب الحج، وحكاه عن مالك. وقد يحتمل أن ذلك في موطنين ؛ أحدهما: على راحلته عند الجمرة، ولم يقل في هذا: خطب(4)، وإنما فيه: أنه سئل، وأنه وقف للناس يسألونه، والموطن الثانى: قيل: ذلك يوم النحر بعد صلاة الظهر، وذلك(5) وقت الخطبة الثالثه من خطب الحج وهو أول أيام الرمي، يعلم فيها الإمام مابقي على الناس من مناسكهم، والله أعلم.
قوله:" أفاض يوم النحر "، هي سنة الإفاضة ووقتها. وأجمع العلماء أنه الطواف الواجب من(6) أطوفة الحج، ولم يختلفوا أن من أخره عن يوم النحر وأتى به أيام التشريق أنه يجزيه ولاشىء عليه، واختلفوا فيمن أبعده عن أيام التشريق، فقال مالك: إن تطاول ذلك فعليه دم، وهو قول أبي حنيفة، وقال مالك(7) مرة: لاشىء عليه، وهذا قول كافة العلماء(8)، فإن تركه حتى رجع إلى بلده فكافتهم على أنه يرجع فيطوف ولايجزيه إلا ذلك، وروى عن عطاء والحسن: يحج من العام المقبل. قال عطاء: أو يعتمر.
وذكر مسلم نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمحصب، واختلاف الصحابة هل هو من نسك الحج أم لا(9)؟
__________
(1) قوله:" فجاء رجل " ليس في (أ).
(2) في (ط):" وقف ".
(3) من قوله:" ووقف على...." إلى هنا ليس في (أ).
(4) في (أ):" يخطب ".
(5) في (ط):" وذاك ".
(6) في (ط):" في ".
(7) قوله:" مالك " لم تتضح في (أ).
(8) في (أ):" قول الكافة ".
(9) في (أ):" الحاج أو لا ".(5/201)
وقوله:" كان ابن عمر يرى التحصيب "، قال الإمام: سنة التحصيب: النوم بالشعب الذي يخرجه إلى الأبطح ساعة من الليل.
قال القاضي: مذهب مالك الاقتداء بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وأن يخرج إلى مكة آخر أيامها فيصلي الظهر بها، وينزل بأبطح مكة حيث المقبرة فيصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويدخل مكة أول الليل لاسيما الأئمة، وهو واسع لغيرهم(1). والمحصب: هو الأبطح، وهو البطحاء، وهو خيف بني كنانة. والخيف: ما انحدر عن(2) الجبل وارتفع عن المسيل.
وقوله:" حالفت(3) على بني هاشم وبني المطلب "، هذا(4) هو الصحيح، وفي بعض الروايات:" عبد المطلب "، وهو خطأ، و" حالفت " بالحاء المهملة هنا، أي: عاقدت حلفاءها وتقاسموا، واشتقاقه من الحلف باليمين، يعني في شأن الصحيفة التي تمالؤوا فيها على مقاطعة بني هاشم بن عبد مناف(5) وإخوتهم بني المطلب بن عبد مناف.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« ننزل غدًا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر »، يريد به هذا، ونزوله فيه شكرن(6) لله بما عوضه من الظهور فيه على عداه، الذين تقاسموا فيه على قطيعته ومضرته، وغيظ أيضًا لعدوه بذلك. وهو مستحب عند جميع العلماء، وهو عند الحجازيين أوكد منه عند الكوفيين، وكلهم مجمعون أنه ليس من المناسك التي تلزم وانما فيه اقتداء بافعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتبرك بمنازله.
وقوله:" أسمح لخروجه "، أي: أسهل وأقرب، يريد لخروجه إلى المدينة، وليجتمع إليه من معه مدة مقامه فيه بقية يومه ليرحلوا برحيله، وأكثر الأحاديث في نزول النبي - عليه السلام - بالمحصب تنبئ(7) أنه في حجته.
__________
(1) في (ط):" لغيرهما ".
(2) في (أ):" من ".
(3) في (ط):" خالفت ".
(4) في (ط):" وهذا ".
(5) في (ط):" بني هاشم بن عبدالمطلب ".
(6) في (أ):" شكرًا ".
(7) في (ط):" ينبئ ".(5/202)
وقوله:" على ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الثقل - بفتح الثاء والقاف -: متاع القوم وما يحملونه(1) على دوابهم، ومنه قوله تعالى:{ وتحمل أثقالكم }، وفي هذا الحديث قال أبو بكر: في روايته صالح قال: سمعت سليمان بن يسار، كذا لهم. وفي كتاب ابن أبي جعفر: في رواية صالح، والأول الصواب لأن الحديث من طريق أبي بكر بن أبي شيبة وقتيبة وزهير جميعًا عن سفيان، عن صالح، عن سليمان، وقال أبو بكر عنه: قال: سمعت سليمان، فبين السماع وخرج عن باب العنعنة المختلف فيها.
وقوله في الحديث الآخر:" منزلنا - إن شاء الله غدا إذا فتح الله - الخيف ": يدل أنه سنة الفتح، فكان على هذا منزله في السنتين، وكذلك جاء مفسرًا في حديث أم هانئ، وقد ذكرناه في الصلاة.
قال الإمام: خرّج مسلم في باب المبيت بمنى: نا أبو بكر ابن أبي شيبة، نا ابن نمير وأبو أسامة، قالا: نا عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر: أن العباس استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له. هكذا إسناده عند ابن ماهان، وكذا رواه الكسائى عن ابن سفيان، وكذا خرّجه(2) ابن أبي شيبة في "مسنده"، ووقع عند أبي أحمد الجلودي: ثنا ابن أبي شيبة، ثنا زهير وأبو أسامة جعل زهيرا بدل ابن نمير وهو وهم.
قال القاضي: المبيت بمنى أيامها من سنن الحج، إلا لذوي السقاية كالعباس، أو للرعاة ومن تعجل بالنفر. وعند مالك: على تارك ذلك الدم في ليلة أو في جميعها، ووافقه الشافعي في ترك الجميع، ورأى في تركه في ليلة صدقة درهما، وفي ليلتين درهمين، وقال مرة: يطعم مسكينًا، ونحوه لأحمد، وقال أصحاب الرأي: لاشيء على تارك ذلك وقد أساء، وروي عن ابن عباس والحسن مثله، قال مالك: وأما تارك المبيت بها ليلة عرفة فلا شيء عليه.
__________
(1) في (ط):" وما تحملوه ".
(2) في (أ):" أخرجه ".(5/203)
وفيه أن هذه السقاية ولاية لبنى العباس ومن حقوقهم، ومما أقر الإسلام من سيرة الجاهلية وشرب النبي - صلى الله عليه وسلم - من نبيذهم، فيه جواز سقيهم هناك النبيذ وغيره.
وفيه حجة لمن قال: إن صدقة آل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين لا تحل لهم الصدقة حلال بعضهم لبعض، وقد يحتج من يمنع هذا بجواز أكلهم صدقة التطوع، وإنما يحرم عليهم صدقة الفرض. وقد يقال: إن هذا ليس من الصدقة، وإنما خرج مخرج البر والضيافة والمعروف وهو الظاهر.
وفيه أن ماوضع من الماء في المساجد والطرق فشربه الأغنياء جائز ؛ لأنه إنما وضع للكافة ولم يخص به الفقراء(1). قال مالك: ولم يزل ذلك من أمر الناس.
وفيه النهي عن التقزز لشرب النبي - صلى الله عليه وسلم - لنبيذهم(2)، وقد قالوا له: إنهم يجعلون فيه أيديهم،ولم يجبهم إلى ماذهبوا إليه من تخصيصه بشراب غيره كما جاء في الحديث.
وفيه فضل السقي، لاسيما للحاج وأبناء السبيل، وأمره - عليه السلام - بالصدقة بلحوم بدنة وجلالها وجلودها، وألا يعطى الجزار منها شيئًا. سميت البدنة بدنة؟ لعظم جسمها،ومنه بدن الرجل: كثر لحمه. واختلف العلماء في بيع جلود الهدايا واستئجار جازرها بشىء منها، فذهب(3) مالك: أن ذلك كله لايجوز،وهو قول أبي حنيفة وابن حنبل في إعطاء الجازر منها، وأجاز ذلك الحسن، وقال إسحاق وأحمد: لاباس ببيع الجلد والصدقة بثمنه، وأجاز عطاء بيعه من هدي التطوع والانتفاع بثمنه إن كان تطوعًا، ورخص أبو ثور في بيعه، وأباح النخعي والحكم شراء مثل المنخل.
__________
(1) في (ط):" يخص الفقراء ".
(2) في (ط):" من نبيذهم ".
(3) في (ط):" فمذهب ".(5/204)
وقوله:" وجلالها "، فيه دليل أن النبي - عليه السلام - جلل بدنه. والتجليل عند العلماء يختص بالإبل دون البقر وغيرها، وتحليل البدن مما مضى به عمل السلف، ورآه أئمة العلماء مالك والشافعي وأبو ثور وإسحاق،وذلك بعد إشعارها لئلا تلتطخ بالدم، وهي على قدر سعة حال الْمُهدى ولأنها تطوع غيره لازم ولايحدد، قال ابن حبيب: منهم من كان يجلل الوشى، ومنهم من يجلل الحبر والقباطي والملاحف والأزر، قال مالك: وتشق على الأسنمة إن كانت قليلة الثمن لئلا تسقط، وماعلمت من ترك ذلك إلا ابن عمر استبقاء للثياب ؛ لأنه كان يحلل الجلال المرتفعة من الأنماط والبرود والحبر(1)، وكان لا يجلل حتى يغدوا من منى، وروي عنه أنه كان يحلل من ذي الحليفة، وكان يعقد أطراف الجلال على أذنابها، فإذا مشى ليلة نزعها، فإذا كان يوم عرفة جللها، فإذا كان عند النحر(2) نزعها لئلا يصيبها الدم. قال مالك: أما الجلال فتنزع ليلاً لئلا يخرقها الشوك، قال: وأحب إلي إن كانت الجلال مرتفعة أن يترك شقها، ولايجللها حتى يغدو إلى عرفة ولو كانت بالثمن اليسير، فمن حين يحرم يشق ويجلّل، وهذا في الإبل دون البقر والغنم(3).
قال القاضي: وفي شقها على الأسنمة فائدة أخرى ليظهر الإشعار ولا يستتر تحتها، وجاء في هذا الحديث الصدقة بها وحكمها حكم الهدي. وقد كان ابن عمر يكسوها الكعبة، ثم تصدق بها بعد ذلك لما كسيت الكعبة.
وفي أمره - عليه السلام - لعلى بالقيام على بُدْنِه(4) وتولى أمرها، جواز الاستنابة في قسمتها وفي الصدقة بها، وجائز أن يتولى ذلك بنفسه ويتركها للناس، كما قال في الحديث الآخر:" وخلّ بين الناس وبينها "، قال بعضهم: وفيه جواز الاستنابة في نحرها.
__________
(1) في (أ):" الحبرة ".
(2) في (أ):" المنحر ".
(3) في (ط):" الإبل والقر دون الغنم ".
(4) في (ط):" بدنة ".(5/205)
قال القاضي: ليس في هذا الحديث دليل ؛ إذ قد جاء مفسرًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نحر بُدْنَهُ بيده، وولي الباقى عليًّا، وظاهره أن عليًّا إنما تولّى ما جعله النبي - عليه السلام - له وسوّغه أن يهديه، وقد تقدم في حديث جابر الكلام على هذا.
وقوله: " نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة، وفي الآخر:" خرجنا مهلّين بالحج، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة "، قال الإمام: يحتج بهذا الحديث من أجاز الاشتراك في الهدي، ومالك يمنعه في الهدي الواجب، وعندنا في هدي التطوع قولان، والشافعي يجيزه في الواجب، وإن كان بعضهم يريد اللحم وبعضهم يريد الفدية، وأبو حنيفة يجيزه إذا أراد جميعهم الفدية، ويمنعه إذا أراد أحدهم اللحم وأصحابنا يحملون قوله:" فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك(1) في الإبل والبقر "، على أنه هدي تطوع به، ولم يكن هديًا واجبًا، ومن منع من أصحابنا الاشتراك في هدي التطوع يحمله على أن الثمن من عند رجل واحد، وإنما قصد أن يشركهم في أجره.
__________
(1) في (ط):" يشترك ".(5/206)
واحتج أصحابنا أن الواجب على مقتضي ظاهر القرآن هدي كامل لقوله تعالى:{ فما استيسر من الهدي }، والجماعة إذا اشتركوا(1) لم يتقرب كل واحد منهم إلا ببعض هدي، ولأن المعيب من الهدايا لا يجزئ لنقصه، مع كون مهديه أراق دمًا كاملاً، فمريق بعض الدم أحرى ألا(2) يجزيه، وأما ماذكره من(3) نحرهم في الحديبية فيحمل على أنه هدي تطوع، لأن المحصر بعدو إذا حل هل عليه هدي أم لا ؟ ففيه قولان، والمشهور أن لا هدي عليه. وقد احتج من أوجب الهدي بقول الله تعالى:{ فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } وحمله على حصر العدو، واستدل بقوله بعد ذلك:{ فإذا أمنتم }، وبقوله:{ فمن كان منكم مريضًا }، وظاهره أن المذكور الأول ليس بمرض.
واختلف الناس الموجبون للهدى على المحصر بظاهر هذه الآية هل ينحره بمكانه لأنهم نحروا بالحديبية الهدايا، أم لا ينحر إلا بمكة ؛ لقوله تعالى(4):{ ثم محلّها إلى البيت العتيق }. واختلفوا أيضًا إذا صده العدو عن حج تطوع فحل، هل عليه القضاء أم لا ؟ فعندنا: لاقضاء عليه، وعند أبي حنيفة: عليه القضاء، ولو صده عن حج الفريضة فلا يسقط عنه حجة الفريضة لأجل الصد، وعليه إذا حل أن يأتي بها، وقال ابن الماجشون من أصحاب مالك: إذا صد بعد أن أحرم لحجة الفريضة وحل سقط عنه الفرض، وحكى الداودي في كتاب النصيحة عن أبي بكر النعالي: أن(5) الفرض يسقط عنه إذا أراد الحج وصده العدو وإن لم يحرم، وأظن أنه حكاه عن رجل آخر من أصحابنا، وكان بعض أصحابنا يستبشع هذا القول.
__________
(1) في (ط):" أشركوا ".
(2) في (ط):" لا ".
(3) في (أ):" في ".
(4) في (أ):" لقوله تعالى هذه الآية ".
(5) قوله:" أن " ليس في (أ).(5/207)
قال القاضي: الذي قرأته في كتاب النصيحة لأبي جعفر الداودي- رحمه الله - ما هذا نصه: أن من صد - يعني بعد إحرامه - لم يسقط عنه حج الفريضة، وقال أبو مصعب: يجزئ من حج الفريضة، وزاد ابن(1) القرظي: أنه إذا صد أجزأه من حج الفريضة وإن لم يكن أحرم، وهذا تعبد في النظر. انقضى قوله. ولم أره نسب القول إلى النعالي ولا إلى غيره سوى ابن شعبان، والنعالى(2) هو أبو بكر تلميذ ابن شعبان، وفقيه مصر في وقته.
قال الإمام: وأما إن صده المرض ومنعه من الوصول إلى البيت، فإنه لايحل عندنا إلا بوصوله إلى البيت. فاذا وصل إليه وقد فاته الحج حل بعمرة، وكان عليه القضاء(3)، وقال أبو حنيفة: المرض يبيح له التحلل كالعدو، لقوله - عليه السلام -: " من كسر أو عرج فقد حل، وحكى عن الفراء أنه يقال: أحصره المرض والعدو، ولا يقال: حصره إلا في العدو خاصة، وحكى صاحب الأفعال: أحصره المرض والعدو، معناه من السير، وحصرت القوم: ضيقت عليهم، وحصرت الرجل وأحصرته: حبسته. وقال ابن بكير: الإحصار: إحصار المرض، والحصر: حصر العدو، قال: وروى عن ابن عباس أنه قال: " لاحصر إلا حصر العدو "، فأعلم أن الحصر يكون بالعدو، فإن حملت الآية على المرض فلا بد من إضمار "فحللتم "؛ إذ لا يلزم الهدي بنفس المرض، وإذا افتقرت الآية إلى إضمار فليس لأبي حنيفة أن يضمر " فحللتم " إلا ولنا أن نضمر " ففاتكم الحج فحللتم بعمرة، وهكذا قوله - عليه السلام -:"من كسر أو عرج فقد حل "، محمله عندنا على أنه يحل بوصوله إلى البيت واعتماره، إذ ظاهره أن يحل بنفس الكسر والعرج، وهذا لا يصح، ولابد من حمله على تأويل يصح. وللشافعيه القائلين بأن الاشتراط في الحج يصح - على ماتقدم بيانه - أن يحملوا الحديث على أنه اشترط الإحلال بالكسر والعرج.
__________
(1) في (ط):" أن ".
(2) في (ط):" أبي شعبان والتعالى ".
(3) في (أ):" للقضاء ".(5/208)
قال القاضي: أما حديث الحديبية فلا حجة فيه للمخالف بتةً، ممن يجيز الاشتراك في الواجب، وهم كافة العلماء إلا مالكًا ؛ لأنهم لم يجب عليهم شيء. قال مالك:وإنما اشتركوا يوم الحديبية لأنه كان تطوعًا، وإن قال قائل: فلعل هذا الدم هو الواجب على المحصر في أحد القولين فالجواب أن منهم من لايرى عليه دمًا، والشافعي وأبو حنيفة اللذان يريانه، وهم معهم لايوجبون الاشتراك في الواجب إلا في دم المتعة، وأيضا فإن هذا بالحديبية، قد كانت - على ماجاء في الاخبار - معهم قبل الحصر مشعرة "مقلدة"، وتلك لاتجزئ عن هدي يجب بعد، ولم يرو أنهم استأنفوا هدايًا فيقال: إنها للحصر، وهذه الحجة لأحد القولين والصحيح منها والمشهور. ولعل هذه الهدايا - كما تأولها بعضهم - إنما دفعها لهم النبي - عليه السلام - وشركهم فيها كما ضحى عن أمته، ولايجوز عند من يرى(1) الاشتراك إلا في الإبل والبقر ولا يجوز عندهم الزيادة على سبعة وتجوز لأقل من سبعة، وأما الشاة فلا يجوز(2) الاشتراك فيها عند الجميع.
وقوله: " أيشترك في البدنة(3) مايشترك في الجزور، قال: ماهى إلا من البدن، الجزور لا(4) يكون إلا من الإبل، والجزرة من الغنم، والبدنة الناقة التي تهدى إلى مكة، قيل سميت بذلك لعظم بدنها وسمنها. يقال: بدن الرجل والمرأة بضم الدال: إذا كثرت لحومهما. والهدى والهدية: ما يهدى إلى مكة من البدن، سميت بذلك لذلك، وفرق هنا بين الجزور والبدنة، والله أعلم ؛ لأن البدن والهدى: ما ابتدئ هديه عند الإحرام، والجزور: ما اشترى بعد ذلك لينحر فكانه ظهر للسائل أن شأن هذا أخف في الاشتراك مما(5) أهدى من البدن، فقال له: إن الجزور لما اشتريت للنسك كان(6) حكمها كالبدن.
__________
(1) في (أ):" رأى ".
(2) في (أ):" تجزئ ".
(3) في (ط):" الهدية ".
(4) في (ط):" ولا ".
(5) في (أ):" ما ".
(6) في (ط):" جاز ".(5/209)
وقوله: " فأمرنا حين أحللنا أن نهدى ويجتمع النفر منا في الهدي، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم: حجة لوجوب الهدي على المتمتع، كما قال الله تعالى:{ فما استيسر من الهدي }؛ لأن هؤلاء صاروا بإهلالهم(1) في أشهر الحج وانتظارهم الحج متمتعين، وقد تقدم الكلام عليها أول الباب(2). ويحتج به من يجيز الاشتراك في الهدي الواجب، ومن يجيز تقليد هدي التمتع(3) عند التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج، وهي إحدى الروايتين عندنا، والآخرى(4): لاتجزئ إلا بعد الإحرام ؛ لأنه حينئذ صار متمتعًا ووجب عليه الدم، والقول الأول على أصل تقديم الكفارة قبل الحنث، أو تقديم الزكاة قبل الحول على من يقول بها، وقد تفرق بين هذه الأصول ؛ إذ ظاهر الحديث يدل على ما قلناه ؛ لقوله:" إذا أحللنا أن نهدي "، ولأنه المفهوم أنه لأجل التمتع ؛ لقوله في الرواية الأخرى: " كنا نتمتع بالعمرة فنذبح البقرة عن سبعة.
وقوله:" ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة بقرة يوم النحر "، يؤيد أحد التأويلات(5) المتقدمة قبل في قوله في بعض الروايات:" ذبح عن نسائه(6) بقرة"، أي: عن كل واحدة والله أعلم. وفي قوله نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه، وفي الأخرى: " ذبح " حجة في أن البقر تنحر وتذبح أيضًا، وأن الوجهين فيهما(7) جائزان.
ونهى ابن عمر عن نحر البدن باركة، وقال:" ابعثها قيامًا مقيدة تلك سنة نبيكم، هو قول كافة العلماء وبه(8) فسر قوله تعالى:{ فاذكروا اسم الله عليها صواف }، إلا أبا حنيفة والثوري فأجازا نحرها باركة وقيامًا، وشذ عطاء فخالف واستحب نحرها باركة معقولة.
__________
(1) في (ط):" بإحلالهم ".
(2) في (ط):" الكتاب ".
(3) قوله:" التمتع " ليس في (ط).
(4) في (أ):" وللأخرى ".
(5) في (أ):" التأويلان ".
(6) في (ط):" عائشة ".
(7) في (أ):" فيها ".
(8) في (أ):" أوبه ".(5/210)
قول(1) عائشة:" لقد رأيتني أفتل القلادة لهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغنم"، الحديث، قال الإمام: فيه دلالة على تقليد الغنم، وهو مذهب ابن حبيب من أصحابنا والشافعي، والمشهور عندنا أنها لا تقلد. وفيه دلاله على رد قول من يقول: إن من قلد هديا وبعث به حرم عليه ما يحرم على الحاج وإن لم يحرم.
قال القاضي: المعروف أن النبي - عليه السلام - إنما أهدى البدن، لكن هديه الغنم إنما كان مرة كما قالت في حديث الأسود عنها ولم يات ذكر الغنم إلا في رواية الأسود عنها، وقد جاء في بعض الروايات عنه(2) ذكر الهدي ولم يذكر الغنم، وأكثر الروايات:"بدنة"، وفي بعضها:"وأشعرها وقلدها "، وفي بعضها:" فلم يحرم عليه شيء حتى نحر الهدي "، وإنما تشعر وتنحر البدن، وقد تأول بعضهم قول الأسود عنها:" أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغنم "، أي: من صوف الغنم،كما قالت في الرواية الأخرى:"من عهن"، لكن قوله في بعض روايات حديث الأسود:" كنا نقلد الشاة(3)" يدفع هذا التأويل إن صحت هذه اللفظة، لكن الاختلاف(4) في إثباتها عن الأسود مع انفراده بها ومخالفته سائر الرواة عن عائشة يضعفها، وقد قدمنا الكلام في الإشعار والتقليد وفي قولها:" ثم أشعرها وقلدها، وبعث بها إلى البيت وأقام"، دليل على ما قدمناه ؟ أن من بعث بهديه ولم يخرج بنفسه حاجًّا ولا معتمرًا، أنه يفعل ذلك من موضعه، بخلاف من خرج فيفعله من ميقاته، وأنه لا يكون حرامًا بتقليده واشعاره حتى ينوي الحج، وهو قول كافة العلماء والسلف وفقهاء الأمصار، وإنما فيه خلاف عن ابن عباس وابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير، وحكاه الخطابي عن أصحاب الرأي، وأنه إذا اشعر أو قلد فقد لزمه الإحرام. واختلف هؤلاء: هل التجليل كالتقليد والإشعار أم لا ؟ وقولها:" من عهن": هو الصوف، قال
__________
(1) في (أ):" وقول ".
(2) في (ط):" عند ".
(3) في (أ):" الشا ".
(4) في (أ):" للاختلاف ".(5/211)
الله تعالى:{ كالعهن المنفوش }، قال الخليل - رحمه الله -: هو الصوف المصبوغ ألوانًا. وقيل(1): كل صوف عهن.
قال الإمام: خرّج مسلم في هذا الباب: نا إسحاق بن منصور، نا عبدالصمد قال(2): نا أبي، حدثني محمد بن جحادة، كذا هذا الإسناد عند ابن ماهان والرازي والكسائي، ووقع في بعض النسخ المروية عن الجلودي: نا إسحاق، نا عبد الصمد، نا محمد بن جحادة. فسقط من الإسناد ذكر والد عبد الصمد الراوي، عن محمد بن جحادة، وهو خطأ، واسم والد عبدالصمد: عبد الوارث بن سعيد العنبري، تميمي مولاهم البصري(3)، يكنى أبا عبيدة.
وخرَّج مسلم في هذا الباب أيضًا بإثر هذا الحديث: نا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبدالرحمن، أنها أخبرته أن ابن زياد كتب إلى عائشة: أن ابن عباس قال: من أهدى هديا... الحديث، كذا روى في كتاب مسلم من جميع الطرق، والمحفوظ فيه:" أن زياد بن أبي سفيان "، وكذا وقع في جميع الموطأت:" أن زيادًا كتب ".
قال القاضي: وكذا خرَّجه البخاري على الصواب.
وقوله - عليه السلام - للذي رآه يسوق بدنة:« اركبها »، قال: إنها بدنة قال: «اركبها، ويلك »، في الثانية، أو الثالثة، وفي رواية:« ويلك، اركبها »، قال الإمام: يتعلق بإطلاقه من يجيز ركوب البدن من غير حاجة، ويتعلق أيضًا بقوله تعالى:{ لكم فيها منافع إلى أجل مسمّى }، ولا تركب(4) عند مالك إلا للضرورة ؟ لقوله بعد هذا من طريق جابر:« اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها، حتى تجد ظهرًا »، وهذا حديث مقيد يقضي على الحديث المطلق، مع أنه شيء خرج لله فلا يرجع فيه، ولو استبيحت المنافع من غير ضرورة لجاز استئجارها، ولا خلاف في منع ذلك.
__________
(1) في (ط):" وقال ".
(2) قوله:" قال " ليس في (أ).
(3) في (أ):" النصري ".
(4) في (ط):" يركب ".(5/212)
قال القاضي: ذهب أحمد وإسحاق، وأهل الظاهر إلى جواز ذلك ؟ أخذًا بظاهر الحديث، ولقوله:{ والبدن جعلناها لكم من شعائر الله }، وقد روى ابن نافع عن مالك: لا باس أن يركب الرجل بدنته ركوبا غير قادح، وأوجب ركوبها بعضهم لمطلق الأمر به، وقد علل بعضهم جواز ذلك لمخالفة ما كانت عليه الجاهلية في البحيرة والوصيلة والسائبة والحامي من الحرج من الإنتقاع بها واحتجوا أيضًا بقوله تعالى:{ لكم فيها منافع إلى أجل مسمى } الآية، والعلة التي في الحديث تقضى عليهم لجمهور العلماء، لاسيما وقد ورد في غير كتاب مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنة وقد جهد، فقال: « اركبها »، وفيه حجة لأحد قولي مالك أنه إذا احتاج إليها فركب واستراح نزل. قال إسماعيل القاضي: وهو الذي يدل عليه مذهب مالك، وهذا خلاف ما ذكره ابن القاسم أنه لا يلزمه النزول، وحجته إباحة النبي - صلى الله عليه وسلم - له الركوب، فجاز له استصحابه، وقال أبو حنيفة والشافعي: إن نقصها(1) هذا الركوب المباح له فعليه قيمة ذلك ويتصدق به.
وقيل: في قوله:« ويلك ! اركبها »، تأديب من راجع العالم في فتواه بغليظ الكلام.
قال القاضي: وعلى رواية تقديم " ويلك " لا يتفق هذا، وهو لفظ يستعمل لمن وقع في هلكة، وهذا يدل على ما جاء في الحديث أنه رآه قد جهد، وقد يستعمل ولا يراد بها هذا، وهي من الكلمات التي تدعم بها العرب كلامها، كقولهم: لا أم له، ولا أب له، وتربت يداه، وشبهه، وقد قال - عليه السلام - لأبي بصير:« ويل أمه، مِسْعر حرب »، وقد تقدم من هذا المعنى في كتاب الطهارة(2)، وقد قيل: إن:" ويلك " هنا قد تكون إغراءً بما أمره به من ركوبها إذ راه قد تحرج منه.
__________
(1) في (أ) تشبه:" نقضها ".
(2) بعده في (ط) كلمة تشبه أن تكون:" شقًا ".(5/213)
وذكر مسلم في الباب حديث ابن أبي شيبة: ثنا وكيع عن مسعر... الحديث، ثم قال: نا أبو كريب، نا ابن بشر، عن مسعر. كذا عند السمرقندي، وكذا في كتاب ابن أبي جعفر عن الطبري وغيره، ووقع في كتاب العذري(1): نا " أبو بكر " مكان(2)" أبي كريب ". وقوله في حديث عمرو الناقد: أنا حميد، عن ثابت، عن أنس، قال: وأظنني قد سمعته من أنس. قال هذا الظان: إنه سمعه من أنس، هو حميد، حقق سماعه من ثابت عن أنس، وشك في سماعه من أنس.
قوله(3): "فازحفت(4) عليه ": بفتح الهمزة، يعني البدنة،" فعيى(5) بشأنها إن(6) هي أبدعت "بضم الهمزة وكسر الدال، قال الإمام: أبدع بمعنى كل وحسر، وأبدع الرجل: كلت ركابه أو عطبت، قاله صاحب الأفعال.
قال القاضي: كذا رويناه:" أزحفت(7)" رباعي بفتح الهمزة، قال الخطابي: كذا يقوله المحدثون، وصوابه والأجود:" فازحفت(1)" بضم الألف، يقال: زحف البعير: إذا قام من الإعياء، وأزحفه السفر، وقال أبو عبيد الهروي(8): أزحف البعير، وأزحفه السير. وقال الهروي في تفسير قوله:" أبدع بي"، أي: طلعت ركابي، يقال للرجل - إذا كلت ركابه أو عطبت وبقي منقطعًا به -: أبدع به. وقال أبو عبيد: قال بعض الأعراب: لا يكون الإبداع إلا بظلع.
قال القاضي: ما في هذا الحديث يدل أن المراد به هنا العطب والوقوف بالكلية، ألا تراه قال:" أزحفت عليه فعيى بشأنها إن هي أبدعت "، أي: لما كلت خشي أن تعطب أو تقف به، فكلامه يدل أن الإبداع أشد من الإزحاف على من كسر همزة " إن " في قوله:" إن هي أبدعت "، وضبطه بعض شيوخنا بالفتح، أي: من أجل عطبها، فعلى هذا يأتى ماتقدم للهروي وغيره.
__________
(1) في (ط):" العبدري ".
(2) قوله:" أبو بكر مكان " ليس في (ط).
(3) في (أ):" وقوله ".
(4) في (ط):" فأرجفت ".
(5) في (ط):" فعني ".
(6) في (ط):" أي ".
(7) في (ط):" أرجفت ".
(8) في (ط):" الهوي ".(5/214)
قال الإمام: وقوله:" لأستَحْفِين عن ذلك "، معناه: لأكثرن السؤال، يقال: أحفى في السؤال وفي العناية، أي: استبلغ.
قال القاضي: وقوله: كيف أصنع بما أبدع على منها ؟ قال:« انحرها، ثم اصبغ نعليها في دمها، ثم اجعله على صفحتها، أي: جانبها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل(1) رفقتك »، صفحتها: أي: جانبها (2).
قال الإمام: أمره أن يصبغ قلائدها ليشعر من يراها أنها هدي فيستبيحها على الوجه الذي ينبغي، وقيل: معناه، أي: لا ينتفع منها بشيء ولا بقلائدها ليمسكها يقلد به غيرها. والتأويلان مرويان عن مالك -رحمه الله-. وقال بعض العلماء: إنما نهاه أن يأكلان منها هو وأهل رفقته حماية للذريعة أن يتساهل في نحرها قبل أوانه.
قال القاضي: أخذ بظاهر هذا الحديث - من رأى(3) أنه لا يأكل مما عطب من الهدي التطوع(4) صاحبه أو سائقه ولا رفقته - ابن عباس، وقال به ابن المنذر، وقال مالك وجمهور العلماء: يخلي بين الناس وبينها يأكلونها، ولا يأكل هو منها شيئًا، وروي عن عائشة إباحة الأكل له منها، فإن أكل ضمنه عند مالك وغيره، وفي اقتصار النبي - عليه السلام - على هذا، وأنه لم يلزم فيه بدلاً، ولا أمر به، حجة للجمهور من العلماء أنه لا بدل عليه فيما عطب من التطرع، وإنما يضمن الواجب المتعلق بذمته، وله الأكل منه والإطعام للأغنياء وغيرهم عند مالك وجمهور العلماء. واختلفوا هل له بيعه ؟ فمنعه مالك، وأجازه الآخرون وعبد الملك من أصحابه.
__________
(1) قوله:" أهل " ليس في (ط).
(2) قوله:" أي جانبها " ليس في (ط).
(3) قوله:" رأى " مثبت من نسخة (ك).
(4) في (ط):" المتطوع ".(5/215)
وأما إذا بلغ الهدي محله فاختلف العلماء فيما يأكل منه صاحبه، فمشهور مذهب مالك(1) أنه لا يأكل من ثلاث من جزاء الصيد ونذر المساكين وفدية الأذى، ويأكل ما(2) سوى ذلك إذا بلغ محله، واجبًا كان أو تطوعًا، ووافقه على ذلك جماعة من السلف وفقهاء الأمصار. واختلف المذهب إذا أكل، هل يغرم جميعه أو قدر ما أكل منه، وروي عن الحسن أنه يأكل من جزاء الصيد والفدية، وقد روى عن مالك: إن فعل فيهما فلا شيء عليه، وقال الشافعي وأبو ثور: ما كان أصله واجبًا فلا يأكل منه، وما كان تطوعًا أو نسكًا(3) أكل منه وأهدى وادخر وتصدق، والمتعة والقران عنده نسك، ونحوه مذهب الأوزاعي. وقال أبو حنيفة وأصحاب الرأي: يؤكل من هدي القران والمتعة والتطوع، ولا يؤكل مما سوى ذلك. وحكي عن مالك أنه لا يأكل من دم الفساد، وعلى قياس هذا لا يأكل من دم الخبر ؛ كقول الشافعي والأوزاعي.
وقوله (4):« لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده البيت »، قال الإمام: في هذا الحديث إثبات طواف الوداع، وعندنا أنه مستحب ولا دم فيه، وعند الشافعي: أن على تاركه الدم، وعند أبي حنيفة: أنه واجب، ويحتج بما في هذا الحديث. ولنا عليه قوله في حديث صفية لما أخبر - عليه السلام - أنها حاضت، فقال:« أحابستنا هي؟ » ثم أخبر أنها أفاضت، فقال:« فلا إذًا»، فلو كان طواف الوداع واجبًا لاحتبس من أجله، كما يحتبس من طواف الإفاضة.
__________
(1) قوله:" مالك " ليس في (أ).
(2) في (أ):" من ".
(3) في (ط):" تطوعًا ونسكًا ".
(4) في (ط):" قوله " بدون واو.(5/216)
قال القاضي: طواف الوداع هو(1) لازم عندنا لكل حاج ومعتمر غير المكي من الصغار والكبار والذكور والإناث والأحرار والعبيد، وكل من أخذ في الرجوع إلى وطنه وإن قرب، وأما من خرج إلى العمرة فإن خرج إلى الجعرانة والتنعيم(2) لم يلزمه عندنا وعند الشافعي، ويلزمه عند الثوري، وعليه دم إن تركه، وهو مذهبه ومذهب أبي حنيفة في تارك طواف الوداع. واختلف قول الشافعي في وجوب الدم عليه وحكمه الاتصال بالخروج وقد مضى الكلام على المتواني بعده. واختلف أصحابنا إن خرج إلى المواقيت(3)، واختلف قول الشافعي في وجوب الدم على تاركه ولا دم عليه عندنا.
وقوله:" إلا أنه خفف عن المرأة الحائض "، حجة في أن الحائض إذا كانت طافت طواف الإفاضة ؟ أنه يجزئها من طواف الوداع، وهو مفسر في حديث الأنصارية بعده، وفي حديث صفية، وعلى هذا جماعة الفقهاء إلا خلافًا روى عن بعض السلف: أنها لا تنفر حتى تودع، وكذلك أخر طواف الإفاضة إلى أيام منى، فإنه يجزئه إذا طافه أن يصدر به، وكذلك لو كان خروجه بإثر طواف(4) تطوع أو لحج أو عمرة أجزأه عن الوداع.
وقوله:" إمّا لا فسل فلانة "، كذا عندهم وعند الطبري:" إما لي" بكسر اللام، وكذلك قرأته بخط الأصيلي في كتاب البخاري، والمعروف في كلام العرب فتح اللام، إلا أن يكون على لغة من يميل، فالله أعلم.
قال الإمام: قال ابن الأنباري: قولهم:" افعل هذا إمّا لا "، معناه: افعل كذا وكذا إن كنت لا تفعل غيره، فدخلت " ما " فاصلة(5) ؛ لأن كما قال تعالى: {فإمّا ترين من البشر أحدًا }، فالنفي بـ" لا "، من الفعل، كما تقول العرب: من يسلم عليك فسلم عليه، وإلا فلا.
__________
(1) في (ط):" وهو ".
(2) في (ط):" والتناعم ".
(3) من قوله:" فتلف قول الشافعي...." إلى هنا ليس في (ط).
(4) في (أ):" طوافه ".
(5) في (أ) و(ط):" ما صلة ".(5/217)
قال القاضي (1): وقوله في حديث صفية:« أحابستنا هي »، و« عقري حلقى »، و« طمثت »،: تقدم الكلام عليه غريبًا ومعنىً وفقهًا، ويستفاد من قوله:« أحابستنا هي »، أن الكريَّ تحبس عليها إذا لم تطف طواف الإفاضة - كما قال مالك - حتى تطهر أو تمضي أيامها أو أقصى ما تمسك النساء الدم والاستطهار، على اختلاف قوله في هذا الأصل. وقال الشافعي: لا تحبس عليها كرى ولتكر جملها، أو تحمل مكانها غيرها، وهذا كله في الأمن ووجود المحرم، وأما مع خوف الطرق أو عدم ذي(2) المحرم فلا يحبس(3) باتفاق ؛ إذ لا يمكن أن يسير بها وحده، ويفسخ الكرى ولا تحبس عليها الرفقة، إلا أن يبقى لطهرها(4) كاليوم(5) واليومين، قاله مالك.
وقوله:" إنها قد زارت يوم النحر "، يحتج به أهل العراق في تسميتهم طواف الإفاضة طواف الزيارة، وكره هذا مالك. قيل في توجيه كراهيته وكراهيه من كره(6) ذلك أقوال، أشدها ترك تسمية ما سماه الله به من الإفاضة والعدول عنه إلى غيره كما نهى النبي - عليه السلام - عن تسمية العشاء العتمة ؛ لقول الله تعالى:{ ومن(7) بعد صلاة العشاء }، وقد قال الله تعالى:{ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس }.
ذكر مسلم في هذا الباب: نا الحكم بن موسى، نا يحيى بن حمزة، عن الأوزاعي، لعله قال: عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم التيمي كذا لهم، وسقط قوله:" لعله قال: عن يحيى بن أبي كثير "، عند الطبري، وسقط " لعله قال " فقط لابن الحذاء، وأرى أن الاسم كله كان سقط من كتب بعضهم، أو شك فيه فالحقه على المحفوظ الصواب، ونبه على الجائز بقوله:" لعله ".
__________
(1) قوله:" قال القاضي " ليس في (ط).
(2) قوله:" ذي " ليس في (أ).
(3) في (أ):" يحتبس ".
(4) في (ط):" لظهرها ".
(5) في (أ):" اليوم ".
(6) في (ط):" كرهه ".
(7) في (أ):" من ".(5/218)
وقوله:" دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت ومعه أسامة وبلال وعثمان بن طلحة، وذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى فيها.
قال الإمام: مالك يقول: لا يصلى في الكعبة الفريضة، ويجوز أن تصلى(1) فيها النافلة. والحجة للمنع قول الله تعالى:{ فولّوا وجوهكم شطره}، وهذا لمن يكون خارجًا من البيت ممن يمكنه استقبال البيت واستدباره(2)، ومن كان فيه فلابد أن يكون مستقبلاً ناحية ما. قال بعض الشيوخ: إنما منع مالك صلاة الفريضة فيه على وجه الكراهية(3)، فمن صلى فيه الفريضة أعاد في الوقت ؛ لأنه إنما ترك سنة، وقد ذكر في الآية التولية إلى المسجد، ولو صلى الفرض في المسجد لأجزأه باتفاق.
قال القاضي: اختلف العلماء في الصلاة في الكعبة، فقال مالك: لا يصلى فيها الفرض،?ولا الوتر، ولا ركعتا الفجر، ولا ركعتا الطواف، ويصلي فيها التطوع. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: يصلى فيها كل شيء، وهو قول جماعة من السلف وبعض أهل الظاهر. وقال بعض الظاهرية: لا يصلى فيها نافلة ولا فريضة، ونحوه مذهب ابن عباس، وأصبغ من أصحابنا يجعل المصلى في البيت يعيد أبدًا. وقع في كتاب مسلم في حديث أبي الربيع الزهراني وقتيبة:" عثمان بن أبي طلحة "، من رواية العذري والسمرقندى ولغيرهما:" ابن طلحة "وكذا في سائر الأحاديث، وكلاهما صواب، هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، واسم أبي طلحة: عبد الله بن عبد العزى بن عثمان العبدري، وقيل له: الحجبى، بفتح الحاء والجيم ؛ لأنه حجب البيت، وكذلك يقال لجميعهم: الحجبيون لهذا.
__________
(1) في (أ):" يصلى ".
(2) في (ط):" واستدبارها ".
(3) في (أ):" الكراهة ".(5/219)
وقوله:" فاغلقها عليه "، وفي الرواية الأخرى:" وأمر بالباب فأغلق "، وفي الأخرى:" فأجاف عليهم الباب "، وهو بمعنى أغلق، يحتج به الشافعي، في مذهبه أنه إنما يصلى فيها إلى جدار من جدرها، وأن من صلى فيها إلى الباب وهو مفتوح فلا يجزئه ؛ لأنه لم يستقبل شيئًا منها(1)، وأن هذا فائدة أمره - عليه السلام - عنده بإغلاقها، ورد هذا أبو الحسن القصار وغيره عليه بأنه يجيز الصلاة في أرضها لو تهدمت لاستقباله بعض(2) أرضها، وكذلك من صلى إلى الباب ؛ على مذهبه يلزمه أن يجيزه لاستقباله بعض أرضها(3)، وقال غيره: إنما أمر بغلق(4) الباب لئلا يكثر عليه الناس، ويتأذى بزحامهم، ولئلا يصلوا بصلاته(5) فيها فتتخذ سنة ويخشى أن يفرض(6) عليهم، كما ترك قيام رمضان لذلك، ولو كان لايجوز الصلاة إليه مفتوحًا لبينه - عليه السلام - حين أمر بغلقه(7)؛ لأنه موضع بيان، وهذا كله يرد قول من قال في زيادة البخاري من جعله الباب وراء ظهره، إنما فعل ذلك لئلا يستدبر شيئًا من البيت ؛ لأنا إن قلنا بأن الأرض قبلة لم يلتفت إلى غيرها، وإن رأعينا جدارها، فالباب إذا أغلق كالجدار كما لو كانت جدرها كلها خشبًا، من جنس الباب. وفيه تولية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحجابة لهم، وإقرارها في أيديهم على ماكانت في الجاهلية، كما أقر السقاية لبني العباس من بين سائر مآثر الجاهلية، وقال:« كل مأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمي إلا سقاية الحاج وسدانة(8) البيت »، وقال لبني عبد الدار:« خذوها خالدة تالدة »، وقال العلماء: لا يجوز لأحد أن ينزعها منهم، قالوا: وهي ولاية من رسول الله - صلى الله عليه
__________
(1) في (أ):" منها شيئًا ".
(2) قوله:" بعض " ليس في (ط).
(3) من قوله:" وكذلك من صلى...." إلى هنا ليس في (أ).
(4) في (أ):" بإغلاق ".
(5) في (أ):" لصلاته ".
(6) الياء مهملة في (أ).
(7) في (أ):" بإغلاقه ".
(8) في (ط) يشبه أن تكون:" سداية ".(5/220)
وسلم -، وأعظم مالك أن يشرك غيرهم فيها معهم، واختلاف بلال وأسامة في هذه الأحاديث في صلاة النبي - عليه السلام - فيها، وقول بلال: إنه صلى بين العمودين، وقول أسامة: إنه دعا في نواحيه ولم يصل، حكم العلماء والأئمة بترجيح حديث بلال ؛ لأنه أثبت وضبط ما لم يضبط أسامة، وإنها الصلاة المعهودة لا الدعاء، ألا ترى ابن عمر كيف قال: "ونسيت أن أساله كم صلى(1)"، وقول عمر بن الخطاب في حديثه: " صلى ركعتين "، وقد اختلف فيه(2) على أسامة، فذكر مسلم في حديث حميد بن مسعدة: نا خالد -يعني ابن الحارث- نا عبد الله بن عون، وذكر الحديث - وفيه: "فدخلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وبلال وأسامة وأجاف عليهم عثمان بن طلحة "، وفيه: "فقلت: أين صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟"، فقالوا: هاهنا، ونسيت أن أسألهم كم صلى؟ فعلى هذا أن جميعهم قد أخبره بذلك، ولكن أهل الصنعة، وَهَّمُوا هذه الرواية، فقال أبو الحسن الدارقطني: وهم ابن عون هنا، وخالفه غيره فاسندوه عن بلال وحده.
__________
(1) قوله:" كم صلى " ليس في (أ).
(2) قوله:" فيه " ليس في (أ).(5/221)
قال القاضي: وهذا الذي ذكره مسلم من سائر الطرق:" فسألت بلالاً"، فقال: إلا إنه وقع عنده في حديث حرملة عن ابن وهب:" فأخبرني بلال - أو عثمان بن طلحة(1)-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في جوف الكعبة، كذا عند عامة شيوخنا، وفي بعض النسخ: " وعثمان بن أبي طلحة " وكذا كان في كتاب شيخنا الخشني، وهذه تعضد رواية ابن عون، والمشهور انفراد بلال بالحديث بذلك. قالوا: ولا تتهاتر رواية أسامة ومخالفته لبلال في قصة حضراها ؛ إذ قد يمكن أن يغيب أسامة عنهم بعد دخوله لحاجة أو أمرٍ فلم يشاهد صلاته، وكيف وقد روى ابن المنذر في ذلك حديثا عن أسامه قال: "رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - صورًا في الكعبة، فكنت آتيه بماء في الدلو يضرب به الصور "، فهذا قد ذكر أن أسامة خرج لنقل الماء، وهذا الحديث في يوم الفتح، وكذلك حديث الصلاة في الكعبة إنما كان يوم الفتح لا في حجة الوداع، ألا ترى كيف قال فيه في "الأم": " أقبل عام الفتح "، وفيه: طلب المفاتيح من عثمان وإباية أمُّه إعطاءها، إلى آخر الخبر، وهذا كله إنما كان في الفتح، وجاء في بعض الروايات:" المفتح "، وفي بعضها:" المفتاح "، وهما صحيحان.
وقوله: " جعل عمودين عن يساره وعمودًا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه"، ووقع في "الموطأ" عكس هذا:"جعل عمودين عن يمينه وعمودًا عن يساره "، وجاء في الرواية الأخرى:" أن صلاته كانت بين العمودين اليمانيين".
__________
(1) في (ط):" عثمان بن أبي طلحة ".(5/222)
وذكر مسلم في الباب: نا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد، جميعًا عن ابن(1) بكر، قال عبد: أنا محمد بن بكر، وذكر حديث ابن عباس عن أسامة، كذا عند شيوخنا، وفي بعض النسخ جميعًا:عن أبي بكر، قال عبد: أنا محمد بن بكر، والصواب الأول، وهو محمد بن بكر البرساني، يكنى بأبي عثمان، خرج عنه البخاري ومسلم عن ابن جريج، يروى عنه عبد بن حميد(2)، وأما حديث ابن أبي أوفى، وقوله حين سئل: أدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت في عمرته؟ فقال: لا، فهذا مما لم يختلف فيه أنه لم يدخل ولم يصل وهي عمرة القضاء. قيل: لما كان في البيت من الصور والأصنام ولم يكن المشركون يتركونه ليغيرها فلما فتح الله عليه وغيرها دخل البيت وصلى فيه.
وقوله - عليه السلام -:« لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت الكعبة، ولجعلتها على أساس إبراهيم »، وإن قريشًا حين بنت البيت استقصرت "، وفي الرواية الأخرى:" اقتصرتها "، وفي الأخرى:" قصروا في البناء "، وفي الأخرى: "إن قومك قصرت بهم النفقة "، فيكون معنى " استقصرت "، أي: قصرت عن تمام بنائها واقتصرت على هذا القدر، ومنها إذ قصرت بهم النفقة عن تمامها فتتفق الألفاظ كلها.
قال الإمام: أخبر - عليه السلام - أن قريشًا اقتصرت عن تمام البيت على قواعد إبراهيم، وهذا دليل على أن الحجر من البيت. وعند مالك والشافعي: أن من طاف داخل الحجر كمن لم يطف، وعند أبي حنيفة: يعيد إلا أن يرجع إلى بلده فعليه الدم.
__________
(1) في (ط):" أبي ".
(2) في (ط):" عبيد ".(5/223)
قال القاضي: قد جاء مبينًا في كتاب مسلم وغيره في هذا الحديث شأن الحجر، وأنه من البيت. عن عائشة قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجدر أمن البيت هو ؟ وفي الرواية الأخرى:" عن الحجر "، قال: نعم، قلت: "فلم لم يدخلوه(1)"، وفي الأخرى:" ولا دخلت فيها الحجر أو الجدر ": بفتح الجيم والدال المهملة الجدار. وذكر الخبر وهو قول كافة العلماء، وهم مجمعون أن الطواف من ورائه، وإنما اختلفوا فيمن صلى(2) فيه، هل يجزيه أم لا ؟ على ما تقدم، وجمهورهم على أنه لا يجزيه، وكمن لم يطف أو لم يتم طوافه، إلا أبا حنيفة كما تقدم.
وفي قول النبي - عليه السلام - هذا ترك بعض الأمور التي يستصوب عملها إذا خيف تولد ما هو أضر من تركه واستلاف الناس على الإيمان، وتمييز خير الشرين(3) وإن يسهل(4) على الناس أمرهم، ولا ينفروا ويتباعدوا من الأمور على ما ليس فيه تعطيل ركن من أركان شرعهم. وقد اقتدى بهذا مالك-رحمه الله- في هذه المسألة، فذكر أن الرشيد ذكر له أنه يريد هدم ما بني الحجاج من الكعبة ويردها على بنيان ابن الزبير لهذا الحديث الذي جاء وامتثله ابن الزبير، وقال له مالك: نشدتك الله يا أمير المؤمنين ! ألا تجعل(5) هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشأ أحد إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور(6) الناس، فرحم الله مالكًا (7).
__________
(1) في (ط):" تدخلوه ".
(2) في (أ):" طاف ".
(3) في (ط):" الذي ".
(4) في (ط) تشبه:" يمهل ".
(5) في (ط):" أن تجعل ".
(6) في (ط):" صدورهم ".
(7) قوله:" فرحم الله مالكًا " ليس في (ط).(5/224)
وقوله:" ولجعلت لها خلفًا، كذا هو بفتح الخاء وسكون اللام، ومعناه: بابًا من خلفها، وقد جاء مفسرًا في الحديث الآخر:« ولجعلت لها بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا »، وفي "البخاري": قال هشام بن عروة:" خلفًا" يعني بابًا، وفي الرواية الأخرى هنا:« أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه »، وقد رواه البخاري:« ولجعلت لها خلفين »، وقد ذكر الحربي هذا الحديث هكذا وضبطه:" خلفين "، بكسر الخاء، وقال: الخالفة عمود في مؤخر البيت، يقال: ورأيته خلف جيده(1)، وقاله الهروى:" خلفين " بفتح الخاء، وكذا ضبطناه على شيخنا أبي الحسين - رحمه الله - وذكر الهروي عن ابن الأعرابي: أن الخلف الظهر، وهذا يفسر أن المراد الباب بما فسرته(2) الأحاديث الأخر. وقول ابن عمر:" لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليس على طريق التضعيف والتشكك(3) في روايتها، فقد كانت من الحفظ والضبط بحيث لا يستراب(4) فيما تنقله، لكن كثيرًا ما يأتى في كلام العرب صور التقرير والتشكك والمراد به اليقين لقوله تعالى:{ وإن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاعٌ إلى حين }، وقوله:{ قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي } الاية(5).
وقوله: " ما أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك استلام الركنين اليمانيين(6) اللذين يليان الحجر الأسود(7)، إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم، أي(8) ليسا بركنين، وإنما هما بعض الجدار، فلذلك لم يستلمهما. وقد مر الكلام في هذا الفصل.
__________
(1) في (ط):" خلفة جيد ".
(2) في (ط):" فسر به ".
(3) في (ط):" التشكيك ".
(4) في (ط):" تستراب ".
(5) قوله:" الآية " ليس في (ط).
(6) قوله:" اليمانيين " ليس في (أ).
(7) قوله:" الأسود " ليس في (أ).
(8) قوله:" أي " ليس في (أ).(5/225)
وقوله:" لما احترق البيت زمان يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم، يريد أن يجرئهم(1) على أهل الشام أو يحزبهم(2)"، كذا لابن سعيد والفارسي، وغيرهما في الأول:" يجرئهم" بالجيم والراء وهمزة بعدهما من الجرأة، أي: يشجعهم عليهم بإظهار قبيح أفعالهم. ورواه العذري: " يجربهم " بالباء مكان الهمزة، ومعناه: يختبر ما عندهم في ذلك من حمية وغضب لله وبيته(3)، وعندهم كلهم في الحرف الثاني:" أو يحربهم" بالحاء المهملة والراء والباء بواحدة، ومعناه: يغضبهم بما رأوه فُعل بالبيت، من قولهم: حزبت(4) الأسد، وأسد محزب(5)، وقد يكون معنى: "يحربهم": يحملهم على الحرب، ويحضهم عليها، ويؤكد عزائمهم فيها لذلك، ورواه غير هؤلاء في الحرف الثاني:" أو يحزبهم "، بالحاء المهملة والزاي والباء بواحدة، ومعناه: أي: يشد منهم، ويثبت عزائمهم عليهم ويمالئهم على حربهم، من قولهم: أمر حزيب، أي: شديد، أو يكون: "يحزبهم": يميل بهم إلى نفسه ونصرته فحزب الرجل من مال إليه، وتحازب القوم: تمالؤوا.
__________
(1) في (ط):" تجرئهم ".
(2) في (ط):" نجربهم ".
(3) في (ط):" ونبيه ".
(4) في (ط) تشبه:" حربت ".
(5) في (ط) تشبه:" محرب ".(5/226)
وشورى ابن الزبير كافة الناس في نقضها وبنائها ما يلزم في(1) الأمور العامة والقصص العظيمة التي لا تخص وتعم من المشورة، وألا يستبد بها(2) ذو أمر بأمر، وقد أمر الله تعالى بهذا نبيه، ورأى ابن عباس أن تترك على ما هي، ويرم ما فسد(3) ولا تنقض، اقتداء بما كان - عليه السلام - رآه أيضًا من تركها على ما وجدها عليه، وترجيح ابن الزبير رأيه في نقضها بعد الاستخارة لاختلاف الصحابة عليه في ذلك، واعتماد على ما ذكره النبي - عليه السلام - لعائشة من حرصه على ذلك: " لولا حدثان قومها بالكفر فتنفر قلوبهم "، وإذنه في الرواية الأخرى لهم في ذلك إن بدا لهم أن يبنوه، وأنه ليس عنده من النفقة ما يقوى به على بنائه، وأن العلتين قد زالتا لاستقرار الإسلام وفناء تلك الجهالة القريبة(4) العهد بكفروتمكن الإسلام ممن بقى منهم وفتح الله على المسلمين، ووجد ما ينفق فيها.
__________
(1) قوله:" في " ليس في (أ).
(2) في (ط):" بهذا ".
(3) في (ط):" أفسد ".
(4) في (ط):" الجهلة الغريبة ".(5/227)
وليس في قوله - عليه السلام -:« ليس عندي من النفقة ما يقويني(1) على بنائه »، وبين قوله في الحديث الآخر:« لأنفقت كنز(2) الكعبة في سبيل الله » تنافر(3)؛ إذ قد يمكن أنه - عليه السلام - لم يرد إنفاق كنز الكعبة في بنائها الذي هو في سبيل الله ولا غيره ؛ لئلا تتقول(4) قريش في ذلك وتنكره كما تنكر البناء للكعبة، لعادتها في تعظيم تغيير ذلك وتناول(5) شيء من مالها، وانما كان - عليه السلام - أراد استئلافهم وتسكين الأمور وتركها حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم ؛ ولذلك - والله أعلم- لم يغير حجابة البيت ولا أخرجها عمن كانت بيده، وقد طلبها له آله، وقد كان عمر - رضي الله عنه - هَمَّ بقسمة مال الكعبة فخالفه بعض الصحابة في ذلك، واحتجوا عليه بأن صاحبيه لم يفعلا فوقف عن ذلك، وقال له أُبي: إن الله قد بين موضع كل مال، ولأن في إبقاء مالها وحليتها ترهيبًا على العدو وإظهارًا للإسلام. وفي هذا الخبر من الفقه أن الأوقاف لا تصرف غير مصارفها. وفي تجويز النبي - عليه السلام - لفعله لولا مراعاة كفار قريش، دليل على جواز نقل ما جعل في سبيل(6) من سبل الله إلى سبيل آخر، وهي إحدى الروايتين عندنا. وقول ابن عباس:" قد فرق لي فيها رأي "، أي: كشف وبين، قال الله تعالى:{ وقرآنا فرقناه }: فصلناه وأحكمناه.
وقوله: " تتابعوا فنقضوه "، ضبطنا هذا الحرف على أبي بحر وحده، "تتايعوا ": بالياء باثنتين تحتها، وعند غيره بالباء بواحدة، وهما(7) بمعنى واحد، إلا أنه أكثر ما يستعمل الياء باثنتين تحتها(8) في الشر خصوصًا، وليس هذا موضعه.
__________
(1) في (ط):" يقوي ".
(2) في (ط):" لأنفقه كنزا ".
(3) في (ط):" ينافر ".
(4) في (ط) تشبه:" تقول ".
(5) في (ط):" يتأول ".
(6) في (أ) إشارة إلحاق ولم يظهر شيء في الهامش، وليس فيه دلالة على سقط.
(7) في (أ):" وهو ".
(8) قوله:" تحتها " ليس في (ط).(5/228)
وقوله:" فنقضوه "- يعني البيت - حتى بلغ الأرض، فجعل ابن الزبير أعمدة فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه، صنع ذلك ليصلي الناس إلى تلك الستور وتكون قبلة لهم ؛ إذ المقصود بالاستقبال البناء لا البقعة، ولو كان المقصود البقعة لاتفقوا على جواز الصلاة في الكعبة وعلى استقبال الحجر مجردًا، وقد كان ابن عباس أشار عليه بنحو هذا وقال له: إن كنت هادمها فلا تدع الناس بلا قبلة، فقال له جابر: صلوا إلى موضعها فهي القبلة. وقد أجاز الشافعي الصلاة على هذه السبيل أن يصلي في أرض الكعبة ويجزئه. وكذلك يجىء على قوله:" يجزئه أن يستقبل أرضها ". وتحديده - عليه السلام - أن يدخل من الحجر خمسة أذرع، وفي الرواية الأخرى: ستة أذرع، تحديد بيّن لمقدار ما في الحجر من الكعبة.
وقول عبد الملك:" لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء "، يريد بذلك العيب لعمله، يقال: لطخت فلانًا بأمر قبيح، ورجل لطيخ(1): قذر.
وذكرمسلم في الباب: نا محمد بن حاتم، نا محمد بن بكر. وفيه: قال عبد الله ابن عبيد: وفد الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان. كذا لهم، وعند الفارسي: وفد الحارث بن عبد الأعلى، وهو خطأ.وهو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المذكور أول الحديث وبعده في الحديث الآخر في "الأم".
وقوله: " فنكت(2) ساعة بعصاه "، أي: ضرب بطرفها في الأرض كما يفعل(3) المتفكر في الأمر المهتم به.
وقوله في حديث سعيد بن منصور:" فأخاف أن تنكره(4) قلوبهم ". كذا لجمهور الرواة، وحدثنا به الخشني عن الهوزني:" تنكه قلوبهم "، هكذا كان عنده، وإن لم يكن تصحيفًا ووهمًا، فوجهه بعيد ولا يكاد يصح له ها هنا معنى، وفي هذا الحديث: " لنظرت أن أدخل الجدر في البيت.
__________
(1) في (ط):" لطخ ".
(2) في (ط):" فنكث ".
(3) في (ط):" كما قال ".
(4) في (ط):" ينكره ".(5/229)
قال الشيخ: لعله قال: " الحجر في البيت " ثبت قول الشيخ في الأصل للسمرقندي والعذري، ولا وجه لتوهيمه الرواية ؛ إذ المراد بالجدر أس الحجر، وقد تقدم أنه روي بالوجهين: الجدر(1)، الحائط، ويكون أيضًا ما يرفع من جوانب الشرفات(2) في أصول النخل وهي كالحيطان لها، ومنه الحديث: «اسق حتى يبلغ الجدر »، وهي في هذا الحديث بقايا حائط البيت الذي لم يتم عليه.
وقول(3) الخثعمية: إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا(4)، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفاحج عنه ؟ قال:« نعم ». قال الإمام: يرى المخالف أن من عجز عن الحج وله مال، فعليه أن يستنيب من يحج عنه، ويحتج بهذا الحديث(5)، وبقوله في حديث آخر:« أرأيت لو كان على أبيك دين » الحديث. وعندنا أنه لا يلزم(6) الاستنابة، ولنا قوله تعالى:{ ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً }، وهذا ظاهره استطاعة البدن، ولو كان المال لقال: إحجاج البيت، وكأن الحج فرع بين أصلين: أحدهما: عمل بدن مجرد ؛ كالصلاة والصوم فلا يستناب في ذلك، والثاني: المال ؛ كالصدقة وشبهه، فهذا يستناب فيه. والحج عمل بدن ونفقة مال، فمن غلب حكم البدن رده إلى الصلاة والصوم، ومن غلب حكم المال ردّه إلى الصدقات والكفارات.
__________
(1) في (ط):" والجدر ".
(2) في (أ):" الشرات ".
(3) في (ط):" قول ".
(4) في (ط):" كثيرًا ".
(5) قوله:" الحديث " ليس في (ط).
(6) في (أ):" لا يعلم ".(5/230)
قال القاضي: لا حجة للمخالف بظاهر هذا الحديث ؛ إذ ليس قوله: "إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا " مما يوجب دخوله في هذا الفرض، بل أخبرت أن إلزام الله عباده الحج الذي وقع بشرط من استطاع إليه سبيلاً، كان وأبوها بصفة من لا يستطيع، وهذه الزيادة هنا بقوله: " على عباده" تقضي(1) على الأحاديث التي فيها:" أدركته "، ولم يذكر فيها هذه الزيادة، ثم استأذنته في: هل لها أن تحج عنه ؟ وهل يباح لها ذلك أو له فيه أجر ومنفعة ؟ هذا أظهر معانى الحديث وهو مذهب مالك ومن تايعه، وقال بقوله من السلف والخلف: إن الاستطاعة على العموم، وهي القدرة على الوصول كيف تأتَّى، وليس من شرطه الراحلة لمن يقدر على الوصول على رجليه من غير مشقة فادحة. واختلف شيوخنا: هل تراعى في ذلك عادته أم لا ؟ قال مالك: ما ذلك إلا على قدر طاقة الناس، ولا صفة فيها أبلغ مما قال الله تعالى:{ من استطاع إليه سبيلاً }، وذهب معظم الفقهاء(2) إلى أن الاستطاعة الزاد والراحلة، ولم يلزموا من لا يقدر على الراحلة ويقدر على المشي الحج(3). وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن الاستطاعة الزاد والراحلة، ولكن(4) لا يوافقون المخالف في مآل قوله: وقد جاء حديث بهذا في تفسير الاستطاعة، وتأويله عندنا: أنها أحد أنواع الاستطاعات لا أنه تفسير كلية الاستطاعة، وعليه يتأول ما أطلقه من ذلك بعض أصحابنا بدليل حال أبي الخثعمية، وهو ممن لا يستطيع مع وجود الزاد والراحلة، مع أن أهل الحديث قد ضعفوا راوى هذا التفسير في الحديث، ولعمري إنه ليبين إن صح ويشير إلى معنى الاستطاعة وهو السبب الموصل للبيت من الزاد والراحلة، وما في معناها من صحة الجسم وأمان الطريق ؛ إذ الزاد والراحلة في طيهما(5)، فما قام مقامهما من صحة البدن قام مقامهما في الوجوب.
__________
(1) في (ط):" يقضي ".
(2) في (ط):" العلماء ".
(3) في (ط):" في الحج ".
(4) في (ط):" لكنهم ".
(5) في (ط):" طيها ".(5/231)
وقد اتفقوا أنه لا يلزم المريض والشيخ والضعيف ومن(1) لا يقدر على مشي الحج بنفسه إذ ليس بمستطيع لهذا، وقد قال الله تعالى:{ وما جعل عليكم في الدين من حرج }، وقد قال - عليه السلام -:« لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي »، فقد ألحق صحة الجسم بوجود المال، وقال تعالى:{ يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر }. ثم اختلفوا بعد إذا عجز لجسمه(2)، كالشيخ الهرم ومن لزمته علة، أو ضعفت أعضاؤه عن الركوب والمشي، وهذا هو المعضوب(3) وله مال، هل تلزمه الاستنابة في الحج عن نفسه على ما تقدم ؟ فمالك لا يوجبه، ومعظمهم يوجبونه ؛ أخذا بظاهر الحديث، وأن الاستطاعة بالمال استطاعة، فيحج غيره عن نفسه ممن يطيقه لذلك بأجر أو بغير أجر، فإذا وجد ذلك وقدر عليه وجب عليه الحج. وهذه النيابة عنه، وهذا مذهب الشافعي ومن شايعه(4)، وأبو حنيفة وغيره يقول: إذا لم يجد بما يكرى به من يحج عنه لم يلزمه، وإن تطوع له به متطوع من ولد أو غيره. ثم اختلفوا إذا صح هذا المعضوب وقد حج عنه، فجمهور هؤلاء أنه يستأنف الحج ولا يجزئه تلك النيابة، وقال أحمد وإسحاق: يجزئه ذلك، وإذا أوصى بها وهو ضرورة كانت عند مالك وأبي حنيفة من ثلثه، وعند الشافعي من رأس ماله. وقد قلنا: إنه لا ظاهر فيه للوجوب، وأن قولها(5):" فريضة الله على عباده أدركت أبي " حين فرض الحج على العباد المستطيعين كان أبي بصفة من لم يفرض عليه من عدم الاستطاعة، وما في الرواية الأخرى:" إن(6) أبي شيخ كبير، عليه فريضة الله في الحج، وهو لا يستطيع أن يستوى على ظهر بعيره "، فقد قلنا: إن الرواية التامة(7) بقوله: " على عباده " تبين هذا الإشكال وترفعه(8)،
__________
(1) في (ط):" والشيخ الضعيف من ".
(2) في (ط):" بجسمه ".
(3) قوله:" وهذا هو المغضوب " ليس في (ط).
(4) في (ط) تشبه:" تابعه ".
(5) في (ط):" قوله ".
(6) قوله:" أن " ليس في (ط).
(7) في (أ) تشبه:" الثانية ".
(8) في (أ):" نرفعه ".(5/232)
وقيل: يحتمل أنها ظنت أن ذلك يجب عليه، وقيل: يحتمل أن يكون على ظاهره، وأنه كان حين فرض الحج ممن يستطيع، وهو الان ممن لا يستطيع.
وقد اختلف في فرض الحج متى كان ؟ فقيل: سنة خمس، وقيل: سنة تسع، وإذا احتمل هذا لم يكن في قولها ذلك، وإقرار النبي - عليه السلام - لها عليه حجة للمخالف، ومما استدلوا به قوله في غير كتاب مسلم في الحديث الآخر: «أرأيت لو كان على أبيك دين، أكنت تقضينه(1)؟» والدين واجب وليس هذا بظاهر، إذ لا يلزم الولي قضاء دين وليه، وإنما تمثيله بقضاء الدين في المنفعة بحجها عنه من الأجر بما تنفق عنه فيه، ولا سيما إن كان الميت قد نذره، كما جاء في الحديث الآخر:" وعليها نذر "، فصارت تلك النفقة كالدين عليها ؛ إذ الحج يجمع عمل المال والبدن، فمن أداه عنه أبرأ ذمته منه كالدين، وبما يناله من بركة دعائها هناك كما ينتفع باداء الدين وزوال تباعته إذا قضاه عنه، وقد روى في هذا: ! قيل: أينفعه ؟ قال: كما لو كان على أحدكم الدين فيقضيه وليه "، وليس هذه صورة الوجوب، وقد روى عبد الرزاق عن الثوري: أن رجلاً سأل النبي - عليه السلام -: أأحج(2) عن أبي ؟ قال:« إن لم يزده(3) خيرًا لم يزده شرًّا »، لكنه مما تفرد به عبد الرزاق عن الثوري. قال أبو عمرو: حديث الخثعمية عند مالك وأصحابه مخصوص بها، كما خص سالم مولى أبي حذيفة برضاعة الكبير عنده وعند المخالف، وقال غيره: في حديث الخثعمية اضطراب لا تقوم به حجة، مرة جاء: " إن فريضة الله أدركت أبي " كما هنا، ومرة جاء: " إن أمى ماتت وعليها نذر "، ومرة جاء: أن السائل رجل، ولكن قد يحتمل أيضًا(4) أنها قصص متفرقة، ومذهب مالك والليث والحسن بن حيي: أنه لا يحج أحد عن أحد، إلا عن ميت(5)، لم يحج حجة الإسلام ولا ينوب عن فرضه. قال مالك: إذا أوصى،
__________
(1) في (ط):" تقتضيه ".
(2) في (ط):" أحج ".
(3) في (ط):" تزده ".
(4) قوله:" أيضًا " ليس في (ط).
(5) في (ط):" سبب ".(5/233)
وكذلك عنده لو كان أوصى بالتطوع. وحكى عن النخعي وبعض السلف: لا يحج أحد عن أحد جملة، وحكى عن مالك مثله وإن كانت وصية، وقال جمهور الفقهاء: يجوز أن يحج عن الميت عن فرضه ونذره، وإن لم يوص بذلك ويجزئ عنه، واختلف قول الشافعي في الإجزاء عن الفرض، وأجاز أبو حنيفة والثوري وصية الصحيح بالحج عنه تطوعًا، وروى مثله عن مالك، وقال بعض أصحابنا: لا يجوز ذلك إلا الابن عن أبيه، وقال آخرون: أو عن ذوي القرابة القريبة، يعنون من الموتى. وقال سفيان والحسن بن علي: لا يحج في الوصية بالحج من لم يحج عن نفسه، وقاله الشافعي فيمن حج عن ميت، وأجاز ذلك مالك، والاختيار عنده أن يكون من حج عن نفسه، وقال مرة: لا يحج عنه ضرورة ولا من فيه رق، وجمهورهم يكره الإجازة في ذلك. وقال أبو حنيفة: لا يجوز، وأجازها الشافعي، وله قول بكراهتها ابتداء، فاذا وقعت مضت وهو قول مالك. وقد قال بعض أصحابنا بإجازتها في الميت دون غيره.
وفي قوله: - عليه السلام - لها:" نعم "، دليل على صحة الرخصة في ذلك، وجواز النيابة فيه على سبيل التطوع، كما قدمناه. وعلى أحد القولين عندنا في هذا الأصل، وجواز حج المرأة عن الرجل، خلافًا للحسن بن حيي وحده، لمخالفتها إياه في الإحرام، ولباس المخيط والحلاق وغير ذلك. وهذا الحديث يرد عليه، لا سيما على مذهبهم في أنها تقضى عنه حجة الفريضة، وقد تقدم الكلام على الاستنابة في العبادات وما يجوز منها فيه(1)، وما لا يجوز صدر الكتاب، وتقدم في حديث جابر الكلام على نظر الفضل.
__________
(1) في (ط):" فيه الاستنابة ".(5/234)
وقيل: فيه جواز حج المرأة بغير ذي محرم ؛ إذ لم يسألها النبي - عليه السلام - عن ذلك، وفي هذا ضعف، وفيه ما يلزم الأئمة من تغيير ما تخشى فتنته ومنع(1) ما ينكر في الدين. وفي صرف النبي - صلى الله عليه وسلم - وجه الفضل عن جهتها وتغطيته وجهه على ما جاء في الحديث الآخر تغيير الأمر من الجهتين، وفيه دليل على أن(2) إحرام المرأة في وجهها، قيل: وفيه أن الحجاب مرفوع عن النساء، ثابت على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - على نص التلاوة ؛ إذ لم يأمرها النبي - عليه السلام - بستر وجهها، وقد يقال: إن هذا كان قبل نزول الأية بإدناء الجلابيب والستر. قال القاضي(3) أبو عبدالله: والاستتار للنساء سنه حسنة والحجاب على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فريضة. وفيه الحجة للقول بالقياس وتشبيه ما اختلف فيه أو أشكل على ما اتفق عليه وحقق؛ ولهذا ترجم البخاري عليه في بعض تراجمه: من شبه أصلاً بنظر(4) ما بأصل مبين. قالوا: وفيه أن العمرة غير واجبة ؛ إذ ذكرت الحج وفرضه وعجز أبيها(5) عن ذلك ولم تذكر(6) العمرة.
وقوله: إنه - عليه السلام - لقى ركبًا بالروحاء فقال:« من القوم ؟» قالوا: المسلمون. قالوا: من أنت ؟ قال:« رسول الله »، يحتمل أن هذا اللقاء كان ليلاً، ويحتمل أن يكون نهارًا، لكنهم ممن لم يهاجر إلى المدينة ولا وفد عليه من الأعراب والقبائل الذين أسلموا، وقد تقدم في حديث جابر أنه أذن في الناس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاج، فقدم المدينة خلق كثير ليأتموا به، فلعل هؤلاء ممن قدم فلم يلقوه إلا هناك، ولذلك لم يعرفوه.
__________
(1) في (ط):" ومنعه ".
(2) قوله:" أن " ليس في (أ).
(3) قوله:" القاضي " ليس في (أ).
(4) قوله:" بنظر " ليس في (ط).
(5) رسمت في هكذا (ط):" إليها ".
(6) في (ط):" يذكر ".(5/235)
وقوله: فرفعت إليه امرأة صبيًّا فقالت: ألهذا حج ؟ قال:« نعم »، قال الإمام: فيه حجة لنا وللشافعي على أن الصغير ينعقد عليه الحج، ويجتنب ما يجتنب المحرم، وأبو حنيفة لا يرى ذلك، وقد يقول أصحابه: يحمل هذا على أنه يراد به تمرين الصغار على الحج. وإن قالوا: يحتمل أن يكون هذا كان بالغًا، قلنا: فما فائدة السؤال: هل له حج ؟ وهذا يبطل تأويلهم، وأيضا في بعض طرق الحديث في غير كتاب مسلم: أن الصبي كان صغيرًا.
قال القاضي: قوله في حديث مسلم: " رفعت امرأة صبيا لها ". يدل على صغره، إذ لا ترفعه(1) غالبًا إلا وهو بتلك الحال، لا سيما رفعه بذراعه، على ما جاء(2) في "الموطأ"، فأخذت بضبعي صبى لها، قال: وهي في محفتها، وفي غيره: فأخرجته من محفتها، ولا خلاف بين أئمة العلم في جواز الحج بالصبيان، إلا قومًا من أهل البدع منعوه، ولا يلتفت لقولهم.
__________
(1) في (ط):" يرفعه ".
(2) قوله:" جاء " ليس في (ط).(5/236)
وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - -أيضًا - لذلك وإجماع الأئمة والصحابة يرد قولهم، وإنما الخلاف للعلماء هل ينعقد حكم الحج عليهم كما ذكره، وفائدة الخلاف في ذلك إلزامهم من الفدية والدم والجبر ما يلزم الكبير أم لا ؟ فأبو حنيفة لا يلزمهم شيئًا، وإنما يجتنب(1) عنده ما يجتنب المحرم على طريق التعليم والتمرين. وسائرهم يلزمونه ذلك، ويرون حكم الحج منعقدًا عليه ؛ إذ جعل له النبي - صلى الله عليه وسلم - حجًّا. وأجمعوا أنه لا يجزئه إذا بلغ من الفريضة، إلا فرقة شذت، فقالت: إنه يجزئه ولم يلتفت العلماء إلى قولها. ثم اختلفوا فيمن أحرم وهو صبي فبلغ قبل عمل شيء من الحج، فقال مالك: لا يرفض إحرامه ويتم حجه، ولا يجزئه عن حجة الإسلام، قال: وان استأنف الإحرام قبل الوقوف بعرفة أجزأه عن حجة الإسلام، وقال: يجزئه إن نوى بإحرامه الأول حجة الإسلام، وقال أبو حنيفة: يلزمه تجديد النية للإحرام ورفض الأولى ؛ إذ لا يترك فرض النافلة، وقال الشافعي: تجزئه ولا يحتاج إلى تجديد نية، ولذلك اختلفوا على هذا في العبد يحرم ثم يعتق(2) سواء. واختلف عن مالك في الرضيع ومن لا يفقه(3)، هل يحج به ؟ وحمل أصحابنا أن قوله بالمنع إنما هو على الاستحباب لتركه والكراهة لفعله لا على التحريم، فقال(4) كثير من العلماء: إن الصبي يثاب على طاعته وتكتب له حسناته دون سيئاته، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب.
وقد اختلف هل هم مخاطبون على جهة الندب أم غير مخاطبين(5)، وإنما يخاطب أولياؤهم بحملهم على آداب الشريعة وتمرينهم عليها، وأخذهم بأحكامها في أنفسهم وأموالهم ؟ وهذا هو الصحيح، ولا يبعد مع هذا أن يتفضل الله بادخار ثواب ما عملوه من ذلك لهم.
__________
(1) في (ط):" تجنب ".
(2) في (ط):" يعتنق ".
(3) في (ط):" يفقه له ".
(4) في (ط):" وقال ".
(5) في (ط):" مخاطبون ".(5/237)
وقوله:« ولك أجر »، يعني فيما تتكلفه من أمره بالحج وتعليمه إياه، وتجنبه ما يلزم فيه، وقد تقدم شيء من هذا الباب.
وقوله:« قد فرض الله عليكم الحج فحجّوا(1)»، فقال رجل: أكُلِّ عام ؟ فسكت، ثم قال:« لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم » الحديث، قال الإمام: اختلف الناس في الأمر المطلق، فقال بعضهم: يحمل على فعل مرة واحدة، وقال بعضهم: على التكرار. وقال بعضهم: بالوقف، فيما زاد على مرة، وظاهر هذا أن السائل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما ساله لأن ذلك عنده يحتمل، فيصح أن يكون ذهب إلى بعض هذه الطرق، ويصح أن يكون إنما احتمل عنده من وجه آخر. وذلك أن الحج في اللغة: قصد فيه تكرير، فيكون احتمل عنده التكرير من جهة اشتقاق اللفظ، وما يقتضيه من التكرار وقد تعلق بما ذكرنا عن أهل اللغة ها هنا من قال بإيجاب العمرة، وقال: لما كان قوله تعالى:{ ولله على الناس حجّ البيت } يقتضي على حكم الاشتقاق التكرر، واتفق على أن الحج لا يلزم إلا مرة واحدة، كانت العودة إلى البيت تقتضي(2) أن تكون في عمرة حتى يحصل التردد إلى البيت، كما اقتضاه الاشتقاق.
قال القاضي: فيه ما كان - عليه السلام - من صفة الرأفة والرحمة بأمته، وفيه دليل على أنه كان له أن يشرع في الدين برأيه ويجتهد فيه. وقد اختلف في هذا الاءصل لقوله:« لو قلت: نعم، لوجبت »، وقوله:«" ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم » الحديث: دليل على أن الأشياء على استصحاب حال الإباحة فيما لم ينزل فيه(3) حكم.
__________
(1) قوله:" فحجوا " ليس في (أ).
(2) في (ط):" يقضي ".
(3) في (ط):" فيها ".(5/238)
وقوله:« فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم »، من قول الله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم }، وقد قيل: إنها ناسخة لقوله تعالى:{ اتقوا(1) الله حق تقاته }، وقيل: لا نسخ فيها، وهي مفسرة ومبينة ؛ لأن حق تقاته تعالى: هو امتثال العبد ما أمر به، وما أمره إلا بما استطاع، وما جعل عليه في الدين من حرج.
وقوله:« لا تسافر المرأة ثلاثًا إلا ومعها ذو محرم»، قال الإمام: أبو حنيفة يشترط في وجوب الحج على المرأة وجود ذي محرم، والشافعي يشترط ذلك](2)، أو امرأة واحدة تحج معها، ومالك لا يشترط شيئًا من ذلك، وسبب الخلاف معارضة عموم الآية لهذا الخبر، فعموم الآية قوله تعالى:{ من استطاع }، وهو يقتضي الوجوب وإن لم يكن ذو(3) محرم، والحديث يخصص الآية، فمن خصص الآية به اشترط المحرم، ومن لم يخصصها لم يشترط. وقد تحمل مالك الحديث على سفر التطوع، ويؤيد مذهبه أيضًا أن يقول: اتفق على أن عليها أن تهاجر من دار الكفر وإن لم تكن ذو محرم، لما كان سفرًا واجبًا فكذلك الحج، وقد ينفصل عن هذا بأن يقال: إقامتها في دار الكفر لا تحل، وتخشى على دينها ونفسها، وليس كذلك التاخر عن الحج، وأيضًا فإن الحج يختلف فيه، هل هو على الفور أو التراخي ؟
__________
(1) في (أ) و(ط):" فاتقوا ".
(2) قوله:" ذلك " ليس في (أ) و (ط)، والمثبت من (ق).
(3) في (ط):" يكن ذا ".(5/239)
قال القاضي: لا خلاف في وجوب الحج على المرأة كالرجل إذا استطاعته، وأن حكمها حكمه في الاستطاعة على اختلاف العلماء فيها كما تقدم ذكره، إلا أن الحج لا يلزمها إن قدرت على المشي عندنا بخلاف الرجل، لأن مشيها عورة إلا فيما قرب من مكة، وجعل أبو حنيفة فيها ذا المحرم من جملة الاستطاعة كما ذكر، إلا أن تكون دون مكة بثلاث ليال، ووافقه على ذلك جماعة من(1) أصحاب الرأي وفقهاء أصحاب الحديث، وروى عن النخعي والحسن، وذهب الحسن وعطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين ومالك والأوزاعي والشافعي إلى أنه ليس بشرط، ويلزمها حج الفريضة دونه، وروي عن عائشة، لكن الشافعي - في أحد قوليه - يشترط أن يكون معها نساء ولو كانت واحدة تقية مسلمة، وهو ظاهر قول مالك على اختلاف في تأويل قوله:" تخرج مع رجال ونساء "، هل بمجموع(2) ذلك أم في جماعة من أحد الجنسين، وأكثر ما نقله أصحابنا عنه اشتراط النساء. وقال ابن عبد الحكم من أصحابنا: لا تخرج مع رجال ليسوا منها بمحرم، ولعل مراده على الانفراد دون النساء، فيكون وفاقًا لما تقدم عندنا. ولم يختلفوا أنه ليس لها أن تخرج في غير فرض الحج إلا مع ذي محرم. قال الباجي: وهذا عندي في الانفراد والعدد اليسير، فأما في القوافل العظيمة فهي عندي كالبلاد، يصح فيها سفرها دون نساء وذوى محارم، قال غيره: وهذا في الشابة، فأما المتجالة فتسافر كيف شاءت للفرض والتطوع مع الرجال ودون(3) ذوى المحارم.
__________
(1) قوله:" من " ليس في (ط).
(2) في (أ) تشبه:" لمجموع ".
(3) قوله:" دون " ليس في (ط).(5/240)
وقوله في الرواية الواحدة عن أبي سعيد:" ثلاث ليال "، وفي الأخرى: " يومين"، وفي الأخرى:" أكثر من ثلاث "، وفي حديث ابن عمر:" ثلاث"، وفي حديث أبي هريرة:" مسيرة ليلة "، وفي الأخرى عنه:" يوم وليلة "، وفي الأخرى عنه: " ثلاثًا "، وهذا كله ليس يتنافر ولا يختلف، فيكون - عليه السلام - منع من ثلاث، ومن يومين، ومن يوم، أو يوم وليلة وهو أقلها، وقد يكون قوله - عليه السلام - هذا في مواطن مختلفة، ونوازل متفرقة، فحدث كل من سمعها بما بلغه منها وشاهده، وإن حدث بها واحد فحدث مرات بها على اختلاف ما سمعها، وقد يمكن أن يلفق بينها بأن اليوم المذكور مفردًا، والليلة المذكورة مفردة بمعنى اليوم والليلة المجموعين ؛ لأن اليوم من الليل، والليل من اليوم، ويكون ذكره يومين مدة مغيبها في هذا السفر في السير والرجوع، فأشار مرة بمسافة السفر، ومرة بمدة المغيب، وهكذا ذكر الثلاث، فقد يكون اليوم الوسط بين السير والرجوع الذي(1) تقضي فيه حاجتها بحيث سافرت له، فتتفق على هذا(2) الأحاديث، وقد يكون هذا كله تمثيلاً لأقل الأعداد ؛ إذ الواحد أول العدد وأقله، والاثنان أول التكثير وأقله، والثلاث أول الجمع، فكأنه أشار أن مثل هذا في قلة الزمن لا يحل لها السفر فيه مع غير ذي محرم، فكيف بما زاد ؟ ولهذا قال في الحديث الآخر: " ثلاثة أيام فصاعدا "، وبحسب اختلاف هذه الروايات اختلف الفقهاء في تقصير المسافر وأقل السفر، فأبو حنيفة تمسك(3) بالثلاث، ومالك والشافعي باليوم والليلة واليومين، التي هي أقل ما وقع عليها(4) اسم السفر بمقتضى(5) هذا الحديث، على ما ذكرناه في الصلاة.
__________
(1) في (أ):" التي ".
(2) في (ط):" هذه ".
(3) قوله:" تمسك " ليس في (أ).
(4) في (ط):" عليه ".
(5) في (ط):" يقتضي ".(5/241)
وقوله:" إلا ومعها ذو محرم "، عموم في ذوى المحارم، وكراهة مالك سفرها مع ابن زوجها وان كان ذا محرم منها، فإنما ذلك لفساد الناس بعد، وأن المحرمية عندهم في هذا ليست في المراعاة كمحرمية النسب، والمرأة فتنة ممنوع الانفراد بها لما جبلت عليه نفوس البشر من الشهوة فيهن، وسلط عليهم من الشيطان بواسطتهن، ولأنهن لحم على وضم، إلا ما ذب عنه، وعورة مضطرة إلى صيانة وحفظ، وذي غيرة يحميها ويصونها، وطبع الله في ذوي المحارم من الغيرة على محارمهن والذب عنهن ما يؤمن عليهن في السفر معهم ما يخشى.
وقوله:" فأعجبنني وآنقنني(1)"، قال الإمام(2): معنى " انقنني "، أي: أعجبتني، وإنما جاز تكرار المعنى لاختلاف اللفظ، والعرب تفعل ذلك كثيرًا للبيان والتأكيد، قال الله تعالى:{ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة }، والصلاة من الله الرحمة، وقال الله تعالى:{ فكلوا مما غنمتم حلالاً طيبًا }، والطيب هنا الحلال، وأنشد للحطيئة:
ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها النأى والبعد
وقال آخر:
يبكيك ناءٍ بعيد الدار مغترب يا للكهول وللشبان للعجب
والنأى: هو البعيد(3) والمغترب، ومثله كثيرو في حديث ابن مسعود: "إذا وقعت في آل حاميم وقعت في روضات أتانق فيهن "، قال أبو عبيد: أي: أتتبع محاسنهن. وقال أبو حمزة: معناه: أستلذ بقراءتهن. والمؤنق: المعجب، ومنه: منظر مونق.
__________
(1) في (ط):" وآنقتني ".
(2) قوله:" قال الإمام " ليس في (أ).
(3) في (أ):" البعد ".(5/242)
قال القاضي: وقوله:« لا تشد(1) الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ا الحديث »، فيه تعظيم هذه المساجد وخصوصها بشد الرحال إليها، ولأنها مساجد الأنبياء، ولفضل الصلاة فيها، وتضعيف أجرها، ولزوم ذلك لمن نذره، بخلاف غيرها مما لا يلزم ولا يباح شد(2) الرحال إليها لا لناذر، ولا لمتطوع لهذا النهي، إلا ما ألحقه محمد بن مسلمة من مسجد قباء، والزامه إتيانه(3) لمن نذره، لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتى قباء راكبًا وماشيًا، وما روي عنه من فضل الصلاة فيه كما ذكر في المساجد الأخر، ولما روى أنه(4) المسجد الذي أسس على التقوى على خلاف فيه، هل هو أو مسجد المدينة ؟ وإنه مسجد المدينة مذهب الجمهور والمذكور عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال الداودي: إتيان النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجد قباء يدل أن ما قرب من المساجد الفاضلة من المصر فلا بأس أن يؤتى مشيًا وركوبًا، ولا يدخل في النهي في إعمال المطي لغير المساجد الثلاثة تأيد ؛ لأن الإعمال وشد الرحال لا يكون [ إلا لما بعد، ولا يكون](5) لما قرب غالبًا، وذهب بعضهم إلى أنه إنما يمنع أعمال المطي للناذر، وأما(6) لغير(7) الناذر ممن يرغب فضل مشاهد الصالحين فلا.
__________
(1) في (ط):" يشد ".
(2) في (أ):" بشد ".
(3) في (ط):" إتيانها ".
(4) في (ط):" فيه أنه ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(6) في (ط):" فأما ".
(7) في (ط):" غير ".(5/243)
قال الإمام: خرج مسلم في باب:" لا يحل لامرأة ": نا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك بن أنس، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال بعضهم: هكذا وقع في نسخ عن أبي أحمد وأبي العلاء والكسائي، وكذا رواه مسلم عن قتيبة، عن الليث، عن سعيد، ومسلم أيضًا، والبخارى عن ابن أبي ذئب، عن سعيد، عن أبيه، واستدرك عليهما الدارقطني إخراجهما عن ابن أبي ذئب(1)، وعلى(2) مسلم حديث الليث، واحتج بأن مالكًا ويحيى بن أبي كثير وسهيلا قالوا: عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، فلم يذكروا " عن أبيه "، والصحيح عن مسلم في حديثه هذا عن يحى بن يحيى، عن مالك، عن سعيد، عن أبي هريرة، ليس فيه والد سعيد، وكذلك(3) خرجه أبو مسعود الدمشقي، وكذا رواه جل(4) أصحاب مالك من رواة "الموطأ" عنه.
قال القاضي: قال الدارقطني: ورواه الزهراني والفروي عن مالك فقالا: عن أبيه.
وقوله:« لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم »، مما تقدم من أمن غلبة الشهوة والفتنة عليهما [ وأمن ذلك عليهما ](5) لحضور ذي المحرم لغيرته عليها وذبه عنها.
وقوله: فقام رجل فقال: يا رسول الله ! إن امرأتي خرجت حاجة، وإنى اكتتبت في غزوة كذا، قال:« انطلق فحج مع امرأتك »، فيه وجوب الحج على النساء، وإلزام أزواجهن تركهن وندبهن إلى الخروج معهن، وأن ذلك أفضل من خروجه للغزو ؛ لأن المعونة على أداء الفريضة مؤكدة، وقد تكون فريضة في بعض الوجوه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« أعوذ بك من وعثاء السفر »، قال الإمام: معناه: شدته ومشقته. وأصله من الوعث(6) وهو الدهش، وهو الرمل الرقيق، والمشى فيه يشتد على صاحبه، فجعله مثلاً لكل ما يشق على صاحبه.
__________
(1) من قوله:" والبخاري...." إلى هنا ليس في (ط).
(2) في (ط):" وعن ".
(3) في (أ):" ولذلك ".
(4) قوله:" جل " ليس في (أ).
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(6) في (ط):" الوغث ".(5/244)
وقوله:« من الحور بعد الكور »، قال القاضي: هكذا رواية(1) العذري، وبعضهم بالراء، ورواه الفارسي وابن سعيد " بعد الكون بالنون. قال القاضي: وهو المعروف في رواية عاصم الأحول الذي ذكره مسلم، قال أبو إسحاق الحربي: يقال: إن عاصما وهم فيه، وصوابه:" الكور(2)" بالراء. قال الإمام: معنى الحور بعد الكور: النقصان بعد الزيادة، وقيل: معناه: أعوذ بك من الرجوع عن الجماعة بعد أن كنا في الكور، أي: في الجماعة، يقال: كار عمامته: إذا لفها، وحارها: إذا نقضها، وقيل: يجوز أن يكون أراد بذلك أعوذ بك أن تفسد أمورنا وتنتقض بعد صلاحها، كنقض العمامة بعد استقامتها على الرأس. ومن رواه: " بعد الكون " بالنون فقال أبو عبيد: سئل عاصم عن معناه، فقال: ألم تسمع إلى قولهم: حار، بعد ما كان يقول: إنه كان على حالة جميلة فحار عن ذلك، أي: رجع، قال الله تعالى: { إنه ظن أن لن يحور }، أي: لن يرجع. والحور: الرجوج.
قال القاضي: وقال الحربي في قوله: " الحور بعد الكور " بعد ذكره جميع ما تقدم ذكره. وقيل: فيه تعوذ من القلة بعد الكثرة.
وقوله: " إذا أوفى على ثنية أو فدفد "، قال الإمام: الفدفد: الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع، وجمعه فدافد.
__________
(1) في (ط):" هكذا هي رواية ".
(2) في (ط):" الحور ".(5/245)
قال القاضي: هذا قول أبي زيد، وقال ابن الأنباري: هي(1) الأرض الغليظة ذات الحصى، فلا تزال(2) الشمس تبرق فيها، وقال غيرهما: فلاة فدفد: لا شيء فيها. ومعنى:" آيبون ": راجعون، وقيل: تكبيره - عليه السلام - في رجوعه إظهار لكلمة الإسلام، وتعظيم(3) لله ؛ لأن(4) سفره - عليه السلام - إنما كان في طاعته واقامة شريعته ونصرة(5) دينه من حج أو غزو أو عمرة، وخصوصه بذلك كلما علا شرفًا، حيث يرى ما فتحه الله عليه من الأرض، ومكن دينه منها ؛ ولأن مواضع الإعلان بالذكر مما علا وشرف كالأذان، وحمده له تعالى، لما يستوجبه تعالى من ذلك، ولتمام نعمته عليه بقفوله ومن معه سالمين ظاهرين مبلغين الأمل، عزيزي الجانب، عابدًا له تائبًا مما لا يرضاه، ومثله مما عوده من نعم ربه وأظهره من نصره له "، وصدقه بذلك وعده، وهزمه عدوه.
وقوله:« وهزم الأحزاب وحده »، الظاهر أنه أراد بالأحزاب: قصة يوم الاحزاب خصوصًا، فيكون معنى " وحده ": أن هزمهم كان من قبله تعالى، وعلى غير أيدى البشر، كما قال:{ فأرسلنا عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها }، وعلى هذا المعنى ينعطف قوله:« صدق الله وعده » تكذيبا لقول المنافقين في هذه القصة:{ والذين في قلوبهم مرضٌ ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غرورًا }، وقيل: يحتمل أنه أراد(6) به أحزاب الكفر في سائر الأيام والمواطن، وقيل(7): يحتمل أن قوله - صلى الله عليه وسلم -:« صدق الله وعده " إلى آخره خبر(8) عما تفضل الله به عليه وعلى أمته، ويحتمل أن يكون دعاء، كما يقال: غفر الله لك، وسمع الله لمن حمده.
__________
(1) قوله:" هي " ليس في (أ).
(2) في (ط):" يزال ".
(3) في (ط):" تعظيمًا ".
(4) في (ط):" ولأن ".
(5) في (ط):" ونصر ".
(6) في (ط) تشبه:" إرادة ".
(7) في (ط):" قيل ".
(8) في (ط):" خيرا ".(5/246)
فيه جواز السجع في الدعاء والكلام إذا كان بغير تكلف، وإنما الذي(1) نهى عنه من ذلك ما كان باستعمال وبروية ؛ لأنه يشغل عن الإخلاص، ويقدح في النية، وأما ما ساقه الطبع وقذف به قوة الخاطر دون تكلف ولا استعمال يباح في كل شيء. وفي استعاذته - عليه السلام - هنا من دعوة المظلوم، تعظيم أمر الظلم، والتنبيه على الحذر من دعوته، والإشعار أنها متقبلة، كما جاء في غيرهذا الحديث.
وقوله: " إنه - صلى الله عليه وسلم - أناخ بالبطحاء، التي(2) بذي الحليفة وصلى بها "، وذكر أن عبد الله بن عمر وسالِمًا كانا يفعلان ذلك، وابنه سالم يتحرى معرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. المعرس: تقدم تفسيره أنه موضع النزول(3). قال أبو زيد: عرس القوم في المنزل: نزلوا به، أي: وقت كان من ليل(4) أو نهار. وقال الخليل والأصمعي: التعريس: النزول آخر الليل. والنزول بالبطحاء بذي الحليفة في الرجوع للحاج ليس من مناسك الحج، وإنما فعله من أهل المدينة من فعله تبركًا بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتتبعًا لمواضع نزوله ومواطنه، وهو كان شأن ابن عمر، وطلبًا أيضًا لفضل الموضع، ولما(5) جاء فيه من أنه(6) قيل للنبي - عليه السلام -: إنك ببطحاء مباركة، وقد استحب مالك النزول فيه والصلاة به، وألا يجاوز حتى يصلى فيه، وإن كان في غير وقت صلاة، أقام به حتى يحل وقت الصلاة فيصلى فيه، وقيل: إنما كان مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتعريس ببطحاء مباركة(7) ذي(8) الحليفة في رجوعه، وللمقام(9) به حتى يصبح ؛ لئلا يفجا الناس أهاليهم ليلاً، كما نهى عنه تصريحًا في غير هذا
__________
(1) قوله:" الذي " ليس في (ط).
(2) في (أ):" الذي ".
(3) قوله:" النزول " ليس في (أ).
(4) في (ط):" الليل ".
(5) في (أ) قبل:" لما " كلمة غير واضحة، ولعلها الواو.
(6) في (ط):" أمه ".
(7) في (ط):" مكة ".
(8) قوله:" ذي " ليس في (ط).
(9) في (ط):" والمقام ".(5/247)
الحديث،حتى يبلغهم الخبر فتمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة، ويصلح النساء من شأنهن ؛ لئلا تقع(1) عين أو أنف منهن على ما يكره، فيقدح في الألفة ودوام الصحبة. وقد تقدم اختلاف حالته في الخروج والدخول أول الكتاب وعلة ذلك.
وقوله: بعثني أبو بكر في الحجة التي أمره عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل حجة الوداع في رهط، يؤذنون في الناس يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان "، قد تقدم الكلام في هذا الفصل. قال الإمام: وهذا قول مالك، وذهب الشافعي إلى أنه يوم عرفة، وحجتنا أن يوم النحر هو الذي يجتمع فيه جميع أهل الموسم من الحمس وغيرهم، وفيه كان الأذان، من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر.
وقوله (2) في فضل يوم عرفة:« وإنه ليدنو، ثم يباهى بهم الملائكة »، قال الإمام: معناه(3) يدنو دنو كرامة وتقريب، لا دنو مسافة ومماسة.
__________
(1) في (ط):" يقع ".
(2) قوله:" قوله" مكانها بياض في (أ)، وكذلك بعض المواضع الأخرى.
(3) في (ط):" معنى ".(5/248)
قال القاضي: يتأول فيه ما يتأول في النزول على أحد الوجوه المتقدمة، كما قال في الحديث الآخر:« من غيظ الشيطان يوم عرفة لما يرى فيه من(1) تنزل الرحمة »، وقد روى عبد الرزاق في هذا الحديث:« إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيباهى بهم الملائكة »، وقد يريد به دنو الملائكة إلى الأرض، أو إلى السماء الدنيا، بما نزل عليهم من رحمة الله، ومباهاة(2) الملائكة بهم عن أمره، كما جاء في الحديث من قوله:« ثم يباهى بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء هنا ؟» ثم الكلام في كتاب مسلم مبتورًا، وذكر هذا الفضل كاملاً عبد الرزاق من رواية ابن عمر، وفيه ذكر وقوف عرفة:« أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيباهى بهم الملائكة، يقول: هؤلاء عبادى جاؤوني شعثًا غبرًا، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني ؟» وذكر باقي الحديث.
وقوله (3):« العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما »، قال الإمام: معنى اعتمر البيت: زاره، والاعتمار(4): الزيارة، قال الشاعر:
يهل بالفدفد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر
وقال آخرون: معنى الاعتمار والعمرة: القصد، قال الشاعر:
لقد سما ابن معْمر حين اعتمر
أراد حين قصد.
__________
(1) قوله:" من " ليس في (أ).
(2) في (أ) تشبه:" مباهاة " بدون واو.
(3) في (ط):" قوله ".
(4) في (ط):" والإعمار ".(5/249)
قال القاضي (1): اختلف الناس في العمرة، هل هي واجبة أم لا ؟ فذهب جماعة من السلف إلى وجوبها،وهو قول الأوزاعي والثوري وابن حبيب وابن الجهم من أصحابنا، وحكاه ابن المنذر عن أبي حنيفة، وذهب أخرون إلى أنها ليست بواجبة، وهو قول مالك ومشهور قول أبي حنيفة وأصحابه وداود(3). واختلفت الرواية فيها عن الشافعي، وأحمد وإسحاق وأبى عبيد وأبي ثور، إلا أن مالكًا يجعلها سنة مؤكدة، وبعض هؤلاء يجعلها مستحبة، وهو معنى قوله عند أصحابنا، ولا نعلم أحدًا رخص في تركها، خلافًا لمن تأول عليه وجوبها، والأصل في ذلك قوله تعالى:{ وأتمّوا الحج والعمرة لله}، وليس في الآية دليل على وجوبها إلا من حيث قرانها(2) مع الحج والاستدلال بهذا ضعيف. وقيل أيضًا: إذا كان الإتمام واجبًا فالابتداء واجب، وهذا لا حجة فيه، لأن الطاعات غير الواجبات يلزم إتمامها(3) بالدخول فيها، قال الله تعالى:{ ولا تبطلوا أعمالكم }، فقيل: معنى " أتموا ": أقيموا، كما قال تعالى:{ فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة }، أي: فأتموا، وليس في هذا -أيضًا - حجة ؛ إذ ليس يلزم إذا وجدنا:" أقيموا " بمعنى: " أتموا "، أن تجعلوا " أتموا " بمعنى " أقيموا،، فلا يستدل في اللغة بالعكس مع اختلاف العلماء في معنى تمامها، هل هو إكمالها(4) بعد الشروع فيها وترك قطعها وهو الأظهر، بدليل قوله تعالى:{ فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي }. وقيل: إتمامها(5) أن يحرم لكل واحد منهما ابتداء ويستأنف له سفرًا. قال عليّ وغيره: إتمامهما أن يحرم لهما من دويرة أهله، وقيل غير هذا، وقرأ الشعبي: والعمرة لله بالرفع، ففصل بهذه القراءة عطفه على الحج ليزيل الإشكال.
__________
(1) في (أ) علامة إلحاق، ولم يظهر شيء في الهامش، وليس ما يدل على سقط.
(2) في (ط):" قراءتها ".
(3) في (ط):" تمامها ".
(4) في (أ):" إكمالنا ".
(5) في (ط):" إتمامهما ".(5/250)
وقوله:« العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما »، بيّن المعنى في تكفير السيئات بفعلها، وقيل: يحتمل أن يكون بمعنى، وفيه حض على تكرارها، واستدل به بعضهم على جواز العمرة في السنة مرارًا.
وقد اختلف السلف في الاعتمار في السنة مرارًا، فأجاز ذلك كثير، منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأكثر الفقهاء، ومنعه آخرون وقالوا: يستحب ألا يعتمر في السنة إلا مرة، وكذلك فعل النبي - عليه السلام - فلم يكرر في سفراته العمرة أكثر من مرة، وهو قول مالك، إلا أنه إن اعتمر أكثر من مرة لزمه تمام ذلك عنده، وقال كثير من أصحابه بجواز ذلك، وقال آخرون: لا يعتمر في شهر أكثر من مرة.
وأما وقتها: فلغير الحاج السنة كلها، ويوم عرفة، ويوم النحر، وكل حين. وأما للحاج فحين تغيب(1) الشمس من آخر أيام التشريق، ونحوه للشافعى. قال مالك: سواء تعجل أو تأخر، فان أحرم الحاج بعمرة قبل هذا لم تنعقد(2) عندنا، إلا أن تكون(3) في آخر أيام التشريق بعد الرمي فتنعقد(4)، وظاهر المدونة أنها لا تنعقد. وقد اختلف قول مالك، وقال أبو حنيفة: العمرة جائزة في السنة كلها إلا يوم عرفة وأيام التشريق للحاج وغيره.
وقوله: " والحج المبرور "، قال الإمام: هو على وزن مفعول، من البر. يحتمل أن يريد أن صاحبه أوقعه على وجه البر، وأصله ألا يتعدى بغير(5) حرف(6) جر، إلا أن يريد بمبرور وصف المصدر فيتعدى حينئذ إليه ؛ إذ كل ما لا يتعدى من الأفعال فإنه يتعدى إلى المصدر. ومعنى:" ليس له جزاء إلا الجنة "، أي: لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه، ولابد أن يبلغ به إدخاله الجنة.
__________
(1) في (ط):" يغيب ".
(2) في (ط):" يعقد ".
(3) في (ط):" يكون ".
(4) في (ط):" فينعقد ".
(5) في (أ) علامة إلحاق، ولم يظهر شيء في الهامش.
(6) في (أ):" بحرف ".(5/251)
قال القاضي: هذا الكلام كله إنما يتوجه على أن معنى المبرور ما أشار إليه، من أنه قصد به البر، وأما على غيره من التأويلات فلا يحتاج إلى حرف تعدية(1)، فقد قيل: معنى " مبرور ": لا يخالطه شيء من مأثم، وقيل: المبرور: المتقبل، وقيل: الذي لا رياء فيه ولا سمعة، ولا رفث ولا فسوق، وقيل: الذي لم تتعقبه(2) معصية.
قوله: " فلم يرفث ولم يفسق "، قال القاضي: هذا من قوله تعالى: {فلارفث ولا فسوق }. والرفث: الفحش في القول، وقيل: الجماع، قال الله تعالى:{ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلي نسائكم }. قيل: هو كناية عن الجماع، يقال: رفث ورفث، يرفث ويرفث، ويرفث بالفتح والكسر والضم في المستقبل، وقد قيل: وأرفث. وقيل: الرفث: التصريح بذكر الجماع، قال الأزهري: هي كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة. وكان ابن عباس يخصه بما خوطب به النساء.
ومعنى " كيوم ولدته أمه " يعني بغير ذنب.
وقيل: الفسوق هنا: السيئات، وقيل: المعاصى، وقيل: ما أصاب من محارم الله والصيد، وقيل: الفسوق: قول الزور، وقيل: الذبح للأنصاب، وقيل: لم يذكر هنا الجدال المذكور في الآية مع الرفث والفسوق ؛ لأن المجادلة ارتفعت، إنما كانت من العرب وسائر قريش في موضع الوقوف بعرفة أو المزدلفة، فأسلمت قريش وارتفعت المجادلة، ووقف الكل بعرفة.
__________
(1) في (ط):" جر به ".
(2) في (ط):" تنفعه ".(5/252)
وقوله:« وهل ترك لنا عقيل من دار ؟» فسره في الحديث نفسه ؛ لأنه اختص هو وطالب بميراث أبي طالب ؛ لأنهما كانا كافرين حين مات ولم يرثه علي ولا جعفر ؛ لأنهما كانا مسلمين، ولا يرث المسلم الكافر. وهذا الحديث أصل في هذا أيضًا ولم يختلف فيه فقهاء الأمصار إلا ما روي عن إسحاق وبعض السلف: أن المسلم يرث الكافر، وأجمعوا أن الكافر لا يرث المسلم، وهذا بيّن فيما ترك أبو طالب، وبقى النظر في قوله:" تنزل دارك"، فأجاب بما تقدم. فلعله أضاف الدار إليه لسكناه فيها، وكان أصلها لأبي طالب ؛ لأنه كان الذي كفله، وكان أكبر بني عبدالمطلب عند موت عبد المطلب، فاحتوى على أملاكه وحازها لسنة وعادة الجاهلية، ويحتمل أن عقيلا كان قد باع جميعها وأخرجها عن أملاكهم، كما فعل أبو سفيان وغيره بدور من هاجر من المؤمنين، وكذلك قال الداودي: إن عقيلا باع ما كان للنبي(1) - عليه السلام - ولمن(2) هاجر من بني عبد المطلب. وقيل: إن هذه الدار إنما اختص بها النبي - عليه السلام - ؛ لأنه ورثها من قبل أمه مع عمار أخرى، فعدا عليها عقيل فباعها كلها، كما تقدم، قاله الواقدي. وقال محمد بن أبي صفرة: في الحديث حجة أن من خرج من بلده مسلمًا، وبقي أهله وولده في دار الكفر، ثم غزاها مع المسلمين، أن ما فيها من ولده وماله بحكم البلد، كما كانت دار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حكم البلد، ولم ير نفسه أحق بها، وهذا مذهب مالك والليث.
__________
(1) في (ط):" النبي ".
(2) في (ط):" ولم ".(5/253)
قال القاضي: فمذهب(1) هذا القائل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ترك النزول بها ؛ لأنها ليست له، وهي كغيرها من دور مكة في حقه، ولو كان هذا لعلل به - عليه السلام -، ولم يعلل بما تقدم من أنه لم يترك لهم عقيل دارًا، وقد قيل: إنه إنما ترك - عليه السلام - النزول بها وكرهه ؛ لأنه ترك ذلك حين هاجر لله، فلم يرجع(2) فيما تركه لله (3)، كما ذكر عن غير واحد من الصحابة في هذا.
وقوله: " هل(4) ترك لنا عقيل من دار ؟! ": دليل على بقاء ملك دور مكة لأربابها.
وقد اختلف في مكة ودورها ورباعها هل هي مملوكة لأحد أم لا ؟ على اختلاف(5) في دخولها، هل هو(6) عنوة أو صلح ؟ ومذهب مالك وأبي حنيفة والأوزاعي أنها عنوة، ومذهب الشافعي أنها صلحية، لكن من رآها عنوة، قد قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - منَّ على أهلها وسوغهم أموالهم ودورهم، ولم يجعلها فيئا ولا قسمها. قال أبو عبيد: ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلاد.
__________
(1) في (ط):" فمذهب مالك ".
(2) في (ط):" فلم ير أن يرجع ".
(3) في (ط):" له ".
(4) في (ط):" وهل ".
(5) في (ط):" الخلاف ".
(6) في (أ):" هي ".(5/254)
وكذلك اختلفوا في كراء دورها وبيعها لهذا، وفي تأويل قوله:{ سواء العاكف فيه والباد }، فقال جماعة من السلف: أهل مكة وغيرهم في المنازل سواء، ولا يحل بيعها ولا كراؤها، وتأولوا الأية على هذا، وهو قول أبي حنيفة والثوري، وكره مالك بيعها وكراءها، وأجاز ذلك الشافعي وأبو يوسف وبعض السلف والصحابة، وتأولوا الآية على المسجد وهو للمصلين، ويكون الحديثان صحيحين(1). قالوا: وفيه حجة على أن للإمام إبقاء الأرض بعد افتتاحها عنوة بأيدي أربابها إن أسلموا أو لم يسلموا، لما يراه من استيلافهم(2) إن كانوا مسلمين، أو ليضرب الجزية عليهم إن بقوا على دينهم وأقرهم بها، ويكون تركها لهم بتطييب نفوس أهل الجيش(3)، كما فعل في سبي هوازن، أو بتقويمها من الخمس. على أنه لم يرو أنه قسم من أموال أهل مكة شيئًا، وإنما كان تفضلاً منه وممن معه من المسلمين عليهم لقرباهم وليجبرهم، كما جاء في لفظ الحديث الآخر ؛ ولأن الله تعالى قد عوضهم بعد من أموال هوازن أضعاف ذلك. وفيه حجة لمن يقول: إن الغانمين لا يملكون الغنيمة بحوزها إلا بتمليك الإمام وقسمها بينهم ؟ ولهذا ما اختلف في قطع سارقهم منها وحد زانيهم بمن(4) فيها، وسيأتي هذا في الجهاد. وفيه على قول من قال: إن عقيلا باع ديار بني عبد المطلب ملك المشركين لما حازوه من أموال المسلمين ؛ إذ لو لم يملكوه لم يصح شراؤه لمن اشتراه منهم، ولأخذه من وجده في المقاسم دون ثمن وسيأتي الكلام عليه أيضًا في موضعه.
__________
(1) في (ط):" فيكون الخبر بيان صحيحين ".
(2) في (ط):" إسلافهم ".
(3) في (ط):" الجنس ".
(4) في (ط):" من ".(5/255)
وقوله (1):" للمهاجر إقامة ثلاث بعد الصدر بمكة لا يزيد عليها ": بين(2) هذا بقوله في الرواية الأخرى:" بعد قضاء نسكه، وهو وقت صدر الناس آخر أيام منى بعد تمام نسكهم، فيقيم هو بعدهم لحاجة، لا أنه يقيم بعد أن يطوف طواف الصدر ثلاثة أيام، ويجزيه ما تقدم من طوافه، بل يعيده عند كافتهم، إلا ما ذكرناه عن أهل الرأي وقد تقدم. وفي هذا الحديث دليل على أن الثلاث ليست مدة(3) إقامة، وهذا الأصل في إقامة المسافر وإتمامه الصلاة، وما أخذ به مالك في الزيادة على الثلاث وهو أن ينوى إقامة أربعة أيام ؛ إذ لم يجعل هنا الثلاث إقامة. وهذا الحديث حجة لمن منع المهاجر بعد الفتح من المقام بمكة وهو قول الجمهور، وأجاز ذلك جماعة لهم بعد الفتح، مع الاتفاق على وجوب الهجرة عليهم قبل الفتح، ووجوب سكنى المدينة لنصرة النبي - عليه السلام - ومواساتهم له بانفسهم، ولفرارهم بدينهم من الفتنة(4). وأما لغير(5) المهاجر - ممن أمن بعد ذلك - فلا خلاف في جواز سكنى بلده له، مكة أو غيرها.
وقوله (6):« لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا »، فيه حجة لبقاء الجهاد، وكونه فرضًا. وقد اختلف العلماء في هذا، هل سقط فرضه على الجملة إلا أن تقدح قادحة، أو يطرق العدو قومًا، أو هو باق، والقولان عندنا، وسنبسطه في الجهاد إن شاء الله تعالى.
وقوله:« إن هذا البلد حرمه الله »، إلى قوله: ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، وقد قال أيضًا في الحديث الآخر:" إنه دخلها وعلى رأسه المغفر"، وفي الحديث الآخر:" وعلى رأسه عمامة سوداء بغير إحرام "، وسقط قوله: " بغير إحرام "، عند ابن أبي جعفر من شيوخنا، وثبت لسائرهم، ففي إثباتهم الحجة أنه لم يكن محرما.
__________
(1) في (ط):" قوله ".
(2) في (ط):" فسد ".
(3) في (ط):" بمدة ".
(4) في (أ):" الفتن ".
(5) في (ط):" الغير ".
(6) في (ط):" قوله ".(5/256)
قال الإمام: قال بعض أصحابنا: لا تدخل(1) مكة إلا بإحرام إلا لمثل إمام في جيشه للضرورة، وقانل هذا اتبع الحديث على وجهه، واختلف قول مالك هل دخوله بإحرام واجب أو مستحب، وأسقطه عمن يكثر تردده كالحطابين وأصحاب الفواكه.
قال القاضي: اختلف قول الشافعي في ذلك كاختلاف قول مالك، ويمنعه إلا للحطابين ومن يكثر تردده عليها، وأجاز ذلك أبو حنيفة والليث. قال أبو حنيفة: إلا لمن منزله وراء المواقيت فلا يدخلها إلا بإحرام، وأجاز ابن شهاب لغير الحاج والمعتمر دخولها بغير إحرام، ورواه ابن وهب عن مالك، وإليه نحا البخاري، وهو قول أهل الظاهر، وروى عن الحسن والقاسم، وقال أخرون: حكم المواقيت في المنع حكم من كان قبلها، وإليه ذهب الطحاوي.
ثم اختلفوا فيمن دخلها بغير إحرام، فقال مالك والشافعي والليث وأبو ثور: لا شيء عليه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يلزمه حج أو عمرة، وقاله الثوري وعطاء والحسن بن حيي.
وقوله: " ولا يحل لأحد بعدى "، قال الطبري: أي: للقتال الذي حل لي ومحاربة أهلها ؛ لأنهم لا يكفرون فيقاتلون، ويحل منهم ما حل لي على طريق النهي، لا على طريق الخبر أنها تقاتل ؛ إذ قد قاتلها الحجاج وغيره. وأخبر - عليه السلام - عن غلبة ذي السويقتين عليها وتخريبه لها، وإنما أخبر عن حكم قتال أهلها أنه(2) لا يحل لأحد بعده، وذهب الطحاوي إلى أن هذا كان خصوصًا(3) للنبي - عليه السلام -.
وقوله:« لا يعضد شجرها »، قال الإمام: أي: لا يقطع، يقال: عضد واستعضد بمعنى ؛ كما يقال: علا واستعلا.
__________
(1) في (ط):" يدخل ".
(2) في (ط):" لأنه ".
(3) في (أ) علامة إلحاق، ولم يظهر شيء في الهامش، وليس ما يدل على سقط.(5/257)
قال القاضي: وقع في الرواية الأخرى:" شجراؤها " وهو الشجر، قال الطبري: معنى " يعضد ا: لا يفسد ويقطع، وأصله من عضد الرجل(1)؟ أصاب عضدا بسوء، وفي العين المعضد من السيوف ما يمتهن في قطع الشجر. ومعنى " لا يختلى خلاها: أي: لا يحصد كلؤها. والخلى المقصود الكلأ الرطب، فإذا يبس فهو حشيش وهشيم. واتفق الفقهاء أن النهي فيما نبت بارضها مما لم يعانه البشر من الزراعة والخضر والقصيل، فإن هذا مباح زراعته واختلاؤه. واختلف في الرعى فيما أنبته الله من خلاها، فمنع ذلك أبو حنيفة ومحمد بن الحسن، وأجازه غيرهما.
وقوله:" لا يخبط شوكها ": أي: لا يضرب(2) بالعصا ليتكسر ويتساقط رطبه من ورقه فتأكله الماشية. قال الإمام: الخبط، بالإسكان، مصدر خبطت، وخبط الشجر: ضربه بالعصا ليتحات ورقه، واسم ذلك(3) الورق خبط: بالفتح، وهو من علف الإبل والذي(4) يضرم(5) به مخبط(6)، بكسر الميم، ويقال: خبطت واختبطت بمعنى.
قال القاضي: قال الطبري: فلا يجوز قطع أغصان شجر مكة التي أنشأ الله فيها مما لا صنع فيه لآدمى، وإذا لم يجز قطع أغصانها - يعني وهو تفسير العضد - فقطع شجرها أحرى بالنهي. قال ابن المنذر: أجمع العلماء على تحريم قطع شجر الحرم.
قال الإمام: اختلف الناس في قطع شجر الحرم، هل فيه جزاء أم لا ؟ فعند مالك: لا جزاء فيه، وعند أبي حنيفة والشافعي: فيه الجزاء. واحتجوا بأن بعض الصحابة حكم في دوحة ببقرة. ويحتج لمالك أن الجزاء لا يجب إلا بشرع، والأصل براءة الذمة، ولم يرد شرع بذلك.
__________
(1) قوله:" الرجل " تكرر في (ط).
(2) في (ط):" تضرب ".
(3) في (ط):" ذاك ".
(4) في (أ) علامة إلحاق، ولم يظهر شيء في الهامش، وليس ما يدل على سقط.
(5) في (ط):" يضرب ".
(6) في (أ):" اخبط مخبط ".(5/258)
قال القاضي: مذهب أبي حنيفة وصاحبه، وهو قول الشافعي على ماذكره الطبري:. أن ذلك فيما لم يغرسه الادمي من الشجر، وأما ما غرسه الآدمي فلا شيء عليه فيه، وهذا مذهب مالك عند شيوخنا، وحكى الخطابي أن مذهب الشافعي منع قطع ما غرسه الآدمي من شجر البوادي ونماه، وأنه وغيره مما أنبته الله سواء. واختلف قوله في جزاء الشجر على اختلاف مالك وأبي حنيفة، وعند الشافعي: في الدوحة بقرة، وما دونها شاة. وعند أبي حنيفة: يؤخذ منه قيمة ما قطع، يشترى به هدي، فإن لم يبلغ تصدق به بنصف صاع لكل مسكين.
وأما قوله:" ولا ينفر صيده "، قال الإمام: مذهب مالك أن صيد الحلال في الحرم يوجب عليه الجزاء، ولم ير ذلك داود ورأى الجزاء مختصًّا بالإحرام لا بالحرم، وهذا غير صحيح ؛ لأن الصيد محرم في الحرم، ولو كان كاللباس والطيب لحل كما حلا. وحجة مالك عليه قوله تعالى:{ لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم }، ويعبر عمن حل بالحرم بأنه محرم، كما يقال فيمن حل بنجد: منجد، وبتهامة: متهم، قال الشاعر:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرمًا ودعا فلم ير مثله مخذولاً
يعني ساكنًا بالحرم، ولأن حرمة الحرم متأبدة، والإحرام مؤقت فكان المؤبد آكد. واختلف الناس أيضًا في الحلال إذا صاد صيدًا في الحل، ثم أتى به الحرم فأراد ذبحه به، فأجاز ذلك له مالك، ومنعه أبو حنيفة وقال: يرسله، ولمالك عليه: أنه لا يسمى صيدًا ما كان في اليد والقهر، فلم يكن داخلاً في قوله: " لا ينفر صيده "، وكذلك اختلف مالك وأبو حنيفة فيمن صاد في الحرم، هل يدخل في جزائه الصيام ؟ فاثبته مالك، ونفاه أبو حنيفة. ولمالك عموم الأية وفيها الصيام، ورأى أبو حنيفة أن ما يضمن ضمان إتلاف الأملاك فلا معنى لدخول الصيام فيه، واستدل بأنه لو أطلقه لكان ضامنًا له حتى يعود الصيد إلى الحرم، فصار الحرم كيد رجل مالك، يبرأ الغاصب بإعادة الملك إليه.(5/259)
قال القاضي: وقال الطبري في قوله:" لا ينفر صيدها "، حجة على(1) تحريم اصطياده ؛ لأنه إن نهى عن تنفيره فاصطياده آكد في التحريم، وقال عكرمة: هو أن ينحيه من الظل إلى الشمس، ولا خلاف أنه إن نفره فسلم أنه لا جزاء عليه، إلا أن يهلك، لكن عليه الإثم لمخالفة نهي النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا شيء(2) روي عن عطاء أنه يطعم.
وقوله:" ولا يحل لقطتها إلا لمنشد "، قال أبو عبيد: لمعرف، وأما الطالب فيقال له: ناشد، وأنشدوا عليه:
إصاخة الناشد(3) للمنشد
يقال: نشدت الضالة: إذا طلبتها، فاذا عرفتها قلت: أنشدتها. وأصل الإنشاد رفع الصوت، ومنه إنشاد الشعر.
قال الإمام: عند مالك أن حكم اللقطة في سائر البلاد حكم واحد، وعند الشافعي أن لقطة مكة بخلاف غيرها من البلاد، وأنها لا تحل إلا لمن يعرفها، تعلقا بهذا الحديث، ويحمل اللفظ على أصلنا على المبالغة في التعريف؛ لأن الحاج يرجع إلى بلده وقد لا يعود إلا بعد أعوام فتدعو الضرورة لإطالة التعريف بها بخلاف غير مكة.
قال القاضي: معنى ما ذهب إليه أبو عبيد هو ما ذهب إليه المخالف، أي: أنه لا تحل لملتقطها البتة، وليس يحل له إلا إنشادها والتعريف بها كما جاء في الرواية الأخرى:" إلا لمعرف "، وحكى معناه عن ابن مهدى، وحكى عن غيره: المنشد: الطالب، أي: ربها، قال: ولا يجوز أن يقال للطالب: منشد، قال: وفيها قول ثالث: أراد أنه إن لم ينشدها لم تحل له، أي: لا تحل(4) له إلا بعد الإنشاد وألا يجىء لها طالب.
__________
(1) في (ط):" عن ".
(2) في (ط):" شيئًا ".
(3) في (ط):" المنشد ".
(4) في (ط):" يحل ".(5/260)
قال القاضي: وهذا يأتى على أنها وغيرها من لقطات البلاد سواء، وقال ابن قتيبة: معناه: أنه لا يحل التقاطها إلا بنية الإنشاد دون التعريف وإلا فليدعها، قال: لعل صاحبها ربما يذكرها، فطلبها حيث تركها فلم يجدها، فالواجب على من وجدها ألا يتعرض لها، إلا أن يأخذها ليعرفها. وقال غيره: معناه: لا يحل التقاطها إلا أن يسمع من ينشدها فيأخذها ويرفعها، وهذا حكم هذه. قال القاضي: وإنما فرق من فرق بين لقطة مكة وغيرها ؛ لأن سائر المسافرين من البلاد النائية لغيرها لا يتكررون في أسفارهم إليها غالبًا، والغالب ترددهم سنة في أسفارهم، فضرب الإنشاد للضالة هذه في غير مكة سنة لهذا؛ لأنه إن كان صاحبها من أهل البلد أو مسافرًا فيه أو بقربه، لابد(1) يبلغه خبرها بالإنشاد سنة، فإذا كملت السنة غلب اليأس أنها لغير حاضر، وأنها إما لميت أو منقطع الغيبة بعيد. ومكة فكثير من الناس يرجع إليها ويتردد للحج(2) والعمرة عليها، وان لم يكن هو فلا تنفك(3) الجماعة من أهل بلده وقرابته من(4) الحج، فيبلغه خبر لقطته، فخصت بذلك دون غيرها عند هؤلاء، وهذا قول الشافعي وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهما، وأما مالك وأصحابه فلقطة مكة وغيرها عندهم سواء، في أنها لا تملك وانما له إمساكها بعد السنة على ربها، أو تكرار إنشادها، أو يتصدق بها ويضمها لصاحبها، أو يستنفقها على وجه السلف إن احتاج إليها ليغرمها لصاحبها، وقيل: ليس له هذا إلا أن يكون له وفاؤها وهو صحيح. فعلى هذا هم مجمعون على أنه لا يحل استنفاق لقطة مكة، وانما اختلفوا في غيرها بعد السنة، إلا ما ذكرناه على تأويل بعضهم، وسيأتي بقية الكلام عليها في موضع ذلك من كتاب مسلم إن شاء الله(5).
__________
(1) في (ط):" لأنه ".
(2) في (ط):" وتردد الحج ".
(3) في (ط):" ينفك ".
(4) قوله:" من " ليس في (أ).
(5) قوله:" إن شاء الله " ليس في (أ).(5/261)
وقول العباس: إلا الاذخر. فقال: " إلا الإذخر "، وهو نبت معلوم، وقد قال - عليه السلام -: " إن الله حرمها ولم يحرمها الناس "، فاستثناء النبي - صلى الله عليه وسلم - الإذخر يدل على أنه مما لم يحرمه الله، وأن حرمتها هي في نفسها من تحريم الله. ومن هذه المحرمات ما حرم الله ومنها ما حرمه - عليه السلام - أو جميعها من تحريمه - - عليه السلام -. وقال المهلب: وقد يكون الجميع مما حرمه الله، لكن قد أعلم رسوله بتحليل المحرمات عند الاضطرار، فكان هذا من ذلك الأصل، فحكم فيه بذلك الحكم باجتهاده - عليه السلام -.
وقوله:" ولا فارًّا بخربة "، كذا رويناه هنا بفتح الخاء وبالراء والباء بواحدة، وفسره بعضهم بالبلية،وبعضهم بالسرقة في "جامع البخاري"، وقال الخليل: هو مشتق من الخارب وهو اللص المفسد في الأرض. ويقال: ما رأيت من فلان خربة،أي: فسادا في دينه أو شيئًا. والخربة: الفساد في الدين، وقد تقدم الكلام على معنى " لا يعيذ(1) عاصيًا ولا فارًا بدم " والخلاف فيه، ويأتى بعد منه إن شاء الله. وضبطه الأصيلي في "صحيح البخاري" بضم الخاء، ويصح على الفعلة الواحدة مما تقدم. ورواه الترمذي من بعض الطرق: " بجزية "، وأراه وهما.
وقوله:« اكتبوا لأبي شاه »، قال الإمام: فيه دليل على جواز تدوين العلم والسنن وكتبه في الصحائف، ويحكى عن بعض السلف كراهية ذلك.
__________
(1) في (ط):" تعيذ ".(5/262)
قال القاضي: من كرهه من السلف فلأحاديث رويت في ذلك منها عن أبي سعيد:" استاذنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكتابة فلم يأذن لنا "، وعن زيد بن ثابت: " أمرنا - عليه السلام - ألا نكتب شيئًا "، وأخذ بذلك جماعة من الصحابة ومن بعدهم من التابعين، ومخافة الاتكال على الكتاب وترك الحفظ، ولئلا يكتب شيء مع القرآن، ثم جاءت أحاديث بالإذن في الكتاب في(1) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وأجازه معظم الصحابة والتابعين، ووقع عليه بعد الاتفاق، ودعت إليه الضرورة، لانتشار الطرق، وطول الأسانيد، واشتباه المقالات، وكثرة النوازل، مع قلة الحفظ وكلال الفهم.
وقوله:« ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ؛ إما أن يفدي، وإما أن يقتل»، في الكلام اختصار، ومعناه: يفدي(2) أي: يقتل قاتله أو يفدي، وتقيد عند بعض شيوخنا " يقتل"، وهو أبين لا سيما(3) مع رواية من روى(4):"يفادي"، ووقع فيه في البخاري اختلاف في اللفظين، ووهم في بعضها. وفي بعض رواياته:" إما أن يفاد، وإما أن يعقل "، وهو بمعنى ما تقدم. ففى قوله: "يعقل "، و "يفدي "، حجة لإحدى الروايتين عن مالك أن أولياء القتيل بالخيار في القتل، أو إلزام الدية للقاتل إجبارًا، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وروى(5) عن ابن المسيب وابن سيرين، وقال مالك أيضًا: ليس له إلا القتل أو العفو، ولا يجبر القاتل على الدية ولا الأولياء(6). وقد احتج من يقول بهذا القول بقوله في بعض روايات البخاري:" يفادي "، قال: وهذا لا يكون إلا(7) من اثنين، أي: بتراضيهما وصلحهما على ذلك لا إجبارًا.
__________
(1) في (أ):" ففي ".
(2) قوله:" يفدي " ليس في (ط).
(3) في (ط):" أبين لسيما ".
(4) في (ط):" رواه ".
(5) في (أ):" روي ".
(6) قوله:" ولا الأولياء " ليس في (أ).
(7) قوله:" إلا " ليس في (أ).(5/263)
وقوله: " لا يحل لأحدكم أن يحمل السلاح بمكة "، هذا محمول عند أهل العلم على حمله لغير ضرورة ولا حاجة له(1)، فإن كان خوف وحاجة إليها جاز وهو قول مالك والشافعي وعطاء وعكرمة(2)، وكرهه الحسن البصرى تمسكًا بظاهر هذا الحديث، وحجة الآخر: دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - عام القضية بما شرطه من السلاح ؟ القراب بما فيه، ودخوله يوم الفتح وعلى رأسه المغفر، وأن للضرورة حالة، وشذ من الجماعة عكرمة فرأى عليه إذا احتاج إليه وحمله(3) الفدية، ولعل هذا في حاجته إلى المغفر والدرع وأشباهها، فلا يكون خلافًا منه في دخول النبي - عليه السلام - وعلى رأسه المغفر، وجاء في الرواية الأخرى:" وعلى رأسه عمامة سوداء "، ووجه الجمع بينهما(4): أن أول دخوله كان وعلى رأسه المغفر، وبعد ذلك كانت عليه العمامة ؛ بدليل حديث عمر وابن حريث عن أبيه، ذكره مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس وعليه عمامة سوداء، ولأن خطبته - عليه السلام - إنما كانت بعد غلبته على مكة وعند باب الكعبة، ويحتمل(5) أن جابرا الذي ذكر أنه دخل مكة وعليه عمامة، ولم(6) يتعرض لذكر المغفر(7) الذي دعته إليه ضرورة(8) الحرب، فلا يستدل به على أنه دخلها حلالاً، وتعرض لما رآه عليه بعد نزعه المغفر من العمامة بعد زوال عذر الخوف ووضع أوزار الحرب ؛ بدليل قوله:" بغير إحرام " والأظهر أنه دخل - عليه السلام - مكة غير محرم، وقد جاء في حديث يحيى وقتيبة: " ولم يكن محرمًا ". قال الباجي: وقد يحتمل أنه غطى رأسه لأذى أصابه، واضطره إليه ذلك الوقت، لو ثبت أنه دخل محرمًا.
__________
(1) قوله:" له" ليس في (أ).
(2) قوله:" عكرمة" ملحق بحاشية (أ) ولم يتضح.
(3) في (أ) مكان:"وحمله" علامة إلحاق ولم يظهر شيء بالحاشية.
(4) في (ط):" بينهم ".
(5) في (أ) تشبه:" محتمل ".
(6) في (ط):" لم ".
(7) قوله:" لذكر المغفر " ليس في (أ).
(8) في (ط):" الضرورة ".(5/264)
قال القاضي: وقول الكافة إن هذا خصوص للنبي - عليه السلام - لقوله:« إنما أحلت لي ساعة من نهار »، فخص منها بما لَمَّ يخص(1) به غيره، ويكون كيف كان محرما أو غيره مضطرًا للباس المغفر، لما كان دخلها محاربًا، ألا تراه لما غلب عليها وألقى أهلها بأيديهم، نزع المغفر عن رأسه، فيحتمل أن العمامة كانت تحت المغفر ؛ صيانة لرأسه من برد المغفر وخشونته، فلما نزع المغفر ظهرت العمامة التي ذكر من ذكر أنه دخل مكة وهي على رأسه على ما ذكرناه. قال الخطابي: قيل: إنما أحلت له في تلك الساعة إراقة الدم دون الصيد وغيره، مما يحرم على المحرم.
وقول القائل له: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال:« اقتلوه »، حجة للمالكية في(2) أنها يقام بها الحدود، وقد تقدم الخلاف في ذلك،ولا حجة للمخالف بأنها أحلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة من نهار. فالذى أحل له منها قتالها حتى استولى عليها. وقتله ابن خطل إنما كان بعد استيلائه وغلبته واذعان أهلها. وإنما(3) قتله بعد قوله:« ومن دخل المسجد فهو آمن »، وقد دخل هذا المسجد؛ لأنه ممن لم يدخل في أمانه، واستثناه وأمر بقتله وإن وجد متعلقًا بأستار الكعبة، على ما جاء في الأحاديث الأخر، وقيل: لأنه ممن لم يلزم الشرط وقاتل وبعد ذلك دخل المسجد، وكان قد ارتد عن الإسلام، وقتل مسلمًا كان يخدمه، وجعل يهجو النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسبه. وقد احتج بعض أصحابنا بقتله على قتل من سب(4) النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يضعف في حق هذا للموجبات لقتله من غير هذا مما ذكرناه.
__________
(1) قوله:" يخص " ليس في (أ).
(2) قوله:" في " ليس في (أ).
(3) في (أ):" وأما ".
(4) في (ط):" من يسب ".(5/265)
وقوله في آخر الحديث من رواية مالك: فقال:« اقتلوه »، فقال: نعم، أي: أن مالكًا قال ليحيى بن يحيى حين أكمل الحديث: نعم ؛ لأن يحيى قال أولاً في روايته(1): قلت لمالك: حدثك ابن شهاب، وذكر الحديث، فلما أكمله قال له مالك: نعم، أي: كذا حدثني ابن شهاب. وقد وقع في بعض نسخ مسلم ما ذكرناه مفسرًا بهذه الزيادة، يريد به عندي، فقال مالك: نعم، ولم تكن هذه الزيادة عند أحد من شيوخنا، لكنه صحيح المعنى على ما قلناه، وهذا هو الذي يسميه أهل الحديث الإقرار في العرض، ويشترط بعض الظاهرية هذا القول من الشيخ في صحة العرض عليه والقراءة، وقد جاء في هذا الحديث وغيره أن مالكًا عمل به، وجاء عنه أنه أنكره مرة لمن ساله إياه وقال: ألم أفرغ لكم نفسي وسمعت عرضكم، وأقمت سقطه وزلَله. والصحيح أنه غير لازم ؛ إذ سكوت الشيخ إقرار كنطقه ؛ إذ لا يصح(2) من ذي دين أنه(3) يقر على خطأ في مثل هذا، فلا معنى لاشتراطه، وهو مذهب الكافة، ومن فعله فعلى(4) طريق التأكيد لا للزوم(5) والشرط.
وقوله:« إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها »، وقد تقدم أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، وقال تعالى:{ إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرّمها }، وفي الحديث الآخر:" ولم يحرمها الناس "، أي: لم يحرمها الناس من قبل أنفسهم كما حرمت الجاهلية أشياء، وأما إبراهيم فيحتمل أن تحريمه إياها بإعلام الله له أنه حرمها، فتحريمه لها بتحريم الله لا من قبل اجتهاده ورأيه، أو وكل الله إليه تحريمها فكان عن أمر الله، فأضيف إلى الله مرة لذلك، ومرة إلى إبراهيم بحكمه، أو لأنه كما جاء في الحديث: " دعا لها فكانت تحريم الله لها بدعوته ".
__________
(1) في (ط):" رواية ".
(2) في (أ):" يحتج ".
(3) في (ط):" أن ".
(4) في (ط):" فعلى هذا ".
(5) في (ط):" اللزوم ".(5/266)
وقوله في العمامة:" أرخى طرفها بين كتفيه، حجة في جواز إرخاء ذؤابة العمامة واستحبابه ؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له، وسيأتي في كتاب اللباس حكمها وسنتها، ورواه بعض الرواة: "طرفيها(1)"، والأول الصواب المعروف(2).
وقوله(3) - عليه السلام -:« وإنى حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة "، قال الإمام: مذهب مالك أن المدينة حرم لهذه الأحاديث، وأنكره أبو حنيفة، واحتجوا له بأن هذا مما يعم فلا يقبل فيه خبر الواحد، وبقوله - عليه السلام - في الحديث الآخر: "ما فعل النغير يا أبا عمير؟" والجواب عن الأول: أن الحديث شهر عند أهل النقل وكثر واتفق على صحته، وقد يكون بيانه - عليه السلام - بيانًا شافيًا، ولكن(4) اكتفى الناس بنقل الآحاد فيه، استغناء ببعض عن بعض. وحديث النغير أجاب بعض أصحابنا فيه(5)، بجوابين:
أحدهما: أنه يمكن أن يكون قبل تحريم المدينة.
والثاني: يمكن أن يكون أدخله من الحل ولم يصده في حرم المدينة.
قال: وهذا الجواب لا يلزم عندي على أصولهم، وقد ذكرنا من قولهم: إن الحلال إذا دخل الحرم بالصيد وجب عليه إطلاقه. واختلف عندنا إذا صاد الصيد في حرم المدينة، فالمشهور ألا جزاء عليه ؛ لأن ثبات الحرمة لا يوجب إثبات الجزاء، والأصل براءة الذمة. وقال ابن نافع: فيه الجزاء، وقاسه على حرم مكة.
قال القاضي: ومثل قول ابن نافع هذا قال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى وحكى القاضي أبو الحسن بن القصار عن بعض اصحابنا أنه الأشبه بمذهب مالك. واختلف قول الشافعي في ذلك، وكافة الناس على خلاف هذا القول، كما أنهم مخالفون لأبي حنيفة في إباحة صيدها وقطع شجرها وحلها، وقد روى عن مالك كراهة اكله، قال: وليس كالذى يصاد بمكة. قال بعض شيوخنا: وعلى القول فيه بالجزاء يكون حرامًا.
__________
(1) في (ط):" طرفها ".
(2) في (ط):" بالمعروف ".
(3) في (ط):" قوله ".
(4) في (ط):" لكن ".
(5) قوله:" فيه " ليس في (أ).(5/267)
وقوله:« ما بين لابتيها حرام »، قال الإمام: قال الأصمعي: اللابة: الأرض ذات الحجارة السود، وجمعها لابات في القليل، ولاب ولوب في الكثير(1)، مثل قارة وقور(2)، وساجة وسوج، وباحة وبوح. قال الهروى: يقال: ما بين لابتيها أجهل من فلان، أي: ما بين طرفى المدينة.
قال القاضي: قال ابن حبيب: اللابتان: الحرتان ؟ الشرقية والغربية. وللمدينة حرتان أخريان(3)؟ حرة في القبلة وحرة في الجوف، وترجع كلها إلى الحرتين الغربية والشرقية لاتصالهما بهما ؟ ولذلك حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين لابتيها جمع دورها كلها في اللابتين، وقد ردها حسان كلها حرة واحدة لاتصالها، فقال:
لنا حرة ماطورة بجبالها بنى العز فيها بيته(4) فتأثلا
ومعنى:" ما طورة ": معطوفة بجبالها لاستدارتها.
وقوله: " لا تقطع عضاهها، ولا يصاد صيدها ": نص في تحريم الصيد وقطع شجرها، على ما تقدم لجمهور العلماء، خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه في إباحة ذلك فيها. والعضاه، مقصور: كل(5) شجر له: شوك، واحده عضاهة وعضهة(6) وعضة، كالطلح والعوسج والبينوت(7). قال الخليل: ويقال له السدر أيضًا، مما له أرومة تبقى على الشتاء. قال أبو زيد: هر ما غلظ منه. قال ابن حبيب: أو تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما بين(8) لابتى المدينة إنما ذلك في الصيد خاصة، وأما في قطع الشجر فبريد في بريد في دور المدينة كلها، بذلك أخبرني مطرف عن مالك، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن وهب.
__________
(1) في (ط):" الكثيرة ".
(2) في (ط):" قازة وقوز ".
(3) في (ط):" أخرتان ".
(4) في (ط):" نبيه ".
(5) قوله:" كل " ليس في (أ).
(6) في (ط):" عضيهة ".
(7) في (ط) تشبه:" البنتوت ".
(8) قوله:" مابين " ليس في (أ).(5/268)
وقد ذكر مسلم في بعض طرقه: " إني أحرم ما بين جبليها " وفي حديث أبي هريرة: " وجعل اثنى عشر ميلاً حول المدينة حمى "، وهذا تفسير لما ذكره ابن وهب ورواه مطرف عن مالك وعمر بن عبد العزيز، قال المهلب: قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - النخل فيها حين بني مسجده، يدل أن النهي(1) لا يتوجه لقطع شجرها للعمارة وجهة الإصلاح، وأن يقطع(2) شجراؤها وشوكها ليتخذ موضعه جنانًا وعمارة، وأن توجه النهي، إنما هو القطع للفساد لبهجة(3) المدينة وخضرتها، في عين الوارد عليها والمهاجر إليها (4).
قال القاضي: وقد ذكر ابن نافع عن مالك نحو هذا، قال: إنما نهى عنه لئلا تتوحش، وتبقى(5) فيها شجرها ليستأنس(6) به، ويستظل به من هاجر إليها. وحكى الخطابي وغيره: أن قطع الشوك غير ممنوع لما فيه من الضرر، وقد ذكر مسلم في حديث زهير:" ولا يختلا شوكها "، وقيل: بل قطعه - عليه السلام - للنخيل إنما هو قطع لما غرسه الادمي، والنهي إنما يتوجه إلى ما أنبته الله مما لا صنع فيه لادمى. وقوله: "لا يثبت أحد على لأوائها "، وفي الرواية الأخرى:" لا يصبر على لأوائها(7) وجهدها(8)"، اللأواء، ممدود، قال الإمام: هو الجوع وشدة الكسب.
قال القاضي: وتفسيره قوله: " وجهدها "، وقيل: يحتمل أن تعود الشدة على الجوع، وعلى كل ما يشتد معه سكناها ويستضر به.
__________
(1) في (ط):" النبي ".
(2) في (ط):" تقطع ".
(3) في (ط):" لنهجه ".
(4) في (ط):" لها ".
(5) في (ط):" يبقى ".
(6) في (ط):" يستأنس ".
(7) من قوله:" وفي الرواية الأخرى...." إلى هنا ليس في (ط).
(8) في (ط):" وشدتها ".(5/269)
وقوله:« إلا كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة »، سئلنا قديمًا عن معنى هذا ولم خصص - عليه السلام - ساكن المدينة بهذا من شفاعته، ومع ما يثبت من ادخاره إياها لجميع أمته، وهل " أو " هنا للشك أو لغيره ؟ ولنا على هذا جواب شافٍ(1) مقنع في أوراق اعترف بصوابه كل من وقف عليه، نذكر(2) منه هنا لمعًا تليق بالموضع: والأظهر أن " أو " هنا ليست للشك، خلاف من ذهب من شيوخنا إلى ذلك ؛ إذ قد روى هذا الحديث جابر، وأبو هريرة، وابن عمر، وأبو سعيد، وسعد بن أبي وقاص، وأسماء بنت عميس، وصفية بنت أبي عبيد، عن النبي - عليه السلام - بهذا اللفظ، وبعيد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الثك ووقوعه من جميعهم وتطابقهم فيه على صيغة واحدة، بل الأظهر أنه كذا قاله النبي - عليه السلام -، فإما أن يكون أعلم - عليه السلام - بهذه الجملة هكذا أو تكون(3) "أو" للتقسيم، ويكون أهل المدينة صنفين: شهيدًا لبعضهم، وشفيعًا لآخرين، إما شفيعًا للعاصين وشهيدًا للمطيعين، أو شهيدًا لمن مات في حياته وشفيعًا لمن مات بعده، أو غير ذلك مما الله أعلم به، وهذه خاصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعالمين في القيامة، وعلى شهادته على جميع الأمة، وقد قال - عليه السلام - في شهداء أحد:« أنا شهيد على هؤلاء »، فيكون لتخصيصهم بهذا كله زيادة منزلة وغبطة وحظوة.
__________
(1) في (أ):" شافع ".
(2) في (ط):" يذكر ".
(3) في (ط):" هكذا ويكون ".(5/270)
وقد يكون:" أو " هنا هي التي بمعنى الواو، فيكون لأهل المدينة شهيدًا وشفيعًا، وقد روي:« إلا كنت له شهيدًا أو له شفيعًا »، وإذا جعلناها للشك - كما ذهب إليه المشايخ - فإن كانت اللفظة الصحيحة الشهادة اندفع الاعتراض ؛ إذ هي زائدة على الشفاعة المدخرة المجردة لغيرهم، وإن كانت اللفظة الصحيحة الشفاعة فاختصاص أهل المدينة بهدا، مع ما جاء(1) من عمومها وادخارها لجميع أمته، أن هذه شفاعة أخرى غير العامة التي هي لإخراج أمته من النار، ومعافاة بعضهم منها بشفاعته في القيامة، وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات، أو تخفيف الحساب، أو ما شاء الله من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة والمبرة ؟ من إيوائهم في ظل العرش(2)، أو كونهم في روح وعلى منابر، أو الإسراع بهم إلى الجنة، أو غير ذلك من خصوص المبرات الواردة لبعض دون بعض في الآخرة، والله أعلم.
وقوله:« لا يخرج أحدٌ رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه »، ذهب بعضهم أن هذا خصوص مدة حياته - عليه السلام - وقال آخرون: هو عموم أبدًا، وهذا أظهر ؟ لقوله في الحديث الآخر أول الكلام:« يأتى على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسى بيده، لا يخرج أحد منها رغبة عنها إلا أخلف الله فيها من هو خير منه » الحديث، وأن كلامه - عليه السلام -ممن يخرج عنها ممن كان مستوطنا بها.
__________
(1) قوله:" ما جاء " في مكانه بياض في (ط).
(2) في (أ):" في ظل عرش الرحمن ".(5/271)
وقوله:« من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله في النار ذوب الرصاص »، هذه الزيادة في النار ترفع إشكال الأحاديث التي لم تذكر فيها، وأن هذا حكمه في الاخرة، وقد يكون المراد به من أرادها في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا، فيكفى(1) أمره، ويضمحل كيده كما يضمحل الرصاص في النار(2)، ويكون في "النار "، مقدما في اللفظ، كما قال في الحديث الآخر: " كما يذوب الملح في الماء "، أو يكون(3) ذلك لمن أرادها في الدنيا فلا يمهله الله، ولا يمكن سلطانه، ويذهبه عن قرب، كما انقضى من شأن من حاربها أيام بني أمية مثل مسلم بن عقبة، وهلاكه منصرفه عنها، ثم هلاك يزيد بن معاوية(4) مرسله على إثر ذلك، وغيرهم ممن صنع مثل صنيعهم.
قيل(5): قد يكون الحديث فيمن كادها مغتالاً وطلب غرتها، فلا يتم له ذلك، خلاف من أتى ذلك جهارًا كالأمراء الذين استباحوها على ظاهر لفظه في الحديث: " لا يكيد "، وذكر في الباب: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، كلاهما عن أبي نا، قال أبو(6) بكر: ثنا محمد بن عبد الله الأسدي، وعند العذري: الأزدي، وهو خطأ. وفيه في حديث ابن أبي شيبة ثنا عامر بن سعد (7)، عن أبيه. وعند الصفدي: عمرو، والصواب عامر.
__________
(1) في (ط):" فكفى ".
(2) قوله:" في النار " ليس في (أ).
(3) في (أ):" ويكون ".
(4) في (أ):" لمعاوية ".
(5) في (ط):" وقيل ".
(6) في (ط):" أنا ".
(7) بعده في (أ) زيادة:" فسلبه الذي يقطع شجره ".(5/272)
وذكر في الحديث عن سعد: سلبه للذي(1) وجده(2) يقطع شجرًا(3) أو يخبطه. وقال لما كلم في ذلك:"معاذ الله أن أرد شيئًا نفلنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". حجة في تحريم المدينة ومنع(4) لقطع(5) شجرها، وعضدًا للحديث الآخر عنه - عليه السلام -: " من وجدتموه يصيد في حرم(6) المدينة ويقطع شجرها فخذوا سلبه، ولم يثبت عند أئمة الفتوى هذا الحكم، فلم يقل به أحد منهم بعد زمن الصحابة إلا الشافعي في قوله القديم، في صيد المدينة يؤخذ سلبه وفي فعل سعد. وما روى عن غيره من الصحابة في الأمهات، من إنكارهم صيد حرم المدينة، وإطلاقه من يد من وجدوه، وتأديبهم عليه، واحتجاجهم بتحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - لها، وكثرة من روى ذلك يرد حجة أبي حنيفة المتقدمة. وقد ذكر مسلم من ذلك حديث أنس ورافع بن خديج وعبد الله بن زيد بن عاصم وجابر وسعد(7) وعلي وأبي هريرة وأبي سعيد وسهل بن حنيف، سوى من ذكر غيره.
وقوله:" هذا جبل يحبنا ونحبه "، قال الإمام:قيل: المراد: يحبنا أهله، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، كما قال الله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل(8)}، أي: حب العجل، وقال تعالى:{ واسأل القرية }، أي: أهلها.
__________
(1) في (أ):" الذي ".
(2) قوله:" وجده" ليس في (أ).
(3) في (ط):" شجر ".
(4) في (ط):" وسمع ".
(5) في (ط):" قطع ".
(6) في (ط):" جرم ".
(7) في (ط):" جابر بن سعد ".
(8) في (ط):"{ العجل بكفرهم }".(5/273)
قال القاضي: وقيل: هو على ضرب آخر من المجاز، أي: نحن نحبه ونستبشر برؤيته، فلو كان هو ممن يعقل لأحبنا على سبيل مطابقة الكلام ومجانسة الألفاظ. وقيل: يحتمل أن يكون حقيقة، وأن الله جعل فيه، أو في بعضه إدراكًا ومحبة، كما قيل في تسبيح الحصى، وحنين الجذع وشبه ذلك، وتكون هذه من خوارق العادات، وجملة الايات، وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: أن محبتنا له محبة من يعتقد أنه يحبنا، وقيل: يحتمل(1) أن تكون المحبة هنا عبارة عن الانتفاع بمن يحبنا في الحماية والنصرة.
وقوله:« من أحدث حدثا، أو آوى محدثا »، أي: أتى إثْمًا، أو آوى من أتاه وحماه وضمه إليه، وهو نحو قوله تعالى في مكة:{ ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم }، ويقال: آوى وأوى، في اللازم والمتعدي، والقصر في اللازم أشهر، والمد في المتعدي أكثر، ولم نرو(2) هذا الحرف إلا محدثًا بالكسر.
قال الإمام: " في محدث " روايتان، فتح الدال وكسرها، فمن فتح نسبة إلى نفس الأحداث، ومن كسر نسبة إلى فاعل الحدث.
قال القاضي: وقوله - عليه السلام -:« فعليه(3) لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً »، وعيد شديد لمن فعل ذلك، ممن استحل(4) حرمتها، أو أحدث فيها. وقد استدلوا بما(5) جاءت به اللعنة أنه من الكبائر. وقوله آخر الحديث من رواية حامد بن عمر: قال: فقال ابن أنس: "أو آوى محدثا ": كذا عند عامة شيوخنا، فقال ابن أنس: وهو الصحيح إن شاء الله، أن ابن أنس ذكر أباه هذه الزيادة، وإلا فسياق الحديث كله من أوله من كلام أنس، فلا وجه لاستدراكه على هذا هو تلك اللفظة.
__________
(1) قوله:" يحتمل " ليس في (أ).
(2) في (ط):" يرو ".
(3) قوله:" فعليه " ليس في (أ).
(4) في (أ):" استخل ".
(5) في (أ):" لما ".(5/274)
وقد وقعت أول الحديث نفسه في سياق أنس في أكثر الروايات، وسقطت عند السمرقندي. وسقوطها هناك، يشبه أن يكون الصحيح ؛ ولذلك استدركت آخر الحديث - والله أعلم -.
وقوله:« لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً »، قال الإمام: اختلف في تفسير ذلك، فقيل: الصرف: الفريضة، والعدل: التطوع. وقال الحسن: الصرف: النافلة، والعدل: الفريضة. وقال الأصمعي: الصرف: التوبة، والعدل: الفدية. وروي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال يونس: الصرف: الاكتساب، والعدل: الفدية. وقال أبو عبيدة: العدل: الحيلة، وقال قوم: العدل: المثل ؛ لقوله تعالى:{ أو عدل ذلك صيامًا }، وقال بعضهم: العدل والعدل لغتان، لا فرق بينهما كالسلم والسلم. وقال الفراء: العدل: ما عادل الشيء من غير جنسه. والعدل: ما عادل الشيء من جنسه. يقال: عندي عدل ثوبك، أي: قيمته.
قال القاضي: وقيل: الصرف: الدية، والعدل: الزيادة، وروى عن الحسن في معنى الصرف هنا التصرف في العمل، فيحتمل أن يكون ما أوعد به من ترك قبول التوبة على ما فسر به(1) الصرف، وهي معرضة لجميع العاصين في قبول(2) الطاعات، ولا يحبطها إلا الكفر على ما فسر به الصرف. والعدل إما أن يكون فعل ذلك مستحلاً، فأحبط الكفر أعماله، ولا(3) يصح توبته إلا برجوعه إلى الإسلام، لا بإقلاعه عن ذلك الذنب وحده. وقيل: المراد هنا(4): لا يقبل توبته في الآخرة، وهو في الحديث مفسر:« لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً »، أي: لا يعفى عن ذنبه هذا في الآخرة، واعترافه بخطئه فيه، إن لم يتب منه في الدنيا، وأما توبة الدنيا فمقبولة إن شاء الله من كل ذنب. وسيأتى الكلام على ذلك في موضعه إن شاء الله.
__________
(1) في (ط):" على من فسر بها ".
(2) في (ط):" العاصين وقبول ".
(3) في (ط):" ولم ".
(4) في (أ):" هاهنا ".(5/275)
وقيل: يكون أيضًا معنى: لا تقبل(1) فريضته ولا نافلته قبول رضى، وإن قبلت قبول جزاء ؛ لأن الله لا يظلم عباده مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها.
وقيل: قد يكون القبول هنا عبارة عن تكفير تلك السيئة والذنب بها، وقد قال تعالى:{ إن الحسنات يذهبن السيئات }، وتكون معنى الفدية هاهنا: لا يجد(2) في القيامة فداءً يفتدى به، بخلاف غيره من المذنبين الذين جاء من تفضل الله على(3) من شاء منهم أن(4) يفديه من النار باليهود والنصارى، ومن شاء من الكفار. وقيل: معنى لعنة الله هنا: يحتمل أن يراد به العذاب الذي يستوجبه على ذنبه، والطرد عن الجنان أولاً، ودخول النار حتى يخرجه الله منها. واللعنة معناها: الإبعاد، ولا يكون هذا كلعنه الكفار الذين يبعدون من(5) رحمة الله رأسا. ولعنة الملائكة والناس هنا: الدعاء عليهم بمثل هذا. وقد يكون لعنة الملائكة هنا ترك الدعاء لهم والاستغفار وإبعادهم عنه، وإخراجهم من جملة المؤمنين الذين يستغفرون لهم، كما حكى الله تعالى عنهم.
__________
(1) في (ط):" يقبل ".
(2) في (ط):" أي لا يجد ".
(3) في (ط):" عليهم ".
(4) في (أ):" بأن ".
(5) في (أ):" عن ".(5/276)
وقوله (1):« اللهم بارك لهم في مكيالهم وصاعهم ومدهم »، البركة تكون بمعنى النماء والزيادة، وتكون بمعنى الثبات واللزوم. فقيل: يحتمل أن تكون هذه البركة دينية بما تتعلق(2) بهذه المقادير من حقوق الله في الزكوات والكفارات، فتكون هنا بمعنى الثبات والبقاء بها للحكم بها ببقاء الشريعة وثباتها. وتكون دنيوية من تكثير المكيل، والقدر بهذه الأكيال حتى يجزئ منه، ويكفي ما لا يجزى من غيره في غير المدينة ومكائلها، أو ترجع البركة إلى التصرف بها في التجارة وأرباحها، أو إلى كثرة ما يكال بها من غلاتهم وثمارهم، أو يكون للزيادة فيما يكال بها ؛ لاتساع عيشهم وكثرته بعد ضيقه، لما فتح الله عليهم، ووسع من فضله لهم وملكهم من بلاد الخصب والريف من الشام والعراق ومصر، حتى كثر الحمل إلى المدينة، واتسع عيشهم، وانتقلوا عن ذلك إلى حال آخر، ورغد سائغ، حتى صارت هذه البركة في الكيل نفسه غير ذلك، فانتقلوا عن مقاديرهم في عيشهم المعلوم، من مد النبي - عليه السلام - إلى المد الهاشمي(3) فزادوا في مدهم مثل نصفه أو ثلثه أو مثله على الخلاف في مقداره، في هذا كله ظهور إجابة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم، وقبولها، قالوا: وفيه الندب إلى استعمال الكيل فيما يكال، وقيل: يحتمل أن هذا خاص(4) بزمنه وزمن من تلاه من أئمة الحق بعده.
وقوله في حديث علي - رضي الله عنه -:" من زعم أن عندنا شيئًا نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة فقد كذب "، رد على الرافضة والشيعة فيما تدعيه من إيداع أسرار العلم والشريعة لآل البيت، وتخصيصهم بما لم يطلع عليه سواهم، وتكذيب لهم، وهو مراد على - رضي الله عنه - بقوله هذا، وفيه أن عليًّا ممن كتب العلم قديما، وممن كان يجيز كتب الحديث والعلم، وقد تقدم الكلام في ذلك والخلاف فيه.
__________
(1) في (ط):" قوله ".
(2) في (ط):" يتعلق ".
(3) في (ط):" الشامي ".
(4) في (ط):" خص ".(5/277)
وقوله: " المدينة حرم ما بين عير إلى ثور "، كذا للرواة، وللعذرى: "عاير " بألف، هذان الاسمان هما اللذان جاءا في الحديث الآخر، من كذا إلى كذا، فإما أن يكون في ذاك الحديث لم يضبط الراوى الاسمين، أو كنى عنهما لإنكار مصعب الزبيرى وغيره هذين الكلمتين، وقال: ليس بالمدينة عير ولا ثور. قالوا: وإنما ثور بمكة. وقال الزبير: عير جبل بناحية المدينة. وأكثر الرواة في كتاب البخاري ذكروا عيرا. وأما ثور(1)، فمنهم من كنى عنه "بكذا(2)"، ومنهم من ترك مكانه بياضًا، إذ اعتقدوا الخطأ في ذكره.
قال الإمام: قال بعض العلماء: ثور ها هنا وهم من الراوي ؛ لأن ثورًا بمكة، والصحيح إلى أحد.
قال القاضي: كذا قال أبو عبيد، كان الحديث أصله:" من عير إلى أحد"، وذكر ما جاء في هذا الحديث من الوعيد واللعنة على من ادعى إلى غير(3) أبيه، أو انتمى لغير مواليه، مما يدل على عظم ذلك ؛ لما فيه من كفر النعمة للمنعمين بالعتق وحق الآباء وولادتهم وتربيتهم صغارًا، وتكلف مؤنهم من قطع الأنساب والأرحام التي أمر الله أن توصل، واختلاط ذلك، ونقل المواريث وحقوق الولاء والولاية لغير أربابها، وظلمهم بذلك. وليس قوله: " بغير إذنهم " كالشرط لهذا المنع حتى يباح بالإذن، لكنه كالتأكيد(4) والتنبيه على حق من له حق في ذلك، والاقتيات(5) عليهم فيه، وقد يحتج بهذه اللفظة من يجيز هبة الولاء وبيعه، وسيأتى في العتق. قال الداودي: ويحتمل قوله:" من تولى قومًا بغير إذن مواليه ": الحلف. ويحتمل الموالاة. قال: وفي الحديث المنع من موالاة من أقام بمكة من المسلمين بعد خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها إلى أن فتحت.
__________
(1) في (ط):" ثورا ".
(2) قوله:" بكذا " مكانه إشارة لحق (أ) ولم يظهر شيء بالهامش.
(3) في (ط):" الغير ".
(4) في (أ):" بالتأكيد ".
(5) في (ط):" والاقتياب ".(5/278)
وقوله:« وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم »، قال الإمام: فيه دلالة لمن أجاز أمان المرأة، ومن في معناه، وقد(1) تقدم القول في ذلك.
وقوله:« فمن(2) أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله »، يعني نقض عهده. قال القاضي: يقال: أخفرت الرجل: إذا غدرته(3)، وخفرته: إذا أجرته.
وقوله (4):" لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة(5) ما ذعرتها "، معني(6) ما ترتع(7): أي ترعى، وقيل: معنى " ترتع: تسعى وتنبسط. والرتعة بسكون التاء: حركتها للاتساع(8) في الخصب.
وقوله:"ما ذعرتها "، قال الإمام: الذعر: الفزع، ومنه قول زهير - هو ابن أبي سلمى(9)-:
ولأنت أشجع من أسامة إذ دعيت نَزَال ولُجٌّ في الذعر
قال القاضي: وقيل:معناه هنا: أي: ما نفرتها. وقد تقدم نهيه - عليه السلام - عن هذا.
وقوله: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاؤوا به إلى(10) النبي - عليه السلام - وذكر دعائه فيه. وفي المدينة كانوا يفعلون ذلك رغبة في دعائه، ورجاء تمام ثمرهم لبركة ذلك، واعلامًا له - عليه السلام - بابتداء صلاحها ؛ لما يتعلق بها من حقوق الزكاة والشرع وتوجيه الخراص وجواز الزكاة، وقد روى الحنيني في هذا الحديث عن مالك أنه - عليه السلام - كان إذا أخذ ذلك، وضعه على وجهه، ثم قال ما تقدم.
__________
(1) قوله:" قد " ليس في (ط).
(2) في (أ):" فيمن ".
(3) في (ط):" غررته ".
(4) في (ط):" قوله ".
(5) في (ط):" المدينة ".
(6) في (أ):" يعني ".
(7) قوله:" ما ترتع " ليس في (أ).
(8) في (ط):" الاتساع ".
(9) قوله:" هو ابن أبي سلمى " ليس في (ط).
(10) قوله:" إلى " ليس في (ط).(5/279)
وفيه تخصيص الرئيس في العلم والسلطان بالهدية والطرفة تفضيلاً له، وتقديمًا ورجاء بركة دعائه. وفيه ما كان عليه - عليه السلام - من الرفق بالصغير والكبير، ومراعاة حقوق كل صنف منهم بحسبه، ودفع هذه الطرفة للصغار؛ إذ هم أولى بذلك لشدة حرصهم على مثل ذلك، وإعجابهم به، وقيل: يحتمل أن يفعل ذلك لطلب الأجر بدفعه لمن لا ذنب له، وإدخال(1) المسرة عليه بذلك، وتخصيصه ذلك بأصغر وليد يحضره، لما لم يكن لقلته فيه ما يقسم على الولدان رجح أصغرهم به ؛ إذ هو أولى بالألطاف ولقلة صبره، وحرصه وشرهه على مثل هذا بحسب صغره، وكلما كبر تخلق بأخلاق الرجال من الصبر والحياء وسماحة النفس، وقلة الشره.
قال الإمام: وقد يلوح(2) لي في معناه: أنه - عليه السلام - فعله تفاؤلاً بنمو الثمرة وزيادتها بأن يدفعها إلى من هو في سن النماء والزيادة، ويكون هذا(3) نحو ما تأؤل أهل العلم في قلب الرداء في الاستسقاء: أنه تفاءل لأن ينقلب الجدب خصبًا.
وقوله في حديث أبي سعيد:" إن عيالنا لَخُلوف " بضم الخاء، قال الإمام: أي: لا راعي لهم ولا حامي. قال الأزهرى: يقال: الحي خلوف، بمعنى المتخلفين المقيمين في الدار، وبمعنى الغُيَّب(4) الطاعنين.
وقوله في هذا الحديث: " ما هذا الذي يبلغنى من حديثكم - ما أدرى كيف قال - والذي أحلف به، أو والذي(5) نفسي بيده "، شك من أبي سعيد في أحد القسمين، وتحري رواية(6) لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله:« لآمرن براحلتي ترحل ثم لا أحل لها عقدة حتى آتي المدينة »، أي: لا أحل من رباط رحلي عليها شيئًا، بل أصل(7) سيري، وأدأبه حتى أصل المدينة ولا أريح ركابي، ولا أنزل عنها منزلاً أحط(8) فيه عنها.
__________
(1) بعده في (أ) كلمة مضروب عليها.
(2) في (ط):" تلوح ".
(3) في (ط):" هنا ".
(4) في (ط) تشبه:" العنت ".
(5) في (ط):" أو الذي ".
(6) في (ط):" وتحرٍ في روايته ".
(7) في (ط):" أهل ".
(8) في (أ):" لا أحط ".(5/280)
وقوله:« حرامًا ما بين مأزميها »، بكسر الزاي، أي: جبليها(1)، كما قال في الحديث الآخر:" جبليها "، وبه فسر ابن شعبان " مأزمي مكة ".
وأما ابن دريد في "الجمهرة" فقال: المأزم: المضايق، ومنه: مأزمي(2) منى، وهذا يقرب مما تقدم ؛ لأن المضايق متقطع الجبال بعضها من بعض.
وقوله في هذا الحديث:« لا يحمل فيها سلاح، ولا يخبط فيها(3) شجرة»: تسويتها في حرمة مكة في كل الأمور، ورد على أبي حنيفة. وقد جاء في الحديث الآخر:" لا يختلى خلاها"، كما قال في مكة.
وقوله:« لا يخبط فيها شجرة إلا لعلف،: حجة على جواز أخذ الورق للعلف، وأنه بخلاف قطع الأغصان، وخبطها ليتكسر حطبًا، ولم يقع هذا الاستثناء في حديث تحريم مكة، ويفسر هذا الاستثناء - والله أعلم - الحديث الآخر:" لا يخبط ولا يعضد، ولكن يهش هشًّا رفيقًا، والهش: تحريك الغصن ليسقط ورقه، قاله صاحب العين. وقال غيره: هو خبط الشجر بالعصا ليسقط ورقه، قال الله تعالى:{ وأهش بها على غنمي } على ظاهره، ومعناه: لا تخبط(4) لتكسر(5) أغصانها، ولا يجوز أن يؤخذ منها إلا أن يحرك أو تضرب(6) ضربًا رفيقًا لأخذ الورق للعلف.
وقوله:« ما من المدينة شعب ولا نقب إلا عليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا إليها »، فيه فضل المدينة وحمايتها في حياة النبي - عليه السلام - من العدو. والشعب بكسر الشين: هو ما انفرج ما بين الجبلين. وقال يعقوب: هو الطريق في الجبل. والنقب، بفتح النون وضمها، مثله. وقيل: الطريق على رأس الجبل.
قال الإمام: قال الأخفش: أنقاب المدينة طرقها وفجاجها.
قال القاضي: وقوله:" ارتحلوا "، فيه ما كان عليه - عليه السلام - من مساعدة المسلمين والتيسير عليهم في أمورهم.
__________
(1) في (ط):" جبلها ".
(2) في (ط):" مأزمًا ".
(3) في (أ) قبلها كلمة لم تتضح.
(4) في (ط):" لا يخبط ".
(5) في (ط):" له كسر ".
(6) في (ط):" يضرب ".(5/281)
وقوله:" فما وضعنا رحالنا حين دخلنا المدينة، حتى أغار علينا بنو عبدالله بن غطفان، وما يهيجهم قبل ذلك شىء(1)"، يعني أن المدينة في مغيبهم لم يحركهم عدو ولا أثارهم مخوف(2)، وهو معنى " تهيجهم، هنا، يقال: هاج الشر، وهاجت الحرب، وهاجها الناس ثلاثي كله، يعني حتى وصلوا المدينة. ففيه تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به من حمايتها بالملائكة مدة مغيبهم، وبنو عبدالله بن غطفان كان يقال لهم في الجاهلية: بنو عبد العزى، فسماهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: بني(3) عبد الله، فسمتهم العرب بني(1) محولة، لتحويل اسمهم(4)، كذا نا به أبو محمد الخشنى عن الطبري عن الفارسي: بنو عبدالله على الصواب، وعند سائر شيوخنا. ونسخ مسلم من طريق ابن ماهان والجلودى: بنو عبيد الله وهو خطأ. والجلاء بالفتح والمد: الانتقال عن الوطن، قال الله تعالى:{ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء }.
وقوله (5):" قدمنا المدينة وهي وبيئة "، يقال: أرض وبيئة، مهموز مخفف؛ إذا كانت ذات وباء. هذا - والله أعلم - غير مخالف لنهيه - عليه السلام - عن القدوم عليه إذا سمع به بأرض ؛ لأن ذلك(6) في الوباء العام، والطواعين أو لنازلة(7)، وهذا إنما هو من حال البلاد الوخمة بحرارة هوائها، وقد يألفها الساكنون بها، ويختلف فيها حال النازل والوارد عليها، فتعتريهم أمراض لاختلاف الهواء عليهم، وقد يصيب ذلك أهلها، وقد يستقلون منه كسائر الأمراض لاختلاف(8). ووباء الطاعون إنما هو موت ذريع، وقد يقال: إن هذا كان(9) قبل نهيه - عليه السلام - عن ذلك، كما كان ؛ لأن هذا الحديث في أول الهجرة والإسلام.
__________
(1) في (أ):" بشيء ".
(2) في (ط):" محرب ".
(3) في (ط):" بنو ".
(4) في (ط):" سمهم ".
(5) في (ط):" قوله ".
(6) في (ط):" ذاك ".
(7) في (أ):" الطوعن النازلة ".
(8) قوله:" لاختلاف " ليس في (ط).
(9) قوله:" كان " ليس في (أ).(5/282)
وقوله:" وصححها وحول حماها إلى الجحفة "، قال الإمام: قال بعض أهل العلم: كان سكانها يومئذ كفارًا.
قال القاضي: قال الخطابي: كانوا يهودًا. وفيه جواز الدعاء على العدو الكافر بما يهلكه، ويشغله عن المسلمين، والدعاء للمسلمين بالصحة والسلامة، وفيه حجة لكافة المسلمين(1) في جواز الدعاء بالخير وكشف الضر، خلافًا لبعض المتصوفه في أن هذا عندهم قدح في التوكل والرضا، وللمعتزلة في قولهم: إنه لا فائدة في الدعاء مع سابق القدر. والدعاء عندنا عبادة لا يأتي ولا يستجاب منه إلا ما سبق في القدر كونه، خلافًا لمن قال بالبداء وإن الدعاء يصرف القدر، على ظاهر ما جاء في الآثار، وقد تقدم من هذا في حديث أم حبيبة.
__________
(1) قوله:" وفيه حجة لكافة المسلمين" تكرر في (أ).(5/283)
وفي هذا آية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعلامة من علامات نبوته، فإن الجحفة من يومئذ، وبيئة متجنبة، لا يشرب أحد من مائها إلا حُمَّ. و " يُحَنَّس(1)" مولى الزبير المذكور في حديث مالك، كذا ضبطناه هنا عن القاضي الشهيد، وكذا أثبتنا فيه، وضبطناه عن أبي بحر بالفتح، وكذا روى في كتاب الحاكم، وبالوجهين ضبطناه عن غيره في غير مسلم. وقول ابن عمر لمولاته حين شكت إليه اشتداد الزمان، وشاورته في الخروج عن المدينة:" اقعدي لكاع "، قال الإمام: يقال: امرأة لكاع، ورجل لكع. واللكع: اللئيم، وأيضًا: العبد، وأيضًا: العي الذي لا يتجه لنطق ولا غيره أحد من الملاكيع، وهو الذي يخرح مع السَّلا من البطن. واللُّكع أيضًا: الصغير، ومنه الحديث: أن النبي - عليه السلام - طلب الحسن فقال « أثم لكع، أثم لكع »، أي: أثم الصغير(2)، وسئل بلال بن جرير عن اللكع، فقال: هو في لغتنا: الصغير. وإلى هذا ذهب الحسن ؛ إذ قال لإنسان: يالكع، يريد: يا صغير في العلم. قال أهل النحو: ومما لا يقع إلا في النداء خاصة ولا يستعمل في غيره قولهم للمؤنثة: يا خباث، ويا لكاع. وربما استعمل في الشعر(3) في غير النداء ضرورة، قال الحطيئة(4):
أطوَّف ما أطوف ثم آوي إلى بيت قعيدته لكاع
__________
(1) في (ط):" ويحبس".
(2) في (ط):" ثم صغير ".
(3) قوله:" في الشعر" ليس في (أ).
(4) من قوله:" يا خباث...." إلى هنا ليس في (ط).(5/284)
قال القاضي: وقول ابن عمر لها ذلك على طريق الإنكار، والتبسط بمثل هذا لمن يدل عليه الإنسان من حاشيته وآله، لا سيما استعماله في الموالي. وقد يكون معناه هنا على نحو ما ذكر في تأويل قول الحسن، أي: يا قليلة العلم وصغيرة الحظ منه ؛ لما فاتها من معرفة فضل(1) المدينة، والذي عندي في معنى قول الحسن إنما أورده على جهة الذم والسب، وعلى أصله بمعنى الوغد، واللئيم ؛ لأنه لم يخاطب به معيّنًا، إنما خاطب به في وعظه من صور اغتراره بالدنيا، وجمعه لها، ومخادعته الله ومراياته بعمله، وشبه هذا. ومثل هذا جدير بغليظ القول والتأديب بالسب.
وفي هذه الأحاديث دليل على فضل سكنى المدينة، وأن ذلك محمول عندهم على استمرار هذا الفضل بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى يوم القيامة، وقد بينه في حديث أبي هريرة بقوله:« لا يصبر على لأوائها أحد من أمتى ».
__________
(1) في (ط):" حق "، وكذا كتب في حاشية (أ).(5/285)
وقوله (1):« تنفي(2) شرارها كما ينفي(3) الكير خبث(4) الحديد »، وذكر أيضًا خبث الفضة، وخبثهما هو ما تخرج النار من قذاهما(5) وتخلصه منهما(6)، الأظهر هنا أنه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان لا يصبر على الهجرة والمقام معه، إلا من ثبت إيمانه، وأما المنافقون وجهلة الأعراب ومن امن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، فلا يصبرون على شدة المدينة ولا يحتسبون أجرهم في ذلك، أولئك شرار الناس وخبثهم، كما جرى للأعرابى في الحديث الآخر لما أصابه وعك الحمى بها، واستقال النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيعته ولم يقله النبي - عليه السلام - لأنه لا يحل ذلك، ولا يجوز للمهاجر(7) أن يترك هجرته ويرفض بيعته على ذلك، وقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعل ذلك، وارتد أعرابيا بعد هجرته، وهذا الأعرابي - والله أعلم - كان ممن بايع على المقام معه فيها، ولذلك ما سأله الإقالة من ذلك، وهذا أظهر الوجوه، وقيل: يحتمل أنه كان بعد الفتح وسقوط الهجرة، وإنما استقال من الإسلام فلم يقله النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ لا تحل الرجعة إلى الكفر بعد الإيمان، ولا يسوغه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد، وفي قصته ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المثل لمن خرج من المدينة، ولم ينتظر الإذن والإباحة، فدل على خبث طويته وضعف دينه. والوعك: الحمى، وما يوجد من الألم لها، ووعك كل شيء معظمه وشدته. وسيأتى الكلام على الهجرة وبيعة الأعراب في الجهاد.
وقوله: " أمرت بقرية تأكل القرى »، أي: أمرت بالهجرة إليها وسكناها. و " تأكل القرى"، قيل: منها تفتح، وقيل: منها يكون أكلها لما جلب من في القرى المفتحة إليها وغنيمة أهلها من المهاجرين والأنصار أموالها.
__________
(1) في (أ):" وقول ".
(2) في (أ):" ينفي ".
(3) في (ط):" تنفي ".
(4) في (أ):" بخبث ".
(5) في (ط):" قذاها ".
(6) في (ط):" منها ".
(7) في (ط):" للمهاجرين ".(5/286)
وقوله:« يقولون: يثرب وهي المدينة »، يعني أنها تسمى يثرب، قيل: خص النبي - صلى الله عليه وسلم - اسمها بالمدينة، وتسميتها في القرآن يثرب حكاية عن قول من قالها من المنافقين والذين في قلوبهم مرض. قال عيسى بن دينار: من سماها يثرب كتبت عليه خطيئة. وسماها أيضًا - عليه السلام - طيبة وطابة، وهذا على ما كان عليه(1) - عليه السلام - من استحبابه الاسم الحسن وكراهته(2) القبيح.
ففى اسم " يثرب " من الثرب(3)، أو التثريب، والتثريب(4): هو المؤاخذة بالذنب، يقال لمن فعل ما يلام عليه ولم يؤاخذ به: لا تثريب عليك، وثرب(5) فلان فلانا على فعله، أي: بكته، والثرب الفساد أيضًا، قيل: وإنما كانت سميت يثرب بأرض هناك، المدينة ناحية منها، ولما في اسم طيبة من الطيب الذي هو الرائحة المستحسنة، وهذا موجود في المدينة. ذكروا أنه يوجد أبدًا في رائحة هوائها أو تربتها أو سائر أمورها، أو من الطيب الذي هو الاستحسان والموافقة، وكل موافق طيب، قال الله تعالى:{ بريح طيبة }، ويقال: طاب لي هذا الأمر والعيش، أي: فارقته المكاره ووافقنى حاله، أو من الطهارة التي هي ضد الخبث، كقوله تعالى:{ الطيبون للطيبات }، سماها(6) بذلك لفشو الإسلام بها، وتطهرها من الكفر والطيب والطاب لغتان بمعنى.
وقوله:« تنفي خبثها، و « ينصع(7) طيبها »، أي: يخرج منها من لم(8) يخلص إيمانه على ما تقدم، ويبقى من خلص إيمانه، قيل: معنى " ينصع ": يخلص، وقيل: ينقى ويطهره(9).
__________
(1) قوله:" عليه " ليس في (ط).
(2) في (ط):" وكراهة ".
(3) قوله:" الثرب " تكرر في (ط).
(4) في (أ):" من الثرب والتثريب"، وتوجد علامة إلحاق ولم يظهر شيء في الهامش.
(5) في (ط):" وثربت ".
(6) في (ط):" فسماها ".
(7) في (ط):" تنصح ".
(8) في (ط):" فيام ".
(9) في (أ):" يبقى وتطهر ".(5/287)
قال الإمام: معناه: يخلص ويصفو، أو الناصع الصافي النقي اللون، يعني أنها تنفي من لا خير فيه، ويبقى فيها الطيبون. ذكر مسلم في الباب: نا قتيبة وهناد وأبو كريب وأبو بكر بن أبي شيبة، قالوا(1): نا أبو الأحوص، كذا عند العذري، وسقط أبو كريب لغيره.
وذكر في حديث محمد بن حاتم وإبراهيم بن دينار: نا حجاج بن محمد، وحدثنى محمد بن رافع، نا عبد الرزاق، كلاهما عن ابن جريج، قال: أخبرنى عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس، عن أبي عبد الله القراظ، كذا لكافة الرواة، والذي عند الطبري: أخبرنى عبيد الله بن عبد الرحمن بن يحنس، والصواب الأول.
وقوله:« من أراد أهلها بدهم أو بسوء، هو بفتح الدال، قال الإمام: أي: بغائلة وأمد عظيم.
قال القاضي: ويقال: جيش(2) دهم، أي: كبير.والدهيماء والدهيم من أسماء الدواهى. وقد يصح هنا أن يكون من غزاها بجيش - والله أعلم -. وقد تقدم الكلام في هذا.
وقوله:« يفتح اليمن، فيأتي قوم يبسون »، بفتح الياء وكسر الباء وضمها، وبضم الياء وكسر الباء رباعيا أيضًا، قال الإمام: يعني يتحملون بأهليهم(3)، ويزينون لهم الخروج عنها إلى غيرها. يقال: في زجر الدابة إذا سبقتها: بس بس، لغة يمانية، زجر للسوق. ويقال فيه: بسست(4) وأبسست، وقول الله عز وجل:{ وبست الجبال بسًّا }، أي: فتتت(5) فصارت أرضًا.
__________
(1) قوله:" قالوا " ليس في (ط).
(2) في (ط):" وجيش ".
(3) في (ط):" بأهلهم ".
(4) في (أ):" بسبست".
(5) في (ط):" فتت ".(5/288)
قال القاضي:[ قال أبو عبيد: معناه: يسوقون، والبس: سوق الإبل](1). وقال الحربي: يقال: بسست الغنم والنوق للعلف: إذا دعوتها، والرجل: دعوته للطعام، فمعناه عنده: يدعون الناس إلى بلاد الخصب. وقال ابن وهب(2): معناه: يزينون لهم البلاد، ويحببونها إليهم، ويدعونهم إلى الرحيل إليها عن المدينة، مأخوذ من إبساس الحلوبة كى يدر لبنها.
وقوله (3) في الحديث: " ومن أطاعهم " يدل عليه، وكذلك ما جاء(4) في الحديث المتقدم:« يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء ». وقال الداودي: معناه: يبسون يزجرون الدواب إلى المدينة، فيفتون ما يطوون من الأرض، فيصير غبارًا ويفتنون من بها بما يضعون لهم من رغد العيش. وظاهر الحديث عندي أنه إنما أخبر عمن يحمل عنها لا من أتى إليها كما ذكر.
ومعنى:" يأتى قوم "، أي(5): إلى المواضع التي ذكر أنها فتحت لا إلى المدينة. وهذا الحديث من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ كان ذلك من فتح البلاد التي ذكر وانتقال الناس من المدينة إليها، وترتيب فتح هذه البلاد على الترتيب الذي رتبه لهم - عليه السلام -.
وقوله:" للعوافي "، فسره في الحديث: السباع والطير، وهو صحيح معروف في اللغة. قال الإمام: هو مأخوذ من عفوته أعفوه: إذا أتيته تطلب معروفه، يقال: فلان كثير الغاشية والعافية: أي: يغشاه السؤال والطالبون.
__________
(1) مابين المعكوفين في (أ) تأخر بعد قوله:" بلاد الخصب ".
(2) في (أ):" حبيب ".
(3) قوله:" وقوله " مكرر في (أ).
(4) قوله:" جاء " ليس في (ط).
(5) في (ط) علامة إلحاق، ولم يظهر شيء في الهامش.(5/289)
قال القاضي: وهذه من علامات نبوته - عليه السلام - فقد تركت على أحسن ما كانت حين انتقلت الخلافه عنها إلى الشام والعراق، وذلك الوقت أحسن ما كانت للدين علما وكمالأ من رجاله، ودنيًا لتمام عمارتها، وغرسها، واتساع حال أهلها. ثم ذكر الإخباريون في بعض الفتن التي تعاورتها وخاف أهلها على أنفسهم رحل عنها أكثر الناس، وبقيت ثمارها أو أكثرها للعوافي، وخلت مدة ثم تراجع الناس إليها، وحالها اليوم قريب(1) من هذا، وقد خربت أطرافها وزالت أغلاقها. وقد حكى كثير من الناس أنهم رأوا ما أنذر به - عليه السلام - من تغذية الكلاب على سواري مسجدها، ومعنى:" تغذّى ": تبول، وأصله(2) البول دفعة بعد دفعة، وهي صفة بول الكلاب.
وقوله:« يخرج راعيان من مزينة يريدان المدينة، ينعقان بغنمهما »، أي: يصيحان، قال الله تعالى:{ كالذي ينعق بما لا يسمع }.
وقوله:« فيجدانها وحشا »، أي: خلاء، قال الحربي: وحش من الأرض أي: خلاء، ويمشي وحشًا: أي: وحده. وروى في كتاب البخاري:" وحوشًا " فمعناها بيّن ؛ لخلائها، عمرتها الوحوش كما قال للعوافي الطير والسباع، ويكون " وحشًا " أيضًا بمعنى وحوش، والوحش كل شيء توحش من الحيوان وجمعه وحوش. وقد يعبر بواحدة عن جنسه. وقال ابن المرابط: قوله: " فيجدانها وحوشًا ": أي: أن غنمهما صارت وحوشًا. قال: فيحتمل أن تصير وحوشا غير غنم(3)، ويحتمل أن تتوحش وتنفر من أصواتها.
__________
(1) في (أ):" قرنت ".
(2) في (ط):" معنى يغذى يبول وأصلها ".
(3) في (ط):" أن يصير غيرهم وحوشًا ".(5/290)
قال القاضي (1): وليس يدل الحديث على أن الضمير في خرابها(2) يعود على الغنم، وإنما يعود على المدينة كما قدمناه. رواية البخاري لهذا الحديث أتم، قال: " آخر من(3) يحشر راعيان من مزينة "، وذكر الحديث، قيل: معناه: آخر من يموت بها فيحشر ؛ لأن الحشر إنما هو بعد الموت، ويحتمل أن(4) يتأخر(5) حشرهما بحسب تأخر موتهما، وإن لم يكن بين حشر الناس أمد بعيد، قال الله تعالى:{ إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون }، وكذلد صعقها أيضًا الصيحة الاءولى يكون آخر من يموت بها، قال الله تعالى:{ إن كانت إلأ صيحة واحدة فاذا هم خامدون }.
وقوله:« ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة "، قال الإمام: يحتمل أن يكون يريد أن ذلك الموضع ينقل بعينه إلى الجنة، ويحتمل أن يريد أن العمل فيه يؤدى إلى الجنة.
قال القاضي: قال الطبري: في قوله: " بيتي " معنيان:
أحدهما: أن المراد بالبيت هنا: القبر، وهو قول زيد بن أسلم في هذا الحديث، كما روى مفسرًا " بين قبري ومنبري ".
والثاني: أن البيت بيت سكناه على ظاهره. وقد روى ما بينه(6):" بين حجرتي ومنبري ". قال الطبري: وإذا كان قبره في بيته اتفقت الروايات ؛ لأن قبره في حجرته وهو بيته.
وقوله:" ومنبري على حوضى ": قيل: يحتمل أنه(7) منبره بعينه الذي كان في الدنيا، وهو أظهر وعليه أكثر الناس(8)، وأنكر كثير منهم غيره، وقيل: إن له هناك منبرًا على حوضه، وقيل: إن قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة، بورد الحوض والشرب منه.
وقوله:« صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ».
__________
(1) قوله:" قال القاضي " ليس في (ط).
(2) في (ط):" بخرابها ".
(3) في (ط) تشبه:" بمن ".
(4) قوله:" أن " مضروب عليه في (أ).
(5) في (أ):" تأخر ".
(6) في (ط):" ما بينه ".
(7) في (أ):" أن ".
(8) في (ط):" الروايات ".(5/291)
قال الإمام: اختلف الناس في المراد بهذا الاستثناء، فعندنا أن المراد إلا المسجد الحرام، فإن مسجدي يفضله بدون الألف، وهذا بناء على أن المدينة أفضل من مكة(1)، وهو مذهب مالك، ويحتج له بما تقدم قبل هذا من الأحاديث المرغبة في سكناها، الدالة على فضلها. وقيل: إلا المسجد الحرام، فإنه أفضل من مسجدي، وهذا على أن مكة أفضل من المدينة ما سوى قبره - عليه السلام -.
قال القاضي: أجمعوا على أن موضع قبره - عليه السلام - أفضل بقاع الأرض، وأن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض، ثم اختلفوا في أيهما أفضل ما عدا موضع قبره - عليه السلام - فذهب(2) عمر وبعض الصحابة ومالك وأكثر المدنيين إلى تفضيل المدينة(3)، وحملوا الاستثناء على تفضيل الصلاة بألف على سائر المساجد إلا المسجد الحرام فبأقل من ألف، على ما تقدم عنهم(4)، واحتجوا بما قال عمر: " صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه "، فيأتي فضل(5) مسجد الرسول - عليه السلام - بتسعمائة(6)، وعلى غيره بألف. وذهب أهل مكة والكوفة إلى تفضيل مكة، وهو قول ابن وهب وابن حبيب من أصحابنا، وحكاه الساجي عن الشافعي، وحملوا الاستثناء على ظاهره، إلا المسجد الحرام فالصلاة فيه أفضل، واحتجوا بحديث عبد الله بن الزبير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: " وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي بمائة صلاة"، فيأتى فضل الصلاة في المسجد الحرام على غير مسجد النبي- عليه السلام - بمائة وألف(7) صلاة. قال الباجي: الذي يقتضيه الحديث مخالفة حكم مسجد(8) مكة لسائر المساجد، ولا نعلم منه حكمها مع المدينة.
__________
(1) قوله:" من مكة " ليس في (أ).
(2) في (ط):" فمذهب ".
(3) في (ط):" مكة "، وكتب في الحاشية:" لعلها المدينة ".
(4) في (ط):" عندهم ".
(5) في (ط):" فتأتي فضيلة ".
(6) في (ط):" مسجد الرسول عليه تسع مائة ".
(7) في (ط):" بمائة ألف ".
(8) في (ط):" المسجد ".(5/292)
ثم اختلفوا هل هذا مخصوص بصلاة الفرض أو غير ذلك من العبادات ؟ فذهب الطحاوي إلى تخصيص هذا التفضيل بصلاة الفرض، وذهب مطرف من أصحابنا إلى عموم ذلك في النافلة وغيرها، قال: وجمعة بها خير من جمعة، ورمضان بها خير من رمضان، وقد روى عبد الرزاق في تفضيل صوم رمضان بالمدينة(1) ما فيه حجة لهم.
قال القاضي: وقوله:" أفضل من ألف صلاة " أو " خير من ألف صلاة" يقتضي الزيادة على هذا العدد والتضعيف بما الله أعلم به(2). وأما على قوله: "كألف صلاة "، فحد بيّن في التضعيف.
وقوله - عليه السلام - في آخر الحديث من رواية ابن قارظ عن أبي هريرة:« فإني آخر الأنبياء، وأن مسجدي آخر المساجد » ظاهر جلي في تفضيل مسجده لهذه العلة.
قال الإمام: ذكر مسلم في الباب: نا قتيبة وابن رمح عن الليث، عن نافع، عن إبراهيم بن عبدالله بن معبد، عن ابن عباس ؛ أن امرأة اشتكت شكوى.. الحديث، هكذا إسناده من جميع طرق(3) هذا الكتاب، عن إبراهيم بن عبد الله، وكذا أخرجه أبو مسعود الدمشقي عن مسلم من حديث ابن عباس عن ميمونة، اتبع في ذلك الرواية ولم ينبه على ذلك، وإنما يحفظ هذا الحديث عن إبراهيم بن عبد الله عن ميمونة، ليس فيه ابن عباس. قال بعضهم: هكذا رويناه في حديث الليث بن سعد. قال النسائي: روى هذا الحديث الليث عن نافع،عن إبراهيم،عن ميمونة،ولم يذكر ابن عباس، قال غيره: وكذلك رواه ابن جريج،وكذلك أخرجه البخاري عن الليث، ولم يذكر فيه ابن عباس. قال الدارقطني في كتاب "العلل": قد رواه بعضهم عن ابن عباس عن ميمونة،وليس يثبت.
__________
(1) في (ط) يشبه:" المدائن ".
(2) في (أ):" بما أعلم الله به ".
(3) في (ط):" طريق ".(5/293)
قال القاضي: قال البخاري في "التاريخ الكبير": إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس ابن عبد المطلب عن أبيه وميمونة، وذكر حديثه، هذا من طريق الليث وابن جريج ولم يذكر فيه ابن عباس، ثم قال: وقال لنا المكي عن ابن جريج، سمع نافعًا: أن إبراهيم بن معبد(1) حدث أن ابن عباس حدثه عن ميمونة، قال: ولا يصح فيه ابن عباس.
قال القاضي: وقال بعضهم: صوابه: إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس: أنه قال: إن امرأة اشتكت. وعن ابن عباس خطأ.
وقد ذكر مسلم قبل هذا في الباب حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، وحديث موسى الجهني عن نافع عن ابن عمر، وأتبعه بمعمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، وهذا مما استدركه الدارقطني على مسلم، وقال: ليس بمحفوظ عن أيوب،وعلل الحديث عن نافع بذلك، وقال: قد خالفهم ابن جريج والليث، فروياه عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة. وقد خرج مسلم القولين،ولم يخرج البخاري رواية نافع بوجه. وقال البخاري في "التاريخ"، وذكر رواية عبيد الله وموسى عن نافع، قال: والأول أصح، يعني رواية إبراهيم بن عبد الله عن ميمونة كما قال الدارقطني.
وقوله:" فنذرت أن تصلي في بيت المقدس(2) إن شفيت، فقالت لها ميمونة: اجلسي وصلي في مسجد الرسول... الحديث، قال الإمام: ذهب بعض شيوخنا إلى ما قالت ميمونة، وأن المكي والمدني إذا نذرا الصلاة في بيت المقدس لا يخرجان إليه ؛ لأن مكانهما أفضل. ولو نذر المقدسي الصلاة في أحد الحرمين لأتاه ؛ لأنه أفضل من مكانه. وقياس قول مالك على هذه الطريقة: أن المكي إذا نذر إتيان مسجد المدينة أتاه، وإن نذر مدني إتيان مسجد مكة لم ياته ؛ لأن مسجد المدينة عنده أفضل من مسجد مكة. وقال بعض شيوخنا: الأولى أن يأتي المكي مسجد المدينة، والمدني مسجد مكة، إذا نذراه ليخرجا من الخلاف الذي وقع في فضل أحدهما على الآخر.
__________
(1) في (ط):" إبراهيم بن عبدالله بن معبد ".
(2) في (ط):" المسجد ".(5/294)
وقوله:« لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد »، قال القاضي: قد تقدم لنا كلام فيه قبل، وأن مقتضى شد الرحال إنما يكون فيما بعد لا فيما قرب ؛ ولهذا فرق شيوخنا بين نذر ما قرب من ذلك وما بعد، فيما عدا هذه الثلاثة مساجد ؛ لفضلها الزائد، ولكونها مساجد الأنبياء. قال الإمام: إنما خص - عليه السلام - هذه المساجد لفضلها على ما سواها، فمن قال: لله على صلاة في أحدها، وهو في بلد غير بلادها، فعليه إتيانها، وإن قال: ماشيًا، فلا يلزمه المشي إلا في حرم مكة خاصة. وأما المسجدان الآخران، فالمشهور عندنا أنه لا يلزمه المشي إليهما ويأتيهما(1) راكبًا إن شاء. وقال ابن وهب: بل يأتيهما ماشيًا كما سمى، وهذا قياس على أصل المذهب ؛ لاتفاقهم على أن من قال: على المشي إلى مكة، فعليه أن يمشي إليها. فدل ذلك على أن المشي طاعة. وقد نبه النبي - عليه السلام - على ذلك بقوله:« ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا » فذكر كثرة الخطا إلى المساجد، وقيل أيضًا: إن كان على أميال يسيرة أتى ماشيًا، والمشى ضعيف. وقد ذهب القاضي إسماعيل إلى أن من قال: على المشي إلى المسجد الحرام أصلي فيه، فإنه يأتى راكبًا إن شاء، ويدخل مكة محرمًا، وأحل الثلاثة مساجد محلاً واحدًا في سقوط المشي إليها، وإن نطق به إذا قصد الصلاة فيها. وإن نذر إتيان غير هذه المساجد الثلاثة فلا يأتى إليها إذا لم تكن ببلده. قال بعض أصحاب مالك: إلا أن تكون قريبة على أميال يسيرة فيأتيها. وإن نذر أن يأتيها ماشيًا، أتى ماشيًا ، ورأى أن ذلك خارج عن شد الرحال المذكور في الحديث. قال ابن حبيب: مثل أن ينذر صلاة في مسجد موضعه، ومسجد جمعته، والذي يصلي فيه. وألزم ابن عباس المدني(2) إذا نذر الصلاة بمسجد قباء أن يأتيه، واحتج لهدا ابن حبيب بما ذكره مسلم بعد هذا ؛ لأنه - عليه السلام - كان يأتيه كل سبت.
__________
(1) في (ط):" إليها ويأتيها ".
(2) قوله:" المدني " ليس في (أ).(5/295)
قال الإمام: فإن قيل: إن(1) مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل، فكيف أتاه وأنتم أصلتم، ألا يؤتى إلا ما كان أفضل ؟ قلنا: قد ذكرنا عن بعض أصحابنا أن هذا إنما يعتبر في شد(2) الرحال وأعمال المطي، وأما ما كان على أميال يسيرة فيؤتى إليه، وإن كان المسجد الأقرب منه مثله في الفضل، ومسجد قباء قريب من المدينة. فإن قيل: هذا مع تساوي الفضل على ما قاله بعض أصحابكم على ما حكيت، والفضل ها هنا مختلف، ومسجده - عليه السلام - أفضل. قيل: الغرض من هذا أن النهي إنما وقع عن أعمال المطي، وأما إذا لم تعمل ووجب الوفاء بالنذر، مع تساوى البقاع على ما حكيناه عن بعض أصحابنا، وجب وإن اختلف الفضل(3) على هذه الطريقة ؛ لأجل ورود الشرع بالوفاء بالنذر، فهو على عمومه. وخص منه أعمال المطي، وبقى ما سواه على أصله. وهذا اعتذار عما قاله ابن عباس وابن حبيب. وأما إتيان النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن عن نذر، فلا مانع يمنع منه ؛ لأن المتقرب حيث اتفق له أو خف عليه فعل القربة. وقد ألزم مالك المكي إذا نذر الرباط بعسقلان - وشبه ذلك من السواحل - أن يخرج إليها وإن كان فيه أعمال المطي لغير المساجد الثلاثة مساجد(4)؛ لأن المطي أعملت لمعنى وهو الرباط، وذلك لا يوجد في الثلاثة، والحديث إنما ورد في أعمالها للصلاة لوجود ذلك المعنى من الصلاة فيها وزيادة عليه.
__________
(1) في (ط):" فإن ".
(2) قوله:" شد الـ" ليس في (ط) وتوجد علامة إلحاق ولم يظهر شيء في التصوير.
(3) في (ط):" الوفاء ".
(4) قوله:" مساجد " ليس في (أ).(5/296)
قال القاضي: وقوله:" ومسجد الأقصى "، كذا جاء في كتاب مسلم في حديث عمرو(1) الناقد، وهو من إضافة الشيء إلى نفسه وصفته، كما قالوا: مسجد الجامع، وتقدم مثله، قوله في كتاب الصلاة:" ماء البارد(2)"، وفي الحديث الآخر:" مسجد إيلياء " وهو بيت المقدس بكسر الهمزة واللام ممدود، وحكى فيه القصر أيضًا، ولغة ثالثة: "إليا ": بسكون اللام.
ونص النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المسجد الذي أسس على التقوى في الأم هو مسجده، يرد قول من زعم أنه مسجد قباء.
وتقدم الكلام على زيارة النبي - عليه السلام - قباء، راكبًا وماشيًا، وصلاته فيه.
وقوله:" كل سبت "، فيه جواز تخصيص مثل هذا، وقد كره ابن مسلمة هذا مخافة أن يظن أن ذلك سنة له في ذلك اليوم، ولعله لم يبلغه هذا الحديث. وفيه أيضًا حجة لجواز تخصيص الأئمة والصالحين بعض الأيام من الجمعة بنوع من القربات، أو بزيارة الإخوان، أو افتقاد بعض أمورهم، أو بجعله يوم راحته من أشغال العامة. وإجمام نفسه كان سبتا أو غيره مما لم يتمالأ الناس كلهم على هذا في يوم واحد فيظنه الجاهل سنة، ولعل مثل هذا هو الذي كره ابن مسلمة، وإن كان متقدمو شيوخنا كرهوا تخصيص ذلك للحاكم بيوم معلوم، قالوا: ولكن إذا احتاج إلى ذلك من إجمام نفسه أو افتقار ضيعته، فعله أي: وقت احتاجه.
*************
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب النكاح
قال القاضي: ذكر مسلم أول الباب حديث عثمان وعبد الله بن مسعود - رضى الله عنهما - لما فيه من الأمر بالنكاح، ثم جاء بأحاديث النهي عن التبتل فاستفتح بهما الكتاب ؛ ليعلم أنه مشروع، وهذا من حسن التأليف، ثم /عطف بعد ذلك على فصول أحكام النكاح وتوابعه على نسق التصنيف، وفي استخلاء عثمان لعبد الله في الأخذ معه. فالتزويج توقير الخلة والمشايخ أن يتفاوضوا في هذه الأمور بحضرة الناس وعوام الخلق.
__________
(1) في (أ):" عمر ".
(2) في (ط):" وماء البارد ".(5/297)
وقوله:" ألا نزوجك جارية شابة تذكرك بعض ما مضى من زمانك "، وفي الرواية الأخرى:" ترجع إليك ما كنت تعهد "، دليل على أن معظم المطلوب من النكاح الاستمتاع، وهو من الشباب أمكن، وفيهن ألذ ؛ لما هن عليه من رونق الشباب ونشاط الصغر وطيب الأفواه، وما يرغب من النساء، وإظهار الرغبة في الاستمتاع الذي يتوفر عنه مساؤهن.
وقوله:" فلما رأى عبد الله أن لا حاجة له قال: تعال يا علقمة "، دليل أن لمن كان المكتوم سره، والإخلاء من أجل حشمته، الأمر في استدناء من شاء وإحضاره له لا لغيره ؛ إذ السر سره، إن شاء أبداه، وإن شاء كتمه.
قال الامام: وقوله:« من استطاع منكم الباءة فليتزوج » الحديث، أصل الباءة في اللغة: المنزل، ثم قيل لعقد النكاح ؛ لأن من تزوج امرأة بوأها منزلاً. والباه هاهنا: التزويج، وفيه أربع لغات:" الباءة " بالمد والهاء، و االباء، بالمد بلا هاء، و"الباهة " بهاءين دون مد، و " الباه "، بهاء واحدة دون مد، وقد سمى الجماع نفسه:" باه ". وليس المراد بالذى وقع في الحديث على ظاهره الجماع ؛ لأنه قال:« ومن لم يستطع فعليه بالصوم »، ولو كان غير مستطيع للجماع لم يكن له حاجة للصوم.
قال القاضي: لا يبعد أن تكون الاستطاعتان مختلفتين، فيكون المراد أولاً بقوله: "من استطاع منكم الباءة ": الجماع، أي: من بلغه وقدر عليه فليتزوج، ويكون قوله بعد: " ومن لم يستطع ": يعني على الزواج المذكور ممن هو بالصفة المتقدمة " فعليه بالصوم ".(5/298)
وأما قوله:" فليتزوج "، فيتعلق به من يوجب النكاح بمجرد الأمر وهو عنده وعند جماعة من الفقهاء والمتكلمين على الوجوب. ولم يقل بوجوبه إلا داود ومن شايعه من أهل الظاهر مدة في العمر. والواجب منه عندهم العقد لا الدخول لمجرد الأمر بالتزويج، وحكى بعضهم عنهم أن الوجوب في ذلك والأمر على الخصوص لا على العموم، وذلك لمن خشي على نفسه العنت بدليل قوله:" فإنه أغض للبصر "، فبيّن السبب للوجوب والعلة، وهذا إذا صح من مذهبهم فغير مخالف لمذهب الكافة.
قال الإمام: المشهور من قول فقهاء الأمصار: أن النكاح مستحب على الجملة. وذهب داود إلى وجوبه، وسبب الخلاف: تعارض الظواهر فلداود قوله:{ فانكحوا ما طاب لكم من النساء }، والأمر على الرجوب، وله الحديث المذكور، وله قوله - عليه السلام - بعد هذا في حديث ذكر فيه التزويج، وقال فيه:« فمن رغب عن سنتي فليس مني ».
ولفقهاء الأمصار عليه أن الله تعالى خير في الآية بين النكاح وملك اليمين، والتسري غير واجب باتفاق، فلو كان النكاح واجبًا ما صح التخيير بينه وبين ملك اليمين ؛ إذ لا يصح على مذهب أهل الأصول التخيير بين واجب وبين ما ليس بواجب ؛ لأن ذلك مؤد إلى إبطال حقيقية الواجب، وأن يكون تاركه غير آثم، ولهم - أيضًا - قول الله تعالى:{ إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين }، ولا يقال في الواجب: أنت غير ملوم إن فعلته، وهذا نحر ما قاله عروة لعائشة في السعي: إنه لو كان واجبًا لم يقل لاجناح عليك في فعله. وينفصلون عن حديث الباءة بأن داود إنما يوجب العقد خاصة دون الوطء، وذلك لا يحصل معه ما ذكر في الحديث من تحصين الفرج وغض البصر.(5/299)
وقد قال بعض أصحابنا: إن قوله - عليه السلام - في هذا الحديث:" ومن لم يستطع فعليه بالصوم" فيه حجة على أن النكاح ليس بواجب ؛ لأنه خير بينه وبين الصوم، والصوم المذكور هاهنا، ليس بواجب، ونحى في هذا إلى ما ذكرنا من التخيير بين النكاح وملك اليمين، وليس الأمر كذلك ؛ لأنه في الحديث رتب فقال: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم "، وهذا غير مستحيل أن نجمع فيه بين واجب وغير واجب. ويصح أن يقول قائل: أوجبت عليك أن تفعل كذا، فإن لم تستطع فأندبك إلى كذا. وأما الحديث الذي فيه:" فمن رغب عن سنتى " ضمله على من أراد أن يفعل من التبتل، وتحريم المحللات على نفسه ما قد فسر في الحديث.
قال الإمام: والذي يطلق من مذهب مالك: أن النكاح مندوب إليه، وقد يختلف حكمه بحسب اختلاف الأحوال. فيجب تارة عندنا في حق من لا ينكف عن الزنا إلا به، وقد وقع لبعض أصحابنا إيجابه على صفة، ومحمله أنه على مثل من هو على هذه الحالة.
ويكون مندوبًا إليه في حق من يكون مشتهيًا له، ولا يخشى على نفسه الوقوع في المحرم، ولا ينقطع به عن أفعال الخير.
ويكون مكروها لمن لا يشتهيه وينقطع به عن عبادته وقرباته.
وقد يختلف فيمن لا يشتهيه ولا ينقطع به عن فعل الخير، فيقال: يندب إليه للظراهر الواردة في الشرع بالترغيب فيه. وقد يقال: يكون في حقه مباحًا.(5/300)
قال القاضي: أما في حق كل من يرجى منه النسل ممن لا يخشى العنت على نفسه، وإن لم يكن له إليه شهوة ؟ فهو في حقه مندوب إليه ؛ لقوله - عليه السلام -:« فإني مكاثر بكم الأمم »، ولظواهر الحض على النكاح والأمر به، وكذلك في حق كل من له رغبة في نوع من استمتاع النساء، فإن كان ممنوعًا عن الوطء، لكن النكاح يغض بصره، وأما في حق من لا ينسل ولا أرب له في النساء جملة ولا مذهب له في الاستمتاع بشىء منهن، فهذا هو الذي يقال في حقه: إنه مباح إذا علمت المرأة بحاله، وقد يقال حتى الآن: إنه مندوب لعموم الأوامر بالتزويج، ولقوله:" لا رهبانية في الإسلام ".
وقوله:" فعليه بالصوم "، قال الإمام: فيه إغراءٌ بالغالب، ومن أصول النحاة: ألا يغرى بغانب، وقد جاء شاذًّا قول بعضهم: عليه رجلاً ليسنى، على جهة الإغراء.
قال القاضي: هذا الكلام الذي قاله - رحمه الله - موجود لبعضهم كما ذكره، وان كان مجموعه ليس من قول أحد. ولكن على قائليه في ذلك أغاليط ثلاثة:
أولها: قول من قال: لا يجوز الإغراء بالغائب كما ذكره، وهو غفلة ووهم من قانله. ولفظ جاء على غير تامل وتحصيل، وهو لفظ أبي محمد بن قتيبة وأبي القاسم الزجاجى ربعضهم، وصوابه: لا يجوز إغراء الغائب ولا يغرى غائب، وإنما يغرى الحاضر والشاهد.
وأما الإغراء بالشاهد والنائب فجانز. وهذا نص أبي عبيد على الصواب في هذا الحديث. فقال: فاغرى غائبًا. ولا تكاد العرب تغرى إلا الشاهد. يقولون: عليك زيدا ودونك عمرا وعندد، ولا يقولون: عليه، إلا في هذا الحديث.(5/301)
وكذلك كلام سيبويه ومن بعده من أئمة هذا البيان في هذا الباب، قالوا: وإنما يؤمر بمثل هذا الحاضر والمخاطب، ولا يجوز: دونه زيدًا، ولا عليه عمرًا، وأنت تريد غير المخاطب لأنه ليس بفعل. ولا تصرف يصرفه، ولئلا يشبهوا ما لم يوجد من أمثلة الفعل بالفعل، وإنما جاز في الحاضر لما فيه من معنى الفعل ودلالة الحال، ولأنك في الأمر للغائب تحتاج له فعلا آخر، كأنك قلت لحاضر: قل له أو أبلغه ليضرب زيدًا. فضعف عندهم ما يدخله من الالتباس في أمر واحد أن يضمر فيه فعلين لشيئين. ولأنه ليس للمخاطب فعل ظاهر ولا مضمر عليه دلالة بانك أمرته بتبليغ ذلك الغائب ؛ ولأن هذه الكلمات وأخواتها ليست بأفعال، ولا تصرفت تصرفاتها، وإنما هي بمنزلة الأسماء المفردة، سميت بها الأفعال للإغراء والتحذير، فهى في الحاضر تدل على الفعل. واستغنى بها عن إظهار الفعل، كما قد يستغنى أحيانًا في مجرد الأمر والنهي باسم المامور به والمنهى غه بدلالة الأحوال كقوله: لمن شام سيفًا، أو رفع سوطًا زيدًا، فأغنت الحال عن قولك: اضرب. ومثله: الطريق الطريق، الصبي الصبي، والأسد الأسد. أغنت الحال عن قوله: احذر، أو افسح، أو اتق.
وكذلك إذا تشكى رجل من اهتضام، فتقرل: عليك الأمير، أو دونك القاضي، دل ذلك على المراد. واستغنيت بهذا عن قولك: اشك، أو الزم. جاء من هذا كله، أن الإغراء والتحذير والأمر والنهي بهذه الكلمات، إنما هو للحاضر لما فيها من معنى الفعل الدال عليه الحال. فأما الغائب فلا يوجد ذلك فيه ؛ لعدم حضوره، ومعرفته بالحالة الدالة على المراد، وعدم سماعه لهذه الأوامر، لكنه يغري به، كما يغرى بالحاضر لا أنه يغرى هو كما يغري الحاضر ؛ لأن الإغراء والتحذير يصح في الحاضر لمن يغري به، أو يحذر منه من غائب وحاضر، كما تقدم.(5/302)
الغلط الثاني: عد جميعهم من هذا قولهم: عليه رجلاً ليسنى. لي ان هذا من إغراء الغائب. قال سيبويه: وهذا قليل، شبهوه بالفعل. وقال السيرافي: وإنما أمر الغائب بهذا الحرف على شذوذ ؛ لأنه قد جرى للمأمور ذكره، فصار كالحاضر، واشتبه أمره أمر الحاضر.
قال القاضي: كان في التقدير قابلاً، قال له: إن فلانًا يريد بك كذا وكذا، وينازعك في كذا، فقال: عليك غيرى، وأما أنا فلا أبالي به، ولست ممن أنازعه. ولكن تعليل سيبويه وما تقدم من حاجة هذا إلى فعل آخر يبلغ الغائب هذا. وضعفه عندهم، إذ ليس ثم ما يدل عليه يرد قوله. والذي عندي أن هذه الكلمة، ليس المراد بها حقيقة الإغراء، وإن كانت صورته ؛ ولهذا ما استجازوه وخصوه من إغراء الغائب روإن كانت صورته فلهذا الغائب، ولم يرد هذا القائل تبليغ هذا الغائب، ولا أمره بالتزام غيره، وطلبه ومعاندته بما جرى ذكره من ذلك، وإنما أراد الإخبار عن نفسه بقلة مبالاته للغائب، وأنه غير متات له منه ما يريد، وجاء بهذه الصورة التي تدل على تركه، حتى لا يصل منه إلى مراده، حتى يكون كمن اشتغل عنه بغيره. وكثيرا ما يستعمل الناس في كلامهم مئله، ونحوه قولهم: إليك عني، أي: اجعل شغلك بنفسك عنى، ولم يرد أن يغريه بنفسه ولا أمره حقيقة بالشغل بها، وانما مراده: تنح عنى ودعنى، وكن كمن شغل عني.
الغلط الثالث: عدهم هذه اللفظة في الحديث من إغراء الغائب حتى قال: قال أبو عبيد: فيه حجة لمن أجاز ذلك، وجعلها السيرافي من باب: عليه رجلاً ليسنى، على ما تقدم. وأن ما جرى من الذكر له صار كالحاضر، فلذلك جاز. وكان بعض من لقيناه من أئمة العربية يقول: إنما جاز هذا في هذا الحديث ؛ لأن في تبليغ الشاهد للغائب ما يغنى عن إضمار فعل التبليغ للغائب المستقبح.(5/303)
قال القاضي: والصواب: أنه ليى في الحديث إغراء بغائب جملة، والكلام كله والخطاب للحضور الذين خاطبهم - عليه السلام - من الشباب، فقال: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم »، قالها هاهنا في عليه ليست لغالب، وإنما هي لمن خصه من الحاضرين بعدم الاستطاعة ؛ إذ لا لصح خطابه بكاف المخاطب ؛ لأنه لم يتعين منهم، ولإبهامه بلفظة " من "، وإن كان حاضرًا، وهذا كثير في القرآن والحديث والكلام. قال الله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } إلى قوله:{ فمن عفي له من أخية شيء } الآية، وقال:{ يا أيها الذين آمنوا عليكم الصيام } إلى قوله:{ فمن تطوع خيرًا فهو خير له } الآية، وقال:{ ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحًا نؤتها }. فهذه الهاء ات الضمائر كلها للحاضر/لا للغائب. ومثله لو قلت لرجلين: من قام الآن منكما فله درهم. فهذه الهاء من قام من أحد الحاضرين، وليست لغائب. وأما حكم تبليغ الشاهد الغائبط، ودخول الغائب في خطاب الحاضر، فحكم آخر من غير هذا الباب، وبامر آخر غير هذا ممن حضه - عليه السلام - وأمره بتبليغ الشاهد الغائب، وقوله:« بلغوا عني - رحمكم الله -، ورحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها »، وبعموم ألفاظ الجموع وألفاظ الإبهام، على ما يتحقق في أصول الفقه والحمد لله. وكلام العرب في الإغراء، قيل هذا كله.
وقوله:« فإنه له وجاء »، قال الإمام: قال ابن ولاد وغيره: الوجاء بكسر الواو ممدود، قال أبو عبيد: إذا كان الصوم يقطع النكاح. ويقال: للعجل إذ رضت أنثياه. وقد وجى وجاء، قال غيره: الوجاء أن يوجي العروق والخصيتان باقيتان بحالهما. والخصاء: شق الخصيتين واستئصالهما. والجب: أن يحمى الشفرة ثم تستأصل الخصيتان.(5/304)
قال القاضي: أصل الوجاء من الغمز، ومنه: وجى في عنق فلان، إذا غمز عنقد ودفع. ومنه: وجاه بالخنجر وشبهه وجا ساكن الجيم إذا نخسه به وطعنه. والوجؤ المصدر ساكن الجيم. وهو أيضًا الزق، ومنه: الوجيه، تمر يبل باللبن أو السس ويرض حتى يلزق بعضه ببعض. وفه أخذ الوجاء، وهو غمز الأنثيين، أو رضهما بحجر ونحوه. قال أبو عبيد: وقد قال بعض أهل العلم: وجاء، بفة ج الواو، مقصور من الحفا، قال: والأول أجود في المعنى. وقال أبو زيد: لا تقولوا: الوجاء إلا فيما لم يبرأ، وكان قريبا عهده. فاذا برأ لم يقولوه. قال الخطابي: وفي الحديث دليل على جواز المعاناة لقطع الباءة بالأدوية. ودليل على أن مقصود النكاح الوطء. ووجوب الخيار في العنه.
وذكر مسلم في هذا الباب عن عبد الرحمن بن يزيد، قال دخلت أنا وعمى علقمة والأسود على عبد الله بن مسعود - الحديث. كذا عند شيوخنا، وهو الصواب. وفي بعض الروايات: دخلت أنا وعمي علقمة والأسود، وهو خطأ، إنما الأسود بن يزيد ابن قيس أخو عبد الرحمن بن يزيد لا عمه، وإنما عمه علقمة بن قيس.(5/305)
وقوله: " إن نفرًا من أصحاب النبي - عليه السلام - سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السر " الحديث، وقوله - عليه السلام -:« ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني »، يحتج به من يقول بوجوب النكاح كما تقدم. ولا حجة له فيه ؛ إذ ذكر في أول الحديث أن بعضهم قال: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أنام على فراش، ثم قرن - عليه السلام - في كر النكاح بالأكل والنوم. وعلى جميعه رد قوله:« فمن رغب عن سنتي فليس مني » لا على النكاح وحده. ولا قائل يقول: بوجوب النوم على الفرش وأكل اللحم. فرد الكلام على النكاح وحده دون قرينة ولا دليل عليه: دعوى لا يلتفت إليها، فلم يبق إلا أن معناه ما تقدم. قال الطبري: وفيه رد على من منع من استعمال الحلال والمباحات من الأطعمة الطيبة والملابس اللينة وآثر عليها غليظ الطعام وخشن الثياب من الصوف وغيره، وإن كان صرف فضلها في وجوه البر ؛ لأن حياطة جسم الإنسان، وصيانة صحته بذلك، آكد وأولى، واحتج بقوله تعالى:{ قل من حرم زينة الله } الآية، وقوله:{ لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } الآية.
قال القاضي: وهذا باب قد اختلف فيه السلف كثيرًا، فمنهم من آثر ما قال الطبري، ومنهم من آثر ما أنكره. واحتج هؤلاء بقوله في ذم أقوام: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمعتم بها }، وقد احتج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بذلك. وحجة الآخر عليهم: أن الآية نزلت في الكفار ؟ بدليل أول الآية وآخرها.(5/306)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ بالأمرين، وشارك في الوجهين، فلبس مرة الصوف، والشملة الخشنة، ومرة البردة والرداء الحضرمي، وتارة أكل القثاء بالرطب وطيب الطعام إذا وجده ومرة أكل الخواري، ومختلف الطعام. كل ذلك ليدل على الرخصة بالجواز مرة، والفضل والزهد في الدنيا وملاذها أخرى. وكان يحب الحلواء والعسل، ويقول:«" حبب إلى من دنياكم ثلاث: النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة ». وسيأتي الكلام على هذا الحديث.
وفي قوله:« ما بال أقوام قالوا كذا »، فيه ما كان عليه - عليه السلام - من حسن معاشرته، وأدبه، وتركه مواجهة اك،س بما يكرهون، وتمسميتهم بأسمائهم على رؤوس الجميع، وتوبيخهم معينين، بل أبهم الأمر، وترك التعيين. وقوله:" رد على عثمان بن مظعون التبتل "، قال الإمام: التبتل: وهو الانقطاع عن النساء، وترك النكاح لمن استغنى عنه إلى الانقطاع إلى الله تعالى. وفيه الحديث:" لا رهبانية في الإسلام ولا تبتل "، قال الليث:البتول: كل امرأة منقطعة عن الرجال، لا شهوة لها فيهم. وقال أحمد بن يحيى: سميت فاطمة بالبتول ؛ لانقطاعها عن نساء زمانها، وعن نساء الأمة دينًا، وفضلاً، وحسبًا.
قال القاضي: قال الطبري: التبتل: هو ترك لذات الدنيا وشهواتها، والانقطاع إلى الله بالتفرغ لعبادته. ومنه قيل لمريم: البتول ؛ لانقطاعها إلى الله بالخدمة. ومنه قولهم: صدقة بتلة، أي: منقطعة عن مالكها. قال غيره: التبتل حرام. يعني عن النساء. ومن الناس من يكون أصلح لدينه وأما الاختصاء فلا يحل أصلاً.
وقوله:" تمعس منيئة "، قال الإمام: أي: تدبغ. وأصل المعمس: الدلك، يقال منه: معسه يمعسه معسًا. والمنيئه: الجلد أول ما يدبغ. قال الكسائي /: يسمى منيئة، ما دام في الدباغ. قال أبو عبيد: اسمه أول ما يدبغ منيئة على وزن فعيلة. ثم هو أفيق وجمعه أفق، ثم يكون أديمًا.(5/307)
قال القاضي: هذا صواب الرواية، ووقع عند بعضهم فيه تصحيف لا يلتفت إليه، ولم تثبت روايته.
وقوله - عليه السلام -:« إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان»، معناه: الإشارة إلى الهوى والدعوى إلى الفتنة بحالها. وما جعل الله في طباع الرجال من الميل إليها، كما يدعو الشيطان بوسوسته وإغوائه لذلك، وتزيينه.
وقوله:« فإذا أبصر أحدكم امرأة »، وفي الحديث الآخر:« فأعجبته ووقعت فى قلبه، فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه »، نبّه - عليه السلام - لدواء ذلك الداء المحرك للشهوة للنساء يطفئها بالمواقعة، وإراقة ما تحرك من الماء، فتسكن الشهوة، وتذهب ما في النفس. ولا يظن بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك مع زينب، حين رأى المرأة، أنه وقع في نفسه مما رآه شيء، وقالت نفسه، فهو منزه - عليه السلام - عن ذلك، لكنه فعل ذلك ليقتدى به في الفعل، ويمتثل أمره بالقول. وقد يكون - عليه السلام - عند رؤية شخص ظاهر الحسن يذكر من عنده به، فذهب فقضى حاجته منه.
وقوله: "قلنا: ألا نستخصي فنهانا - عليه السلام - عن ذلك "، و فيه ما تقدم من النهي عن الخصاء والتبتل والانقطاع عن النكاح، وترك النسل الذي حض - عليه السلام - على تكثيره، وإبطال الحكمة في خلق ذلك العضو، وتركيب الشهوة فيه لبقاء النسل، وعمارة الأرض، وذرء عباد الله فيها ليبلوا كيف يعملون، وليعبدوه جل اسمه، وتغيير خلق عباد الله، وافساد خاصية الذكورية.(5/308)
وقوله:" ثم رخص لنا أن تنكح المرأة بالثوب إلى أجل "، قال الإمام: ثبت أن نكاح المتعة كان جائزًا في أول الإسلام، ثم ثبت أنه نسخ بما ذكر من الأحاديث في هذا الكتاب وفي غيره، وتقرر الإجماع على منعه، ولم يخالف فيه إلا طائفة من المبتدعة، وتعلقوا بالأحاديث الواردة في ذلك، وقد ذكرنا أنها منسوخة، وبالحديث الذي فيه: نهي عمر - رضي الله عنه - عن المتمتعين، الحديث. ويحمل ذلك على أن من خاطبه عمر قد خفى عنه النسخ، وأن عمر نهى عن ذلك تأكيدًا وإعلانًا بنسخه. وقد يتعلق بقرله سبحانه:{ فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن } الآية. ويحمل ذلك عندنا على النكاح الجائز المؤكد. قالوا: وقرأ ابن مسعود هذه الآية " فما استمتعتم به منهن إلى أجل، وقراءة ابن مسعود هذه الآية، ليست عندنا بحجة ؛ لأنها من طريق الآحاد، والقرآن لا يثبت بخبر الواحد، ولا يلزم العمل بخبر الواحد في مثل هذا المنقول على أنه قران على الصحيح من القول في ذلك، وذهب زفر إلى أن من نكح نكاح متعة، فإن النكاح يتأبد. قال الإمام: وما أراه ذهب في هذا إلا إلى أن ذلك من باب الشروط الفاسدة إذا قارنت النكاح، فإنها تبطل، ويمضي النكاح. فكان حكم الشرع التأبيد في النكاح، واشتراط هذا التأجيل فيه خلاف حكم الشرع، فبطل ذلك الشرط، ومضى النكاح على حكم الشرع.
واختلفت الرواية في كتاب مسلم، في النهي عن المتعة، ففيه أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك يوم فتح مكة، وقيل: إنه نهى عن ذلك يوم خيبر. فإن تعلق بهذا من أجاز المتعة، وزعم أن هذا الخلاف يقدح في الأحاديث الناسخة؛ لأنه يراه تناقضًا. قلنا: هذا خطأ، وليس بتناقض ؛ لأنه يصح أن ينهى عن ذلك في زمان، ثم ينهى عنه في زمان آخر تأكيدًا وإشهارًا، فيسمع بعض الرواة نهيه في زمان، ويسمع آخرون نهيه ذلك في زمان آخر، فينقل كل فريق منهم ما سمعه، ولا يكون في ذلك تكاذب ولا تناقض.(5/309)
قال القاضي: روى حديث إباحة المتعة جماعة من الصحابة، فذكر مسلم منهم ابن مسعود، وابن عباس، وسلمة بن الاكوع، وجابر بن عبدالله، وسبرة بن معبد الجهني، وليس في هذه الآثار كلها أنها كانت في الإقامة، وإنما جاءت في مغازيهم، وعند. ضروراتهم في أسفارهم، وعدم النساء وبلادهم حارة، وصبرهم عنهن قليل.
وقد ذكر في حديث ابن أبي عمرة أنها كانت رخصة في أوّل الاسلام لمن اضطر إليها، كالميتة والدم ولحم الخنزير ونحوه من ابن عباس.
وذكر في حديث مسلم من رواية سلمة بن الاكوع إباحتها في يوم أوطاس. ومن رواية سبرة الجهنى إباحتها يوم الفتح، وهما واحد، ثم تحريمها حينئذ. وفي حديثهما ومن رواية على تحريمها يوم خيبر. وهو قبل الفتح.
وذكر غير مسلم عن على نهيه - عليه السلام - عنها في غزوة تبوك من رواية إسحاق ابن راشد عن الزهرى عن عبد الله بن محمد بن على عن أبيه عن علي - صلى الله عليه وسلم -. ولم يتابعه أحد على هذا وهو غلط منه وهذا الحديث رواه مالك في "الموطأ"، وسفيان بن عيينة، والعمري، ويونس وغيرهم، عن الزهري، عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي، وفيه يوم خيبر، وكذلك ذكره مسلم عن جماعة عن ألزهرى، وهذا هو الصحيح.
وقد روى أبو داود في حديث الربيع بن سبرة عن أبيه النهي عنها في حجة الوداع. وقال أبو داود: وهذا أصح ما روي في ذلك، وقد روي عن سبرة - أيضًا - إباحة ذلك في حجة الوداع. وقصته وقصة صاحبه والبردين التي ذكر مسلم حينئذ، ثم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها حينئذ إلى يوم القيامة، وروى عن الحسن البصرى أيضًا: ما حلت قط إلا في، عمرة القضاء. وروى هذا /عن سبرة الجهنى أيضًا.(5/310)
ولم يذكر مسلم في حديث سبرة تعيين وقت إلا في حديث أحمد بن سعيد الدارمى وحديث إسحاق بن إبراهيم. وحديث يحيى بن يحيى، فانه ذكر فيه عام فتح مكة. قالوا: وذكر الرواية باباحتها في حجة الوداع خطأ ؛ لأنه لم يكن ثم ضرورة ولا غربة، وأكثرهم حجوا بنسائهم، والصحيح فيها مجرد النهي، كما جاء في غير رواية، ويكون تحديد النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عنها يومئذ لاجتماع الناس وتبليغ الشاهد الغائب، وإتمام الدين وتقرير الشريعة كما قرر غير شيء، وبين حله وحرامه، وبمت تحريم المتعة حينئذ بقوله: إلى يوم القيامة، وعلى هذا يحمل ما جاء في تحريم المتعة يوم خيبر في عمرة القضاء يوم أوطاس ويوم الفتح وهو بمعنى يوم أوطاس ؛ إذ هي غزوة متصلة واحدة، وأنه جدد النهي عنها في هذه المواطن، إذ حديث تحريمها يوم خيبر صحيح لا مدفع فيه من رواية الثقات الاءثبات عن ابن لثمهاب لكن في رواية سفيان عنه: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، فتأول بعضهم بأن الكلام منقطع، وأن يوم خيبر مختص بتحريم الحمر الأهلية، وأرسل تحريم المتعة على غيرها ليوافق بين الأحاديث. وقال هؤلاء: الأشبه في تحريم المتعة أنه كان بمكة، وأما لحوم الحمر الأهلية فبخيبر بغير خلاف، وهذا حسن لو ساعدته سائر الروايات عن غير سفيان.(5/311)
والأولى ما قلناه وتقدم من تكرير التحريم، لكن يبقى بعد هذا ما جاء في ذكر إباحته في عمرة القضاء،ويوم أوطاس ويوم الفتح، فيحمل أنه - عليه السلام - أباحه لهم للضرورة بعد التحريم، ثم أطلق تحريمه بعد للأبد بقوله: من يومكم هذا إلى يوم القيامة، فيكون التحريم أولاً بعد الإباحة للضرورة عند ارتفاعه بخيبر وعمرة القضاء، ثم تأبيد التحريم بمكة في الفتح وحجة الوداع، وتترك الرواية بتحليلها في حجة الوداع، إذ هي مروية عن سبرة الجهني. وروايات الإثبات عنه أنها في يوم الفتح، ومجرد النهي يوم حجة الوداع، فيؤخذ من حديثه ما اتفق عليه الجمهور، ووافقه عليه غيره من الصحابة من النهي عنها قبل الفتح، وبترك ما انفرد به من روى عنه تحليلها يوم حجة الوداع، ويصحح رواية من روى عنه مجرد النهي في حجة الوداع تكيدًا وإبلاغًا.
وأما قول الحسن: إنها كانت في عمرة القضاء لا قبل ولا بعد، فبرده ثبات حديث خيبر وهي قبلها وما جاء في إباحتها في احاديث يوم الفتح وأوطاس، مع أن الرواية بهذا إنما جاءت عن سبرة وهو راوى الروايات الآخر وهي أصح، فيترك ما خالف الصحيح. وقد قال بعضهم: هذا مما تداوله التحريم والإباحة والفسخ مرتين كما قيل في مسألة القبلة.
ولا خلاف بين العلماء أن هذه المتعة كانت نكاحًا إلى أجل لا ميراث فيه، وفراقها بانقضاء الأجل من غير طلاق، ووقع الإجماع على تحريمها بعد من جميع العلماء إلا الروافض.
واتفق السلف على تحريمها آخرًا إلا ما روي عن ابن عباس من إجازتها، وقد روى عنه أنه رجع عن ذلك، وأجمعوا على أنه متى وقع نكاح المتعة الآن أنه يفسخ أبدا قبل الدخول وبعده، إلا ما تقدم عن زفر.(5/312)
واختلف كبراء أصحاب مالك، هل يحد فاعله إذا دخل حد البكر والمحصن أولاً حد عليه ؛؟ لشبهة العقد، وللخلاف المتقدم فيه، وأنه ليس من تحريم القرآن ولكنه يعاقب عقوبة شديدة، وهذا المروى عن مالك وأصل هذا عند بعض شيوخنا التفريق بين ما حرمته السنة أو حرمه القرآن، وأيضا فالخلاف بين الأصوليين، هل يصح الإجماع على أحد القولين بعد الإجماع أم لا ينعقد ؟ وحكم الخلاف باق، وهذا مذهب القاضي أبي بكر، وهذا على القول بعدم الصحة عند رجوع ابن عباس عنه، وأما على ما روى من رجوعه، فقد انقطع الخلاف جملة.
وكلهم مجمعون أنه إن نكح نكاحًا مطلقًا لكن في نيته ألا يمكث معها إلا مدة نواها، فإن النكاح جائز وليس نكاح متعة، وانما نكاح المتعة ما وقع بالشرط المذكور، لكن مالكًا قال: ليس هذا من الجميل، ولا من أخلاق الناس. وشذ الأوزاعي فقال: هو نكاح متعة لا خير فيه.
وقوله - عليه السلام -:« من كان عنده منهن شيء، فليخل سبيلها »، يرد على زفر في قوله: يبطل الشرط ويصح النكاح. وقوله - عليه السلام -:« ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا »، دليل على أن في ذلك المسمى لا صداق المثل، وهو قولنا. وهو أصل في كل نكاح فسخ لفساد عقده وتحريمه.
وقوله:" كأنها بكرة عيطاء " بالعين والطاء المهملتين، وبينهما ياء باثنتين تحتها: البكرة: الفتية من الإبل. قال الإمام: العيطاء: الطويلة العنق باعتدال. قال أبو عبيد في مصنفه: هي العيطاء والعنقاء والعطيول، قال غيره: هي العنطنطة أيضًا. قال أبو عبيد: والعنطنطة: الطويلة، ولم يذكر العنق.
قال القاضي: قال صاحب العين: العنطنطة: الطويلة العنق مع حسن قوام. والعنط: طوال العنق. وقال الهروى: العيطاء: الطويلة العنق في اعتدال، وهي العنطنطة أيضًا.
وقوله:" برد هذا خلق مح " بفتح الميم وتشديد الحاء المهلملة، قال الإمام: يقال مح الكتاب وأمح إذا درس. قال ابن القوطية: ومخ الثرب وأمح إذا بلى. وأنشد غيره لقيس بن ذريح:(5/313)
/تلوح مغانيها بحجر كأنها رداء يمان قدأمح عتيق
قال القاضي: وقع في تفسير الحرف في أصل مسلم من روايتنا عن العذري وابن سعيد: أي: بأن به.
وقوله:" إن ناسًا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة "، إنما عرض بابن عباس.
وقوله:" إنك لجلف جاف "، قال الإمام: قال ابن السكيت: الجلف: هو الجافي. قال غيره: وجاز تكرار المعنى لاختلاف اللفظ. وقد تقدم نظير هذا، قال الهروي: أصل الجلف: الشاة المسلوخة بلا رأس ولا قوائم، ويقال للدن أيضًا: جلف، ويشبه الرجل الأحمق بها لضعف عقله، والجافى، الغليظ، وفي حديث عمر:" لا تزهدن في جفا الحقو "، أي: في تغليظ الإزار. وقال الهروي في تفسير صفته - عليه السلام -: ليس بالجافي، ولا المهين: أي: الغليظ الخلقة، ولا المحتقر، ويقال: ليس هو بالذي يجفو أصحابه ويهينهم. قال غيره: والجافي في غير هذا من صفات الأسد، كما قال ابن خالويه في كتاب الأسد. قال غيره: والجفا من الناس: التباعد.
وقوله:" إنك لرجل تائه "، هو المرتفع عن طريق القصد.
قال القاضي: إنما المرتفع عن طريق القصد التياه، كذا قال الهروى. وأما التائه فالحائر، وأصله من الأرض التيه، وهي التي لا يهتدى فيها بعلم. وقال صاحب الأفعال: تاه تيها وتوها: تكبر، وأيضا: ذهب عقله.
وقوله:" فجعلت تنظر إلى عطفها "، قال الأصمعي الأعطاف: الجوانب. قال أبو حاتم: ومنه قولهم: نظر في اعطافه، وفي القرآن:{ ثاني عطفه }، قال مجاهد: رقبته، ونحوه عن قتادة. وقال الخليل: عطف كل شيء من رأسه إلى وركه. قال الهروى: عطفا الرجل: ناحيتا عنقه، ومنكب الرجل عطفه. وقال الأصمعي: والعطف الإبط. وقوله:" فآمرت نفسها "، أي: شاورت نفسها وتراءت في أمرها بأمر القوم. وائتمروا إذا تشاوروا، قال الله تعالى:{ إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك }، قال: والمؤتمر الذي يهم بالأمر يفعله. والدمامة، بالدال المهملة: جفاوة، رجل ذميم: أي: حقير، وهو القبح.(5/314)
قال الإمام: ذكر مسلم في الباب: ثنا ابن بشار، ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عمرو بن دينار قال:سمعت الحسن بن محمد يحدث عن جابر بن عبد الله، وسلمة بن الاكوع..، الحديث بالإجماع، ثم أردفه بقوله: حدثنى أمية بن بسطام العيشى، حدثنى يزيد بن زريع، ثنا روح بن القاسم، عن عمرو بن دينار، عن الحسن - يعني الحسن بن محمد- عن سلمة وجابر - الحديث. قال بعضهم: هكذا الإسنادان في نسخة ابن ماهان، وسقط من نسخة أبي أحمد الجلودي والكسائي من إسناد يزيد بن زريع، ذكر الحسن بن محمد بن عمرو بن دينار وسلمة وجابر وسلمة أنه وهم ؛ لأن الحديث حديث الحسن بن محمد عن جابر وسلمة، وكذلك رواه شعبة عن عمرو بن دينار قال: سمعت الحسن بن محمد يحدث عن جابر وسلمة بذلك على ما تقدم.
قال القاضي: قال لنا القاضي الشهيد: انظر قوله عن الحسن بن محمد عن سلمة فلم يد ركه.
قال القاضي: وقد ذكر مسلم في الباب أيضًا قبل هذا: ثنا عثمان، ثنا جرير، عن إسماعيل بن أبي خالد بهذا عطفًا على رواية إسماعيل عن قيس، عن ابن مسعود، ثم قال: وثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، عن إسماعيل وجرير بهذا. كذا عند العذري وابن سعيد وابن أبي جعفر، ولم يكن عند السمرقندي وجرير، وإثباته خطأ بين، وإنما رواية جرير عن إسماعيل كما تقدم في سند عثمان، ولعله كان مخرجًا بعد وكيع فغلط في التخريج.
وأخرج بعد إسماعيل وذكر أيضًا في الباب بعد. ثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدرى، ثنا بشر - يعني ابن المفضل -. كذا عند جميعهم، وفي بعض الروايات: ثنا أبو بكر، ثنا بشر. والصحيح الأول. ووقع في الباب في حديث حرملة عن ابن وهب قال ابن أبي عمرة: إنما كانت رخصة. كذا لهم، وفي كتاب العذري قال ابن عمر، بغير هاء، وهو خطأ فاحش.(5/315)
وقوله في هذا الحديث:فأخبرني خالد بن المهاجر بن سيف الله. سيف الله هذا هو خالد بن الوليد المخزومى، وتسميته بسيف الله مشهور ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه:« إنه سيف من سيوف الله، سله الله على الكفار ». وفي الباب في حديث سلمة بن شبيب بسنده عن عمر بن عبد العزيز: حدثنى الربيع بن سبرة الجهنى عن أبيه. كذا في الأصول، وهو الصحيح المتكرر في سائر أحاديث الباب والمعلوم المشهور، وكان في كتاب شيخنا الصدفى من رواية العذري: حدثنى ابن سبرة، وكذا قيدناه عنه، وقال لنا: هو خطأ وسائر من حدثنا به عن العذري كان عنده ابن سبرة على الصواب.
وقوله:" نهى عن لحوم الحمر الأنسية "، كذا ضبطناه عنهم بفتح الهمزة والنون، ورواه جماعة: الإنسية، والأنس، بفتحها: الناس، وكذلك " الإنس " بكسر الهمزة. ولا خلاف بين العلماء في الأخذ بحديث النهي عن أكل لحوم الحمر الإنسية، إلا شيئًا روى عن ابن عباس وعائشة وبعض السلف، وقد اختلف عنهم في ذلك أيضًا.
واختلفت الرواية عن مالك، هل ذلك على الكراهة أوالتحريم ؟ واختلف في علة تحريمها بحسب ما جاءت به الآثار، فقيل: لأنها لم تكن قسمت، وقيل: خوف فناء الظهر والحمولة، وقيل: لأنها كانت جلالة، وقيل: نهى تحريم لغير علة، وسيأتي في كتاب الأطعمة والذبائح تمام هذا.
وقوله:« لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها »، قال الإمام: الفروج تستباح في الشريعة بالنكاح وملك اليمين ما لم يمنع من ذلك مانع، والمانع على قسمين: مانع يتأبد معه التحريم، ومانع لا يتأبد.
فالذى يتأبد تحريمه على تفصيل نذكره،/ وهو خمسة أقسام: إحداها: يرجع إلى التحريم فيه إلى العين كالأم والأخت وشبهها ولا خلاف في تأبيد تحريم ذلك، وباقيها يرجع التحريم فيها لعلة طرأت كالرضاع المشبَّه بالنسب ولا خلاف في التأبيد به أيضًا، والصهر والنكاح والملاعنة لمن لاعانها، والمتزوجة في العدة.
فأما الصهر فهو أربعة أقسام:(5/316)
تزويج الرجل امرأة ابنه، والابن امرأة أبيه، فهذان القسمان يحرمان جميعًا بالعقد.
والقسم الثالث: تزويج الربيبة، فإنها لا تحرم بالعقد ولا خلاف في ذلك.
والرابع: أم الزوجة، فمذهب الفقهاء وجمهور الصحابة أنه تحرم بالعقد على البنت، وذكر عن على ومجاهد أنها لا تحرم إلا بالدخول على البنت.
وسبب الخلاف في ذلك: قوله تعالى:{ وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم قن تسائكم اللاَّتي دخلتم بهن }، هل هذا النعت والتقييد راجع إلى النساء المذكورات آخر، أم عائد على المذكورات أولاً وآخرًا ؟
والأرجح ما ذهب إليه الجمهور لوجوه، منها: أن الاستثناء ات والشروط عند جماعة من أهل الأصول تعود إلى أقرب المذكورات إليها وكذلك أصل النحاة أيضًا، ولأن العامل إذا اختلف لا يصح الجمع معه بين المنعوتات في نعت واحد وإن اتفق إعرابها، وهذا من ذلك لأن النساء المذكورات أولاً مخفوضات بالإضافة، والمذكورات آخرًا مخفوضات بحرف الجر، فلا يجمع بين نعت المخفوضات بالإضافة وبين نعت المخفوضات بحرف الجر لما ذكرناه.
وأما الملاعنة فيتأبد تحريمها عندنا على من لاعنها وخالف فيه غيرنا، وكذلك المتزوجة في العدة مختلف في تابيد تحريمها أيضًا.
وأما الذي لا يتأبد معه التحريم ويرتفع بارتفاعه ويعود بعودته، فمنه ما يرجع إلى العدد كنكاح الخامسة، ومنه ما يرجع إلى الجمع كالجمع بين الأختين، والجمع بين المرأة وعمتهها، ومنه ما يرجع إلى غير ذلك كالمجوسية والمرتدة وذات الزوج وشبه ذلك.
فأما ما يحرم الجمج بينهن من النساء بالنكاح فيعقد على وجهين:(5/317)
أحدهما: أن يقال: كل امرأتين بينهما نسب لو كانت إحداهما ذكرًا حرمت عليه الأخرى، فإنه لا يجمع بينهما، وإن شئت أسقطت ذكر بينهما نسب وقلت بعد قوله: لو كانت إحداهما ذكرا حرمت عليه الأخرى من الطرفين جميعًا. وفائدة هذا الاحتراز بزيادة النسب أو من الطرفين جميعًا مسألة نكاح المرأة وربيبتها؟ فإن الجمع بينهما جأئز. ولو قدر أن امرأة الأب رجل لحلمت له الأخرى لأنها أجنبية، ولأن التحريم لا يدور من الطرفين جميعًا. هذا حكم النكاح، وتدخل فيه عمة الأب وخالته وشبه ذلك من الأباعد ؛ لأن العقد يشتمل على ذلك.
وأما الجمع بملك اليمين أ بين من ذكرنا تحريم الجمع بينهما بالنكاح، ففيه اختلاف، فقيل: لا يجمع بين الأختين بملك اليمين، وهو جل قول الناس ؛ لقول الله تعالى:{ وأن تجمعوا بين الأختين }، وقيل: ذلك بخلاف النكاح ؛ لقول الله تعالى:{ أو ما ملكت أيمانكم }، فعتم، فصار سبب الخلاف أي: العمومين أولى أن يقدم، وأي الايتين أولى أن يخص بها الأخرى ؟ والأصح تقديم آية النساء والتخصيص بها ؛ لأنها وردت في نفس المحرمات وتفصيلهن، وكانت أولى من الآية التي وردت في مدح قوم حفظوا فروجهم إلا عما أبيح لهم، وأيضًا فإن آية ملك اليمين دخلها التخصيص باتفاق ؛ إذ لاتباح له بملك اليمين ذوات محارمه اللاَّتي يصح له ملكه لهن، وما دخله التخصيص من العموم ضعف.(5/318)
قال القاضي: أجمع المسلمون على الأخذ بهذا النهي في الجمع بين الأختين، وفي الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح،أو في الوطء بملك اليمين، وقد كان في جمع الوطء بملك اليمين اختلاف من بعض السلف استقر بعد الإجماع عليه، إلا طائفة من الخوارج لا يلتفت إلى قولهم قالوا: يجمع بين الأختين بملك اليمين، وبالجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها عموما ؛ تعلقا بظاهر قوله:{ وأن تجمعوا بين الأختين }، ثم قال:{ وأحل لكم ما وراء ذلكم }، وتعلقًا بأن أخبار الآحاد لا يخص بها عموم القرآن. وهما مسألتا خلاف بين أهل الأصول. والصحيح جوازهما ؛ لأن خبر النبي ظيش مبين مفسر لما جاء به عن الله، ونحن متعبدون بامتثاله وللإجماع بإلحاق الجمع بين هؤلاء بالجمع بين الأختين مع هذه الآثار الصحيحة المفسرة لمجمل الآية المبين لها يرد عليهم.
وعلة ذلك ما يفضى ذلك إليه من التقاطع والتدابر بغيرة الضرائر، وأنها العلة الموجودة في الأختين. وقاس بعض السلف على هذا جملة القرابة، فمنع الجمع بين بنتي العم أو بنتي الخال، أو بنتي العمة أو الخالة.
وجمهور العلماء وأئمة الفتوى على خلاف هذا، وقصر التحريم على ما نص عليه أوما ينطلق عليه لفظه من العمات والخالات وإن علون.
وكذلك اختلفوا في الجمع بين زوجة الرجل وابنته من غيرها، فأجازه جمهورهم إذا لم يجمعهما حرمة النسب، وخالف الحسن وابن أبي ليلى وعكرمة فلم يجيزوا الجمع بيغهما، وعموم قوله:« لا يجمع بين المرأة وعمتها»، يبين الرواية الأخرى:« لا تنكح العمة على بنت الأخ، ولا بنت الأخت على الخالة »، وأنه لا فرق بين نكاح إحداهما على الأخرى، وأن المنهي عنه الجمع بينهما فقدمت العمة أو الخالة، أو بنات أخواتهن أو إخوانهن، وكيف، وفي الحديث الآخر /:« لا تنكح المرأة على عمتها »، يجمع النهي بين الطرفين، وهذا النهي عن الجمع، وفي كتاب أبي داود:« لا تنكح الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى ».(5/319)
وهذا العموم شامل الوطء بالنكاح وملك اليمين، إلا إن عقد النكاح عليهما معا أو في الآخرة منهما لا يصح، إذ لا تراد إلا للوطء، وعقد مجرد الملك يصح إذ يراد به لغير الوطء، وقول ابن شهاب يرى عمة أبيها وخالة أبيها بتلك المنزلة صحيح ؛ لأنه ينطلق عليها عمة وخالة وإن علون ؛ إذ العمة هي كل امرأة لها عليك ولادة، فاخت الجدة للأب خالة، وأخت الجد للأم عمة.
وقوله:« ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يسم على سوم أخيه"، وفي الرواية أخرى:« حتى يأذن له »، وفي الأخرى:« حتى يذر »، وفي الحديث الآخر:« لا يبع بعضكم على بيع أخيه »، قال الإمام: معناه: لايسم على سومه. وقد صرح بذلك في حديث آخر من هذا الكتاب، وعلته ما يؤد إليه من الضرر، وقد كره بعض أهل العلم بيع المزايدة في الحلف خوفًا من الوقوع في ذلك. وإن قلنا إنما يمنع من ذلك مع التراكن إلى البيع خرج بيع الحلف من ذلك، وكذلك الخطبة على خطبة الغير محملة عند أهل العلم على أن المنع إذا حصل التراكن ؛ بدليل حديث فاطمة بنت قيس لما أخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها خطبها ثلاثة ؟ فلم تنكر دخول بعضهم على بعض وفي الخطبة.
وقوله لها:« أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه »، ومعناه: أنه كثير الأسفار وقد يعبر عن ترد السفر وعن الإقامة بالمكان واجتماع الأمر فيه بإلقاء العصا، قال الشاعر: فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر وذهب بعضهم إلى أن معنى:" لا يضع عصاه عن عاتقه ": الأدب، ولم يرد به الضرب بالعصا، وعلى ذلك قول الشاعر:
تركت أهل الصبا وشأنهم فلم تعد لي العصا ولم أعد
معناه: لم ترفع على عصا اللوم والعذل لأني عدلت عن اللهو والصبا، وقيل: المراذ به: أنه يكثر الضرب. وفيه حجة على جواز الضرب اليسير للزوجة ؛ لأن ظاهره إنكمار الإكثار من الضرب.(5/320)
قال القاضي: قد جاء هذا الحديث بعد، وهناك سيعود الكلام عليه. وجاء في كتاب مسلم هناك ما يستدل به على أحد التأويلين من قوله فيه: "ضراب للنساء "، وسننبه على ذلك في مكانه إن شاء الله.
قال القاضي: قيل: معنى " لا يبع، هاهنا: أي: يشترى. وأما بيعه سلعته على بيع أخيه فغير منهى عنه، والأولى أن يكون على ظاهره، وهو يعرض سلعته على المشترى يرخص ليزهده في شراء تلك التي ركن إليها أولا من عند الآخر، فيشتمل عليه النهي ويكون على ظاهره. والشراء والبيع ينطلق على المتبايعين معا.
واختلف عندنا في هذا إذا وقع من الخطبة على الخطبة أو السوم على السوم بعد التراكن، هل يفسخ العقد أم لا ؟ فذهب الشافعي والكوفيون وجماعة من العلماء إلى إمضاء العقد، والنهي ليس على الوجوب. وقال داود: هو على الوجوب ويفسخ. ولمالك فيها قولان، ولكبراء أصحابنا، وقول ثالمث: الفسخ في النكاح قبل البناء أو يمضى بعد، ولا خلاف أن فاعل ذلك عاص. واختلفوا في حد التراكن الذي يقع النهي عليه، هل هو مجرد الرضا بالزوج أو تسمية الصداق ؟ وقال الشافعي: إنما هو ممن أذنت المرأة لوليها أن ينكحها من رجل معين. قال الخطابي: وفي قوله:" على خطبة أخيه " دليل أن ذلك إذا كان الخاطب الأول مسلما ولا يضيق إذا كان يهوديا أو نصرانيا. وهذا مذهب الأوزاعي وجمهور العلماء على خلافه. وقال ابن القاسم من أئمتنا: وهذا في غير الفاسق، وأما الفاسق فيخطب على خطبهته، وقيل: معنى النهي إذا أذنت المخطوبة في نكاح رجل بعينه، فلا يحل لأحد أن يخطبها حتى يأذن الخاطب، وقيل في معنى قوله: ألا يبع أحدكم على بيع أخيه لا، أنه على قوله:« البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ».(5/321)
قال القاضي: وقوله:« ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها، فإن الله رازقها »، لتنفرد بزوجها، وأكل الناس قلب الصحفات إذا كانت فارغة ؟ ولهذا قال - عليه السلام -: "فإن الله رازقها "،. قال أبو عبيد: ولم يرد الصحفة خاصة، إنما جعلها مثلا لحظها منها منه، كأنه إذا طلقها أمالت نصيبها منه إلى نفسها. قال الهروى:" اتكتفي ما في إنائها "، هو يفتعل من كفأت القدر: إذا كبتها لتفرغ ما فيها، وهذا مثل لإمالة الضرة حق صاحبتها من زوجها إلى نفسها. قال الكسائى: أكفات الإناء: كببته، وأكفأته وكفاته: إذا أملته، وقيل: هو كناية عن الجماع والرغبة في كئرة الولد، والأول أظهر.
وقوله:« إلا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب »، قال الإمام: اختلف في نكاح المحرم، هل يجوز أم لا ؟ فقيل: لا يجوز، وتعلق قائله بهدا الحديث وشبهه، وقيل: يجوز، وتعلق من قاله بما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نكح ميمونة وهو محرم، فيرجح من لا يجزيه مذهبه بأن النهي الوارد من النبي - صلى الله عليه وسلم - قول، والذي ذكر من حديث ميمونة فعل، والقول ممدم على الفعل لأنه يتعدى، والفعل قد يكون مقصررا عليه ظلض، وقد خصص في النكاح وغيره بخصائص، وقد روى أيضًا في حديث ميمونة من طريق آخر: أنه تزوجها وهو حلال، وهذا مما يقوى مقدمة القول / هاهنا بلا شك ؛ لأن القول أولى بأن يقدم من فعل مختلف فيه، ويصح بناء الروايتين في الفعل فيقال: رواية من روى أنه حلال هي الأصل، وتحمل الرواية الأخرى على أن قوله: " فينكحها وهو محرم "، أي حال في الحرم لا عاقد الإحرام على نفسه، ومن حل في الحرم قيل له: محرم وإن كان حلالا، فتبنى القولتان على هذا، وتخرجان عن التكاذب.(5/322)
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا ينكح " فمعناه: ولا يعقد على غيره، ووجهه أنه لما كان ممنرعا نكاح نفسه مدة الإحرام كان معزولأ تلد المدة عن أن يعقد لغيره، وشابه المرأة التي لاتعقد على نفسها ولاعلى غيرها.
قال القاضي: الذي صححه أهل الحديث تزوجها حلالأ، وهو قول كبراء الصحابة ورواياتهم، ولم يات عن أحد منهم أنه تزوجها محرما إلا ابن عباس وحده، وبحديثه أخذ الكوفيون في جواز ذلك، وخالفهم سائر الفقهاء وأئمة الفتوى، فمنعوا ذلك وردوه، إذا وقع، وقد قال بعضهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بعث مولاه أبا رافع بعقد نكاحها بمكة بوكالته، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، ثم وافى النبي - صلى الله عليه وسلم - محرما، فبنى بها بسرف حلالأ، وأشتهر نكاحه بمكة عند وصوله لها وحلوله بها.
قال الإمام: ذكر مسلم في الباب: ثنا يحيى بن يحيى عن مالك، عن نافع، عن نبيه بن وهب ؟ أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج طلحة بن عمر بنت شيبة بن جبير. ثم ذكره بعد ذلك من حديث حماد بن زيد عن أيوب، عن نافع قال: ثنا نبيه بن وهب، قال: بعثنى عمر بن عبيد الله، وكان يخطب بنت شيبة بن عثمان على ابنه. كذا جاء في حديث حماد بن زيد وشيبة بن عثمان. قال بعضهم: وذكر أبو داود هذا الحديث، وزعم أن مالكًا وهم فيه.(5/323)
والقول عندهم قول مالك. قال أبو داود: رواه مالك عن نافع عن نبيه؛ أن عمر بن عبيد الله أرسل إلى أبان بن عثمان: إني أردت أن أنكح طلحة بن عمر بنت شيبة بن جبير. قال: رواه حماد بن زيد عن أيوب، فقال: ابنة شيبة بن عثمان، وكذلك قال محمد بن راشد عن عثمان بن عمر القرشي كما قال أيوب. قال الدارقطني: الصواب ما قاله مالك، وهي ابنة شيبة بن جبير بن شيبة بن عثمان الحجبى، كذلك نسبها إسماعيل بن أمية عن أيوب، عن نافع، عن نبيه كما قال مالك، وكذلك - قال عبد المجيد: عن ابن جريج، عن أيوب، عن نافع، وكذلك قال شعيب بن أبي حمزة: عن نافع، عن نبيه بن وهب، وكذلك قال سعيد بن أبي هلال: عن نبيه بن وهب. فقد أماب مالك في قوله: بنت شيبة بن جبير، وتابعه هؤلاء الذين ذكرناهم، لي إنما وهم من خالغهم، والله أعلم. وذكر الزبير بن بكار أن ابنته هذه تسمى أمة الحميد.
قال القاضي: ولعل من تهال: شيبة بن عثمان نسبه إلى جده، فلا يكون خطأ. ووقع في الباب بعده في حديث أبي غسان المسمعي: حدثنا عبدالأعلى، وحدثنى أبو الخطاب زياد بن يحعى، ئنا محمد بن سواء قالا: ثنا سعيد، عن مطر. كذلهم وهو الصواب، ووقع عند الهوزني:" شعبة" مكان " سعيد "، وإنما هو سعيد بن أبي عروبة.
وقول أبان في حديث عبد الملك بن شعيب بن الليث:" ألا أراك عراقيًّا جافيًا ":كذا للعذرى والسمرقندي، ورواه السجزي "أعرابيا" مكان "عراقيا" وهو الصواب. وكذا جاء في حديث المقدمي:" أعرابيًا "، أي: جاهلاً بالسنة كالأعرابي. والأعرابي هو البدوي. و "عراقي" هنا خطأ، إلا أن يكون قد عرف من مذهب أهل الكوفة حينئذ جواز نكاح المحرم، فيصح رواية "عراقيًّا "، أي: آخذا بقولهم في هذا، وذاهبا مذهبهم.(5/324)
وقوله: ا نهى أن يبغ حاضر لباد أو يتناجشوا "، قال الإمام: وقوله: " لا يبع حاضر لباد، فإن مالكًا منع ذلك جملة، ومحمله عنده على أهل العمود ممن لا يعرف الأسعار، وأما من يقرب من المدينة ويعرف السعر فلا يدخل في ذلك، فإن قيل: كيف ؟ فقال هذا: وهل يجوز مضرة شخص في ماله لمنفعة شخص آخر ؟ قيل إنما نظر - عليه السلام - في هذا للأكثر على الأول، ورأى مضرة أهل البوادى في ذلك أخف ؛ لأن ما يبيعونه إنما هو غل عندهم لا أثمان لها عليهم، وأهل الحضر يخرجون في ذلك أثمانا تثق عليهم، وإنما يباح الضرر على هذه الصفة لا مضرة مطلقة. واختلف عندنا في الشراء للبادى هل يمغ كما منع البيع له ؟ فقيل: هو بخلاف البيع ؛ لأنه إذا صار الثمن في يده أشبه أهل الحضر فيما يشترونه، فيجوز أن يشترى له الحاضر، فإن وقع البيع والنكماح على اسمفات المتقدمة التي ذكر النهي عنها ففى فسخها اختلاف. قال القاضي: اختلف العلمماء في الأخذ بهذا الحديث، وفي تأويله، وهل هو على العموم أو على الخصوص، أو منسوخ في زمان دون زمان، أو على الوجوب أو الندب ؟ فمشهور مذهب مالك ما تقدم من العمل به على العموم واللزوم في أهل البادية المتقدم وصفهم. وممن أخذ بالحديث على عمومه من الفقهاء الشمافعى والليث، وقاله جماعة من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف. وفي المذهب عندنا لمالك قول آخر ؟ أنه على العموم التام في كل باد وكل طارئ على بلد، وان كان من أهل الحضر، وهو قول إصبع، وكأنه هنا تأول الظبية بالبدوى على/الطارئ والجاهل بالسعر، كائنًا من كان ؛ إذ هو الغالب على الطارئ. ومفهوم العلة في الحديث بقوله:" دعوا الناس يرزق بعضهم من بعض "، وذهب أبو حنيفة وعطاء ومجاهد ومن قال بقولهم الى أن الحديث معمول له، وأن ذلك مباح.(5/325)
ثم اختلفوا في تأويل الحديث وعلة رده، فقال بعضهم: إنما كان ذلك مخصوصًا بزمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما اليوم فلا. وظاهر قول هؤلاء أنه منسوخ. وقال أخرون: بل يرده حديث النصيحة لكل مسلم،، وإلى هذا أشار البخاري في كتابه وادخاله في الترجمة:" لا يبع حاضر لباب ".
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« وإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه »، وإدخاله داخل الباب مع الحديث المذكور، وحديث النصيحة لله ولرسوله ولعامة المسلمين. وقيل: بل كان هذا النهي عن تربص الحاضر بسلعة البادي الزيادة في السوق لا أن يبيعها بسعر يومه ؛ لأن البادي غير مقيم فيبيع بسعر يومه فيرتفق بذلك الناس. فإذا قال له الحاضرى: أنا أتربص لك بها وأبيعها لك، حرم الناس ذلك الرفق.
وقيل: إنما ذلك في البلاد الضيقة التي يستبين فيها الضرر وغلاء السعر إذا لم يبع الجالب متاعه، فأما البلاد الواسعة التي لا يظهر الضرر في ذلك فيها فلا بأس. وقيل: ذلك على الندب ليس على الوجوب، ثم اختلف من أوجبه إذا وقع، فعند الشافعي وابن وهب وسحنون من أصحابنا يمضى، وعند ابن القاسم يفسخ لما لم يفت.
قال الإمام: وأما قوله: " ولا تناجشوا، فصفة النجش عند الفقهاء: أن يزيد في السلعة ليغتر به غيره لا ليشتريها، فإن وقع ذلك وعلم أن التناجش من قبل البائع، كان المشترى بالخيار بين أن يمض البيع أو يرده. وحكى القزوينى عن مالك أن بيع النجش مفسوخ، واعتل بأنه منهى عنه. وهكذا اعتل ابن الجهم لما رد على الشافعي فقال: الناجش عاص، فكيف يكون من عصى الله يتم بيعه ؟ ولو صح هذا نفذ البيع (2) في الإحرام والعدة.
قال أبو بكر: أصل النجش: مدح الشيء وإطراؤه، فمعناه: لا يمدح أحدكم السلعة ويزيد في ثمنها وهو لا يريد شراءها، فيتبعه غيره ويزيد. وقال غيره: النجش: تنفير الناس عن الشيء إلى غيره. والأصل فيه تنفير الوحش من مكان إلى مكان.(5/326)
قال القاضي: ذكر مسلم في باب:"لا يخطب على خطبة أخيه ": حدثنى احمد بن إبراهيم الدورقى، حدثنى عبد الصمد، ثنا شعبة عن العلاء، وسهيل عن أبيهما، عن أبي هريرة. كذا وقع. قال بعض شيوخنا: صوابه: عن أبويهما ؛ لأن كل واحد إنما حدث عن أبيه وليسا بأخوين، إلا على لغة من قال: أبيهما، بحذف الواو وفتح الباء، فيصح على هذا.
وقوله:" نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشنار "، الحدبث، قال الإمام: أصله في اللغة: الرفع، يقال: شغر الكلب: إذا رفع رجله ليبول. وزعم بعضهم انه إنما يقع ذلك من الكلب عند بلوغه الإنزال والإيلاء، فان صح هذا كان التشبيه واقعا متمكنا. وقال الهروى: قال بعضهم: والشغر أيضًا: البعد، ومنه بلد شاغر: إذا كان بعيدًا من الناصر والسلطان، وهو قول الفراء. وقال أبو زيد: يقال: اشتغر الأمر به: أي: اتع وعظم. وقال غيره: ويقال بلدة شاغرة: أي: مفتتنة، لا تمتغ من غارة. وقد علل بعفر العلماء النهي عنه بأنه يصير المعقود به معقودا عليه ؛ لأن الفرجين كل واحد منهما معقوذ به ومعقوذ عليه، وعلى هذه الطريقة يكون فساده يرجع إلى عقده، ويفسخ على هذا بعد الدخول وقبله. وزعم بعضهم أن ذلك راجع لفساد الصداق، ولأنه كس تزوج بغير صداق. وعلى هذا يمض بالدخول على إحدى الطريقتين عندنا في هذا الأصل.
وقد روى عن ابن زياد في كتاب خير من زنته عن مالك: أنه يفوت بالدخول، وتأول بعض شيوخنا أن يخرج من مذهبنا فيه قولاً ثالثًا: أنه يفوت بالعقد بها على أحد الأقاويل عندنا وفيما فسد لصداقه، أنه يفوت بالعقد، وأن الفسخ فيه قبل الدخول استحسان واحتياط.
قال القاضي: ذكر بعض العلماء أن الشغار كان من نكاح الجاهلية. يقول: شاغرني وليتي، أي: عاوضني جماعًا بجماع. قال أبو زيد: شغرت المرأة: رفعت رجليها عند الجماع. قال ابن قتيبة: كل واحد منهما يشغر إذا نكح، وأصله للكلب. ولا خلاف بين العلماء في كراهته ابتداء.(5/327)
واختلفوا إذا وقع، فاجازه الكوفيون إذا صحح بصداق المثل، وقاله الليث، وهو قول الزهرى، وعطاء وحكوه عن أحمد وإسحاق وأبي ثور والطبري. وأبطله الشافعي ومالك على خلاف عنه في وقت إبطاله على ما تقدم، ومذهب الأوزاعي على أحد قولى مالك في إمضائه وفواته بالدخول. وحكى الخطابي إبطاله عن أحمد وإسحاق وأبي عبيد. وكل من أمضاه يرى فيه صداق ألمثل.
ولا خلاف أن حكم غير الانجتين من الإماء والأخوات وسائر النساء حكم البنتين، وقد ذكر مسلم في حديث ابن أبي شيبة الأختين. أيضًا، وذكر رواية مسلم قال: إن تفسير الشغار من قول نافع لا من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
واختلف إذا سمى في ذلك صداقا، فكرهه مالك وراه من باب الشغار ووجهه لا من صريحه، وبكراهته ومنعه قال الشافعي وغيره، لكنهم فرقوا بينه وبين صريحه، فقالوا: إذا فات بالبناء مضى وكان لهما صداق المثل. وقال أحمد بن حنبل: إذا كان في الشغار صداق فليس /بشغار،وهو قول الكوفيين، قالوا: ولها ما سمى،وقاله ابن أبي حازم من/ أصحابنا.
وقوله: " أحق الشروط أن يرفى به، ما استحللتم به الفروج أ ا (أحق لا هنا بمعنى: أولى، لا بمعنى الالزام، عند كافة العلماء وحمله بعضهم على الوجوب.
قال الإمام: اختلف الناس فيمن تزوج امرأة بشرط ألا يخرجها من بلدها وما أشبه ذلك من الشروط، فقال بعض العلماء: إن ذلك يلزم للحديث المتقدم، فإن علق الشرط بطلاق وعتاق لزم ذلك عند مالك، ولا يلزم عنده إذا لم يعلق بطلاق أو عتق، بل أوقعه شرطًا مجردًا.
قال القاضي: واختلف عندنا، هل عقده على هذه الصفة مباح أو مكروه ؟ فأجازه سحنون ابتداءً، وكرهه غيره، وقال مالك: لا يحل ابتداء. وقال بعضهم: يفسخ به النكاح. وتأويل الحديث عند بعض علمائنا: أنه فيما وقع في ذلك هن شرط صداق ونحلة وجهاز ومؤنة، مما يدوم به الألفة، وتصلح به الصحبة، لا مما يناقض حكمها ويخالف مو ضو عها.(5/328)
وقوله: " ما استحللتم به الفروج ا مما يؤكد الوفاء بها ؛ إذ لكل شرط شرطته المرأة على زوجها حق في استحلال فرجها، وقد يحتج به من يوجب الوفاء بها ويلزمه.
وقوله - عليه السلام -:« كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل » يرد قولهم. ووقع في آخر هذا الحديث قول مسلم: هذا لفظ حديث أبي بكر وابن المثنى، غير أن ابن مثنى قال: "الشروط ". كذا في روايتنا عن شيوخنا وفي بعض النسخ "ابن نميرا في الموضين مكان "ابن مثنى"، ويشبه أن يكون الصحيح أحد الوجهين، فإن أول سند الحديث عن ابن نمير وابن مثنى وغيرهما.
وقوله:« الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وأذنها صماتها »، وفي حديث آخر:« الثيب أحق بنفسها، والبكر تستأمر، وإذنها سكوتها»، وفي بعض طرقه:« والبكر يستأذنها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها»، قال الإمام: الأيم هاهنا: هي الثيب خاصة، والأيم في غير هذا: التي مات زوجها أو طلقها، ومنه قوله تعالى:{: وأنكحوا الأيامى منكم }، والبكر: التي لا زوج لها أيم أيضًا، وكذلك الرجل الذي لا امرأة له، ويقال: تأيمت المرأة: إذا أقامت لا تتزوج. وأنشد ثعلب:
وقولا لها يا حبذا أنت هل بدا لها أو أرادت بعدنا أن تأيما
قال أبو عبيد: يقال: رجل أيم وامرأة أيم، وإنما قيل ذلك للمرأة ؛ لأن أكثر ما يكون في النساء فهو كالمستعار في الرجال. يقال: أيم بين الأئمة، ويقال: الغزو مأيمة، أي: يقتل الرجال فيصير نساؤهم أيامى، وقد آمت تئيم وإمت أنا، قال الشاعر:
لقد أمت حتى لامنى كل صاحب رجاء بسلمى أن يئيم كما إمت
وفي الحديث: كان يتعوذ من الأيمة، والعيمة والغيمة. فالأيمة أن يطول العزبة، والعيمة شدة الشوق إلى اللبن. يقال: ماله آم وعام، أي: فارق امرأته وذهب لبنه. والغيمة شدة العطش.(5/329)
قال القاضي: وهذا الحديث أصل من أصول الأحكام صحيح من روايات الثقات، وإن اختلفت ألفاظهم في بعضه من قولهم: الأيم. وقال بعضهم: والثيب مفسرًا، وفي رواية بعضهم:"اليتيمة " مكان:"البكر" مفسرًا أيضًا، ولم يذكره مسلم، وقد رواه شعبة كذا عند مالك، وعن مالك: رواه أكثر أقرانه ومن هو أكبر منهم، مثل أبي حنيفة، والليث ابن سعد وشعبة والثوري، وابن عيينة. وقد رواه مسلم أيضًا عن ابن عيينة عن زياد بن سعد بمثل تقييد مالك.
واختلف في معنى الأيم هنا، مع اتفاق أهك اللغة أنه ينطلق على كل امرأة لا زوج لها، كانت صغيرة أو كبيرة، أو بكرًا أو ثيبًا، قاله الحربي وإسماعيل القاضي وغيرهما. والأيمة العزبة، ورجل أيم وامرأة أيم، وحكى أبو عبيد: أيمة، وحكى الحربي عن ابن الأعرابي فيما تقدم من قولهم: الغزو مأيمة، ينبغى أن تكون ما أمه.
ثم اختلف العلماء ما المراد بهذا الحديث، فذهب علماء الحجاز وكافة الفقهاء إلى أن المراد بها هاهنا: الثيب التي فارقها زوجها، واستدلوا بأنه أكثر استعمالاً فيمن فارق زوجه بموت أو طلاق، وبرواية الأثبات أيضًا فيه الئيب مفسرًا، وبمقابلته بقوله: " والبكر تستأمر في نفسها ". فدل أن الأول من عدا البكر وهي الثيب، وأنه لو كان المراد بالأيم كل من لا زوج له من الأبكار وغيرهن، وأن جميعهن أحق بأنفسهن، لم يكن لتفصيل الأيم من البكر معنى.
وذهب الكوفيون وزفر إلى أن الأيم هنا ينطلق على ظاهره في اللغة، وأن كل امرأة - بكرًا أو ثيبًا - إذا بلغت أحق بنفسها من وليها،وعقدها على نفسها جائز. وهو قول الشعبي والزهري وزفر، قالوا: وليس الولي من أركان صحة العقد، ولكن من تمامه وجماله. وحجتهم: معنى اللفظ في اللغة في الأيم، ولقوله:{ وأنكحوا الأيامى منكم }، وذلك يصح من كل من لا زوج له. وقال الأوزاعي ومحمد بن الحسن وأبو يوسف: إن صحة العقد موقوف على إجازة القاضي.(5/330)
واختلف أيضًا في قوله: " أحق من وليها " ما هو ؟ هل هو بالإذن فقط، أو بالعقد والإذن، فعند الكافة بالإذن لا غير، وعند هؤلاء: العقد والإذن، قال القاضي إسماعيل: لم يدخل الأب في جملة الأولياء المذكورين في الحديث؛ لأن أمره في ولده أرفع، يعني بقوله في البكر، وقوله:" تستأمر في نفسها " وهو قول مالك من رواية جماعة، وأن المراد به هنا، اليتيمة، وحمل غيره الاستئمار هنا والاستئذان في البكر على ظاهره في ذوات الآباء، وأنه على الندب والترغيب لا على الوجوب، وروكما - أيضًا - نحوه عن مالك، وقاله الشافعي وأحمد وإسحاق وابن أبي ليلى وغيرهم.
وقال الكوفيون والأوزاعي/ يلزم ذلك في كل بكر، قال إسماعيل القاضي: في الحديث معنيان:
أحدهما: أن الأياس كلهن أحق بأنفسهن من أوليائهن، وهم من عدا الأب من الأولياء.
والثاني: تعليم الناس كيف تستاذن البكر.
قال غيره: يحتمل قوله:" الأيم أحق بنفسها " في كل من عقد وغيره، كما قال داود وأبو حنيفة، ويحتمل أنه أراد أنها أحق بالرضا بخلاف البكر في الأب،لكن لما قال - عليه السلام -:« أيما امرأة نكحت بغير ولي فنكاحها باطل »، وقوله:« لا نكاح إلا بولي »، دل أن المراد بقوله:" أحق بنفسها "، أنه الرضا دون العقد، وحق الولي في العقد. ودل قوله: " أحق بنفسها من وليها": أن وليها في إنكاحها حقا، لكن حقها هي أكثر ؛ لأن لفظة "أفعل "، تقتضي المفاضلة مع المشاركة، وحقها: هو أنه لا يتم ذلك إلا برضاها.
وقوله:« وإذنها صماتها »، اختلف في مذهبنا، هل من شرط ذلك إعلامها بأن إذنها صماتها أم لا ؟ مع اتفاقهم على استحباب ذلك وهو حكم ذات الأب عند من تقدم، واليتيمة عند الجمهور، وحكى الاسفرايينى قولأ لأصحابه: أن اليتيمة لابد لها من النطق بالرضا بخلاف ذات الأب. قال الخطابي: وذات الجد، وحكاه عن الشافعي.(5/331)
قال الإمام: اختلف الناس في افتقار النكاح إلى ولي، فأوجبه مالك على الإطلاق، وأوجبه داود في البكر خاصة، وأسقطه أبو حنيفة في الثيبات وفي الأبكار البوالغ الجائزات الأمر. واعتبر أبو ثور إذن الولي خاصة.
فلمالك قول الله تعالى:{ ولا تنكحوا المشبركين }، فخاطب الأولياء ولو لم يكن لهم في ذلك حق لما خطابهم بذلك، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكاح إلا بولي وقد قال بعض أهل العلم: إن لفظ النهي للذات الواقعة إذا ورد في الشرع، فإنه وإن حمل على نفى الكمال أو تردد بينه وبين الجراز - على ما سبق القول فيه قبل هذا - فإن ذلك إنما يكون في العبادات التي لها موقعان، موقع إجزاء، وموقع كمال. وأما النكاح والمعاملات فليس لها إلا موقع واحد وهو نفى الصحة.
وأما داود فله قوله - صلى الله عليه وسلم -:« الثيب أحق بنفسها » الحديث المتقدم، ففرق فيه بين البكر والثيب، فلو كانا يستويان في افتقارهما إلى الولاية لم يكن للتفرقة معنى، وقد نص في الثيب أنها أحق بنفسها من وليها، وفي البكر أنها تستامر، وهذا نص ما ذهب إليه من التفرقة. وأجاب أصحابنا عن ذلك: بأن المراد أنها أحق بنفسها في تعيين الأزواج لا في تولي العقد، كما قال داود: إنها أحق فيهما جميعًا. قال أصحابنا: والدليل لما قلناه: أن لفظة "أحق"، من أبنية المبالغة وذلك يشعر بأن للولى حقا ما معها، وليس إلا ماقلناه من تولي العقد.
وأما أبو حنيفة فله القياس على البياعات، فإنها تنعقد وإن باشرتها المرأة بنفسها، وكذلك إجازتها لنفسها. وإذا ثبت أن بيعها وإجارتها لا يفتقر إلى ولاية، والنكاح لا يخلو أن يكرن بيعًا أو إجارة، وأى ذلك كان وجب ألا يفتقر إلى ولاية قياسًا على ما قلناه، وتحمل الظواهر الواردة بإثبات الولاية على الأمة والبكر الصغيرة، ويخص عمومها بهذا القياس وتخصيص العموم بالقياس مختلف فيه عند أهل الأصول.(5/332)
وأما أبو ثور فله قوله - صلى الله عليه وسلم -:« أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له »، ودليل هذا الخطاب: أنها إذا نكحت بإذن وليها فنكاحها صحيح، وأيضًا فإن الولي إنما أثبت لما يلحقه من المعرة بم ن تضع نفسها في غير كفء، فإذا أذن سقط حقه في ذلك، فلا معنى لتوليه العقد.
والولي إذا تولى العقد تولاه على قسمين:
أحدهما: يفتقر إلى إذن المنكحة.
الثانى: لا يفتقر إلى ذلك.
فأما الذي يفتقر إلى ذلك فالعقد على سائر الثيبات إلا ذات الأب إذا تثيبت قبل البلرغ، ففى افتقار عقد أبيها إلى استئذانها ثلاثة أقوال عندنا: إثباته على الإطلاق، وإسقاطه على الإطلاق، وإثباته ما لم تبلغ فإذا بلغت سقط. وأما التي تثيبت بعد البلوغ فلا أعلم خلافًا بين الأئمة أنها لاتجبر، إلا شيئًا ذكر عن الحسن أن الأب يجبرها على الإطلاق، ولعله أراد التي تثيبت قبل البلوغ.
وأما الذي لايفتقر إلى إذن، فالسيد في أمته، والأب في ابنته البكر قبل أن تبلغ عند سائر العلماء، إلا من شذ منهم، ورأيت بعض العلماء حكى الاتفاق في ذلك، والرد على هؤلاء الثواذ إن لم يثبت الاتفاق قبلهم قوله تعالى:{ واللآئي يئسن من المحيض } إلى قوله:{ واللآئي لم يحضن }، فأثبت من لم تحض من نسائنا، فدل على صحة العقد عليها قبل البلوغ ؛ إذ غير البالغ لا يصح منها أن تعقد.
وهذا الجبر مختص بالآباء، فأما غيرهم من الأولياء فلا يملكون جبر هذه البكر، وإن كانت يتيمة على المشهور من المذهب عندنا. وعندنا قول شاذ: أن لغير الأب من الأولياء، جبر البكر الجتيمة قياسا على الأب.(5/333)
وأما إذا بلغت البكر فجبر الأب إياها ثابت عندنا وعند الشافعي، استصحابًا لما اتفق عليه من ذلك، ولما ثبت بالدليل قبل البلوغ. وقال أبو حنيفة: لا يجبرها الأب إذا بلغت لما وقع هاهنا في كتاب مسلم من قوله: "يستأمرها أبوها "، ويحمل هذا عندنا على الندب، وقد قال أبو داود: أبوها ليس بمحفوظ في هذا الحديث ؛ لأن قوله:" الثيب أحق بنفسها " دليله أن البكر لا تكون أحق بنفسها، وقد جعل البكر البالغ أحق بنفسها كالثيب، وهذا ينافى دليل الخطاب الذي قلناه.
فأما إذا عثست البكر في بيت أبيها، فالمذهب غدنا على قولين في جبره إياها على النكاح، فمن رأى أن العلة في الجبر مجرد البكارة أثبته هاهنا لوجودها. ومن رأى أن العلة جهل البكر الصغيرة بالأمرر نفاه هاهنا، لمعرفة هذه الأمور لكبر سنها.
وإذا كانت الثيوبة / من زنا، فالمذهب أيضًا عندنا على قولين في تأثيرها في رفع الجبر، فمن رأى أن الثيوبة من مجردها علة في إسقاط الجبر أسقطه هاهنا. ومن رأى أنها تكرن علة إذا انضاف إليها وصف آخر: وهو أن يكون بنكاح أو شبهة نكاح لم يسقط الجبر هاهنا.
والولاية على قسمين:
عامة وخاصة.
فالعامة: ولاية الإسلام.
والخاصة: ولاية النسب، أو ما حل محله كالوصي أو ما تشبه به كالولي الأعلى، أو ما أقاله الشرع نائبا عنه كالسلطان. فولاية النسب أولى بالتقدمة من هذه الولايات المذكورة، إلا أن يكون وصى من قبل الأب، ففى تقدمته في البكر على أولياء النسب خلاف عندنا. وإنما دخل الولي لينفي عن نفسه المعرة أن تضع نفسها فى غيركفء.
والمشهور عندنا أن الكفاءة معتبرة بالدين دون النسب. وفي اعتبار اليسار من الزوج في الموسرة، واعتبار الحرية الأصلية في متزوج العربية اضطراب في المذهب. وحديث فاطمة بنت قير في تزويجها أسامة، وضباعة في تزويجها المقداد بن الأسود ؛ رد على من يقول: إن النكاح يفسخ.(5/334)
وقد حكى أبو حامد عن ابن الماجشون من أصحابنا: أنها إذا تزوجت غير كفء فسخ النكاح وإن رضوا أجمعون، ولعله يريد: إذا تزوجت فاسد الدين، ممن يغلب على الظن أنه يفسد دينها، فيصير ذلك حقا لله سبحانه، فيفسخ حينئذ.
ولو تزوجت بغير ولي والزوجان يعتقدان إباحة ذلك أو يجهلان الحكم فيها، لم يكن في ذلك حد. ولو كانا يعتقدان تحريم ذلك لم يكن في ذلك حد أيضًا، إلا عند الصيرفي من أصحاب الشافعي فإنه رأى فيه الحد وطرد.
وقوله: ألا يكون فيه صداق ولا يلحق فيه نسب، وحجته قوله: الزانية التي تنكح نفسها. ويحتج بأن النبيذ يحد شاربه ولا يرفع عنه الحد وجود الخلاف فيه، ومجمل قوله: الزانية التي تنكح نفسها على المبالغة عندنا في التشبيه وشدة الزجر، لقوله في حديث آخر فيمن تزوجت بغير إذن وليها: فإن أصابها فلها مهرها.
وأما النبيذ فإنما لم يعتبر الخلاف فيه ؛ لأن شاربه يحد وإن اعتقد تحليله، ولو اعتقد هذا تحليل النكاح بغير ولي ما حد، وقد قال بعض الناس: إنما حد شارب النبيذ وإن اعتقد تحليله ؛ لأنها من مسائل الأصول التي لايسوغ فيها طرق الاجتهاد المختلفة، وهذا عندي فيه نظر، وإثباتها من مسائل الأصول قد يعسر. وقال أبو حامد: النكاح بغير ولي له أصلان: أحدها الزنا. والآخر: النكاح الصحيح. والنكاح بغير ولي وقع جنسه صحيحًا، وإنما فسد للإخلال ببعض شروطه، والنبيذ ليس له أصل محلل يرد إليه، ولا أصله الإباحة، فحرم للإخلال ببعض شروطه، فلهذا افترقا في الحد عندهم.(5/335)
قال القاضي: ناقض داود في استعمال هذه الأحاديث أصله في موضعين، فقضى بالمفسر منها على المجمل على طريق الكافة، وترك ظاهر اللفظ على مذهبه وليس من أصله، فخالف أبا حنيفة ومن قال بقوله في البكر: أنها لا يعقد عليها إلا الولي، لعموم قوله:« لا نكاح إلا بولي »، ووافقهم في الثيب، لظاهر قوله:« أحق بنفسها من وليها »، وأصله في مثل هذه الظواهر: إذا تعارضت طرحها، والرجوع إلى استصحاب حال الأصل قبل ورود الشرع. فهذا موضع واحد ناقض فيه أصله.
والآخر: أن مذهبه: أن إحداث قول ثاك في مسألة الخلاف فيها على قولين خرق إجماع، وهو مذهب بعض أهل الأصول، وقوله هو - هذا في التفريق بين البكر والثيب - في اشتراط الولي في العقد، وكونه ركنا من أركان صحة العقد في البكر دون الثيب قول لم يقله قبله غيره، وانما الخلاف في أن ذلك في الجميع لازم أو غير لازم.
واتفقوا أن المراد بالولي في هذا الحديث ذو الولاية الخاصة دون العامة. ثم اختلف القائلون باشتراط الولي في صحة عقد النكاح، أو استحبابه من هو؟ أهو ولي الديانة عموفا أو ولي النسب وما في معناه من الولاء والوصاء خصوصًا ؟ ثم الرجوع لولاية الديانة أو الحكم إنما يكون عند عدم ذلك، فمشهور مذهب مالك اشتراط ولاية القرابة، ومراعاة الأقعد فالأقعد، وهو قول الشافعي والليث بن سعد. وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور في اشتراط ولي النسب نحوه، إلا أن أبا ثور قال: كل من يقع عليه اسم ولي فله أن ينكح، ولم يجعل للقعرد حقا. وقاله بعض أصحابنا،وحجتهم: قول عمر:" لا تنكح المرأة إلا باذن وليها أو ذي الرأي من أهلها أو السلطان "، فحملوه على التسوية، وحمله الاخرون على الترتيب، قالوا كلهم: ويفسخ إذا وقع بغير ولي خاص، وليس للولى الخاص إجازته.(5/336)
وحكى البغداديون عن مالك قولأ آخر: أن ولاية الديانة ولاية في كل أحد يمضى عقدها، وليس للولي الخاص فسخه، وقاله أبو حنيفة ومن وافقه ممن يستحب الولي، ولا يوجبه إلا أن تضع المرأة نفسها في غير كفء، فللولي فسخه عندهم للمعرة. وعلى هذا الخلاف يأتى توقف مالك في فسخه وأجازته في "المدونة" على اختلاف لفظه والتاويل عليه، وعليه يأتي اختلاف أصحابه في مغ الولي من إجازله أو إباحة ذلك له، ومراعاة طول الدخول والإقامة عند بعضهم أو قربها. وهل الولاية من حقوق الله ؟ فلا يلتفت إلى إمضاء الولي، أو من حقوق الولي ؟ فيلتفت إلى ذلك، ولكثرة الاختلاف في ذلك ومراعاته إذا نزل.
وكذلك اختلف / المذهب عندنا في إنكاح الأبعد، مع وجود الأقعد مراعاة للخلاف، وهل تقديمه لقعدده من حقوق الله فيفسخ على كل حال، وهو قول المغيرة، أو من حقوق الولي فيكون له الخيار في إمضائه أو رده، وبه قال جماعة منهم، أو من باب الأولى والأكمل فلا يكون له اعتراض فيه إذا وقع، وهو قول مالك وقول الصحابة. وهذا كله فيمن عدا الأب في ابنته البكر، والسيد في أمته، فلا خلاف في أن لهما فسخ ما عقد بغير إذنهما واختلف هل لهما إجازته ؟ فعندنا في ذلك قولان، وعن مالك قول ثالث مشهور في التفريق بين الشريفة والدنية، فامضى ولاية الديانة في الدنية وعند الضرورة فيها، ولم يمضها في الشريفه وذات القدر، فلم يحك عن غيره مثله.
واختلف مذهبنا من هم الأولياء الذين إليهم الإنكاح ؟ أهم البطن أم الفخذ أم العشيرة أم العصبة ؟ واختلف هل الولد من الأولياء الخاصة إذا لم يكن من عصبتها أم لا ؟ فعندنا أنه ولي بكل حال.(5/337)
واختلف في تقديمه على الأب أو تقديم الأب عليه، وقال الخطابي: ليس بولي إلا أن يكون من العصبة، وقال أبو عمر: اختلفوا في غير العصبة كالوصي وذي الرأي والسلطان، مع اتفاقهم أن السلطان ولي من لا ولي له. ولا خلاف عندنا أن الوصي كالولي، وانما اختلف من أحق بعقد نكاح البكر؟ هو أو الولي ؟ كما تقدم. وأما الثيب فكلاهما ولي لها وليس له.
وفي قوله:" وليها "، ظاهره استواء الأنثى والذكر في الولاية إذا كان له النظر عليها، وألا تنكح إلا بإذنهما ورأيهما ؛ إذ لفظ الولي يقع للأنثى والذكر سواء كلفظ الوصي، وأن ذلك إنما يكون ممن له الرأي ؟ ولهذا لا يجوز عند كافة من اشترط الولاية عقد الولي غير البالغ ولا العبد، ولا المجنون، ولا الكافر، ولا غير الرشيد.
وكذلك في معنى مراعاة الولي للذب عن حرمته والغيرة على عورته في قوله: لا نكاح إلا بولي ما يشعر أنه بولي مخصوص بالرجال دون النساء، ولاءنهم القوامون عليهن. ولا خلاف بين الحجازيين في ذلك، إلا أنه روى عن مالك: أنها إن عقدت على الذكور مض بخلاف الإناث. وعمدة مذهبه أنها لا تعقد على ذكر ولا أنثى، وكذلك عموم الولاية يقتضي كون ذلك الكافر في ابنته الكافرة وفي أمته، وفي ذلك خلاف عندنا، والمشهور جوازه في الأمة بحق الملك ومنعه في الحرة، وكذلك اشترط الشافعي فيها العدالة وأبطلها بالفسق، وليس العدالة من شروطها عندنا على المشهور.
وقول عائشة: تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا بنت ست سنين، وبنى بي وأنا بنت تسع " الحديث، قال الامام: رأيت لابن حنل أنه جعل التسع سنين حدًّا للسن الذي يزوج فيه الأولياء البكر اليتيمة إذا رضيت ؛ لأجل حديث عائشة هذا. وهذا لا معنى له، إلا أن يريد أنه السن الذي تميز فيه ويعتد برضاها، أو يكون أراد أن هذا السن قد تحيض فيه بعض الجواري.(5/338)
قال القاضي: قد التفت مالك إلى نحو هذا بشريطة الضرورة في صبية بنت عشر سنين تتكفف الناس، فقال: لا بأس أن تزوج برضاها وإن كانت لم تنبت. وحديث عائشة هذا أصل في جبر الآباء بناتهن الأبكار وتزويج الصغار منهن.
ولا خلاف بين العلماء في جواز تزويج الأب ابنته الصغيرة التي لا يوطأ مثلها، ثم لا خيار لها في ذلك إذا بلغت عند مالك والشافعي وفقهاء أهل الحجاز. وذهب أهل العراق إلى أن لها الخيار إذا بلغت. واختلف في غير الأب، فمنع مالك والشافعي تزويج غير الأب من الأوصياء والأولياء صغار اليتامى، وهو أحد قول أحمد، وقاله الثوري وابن أبي ليلى وأبو ثور وأبو عبيد، واستثط الشافعي من الأولياء الجد وجعله كالأب، قالوا: ويفسخ النكاح إذا وقع.
واختلف عندنا إذا لم ينظر فيه حتى بلغت، هل يفسخ أبدًا أم يفوت بالدخول ؟ وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي وجماعة من السلف: يجوز ذلد ولها الخيار إذا بلغت، إلا أبا يوسف فقال: لا خيار لها، قالوا: ولا يزوجها وصي إلا أن يكون وليًّا. وحكى الخطابي عن مالك وحماد بن أبي سليمان: للوصي أن يزوجها قبل البلوغ، وقاله شريح وعروة بن الزبير.
وهذا الحديث أصل في حد وقت الدخول إذا حصل التشاجر في ذلك، فأوجب طائفة إجبار بنت تسع سنين على الدخول، وهو قول أحمد وأبي عبيد، وقال مالك والشافعي: حد ذلك أن تطيق الرجل، قال الشافعي: وتقارب البلوغ. قال أبو حنيفة: حد ذلك إطاقة الرجال وان لم تبدلغ التسع، ولأجلها منع زوجها منها إذا لم تطق ذلك وإن بلغت التسع، وهو نحو قول مالك.(5/339)
وحكم الزوج - أيضًا - في ضمها والنفقة عليها حكم هذا، فحيث تجبر على الدخول يجبر هو على الإنفاق. قال الداودي: وكانت عائشة قد شبت شبابا حسنا. وقولها:" فوعكت شهرًا فوفى شعرى جُمَيْمَة " أي: كمل وانتهى لتمعطه بالمرض. والوعك: ألم الحمى، والأرجوحة: خشبة يلعب عليها الغلمان والجواري، يوضع وسطها على مكان مرتفع، ويجلسون على طرفيها ويتحركون بها، فترتفع جهة وتنزل الأخرى، وتميل أحدهما بالآخر.
وقولها: " فقلت هه هه "، حكاية صوت المبهور لأجل الترجح على الخشبة، ألا تراها كيف قالت بعده: " حتى ذهب نفسي" بفتح الفاء.
وقول النساء لها:" على الخير والبركة وأيمن طائر "، فيه حجة لما يقال للمتزوج. وفي الحديث الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من رواية معاذ نحوه، وأنه دعا / لرجل من الأنصار شهد إملاكه. فقال: " على الألفة والخير والطائر الميمون والسعة في الرزق بارك الله لكم ". وروى عنه كراهة قول العرب في ذلك: بالرفاء والبنين. وقال - عليه السلام - لابن عوف:" بارك الله عليك، أولم ولو بشاة »، وفي حديث آخر: أنه قال:« بارك الله لكم وعليكم »،
ومعنى الطائر هنا: الحظ، أي: أيمن حظ وأفضله. يقال للحظ من الخير والشر: طائر، وقيل ذلك في قوله تعالى:{ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه }، وقيل في قوله تعالى:{ طائركم معكم }، أي: المقدور لكم من البخت والحظ. وقال الداودي: معناه: على خير ما يأتي ويرجى ؛ لأنهم كانوا ربما سرهم استقبال الطائر إياهم واستبشروا به.
قال القاضي: وأصله مستعار مما كانت العرب تتعيف به وتتفال من الطيرالسائح والبارح، وليس كل ما استقبلهم كانوا يسرون به، وسيأتي الكلام عليه في موضعه من الكتاب.
وقولها: " فغسلن رأسي وأصلحنني "، فيه جواز تزيين المرأة لزوجها، وجواز اجتماع النساء لذلك، ولما فيه من شهرة النكاح والدخول وهو مما يجب إشهاره وحضور النساء له، فقد يحتاج إليهن في نوازل الأحكام.(5/340)
وقولها:" فلم يرعنى إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحى فأسلمنني إليه "، أي: لم يفزعني. والروع: الفزع، ويستعمل في كل أمر يطرأ على الإنسان فجأة، من خير أو شر، فيرتاع لفجاته. وفيه جواز الابتناء بالأهل بالنهار، وعليه ترجم البخاري في باب: الابتناء بالنهار بغير مركب ولا نيران. قال بعضهم: كلما اشتهر النكاح بمركب أو نيران كان أولى، ويكفى في ذلك الإعلان. ومعنى النيران - والله أعلم - الولائم، كما قال في الحديث الآخر: " أو يرى دخان أو كثرة السرج عند الزفاف بالليل "، والله أعلم.
وقولها: " ومعها لعبها ":أي: البنات التي يلعب بها الجوارى، يريد: لصغر سنها. فيه جواز اتخاذهن واباحة لعب الجواري بهن، وقد جاء في الحديث الآخر رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك، واقراره عليه. قالوا: لما في ذلك من تدريبهن لتربية الأولاد وإصلاح شأنهن وبيوتهن.
وقولها:" تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نسائه كان أحظى عنده مني "، وكانت تستحب أن يدخل نساؤها في شوال، كانت الجاهلية تكره هذا وتطير من ذلك ؛ لما في اسم شوال من قولهم: شالت نعامتهم، وشالت النوق بأذنابها: إذا رفعتها. وفيه إجبار الرجل ابنته على النكاح وتزويج الصغار.(5/341)
وقوله للمتزوج:« اذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئًا »، قال الإمام: محمل هذا عندنا على أنه إنما ينظر عند التزويج إلى ما ليس بعورة منها كالوجه والكفين ؛ لأن ذلك ليس بمحرم على غيره، إلا إذا كانت شابة فيمنع الغير من ذلك خوف الفتنة، لا لأجل العورة. وكره له مالك أن يستغفلها، ومعناه: أن ينظر إليها على غفلة وغرة من حيث لا تشعر، مخافة أن يطلع على عورتها. قال القاضي: هذا كله من باب جواز النظر إليها قول مالك والشافعي وأحمد والكرفيين وجمهور العلماء. وقال الأوزاعي: ينظر إليها ويجتهد، وينظر مواضع اللحم مفا. قال الشافعي وأحمد: وسواء بإذنها أو بغير إذنها إذا كانت مسترة، وحكى بعض شيوخنا تأويلاً على قول مالك: أنه لا ينظر إليها إلا بإذنها، لأنه حق لها وليس ببين. ولا يجوز عندهم أن ينظر إلى عورتها، ولا وهي حاسرة. وكره أخرون ذلك كله.
والسنة تقضي عليهم مع الإجماع على جواز النظر للحاجة كالشهادة وغيرها. وأجاز داود أن ينظر إلى سائر جسدها تمسكا بظاهر اللفظ، وأصول السنة أيضًا ترد عليهم.
وقوله:« فإن في أعين الأنصار شيئًا »، دليل على أن مثل هذا وقوله على الجملة دون تعيين ليس بغيبة، مع أيضًا أن قوله للنصيحة والتعريف خارج عن باب الغيبة، وأدخل في باب ما أمر به المسلمون من النصيحة لهم.
وقوله:« كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل » بضم العين: أي: تقشرون وتقطعون. والثحات: النجار ؛ لأنه يقشر الخشب بعضه عن بعض.
قد الإمام: وعرض الجبل والحائط وغيرهما: ما واجهك منه، وعرض الشيء: ناحيته.
قال القاضي: قال الحربي وغيره: العرض: صفح الجبل وناحيته، وعرض المال والبحر والنهر: وسطه، وعرض الشيء: نفسه ويكون وسطه، وقعدت في عرض الناس، أي: وسطهم.
حديث التي جاءت تهب نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، معناه: على وجه النكاح. واختص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهبة في النكاح لقوله تعالى:{ خالصة لك من دون المؤمنين}.(5/342)
وقوله:" فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصعَّد النظر وصوبه ثم طأطأ رأسه "، دليل على جواز النظر للمتزوج وتكراره وتأمل المحاسن على ما تقدم، وأما النظرة الأولى فمباحة للجميع.
وقوله: " فقال رجل: إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها " على ما تقدم، ولم يقل: فهبنيها ؛ إذ ذلك خالص له -- عليه السلام -.
قال الإمام: قال بعض الأئمة: فيه دليل على أن الهبة لا تدخل في ملك الموهوب إلا بالقبول ؛ لأن الموهوبة كانت جائزة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد وهبت هذه نفسها فلم تصر زوجة بذلك، قاله الشافعي.
قال القاضي: اختلف قول مالك في الواهبة نفسها /باسم النكاح على غير صداق إذا فات بالدخول، هل يفسخ أو لا ؟ ولا يختلف أنه يفسخ، قبل على المعروف دون الشاذ: أنه كنكاح التفويض، وقال ابن حبيب: إن عنى بالهبة غير النكاح ولم يعن به هبة الصداق فسخ قبل، وثبت بعد الدخول ولها صداق المثل، وإن أراد به نكاحها بغير صداق لم يجز، فإن أصدقها ربع دينار فكثر لزم، وأوهمه بعض شيوخنا فيما قال، وذلك أن الواهبة نفسها بغير معنى النكاح سفاح يثبت فيه الحد، وإنما الخلاف فيما أريد به النكاح. وفي قول الرجل هذا دليل على جواز الخطبة على الخطبة ما لم يتراكنا، لاسيما مع ما رأى من زهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها. قال الباجي: فيه جواز ذلك إذا كان باستئذان الناكح إذ هو قال القاضي: وعندى أن الاستدلال بهذا كله هنا ضعيف ؛ لأنه لم يكن هنا خطبة إلا من المرأة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في نفسها، والرجل إنما طلب المرأة وخطبها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يخطبها غيره قبله، حتى يقال: هي خطبة على خطبة.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« هل معك شيء ؟» وقال في "الموطأ" وغيره: «تصدقها»، دليل أنه لا نكاح إلا بصداق.(5/343)
وقوله: " لا أجد "، دليل على أنه لابد أن يكون الصداق مال بال، ويسمى مالاً دون ما ينطلق عليه اسم شيء، إذ النواة والخزفة المسعرة وشبه ذلك يقع عليه اسم شيء وهو مما لا يتعذر وجوده،وهم مجمعون على أنه لا يكون مثله صداقا، ولا يصح به النكاح.
وقوله:« التمس ولو خاتمًا من حديد »، قال الإمام: تعلق به من أجاز النكاح بأقل من ربع دينار، لأنه خرج مخرج التقليل، ومالك منعه بأقل من ربع دينار، قياسًا على القطع في السرقة.
قال القاضي: هذا مما تفرد به مالك التفاتًا ؛ لقوله تعالى:{ أن تبتغوا بأموالكم }، ولقوله:{ ومن لم يستطع منكم طولاً }، فدل أن المراد ماله بالٌ من المال، وأقله مما استبيح به العضو في السرقة وهو ربع دينار.
وكافة العلماء من الحجازيين والمصريين والكوفيين والشاميين وغيرهم على جوازه بما تراضى عليه الزوجان أو من العقد إليه مما فيه منفعة كالسوط والنعل ونحوه، وإن كانت قيمته أقل من درهم، وهو قول الشافعي وربيعة وأبي الزناد وابن أبي ذئب ويحيى بن سعيد، والليث بن سعد ومسلم بن خالد الزنجي، وسفيان الثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وداود، وفقهاء أصحاب الحديث، وابن وهب من أصحابنا، مع استحباب بعضهم أن يكون ماله بال.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقله عشرة دراهم. وقال ابن شبرمة: أقله خسمة دراهم، اعتبارًا - أيضًا - بالقطع في السرقة عندهما. وكره النخعي أن يتزوج بأقل من أربعين، وقال مرة: عشرة.
قال بعض المالكية: وقوله:« ولو خاتمًا من حديد» على طريق المبالغة لا التحديد ؛ لقوله أولاً:" لا أجد شيئًا "، وإنما المراد بقوله: التمس شيئًا أكثر قيمة من خاتم الحديد ؛ إذ نفى الرجل أن يجد شيئًا، ولا ما هو أقل من خاتم الحديد، وقال بعضهم: لعله إنما طلب منه ما يقدمه لا أن يكون جميع مهره خاتم الحديد، وهذا يضعفه أن مذهب مالك استحباب تقديم ربع دينار لا أقل. قالوا: وفيه دليل على جواز اتخاذ خواتم الحديد.(5/344)
وقد اختلف السلف والعلماء في ذلك، فأجازه بعضهم إذ لم يثبت النهي فيه. ومنعه آخرون وقالوا: كان هذا قبل النهي، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: " حلية أهل النار ". قالوا: ومطالبته له بذلك في الحين، يدل أن من حكمه تعجيله أو تعجيل ما يصح أن يكون مهرًا، ولو ساغ تأخير جميعه لسأله: هل ترجو أن تكسب في المستقبل شينا أو تجده ؟ ويزوجه على ذمته.
وقوله:" لا أجد إلا إزارى "، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء »، وفي الرواية الأخرى:« جلست لا إزار لك»، دليل على أن إصداق المال تخرجه من يد مالكه، وأن من أصدق جارية حرمت عليه. وفيه أن الأثمان المبيعات لا تصح إلا بصحة تسليمها أو إمكانه، فمتى لم يمكن ذلك وامتنع لم ينعقد فيه بيع ولا به، سواء كان امتناع ذلك حسًا كالطير في الهواء، والحوت في الماء، والأبق والشارد، أو شرعًا كالمرهون، ومثل هذا الذي لو أزال إزاره انكشف.
وقوله:« اذهب فقد ملكتها بما معك من القرآن »، قال الإمام: هذه بالتعويض، كما يقال: بعتك ثوبى بدينار، ولم يرد أنه ملكه إياها لحفظه القرآن ؛ إكرامًا للقران ؛ لأنها تصير بمعنى الموهوبة، وذلك لا يجوز إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم -.(5/345)
قال القاضي: قال غيره: قوله يحتمل وجهين ؛ أظهرهما أن يعلمها ما معه من القرآن أو مقدارا ما منه، ويكون ذلك صداقها، أي: تعليمها إياه، وقد ورد هذا التفسير عن مالك، ويحتج به من يرى أن منافع الأعيان تكون صداقا، وقد ذكره مسلم مفسرًا:« اذهب فعلمها من القرآن »، وفي رواية عطاء:« فعلمها عشرين آية ». وذهب الطحاوي والأبهري وغيرهما أن هذا خامن للنبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره من الناس، ونحوه قال الليث ومكحول. قاك الطحاوي: ولما كانت الموهوبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - جائزة له في النكاح جاز له هو - أيضًا - أن يهبها في النكاح. قال: ويصحح ذلك أن النبي - عليه السلام - قد ملكها له ولم يشاورها.
قال القاضي: وهذا يحتاج إلى دليل. وتكون الباء هنا - على هذا - بمعنى اللام، أي: لما حفظته من القرآن، وصرت لها كفئًا في الدين. وقد يكون مع هذا التقدير - أيضًا - أن ينكحها إياه لما معه من القرآن ؛ إذ رضيه لها، ويبقى ذكر المهر مسكوتا عنه إما لأنه أصدق عنه كما كفر عن الواطن في رمضان ؛ إذ لم يكن عنده، وودى المقتول بخيبر ؛ إذ لم يخلف أهله. كل ذلك رفقًا بأمته ورحمة لهم، أو يكون أبقى الصداق في ذمته وأنكحه نكاح تفويض حتى يتقوله صداق، أو حتى تكتسب بما معه من القرآن صداقًا، وليحرض بقوله هذا على تعليم القرآن وفضيلة أهله وشفاعتهم به. وأشار الداودي إلى أنه إنما أنكحها بلا مشورة ولا صداق لأنه كان - عليه السلام - أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما قال تعالى، واذا احتمل هذا كله لم يكن فيه حجة على جواز النكاح بغير صداق أو بما لا قدر له.(5/346)
قال الإمام: فيه دليل على جواز النكاح بالإجارة، وعندنا في ذلك قولان: الجواز والكراهة، ومنعه أبو حنيفة في الحر وأجازه في العبد، إلا أن تكون الإجارة تعليم القرآن، وهذا الذي استثناه بالمنع هو الذي وقع في هذا الحديث إجازته، ولكنه طرد أصله في أن القرآن لا يؤخذ عليه أجر ولم يذكر هنا في الحديث اشتراط معرفة الزوج لفهم المرأة، وسرعة قبولها لما تتعلمه، وهذا محمله على أن أفهام النساء متقاربة، ومبلغها معروف أو في حكم المعروف.
قال القاضي: يجوز أن كون المنافع صداقًا على الإطلاق. قال الشافعي وإسحاق والحسن بن حن: وبكراهته قال أحمد. وروى عن مالك وعن أصحابه قولان: الجواز ابتداء ومطلقا، ويفسخ ما لم يدخل، وروى مثله عن مالك أيضًا.
قال الإمام: قال الرازي: فيه دلالة على أن من خطب إلى رجل فقال له الآخر: زوجتك، أن النكاح لازم، وان لم يقل له الآخر: قبلت،بخلاف البيع.
قال الإمام: لأن لفظ الحديث:" إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها "، وقال في الآخر:« قد ملكتكها بما معك من القرآن »، ولم يقل: إنه قال: قبلت.
قال القاضي: ترجم البخاري بمعنى هذا على هذا الحديث، قال المهلب: بساط الكلام أغنى عن ذلك، وكذلك في كل راغب في النكاح وإلا فيسأل الزوج: هل رضي بالصداق أم لا ؟ وقول الرازي بخلاف البيع غير مسلم عندنا لو كان سمى ثمنا، فقال: بعنى هذا الثوب بدينار، فقال: قد فعلت، أو بعتكه للزم، وان لم يقل له الآخر: قد قبلت، ولا يحتاج في النكاح لذكر العوض لجواز نكاح التفويض بخلاف البيع، فان كان أراد الرازي هذا الافتراق فصحيح، وإلا فهو ما قلناه.(5/347)
قال الإمام: وفي الحديث - أيضًا - دلالة على انعقاد النكاح بغير لفظ النكاح والتزويج، خلافًا للشافعي والمغيرة ؛ لأنه ذكر هنا تمليكها. وفي البخاري:« قد ملكتها »، وفي بعض طرقه:« قد أمكناكها »، وعند أبي داود:« ما تحفظ من القرآن ؟». قال: سورة البقرة والتى تليها، قال:« قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك ».
قال القاضي: روايتنا في مسلم:« ملكتها » بضم الميم وكسر اللام عن غير واحد، وروينا الحرف عن الخشني:« قد ملكتكها »، كما ذكر البخاري، وذكر في الرواية الأخرى:« زوجتكها »، وقد قال أبو الحسن الدارقطني: إن رواية من رواه:« ملكتها »، وهم، ورواية من قال:« زوجتكها » الصواب، وهم أكثر وأحفظ.
واختلف العلماء في عقد النكاح بلفظ الهبة، مثل أن يقول الرجل: وهبت لك ابنتي على صداق كذا، فمنعه الشافعي وأبو ثور والمغيرة وابن دينار من أصحابنا، وأبو حنيفة ابتداء والثوري ومن تابعهم، وقالوا: لا يصح عقد النكاح إلا بلفظ النكاح أو التزويج. وكما لا ينعقد هبة ولا بيع بلفظ النكاح، كذلك لا ينعقد بهما النكاح، وبخصوص الهبة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وحكى ابن المواز نحوه عن مالك وأصحابه، سمى صداقا أم لا. وأنه لم يختلفوا فيه أنه يفسخ قبل، واختلفوا في فسخه بعد الدخول. وبإمضائه بعد الدخول قال أبو حنيفة، وبفسخه أبدا قال الشافعي، وروى ابن القاسم عن مالك إجازته، وقال: هو كالبغ عنده بلفظ الهبة، وقال من قال بهذا القول: إنما خص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهبة دون صداق وهذا هو حقيقة مذهبنا عند البغداديين.(5/348)
قال ابن القصار: يصح النكاح بلفظ الهبة والصدقة والبيع إذا قصد به النكاح، ذكر الصداق أو أطلقوه، ولا يصح بلفظ الرهن ولا بلفظ الإجارة والعارية والوصية، ومن أصحابنا من أجازه بلفظ الإحلال والإباحة، وجوز هو منع ذلك ؛ إذ ليسا بعقد والهبة عقد. وأصل مذهب الشافعي أنه لا يجوز بغير لفظ النكاح والتزويج، وأبو حنيفة يجيزه بكل لفظ يقتض التمليك على التابيد، وقد ذكر عنه في الهبة ما تقدم. وقيل في هذا الحديث من الفقه غير ما تقدم: جواز خطبة المرأة نفسها للرجال، وجواز سكوت المسؤول عن علم أو حاجة عن السائل إذا لم يوافقه جواب سؤاله، وحسن أدب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ سكت عن جوابها ولم يخجلها بأن يقول: لا حاجة لي بك. وفيه من حسن أدبها هي ؛ إذ سكت عنها أن لم تلح عليه في الجواب وتركته ونظره. وفيه الكفاءة في حق الدين والحرية لا في المال، وجواز تزويج المعسر. قال الخطابي: وفيه دليل إجازة إنكاح المرأة دون أن تسأل: هل هي في عدة أم لا؟ حملا على ظاهر الحال، والحكام يبحثون عن ذلك احتياطًا.(5/349)
وفيه دليل أن سكوت كل من عقد عليه عقد في جماعة لازم إذا لم يمنعه من الإنكار خوف أو حياء أو آفة في سمع أو فهم، وجواز استمتاع الرجل بشهوة زوجته، وما اشترى من صداقها لقوله:« ما تصنع بازارك ؟ إن لبسته لم يكن عليها منه شيء »، وفي قول هذا نظر ؛ إذ ما قاله - عليه السلام - من هذا حجة في منع صداقها إياه وتعذر تسليمه على ما تقدم لا على إباحة لبسه له /. قالوا: وفيه جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وهو مذهب كافة العلماء. ومنعه أبو حنيفة إلا للضرورة. وعلى هذا اختلفوا في أخذ الأجرة على الصلاة وعلى الأذان وسائر أفعال البر. فروى عن مالكًا كراهة جميع ذلك في صلاة الفرض والنفل، وهو قول أبي حعنيفة وأصحابه، إلا أن مالكًا أجازها على الأذان، وأجاز الإجارة على جميع ذلك ابن عبد الحكم، وهو قول الشافعي وأصحابه، قالوا: وأعمال البر أولى ما أخذ عليها الأجر، ومنع ذلك ابن حبيب في كل شيء، وهو نحو قول الأوزاعي، وقالى: لا صلاة له. وروى عن مالك إجازته في النافلة، وروى عنه إجازته في دون النافلة ؛ إذ لا بد له من عمل الفريضة فلا تؤثر فيها الأجرة. وفيه جواز الأجرة على تحفيظ القرآن؛ إذ لم يذكر مدة الإجارة وإنما شرط في ظاهره التعليم. واستدل بعضهم بانكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها بأن الإمام آولى بإنكاح المرأة إذا ولته أمرها من الولي. وهذا لا حجة فيه ؛ إذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلاف غيره، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
وليس في هذا الحديث - أيضًا - بيان أنها ذات ولي، ولا خلاف عندنا أن ولي القرابة أولى من السلطان. واختلف إذا كان بعيد القرابة كالرجل من البطن، فعبد الملك يقول: السلطان أولى، وظاهر المذهب: الولي أولى.(5/350)
وقوله: " كان صداق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنسائه ثنتى عشرة أوقية ونشًا "، وفسر النش بنصف أوقية، قال:" فذلك خمسمائة درهم "، قال الخطابي: هذا اسم موضوع لهذ القدر ليس مشتقًا من شيء، وقال كراعٌ: النش نصف الشيء.
ولا خلاف بين العلماء أنه لا حدّ لأكثر المهر، وأما أقله فقد تقدم الكلام فيه، وقد نهى عمر عن التغالي في صدقات النساء، وقال: " لو كانت مكرمة أو تقوى لكان الأولى بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدق امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية، ولم يذكر فيها النش، وهو قريب من الحديث الأول. ولا يعترض عليه بحديث أم حبيبة وأن النجاشي امهرها عنه أربعة آلاف درهم، فهذا شيء فعله النجاشي وتطوع به، ولم يبتدئه النبي - عليه السلام - ولا أداه من ماله.
وقوله: رأى على عبد الرحمن أثر صفرة، فقال:"ما هذا ؟"، فيه افتقاده لأموره في الرجل الفاضل أمور أصحابه، والسؤال عما يختلف عليه من أحوالهم، وليس هذا من كثرة السؤال المنهى عنه.
وقوله:" أثر صفرة "، وفي حديث آخر: " وضر صفرة "، وهو مثل أثرها، وظاهره - والله أعلم - ما قيل: إنه " ما "، تعلق به من طيب العروس وعبيرها، ولطخ بجلده أو ثوبه من ذلك. وهذا أولى ما قيل فيه.(5/351)
وقد جاء في حديث آخر:" وبه ردعٌ من زعفران " وهو الأثر، فلا يكون هذا داخلاً في النهي عن تزعفر الرجال ؛ لأن ذلك ما قصدوه وتشبهوا فيه بالنساء. وقيل: فيه الرخصة في ذلك للعروس، وقد جاء في ذلك أثر ذكره أبو عبيد: أنهم كانوا يرخصون في ذلك للشباب أيام عرسه. وقيل: لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه لأنه كان يسيرًا. وقيل: كان من ينكح أول الإسلام كان يلبس ثوبًا مصبوغًا بصفرة، علامة للسرور. وهذا غير معروف، على أن بعضهم جعله أولى ما قيل في هذا، وقيل: يحتمل أن يكون ذلك في ثيابه. ومذهب مالك وأصحابه جواز لباس الثياب المزعفرة للرجال، وحكاه مالك عن علماء المدينة، وهو مذهب ابن عمر وغيره من المسلمين، وحجتهم: قول ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصبغ بالصفرة. وحكى ابن شعبان عن أصحابنا كراهة ذلك في اللحية، وكره الشافعي وأبو حنيفة ذلك في الثياب واللحية، وقد مر الكلام في هذا في أول كتاب الحج، ويأتي منه في اللباس. وقوله في الرواية الأخرى:" بشاشة العروس ".
قال الإمام: البشاشة: السرور والفرح، يقال: تبشبش فلان بفلان: إذا أنسه. وأصله من البشاشة، والبش: فرح الصديق بالصديق. قال الليث: بششت بالرجل: إذا أقبلت عليه وتلطفت له في المسألة.
قال القاضي: قال الحربي: بشاشة العرس: أي: أثره وحسة.
وقوله - عليه السلام -:« كم أصدقتها ؟»، دليل على أنه لابد في النكاح من الصداق. وقد يشعر ظاهره أنه يحتاج إلى تقدير ؛ لأنه جاء بلفظة "كم" الموضوعة للتقدير، فيحتج به المالكية والحنفية في أن أصل النكاح مقدر على ما تقدم.
وقوله:« وزن نواة من ذهب »، قال الإمام: النواة: خمسة دراهم، والأوقية: أربعون درهمًا، والنش: عشرون.
قال القاضي: قال الخطابي: النواة: اسم معروف لقدر معروت، فسروها بخمسة دراهم من ذهب.(5/352)
قال القاضي: بهذا فسرها ابن وهب وغيره من المالكية وأكثر العلماء. وقال أحمد بن حنبل: النواة: ثلاثة دراهم وثك. وقيل: المراد بها هنا: نواة التمر، أي: وزنها من ذهب، والأول أظهر وأصح، وقال بعض أصحاب مالك: النواة بالمدينة ربع دينار. وظاهر كلام أبي عبيد: أنه دفع خمسة دراهم. قال: ولم يكن ثم ذهب، إنما هي خمسة دراهم تسمى نواة، كما تسمى الأربعون أوقية. وقد روى في حديث عبد الرحمن: " وزن نواة من ذهب": ثلاثة دراهم وربع،، وأراد أن يحتج هذا بأنه أقل الصداق. وهذا لا يصح له ؛ لأنه قال: ا من ذهب ا وذلك أكثر من دينارين، وهذا ما لم يقله أحد، وإنما هي غفلة من كاتبه، بل فيه حجة على من يقول: إنه لا يكرن أقل من عشرة دراهم، وقد وهم الداودي رواية من روى:" وزن نواة "، وأن الصحيح عنده: " نواة " ولا وهم فيه على كل تفسير ؛ لأنه إن كانت نواة تمر - كما قال - أو كان / عندهم النواة مثقالا معلوما - كما. تقدم - فكل يصلح أن يقال فيه: وزن كذا.
وقوله:« بارك الله عليك »، حجة فيما يقال للمتزوج، وقد تقدم الكلام عليه.
وقوله:" أو لم ولو بشاة "، قال صاحب العين: الوليمة: طعام النكاح، وقال الخطابي: هي طعام الإملاك. وقال غيره: الوليمة: طعام العرس والإملاك خاصة.
قال الإمام: الوليمة: عندنا مستحبة ليست بواجبة، خلافًا لداود، وأحد قولي الشافعي في إيجابها أخذًا بهذا، وحمله على الوجوب.(5/353)
ولقوله:« ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله »، ومحمل قوله:« أولم بشاة » على الندب عندنا، ولا حجة لهم فئ قوله:« ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله »؛ لأنه إنما أطلق ذلك علة في ترك الإجابة، وهي لو كانت واجبة ما دل ذلك على وجوب الوليمة، كما قيل: إن الابتداء بالسلام ليس بواجب والرد واجب. فكذلك غير بعيد أن تكون الدعوة غير واجبة، والإجابة واجبة. وقد قال بعض البغداديين من أصحابنا: لا يمنع أن يطلق على من أخل بالمندوب تسميته عاص ؛ لأن المعصية مخالفة الأمر، والمندوب مأمور به.
قال القاضي: استدل بعضهم من ظاهر القصة على جواز الوليمة بعد الدخول، وقال بعضهم: ليس في الحديث ما يدل عليه، والأول أظهر. وظاهر قول مالك في كتاب محمدٍ استحبابها بعد الدخول، وهو قول غيره، ووجهه ة ههوة الدخول والابتناء لما يتعلق به من الحقوق، ولأنه فرق بين النكاح والسفاح، والرواية الأخرى عنه جوازها بعد الدخول، وحكى ابن حبيب استحبابها عند العقد وعند البناء، واستحبها بعض شيوخنا قبل البناء حتى يكون الدخول بها.
وقوله:« ولو بشاة »، دليل على أن التوسعة فيها لأهل الواجد بالذبح وغيره، وأن الشاة لأهل الجدة والقدرة أقل ما يكون وليس على طريق التحديد، وأنه لا شيء أقل منها لمن لم يجدها، بل على طريق الحض والإرشاد. ولا خلاف أنه لا حد لها، ولا توقيت.
وقد ذكر مسلم بعد هذا - في وليمة صفية - الوليمة بغير اللحم، وفي وليمة زينب: " أشبعنا خبزًا ولحمًا،، فكل جانز وبقدر حال الرجل وما يجد.
واختلف السلف في أثر تكرارها أكثر من يومين بإجازته وكراهيته. واستحب أصحابنا لأهل السعة كونها أسبوعًا. قال بعضهم: وذلك إذا دعى في كل يوم من لم يُدع قبله ولم يكرر عليهم. وكرهوا فيها المباهاة والسمعة.(5/354)
وذكر بعد هذا قوله - عليه السلام -: " إذا دعى أحدكم إلى الوليمة فليأتها، وقوله في الرواية الأخرى:« عرسًا كان أو غيره »، وفي الأخرى:« آتوا الدعوة »، وفي الأخرى:" إذا دعى أحدكم لكراع فليجب »، وفي الأخرى: " لطعام"، وفي الأخرى:" لعرس "، وفي الأخرى:« ومن لم يات الدعوة فقد عص الله ورسوله »، وإنما تقدم الكلام عليه هنا لاتصاله بالمسألة، فلم يختلف العلماء في وجوب الإجابة في وليمة العرس، واختلفوا فيما عداها، فمالك وجمهورهم: على أنه لا تجب، وذهب أهل الظاهر إلى وجوبه في كل دعوة، عرسا كان أو غيره، بظاهر الألفاظ الأخر التي ذكرناها. وقال الشافعي: ذلك واجب في الوليمة، ولا أرخص في ترك غيرها من الدعوات التي لا يقع عليها اسم وليمة كالختان والإملاك والنفاس، وحادث سرور، ولا يبين إلى أن تاركها عاص كتارك الوليمة، ولمالك في المدونة أن هذا في طعام العرس، وليس في الإملاك، وهذا على ماله في كتاب محمد أنها بعد إلبناء، وهو الذي يسمى عنده وليمة وعرسا. وفي مسلم عن عبيد الله - هو العمرى - نحوه قال: إنه كان ينزله على العرس، أي: يتاوله فيه وبجعله مراد الحديث، فكذلك اختلف السلف في إجابة ماعدا الوليمة، وحمل من خص ذلك بالعرس أن غيرها على الندب، والأوامر في ذلك على التخصيص لا على الإيجاب، وخص الوليمة بالإيجاب نصه فيها على العصيان، وأن الوليمة اسم يختص لطعام العرس والإملاك على ما تقدم. وكره مالك لأهل الفضل الإجابة للطعام يدعون إليه، وتأوله بعض أصحابنا على غير الوليمة، وتأوله بعضهم على غير طعام أسباب السرور المتقدمة مما يصنع تفضلا.(5/355)
واختلف في وجوب الأكل للمفطر فيها، فلأهل الظاهر فيها قولان، وقد خرجهم الباجي على مذهبنا من قول مالك وأصحابه. وقال الشافعي: إذا كان مفطرًا أكل، وإن كان صائما صلى، أي: دعى، على ما جاء في الحديث. قال مالك: يجيب وان لم يكل وإن كان صائمًا، وعن إصبغ تخفيف ذلك، فرأى أن الإجابة إنما تتعين، فظاهره وجوب الأكل عندهم.
وكذلك اختلف قول أهل الظاهر في وجوب الأكل في كل دعوة بناء على وجوب الإجابذ فيها على قولهم، واختلف السلف ومن بعدهم إذا كان فيها لعب مباخ أو منكر، والأكثر في المنكر ألا تحضر معه، وأبو حنيفة وبعضهم يجيزه، وعندنا فيه قول شاذ، والأكثر في المباح الحضور إلا لأهل الفضل والهيئات، وفي مذهبنا في هذا قولان.
قوله في حديث أنس:" فأجرى النبي - صلى الله عليه وسلم - في زقاق خيبر "، فيه أن إجراهم الخيل والتصرف عليها لأهل الفضل والشجاعة مباح مستحب في مواطنه، وحيث يحتاج إليه أو يمرن نفسه عليها، أو يروض فرسه به.
وقوله:" وانحسر الإزار عن فخذ نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنى لأرى بياض فخذه"، حجة لمن لايرى الفخذ عررة، وقد ذكرنا الخلاف فيه في كتاب الطهارة.
وقوله:" محمدٌ والخميس " برفع السين، قال الإمام: قال الأزهري: الخميس: الجيش، سمى خميسًا لأنه مقسوم على خمسة: المقدمة، والساقة /، والميمنة، والميسرة، والقلب. وقال غيره: سمي الجيش خميسًا ؛ لأنهم يخمسون الغنائم فيه.
قال القاضي: هذا بعيد ؛ لأن الخميس فيه إنما جاء في الشرع، وإنما كان قبل ذلك المرباع، يأخذ الرئيس الربع.
وقوله:« الله أكبر خربت خيبر »، قيل: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رآهم خرجوا بآلة الخراب والهدم، لقوله:" خرجوا بفؤوسهم ومكاتلهم ومرورهم "، وهذا من الفأل الحسن في حقه - عليه السلام - وحق المسلمين الذي كان يستحبه، وليس من الطيرة المذمومة.(5/356)
والمكاتل: القفف. والمرور: قيل: الحبال ؛ لأنها تمر، أي: تفتل، كانوا يصعدون بها للنخيل، وأحدها مَرْ، ومِرٌ، بالفتح والكسر، قيل: المرور: المساحي، واحدها مر بالفتح، وقيل: يقال لها: الحراب من اسمها، لجمعه حروفه، وقد يحمل أنه خبر على وجه الدعاء بخرابها، وسيأتي الكلام على مافي بقية الحديث في الجهاد. قيل: وفيه سنة التكبير عند الظهور، والفتوحات، ورؤية الهلال والإشراف على المدن ؛ لأنه إعلام وثناء على الله، واعتراف بجلاله، وشكر له بجميل ذكره على ما أولاه من فضله.
وقوله: " وأصبناها عنوة ا: سيأتي الكلام في حكم خيبر، وماكان منها عنوة وصلحًا، وأن جميعها لم يكن عنوة، وحصن الوطيح وحصن السلالم منها صلح، وسنذكرهما وغيرهما في موضعه.
وقوله لدحية حين سأله جارية من السبي:« اذهب فخذ جارية »، فأخذ صفية، وذكر استرجاع النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الامام: يحتمل عند ماجرى له مع دحية وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك برضا دحية وطيب نفسه، فيكون معاوضة جارية بجارية، فإن قيل: الواهب منهى عن شراء هبته، فكيف عاوضه هنا عما وهبه، قلنا: لم يهبه من مال نفسه فينهى عن الارتجاع، وإنما أعطاه من الله على جهة النظر، كما يعطي الإمام النفل لأحد أهل الجيش نظرًا، فيكون ذلك خارجًا عن ارتجاع الهبة وشرائها.
والتأويل الثانى: له أن يكون إنما قصد - عليه السلام - إعطاء جارية من حشو السبي ووخشه، فلما أطلع أن هذه من جياده، وأن ليس من المصلحة إعطاء مثلها لمثله، وقد يؤدي ذلك إلى المفسدة، استرجعها لأنها خلاف ما أعطى. لكن في بعض طرق هذا الحديث قال: وقعت في سهم دحية جارية جميلة فاشتراها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبعة أرؤس ثم دفعها إلى أم سليم تصنعها وتهيئها، وهي صفية ا ففى الرواية: أنه أخذها في قسمة ولم يذكر الهبة، وفيها: أنه اشتراها منه. فعلى هذا يستغنى عن الاعتذار عن ارتجاع الهبة.(5/357)
قال القاضي: قال بعضهم: فيه أن الإمام إذا أعطى ونفل مالم يعلم مقداره أن له استرجاعه والتعويض منه، وليس له أخذه بغير عوض. وفيه بيع العبيد والحيوان كبيرًا بقليل، يدًا بيد، وواحدا باخر، على اختلاف ألفاظ الحديث. وإنما يراعى اختلاف العدد والجنس مع الأجل إلا في النقد. وفيه أن قوله: " جارية من السبى " في الحديث الواحد: دليل على أنه لم يقع على طريق المشاحة بل على المكارمة، إن لم تحضر حينئذ ولم يرها، فلم يكن بيعًا، وإنما كان استرجاعًا على تطييب نفسه بالعوض ويجمع بين هذا وبين قوله في الرواية الأخرى:" فاشتراها بسبعة أرؤس "، أن دحية شح بحقه فيها وتمييزها في حقه. ولم يرض في أخذ العوض عنها بجارية حتى أرضاه النبي - عليه السلام - بسبعة، فيجمع الأحاديث كما فعل في سبى هوازن.
وقوله لهم:" فمن شاء أن يكون على حقه،حتى نعطيه من أول مايفىء الله علينا "، تطيبًا لأنفسهم، فيه إعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - صفية لدحية حين سأله جارية من السبي، ولم يأت في الحديث أنه بعد القسم، وصفية مما أصيبت من العنوة، ولم تكن فيها لأنها من حصن الغموص، وهو مما أخذ عنوة، وبها أخذت صفية على ماذكر ابن إسحاق فيحتمل أنها مما كان خلص للخمس، فنفله النبي - عليه السلام - إياها، أو قبل القسم حتى يحسبها من الخمس.(5/358)
لكن جاء في الحديث الآخر: أنها خرجت فيمن سهمه، فوجه الجمع بين الحديثين أن يجعل السهم هنا لغير القسم، لأن من ملك شيئًا وحصل عنده قد يقال له ذلك، ويستعار له اسم السهم الذي يكون في القرعة. والأولى عندي أن تكون صفية فيئًا ؛ لأنها كانت زوجة كنانة بن الربيع، وهو وآل بيته من بني ابى الحقيق قد صالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشرط عليهم ألا يكتموا كنزًا، فإن كتموه فلا ذمة لهم، وأنه سألهم عن كنز حيى بن أخطب فكتموه، وقالوا: أذهبته النفقات، ثم عثر عليه عندهم فاستباحهم وسباهم، وذكر ذلك أبو عبيد وغيره. فصفية لاشك ممن سُبى من نسائهم، وممن دخلت أولاً في صلحهم، فقد صارت فيئًا لا تخمس، وللإمام وضعه حيث أراه الله، فهذا وجهه عندي.(5/359)
قال الإمام: وأما قوله:" جعل عتقها صداقها "، فإن الناس اختلفوا في هذا، فمنهم من أجاز ذلك لظاهر هذا الحديث، ومالك وغيره من الفقهاء يمنع ذلك، وقال الشافعي: هي بالخيار إذا أعتقها، فإن امتنعت من تزويجه فله عليها قيمتها. فأما مالك وغيره - ممن وافقه - فيحمل هذا على أنه من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه خص بالموهوبة، وأجيز له النكاح بغير مهر فلا يقاس غيره عليه فيما خص - عليه السلام - به، والاعتبار عند بعض أصحابنا يمنع من ذلك أيضًا ؛ لأنه إن قدر أنها عقدت على نفسها النكاح قبل عتقها فذلك لايصح ؛ إذ لا ملك لها في نفسها حينئذ، ولا يصح - ايضا - عقد الإنسان /نكاحه من أمته. وإن قدر أنها عقدت بعد عتقها فلم يقع منها بعد ذلك رضًا تطالب به، وإن كان يقدر قبل عتقها بشرط أن تعتق فقد عقدت الشيء قبل وجوبه، والتزامها في هذا وجوب الشيء عليها قبل أن يجب لها لايلزمها على الطربقة المعروفة عندنا. وأما حجة الشافعي: فإنه يقول: إنها عتق بعوض، فإذا بطل العوض في الشرع رجع في سلعته أو في قيمتها إن لم يمكن الرجوع فيها، وهذه لا يمكن الرجوع فيها. فإن تزوجته بالقيمة الواجبة له عليها صح ذلك عنده.
قال القاضي: وأيضًا فإن قوله:" وجعل عتقها صداقها ": إنما هو من قول أنس، لم يسنده، فلعله تأويل منه إن لم يسم لها صداق - والله أعلم. وبقول مالك في هذا قال أبوحنيفة ومحمد بن الحسن وزفر، وباجازة ذلك قال الثوري وإسحاق وأحمد والاءوزاعى وأبو يوسف، ويروى عن ابن المسيب والحسن والنخعي والزهري. وقيل: معنى "جعل عتقها صداقها "، أي: لم يجعل لها صداقا كالموهوبة المخصوصة له.
وقوله:" دفعها إلى أم سليم تضعها له وتهيئها "، أي: تزينها وتصلحها. فيه جواز مثل هذا مالم يكن بالوجه المنهى عنه ؛ من الوصل والوشم وشبهه.(5/360)
وقوله:"حتى إذا كان الطريق جهزتها له أم سليم، واهدتها له من الليل"، فيه الابتناء بالليل في السفر، وجواز إقامة الإمام في حاجته بالجيش مالم يضر لهم ؛ لأنه قد روى أنه أقام عليه ثلاثًا، خرجه البخاري، وأن الثلاث في حكم السفر ليست بإقامة، وهذا يؤكد حق الزوج الثيب في الثلاث.
وقوله: " وتعتد في بيتها ": أي: تستبرئ ؛ لأنها كانت مسبية، أي: في بيت أم سليم ثم حينئذ تهيئها له، والواو لاترتب.
وقوله - عليه السلام -:" من كان عنده شيء فليجئ به "، فيه انبساط الرجل مع أصدقائه وحاشيته وآله، واستدعاء مثل هذا ممن يعرف سروره به وصحبته فيه.
وقوله:" فجعل الرجل يجئ بالإقط، والرجل يجئ بالتمر، والرجل يجئ بالسمن، فحاسوا حيسًا "، وفي الحديث الآخر: " فجعلوا من ذلك السواد سوادًا حيسًا "، السواد: كل شخص ظاهر، وسواد الشيء: شخصه، يعني أنهم جعلوا من ذلك مواضعه، وشغل ذاته موضعه، ومنه سواد العراق للعامر من أرضه، والظاهر عمارته منها.
قال الإمام: والحيس: تمر وأقط وسمن، وقد تقدم ذكره، وقد بينه في الحديث بقوله:" إن الرجل كان يجئ بالأقط، ويجئ الرجل بالتمر، ويجئ الرجل بالسمن، فحاسوا حيسًا ".
وقوله:" فحصت الأرض أفاحيص، وجئ بالأنطاع "، يقال: فحصت عن الشيء إذا كشفت عنه، وفحصت التراب: قلبته، وفحص الطائر مفحص لبيضه سواء. والأفاحيص واحدها أفحص. والأنطاع واحدها نطع، وفيه أربع لغات: نِطَعٌ، ونِطْعٌ، ونَطَعٌ، ونَطْعٌ.
وقوله:" فعثرت الناقة العضباء "، هو اسم لها لاصفة. قال أبو عبيد: أما ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها تسمى العضباء، وليس لشيء كان بآذنها.
قال القاضي: قد مضى الكلام على هذا في الحج، وأن الأولى خلاف ماقال أبو عبيد، وكونه صفة لها أو صفة واسما معا هو الصحيح إن شاء الله. قال ابن وضاح: الحير: العتمر ينزع نواه ويخلط بالسويق، والأول معروف.
وقوله:" حين بزغت الشمس "، أي: حين ابتداء طلوعها وهو بزوغها.(5/361)
وقوله:" ونذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونذرت " بالنون: أي: سقط وسقطت: وأصله الشيء يسقط من الشيء ويخرج منه، ومنه نوادر الكلام.
وقوله:" هششنا إليها "، كذا عند أبي سعيد السجزي، وعند غيره: "هشنا إليها" بتثديد الشين، وكلاهما صوابٌ، وهو بكسر الشين في الماضي وفتحها في المستقبل، كذا قيدته في كتاب الهروي على أبي الحسين، ونحوه في كتاب العذري، ومعنى " هششنا ": نشطنا وخففنا وبادرنا. وقال شمر في قوله:" فهششت إلي امرأتي "، أي: فرحت وأستهيأت، وهو مما تقدم. ومن قال: " هشنا " فعلى الإدغام ولالتقاء المثلين، ولغة من قال من العرب: هزت بسيفي، وهي لغة بكر بن وائل. ورواه بعضهم بفتح الهاء على لغة من قال من العرب: ظلت أفعل كذا من ظللت.
وردت بمعنى: رددت، ممن لايرى التضعيف ويسهل. ووقع عند القاضي الصدفي عن العذري:" هشنا " بكسر الهاء وسكبرن الشين، ووجهه من هاش يهيش. قال الهروى: هو بمعنى قولهم: هش. قال شمر: يقال: هاش بمعنى طرب، قال: فكبر للرؤيا وهاش فؤاده، وكما قالوا: نمت من نام، وقد يكون قى هشنا " من هششنا، على لغة من قال: ظلت أفعل كذا، حكاها سيبويه في الشاذ.
وقوله:" فخرج جواري نسائه "، أي: الصغار الأسنان منهن، ومن لم تسمنه السن. والحنكة.
قوله:" يتراءينها ويشمتن بصرعتاها "، لما جبل الضرائر عليه من الغيرة، لا سيما بالطارئة عليهن. وفي حديث صفية جواز نكاح الرجل معتقته، وقد جاء في الحديث في ذلك:" له أجران ".
وقوله: " فقالوا: إن حجبها فهي امرأته "، استدل به بعضهم أنها بغير صداق كالموهوبة، ولو كان إنما نكحها على أن عتقها صداقها كما زعم المخالف وظن، أليس لم يخف عليهم أنها زوجه ؟ ويكون قوله في الحديث الآخر: " أعتقها وتزوجها " إخبار عما استبان بعد ذلك من حالها لهم بعد الحجاب، واستدلالهم بالحجاب على أنه تزوجها.(5/362)
وفيه دليل عند بعضهم على إجازة النكاح بغير شهود إذا اعلن، وأنه ليس من شرط صحة عقده الشهود، وهو قول مالك والزهري / وأهل المدينة وأبي ثور وجماعة من العلماء ا والسلف والصحابة. وذهب آخرون إلى أنه لايجوز إلا بشاهدى عدل وهو قول جماعة من الصحابة والسلف والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة مثله إلا أنه لا يشترط العدالة، ولكن هو شرط عند الجميع في الدخول.
ولم يختلفوا أن كل نكاح استسر ولير فيه شاهدان فهو نكاح سر لا يحل ويفسخ. واختلفوا في استسراره مع الشاهدين، فمذهب جمهور الفقهاء وأئمة الأمصار ويحيى بن يحعى من أصحابنا على أنه ليس بنكاح سر، وهو عند مالك نكاح سر يفسخ، دخل أو لم يدخل، ولا فرق عنده كان شاهدين أم لا.
وقوله في الحديث في قصة زينب:" وأمر النبي - عليه السلام - لزيد أن يذكرها عليه أن يخطبها،: ومعنى " اذكرها علي "، أي: اخطبها لنفسها علي، أي: لي، أو عني. فـ" علي "، تأتى بمعنى الحرفين. فيه جواز مثل هذا لمن طلقها إذا علم طيب قلبه بذلك، وأنه لايكرهه مثل حال زيد مع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله: " ما أستطيع أن أنظر إليها ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرها ": بفتح الهمزة، أي: من أجل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرها.
وقوله:" فنكصت على عقبي"، أي: رجعت وانصرفت.(5/363)
وقوله:" فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليها بغير إذن "، لأنها زوجته، وأن الله أعلمه أنه زوجه إياها. وفي خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - ودورانه على نسائه حتى يقوم الجالسان عنه حسن الأدب مع الصاحب واحتمال أذاه، وماكان عليه - عليه السلام - من حسن الخلق والعشرة، وأنه - عليه السلام - لما كره جلوسهما لم يأمرهما بالقيام، وتلطف أولاً بالتهيؤ للقيام ليقوما، فلما لم يقوما تلطف بخروجه ورجوعه ليفهما فيقوما كما كان. وفيه كراهة التطويل والجلوس عند العروس، ومن يعلم أن له شغلاً وتفرغًا لأمر من أمور نفسه أو أمور المسلمين.
وقول أنس:" وكان يبعثني فأدعوا الناس "، وفي الحديث الآخر:"اذهب فادع فلانًا وفلانًا ومن لقيت "، فيه الاستنابة في دعوة الوليمة، وتخصيص الدعوة بالمعينين، وجواز ذلك فيمن يختص من الإخوان لقوله:" فلانًا وفلانًا". وجواز تفويض ذلك للرسول ؛ لقوله:« ومن لقيت »، وإذا لم يعين صاحب الوليمة من يدعوه رسوله لها وقال له مثل هذا،لم يلزم المدعو ولم يتكد عليه الإجابة.
وقوله:« ومن لقيت »، وفي رواية السمرقندي في حديث قتيبة:« أو من لقيت »، وهو وهم، والصواب الأول كما في سائر الاحاديث.
وقول أنس:" فصنعت أمي أم سليم حيسًا فجعلته في تور "، وذكرت توجيهها إياه به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، التور: آنية من حجارة كالقدح مذكر، قيل: هو عربى، وقيل: دخيل. فيه إهداء الطعام للعروس، وهو مما يستحب لشغلهم بالعرس، كما يستحب بالجنائز لشغلهم بالميت. وفيه دعاء العروس إخوانه لأداء مايهدى له من ذلك مما فيه فضل عن حاجته وحاجة أهله. وهذا الحيس قد كان فيه من البركة ما أكل منه زهاء ثلاثمائة،كما جاء في الحديث. وفيه أن من ايات النبوة تكثير القليل.
قال الإمام: " زهاء ثلاثمائة "، أي: مقدارها. وزهاء، ونهاء، ولهاء بمعنى واحد.(5/364)
قال القاضي: وهذه القصة هي في عرس زينب بينها مسلم والبخاري في بعض أحاديثهما، وهي وإن أشبه بقية الخبر فيها من جلوس من جلس، ونزول الحجاب وخبر وليمتها بالخبز واللحم في بعض الروايات، فهما قضيتان - والله أعلم، أحدهما: وليمته التي قصد وأشبعهم فيها خبزًا ولحمًا. والثانية: هذه التي دعاهم لما أهدته له أم سليم من الحير فيها كانت الآية والبركة، ولم يات ذلك في وليمته باللحم، وفيها كانت قصة الحجاب.
ويحتمل أن ذكرها في قصة وليمة اللحم وهم من الرواة. والأشبه أنها كانت في وليمة الحيم، وهو ظاهر سياق الأحاديث،ولايمكن تكرارها مرتين إذ نزول اية الحجاب في الأولى منهما، ونهيهم عن فعلهم ذلك يكفي عن المخالفة بعد،وأراه وهما من بعض الرواة، وتركيب قصة على أخرى - والله أعلم - على أن ظاهر قصة زيخب في الوليمة باللحم أن فيها - أيضًا - آية، وذلك أنه ذكر في الرواية الواحدة أنه ذبح شاة، وفي الأخرى:" أشبع الناس خبزًا ولحمًا "، وقال:"حتى تركوه "، وهذا لايكون من شاة واحدة للناس.
وفي إرخاء الستر في وجه أنس جواز فعل مثل هذا مع خادم الرجل ومن لايحتشمه، وأنه أولى من قوله: لايدخل، ولما كان عليه - عليه السلام - من حسن الخلق والعشرة.
وقوله:{ غير ناظرين إناه }، فسره قتادة في "الأم" غير متحينين طعامًا معنى" غير ناظرين ": غير منتظرين إدراكه ونضجه، والإناه: الحين والوقت، أي: مترقبين حينه. والصفّة مثل الظلة والسقيفة.
وقوله:" حين اشتد النهار "، هي رواية ابن الحذاء، ولغيره:" امتد "، وهما بمعنى اشتد النهار: ارتفع.
وقوله:" ووعظ القوم بما وعظوا "، أي: عوتبوا، ونحو منه الحديث الآخر:" يعظ أخاه في الحياء ".
قال الإمام: قوله:" وإن كان صائمًا فليصل "، أي: فليدع لأرباب الطعام بالمغفرة والبركة.(5/365)
وقوله:« بئس الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك المساكين »، وفي الرواية الأخرى:« شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى لها من يأباها »، أكثر ماجاء هذا الحديث من رواية مالك وغيره موقوفًا على أبي هريرة / لم يذكروا فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن عذوه في المسند:« ومن لم يات الدعوة فقد عصى الله ورسوله »، قد جاء هذا من رواية أخرى عن مالك وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« شر الطعام » الحديث، وذكر مسلم الوجهين.
فأما إن كان من قول أبي هريرة فأخبر بحال الناس، وصورة القضية عند الناس من اختصاصهم بها أهل اليسر دون أهل الحاجة، وأن الأولى كان بهذا الفقراء لسد خلتهم، وأن الخير في الأفعال كثرة أجرها، وذلك غير موجود في الأغنياء، وإنما هو نوع من المكارمة.
وإن كان رفعه هو الصحيح فهو إخبار منه - عليه السلام - عن صفة مايكون بعده. وقد كره العلماء اختصاص الأغنياء بالدعوة. واختلف إذا فعل ذلك، فقال ابن مسعود: إذا خص الغنى وترك الفقير أمرنا ألا نجيب. وقال ابن حبيب: من فارق السنة في وليمة فلا دعوة له. وقال أبو هريرة: أنتم العاصون في الدعوة. ودعا ابن عمر في وليمته الأغنياء والفقراء، فجاءت قريش ومعها المساكين، فقال ابن عمر للمساكين: هاهنا فاجلسوا، لاتفسدوا عليهم ثيابهم، فإنا سنطعمكم مما ياكلون.
وقوله في خبر عبد الرحمن بن الزبير. لم يختلف أن هذا بفتح الزاي، وهو الزبير ابن باطيا اليهودي، وابنه عبد الرحمن هذا. وهدبة الثوب: طرفه الذي لم ينسج. قال الحربي: هدبة الثوب: شيء ينقض من طوله ويفتل، قال غيره: نشبه بهدب العين وهو شعرها الذي على شفرها.(5/366)
وقوله:"حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتك"، قال الإمام: قال أحمد بن يحيى هذا كناية عن حلاوة الجماع. قال أبو بكر: شبه لذة الجماع بالعسل، وأنث لأن العسل يذكر ويؤنث، فمن أنثه قال في تصغيره: عسيلة، ويقال: إنما أنث على معنى النطفة، ويقال: إنما أنث لأنه أراد قطعة من العسل، كما قالوا: ذو الثدية، فأنثوا على معنى قطعة من الثدي.
قال الإمام: جمهور العلماء على أن المطلقة ثلاثًا لاتحل بمجرد العقد حتى يدخل بها ويطأها. وانفرد ابن المسيب ولم يشترط الوطء وحمل قوله تعالى: { حتى تنكح زوجًا غيره }، العقد دون الوطء، كما حمل قوله تعالى:{ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } على العقد. وهذا الحديث حجة عليه ؛ لأنا إن سلمنا أن النكاح ينطلق على العقد حقيقة حتى يصح دخوله في ظاهر الآية، كان هذا الحديث مخصصًا لها مبينًا للمراد بها فيرجع إليه. وقوله: «حتى تذوقي عسيلته »، تنبيه على وجود اللذة، وكنى عنها بالعسل. ولعل توحيده هاهنا بقوله:"عسيلته"، إشارة إلى الفعلة الواحدة والوقاع الواحد ؟ لئلا يظن أنها لاتحل إلا بوطء متكرر، وقد قال بعض أهل العلم: أنه لو وطئها وهي نائمة لم تحل بهذا الوطء ؛ لأنها لم تذق العسيلة، وقد شرط في الحديث ذوق الزوجين جميعًا لذلك.
واختلف عندنا، هل تحل بالوطء الفاسد في عقد نكاح صحيح ؟ فقيل: تحل لأنه يسمى نكاحًا، ولوجود اللذة به المنبه عليها في الحديث. وقيل: لاتحل ؛ لأن محمل ظواهر الشرع وألفاظه على مايصح في الشرع دون مالاً يصح.(5/367)
قال القاضي: قال بعض العلماء: ما أظن سعيد بن المسيب بلغه الحديث فأخد بظاهر القرآن وشذ في ذلك، ولم يقل أحد بقوله من العلماء إلا طائفة من الخوارج. كما شذ الحسن في قوله: لا يحلها إلا بوطء فيه إنزال، التفات إلى معنى العسيلة، وقال: هو الإنزال، وفي شكوى المرأة زوجها الذي معه كالهدبة. وجاء في غير مسلم: " مالي إليه من ذنب إلا أن ما معه ليس بأغنى عني من هذه "، وأخذت هدبة من ثوبها، فقال: كذبت، والله ! إني لأنفضها نفض الأديم، وذكره البخاري.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لها:« أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة، يعني زوجها الأول، دليل على التطليق بعدم الجماع، وأنه من حقوق الزوجة، وهو قول كافة العلماء، ونضرب في ذلك عندهم سنة يؤجل فيها للاختبار، وهذا مالم يكن مجبوبًا، أو من لايرجى منه الوطء جملة لعدم اكة ذلك عنده،فهذا يطلق عليه ولا يؤجل، وقال بعض السلف: عشرة أشهر. وخالف. داود الكافة ورأى أنه لايطلق عليه بالعنة ولايؤجل، ولم يقل به أحد من السلف إلا ابن علية والحكم قالوا: والإجماع يرد قولهم، وحجتهم: ظاهر الحديث، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطلق عليه ولا أتجله، وليس لهما فيه حجة، بل هي عليهما دليل ؛ لقوله - عليه السلام -:« أتحبين أن ترجعى إلى رفاعة »، دليل أن شكواها يوجب الفراق، ولأنه قد ناكرها في ذلك، كما ذكروا في "الموطأ" أنه طلقها، وذاك الحديث إخبار عن حال الحال بعد هذا المجلس فيؤلف بذلك بين الحديثين. وذهب مالك ومعظم أئمة الفتوى أنه متى وطئها مرة لم يؤجل ولم يكن لها قيام، وذهب بعضهم إلى أنه كلما أمسك عنها أجل سنة كالعنين، وقال أبو ثور نحوه. وتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - إما من تفطنها لمرادها الرجوع إلى زوجها الأول، أو تعجبا من تصريحها بشكواها مما عادة النساء الاستحياء منه، ألا ترى إنكار خالد قولها، وقوله:" ألا تسمع ماتجهر به عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا تزجر هذه ".(5/368)
وذكر في الباب: ثنا محمد بن العلاء، ثنا اسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة.
وقع عند العذري فيما أخبرنا به عنه الأسدي: عن هشام بن سعد، وهو خطأ، إنما هو هشام بن عروة.
قوله في الحديث:« لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدأ »، قيل لهذا الضر: هو ألا يصرع ذلك المولود، وقيل: لايطعن فيه الشيطان عند ولادته، كما جاء في الحديث. ولم يحمله أحد على العموم في جميع الضرر والوسوسة والإغواء.
وذكر مسلم سبب نزول قوله تعالى:{ نساؤكم حرث لكم } الآية، قال الإمام: اختلف الناس في وطء النساء في أدبارهن، هل ذلك حرام أم لا، وقد تعلق من قال بالتحليل بظاهر الآية، وانفصل عنها من يحرم بأن المراد بها ما نزلت عليه من السبب، والرد على اليهود فيما قالت، والعموم إذا خرج على سبب قصر عليه عند بعض أهل الأصول، ومن قال بتعذيه وحمله على مقتضى اللفظ من التعميم كانت الآية حجة له في نفى التحريم، لكن وردت أحاديث كئيرة بالمنع منه، فيكون ذلك تخصيصا للعموم بأخبار الآحاد، وفي ذلك خلاف بين الأصوليين.
وقد قال بعض الناس منتصرًا للتحريم: أجمعت الأمة على تحريم المرأة قبل عقد النكاح. واختلف بعد العقد، هل حل هذا العضو منها أم لا ؟ فيستصحب الإجماع على التحريم حتى ينقل عنه ناقل، وعكسه الاخرون، وزعموا / أن النكاح في الشرع يبيح المنكوحة على الإطلاق، فنحن مستصحبون لهذا حتى يأتي دليل يدل على استثناء بعض ا لأعضاء.(5/369)
قال القاضي: ظاهر لفظ الحديث يقتضي أنه موضع الولد. والحرث كناية عن الجماع، ويسمى به النساء ؛ لأنهن مُزدرع، و{ أنى شئتم } هنا يحتمل معنى: كيف شئتم، كما جاء في الحديث، ويحتمل: حيث ؛ إذ اللفظ يحتملهما معا. وبساط الحديث يقض بأنه كيف،وإباحة عموم صور الحرث إلا مواضعه، وجل الناس على منعه من الطاهر والحائض، وحكى بعضهم الاتفاق على منعه من الحالض. ولأصحاب الشافعي في هذا الوجه قولان، فمنهم من قال: إنه حلال منهما، ومنهم من فرق، والثالث مذهب الجمهور: المنع بكل حال.
وقوله:" مُحببة "، قال الإمام: يعني على وجهها. قال أبو عبيد في حديث عبد الله، وذكر القيامة فقال:" ويجبون تجبية رجل واحد قياما لرب العالمين "، والتجبية تكون في حالتين: أحدهما: أن يضع يديه على ركبتيه وهو قائم، والوجه الآخر: أن ينكب على وجهه باركًا. قال: وهذا الوجه هو المعروف عند الناس، وقد حمله بعضهم على أنهم يخرون سجدًا، فجعل السجود هو التجبية.
وقوله:« في صمام واحد »، أي: في جحر واحد.
قال القاضي: أصل الصمام: صمام القارورة، وهو مايشد به فمها وثقبها.
وقوله في الحديث:« إذا باتت المرأة هاجرة لفراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى تصبح »، وفي الحديث الآخر:« إلا كان - يعني الله - ساخطًا عليها حتى يرضى عنها » يعني زوجها: وعيد شديد في حق الأزواج، ولزوم طاعتهن، وأن منع الحقوق في النفوس والأموال سواء.(5/370)
وقوله:« من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم يفشي سرها »، جاء في النهي عن هذا أحاديث كثيرة، ووعيد شديد، وذلك في وصف مايفعله من ذلك وكشف حالها فيه، فإنه من كشف العورة، ولافرق بين كثف العورة بالنظر أو بالوصف، كما جاء في الحديث الآخر. وأما ذكر المجامعة والخبر عنه على الجملة فغير منكر ؛ إذا كان لفائدة ومعنى، كما قال - عليه السلام -:« إني لأفعله أنا وهذه ». وقوله:« هل أعرستم الليلة ؟»، وذكر ذلك لغير فائدة - أيضًا - ليس من مكارم الأخلاق، ولا من حديث أهل المروءات والسمت.
وقوله:« من أشر الناس »، أهل النحو يأبون أن يقال: فلان أشر أو أخير من فلان، وإنما يقال: شرٌ وخيرٌ، وهو مشهور كلام العرب عندهم، قال الله تعالى:{ من هو شرٌ مكانًا وأضعف جندًا }، وقال:{ خير عند ربك ثوابًا } الآية، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة باللفظين على وجهها، وهي حجة عليهم باستعمال الوجهي.
ذكر مسلم أحاديث العزل، وذكر سؤالهم عنه في غزوة بلمصطلق. وهي غزوة المريسيع. وكذا ذكره مسلم من رواية ربيعة، وكذا قاله أبو الزناد، قال أهل الحديث: وهو أولى من رواية ابن عقبة: أنه كان في غزوة أوطاس. قال أهل الحديث وقد ذكر مسلم رواية ابن عقبة مختصرًا وقال بمعنى حديث ربيعة، ومعنى " بلمصطلق ": أي: ببنى المصطلق.(5/371)
وقوله أردنا أن نستمتع ونعزل، فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: «لا عليكم ألا تفعلوا، فإنما هو القدر » الحديث، وفي الحديث الأخر:" فلم ينهنا "، وفي الأخر:" كنا نعزل والقرآن ينزل "، وفي الآخر:" اعزل إن شئت"، كله دليل على جواز العزل على الجملة، لكن فهم من قوله:« لا عليكم ألا تفعلوا »، الحسن وابن سيرين النهي. فقال الحسن في الكتاب: لكان هذا زجر. وقال ابن سيرين: هو أقرب إلى النهي. ومثله قوله في الحديث الأخر:« فلم يفعل ذلك أحدكم »، وفي الأخر:« وإنكم لتفعلون »، ثلاثًا: فظاهره كله الكراهة والإنكار، وقيل: قوله:« لا عليكم ألا تفعلوا » يحتمل إباحة العزل، ويحتمل إباحة غيره بدلالة قوله:« مامن نسمة كائنة إلا وهي كائنة ». وفي الحديث الأخر:« ذاك الوأد الخفي»، وذكر: {وإذا الموؤدة سئلت }، الوأد: قتل البنات الصغار كما كانت تصنع العرب، ثم استعمل في الذكور والإناث. وكانت العرب تفعله لعلتين: للغيرة علي البنات، ولتخفيف مؤن العيال، قال الله تعالى:{ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم } الأية، وليس مقتضى قوله هذا التحريم بل التشبيه، كما قيل في الرياء: " الشرك الخفى"، لكن فيه دليل الكراهة. وبكراهته قال بعض الصحابة، وباجازته قال كثير منهم، ومن التابعين وفقهاء الأمصار.
واختلفوا هل للمرأة في ذلك حق ؟ فرآه مالك والشافعي وأصحابهما حقا لها إذا كانت حرة،فلا يعزل عنها إلا بإذنها، وكأنهم رأوا الانزال من تمام لذتها وحقها في الولد، ولم يريا ذلك لازمًا في الأمة. قال مالك: إلا أن تكون زوجة فلا يعزل عنها إلا بإذن أهلها، وهذا لمراعاة حن الولد. قال بعض متأخرى شيوخنا: ورأى أيضًا إذنها في ذلك لحق عتد الزوجية، بخلاف وطنها بالملك.(5/372)
قال الإمام: إنما سألوه عن ذلك ؛ لأنه قد يكون وقع في نفوسهم أن ذلك من جنس الموءودة. وفي كتاب مسلم بعد هذا: أنه سئل - عليه السلام - عن العزل، فقال:« ذلك الوأد الخفي »؛ لأنه كالفرار من القدر، وقد كرهه ابن عمر. فأخبرهم - عليه السلام - أن ذلك جائز، وأن المقدر خلقه لابد أن يكون، فالعزل عن الحرة لايجوز إلا برضاها لحقها في الولد، والعزل عن الأمة بملك اليمين جائز من غير رضاها، ولا حق لها في وطء ولا استيلاد.
وقول الحسن:" والله لكان هذا زجر "، أي: نهي. ومعنى العزل: أن يعزل الرجل الماء عن رحم المرأة إذا جامعها حذر الحمل.
قال القاضي: / وقوله: غزونا بلمصطلق وأصبنا كرائم العرب، فطالت علينا العزبة، فأردنا أن نستمتع ": فيه حجة للجمهور في جواز استرقاق العرب ؛ لأن بني المصطلق من خزاعة. ومنع ذلك الشافعي وأبو حنيفة وابن وهب من أصحابنا وقالوا: لاتقبل منهم جزية إن أسلموا والا قوتلوا، وجاز وطء سبيهم ؛ لأنهم كانوا ممن دان بدين أهل الكتاب، والله أعلم. ولا يصح قول من زعم من الشارحين: لعلهم وإن كانوا على شرك العرب قد أسلموا، فإن في الحديث:" وأحببنا الفداء "، ولايصح استعمال هذا اللفظ فيمن أسلم، ولايجوز ولايصح قول من قال: أن كانوا على الشرك. فلعل هذا كان جائزًا أول الإسلام ثم نسخ، ويحتاج هذا إلى نقل صحيح.
وفيه حجة لما عليه جمهور الفقهاء من أن بغ أمهات الأولاد لايجوز ؛ إذ الفداء بيع، وقد تقرر عندهم منعه لسبب الحمل. وقال بعضهم: إنما فيه حجة لمنع بيعهن حبالى فقط لأجل استرقاق الولد، وهذا الذي عليه إجماع المسلمين مالم تضع.(5/373)
قال القاضي: وقوله للذى أخبره: أن جاريته التي عزل عنها قد حبلت: « قد أخبرتك أنه يأتيها رزقها »، فيه دلالة على إلحاق الولد مع العزل في الإماء والحرائر، وذلك لأن الماء يتفلت. ولم يختلف عندنا في لحاقه مع العزل إذا كان الوطء في الفرج. واختلف اذا كان الوطء في غير الفرج لفساد الماء بمباشرة الهواء، قالوا: ولو كان العزل البثن الذي لايشك أنه لم يتفلت منه شيء في الفرج لم يلحق.
وفيه حجة لمن لايرى الأمة فراشًا، وهو مذهب الشافعي. ومالك يراها فراشًا إذا عرف وطاه لها. وقال بعض أصحابه: أو كانت من العلى التي لاتراد إلا للوطء إلا أن تدعى في هذا كله استبراء على المشهور، ومن كبراء أصحابنا من قال: لاينفيه الحيض.
وذكر مسلم في الباب: ثنا أبو الربيع الزهراني وأبو كامل الجحدري، واللفظة له، قالا: ثنا حماد بن زيد، ثنا أيوب، عن محمد، عن عبد الرحمن بن بشر. هذا هو الصحيح،وهو محمد بن سيرين، وكذا لجميع شيوخنا: عن محمد بن عبد الرحس ابن بشر، وهو خطأ.
قال الإمام: وذكر مسلم في الباب: ثنا حجاج بن الشاعر، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا سعيد بن حسان - قاص أهل مكة - قال: أخبرنى عروة بن عياض بن عدي بن الخيار النوفلي. هكذا في الإسناد عروة بن عياض، وكذلك رواه ابن عيينة وأبو أحمد الزبيري،كلاهما قال: عن سعيد بن حسان، عن عروة بن عياض، مسمى. قال البخاري: عروة أخشى ألا يكون محفوظًا ؛ لأن عروة هو ابن عياض بن عمرو القارئ. ورواه أبو نعيم عن سعيد بن حسان، عن ابن عياض، ولم يسمه.
قال القاضي: وقوله:" هنا جارية هي خادمنا وسانيتنا "، أي: التي تستقي لنا. والسانية: المستقية من الدواب وغيرها. كذلك روايتنا في هذا الحرف عن جل الرواة، ووقع في بعض النسخ عن ابن الحذاء:" وسايسنا "، ومعناه: خادم الدابة، والأول أوجه وأصوب.(5/374)
وقوله:" إنه - صلى الله عليه وسلم - أتى بامرأة مُجِحٌ على باب فسطاط، فقال: لعله يريد أن يلم بها "، هذا الحرف بضم الميم وكسر الجيم وبعده حاء مهملة، قال الإمام: الْمُجِح هاهنا: الحامل التي قربت ولادتها، وإنما غلط - عليه السلام - في هذا لما استقر في شريعته من النفي عن وطء الحامل.
وقوله: " كيف يورثه وهو لايحل له ؟ كيف يستخدمه وهو لايحل له ؟ إشارة إلى أنه قد ينمو الجنين بنطفة هذا الواطن لأمه حاملاً فيصير مشاركًا فيه لأبيه وكان له بعض الولد فاذا حصلت المشاركة منع الاستخدام. وهذا مثل قوله - عليه السلام -: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر لايسق ماءه ولد غيره، وفي هذا كله دليل على أن السباء يهدم النكاح، وهو مشهور مذهبنا، سبيًا مجتمعين أو مفترقين، ويأتى الكلام عليه. قال ابن عباس: نهى- عليه السلام -وطء الحبالى حتى يضعن ما في بطونهن.
قال القاضي: هذا حكم كل حامل من وطء صحيح. واختلف في المرأه تزني فتحمل وبين حملها، هل يطؤها زوجها ؟ فأجازه أشهب، وكرهه مالك وغيره من أصحابنا. واتفقوا على كراهيته ومنعه من وطئها في ماء الزنا مالم يتبين الحمل، مع اتفاقهم أنه إن فعل فإنها لاتحرم عليه. وكذلك اتفقوا أنها لاتتزوج في استبراء الزنا أو حمله. واختلفوا إذا كان ذلك، هل تحرم عليه كالعدة الصحيحة أو لاتحرم ؟ يحرم في الحمل دون غيره.
قال الإمام: روى هذا الحديث شعبة عن يزيد بن خمير. وخمير هذا بضم الخاء المعجمة، وهو خمير الرحبي بفتح الراء والحاء المهملة بعدها باء بواحده تحتها، منسوب إلى بني رحبة، بطن من حمير، وهو رحبة بن زرعة بن سبأ الأصغر بن كعب بن زيد بن شهل.
قال القاضي: وجدت هذا الاسم مضبوطًا بالشين المعجمة، وأراه الصحيح منه.(5/375)
وقوله:« لقد هممت أن أنهى عن الغيلة » الحديث: الغيلة، بكسر الغين، إذا كانت فيها الهاء، فإن لم تدخل الهاء فهي بفتح الغين المعجمة. وقد ذكر مسلم أيضًا فيه في بعض الروايات: " الغيال " وهو صحيح. وقال بعضهم: والغيلة بالفتح: المرة الواحدة.
قال الإمام: الغيلة: الاسم من الغيل، وهو أن يجامع الرجل امرأته وهي ترضع. وقد أغال الرجل وأغيل: إذا فعل ذلك. قال ابن السكيت: الغيل: أن ترضع المرأة وهي حامل، يقال منه: غالت وأغيلت.
قال القاضي: بالأول فستر مالك في "الموطأ" الغيلة، وهو قول الأصمعي وغيره من اللغويين. قيل: ووجه كراهته خوف مضرته أن الماء يكثر اللبن، فقد يغيره. وأهل الطب يقولون: إن ذلك اللبن كاره. قال ابن حبيب: والعرب تتقيه، ولأنه يخشى أن يكون / منه حمل فلا يفطن له أولاً، فيرجع إلى إرضاع الحامل. قال ابن حبيب: سواءٌ أنزل أو لم ينزل. قيل: لعله وإن لم ينزل فقد تنزل المرأة فيضر ذلك باللبن.
وقال بعض اللغويين: الغيلة والغيلة: أن ترضع المرأة وهي حامل. وقال بعضهم: لايقال بفتح الغين إلا مع حذف الهاء، وقال بعضهم يقال: الغيلة بالفتح للمرة الواحدة. وحكى لنا شيوخنا عن أبي مروان بن سراج الوجهين مع إثبات الهاء في الرضاع. فأما الغيل فبالكسر لاغير، وقال بعضهم - وهو ابن أبي زمنين -: إن الغيلة إنما معناها من الضر، يقال: خفت غايلته، أي: ضره - وهذا بعيد، فإن الحرف إذا كان بمعنى الضر والهلاك من ذوات الواو، والاسم منه الغول، قال الله تعالى:{ لا فيها غول }، أي: لايغتال عقولهم ويذهب بها، ويصيبهم منها وجع وألم.(5/376)
وفيه من الفقه جوازه إذا لم ينه عنه - عليه السلام -، إذ رأى الجمهور لايضره وإن أضر بالقليل، وإباحته في الحديث الآخر بعد، أبين من قوله:« لم يفعل ذلك، لو كان ذلك ضارًّا ضر فارس والروم »، وتروى " ضارَّ" وهما بمعنى ضارَهُ يضره ضيرًا مخفف، وضرَّره يضره ضيرًا وضرًا. وفيه أنه - عليه السلام - كان يجتهد في الأحكام برأيه، وهي مسالة اختلف فيها أرباب الأصول، وقد تقدم منه.
وذكر مسلم اختلاف الرواة عن مالك في سند هذا الحديث في ضبط اسم جدامة بنت وهب، وضبط يحيى بن يحيى له بالدال المهملة، وقول خلف بن هشام فيه بالذال المعجمة، وكذا ذكره من غير رواية مالك، ثم قال مسلم: والصحيح ماقاله يحيى.
قال الإمام: قال بعضهم هي:" جدامة " بضم الجيم وبالدال المهملة، هكذا قال مالك. وقال سعد بن أبي أيوب، وبحيى بن أيوب: بالذال المعجمة،والصواب ماقاله مالك. وجدامة في اللغة: مالم يندق من السنبل، كذلك قال أبو حاتم، وقال غيره: إنها لحات البر، فما بقى في الغربال من قصبه فهو الجدامة.
قال القاضي: جاء في حديث سعيد في هذا الباب: عن جدامة بنت وهب أخت عكاشة. قال بعضهم: لعله أخو عكاشة، على من قال: إنها جدامة بنت وهب بن محص وقال أخرون: عكاشة بن وهب أخو جدامة آخر. وقال الطبري: جدامة بنت جندل هاجرت، قال: والمحدثون قالوا فيها: جدامة بنت وهيب. وعكاشة بن محصن، وهو بشد الكاف، كذا ضبطناه، وكذا جاء في الشعر.
وقوله وقد سئل عن العزل:« ذاك الوأد الخفى »، قال الامام: الوأد: قتل البنت وهي حية، وجاء في الحديث نهى عن وأد البنات، ومنه قوله تعالى:{ وإذا الموءودة سئلت }، قال بعضهم: سميت موءودة لأنها تثقل بالتراب فقال منه: وأدت المرأة ولدها وأدًا.(5/377)
قال: وذكر مسلم بعد هذا حديثا فيه: ثنا حيوة، ثنا عياش بن عباس: أن أبا النضر حدثه. قال بعضهم: حيوة هذا هو حيوة بن شريح التميمي، يكنى أبا زرعة، وهو عياش بالياء المعجمة باثنتين من تحتها وشين معجمة، وهو ابن عباس بالباء بواحدة والسين المهملة، وهو القباني بكسر القاف واسكان التاء منسوب إلى قتان، بطن من رعين. وعياش - هذا - رجل مصري، يكنى أبا عبد الرحيم.
قال القاضي: وذكر مسلم حديث الذي استأذن في بيت حفصة فقال - صلى الله عليه وسلم -: « أراه فلانًا »، لعم حفصة من الرضاعة، وقول عائشة: لو كان فلان حيًّا - لعمي من الرضاعة - دخل علي ؟ قال:« نعم »، ثم قال آخر الحديث:« إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة »، وقال لعائشة في حديث أبي القعيس عمها من الرضاعة:" ائذني له »، وفي بعض طرقه: فقالت: إنما أرضعتنى المرأة ولم يرضعني الرجل، فقال:« إنه عمك، فليلج عليك »، وفي الرواية الأخرى: « لا تحتجب منه، إنه يحرم من الرضاعة مايحرم من النسب »، وفي الحديث الآخر:" وكان ابو القعيس أبا لعائشة "، كذا لهم، وهو الصحيح. ورواية الباجي:" أخا عائشة "، وهو وهم، وان كان قد جاء من رواية عائشة أن أبا القعيس هو عقها من الرضاعة، والأول أصح.(5/378)
قال القابسى: هما عمان لعائشة: أحدهما: أخو أبيها أبي بكر من الرضاعة أرضعتهما امرأة واحدة. والثاني: أخو أبيها من الرضاعة يعني أخا أبي القعيس، كما قال: أرضعتك امرأة أخي. قال ابن أبي حازم هما واحد في الحديثين، والأشبه قول أبي الحسن ؛ إذ لو كان واحدا لم تحتج للامتناع منه ولحجابه بعد إعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بذلك أو نسبوا لها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمها الميت: لو كان حيا أو كان أبو القعيس هو الأول، ولاكتفت بذلك لإعلام النبي - عليه السلام - لها، حكم ذلك على أن بعضهم رجح قول ابن أبي حازم وقال: لعل عم حفصة كان خلاف عمها هي أفلح، إما أن يكون أخوهما شقيقًا والآخر لأب أو لأم فقط، أو يكون أحدهما أعلى في العمومة والآخر أدنى، أو يكون أحدهما أرضعته زوجة أخيه بعد موته والآخر في حياته، فأشكل هذا الآخر عليها في حديث حفصة حتى سالت عن حكم ذلك وحقيقته. قيل: وفي أحاديث عائشة حجة أن قليل الرضاعة وكثيرها يحرم ؛ إذا لم يقع فيها سؤال عن عدد الرضعات، واكتفى فهيها بأنه عم من الرضاعة مجملاً ولم يفصل.
قال الإمام: اختلف الناس في لبن الفحل، هل يقع به الحرمة ؟ فأوقع به ذلك جمهور الفقهاء، وذكر عن ابن عمر وعائشة وغيرهما من الفقهاء، أنه لا يؤثر ولا يتعلق به التحريم/، وحجتهم في ذلك قول الله تعالى: {وأمهاتكم اللاَّتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة }، ولم يذكر البنت كما ذكرها في تحريم النسب، ولا ذس من تكون من جهة الأب كالعمة كما ذكر ذلك في النسب. ولاحجة لهم في ذلك ؛ لأنه ليس بنص، وذكر الشيء لا يدل على سقوط الحكم عما سواه، وهذا الحديث نص فيه على إثبات الحرمة فيه لعائشة، فكان أولى بأن يقدم.
قال القاضي: لم يقل أحد من أئمة الفقهاء وأهل الفتوى باسقاط حرمة لبن الفحل إلا أهل الظاهر وابن علية.(5/379)
وجاء في كتاب مسلم في آخر الباب في حديث محمد بن يحيى: استأذن عليها أبو القعيس. والمعروف أخو أبي القعيس كما جاء في الأحاديث الأخر، وسماه فيها أفلح، وهو الأشبه عند أهل الصنعة، وجاء في حديث أبي بكر بن أبي شيبة: أفلح بن أبي قعيس، وفي حديث الحلواني استأذن علي عمي أبو الجعد، فيحتمل أنها كنيته: افلح، كما قيل: إن اسم أبي قعيس الجعد، والله أعلم. وقد تقدم الكلام في كتاب الطهارة على قوله:« تربت يمينك ».
وذكر مسلم في الباب: ثنا أبو بكر، ثنا أسامة، وحدثني أبو معمر إسماعيل بن إبراهيم الهذلى، ثنا على بن هاشم بن بريد، جميعًا عن هشام، قال الإمام: قال بعضهم: هو البريد، بباء بواحدة مفتوحة وراء مهملة مكسورة، يكنى أبا الحسن العايذي بذال معجمة وعين مهملة، مولى لهم، وهو كوفى خزاز، بخاء معجمة وزايين. روى له مسلم وحده دون البخاري.
قال القاضي: بقى إشكال في ضبطه البريد المتقدم، وذلك أن الحرف الذي بعد الراء ياء باثنتين من تحتها، وكثيرًا ما يشتبه بالبرند مثله، إلا أن الحرف الذي بعد الراء نون وهو عرعرة بن البرند. واختلف في ضبط الباقى هذا، فكثرهم يقولها بالكسر، وهو قول الدارقطني وعبد الغنى وابن ماكولا، وحكى ابن الفرضى فيه فتح الباء أيضًا كالأول.
وقول عليّ:" مالك تنوق في قريش، وتدعنا "، بفتح النون أي: يختار ويبالغ في الاختيار. والتنوق: المبالغة في الشيء، والتنقه: الاختيار، كذا رواية هذا الحرف عند أكثرهم، ووقع عند العذري والهروى وابن الحذاء: "تنوق " بضم التاء، ومعناه: يميل ويشتهي ويبرع.
وقول أم حبيبة للنبي - عليه السلام -:" أخبرت أنك تخطب درة بنت أبي سلمة " الحديث. كذا ضبطناه درة بضم الدال المهملة وهو الصحيح، ووقع في كتاب ابن أبي جعفر في حديث ابن رمح بعد هذا: " ذرة " بفتح الذال المعجمة، والصحيح ما لغيره، كما تقدم.(5/380)
وقوله:« لو لم تكن ربيبتى في حجري ماحلت لي »، قال الامام: جمهور الفقهاء على تحريم الربيبة وإن لم تكن في الحجر ويرون هذا التقييد المذكور في القرآن، وهو قوله تعالى:{ وربائبكم اللاَّتي في حجوركم من نسائكم } تنبيهًا على غالب الحال، لا على أن الحكم مقصور عليه، وداود يرى ذلك تقييدًا يتعلق الحكم به، ويحلل الربيبة إذا لم تكن في الحجر، وهكذا وقع في الحديث. وذكر الحجر في هذا الحديث يؤكد عنده ما قال.
قال القاضي: وقوله:« أرضعتني وأباها أبا سلمة ثويبة »، بضم الثاء المثلثة أولاً بعد الراو رباء التصغير بعدها بالواحدة. وثويبة هذه مرلاة أبي لهب، وكانت أرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة.
وقوله:" لست لك مخلية ": بضم الميم وسكون الخاء، أي: خالية من ضرة غيري.
وقوله:« لاتعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن »، دليل أن أم حبيبة حين سألته نكاح أختها وذكرت له خبر بنت أبي سلمة لم يكن عندها علم من تحريم الجمع بين الأختين، ولا من تحريم نكاح الربيبة - والله أعلم -. وكذلك علي - صلى الله عليه وسلم - في ذكره له بنت حمزة، يحتمل أنه لم يعلم حينئذ حكم تحريم لبن الفحل، أو لم يكن عنده علم من كون حمزة أخا للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة.
وقوله:« لا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن »، إشارة إلى المرأتين المذكورتين في الحديث: عزة أخت أم حبيبة، ودرة بنت أم سلمة وأمثالهما، وعزة هذه لا تعرت في بنات أبي سفيان، ولا تعلم إلا من هذا الحديث.(5/381)
وقوله:« لا تحرم المصة ولا المصتان »، وفي الرواية الأخرى:« الإملاجة والإملاجتان »، وفي الأخرى: هل تحرم الرضعة ؟ فقال:« لا »، قال الإمام: اختلف الناس في القدر الواقع به الحرمة من الرضاعة، فمذهب مالك:أنه يقع مما قل أو كثر مما وصل إلى الجوف، لقوله سبحانه:{ وأمهاتكم اللاَّتي أرضعنكم }، والمصة توجب تسمية المرضعة أما من الرضاعة، وقد قالوا في الجواب عن هذا: إنما يكون ما قلتموه دليلاً لو كان صيغة اللفظ: واللاَّتي أرضعنكم أمهاتكم. فيثبت كونها أما بما قال من الرضاعة. قلنا: مفهوم الكلام: وأمهاتكم اللاَّتي أرضعنكم لأجل أنهن أرضعنكم، فيعود هذا إلى معنى ما قالوه، وتوجب تعليق الحكم بما يسمى رضاعًا.
وذهب داود إلى اعتبار ثلاث رضعات لأجل هذا الحديث، وقد نص فيه على سقوط الحرمة بالرضعة والرضعتين. ونقول: لو سلمت كون القرآن ظاهرًا فيما قلتم لكان هذا مبينًا له، وبيان السنة أحق أن يتبع.
وقد وقع في بعض الأحاديث:« إنما الرضاع ما فتق الأمعاء »، ووقع: «ما أنشز اللحم » بالراء والزاي، فبالراء معناه: شدّه وأنماه، وأنشر الله الميت: أي: أحياه. وبالزاى معناه: زاد فيه وعظمه، مأخوذًا / من النشز وهو الارتفاع، وقرئ في السبع:{ إلى العظام كيف ننشزها } بالراء والزاي، وهذا يقوى عند داود نفي الحرمة بالمصة والمصتين ؛ إذ لا يفتقان الأمعاء ولا ينشزان العظم، وهذا لم يسلمه له أصحابنا، وزعموا أن للمصة الواحدة قسطًا في فتق الأمعاء ونشز العظم.(5/382)
وعند الشافعي: لا تقع الحرمة بأقل من خمس رضعات، وحجته في ذلك: ما رواه مسلم بعد هذا عن عائشة - رضى الله عنها - أنها قالت: "كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن خمس معلومات، فتوفى رسول الله ا- صلى الله عليه وسلم - وهي فيما يقرأ من القرآن ". وقد شذ بعض الناس - أيضًا - ورأى التحريم لا يقع إلا بالعشر، وهذا الحديث لاحجة فيه؛ لأنه محال على أنه قرآن، وقد ثبت أنه ليس من القرآن الثابت، ولا تحل القراءة به ولا إثباته في المصحف ؛ إذ القرآن لا يثبت باخبار الاحاد، وهذا خبر الواحد فيسقط التعلق به.
فإن قيل: هاهنا وجهان: أحدهما: إثباته قرانًا، والثاني: إثبات العمل به في عدد الرضعات، فإذا امتنع إثباته قرانًا نفى الآخر وهو العمل به لا مانع يمنع منه ؛ لأن خبر الواحد يدخل في العمليات، وهذا منها. قلنا: هذا قد أنكره حذاق أهق الأصول وإن كان قد مال إليه بعضهم، واحتج المنكرون له بأن خبر الواحد إذا توجهت عليه القوادح واستريب توقف عنه، وهذا جاء آحادًا، وإنما جرت العادة أنه لايجىء إلا تواترأ، فلم يوثق به كما وثق بإخبار الآحاد في غير هذا الموضع، وان زعموا.أنه كان قرآنا ثم نسخ، ولهذا لم يشتغل به أهل التواتر. قيل: قد كفيتم مؤنة الجواب ؛ إذ المنسوخ لا يعمل به، وعليه يحمل عندنا قول عائشة: "فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي فيما تقرأ من القرآن "، يعني من القرآن المنسوخ، فلو أرادت: فيما تقرأ من القرآن الثابت لآشتهر غد غيرها من الصحابة كما اشتهر سائر القرآن.(5/383)
وقوله:« الإملاجة والإملاجتان »، قال أبو عبيد: يعني المصة والمصتين. والملج: المص، يقال: ملج الصبي أمه يملجها وملج يملج، وأملجت المرأة صبيها، والإملاجة: أن يمص لبنها مرة واحدة، وأما " الرضاعة " فقال ابن السكيت وغيره: فيها لغتان: كسر الراء وفتحها، وكذلك الرضاع، وقد رضع بفتح الضاد وبكسرها لغتان، ورضع بضم الضاد إذا كان لئيما فهو راضع، وجمعه رضع، ومنه قول ابن الأكوع:
واليوم يوم الرضع
أي: بعد هلاك اللئام. وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« الرضاعة من المجاعة »، أي: أن الذي يعني من الجوع اللبن هو الرضيع الذي له حرمة.
قال القاضي: تكلم أصحابنا على حديث المصة والمصتين، قالوا: لعل هذا حين كان يعتبر في التحريم العسر والعدد قبل نسخه، وأما من قال: إنه من قول عائشة فلا يسلم له ؛ إذ قد روى عنها مرفوعا من طرق صحاح وعن الزبير وغيرهما. وذكره مسلم من رواية أم الفضل أيضًا، وعلله بعضهم بالاضطراب عن عائشة في أحاديث الرضاع، وأن ابن الزبير قال في حديثها هذا مرة عنها، ومرة عن أبيه، ومرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لما اضطرب رجعنا إلى عموم ظاهر القرآن ومفهوم الاعتبار وتنزيل النبي - صلى الله عليه وسلم - له منزلة تحريم النسب، وليس لذلك عدد إلا مجرد الوجود فكذلك الرضاع، وقياسًا على تحريم الوطء بالصهر وغير ذلك، ولا اعتبار فيه بعدد.
قال الامام: وأخرج مسلم في الباب: ثنا حبان، عن همام. وحبان هذا بحاء مهملة مفتوحة وباء منقوطة بواحدة،وهو حبان بن هلال الباهلي البصري، يكنى أبا حبيب، يروى عن همام بن يحيى وشعبة وغيرهما.(5/384)
وقوله في حديث سالم:« أرضعيه »، فقالت: كيف أرضعه وهو رجل كبير ؟ الحديث، قال الإمام: اختلف الناس في رضاع الكبير، فجمهور العلماء على أنه لا يؤثر. وذهب داود إلى أنه يؤثر لأجل هذا الحديث، وقد قال فيه:« أرضعيه تحرمي عليه »، وحمله الجمهور على أن ذلك من خصائص سهلة، وقد ثبت أن أم سلمة وسائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - منعن أن بدخل عليهن بتلك الرضاعة أحدٌ، وقلن لعائشة:إنه خاص في رضاعة سالم وحده. ولنا على داود قول الله تعالى:{ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد آن يتم الرضاعة }، وتمامها بالحولين على ظاهر القرآن يمنع أن يكون حكم ما بعد الحولين كحكم الحولين، وهذا ينفي رضاعة الكبير. وقد قال في كتاب مسلم بعد هذا:« إنما الرضاعة من المجاعة » لما وجد رجلاً عند عائشة، فقالت: يارسول الله، أخي من الرضاعة، فقال:« انظرن إخوتكن من الرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة »، وفي بعض الأحاديث في غير كتاب مسلم:« لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء والثدي وكان قبل الفطام »، وهذا ينفي رضاعة الكبير.
وعندنا في الرضاع بعد الحولين اضطراب في المذهب، هل الأيام اليسيرة حكمها حكم الحولين أو الشهر ؟ وقيل غير ذلك في المذهب، وهذا كله راجع عندي إلى خلاف في حال، وهو القدر الذي جرت العادة فيه باستغنائه بالطعام عن الرضاع. وقد قال أبو حنيفة: أقصاه ثلاثون شهرًا، وليس كما قال.(5/385)
وقوله تعالى:{ وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا }، أمر تضمن أقل الحمل وأكثر الرضاع، فلا معنى لاعتباره في الرضاع وحده. وقال زفر: ثلاث سنين. والتحقيق في ذلك ما قلناه أولاً ؛ من اعتبار حال استغنانه بالرضاع عن الطعام على أصل المذهب. وتضمن أيضًا قوله:« إنما الرضاع ما فتق الأمعاء »، و « إنما الرضاعة من المجاعة » الرد على داود في قوله: لا يحرم الرضاع حتى / يلتقم الثدي، ورأى أن قوله سبحانه وتعالى:{ وأمهاتكم اللاَّتي أرضعنكم }، إنما ينطلق على ملتقم الثدي. وقد نبه على اعتبار ما فتق الأمعاء، وهذا يوجد في اللبن الواصل إلى الجوف صبًّا في الحلق أو التقامًا للثدي، ولعله هكذا كان رضاع سالم، يصبه في حلقه دون مسه ببعض أعضائه ثدي امرأة أجنبية.(5/386)
قال القاضي: قوله في الحديث:« أرضعيه يذهب ما في نفس أبي حذيفة»، وفي الطريق الآخر:« تحرمي عليه »، قد حملها أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - على الخصوص كما تقدم، بدليل الكتاب لقوله:{ حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة }، وبدليل الحديث الآخر، قوله:« لا رضاع بعد فطام »، وقوله: « إنما الرضاعة من المجاعة »، ولأن الخطاب في سالم قضية في عين لم يأت في غيره، وسبق له تبن وصفة لا توجد بعد في غيره، فلا تقاس عليه، مع ما لأمهات المؤمنين من شدة الحكم في الحجاب واختصاصهن بالتغليظ في ذلك، وقد جاء في "الموطأ"، والبخارى وغيرهما: أن أبا حذيفة كان تبناه في الجاهلية، وهو سالم ابن معقل مولى سلمى بنت يعار الأنصارية، زوج أبي حذيفة قبل سهلة بنت سهيل. وقيل في اسمها غير هذا، ودليل مذهب عائشة عند بعضهم: أنها إنما أخذت بذلك في الحجاب خاصة دون التحريم، ألا ترى قولها:" فكانت تأمر بذلك من يجب أن يدخل عليها من الرجال ". قال ابن حبيب: وقد رأى كثير من العلماء رضاعة الكبير في الحجاب به لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - جائزة، وفيما بين المسلمين محرمة. وأجمعوا على أن تحريمها في النكاح ليس كتحريمها في الحجاب والحرمة، قال ابن المواز: لو أخذ بهذا في الحجابة لم أعبه وتركه أحب إلن، وما علمت من أخذ به عاما إلا عائشة. قال الباجي: قد انعقد الإجماع على خلاف التحريم برضاعة الكبير، يعني: لأن الخلاف إنما كان فيه أولاً ثم انقطع، وهو معنى قول ابن حبيب. قال بعضهم: وحملوا ما جاء في ذلك من حديث سالم على الخصوص أو على النسخ.
وقول ابن أبي مليكة في حديثه عن القاسم: فمكثت سنة أو قريبًا منها لا أحدث به رهبة: أي: من خوفه ومن أجل خشيته. وانتصب على عدم الخافض.(5/387)
وقول أم سلمة لعائشة: " يدخل عليك الغلام الأيفع "، قال الإمام: هو الذي شارف الاحتلام ولما يحتلم، وجمعه أيفاع، وقد أيفع الغلام فهو يافع، ويفع الغلام أيضًا لغة، وغلام يافع ويفعة. فمن قال: يافع ثنى وجمع، ومن قال: يفعه كان في الاثنين والجمع بلفظ الواحد. ويروى ابن شهاب بعد هذا حديثا عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة عن أمه زينب. قال بعضهم: أبو عبيدة هذا لايوقف على اسمه، وهو أبو عبيدة بن عبد الله ابن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي.
قال القاضي: وقوله:" فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة، ولا رائينا "، أحد مرفوع بدل من هو على مذهب نحاة أهل البصرة، وقد يكون فاعلاً بداخل على مذهب أهل الكوفة، ويكون هو فا بمعنى الأمر والثبات.
وقوله في سبي أوطاس: فكان ناسًا تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله تعالى في ذلك:{ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم }، معنى " تحرجوا ": خافوا الحرج والإثم.
وقوله في الحديث الآخر:" تجوبوا، بمعناه: أي: خافوا الجوب وهو الإثم. كذا رواه في حديث يحيى بن حميد: عبد الله بن سعيد، ورواه السمرقندي:" تحرجوا " مثل الأول، وعند غيرهم:" تخوفوا "، وكله بمعنى. وغشيانهن: أي: جماعهن.
قال الإمام: السبي عندنا في المشهور يهدم النكاح بهذه الآية، وسواء سمي الزوجان معًا أو مفترقين. وقال ابن بكير عن مالك: إن سبيا جميعًا واستبقى الرجل أقرا على نكاحهما. ووجه المشهور من جهة الاعتبار أن بسبيها ملكت منافعها ورقبتها، فسقط ملك الزوج عن ذلك ؛ لاستحالة ملك واحد بين مالكين هاهنا، وكأنه رأى - أيضًا - أنها إذا جاءت بأمان ثم سبى الزوج، كان تمكينه منها عيب على سيده، ولسيده أن يمنعه كما يعيبه. فلهذا لم يفترق الحال في المذهب المشهور.(5/388)
ورواية ابن بكير اعتل لها في كتابه بانهما إذا سبيا معا واستبقى الرجل فقد صار له علينا عهد للموضع، هذا العهد وجب أن يكون أحق بها من المالك. هذا الذي اعتل به ابن بكير. ويحتمل عندي أن يحمل على أنهما لما أقرا لزم إقدار ما في يد الزوج من العصمة ؛ لأن إقرار الزوج إقرار لما يملك حتى ينتزع منه في ثاني حال، وهذا الملك لا يصح انتزاعه في ثاني حال.
وقد اختلف الناس - أيضًا - في الأمة إذا بيعت وهي تحت زوج، هل يكون بيعها فسخا لنكاحها ؟ فأبى من ذلك مالك وجمهور الفقفاء، وذهب بعض الصحابة إلى أن ذلك فسخ للنكاح ؛ أخذًا بعموم هذه الآية، وهو قوله تعالى:{ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم }، ولم يفرق بين ما ملكت أيماننا سبي أو شراء، وهذا على عمومه عندهم. وتحقيق القول في هذه المسألة: أن هذا عموم خرج على سبب، فمن رأى قصر العموم إذا خرج على سبب لم تكن فيه حجة على جمهور الفقهاء ؛ لأنه كأنه قال:{ إلا ما ملكت أيمانكم } بالسبي. وإن قلنا: إن العموم إذا خرج على سبب يجب حمله على مقتضى اللفظ في التعميم، اقتضى ذلك فسخ نكاح الأمة / بالشراء كما ينفسخ بالبيع، لكن حديث بريرة في شراء عائشة لها ثم لم يفسخ ذلك نكاحها، بل خيرها - عليه السلام - لما عتقت في فسخ النكاح، ذلك على أن البيع لا يفسخ نكاح الأمة ذات الزوج، ولكن هذا خبر واحد في تخصيص عموم القرآن، فهل تختص به أم لا ؟ فيه خلاف بين أهل الأصول، فعلى هذا يخرج اختلاف العلماء في ذلك. وقد قال بعض أهل العلم مفرقًا بين السبي والشراء، بأن السبى حدوث ملك لم يكن أو كأنه لم يكن، والشراء انتقال ملك إلى ملك، فكان الأول أثر نقصًا فأثر في النكاح نقصًا، والثاني لم يحدث ملكًا ولم يكن فلم يؤثر.(5/389)
قال القاضي: وقوله:« فهن حلال لكم إذا انقضت عدتهن » دليل صحة أنكحة أهل الشرك ولحوق الأنساب بها، ولولا ذلك لم يحتج إلى العدة. ووقع في بعض الروايات:" يوم خيبر "، وهو خطأ، والصواب: يوم حنين "، كما في أكثر النسخ، وكذا عند عامة شيوخنا، وهو يوم أوطاس.
قال الإمام: خرَّج مسلم هذا الحديث من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي علقمة الهاشمى، عن أبي سعيد الخدري، ثم أردفه بحديث شعبة عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي سعيد. فلم يذكر أبا علقمة في حديث شعبة، وقال بعضهم: كذا في نسخة الجلودي وابن ماهان، وكذلك خرجه أبو مسعود الدمشقى، وأما في نسخة ابن الحذاء ففيها ذكر أبي علقمة بن أبي الخليل وأبي سعيد، ولا أدري ما صحته. قال القاضي: هذا قول الجياني، وقد قال غيره: إن إثباته الصواب.
وذكر مسلم أحاديث اختصام سعد بن أبي وقابر وعبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة ؛ وقول سعد:" ابن أخى عهد إلى أنه ابنه، انظر إلى شبهه "، وقول عبد:" أخي، ولد على فراش أبي من وليدته "، وقوله:" فرأى - صلى الله عليه وسلم - شبهًا بينًا بعتبة "، وقوله:« هو لك يا عبد، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه ياسودة »، قالت: فلم ير سودة قط، قال الامام: يتعلق بهذا الحديث فصول، منها: بماذا تكون الأمة فراشًا ؟ وبماذا تكون الحرة فراشًا ؟ وما الفرق بين الحرة والأمة في ذلك ؟ فأما الحرة فتكون فراشًا بالعقد وهذا متفق عليه.
قال القاضي: هذا لشريطة إمكان الوطء ولحوق الولد في مدة يلحق الولد من مثلها، هذا قول عامتهم، وشذ أبو حنيفة فشرط مجرد العقد وقال: لو طلق عقيب العقد من غير إمكان وطء، فجائت بولد لستة أشهر من حينئذ لحق به. قال الإمام: وأما الأمة فإنها تكون فراشًا بالوطء عندنا، فإذا جاءت بولد بعد اعترات سيدها بوطنها وثبوت ذلك عليه إن أنكره لحق به الولد إلا أن ينفيه بعد دعوى الاستبراء فينتفى منه.(5/390)
واختلف في يمينه ذلك على قولين. وقال أبو حنيفة: إنما يكون فراشًا إذا ولدت ولدا سيلحقه، فما جاءت به بعد ذلك فهر ولده إلا أن ينفيه، وتعلق في ذلك بأن الأمة لو كانت فراشًا بالوطء لكانت فراشًا بالعقد كالحرة، وبأن ذلك يوجب أن يتعلق بها ما يتعلق بالحرة من الأحكام على صاحب الفراش، وهذا الذي قاله غير صحيح ؛ لأن الحرة إنما تراد للوطء خاصة، فالعقد على نكاحها أنزل في الشرع منزلة وطنها. ولما كان هذا المقصود به والأمة تشتري الأشياء كثيرة غير الوطء، فلم يجعل العقد عليها يصيرها فراشًا، فإذا حصل الوطء ساوت الحرة هاهنا فكانت فراشًا.
وهذا هو الجواب عن السؤال الثالث الذي ذكرناه وهو التفرقة بين الحرة والأمة في الفراش. وهذا التعليل قاد بعض شيوخنا إلى زعم أن الشاب العزب إذا اشترى جارية عليه لا تراد غالبًا إلا للتسري، وفهم أن ذلك غرضه منها، وظهر من الحال أنه يسلك بها مسلك السرية، فإنها تكون فراشًا وإن لم يثبت وطئها، ورأى أن هذه الأوصاف تلحقهما بالحرة وترتفع منها العلة المفرقة بين الحرة والأمة. وتعلق بعض الشيوخ في نصرة هذا المذهب، كما وقع في كتاب العدة من المدونة في أم الولد إذا مات زوجها وسيدها، ولم يدر أولهما موتا، فان عليها أقص الأجلين مع حيضة إذا كان بين المرتين أكثر من شهرين وخمس ليال، ورأى أنه إذا أمكن أن تحل لسيدها علق على ذلك الحكم المتعلق بوطئها. وانفصل بعضهم عن ذلك بأن أم الولد قد صارت كخزانة لسيدها بما تقدم من استيلادها فبهذا لم يعتبر اعترافه بالوطء بعد رجوعها إليه عن عصمة زوجها بخلاف الأمة التي لم تلد قط.(5/391)
وقد تنازع في هذا الحديث أصحاب أبي حنيفة وأصحاب مالك، فقال أصحاب مالك: فإن الولد هاهنا ألحق بزمعة ولم يثبت أن هذه الأمة ولدت منه فيما قبل، فدل ذلك على بطلان قول أبي حنيفة: أن الولد لا يلحق إلا إذا تقدمه ولد مستلحق. وقال أصحاب أبي حنيفة: فإن هذا الحديث لا حجة لكم فيه ؛ لأنه لم يذكر - أيضًا - أن زمعة اعترف بوطئها، وإنما ذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - ألحقه بزمعة، وهذا الظاهر لم يقل به أحد منا ولامنكم فوجب ترك التعلق بهذا الحديث.
والجواب عن هذا: أن مجمله على أن زمعة علم - صلى الله عليه وسلم - لخه بها باعترافه عنده - عليه السلام - أو باستفاضة ذلك عنه. وهذا التأويل يضطرنا إليه ما ذكرتموه من اتفاقنا على مع إلحاق ولدها بالميت إلا بعد سبب ما. ولكن / اختلافنا في السبب ما هو ؟ فقلنا: اعترافه بالوطء، وقلتم: استلحاق ولد قبل هذا وولد قبل هذا، معلوم أنه لم يكن، واعتراف زمعة بالوطء لا يصح دعوى العلم بأنه لم يكن، فامتنع تأويلكم وأمكن تأويلنا، فوجب حمل الحديث عليه.
ويتعلق بهذا الحديث فصل آخر وهو: استلحاق الأخ لأخيه، وعندنا أن ذلك لا يصح، وعند الشافعي أنه يصح إذا لم يكن وارث سواه. ويتعلق الشافعي بظاهر هذا الحديث، فإنه لم يثبت أن زمعة ادعاه ولدًا، ولا أنه اعترف بوطئه، فدل ذلك على أن المعول عليه كان على استلحاق أخيه له.
وهذا لا نسلمه، لما قدمناه من أنه يمكن أن يكون - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنده وطء زمعة فالحق الولد لأجل ذلك، ومن ثبت وطؤه لا يفتقر عندنا إلى اعترافه، وإنما يصعب هذا على أصحاب أبي حنيفة ويعسر عليهم الانفصال عما قاله الشافعي ؟ لما قررناه من أن ولدًا سابقًا لم يكن والوطء لا يعتبرونه، فلم يبق لهم إلا تسليم ما قاله الشافعي لما ضاقت عليهم الحيل في هذا الحديث لما قررناه.(5/392)
قال بعضهم: فإن الرواية في هذا الحديث:« هو لك عبد »، وأسقط حرف النداء الذي هو " يا "، قالوا: وإنما أراد - صلى الله عليه وسلم - أن الولد لا يلحق بزمعة، وأنه ابن أمته و " عبد " هو وارثه، فيرث هذا الولد وأمه. وهذه الرواية التي ذكروها غير صحيحة ولو صحت لرددناها إلى الرواية المشهورة وقلنا: ليس الأمر كما فهمتم، لي انما يكون المراد: ياعبد، فحذف حرف النداء كما قال تعالى:{ يوسف أعرض عن هذا }، فحذف حرف النداء، ولأجل الاشتراك وقع عليهم الغلط، هل المراد عبد بمعنى: قن ؟، أو المراد عبد اسم لهذا الرجل منادى بحذف حرف النداء ؟
وكذلك دعواهم في بعض الطرق: أنه لما أمر سودة بالاحتجاب، قال: " ليس بأخ لك "، رواية لا تصح وزيادة لا تثبت. فإن قيل: لو لم تكن ثابتة لما أمرها بالاحتجاب. قيل: ذلك على جهة الاحتياط، لما رأى الشبه بعتبة، وقد جعله بعض أصحابنا أصلا في الحكم بالشىء بحكم واحد بين الحكمين لأنه ألحقه بزمعة، وذلك يقتض ألا يكون تحتجب سودة منه، وأمر سودة بالاحتجاب، وذلك يقتضي ألا يكون ولدًا لزمعة ولا أخًا لسودة، ولكنه قض في الإلحاق لحكم الفراش وقضى في الاحتجاب بحكم الاحتياط.(5/393)
وقد كان عارض من أصحابنا الشافعي فيما عول عليه بأن سودة بنت زمعة، فلم يثبت استلحاق عبد لهذا الولد دونها، والولد إنما يستلحق إذا استلحقه جميع الورثة، وعبد ليس لجميع الورثة. وانفصلت الشافعية عن هذا بأن زمعة مات كافرًا وسودة مسلمة لم ترثه، فصارت كالعدم. فانحصر الأمر إلى ولد وعبد، فصار كأنه جميع الورثة، وأجاب أصحابنا بأنها ابنته، وإنما منعت ميراثه لاختلاف الدينين، فكان الواجب اعتبار رضاها بهذا النسب، وألا تلحق عليها أخوها ما لم ترضه. وقد سلم ابن القصار عنا أنا نقول: إن جميع الورثة إذا اعترفوا بإلحاق النسب بالميت وإن لم يكونوا عدولاً، وزعم أن ذلك مذهبنا. قال: والقياس خلافه. وهذا عندي وهم منه على المذهب، وإنما هذا مذهب الشافعي كما قدمناه عنه.
ورأى الشافعي أن الورثة إذا أجمعرا حلوا محل الميت، وإذا اختلفوا لم يصح أن يحلوا محل الميت، مع اختلافهم. ولعل ابن القصار رأى شيئًا في المذهب تأول منه على المذهب هذا الذي ذكرناه عنه.
وقد قال بعض أصحابنا في الرد على الشافعي: لو كان جميع الورثة إذا أجمعوا على إلخاق نسب بالميت لحق به وحلوا محل الميت، للزم إذا أجمعوا على نفى حمل أمة وطئها أن ينتفي عن الميت حملها، ويحلون محل الميت في ذلك كما حلوا في استلحاق النسب، فيجب أن يحلوا محله في نفي النسب، وهذا لا يلزمه لأن هذا الحمل أحد الورثة ومن أصله أ مراعاة إجماع جميع الورثة، فإجماعهم في استلحاق يمكن، وفي هذا النفى يستحيل، فلهذا افترقًا.(5/394)
وقد تعلق بهذه المسألة التي نحن فيها اعتراف بعض الورثة بوارث ؛ مثل أن يعترف أحد الأخوين بأخ ثالث، وهذه مسألة اختلاف أيضًا. فعندنا أن المقر يعطيه ما فضل في يده، مما لو قسمت التركة على الجميع لاستحقه هذا المقر له من يد هذا المقر، وقال بعض أصحابنا: بل يساويه فيما في يده وتقدر ما أخذ سائر الورثة كأنه لم يكن، وكان الجائحة فيه على المقر والمقر له متساوية لتساويهما في النسب، ولا معنى لتفضيل أحدهما على الآخر، وكأنه في القول المشهور الذي قدمناه رأى أن الجائحة لا يختص بها هذان الوارثان، وكان المقر إنما اعترف له.بالفاضل خاصة فلا يزداد عليه.(5/395)
وذهب بعض الناس إلى طريقة ثالثة وهي: أن هذه الفضلة التي قالها الأولون لا يختص بها المقر له بل يأخذ لها نصفها، وياخذ بقية الورثة النصف الآخر. ووجه هذا عندي أن المقر تضمن إقراره شيئين: أحدهما: أن الفضلة لا يستحقها في نفسه، والثاني: أن مستحقها هذا المقر له، فيقول له بقية الورثة: أنت إذا اعترفت بأنك لا تستحقها عادت على ملك ميتنا، واذا عادت على ملك ميتنا وجب أن ترثها ورثته، ونحن ورثته، ونحن نستحقها، أو يقول المقر له: بل أنا المستحق لها لاعتراف من سلمتموها له أنها لي دونكم، ولو لم يعترف لم يكن لكم / طريق إليها، فيصير ذلك كما لو يتداعاه رجلان، فيقسم بينهمانصفين. وذهب الشافعي إلى أن المقر له لا يستحق شيئًا، ووجه هذا: أن نسبه لم يثبت، والميراث إنما يكون ثابتًا بعد ثبوت النسب وهو فرع عنه، واذا سقط الأصل سقط فرعه، وما أبنى عليه. وهذا يضارع طريقة أشهب عندنا إذا شهد له شاهد بالنسب أنه لا يأخذ المال، قال: لأن المال وإن قضى فيه بالشاهد الواحد فالنسب لا يقضي فيه بالواحد، والمال فرع عن النسب، واذا لم يثبت الأصل لم يثبت الفرع، وإنما أردنا بما ذكرناه عن أشهب التنبيه على تناسب الطريقين لا إلزامه أن يقول بمذهب واحد في المسالتين. وفي قوله في الحديث: إنه أمرها بالاحتجاب لشبهه بعتبة، دلالة على القضاء بالاشتباه وتقوية القول بالقافة.(5/396)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« وللعاهر الحجر »، العاهر: الزاني، وقيل: معناه: أن الحجر يرجم به الزاني المحصن، وقيل: معناه: الزاني له الخيبة ولا حظ له في الولد ؛ لأن العرب تجعل هذا مثلا في الخيبة، كما يقال: له التراب إذا أرادوا الخيبة. والعهر: الزنا، ومنه الحديث: " اللهم أبدله بالعهر العفة "، وقد عهر الرجل إلى المرأة يعهر: إذا أتاها للفجور، وقد عهرت وهي تعيهرت: إذا زنت. قال الإمام: قد أشبعنا الكلام على هذا الحديث، ولم يجمع فيه أحد من المصنفين فيما علمت هذا الفصول كما جمعناه هاهنا، والله الموفق.
قال القاضي: كانت سنة الجاهلية إلحاق النسب بالزنا، وكن يساعين الإماء ويستأجرونهن لذلك، فمن اعترفت الأم أنه ابنه لحق به، فجاءت سنة الإسلام بإبطال ذلك والحاق الأنساب بالعقود الصحيحة والأفرشة الثابتة، لابطريق الزنا. فلما تخاصم سعد وعبد، وقام سعد بما عهد به إليه أخوه عتبة من سيرة الجاهلية إذ مات مشركًا، ولعل إلحاقه به مدة الجاهلية لم يكن قبل، إما لأن الأم لم تعترف له به، أو لأن الدعوى فيه لم تكن إلا بعد الإسلام، أو لأن إلحاقه مع منازعة المالك فيه كان عندهم لا يصح، وإلا فلو صح استلحاقه له قبل ولم ينازع فيه لمضى النسب له على الأصل في إلحاق أنسابهم وما لاطوه بانفسهم. وقد قال ابن كنانة وابن القاسم من أصحابنا: إن دعوى الجاهلية والمتحمل بعد إسلامه ولدا من الزنا يلحق به، وما لم يكن ثتم دعوى أقوى من فراش زوج أو سيد. واحتج عبد لحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - وشريعته من قوله: " أخى ولد على فراش أبي"، فحكم له النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى شريعته، وأبطل سنة الجاهلية. وفي قوله: " الولد للفراش " مع قوله:"رأى شبهًا بينا "، دليل على أن الشبه وحكم القافة لا يكرن إلا عند عدم ما هو أقوى منه من الأدلة، فأما مع وجوده فلا اعتبار له كما يحكم به في مسألة المتلاعنين. وقد جاء على الشبه المكروه.(5/397)
ولحكمه بالفراش هنا قيل: وفيه القضاء في المسألة بحكمين إلحاق الولد بالفراش ثم الحكم بالحجاب للشبه، وهذا - والله أعلم - هنا على الاستحباب وخاصة في حق سودة لعظم حقوق أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وزيادتهن على غيرهن في وجوب الحجاب عليهن وتغليظه فيهن ؛ إذ لا يحرم وطء الزنا شيئًا ولا يوجب حكما ولا يقع به حرمة على صحيح مذهب مالك وقول الشافعي وأبي ثور.
وذهب أهل الرأي والثوري والأوزاعي وأحمد إلى محريمه بذلك وأنه مجرى الوطء الحلال في التحريم منه، واحتجوا بهذا الحديث، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لسودة بالاحتجاب منه، وهو أحد قولى مالك. وحملوا أمره هنا على الوجوب، والأول حملوه على الاستحباب والاستظهار كما تقدم، إلا ما ذهب إليه جمهررهم من نكاح الإبنة من الزنا. وعبد الملك ابن الماجثون يجيز ذلك طردًا للأصل لرابطالأ لحكم الحرام.
وقال المزني: يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أجابهم عن المسألة وأعلمهم بالحكم أنه كذلك يكون، إذا ادعى صاحب الفراش الولد وصاحب الزنا، لا على أنه يلزم عتبة دعوى أخيه سعد، ولا يلزم سعد دعوى ابنه عبد، وبين ذلك بقوله:« احتجبي منه ».(5/398)
وإلى هذا ذهب الباجي وقال: هذا أصح الأقوال، وذهب أن قوله:« هو لك ياعبد »، أي: عبد لما لم يثبت نسبه، وإنما أقر له عبد بالأخوة، فبقي ملكًا له ؛ لأنه ابن مملوكة أبيه، فلم يكن بذلك أخًا لسودة، ولا يثبت بينهما بذلك توارث ولا حكم إذ لم يثبت اعترات زمعة به، قال: ولو كان استلحقه بزمعة لما نهى عنه سودة ولا أمرها بقطع رحمه، وقد خصهن على مداخلة الأخ والعم من الرضاعة وأمر عائشة أن يلج عليها عمها، وقول عائشة في العلة، لما رأى من شبهه بعتبة تأويل منها، إذ قد يكون على تكيد المنع، فهذا كله يكرن أمره بالاحتجاب عند هؤلاء واجبًا لا احتياطًا. قيل: وفي هذا الحديث أن القضاء بالظاهر لا يحل الأمر في الباطن، كما جاء في الحديث الآخر المشهور ؛ لأنه هنا حكم بالولد لزمعة وأمر أخته بالاحتجاب منه للشبه، ولو كان الحكم والقضاء يحل ويرفع الحرج لم يحتج إلى هذا.
واختلف في قوله: " الولد للفراش "، فأصحاب أبي حنيفة يحملونه على أن المراد صاحب الفراش، ولذلك لم يشترطوا، وإن كان الوطء في الحرة واحتجوا بقول جرير: باتت تعانفه وبات فراشها خلق أتعباه في التراب قتيلاً / يعني زوجها. وعند الجماعة: أن الفراش هنا كما يعبر به عن الزوج يعبر به عن الزوجة، والأظهر إنما يعبر به عن الفراش المعروف، وأنه المراد به هنا، وهي حالة الافتراش: أي: الولد،للحالة التي يكون فيها الافتراش، فيفهم من هذا مقصد تأتى الوطء، وعلى هذا يأتي قوله - عليه السلام - في ابن وليدة زمعة: "الولد للفراش "؛ أن وطأه وافتراشه لها كان معلوما قبل - والله أعلم-. وقد قيل: إن إيقاع الفراش على الزوج لا يعلم من اللغة.(5/399)
وقوله هنا:« الولد للفراش »، عموم في الحرائر والإماء، وقد احتج بظاهر قوله وعمومه:« الولد للفراش، وللعاهر الحجر » الشعبي ومن قال بقوله في إلحاق الولد المنفى لفراشه، وأنه لا ينتفى بلعان ولا غيره، ولا ينفع أباه نفيه، وهو شذوذ من القول. وقد حكى عن بعض أهل المدينة، ولا حجة فيه ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا في نازلة ولد الأمة المذعى فيه غير سيدها، وقد حكم - عليه السلام - في ولد الزوجات بخلاف ذلك، ولاعن وألحقه بأمه دون الزوج، على ما سيأتي مبينًا في اللعان.
وقول عائشة - رضى الله عنها -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على مسرورًا تبرق أسارير وجهه، قال:« ألم تري أن مُجزِّزًا نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة، فقال: كل بعض هذه الأقدام لمن بعض »، وفي الرواية الأخرى:" فَسُرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك وأعجبه "، قال الإمام: " أسارير وجهه ": يعني الخطوط التي في جبهته مثل، التكسر، واحدها سرة وسرر، والجمع أسرار، وأسارير جمع الجمع، وفي صفته - عليه السلام -:" ورونق الجلال يطرد في أسرة جبينه ".
قال القاضي: ومعنى ذلك قوله في الرواية الأخرى:" مسرورا "؛ لأن المسرور ينطلق وجهه، ويجرى البشر فيها، بخلاف المقطب والحزين. و "مجزز ":بفتح الجيم وكسر الزاى الأولى هو المعروف،وكذا ضبطه الحفاظ، وقيدناه عن شيوخنا، واختلف فيه الرواية عن الدارقطني وعبدالغنى فيما حكيناه عن ابن جريج، فالذى قيدناه عن القاضي الشهيد في كتاب الدارقطني وعبد الغني أن ابن جريج كان يقول فيه: " مُجزَّزا " بفتح الزاي، والذي قيده عنه الجياني وأبو عمر بن عبد البر:" محزر"، بحاء مهملة ساكنة وراء مكسورة.(5/400)
والصواب فيه الأول، وهو من بني مدلج، وكانت القيافة فيهم وفي بني أسد، تعترف العرب لهم بذلك. قال الزبير بن بكار: إنما قيل له مجزز ؛ لأنه كان إذا أخذ أسيرًا يحلق لحيته، وقال غيره: ناصيته. ومعنى " آنفًا "، أي: قبل، وقيل: أول وقمت نحن فيه قربت.
قال الإمام: كانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة ؛ لكونه أسود شديد السواد، وكان زيد ابوه أبيض من القطن، هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح، ولما قضى هذا القايف بالحاق هذا النسب مع اختلاف اللون - وكانت الجاهلية تصغى إلى قول القافة - سر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكونه كافًّا لهم عن الطعن فيه.
قال القاضي: قال غير أحمد: كان زيد أزهر اللون، وكان أسامة شديد الأدمة، زيد ابن حارثة عربي صريح من كلب، أصابه سباء، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، فوهبته للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فتبناه، فكان يدعى زيد بن محمد، حتى نزلت:{ ادعوهم لآبائهم }، فقيل: زيد بن حارثة، وابنه أسامة، أمه أم أيمن بركة، وتدعى أم الظباء مولاة عبد الله بن عبد المطلب، ورابّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم أر لأحد أنها كانت سوداء، إلا أن أحمد بن سعيد الصدفى ذكر في تاريخه من رواية عبد الرزاق عن ابن سيرين: أن أم أيمن هذه كانت سوداء، فإن كان هذا فلها خرج أسامة، لكن لو كان هذا صحيحًا ؛ لم ينكر الناس لونه لمعرفتهم بأمه ؛ إذ لا ينكر أن يلد الأبيض أسود من سوداء، وقد نسبها الناس فقالوا: أم أيمن بركة بنت محصن بن ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة ابن عمرو بن النعمان.(5/401)
وقد ذكر مسلم في كتاب الجهاد عن ابن شهاب: أن أم أيمن كانت من الحبشة، وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب أبي النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذا ذكره الواقدي، وأما زوجها عبيد قبل ذلك فكان حبشيًّا، إلا أن يكون معنى قول ابن شهاب حبشية: أي من مهاجرة الحبشة فمحتمل، فقد كانت منهن، كما قال عمر لأسماء بنت عميس: الحبشية هذه، والمعروف أنه كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - بركة أخرى حبشية، كانت تخدم أم حبيبة، فلعله اختلط أمرهما لاشتباه اسمهما.
وقد قال أبو عمر بن عبد البر: وأظنها أم أيمن، وذكر بعض المؤرخين، أن أم أيمن هذه، من سبي جيش أبرهة صاحب الفيل، لما انهزم عن مكة، أخذها عبد المطلب من فل عسكره - والله أعلم -. وهذا يؤكد - أيضًا - ما ذكر عن ابن سيرين - والله أعلم -.(5/402)
قال الإمام: اختلف الناس في القول بالقافة، فنفاه أبو حنيفة، وأثبته الشافعي، ونفاه مالك في المشهور عنه في الحرائر وأثبته في الإماء، وقد روى الأبهرى عن الرازي عن ابن وهب عن مالك ؟ أنه أثبته في الحرائر والإماء جميعًا. والحجة في إثباته حديث مج!ز هذا ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - ليسر بقول الباطل، وما تقدم - أيضًا - في حديث عبد بن زمعة أنه - صلى الله عليه وسلم - لما رأى شبهه بعتبة، أمر سودة بالاحتجاب منه، ولأن الفراش إنما قضى به من جهة الظاهر /، ولا يقطع منه على أن الولد لصاحب الفراش، فإذا فقدنا الفراش المؤدي لغلبة الظن، تطلبنا الظن من وجه آخر، وهو الشبه. واحتج من نفاه بأنه - صلى الله عليه وسلم - لاعن في قصة العجلاني، ولم يؤخر حتى تضع، ويرى الشبه، وقد ذكر - أيضًا - في قصة المتلاعنين، إن جاءت به على صفة كذا، فهو لفلان، ثم لم ينقض حكمه لما جاءت به على الصفة المكروهة ولا حدها، فدل ذلك على أن الشبه غير معتبر، وانفصل عن هذا بأن هاهنا فراشًا يرجع إليه، وهو مقدم على الشبه، فلم ينقض الحكم المبنى عليه بظهور ما يخالفه، مما ينحط عن درجته، كما لم ينقض الحكم بالنص، إذا ظهر فيما بعد أن القياس بخلافه.
وحجة التفرقة، أن الحرائر لهن فراش ثابت يرجع إليه، ويعول في إثبات النسب عليه، فلم يلتفت إلى تطلب معنى آخر سواه أخفض منه رتبة، والأمة لا فراش لها، فافتقر إلى مراعاة الشبه.
قال القاضي: جمهور العلماء على الأخذ بهذا إلا ما حكاه عن أبي حنيفة والثوري وأصحابهما وإسحاق. ثم اختلف القائلون، هل هو عموم في أولاد الحرائر والإماء، أم يختص بالإماء على ما تقدم ؟ ثم اختلفوا: هل يحتاج فيه إلى اثنين، وأنه بمعنى الشهادة، وهو أ قول مالك والشافعي، أو يكتفى فيه بواحد، وهو قول ابن القاسم من أصحا بنا.(5/403)
ولا خلاف بين القانلين بذلك فيما قالوه أنه إنما يكون ذلك فيما أشكل من الفراشين الثابتين، كالمشترى والبائع يطان الأمة في طهر واحد، قبل الاستبراء من الأول فتحمل، فتاتى بولد لأكثر من ستة أشهر من وطء الثاني، وأقل من أقصى أمد الحمل من وطء الأول، وان كان هذا الوطء الآخر ممنوعًا منه صاحبه، فله شبهة الملك، وصحة عقده ؟ ولهذا فرق مالك في مشهور قوله بين النكاح والملك في هذا، إذ لا يصح عقد النكاح في ب العدة، بخلاف عقد الشراء والاستبراء، ولم يعذره بالجهل والغفلة، لوجوب / البحث والتقصي، وتفريطه في ذلك يرجح العقد الصحيح والوطء الصحيح دون غيره، ورأى في القول الآخر: أن الجهل بحكم النكاح في العدة أو النسيان عذر والعقد على ذلك شبهة، توجب للفراش حكما، كما لو لم يكن فراش متقدم مع فساد العقد وتحريم الوطء في لحوق الولد لشبهة العقد. واختلفوا إذا ألحقته القافة بمدعييه معا، هل يكون ابنم أ لهما ؟ وهو قول سحنون، وأبي ثور، وقيل: يترك حتى يكبر، فيوالى من شاء منهما، وهو قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقاله مالك والشافعي. وقال عبدالملك بن الماجشون ومحمد بن مسلمة: يلحق بأكثرهما له شبهًا، قال ابن مسلمة: إلا إن علم الأول فيلحق به.
وكذلك اختلف الآبون من القول بالقافة، في حكم ما أشكل وتنوزع فيه، فقال أبوحنيفة: يلحق الولد بالرجلين إذا تنازعًا فيه، وكذلك بامرأتين، وقال أبو يوسف: يلحق برجلين ولا يلحق بامرأتين، وقال محمد بن الحسن نحوه، يلحق بالآباء وإن كثروا، ولا يلحق إلا بأم واحدة. وقال إسحاق: يقرع بينهم، وقاله الشافعي في القديم.(5/404)
وقوله لأم سلمة:« ليس بك على أهلك هوان »، ومعناه: لا يلحقك هوان، ولايتعلق بك، بل توفى حقك من المقام والتأنيس به، وذلك لما أخذت بثوبه حين أراد الخروج، ففهم منها استقلال مقامه عندها والاستكثار منه، فبين لها ما لها وما عليها من ذلك، وأنه إن زادها على حقها، وجب أن يزيد لنسائه، فيطول عليها مغيبته، فآثرت القنوع بحقها من الثلاث، ثم يعطى نساءه من بعدها أيامهن المعلومة، ثم يرجع إليها، فيقرب رجوعه إليها ونوبتها منه. وفيه لطف ورفق لمن خشى منه كراهة الحق،حتى يتبين له وجه ترجيحه، فيرجع إليه. والمراد باهلك هنا: هو نفسه - عليه السلام -: أي: لا أفعل فعلا يظهر به هوانك على أو تظنيه بى.
وقوله:« إن شئت سبعت عندك، وإن شئت ثلثت، ثم درت »، قالت: ثلث، وفي بعض طرقه:« إن شئت زدتك وحاسبتك به، للبكر سبع وللثيب ثلاث »، وفي بعض طرقه:« إن شئت أن أسبع لك وأسبع لنسائي، وإن سبعت لك سبعت لنسائي ».
قال الإمام: العدل بين الزوجات مأمور به، قال الله تعالى:{ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم } الآية، وقال - عليه السلام -:« من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى، جاء يوم القيامة شقه مائل »، وفي "الترمذي":« وشقه ساقط »، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه فيعدل، ويقول: « اللهم قسمتى فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ». وعند أبي داود: يعني القلب، وعندى أن ذلك هو المشار إليه بقوله تعالى:{ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء }، يعني في محبة القلب وميل الطبع الغير مكتسب.
قال القاضي: وجعلوا حكم الجماع مثله، إذا لم يقصد ذلك لاستحسانه لإحداهما دون الأخرى، لكنه إنما ينشط للواحدة أكثر من الأخرى، إذ لا اكتساب له في هذا أيضًا، ولا خلاف في القسم في كونه عندهن ليلاً، وأن يفرد كل واحدة ليلتها، وكذلك قول عامة العلماء في النهار.(5/405)
وذهب بعضهم إلى وجوب ذلك في الليل دون النهار، ولا يدخل لإحداهما في يوم الأخرى وليلتها لغير حاجة. واختلفوا في دخوله لحاجة وضرورة، أو لأخذ ثيابه أو وضعها، أو افتقاد متاعه، أو لعيادتها، والأكثر لمالك وأصحابه وغيرهم جواز ذلك، وقال أيضًا: لا يفعله إلا من عذر لابد منه، ومنعه في كتاب ابن حبيب. وكذلك يعدل بينهن في النفقة والكسوة، إذا كن معتدلات الحال، فلا يلزمه ذلك إذا اختلفت / أحوالهما في المناصب والمناسب، وأجاز مالك أن يفضل إحداهما في الكسوة، على غير وجه الميل.
قال الإمام: والبكر إذا تزوجت أقام عندها سبعًا، وعند الثيب ثلاثًا، لأجل هذا الحديث، ولا قضاء عليه بعد ذلك لمن عنده من النساء، ولا يحاسب هذه الجديدة بهذه الأيام.
وقال أبو حنيفة بأنها تحاسب، ورأى أن العدل والمساواة واجب في الابتداء كوجوبه في الاستدامة والاستمرار، وقوله - عليه السلام -: " للبكر سبع " يرد ما قال ؛ لأن هذه لام التمليك، ومن ملك الشيء لا يحاسب به، ولأنه لا معنى للتفرقة بين البكر والثيب ولامعنى له للاقتصار في العدد على الثلاث والسبع، إذا كان القضاء واجبًا في جميع الأعداد.
وتعلق أبو حنيفة بالقاعدة الواردة بالعدل، وهي مخصوصة بهذا الحديث، وتعلق أيضًا لقوله لأم سلمة:« وإن سبعت لك سبعت لنسائي »، وهذا ما اختلف المذهب فيه عندنا ؛ فمذهب مالك فيما ذكره ابن المواز عنه أنه ليس له أن يسبع عند الثيب، ويمكن عندي أن يكون مالك رأى ذلك من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه خص في النكاح بامور لم تجز لأمته. وقال ابن القصار: إذا ستع للثيب سبع لبقية نسائه أخذًا بظاهر هذا الحديث، ولا يدل غنده على سقوط الثلاث لها كما قال أبو حنيفة؛ لأنه يحمل على أن الثلاث تجب لها من غير محاسبة، بشرط ألا تختار السغ، وان اختارت السبع والتوافر عاجلا حوسبت، وهذا لا إحالة فيه، ولا يعد في أن يجب للإنسان الحق بشريطة على صفة، ويسقط عند فقدها.(5/406)
واختلف المذهب عندنا، هل ذلك حق للمرأة، أو حق للزوج ؟ فقيل: هو حق للمرأة بقوله:« للبكر سبع »، وهذه لام التمليك، وقيل: هو حق للزوج على بقية نسائه لحاجته إلى اللذة بهذه الجديدة، فجعل له في ألشرع زيادة في الاستمتاع. وإذا قلنا بأنه حق لها، هل يجبر عليه أو لا ؟ اضطرب أهل المذهب فيه أيضًا.
قال القاضي: اختلف العلماء، هل هذا الحق للثيب والبكر خاصة، فيمن له زوجات دون من لا زوجة له إلا هذه المتزوجة، أو هو على العموم في الجميع ؟ قال أبو عمر بن عبد البر:عند أكثر العلماء أن هذا واجب لها، كان عند الرجل زوجة أو لا، لعموم قوله:« إذا تزوج البكر أقام عندها سبعًا، واذا تزوج الثيب أقام عندها ثلائا »، ولم يخص من له زوجة من غيره.
قال غيره: معنى الحديث فيمن له زوجة غير هذه ؛ لأن من لا زوجة له مقيم مع هذه دهره، مؤنس لها، مستمتع دون قاطع، فلا معنى للمقام الذي احتيج للبكر لتانيسها سبعًا متصلاً، حتى يستحكم ويستقر، وليقضي لذته هو منها لجدتها، ولئلا يقطع دورانه على غيرها تأنيسها، ويقطع ذلك عليه مراده وميله لجديدة.(5/407)
وجعلت دون ذلك للثيب ؛ لممارستها الرجال قبل، وأنها إنما تحتاج مع هذا الجديد دون ما تحتاج البكر، وهذا من المعروف الذي أمره الله بقوله: {وعاشروهن بالمعروف }، وهذا هو الأظهر لقوله في الحديث نفسه:« إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا، واذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثًا »، وما تقدم من أنها حقوق لهما، لا يحاسبهما به غيرهما، ولمجتانف القسم بعد الثلاث أو السبع، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والطبري وأبي ثور وجماعة العلماء، خلافًا لأهل الرأي والحكم وحماد، في أن الثيب والبكر في القسم سواء، ولذلك الطارئة مع من عنده من النساء سواء، فما جلس عند الطارئة حاسبها به، وجلس عند سائر أزواجه مثله، وإن زاد يومًا واحدا. وللأوزاعى في قوله:« يجلس عند البكر سبعًا، فإذا تزوج البكر على النيب مكث ثلاثًا، واذا تزوج الثيب على البكر، مكث يومين ». وهذا قول الحسن وابن المسيب. وقال سفيان كقول أبي حنيفة، إلا أنه قال: إن تزوج البكر على الثيب قعد عندها ليلتين، ثم قسم، والسنة المتقدمة تخالفهم.
قال الخطابي: وقوله:« إن شئت سبعت لك وسبعت لنسائي » لا حجة فيه ؛ لسقوط حقها إذا لم يسبع لها، وهو الثلاث، ولو كان ذلك لم يكن للتخيير معنى ؛ إذ لا يخير الإنسان بين جميع الحق وبعضه، ولم يختلفوا أنه إذا سبع أنه يسبع لبقية نسائه، وبه قال الشافعي وأحمد بن حنبل، وقاله النخعي الشعبي وأنس بن مالك.
وقوله:« وإن شئت ثلثت ثم درت »، حجة على المخالف، أنها لا تحاسب بالثلاث، ولا البكر بالسبع، لقوله:" درت "، وفرق بين هذا وبين قوله:« وإن شئت سبعت، وإن سبعت لك سبعت لنسائي » وهو بين. وفي " درت " حجة لمن ذهب أن القسم لا يكون إلا يومًا يومًا، وإليه ذهب ابن المنذر، وهو قول مالك. وذهب الشافعي إلى جراز قسمه بينهن ثلاثًا ثلا،لا، ويومين يومين. ولم يختلفوا إذا كان القسم أكثر من يومين بتراضيهن أجمع أنه جائز.(5/408)
وذكر مسلم في سند حديث أم سلمة في الباب رواية يحيى بن سعيد عن سفيان، عن محمد بن أبي بكر، عن عبد الملك بن أبي بكر، عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبيه، عن أم سلمة. كذا صحيحه هنا في أصولنا، ووقع فيها في بعض النسخ اختلال لا يلتفت إليه.
قال الدارقطني: خرَّجه مسلم متصلا هنا، وكذلك من/حديث حفص بن غياث بعد هذا، وقد أرسله عبد الله بن أبي بكر وعبد الرحمن بن حميد، عن عبد الملك بن ابى بكر، عن أبي بكر بن عبد الرحمن: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً وهو مما تتبعه الدارقطني على مسلم.
قال القاضي: ولا تتبع على مسلم فيه ؛ إذ قد بين علته، وهذا يدل على ما ذكرناه أول الكتاب: أن ما وعد به من ذكر علل الحديث، قد وفى به وذكره في الأبواب، خلاف من ذهب إلى أنه مات قبل تمام الكتاب، على ما ذهب إليه أبو عبد الله الحاكم.
وقوله في حديث: ليس في هذا الحديث السنة، كذلك يلحق بالمسند عند أنمة العلماء ؛ لأن الصحابى إذا قال: السنة كذا، فهو مسند ؛ إذ لا يحيل بالسنة إلا على ما عهد من النبي - عليه السلام - وسنته، وقد رفعه غير واحد عن أنس.
وقد اختلف قول مالك: هل المقام هذه المدة عندها إذا كان له امرأة أخرى على الزوج على الوجوب، وهي رواية ابن القاسم عنه،أو على الاستحباب ؟ وهي رواية ابن الحكم.
وقوله: " كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - تسع نسوة، فكان إذا قسم بينهن، لا ينتهي إلى المرأة الأولى إلا في تسع، فكن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها "، هذا حجة في أن الزوج لا يأتي غير صاحبة القسم في بيتها لغير حاجة كما تقدم، وأما مجيئهن عند هذه، فبرضاهن واتفاقهن على هذا، وإلا فمن حق صاحب القسم أن يمنعهن.(5/409)
وقوله: " وكان في بيت عائشة، فجاءت زينب فمد يده إليها، فقالت: هذه زبنب، فكف يده "، حجة على أنه لا يباح له الاستمتاع بواحدة منهن في يوم الأخرى، ودل أن مد النبي - صلى الله عليه وسلم - يده، إنما كان وهو يظنها عائشة صاحبة اليوم، لكون ذلك ليلاً، ولم تكن لهن مصابيح، لكن البخاري قد روى أنه كان إذا انصرف من العصر، دخل على نسائه، فيدنو من إحداهن، وذكر حديث حفصة. قال بعضهم: وهذا كان منه في النادر، إذ لم يكن القسم فرضًا عليه، كما سنذكره، وقد يكون هذا منه بمراضاة صاحبة اليوم أن يستمتع بغيرها في يومها، ولا خلاف في جواز ذلك.
وقوله:" فتقاولتا حتى استخبتا "، كذا عند كافة الشيوخ بالخاء المعجمة، بعدها باء بواحدة مفتوحتين، من السخب، وهو اختلاط الأصوات وارتفاعها، وتقال بالصاد أيضًا، كما قال: تقاولتا، كثر الكلام بينهما من أجل الغيرة عليه. ووقع في رواية السمرقندي:" استحثيا " بسكون الحاء المهملة، وبعدها ثاء مثلثة وبعدها ياء باثنتين تحتها، ومعناه - إن لم يكن تصحيفًا -: حئت كل واحدة في وجه الأخرى التراب. فيه ما كان عليه - عليه السلام - من حسن الخلق، ومداراة الجميع، ومن جميل العشرة. وذكر خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة بعد هذا، وقد ذكر مد يده إلى زوجته، ولم يذكر أنه توضأ، فقد يحتج به الكوفيون في سقوط الوضوء من الملامسة، كما تقدم في كتاب الطهارة، ولا حجة له، وليس في الحديث أنه لمس، وإنما قال:" مد يده"، فكان كفاقد اللذة بقلبه، ولم يلمس ولم يلتذ.
وقوله:" واحث في أفواههن التراب "، مبالغة في التسكيت لمن لم يسكت عن كلام يكره، ومر مثله في الجنانز في خبر معفر.
وقوله في حديث سودة وقول عائشة:" أن أكون في مسلاخها "، أي: في جلدها، وحقيقة ذلك أن تكون هي ؛ لأن أحدًا لا يكون في جلد غيره ولا في غير جلده.(5/410)
وقوله:" من امرأة فيها حدة "، من هنا للسان واستفتاح الكلام، والخروج من وصف إلى مخالفه، ولم ترد عائشة بهذا عيبتها، إذ لم تقصد تنقيصها، بل كثير من الناس يتفاخر بها ويحسبها رجلة، وضدها فسولة وضعة، وخير الأمور أوساطها.
وقولها:" فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة، فيه جواز مثل هذا ؛ لأنه حقها، وجائز أن تأخذ منه على هذا مالاً، لتهب حقها في الوطء أو تعطيه، على أن يمسكها كيف شاء، من أثرة أو غير أثرة، وهو معنى قوله تعالى:{ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا } الآية. واحتج به ابن المنذر أن قسم النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما كان مياومة، وأنه سنة لا تخالف، وقد تقدم الكلام فيه، وليس ببين.
وفيه أن القسم من حق المرأة، ولها إسقاطه، وأن تراضى الضرات بالتفاضل بينهن جائز عليهن، ومباح للزوج لا حرج عليه فيه، ولا يدخل في النهي لأنه حقها وهبته، لكن لها عند مالك الرجوع فيه متى شاءت، وللزوج - أيضًا - ألا يرضى بجعل يومها لمن وهبته له من ضراتها.
وقوله:" فكان يقسم لعائشة يومين: يومها ويوم سودة "، لا يفهم منه توالي اليومين على ظاهر اللفظ، بل يومها المعلوم ويوم سودة المعلوم، كان ثالثًا في القسم أو رابعًا، إلا أن تكون كانت تالية لعائشة أو سابقة، فيكون متواليًا، ويحتمل ذلك لأنهما متواليتين في زواجه لهما، على خلاف من هي منهما قبل صاحبتها، على ما نذكره بعد هذا، فيحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجرى القسم وترتيبه على رتبة تقدمهن في النكاح وتواليهن - والله أعلم -.(5/411)
وأجرى النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم العدل بين نسائه، مجرى الحقوق اللازمة، وألزم ذلك نفسه، وإن لم يكن لازمًا له، لتقتدى بذلك أمته للزوم ذلك لها، وليظهر العدل بين نسائه، فيطيب قلوبهن، ويحسن معه عشرتهن، ولا يدخل بينهن من التحاسد والعداوة ما يكدر صحبهتههن، كما قال تعالى:{ ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن }، قيل: أي: لا يحزن إذا كان هذا منزلاً عليك ويرضين بما فعلت من تقريب أو إرجاء ؛ إذ كان العدل بينهن في حقه غير واجب، قال الله تعالى:{ ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء }. قال قتادة: هذا شيء خص الله به نبيه - عليه السلام - لا ليس لأحد غيره، كان يدع المرأة من نسائه ما يشاء بغير طلاق، فاذا شاء راجعها، وهو معنى قوله:{ ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك }. وقيل: أرجأ واحدة منهن، ولكن وهب نسوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسمهن، والظاهر التخيير. قيل: ولا يبعد أن يكون اختار الإيواء لجميعهن إلا سودة، لرضاها بترك يومها، وسيأتي الكلام بعد في هذا.
وقول عائشة عنها:" وكانت أول امرأة تزوجها بعدى "، كذا ذكره مسلم من رواية يونس عن شريك، وهكذا قال يونس - أيضًا - عن ابن شهاب، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وروى عقيل بن خالد عن ابن شهاب خلافه، وأنه - عليه السلام - تزوج سودة قبل عائشة، قال ابن عبد البر: وهذا قول قتادة وأبي عبيدة.
وذكر مسلم حديث الموهوبة واللآئي وهبن أنفسهن لرسول الله ا- صلى الله عليه وسلم -. هذا من خصائصه - - عليه السلام -.(5/412)
وقول عائشة في ذلك:" أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها، فأنزل الله تعالى:{ ترجي من تشاء منهن } الآية، فقلت: إن ربك ليسارع في هواك"، اختلف السلف في هذه الآية، فقيل: هي ناسخة لقوله:{ لايحل لك النساء من بعد }، مبيح له أن يتزوج ماشاء. قال زيد بن أسلم: تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية ميمونة ومليكة وصفية وجويرة، وقالت عائشة: ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى أحل الله له النساء، وقيل بعكس هذا، وأن قوله:{ لا يحل لك النساء من بعد } ناسخة للأخرى، وناسخة لقوله:{ إنا أحللنا لك أزواجك } الآية.
وقيل: هذه الآية محكمة، وكما حرم عليهن النكاح بعده - عليه السلام - حرم عليه أن يتزوج على نسائه. وقيل: معناها: لا يحل لك الاستبدال بهن، ولك الزواج عليهن. وقيل: المراد: لا يحل لك النساء من بعد المسلمات، فخرج نكاح الكوافر خاصة.
في قوله في الحديث بعد هذا: " فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بعدما نزلت، يستأذننا إذا كان يوم المرأة منا "، دليل على ماتقدم، من أن قسمه لم يكن واجبًا عليه، وإنما كان يقع منه تطييبا لنفوسهن،وحسن عشرة لهن، وليقتدي به في ذلك من يجب عليه.
وقول عطاء:" حضرنا جنازة ميمونة بسرف مع ابن عباس "، لا خلاف أنها توفيت بسرف، وفي الموضع الذي بنا بها فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفية عقد نكاحها معه، وكان اسمها فيما ذكر:" برة "، فسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ميمونة. قال ابن شهاب: وهي التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: هي أم شريك، وقيل: زينب بنت خزيمة.(5/413)
وقوله:" وكان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع، فكان يقسم لثمان، ولا يقسم لواحدة "، هذا مما خص به النبي - عليه السلام - أيضًا. قال الشافعي: إن الله تعالى لما خص به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من وحيه، وأبان بينه وبين خلقه بما فرض عليهم من طاعته، افترض عليه أشياء، خففها على خلقه، ليزيد بها قربة إليه، وأباح له أشياء حظرها على خلقه، زيادة في كرامته، وتبيينا لفضيلته، فمن ذلك: أن كل من ملك زوجة فليس يخيرها، وأمره الله أن يخير نساءه فاخترنه، وقال:{ لا يحل لك النساء من بعد }. قالت عائشة: مامات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحل الله له النساء التي حظرت عليه، وقال تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي } الآية، وقال:{ لستن كأحد من النساء } الآية، فأبانهن من النساء، وخصه بأن جعله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمها تهم.
وقال الخطابي كلاما معناه: أن الله - عز وجل، اختار لنبيه - عليه السلام - من الأمور أفضلها، وجمع له الفضائل التي يزداد بها في نفوس العرب جلالة وفخامة، وكانت العرب تفاخر بقوة النكاح، وكان - عليه السلام - من قوة البنية، واعتدال المزاج، على ما شهدت له الأخبار، ومن هو بهذه الصفة من كمال الخلقة، كان دواعى هذا أغلب عليه، وكان ما عداها منسوبًا إلى نقص الجبلة، وضعف النجيزة، فأبيح له الزيادة على أربع، ومنع غيره من أمته ذلك، لغلبة الخوف ألا يعدلوا فيهن، ولا يقوموا بحقوقهن، وأمن ذلك منه - عليه السلام - وبدل على هذا قوله تعالى:{ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } الآية إلى قوله:{ قواحدة أو ما ملكت أيمانكم }، فعلق الحكم بالعلة المقرونة بالذكر، وهي من خوف ألا يعدلوا، وكانت العلة مرتفعة في حقه - - عليه السلام -.
قال: ويبين ذلك إباحته من الإماء كان بغير حد ولا عدد، بقوله: {فواحدة أو ما ملكت أيمانكم }، إذ لم يكن للإماء من الحق ما للحرائر من التسوية والتعديل.(5/414)
قال: وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز عليه مواقعة ما لا يحل من الاستمتاع ولا تطلع النفس إلى ما في أيدى رجال أمته، ولم يتسع أولاً حاله لاقتناء الإماء ليستكثر منهن، فوسع عليه في الحرائر، واختير له أفضل النوعين. ولهذا قال بعض السلف: إنه لم يكن يجرز له - عليه السلام - نكاح حرائر الذميات بخلاف أمته، قال غيره: لئلا تكون كافرة أما للمسلمين. قال الخطابي: ولأنه - عليه السلام - حض على النكاح، ونهى / عن التبتل، فكان - عليه السلام - أولاهم باستيفاء ما دعى إليه، والاستكثار فيه، ليفتدى به الإماء، إلا ما خص به من ذلك.
وقول عطاء: التي لا يقسم لها صفية بنت حيى، كذا جاء في هذا الحديث. قال الطحاوي: وهو وهم، وصوابه:سودة كما تقدم، في الأحاديث المتقدمة إذ وهبت يومها لعائثة، وانما غلط فيه ابن جريج، وهو راوى هذا الحديث عن عطاء.
قال القاضي: قد ذكر غيره في قوله تعالى:{ ترجي من تشاء منهن } الآية، كان ممن آوى إليه عائشة وأم سلمة وزينب وحفصة، وكان قسمه من نفسه وماله فيهن بالسواء. وكان ممن أرجأ سودة وجويرة وصفية وأم حبيبة وميمونة، فكان يقسم لهن ما شاء، فهذا يدل أن القسم في حقه - عليه السلام - غير واجب، ولعل رواية ابن جريج هنا صحيحة، وأخبر عن آخر أمره - عليه السلام - وأنه توفي وقد آوى جميعهن إلا صفية، فأرجاها ولم يقسم لها، إذ كان قد جعل الله له أن يؤوى إليه من يشاء ويرجى من يشاء.(5/415)
وقوله: قال عطاء: كانت آخرهن موتًا، ماتت بالمدينة "، ظاهره أنه أراد ميمونة المذكورة وفاتها، وقد ذكر أول الحديث أنها توفيت بسرت، وسرف على ستة أميال من مكة، وقيل: سبعة، وقيل: تسعة، وقيل: اثنا عشر ميلاً. ولا خلاف أن ميمونة توفيت بسرف، فقوله: " بالمدينة، على هذا وهم. وهي آخرهن موتًا، فقيل: إنها ماتت سنة ثلاث وستين، وقيل: سنة ست وستين، وقد قيل: إنها توفيت سنة إحدى وخمسين قبل عائشة، فإن عائشة توفيت بعد هذا سنة سبع، وقيل ثمان وخمسين، وأما صفية فترفيت سنة خمسين، وزينب توفيت آخر أيام عمر بن الخطاب.
وقوله:« تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك »، قال الإمام: في ظاهر هذا حجة لقولنا: إن المرأة إذا دفع لها في الصداق الزوج ليسارها، ولأنها تسوق إلى بيته من الجهاز ما جرت عادة أمثالها به، وجاء الأمر بخلافه، فإن للزوج مقالا في ذلك، ويحط من الصداق الزيادة التي زادها لاءجل الجهاز، على الأصح عندنا على اصلنا، إذا كان المقصود من الجهاز في حكم التبع، لاستباحته البضع، كمن اشترى سلعتين فاستحقت الأدنى منهما، فإنه إنما ينقض البيع في قدر المستحقة خاصة.
وقوله:" لحسبها "، قال الهروى: احتاج أهل العلم لمعرفة الحسب ؛ لأنه مما يعتبر في مهر مثل المرأة، قال شمر: الحسب: ألفعال الحسن للرجل وآبائه، مأخوذ من الحساب، إذا حسبوا مناقبهم، وذلك أنهم إذا تفاخروا عد كل واحد منهم مناقبه، ومآثر آبائه، وحسبوا. فالحسب: العدد، المعدود حسب، كالنقض والنقض، والخبط والخبط. وفي حديث آخر: "كرم الرجل دينه، وحسبه خلقه.(5/416)
وللحسب معنى آخر، وهو عدد ذوى قرابته. بيان ذلك حديثه - عليه السلام - لما قدم عليه وفد هوازن يكلمونه في سبيهم، قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اختاروا": إما المال، وإما السبى،، فقالوا: أما إذ خيرتنا بين المال والحسب، فإنا نختار الحسب، فاختاروا أبناءهم ونساءهم، وفي حديث سماك: "ما حسبوا ضيفهم " أي: ما أكرموه، وفي حديث طلحة: هذا ما اشترى طلحة من فلان بكذا وكذا درهما.والحمب الطيب، أي: الكرامة وطيب النفس، وحسبت الرجل: أجلسته على الحسبانة، وهي الوسادة.
قال القاضي: ظاهر كلامه إباحة النبي - صلى الله عليه وسلم - النكاح للمال والحسب وبقية الأوصاف، وهو كما قال، لكنه آثر - عليه السلام - مقصد الدين، وحض عليه وأغرى به وقال الداودي في معناه: إنما أخبر - عليه السلام - بما يفعله الناس، ليس أنه أمر بذلك، وقد تقدم القول على قوله:« فعليك بذات الدين تربت يداك »، وقول من قال: افتقرت وتعبت إن لم تفعل، وقول من قال: معناه: لله درك إن فعلت ما أمرتك به، وغير ذلك من معانى " تربت يداك " في كتاب الطهارة.
واختلف العلماء في مراعاة الكفاءة في النكاح،وما هي ؟ فعند مالك: الكفاءة: الدين، والمسلمون بعضهم لبعض أكفاء، والمولى كفء للقرشية، وروى مثله عن عمر وابن مسعود وجماعة من الصحابة والتابعين. وقال غيره: الكفاءة معتبرة في الحال والنسب، فعند أبي حنيفة: قريش كلهم أكفاء، وليس غيرهم من العرب لهم بكفء وكذلك العرب أكفاء بعضهم لبعض، وليس الموالى لهم بكفاء، وممن له من الموالى آباء في الإسلام بعضهم لبعض كفاء، وليس المعتق نفسه بكفء لمن له الآباء في الإسلام.(5/417)
وقال الشافعي: ليس نكاح غير الكفء بمحرم فارذه، وإنما هو حق للمرأة والأولياء، فإن تراضى جميعهم بغير كفء جاز. وقال الثوري: يفرق بين العربية والمولى، ويشذد في ذلك. وقال أحمد: قال الخطابي: الكفاءة في قول أكثر العلماء في أربعة: الدين والنسب والحرية والصناعة. واعتبر بعضهم السلامة من العيوب واليسار.
قال بعض شيوخنا: الكفآء في الدين: المتشاكلرن وان كان بينهم تفاضل، وكذلك يكون أيضًا المراعاة في الحال والنسب والمال، لا أنه يكون بقدر واحد وغير متقارب، بل يكونمان ممن ينطلق عليه اسم الشرف واسم / الحسب أو المال، وإن كان بعضهم أعلى درجة فيه من بعض، إلا أن يكون إحداهما خاليا منه بالكلية.
وفي قوله: " تنكح لمالها " قال بعضهم: فيه دليل أن للرجل الاستمتاع بمال الزوجة، وأنه يقصد لذلك، والا فكانت كالفقيرة، ولم يكن بهذا الكلام فائدة، فإن طابت به نفسها فهو حلال وإن منعت فله بقدر ما بذلك من الصداق. وعلى هذا اختلفوا في إجبارها على التجهيز بصداقها، فألزمها ذلك مالك ولم يجز لها منه قضاء دين ولا نفقته لغير جهازها، إلا أن تنفق اليسير من الكثير. وقال الكوفيون: لا تجبر على شيء، وهو مالها تفعل فيه ماتشاء.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لجابر:« فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك »، قال الإمام: قال بعضهم: يحتمل أن يكون أراد بهتوله: " تلاعبها " من اللعاب، ويدل عليه ما في بعض طرق مسلم: ا فابن أنت من العذارى ولعابها "، وما جاء في الحديث الآخر:« أنهن أطيب أفواهًا، وأنتق أرحامًا »، ورواية أبي ذر في البخاري، من طريق المستملي:" ولعابها " بالضم.(5/418)
قال القاضي: أكثر المتكلمين على الحديث حملوا الملاعبة، من اللعب، بدليل قوله في الحديث: " تضاحكها وتضاحكك "، وفي كتاب أبي عبيد: " تداعبها وتداعبك "، وروايتنا في كتاب مسلم:" لعابها " بكسر اللام، وهو مصدر لاعب، من الملاعبة، كالقتال من المقاتلة. وفي الحديث فضل تزويج الأبكار، ولاسيما للشباب.
وفيه سؤال الإمام رعيته عن أمورها، وتفقده مصالحها، وأن مرغوب النكاح الاستمتاع والاستلذاذ، وبقدر ذلك تكون الألفة، وذلك في الأبكار أوجد.
وفيه جواز ملاعبة الأهل والترغيب فجها، وقد مدح الله تعالى نساء أهل الجنة فقال:{ عربًا أترابًا }. قيل: العرب: المتحببات لأزواجهن، وقيل: الحشة التبعل، وهو من هذا.
وقول جابر في اعتذاره عن زواج الثيب ما ذكر من قيامها على أخواته، وتصويب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك له، ما هو الأولى من إيثار مصلحة الحال والنفس والال على شهواتها ولذاتها. وفيه ما يلزم المرأة من القيام بمصالح زوجها، وماتندب إليه من بز إليه، والقيام على أموره وان لم يجب ذلك عليها.
وقوله:" تعجلت على بعير لي قطوف ": هو البطيء المشي، قاله أبو زيد. وقال الخليل: هو البطىء المتقارب الخطو، وقد جاء في الرواية الأخرى مفسرا من قوله: " فأبطأ بي جملي "، وفي الأخرى:" على ناضح، إنما هو في أخريات الناس ". والناضح: الجمل، سمي بذلك لأنه ينضح عليه الماء، أي: يستقى به.
قال الإمام: القطوف: الذي يقارب الخطو في سرعة، قال الثعالبي: إذا جاء الفرس يمشى وثبًا وثبا فهو قطوف، فإن كان يرفع يديه ويقوم على رجليه فهو شجوب، فإذا كان يلتوي براكبه حتى يسقط عنه فهو قموص، فإذا كان مانعا ظهره فهو شموس.
وقوله:" فنخس بعيري بعنزة ": قال أبو عبيد في "مصنفه": هي قيد نصف الرمح أو أكبر شيء، وفيها زج مثل زج الرمح، قال الثعالبي: فإن طالت شيئًا فهي نيزك ومِطْرد، فإذا زاد طولها وفيها سنان عريضة فهي آلة وحربة.(5/419)
قال القاضي: جاء في الرواية الأخرى:" فحجنه بمحجن "، أي: نخسه به، والمحجن عصا فيها تعقف، يلتفظ بها الشيء من الأرض، وتلوى بها عنق الشاة، وتحبس إذا ندَّت.
وقوله:" فلقد رأيتني أكفه "، أي: أحبسه، وفي الرواية الأخرى: "فانطلق بعيري كأجود ما أنت راء من الإبل "، فيه معجزة من معجزاته، وعلامة من علامات نبوته، وبركة من بركات لمسه ويده - - عليه السلام -.
وقوله:" فلما أقفلنا "، كذا لابن ماهان، ولابن سفيان:" أقبلنا"، ووجه الكلام: " قفلنا " ثلاثي، يقال: قفل الجيش والرفقة، وأقفلهم الأمير وقفلهم وقفلهم أيضًا، قيل: لعله " قفلنا "، وقد يحتمل على الرواية أن يكون " أقفلنا" بفتح اللام، أي: أقفلنا النبي - عليه السلام - المذكور قبل، وأقفلنا على ما لم يسمّى فاعله، أو يكون: أقفل بعضنا بعضًا بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك.
وقوله:« أمهلوا حتى ندخل ليلاً - أي: عشاء، كى تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة »، قال الإمام: الاستحداد: استفعال من الحديد، يعني الاستحلاق به، وقد تقدم ذكره. والمغيبة: التي غاب عنها زوجها، يقال: غابت المرأة، أي: غاب عنها زوجها، فهى مغيبة بالهاء، وأشهدت إذا حضر زوجها، فهى مشهد بغير هاء.
قال القاضي: قال الداودي في قوله:" تستحد المغيبة "، توقير المرأة منها ذلك مدة مغيب زوجها لتدل على صحتها، وهذا إن كان يشير أنه سنة، فلا أصل له، ولا هو بين من الحديث، وانما أشار في الحديث إلى ماجرت به عادتهن غالبًا. وفيه حضه - صلى الله عليه وسلم - على مكارم الأخلاق، وحسن العشرة، والتانى وترك العجلة، واستجلاب كل ما يوجب الألفة، ودوام الصحبة، وألا يستغفل أهله ويطرقهم ؛ لئلا يجد منهم رائحة وشعثًا يكرهه، ويكون سبب زهده وبغضه فيهن، وامهالهم هنا حتى يدخلوا ليلاً يسبق خبرهم إلى أزواجهم فيستعدوا لهم.(5/420)
ولا يعارض هذا النهي عن أن يطرق الرجل أهله ليلاً ؛ لأن ذلك إذا لم يتقدمه خبر ليلاً، يستغفلهم، ويرى منه مايكره من هذا وغيره بل هو موافق له، وقد جاء هذا مبينا في حديثه الآخر الذكما ذكره في الجهاد: " كان لا يطرق أهله ليلاً، وكان يأتيهم غدوة أو عشية".
وقوله:« فإذا قدمت فالكيس الكيس »، قال ابن الأعرابي: الكيس: الجماع، والكيس: العقل، فكانه جعل طلب الولد عقلاً، ومنه الحديث: "أي المؤمنين أكيس "، أي: أعقل.
وقوله حين قدم:« ادخل فصل ركعتين »، سنة في صلاة القادم من السفر. ودفعه له - صلى الله عليه وسلم - الجمل من مكارم أخلافه - - عليه السلام -. وسيأتى بقية الكلام على مافى هذا الحديث في البيوع.
وقوله:« استوصوا بالنساء خيرًا، فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج »، الحديث: فيه الحض على الرفق بهن، ومداراتهن، وألا يتقصى عليهن في أخلاقهن، وانحراف طباعهن، لقوله:« إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته استمتعت به ».
وقوله:« لا يفرك مؤمن مؤمنة »، أي: لا يبغضها، ليس على النهي بل على الخبر، أي لا يبغضها بغضًا تامًا، أي: أن بغض الرجال للنساء، بخلاف بغض النساء للرجال، ألا تراه كيف قال:« إن كره منها خلقًا رضي منها آخر ». وأصل الفرك إنما هو في النساء، واستعمل في الرجال قليلاً وتجوزًا، كما جاء هنا، وكما قال في الخبر المعروف:" حسنًا فلا تفرك "، أي: لا تبغض.
****************
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الطلاق(5/421)
حديث ابن عمر، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له، لما طلق امرأته وهي حانض أن يراجعها، ثم يتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق الحديث، قال الإمام: الطلاق في الحيض محرم، ولكنه إن وقع لزم، وقد ذكرها هنا ابن عمر، أنه اعتد بها، وذهب بعض الناس ممن شذ أنه لا يقع الطلاق، وذكر في هذا الحديث، أنه لم يعتد بها، ورواية مسلم ها هنا أصح، وبكذا ذكر بعض الناس أيضًا أنه طلقها ثلاثًا وذكر مسلم عن ابن سيرين أنه أقام عشرين سنة يحدثه من لا يهتم، أنه طلقها ثلاثًا، وذكر مسلم: حتى لقي الباهلي وكان ذا ثبت، فحدثه عن ابن عمر: أنه طلقها تطليقة، وقد نص مسلم على أنها تطليقة واحدة، من طريق الليث عن نافع عن ابن عمر، وأمره بمراجعتها واجب عندنا، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي، ولا حجة لهما إن قالا: فإن الأمر لابن عمر بالمراجعة أبوه - رضي الله عنه - وليس لأبيه أن يضع الشرع، لأن أباه إنما أمره بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو مبلغ إليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومما يسال عنه في هذا الحديث أن يقال: لم أمره - صلى الله عليه وسلم - أن يؤخر الطلاق إلى طهر آخر بعد هذا الطهر الذي يلي حيضة الطلاق، وأجاب الناس عن هذا بأجوبة كثيرة:
أحدها: أن الطهر الذي يلي الحيض والحيضة التي قبلها الموقع فيها الطلاق، كالقرء الواحد، فلو طلق فيه لصار كموقع طلقتين في قرء واحد، وهذا ليس هو طلاق السنة.
والجواب الثاني: أنه عاقبه بتأخير الطلاق تغليظًا عليه، جزاءً عما فعل من المحرم عليه وهو الطلاق في الحيض. وهذا معترض ؛ لأن ابن عمر لم يكن ليعلم الحكم ولا تحقق التحريم فتعمد ركوبه، وحاشاه من ذلك، فلا وجه لعقوبته.(5/422)
والجواب الثاك: إنه إنما أمره بالتأخير لأن الطهر الذي يلى الحيضة الموقع الطلاق فيها ينبغي أن ينهي عن الطلاق فيه حتى يطأ فيه فيتحقق الرجعة لئلا يكون إذا طلق فيه قبل أن تمس كمن ارتجع للطلاق لا للنكاح. واعترض هذا بأنه يوجب أن ينهى عن الطلاق قبل الدخول، لئلا يكون نكح أيضًا للطلاق لا للنكاح.
والجواب الرابع: أنه إنما نهي عن الطلاق في هذا الطهر، ليطول مقامه معها، والظن من ابن عمر أنه لا يمنعها حقها من الوطء، فلعله إذا وطئها ذهب ما في نفسه منها من الكراهة وأمسكها، ويكون ذلك حرصًا على ارتفاع الطلاق، وحضًّا على استقبال الزوجة.
وذكر هاهنا في الحديث:« وإن شاء طلق قبل أن يمس »، والطلاق في الطهر، يكره إذا من فيه، والعلة في ذلك: أنه فيه تلبيس، فلا يدرى هل حملت فتكون عدتها بوضع أم لم تحمل فتكون عدتها الأقراء، وقد تظهر حاملاً، فيندم على الفراق، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه إن فعل أمر بالرجعة، كما يؤمر بها من طلق في الحيض.
واختلف المذهب عندنا إذا لم يرتجعها المطلق في الحيض حتى جاء الطهر الذي أبيح له الطلاق فيه، هل يجبر على الرجعة فيه لأنه حق عليه، فلا يزول بزوال وقته ؟ أم لا يجبر على ذلك لأنه قادر على إيقاع الطلاق في الحال، فلا معنى للارتجاع ؟
قال القاضي: وقول مسلم:" جوَّد الليث في قوله: تطليقة واحدة "، يعنى أنه حفظ وأتقن مالم يتقنه غيره من ذلك، ممن لم يفسِّر كم الطلاق، أو من غلط فيه ووهم ممن قال: إنه طلقها ثلاثًا، وقد بين ذلك مسلم - رحمه الله - في أحاديثه.(5/423)
وقوله:« فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء »/، واختلف العلماء في صفة طلاق السنة، فقال مالك وعامة أصحابه: هو أن يطلق الرجل امرأته تطليقة واحدة في طهر لم يمسها فيه، ثم يتركها حتى تحل عدتها، وقاله الليث والأوزاعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه: هذا أحسن الطلاق، وله قول آخر: أنه إن شاء يطلقها ثلاثًا طلقها في كل طهر مرة، وكلاهما عند الكوفيين طلاق سنة، وقاله ابن مسعود.
واختلف فيه قول أشهب، فقال مرة مثله، وأجاز أيضًا ارتجاعها ثم يطلق ثم يرتجع ثم يطلق فيتم الثلاث، وليس هذا عند غير هؤلاء طلاق سنة بل هو مكروه.
وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور: ليس في عدد الطلاق سنة ولا بدعة، وإنما ذلك في الوقت، وما جاء من قوله هنا في الحديث يدل على أن ماعدا ما وصف فيه طلاق بدعة. لكن أجمع أئمة الفتوى على لزومه إذا وقع إلا من لا يعتد به من الخوارج والروافض وحكى عن أبي علية.(5/424)
وفي قوله: " فليراجعها "، دليل أن الطلاق غير البائن، لا يحتاج إلى ولي ولا رضا المرأة، قاله الخطابي، وليس ببين. قال بعض علمانا: وجه الحكمة في الطلاق في طهر لم يمس فيه لتكون الحيضة براءة للرحم قبل الطلاق، مبالغة في البراءة، كما أن مالكًا قد استحسن ذلك في الجارية المبيعة قبل بيعها، وإن لم تجز مشتريها، وكما أن الثنتين من الثلاث بعد الطلاق للمبالغة والبراءة واقعة للواحدة بعد الطلاق، بدليل أنها إذا تزوجت بعد حيضة، فالولد من الثاني، فدل أن الواحدة هي للبراءة وقبلها من الأول، وإن كان يمكن أنها إذا تزوجت بعد حيضة منهما جميعًا لمدة فراق الأول ونكاح الثاني، فدل أن الواحدة هي للبراءة، وتمييز الأنساب، وما بعدها مبالغة، كذلك ما قبلها، وقبل الطلاق. وذهب بعض شيوخنا إلى أن الحيضتين الأخريين عبادة، والاستبراء حاصل بالأولى كحكم الأربعة أشهر وعشر للمتوفى، وكونها عبادة، فألزمت من استبرأ لها، من صغيرة وغير مدخول بها، حتى أن الحسن وعطاء في أخرى رأوا إلزامهن الأربعة الأشهر وعشرًا، من حين تصح عندهن الوفاة، وان تقدمت قبل ذلك، لكونها عبادة، وروى مثله عن علي بن أبي طالب، وفقهاء الفتيا. ومعظم السلف من الصحابة والتابعين لا يرون ذلك وأنها تلزم من يوم الموت، فإن لم يعلم به حتى انقضت لم يلزمها شيء، وإن بقى منها شيء فما بقي لا غير. وذكر يحيى بن إسحاق في كتابه عن ابن أبي حازم والمغيرة أن المطلقة في طهر مست فيه لا يعتد به في أقرائها، وتستأنف ثلاثة أطهار غيره على أصولهم.(5/425)
قال الإمام: فيه دلالة لقول مالك أن الأقراء التي تعتد بها المرأة، هي الأطهار، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنها الحيض ؛ لأنه قال:« فإن شاء طلق »، يعنى عند طهرها، ثم قال:« فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء »، ومعنى " لها "، أي: فجها، فأثبت - عليه السلام - الطهر عدة، ولا تعلق لهم بقوله:« فتلك »، وأن هذا لفظ تأنيث فتحمل على الحيضة، وأنه لو كان المراد به الطهر لقال فذلك ؛ لأن المراد هاهنا تأنيث الحالة أو تأنيث العدة.
وكذلك تعلق أيضًا من تعلق من أصحابنا، بدخول الهاء في الثلاث، في قوله سبحانه:{ ثلاثة قروء }، أنه دلالة على أن المراد في القرآن بالأقراء: الأطهار، ولو أراد الحيضة لقال عز من قائل: { ثلاث قروء }؛ لأن العرب تدخل التاء في عدد المذكر من الثلاثة إلى العشرة، وتحذفها من المؤنث، فإثباتها في قوله:{ ثلاثة قروء }، يدل على أن المراد الأطهار، وهذا غلط ؛ لأن العرب قد تراعي في التذكير والتأنيث اللفظ المقرون به العدد، فتقول: ثلاثة منازل، وهي تريد ثلاث ديار، وإن كانت الدار مؤنثة ؛ لأن لفظ المنزل مذكر. وقد يعتبر المعنى أحيانًا، قال ابن أبي ربيعة:
فكان مِجَنِّي دون من كنت أتقي ثلاث شخوص كاعِبان ومُعْصِر
فأنث على معنى الشخوص، لاعلى معنى اللفظ، وحكى أبو عمر وابن العلاء أنه سمع أعرابيًا يقول: فلان جاءته كتابي فاحتقرها، قال: فقلت له القول: جاءته كتابي، فقال: أليس بصحيفة، فأخبر أنه أنث مراعاة للفظ الصحيفة الذي لم يذكره لما كانت في المعنى هي الكتاب المذكور، ونحو من هذا قول الشاعر:
أتهجر بيتنا بالحجاز تلفقت به الخوف والأعداء أم أنت زائر
أراد المخافة، فأنث لذلك. وقال آخر:
غفرنا وكانت من سجيتنا الغفر(5/426)
أنث الغفر لأنه أراد المغفرة. وقد تعلق أصحاب أبي حنيفة بأن المصير إلى القول بالأطهار خروج عن ظاهر القرآن ؛ لأن القرء في اللغة يطلق على الطهر وعلى الحيض، وهو من الأسماء المشتركة، فإذا طلّق وقد مضى من الطهر شيء، فعندكم أنها تعتد ببقية الطهر، وهذا يوجب كون العدة قرأين وبعض ثالث. فإذا قلنا بالحيض، كانت العدة ثلاث أقراء كوامل ؛ إذ لا يصح الطلاق في الحيض، وقد أدى بابن شهاب هذا الاعتراض إلى أن ركب أن الطهر الذي وقع الطلاق فيه، وقد ذهب بعضه / لا يعتد به، ويستأنف ثلاث تطهيرات سواء، وهذا مذهب انفرد به كل من قال بأن الأقراء هي الأطهار، يعتد بالطهر وإن مضى أكثره.
وقال بعضهم - مجيبًا عن قول أصحاب أبي حنيفة -: إن القرء: التنقل من حال إلى حال، فالمستحق لهذه التسمية على موجب هذا الاشتقاق، وعلى ما أصلناه آخر زمن الطهر الذي يليه الجيض، ويعقبه الانتقال من حال إلى حال، فعلى هذا يسقط ما قاله أصحاب أبي حنيفة، ويكون الاعتداد بثلاثة أقراء كوامل، وإن ذهب بعض الطهر. وأجاب بعض أصحابنا -أيضًا- بجواب آخر، فقال: غير بعيد تسمية الشيئين وبعض الثالث ثلاثة، وقد قال تعالى:{ الحجّ أشهر معلومات }، وهي شهران وعشرة أيام.(5/427)
قال القاضي: اختلف السلف ومن بعدهم من العلماء واللغويين، في مقتضى لفظة القرء في الآية، هل هو الحيض أو الطهر ؟ أو هو منطلق عليهما حقيقة فيهما مشترك اشتراكًا لا يظهر رجحان أحدهما على الآخر ؟ مع أنه لا خلاف بينهم في إطلاقه في اللغة عليهما. وقيل: هو حقيقة في الحيض، مجاز في الطهر وقيل: هو مشتق من الوقت، وهو محتمل للوجهين، وقيل: من الجمع والتأليف، وهو ظاهر في الطهر. وعليه شاهد قولهم: لم تقرأ جنبنًا. وقيل: من الانتقال من حال إلى حال، وهو المراد بالقرء، لا أنه اسم للطهر ولا للحيض، من قولهم: قرأ النجم: إذا أفل، وقرأ إذا طلع، كأنه قال: يتربصن بأنفسهن ثلاثة أدوار وثلاثة انتقالات، وهذا ظاهر في الطهر والحيض جميعًا، ويستقيم الكلام بانتقالها من الطهر إلى الحيض.
قلنا: ولا يستقيم بانتقالها من الحيفر إلى الطهر ؛ إذ السنة الطلاق في الطهر لا في الحيض، ويعضد هذا أن براءة الرحم إنما تعرف بالانتقال من الطهر إلى الحيض. ولهذا كانت براءة استبراء الإماء إذا دلّ مجئ الحيض غالبًا على براءة الرحم، ولا يستدل بانتقالها من الحيض إلى الطهر على ذلك ؛ إذ قد تحمل الحائض آخر حيضها، فكانت الثلاث في الحرائر كالواحدة في استبراء الإماء. حكاه القاضي إسماعيل عن أبي عبيدة، وهذا اختيار الإمام أبي القاسم الطبري والشافعي، ومتاخرى محققى أصحابنا، وهو حسن دقيق.
ثم اختلف القائلون: إنها الحيض، متى تخقض بها العدة، فقال أبو حنيفة وأصحابه: حتى تغتسل من الثالثة، أو يذهب وقت صلاة، وهو قول جماعة من البصريين. وقال الثوري وزفر: حتى تغتسل من الثالثة، وقاله جماعة أيضًا، منهم: عمر وعلى وعبيد الله وإسحاق وأبو عبيد. وقال الأوزاعي في آخرين: بانقطاع الدم حلت، وعن إسحاق إذا طلعت في الثالثة انقطعت الرجعة، ولكن لا تتزوج حتى تغتسل، مراعاة واحتياطًا للخلاف.(5/428)
واختلف القاثلون أيضًا: إنها الأطهار، متى تحل ؟ هل بأول قطرة من دم تراها بعد انقضاء أمر آخر الأطهار ؟ أم حتى يستمر حيضها مستقيمة ؟ والقولان عغدنا معروفان في ذلك، وعلى هذا اختلافهم في أقل الحيض كم هو ؟
وقوله:« مرهُ فليراجعها »، اختلف العلماء، هل هذا الأمر على الوجوب المطلق في الحيض ؟ وهو قول مالك وأصحابه، أو على الترغيب والحض ؟ وإليه ذهب الأوزاعي والكوفيون والشافعي وأحمد وفقهاء أصحاب الحديث، قالوا: يؤمر ولا يجبر، ليقع الطلاق سنة.
قال الإمام: الرجعة تصح في كل طلاق تقاصر عند نهاية ما يملك منه وليس معه فداء، ووقع بعد وطء المرأة بعقد صحيح ووطء جائز، وهي تصح عندنا بالقول ولا خلاف في ذلك وتصح عندنا - أيضًا - بالفعل الحال محل القول، الدال في العادة على الارتجاع بالرطء والتقبيل واللمس، بشرط القصد إلى الارتجاع به، وأنكر الشافعي صحة الارتجاع بالفعل أصلاً، وأثبته أبو حنيفة لى ان يى قع من غير قصد، وهو قول ابن وهب من أصحابنا في الواطئ بغير قصد، وهذه المسألة مبنية عندي على مسألة قبلها وهي المطلقة طلاقًا رجعيًّا، هل يوصف وطؤها بأنه محرم أم لا ؟ فعندنا وعند الشافعي: أنه محرم، وأبي ذلك أبو حنيفة.
وتجاذب المختلفون في هذا قوله تعالى:{ وبعولتهن أحق برذهن في ذلك}، فقال الحنفيون: قوله تعالى:{ وبعولتهن } يدل على إثبات الزوجة والزوجية، فإذا ثبتت يستحيل معها تحريم الوطء، ولا دليل يلجئ إلى أن المراد: من كان بعلاً لهن ؛ لأن ذلك مجاز، وتعلق المالكيون بقوله تعالى: {أحق بردهن }، والرد لا يكون إلا لما ذهب، ولا ذاهب إلا تحليل الوطء.
وتجاذبوا - أيضًا - طرق الاعتبار ؛ لأن المطلقة طلاقًا رجعيًّا يثبت لها التوارث، وتستحق النفقة، كمن لم يطلق، وتجب عليها العدة وتسري إلى البينونة، بخلاف الزوجة، فكل واحد من المختلفين مدها إلى الأجل المرافق لمذهبه.(5/429)
وإذا ثبتت هذا، وصح بناء المسألة التي أشرنا إليها عليه، قلنا: إذا كان الوطء عند أبي حنيفة غير محرم فلا معنى لقصد الإستباحة بالأفعال ؛ إذ الفعل في نفسه غير محرم فيستباح، وإذا قلنا بأن الوطء محرم فلا يستباح الشىء نفسه، وإنما يستباح بغيره، فماذا يكون هذا الغير ؟ قصره الشافعي على الأقوال النطقية وقصرها أصحابنا على المقصود.
وأشار بعض المتأخرين من شيوخنا إلى ترك التعويل على القصد بمجردة دون أن يضامه قول نفسي، وهو إيجاب الارتجاع في النفس، فيكون الاختلاف على طريقة هذا الشيخ بيننا وبين الشافعي في تعيين القول، ونحن متفقون على إثبات أصله، يقول الشافعي: القول النطقي، ونحن نقول: القول النفسي إذا صدر عنه مايدل عليه من الأحوال التي أشرنا إليها، ويختلف معه في الفعل على حسب ما قدمناه.
والإشهاد على الرجعة اختلف الناس فيه أيضًا، هل يجب أم يستحب ؟ ومدار الاختلاف على قوله تعالى:{ فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم }، فالأمر بالشهادة ورد بعد جملتين، فهل تعود إلى قربهما إليه أو إليهما جميعًا ؛ على اختلاف أهل الأصول في هذا الأصل فمن رأى عود مثل هذا على أقرب المذكورات، إن لم يكن في الآية دلالة على إثبات الإشهاد على الرجعة فضلاً عن تفصيل حكمه، ومن رأى أن مثل هذا يعود إلى سائر الجمل، وقال: بأن الأمر مجردة على الندب، استحب الإشهاد على الرجعة، ومن قال: مجردة على الوجوب، أوجب الإشهاد على الرجعة. وإن عورض أن الإشهاد على الطلاق، وهو أقرب المذكورين على الندب، قال: خروجه بدليل لا يوجب خروج الجملة الأولى عن الأصل.(5/430)
وقوله في بعض طرقه:« ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملاً "، فيه دلالة على جواز طلاق الحامل على الإطلاق دون التفصيل، وهو أحد القولين عندنا في طلاقها وهي حائض، وقد منعه بعض أصحابنا، كما منع أيضًا طلاق من لم يدخل بها وهي حائض، وأجازه الآخرون، وهذا راجع إلى الاختلاف في النهي عن الطلاق في الحيض، فمن رأى أنه معتل بتطويل العدّة، أجازه في الحامل وفي التي لم يدخل بها ؛ إذ الحامل من عدتها الوضع، ولا تطويل فيها، ومن لم يدخل بها لا عدة عليها أصلاً، فتوصف بطول أو قصر، ومن رآه غير معتل، مع الطلاق في المسألتين جميعًا. هكذا أورد شيوخنا في التدريس، وفيه نظر ؛ لأن قضية ابن عمر قضية في عين، فإذا قلنا: إن النهي غير معلل، افتقر المنع في المسألتين إلى دليل على القول بأن القضايا في الأعيان لا تتعدى، وكون مجرد النهي غير معلل لا يوجب الحكم في المسألتين بالمغ. وأما الطريقة الأخرى - وهو إثبات التعليل - فإنما يصح ما قالوه فيها - أيضًا - على القول بأن العلة إذا ارتفعت، ارتفع حكمها، وهذا فيه تفصيل وتحقيق.
قال القاضي: " وفي قوله مره فليراجعها "، دليل على صحة ما أوقع من الطلاق ؛ إذ لا تكون رجعة إلا بعد فراق، ويؤكده قوله بعد في حديث:" ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق ».
قال الإمام: وقوله: " أرأيت إن عجز أو استحمق "، في الكلام حذف، وتقديره: أفيرتفع عنه الطلاق، إن عجز أو استحمق.(5/431)
قال القاضي: معناه:إن عجز عن الرجعة، وفعل فعل العجاز أو فعل الحمقى، وقيل: أرأيت إن عجز في المراجعة التي أمر بها، يعنى حين فاته وقتها بتمام عدتها، أو ذهاب عقله فلم يمكنه بعد في الحالتين مراجعة، أتبقى معلقة لا ذات زوج ولا مطلقة ؟ فلابد من احتسابه بذلك الطلاق الذي أوقعه على غير وجهه، كما لو عجز عن بعض فرائضه فلم يقمه، أو استحمق فضيعه، كان يسقط عنه، وهذا إنكار كثير، وحجة على من قال: لا يعتد به، وقائله راوي القصة، وصاحب النازلة، وقد جاء مفسرًا في حديث آخر: " أرأيت إن كان ابن عمر عجز واستحمق، فما يمنعه أن يكون طلاقًا "، وقوله في الحديث الآخر:" وحسبت لها التطليقة التي طلقها "، وقول نافع: "اعتد بها ".
وقوله: " فمه "، استفهام، معناه التقرير: أي فممّا يكون إن لم يحتسب بتلك التطليقة، أهي ؟، هل يكون إلا ذلك ؟ فأبدل من الألف هاء كما قالوا: مهما، وإنما هي مَامَا، أي: أي شيء.
وقوله:" أما أنت طلقت امرأتك مرة أو مرتين، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني بهذا "، يعنى الرجعة، هذا لفظ مشكل، قيل: معنى:" أما أنت " بفتح الهمزة: أي إن كنت، فحذفوا الفعل الذي يلى أن، وجعلوا "ما" عوضًا من الفعل، وفتحوا " أن " وأدغموا النون في " ما " وجاءوا " بـ"أنت" مكان العلامة في " كنت "، يدل عليه قوله بعد:" وإن كنت طلقتها ثلاثًا، فقد حرمت عليك ". وأبو غلاب يونس بن جبير، بفتح الغين وتخفيف اللام، كذا قيدناه عن أبي بحر، وقيدناه عن أبي علي بتشديد اللام، وكذا ذكره الأمير أبو نصر.(5/432)
وقوله في حديث ابن جريج، عن ابن طاووس، عن أبيه ؛ أنه سمع ابن عمر الحديث، وفي آخره: قال: لم أسمعه يزيد على ذلك لأبيه، كذا رويناه وهو مشكل، فيه تلفيف، حتى قرأه بعضهم:" لابنه " مكان " لأبيه "، وهو تصحيف، والكلام الأول مستقبل، وتفهيمه وتقويم الكلام: أن القائل:" لم أسمعه يزيد على ذلك " هو ابن طاووس، يعنى: لم يسمع أباه يزيد على ما رواه من الحديث ولا ذكر زيادة غيره، والهاء في " لم أسمعه "، عائدة على أبيه طاووس، وبين ذلك ابن جريج بقوله: " لأبيه "، والهاء في " لأبيه "، عائدة على ابن طاووس. وقول ابن عمر: وقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -:{ يا أيها النبي اذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن }، وفي غيره:" لقبل عدتهن "، أي: في استقبال عدتهن، وهذه قراءة ابن عمر وابن عباس، وفي قول ابن مسعود: "لقبل طهرهن "، قال القشيرى وغيره: وهذه قراءة على التفسير لا على التلاوة، وهو يصحح أن المراد بالأقراء الأطهار ؛ إذ لا تستقبل عدة الحيض عند الجميع ؛ إذ لا يجتزى بها عند أحد من الطائفتين.
وقوله:« فليراجعها ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملاً،: فيه أن طلاق الحامل طلاق سنة أي وقت شاء من الحمل، مالم تقرب ويضر في حد المرض، وهو قول كافة العلماء.(5/433)
قال الشافعي: ويكون الطلاق فيه عليها متى شاء، حتى يتم الثلاث على الصلة. وقال أبوحنيفة وأبو يوسف: يجعل بين التطليقتين شهرًا. قال مالك ومحمد ابن الحسن وزفر: لا يوقع فيها أكثر من واحدة حتى تضع. وقوله في سند / هذا الحديث: عبد الرحمن بن أيمن مولى عزة، كذا هو في حديث هرون عند جميع الرواة، ووقع عند العذري: مولى عروة، وهذا غلط، وقد بينه مسلم بعد هذا في حديث محمد بن رافع، وروايته فيه: مولى عروة. وقول مسلم فيه " أخطأ حيث قال: عروة، وإنما هو مولى عزة " على أنه وقع عند السمرقندي والشنتجالي والطبري في حديث ابن رافع:" عزة "، هو غلط في الرواية عنه، وان كان هو الصواب ؛ إذ قد بين مسلم أنه غلط فيه كما تقدم.(5/434)
وقول ابن عباس: " كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر - وعند الطبري: سنين من خلافة عمر - طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم، وفي طريق أبي الصهباء أنه قال لابن عباس: أتعلم أنها كانت الثلاث تجعل واحدٌ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر ؟ فقال ابن عباس: نعم، وفي طريق آخر عن أبي الصهباء: " ألم يكن طلاق الثلاث على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر واحدة ؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر - رضي الله عنه - تتابع الناس في الطلاق، فأجازه عليهم،، وفي كتاب أبي داود نحو هذا عن أبي الصهباء، إلا أنه قال:" كان الرجل إذا طلق أمرأته قبل أن يدخل بها، جعلوه واحدة "، قال الإمام: طلاق الثلاث في مرة واحدة واقع لازم عند كافة العلماء، وقد شذ الحجاج بن أرطاة وابن مقاتل فقالا: لا يقع، وتعلقا في ذلك بمثل هذا الخبر، وبما قلناه ؟ أنه واقع في بعض الطرق أن ابن عمر طلقها ثلاثًا في حيض، لكنه لم يحتسب به، وما وقع في حديث ركانة أنه طلقها ثلاثًا، وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجعتها. والرد على هؤلاء قوله تعالى:{ ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا }، يعنى أن المطلق قد يكون له ندم، فلا يمكن تلافيه لوقوع البينونة، فلو كانت الثلاث لا تقع أصلاً، لم يكن طلاق يبتدأ يقع إلا رجعيًّا فلا معنى للندم. وأما حديث ركانه فصحيحة أنه طلق امرأته البتة فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إلا واحدة، فقال:« ما أردت ؟»، قال: واحدة. قال:« آلله »، قال: والله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« هو على ما أردت »، فلو كانت الثلاث لا تقع، لم يكن لتحليفه معنى، وهذه الرواية أصح من روايتهم ؟ أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا ؛ لأن(5/435)
رواتها أهل بيت ركانة وهم أعلم بقصة صاحبهم. وإنما روى الرواية الأخرى بنو رافع ولم يسقوا، ولعلهم سمعوا أنه طلقها البتة، وهم يعتقدون أن البتة هي الثلاث، كرأي مالك فيها، فعبروا عن ذلك بالمعنى، وقالوا: طلقها ثلاثًا، لاعتقادهم أن البتة هي الثلاث. وأما حديث ابن عمر، فقد ذكرنا أن الصحيح فه أنها واحدة، وقد ذكر مسلم من طريقتين.
وأما قول ابن عباس:"كان الطلاق الثلاث واحدة، على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -"، فقال بعض العلماء البغداديين: المراد به أنه كان المعتاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - تطليقة واحدة، وقد اعتاد الناس الآن التطليق بالثلاث، فالمعنى: كان الطلاق الموقع الآن ثلاثًا، يوقع واحدة فيما قيل، إنكارا لخروجهم عن السنة. ورواية أبي الصهباء في أحد الطريقين: " تعلم أنها كانت الثلاث تجعل واحدة " /يحتمل - أيضًا - هذا المعنى الذي قاله هؤلاء، وان كان هذا اللفظ الثاني أبعد من الأول قليلاً لقوله: " كانت الثلاث تجعل واحدة "، ولكن يصح أن يريد كانت الثلاث الموقعة الآن تجعل واحدة، بمعنى: يوقع واحدة. وقال آخرون: يمكن أن يكون المراد به فيمن كرر لفظ الطلاق، فقال: أنت طالق، أنت طالق، فإنها كانت عندهم محمولة في القديم على التأكيد، فصار الناس الآن يحملونها على التحديد، فالزموا ذلك لقصدهم له.(5/436)
وقد زعم بعض من لا خبرة له بالحقائق، أن ذلك كان ثم نسخ. وهذا غلط فاحش لأن عمر - رضي الله عنه - لا ينسخ، ولو نسخ - وحاشاه منه - لبادرت الصحابة إلى إنكار ذلك عليه، وإن كان يريد أنه نسخ في حياة النبي ظيض، فمعنى ما أراد صحيح، لكنه يخرج عن ظاهر الخبر في قوله: " كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر " ؛ لأنه إذا نسخ في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصدق الراوى فيما قال، فإن قال: كان الصحابة قد تجتمع على النسخ، فيسمع ذلك منها، قلنا: صدقت، ولكن يستدل بإجماعها على أن عندها نصا نسخت به نصًّا آخر، ولم ينقل إلينا الناسخ اكتفاء باجتماعها، وإما أن تنسخ من تلقاء نفسها، فمعاذ الله ؛ لأنه إجماع على الخطا، وهي معصومة منه.
ولو قدر أن النسخ ظهر لهم في أيام عمر، وقد أجمع عصر أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - على خلاف حكم الناسخ، لم يصح ذلك، ولأنه لا يكون إجماعًا على الخطأ، ونحن لا نراعي انقراض العصر، وهو مذهب المحققين من أهل الأصول. وأما رواية أبي داود عن أبي الصهباء ؟ أن ذلك كان فيمن لم يدخل بها، فقد ذهب إلى هذا المذهب قوم من التابعين، من أصحاب ابن عباس، ورأوا أن الثلاث لا تقع على غير المدخول بها ؛ لأنها بالواحدة تبين، وبقوله: أنت طالق، بانت. وقوله ثلاثًا، كلام وقع بعد البينونة فلا يعتد به، وهذا باطل عند جمهور العلماء ؛ لأن قوله: أنت طالق، أعناه: ذات طلاق، وهذا اللفظ يصلح للواحدة كما ذكر. وقولهم: " ثلاثًا " تبين لمعنى قوله: ذات طلاق، فلا يصح إطراحه.
قال القاضي: قوله:" كانت لهما فيه أناة "، أي مهلة وبقية استمتاع وانتظار للرجعة، كما قال تعالى:{ لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا }.(5/437)
وقوله:" فلما كانت في عهد يتايع الناس في الطلاق، فأجازه عليهم "، كذا روايتنا عن أكثرهم:" يتايع "، بياء باثتين تحتها، وكان عند ابن أبي جعفر: " تتابع " بياء واحدة، وهما بمعنى، إلا أن الياء باثتين إنما تستعمل في الشر، وهي أليق بهذا المعنى.
ومعنى:" هات من هناتك "، أي من أخبارك / وأمورك، وكأنها هنا فيما يستغرب وينكر، كأنه قال: من فتواك المنكرة وأخبارك المكروهة، يقال: في فلان هنات: أي أشياء منكرة. وهي جمع هنة، ولا يستعمل هكذا إلا فيما يكن عنه. وأما الهنة والهنات تحملا في غير هذا، فيستعمل في كل شيء، ويكنى عن كل أمر وقد تقدم من شرحه.
وذهب بعض أهل الظاهر إلى أن إيقاع الثلاث واحدة، وهو مذهب طاووس ؟ أخذا بظاهر الحديث. وقيل: هر مذهب الحجاج بن أرطاة، ومحمد بن إسحاق، وقد روى عنهما، أنه لا يلزم منها شيء. وهذان قولان لم يقل بهما أحد من فقهاء الأمصار وأئمة الفتوى.
قال الإمام: ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول في الحرام:" يمين يكفرها"، وقال ابن عباس: ا لقد كان لكم في رسول النه أسوة حسنة،، وذكر حديث سبب نزول قوله تعالى:{ لم تحرم ما أحل الله لك }، وتواطؤ عائشة وحفصة على قولهما:" أجد منك ريح مغافير "، قال الإمام: إذا قال لزوجته: أنت على حرام، فاختلف المذهب في ذلك. فالمشهور أنها ثلاث تطليقات، يكون كما قيل في غير المدخول بها خاصة، ولعبد الملك في المبسوط: لا ينوي في أقل وإن لم يدخل، وعند أبي مصعب ومحمد بن عبد الحكم: هي لمن لم يدخل بها واحدة، وللمدخرل بها ثلاث. وذكر ابن خويز منداد عن مالك: أنها واحدة بائنة، وإن كانت مدخولا بها، وحكى ابن سحنون عن عبد العزيز ابن أبي سلمة أنها واحدة رجعية.(5/438)
وقد اختلفت أجوبة مالك وأصحابه، في كنايات الطلاق، فسلكوا فيها طرقًا مختلفة، ففي بعضها يحمل اللفظ على الثلاث، ولا ينوي في أقل، وفي بعضها:" ينوي في أقل وفيه يحمل على الواحدة حتى ينوي أكثر منها، وفي بعضها: ينوي قبل الدخول ولا ينوي بعده، وبعضها فيمن لم يدخل بها واحدة، وفي المدخول بها ثلاث. هذا جملة ما يقولونه في ذلك، ويختلفون في بعض الألفاظ من أي هذه الأقسام هو تفصيل ذلك، وذكر/ الروايات فيه وتعديد الألفاظ فيه طول، ولكنا نعقد أصلاً يرجع إليه جميع ما وقع في الروايات على كثرتها، ويعلم منه سبب اختلافهم، فيما اختلفوا فيه، ووجه تفرقتهم فيما فرقوا فيه، ووجه التنويه في أ بعض أ (4) دون بعض. فاعلم أن الألفاظ الدالة على الطلاق، إما أن تدل عليه بحكم وضع اللغة، وبحكم عرف الاستعمال، أو لا تكون لها دلالة عليه أصلاً، وان لم يكن لها دلالة عليه فلا فائدة في ذكرها ها فا، وان كانت لها دلالة عليه فلا تخلو إما أن تكون دلالتها عليه في اللغة أو في الاستعمال تتضمن البينونة والعدد بقولهم: أنت طالق ثلاثًا فهذا لا يختلف في وقوع الثلاث وأنه لا ينوي، ولا يفترق الجواب في المدخول بها وغير المدخول بها، ويكون
دلالتها على البينونة وانقطاع الملك خاصة، فينظر في ذلك، هل يصح انقطاع الملك والبينونة بالواحدة أو لا يصح في الشرع إلا بالثلاث ؟ وهذا أصل مختلف فيه، إذا لم تكن معه معاوضة، أو يكون يدل على عدد غالبًا قد يستعمل في غيره نادرا، فيحمل مع عدم القصد على الغالب، ومع وجود القصد على النادر إذا قصد إليه وجاء مستفتيا فيه، وان كانت عليه بينة، فتختلف فروع هذا القسم، ران كان يستعمل في الأعداد استعمالا متساويًا وقصد إلى أحد الأعداد، قبل منه، جاء مستفتيا أو قامت عليه بينة، وان لم يكن له قصد فهذا موضع الاضطراب.(5/439)
فمن أصحابنا من يحمله على أقل الأعداد واستصحابًا لبراءة الذمة، وأخذا بالمتيقن ودون ما زاد، ومنهم من يحمله على أكثر الأعداد أخذًا بالاحتياط، واستظهارًا في صيانة الفروج، ولا سيما على قولنا: إن الطلقة الواحدة تحرم، فكان الاستباحة بالرجعة مشكوك فيها هنا، ولا تستباح الفروج بالشك.
فاضبط هذا، فإنه من أسرار العلم، وإليه ينحصر جميع ما قاله العلماء المتقدمون في هذه المسائل، وبه تضبط مسائل الفتوى في هذا الفن، وأقرب مثال يوضح لك هذه الجملة، ما نحن فيه من مسألة القائل: الحلال على حرام، فقولهم في المشهور أنها ثلاث، وينوي في غير المدخول بها في أقل، بناء على أن هذا اللفظ وضع لإبانة العصمة، وأنها لا لبين بعد الدخول بأقل من ثلاث، وتبين قبل الدخول بواحدة، ولكنها في العدد غالبًا في الثلاث، ونادرًا في أقل منه، فحملت قبل الدخول على الثلاث، ونوى في أقل.
وقول عبد الملك: لا ينوي في أقل وان لم يدخل بها، بناء على أنها موضوعة للثلاث، لقوله: أنت طالق ثلاثًا، ويلحق باول الأقسام التي ذكرنا.
وقول أبي مصعب: هي في التي لم يدخل بها واحدة، والمدخول بها ثلاث، بناء على أنها لا تفيد عددا، وإنما تفيد البينونة لا أكثر، والبينونة تصح في غير المدخول بها بواحدة، ولا تصح في المدخول بها إلا بالثلاث، على إحدى الطريقتين التي ذكرنا. وقول ابن خويزمنداد عن مالك: أنها واحدة ثابتة، وإن كانت مدخولاً بها، بناء على أنها لاتفيد عددًا، كطريقة أبي مصعب، ولكن غده أن البينونة تصح بعد الدخول بواحدة. فمن هاهنا افترقت طرقهم.(5/440)
وقول ابن أبي سلمة، بناء على أنها تفيد انقطاع الملك / على صفة، ولاتستعمل غالبًا في الثلاث، فحكم. لكونها واحدة لصحة معنى اللفظ في الواحدة، وهي كونها محرمة عندنا وإن كانت الطلقة رجعية، وهكذا محتمل قول عبد الملك وربيعة في الخلية والبرية، والبائنة: أنها في غير المدخول بها واحدة، مأخوذ من إحدى هذه الطرق التي ذكرنا. وتنويه أشهب في الخلية والبرية وان كانت مدخولا بها على ما حكى عنه أبو الفرج، يؤخذ - أيضًا - من إحدى هذه الطرق التي قدمنا.
وعلى هذا يخرج من المسائل مالا يحصى كثرة فاحتفظ به فإنه عقد حسن.
وقد كثر اختلاف الصحابة في مسألة القائل: الحلال على حرام ومن سواهم من العلماء، هل هو ظهار أو يمين تكفر، ولا يلزم فيه شيء إلا في الزوجة كما قال مالك: والذي يلزم في الزوجة فيه الخلاف الذي ذكرناه وفي بعض ما أوردناه كفاية. قال القاضي: للعلماء خلاف كثير في الحرام، فمنها هذه الأقوال المتقدمة الخمسة، ومشهور قول مالك منها بقول جماعة، منهم: على وزيد والحسن والحكم، وبقول عبد الملك، قال ابن أبي ليلى، وفيها ثمانية أقوال أخر، منها قول ابن شهاب: أن له نيته ولا تكون أقل من واحدة. وقول سفيان: إن نوى ثلاثًا فثلاث، وإن نوى واحدة فواحدة، وإن نوى يمينًا فيمين، وإن لم ينو شيئًا فلا شيء، هي كذبة. وقول الأوزاعي وأبي ثور مثله، إلا أنه قال: وإن لم ينو شيئًا فكفارة يمين.
وقول الشافعي: إن نوى الطلاق فما أراد من عدده وان كان نوى واحدة فهي رجعية، وروى مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين، وإن أراد تحريمها فكفارة يمين، وليس بِمُولٍ.(5/441)
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن نوى الطلاق فواحدة بائنة، إلا أن ينوي ثلاثًا، فإن نوى اثنتين فهي واحدة، وإن لم ينو شيئًا فهي يمين وهو مول، وإن نوى الكذب، فليس بشيء، وقال مثله زفر إلا أنه قال: إذا نوى اثنتين لزمتاه، وقال إسحاق: فيها كفارة الظهار، وقال بعض التابعين: هي يمين يكفرها ما يكفر اليمين، وذكره مسلم عن ابن عباس، وقيل: هي كتحريم الماء والطعام، لا يلزمه فيه شيء، وهو قول الشعبى ومسروق وأبي سلمة، وهو قول أصبغ.
وهذا في الحرائر، وأما في الإماء فلا يلزم التحريم فيهن عند مالك، كالطعام، وذلك لغو فيما عدا الأزواج، وذهب عامة العلماء إلى أن عليه كفارة يمين لمجرد التحريم، وقال أبر حنيفة: إذا قال ذلك حرم عليه ما قاله فيه من طعام وغيره، ولا شيء عليه، حتى إذا تناوله لزمته كفارة يمين، وأم الولد كالأمة على ما تقدم.
وقوله: " إنى أجد منك ريح مغافير "، قال الإمام: المغافير جمع مغفور، وهو صمغ حلو كالناطف، وله رائحة كريهة، ينفخه شجر يقال له: العرفط وهو بالحجاز.
وقوله: " جرستت نحله "، أي: اكلت، قال أبو عبيد في مصنفه: يقال: جرست النحل تجرس جرسًا: إذا أكلت لتعسل. قال الهروي: ويقال: النحل جوارس، بمعنى: أواكل.
قال القاضي: وقع في الأصل:" مغافر " بغير ياء التعويض، والصواب إثباتها ؛ لأنها عوض من الواو أتى في المفرد، وإنما جاءت محذوفة في ضرورة الشعر. وقال بعضهم: العرفط نبات له ورقة عريضة تفترش على الأرض له شوكة حجناء، وثمرة بيضاء كالقطن، مثل زر القميص، خبيث الرائحة، وتخبث رائحة راعيه ورائحة ألبانها، حتى يتاذى منه الناس، وزعم المهلب أن رائحة المغافير والعرفط حسنة، وهو خلاف ما يقتضيه الحديث، وما قاله الناس، قال أهل اللغة: العرفط من شجر العضاة، وهو كل شجر له شوك، وقيل: رائحته تثبه رائحة النبيذ، وكان النبي - عليه السلام - يكره أن يوجد منه رائحة تكره.
وقوله:" عكة من عسل "، هي أصغر من القربة.(5/442)
وقولها:" فكدت أن أبادئه فرقا منك "، أي ابتداؤه بالكلام قبل أن تدنو منى خوفًا منك"، وفي رواية ابن الحذاء: " أناديه " من النداء، وليس بشيء.
وفي هذا الحديث إفشاء السر ذنب تجب التوبة منه لقوله تعالى:{ إن تتوبا إلى الله }، وكذلك التظاهر على الزوج وعلى المؤمن فيما يضر به، ويتأذى منه، ويقطع منفعة عنه. وفيه كرامة نبينا - عليه السلام - وهذه الأمة، بأن الله لم يلزمها ما حرمته على نفسها، كما فعل بمن تقدم من الأنبياء والأمم.
وقوله: فنزل:{ لم تحرم ما أحل الله لك }، قد اختلف في سبب نزولها، فجاء عن عائشة أنه هذه القصة، وعن زيد بن أسلم: أنها نزلت في تحريمه عليه مارية جاريته، وحلفه ألا يطأها.
ولا حجة لمن أوجب في التحريم بظاهر الآية كفارة يمين بقوله:{ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }، لما روي أنه قال::« والله لا أطؤها »، ثم قال:« هي عليّ حرام »، وروي مثل ذلك من حلفه على شربه العسل المذكور وتحريمه، ذكره ابن المنذر في رواية البخاري:« لن أعود له وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدًا ».
وقال الطحاوي: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في شرب العسل: لن يعود إليه، ولم يذكر يمينًا، لكن قوله تعالى:{ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } يوجب أن يكون قد كان هناك يمين.
قال القاضي: قد ذكرنا ما في كتاب البخاري من قوله:" قد حلفت، لا تخبري بذلك أحدًا »، فهذه يمين إن نوى بها الحلف بالله، وهو ظاهره.. وقد استدل بعض العلماء بقوله:{ لم تحرم ما أحل الله لك } على أن ما عدا الزوجات لا يحرم بلفظ التحريم من الإماء وغيرهن على ما تقدم لإباحة ذلك في الحرة بالطلاق.
وقوله:" كان - عليه السلام - يحب الحلواء والعسل "، حجة في استعمال مباحات الدنيا، وأكل لذيذ الأطعمة. والحلواء هنا: كل طعام مستحلى.(5/443)
ودورانه المذكور في الحديث بعد العصر على نسائه إما لأن حكمه في القسم بخلاف غيره كما تقدم / فإن العدل غير واجب، لكنه كان مع هذا يعدل، فيفعل هذا في كل واحدة، ليسوي بينهن في نفسه، وأما على وجوب القسم، فإنما لكل واحدة يومها، ولا يسوغ مثل هذا معهن إلا برضى جميعهن ؛ لأنها مشاركة في يومها لهن، وقد يحتج بهذا من يرى العدل إنما يختص بالمبيت لا في الزيادة، وقد تقدم هذا، وقد جاء في "الأم":" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستأذننا إذا كان في يوم المرأة منا "، وهذا يوضح صحة ما تأولناه قبل، وقال الداودي: كان جعل ما بعد العصر ملغي، كأنه يشير إلى ما تقدم، أ، جعله وقتًا مشتركًا لجميعهن.
وذكر في حديث حجاج عن ابن جريج ؛ أن التي شرب عندها العسل زينب، وأن المتظاهرتين عائشة وحفصة، وكذلك جاء في حديث ابن عباس وعمر: أن المتظاهرتين هما. وذكر مسلم - أيضًا - من رواية أبي أسامة عن هشام أن حفصة هي التي شرب عندها العسل، وأن عائشة وسودة وصفية هن اللواتي تظاهرن عليه، والأول أصح.
قال النسائي في حديث حجاج: إسناد جيد صحيح غاية. قال الأصيلي: حديث الحجاج أصح طرقه، وهو أولى بظاهر كتاب الله واكمل فائدة، يريد بقوله:{ وإن تظاهرا عليه }، فهما اثنتان لا ثلاثة كما جاء في رواية أبي أسامة، وأن المتظاهرتين عائشة وحفصة كما قال فيه، واعترف به عمر - رضي الله عنه - وانقلبت الأسماء في الرواية الأخرى.
كما أنه الصحيح في أمر العسل، لا في قصة أم إبراهيم، كما جاء في غير "الصحيحين"، ولم يات بتلك القصة طريق صحيح، قال النسائي: حديث عائشة في العسل إسناده جيد صحيح غاية.(5/444)
وقوله:{ وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثًا }، لقوله:« بل شربت عسلاً »، كذا جاء في مسلم، وفيه اختصار وتمامه:« ولن أعود إليه وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدًا »، على ما رواه البخاري، فهذا أحد الأقوال في ذلك، وذلك لئلا تبلغ الأخرى الخبر، وأنه فعله ابتغاء مرضاة أزواجه، فيتغير قلبها. وقيل بل ذلك في قصة مارية، واستكتامه حفصة ألا تخبر بذلك عائشة. قيل: بل أسر إلى حفصة أن الخليفة بعده أبو بكر ثم عمر.
وقول عائشة: " لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتخيير أزواجه بدأ بي " الحديث: وفيه أنه خير نساءه فلم يكن طوالق.
قال الإمام: التخيير عندنا والتمليك حكمهما مفترق، ففي التمليك، وهو قوله:« أمرك بيدك »، له التناكر في الثلاث إذا نوى أقل، وفي التخيير لا مناكرة له، وقال ابن الجهم من أصحابنا: له المناكرة في التخيير، ويصدق أنه أراد واحدة، وتكون بائنة، وهذا كته يعرف وجه التحقيق فيه، من العقد الذي قدمناه قبل هذا، فكانهم في المشهور من المذهب، رأوا أن التخيير وضع للبينونة ولا يكون في المدخول بها بأقل من ثلاث، فلم يمكنوه من المناكرة، ورأى ابن الجهم، أنها تكون بالواحدة البائنة، فمكنه من المناكرة.
وفرق المذهب بين التخيير والتمليك لهذا المعنى أيضًا، وهو أن التخيير جرى الاستعمال فيه بالبينونة، فلم يجر الاستعمال بذلد في التمليك، فافترق حكمهما، وإذا ملكها عددا، فلا يخلو - أيضًا - أن نورده بلفظ لا يدل الاقتصار على ما تضمنه، أو لفظ يدل على الاقتصار عليه، فإن كان بلفظ لا يدل على الاقتصار، فقضت بالأقل، فلها ذلك، لأنه ملكها العدد فما دونه، وإن قضت بأكثر، ففي لزوم العدد الذي ملكها خلات أيضًا، وإن قضت بأقل ففي لزوم ما قضت به أيضًا خلاف.(5/445)
ووجه الخلاف في الاكثر إذا قضيت به هل يسقط ما ملكها أو يثبت ؟ أن من اسقطه رأى أنه ملكها على صفحة، فقضت بخلافها، فلا يلزمه ما قضت به ؛ لأنه إذا ملكها تطثيقتين فقضت بالثلاث، فإن الثلاث غير التطليقتين، فلا يلزمه التطليقتان وقد قضت بغيرهما، ووجه القول باللزوم، أن الزائد على ما تملكه كالعدد، فكأنها لم تنطق به واقتصرت على ما تملكه فلزمه.
ووجه الخلاف أيضًا، إذا ملكها عددا فقضت بأقل، إن من لم يلزمه فلأنها قضت على غير الصفة التي أعطاها، فلا يلزمه ما قضت به، لا سيما وللمملك في الأعداد غرض ؛ لأن الاكثر منها يسقط النفقة، ويحل لأخت المطلقة، ولا يلزم خلاف غرضه، وكمن باع منه ثلاث أثواب، فأراد قبول واحد منها، فليس ذلك له.
وقد ألزم ابن القصار إذا ملكها أمرها، وأمر امرأة أخرى معها فطلقت نفسها خاصة، أن ذلك لا يلزمه، ورأى أنه في معنى من ملك عددا فقضت عليه بأقل منه. ومسألة ابن القصار هذه للنظر فيها عندي مجال، وتفتقر إلى تفصيل، ووجه القول بانه إذا قضت بأقل لزم، أنه كس وهب ثلاثة أثواب، فقبل واحدا منها، وهذا للآخرين أن ينفصلوا منه، ويقولوا: لو صح أن يكون له غرض في قبوله منه الثلاثة جميعًا، لم يكن الموهوب من قبول واحد.
وقولها: " فلم يعد ذلك طلاقًا ": فيه رد على من يقول: إنه يلزمه الطلاق وإن اختارت الزوج.
قال القاضي: وقولها:" فلم يكن طلاقًا " وفي الرواية الأخرى: "فاخترناه فلم يعد علينا شيئًا ": اختلف العلماء في التخيير إذا اختارت المرأة نفسها ما يكون ؟، فقيل القولان المتقدمان عندنا: أنها ثلاث بكل حال، وهو مشهور قول مالك، وقاله الليث وا لحسن.(5/446)
ثم اختلف عندنا إذا قضت بأقل من ثلاث، فقال مالك: لا يلزمه وسقط ما بيدها، وقال أشهب: ترجع على خيارها. وقال عبد الملك: هي ثلاث بكل حال، وقيل: إنها واحدة بائنة، وهو قول أبي حنيفة، وحكى عن مالك، وروى عن على بن أبي طالب. وقيل: واحدة رجعية، وهو قول عبد العزيز والشافعي والثوري وابن أبي ليلى وأبي يوسف، وحكى ابن سحنون عن أبيه نحوه، وروى عن عمر وابن مسعود.
وقالت فرقة: هو ما / قضت به الزوجة من واحدة أو أكثر، وقيل: هو على ما نواه الزوج، وله مناكرتها في الخيار كالتمليك.، والطلقة بائنة، وهو قول ابن الجهم من أصحابنا وغيره. وقال بعضهم: تكون رجعية. وقالت فرقة: ليس للمخيرة ولا للمملكة شيء من الطلاق.
واختلفوا إذا اختارت زوجها، فكافتهم على أنه لا يلزم فيه شيء، وهو قول جماعة السلف، وأئمة الفتوى، ومشهور مذهب مالك، وروى عن على وزيد بن ثابت والحسن والليث: أن نفس الخيار طلقة واحدة بائنة، وإن اختارت زوجها، وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك، ونحوه عن ربيعة في التمليك، قال: وإن اختارت نفسها فثلاث ولا يصح هذا عن مالك، والأحاديث الصحيحة ترده.
وكذلك اختلف شيوخنا: هل إيقاع الخيار مكروه وبدعة، أو مباح وسنة، فقيل: ذلك مكرره لما تضمن من إيقاع الثلاث، وقيل: غير مكروه، فليس بنفس الطلاق الثلاث، وإنما هو تخيير في الإقامة أو في الفرقة ؟ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أمر به وفعله. وقيل: إنما أمر الله نبيه بتخيير أزواجه بين الدنيا والاخرة، فمن آثرت الدنيا طلقها بالطلاق الذي أمره الله به، فليس فيه حجة في التخيير في الطلاق، ولا في إباحة التخيير، ولا حجة لجواز إيقاع الثلاث.
قال الإمام: وقوله: " وجات عنقها "، أي: دققته، ومنه الحديث: "فليأخذ سبع تمرات فليجاهن "، أي فأدقهن.(5/447)
قال القاضي: هذا أصل الوجاء، وليس كل دق في العنق وجاء، وإنما هو شبه الطعن والغمز يقال: وجات البعير: إذا طعنته في منخره، ووجات الوتد: ضربته، ووجاته بالسكين: طعنته به.
وقولها:" فعليك بعيبتك "، تريد ابنته، قيل: العيبة الابنة.
قال الإمام: أي بخاصتك وموضع سرك، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -:« الأنصار كرشي وعيبتي »، قال ابن الأنباري: يعنى " كرشي " أصحابي وجماعتي الذين أعتمد عليهم، وأصل الكيرش في اللغة: الجماعة، وجعل الأنصار عيبته: خصوصيته إياهم ؛ لأنه يطلعهم على أسرار،، قال غيره: فمعنى " عيبتي ": خاصتي وموضع سري، قال أهل اللغة: والعيبة في كلام العرب، معناها: ما يجعل فيه الرجل أفضل ثيابه، وحر متاعه، وأنفسه عنده.
قال القاضي: كذا رواية العذري والفارسي وكافة الرواة، وهو الصواب على ما تقدم، ورواه بعضهم عن السجزي: في بغيبتك، وليس بشيء، وعند ابن ماهان:" بنفسك ".
وقوله:" هو في المشربة "، قال الإمام: فيها لغتان: فتح الراء وضمها. ورباح المذكور في هذا الحديث هو بفتح الراء، وباء واحدة تحتها.
وقوله:" فلم أزل أحدثه حتى كشر "، قال ابن السكيت: كشر وابتسم وبسم وافتر وأنكل كله بمعنى واحد، فإن زاد قيل: قهقه، وزهدق وكركر، فإن أفرط قيل: استغرب ضحكًا، وقال صاحب الأفعال: كشر: أبدى أسنانه تبسمًا أو غضبًا.
قال القاضي: فيه بسط نفس الغضبان، وتسلية لمغتم بما يباح من الحديث، لا بالسخف من الكلام والأفعال، ومثله قوله في الرواية الأخرى: "لأقولن شيئًا أضحك به النبي - صلى الله عليه وسلم - "،
قال الإمام: وقوله:" فبينا أنا في أمر أأتمره "، أي أرتئي فيه وأشاور نفسي، يقال: ائتمر رأيه / وشاور نفسه وارتأى قبل مواقعة الأمر.
وقوله:" على رمال حصير"، قال ابن القوطية: رملت الحصير رملاً وأرملته: إذا نسجته.(5/448)
قال القاضي: تفسير هذا قوله في الحديث الآخر:" وإذا الحصير قد أثر في جنبه "، وجاء في حديث إسحاق:" متكئ على رمل حصير، قد أثر في جنبه"، أي أثر نسجها في جنبه. و"متكئ" هنا بمعنى: مضطجع، في الحديث الآخر. وتأثير الرمال في جنبه يدل عليه. وكل متمكن متكئ، وعليه تأول الخطابي قوله - عليه السلام -:« أما أنا فلا آكل متكئًا »، أي متمكنًا في قعودي له كالمتربع ونحوه، بدليل قوله آخر الحديث:« بل آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد »، وكما جاء في الحديث الآخر:" أنه أكل مقعيًّا"، وأنكر تأويل من تأول أنه الميل على جنب.
وقوله:" واجمًا ساكتًا "، أي مطرقًا كالمغضب. " و أسكفة المشربة " بضم الهمزة والكاف: عتبة الباب السفلى. و " فقير الخشب " بتقديم الفاء، فسره في الحديث بالجذع يرقى عليه، وهو الذي جعلت فيه فقر كالدرج يصعد عليها، أخذ من فقار الظهر، ومنه: فقار السيف، فقيل للجذع: فقير، بمعنى مفقور، وفقار الظهر: خرزات عظمامه التي بطوله، وفقار السيف حزوز بظبتيه في متنه شبهت بفقار الظهر.
وقوله:" يرتقي إليها بعجلة "، كذا روايتنا عن ابن عيسى، وعند غيره: " بعجلها "، والأول أوجه وأبين. والعجلة: درجة من النخل، قاله القتبي.
وقوله:" حتى تحسر الغضب عن وجهه "، أي: زال وانكشف.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة:« لا تعجلي حتى تستأمري أبويك »، وقد علم أن أبويّ لم يكونا ليأمراني بفراقه، لكراهته - عليه السلام - فراقها، وخوفه أن تبادر بذلك إذا جعل ذلك إليها، لما في ظاهره من الزهو بتخيبرها، وأنفة النساء عند مثل هذا، مع صغر سنها.
وقولها:" لا تخبر امرأة من نسائك بالذى قلت " غيرة منها، وحرصًا على التفرد بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والاستكثار منه.(5/449)
وقوله:« إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا، ولكن بعثت معلمًا ميسرًا »، أصل العنت: الشدة وإدخال المشقة: أي لم يبعثني بهذا لغيري ولا في خاصتي، وآخر الحديث يدل عليه، وهو قوله:" ميسرًا "، ورواه بعضهم: "مبتسرًا "، والأول أولى، لمطابقته معناه. والقرظ: الصمغ، معروف. والأفيق، بفتح الهمزة: الجلد لم يتم دباغه. والإهاب: مالم يدبغ، جمعه أُهبٌ وأَهبٌ. و" وينكتون الحصى "، أي يضربون به الأرض، فعل المشغول السّر والواجم. كما قال امرؤ القيس:
أعد الحصى ما تنقضي عبراتي
وتبرز: أتى البراز، بفتح الباء، وهي الأرض البارزة عن البيوت والمساكن، يأتونها لقضاء الحاجة.
وقوله:" أوسم "، أي أجمل، والوسامة: الجمال.
وذكر في الحديث الأول: أن التي شرب عندها العسل زينب، وفي الحديث بعده: أنها حفصة، والأول الصواب ؛ بدليل الأحاديث الأخر في الباب، والذي بعده أن حفصة إحدى المتظاهرتين عليه.
وفي حديث عمر وإشارته علي النبي - صلى الله عليه وسلم - لتطليق أزواجه: جواز مثل هذا إذا كان على وجه المصلحة. في تأديب عمر وأبي بكر لبنتيهما: جواز ذلك للآباء لكبار الأبناء ومتزوجاتهن. وفيه اهتمام المسلمين لما أهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واجتماعهم لذلك وبكاؤهم واستعظامهم ذلك. وفيه وجوب الاستئذان على المرء في منزله، وأن عرف أنه وحده، وتكرار الاستئذان إذا لم يؤذن، والعودة لذلك، وسيأتى في بابه الكلام عليه.
وجواز اتخاذ الأئمة والكبراء الحجاب عند انفرادهم لما يهمهم، وأنه إذا فهم الحاجب بالكوت المغ لم يستأذن ؛ إذ قد سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - استئذان عمر فسكت، فنظر إليه الغلام ولم يستأذن ولا أذن لعمر، والغالب من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان لا يتخذ على بابه بوابًا.(5/450)
وفي فعل عمر من ملاطفة أمر النبي - عليه السلام - وتسليته بعد استئذانه في الاستئناس وإضحاكه إياه: ما يقتدى به من فعله، وأنه لا بأس بمثل هذا من التلطف بالكلام الحسن المباح، لا بالسخف والمجانة ومحاكاة الناس.
وقوله:" أستأنس "، من هذا المعنى، لينبسط في الكلام لئلا يأتي بما لا يوافق النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديثه، فيزيده هما وحزنا فلم يرد أن يحدث بغير ما هم فيه حتى يستأذن، وهو من الأدب اللازم بين يدى الاكابر والعلماء. وقال إسماعيل القاضي: معنى يستأنس هنا: في الإذن، واحتج بذلك على قوله: { حتى تستأنسوا }.
وفيه ما كان عليه - عليه السلام - من التقلل من الدنيا والزهد فيها والقناعة بالدون منها. وفيه جواز سكنى الغرف، واتخاذ الخزانة لأثاث المرء. وفيه ما كانوا عليه من الحرص على طلب العلم والتناوب فيه، وحمل بعضهم عن بعض كفعل عمر والأنصاري.
وفي خدمة ابن عباس لعمر ما يجب للأئمة والعلماء وأهل الفضل من الحق، وخدمة الفضلاء بعضهم لبعض، وبر الصغار بالكبار وهبته تلك المدة عن سؤاله عن تفسير الآية، لما كانت إحدى المتظاهرات على النبي - صلى الله عليه وسلم - حفصة ابنته ؛ ولذلك قال له:" واها لك يابن عباس ": وهي لفظة توضع للتعجب، كما قال في الرواية الأخرى:" واعجبًا لك يا ابن عباس "، ألا ترى الزهري كيف قال: كره والله، والله ما أسأله عنه ولم يكتمه، وهذا يرد ما تأوله بعضهم في هذا أنه إنما تعجب، وأنكر عليه أنه لم يعلم من هما إلى الآن، مع حرصه على العلم.
وفي قوله: " إن كان عتابًا كان خاليًا على ما جاء في رواية البخاري ما يدل برفع ابن عباس لذلك. وفيه ما كان عليه - عليه السلام - من حسن الصحبة وجميل العشرة مع أزواجه والصبر على غيرتهن وأخلاقهن، كما خص عليه - عليه السلام - في حسن عشرة النساء، والصبر على اعوجاجهن، والاستمتاع بهن على ذلك.(5/451)
وفيه أن هجرانهن له لم يكن في مغ حق له عليهن، وإنما كان في ترك الكلام والإعراض وتيسير الوجه بما طبعن عليه من ذلك، وحملتهن عليه الغيرة.
وفيه المخاطبة بأجمل الألفاظ وأحسنها، بقوله:" إن كانت جارتك "، ولم يقل: ضرتك، والعرب تفعل ذلك، لما في لفظة "الضرة" من الاسم المكروه.
وفيه جواز قرع الباب للاستئذان، وشدة القرع فيه للأمور المهمة. وجواز النظر إلى مالم يستر في بيت المزور، لا سيما الصاحب، وقد جاء النهي عن فضول النظر وكراهيته عن السلف.
وفيه هجره - عليه السلام - لهن في غير بيوتهن تأديبًا لهن، قال بعضهم: لما فيه من الرفق ؛ إذ هجرانهن مع الكرن معهن المم لقلوبهن.
قال القاضي: الأمر بالعكس أولى، بل بعده عنهن أغيظ لهن وأشد حسرة، وهذا مما اختلف فيه العلماء. وذهب بعضهم أنه لا يكون ذلك إلا في بيوتهن، وفيه حديث، وهذا حجة عليه، وقد نبه عليه البخاري وترجم به، ورجح حديث عمر. وفيه جواز القسم على مثل هذا، وقد قال تعالى: { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن } الآية. وقد اختلفت في معنى قوله تعالى هذا، فقيل: هجرانها في المضجع أن ينام معها ولا يجامعها، وقيل: ينام معها فيه ويوليها ظهره ولا يكلمها، وقيل: يهجرها بلسانه ويغلظ لها بالقول ولا يدع جماعها.
وفي قول عمر:" رغم أنف حفصة "، جواز قول مثل هذا وقاله عمر بن عبد العزيز وابن حبيب، وقد كرهه مالك، ومعناه: ذل أنفها ولصق بالتراب، وهو الرغام، من الذلة.
وفيه قوله: " إن كانت جارتك "، يريد: ضرتك، وكانوا يكرهون تسميتها ضرة لما في لفظه من الضر.
وقوله:« أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الدنيا »، يحتج به من يفضل الفقر على الغنى، لما في/ مفهوم هذا أن بمقدار ما يتعجل من طيبات الدنيا يفوته من الآخرة ما كان يدخر له لو لم يستعجله، وقد يتأوله الآخرون بأن المراد أن حظ هؤلاء من النعيم ما نالوه في الدنيا، ولاحظ لهم في الآخرة لكفرهم.(5/452)
قال الإمام: ذكر مسلم في هذا الباب:حدثنا عن سفيان بن عيينة أبو عبد الله، قال البخاري: ولا يصح ابن حنين وهو مولى العباس هكذا يقول ابن عيينة، قال البخاري: ولا يصح قوله، وقال مالك: مولى ال زيد بن الخطاب، وقال محمد بن جعفر ابن أبي كثير: مولى بني زربق.
قال القاضي: الصحيح عندهم قول مالك، وحديثه عند أهل المدينة.
وذكر في الحديث: أنه آلى من نسائه شهرًا. الإيلاء: الحلف، وأصله: الامتناع من فعل الشيء. آلى إيلاء، وتَألى تأليًّا وائتلى ائتلاء، وصار في عرف الفقهاء مختصًا بالحلف على الاعتزال من جماع الزوجات إلا ما حكي عن ابن سيرين من أنه محمول على كل حلف عليهن، من جماع أو كلام أو إنفاق.
ولا خلاف بين العلماء، أن مجرد الإيلاء، لا يوجب في حينه طلاقًا ولا حكمًا. واختلفوا، هل له تقدير ومدة به يجب حكمه الذي نص عليه بقوله: { للذين يؤلون من ثسائهم تربص أربعة أشهر } الآية، أم لا ؟ مذهب علماء الحجاز والمدنيين وجمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم: إلى أن ذلك لمن حلف على أكئر من أربعة أشهر، فمن حلف على أربعة فأقل، فليس بمول. وذهب الكوفيون إلى أن ذلك لمن حلف على أربعة أشهر فأكثر، لا على أقل.
وشذ ابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن في آخرين منهم، فقال: إن حلف على ألا يجامعها يومًا أو أقل، ثم تركها حتى مضت أربعة أشهر فهو مول تعلقًا بظاهر الآية.(5/453)
وروي عن ابن عمر عكس هذا، أن كل من وقت ليمينه وقتا وضرب مدة وإن طالت، فليس بمول، وإنما المولي من حلف على الأبد. ولا خلاف بينهم أنه لا يقع عليه طلاق قبل الأربعة أشهر، ولا خلاف أنه إن أحنث نفسه قبل تمامها، أن الإيلاء ساقط عنه. ثم اختلفوا اختلافًا آخر: هل بانقضاء الأربعة الأشهر يقع الطلاق ؟ وهو قول الكوفيين كلهم ويقدرون الآية: فإن فاؤوا فيهن، أم حتى يوقف الزوج فإما فاء وإما طلق، أو طلق عليه السلطان ؟ هو قول علماء الحجاز والمدينة ومصر وكافة فقهاء اصحاب الحديث وأهل الظاهر، وتقدير الآية عند هؤلاء: فإن فاؤوا بعدهن، وهو مشهور قول مالك وأصحابه، وحكى عنه مثل قول الكوفيين وقال أشهب من أصحابنا: إن قال: أنا أفيء، أمهل حتى تنقضي عدتها، فإن لم يف بانت منه.
ثم اختلف القائلون بوقوع الطلاق بالقضاء الأربعة الأشهر، هل هو بائن أو رجعي ؟ وأما الآخرون فلا خلاف بينهم أنها رجعية، إلا أن مالكًا يقول: لا يصح فيها الرجعة حتى يطأ الزوج في العدة، ولم يحفظ هذا الشرط لأحد سواه.
وكذلك اختلفوا إذا وقع الطلاق وقد حاضت ثلاثًا في الأربعة الأشهر، هل تحتاج إلى استئناف عدة ؟ وهو قول الكافة، أم لا تحتاج إليها وتلك تغنيها وتتزوج مكانها ؟ وهو قول جابر بن زيد، وقال به الشافعي في القديم.
وكذلك اختلفوا: هل يكون غير قاصد الضرر والحالف في الرضا وعلى غير الغضب، موليًا أولاً ؟ فكافتهم على أنه يكون مرليا بكل وجه. وذهب مالك والأوزاعي إلى أنه لا يكون موليًا، إذا حلف لمصلحة ولده حتى تفطمه، وهو قياس قولهم في شبه هذا، مما لم يقصد به الضرر، وبه قال أبو عبيد، وعن على وابن عباس قالا: إنما يكون موليًا، إذا حلف على وجه الغضب، وأما على وجه الرضا فلا يكون موليًا.(5/454)
وقوله تعالى في الآية:{ فإن فاءوا فإن الله غفوررحيم }، يشعر بأن الإيلاء إنما له هذا الحكم، إذا قصد به الإضرار ؛ إذ عنه يكون الغفران والرحمة، وقيل: غفور في اجترامهم بالحلف على ذلك وتحنيث أنفسهم بالفيء رحيم بهم، وقيل: غفور فيما زاد على الأربعة الأشهر ؛ إذ قد أباح له التربص فيها فما زاد فهو محظور. وفيه حجة لمشهور قول مالك والكافة.
وقوله: " فجلست فأدنى عليه إزاره "، فيه أن مجالسة الرجل لغيره وإن كان ممن يختص به، بخلاف جلوسه وحده من التحفظ والتستر/، لما تدعو إليه الضرورة من كشف جسده ؛ لأن ذلك من المروءة والسمت.
وفي بداية النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: فضيلتها على غيرها وأثرتها عنده، وكذلك بدايته بالدخول عند تمام الشهر عندها، يحتمل أنها كانت نربتها بعد التي خرج عنها قبل يمينه، ويحتمل أنه ابتدأ القسم الآن فبدأ بها، ويحتمل أنه بدأ بالدخول عندها ثم دخل إلى سائر نسائه فسوى بينهن واستمر بعد قسمه على ما أراد من ذلك.
وقوله في الحديث من رواية ابن أبي شيبة:" اللتين تظاهرتا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، توقيرًا لهما وبرًا ؛ أن يقول في هذا الحديث: تظاهرتا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فكنى بعهده واكتفى به عن غيره، وقد جاء في الحديث الآخر مبينًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما قال:{ وإن تظاهرا عليه }.
وقوله لعائشة:« إن الشهر تسع وعشرون »، فيه حجة لابن عبدالحكم، أن من عليه صيام شهر، فصامه بالأيام أنه يجزيه، خلاف قول مالك وأصحابه: أنه يتم ثلاثين ؛ إذ ليس في هذا الحديث صومه للهلال، بل قول عائشة:" أعدهن عدًّا " يدل على ما قلناه.
حديث فاطمة بنت قيس(5/455)
قال الإمام: خرج مسلم في حديث فاطمة بنت قيس: " أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة"، هكذا يقول ابن شهاب: عن أبي سلمة وعن عبيد الله بن عبد الله: أن أبا عمرو بن حفص. وكذا قال مالك: عن عبد الله بن يزيد عن أبي سلمة أبو حفص / بن المغيرة، وهكذا قال الأوزاعي. عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، وقال شيبان وأبان العطار: عن يحيى أن أبا حفص بن عمرو، فقلنا: والمحفوظ ما قالت الجماعة، وذكر الدولابى عن النسانى: أن اسم أبي عمرو هذا " أحمد ".
قال القاضي: الأشهر في اسمه كنيته. وقوله:" طلقها "، هذا هو الصحيح والذي جاءت به الرواية من الحفاظ، على اختلاف صفة الطلاق، هل ثلاث أو البتة أو آخر ثلاث تطليقات على ما سيأتى تفسيره.(5/456)
وقد جاء في آخر الكتاب في حديث الجساسة لفظ يوهم أنه مات عنها، وليس هذا على ظاهره، أو يكون وهما من راويه، وقد تكلمنا عليه بما يستغرب هناك، فانظره. قال الإمام: خرج مسلم في حديث فاطمة بنت قيس: أن زوجها طلقها البتة وهو غائب، فارسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله مالك علينا من شيء، فجاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فقال - عليه السلام -:« ليس لك عليه نفقة »، فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال:« تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك، فإذا حللت فأذنيني »، قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأباجهم خطباني، فقال - صلى الله عليه وسلم -: « أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، فانكحي أسامة بن زيد »، فكرهته، ثم قال:« انكحي أسامة بن زيد »، فنكحته فجعل الله فيه خيرًا، واغتبطت به، وفي بعض طرقه قال:« لا نفقة لك ولا سكنى »، وفي بعض طرقه: طلقها ثلاثًا، طلاق الماضى فطلق خالد في فرقه، وقالوا: إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثًا، فهل لها من نفقة ؟ وأرسل إليها:" ألا تسبقيني بنفسك، وفي بعض طرقه:" طلقها آخر ثلاث تطليقات، فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - تستفتيه في خروجها من بيتها "، وفي بعض طرقه: أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت من طلاقها، وفي بعض طرقه عن فاطمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المطلقة ثلاثًا:« ليس لها سكنى ولا نفقة »، وفي بعض طرقه قال عمر: " لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، لقول امرأة جهلت أو نسيت لها السكنى والنفقة، قال الله تعالى:{ لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن } الآية، وفي بعض طرقه:« أما معاوية فرجل ترب لا مال له، وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء »، وفي بعض طرقه: أن عائشة - رضى الله عنها - قالت: ما لفاطمة بنت قيس خير في أن تذكر هذا الحديث لا، وفي بعض طرقه: ا(5/457)
يارسول الله، طلقنى ثلاثًا وأخاف أن يقتحم على، فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحولت، قال الإمام: اختلف الناس في المطلقة البائن الحائل هل لها السكنى والنفقة، فقال بعضهم: لها السكنى والنفقة وقد ذكره مسلم عن عمر، وهو قول أبي حنيفة، وقال آخرون: لا سكنى لها ولا نفقة، وهو قول ابن عباس وأحمد، وآخرون: لها السكنى ولا نفقة لها، وهو مذهب مالك.
فأما من أثبت لها السكنى والنفتة، فتعلق بقول الله سبحانه: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم }، وأما النفقة فلأنها محبوسة عليه، وهذا عنده توجب لها النفقة.
وقول عمر:" لا ندع كتاب ربنا "، فالذى يظهر في كتاب ربنا إثبات السكنى خاصة، وفي قول عمر هذا، إشارة إلى ترك تخصيص القرآن باخبار الاحاد، وإن كان أراد بقوله:" جهلت أو نسيت "، جواز ذلك عليها، وأما إن كان قطع به فلا إشارة فيه لذلك، ويحتمل أن يكون رأى حكم السكن مستقرًا، فيكون هذا الخبر نسخًا، والنسخ لا يكون بإخبار الآحاد باتفاق، بعد زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وحجة من يقول: لا سكنى لها ولا نفقة ما رواه مسلم ها هنا من قوله: " لا نفقة لك ولا سكنى "، وحجة مالك، أن إثبات السكنى مأخوذ من ظاهر القرآن كما قدمنا، وهذا خبر واحد، فقدم لا يخص به العموم، وقد يعتل بما اعتل به ابن المسيب من قوله: تلك امرأة فتنت الناس أنها كانت لسنة، فرضت على يد ابن أم مكتوم، وعن ابن المسيب - أيضًا -: تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها، فأمرها - عليه السلام - أن تنتقل، أو يكون ذلك لأنها خافت في ذلك المنزل بدليل ما رواه مسلم من قولها: أخاف أن يقتحم علي، وقال: إن المسكن لم يكن لزوجها، ولو كان السكنى ساقطًا، لم يأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، ويقصرها على منزل معين.(5/458)
وأما إسقاط مالك النفقة، فلقول الله تعالى:{ وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن }، ودليل هذا الخطاب: أنهن إن يكن حوامل، فلا يلزمنا الإنفاق عليهن، مع التصريح في حديث فاطمة بإسقاط النفقة، ولا مدخل للتأويل في هذا، كما دخل في السكنى، فأكد هذا الخبر دليل خطاب القران، فصار مالك إليه.
قال القاضي: ولم يختلف في المتوفى عنهن أزواجهن أنه لا نفقة لهن، والإجماع على وجوب النفقة والسكنى للمبتوتة كما تقدم. واختلفوا في السكنى لها وفي مقامها في بيتها، فعامتهم على وجوب المقام عليها كالمعتدة وخالف داود وأهل الظاهر فلم يرووا ذلك عليها، وروى عن بعض السلف، ورأى مالك وجوب السكنى لها على الزوج، إذا كان مسكنه، أو استوجب كراه لمدة على اختلاف بين أصحابه في التأويل عليه في اشتراط النقد، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا سكنى عليه جملة، وعن مالك قولة شاذة نحو هذا، وأشار إليه القاضي أبو الحسن بن القصار وقال: هو القياس كالنفقة.
قال الإمام: وفي هذا الحديث فرائد كثيرة، قال بعض العلماء: فيه دلالة على جواز استفتاء المرأة، وسماع المفتى كلامها، وجواز الخطبة على الغير إذا لم يقع تراكن، وجواز أمر المستشار بغير من استشير فيه، وذكر عيوب / الرجال للضرورة إلى ذلك عند المشورة، من قوله:" صعلوك "، و "لا يضع عصاه"، وجواز التعريض في العدة من قوله:" لا تفوتينا بنفسك "، جواز الضرب اليسير للمرأة من قوله:" لا يضع عصاه "، فإنما ذمه بالكثرة.(5/459)
وفيه جواز المبالغة في الكلام، وأن ذلك لا يكون كذبًا، ولا في الأيمان حنثًا، كقوله: " لا يضع عصاه "، ومعلوم أنه قد يضعها، وجواز نكاح من ليس بكفء في النسب ؛ لأن أسامة مولى وفاطمة قرشية، ودلالة على زيارة الرجال المرأة إذا أمن عليها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:« تلك امرأة يغشاها أصحابي ». وزعم بعضهم أن فيه دلالة على جواز الطلاق ثلاثًا، وقد تأول بعضهم أن ما وقع في بعض الطرق من قوله:" طلقها ثلاثًا "، معناه طلقها آخر تطليقة كانت له فيها، وقد ذكر مسلم في بعض طرقه:" فطلقها آخر ثلاث تطليقات ".
وقال بعض العلماء: لا يكون في هذا حجة لأن المطلق غائب فلا يمكن الإنكار عليه، وأما الطرق الذي ذكرها مسلم عن الشعبى عن فاطمة بنت قيس عن النبي ظيض في المطلقة ثلاثًا، قال: ليس لها سئنى ولا نفقة، فيحمل هذا عندنا على أن المراد به كما ورد في. الأحاديث المتقدمة، وان كان ظاهر هذا العموم، والعمرم يمغ تأويل ما ذكرناه في السكنى عن فاطمة، لكن إذا حمل هذا على أن المراد به ما تقدم من الا.حاديث، من فتوى فاطمة، صح ما تقدم فيه من التأويل.(5/460)
قال القاضي: وفي هذا الحديث من الفقه سوى ما تقدم: جواز نظرة الفجأة ومنع ما سواها، لقوله:« يغشاها أصحابى »، أي يلمون بها ويزورونها، فلا يؤمن تكرار نظرهم إليها، وعليها هي أيضًا من المضرة والحرج إن تحفظت وانقبضت على طول مقامهم وتكرارهم مالا يخفى، ولما يخشى عليها من انكشاف ما لا يجوز للرجل النظر إليه من الأجنبية جملة، بكثرة تكرارهم وملازمتهم وتحدثهم عندها، كما جاء في حديث آخر. وكانت أم شريك هذه قرشية عامرية اسمها: غزية، ويقال: غزيلة وقد ذكرها بعضهم في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل فيها: أنصارية، وقد ذكر مسلم أنها من الأنصار بعد آخر الكتاب في حديث الجساسة، وهناك يأتي الكلام بأتم من هذا. وذكر هنا عند ابن عمك عمرو بن أم مكتوم وكذلك جاء في آخر الكتاب: وذلك رجل من بني فهر، من البطن الذي هي منه، والمعروف خلاف هذا وليسا من بطن واحد، هي من بنى محارب بن فهر، وهو من بني عامر بن لؤي. واختلف في اسم ابن أم مكتوم، فقيل: عمرو كما هاهنا، وقيل: عبد الله، وكذا ذكره في "الموطأ" وآخر الكتاب، وقيل غيره، والخلاف في ذلك كثير.
وقال بعضهم: وفيه حجة أن نظر المرأة إلى الرجل وكونها معه إذا لم تنفرد به جائز، وأن ما ينكشف من الرجال للنساء في تصرفهم لا حرج فيه غير العورات، بخلاف النساء معهم. فقد تقدم هذا في الكلام على العورات، وهذا يرد الحديث الآخر من قوله - عليه السلام - لميمونة وأم سلمة:« احتجبا منه » يعنى ابن أم مكتوم، قالتا: إنه أعمى فقال:« أفعمياوان أنتما »؛ لأن راوي هذا الحديث نبهان مولى أم سلمة، وهو ممن لا يحتج بحديثه.(5/461)
قال القاضي: لا يختلف أن على النساء من غض البصر عن الرجال ما على الرجال من غضه عنهن، كما نص الله تعالى عليه، وأمر الكل بذلك، ووجه الجمع بين هذين الحديثين على تسليم صحتهما، وأن غض البصر في الوجهين عن النظرة الثانية، واجب من الجميع، ثم حديث فاطمة: أمرت بالاعتداد عندها وخصن به دون غيره ؛ إذ لا يرى ما ينكشف منها، ألا تراه كيف قال:« تضعين عنده ثيابك »، وإذا وضعت خمارك لم يرك وأمن منه لعماه، ما يخشى من غيره من تردد نظره إليها، بحكم الملازمة والمجاورة، أو لكثرة تحفظها هي وادخال المشقة عليها من غيره ممن له بصر، ممن كان يغشى أم شريك.
وأما حديث نبهان فتختص بزيادة حرمة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنهن كما غلظ الحجاب على الرجال فيهن، غلّظ عليهن في حق الرجال - أيضًا - لعظم حرمتهن، وإلى هذا أشار أبو داود وغيره من العلماء.
وفيه مراعاة الأموال في النكاح، ولا سيما في حق الأزواج، إذ بها تقوم حقوق المرأة. وفيه جواز إخراج المعتدة إذا اذت وفحشت على أهل الدار، وقد قال الله تعالى:{ ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة فبيتة }، قال ابن عباس: هي النشوز وسوء الخلق، ونحو منه عن عائشة، وقيل: هو أن تأتي فاحشة فتخرج لإقامة الحد. وقيل: معناه: إلا أن يأتين بفاحشة بخروجهن: أي أن خروجهن هي الفاحشة، فيكون " إلا " هاهنا بمعنى " لكن،. وقيل: الفاحشة بذاؤها على أهل زوجها، وهو قريب من القول الأول، وقد ذكر في خبر فاطمة بعض هذا، وهو الإشارة في كتاب مسلم من قولها: " لا خير لها في ذكر ذلك ".
وفيه حجة لإخراج كل مؤذ لجيرانه عنهم من منزله، لإخراج هذه من حقها في السكنى. وقد قال مالك وأصحابه في مثله: إن المنزل يباع عليه أو يكرى. وفيه جواز خروجها إذا خافت من المنزل، أو انتقل أهل الموضع، لقولها:" أخاف أن يقتحم علي".(5/462)
وأما قولهم: فيه جواز التعريض، فبعيد ؛ إذ ليس في قوله - عليه السلام -:« لا تسبقينى بنفسك »، غير أمرها بالتربص، ولم يستم لها زوجًا. وكذلك قوله: « آذنيني »، وإنما يكون التعريض من الزوج أاو ممن يتوسط له، بعد تعيينه ومعرفته، وأما في مجهول فلا يصح فيه التعريض ؛ إذ لا يصح فيه مواعدة، ولو أن ولي المرأة أو أجنبيًا منها قال لها: إذا أكملت عدتك زوجتك، أو لا تتزوجي من أحد إذا أكملت عدتك حتى أعلمه. وتشاوريني فيه، لما كان تعريضًا ولا مواعدة، ولكن في الحديث حجة على منع التعريض والخطبة والمواعدة في العدة، إذ لم يذكر لها - عليه السلام - مراده، ولا واعدها عليه ولا خطبها لأسامة. وأجمعوا على أن النكاح في العدة حرام يفسخ وأن المواعدة فيها حرام كما نص الله عليه فيهما.
واختلفوا في صداق المدخول بها، فجمهورهم أن لها عليه مهر مقدم الصداق بما استحل منها، وذكر عن مسروق أن صداقها في بيت المال، وروي عن عمر، وروي عنه الرجوع عنه.
واختلفوا هل يحل له نكاحها بعد تمام العدة ؟ فقال مالك في مشهور قوله والليث والأوزاعي: إذا وطن في العدة أو بعدها لا يحل له نكاحها ابدًا، قال مالك: ولا تحل له وطؤها بملك يمين. وقد قضى به عمر بن الخطاب. وقال أبو حنيفة والشافعي: لاباس أن يتزوجها، وهو قول الثوري وعبد العزيز، وقد قضى به على مرويه، قال ابن نافع من أصحابنا في المبسوطة: وقال المغيرة وغيره: إن وطئ في العدة حرمت عليه، ولا تحرم عليه بالوطء بعدها وأشار إليه مرة مالك، وقيل: حرم عليه بالعقد وإن لم يطأ، وحكي عن مالك.(5/463)
واختلف أئمتنا في القبلة والمباشرة في العدة، هل هي كالوطء أم لا ؟ واختلف قول مالك فيمن وعد في العدة وعقد بعدها، هل يفسخ بقضاء أم لا؟ واختلف عندنا بعد القول بالفسخ إذا وطف في هذا العقد هل يتأبد به التحريم أم لا ؟ ويجوز له نكاحها وهو مشهور قوله، ولم يختلفوا أنه لا يفسخ نكاح من وعد في العدة بخلاف من واعد، لأن المواعدة منهما جميعًا، والوعد من أحدهما مع كونهما سواء في المنع ابتداء، لكن الوعد مكروه والمواعدة حرام.
واختلف عن مالك إذا تزوجها ووطئها في العدة عالِمًا بالتحريم، هل تحرم للأبد ويعاقب ؟ وهي إن علمت ويلحق به الولد ويجب عليه الصداق، أو حكمهما حكم الزانيين ويحدان، ولا يلحق بهما ولد ولا يحرم عليه ولا يجب فيه صداق ؟ وقوله:" فاتحفتنا برطب ابن طاب وسقتنا سويق سلت "، فيه الكرام الفواضل الرجال والأفضال على الزائرين والقاصدين لطلب العلم، وفيه احتجاج عمر بقوله:" لا ندع كتاب الله لحديث امرأة ". وما ذهب إليه عمر ومسروق وغيرهما حجة لمن رأى من الأصوليين أن العموم في القرآن لا يخصص بخبر الاحاد. ووجه اختلاف ألفاظها عندي في سبب خروجها من قولها: " فلم يجعل لى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكنى " مع قولها: "أخاف أن يقتحم علي"، وقولها:" إنه قال لها: لا سكنى لك ": أي لهذه العلة التي ذكرت.
وفي إنكار عائشة على فاطمة فتياها في المسألة على العموم وجوب الإنكار على من يفتى بما لم يحط به علمًا، إذ ظنت فاطمة عموما طلاقًا وأيا كان لعلة، وهذا الذي أنكرت عليها عائشة لا غيره، وكذلك إطلاق الفتيا بغير بيان وتعميمها للعامة بما يجب إنكاره على فاعله لأنه يدخل اللبس.(5/464)
وكذلك إنكار عمر وقوله:" لا ندع كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لها السكنى والنفقة ": ليس معناه في وجوب النفقة وإنما يريد في السكنى. قال الدارقطنى: قوله: "وسنة نبينا "، غير محفوظة لم يذكرها جماعة من الثقات، قال القاضي إسماعيل: الذي في كتاب ربنا النفقة لذوات الأحمال، ونحسب الحديث: ولها السكنى ؛ لأن السكنى مرجود في كتاب الله بقوله: { أسكنوهن } الآية، وزاد أهل الكوفة في الحديث عن عمر: والنفقة.
قال القاضي: وفي تخصيص الله تعالى أولات الأحمال بالنفقة، دليل على أنه لا نفقة لغيرها، واحتجاجها بالآية:{ لا تخرجوهن من بيوتهن }، وقوله:{ لعل الله يحدث بهد ذلك أمرًا }، وقولها هذا لمن كانت له مراجعة بطلاق السبه، وقوله:{ لا تخرجوهن } عموم في المطلقات هذه وغيرها، فأى أمر يحدث بعد الثلاث لا حجة لها ولا يخالف فيه ؛ لأن هذه العلة لم تأت للإخراج، وإنما جاءت لعلة النهي عن تعدي حدود الله في الزيادة على طلاق الواحدة ومخالفته، وكذلك قوله:" فخاصمته في السكنى "، أي خاصمت في تركها والخروج عن المنزل فتتفق الأحاديث على هذا، وكذلك قولها: "أمرني أن أعتد في أهلي "، فوافق لقوله:« انتقلي إلى ابن عمك ابن أم مكتوم» إذ هو من أهلها.(5/465)
ولا حجة للمخالف في إنكار عمر وعائشة عليها في إسقاط النفقة ؛ إذ ليس في ذلك بيان، وإنما أنكر إسقاط السكنى، ويدل عليه قول عمر:" لا ندع كتاب الله وسنة نبيه "، وفي قوله في أبي جهم:« ضراب للنساء »، وفي الرواية الأخرى:« فيه شدة على النساء » حجة لصحة أحد التأويلين في معنى:« لا يضع عصاه عن عاتقه »، على أنه قد جاء في حديث آخر ما يدل على التأويل الآخر أن المراد به كثرة أسفاره. وفيه جواز ضرب انساء وتأديبهن إذ أخبر عنه بهذه الصفة، ولم ينه عنه إذ لعله كان يؤدبهن فيما يجب كما أمره الله وذمه بالإكثار منه، لكنه من لا يفعل ذلك ويتخلق بالحلم وأخلاق النبي - عليه السلام - أفضل. قال علماؤنا: ولم يختلف في ضربهن فيما نص الله عليه من النشوز والامتناع عن الاستمتاع. قال القاضي أبو عبد الله بن المرابط: واختلف في ضربهن فيما يجب عليهن من خدمة بيوتهن.
قال القاضي: وهذا على من أوجب عليهن ذلك، وقد ذكرناه، ولا خلاف أن الإفراط ومجاوزة الحد في أدبهن ممنوع، والمداومة عليه مكروه. وقد نهى النبي - عليه السلام - عن ذلك جملة ؛ إذ ليس من مكارم الأخلاق، وفي حديث آخر.
وقوله في معاوية:« ترب لا مال له »، بمعنى فقير، ترب الرجل: إذا افتقر، ورجل ترب. وقوله: أبو جهم، وأبو جهيم المعروف على التكبير، ولا ينكر في التصغير، وهو أبو جهم بن حذيفة القرشي العذري، وهو صاحب الإنبجانية، وكذا رواه جميع الناس:" أبو جهم "، ولم ينسبوه، إلا يحيى بن يحمى الأندلسي، فقال: أبو جهم ابن هشام. وهو غلط لا يعرف في الصحابة أبو جهم بن هشام، ولم يوافق أحد يحيى بن يحيى على ذلك من رواة "الموطأ" وغيرهم.
وقوله:" سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها "، أي بالثقة والأمر القوي الصحيح. ورواه السمرقندي:" بالقضية " وله معنى يتجه، ولكن لاشك أن الأول الصواب.(5/466)
وذكر مسلم: حديثًا في الباب عن سفيان عن أبي بكر بن أبي الجهم بن صخير. كذا للفارسى والشنتجالي وعند العذري والهوزاني على التكبير، وعند بعضهم:" سجير"، وهو خطأ، والأول الصواب، وبالتصغير ذكره البخاري في "تاريخه".
وقولها:" فشرفني الله بابن زيد وكرمني بابن زيد "، وكذا لكافة الرواة وعند السمرقندي:" بأبي زيد "، فيهما وثبتت الروايتان عند ابن أبي جعفر، وكل صحيح، وهو أسامة بن زيد، ويكنى بأبي زيد، وقيل: أبو محمد.
وقوله - عليه السلام - للمعتدة التي سألته الخروج لجداد نخلها:« بلى، فجدي نخلك، فعسى أن تصدقي وتفعلي خيرًا »، حجة لمالك والليث في جواز خروج المعتدة بالنهار، وأن لزوم منزلهن إنما هو بالليل، هو قول الثوري والليث والشافعي وابن حنبل، وسواء عند مالك كانت رجعية أو مبتوتة. وقال الشافعي: في الرجعية: لا تخرج ليلاً ولا نهارًا، وإنما تخرج نهارًا المبتوتة. وقال أبو حنيفة: ذلك في المتوفى عنها، وأما المطلقة فلا تخرج ليلاً ولا نهارًا. وقال محمد بن الحسن: لا يخرج الجميع ليلاً ولا نهارًا، وقد احتج أبو داود بهذا الحديث في الباب على أنها تخرج بالنهار لقولنا، ووجه استدلالنا: أن الجداد الذي يخرج إليه في الحديث إنما هو بالنهار عرفًا وشرعًا. قد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جداد الليل، وأيضًا فإن نخل الأنصار وأموالهم ليست من البعد بحيث يحتاج إلى المبيت فيها إذا خرج بالنهار، فظاهره بكل وجه أن استئذانها إنما لخروج النهار.
حديث سبيعة الأسلمية
قال الإمام: ذكر مسلم حديث سبيعة لما توفي عنها زوجها فوضعت حملها، فأخبرها النبي - عليه السلام - أنها خلت. اختلف الناس في الحامل المتوفى عنها زوجها، فالمشهور عندنا أنها بوضع الحمل تنقضي عدتها وإن وضعت قبل انقضاء أربعة أشهر وعشر ؛ لقول الله تعالى:{ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن }، فعم ولم يفرق بين عدة وفاة ولا عدة طلاق لأجل حديث سبيعة هذا.(5/467)
وقد قال بعض أصحابنا: عليها أقصى الأجلين ؛ لقوله تعالى:{ والذين يتولون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا } الآية، ولم يفرق بين أن تكون حاملاً أو حائلا، فرأى أن هذه الآية توجب التربص أربعة أشهر وعشر، فإذا انقضت فلابد من طلب الوضع لأجل الآية الأخرى، ولأنه لا يصح نكاح الحامل فاخذ بموجب الإثنين جميعًا، وقد قال ابن مسعود: آية النساء الصغرى نزلت آخرًا، يعني سورة الطلاق، وفيها البراءة بالوضع للحمل، فأشار إلى أنها تقضي على آية البقرة. وهذا ترجيح المذهب المشهور، رالعمومان إذا تعارضا وجب بناؤهما عند أكثر الأصوليين، وإن لم يكن في البناء طرق مختلفة طلب الترجيح. وقد حصل هاهنا بحديث سبعة وبما قاله ابن مسعود.
قال القاضي: لحديث سبيعة قال جميع العلماء وأئمة الفتوى، إلا ما روي عن علي وابن عباس من آخر الأجلين. واختاره سحنون من أصحابنا، وقد روي عن ابن عباس الرجرع عنه والظاهر من الآية أنها معطوفة على المطلقات، إلا أنه عموم نزل على ما قاله ابن مسعود بعد آية المتوفى ولا دليل على التخصيص، فوجب الحكم بالعموم المتأخر، وعضده خبر سبيعة، وهذا أولى من قول من قال هي.... لآية البقرة... من آخر حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن قصة سبيعة الأسلمية كانت بعد حجة الوداع. وزوجها المتوفى هو سعد بن خولة المتوفى بمكة حينئذ.(5/468)
وقوله:« قد حللت حين وضعت »، وقول ابن شهاب: " وإن كانت في دم نفاسها لا أرى باسًا أن تتزوج، هو الذي عليه جمهور العلماء وأئمة الأمصار أنها بتمام الوضع، وإن كان واحدًا أو آخرًا وضع الولدان كان أكثر حل، ولو كان زوجها بعد لم يقبر ولا ينتظر طهرها، وشذ الحسن والشعبي وإبراهيم وحماد فقالوا: لا تنكح ما دامت في دم نفاسها. وهذا الحديث وغيره من الأحاديث يرد عليهم، ولعلهم تعلقوا بقوله في حديث سبيعة: "فلما تعلت من نفاسها "، ومعناه: طهرت من دم نفاسها. يقال: تعلت المرأة من دم نفاسها فهي تتعلى: إذا طهرت منه.
قال الخليل: ولا حجة فيه لأن النبي - عليه السلام - لم يعلل جواز النكاح لها بذلك بل علله بنفس الوضع، وإنما أخبر عنها هي المخبر ؛ أنها حين تعلت من نفاسها فعلت ما فعلت، وليس فعلها مما يوجب حكما. وفي ظاهر قوله: في حللت حين وضعت، ولم تفصتل ولدًا كاملاً أو سقطًا أو غيره، حجة للكافة من أن ذلك يبريها كيف كان من غير مراعاة لتمام خلقه، بل بكل مضغة وعلقة مما يعلم أنه سقط، خلافًا لأحد قولي الشافعي: أنها لا تنقضي عدتها إلا بوضع ولد كامل.
وقوله:" أنها ولدت بعد وفاة زوجها بليال فامرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تتزوج، يدل أنها لم تنتظر انقطاع الدم. وقول أبي السنابل لها:" والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشرًا "، قيل: إنما قال لها ذلك لتتربص لقوله: حتى يأتي أولياؤها إذا كانوا غيبًا فيتزوجها هو، إذا كان لزمها غرض، وكان رجلاً كبيرًا ومالت إلى نكاح غيره كما جاء في حديث مالك. ويحتمل أنه حمل الآية على العمرم لكل متوفى عنها كما حملها غيره، حاملاً كانت أو غير حامل كما تقدم. ولعل الغائب من أوليائها - على التنزيل الأول - كان ممن ترجع إلى رأيه ولا تخالفه / ؛ إذ لو لم يكن لها ولي حاضر جملة لم يكن بد من انتظاره في القرب.(5/469)
وقوله:« لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا »، قال الإمام: الحداد: الامتناع من الزينة والطيب، ويقال منه: أحدت المرأة وحذت، ومنه قيل للبواب: حداد ؛ لمنعه الداخل والخارج إلا بإذن. ولما نزل قوله تعالى:{ عليها تسعة عشر }، قالت الكفرة: ما رأينا سجانين بهذه العدة. فقالت الصحابة: لا تقاس الملائكة بالحداديين، يعنون بالسجانين. ومنه سمي الحديد حديدًا للامتناع به، أو لامتناعه على من يحاوله. ومنه حديد النظر بمعنى: امتناع تقلبه في الجهات، قال النابغة:
إلا سليمان إذ قال الإله له قم في البرية فاحددها عن الفند
أي فامنعها، وإنما منعت المعتدة في الوفاة من الزينة والطيب ولم تمنع منع المعتدة في الطلاق ؛ لأن الزينة والطيب يدعوان إلى النكاح ويوقعان فيه، فنهى عنهما ليكون الامتناع زجرًا عن النكاح، لما كان من الزوج في الوفاة معدومًا لا يحامي عن نسبه، ولا يزجر عن زوجته، بخلاف المطلق الذي هو حي، ويحتفظ على المطلقة لأجل نسبه، فاستغنى بوجوده من زاجر آخر.(5/470)
قال القاضي: قال علماؤنا: لهذا ما عم الاعتداد في جميع نساء الموتى مدخول بها وغيرها بخلاف المطلقات، استظهارًا لحجة الميت الغائبة ؛ إذ لعله لو كان حيًّا لتبين أنه قد دخل بها، كما أنا لا نحكم فيما ثبت عليه من الديون والحقوق إلا بعد تميز الطالب، استظهارًا لحجته لعدمه، قالوا: وهي الحكمة في الزيادة في أمر عدتها على عدة المطلقة ؛ لأنه لما عدم استظهرنا له بأتم البراءة وأوضحها، وهو الأمد الذي يظهر فيه يقين الحمل بحركة الجنين وذلك في الزيادة على الأربعة الأشهر، قال أبو العالية من السلف الصالح: ضمت العشر إلى الأربعة لأن فيها ينفخ الروح. قالوا: ولهذا خصت عدة المتوفى - أيضًا - بما تستوي به معرفة الكل من أمد الزمان، ولم يوكل ذلك إلى أمانة النساء فيجعل بالإقراء كالمطلقات،كل ذلك حوطة لموت الزوج، وعدم المحامى عن نسبه،ولما كان الصغار من الأزواج، ومن لم يبلغ حد الوطء والحمل شاذًّا في الزوجات شملهن الحكم، وعمتهن الحوطة حماية للذريعة، واتقاء للشبهة.
وفي قوله: " لا تحل لمؤمنة "، حجة لأحد القولين لمالك أن الإحداد يخص بالمؤمنات دون الكتابيات ؛ إذ ظاهره اختصاصه بالمؤمنات. وعلى قوله الآخر: أن الإحداد يلزم الكتابيات فيكون هذا القول على التغليظ للمؤمنات.
وبالقول الأول قال أبو حنيفة والكوفيون وابن نافع وابن كنانة وأشهب من أصحابنا. وبالثانى قال الشافعي وعامة أصحابنا.
وفي عمومه دليل على وجوب الإحداد لجميع الزوجات المدخول بها وغيرها والصغار والكبار والإماء والحرائر.
وأجمعوا أنه لا إحداد على أمة أو أم ولد إذا توفى عنهن ساداتهن وهو قول كافة العلماء في جميع ما ذكرناه، وقال أبو حنيفة: لا إحداد على الأمة ولا على الصغيرة.(5/471)
ولا خلاف في أن المطلقة واحدة لا إحداد عليها. واختلف في الإحداد على المطلقات الثلاث، فمذهب مالك والليث والشافعي وربيعة وعطاء وابن المنذر لا إحداد عليها، ومذهب أبي حنيفة والكوفيين وأبي ثور والحكم وأبي عبيد: أن المطلقة ثلاثًا كالمتوفى عنها في وجوب الإحداد. قال الشافعي وأحمد وإسحاق: الاحتياط أن تبقى المطلقة الزينة وذهب الحسن البصرى وشذ وحده إلى إبطال الإحداد جملة على المطلقة والمتوفى.
وقوله: " إلا على ميت "، يدل على اختصاص ذلك بالأموات دون المطلقات على ما ذهب إليه الجمهور. وقوله هذا محمول عند القائلين به على الوجوب لا على الندب. وقد أشار الباجي أن هذا من باب ورود لفظة ا أفعل ا بعد الحظر أنها تحمل على الوجوب، على ما ذهب إليه بعض الأصوليين، خلافًا لمن رآها على الإباحة، وليس هذا الحديث من هذا، ولا فيه ورود أمر بعد حظر، وإنما فيه استثناء من عموم الحظر، فلولا الاتفاق على حمله على الوجوب وأدلة الحديث الآخر. وقوله - عليه السلام - في حديث أم سلمة في الكحل:« لا »، وما يبينه في حديث أم عطية كانت الإباحة أظهر فيه.
وقوله:" أربعة أشهر وعشرًا "، وهو لفظ عدد المؤنث ولو كان هذا على ظاهره لاختصت به الليالي. وقال المبرد: أنّث العشر لاءنه أراد به المدة، وقيل: أراد بذلك الأيام بلياليهن، وإلى هذا ذهب كافة العلماء، وأنها عشرة أيام بعد أربعة أشهر. وقال الأوزاعي: والأصح القول الأول، وأنها تختص بعشر ليال وتحل في اليوم العاشر. وحجتهم: تأنيث العشرة.
وقوله:" أربعة أشهر وعشر "، احتج به قوم على أن ما زاد على هذا العدد إذا كانت حاملاً لا يلزم فيه إحداد. وقد قال أصحابنا: عليها الإحداد حتى تضع وإن تمادى أمرها.
وقوله في هذا الحديث:" خلوق أو غيره "، الخلوق طيب مختلط.(5/472)
وقوله:" ثم مسحت بعارضيها "، قال ابن دريد: عارضًا الإنسان له موضعان: أحدهما: صفحة العنق في بعض اللغات. والثانى: ما بعد الأنياب من الأسنان. وفي كتاب العين عارضة الوجه: ما يبدو منه، والعارضان: شقا الفم، والعوارض: الثنايا. وليس هذا المراد في الحديث، وإنما هو الأول.
وقوله في حديث أم سلمة في المشتكية عينيها في منعها الكحل: " لا "، إنما هي أربعة أشهر وعشر "، ظاهر في وجوب الامتناع من الزينة والإحداد، وقد نص عليه بعد في حديث أم عطية من قوله:« لا تكتحل، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عصب، ولا تمس طيبًا » الحديث، لكنه قد جاء في حديث أم سلمة الآخر في "الموطأ":(( اجعليه بالليل، وامسحيه بالنهار ))، قالوا: ووجه الجمع بين الحديثين أن النهى عنه بالليل لمن اضطر إليه ليس على الإيجاب لكن على الندب لتركه، والكراهة لفعله، وقد اختلف في ذلك. وقد أجاز الكحل للحادِّ - إذا خافت على عينيها- سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار، وقاله مالك في المختصر إذا لم يكن فيه طيب، وقال في غيره: زمان كان فيه طيب إثمد أو غيره، قال ابن المنذر والأسود وغيره، وقاله الكوفيون والنخعي وعطاء والشافعي قال: وتكتحل ليلاً وتمسحه بالنهار كما جاء في الحديث. قال الشافعي: وكل كحل فيه زينة للعين فلا تكتحل به الحادِّ إثمد أو غيره، ولا بأس بغيره عند الضرورة كالفارسي إذا، بزينة بل لا يزيد العين إلا فتحا عند الاضطرار كما تقدم. وقد حكى الباجي ونحوه عن مالك: كان فيه طيب أو لم يكن، فيه سواد أو صفرة، قال: وإن اضطرت إلى ذلك. قال الإمام: ويتأول هذا الحديث على مذهبنا من نهيه عليه السلام، أنه لم يتحقق الخوف على عينها، وإنما فهم- عليه السلام- أن ذلك على جهة العُذر عنده، لا على أن الخوف ثبت، ولو ثبت الخوف حتى اضطرت إليه، لجاز ذلك لها.(5/473)
?????وقوله: ( قد كانت إحداكن ترمى حولاً: دليل على نسخ الحول في عدة الوفاة. ولا خلاف في سقوط حكمه، لكن اختلف في معناه كيف كان، فقيل: كان لها النفقة من مال المتوفى والسكنى سنة ما لم تخرج، فنسخت النفقة بآية المواريث والحول بقوله: ( أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ). وقال مجاهد: كانت تعتد عند أهل زوجها سنهَ واجبًا، فأنزل الله تعالى: ( مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاج فَإنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عليكْم ) الآية، والعدة كما هي عليها واجبة فجعل الله تعالى لها تمام السنة وصية، إن شاءت سكنت وإن شاءت خرجت. وقال ابن عباس: نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها، فتعتد حيث شاءت. وأكثر العلماء على أن آية الأربعة أشهر وعشر ناسخة لها، وهو مما تأخر منسوخة في التلاوة في سورة واحدة وتقدم ناسخه، وليس في القرآن غير هذه القصة وحدها، وأما تقديم ذلك وتأخير من سورتين موجود والإجماع متفق على أن الحول منسوخ، وأن عدة المتوفى أربعة أشهر وعشر، وبينه هذا الحديث المتقدم، وعلم منه أنه نسخه. وقيل: بل هو خص للأزواج على الوصية بتمام السنة لمن لا يرث من الزوجات، وما تقدم من نسخ الآية أشهر وأعرف.
وقوله:« قد كانت إحداكن في الجاهلية ترمى بالبعرة على رأس الحول»، فسره في الحديث.
قال الإمام: قال بعض العلماء: معنى رميها بالبعرة إشارة إلى أن طول مقامها في سوء تلك الحال أسفًا على الزوج هين لما توجبه المراعاة وكرم العشرة، كما يهون الرمى بالبعرة. وقال بعضهم: معناه: أنها رمت بالعدة وراء ظهرها كما رمت بالبعرة.
وقوله:" دخلت حفشا "، الحفش: الخص الحقير. وفي الحديث أنه قال لبعض من وجهه ساعيًا فرجع بمال:" هلا قعد في حفش أمه ينتظر، هل يهدى إليه أم لا؟" قال أبو عبيد: الحفش: الدرج، وجمعه أحفاش. شبه بيت أمه في صغره بالدرج. وقال الشافعي: الحفش: البيت الذليل القريب السمك، سمى به لضيقه. والتحفش: الانضمام والاجتماع وكذلك قال ابن الأعرابي.(5/474)
قال القاضي: وقيل: الحفش مثل القفة من الحوض، تجمع المرأة فيه غزلها وأسبابها، وهذا عن قول أبي عبيد: هو الدرج.
وقوله:« في شر بيتها وشر أحلاسها »، يفسره قوله في الحديث الآخر: " شر ثيابها "، وهو مأخوذ من أحلاس الدواب، وهي كالمسوح تجعل على ظهورها، وكذلك أحلاس البيوت. قال صاحب العين: هي كالمسوح.
وقوله:« ثم تؤتى بدابة فتفتض به، فقلما يفتض بشيء إلا مات »، كذا روايتنا في مسلم بالفاء والضاد المعجمة، وهو المعروف في الحديث.
قال الإمام: قال القتبي: سألت الحجازيين عن الافتضاض، فذكروا أن المعتدة كانت لا تغتسل ولا تمس ماء ولا تقلم ظفرًا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر، ثم تفتض، أي تكسر ما هي فيه من العدة بطائر يمسح به قبلها وتنبذه، فلا يكاد يعيش، وقال غيره: الفض: الكسر والقطع، ومنه: فض الختم. وذكر الهروي أن الأزهري قال: رواه الشافعي:" فتقبص " بالقاف والباء بواحدة والصاد مهملة، وذكر أنه مفسر في بابه ولم يذكر في باب / القاف والباء والصاد إلا القبض وهو الأخذ بأطراف الأصابع، قال: وقرأ الحسن:{ فقبضت قبضة من أثر الرسول }، وفي بعض أحاديث مسلم: «فإذا مر كلب رمت ببعرة »، يريد - والله أعلم -: إذا مر فافتضت به.
قال القاضي: قال مالك في تفسير "تفتض": تمسح به جلدها كالنشرة. وقال ابن وهب: تمسح بيدها عليه أو على ظهره، وقيل: معناه تمسح به ثم تفتض: أي تغتسل بالماء العذب. والافتضاض: الاغتسال بالماء العذب للإنقاء وإزالة الوسخ حتى يصير كالفضة. قال الأخفش: تفتض: تتنظف وتنتقي، مأخوذ من الفضة، شبها بنقالها وبياضها. وقيل: تفتض: تفارق ما كانت عليه.
وقوله:" توفى حميم لأم حبيبة"، وفي رواية العذري:" توفي حميمة "، الحميم: القريب والخاصة، وأصله: كل من يحمك أمره: أي يحزنك، وأصله من الحميم، وهو الماء الحار.(5/475)
قال الامام: رواه الجلودي وغيره:" حميم لأم حبيبة " وهو الصواب، ووقع في سخة ابن الحذاء:" حميم لأم سلمة "، وذكر رواية مالك في حديث، وفيه ما يدل أن صوابه:" أم حبيبة "، والله أعلم.
وقوله:« ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا / إلا ثوب عصب »، إشارة إلى خشن الثياب وما لا كثير زينة فيه من المصبوغ.
قال القاضي: قال ابن المنذر: أجمعوا على أنه لا يجوز لها لباس المصبغة والمعصرة إلا ما صبغ بالسواد ورخص في السواد مالك والشافعي وهو قول عروة. وكره ذلك الزهري وكره عروة والشافعي العصب وهي برود اليمن يعصب غزلها ثم يصبغ معصوبا، ثم ينسج فيتوشى. وأجاز ذلك الزهري لها، وأجاز مالك غليظه. قال أحمد بن نصر: قوله:" ثوب عصب " يعنى: الخضرة وهي الجبر. وقوله: " الخضرة، ليس بصواب. قال ابن المنذر: ورخص كل من يحفظ عنه العلم في البياض.
قال القاضي: ذهب الشافعي إلى أن كل صبغ زينة فلا تلبسه الحاد، غليظا كان أو رقيقًا. ونحوه للقاضى أبي محمد عبد الوهاب قال: كل ما كان من الألوان يتزين به النساء لأزواجهن فتمنع منه الحاد، ومنع بعض متاخرى شيوخنا من جيد البياض الذي يتزين به ويجمل، وكذلك الرفيع من السواد.(5/476)
وقوله:" ولا تمس طيبًا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار "، النبذة: الشيء اليسير، وأدخل فيه الهاء لأنه بمعنى القطعة. وإنما رخص لها في هذا كما قال في الحديث:" ورخص للمرأة في طهرها لأجل قطع الروائح الكريهة والتنظف، لا على معنى التطيب والتزين، مع أن القسط والأظفار ليس من مؤنث الطيب المستعمل نفسه في ذلك، فرخص في اليسير منه للضرورة، وظاهره التبخر بهما. وقال الداودى: معناه: أن تستحق القسط وتلقيه في الماء آخر غسلها ليذهب برائحة الحيض، كما قال للمستحاضة:« خذى فرصة ممسكة فتتبعى بها أثر الدم »، والأول أظهر. والقسط ليس بطيب برائحته إلا في البخور وكذلك الأظفار، لاسيما مع القسط، فهو بخور مستعمل معروف، والقسط معلوم من الأنواع المستعملة في البخور، وأكثر ما يستعمل هو والقسط مع غيره لا بمجرده، وقد رواه بعضهم في كتاب البخاري:" قسط أظفار " وهو خطأ. وعند بعضهم: " قسط ظفار. وظفار مدينة باليمن تنسب إليها. ولهذا وجه، ومن رواه:"وأظفار "، أو "أظفار "، أحسن، والله أعلم.
أحاديث اللعان
ذكر مسلم حديث العجلانى وامرأته وقوله: " يا رسول الله ! أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، أيقتله فتقتلونه ؟ " فيه: يجوز السؤال لئلا يصرح بالقذف فيجب عليه الحد في الرجل، ولا يخلصه منه لزوجته إلا لعانه، خلافًا للشافعي في إسقاطه عنه الحد في الرجل بلعان زوجته ؛ لأنه عنده بحكم أشيع. قال الخطابي: وذلك إذا دخله في لعانه، ولأنه في ترك تسميته لا حد عليه حتى يصرح باسمه، خلافًا للشافعي في حده وإن لم يسمه إن لم يلتعن، أو لعله كان يعتقد أن ذلك يجب عليه في زوجته فلذلك لم يصرح، أو أبهم الأمر حتى يرى كيف يكون الحكم فيه، فيعمل بحسب ذلك من كتمه أو إبدائه.(5/477)
وقوله:" أيقتله فتقتلونه ؟ ": يحتمل أن يكون سؤالاً عن هذا الحكم إذا فعله، ويحتمل أنه علم الحكم ولكنه قاله على سبيل التوصل إلى وجه آخر غيره، يصل به إلى شفاء غيظه، وإزالة غيرته، واحتج بعض الشافعية به على أنه لا حد في التعريض ولا حجة فيه ؛ إذا لم يسم المعرض به ولا أشار إليه.
قال الإمام: وجعله بعض الناس حجة على الزوج إذا قتل رجلاً، وزعم أنه وجده مع امرأته، أنه يقتل به ولا يصدق إلا ببينة ؛ لأنه - عليه السلام - لم ينكر عليه ما قال.
قال القاضي: قد يكون سكوته - عليه السلام - لئلا يتسبب بذلك أهل الأذى والشر إلى القتل، فيدعون هذا السبب لكل من قتلوه. وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، واختلف فيها في مذهبنا. فجمهور العلماء على أنه يقتل به إن لم يأت بأربعة شهداء، وهو قول الشافعي وأبي ثور، قالا: ولمجمعه فيما بينه وبين الله قتله، قال أحمد وإسحاق: يهدر دمه إذا جاء بشاهدين.(5/478)
واختلف أصحابنا، هل يهدر دمه إذا قامت البينة إذا لم يكن المقتول محصنًا ؟ فهذا ابن القاسم: هما سواء ويهدر دمه، واستحب الدية في غير المحصن. وقال ابن حبيب: إن كان المقتول محصنًا فهذا الذي ينجى قاتله البينة من القتل. وقد اختلف عن عمر في هدر دم مثل هذا. وروى عن على: يقاد منه. وقوله: " وجد مع امرأته،: دليل أن حكم اللعان إنما هو فهيمن رماها برؤية ذلك في حال الزوجية، لا قبلها ولا بعدها، فعنه وقع السؤال، وفيه جاء الحكم. ولا خلاف في المذهب فيمن قال لامرأته: زنيت أو رأيتك تزني قبل أن أتزوجك، أنه لا لعان ويحد، وهو قول جماعة العلماء، خلافًا لأبي حنيفة: أنه تلاعن. وكذلك لو قال لها بعد أن بت طلاقها: رأيتك الآن تزني، حد. بخلاف لو قذفها الآن برؤية وقت الزوجية، أو نفي ولد أو حمل، أو قذفها وهي زوجة، ثم بت طلاقها، فإنه يلاعن عندنا وعند جمهور العلماء. وأبو حنيفة والثوري يقولان: لا حد في هذا ولا لعان. وقالت طائفة: يحد ولا يلاعن، وأجمعوا أنه لو قذفها ثم تزوجها، أنه يحد ولا يلاعن. وقوله:" فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها "، قيل يحتمل: إنه كره قذف الرجل امرأته ورميها من غير بينة، لاعتقاده أن الحد يجب عليه، وذلك قبل نزول حكم اللعان بشد، قوله في الحديث الآخر لهلال بن أمية: «البينة وإلا حد في ظهرك » الحديث، وفيه فنزل:{ والذين يرمون أزواجهم} الآية. ويحتمل أنه كره السؤال لما فيه من قبح النازلة والفاحشة، وهتك ستر المسلم، أو لما كان من نهيه عن كثرة السؤال، إما سدًّا لباب سؤال أهل التشغيب من الجهلة والمنافقين وأهل الكتاب، أو لما يخشى من كثرة السؤال من التضييق عليهم في الأحكام، التي لو سكتوا عنها لم يلزموها وتركوا إلى اجتهادهم، كما قال:« اتركوني ما تركتكم، فإنما هلك ممن كان قبلكم بكثرة سؤالهم أنبيائهم »، ولما جاء عنه:« أعظم الناس جرمًا من سال عما لم يحرم فحرم من أجل مسألته ».(5/479)
قال الامام: المسائل إذا كانت مما يضطر إليها السائل فلا بأس بها، وقد/ كان - عليه السلام - يسأل عن الأحكام فلا يكره ذلك وإن كان على جهة التعنيت فهو منهى عنه. وعاصم هذا إنما سال لغيره، ولعله لم تكن به ضرورة إلى ذلك.
وقوله:« قد أنزل فيك وفي صاحبتك، فاذهب فأت بها »، قال القاضي: يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرف أن عويمرًا - صاحب المسألة - حين كرر السؤال له عنها إما بما دل عليه من قوله أو حاله بما لم يذكر في الحديث، أو بوحي أوحي إليه عند نزول آية اللعان.
وقوله:" فتلاعنا "، أجمع المسلمون على صحة حكم اللعان بين الزوجين؛ إذا ادعى رؤية، وكذلك قال الجمهور: إذا نفى ولدًا. واختلفوا فيما بعد ذلك، فقالت فرقة: لا لعان في القذف المجرد، وهو أحد قولي مالك وقول الليث وأبي الزناد والبتي ويحيى بن سعيد، وأن في هذا الحد بكل حال، وقال الكوفيون والشافعي والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث باللعان في القذف المجرد، وروى أيضًا عن مالك.
واختلفوا إذا أقام الزوج البينة على زناها، فعند مالك والشافعي: يلاعن؛ إذ لا ممل للشهود في نفى الولد. وقال أبو حنيفة وداود: إنما اللعان لمن لم يأت بأربعة شهداء، فمن أتى بهم فلا لعان.(5/480)
واختلفوا في اللعان بنفي الحمل وفي وقته، فمذهب الكوفيون إلى أنه لا لعان إلا ن ينفيه ثانية بعد الولادة، وهو قول عبد الملك بن الماجشون، كذا حكاه عنه أبو عمر بن لبد البر، وذهب الشافعي إلى أن كل من نفى الحمل يلاعن، وهو قول أحمد وداود وأبي ثور، وحكي عنه أنه لا يلاعن حتى تلد، وهو المعروف عن عبد الملك، وروى عن مالك وعبد العزيز وأشهب. وعن مالك وأصحابه في ذلك ثلاثة أقوال أيضًا: يلاعن إذا ادعى رؤية واستبراء معًا، ويلاعن بالجملة دون استفسار، ويلاعن بدعوى الاستبراء ولا يلاعن إن لم يدعه إلا أن تلد لأقل من ستة أشهر من يوم الرؤية، ونحوه عن ابى يوسف وابن الحسن إلا أن يكون مقرا بالحمل، أو راه فلم يهنكره، فلا ينتفي بلعان عندنا في المشهور، وهو قول العلماء. وذهب الكوفيون إلى أنه يلاعن. وعندنا رواية أخرى: أنه إن ادعى رؤية فله نفيه، ورواية ثالثة: أنه متى أقر بالحمل لم يلاعن للرؤية ؛ إذ مقتضى اللعان نفى الحمل، حكاها ابن المواز والبغداديون، ثم اختلف على القول بنفيه في هذه المسألة إذا كان قد لاعن للرؤية، هل يكفيه لعان الرؤية أم لا ينفيه إلا بلعان ثان، وذهب طائفة إلى أن المولود على فراش الرجل لاينفى بلعان بتة.
وكذلك اختلفوا في لعان المملوك وزوج الكتابية، فعند مالك: اللعان بين كل زوجين عبدين أو حرين، أو أحدهما حر والزوجة كتابية، لكن إنما يكون في حق زوج الكافرة والأمة في نفي الحمل لا في مجرد القذف ؛ إذ لا حد على قاذفها ولا يلزم الكافرة لعان أو لا حد عليها إلا أن يشاء لنفي المعرة. وقال الحسن: لا لعان بين المماليك. قال أبوحنيفة: وكذلك إن كان أحدهما مملوكًا أو الزوجة ذمية. وقال البتي: كل قاذت لزوجة يلاعن، ونحوه مذهب الشافعي.(5/481)
قال الامام: أصل اللعان في الشريعة: الضرورة لحفظ الأنساب ونفي المعرة عن الأزواج وقد اختلف المذهب فيمن قذف زوجته، هل يلاعن على الجملة، أو حتى يتبين وجه دعواه، فمن رأى أن نفى الحد عن الزوج إذا رمى زوجته مقصود في الشرع في نفسه مكنه من ذلك. وكذلك اضطرب المذهب - أيضًا - إذا ادعى الرؤيا للزنا، هل لا ينتفى الولد حتى يدعي مع ذلك الاستبراء، أو ينتفى وإن لم يدع استبراء وإن كان الحمل ظاهرًا، فأحد الأقوال: أنه ينتفى الولد ولو كان الحمل ظاهرًا، وقال بعض شيوخنا: ليس لهذا وجه، إلا أن تكون مشاهدته لزناها الآن علما عنده على اعتيادها لذلك، ويغلب على ظنه منه أن الولد الذي هو حمل ظاهر من زنى آخر، فابيح له نفيه بهذا الظن، كما يباح له نفيه باراقة الدم وان كان لا يؤدي إلى الظن ؛ لأن الحامل قد تحيض. ومن أنكر من أصحابنا أن ينفى الحمل الظاهر قال: فإن الولد للفراش. وقصارى ما في هذا التجويز أن تكون خانته قبل، ولا ينتفى الفراش وأحكامه بالتجويز المجرد. ومن أصحابنا من لا يوجب الاستبراء ولكنه شرط: ألا يكون الحمل ظاهرًا ؛ لأن ظهوره مع ثبوت الفراش كالشاهد عليه بانه منه، وإذا لم يكن ظاهرا فلا شاهد عليه يمنعه من نفيه.
وفي بعض طرق الأحاديث:" ما وطيتها مذ كذا " فتعلق بهذا أصحابنا من لم يمكنه من النفي إلا بالاستبراء، ومن لم يعتبره من أصحابنا تعلق بظاهر القران ولم يذكر فيه استبراء، وكذلك في بعض طرق الأخبار لم يذكر فيه استبراء، وهذا العموم لا يخص بقوله:" ما وطيتها مذ كذا "، لأنه لم يذكر الحكم إذ لم يذكر بذلك، فيكون تخصيصًا.(5/482)
وقوله:" فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، قال القاضي: فيه أن سنة التلاعن ألا يكون مكتومًا، ويكون مشهورًا بحضرة الناس، وأن سنته أن يكون بحضرة الإمام، أو من يستثنيه الإمام لذلك من الحكام، وهذا إجماع أنه لا يكون إلا بسلطان، وقوله: " في المسجد " يبين أن سنة كونه في المسجد، ولم يختلفوا في ذلك، إلا قول عبد الملك: أنه يكون في المسجد أو عند الإمام، وقد يستحب أن يكون بإثر صلاة وبعد العصر أولى، وأى وقت كان جاز.
وقوله: " كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا، قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - /. قال الإمام: احتج بهذا الشاهد على جواز الطلاق ثلاث في كلمة واحدة، وانفصل أصحابنا عن هذا بانها قد بانت منه باللعان، فوقعت الثلاث على غير زوجة، فلم يكن لها تأثير. قالوا: لأنه خرج النسائي عن محمود بن لبيد قال: أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام - صلى الله عليه وسلم - غضبان فقال:« أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حيّ »، وقام رجل آخر فقال: يا رسول الله ! ألا أقتله. فالأخذ بالمنع بهذا الحديث أولى من حديث المتلاعنين، مع الاحتمال الذي فيه.
وقد اختلف الناس - أيضًا - في المتلاعنين، هل تقع الفرقة بنفس اللعان، أو حتى يقضى القاضي بالفراق، فقال أبو حنيفة: حتى يقضي القاضي بالفراق، لقوله: " فرق بينهما "، وهذا إشارة للحكم. وعندنا: أنه لا يفتقر إلى حاكم، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في طريق آخر: أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها،، ولقوله: ففارقها عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال - صلى الله عليه وسلم -:« ذاكم التفريق بين كل متلاعنين»، ولم يعتبر قضية القاضي.(5/483)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« لا سبيل لك عليها »، حمله جمهور العلماء على العموم، فلا تحل له أبدًا، قال بعض أصحابنا: ومن جهة المعنى كانه أدخل لبسا في النسب فعوقب بالتحريم المؤبد، كأحد التعليلين عندنا في الناكح في العدة، وانفرد البتى فقال: بأن اللعان لا يؤثر في الفراق. وهذا الحديث حجة عليه.
واختلف الناس - أيضًا - القائلون بتأبيد التحريم إذا أكذب نفسه، هل تحل له أم لا ؟ فعندنا: لا تحل له، وإن أكذب نفسه أخذًا بعموم قوله: " لا سبيل لك عليها " ولم يفرق. وقال أبو حنيفة: إذا أكذب نفسه حلت له لارتفاع حقيقة المعنى المانع لإكذابه نفسه.
واختلف المذهب عندنا على قولين، مع قولنا بأن بنفس التلاعن يقع التحريم من غير افتقار لحكم، هل يقع التحريم بلعان الزوج وحده، أم حتى يلتعنا جميعًا ؟ فقيل: بالتعان الزوج وحده ؛ لأن التحريم والفراق أمر مقصور عليه، فيختص بما يكون منه، ولا يفتقر إلى ما يكون من شخص آخر. وقيل: لا يقع ذلك حتى يلتعنا جميعًا ؛ لأن هذه الأحاديث إنما وقع فيها الألفاظ الدالة على الفراق بعد التعانهما جميعًا، ولا يتعدى ما وقع فيها.
قال القاضي: اختلف العلماء إذا أبي الزوج الالتعان أو إذا التعن الزوج وأبت هي، فعند الجمهور: يحد وتحذ، وعند أبي حنيفة يحبسان أبدًا حتى يلتعنا. وقرل ابن شهاب: " فكانت بعد سنة المتلاعنين "، فيه تأويلان: أحدهما: الفرقة بانقضاء اللعان. والثانى: استحباب إظهار الطلاق بعد اللعان عليها. ذهب إليه ابن نافع وعيسى بن دينار من أصحابنا في هذا الحديث واستحباه، فإن لم يفعل فهو فراق.
وفي قوله:" كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها "، أيضًا تاويلان: أنه أراد الدعاء بذلك بفضيحة نفسه إن أمسكها. والثانى:إن إمساكي لها بعد ما قلته عنها دليل على كذبي.(5/484)
قال محمد بن أبي صفرة: اللعان لا يقطع العصمة ؛ لقول عويمر: "كذبت عليها إن أمسكتها "، فأحدث طلاقًا يقطع العصمة، ونزه نفسه عن أن يقوم عليه دليل كذب بإمساكها، فجعل النبي - عليه السلام - فعله سنة.
وتأوله بعض شيوخنا أنه كقول أبي حنيفة، وليس كذلك، بل هو عندي نحو ما تقدم لابن نافع.
وقوله:" قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، يقتضي أن الفرقة تقع بغير حكم، وهو قول كافة العلماء كما تقدم.
وقوله: ففارقها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« ذاكم التفريق بين كل متلاعنين »، ومعناه عندنا تبيينه - عليه السلام - الحكم لا إيقاع الفراق، بدليل قوله: "قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك "، ولقوله:" فكانت تلك سنة المتلاعنين"، وقيل: إشارة إلى تأبيد التحريم، وهو قول كافة العلماء. وقد جاء في حديث ابن شهاب من رواية ابن وهب: فمضت سنة المتلاعنين أن يفرق بينهما ولا يجتمعا. وشذ بعضهم فقال: هو ثلاث.
قال ابن لبابة: إن لم يطلق هو ثلاثًا، طلق عليه الإمام. ولم يمنعه من مراجعتها بعد زوج، وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وعبيد الله بن الحسن: هي واحدة بائنة وتقدم قول البتي: أنه لا فرقة به، وحكاه الطبري عن جابر بن زيد: فإن أكذب نفسه بعد اللعان والفراق، جلد الحد، ولم ترجع إليه أبدًا عند مالك وأهل الحجاز وفقهاء الأمصار، وخالفه أبو حنيفة فقال: يكون خاطبًا من الخطاب وتحل له، وقال عبد العزيز نحوه، وروى عن الشعبى: أنها ترد إليه.
ولم يختلف فقهاء الأمصار بأن مجرد قذف الرجل لزوجه لا يحرمها عليه، إلا أبا عبيد فقال: إنه يحرم.
وقوله في الحديث الآخر:" وكانت حاملاً "، فكان / ابنها ابن أمة: حجة بانتفاء الحمل بلعان الرؤية، وهو مشهور مذهبنا إذا لم يكن الحمل ظاهرًا وادعى استبراء، وقيل: يحتاج إلى لعان ثان.(5/485)
وقوله: في الحديث:" فالحق الولد بأمه "، أي: لا أب له، وقيل: بل أقام أمه مقام الأب والأم، وفي الرواية الأخرى: فكان لأمه مثله، أي: لا يدعى لأب إلا لأمه، أو ليس له أب سوى أمه، وإنما ينسب إلى قوم أمه أو مواليها إن كانت مولاة، على ما يأتي بعد.
وقوله:" ثم جرت السنة أنه يرثها وترث منه ما فرض الله لها "، لا اختلاف في هذا، ولا في توارثه مع أصحاب الموارثات من قبل أمه ؛ كجدته وأخوته، أنهم يتوارثون على أنهم إخوة لأم، وأما توأم ولد الملاعنة، فعلى أنهم أشقاء، وما بقى بعد أصحاب السهام منهم فلموالي أمه إن كأنت مولاة، أو لجماعة المسلمين إن كانت عربية، هذا قول مالك والزهري والشافعي وأبي ثور.
وقالت طائفة: يرثه ورثة أمه، وقاله الحكم وحماد، وقال آخرون: عصبته عصبة أمه، وروى عن على وابن مسعود وعطاء وابن عمر، وبه قال أحمد بن حنبل، وقالت طائفة: أمه عصبة، فما بقى عن أهل السهام فلها، وقال أبو حنيفة: يرد ما فضل عن ورثته إن كانوا ذوى أرحام.
وقوله:" فقال: اللهم افتح "، وجعل يدعو، قال الخطابي: معناه: اللهم احكم أو بيق الحكمة، والفتاح: الحاكم، ومنه قوله تعالى:{ ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم }. وقوله: " فنزلت هذه الآية - يعنى آيات اللعان - فتلاهن عليه، ووعظه، وذكر أنه دعا المرأة، ففعل بها مثل ذلك: سنة في وعظ المتلاعنين، وذهب الشافعي أن الإمام يعظ كل واحد بعد تمام الرابعة وقبل الخامسة. قال الطبري: فيه أنه يجب للإمام أن يعظ كل من يحلفه.
وقوله:" بدأ بالرجل "، هي سنة الحكم، البداية به ؛ لأنه القاذف الذي يدرأ الحد عن نفسه بشهادته، والذي بدأ الله به، وأيمانه كالشهود على دعواه، ويسقط به عنه مالزمه من الحد، ويثبت عليها هي الحد، إلا أن الله تعالى جعل لها مخرجًا بإيمانها أيضًا، مقابلة لأيمانه كمعارضة الشهادة، فينتفع بذلك ويسقط بها ما وجب عليها، وهذا ما أجمع عليه العلماء.(5/486)
وقوله:" فيشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين "، قال ابن المنذر في رواية من رواه في الحديث: " فجاء فشهد "، وكذا ذكره البخاري، دليل على تلاعنهما قائمين. ولا خلاف في وجوب اللعان بهذا القول، وأنه صفة اليمين، لكن اختلف العلماء في زيادات وبيانات في هذه اليمين، حسب دعوى الزوج، من رؤية أو مجرد قذف أو نفي حمل، اختلافًا لا يؤول إلى تنافر، وإنما هو حكم بالتمام والكمال، والأمر المتقارب مما هر معروف في مذهبنا، مشهور من مذهب غيرنا، هل يقول: ألثمهد بالله أو أعلم بالله، وهل يزيد بعد قوله: أشهد بالله الذي لا إله إلا هو أم لا ؟ وهل تزيد في دعوى الرؤية بعد قوله: إنى لمن الصادقين، لرأيتها تزني كالمزود في المكحلة، كما يقول الشهود، أم يقتصر على قوله: رأيتها تزنى، فقط ؟ وهل قوله: إنى لمن الصادقين لازم، أم يكفيه الحلف على نص دعواه الذي فيه تصديقه، وكذلك هل يقتصر في نفي الحمل على قوله: لزنت، أو يزيد: ما هذا الحمل مني، هل يزيد: لقد استبرأت أم لا ؟ ويكون يمين المرأة على تكذيبه بحسب هذا. وكل هذا مختلف فيه في مذهبنا. وهل تجزئ اللعنة في الغضب أم لا ؟ وهل يقوم قوله: " ما كذب عليها في الخامسة " مقام قوله:" إنى لمن الصادقين " ؟ وهي أيضًا في الخامسة أم لا يجزئ إلا ما نص الله تعالى عليه ؟
ذهب الشافعي، ونحوه مذهب الليث والثوري وأبي حنيفة أنه يقول: "أشهد بالله إنى لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا "، ويشير إليها، وإن كان نفى حملاً زاد: " وما هذا الحمل منى "، وقال زفر: مثل هذا، إلا أنه قال: إنه يخاطبها وتخاطبه، بقوله: " فيما رميتك به " وتقول هي: " فيما رميتنى به ".(5/487)
وقوله:" ثم ثنى بالمرأة "، هذه سنة هذا الحكم. واختلف عنه ما إذا ابتدأت المرأة باللعان ثم لاعن الزوج، هل يجزيها ؟ وهو قول أبي حنيفة أم تعيد اللعان ؟ وقوله: في هذا الحديث: " ثم فرق بينهما "، حجة الجماعة على ما تقدم.
وقوله:« الله يعلم أن أحدكما كاذب »، ظاهره أنه بعد الملاعنة، وحينئذ تحقق الكذب عليهما جميعًا، ووجبت التوبة. وذهب الداودى أنه إنما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل اللعان لا بعده، تحذيرًا لهما ووعظة، والأول أظهر وأولى بمساق الكلام. وفيه رد على من ذهب من النحاة، أن أحدًا لا تستعمل إلا في النفي، وقول بعضهم: لا تستعمل إلا في الوصف، وأنها لا توضع موضع واجب، ولا ثوقع موقع واحد، وقد أجاز هذا المبرد، وجاء في هذا الحديث في غير وصف ولا نفي وبمعنى واحد، وقد قال الله تعالى:{ فشهادة أحدهم}.
قال الخطابي: وفيه أن البينتين إذا تعارضتا تهاترتا وسقطتا. وقال المهلب: في حديث المتلاعنين من الفقه: أن المختلفين المتضادين اللذين يعلم أن أحدهما كاذب أنهما لا يعاقبان، لعذر النبي - صلى الله عليه وسلم - المتلاعنين ولم يقم عليهما حدًّا، وكل واحد مكذب لصاحبه، قال نحوه أبو عبد الله.
جاء في هذه الأحاديث هلال بن أمية وهو خطأ، والصحيح أنه " عويمر". وقال الطبري يستنكر قوله في حديث هلال: وإنما هو " عويمر "، وهو الذي قذفها بشريك بن سحماء، وكانت هذه القصة / في شعبان سنة تسع من الهجرة، وقال غيره: هما قصتان، ويحتمل أنهما كانتا متفاوتتي الوقت، فنزل القرآن فيهما، وسميت ملاعنة وفيها لعان وغضب ؛ لأنها بمعنى من سخط الله وإبعاده من رحمته، وغلب لفظ اللعان ؛ لأنه الذي بدأ به في الآية، والحكم أو لتغليب الرجل.
وقول ابن جبير: " سئلمت عن المتلاعنين، فما دريت ما أقول، من إنصاف العلم، وحقيقة الورع، حسب ما كان عليه ابن جبير.(5/488)
وقوله:" ومضيت إلى ابن عمر باحثًا عن المسألة "، فيه ما كانوا عليه من الحرص على العلم والأخذ فيه بالحقيقة.
وقول الغلام له:" أنه قائل "، أي: نائم القائلة لوقت نومه فيها. في ذلك أنه لا يشق على العالم ومن يحتاج إليه في أوقات راحاتهم ونومهم ويترك لهم أوقات لذلك. وقول ابن عمرلما سمع صوته ابن جبير: " والله ما جاء بك في هذه الساعة إلا حاجة "، دليل على ما قدمناه، أن عادتهم كانت ألا يقصدوا مثله في هذا الحين.
وقوله: " فوجدته مفترشًا بردعة متوسدًا مرفقة حشوها ليف "، في رواية غير مسلم:" برذعة رحله "، أي رحل بعيره. فيه ما كانوا فيه من الاقتصاد والتقلل من الدنيا، واهتبال ابن عمر من قصده وسؤاله عن حاجته وما جاء به. إذ علم بشاهد الحال أنها مهمّة.
وقوله:« لعلها أن تجئ به أسود جعدًا » الحديث: فيه دليل أنه لا حكم بالظنون والشبه والدلائل، مع وجود ما هو أقوى منها، كما تقدم في حديث ابن زمعة.
قال الإمام: هذا دليل على جواز لعان الحامل في حال حملها، وقد قال بعض أصحابنا: إنه إذا لاعن لنفى النسب لا يحل استبرائه ولم يشاهد زنا، فإنه لا يجب أن يلاعن وهي حامل ؛ لجواز أن يكون ريحًا يتفش، وانفصل عن هذا الآخرون، أن الحمل قد يقطع عليه، والغلط فيه بالريح نادر، وقد علق في الشرع أحكام على الحمل، منها إيجاب النفقة لها بالحمل، وردها بعيب الحمل ولم يسقط في الشريعة لاعتبار ذلك.
وقوله: " قذف امرأته بشريك بن سحماء "، الحديث، قال الإمام: اختلف الناس إذا قذف الرجل زوجته بشخص بعينه، هل يحد له أم لا، وإن لاعن لزوجته، فعند مالك: أنه يحد للرجل ؛ لأن الأصل إثبات الحد على القاذف، وإنما سقط عن الزوج بلعانه لأجل الضرورة إلى ذلك، وأنه لا يستغنى عن ذكر زوجته، وأما الزاني بها فلا ضرورة به إلى ذكره، وهو غني عن قذفه، فبقي على الأصل في وجوب الحد له.(5/489)
وقال الشافعي: لا يحد للرجل إذا أدخله في لعانه، وتعلق بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحد الزوج لشريك بن سحماء وقد سماه، وقال بعض أصحابنا: لا حجة له فيه لوجهين: أحدهما: أن شريكا كان يهوديًّا. والثانى: أن شريكًا لم يطلب حده، ولا قام بطلب عرضه، فلم يكن في ذلك تعلق.
قال القاضي: لا يصح قول من قال: كان شريك يهوديًّا، وهو باطل. وهو شريك ابن عبدة بن مغيث، وهو بلوي حليف للأنصار، وهو أخو البراء بن مالك لاءمه، كما جاء بعد هذا آخر الباب.
وقوله لرسول الله: الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -:«لا»، فقال سعد: بلى والذي اكرمك بالحق، فقال - صلى الله عليه وسلم -:« اسمعوا ما يقول سيدكم»، قال الإمام: معنى ذلك عندي أن قوله:" بلى "، بمعنى: أنه لا تتركه نفسه لذلك، وأن طباعه ربما غلبته، وتستولى عليه الغيرة حتى يقتله، وإن كان عاصيًا لك في ذلك، لا على أنه رد قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقصد مخالفته.
وقوله:« إن جاءت به أكحل جعدًا أحمش الساقين »، قال الهروي: الجعد في صفات الرجال يكون مدحًا، ويكون ذمًّا، فإذا كان مدحًا فله معنيان: أحدهما: معصوب الخلق شديد الأسر، والثانى: أن يكون شعره غير سبط ؛ لأن السبوطة أكثرها في شعور العجم. وأما الجعد المذموم فله معنيان: أحدهما: القصير المتردد، والآخر: البخيل. يقال: جعد اليدين وجعد الأصابع: أي بخيل. وفي حديث آخر:« إن جاءت به جعدًا قططًا »، القطط: الشديد الجعودة، يقال: رجل جعد، وشعر جعد: بيّن الجعودة، وقططٌ: بين القطوطة.
وقوله:" حمش الساقين "، أي دقيق الساقين. قال الهروي: يقال: امرأة حمشاء الساقين، كرعاء اليدين: إذا كانت دقيقتهما. قال غيره: والحموشة: دقة الساقين.(5/490)
وقوله:« إن جاءت به سبطًا قضيء العين »، السبوطة: استرسال الشعر وانبساطه. ورجل سبط وسبط بفتح الباء وكسرها، لغتان من السبوطة، وكذلك شعر سبط، وسبط. وقد سبط شعر الرجل سبوطة، وقضيء العين: أي فاسد العين. قال ابن دريد في الجمهرة: يقال: قضيت عين الرجل: إذا احمرت ودمعت، وقد قضيت القربة تقضّيا وقضاء فهي قضية، على وزن فعلة إذا عضنت وتهافتت، قال ابن ولاد: وسقاء قضيّ، إذا طال مكثه في مكان ففسد وبلي، والقضؤ مقصور مهموز: العيب.
قال ابن دريد: وقضى حسب الرجل قضاء وقضوا وقضاة: إذا دخله عيب، وان في حسبه لقضاة. ولا تفعل كذا قال فيه: قضاه على. قال الهروي: وقضى الثوب: إذا تفزّر وتشقق. قال غيره من طول البلى.
وقوله في صفة الذي وجده عند أهله:« خدلاً، آدم »، الخدل بخاء معجمة مفتوحة ودال مهملة: الممتلى الساق، والآدم الشديد السمرة، وجمعه أُدم مثل أحمر وحُمر، وأما آدم إذا كان اسمًا، فهو مشتق من أدمة الأرض، وأدمتها: أي وجهها، فسمى بما خلق منه، وجمعه / آدميون.
قال القاضي: وفي قوله - عليه السلام -: إن جاءت به على صفة كذا التي ذكرها فهو لفلان، يعنى زوجها، وإن جاءت به على صفة كذا فهو لفلان، يعنى الذي رماها به. وفي الحديث الآخر:« لعلها أن تجىء به كذا على الصفة التي ذكر »، وفي رواية البخاري: فلا أراها إلا صدقت، وإن جاءت به كذا فلا أحسبه إلا صدق: ظاهره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك على التفرس وغلبة الظن بقوله:" لا أراها " و " لعلها "، ولو كان بوحي وإعلام من الله بذلك، لم يقل: أراها وأحسبه. وفيه النظر بالأشباه، والقيافة إنما هي في الفراشين المشتبهين، وأما الفراش الذي لا شبهة فيه، فلا حكم له بحال، وأن إقامة الحدود ونفى الأنساب وقطعها لا يحتج فيها بمثل هذا، إلا في القطع واليقين، وفيه أن ذكر الاوصاف المذمومة للضرورة، والتجلية للتعريف ليس بغيبة.(5/491)
قال الإمام: وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« اسمعوا إلى ما يقوله سيدكم ». قال ابن الأنباري وغيره: السيد: الذي يفوق في الفخر قومه، والسيد أيضًا: الحليم، وأيضا: الحسن الخلق، وأيضا: الرئيس، قال الشاعر:
فان كنت سيدنا سدتنا وإن كنت للخال فاذهب فخل?
وأنشد ابن قتيبة:
قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة?
وقوله: " لضربته بالسيف غير مصفح "، أي غير ضارب بصفح السيف، وصفحا السيف: وجهاه، وغراره: حذاه.
قال القاضي: وقول عاصم: " ما ابتليت بهذا إلا لقولي "، وفي أول الحديث: " فقلت في ذلك قولاً "، قيل: لعله قال نحو قول سعد، أو غير من امتحن بذلك، أو وبخه على ذكره فعوقب بأن أصاب ذلك رجلاً من قرمه، حتى احتاج لسؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمره.
وقوله في خبر سعد:« إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن » الحديث، الغيرة: أصلها المنع، فأخبر - عليه السلام - أن سعدًا غيور، مانع لحرمته، وأنه من خلق أهل الإيمان والكمال، وأخبر أنها من أوصافه هو - عليه السلام - وخلقه، وأنه أغير منه بحسمب منيف منزلته، وأخبر أن الله أغير من الكل، وفسّر ذلك بقوله:«من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن »، وهذا هو حقيقة الغيرة من المنع الذي قدمناه. وقد جاء في حديث آخر مفسرًا، قال:« وغيرة الله أن يأتى المزمن ما حرم الله »، لكنها في البشر يقترن بها تغير حال وصفات - صلى الله عليه وسلم - وانزعاج زائد على مجرد المنع. إذ هم محل التغيير واختلاف الحال، والله تعالى لايليق به شيء من ذلك.(5/492)
وقوله: " لا شخص أغير من الله ": قيل يحتمل أن يكون معناه: لا ينبغى لشخص أن يكون أغير من الله، وهو تعالى لم يعجل،لم يبادر عقوبة عباده في اقترافهم ما نهاهم عنه ومنعهم منه، بل حذرهم وأنذرهم وأعذر إليهم وأمهلهم، فينبغى أن يتادب بادبه، رلمجق بسنته، وكان هذا رد لقول سعد:" أمهله حتى آتى بأربعة شهداء ؟"، وقوله: " لضربته بالسيف غير مصفح "، فصحح هذا التأويل.
وقوله:« ولا شخص أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين »، أي: الإعذار والإنذار لخلقه، قبل أخذهم بالعموبة، وعلى هذا لا يكون في ذكر الشخص هنا ما يشكل، وقد يكون ذكر الشخص تجوزًا، والله تعالى متعال عن التشخص، وإنما وقع الشخص على غيره على معنى شيء واحد، وقيل: قد يكون الشخص بمعنى المرتفع: أي لا مرتفع أرفع من الله ؛ لأن الشخص ما شخص وظهر ونما وارتفع.
وقوله:« ولا أحب إليه المدحة من الله »، قال الإمام: المدحة، بكسر الميم، لا تكون إلا مع إدخال الهاء للتانيث، فإذا ذهبت الهاء وبقي لفظ التذكير فتحت الميم، فيقال: هو المدخ وهي المدحة.
قال القاضي: وقوله:« من أجل ذلك وعد الجنة»، معناه -والله أعلم-: أنه لما وعدها ورغب فيها، أكثر السؤال له، والطلب إليه، والثناء عليه، ولا يحتج بهذا على جواز استجلاب الإنسان الثناء على نفسه ومدحه، فهذا مذموم قصده منهى عنه، فأما حبه بالقلب، فما لا يجد المرء منه بدًّا، والله تعالى مستحق للمدح ومستوجب له، والعباد فالنقص لهم لازم، وإن استحقوا المدح من جهة ما، مع أن المدح يفسد قلوبهم، ويعظمهم في نفوسهم حتى يستحقروا غيرهم، ولهذا قال - عليه السلام -:« احثوا التراب في وجوه المداحين »، وقال:" لو سمعها ما أفلح "، وقال تعالى:{ فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى }.(5/493)
وقوله:« لو كنت راجمًا بغير بينة لرجمت هذه »، وذكر امرأة كانت تظهر السوء في الإسلام، وفي الرواية الأخرى:" أعلنت "، فيه حجة ألا تقام الحدود بكثرة السماع، وغلبة الظنون، إذا لم يكن على أصل شرعي، من بينة أو إقرار أو ما يقوم مقام ذلك.
وقوله: يا رسول الله ! مالي، قال:" لا مال لك " الحديث: صداق الملاعنة واجب بالإجماع. قال ابن المنذر: وفيه دليل على أنه لا رجوع عليه بالمهر وإن أقرت بالزنا، لقوله:" وان كنت صادقًا عليها، فبم استحللت من فرجها ". قالوا: وحديث هذا الباب يوجب الصداق بالدخول.
واختلف في الملاعنة إذا لم يدخل بها، فعند جماعة فقهاء الأمصار: أنها كغيرها لها نصف صداقها، وقاله مالك، قال الزهري: لا صداق لها جملة ؛ لأنه فسخ، وحكاه البغداديون عن المذهب، وهو على أصل المذهب أنه فسخ، وليس إيجاب نصف الصداق بالذى يقتضى أنه ليس بفسخ على ما أشار إليه بعضهم، بل لتعارض أيمانهمأ التي قامت مقام تعارض الشهادات في وجوب الصداق أو إسقاطه، فقسم بينهما لاستواء دعواهما فيه على أصلنا، أو مراعاة لاختلاف العلماء، هل هو فسخ أو طلاق ؟ وقال الحكم وحماد وأبو الزناد: لها الصداق كله ؛ إذ ليس بطلاق.
وقوله:" سألت أنسًا وأنا أرى عنده علماء، فقال: إن هلال بن أمية قذف امرأته ثريك بن سحماء وكان أخا البراء بن مالك من أمه ". وفي رواية السمرقندي: " وكان أخاه لأمه "، قد شكل هذا ويظن أنه راجع إلى أنس بن مالك ج إذ البراء بن مالك أخوه، وقد وهم في هذا ابن خيثمة فذكرهما في الأخوة للأم، ولعله من ظاهر هذا الحديث وهم واتبعه أبو عمر فيه، وليس كذلك، إنما هو أخوه لأبيه لا من أمه. كذا قال البخاري والعصفري وغيرهما / فيه، وإنما أراد بذلك شريك بن سحماء هو أخو البراء بن مالك لأمه، وهو ظاهر في الحديث بيّن. وشريك بلوي حليف للأنصار وقول ابن جبير:" فرق المصعب بين المتلاعنين "، كذا لابن الحذاء، ولغيره:" لم يفرق"، قيل: صوابه " لم فرق ".(5/494)
وقوله للذى أنكر لون ولده:« ألك من الإبل ؟» قال: نعم - الحديث، إلى قوله:« هل فيها من أورق ؟»، قال الإمام: هو الأسمر، وهو من الورقة، ومنه قيل للرماد: أورق، وللحمامة ورقاء.
قال القاضي: في هذا الحديث حجة للقول بالقياس، والاعتماد وضرب الأمثال والأشباه لتقريب الأفهام، وعرض الغامض المشكل على البين الظاهر.
ومعنى قوله:" فلعل عرقًا نزعه "، أي أشبهه وأظهر لونه. والعرق هنا: الأصل من النسب، شبه بعرق الثمرة، يقال: فلان معرق في الحسب وفي اللؤم والكرم. وأصل النزع: الجذب، كانه جذبه لشبهه به، يقال منه: نزع ينزع، وهو مما شذ عن الأصل مما جاء على فعل يفعل فيما عينه من حروف الحلق أو لامه، وأصله المطرد فعل يفعل، يقال منه: نزع الولد لأبيه، ونزع إليه، ونزعه أبوه إليه كله.
وفي هذا الحديث أن التعريض اللطيف إذا لم يقصد به المشاتمة، وكان لمعنى وضرورة أو شكوى أو استفتاء فلا حد فيه، وقد استدل به من لا يرى الحد في التعريض والكناية، وهو مذهب الشافعي، ولا في قول القائل: ليس هذا الولد منى، وهو مذهب الخطابي. ولا حجة له في هذا الحديث ؛ إذ ليس فيه شيء من ذلك وإنما فيه إنكاره لونه، لا إنكاره الولد ونفيه له.
تم الجزء الثالث، والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
يتلوه في الرابع - إن شاء الله - كتاب العتق
ومن الفراغ من نسخه الثالث والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة سبعين وستمائة.
كتاب العتق(5/495)
قوله - عليه السلام -:« من أعتق شركًا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوّم عليه قيمة العدل، وأعطى شركاؤه حصصهم، وعتق عليه العبد »، وفي الرواية الأخرى: " من أعتق شقصًا له في عبد فخلاصه في ماله إن كان له مالٌ، فإن لم يكن له مال استُسعي العبد غير مشقوق عليه »، وفي الرواية الأخرى:« إن لم يكن له مالٌ قوّم عليه العبد قيمة عدل، ثم يُستسعَى في نصيب الذي لم يعتق »، وفي الرواية الأخرى - في المملوك بين الرجلين فيعتق أحدهما - قال:" يضمن "، قال القاضي: في ذكر الاستسعاء هاهنا خلاف. قال أبو الحسن الدارقطني: روى هذا الحديث شعبة وهشام عن قتادة - وهما أثبت - فلم يذكرا فيه الاستسعاء، ووافقهما همام وفصل الاستسعاء من الحديث، فجعله من رأى قتادة، وعلى هذا أخرجه البخاري وهو الصواب، وسمعت أبا بكر النيسابررى يقول: ما أحسن ما رواه همام وضبطه، ففصل قول قتادة.
قال القاضي: وقال الأصيلى وابن القصار وغيرهما: من أسقط السعاية أولى ممن ذكرها ؛ لأنها ليست في الأحاديث الأخر من رواية ابن عمر. قال أبو عمر بن عبد البر: الذين لم يذكروا السعاية أثبت ممن ذكرها. قال غيره: وقد اختلف فيه عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، فمرة ذكر فيه السّعاية ومرة لم يذكرها، فدل أنها ليست عنده من متن الحديث كما قال غيره.
ومعنى الاستسعاء في هذا الحديث: تكليفه الاكتساب والطلب لقيمة شقص الآخر على قول الأكثرين، وقيل: يخدم سيده بقدر ماله من الرق، فعلى هذا تتفق الأحاديث.
وقوله: " غير مشقوق عليه، أي: غير مكلف ما فيه مشقة.(5/496)
وقوله:" شقصا "، قال الإمام: الشقص: النصيب، ومثله الشقيص، وكذلك قوله: " من أعتق شركا "، الشرك: النصيب، ومنه قول الله تعالى: { ومما لهم فيهما من شرك }، أي من نصيب، ويكون الشرك في غير هذا الشريك، قال الله تعالى:{ جعلا له شركاء فيما آتاهما }، ويكون الشرك - أيضًا - الإشراك، يقال: شركته في الأمر أشركه شركًا، ومنه حديث معاذ:" أجاز بين أهل اليمن الشرك "، أراد الاشتراك في الأرض.
وقوله:" فقد عتق منه ما عتق "، قال: عتق العبد في نفسه: إذا سار حرًا وأعتقه سيّده.
قال القاضي: قوله:« من أعتق شركًا له في مملوك »، لفظه عام في كل معتق من ذكر أو أنثى، ممن يقع عليه الخطاب أو ينتهى حكمه إليه، وكذلك ألزمنا التقويم إذا كان العبد كافرا بين مسلمين أو بين مسلم ونصراني، فأعتق المسلم نصيبه لحق الشريك معه، ولتوجه الخطاب للمسلم. وقد اختلف عندنا إذا أعتق النصراني، هل يقوم عليه لحق شريكه المسلم، أم لا ؛ إذ هو حق الله تعالى أ أو بين المعتق والمعتق وهما نصرانيان لا يتوجه لهما الخطاب، وكذلك اختلف عندنا إن كان العبد مسلمًا بين نصرانيين فأعتق أحدهما نصيبه، أو بين نصراني ومسلم، فأعتق النصراني نصيبه على الخلاف هل الحق للشريك في تبعيض عبده عليه أو للعبد في حقه تكملة عتقه، والله أعلم.
قال القاضي أبو محمد: فيه ثلاثة حقوق: حق لله - تعالى - وللشريك، وللعبد، فعلى مراعاة هذه الحقوق وقع الخلاف، وتصوير الصور في المسألة على ما تقدم، ويأتى إن شاء الله تعالى.(5/497)
وقوله:« قُوّم عليه »، محمول على الوجوب، ولا تخيير في الرضا يعم تبعيض العتق لا للعبد ولا للشريك، مراعاة لحق الله - تعالى - في ذلك. واختلف عندنا، هل للشريك التخيير في أن يعتق نصيبه أو يقوم ؟ وهو المشهور، أو ليس له إلا التقويم في هذا، وأنه قد وجب عتق جميعه على معتق نصيبه بحكم السراية، على ما سيأتى من اختلاف العلماء والمذاهب في هذا، ولا خلاف في بقاء عتق نصيب المعتق بكل حال بين علماء الأمصار، إلا ما روي عن ربيعة من إبطال عتق المعتق لنصيبه معسرًا كان أو موسرًا، وهذا قول لا أصل له مع مخالفته جميع الأحاديث. واختلفوا في الحكم في نصيب شريكه إذا كان المعتق موسرًا على ستة أقوال:
أحدها: أن العبد عتيق نفسه، ويقوم نصيب صاحبه عليه بكل حال. وولاؤه كله له، هذا قول الثوري والأوزاعي، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبي يوسف، ومحمد ابن الحسن، وأحمد، وإسحاق، وحكى مثله رواية عندنا في المذهب، وقاله الشافعي في الجديد، وأن حرية بعضه قد سرت في جميعه، وحكمه من يومئذ حكم الحر في الوراثة وسائر أحكام الأحرار، وليس للشريك فيه غير قيمته على المعتق، كما لو قتله، وأنه إذا عتق نصيبه كان عتقه باطلاً، وأن المعتق إن أعسر قبل أخذه بالقيمة أتبعه الشريك بها دينا، وكذلك لو مات المعتق قبل نهاية عتق جميعه قوم عليه كا ولو استغرق تركته.(5/498)
القول الثاني: أنه لا يعتق بالسراية وإنما يعتق بالحكم، وأن العبد بحكم العبودية في نصيب الشريك حتى يحكم بالتقويم، وأن المعتق إن مات قبل التقويم لم يقوم عليه ولا على ورثته، وأن الشريك بعد عتقه مخير في نصيبه إن شاء قومه عليه وإن شاء أعتقه، فإن أعتقه كان الولاء بينهما، وإن كان المعتق معدما بقى الشريك على نصيبه في العبد ولم يعتق فه غير حصة العبد، وإن كان المعتق موسرًا بقيمة بعض نصيب شريكه قوم عليه منه بقدر ذلك، وهذا مشهور قول مالك وأصحابه، وقول الشافعي في القديم، وبه قال داود وأهل الظاهر، ثم اختلفوا هل بمجرد التقويم يكون حرًا أو لا بتمام الحكم، والأول هو الصحيح من مذهبنا.
القول الثالث: قول أبي حنيفة: إن الشريك مخير، إن شاء استسعى العبد في نصف قيمته، وإن شاء أعتق نصيبه والولاء بينهما، وإن شاء قوّم على شريكه نصيبه، ثم يرجع المعتق بما دفع إليه العبد يستسعيه في ذلك، والولاء كله له، قال: والعبد في هذه السعاية بمنزلة المكاتب في جميع أحكامه.
القول الرابع: قول عثمان البتي: لا شيء على المعتق إلا ان تكون جارية رابعة تراد للوطء، فيضمن ما أدخل على صاحبه فيها من الضرر. القول الخامس: حكاه ابن سيرين: أن القيمة في بيت المال. وهذان القولان شاذان مخالفان للحديثين جميعًا، حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة، وكذلك مذهب أبي حنيفة، لم يقل بواحد من الحديثين، وهذه سنة خارج عنها.
القول السادس: حكى عن إسحاق بن راهويه: أن هذا الحكم في الذكور من العبيد دون الإناث، ولم يذكر في الحديث، وهذا أشد الأقوال.(5/499)
هذا حكم الموسر. وكذلك اختلفوا في المعسر على أربعة أقوال: فقول مالك والشافعي وأحمد وأبي عبيد: لا يتبع بشيء، وينفذ عتق نصيبه الذي أعتق، كما جاء في حديث ابن عمر وغيره، ولا سعاية عليه، وعلى هذا جمهور علماء الحجاز ؛ لقوله في الحديث:" وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه "، إلى قوله: " وإلا فقد عتق منه ما عتق "، وهذا اللفظ ثابت من رواية مالك وغيره في الحديث، وسقطت هذه اللفظة عند القعنبي وابن بكير في رواية، وسقوطها عند الحفاظ وهم ممن سقطت عليه، والمعروف لكافة رواة نافع ورواة مالك عنه ثباتها وصحتها. واختلف في قول مالك في مراعاة العسر، هل بمجرد يوم العتق ؟ أو باتصاله إلى يوم الحكم ؟ وقال الكوفيون باستسعاء العبد في حصته لشريكه، وبه قال الأوزاعي وإسحاق وابن أبي ليلى، وابن شبرمة.
ثم اختلفوا في رجوع العبد يرد على المعتق، فقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة: رجع عليه، ولم ير أبو حنيفة وصاحباه الرجوع، وهو عند أبي حنيفة بحكم المكاتب مدة السعاية، وعند الآخرين هو حرٌّ بالسرايا، وقال زفر: يقوم على المعتق، كان معسرًا أو موسرًا، يؤديها في العسر متى أيسر، / وقاله بعض البصريين، وقال آخرون: إذا كان معسرا بطل عتقه. وهذان القولان شاذان مخالفان للأقوال كلها أيضًا، وفي هذا الحجة القوية: أن من أعتق بعض عبده أنه يكمل عليه عتقه، وهل يجبر ذلك بالحكم أو بالسراية في ذلك، فيه عندنا روايتان، وعلى هذا جماعة علماء أهل الحجاز والعراق دون استسعاء، إلا ما ذهب أبو حنيفة من أنه يستسعى لمولاه في بقية القيمة، وخالفه صاحباه في ذلك فقالوا بقول الجماعة، لكنه روى عن ربيعة وطاوس وحماد والحسن على خلاف عنه نحر قوله، وقاله أهل الظاهر. وذكر عن الشعبى وعبيد الله بن الحسن يعتق الرجل من عبده ما شاء.
وقوله: " قيمة عدل،: يريد: لا زيادة ولا نقص.(5/500)
وقوله:" عتق عليه "، وفي كتاب أبي داود:" ثم عتق عليه "، حجة لقول مالك ومن وافقه إن عتقه بعد التقويم والحكم لأبي السراية.
قال الامام: الحكم بالتقويم هاهنا لما يلحق الشريك من الضرر بعيب العتق، ولحق الله تعالى في إكمال الحرية. وإن كان للشريك مال، فهل يعتق نصيب من لم يعتق بالسراية أو بالتقويم ؟ فيه اختلاف في المذهب. وإن كان الشريك معسرًا، فهل لمن لم يعتق اتباعه بالقيمة في ذمته وإكمال العتق عليه، فيه - أيضًا - قولان في المذهب. وعند أبي حنيفة أن المعتق إن كان موسرًا كان للآخر أن يعتق نصيبه، أو يضمن شريكه، أو يستسعى العبد، وإن كان معسرًا كان لشريكه العتق والاستسعاء، وتعلق مالك في نفى الاستسعاء، بقوله في طريق ابن عمر:" وإلا فقد عتق منه ما عتق "، وظاهر هذا ينفي الاستسعاء وتعلق أبو حنيفة برواية أبي هريرة في الاستسعاء، وقد قال بعض أصحابنا: إنها زيادة من كلام قتادة تلبس على بعض الرواة فأضافها إلى نفس الحديث، وقد ذكر ابن المنذر ما يصحح ما قاله أصحابنا، وذكر في سند الحديث على بعض رواته قال: وكان يفتي قتادة، وذكر الاستسعاء على أنه يحتمل أن يكون معنى قوله:" يستسعى العبد في نصيب الذي لم يعتق "، أي يخدمه بقدر نصيبه لئلا يظن أنه يحرم عليه استخدامه، وإن كان قد وقع في بعض الروايات في الاستسعاء في القيمة، وهذه الرواية تمنع هذا التأويل.
وقال بعض أصحابنا: لعل الراوى نقل بالمعنى ولما سمع الاستسعاء في النصيب عبر عنه بالقيمة على ما فهم، وهذا عندي لا يعول عليه ؛ لأنه سوء ظن بالرواة، وتطريق إلى إفساد أكثر الأحاديث.(6/1)
وقد قالوا - أيضًا - هم في تأويل الحديث الذي تعلقنا به: إن قوله:" وإلا فقد عتق منه ما عتق "، إنما أراد أن العتق برد واستقر، وأن تعذر الاستكمال لا يرفع ما وقع فيه، والذي قالوه يحتمل، وإنما يبقى النظر فيما قلناه، هل هو الأظهر من المحتملات ؟ والظواهر يقع بها الترجيح، ويرجح بعضها على بعض، وقد نبهنا على ما في روايتهم من الاحتمال وما في روايتنا، ولم يبق إلا التمسك بالأظهر. وفي غير كتاب مسلم: عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" من أعتق عبدًا وله فيه شركاء وله وفاء، فهو حر، ويضمن نصيب شركائه بقيمته لما أساء من مشاركتهم، وليس على العبد شيء ".
وفي هذا الحديث ثلاث فوائد: العتق بالسراية ؛ لقوله:" فهو حر"، والتعليل بحق الشركاء ؛ لقوله:" لما سار من مشاركتهم"، ونفى السعاية ؛ لقوله:" وليس على العبد شيء ". وقوله هاهنا في رواية أبي هريرة:" قوّم عليه العبد "، إشارة إلى لقويم العبد كاملاً، ويعطي قيمة نصفه بنسبة قيمة الكل إن كان قادرًا على أن يدعو شريكه لبيع جملته، فيحصل له نصف الثمن الحاصل في الجميع، فإذا منعه من هذا ضمن له ما منعه منه، وقد قال هذا بعض أهل العلم. واختلف المذهب في الشريكين إذا أعتقا وسهامهما مختلفة، ولهما شريك ثالث، هل يضمنان على التساوى لأنهما اشتركا في الإتلاف، ولو انفرد كل واحد منهما فاعتق لضمن جميع نصيب شريكه، من غير أن يعتبر قلة نصيبه أو كثرته، أو يكونان يضمنان بعد أملاكهما؛ لأن كونهما مالكين نفذ لهما العتق، فلمالك إذا مدخل في هذا فوقعت الغرامة لعذره، وقد غلط ابن راهويه وذهب إلى أن معتق نصف الأمة لا يضس بقيمتها؛ لأنه لم يذكر في الحديث إلا العبد، وأنكر حذاق أهل الأصول هذا، ورأوا أن الأمة في معنى العبد، وأن هذا لا يلتبس على أحد سمع هذا اللفظ، وقالوا: إذا كان الفرع في معنى الأصل قطعًا صار كالمنصوص عليه.(6/2)
قال القاضي: وقوله:« وإلا فقد عتق منه ما عتق »، ظاهره أنه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك رواه مالك وعبيد الله العمري، ووصلاه بالحديث من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه أيوب عن نافع، فقال: قال نافع:" وإلا فقد عتق منه ما عتق "، ومرة قال أيوب: لا أدرى أشىء قاله نافع أم هو من الحديث ؟ ولهذا قال ابن وضاح: إنه ليس من لفظ الحديث، وما قاله مالك وعبيد الله أولى، وقد جوداه،وهما أثبت في نافع من أيوب عند أهل هذا الشان، فكيف وقد شك أيوب - كما تقدم - وقد رواه يحمى بن سعيد عن نافع، وقال في هذا المرضع: ولهذا جاز ما صنع. فجاء به على المعنى، وهذا كله يرد على من رأى الاستسعاء لى اكمال عتقه بكل حال ؛ إذ قوله: " فقد عتق فيه ما عتق " إيجاب لما عتق منه، ونفى لما عداه.
حديث بريرة(6/3)
ذكر فيه أن عائشة أرادت أن تشترى جارية تعتقها، فقال أهلها: نبيعكها على أن ولاءها لنا، فذكرت ذلك للنبى - صلى الله عليه وسلم -، فقال:« لا يمنعك ذلك، فإن الولاء لمن أعتق »، وفي الرواية الأخرى: أنها كانت مكاتبة، وذكر نحوه، وفيه:« ما بال أناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله » الحديث، قال الإمام أبو عبد الله: حديث بريرة هذا فيه فقه كثير، والذي يحتاج إلى ذكره هاهنا الكلام في جواز بيعها ابتداء. وقد اختلفت أقوال العلماء في بيع المكاتب على الجملة، فأجازه بعضهم ومنعه بعضهم، والجواز على أنه يتادى فه المشترى لا على أنه تبطاط كتابته ؛ لأن هذا لم نعلم من يذهب إليه، وكذلك - أيضًا - أجاز مالك بيع كتابته خاصة ويؤدي للمشتري، فإن عجز رق له، منع من ذلك ابن أبي سلمة وربيعة، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ورأوا ذلك غررا وجهلا بالمشتري ؛ لأنه لا يدري ما يحصل له، هل نجوم أم رقبة ؟ وأجاز بعض أهل العلم بيع المكاتب للعتق لا للاستخدام، وان رضى بالبيع وقد عجز عن الأداء لفقره وضعفه عن التكسب جاز بيعه، وإن كان ظاهر المال ففي رضاه بالعجز قولان، فمن مكنه منه أجاز بيعه إذا رضي بالعجز والبيع، ومن منعه من ذلك لم يجز بيعه، والقولان في المذهب عندنا، وكذلك إن لم يكن له مال ظاهر، ولكنه قادر على التكسب، وتحصيل النجوم التي تعتق بها في رضاه بالعجز اختلات في المذاهب.(6/4)
وفي بيع العبد القن بشرط العتق من مشتريه اختلاف بين الناس،أجازه مالك والشافعي، ومنعه أبو حنيفة، ولكنه قال: إن وقع البيع مضى بالثمن، وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن، فقالا: يمضي بالقيمة. فإذا تقرر هذا كله قلنا بعده: لابد من تطلب تاويل لبيع بريرة وهي مكاتبة عند من منع بيع المكاتب، فيقول من حكينا عنه: إن بيعه جانز للعتق لا للخدمة، إنما جازها هنا لأن عائشة اشترتها للعتق وأنا أجيزه، ومن يجيز بيع كتابة المكاتب يقول: لعلها اشترت كتابتها، ويحتج بقوله هاهنا في كتاب مسلم: " فإنى أحب أن أقضي عنك كتابتك ".
وهذا ظاهره أنها لم تشتر الرقبة، ومن يمنع بيع المكاتب وبيع كتابته يقول: عجزت ورضيت بالبيع ؛ فلهذا اشترتها عائشة، وأما شراء العبد القن بشرط الإعتاق فيتعلق بهذا الحديث من يجيزه ويقول: قد اشترتها عائشة بشرط العتق، وقال - صلى الله عليه وسلم -:« ابتاعى وأعتقي»، وهذا يصحح ما ذهبت إليه. ومن يمنع بيع العبد القن بشرط العتق قد ينازع في هذا، ويمنع من كون عائشة مشترية، وقد يحمله على قضاء الكتابة عن بريرة أو على شراء الكتابة خاصة. وإن كان أحد جمع بين هذين المذهبين ؟ منع البيع للعتق وجواز بيع الكتابة، هذا وجه من الكلام على هذا الحديث.
وأما الوجه الثاني - وهو المشكل في هذا الحديث -: فما وقع في طرق ابن هشام هاهنا، وهو قوله عنه - عليه السلام -:« اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء »، فيقال: كيف أمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا، وفيه عقد بيع على شرط لا يجوز، وفيه تغرير بالبائعين ؛ إذ شرطت لهم ما لا يصح وخدعتهم، ولما صعب الانفصال من هذا على بعض الناس أنكر هذا الحديث أصلاً، يحكى ذلك عن يحيى بن أكثم، وقد وقع في كثير من الروايات سقوط هذه اللفظة، وهذا مما يشجع يحعى على إنكارها.(6/5)
وأما المحصلون من أهل العلم فطلبوا لذلك تأويلا، واختلفوا فيه، فقال بعضهم:" لهم " هاهنا بمعنى " عليهم "، فيكون معناه: اشترطي عليه الولاء، وعبر عن "عليهم" بلفظ "لهم"، كما قال تعالى:{ أولئك لهم اللعنة } بمعنى: عليهم، { وإن أسأتم فلها }، أي فعليها. وقال آخرون: معنى "اشترطي"، هاهنا: أظهري حكم الولاء. قال أوس بن حجر يذكر رجلاً تدك من رأس جبل يحمل إلى بيعه ليقطعها فيتخذ منها قوسًا، واشترط فيها نفسه وهو معهم، وألقى باسباب له وتوكلاً، ومعناه: جعل نفسه علمًا لذاك الأمر. وفيه قيل: أشراط الساعة، بمعنى: علاماتها. ومنه سموا: أصحاب الشرط ؛ لأنه كان لهم في القديم علامات يعرفون بها. ومن الشرط في كذا، بمعنى: أنه علم عليه.
وقال آخرون: إنما المراد بهذا الزجر والتوبيخ ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - بين لهم أن هذا الشرط، فلما أخذوا يتقاحمون على مخالفته قال لعائشة هذا اللفظ بمعنى: لا تبالى بشرطهم لأنه باطل مردود، وقد سبق بياني لهم ذلك لا على الإباحة لهم والأمر لها بذلك. وقد ترد لفظة:" افعل " وليس المراد اقتضاء الفعل، ولا الإذن فيها، كما قال تعالى:{ اعملوا ما شئتم }، { قل كونوا حجارة أو حديدًا }.(6/6)
وأما الوجه الثالث: فإنه الكلام على قوله:« الولاء لمن أعتق »، ولا خلاف بين العلماء في معتق عبده عن نفسه أن ولاءه له. واختلفوا إذا أعتقه عن غيره رجل بعينه، أو عن جميع المسلمين، فمذهبنا: أن الولاء للمعتق عنه، كان رجلاً بعينه أو جماعة المسلمين. وقال ابن نافع من أصحاب مالك في المعتق عن جماعة المسلمين: أن الولاء له دونهم، قال بعض شيوخنا: ويلزمه على ما قال أن يقول بمذهب المخالف: إن الولاء للمعتق وإن أعتق عن رجل بعينه. واحتج من رأى الولاء للمعتق وإذا أعتق عن غيره بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الولاء لمن أعتق »، فعتم، وحمله مالك على أن المراد به: من أعتق عن نفسه، بدليل أن الوكيل إذا أعتق بإذن موكله على العتق، كان الولاء لمن وكله وإن كان هو المعتق.
وقد وقع هاهنا سؤال مشكل وهو: لو قال: أنت حر ولا ولاء لي عليك، وأما ابن القصار فالتزم في هذا السؤال أن يكون الولاء للمسلمين، ونزل هذا القول منزلة قول القائل: أنت حر عن المسلمين. وكان بعض شيوخنا يخالفه في هذا، ورأى أن بقوله: أنت حر، استقر الولاء له، واستئنافه بعد ذلك جملة ثانية هي قوله: ولا ولاء لى عليك، لا بغير حكم الجملة الأولى ؛ لأنه إخبار على أن حكم الجملة الأولى المستقرة بالشرع على خلاف ما حكم الله به، فيكون إخباره كذبًا وفتواه باطلاً، والباطل والكذب لا يلتفت إليه، ولا يعول في مثل هذه الأحكام عليه.(6/7)
وأما الوجه الرابع - من الكلام على هذا الحديث - فقوله:" فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان زوجها عبدًا: فلا خلاف بين أهل العلم في أن الأمة إذا أعتقت تحت عبد أن لها الخيار في فسخ نكاحه. واختلف الناس في الحر، هل تخير إذا عتقت تحته ؟ فعندنا لا تخير ؛ ولأن هذا الحديث قد ذكر فيه هاهنا أن زوجها كان عبدا، والأصل ثبوت الأنكحة، ولا سبيل إلى إثبات الفسخ عند طريان حوادث إلا بشرع يدل على ذلك، وقد دل هاهنا على العبد، فيبقى الحر على الأصل. وأما المخالف الموجب لها الخيار - وإن كان زوجها حرًّا - فيتعلق برواية من روى: أن زوجها كان حرًّا، ونحن نرجح مذهبنا عليه بأن نقول: راوى حال هذا الزوج ابن عباس وعائشة، وأما ابن عباس فلم يختلف الرواة عنه أنه قال: كان زوجها عبدا، وأما عائشة فاختلف الرواة عنها، هل قالت: عبدًا أو حرًّا، والذي لا خلاف فيه عنه أولى أن يتعلق بروايته ممن اختلف عنه.
وأما وجه الخلاف من جهة الاعتبار والمعنى، فإن مالكًا رأى أن العلة ما يدركها من معرة لما صارت حرة يكون زرجها عبدًا، وإذا كان زوجها حرًّا فلا معرة عليها ولا وجه لتخييرها. وأما المخالف فيرى أن العلة كونها معقودا عليها بالجبر أولأ لحق العبودية، وإذا صارت إلى حال من لا يجبر لملكها نفسها كان لها حل العقد، ويتعلق في ذلك مما قيل في بعض الطرق:" وهلكت نفسك فاختاري "، وكما قال، فأشار إلى أن العلة ملكة النفس، وهذا يوجب المساواة بين الحر والعبد، وإذا أثبت لها الخيار فإنها إذا أمكنت الزوج من وطئها سقط خيارها، وان زعممت أنها جاهلة بحكم الخيار، هذا المعروف من المذهب.(6/8)
وقال بعض أصحابنا: فإن هذا بناخ على أنها ادعت، والآيسة من الجهل بالحكم لاشتهار هذا الحكم عند سائر الإماء، ولو كانت ممن يتبين جهلها - كحديئة العهد، كالسبى من السودان وغيرهم - لجرت على القولين فيمن زنى جاهلا بحكم تحريم الزنى، هل يحد أو لا ؟ وقد تعلق بعض أصحابنا بأن في بعض الأحاديث على الخيار لها بألا توطأ، ولم يعرف من وطئها جاهلة أو عالمة، والصحيح من هذا أنه إن لم يثبت أثر يسقط تخييرها إذا بهلت الحكم أنها باقية على حقها، ولا معنى لتخريجهم الخلاف في ذلك، ولأن كل من يثبت له حق فلا يسقط إلا بنصه على إسقاطه، وفعل يقوم مقام النص، وتمكين العالمة بالحكم قانم مقام النص منها على إسقاط حقها فيسقط، وإذا كانت جاهلة لم يصدر عنها ما يدل على سقوط حقها، فبقيت على الأصل في حقها في ثبوته.
وأما الوجه الخامس: فقوله - صلى الله عليه وسلم -:« كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط »، فيجب أن يعلم أن الشروط المقارنة للبيع لا تخلو من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون من مقتضى العقد كالتسليم، وجواز التصرف في البيع. وهذا لا خلاف في جواز اشتراطه ؛ لأنه يقضي به وأن لم يشترط.
والثانى: ألآ يكون من مقتضاه، ولكنه من مصلحته كالحميل والرهن، واشتراط الخيار، فهذا - أيضًا - يجوز اشتراطه لأنه من مصلحته، وأشبه ما كان من مقتضاه، لكنه إنما يقض به مع الاشتراط، وإن لم يشترط فلا يقضي به، وبهذا فارق القسم الأول.(6/9)
والثالث: أن تكون خارجة عن ذلك مما لا يجوز اشتراطه في العقود، وأن يمنع من مقتضى العقد أو يوقع فيه غررًا، أو غير ذلك من الوجوه الممنوعة. فهذا موضع اضطراب العلماء، ومسائل المذهب مضطربة فيه، ولكن المشهور فيه على الجملة في القول المطلق: أن البيع والشرط جميعًا ينقضان ويبطلان لقوله - صلى الله عليه وسلم -:« من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد »؛ لأنه قد وضع من الثمن لأجل الشرط، فصار له حصة من المعاوضة، فيجب بطلان ما قابله من العوض لفساده، والذي ينويه من العوض مجهول، وهذا يؤدى إلى الجهالة مما يقابل ما سواه في العوض، فوجب فسخ الكل لذلك.
وقد قال بعض العلماء بأن الشرط خاصة هو المختص بالبطلان لأجل حديث بريرة. وقد وقع في المذهب مسائل خرج فيها بعض الشيوخ هذه الطريقة، وجعلها قولاً في المذهب. ووجه المشهور ما قلناه من الخبر والقياس، وهو مقدم عندهم على هذا الحديث، على أن حديث بريرة لم ينص فيه على صحة البيع، إنما ذكر الشروط خاصة. ففي البيع يؤخذ حكمه من مواضع أخر في الشريعة. وأما شراء عائشة، فقد ذكرنا وجوها من التأويل في قوله - صلى الله عليه وسلم -:« اشترطي لهم الولاء »، وإذا ثبتت تأويلات الحديث سقط تعلقهم بظاهره.
وأما الوجه السادس: فما ذكره من أكله - صلى الله عليه وسلم - مما تصدق به عليها. وقد تقدم الكلام عليه فيما سبق.
قال القاضي:حديث بريرة كثير السنن والعلم والأدب /.(6/10)
ومعنى قول عائشة:" كانت في بريرة ثلاث سنن "، وفي حديث ابن عباس:" أربع سنن "، وزاد: وأمرها أن تبدأ في أنها سنت وشرعت بسبب قصة، أو عند وقوع قصتها، وحكم بها في قصتها وما فيها من غير ذلك، مما كان علم قبل ذلك من غير خبرها وقصتها، ولكن معها الحجج لسنن كثيرة وآداب من الشرع عديدة. وقد كثر كلام الناس فيه وجمع أبو جعفر الطبري فيه ستة أجزاء في كتابه، ولاءبى بكر بن خزيمة - أيضًا - عليه تأليف كبير، ولغيرهما وبلغة بعضهم نحر مائة فائدة، وسنذكر من فوائده مما لم يتقدم ذكره قبل، ومما هو ظاهر لمستفيده إن شاء الله.
في ذلك: جواز كتابة الأنثى وذات الزوج من الإماء، ودخولهن في الخطاب العام والخبر الشامل من قوله تعالى:{ والذين ييتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم }، وأن الزوج لا يدخل في كتابتها، وأنه لا حق للزوج في منعها من الكتابة، وإن آل ذلك إلى فراقها باختيارها إن كان عبدًا على قول الجمهور، أو كيف كان على قول الآخر، وأنه ليس له منعها من السعى. وقد يستدل به على أنه لا حق له في خدمتها ؛ إذ لو كان ذلك لكان له منعها منه. وجواز المكاتبة وإن لم يكن للعبد مال. وجواز كتابة الأمة غير ذات الصنعة ومن لا حرفة له من العبيد إن لم يستعملهم النبي عن شق من ذلك، ولو كان مشترطًا لسأل عنه وبينه. وهذا كله مذهب مالك والثوري والشافعي وجماعة من العلماء وغيرهم.(6/11)
واختلف عن مالك في كتابة من لا حرفة له، وكرهها الأوزاعي وأحمد وإسحاق، رروى مثله عن ابن عمر، خلافًا لمن قال من السلف: إن المراد به في الآية المال، وهو عند أكثرهم الدين والأمانة، والقدرة على الكسب عند جميعهم، وبين أن المكاتب غير عتيق، وأنه عبد ما بقي عليه درهم، وهو قول عامة العلماء وفقهاء الأمصار عن بعض السلف، وأنه حر بنفس الكتابة، وهو عديم بالكتابة ولا يرجع إلى الوراء، وحكى مرصد عن امرأته في عتق منه، وروي عن علي بن أبي طالب، وحكى عن بعضهم أنه إذا أدى الشطر من كتابته فهو جائز ويتبع بالباقي. وعن عمر بن الخطاب وابن مسعود وشريح مثل هذا إذا أدى الثلث، وعن عطاء مثله إذا أدى الثلاثة الأرباع، وقال: إذا أدى قيمته فهو حر عديم بالكتابة، وروي عن شريح وعن ابن مسعود إذا أدى قيمته، وأن الكتابة على النجوم جائزة لقولها:" أوقية في كل سنة، ولا خلاف فيه، ويجوز عند عامتهم على نجم واحد، ولكن شأنها عند مالك بالتنجيم ؛ لأنه إذا لم يسم أجلاً ولا نقدًا نجمت عنده بقدر السعاية وقوته وإن كره السيد، ومنعها الشافعي جملة وقال: ليست بكتابة.
وفي قوله: " الله أحق، وشرط الله أوثق "، جواز السجع غير المتكلف. وإنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سجع الكهان وما اشبهه مما فيه من تكلف وبأقسام على مطوي الغيب. قال الداودي: وشرط الله هنا أراد - والله أعلم - قوله تعالى:{ فإخوانكم في الدين }، وقوله:{ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه }، وقال في موضع آخر: هو قوله:{ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل }، وقوله:{ وما آتاكم الرسول فخذوه } الآية.
قال القاضي: وعندي أن الأظهر هو ما أعلم به أنه - عليه السلام - من قوله:« إنما الولاء لمن أعتق »، و « مولى القوم منهم »، و « الولاء لحمة كالنسب »، ويحتمل أن يريد القرآن، ويرجع إلى ما تقدم من قوله:{ فإخوانكم في الدين} والآيتين الأخرتين.(6/12)
وفيه جواز إعطاء الصدقات لموالي قريش وإن كانت هذه الصدقة تطوعًا، فقد يحتج به من يرى صدقة التطوع جائزة لمواليهم أو لجميعهم، وإن قلنا لهذا زكاة واجبة، فيحتج به من لا يرى تحريم ذلك على الموالي منهم، أو يرى اختصاص تحريم الصدقة لبني هاشم وبني عبد المطلب لقول عائشة:« أهدته لنا بريرة، وأنت لا تأكل الصدقة »، ولم يقل لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: وأنت لا تأكليها، وإنما يحتمل أنها هدية للجميع. وفيه جواز الأكل مما أهدى للفقير والتصدق به عليه.
وقوله:« ألم أر برمة على النار فيها لحم ؟ »، فيه سؤال الرجل عما يراه في بيته، وليس هذا من الذم وغير مكارم الأخلاق الذي جاء في حديث أم زرع.
وقوله: ولا يسأل عما عهد لأن هذا إنما هو بحث عما عدهه في بيته. والسؤال أين ذهب وما صنع به ؟ وأما شيء يجده فيقول وما هو هنا فليس منه، مع أي سؤاله - عليه السلام - لهم هنا ليبين لهم ما جهلوه ؛ لأنه - عليه السلام - علم أنهم كانوا لا يبخلون عليه بما يعتقدون جوازه له، وأنهم إنما قدموا له أدم البيت، وتركوا اللحم الذي هر سيد الأدم لأمر اعتقدوه فيه، فيسالهم ليعرف ما اعتقدوه، ويبين لهم ما جهلوه كما كان. وفيه من حسن الأدب والعشرة، قوله - عليه السلام -:« ما بال رجال »، ولم يواجههم بالخطاب، ولا حرج بأسمائهم.
وفيه جواز الصدقة على العبد ؛ لاستسعائها عائشة، ولم ينكر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك في التطوع، وكذلك معونة المكاتب من التطوع. واختلف في معونته من الفرض. وفيه جواز بيع المرأة وشرائها بغير إذن زوجها. وجراز عتقها لعبدها وأمتها، ما لم ترد على تلف مالها وبرده زوجًا.
وفيه دليل على أن بيع الأمة المزوجة ليس بطلاق وكذلك عتقها، خلافًا لابن المسيب الذي يرى بيعها طلاقًا.
وفيه جواز اكتساب المكاتب بالسؤال كما فعلت بريرة.(6/13)
وفيه أن البيان بالفعل أقوى منه بالقول ؟ ولهذا أمر - عليه السلام - عائشة باششراط الولاء لهم ؛ ليبين لهم ذلك القول والتوبيخ على رأى بعضهم، كما قال - عليه السلام -: « إنى لأنسى، أو أُنسى لأسن »، لا سيما على رأى من رأى أنه نسى عمدًا ليبين صورة السهو، وهذا الوجه أظهر التأويلات في الحديث وهو لفظه، وقد جاء من رواية أيمن عن عائشة:« اشتريها ودعيهم يشترطون ما شاؤوا »، فاشترتها وأعتقتها، وشرط أهلها الولاء. قال محمد بن داود الأصبهاني: أما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لها:« اشترطي لهم الولاء »، إنما معناه: أن ذلك بعد علمهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عنى غيرها بذلك، ولا نافع لهم، ولم يأمرها - عليه السلام - باشتراطه، ثم يبطل الشرط ويصحح البيع وهم غير عالمين ببطلانه، وإنما كان هذا منه تهديدًا لمن رغب عن حكمه وخالف أمره. وإليه مال الأصيلي وأبي أنه على ظاهره، وأنه أمرها بذلك ليقع البيع ويصح، ويبطل الشرط ويصح، ويكون ما قابل الشرط من الثمن، وحط له عقوبة في المال لما خالفوا أمره، كما منع القاتل من الميراث عقوبة له.
وقال الطحاوى: رواية الشافعي عن مالك في هذا الحديث:« اشترطي لهم الولاء » بغير تاء، أي أظهري لهم حكمه. وعلمهم سنته - كما تقدم - وليس من الاشتراط، وما تقدم أظهر لفظًا ومعنى.
وفيه جواز نكاح العبد الحرة إذا رضيت بذلك لتخييرها. قال بعضهم: وفيه دليل على تعجيز المكاتب نفسه بغير أمر السلطان.
وقد اختلف قول مالك في ذلك، ودليل على رضاه بالعجز على الجملة، إذ لم يأت في الحديث ذكر عجزها ولا استبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك من حالها. وقد اختلف أئمتنا في رضاه تعجيز نفسه وإن كان له مال. وقال ابن شهاب وربيعة وأبو الزناد: إذا رضي بالبيع فهو عجز وجاز بيعه. وقال مالك: لا يجوز ذلك لعجزه عن الأداء، وألا يكون له مال. وقد تأول بعضهم عجز بريرة ولذلك استعانت بعائشة.(6/14)
وفيه مما لم يذكره مسلم: أن المخيرة إذا مكنت زوجها من الاستمتاع بها انقطع خيارها ؛ لقوله:« وإن قربك فلا يخار لك »، ذكره أبو داود.
وفيه جواز الشفاعة من الحاكم للمحكوم عليه، وللزوج في رد المطلقة إذا امتنعت، وأنه لا حرج على الزوج فيما يبديه من حبها ؛ إذ لم يزجره النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وأنه لا حرج على المرأة في الامتناع إذا كرهته وإن أضر حبها بالزوج؛ لقوله: فرأيته يطوف خائفًا يبكي. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« ألا أرجعتيه»، وقولها للنبي - صلى الله عليه وسلم -: تأمرني ؟ فقال:« إنما أنا شفيع »، خرجه النسائي.
وفيه أن الشفاعة، وطلب الحاجة لا يكون فيما يضر ويشق إلا على وجه الإلزام، بل بالرغبة والتعرض، وفيه جواز خدمة المعتق، وفيه جواز قبول الهدية من الفقير وممن أنعم الرجل عليه العتق بقوله:« وهو لنا هدية »، وفيه إدخال الرجل في مال من يعلم أنه يسر بما دخاله فيه وطلبه، وأكله له بغير إذنه ؛ إذ ليس في الحديث أن بريرة كانت قد أهدته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أهدته إلى عائشة سأل، فقالوا: لحم تصدق به على بريرة، فقال:« هو لها صدقة ولنا هدية ».
قال الإمام: ذكر في حديث بريرة:" لاها الله لا أفعل ذلك "، فيه لغتان: أحدهما: إثبات الألف، والأخرى: منعها هنا لسكونها وسكون اللام في القاسم، فيصير اللفظ: هلا الله، بمعنى: والله.
قال القاضي: قد جاء في "المعلم"، واللفظ الذي في مسلم فقالت:" لاها الله إذًا "، قالت: فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألني. وفي اللفظ الأول إشكال؛ إذ يدل أنها هي قالت: إن القائل بريرة وغير عائشة، وإنما هو من قول عائشة فأخبرت عن نفسها بقولها اشترتها، ثم قال المخبر عنها: فقالت: لاها الله ؛ ولذلك قال بعضهم: صوابه: بالله، لكن قد وجهنا تصويب قولها: وقالت: مع أنه المذكور في جميع النسخ.(6/15)
وأما قولها:" لاها الله إذًا "، فهكذا يقول هذا اللفظ المحدثون بمد هاء، وإذا به يصير صوابه: في " لاها الله " زائدًا. قال إسماعيل القاضي: وحكاه عن المازني وغيره من أهل اللسان بالقصر وحذف الألف قبل الذال وغيره خطأ. قال: ومعناه: ذا يميني. وعلى هذا وقع غيره في "الأم" من رواية العذري والهوزني، وصوب أبو زيد وغيره بالقصر والمد، قال: و"ذا " صلة في الكلام، وليس في كلامهم: أي الله إذ أوى. وفي التاريخ: قال أبو حاتم: يقال: لاهاء الله، في القسم. والعرب تقوله بالهمزة. والقياس تركه، والمعنى: لا والله أقسم به، فأدخل اسم الله بين ها وذا.
وقوله:" إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل "، معناه: تفعل ذلك احتسابًا لله، وطلب الأجر لا طلب الولاء.
وقوله في الحديث:« أعدها لهم وأعتقها »، ومثله من اللفظ يدل أنه إنما اشترى الرقبة لا الكتابة. قال بعضهم: وظاهره بأنها إنما أرادت أن تشتري منهم الولاء وتولى جميع الكتابه لهم. وفي قوله:" أعدها "، قيل: فيه جواز المعاملة بالدنانير والدراهم عمدًا، إذا كانت معروفة العدد والضرب، وهذا مما لاخلاف فيه ؛ لكونها استرسال من هذا الحديث فيه بضروب ؛ إذ العادة أن العد هنا على الأواقي.?
وقوله - عليه السلام -:" نهى عن بيع الولاء وهبته " تقدم في الباب، وتقدم الكلام على قوله:« إنما الولاء لمن أعتق »، وعامة العلماء والسلف، وفقهاء الأمصار على أن الولاء لا يباع ولا يوهب ولا ينتقل، وهو كلحمة النسب، لا ينقل عمن ثبت له، كما لا ينقل النسب وأجاز بعض السلف من الصحابة نقله، ورأى بعضهم أن الحديث لم يبلغهم.(6/16)
وفيه دليل على أن لا ولاء لمن أعتق على يديه وكملتقط اللقيط وهو قول مالك، والشافعي والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وداود، وميراث هؤلاء إذا لم يكن لهم وارث لجماعة المسلمين، خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه أن من أسلم على يديه رجل فولاؤه له، وهو قول الليث وربيعة، وقال يحيى بن سعيد مثله لا فيمن كان من أهل الذمة، وخلافًا لإسحاق في قوله: ولا اللقيط لملتقطه، وخلافصا لأبي حنيفة - أيضًا - في أن لكل أحد أن يوالي من شاء فيوارثه، وحجتهما قوله:« الولاء لمن اعتق ». وهي صيغة جلية عند معظم أهل الأصول في الخصر بالحكم لمن ذكر ونفيه عمن عداه، ويعبر عنها بعضهم بتحقيق المتصل وتمحيص المنفصل.
واختلف العلماء في ولاء من أعتق سباية، فقيل: هو لجماعة المسلمين، وكأنه أعتق، وهذا قول مالك وجماعة من أصحابه وكثير من السلف، وقيل: بل ولاؤه لمعتقه، وهو قول: الحسن، والشعبي، وغيره من التابعين، وبه قال الشافعي وابن الماجشون، وابن نافع من أصحابنا. وقال جماعة من السلف: إنه يوالى من شاء، فإن مات قبل ذلك فولاؤه للمسلمين، وقيل: يشتري بتركته رقاب تعتق. واختلف في ولاء المكاتب، والعبد يشترى نفسه من سيده / فقيل: ولاؤه لسيده، وهو قول مالك، وأكثر العلماء. وقيل: لا ولاء عليه.
وقوله: " وكتب - عليه السلام - على كل بطن عقوله "، أي دياته، ونهيه عن تولي الرجل قومًا بغير إذن مواليه، ولعنه فاعله، وقد ذهب قوم أن المولى الأعلى إذا أذن للأسفل في موالاة غيره جاز ؛ لظاهر الحديث.
وقوله:« المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا »، وقوله:« لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً »، تقدم الكلام على هذه القضية في صدر الكتاب وفي كتاب الحج.(6/17)
قال الإمام: خرج مسلم في باب الولاء حديثًا عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - ثم قال بعده: وحدثنيه إبراهيم بن دينار، نا عبيد الله بن موسى، قال: نا شيبان - يعنى النحوي أبا معاوية -، وفي نسخة ابن ماهان: حدثنا إبراهيم، نا عبيد الله، قال: نا سفيان، عن الأعمش، جعل " سفيان " بدل:"شيبان"، والصواب: شيبان، ومثله في المناقب: حدثنا القاسم بن زكريا، قال: نا عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن أبي الأحوص - الحديث في مناقب عبد الله بن مسعود -، وليس عندهم في هذا الموضع خلاف.
قوله:« من أعتق رقبة مؤمنة، أعتق الله بكل إرب منها إربًا منه من النار»، قال القاضي: الإرب بكسر الهمزة: العضو، ألا تراه كيف قال: «حتى فرجه بفرجه ». فيه فضل العتق، وأنه من أرفع الأعمال، ومما يوجب الجنة، وينجي من النار، ويكفر الخطايا الموجب عليها العقاب بالنار، وفيه حجة لمن استحب ألا يكون العبد خصيًّا، أو ناقص عضو ليكمل عتق أعضاء معتقه.(6/18)
وظاهر قوله:« من أعتق رقبة »، وقوله:« أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلمًا »، فإنه في كل معتق، لكن أبا داود، والترمذي والنسائي. ذكروا حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:« أيما رجل أعتق رجلاً مسلمًا » بمعناه، « وأيما امرأة أعتقت امرأة مسلمة » بمعناه، « وأيما رجل أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار، يجزى كل عضو منها عظمًا في عظامه»، وصححه الترمذي، وعلى هذا اختلف العلماء، أيهما أفضل عتق الذكور، أو الإناث، فعلى هذا الحديث قد نص على فضل عتق الذكور وجعله كفاء أنثيين. ومن جهة المعنى ما في الذكر من المعانى العامة المنفعة التي لا توجد في الإناث من الشهادة، والحكم، والجهاد، وغير ذلك مما يختص بالرجال، إما شرعًا، وإما عادة، ولأن الغالب أن الطاعة فيهم أوجد، ولأن الرق في الرجال الكبار أكثر من الجواري، ومن الجواري من لا يرغب في العتق وتضيع مع العتق وحجة الآخر من جهة المعنى سراية الحرية فيمن تلده الأنثى وتنقيله، كيف كان زوجها من حرية أو عبودية.
وقوله:" مؤمنة "، يدل أن هذا الفضل ليس إلا لعتق المؤمنين دون غيرهم، ولا خلاف في جواز عتق المؤمنين والفضل فيه، لكن الفضل التام، في عتق المؤمنين. وقد روي لمالك أن الأعلى ثمنًا أفضل، وإن كان كافرًا، وخالفه فيهم غير واحد من أصحابه، وغيرهم وهو أصح.
وقوله:« لا يجزئ ولد والدًا، إلا أن يجده مملوكصا فيشتريه فيعتقه »، وفي بعض طرقه:"ولد والده "، قال الإمام: اختلف الناس في عتق الأقارب إذا ملكوا، فأنكره جملة بعض أهل الظاهر، وتعلقوا بهذا الحديث، وأثبته جمهور الأمة واختلفوا فيمن يثبت ذلك فيه، فعندنا في المذهب ثلاثة أقوال:
المشهور منها عن مالك: أن العتق يختص بعمودي النسب. والإخوة، ويدخل في قولنا:" عمودي النسب ": الآباء والأجداد، والأمهات والجدات وإن علوا، والولد وولد الولد وإن سفلوا.(6/19)
والقول الثاني: إثبات العتق في عمودي النسب خاصة دون الإخوة، ذكره ابن خريزمنداد.
والقول الثالث: عتق ذوي الأرحام المحرمة، ذكره ابن القصار وبما حكاه ابن خويزمنداد قال الشافعي، وبما حكاه ابن القصار قال أبو حنيفة.
فأما تعلق من أنكر العتق أصلاً بقوله:« إلا أن يشتريه فيعتق »، وتقديره أنه لما أضاف العتق إلى الولد اقتضى أن يكون باختياره، وذلك ينفي عتقه عليه جبرًا، فإن هذا لا حجة لهم فيه ومحمله عندنا على أن يعتق باشترائه، فأضاف العتق إليه لما كان عن أمر يكتسبه ويفعله وهو الشراء.
وقد خرَّج الترمذي، والنسائي، وأبو داود، عن سمرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:« من ملك ذا رحم محرم فهو حر »، وعند الترمذي:« ذات محرم »، وهذا يمنع من التعلق بالحديث إلذى ذكروه /، ولو كان الأظهر في معناه ما قدروه ؛ لأن النصوص أولى من الظواهر ؛ ولهذا الحديث حملنا قوله:"فيعتقه" على ما قلناه من التأويل، وهو الحجة للقول الذي حكاه ابن القصار، وقد تعلق أصحابنا بقوله تعالى:{ إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا }، ورد بهذا إضافة الكفرة الولد إليه سبحانه وتعالى، فدل على منافاة البنوة للعبودية.
وتعلقوا في الأخوة بقوله:{ لا أملك إلا نفسي وأخي}، فلما استحال ملك نفسه استحال ملك أخيه. وتعلقهم بهده الآية في الأخوة ضيف، ولهذه الآي وقع الاختصار في المذهب المشهور على عتق عمودي النسب والأخوة لا أكثر، وكأن الحديث لم يثبت عنده، ولأجل ضعف التعلق بقوله:{ لا أملك إلا نفسي وأخي } نفي عتق الأخوة وأثبت عتق البنوة لقوة الظاهر الوارد به في القرآن، وأثبت عتق الأبوة لقوله تعالى:{ وبالوالدين إحسانًا }، وبقوله تعالى:{ فلا تقل لهما أفٍ }، وليس من الإحسان إليها استرقاقهما.(6/20)
فهذه وجوه الأقوال الثلاثة المذكورة في المذهب التي قال بجميعهما فقهاء الأمصار الثلاثة. وقد اختلف المذهب عندنا، هل يفتقر عتق الأقارب إلى حكم أم لا ؟ فقيل: لا يفتقر إلى حكم لقوله - صلى الله عليه وسلم -:« من ملك ذا رحم محرم فهو حر »، وظاهر هذا الاقتصار على مجرد الملك دون الحكم، وقيل: بل يفتقر ذلك إلى حكم لأجل اضطراب العلماء في هذه المسألة، واختلاف المذهب فيها، فيكون حكم الحاكم رافعًا للخلاف.
**************
كتاب البيوع
قال القاضي: بدأ مسلم فيه بحديث مالك عن محمد بن يحيى بن حبان في النهي عن الملامسة والمنابذة. ووقع عند رواة عبد الغافر الفارسي من الطريقين اللتين انتهت إلينا روايته عنهما، عن أبي عبد الله الطبري، وأبي الفتح السمرقندي عن مالك، عن نافع، عن محمد بن يحيى بن حبان عنه بزيادة نافع، فيه خطأ محض، والحديث في "الموطأ" وغيره معروف.
وقول الراوي:" نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين: عن الملامسة والمنابذة "، وفسره في الحديث بما أغنى عن إعادته، لكن في قوله:" ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض "، أي من غير تأمل واختيار يرضيان به بسلعتهما قبل العقد، وقد يكون معنى "تراض"، أي: أن يكون ذلك على الرضا والخيار عند زوال الظلام، وبنشر الثوب على الإلزام بما فعلاه من نبذ، ولمس، ولو فعلاً هذا على أنه ينظر إليها بعد ويتأملها، فإن رضي أمسك وكان جائزًا، ولم يكن بيعًا منهيا عنه.(6/21)
قال الإمام: الأحاديث الواقعة في البيوع هاهنا كثيرة، ونحن نقدم فصلاً حسنًا يشتمل على عقد جيّد، ونطلع منه على أسرار في الشرع. واعلم أن العرب لبلاغتها وحكمتها، وحرصها على تأدية المعاني إلى الأفهام بأدنى ضروب الكلام، تخصّ كل معنى بعبارة وإن كان مشاركًا للآخر في أكثر وجوهه، فلما كانت الأملاك تنتقل عن أيدي مالكها بعوض وبغير عوض سموا المتنقل بعوض بيعًا. فحقيقة البيع نقل الملك بعوض، ولكن المعاوضة إن كانت على الرقاب خصوها بتسمية البيع، وإن كانت على المنافع خصوها بتسمية الإجارة، إلا أن تكون المنافع منافع الفروج، فخصوها - أيضًا - بتسميتها نكاحًا. وإذا علمت حقيقة البيع ومعانى هذه التسميات فاعلم أن البيع يفتقر إلى أربعة أركان:
أحدها: متعاقدان، ومن في معناهما، وقولنا:" من في معناهما " احتراز من أن عقد على ولديه أو وصى عقد على يتيمة.
والثانى: معقود به.
والثالث: معقود عليه.
والرابع: العقد في نفسه.
فأما المتعاقدان، فمن حقهما أن يكونا مطلقي اليد والاختيار. فقولنا: يكونا مطلقي اليد احترازا ممن يحجر عليه، وهم أربعة أصناف:
أحدهم: من يحجر عليه بحق نفسه وهو السفيه، ويدخل فيه المجنون والصغير والعاقل البالغ الذي لا يميز أمور دنياه.
والثانى: من يحجر عليه لحق غيره ممن ملك أعيان ما في يديه كالسيد مع عبده.
والثالث: من يحجر عليه لمن يخات أن يملك عن ما في يديه كالمريض مع ورثته، وقد تلحق به الزوجة مع زوجها، والمرتد مع المسلمين.
والرابع: من يحجر عليه لحق من يملك ما في ذقته كالمديان مع غرمائه. ولكن طرق الحجر تختلف مع هؤلاء ونستقصى كل فصل في موضعه إن شاء الله.(6/22)
والسفيه يمنع من البيع رأسًا. وكذلك العبد إذا شاء سيده، وكذلك المرتد، والمديان إذا ضرب على أيديههما، والمريض والزوجة يمنعان إذا حييا محاياة تزيد على ثلثهما. وعندنا اختلاف في السفيه إذا كان مهملاً، فقيل: تمضى بياعاته، وقيل ترد، وقيل: ترذ إن كان ظاهر السفه، وتمض إن كان خفيه.
وكان المحققرن من شيوخنا يختارون الرذ ؛ لأن السفيه المحجور عليه رد بيعه اتفاقًا. فكان المحققين رأوا أن الرد من مقتضى السفه، فردوا أفعال المهمل، ورأى بعض أصحاب مالك الرد من مقتضى الحجر، فأجازوا أفعاله؛ إذ لا حجر عليه. والأصح عند شيوخنا أنه من مقتض السفه ؛ لأن الحجر كان عن السفه، ولم يكن السفه عن الحجر، وإذا كان الحجر عن السفه ومن مقتضاه وجب أن يكون الرد في السفيه المحجور عليه لأجل السفه لا لأجل الحجر.
وكان شيخي - رحمه الله - يقول: فإن السفه عتة في رد الأفعال، بدليل الاتفاق على رد أفعال الصغير، والمجنون، ومن بلغ سفيها ولم يبلغ?الخمسة والعشرين عاما، فإن الاتفاق على رد فعل هؤلاء إذا كانوا في الحجر وإذا ثبت رشد السفيه وجب تسليم ماله إليه، فدل ذلك على أن العتة وجود السفه، والعلة حيثما وجدت اقتضت حكمها، هذا المعنى الذي كان يشير إليه.
وكذلك اختلف المذهب في المحجور عليه إذا رشد ولم يفك الحجر عنه، هل تمضى أفعاله، وهو عكس السفيه المهمل ؟ والنظر عند شيخنا يقتضي جواز افعاله، لوجود علة الجواز وهي الرشد، وارتفاع علة الرفض وهي السفه، وهكذا يجري الاختلاف في المرتد إذا باع قبل الحجر عليه، قياسًا على السفيه المهمل. والرشد عندنا المطلوب هاهنا في تدبير الدنيا له اصلاحها لا في إصلاح الدين.(6/23)
وقال بعض أصحابنا: بل الرشد إصلاحهما جميعًا، والأول أولى، إذا كان الفاسق ممسكًا لماله منحيًا له لا يتلفه في المعاصي، ولا أعظم فسقًا من الكافر، وفسقه لم يوجب رذ بياعاته إذا تحاكم إلينا، وقد باع على الصحة من مسلم. وقد حد - صلى الله عليه وسلم - الزناة، وقطع السراق، وضرب شراب الخمر، ولم ينقل إلينا أنه - صلى الله عليه وسلم - حجر عليهم، وهذا هو الأصح لهذا الذي قلناه ولغيره.
وأما قولنا: "مطلق الاختيار " فلأن المكره المقصور الاختيار لا يلزمه عقده ؛ لأن الله - سبحانه - أباح إظهار كلمة الكفر للإكراه، فدلّ على أن الإكراه يصير المكره كغير ا أتحاصد، ومن لا قصد له لا يلزمه بيعه، وقد ألزمه المخالف طلاقه وعتقه. وهذا التعليل يرد قوله، ويرده - أيضًا - قوله - صلى الله عليه وسلم -: « رفع عن أمتى خطؤها ونسيانها وما استكرهوا عليه ».
???? وأما السكران، فإن الحدود تلزمه. وقد حكى بعض الناس الإجماع على أنه إذا قتل قتل. وقال بعض الناس: إنما فارق المجنون في ذلك لأنه متعد في شرب ما أزال عقله، ومكتسعبئ لما أدى إلى ذلك، فكانت أفعاله كأفعال المكتسب، القاصد، وقال بعضهم: فإن رفع التكليف عن المجنون رخصة وتخفيف، وهذا عاص بشربه، والعاصي لا يرخص له.
وأما عقوده، فإن كان طلاقًا أو عتاقًا فالمشهور عندنا لزوم ذلك ؛ لأن ذلك من ناحية الحدود، فالحق بها في الحكم، وقد روقي عندنا رواية شاذة في طلاقه أنه لا يلزم قياسًا على المجنون، وستم بعض أصحابنا أنه لو صب في حلقه الخمر حتى ذهب عقله أن طلاقه لا يلزم حينئذ ؛ لأنه غير متعد في الشرب.(6/24)
وأما بياعته، ففيه عندنا قولان: جمهور أصحابنا على أنها لا تلزمه ؛ لأنه بسكره يقصر ميزه في معرفته بالمصالح عن السفيه، والسفيه لا يلزمه بيعه، وإن كان يقام الحد عليه كما يقام على السكران. وذهب بعض أصحابنا إلى أنه تلزمه بياعته كما تلزمه الحدود. وأما هباته فتجرى على القولين في بياعته. وهذا حكم أحد الأركان، وهو المتعاقدان.
وأما المعقود به / والمعقود عليه، فحكمهما واحد، وإنما تحسين التقسيم أدى إلى إفرادهما بالذكر، وإلا فكل معقود به معقود عليه، فيجب أن تعلم أن ما لا منفعة فيه أصلاً لا يجوز العقد له ولا عليه ؛ لأن ذلك يكون من أكل المال بالباطل، ولم يقصد بالخمر ما ينتفع به إلى الهبة فيجوز له. وهذا الذي لا منفعة فيه أصلاً لا يصح ملكه إذا كان مما نهى الشرع عن تملكه كالميتة، والدم، ولحم الخنزير والخمر، إلا أن الخمر إذا أجزنا تخليلها فقد سهل في إمساكها للتخليل بعض أصحابنا.
وأما ما فيه منفعة مقصودة فلا يخلو من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون سائر منافعه محرمة.
والثانى: أن يكون سائر منافعه محللة.
والثالث: أن يكون بعضها محللا وبعضها محرما. فإن كانت سائر منافعه محرمة صار هو القسم الأول الذي لا منفعة فيه كالخمر والميتة له إن كانت سائر منافعه محللة جاز بيعه إجماعًا، كالثوب والعبد، والعقار، والثمار، وغير ذلك من ضروب ا لأموال.(6/25)
??? فإن كانت منافعه مختلفة فهذه المراضع المشكلات في الافهام ومذلة الأقدام، وفيه ترى العلماء يضطربون وأنا أكشف لك عن سره إن شاء الله ليهون عليك اختلافهم فيه. فاعلم أنه قد تقدم لك أصلان: جواز البيع عند تحليل سائر المنافع وتحريمه عند تحريم جميعها، فإذا اختلفت عليك فانظر فإن كان جل المنافع والمقصود فيها محرمًا حتى صار المحلل من المنافع كالمطرح فإن البيع ممنوع، وواضح إلحاق هذا بأحد الأصلين المتفق عليهما ؛ لأن المطرح من المنافع كالعدم، وإذا كان كالعدم صار كأن الجميع محرم. وإن كان الأمر بعكس ذلك كان الحكم بعكسه ، وهو أن يكون المقصود من المنافع وجلها مباحًا والمحرم مطرحًا في المقصود، فواضح إلحاق هذا بالأصل الثاني. وهو ما حل سائر منافعه، وأشكل من هذا القسم أن يكون فيه منفعة محرمة مقصودة مراده، وسائر منافعه سواها محلل مقصود، فإن هذا ينبغى أن يلحق أ فيه بالقسم الممنوع ؛ لأن كون هذه المنفعة المحرمة مقصودة تؤذن بأن لها حصة من الثمن، وأن العقد اشتمل عليها، كما اشتمل على سائر المنافع سواها. وهو عقد واحد على شيء واحد لا سبيل إلى تبعيضه، والمتعاوض على المحرم منه ممنوع. فمنع الكل لاستحالة التميز، وأن الباقي من المنافع المباحة يصير ثمنه مجهرلا لو قدر جواز انفرداه بالتعاوض.
وربما وقع في هذا النوع مسائل تشكل على العالم فيلحظ المسألة بعين فكرته، فيرى المنفعة المحرمة ملتبسًا أمرها، هل هي مقصودة أم لا ؟ ويرى ما سواها منافع مقصودة محللة فامتغ من التحريم لأجل كون المقصود من المنافع محللا ولا ينشط لإطلاق الإباحة لأجل الإشكال في تلك المنفعة المحرمة أهي مقصودة أم لا ؟ فيقف هاهنا المتورع ويتساهل آخر فيقول بالكراهة، ولا يمنع ولا يحرم، ولكنه يكره لأجل الالتباس. فاحتفظ بهذا الأصل فانه من مذهبات العلم ومن قتله علما هان عليه جميع مسائل الخلاف الواردة في هذا الباب وأفتى وهو على بصيرة في دين الله.(6/26)
ويكفيك من أمثلة هذا الباب على اتساعها وكثرتها ما وقع لأصحابنا من الاختلاف في بيع كلب الصيد، فإنه من لم يسمع فيه حديثًا في النهي عن بيعه، واستعمل هذا الأصل خرج له حكمه فيه، فيقول: في الكلب من المنافع كذا وكذا، ويعدد سائر منافعه، ثم ينظر هل جميعها محرم فيمنع البيع ؟ أو محلل فيجيز البيع ؟ أو مختلفة فينظر هل المقصود المحرم أو المحلل، ويجعل الحكم للغالب على ما بسطناه ؟ أو يكون منفعة واحدة محرمة خاصة وهي مقصودة فيمنع على ما بيناه أو ملتبس كونها مقصودة فينف أو يكره على ما بيناه ؟ والعرض على هذا الأصل هو سبب اضطراب أصحابنا فيه وكذلك بيع النجاسات ليذبل بها النبات ما وقع فيه في المدونة، وفي الموازية ولابن القاسم ولأشهب على هذا الأصل يعرض ومنه يعرف الحق فيه.
وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - بأحسن عبارة، وأقرب اختصار على هذا المعنى الذي بسطناه بقوله - صلى الله عليه وسلم - / في الخمر:« إن الذي حرم شراءها حرم بيعها »، ومن كلامه - صلى الله عليه وسلم - اقتضينا هذا الذي هو الأصل العظيم، وذلك أنه أشار إلى أن المنفعة المقصودة من الخمر هي الشرب لا أكثر، فإذا حرمت حرمت المعاوضة ؛ لأن المشتري منعه الشرع من الانتفاع بها، فإذا بذل ماله وهو مطيع للشرع في ألا ينتفع بها، فقد سفه وضل رشده، وصار من أكل المال بالباطل، وهكذا -أيضًا - نبه على هذا في الحديث الآخر ؛ الذي لعن فيه اليهود لما حرم عليهم الشحم فباعوه وأكلوا ثمنه ؛ لأن الشحم المقصود منه الأكل، فإذا حرم حرم الثمن، فهذا من وضوحه كاد يلحق بالعقليات ؛ ولهذا قال:« لعن اليهود حرمت عليهم لشحوم »، الحديث.(6/27)
وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - على القسم الأخر المشكل لأنه لما قيل له في شحم الميتة: يا رسول الله ! إنما نطلي بها السفن، فأورد ما دل على المنع من البيع ولم يعذرهم بذلك، ولا أباح البيع لاعتلالهم له، ولحاجتهم إليه في بعض المنافع. فهذا على طريقة من يجيز استعمال ذلك في مثل هذه المواضع، فتكون بعض المواضع محللة. ولكن المقصود الذي هو الأصل محرم، فلم يرخص في البيع لذلك. ويلحق بهذا المعنى بياعات العزر لاءنه قد لا يحصل المبغ فتصير المعاوضه على غير منتفع به ويلحق بالقسم الأول الذي هو المعاوضة على ما لا منفعة فيه أصلاً وقد تقدم، ولكن ذلك يكون عدم المنفعة فيه تحقيقًا، وهذا يكون عدم المنفعة فيه تقديرًا وتجويزًا.
وأما العقد فمن شرطه أن يخلص عن المنهيات كلها، وهي محصورة فيما تقدم وفيما شذ منه مما يرجع إلى أصول أخر ؛ كالنهي عن العقد عند صلاة الجمعة، إلى غير ذلك مما نبه عليه إن شاء الله عند وروده في أحاديث هذا الباب، نستقصى كل فصل في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال الإمام: وقوله:" نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر "، وفي حديث آخر:" نهى عن بيع حبل الحبلة "، وفسره ابن عمر في الحديث: أن أهل الجاهلية كانوا يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة، وهو أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نتجت، فنهاهم - عليه السلام - عن ذلك.
قال القاضي: وهذا من الغرر في الأصل، وهذا تأويل مالك والشافعي في الحديث، وقد جاء فيه بتفسيره مأخوذ أن يبيع حبل الحبلة نفسه إلى نتاج النتاج قد يكون - أيضًا - من هذا، أو من بيع ما ليس عنده له ومن بيع الأجنة وبيع أمها الحامل بمعرفته، وهو تأويل أحمد وإسحاق، وأبي عبيد، وهو الذي يدل عليه الحديث الآخر.(6/28)
???? والنهى عن الملاقيح والمضامين، وحبل الحبلة، قال أبو عبيد: المجر ما في بطن الناقة، والثاني حبل الحبلة، وقيل: هو بيع الأجنة، وما في بطون الأمهات وهو الحبلة، جمع حبلة، والحبل يختص ببنى آدم وفي غيرهم حمل. قال أبو عبيد: لا يقال لشىء من الحيوان حبل، إلا ما جاء في هذا الحديث. وقال المبرد: معنى "حبل الحبلة" عندي: حمل الكرمة قبل أن تبلغ، والحبلة الكرمة بسكون الباء وفتحها. قال الأخفش الحبلة جمع حابل يقال: حبلت المرأه فهي حابل، ونهى عن بيع حمل الحوامل. وقال ابن الأنباري: الهاء في حبلة للمبالغة، كقولهم: مسخرة. ورواه بعضهم حبل الحبلة بسكون الباء، والصواب الفتح في الاسم والمصدر.
قال الإمام: تضمنت هذه الأحاديث النهي عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر، وعن بيع حبل الحبلة: فاما الغرر فهو اسم جامع لبياعات كثيرة، منها هاتان البيعتان: بيع الحصاة وحبل الحبلة، على أحد التأويلات فيها، فأما الغرر وبما تردد فبين السلامة والعطب وما في معنى ذلك ؛ وذلك أنه يلحق بمعنى إضاعة المال لأنه قد لا يحصل المبيع، ويكون بذل. وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - على هذه العلة بقوله في بيع الثمرة قبل الزهر:« أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه ».(6/29)
وقد رأينا العلماء أجمعوا على فساد بعض بياعات الغرر وأجمعوا على صحة بعضها، واختلفوا في بعضها. فيجب أن يبحث عن الأصل / الذي يعرف منه اتفاقهم واختلافهم، فنقول: إنا لما رأيناهم أجمع على منع بيع الأجنة، والطير في الهواء، والسمك في الماء، ثم رأيناهم أجمعوا على جواز بيع الجبة وإن كان حشرها مغيبا عن الأبصار، ولو بيع حشوها عوإنفراده لم يجز، وأجمعوا على جواز إجارة الدار مشاهرة، مع جواز أن يكون الشهر ثلاثين أو تسعًا وعشرين، وأجمعوا على دخول الحمام، مع اختلاف الناس في استعمال الماء وطول لبثهم في الحمام، وعلى الشرب من الساقي، مع اختلاف عادات الناس فيه - أيضًا - قلنا: يجب أن يفهم عنهم أنهم منعوا بيع الأجنة لعظم غررها وشدة خطرها، وأن الغرر فيها مقصود يجب أن يفسد العقود. ولما رأيناهم أجمعوا على جواز المسائل التي عددناها، قلنا: ليس ذلك إلا لأن الغرر فيها نزر يسير غير مقصود، وتدعو الضرورة إلى العفو عنه.
فإذا أثبت هذا ووضح ما استنبطناه من هذين الأصلين المختلفين قلنا: يجب أن ترد جميع مسائل الخلاف الواقعة بين فقهاء الأمصار في هذا المعنى إلى هذا الأصل، فمن أجاز قدر أن الغرر فيما سئل عنه غير مقصود، وقاسه على ما تقدم. في منع قدر أن الغرر مقصود، وقاسه على ما تقدم أيضًا.
وأما بيع الحصاة فاختلف في تاويله اختلافًا كثيرًا. وأحسن ما قيل عنه تأويلات منها: أن يكون المراد أن يبيع من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة. ولا شك أن هذا مجهول لاختلاف قوة الرامى، وعوائق الرمى. وقيل: معناه: أي ثوب وقعت عليه حصاة رمى فهو المبيع. وهذا - أيضًا - مجهول، كالأول. وقيل: معناه: ارم بالحصاة، فما خرج كان لي بعدده دنانير أو دراهم، وهذا - أيضًا - مجهول. هذه ثلاث تأويلات تتقارب وكلها يصح معها المنع.(6/30)
وقد قيل تأويل رابع وخامس، قيل: معناه: أنه إذا أعجبه الثوب ترك عليه حصاة. وهذا إذا كان بمعنى الخيار، وجعل ترك الحصاة علما على الاختيار لم يجب أن يمنع، إلا أن تكون عادتهم في الجاهلية أن يضيفوا لذلك أمورا تفسد البيع، ويكون ذلك عندهم معروفًا ببيع الحصاة، مثل أن يكون متى ترك حصاه - وإن كان بعد عام - وجب له البيع فهذا فاسد. وقيل - أيضًا -: كان الرجل يسوم الثوب وبيده حصاة، فيقول: إذا سقطت من يدى فقد وجب البيع، وهذا - أيضًا - إن كان معناه: إذا سقطت باختياره وجب البيع، فهذا بيع الخيار، إذا وقع على صفة بيع الخيار ؛ من مراعاة أجله وغير ذلك، إلا أن يكون الثمن لم يقدراه، وسقوطها من يده أو بوضعه إياها على التأويل الذي قبله يجب البيع، ولكن على القيمة وهي مجهولة فيمنع هذا للجهالة بالثمن. وقد يكون هذا هو المعنى في القولين الآخرين.
وأما بيع حبل الحبلة، فقيل فيه تأويلان:
أحدهما: أن المراد ما حكاه مسلم من تفسير ابن عمر - رضي الله عنه - أن البيع إلى نتاج نتاج الناقة، فيكون ذلك تنبيهًا على أن الثمن - وإن كان معلومًا في نفسه وجنسه - فإنه تؤثر فيه الجهالة ببعض صفاته، ويصير هذا أصلاً في النهي عن البيع بثمن إلى أجل مجهول. وقد اختلف المذهب عندنا في مسانل كالبغ إلى العطاء، وهو خلاف في حال لا خلاف في فقه، فمن أجاز البيع إلى العطاء رآه معلوضا في العادة، ومن أباه رآه يختلف في العادة.
والتأويل الثاني: أن يكون المراد ببيع نتاج نتاج الناقة، فيكون ذلك جهلا بالمبغ وصفته وفيه - أيضًا - الجهالة بزمن تسليمه، وكل ذلك ممنوع. والهاء في حبل الحبلة للمبالغة. قاله ابن الأنباري وغيره.
قال القاضي: ذكر مسلم حديث النهي عن سوم الرجل على سوم أخيه، والخطبة على خطبته، وعن النجش، وعن بيع حاضر لباد، وعن سؤال المرأة طلاق أختها. وقد تقدم الكلام على هذا في النكاح فسبق هناك.(6/31)
وقوله في الباب: نا أحمد بن إبراهيم الدورقي، نا عبد الصمد، نا شعبة عن العلاء، وسهيل عن أبيهما. كذا الرواية عند جميع شيوخنا بكسر الباء، وليس بصواب، إذ ليسا بأخوين، ووقع في بعض الروايات: عن أبويهما "، وهو / الصواب. قال بعضهم: ا لعله عن أبيهما ا لغة بعضهم في تثنية أب، وقد سبق مثله في كتاب النكاح. وبعده: وحدثنا محمد بن المثنى، ثنا عبدًالصمد، نا شعبة، عن الأعمس، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -. وبعده حديث عبد الله بن معاذ، ثبت هنا في الحديث، هكذا قيل حديث عبيد الله للسمرقندي، والطبري والسجزي وسقط لغيرهم.
وقوله:« ألا يُتلقى الركبان لبيع، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع باد لباد، ولا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين »، الحديث.
قال الإمام: تضمن هذا الحديث النهي عن خمسة فصول تكلمنا فيها على ثلاثة أ فيما تقدم عند الكلام على الخطبة وهي البيع على بيع أخيه، والنجش، ولا يبع حاضر لباد، ونتكلم هاهنا على الفصلين الباقيين: التلقي، والمصراة.
فأما التلقي، فإن النهي عنه معقول المعنى، وهو ما يلحق الغير من الضرر، ولكن يقدح هاهنا في نفس المتأمل معارض فنقول: المفهوم من منع بيع الحاضر للبادي ألا يتلقى للبادي وأن يؤجر السبيل لغبنه، والمفهوم من النهي عن التلقي: ألا يغبن البادي، بدليل قوله هاهنا:" فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار ". والإشكال عن هذا: أنا كنا قدمنا أن الشرع في مثل هذه المسألة وأخواتها بنى على مصلحة الناس، والمصلحة تقتضى أن ينظر طجماعة عن الواحد، ولا يقتضي أن ينظر للواحد على الواحد.(6/32)
ولما كان البادي إذا باع بنفسه انتفع سائر أهل السوق، فاشتروا ما يشترونه رخيصًا وانتفع به سائر سكان البلد تضطر لأهل البلد عليه. ولما كان إنما ينتفع بالرخص المتلقي خاصة، وهو واحد في قبالة الواحد الذي هو البادي، لم يكن في إباحة التلقي مصلحة، لاسيما وتضاف إلى ذلك علة ثانية ؟ وهي لخوف الضرر باهل السوق في انفراد المتلقى عنهم بالرخص، وقطع المواد عنهم أكثر من المتلقى فنظر لهم عليه، وعادت المسألة إلى المسألة الأولى، فصار واحدا، وانقلب ما ظنه انطلق في هذا من التناقض بأن صارا مثلين يؤكد بعضها بعضًا.
وقد اختلف المذهب عندنا فيمن لم يقصد التلقي ولم يبرز إليه خارج المدينة، بل مر به على بابه بعض البداة، هل يشترى منه ما يحتاج إليه قبل وصوله إلى السوق ؟ قيل بالمنع لعموم الحديث، وقيل: الجواز لأن هذا لم يقصد الضرر ولا الاستبداد دون أهل السوق، فلم يمنع، وقد جعل له في بعض هذه الطرق هاهنا الخيار إذا جاء السوق ولم يفسخ البيع، لما كان النهي لحق الخلق لا لحق الله سبحانه.
وقوله: ثبت عنده هذه الزيادة، ورأى أن النهي يدل على فساد المنهي عنه فسخ البيع. وفي ذلك اضطراب في المذهب. وفي هذا الحديث من الفوائد أيضًا إثبات الخيار للمغبون ؛ لأنه إذا ثبت أن النهي عن التلقي لا لئلا يغبن الجالب، لم يكن لإثبات الخيار له معنى إلا لأجل الغبن، أو لأنه يرجو الزيادة في السوق.(6/33)
قال القاضي: وقرله في الحديث الآخر:" نهى أن يتلقى الجلب " بمعنى الأول، ما يجلب للأمصار غيرها. واختلف أبو حنيفة في هذا، فلم يأخذ بهذا الحديث، وأجازوا التلقي إلا أن يضر بالناس فيكره، وقال الأوزاعي مثله. واختلف فيه إذا وقع، فعن مالك وبعض أصحابه: أنه ينهى ولا تنتزع منه شيء، ورأى بعض أصحابنا فسخ بيع التلقي. والشافعي وأحمد يريان للبائع الخيار كما جاء في الحديث. ومال إليه بعض أصحابنا، والمشهور عن مالك، وممثر أصحابه، أو يعرض على أهل السوق فإذا لم يكن سوق قليل المصر يشترك فيها من شاء. وقال الإصطخرى: إنما يكون البائع بالخيار إذا اشتريت بم قل من ثمنها.
واختلف عندنا في حد التلقي الممنوع، فعن مالك: قوامة ذلك على مسيرة يومين. وعن مالك تخفيفه واباحته على ستة أميال، ولا خلاف في منعه إذا كان قرب الضرر وأطرافه. وقال بعض المتأخرين: وكذلك يجرز تلقيها في أول السوق لا في خارجه، وكذلك إذا لم تكن في السلعة عيوب فشراؤها إذا دخلت البلد جائز وإن لم يبلغ أسواقه فلا.
وقوله:« ولا تصروا الإبل »، كذا ضبطنا هذا الحرف / على المتقنين من شيوخنا:" تصروا "، بضم التاء وفتح الصاد المهملة وتشديد الراء وواو وألف وفتح لام "الإبل" على المفعرل. وكان بعضهم - وهو شيخنا أبو محمد بن عتاب - وحكاه لنا عن أبيه يقول:" التصرية "، ليقرب نهمه على الطلبة، مثل:{ فلا تزكوا أنفسكم }، وهو الصواب على مذهب الكافة في شرح المصراة واشتقاقها.
وذكره في الحديث الآخر التصرية، يدل أنها من الجمع من الصرر، من صرى لا من صر. وقد رويناه عن بعضهم في غير مسلم:" تصروا الإبل " بفتح التاء وضم الصاد من الصر. وعن بعضهم بضم لام "الإبل"، و " تصر " بغير واو بعد الراء على ما لم يسم فاعله من الصر أيضًا، وهو لذلك على تفسير الشافعي ومن اتبعه.(6/34)
قال الإمام: معناه: لا تجمعوا اللبن في ضرعها حتى يعظم، ومنه: صريت الماء في الحرض: أي جمعته. والصراة: المياه المجتمعة، وصرر الماء في الظهر: إذا حبسه سنين لا يتزوج. وأهل اللغة يقولون: لا تصروا. وقد اختلف عن مالك، فقيل عنه مثل هذا، وما وقع في الحديث الذي ذكرناه من ذكر المحفلة. والمحفلة: هي المصراة بعينها، سميت محفلة لأن اللبن جعل في ضرعها، وكل شيء كثرته فقد حفلته، ومنه قيل: احتفل القوم: إذا كثروا أو اجتمعوا.
قال القاضي: قال الخطابي: اختلف أهل العلم واللغة في تفسير المصراة، ومن اين أخذت واشتقت، فقال الشافعي: التصرية: أن تربط أحلاب الناقة والشاة ويترك حلبها اليومين والثلاثة حتى يجتمع لبنها، فيزيد مشتريها في ثمنها؛ لما يرى من ذلك. وقال أبو عبيد: إنه من صرى اللبن في ضرعها، بمعنى حفيه فيه. وأصل التصرية حبس الماء وجمعه. قال أبو عبيد: ولو كان الربط لكانت مصرورة أو مصررة.
قال الخطابي: وقول أبي عبيد: حسن. وقول الشافعي صحيح، والعرب تصر ضروع المحلوبات، ويسمى ذلك الرباط صرارًا. واستشهد محتجًّا لقول الشافعي بقولهم: العبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلب والصر. وبقول مالك بن نويرة:
فقلت لقومي هذه صدقاتكم مصررة أخلافهالم تحرد
قال: وقد يحتمل أن تكون المصراة أصلها: مصررة، أبدل إحدى الرائين ياء، كقوله: تفضى البادي، وإنما هو: تفضض، كما قال تعالى:{ وقد خاب من دساها }، كرهوا اجتماع ثلاثة حروف من جنس واحد.(6/35)
قال الإمام: وأما التصرية، فإن النهي عنها - أيضًا - لحق الغير. وهي أصل في تحريم الغش، وفي الرد بالعيب. وقد كان شيخنا أبو محمد عبد الحميد - رحمه الله - يجعلها أصلاً في النهي إذا كان لحق الخلق لا يوجب فساد البيع ؛ لأن الأمة أجمعت على تحريم الغش في البيع، ووقع النهي عنه هاهنا ثم خيره - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك في أن يتماسك بالبيع، والفاسد لا يصح التماسك به. وفي هذا الحديث دلالة على أن التدليس محرم، ويوجب الخيار للمشتري وإن كان لتحسين المبيع الذي يؤدي إلى الخدع والغرور، وأن الفعل يقوم مقام النطق في مثل هذا ؛ لأن قصارى ما فيه أن المشتري رأى ضرعًا مملوءًا " فقدر أن ذلك عادتها. فحل ذلك محل قول البائع: إن ذلك عادتها، فجاء الأمر بخلافه، وصار البانع لما دلس كالقانل لذلك. وقد قال بعض الناس: لو كان الضرع مملوءا لحما وظنه المشتري لبنا لم يكن له خيار من هذه الجهة ؛ لأجل أن البائع لم يدلس عليه. وأما رد الصاع من التمر فقد ذكره أهل العراق، ومال إليه بعض أصحابنا؛ لأنه جاء عندي بخلاف الأصول من الغرامة عن اللبن تمرًا، ومتلف الشيء إنما يغرم مثله أو تيمته، وأما جنسًا آخر من العروض فلا. وأيضًا فإن الأصل ليس أن الخراج بالضمان، وأن المغتل لا يرد الغلة إذا رد بالعيب،وهذا قد أمرها هنا بالرد.
وجواب الجمهور من أصحابنا عن هذا: أن يقولوا: أما الرد للتمر عن اللبن فإنما ذلك لأنه قوت بلدهم حينئذ، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - رأى أن اللبن كانوا يريدونه للقوت، وهذا يحل محله، /وهو أصل كسبهم للقوت، فقضى به، وإن كان عيش بعض البلاد غيره من الطعام قضى بالغالب من عيشهم. وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم -:« من ابتاع محفلة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها ردها مثل أو مثلي لبنها قمحًا ».(6/36)
وقد ذكر مسلم هاهنا: " صاعًا من طعام لا سمراء ". وهذا يدل على ما قلناه من مراعاة حال قوت أهل البلد. وأما اقتصاره - صلى الله عليه وسلم - على الصاع مع اختلاف لبن الشاة والناقة، واختلات لبن النوق في نفسها، مع أنه لا يصح أن يلزم المتلف للكثير مثل ما يلزم المتلف اليسير، فقال بعض أهل العلم: إنما ذلك لانه - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يكون ذلك حدا يرجع إليه ؛ ليرتفع الخصام ويزول التنازع والتشاجر. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - حريصًا على رفع التشاجر عن أمته، وهذا كما قض في الجنين بالغرة، ولم يفصل بين الذكر والأنثى، مع اختلافهما في الديات ؛ لأن هذه المواضع لما كان يتعزر ضبطها عند البينات كثر التنازع فيها، فرفعه - صلى الله عليه وسلم - بأن جعل القضاء في ذلك واحدًا.
وقد مر أبر يوسف وابن أبي ليلى على مقتضى القياس وقالا: يرد قيمة اللبن وحملا الحديث على أنه وقع بحكم الاتفاق لكون القيمة وقت قضائه - صلى الله عليه وسلم -?بذلك صاع من تمر. وقد قال بعض أهل العلم: إذا علا الصاع حتى صار يستبشع القضاء به عوض اللبن ؟ لكونه مقاربا بالقيمة الشاة كلها، فإنه حيننذ لا يقضي، وإن عزم المشتري قيمة أعلى ما يرى أنه كان فيها من اللبن، لم يكن عليه أكثر من ذلد. واستلوح هؤلاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قضى بصاع واحد في لبن الشاة والناقة مع اختلافهما ؛ لأنه وإن قل لبن الشاة فهو أجرد، وإن كثر لبن الناقة فهو أدنى، فصارا بهذا كالمتساويين، فلا يكون في هذا حجة للأولين الذين جعلوا القضية بالصاع ضربة لازب.(6/37)
وأما رد عوض اللبن مع كون الخراج بالضمان، وأن المشتري لا يرد الغلة إذا رد بالعيب ؟ فلأن المصراة كان فيها لبن حين البيع، ولم تكن غلة حينئذ فتكون للمشتري، بل هو على ملك البائع كاحد أعضاء الشاة، فردها إذا رد بالعيب واجب قلنا: استحال رده بعينه كاختلاطه بما يحدث عند المشتري، وجب أن يرد العوض عنه ويصير كالفائت، ويقدر العرض عنه لرفع التنازع في ذلك كله لما بيناه، ولكن إنما يلزم على هذا أن يقال: فإذا ردها بعيب آخر غير التصرية وجب أن يرد عوض اللبن أيضًا لما قلتموه. وقد قال محمد: لا يرد عوض اللبن إلا إذا رده بالتصرية، قيل: هذا الذي قلتموه يلزم، وقد التزمه بعض شيوخنا، ولم يصوب ما قاله محمد في هذا. وكان محمدا رأى أنه شرع جاء في التصرية خاصة، فلم يتعد فيه ما ورد الثرع به.
واختلف أيضًا إذا كانت الغنم التي صريت كئيرة، هل يرد لجميعها صاعًا واحدا، أو لكل شاة صاعًا، والأصوب أن يكون حكم الكثير منها خلاف حكم الواحد ؛ لأنه من المستبثع في القول على مقتضى الأصول: أن يغرم متلف لبن ألف شاة، كما يغرم متلف لبن شاة واحدة، وإن احتج علينا بإنه - صلى الله عليه وسلم - ساوى بين لبن الشاة والناقة مع كون لبن الناقة أكثر، قلنا: تقدم الجواب عن ذلك والانفصال عنه.(6/38)
قال القاضي: اختلف قول مالك في الأخذ بحديث المصراة على ما ورد، فمشهور قوله الأخذ به. وقال: أو اخذ في هذا الحديث رأى، وهو قول الليث، والشافعي، وأبي ثور وأبي يوسف، وابن أبي ليلى في إحدى الروايتين عنه، وفقهاء أصحاب الحديث. ومرة لم يقل به. وقال: ليس بالموطا ولا الثابت، يريد العمل به، قال: وقد جاء الخراج بالضمان وهو قول أبي حنيفة والكوفيين، وقالوا: هو منسوخ. وراى مالك أن الأصول تخالفه من الغلة بالضمان، وهو قوله في العتبية. ويختص ابن عبد الحكم واختلافه فيه على اختلاف أصحاب الأصول في تقدمة خبر الواحد على قياس الأصول المتفق عليها، وهو مشهور مذهب مالك وأصحابه، وعامة الفقهاء والأصوليين. أو تقدمة القياس عليها إذا اختلفت الأصرل، وهو / مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وحكم بعض أئمتنا البغداديين. على المذهب وعلى هذا الأصل حمل اختلاف قوله في الأخذ بحديث غسل الإناء من ولوغ الكلب والقرعة والعربة، ومثل هذا من أخبار.
ثم اختلف الكوفيرن، فذهب أبو حنيفة ومحمد بن الحسن في حديث المصراة: أنه ليس له ردها، وليس التصرية بعيب وتمليكها. وحكى الخطابي عن أبي حنيفة: أنه يرجع بإرش التصرية وقال زفر: يرد صاعًا من تمر أو نصف صاع من بر. ثم اختلف الآخرون بهذا الحديث ممن تقدم، فذهب مالك إلى أن صاع التمر إنما هو حيث هو عيش قوم، فأما في كل بلد فيخرج من غالب قوتهم صاعًا، وقاله الطبري. وأما الشافعي والباقون فقالوا: لا يخرج إلا بالصاع تمرًا، وإن عدم عندهم ثم أخرج قيمته. وتقدم قول أبي يرسف وابن أبي ليلى بإخراج القيمة. وروى عن مالك قولة شاذة: يؤدى له قدر مكيلة ما حلب من اللبن تمرًا أو قيمته.
وحجة أبي حنيفة ومذهبه: أن حديث المصراة منسوخ بحديث الغلة بالضمان. ومخالفته عنده الأصول من وجوه:(6/39)
?????منها: مخالفة الأصل من أن الغتة بالضمان، وقد مضى الجواب عنه من أنها ليست بغلة إنما كان مجملاً فيها فلزم رده. وأيضًا فيكرن هذا خاصا فيه. ومسالتنا، وحديث الخراج بالضمان عام، والخاص يقضي على العام.
?????ثانيها: تقدير القيمة. وقد اختلف المذهب عندنا، ومضى الجواب عنه - أيضًا - بقطع التشاجر كدية الشجاج، وهي مخهتلفة في الكبير والصغير، فقد تكون موضحة تستوفى جلدة الرأس وأخرى لم توضح من العظم لها فرد مدخل مسألة، وكذلك المأمومة وغبرها ؛ ولهذا أمثلة في الشرع كثيرة.
وثالثها: كون القيمة تمرًا وقيم المتلفات في الأصول إنما هي بالعين، وقد تقدم الجواب عليه. وقد وجدنا الشرع جعل الديات على أهل الإبل إبلاً ؛ إذ هي جل أموالهم، وجعل في الجنين غرة.
?????ورابعها: دفع الطعام عن الطعام غير يد بيد، وهذا غير لازم هاهنا ؛ إذ ليس في هذا مبايعة وهي الممنوعة في الباب، وإنما هو حكم أوجبه الشرع ليس باختيارهما فيتهمهما بالذربعة فيه.
?????خامسًا: إن جزم للمكيل أو الموزون بمثله، وقد عدل هنا عن المثل، والجواب: إنا لو دفعنا عن اللبن لبنًا خفنا التفاضل والمزابنة ؛ لأن ما كان في ضرعها لا يتحقق تقديره بالصاع المردود لو كان لبنًا، ولو رد جميع ما حبس منها لخفنا فيه الزيادة بما تولد عنده من الغلة.(6/40)
وقد أجمعوا أنه لا يرده مع لبن التصرية إلا ما اختلف فيه أصحابنا، إذا رضى بائعها بقبولها بلبنها، فأجازه بعضهم وقال: هي إقالة. وقال غيره: لا يجوز ؛ لأن اللبن غير متعين، ولو تعين جاز. وفي هذا اعتراض من وجوه: أحدها: أن حقيقة لبن التصرية مما تولد في الضرع بعد الشراء لا يتحقق، فكيف تصح منها الإقالة، ولا يدرى تحقيق الزيادة فيه ولا قدرها، وقوله في إحدى الروايات: "صاعًا من طعام " يحتج به من قال بظاهره أو عند عدم التمر. وقال الداودى: معناه: تمرًا فسره الحديث الآخر. وقوله في الحديث: " فهو بالخيار ثلاثة أيام ا دليل على صحيح المذهب أن الحلبة الثالثة لا تقطع الرد وتمنعه، وهو قول مالك،وظاهر المدونة خلاف ظاهركتاب محمد ؛ من أن الحلبة الثالثة رضًا، لكن مالكًا لا يأخذ بذكر الثلاثة الأيام ؛ إذ لم يكن في روايته، ولكن في معناها الثلاث الحلبات ؛ لأن الأولى هي الدلسة والثانية فيها ظهرت الدلسة، والثالثة فيها تحققها. إذ قد يظن في الثانية أن اختلافها من الأولى لاختلاف مرعاها.... وما يعتيرها من إمساكها مرة التشوف بها وبقاء لبنها الأول غير محلوب فيعتل الضرع في الحلبة الثانية للأولى. وهذه الحجة هنا أن الحلبة الثالثة ليست برضًا.(6/41)
وجعل المخالفرن هذا اللفظ أصلاً في ضرب أجل الخيار، وأنه لا زيادة فيه على ثلاثة أيام، وهو قول أبي حنيفة والشافعي. وقال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف ومحمد بن الحسن: قليل الخيار وكثيره / جائز. ومالك لا يرى للخيار أجلا محدودًا لا يتعدى، بل قدر ما يختبر فيه المشتري واختلف في ذلك باختلافها لتيسر اختبار الثوب كاختيار العبد وسكنى الدار. وبيع الخيار عندنا جائز ضرب له أجل أم لا، ويضرب الحاكم للمبيع من الأجل قدر ما يختبر فيه مثلهما، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في إبطاله إذا لم يضرب له أجل وهو رخصة خاصة من الأصل للضرورة الداعية للبحث عن المشتري، وتقصي معرفته وأخذ رأى من يريد مثورته فيه، وسيأتي الكلام على بيع الخيار بعد هذا.
وحديث المصراة أصل في الرد بالعيب، كان في ذات المبغ وغلته، وأن التدليس لا يفسد البيع، وأنه يوجب الخيار، خلافًا لأبي حنيفة في حكمه برد قيمة العيب دون المعيب، وأصل في كل ما يثتريه من هاهنا وغلته فيه ظاهرة كالصوف على ظهور الغنم، والتمر في رؤوس النخل، إنه إن ردها أنه يرده معها. وليس حكمه حكم إلغائها، فإن أصله رد مثله إن عرف قدره أو قيمته، بوقوع حصة من الثمن عليه، بخلاف ما توالد عنده. وقد استدل بعضهم من هذا الحديث على كون الاستطهار بعد الحيض ثلاثًا، وعلى أن أقل مدة الحيض في العدد والاستبراء ثلاث، وهو استدلال بعيد فيه نظر.
وقوله: " لا سمراء " أي: برًا، وأما البيضاء والشعير فاثبته هنا بمعنى الحنطة أو الحبة. وفي الباب: نا ابن أبي عدي، عن ابن عون، عن محمد، عن أنس، ونا ابن مثنى، نا معاذ، نا ابن عون، عن محمد، قال: قال أنس بن مالك: " نهينا أن يبع حاضر لباد "، ثبت هذا للكافة من الرواة، وسقط للسمرقندي، وتقدم الكلام على معناه.(6/42)
وقوله: " من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه »، قال ابن عباس: "وأحسب كل شيء مثله "، وفي بعض طرقه:" حتى يقبضه "، وفي بعضها: " حتى يستوفيه ويقبضه " وهما بمعنى واحد. وكان هذا في كتاب أبي بحر: حتى يستوفيه يقبضه " بغير واو، وفي بعضها:" حتى يكتباه "، قال ابن عباس: ألا تراهم يبتاعون بالذهب والطعام مرجًا، أي: مؤخرًا، بهمزة وبغير همزة، وقرئ بهما جميعًا. وعن ابن عمر: "كنا نبتاع الطعام في زمن النبي - عليه السلام - فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه، إلى مكان سواه قبل أن نبيعه، وفي حديث آخر:" كانوا يضربون على عهد النبي - عليه السلام - إذا اشتروا طعامًا جزافا أن يبيعوه في مكانه حتى يحولوه "، وفي رواية: "حتى يزووه إلى رحالهم "، وفي حديث آخر:" وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه "، جعل الراوي هذا الحديث مفسرًا لغيره مما لم يأت بينا، وأن ذلك في الجزاف فيما تلقى من الركبان ؛ بدليل رواية:" من قام حتى ينقله حيث يباع الطعام "، وأن ذلك الرفق بأهل الأسواق وعامة الناس، وفيه حجة لمن لا يرى فسخ ما تلقى من البيع على ما تقدم الخلاف فيه.
ومعنى " جزافًا "، أي بغير كيل، ظاهره أن النهي فيما اختص بالبيع، وفي حكمه ما أخذ عن معاوضة في صداق أو خلع أو ثوب هبة، أو إجارة، أو صلح عزم، وكذلك إن كان من بيع فلا يجوز دفعه في شيء من هذه الأمور، بخلاف قبضه أو دفعه هبة أو صدقة، هذا مذهب مالك والشافعي والسفيانين ومحمد بن الحسن بقوله:" من ابتاع "، وقوله:" فلا يبعه ". وذهب أبو حنيفة إلى أن كل ما أخذ في مهر، أو خلع، أو جعل فيجوز بيعه قبل قبضه، بخلاف ما ملك بثراء أو إجارة.(6/43)
قال الإمام: اختلف الناس في جواز بيع المشتريات قبل قبضها، فمنعه الشافعي في كل شيء، وانفرد عثمان البتي فأجازه في كل شيء. ومنعه أبوحنيفة في كل شيء إلا العقار وما لا ينتقل، ومنعه آخرون في سائر المكيلات والموزونات، ومنعه مالك في سائر المكيلات والموزونات إذا كانت طعامًا، فتعلق من منع على الإطلاق بقوله: نهى عن ربح ما لم يضمن، ولم يفرق، وعضد ما قاله - أيضًا - بما ذكره ابن عمر هاهنا من منع بيع الطعام الجزاف حتى يؤووه إلى رحالهم، واستثنى أبو حنيفة ما لا ينقل لتعزر الاستيفاء فيه، المشار إليه في قوله:" نهى عن بيع الطعام حتى يستوفى ".
وأما القولان الآخران فمأخوذان / من قوله:" نهى عن بيع الطعام حتى يستوفى "، فنقول: من منع سائر المكيلات يقتضب من هذا علة فلا يصح التعليل إلا بالكيل. وقد نبه عليه بقوله:" حتى يكتاله "، فأجرى سائر المكيلات مجرى واحدًا. ويقول مالك: فإن دليل خطاب الحديث يقتضي جواز غير الطعام، ولو كان سائر المكيلات ممنوعًا بيعهما قبل قبضها لما خص الطعام بالذكر، فلما خصه دل على أن ما عداه بخلافه، ويمنع من تعليل هذا الحديث بالكيل ؛ لأنه تعليل ينافى دليل الخطاب المعلل، والدليل كالنطق عند بعض أهل الأصول.(6/44)
وقد أشار بعض أصحاب مالك إلى أن العلة العينة، واستدل بقول ابن عباس الذي ذكرناه لما سئل، فقال: ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجًا، أي مؤخر، وكانهم قصدوا إلى أن يدفعوا ذهبًا في أكثر منه والطعام محلل، وفي البخاري عنه: دراهم بدراهم والطعام مرجًا "، وقد ترجح بعض أصحابنا في الطعام إذا أمن فيه من العينة التي هي سبب المنع على ما قال ابن عباس، هل يمنع بيعه قبل قبضه لظاهر الخبر أو يسهل فيه، ورأيته يميل للتسهيل في مقتضى كلامه إذا وقع البيع فيه بالنقد،وما أظن أن عثمان البتي سلك في إجازته بيع كل شيء قبل قبضه إلا هذه الطريقة، وإن كان مذهبنا انفرد به، وهذا شاذ عند العلماء، أضرب عن ذكره كثير منهم. وإذا وضح ماخذ كل مذهب من هذه المذاهب فيتفصل أصحابنا عن تعلق الشافعي بقوله: " نهى عن ربح ما لم يضمن " بجوابين:
?????أحدهما: أن يحمل على بيع الخيار، وأن يبيع المشتري قبل أن يختار.
?????والثاني: أن يحمل ذلك على الطعام ويخص عموم هذا إذا حملناه على الطعام، بإحدى طريقتين، إما دليل الخطاب من قوله:" عن بيع الطعام حتى يستوفى "، فدل على أن ما عداه بخلافه، أو يخص ما ذكره ابن عمر من أنهم كانوا يبيعون الإبل بالدراهم ويأخذون عنها ذهبًا، أو بالذهب ويأخذون عنها دراهم، وأضاف إجازة ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه إجازة ربح ما لم يضمن في العين، ونقيس عليه ما سوى الطعام، ويخص به النهي عن ربح ما لم يضمن، ويحمل قول ابن عمر الذي قدمناه على الاستحباب، والرواية التي فيها ذكر ضربهم تحمل على أنه فعل ذلك حماية للذريعة، أو على أنهم اتخذوا ذلك عينة ممنوعة.
وقول أبي هريرة لمروان:" أحللت بيع الصكاك "، يريد صكوك الجاد المذكورة في المدونة، وهي كتب يكتب لهم فيها طعام يأخذونه. والصكاك والصكوك جمع صك، وهو الكتاب.(6/45)
قال القاضي: الذي نهى عنه من بيع صكوك الجار، عند أهل العلم من أئمتنا وغيرهم، أن يبيعها مشترى ما فيها لا الذي خرجت له في أرزاقه ليقبضها في الجار ؛ لأن الذي خرجت في أرزاقه ليس حكمه حكم المشتري وهو كمن وهبت له، ورافعها من أرضه، فله بيعها قبل كيلها وقبضها، وإنما كانوا يبيعونها من غيرهم ثم يبيعها المشتري من غيرهم قبل قبضها، فمنعوا من ذلك، وهكذا جاء في الحديث مفسرًا في "الموطأ": أن صكوكًا خرجت للناس في زمان مروان من طعام الجار فيتبايع الناس ذلك الصكوك بينهم قبل أن يستوفوها، وذكر الحديث وهو في مسلم مختصر. وفي "الموطأ" - أيضًا - ما هو أبين: أن حكيم بن حزام ابتاع طعامًا أمر به عمر بن الخطاب للناس، فباع حكيم الطعام قبل أن يستوفيه، فبلغ ذلك عمر فرده عليه، وقال:" لا تبع طعامًا ابتعته حتى تستوفيه "، وقد ذكر بعضهم أنه يحتمل أنه فسخ البيعتين بقوله آخر الحديث في "الموطأ": بيعة مروان، الحرس ينتزعونها من أيدى الناس ويردونها إلى أهلها ولو كان إنما نقص بيعة المشترين الآخرين لقال: أتردونها إلى من ابتاعها من أهلها.(6/46)
قال القاضي: ولفظه يحتمل أن يريد باهلها، فيستحق رجوعها إليه وأما قوله في الحديث:" كنا نشترى الطعام من الركبان جزافًا، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?أن نبيعه حتى ننقله من مكانه "، فقد اختلف العلماء فيما بيع من الطعام جزافًا، هل هو مثل ما بيع على الكيل والعدد والوزن، يجوز بيعه قبل استيفانه ونقله أم لا ؟ فمشهور مذهب مالك جوازه ؛ لأنه بتمام العقد / صار في ضمان البائع، فخرج من النهي عن ربح ما لم يضمن، وتأول هذا الحديث أنه فيما بيع بكثرة، بل معناه في تلقى الركبان. وبجوازه قال عثمان وسعيد ابن المسيب والحسن والحكم، وبهذا على وإسحاق. وذهب الكوفيون والشافعي وأبو ثور وأحمد وداود إلى منعه على إضرابهم في منعه في كل شيء، لها ما اسثشاه بعضهم إلى ما تقدم ومما يزيد بيانا وحكاه الوقار عن مالك على أصله في اختصاصه في المطعومات. وقال ابن عبد الحكم: هو استحسان من قوله، ونحره في العتبية. وقال أحمد: هي أن يؤخذ بالحديث وذكره. وحجتهم ظاهر هذه الأحاديث. وقد تقدم التأويل لها والجمع بينها.(6/47)
واختلف عندنا في تعليل بيع قبل قبضه، هل هر شرع غير معلل أو علته العينة وهو إثارة. قال ابن عباس: إنهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجًا، وعليه يدل إدخال مالك أحاديث الباب في باب العينة في "الموطأ". وقد بقي من الخلاف في أصل المسألة ما روى عن مالك أن ذلك يختص فيما لا يجوز فيه التفاضل والطعام. ورواه عنه ابن وهب إن كان قد ذكر غير واحد أن العلماء لم يختلفوا في منع ذلك في جميع الطعام، وقد تقدم قول عثمان البتي، والمشهور عن مالك عمومه في جميع المطعومات، وهو قول أحمد، وأبي ثور في كل ما يقع عليه اسم مطعوم. وذهب الشافعي إلى عموم ذلك في أنواع المبيعات، ووافقه أبو حنيفة، واستشى العقار وحده. وقال آخرون: كل بيع على الكيل والوزن - طعام أو غيره - فلا يباع حتى يقبض. وروي عن عثمان، والحسن، والحكم، وداود، وسعيد بن المسيب، وقال به سحنون من أصحابنا. وقال أبو عبيد: وهو قول يحيى بن سعيد وربيعة وعبد العزيز، وقالوه في العدد، وقاله ابن حبيب. واستثنى العلماء من هذا الأصل الإقالة والشرك والتولية واتفق مالك، والشافعي، وأبو حنيفة على إجازته في الإقالة، ومشهور قول مالك جوازه في الشرك والتولية وخالفاه فيهما. وقد روى عنه منعه في الشرك.(6/48)
?????وفي قوله:" حتى يقبضه ويكتاله " دليل على أنه لا يلزمه كيله ثانية للمشتري، وبهذا يقول مالك ة أنه يجوز أن يبيعه بالكيل الأول ولا يحتاج إلى كيل ثاني إذا حضر المشتري أو صدقه، إلا أن يكون باعه منه بنسيئة، فلا يجوز على التصديق مخافة وقع السلف والتأخير،وذهب أبو حنيفة والشافعي، وأحمد وإسحاق، إلى أنه لابد من أن يكتاله على المشتري ثانيًا، وروى مثله عن الحسن وابن سيرين، واحتجوا بما روى في بعض طرق هذا الحديث: "حتى يجرى فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري "، وفي حديث ابن عمر:" أنهم كانوا إذا اشتروا طعامًا جزافا يضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم "، وجواز بيع الجزاف إذ لم ينهوا عن شرائه، وإنما نهوا عن بيعه قبل نقله، وقد تقدم تأويله، وهو جائز في القليل والكثير من المعدود والموزون ؛ لأن التحري يحده ويحصره، وإنما جاز لأنه ليس في كل حين يحضر الكيل والميزان.
وكذلك ما كثر من العدد. وأما ما قل منه فلا يجوز بيعه جزافًا ؛ لأنا نصل إلى حقيقة معرفته دون جهالة تبقى ولا ضرورة تمغ فيه. وقد أدخل مسلم في الباب حديث ابن عمر: أنه كان يشترى الطعام جزافًا، فيحمله إلى إماء ليرى العمل به من راوى الحديث.
?????وقوله:" نهى عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلتها بالكيل المسمى من التمر. قال الإمام: إنما نهى عن هذا لأنه قد يقع في الربا، ولا فرق بين تحقق التفاضل أو تجويزه في منع العقود، وهو أيضًا نوع من المزابنة، وسنتكلم على المزابنة فيما بعد إن شاء الله.(6/49)
???? وقوله:« البيعان كل واحد منهما على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار» في غير حديث مالك بعد قوله:" ما لم يتفرقا "، " وكانا جميعًا، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع "، قال القاضي: هذا حديث متفق على صحته والعمل به، لكن اختلف في تأويله، فذهب الشافعي والثوري - في أحد قوليه - والليث، وربيعة والأوزاعي وأهل الظاهر وسفيان بن عيينة وابن المبارك وهما أصحاب الحديث وفقهاء أصحاب الحديث إلى الأخذ بظاهره، وإلى أن المراد منه الافتراق بالأبدان، وهو قول سعيد بن المسيب والزهري وابن أبي ذئب من المدنيين وجماعة من الصحابة والتابعين، وأن المتبايعين إذا عقدا بينهما بالخيار ما داما في مجلسهما. وترك العمل به مالك وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وأبو يوسف والثوري - في رواية - وربيعة، وروى عن النخعي، قال بعضهم: ومعنى التفرق بالأقوال وإنما إذا عقد البيع بينهما ولم يكن لاحد منهما خيار،وقال طائفة من أصحابنا وغيرهم: إنه على ظاهره، لكن على الندب والترغيب لا على الوجوب، كما جاء في الحديث الآخر:" من أقال نادمًا بيعته أقال الله عسرته "، وكان ذلك قبل التفرق أخف وبعده أصب لاختلاف الأحوال بعد التفرق بالزيادة والنقصان واغتباط النفس به وألفها له. وهذا التأويل لا يساعده لفظ الحديث ويبعد منه.
واختلف القائلون بشرط الافتراق للأبدان، فاخذه مذهب الأوزاعي إلى أنه يتوارى أحدهما عن صاحبه. وقال الليث: هو أن يقوم أحدهما، وقال الباقون: هو افتراقهما عن مجلسيهما ومقامهما.(6/50)
قال الإمام: اختلف الناس في الأخذ بظاهر هذا الحديث، فأخذ به الشافعي وجماعة غيره من الأئمة، ورأوا أن خيار المجلس ثابت في البيع، ولم يأخذ مالك به، واعتذر أصحابه عن مخالفته إياه مع أنه رواه بنفسه بمعاذير، منها: أنهم قالوا: لعله حمل التفرق هاهنا على التفرق بالأقوال، فيكون معنى قوله: " المتبايعان " أي المتساومان مكانهما بالخيار، ما داما يتساومان حتى يفترقا بالإيجاب والقبول، فيجب البيع وإن لم يفترقا بالأبدان، قالوا: الافتراق بالأقوال تسميته غير مستنكرة، وقد قال تعالى:{ وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته } يعني المطلق، والطلاق لا يشترط فيه فرقة الأبدان. واستدلوا على هذا لما وقع في الترمذي والنسائي وأبي داود من قوله:" البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خثية أن يستقيله "، ولو كان له الفسخ قبل التفرق جبرًا لم يحتج إلى أن يستقيله، ولا وجه لحمل الاستقالة على الفسخ ؛ لأن ذلك بعيد عن مقتضاها في اللسان، ولأنه - أيضًا - إذا قال أحدهما لصاحبه: اختر، فاختار، وجب البيع. ولا فرق بين هذا الالتزام الثاني والالتزام الأول ؛ لأن المجلس لم يفترقا عنه، فإذا وجب بالقول الثاني وجب بالقول الأول.
واعتذر آخرون بأن قالوا: العمل إذا خالف الحديث وجب الرجوع إلى العمل ؛ لأن من تقدم لا يتهمون بمخالفة هذا الحديث الظاهر، إلا أنهم علموا الناسخ له فتركوه لأجله. وقال آخرون: لعل المراد به الاستحثاث على قبول استتالة أحد المتبايعين وإسعاده بالفسخ، وتكون الإقالة في المجلس سنة بهذا الحديث، وبعد الافتراق من المجلس تفضلا واستحبابا. وهذه التأويلات عندي لا يصح الاعتماد عليها.
أما استعمال التفرق في الأقوال، فلا شك أن استعماله في الأبدان أظهر منه، والأخذ بالظاهر أولى، وأيضًا فإنه المتساومين لم يكن بينهما عقد ولا إيجاب فيعلم أنهما بالخيار، وإنما يعلم الخيار بعد الإيجاب بهذا الحديث.(6/51)
وأما قول بعض أصحابنا إنه مخالفة للعمل فلا يعول عليه - أيضًا - لأن العمل إذا لم يرد به عمل الأمة باثرها، أو عمل من يجب الرجوع إلى عمله، فلا حجة فيه ؛ لأن قصارى ما فيه أن يقول عالم لآخر: اترك علمك لعلمي، وهذا لا يلزم قبوله إلا ممن تلزم طاعته في ذلك، وكذلك حمل هذا على الندب بعيد ؛ لأنه نص على إثبات الخيار في المجلس من غير أن يذكر استقالة ولا علق ذلك بشرط.
?????وأمثل ما وقع لأصحابنا في ذلك عندي: اعتمادهم على قوله: " ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله " فإن الاستقالة فيما قالوه / أظهر منها في الفسخ بالجبر الذي يقوله المخالف، وإنما يبقى النظر في طريق هذه الزيادة وثبوتها، ثم يجمع بينها وبين ما تقدم ويبنى بعضها على بعض، أو يستعمل الترجيح إن تعذر البناء وجهلت التواريخ. هذا هو الإنصاف والتحقيق في هذه المسألة وقد يتعلق أصحابنا بحديث اختلاف المتبايعين أنهما حكم فيهما بالتحالف والتفاسخ، ولم يفرق بين المجلس وغيره، فلو كان لهما ما احتاجا إلى التحالف، ويححمل هذا عند المخالف على التحالف في الثمن في بيع وجب واستقر حتى لا يمكن فسخه، وحديثهم أخص من هذا، فيكون بيانا له، مع أن الغرض في حديث اختلاف المتبايعين تعليم حكم الاختلاف في الثمن، والغرض في البيعين بالخيار تعليم مواضع الخيار وأخذ الأحكام من المواضع المقصود فيها تعليمها أولى من أخذها، مما لم يقصد فيه ذلك.(6/52)
قال القاضي: لا خفاء أن مقتضى قوله:" لا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله "، ظاهره الوجوب على ما جاء في بعض الروايات، لكن ترك معظم السلف وأهل المدينة ممن روى الحديث وبلغه العمل به من أقوى ما يتمسك به في أنه غير واجب. وهذا ابن عمر - ران كان قد عمل به - قد خالف مقتض هذه الزيادة مما ذكره عنه مسلم بعد هذا، ورجوعه القهقرى عند مبايعته لعثمان، مخافة أن يستقيله، ثم قال في حديث ذلك:" وكانت السنة يومئذ أن البيعين بالخيار ما لم يفترقا "، فدل أن السنة حين تحدث بهذا لم تكن كذلك، ولا كان يعمل بها، ولو كان الأمر واجبًا لأنكر هذا ابن عمر، وحملت أولاً على الوجوب لما تركت.
وقوله:" إلا بيع الخيار": أصل في جواز بيع الخيار المطلق والمقيد أولاً خلاف فيه على الجملة. واختلف هل يجوز إذا أطلق وإذا قيد ؟ وهل البائع والمشتري سواء في اشتراطه ؟ وهل له حد لا يتعداه أم لا حد له إلا ما ضرياه؟ أم حده بمقدار ما تختبر فيه السلعة ؟ فذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا حد له لا يتعدى، لكن يجوز ان يضرب لكل سلعة من الأجل مقدار ما تختبر فيه بالثوب اليوم واليومان، والعبد إلى الجمعة، وروى عن ذلك شهر، والدابة تركب اليوم وشبهه، والدار الشهر ونحوه. قال الداودى: وقيل: الشهران والثلاثة وشبهه، وحكى عنه الخطابي في الضيعة السنة. قال بعض أصحابنا: وهذا معنى قول مالك في "الموطأ" في حديث البيعين بالخيار ما لم يتفرقا "لهذا عندنا حد. معروف ولا أمر معمول به فيه، وإن هذا اللفظ راجع إلى قوله في
آخر الحديث:" إلا بيع الخيار "، وهو أولى ما تأول على مالك لا سواه. قال بعض أصحابنا: وهذا إن كان خيارهما للاختبار، وإن كان خيارهما للشورى فهذان قول مالك في "الموطأ" ما يشاورون فيه. وعلى هذا المعنى يترتب عند أصحابنا مدة الخيار في طولها وقصرها، وهذا يصح كله في المشتري.(6/53)
وأما خيار البائع فهو - أيضًا - مقدار ما يحتاج فيه الخيار في أخذ الرأي والمشاورة، فإن ضرب في الآجل أبعد ما تقدم بكثير فسخ البيع عند مالك، وأجاز الثوري اشتراط عشرة أيام في الخيار للمشتري، ولا يجوز شرطه للبائع، فإن شرطه فسد البيع. وأجاز الأوزاعي اشتراط الخيار شهرًا وأكثر، وروى مثله لمالك، ونحوه قول ابن أبي ليلى والعنبري والحسن بن صالح وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وإسحاق وأبي ثور وفقهاء أصحاب الحديث وداود: أن الشرط لازم إلى الوقت الذي شرطاه.?
وذهب أبو حنيفة والشافعي وزفر والأوزاعي - في أحد قوليه - إلى أن الخيار لا يعدو ثلاثة أيام ولا تجوز الزيادة عليه، فإن زاد فسخ البيع، وججتهم حديث منقذ بن حبان، وحديث المصراة، وفيه ذكر ثلاثة أيام. قال الشافعي: ولولا ما جاء فيه ما زاد ساعة. وكذلك اختلفوا إذا أطلق الخيار وتبايعا عليه ولم يسميا مدة، فعند مالك أن البيع جائز ويضرب للسلعة: مقدار ما تختبر فيه كما لو ضرباه وبيناه. وقال إسحاق وأحمد: يجوز البيع ويلتزم الشرط وله الخيار أبدًا حتى يرد أو يأخذ. قال ابن أبى ليلى والأوزاعي: البيع جائز والشرط باطل، ويسقط الخيار. وقال أبو حنيفة وصاحباه والثوري، والشافعى: البيع فاسد، قال أبو حنيفة: إلا في هذه الثلاث فيجوز، ولا يجوز بعد الثلاث، وقال صاحباه: يجوز متى أجازه، وقال الشافعي: لا يجوز وإن أجازه في الثلاث. وقال الطبري: البيع صحيح، والثمن حال ويوقف، فإما أجازه في الحين أورده.(6/54)
وقوله: ( فإن خَيَرَ أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن يتبايعا ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وَجَبَ البيعُ ): كل من أوجب الخيار للمتبايعين يقول: إذا خيره في المجلس فاختار، فقد وجب البيع وإن لم يفترقا، فالمقتضى هذا اللفظ لاستثناء النبي - صلى الله عليه وسلم - بيع الخيار من تخير المتبايعين قبل الافتراق، وزيادته هذا البيان. وقوله عن ابن عمر: وكان إذا بايع رجلاً فأراد ألا يقبله مشى هنيهة ثم رجع إليه: أي مشى شيئًا يسيرًا ليقع الافتراق، وهذا يدل على أخذ ابن عمر بالحديث، وأن التفرق بالأبدان، وهو معنى قوله في الحديث الآخر: "ما لم يتفرقا وكانا جميعًا "، والهنيهة: الشيء القليل، تصغير هنية، وهي كلمة يعبر بها عن كل شيء، وأظهر تضعيف الهاء فيها عند التصغير.?
وقوله - عليه السلام - للذى كان يخدع في البيوع:" إذا بايعت فقل لا خلابة "، وكان إذا بايع يقول:" لا خيابة "، كذا هي الكلمة الأخيرة بياء باثنتين من تحتها بدل اللام عند أكثر شيوخنا في هذا الحديث في مسلم وغيره، وهو الصحيح ؛ لأنه كان أنفع، وعبر بعضهم: " لا خيانة " بالنون، وهو تصحيف، وفي بعض الروايات في غير مسلم: وكان يقول: " لا خذاب "، بالذال المعجمة.(6/55)
قال الإمام: غبن المسترسل وهو المستسلم لبيعه ممنوع، وإذا وقع فله القيام ولا يلزمه الغبن، وإن لم يستسلم لبيعه وماكسه، وكان بصيرًا بالقيمة عارفًا بها فلا قيام له ؛ لأنه يكون حينئذ كالواهب لما غبن فيه. وإن كان غير بصير بالقيمة فهذا موضع اختلاف الأئمة، وقد تحاذبوا الاستدلال بالكتاب والسنة، واستدلوا أجمعون بقوله تعالى:{ لا تكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم }، فقال من أثبت الخيار بالمغابنة: إن أمضاها عليه أكل المال بالباطل فقد نهت عنه هذه الآية، وقال: من أمضى البيع عليه فإن ذلك عن تراض، وقد استثنته هذه الآية. وكذلك - أيضًا - تجاذبوا هذا الحديث، فقال بعضهم: فإنه - عليه السلام - أثبت له الخيار في بعض طرق هذا الحديث. وذلك يدل على ما قلناه من إثبات الخيار للمغبون. وقال من أمضى عليه المغابنة: لو كان له ذلك مجرد الغبن ما افتقر إلى الشرط وهو قوله: "لا خلابة "، ورجح من أثبت الخيار مذهبه بما قدمناه في حديث النهي عن تلقى الركبان ؛ لأنه - عليه السلام - أثبت للجالب الخيار إذا جاء إلى السوق، قالوا: وليس ذلك إلا للغبن، وقد تقدم كلامنا على هذا الحديث في موضعه. وإذا قلنا بإثبات الخيار بالمغابنة، فإنها ذلك فيما خرج عن المعتاد منها، الذي لا يكاد تسلم منه البياعات. وقد حده بعض أصحابنا بالثلث ؛ لأن أكثر البياعات لا تكاد تسلم من الغبن اليسير ؛ ولهذا انتصب التجار، وعليه تقع أكثر البياعات. فكان المغبون على ذلك دخل.
وقد قال بعض الناس: في هذا الحديث دلالة على أن الكبير إذا سفه لا يحجر عليه. وقال بعضهم: وهذا لا تعلق لهم فيه ؛ لأنه لا يجب الحجر على المغبون وانتزاع ماله من يده إذا كان ممسكا له، ولكنه ينهى عن التجارة المؤدية لإضاعته.
وقوله: " كان الرجل إذا بايع يقول: لا خيابة "، أشار بعضهم إلى أنه كان البيع ؟ فلهذا غير الكلمة.(6/56)
قال القاضي: وهذا الرجل هو حبان بن منقذ بن عمرو الأنصاري، والد يحيى، وراسع بن حبان، شهد أحدًا، وقيل: بل هو منقذ أبوه، وكان قد أتى عليه مائة وثلاثون سنة، وكان شج في رأسه في بعض مغازيه مع النبي - عليه السلام - على بعض الحصون بحجر مامومة، تغير منها لسانه وعقله، وذكر الدارقطني: أنه كان ضرير البصر، وروى أن النبي - عليه السلام - جعل له هذه الثلاث، وكان أكثر مبايعته بالدقيق شهر فيها وتبين غبنه. وقد روى - أيضًا - أن النبي - عليه السلام - / جعل له مع هذا خيار ثلاثة أيام فيما اشتراه، أو في كل سلعة ابتعاها.
وقد اختلف الناس في معنى هذا الحديث، فبعضهم جعله خاصًّا لهذا الرجل وغيره، وأن المغابنة بين الناس ماضية وإن كثرت وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة، وقيل: للمغبون الخيار لهذا الحديث إذا كثرت، وإليه ذهب البغداديون من المالكيين وحددوها بالثلاث، وصار الحديث عاما متعديًا.
وقد اختلف الأصوليون في قضايا الغبن، هل تعدى أم تقصر إلا بدليل ؟ وقد اختلف المذهب عندنا فيمن يخدع في البيوع، هل يضرب على يديه أم لا؟ وقال بعضهم: فيه حجة على إمضاء بيع من لا يحسن النظر لنفسه وشرائه ما لم يحجر عليه، وفي مذهبنا في ذلك وغجره اختلاف معلوم.
وقوله:" ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يخدع في البيوع "، وفي حديث آخر: "شكا " يدل أنه ممن لم يبعد ميزه ولا النظر لنفسه بالكلية، ولعله إنما كان يعتريه هذا ويلبس عليه، وأنه تبين له ذلك إذا ثبت فيه، أما الذي يضرب على يديه ممن لا يتهم ذلك من نفسه أو من لا يعد المال شيئًا ولا يرجع عن شهوته.(6/57)
وقوله:" نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر حتى يطيب "، وفي حديث آخر:"حتى يبدو صلاحه "، وفي بعض طرقه:" عن بيع النخل حتى يزهو " كذا رويناه هنا:"وعن السنبل حتى يبيض، ويأمن العاهة "، وفي رواية أخرى:" وتذهب عنه الافة" - وهما بمعنى - وفي حديث آخر:" حتى يأكل منه أو يؤكل وحتى يوزن "، وفسر في الحديث معنى " يزن " أي يخرج، قال الإمام: قال ابن الأعرابي: يقال: زها النخل يزهو: إذا ظهرت ثمرته، وأزها: إذا احمر أو اصفر. قال غيره: يزهو خطأ في النخل، إنما هو يزهى.
قال القاضي: قال الأصمعي: لا يقال في النخل: أزهى، وإنما يقال: زها، وحكاه أبو زيد معا. وقال الخليل: أزها الثمر: بدا صلاحه. قال غيره: هو ما احمر واصفر، وهو الزَّهو والزُهو معًا.
?????قال الإمام: بيع الثمر قبل الزهو على التبقية ممنوع، وعلى القطع جائز، وفيه خلاف إذا وقع على الإطلاق، فحمل بعض شيوخنا على المدونة الجواز، وحمل عبد الوهاب على المذهب المنع، وذكر أن الإجازة هي مذهب المخالف، واحتج للمنع باطلاق النهي، وهو قوله:" ألا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه "، ولم يفرق. فخص شرط الجد بالاتفاق على جوازه، وبقى الباقي على عمومه، وتعلق من أجاز بانه علل المنع بما وقع في بعض الأحاديث من قوله:" أرأيت إن منع الله الثمرة، فيما يأخذ أحدكم مال أخيه ؟" وإذا جدها في البيع على الإطلاق امن من هذا الذي علل به - صلى الله عليه وسلم - النهي، فوجب الجواز.(6/58)
وسبب الاختلاف من جهة المعنى: أن الأصلين المتقدمين قد اتفقنا في أحدهما على المنع وفي الآخر على الجواز، فيجب أن يعتبر هذا الفرع المختلف فيه بأى الأصلين يلحق ؛ فالأصح عند شيخنا - رحمه الله - إلحاقه بأصل الجواز ؛ لأن الإطلاق في البيع لا يقتضي التبقية ؛ لأنها انتفاع بملك آخر لم يشترط ولم يقع البيع عليه، فللبائع أن يمنع من بقائها في نخله إذا لم يشترط ذلك عليه، ولا هو من مقتضى الإطلاق فإن كان مقتضى الإطلاق القطع - على ما بينا - كان الجواز أولى، وكمن باع صبرة طعام في داره، فأراد المشتري أن يبقيها في دار البائع شهرًا، فليس ذلك له باتفاق ؛ لأنه ليس من مقتضى الإطلاق، وكذلك مسالتنا، وكان من منع يرى أن العوائد في الثمار بقاؤها إلى الطياب، فصار ذلك كالمشروط، ولو اشترى صبرة طعام بالليل بحيث يتعذر نقلها قبل الصباح، لم يلزم المبتاع إخراجها من دار البائع في الوقت الذي لا يمكن الإخراج فيه ؛ لأجل أنه كالمستثنى بقاؤها الزمن المعتاد. وإذا كان محمل البيع على التبقية عند هؤلاء وجب المنع بلا شك.
وأما إذا بيعت الثمرة بعد الزهو مطلقًا فعندنا تجب التبقية، وعند أبي حنيفة يجب القطع، وكذلك إذا بيعت بعد الزهو بشرط التبقية فيجوز عندنا، ويمنع عند أبي حنيفة، وكان عنده النماء الحادث بزيادة لم توجد ولم تتحصل، فلا يصح العقد عليها وقد يعارض في هذا الموضع بأن يقال: إن مذهبكم أنها بعد الزهو / على التبقية، وليس ذلك من مقتضى الإطلاق عندكم كما قلتموه في مسألة بيعها قبل الزهو على الإطلاق. قلنا: كان مالكًا وأصحابه رأوا العادة مطردة في مشتريها بعد الزهو: أنه لا يشتريها إلا للتبقية وحتى تصير إلى حال يمكن ادخارها فيها،فيحمل الإطلاق على المعتاد في ذلك، ويؤكد جواز اشتراط التبقية بعد الزهو.?(6/59)
قوله:" نهى عن بيع الثمر حتى يزهو "، فجعل غاية النهي الزهو، وإذا وقع الزهو وقعت الإجازة على الإطلاق وبخلاف ما قبل الزهو ؛ لأنه نهى عن ذلك - أيضًا - مطلقًا، ولم تجر في ذلك عادة واضحة فوقع فيه الاضطراب لذلك.
قال القاضي: وقوله: " وعن السنبل حتى يبيض "، دليل على جواز بيعه إذا ابيض في سنبله واشتد، جاز بيعه قبل حصاده، وهو قول مالك والكوفيين وأكثر العلماء وقال به الشافعي مرة، وقال - أيضًا -: لا يجوز حتى يحصد ويدرس ويصفى من تبنه وهو أول قوليه، ولا خلاف لا يجوز إذا اختلط فيه الأندر للدراسي، أو كدس بعضه على بعض قبل تصفيته.(6/60)
واختلف عندنا إن كان حزما أو قفصا يأخذها الحزر والتحري، ولا تخفى في تعيينها على قولين. ولم يختلف عندنا في جواز بيعه قائما في سنبله في فداء دينه بعد طيبه ويبسه، وتفريقه - عليه السلام - بين الزرع في هذا والثمار، فأجاز بيع الثمار بأول طيبها، ولم يجزه في الزرع حتى يتم طيبه ؛ لأن الثمار تؤكل غالبًا، وتستعمل من أول طيبها، وهذا معنى قوله في رواية:" وتؤكل منه "، والزرع إنما يؤكل ويستعمل غالبًا بعد يبسه وتمامه. واختلف العلماء في معنى نهيه - عليه السلام - عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، فذهب أبو حنيفة أن ذلك على الندب لا على الوجوب، وأمضى بيعها إذا ظهرت وإن لم يبد صلاحها، سواء وبرت أو لم توبر، اشترط جذها أو لم يشترطه، وعلى المشتري جذها وقطعها ما لم يشترط تبقيتها إلى الجذاذ، فيفسد به البيع، وهذا كأحد القولين عندنا. وقال جمهور العلماء بفساد البيع إلا أن يشترط الجذ وهو أظهر القولين عندنا، وروى عن الثوري وابن أبي ليلى أنه لا يجوز بيع الثمار قبل بدو صلاحها جملة، شرط جذها أو لم يشترطه، وقول الجماعة أصح عنهما، وأما إذا بدا صلاحها فجائز عند جميعهم شرط نهايتها، ويلزم الشرط إلا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، فيفسد عندهم البيع بهذا الشرط، وعند مالك: أنه يلزم البائع تبقيتها إلى الجذاذ وإن لم يشترط البقاء. وقال ابن حبيب هي على الجذ حتى يشترط البقاء.
وقوله:" ونهى عن المزابنة والمحاقلة ". والمزابنة: أن يباع ثمر النخل بالتمر. والمحاقلة: أن يباع الزرع بالقمح واستكراء الأرض بالقمح، وفي الحديث الآخر: " نهى عن بيع الثمر بالتمر "، وقال: " ذلك الربا "، فلغى المزابنة، وفي الحديث الآخر مكان "الربا ":" الزبن "، وهو من معنى المزابنة. والخرص بالفتح اسم الفعل، وبكسر الخاء اسم الشيء المخروص، كالذبح والذبح.(6/61)
وقوله:" حتى يأمن العاهة ": هي الآفة تصيب الثمار والزرع فتفسده. قال الخليل: العاهة: البلية تصيب الزرع والناس، قال غيره: هي الآفة تصيب المال.
قال الإمام: ذكر هاهنا النهي عن المزابنة، وفسرها بتفاسير مختلفة يجمعها عندنا أصل واحد، ران كان بعضها أوسع من بعض وأبسط، وقال في طريق:" إنها بيع ثمر النخل بالتمر "، وزاد في طريق آخر: " الكرم بالزبيب كيلاً "، وفي طريق آخر: " بيع الزرع بالحنطة كيلا "، وقال في بعض طرقه: "عن كل ثمر بخرصه ".
وعقد المذهب في المزابنة عندنا أنها بيع معلوم بمجهول من جنس واحد، أو بيع مجهول بمجهول من جنس واحد أيضًا، فإن كان الجنس مما فيه الربا دخله وجهان من التحريم: الربا والمزابنة. أما دخول الربا فيه، فلجواز أن يكون أحدهما أكثر من الآخر، ولا فرق بين تجويز ذلك أو تيقنه في المنع.
وأما دخول المزابنة فيه، فلأن أصل الزبن في اللغة الدفع، ومنه قوله تعالى:{ سندع الزبانية } يعني ملائكة النار ؛ لأنهم يدفعون الكفرة فيها للعذاب، ومنه قيل للحرب: ذبون ؛ لأنها تدفع بنيها للموت، ومنه قول معاوية: ربما زبنت، يعني الناقة فكسرت أنف حالبها /، يقال للناقة إذا كانت عادتها أن تدفع حالبها عن حلبها: زبون، فكان كل واحد من المتبايعين يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه، أو إذا وقف أحدهما على ما يكره تدافعا، فحرص على فسخ البيع، وحرص الآخر على إمضائه، وهذا شبيه بتسميته ما يؤخذ عن العيب أرشًا، لما فيه من التنازع والخصومة، يقال: أرشت بين القوم تأريشًا: إذا أفسدت. وألقيت بينهم الشر، والأرش مأخوذ من التأريش، وإذا ثبت أن هذا أصله، وإذا كانت الأشياء متجانسة انصرفت الأغراض إلى القلة والكثرة، فيقول كل واحد: لعل ما آخذه أكثر فاغبن صاحبى، وهذا لا يرتفع حتى يكونا جميعًا معلومين، وأما إن كانا مجهولين أو أحدهما فهذا التدافع حاصل، فمنع لذلك وإن لم يكن ما وقع عليه التبايع فيه الربا.(6/62)
وقوله في بعض الطرق:" وعن كل تمر بخرصه "، يؤكد ما قلنا في تفسيرها، لكن إذا تباين الفضل أنه في أحد الجانبين جاز ذلك فيما يجوز فيه التفاضل ويقدر المغبون واهبًا للفضل لظهوره له، وإذا كانت الأشياء مختلفة ولا مانع يمنع من العقد عليها لم يدخلها التزابن ؛ لصحة انصراف الأغراض ؛ لاختلاف المعاني في الأعواض.
قال القاضي: ما فسر به المزابنة في الحديث هو أحد أنواعها كما ذكر، ونبه بذلك على غيره، كما فسره مالك في "الموطأ" من قوله في المزابنة: إن كل شيء من الجزاف الذي لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده لا يباع بشيء من المكيل أو الموزون أو المعدود، إلى آخر ما ذكره في "الموطأ" من أنواع المخاطرة في تقرير المبيع من المطعوم وغيره، وقد عقد فيه قبل ما يكفى. قال ابن حبيب: الزبن والمحاقلة الخطر، وقيل: هو من الزبن وهو الدفع، كانه دفع عن البيع الشرعى وعن معرفة التساوى.
ومعنى قوله:" بيع الزرع بالحنطة كيلاً "، وكذلك قال في العنب والزبيب والثمر والتمر والظاهر أن الكيل إنما هو في أحدهما، وهو الذي يتأتى منه الكيل مما يبس ويقع المخاطر في الآخر، ولذلك نهى عنه ؛ إذ لا يدري مقدار ما يدفع منه، ألا تراه كيف قال في الحديث: " إن زاد فلي، وإن نقص فعلي "؛ ولهذا قلنا في غير الطعام الذي لا يجرز فيه التفاضل: لو حقق أن ما وقع إليه أكثر أو أقل لجاز، وقد ارتفع.
وأجمع العلماء على أنه لا يجوز بيع الزرع قبل حصده بالطعام، ولا بيع العنب والنخل قبل جذه بالتمر أو الزبيب. واختلفوا في بيع رطب ذلك تبايعه مجذوذ، فحمله بعضهم على منعه، لا يجوز متفاضلا ولا متماثلاً. وأجازه أبو حنيفة متماثلا، وخالفه صاحباه، ومنعه أصحابنا في كل رطب ويابس من الثمار، وأجاز بعضهم ذلك فيما يجوز فيه الهتفاضل إذا تبين الفرق، وهو الصحيح وعليه حمل مجمل قول الأخرين.(6/63)
قال الإمام: وأما قوله: " والمحاقلة أن يباع الزرع بالقمح واستكراء الأرض بالقمح " هذا الذي وقع في التفسير في هذا الحديث، وبعض أهل اللغة يقول: الحقل اسم للزرع الأخضر، والحقل اسم للأرض نفسها التي تزرع فيها. و في الحديث:" فما تصنعون بمحاقلكم "، أي بمزارعكم، يقال للرجل: أحقل، أي أزرع. وقال الليث: الحقل الزرع إذا تشعب من قبل أن تغلظ سوقه. فإن كانت المحاقلة ماخوذة من هذا فهو من بيع الزرع قبل إدراكه. قال: والحقلة: المزرعة، ويقال: لا تنبت البقلة إلا الحقلة. وقال أبو عبيد: هو بيع ألطعام وهو في سنبله بالبر مأخوذ من الحقل، وهو الذي يسميه الناس بالعراق: القراح. وقال قوم: هي المزارعة بالجزء مما تنبت الأرض.
قال الإمام: الذي وقع في الحديث من التفسير يجمع هذا كله ؛ لأنا إن قلنا: إن ذلك تسميتهه للزرع الأخضر فكأنه نهى عن بيعه بالبر ؛ إذ بيعه بالعروض والعين يجوز إذا كان معلومًا، وكان المحاقلة تدل على ذلك لأنها مفاعلة ؛ ولذلك قال أبو عبيد في تفسيرها: إنها بيع الطعام في سنبله بالبر، وظن الآخرون أنها بيعه قبل زهوه /، فكأنه قال: نهى عن بيع الزرع الأخضر، وهذا يطابق قوله:" نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيض"، فهذه طريقة من صرف التسمية إلى الزرع الأخضر.
ووقع الاختلاف بينهم هل المراد بيعه وهو أخضر قبل زهوه، أم المراد بيعه في سنبله بقمح آخر لا يعلم حصول التماثل بينهما، والوجهان ممنوعان إذا بيع في الوجه الأول على التبقية، وطريقة من صرفه إلى الأرض نفسها اختلف - أيضًا - هل المراد اكتراؤها بالحنطة أم اكتراؤها بالجزء مما تنبت، والوجهان - أيضًا - ممنوعان عندنا، وخالفنا في جواز ذلك غيرنا من العلماء. وسنتكلم عليه فيما بعدإن شاء الله.(6/64)
قال القاضي: اختلف العلماء في اكتراء الأرض بالحنطة والطعام، وبما تنبته الأرض، وبالجزء مما يخرج منها. وسيأتي الكلام على هذا مستوعبا في بابه إن شاء الله تعالى. وقوله:" ورخص في بيع العرية بالرطب أو بالتمر"، وفي الرواية الأخرى:" رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرًا، يأكلونها رطبًا "، وفي رواية أخرى:" رخص في العرية يأخذها أهل البيت "، وفي الرواية الأخرى:" والعرية النخلة، تجعل للقوم فيبيعونها بخرصها تمرًا "، وفي الرواية الأخرى:" أن تؤخذ بخرصها "، وفي حديث مالك: " فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق ". قال الإمام: اختلف الناس في حقيقتها، فمذهبنا أنها هبة الثمر ثم اشتراؤه بتمر إلى الجذاذ يفعل ذلك للرفق بمعراها، وحمل المؤنة عنه ويفعل ذلك لنفى تجشم بدخوله وخروجه للحائط. وعند الشافعي أنها النخلة، يبغ صاحبها رطبها بتمر إلى الجذاذ على ما وقع من تفسير يحعى هاهنا في كتاب مسلم.
وفي بعض الروايات: أنهم شكوا للنبى - صلى الله عليه وسلم - أنهم لا ثمر عندهم، وعندهم فضرل أقواتهم من التمر فارخص لهم أن يشتروا بذلك الرطب لحاجتهم إليه، وعند أبي حنيفة أنها إعطاء التمر هبة كما قال مالك، ولكنه يرى أن للواهب أن يرجع في هبته قبل القبض، ولا يلزمه إياها، وبانها باقية على ملكه، فاسترجع ملكه وأعطى للموهوب المرتجع منه تمرًا تفضلاً منه وهبة أخرى. وهذا الذي قاله ساقط من وجوه ؛ لأن ذلك لا تحريم فيه على أهله فيعبر عنه بالرخصة.(6/65)
فإن قيل: إنما عبر عن ذلك لارتجاعه هبته قلنا: الهبة عندكم لا تلزم، والإنسان ليس بممنوع أن يرجع فيما لا يلزم على أن الترخيص بعد ذكر المزابنة، وتفسيرها بانها: بيع الثمر بالتمر، يشعر بأن فيها معنى من هذا الممنوع وعلى أصلهم لا معنى فيها من هذا الممنوع. وقد وقع في بعض الطرق:"رخص في بيع العرايا "، فسمى ذلك بيعًا، وعلى أصلهم ليس هناك بيع، إذ لا يبيع الإنسان ملكه بملكه، وأيضًا فإنه حدد الرخصة بخمسة أوسق أو دونها. ولا معنى للتحديد على أصله ؛ لأن للإنسان عندهم أن يرتجع الهبة قلت أو كثرت.
وقد اختلف أهل اللغة في هذه التسمية، فقال بعضهم: ذلك مأخوذ من عروت الرجل: إذا أتيته تسأل معروفه، فاعراه نخله على هذا: أعطاه ثمرها، فهو يعروها، أي يأتيها ليأكل ثمرها. وهم يقولون: سألني فأسالته، وطلبني فأطلبته، فعلى هذه الطريقة هي التي فسرها بها بعض أهل العلم، وهي التي صوب أبو عبيد في التفسير وهو من أئمة اللغة، يتضح ما قاله مالك ؛ لأن ما قاله الشافعي وأجازه ليس فيه هبة، ولا عطية.
وقد قال بعض أهل اللغة: إنها ماخوذة من كون المعرى قد أخلى ملكه عنها، وأعراها عن ملكه. وعلى هذا يصح صرف العرية إلى إخلائه ملكه من الثمر، أو من بعض الشجر. ويكون لما قاله الشافعي على طريقة هؤلاء في الاشتقاق وجه. ويؤكد الشافعي - أيضًا - ما قاله بما ذكرناه من التفسير الذي حكاه مسلم في كتابه.(6/66)
وأما ما ذكرنا أنه وقع في بعض الطرق هاهنا: أنه أرخص بعد ذلك / في بيع العرية بالرطب أو بالتمر، ولم يرخص في غير ذلك، فهذا مخالف في ظاهره لما أصلناه ؛ لأنه لا يجوز بيعها بالرطب، وإنما هي رخصة فلا تجرز إلا على ما وردت به، وجل الأحاديث لم يذكر فيها إلا شراؤها بالتمر وهذا ينفى الذي وقع هاهنا بالرطب، أو بالتمر، لو تركنا، ومقتض اللسان لاحتمل أن يكون شكًّا من الراوي هل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرطب أم قال بالتمر؟ وشك الراوي يمنع من التعلق به في الرطب.
وقد وقع في غير كتاب مسلم: عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه: أنه - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العرايا بالتمر والرطب. بخلاف مارواه مسلم عن سالم بن عبد الله عن زيد بحرف " أو أ، وقد قال بعض أصحابنا: في حديث خارجة هو حديث انفرد به راويه، وجاء بخلاف سائر الأحاديث وذلك يقدح فيه، وأشار بعض أصحابنا إلى حمله على الوجه الجائز المطلق لسائر الأحاديث، وأن المراد بهذا اللفظ شراء الرطب ليؤكل بالتمر، ويكون المعنى على قولهم: أنه قصد إلى ذكر الجنسين المتبايع بهما على الجملة، وكان العرايا وقع فيها التبايع بالرطب والتمر أحدهما بالآخر، ولكن الصفة التي يقع ذلك عليها يوجد بيانها من الأحاديث الأخر.(6/67)
قال القاضي: العرية مشددة الياء، وليست من العارية. واختلف في اشتقاقها، فقيل: إنه من الطلب كما ذكر، فيكون هنا عرية فعيلة بمعنى مفعولة، أي عطية، وتكون - أيضًا - على هذا المعنى ماتية ومطروقة ؛ لأن الذي أعطيها يختلف إليها من عرو في الرجل إذا ألمممت به، وقيل: لأنها أعريت من السوم عند البيع للتمر، فتكون في كل هذا اسما للثمرة، وقد تكون بمعنى أن النخل عريت أ عن الثمر بهذه الهبة، وقيل: لأن مالكها أخلى ملكه منها، فعلى هذين القولين الأخيرين يصح ما فسرها به الشافعي من النخلة، وهي على هذا لاشتقاق فعيلة بمعنى فاعلة، وقيل: لأنها عريت من جملة التحريم وعلة المزابنة، وقيل: س النخلة للرجل في نخل الغير، فيتأذى به صاحب النخل، فرخص له في شرائها منه بخرصها ومض مذهب الانفراد، يقال: أعريت هذه النخلة: إذا أفردتها بالبيع، أو بالهبة، وقيل: هو شراء من لا نخل له ثمر النخلة من صاحب النخل لها كلها هر وعياله رطبًا. وعليه يدل ظاهر تفسيرها في حديث زيد: " النخلة ياخذها أهل البيت بخرصها تمرًا يأكلونها رطبًا " على ما ذهب إليه المخالف. وهذا يأتي على معنى إفرادها من البيع المتقدم. وقيل: مرادها التمرة إذا أرطبت سميت بذلك ؛ لأن الناس يعرونها أي يأتونها لالتقاط ثمرها، ولا فرق في المعنى،و اسمها عطية أو هبة، أو منحة، أو عرية.
وأما في الحكم المرخص فيه فيها فلم يحكم لها جل أصحابنا به إلا إن منحها بلفظ العرية، وعرفها خصوصا لا بغيرها من الأسماء. وابن حبيب منهم لا يراعى الاسم ويجرى الحكم فيما منح بهذه الألفاظ.(6/68)
قال القاضي: ومعنى قوله:" بخرصها "، قال مالك: إنما صاع العرايا بخرصها من التمر بتمر ذلك، ويخرص في رؤوس النخل، وليست له مكيلة، وإنما رخص فيه لأنه أنزل بمنزلة التولية، والإقالة والشركة، وقد ذهب أحمد بن حنبل في تأويل العرايا إلى ما ذهب إليه مالك، إلا أنه خالفه في جواز بيعها من ربها وغيره. وهو قول الأوزاعي لظاهر إطلاق الحديث، وعموم بيعها، ومشهور مذهب مالك قصر جواز بيعها من ربها لخرصها تمرًا إلى الجذاذ، وذلك بعد صلاح العرية،وروى عنه: لا يجوز بخرصها ويجوز بغيره، وروى عنه: أنها تجوز بخرصها، وبغيره وبالعروض، وبالطعام يريد على الجذ، وروى عنه: أنه لا يجوز شراؤها إلا بخرصها، ولا يجوز بيعه من دنانير أو دراهم أو غير ذلك ؛ لأنه من باب العرد في الهبة وبالخرص رخصة لا تتعدى قبل اختلاف قوله في ذلك على اختلاف الأصل في تقديم خبر الواحد على القياس على الأصول، وتقديمها عليه، وعلى الأصل في أن الرخص لا يتعدى بها معها، فإذا منع بالخرص يقدم القياس على الأصل في النهي عن بيع ثمر النخل بالتمر كيلا، مع اختلاف الناس في تفسير/ الحديث، لكن هذا القول ضعيف وشاذ من قوله ؛ لأن في تفسير هذا الحديث هذا الاستئناء، وليس الأخذ لبعضها أولى من الأخذ بنا فيه.(6/69)
وأما مشهور قوله بأنها لا تجوز إلا بخرصها إلى الجذاذ، فلم ير تعدى الرخصة عن وجهها وهو أظهر، ورأى في قوله عموم شرائها بكل شيء بالقياس على الرخصة بالخرص، وأنه إذا جاز به كان أولى بغيره، مع أنها هبة منافع. والحديث في منع الرجوع في الهبة إنما جاء في الرقاب وما لم يبق فيه للواهب تعلق. وشراء العرية هنا زيادة معروف لكفايته المؤونة وضمانه المنفعة، ولدفع المضرة عن نفسه. وقد روى ابن نافع في تفسير العرية عن مالك غير المعروف من قوله أنها النخلة، تكون للرجل في حانط الآخر يريد صاحب الحائط شراءها إذا أزهت بخرصها تمرًا عند الجذاذ، وهذا نحو قوله في المدونة من رواية ابن القاسم في هذه المسألة: لا بأس بذلك إذا كان على وجه الرفق والكفاية، لا على وجه دفع الضرر وعكس هذا الجواب والتعليل عند الملك، وهذا كله نحو قول الشافعي، إلا أنه يجيز بيعها من رب الحائط وغيره، ولا يجيز تأخير التمر. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف في تفسير العرية أنها النخلة يهب صاحبها ثمرها للرجل فلا يقبلها، ثم يبدو لصاحبها أن يمسكها ويعوضه ثمرها خرصها تمرًا.
وقوله في الحديث في تفسير العرية: أنها النخلة تجعل للقوم: يدل على ما ذهب إليه مالك في مشهور قوله، وجمهور العلماء موافقون لمالك أنها لا تباع بخرصها إلا بعد الزهو. وشرط مالك في ذلك كون الخرص إلى الجذاذ، وهو قول جل أصحابه، ولم يجيزوا بالنقد، وأجازه بعضهم إذا وقع، ومنع الشافعي وأحمد التأخير في ذلك وقالا: لا يجوز بالنقد ونصه على النخلة في نفسها، وكذلك استثناؤه العرية من بيع ثمر النخل بالتمر.(6/70)
وقوله: "بخرصها "، يدل على اختصاصها بالنخل وما فيه الخرص، وكذلك قصرها مالك على النخل والعنب ؛ لأنه الذي فيه الخرص، وهو قول الشافعي. وأجازها مرة في كل ما يبقى ويدخر من الثمار، ويحتج بقوله: "نهى عن بيع كل ثمر بخرصه "، ثم استش العرية.وقال بعفر أصحابنا: هي جائزة في كل ثمرة مدخرة أو غير مدخرة، وقاله الأوزاعي، وقال الليث: لا تجوز إلا في النخل خاصة.
وفي قوله: " أرخص في العرايا "، ما يدل على أنها رخصة مخصوصة، وقد أبان العلة بقوله: " يكلها أهلها رطبًا "، فدل أن علتها الرفق وهو أحد عللها عندنا، وقيل: رفع الضرر، وقيل بهما جميعًا. وعلى هذا اختلف عندنا في فروع من مسائلها. وإذا كانت الرخصة معللة بحديث وهو الصحيح، وكثيرا ما يقول كثير من العلماء: أن الرخص لا تعدى ولا يقاس عليها، وهذا فيما لم يشر الشرع إلى علته. وبحسب هذا وقع الاختلاف في قصر العرية على النخل أو تعديتها إلى غيرها، وفي شراء غير المعرى من المعرط، أو شراء المعرى ممن اشتراها من المعرى، أو شراء بعضها، ونحو ذلك من فروع الباب.
???? والعرية رخصة مستثناة عندنا من أربعة أصول: من المزابنة، والغرر - وهو شراء الجزاف بالمكيل، والرطب باليابس على ما تفسر - ومن بيع الطعام بالطعام متفاضلا، ومن بيع الطعام بالطعام إلى أجل ومن الرجوع في الهبة.(6/71)
وجوازها عندنا بشروط عشرة، ستة متفق عليها: أن يكون مشتريها هو معريها من مغراها، وأن تكون قد طابت، وألا يشترى إلا بخرصها، ولا يكون إلا بنوعها، ولا يكون إلا باليابس منه لا برطبه، وأن يكون مؤخرًا إلى الجذاذ، لا نقدا، خلافًا للشافعى في قوله: أيكون التمر إلا حالاًّ. وبقولنا قال أحمد وإسحاق، والأوزاعي. وأربعة مختلف فيها: ألا تكرن إلا مما كان باسم ألعرية، وأن يكون خمسة أوسق فأدنى من جملة ماله، وأن يكون المشتري جملتها لا بعضها، وأن يكون مما يخرص أو مما ييبر ويدخر جملة. وتحصيل المذهب في العرية وخصوصًا بذلك كله عندنا من غيرها أو مما /يختص من ذلك غد غيرهم. وقاس يحيى بن عمر من أصحابنا على حديث ابن عمر، فرخص لصاحب العرية أن يبيعها كلها بخرصها إذا طابت إلى الجذاذ وشذ في ذلك شذوذًا متركًا ومتباينًا من تناهي ما هو مخالف للحديث في النهي عن المزابنة، وقد فسرها في الحديث بهذا الذي أجازه هو، وأجمع العلماء.
وقوله: " فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق " مما يدن أنه يختص بما يوسق ويكال، ويحتج به باحد القولين اختصاص ذلك بالتمر والزبيب ومما في معناه مما ييبس ويدخر وياخذه الكيل. وقد ذكر أبو داود عن أبي هريرة الحديث، وفيه:" مما دون خمسة أوسق "، فقد قصر - عليه السلام - الرخصة والحكم في العرية على هذا القدر المذكور في الحديث فلا يزاد عليه، وكأن الخمسة الأوسق هو أول مقادير المال الكثير الذي تجب فيه الزكاة من هذا الجنس، فقصر المرفق بمن لا مال له وأجيز له تيسير العرية على التأويل الواحد، أو بيعها على التأويل الآخر على هذا القدر، فاستخف في هذا القدر للمرفق والمتفكه. فإذا زاد على هذا القدر وخرج عن القليل إلى حد المال الكثير وما يطلب فيه البحر وتنمية المال، منع فيه لكثرة الغرر والمزابنة فيه، بكثرته وخروجه عن فقد المرفق لقصد التنمية،و يمكن أن يكون هذا القدر الذي جرى غدهم العرف زمان الإعراء فيه غالبًا.(6/72)
وقد اختلف قول مالك في إجراء حكم العرية في خمسة أو سق، وقال به في مشهور قوله اتباعًا، كما وجد عليه العمل غدهم بالمدينة وقال - أيضًا - لا يجوز في الخمسة وتجوز فيما دونها ؛ لأنه المحقق في الحديث، والخمسة مشكوك فيها. وبهذا قال الشافعي، إلا أنه قال: لا فسخ البيع في مقدار خمسة أوسق، ولا حجة فيما رآه. وحكى ابن القصار عنه اختلاف قوله كاختلاف قول مالك، وهذا في شرائها بخرصها تمرًا وإما بسرًا وإما بالدنانير والدراهم والعروض على مشهور قول مالك وغيره، وإن جاوزت خمسة أوسق.
قال الإمام: أما شك الراوي في الخمسة الأوسق، فعندنا اختلاف في جواز البلوغ إليها، وقد قال بعض المخالفين: إذا شك الراوي بين خمسة فما دون، فلا وجه للتعلق بروايته في تحديد مقدار ما دون الخمسة الأوسق، ولكن وقع في بعض الروايات:" أربعة أوسق " فوجب الانتهاء إلى هذا المتيقن وإسقاط ما زاد عليه، والى هذا المذهب مال ابن المنذر، وألزم المزني الشافعي أن يقول به.
وقوله:" أيما نخل اشتري أصولها وقد أبرت، فإن ثمرها للذى أبرها، إلا أن يثسترط الذي اشتراها "، قال القاضي: الإبار في النخل والتذكير لها، وهو أن يجعل في طلعها أول ما يطلع من طلع فحل النخل ويعلق عليه لئلا يسقط، وهو اللقاح - أيضًا - يقال: أبرت النخل، أبره أبره مخفف وأبرته أيضًا وقال ابن حبيب: الابار: شق الطلع عن التمرة.
وفي قوله - عليه السلام - جواز الإتجار والتذكير للنخل وغيره من الثمار، ولا خلاف في هذا. وقد كان - عليه السلام - قال للأنصار:« ما عليكم ألا تفعلوا» فتركوا التذكير فنقصت ثمارهم فقال - عليه السلام -:« أنتم أعلم بأمر دنياكم »، قال: « وما حدثتكم عن الله فهو حق ».
والإبار في غير النخل من الثمار عقد ثمره وثبات ما يثبت منه، وسقوط ما يسقط من نوره إلا ما يذكر منه، فحكمه حكم النخل. واختلف في الزرع، هل إباره الظهور من الأرض أو الإفراك ؟ ولمجمرى هذا الحديث في موضعه.(6/73)
قال الإمام: قد م نص في هذا الحديث على كونها مع الإطلاق للبائع بعد الإبار، إلا أن يشترط، ودليل هذا الخطاب أنها قبل الإنجار للمشتري، وهذا مذهبنا. وخالف في ذلك أبو حنيفة ورأى أنها قبل الإبار للبائع كما هي له بعد الإبار. وسبب الاختلاف بين - الفقيهين أن مالكًا يرى أن ذكر الإبار / هاهنا القصد به تعلق الحكم عليه ليدل على أن ما عداه بخلافه، ويرى أبو حنيفة أن تعلق الحكم به إما للتسمية به على ما يؤبر ولغير ذلك، ولم يقصد به نفى الحكم على من سوى المذكور. وقال بعض أصحابنا: هذا منه دعوى، إذ لا يمكن التنبيه بالمؤبر على ما لم يؤبر، وإنما نبه بالأدنى على الأعلى، وبالمشكل على الواضح، وهذا خارج عن هذين القسمين، مع أن الذي قاله مالك له شبه في الشرع، وذلك أن الثمرة قبل الإبار تشبه الجنين قبل الوضع، وبعد الإبار تشبه الجنين بعد الوضع. فلما كانت الأجنة قبل وضعها للمشتري وبعد وضعها للبائع وجب أن يجرى الثمر هذا المجرى.
وأما إذا لم تؤبر وظهر أنها للمشترى - كما بيناه - فهل يجوز للبائع أن يشترطها ؛ المشهرر في المذهب عندنا أن ذلك لا يجوز، وعلى إحدى الطريقتين عندنا أن المستثنى منها يجوز ذلك، هكذا بناه بعض شيوخنا وبالإجازة قال الشافعي.
وتلخيص مآخذ اختلافهم من الحديث أن أبا حنيفة استعمل الحديث لفظا ومعقولاً، واستعمله مالك والشافعي لفظًا أو دليلاً، ولكن الشافعي استعمل دلالته من غير تخصيص، ويستعملها مالك مخصصة. وبيان ذلك: أن أبا حنيفة جعل التمر للبائع في الحالين، وكأنه رأى أن ذكر الإتجار تنبيه على ما قبل الإبار للمبتاع، إلا أن يشترطها البائع، وخص مالك بعض هذا الدليل بانها قبل الإتجار على إحدى الطرق التي ذكرنا عنه وهذا المعنى يسمى في الأصول معقول الخطاب.(6/74)
واستعمله مالك والشافعي على أن المسكوت عنه حكمه غير حكم المنطوق به، وهذا يسميه أهل الأصول دليل الخطاب، فإذا كان النطق: من باع ثمرًا بعد الإبار فهي للبائع إلا أن يشترطها المشتري، كان دليله أنها قبل الإبار للمبتاع، إلا أن يشترطها البائع. وخص مالك بعض هذا الدليل بانها قبل الإبار تشبه الأجنة، فلا يجوز اشتراطها، وتقوى هذه الطريقة مع القول بأن المستثنى مشترى وإن أبر بعضها ولم يؤبر بعض، بأن كانا متناقضين، بل كل واحد منهما حكم نفسه، وإن كان أحدهما أكثر من الآخر فقيل الحكم كذلك أيضًا، وقيل: الأقل تبع للأكثر ولو كان المبيع أرضا يزرعها وهو لم يظهر، وفيه قولان: قيل: للمشترى كالثمر إذا لم يؤبر، وقيل: بل هو للبائع لأنه من الجنس الذي لا يتاتجر ولا يتكرر، فاشبه ما دفن في الأرض وخالف الثمر.(6/75)
قال القاضي: بظاهر هذا الحديث وما قاله مالك قال الشافعي والليث، وأن الثمرة إذا لم تشترط تبقى لصاحبها إلى جذاذها إذا كانت مأبورة. وكما جاز استثناؤها في الشراء عند مالك جاز شراؤها بعد شراء الأصل، إذا لم يشترطها في شراء الأصل في مشهور قوله، وغه أنه لا يجوز له إفرادها بالشراء ما لم تطب، وهو قول جماعة من كبراء أصحابه، وقول الشافعي والثوري وأهل الظاهر وفقهاء أصحاب الحديث. وأبو حنيفة يراها إذا لم يثترطها المشتري قبل الإبار وبعده إذا كانت قد ظهرت للبائع، إلا أن عليه قلعها لحينه، وليس له تركها للجذاذ والقطاف، فمتى اشترط بقاءها فسد عنده البيع. قال ابن الحسن: إلا أن يكون بدا صلاحها فيجوز له اشتراط بقائها. وقال ابن أبي ليلى: سواء أبرت أو لم تؤبر الثمر للمشتري شرط أو لم يشترط. وهذان القولان مخالفان لسنة النبي - عليه السلام -. وأما لو اشترط المبتاع بعض هذه الثمرة فلا تجوز عند مالك، وأجازه بعض أصحابه. وإذا جاز اشتراط المبتاع لها إذا أبرت فهل يجوز اشتراط البائع لها إذا لم ثؤبر، لم يجز ذلك مالك، ورأى أن البيع إذا وقع على هذا فسد وأنه لما كان مغيبا كاستثناء الجنين، ورأى أن المستثنى مشترى. وقال أبو حنيفة والشافعي: استثناؤه جائز وإن لم يؤبر، وهذا على أن المستثى ينبغي على ملك المشتري.
وقوله:" من باع عبده فما له للذى باعه، إلا أن يشترط المبتاع " /، قال الإمام: اعلم أن ملك العبد يزول عن سيده على أربعة أوجه:
?????أحدها: أن يزول بعقد معاوضة كالبيع والنكاح فالمال في ذلك للسيد، إلا أن يشترط عليه، خلافًا للحسن البصرى والزهري في قولهما: إن المال يتبع العبد في البيع، وهذا الحديث يرد عليهما.(6/76)
?????والوجه الثاني: العتق، وما في معناه من العقود التي تفضي إلى العتق، وتسقط النفقة عن السيد كالكتابة، فالمال للعبد إلا أن يشترط، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: إنه للسيد في العتق، ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -:« من أعتق عبدًا وله مال فماله له، إلا أن يشترطه السيد »، فيمن يعيد الضمير في قوله: " له " على العبد لأنه المذكور نطقًا، وإنما ذكر السيد بكناية عنه ترجع إليه عند قوله:" من أعتق "، فلابد أن يضمر عقيب قوله: " أعتق "، عائد يعود إلى " السيد، بحكم مقتضى لفظة:" من "، وعود الضمير والكناية على الصريح أولى من عوده على الكناية والإضمار، ولأن الكناية يملك بها ماله وهي بسبب العتق، فنفس العتق أولى.
?????والوجه الثالث: الجناية، فالمال فيها يتبع الرقبة، وينتقل بانتقالها.(6/77)
?????والوجه الرابع: الهبة والصدقة، وفيهما قولان عندنا، وإنما اختلف فيهما لأخذهما لنمبها من العتق الذي يتغ العبد فيه المال وشبها من البيع الذي لا يتبعه فيه، فالبيع خرج من ملك إلى ملك بعوض على جهة الاختيار، والعتق خرج من ملك إلى غير ملك بغير عوض. والهبة خرجت بغير عوض فاشبهت العتق، ومن ملك إلى ملك فاشبهت البيع. ويجوز عندنا أن يشترطه المشتري وإن كان عينا والثمن عين، وكأنه لا حصة له من الثمن فلا يدخله الربا، وهذا على أنه اشترطه للعبد وأبقاه على ملكه، فكأنه لم يملك هو عينا دفع عوضها عينا أخرى، ولو اشترط لنفسه ما جاز لتحقق الربا حينئذ، وصار كمن اشترى سلعة وذهبا بذهب، وذلك لا يجوز. قد قال أصحابنا: في هذا الحديث دلالة على أبي حنيفة والشافعي في قولهما: إن العبد لا يملك ؛ لأنه أضاف المال للعبد بلام الملك، واللام ترد للملك ولليد والتصرف، كقولهم: الولاية لفلان في المال، هكذا قيل في هذا. وعندى فيه نظر ؛ لأن الولاية لفلان ضرب من الملك والتصرف، فلا يعد فيها ثالثا هذا المثال، وترد اللام للاختصاص كقولهم: الحركة للحجر، والباب للدار. وهذا مبسوط في كتب النحاة.
قال القاضي: ذكر مسلم هذا الحديث من رواية الزهري عن سالم عن عبد الله بن عمر، عن أبيه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:« من ابتاع لانخلا » الحديث، وفيه:« ومن ابتاع عبدًا فماله للذى باعه، إلا أن يشترطه المبتاع »، وثبتت هذه الزيادة عند جميع الرواة، وسقطت من رواية شيخنا أبي محمد الخشني من طريق أبي عبد الله الباجي عن ابن ماهان، وهي صحيحة ثابتة في الحديث. وقال أبو الحسن الدارقطني: خرج البخاري ومسلم هذا الحديث عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام -:« ومن باع عبدًا وله مال »، وخالفه نافع عن ابن عمر. قال النسائي. سالم أجل في القلب، والقول قول نافع.(6/78)
وذكر في الحديث الآخر في الباب النهي عن المحاقلة، والمزابنة، والمعاومة، والمخابرة، وعن بيع السنين، وعن الثنيا، ورخص في العرايا، وفي رواية: عن بيع الثمر سنين، قال الإمام: تقدم الكلام عن المزابنة والمحاقلة والعرايا، ونتكلم الآن عن المعاومة والمخابرة والثنيا.
وأما بيع المعاومة، فهو بيع الثمر سنين، وقد فسره في كتاب مسلم. ووجه المنع فيه بيق وماخوذ مما تقدم من النهي عن بيع الثمر قبل زهوه ؛ لأنه إذا باع ثمرته سنينا فمعلوم أن ثمرة السنة الثانية والثالثة لم تخلق، وهي لو خلقت ولم تزهو لم يجز العقد عليها، فإذا لم تخلق أولى أن لا تجوز.
وأما المخابرة: فقد فسرها جابر في كتاب مسلم بانها الأرض يدفعها / الرجل إلى الرجل فينفق فيها، ثم يأخذ من الثمر. وفسر المحاقلة ببيع الزرع القائم بالحب كيلا، وهذا فيه معنى حسن يؤخذ مما تقدم، وذلك أنا قدمنا أن المحاقلة تنطلق على بيع الزرع الأخضر بالحب وعلى كراء الأرض بالجزئي، فلما ذكرت هاهنا مع المخابرة وفسرها بانها المعاوضة بالجزئي عاد إلى تفسير المحاقلة بانها بيع الزرع بالحب ؛ لئلا يفسرها هنا بالمعنى الآخر فيكون تكريرًا لمعنى المخابرة. وقال أهل اللغة: المخابرة: س المزارعة على النصيب كالثلث وغيره، والخبرة النصيب قال الشاعر:
إذا ما جعلت الشاة للناس خبرة فشأنك إنى ذاهب لشؤوني
وقال الأزهرى: الخبر يكون زرعًا ويكونوا إكارًا. وقال ابن الأعرابي: أصل المخابرة ماخوذ من خبر ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أقرها في أيدى أهلها على النصف، فقيل: خابره، أي عامله في خيبر. وسنتكلم على معاملة أهل خيبر في موضعها إن شاء الله.(6/79)
وأما قوله: " وعن بيع الثنيا "، فمحمله على ثنيا لا تجوز، أو على ما يؤدى إلى الجهالة بالمبيع. وقد اتفق الجميع على جواز بيع الصبرة واستثناء الجزء منها، وأن ذلك سائغ واختلفرا إذا استثنى مكيلة معلومة، فمنعه أبو حنيفة والشافعي ؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث، وتمسكا بعموم نهيه عن بيع الثنيا، وأجاز مالك أن يستثنى منها من المكيلة ما يعلم أنه لا يزيد على ثلمث جميعه ؛ لأن ذلك عنده في حكم اليسير الذي لا يؤدى إلى الجهالة بالمبيع، فوجب أن يجوز.
قال القاضي: أصل التثنى من الاستثناء، وهو الرجوع إلى ما سلف، ومنه: ثنى عنانه، وثنية الحديث. وكأن المستثنى رجع إلى بعض ما عم من كلامه قبل. ووقوعه هنا في الثنى الممنوعة وهي ضروب، كقوله: إن جئتني بالثمن إلى وقت كذا أو متى جئتني به رددت عليك مالك. فهذا متى عقد البيع عليه كان فاسدًا. ومنه قول المشتري: إن لم تأت بالثمن يوم كذا فلا بيع بينى وبينك. فاختلف فيه العلماء، فبعضهم أبطل الشرط وصحح البيع، ومنهم من ألزم فاعله ما شرط وجعل الأخر بالخيار، والوجهان مرويان عن مالك. وما كان من ذلك على التطوع بعد العقد لزم الوفاء به. وأما ثنيا المشتري بعض ثمرة النخلة التي باع، فلا يجوز أن يكون على الكيل والجزء أو ثمرة نخلات معينات. فأما النخلات المعينات بلا خلاف في جواز استثنائه ؛ لأنه لم يقع عليهن بيع الجملة. وإن استثنى بعضها على الكيل فمذهب عامة العلماء وفقهاء الفتيا بالأمصار أنه لا يجوز من ذلك قليل ولا كثير، وذهب مالك في جماعة أهل المدينة إلى جواز ذلك ما بينه وبين ثلث الثمرة لا يزيد على ذلك، وإن اسثنى جزءًا مشاعًا فيجوز عند مالك وعامة أصحابه قل أو كثر، وذهب عبد الملك إلى أنه لا يجوز استثناء الأكثر، والخلات في ذلك مبنى على جواز استثناء الاكثر من الأقل.(6/80)
وقد اختلف في ذلك النحاة والأصوليون، وكتاب الله يشهد بجوازه، قال الله تعالى حاكيًا عن إبليس:{ فبعزتك لأغوينهم أجمعين ( إلا عبادك منهم المخلصين }، ثم قال تعالى:{ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين }، فقد استثنى كل صنف من الآخر وأحدها أكثر بلا مرية، لاسيما ما وردت به الآثار في تكثير الغاوين. وأما بيع الثني، فقال الهروي: هو أن يستثنى من المبيع شيئًا مجهولاً فيفسد البيع. وقال القتبى: هو أن يبيع شيئًا جزافًا فلا يجوز أن يستثنى منه شيئًا، وفي المزارعة أن يستثنى بعد الجزء شيئًا معلومًا، ومن الثنى اشتراط البائع على المبتاع متى جاءه بالثمن، فالسه لعة له.
قال القاضي: هذا الذي يسميه الموثقون بيع الثني. قال الإمام:خرج مسلم في هذا الباب حديثًا عن زيد بن أبي أنيسة، قال:حدثنا أبو الوليد المكي عن جابر، ثم أردف / عليه: حدثنا عبد الله بن هاشم -، نا بهز، ثنا سليم بن حيان، حدثنا سعيد بن ميناء، عن جابر، ثم عطف بعده بحديث حماد بن زيد عن أيوب، عن أبي الزبير، وسعيد بن ميناء عن جابر قال. قال بعضهم: أبو الوليد المكي الذي في الإسناد الأول هو سعيد بن ميناء، وزعم الحاكم أن أبا الوليد الذي في هذا الإسناد اسمه يسار وقال مثل ذلك ابن أبي حاتم الرازي ورد ذلك عبد الغني وقال هو وهم، إنما هو سعيد بن ميناء الذي يروي عنه أيوب السختياني وابن أبي أنيسة. قال البخاري في "تاريخه": سعيد بن ميناء أبو وليد المكي سمع جابرًا وأبا هريرة، وروى عنه سليم بن حيان وزيد بن أبي أنيسة. وتابعه على ذلك مسلم، ولعل الحاكم إنما نقل ذلك في كتاب أبي حاتم.
وقوله:" نهى عن بيع الثمرة حتى تشقح "، قال الأصمعي: إذا تغير البسر إلى الحمرة قيل: هذه مشقحة، وقد أشقحت.(6/81)
قال القاضي: قد جاء في الحديث نفسه في كتاب مسلم تفسيرها من قول سعيد بن ميناء راوي الحديث عن جابر، قال الراوي عنه: قلت لسعيد: ما تشقحت ؟ قال: تحمار وتصفار ويؤكل منها. قال الخطابي: والشقحة ثون غير خالص للحمرة والصفرة إنما هو تغير لونه لهما في كمودة ؛ ولهذا قال: تحمار وتصفار، لم يرد به اللون الخالص، وإنما يستعمل ذلك في اللون المتميل، يقال: ما زال يحمار مرة ويصفار أخرى، فإذا أرادوا استقرار لرنه قالوا: احمر واصفر. وجاء هذا اللفظ في الكتاب - أيضًا - وفي حديث عطاء عن جابر: " حتى تشقه "، بالهاء، كذا ضبطناه على سفيان بن العاص بسكون الثين، وعلى القاضي الشهيد بفتحها. وتفسيره - أيضًا - في الحديث، قال: والإشقاه أن يحمر ويصفر ويؤكل منه شيء. قال بعضهم: روي:" تشقنح " بالحاء. وقال غيره: الهاء تبدل من الحاء كما قيل: مدحه ومدهه.
وفيه دليل أنه لا يشترط في بدو الصلاح تمام الطيب، وأنه لا يعتبر بها الوقت الذي جرت عادة الطيب فيه. وقد ذهب العلماء إلى اعتبار الوقت. وإنما يغير في غير هذه الثمرة مما تجاورها فتباع بطيها. وأما هي في نفسها فإن بكرت عن الوقت بيعت ولم يعتبر الوقت.
أحاديث كراء الأرض(6/82)
ذكر مسلم حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كراء الأرض، ومن رواية أخرى:« من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها أخاه، فإن أبي فليمسك أرضه »، وفي رواية أخرى "ولا يؤاجرها إياه "، ومعنى " يمنحها "، يعطيها إياه ليزرعها سنة، ومن رواية أخرى: أنهى أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ، ومعناه: يمسك، وفي رواية أخرى: "ولا تبيعوهاأ قال جابر: يعني الكراء، وفي رواية أخرى: كنا نخابر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنصيب من القصري، ومن كذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« من كانت له أرض » الحديث، كذا رويناه عن اكثرهم بكسر القاف والراء وصاد مهملة. وعن الطبري بفتح القاف والراء مقصور، وعن ابن الحذاء بضم القاف مقصور، والصواب الأول. قال أبو عبيد: القصارة ما يبقى من الحب في السنبل. وقال ابن دريد: القصارة: ما يبقى في السنبل بعد ما يدرس. وأهل الشام يسمونه القصري، ومنهم من يقول: قصرى بكسر القاف، على وزن فعلى، وفي الرواية الأخرى:كنا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناخذ الأرض بالثلث والربع والماذيانات، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فقال:" من كانت له أرض " الحديث، وفي رواية أخرى: كنا نكرى أرضنا ثم تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خديج. وفي رواية أخرى: نهى عن المزابنة والحقول، وكراء الأرض، وفي بعض طرقه: نهى عن المزارعة، كذا رواية الصدفي / والخشني من شيوخنا. وعند الأسدي: عن كراء المزأرع، وذكر حديث أبي سعيد، وفيه النهي عن المحاقلة، قال: والمحاقلة: كراء الأرض.(6/83)
ذكر حديث ابن عمر: كنا لا نرى بالخبر باسًا، أو الكراء، شك إبراهيم بن مسلم حتى كان عام أول، فزعم رافع أن النبي - عليه السلام - نهى عنه، كذا ضبطناه بالكسر وهو من الأسدي، والصدفي، ورويناه من طريق الطبري: " الخبر " بالفتح. وفي كتاب التميمى: "لخبر"، بالضم، وكله بمعنى المخابرة، ووجهه الكسر والفتح، كذا قاله أبو عبيد كذا قال بعد هذا ابن عباس وهو الحقل، وهو بلسان الأنصار: "المحاقلة".
وفي الرواية الأخرى: أن ابن عمر كان يؤجر الأرض فأخذ حديثًا عن رافع وذكر الحديث. وفي أخرى: فتركه ابن عمر ولم يأجره. كذا جاءت الرواية عند كافتهم، وعند السمرقندي: "يأخذ "، وصوابه " يؤجر، في الموضعين. وقد يخرج " يأجر " على اللغة الأخرى. فيمن قال: أجرته بغير مد. وفي الرواية الأخرى: فقال ابن عمر: لقد كنت أعلم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الأرض تكرى، ثم خشي أن يكون رسول الله أحدث في ذلك شيئًا لم يكن علمه، فترك كراء الأرض.(6/84)
وذكر حديث رافع: كنا نحاقل الأرض على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى، ثم ذكر عن بعض عمومته: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نحاقل الأرض فنكريها على الثلث والربع والطعام المسمى، وأمر رب الأرض أن يزرعها أو بزرعها، وكره كراءها وما سوى ذلك. وفي رواية أخرى: عن عمه نافع بن ظهير، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألني:« كيف تصنعون بمحاقلكم ؟»، فقلت: نؤاجرها على الربع والأوسق من التمر والشعير قال: " فلا تفعلوا، ازرعوها أو أزْرِعوها ». كذا رويناه من طريق السجزي والفارسي. وعن العذري وابن ماهان: " الربع " مكان "الربيع". والربيع الساقية. وفي رواية أخرى: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كراء المزارع. قلت: أبالذهب والورق ؟ قال:" أما بالذهب والورق فلا بأس به "، وفي أخرى: إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الماذيانات، وإقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ولمجملم هذا، ولمجعلم هذا ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراء لكل هذا، فلذلك زجر عنه فاما بشيء معلوم مضمون فلا بأس به. وفي رواية أخرى: كنا نكرى على أن لنا هذه ولهم هذه. وذكر حديث ئابت بن الضحاك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزارعة، زاد في آخره: وأمرنا بالمؤاجرة، وقال: لا باس بها. وذكر حديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عنه قال: " لأن يمنح الرجل أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها خرجا معلومًا.
قال الإمام: الماذيانات: ما ينبت على الأنهار الكبار وليست بالعربية، ولكنها سوادية. والسواقي دون الماذيانات.(6/85)
قال القاضي: ضبطنا هذا الحرف في كتاب مسلم بكسر الذال، وضبطناه عن بعض شيوخنا في غير مسلم بفتحها. قيل: هي مسائل المياه. وقال سحنون: الماذيانات: ما يغبت على حافتى مسيل الماء، وقيل: ما ينبت حول السواقي من الخصب. " وأقبال الجداول " بفتح الهمز، أوايلها. والجداول: السواقي، ومثله الربيع. قال ابن الأعرابي: هو الساقية الصغيرة بلغة أهل الحجاز، وجمعه الربعان، وقال الخليل: الأربعاء: الجداول، جمع ربيع. وقال غيره: هي خطوط الماء في الأرض. وحكى عن القابسي أنه قال: معناه: أن لصاحب الأرض من النبات الذي يزرع على جانبي الربيع، ونحوه قول أبي عبيد وغيره، قالوا: كانت تشرف على المزارع يزرعها خاصة لرب المال سوى شرط الثلاث والربع.
???? وقوله:"أمركان بنا رافقًا "، أي " ذا رفق، كما قال /:
كلينى لهم يا أميمة ناصب
أي: ذا نصب.(6/86)
وقوله:« فليزرعها هو أو يمنحها أخاه، وبجعلها له مزرعة، فإن أبي فليمسك هذا أرضه، فقلت: ذلك معه »، قال الإمام: اختلف الناس في منع كراء الأرض على الإطلاق، فقال به طاووس والحسن. أخذًا بظاهر الحديث الذي ذكرناه ؟ أنه نهى عن كراء الأرض فعم، وأنه نهى عن المحاقلة، وفسرها الراوي بكراء الأرض، وأطلق أيضًا. وقال جمهور العلماء: إنما يمنع على التفسير دون الإطلاق. واختلفوا في ذلك، فعندنا أن كراءها بالجزء لا يجوز من غير خلاف، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقال بعض الصحابة وبعض الفقهاء بجوازه ؛ تشبيها بالقراض، وأما كراؤها بالطعام مضمونا في الذمة فأجازه أبو حنيفة والشافعي لقول رافع في آخر حديثه: فأما بشيء معلوم مضمون فلا باس به. وحمل ذلك أصحابنا على تفسير الراوي واجتهاده فلا يلزم الرجوع إليه، وقال ابن رافع من أصحاب مالك: يجوز كراؤها بالطعام أو غيره، كان ينبت فيها أولاً، إلا الحنطة وأخراتها إذا كان ما تكرى به خلاف ما يزرع فيها. وقال ابن كنانة من أصحاب مالك: لا تكرى بشيء إذا أعيد فيها نبت، ولا باس بغيره، كان طعاما أو غيره. وقد أضيف هذا القول إلى مالك. وقد تعلق أصحابنا بما روى أنه نهى عن كراء الأرض بالطعام فعم، وكان الناهى عنها يقرر أنه على ملك رب الأرض، كانه باعه بطعام فصار كبيع الطعام بالطعام إلى أجل، وكذلك المشهور من مذهبنا النهي عن كرائها بما تنبته وإن لم يكن طعاما، لما روى أنه نهى عن كراء الأرض بما يخرج منها. وقد قال ابن حنبل: حديث رافع فيه ألوان ؛ لأنه مرة حدث به عن عمومته، ومرة عن نفسه. وهذا الاضطراب يوهنه عنده.(6/87)
وقد خرج مسلم أن رافعًا سئل عن كراء الأرض بالذهب والورق، فقال:" لا باس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الماذيانات وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا فلم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك زجر عنه، فأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس به "، وهذا إشارة منه إلى أن النهي تعلق بهذا الغرر، وما يقع في هذا من الخطر ؛ ولهذا اضطرب أصحاب مالك فيه، وقالوا فيه ما ذكرنا عنهم من الاختلاف.(6/88)
وفي بعض طرق مسلم:" كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك، وأما الورق فلم ينهنا "، قال القاضي: اختلفت الأحاديث بما ذكرناه. واختلفت فيها علل المنع، هل ذلك لاشتراطهم ناحية منها، وما زرع على الجداول والسواقى، أو لأنهم كانوا يكرونها على الجزء، أو لأنهم كانوا يكرونها بالطعام والأوسق من التمر. وهذا كله من الغرر والخطر، أو لقطع الخصومة والتشاجر على ما جاء في حديث عروة: أتى رجلان من الأنصار وقد اقتتلا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع »، فكان نهيه نهى تأديب وللرفق والمواساة كما قال ابن عباس: لم يحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - المزارعة، وفي أراد أن يرفق بعضهم ببعض وبهذا ترجم البخاري على الحديث: ما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواسى بعضهم بعضا في المزارعة، وفي الثمر والجداول. واختلافهم في كراء الأرض سوى ما تقدم، فذهب ربيعة إلى أنه لا يجوز أن يكرى بغير الذهب والورق واعتمادا - والله أعلم - على حديث رافع، وأجازها بالجزء الليث، على خلاف عنه، وأتبعه من أصحابنا يحيى بن يحعص والأصيلى، وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن وأبي يوسف وأحمد بن حنبل في آخرين. وقال المغيرة صاحب مالك: لا باس بكراء الأرض بطعام ولا يخرج منها، حكاه عن ابن سحنون وحكى غيره عنه مثل ما قال أصحابه: لا يجوز بالطعام.
كتاب المساقاة(6/89)
وقوله:" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من تمر وزرع"، وفي الرواية الأخرى:" على أن يعملوها / من أموالهم ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شطر ثمرها "، قال الإمام: ذهب مالك والشافعي إلى جواز المساقاة لأجل هذا الحديث، وأنكرها أبو حنيفة لأجل ما فيها من الغرر، وبيع الثمر قبل الزهو، وحمل حديث خيبر على أنهم كانوا عبيدًا له فما أخذ له وما أبقى له، وهذا لا نسلمه له ؛ لأننا لو سلمنا له أنه فتحها عنوة، وأنه أقرنهم على نحو ما قال، لم يجز الربا بين العبد وسيده، فلا يغنيه ما قال. والقائلون بجواز المساقاة اختلفوا، فمنعها داود إلا في النخل خاصة، ومنعها الشافعي إلا في النخل والكرم، وأجازها مالك في سائر الشجر إذا احتيج فيها للمساقاة. والمشهرر عندنا منعها في الزرع إلا إذا عجز عنه صاحبه، وأما داود والشافعي فرأياها رخصة،. فقصراها على ما وقعت عليه، فلم يتحقق داود إلا النخل خاصة، ولم يتحقق الشافعي إلا النخل والكرم، ونحن قسنا بقية الشجر عليهما لكونهما في معناهما، ولا مانع من القياس إذا عقل المعنى، ومتى تجوز المساقاة فمذهبنا جوازها ما لم تطيب الثمرة. وعندنا في جوازها بعد أن طابت قولان، وعند الشافعي: لا تجوز المساقاة وقد ظهرت الثمرة، وقد رأى الظاهر منها مملوك جميعه لرب النخل وهو عين قائمة، فكأنه باع نصفه قبل الزهو لخدمة العامل. وعندنا أن المعاملة إنما وقعت على التنمية بنصف النامي وذلك غير موجود، والموجود قبل هذا غير مقصود، فلا يؤثر في جواز المساقاة.(6/90)
قال القاضي: اختلف في افتتاح خيبر، هل كانت عنوة أو صلحا، أو جلاء أهلها عنها بغير قتال، أو بعضها صلح وبعضها عنوة، وبعضها خلا عنه أهله رغئا، أو بعضها صلحا وبعضها عنرة ؟ وهذا أصح الأقاويل، وهي رواية مالك ومن تابعه وقول ابن عقبة، وفي كل وجه ترمز فيه رواية مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ظهر على خيبر اراد إخراج اليهود منها، وكانت الأرض حين ظهر لله ولرسوله وللمسلمين يدل ظاهره على العنوة ؛ إذ حق المسلمين إنما هو في العنوة، وهو قول من قال: صلحا، انهم صولحوا على ترك الأرض. وقد يكون معنى قوله: " لله ولرسوله وللمسلمين "، يعني بمجموع قسمتها، أي قد كان منها عنوة فهذا حكمه، وما كان صلحا فلله ولرسوله.
وقوله:" من ثمر أو زرع "، يحتج الليث والشافعي، ومن قال بقولهما في كراء الأرض بالجزء منها، وفي جواز المساقاة والمزارعة معا. ومالك في آخرين يمنعون من اجتماعهما، ويمنعون المزارعة بالجزء، ويجيزون المساقاة إلا ما كان تبعًا من الأرض يبقى الثمار، فيجوز عند مالك دخوله في الشرط أو إلغاؤه للعامل. وأبو حنيفة وزفر يمنعانهما مجتمعين أو مفترقين ولا يجيزونهما. وابن أبي ليلى في بقية الكوفيين وفقهاء أصحاب الحديث يجيزرنهما مجتمعين ومفترقين ويقضى على ظاهر هذا الحديث عندنا الحديث المتقدم في النهي عندنا عن المخابرة وكراء الأرضر بجزء، ويتأول على الحديث تأويلات ؟ إما أن يكون الزرع تبعًا للنخل، أو يكون كل عقد منفرد فزارع قوما بالشروط الجائزة في المزارعة ويساقي آخرين.(6/91)
وقوله:" أقركم بها على ذلك ما شئنا "، وفي "الموطأ":" ما أقركم الله": عائد على إقرارهم في خيبر ؛ إذ كان في نيته - عليه السلام - إخراجهم منها، وإجلاء أهل الأديان من جزيرة العرب، كما صرح به وأمر آخر عمره، وكما دل عليه هذا الخبر وغيره من إنذاره بذلك. ولا حجة عليه لأهل الظاهر في إجارتهم المساقاة المبهمة لأجل هذا اللفظ، أو فلأجل المجهول، ومالك والثوري والشافعي وجمهور علماء المدينة وغيرهم - ممن يجيز المساقاة - لا يجيزونها إلا لاءمد معلوم، وسنين معدودة. وقال أبو ثور: إذا وقعا فهو لسنة واحدة. وحكى ابن المنذر عن بعضهم جوازه، وقيل: ذلك خصوص للنبى?- عليه السلام - وفي أول الإسلام، وقيل: جاز ذلك لأن الكل جاز عنوة وهم عبيد له، ويجوز بين العبد وسيده / ما لا يجوز بين، الأجنبيين، وقيل: ليس فيه دليل على إلزام الأجل، وأن مقتضاها ليست مؤبدة، ولأن الحكم أن لنا إخراجكم، وهذا حكم المساقاة والمزارعة: أن تمام الثمرة وحصاد الحرث ينقضى أمرهما، إلا أن يستأنفا عامًا آخر، إلا أن يشاء المستلف عمل عام آخر أو زرع بطن استئنافا آخر وعن تنبيه على أنهم....، وقد جاء بأفسر من هذا في غير "الأم".
وقوله:" على أن يعتملوها من أموالهم "، أصل وحجة في أن سنة المساقاة كلها على العامل وجميع المؤونة والنفقة والأجر والدواب والآلات، إلا ما كان منها في الحائط حين المساقاة فهو عندنا للعامل ينتفع به وإن لم يشترط.
وقوله: " شطر ما يخرج منها "، دليل على تسمية الجزء في المساقاة، وأنها لا تجوز مبهمة، وهذا أيسر ما روى في حديث مالك عنهما: "على أن الأرض بيننا وبينكم "، فإن كان على هذه كما تقدم، فمؤونة الشركة والمساقاة جائزة عند من يجيزها من العلماء بما اتفق عليه من الجزء قل أوكثر.(6/92)
وقوله: " فكان يعطى أزواجه كل سنة مائة وسق، ثمانين وسقًا من تمر، وعشرين من شعير "، يصحح أن البياض كان أقل من التمر، هكذا كان قسمه - عليه السلام - لمن قسم له من ماله وغيرهم من مال خيبر، الذي أقره ولم يقسمه والذي وجب في الخمس، وقد قسم منها على من افتتحها ومن غاب من أهل الحديبية، خاصة ما قسم منها وهو الذي افتتح عنوة كا والخبر في ذلك معروف. وفيه حجة على جواز قسمة الأرض العنوة، وهو مذهب الشافعي، تقسم على مفتتحيها كما تقسم الغنائم،و حجته هذا الحديث، وقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر على من حضرها ومن غاب من أهل الحديبية، وعموم قوله تعالى: { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه }.
ومالك وأصحابه يرون إبقاءها للمسلمين لمن حضرها ومن لم يحضرها، ومن يات من المسلمين إلى يوم القيامة، على ما صنع عمر بارض العراق ومصر والشام، واحتج بقوله تعالى:{ والذين جاءوا من بعدهم }، وتأول عطفه على قوله:{ للفقراء المهاجرين }، وذهب الكوفيون إلى تخيير الإمام في قسمتها أو إقرارها بيد أهلها، وتوظيف الخراج عليها،و تصير ملكا لهم كأرض الصلح.(6/93)
وقوله: " وكان الثمر يقسم على السهمان من نصف خيبر فيأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخمس "، فبين أنها عنوة، ومنها على ما تقدم أولاً بخمس إلا ما أخذ عنوة، وهذا كما قال في نصف خيبر، وهذا يدل أن المسلمين كلهم مع النبي عاملوهم في جميع الأرض، فما كان عنوة أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسه، وأقسم أهل السهام أربعة أخماس. وقد تقدم اقتسامهم ما كان من أرض خيبر، وأنها اقتسمت على السهام، فإن كان ذلك القسم إنما هو كان عرف كل واحد ما يصير له من الأرض على الإشاعة، فعليه يأتي ظاهر هذا اللنظ المتقدم، وإن كانت السهام ضربت على الأرض فقد تميزت لكل واحد أرضه، فيكون معنى قوله:« إن الثمر تقسم على السهمان »، أي: ثمر كل سهم يقسم بين عامله وصاحبه. وفي فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فرض لأزواجه ما ذكر، وكذلك فرض لبنى هاشم وبنى المطلب على ما ذكر أصحاب السير وغيرهم: جواز إرضاخ الإمام من الفئ والخمس لقرثر ولذوى القربى ولأهل الفضل والدين والسنن، وتفضيل بعضهم على بعض حسبما روى في ذلك. وفيه حجة أنه ليس لأولى القربى فيه خمس الخمس، ولأنه على التسوية، الغني والفقير سواء، وللفارس الذكر منهم سهمان، وللأنثى سهم في هذا كله، بل ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام. قال عمر بن عبد العزيز. لم يعمهم - عليه السلام - بذلك، ولم يخص قريبا دون ما هو أحوج منه.
وقوله: " ولما ولى عمر قسم خيبر "، يعني أجلى عنها يهودها لما بلغه من قوله - عليه السلام - في مرضه: "لا يبقين دينان في جزيرة العرب "، وسيأتي الكلام على هذا بعد إن شاء الله.
وقوله: " خير أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقطع لهن الأرض والماء أو يضمن لهن الأوساق كل عام "، إذ المال فيه إلى كفايتهن المؤونة.(6/94)
قوله في الآخر:" فلما ولى عمر قسم خيبر "، يعني قسم السهم الذي كان له - صلى الله عليه وسلم - وكان وقفه لعياله وعامله، وكان قسم هذا بعد أن أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز، وإنما خيرهن بين الإقطاع وضمان الأوساق مبالغة في صيانتهن وكفايتهن التبذل في تحصيل ذلك، ولم يكن هذا الإقطاع لمن اختاره منهن إقطاع تمليك ؛ لأنه لو كان كذلك لكان تغييرا لما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد قال عمر لعلى والعباس: لا أغير من أرضها شيئًا، فإن غيرت من أمرها شيئًا أخاف أن أزيغ. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:« ما تركت بعد نفقة عيالي ومؤنة عامله صدقة »، ووقف الأرض لذلك، وإنما كان إقطاع انحلال، وذلك أنه قسم الأوساق المائة على عدد الأزواج، فمن اختارت الأوساق ضمنها لها، ومن اختارت النخلة أقطعها قدر ذلك لتتصرف فيها تصرف المستعمل.
واختلف أصحاب الشافعي في إقطاع التمليك، والأظهر هنا أن يكون إقطاع استغلال لترفع عنهن في ذلك اليد العليا عليهن، ويتحكمن فيما أقطعن تحكم المالك. وقد جاء في الاثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعل الوجهين.?
تيماء وأريحاء ممدودان: موضعان.
وقوله:" ما من مسلم يغرس غرسًا إلا كان ما أكل منه صدقة " الحديث: فيه الحض على الغرس واقتناء الضياع، كما فعله كئير من السلف، خلافًا لمن منع ذلك. واختصاص الثراب على الأعمال بالمسلمين دون الكفار. وفيه أن المسبب للخير أجر بما تنفع به، كان من أعمال البر أو مصالح الدين. وقيل: وفيه حجة أن من زرع في أرض غيره أن الزرع له، وعليه كراء الأرض لما عم الزرع وخصه بذلك. وفيما قال نظر، وليس فيه بيان.(6/95)
قال الإمام: خرج مسلم في هذا الباب حديثًا عن الليث، عن أبي الزبير، عن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على أم بشر. هكذا في رواية أبي العلاء عند الجلودي: "أم مبشرًا "، وفي النسخة عند السجزي وأبي العباس الرازى: " أم معبد وأم مبشر " على اثك، والمحفوظ في حديث الليث بن سعد: "أم بشر". وذكر مسلم في حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت، الحديث. قال بعض العلماء: أم مبثر الأنصارية امرأة زيد بن حارثة، يقال: إنها أم مبشر بنت البراء، من كبار الصحابة، روى عنها جابر بن عبد الله.
قال القاضي: كذا في النسخ الداخلة إلينا من المعلم، والذي قال أبو علي الجياني الذي نقل كلامه: إن الصواب:" أم بشر"، قال: وكذا في ديوان الليث بن سعد قال: وقال لي أبو عمر: أم مبشر الأنصارية بنت البراء بن معرور زوج زيد بن حارثة، ويمال لها: أم بشر.(6/96)
قال القاضي: وهكذا هو في كتاب أبي عمر، يقال لها: أم بشر، في باب أم بشر. وذكرها -أيضًا - في باب أم مبشر،فقال: ويقال لها - أيضًا-: أم بشر، واسمها - فيما قيل -: خليدة، ولم يصح. ولم نجد في النسخ التي وصلت إلينا من مسلم ما ذكر شيخنا أبو على عنه، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، أخبرتنى أم مبشر، ولا في هذا السند عندنا في كتاب مسلم، لا من طريق شيخنا أبي على المذكور ولا غيره ذكر لأم مبشر، ولا نرى أم بشر، ولا لأم معبد، وإنما قال فيه ابن جريج: أنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:« لا يغرس رجل مسلم غرسًا »، الحديث، وإنما ذكر مسلم من رواية عمرو بن دينار. سمع جابر بن عبد الله يقول: دخل النبي - عليه السلام - على أم معبد أيضًا، فقال: " يا أم معبد، وذكر الحديث، وذكر - أيضًا - من رواية الأعمش عن أبي سفيان، عن جابر، عن أم مبشر، وفي رواية ابن فضيل عنه، عن امرأة زيد بن حارثة، وذكر - أيضًا - من رواية أنس بن مالك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل نخلاً لأم مبشر، امرأة من الأنصار.
قال الإمام: وخرج مسلم في الباب - أيضًا -: أخبرني أحمد بن سعيد بن إبراهيم، نا روح بن عبادة، نا زكريا بن إسحاق، عن عمرو، عن جابر، قال: إدخل النبي - عليه السلام - على أم معبد... الحديث. قال الدمشقى: هكذا هذا الإسناد - أيضًا - عند أبي الأزهر، يعني عن روح، عن زكريا، عن عمرو، عن جابر، والمشهور: عن زكريا، عن أبي الزبير، عن جابر، لا عن عمرو بن دينار. وأبو الأزهر هو أحمد بن الأزهر بن منيع النيسابوري، سمع عبد الرزاق وأبا أسامة وروح بن عبادة، ووهب بن جرير وغيرهم.
قال القاضي: وفي هذا السند في رواية الطبري: نا زكريا بن أبي إسحاق، بزيادة:" أبي "، وهو وهم، وإنما هو زكريا بن إسحاق الذي خرج عنه البخاري ومسلم عن عمرو بن دينار وغيره.(6/97)
وفي الباب في حديث الأعمش زاد عمرو في روايته عن عمار، وأبي بكر في روايته عن أبي معاوية، كذا في النسخ كلها عن أبي سفيان، وعند ابن الحذاء: وأبي كريب. قال بعضهم: الصراب: وأبو كريب. وذلك أن أول السند لأبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان، ولأبى كريب وإسحاق بن إبراهيم عن أبي معاوية وابن أبي شيبة - أيضًا - عن ابن فضيل، ولعمرو الناقد عن عمار بن محمد عن الاعمش، فالراوى عن أبي معاوية هو ابو كريب.
وقوله:« إن بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق ؟ »، قال القاضي: هذا يدل أن هذه اللفظة في الحديث الآخر:« أرأيت إن منع الله الثمرة » من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو بمعناه، وإن كان قد جاء في كتاب مسلم بعد هذا من قول أنس. وذكره من حديث مالك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الحديث الأول رفع الإشكال، ويصحح رواية مالك. قال الدارقطني: وقد خالف مالكًا فيه جماعة، فقالوا: قال أنس:" أرأيت إن منع الله الثمرة ". وقد خرج البخاري - أيضًا - الروايتين جميعًا كما فعل مسلم. وذكر مسلم حديث محمد بن عباد عن الدراوردي، عن حميد عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:« إن لم يثمرها الله فبم يستحل أحدكم مال أخيه »، قال الدارقطني: وهم ابن عباد والدراوردي في حين سماع ابن عباد منه. قال إبراهيم بن حمزة: رواه عن الدراوردي مفصولاً من كلام أنس، وهو الصواب وأسقط ابن عباد كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - منه، وأتى بكلام أنس فرفعه وهو خطأ. وذكر مسلم في الباب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوضع الجوائح.(6/98)
قال الإمام: اختلف الناس في الثمرة إذا اشتريت فأجيحت، فقال بعضهم: توضع الجائحة على الإطلاق، قلت أو كثرت ؛ لقوله:" أمر بوضع الجوائح "، وللحديث الآخر المتقدم وهو قوله:« لا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا» الحديث. ومن جهة الاعتبار أنها بقي السعى فيها على البائع لتنميتها، فكان ذلك كالتوفية بالكيل والوزن والمكيل أو المرزون إذا تلف قبل الكيل أو الوزن فهو من البائع، فكذلك هذا. وقال آخرون: لا توضع الجوائح قلّت أو كثرت، وقد ذكر هاهنا: إن أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فأمر - صلى الله عليه وسلم - بالصدقة عليه، ودفع لغرمائه. فلو كانت توضع لم يفتقر إلى هذا. وقال الأولون: قد تكون أصيبت بعد الجذاذ، وعليه دين من غيرها احتاج معه للصدقة، قالوا: وقد قال في آخر الحديث لغرمائه:" وليس لكم إلا ذلك "، ولو كانت الجوائح لا توضع لكان لهم الطلب بالبقية، وينفصل هؤلاء عن هذا بأن يحملوه على أن ليس الآن إلا ذلك لفلسه، وأنه ينظر إلى ميسرة، كما قال تعالى. وأما مالك فقال بوضعها إذا بلغت الثلث، وكأنه خص في الظواهر الأول بضرب من الاستدلال، وذلك أن الثمر لا تنفك من سقوط يسير منه، أو غير ذلك من الأسباب المتلفة للحقير منها، فكأن المشتري دخل على ذلك فلا قيام له به. وإذا وجب العفو عن اليسير فما قصر عن الثلث في حكم اليسير على ما دلت عليه الأصول. وقد قال بعض البغداديين من أصحابنا: الجائحة كاسمها، يشير إلى أن اليسير المغتفر لا يكاد يسمى في العرب جائحة، فلا يجب حمل الحديث عليه.(6/99)
قال القاضي: أما الحديث الآخر الذي ذكر مسلم في الذي أصيبت ثماره التي ابتاع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:« تصدقوا عليه »، وقال لغرمائه:« خذوا ما وجدتم عليه فليس لكم إلا ذلك »، ولا حجة فيه للشافعى في قوله الذي رجع إليه وهو قول أبي حنيفة، والكوفيين والليث في ترك القول بوضع الجوائح وهذا حكم في عين، ولعله اشتراها بعد تمام طيبها وإمكان جذاذها وسقوط حكم، ولا معارضة فيه للحديث الأول العام المقصود به البيان لوضح الجوائح منها على قول من يقول بالجوائح، إلا ما ورد لابن كنافة من أصحابنا في أنها توضع بكل حال، أخذ بعموم الحديث ونحوه لابن القاسم. و في هذا الحديث الحض على الصدقة على المديان ليقضى منه دينه، وأن الحر لا يباع في الدين على ما كان في أول الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى:{ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلن ميسرة }.
وقوله - عليه السلام -:« خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك »،/ فيه أنه لم يصرح لهم بلزومه، خلافًا لأبي حنيفة، وإسحاق خلاف الشافعي من قوله: يستحق أبدًا حتى يؤدي غرمه، وخص الآية بالربا الذي وردت فيه....
وفيه: للحاكم أن يسلم للغرماء جميع ما يملكه، ويسوغه لهم الحاكم إن كان دينهم من جنس دينهم، والا باعه لهم الحاكم وقسم بينهم بمثله، أو اشترى لهم ما لهم من عروض، إن كان دينهم عروض أو ما بلغ، إلا أن يرضوا أخذه في جميع دينهم، ودينهم أكثر مما يبلغ في البيع فهم أخذته ما لم يكن مما لا يجوز قبضه عن دينهم. وفي قوله في حديث أنس، ينهى عن بيع النخل حتى يزهو، ثم قال:« إذا منع الله الثمرة، بم يستحل أحدكم مال أخيه ؟» ولعل ظاهر هذا أن هذا الحديث فيما يبلغ قبل زهوه. وهذا مما لا يختلف فيه، إنما هو بيع الثمر قبل زهوه، والمقتفون الأثر وهم الكافة، فإن جائحته من بائقه ؛ لأنه بيع فاسد لم يقبضه فيشتريه فيفوت بقبضه وهو في ضمان بائعه بعد.(6/100)
قال الإمام: خرج مسلم في باب الجوائح حديثين مقطوعين: أحدهما: قوله: حدثنا غير واحد من أصحابنا، حدثني إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثني أخي، الحديث. وهذا الحديث يتصل لنا من طريق البخاري. ورواه البخاري عن إسماعيل بن أبي أويس. وقد حدث مسلم عن إسماعيل دون واسطة في كتاب الحج، وفي آخر كتاب الجهاد. وروى -أيضًا - عن أحمد بن يوسف عن إسماعيل بن أبي أويس الأزدي في كتاب اللعان، وفي كتاب الفضائل.
وأما الحديث الثاني المقطوع - أيضًا - في هذا الباب فهو قوله: روى الليث بن سعد، حدثنى جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز - الحديث.
قال القاضي: أما قول الراوي: حدثنى غير واحد، أو حدثني البتة، أو حدثني بعض أصحابنا، فهذا لا يدخل في باب المقطوع ولا المرسل ولا المعضل عند أهل الصناعة، وإنما يدخل في باب المجهول. ولعل البخاري أخذ الحجة من مسلم له.
وقوله: " يسمع النبي صوت خصوم بالباب "، خصوم تجمع خصم، وتجمع - أيضًا - خصمًا. والخصم يقع للواحد والجمع، قال الله تعالى: {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب }، وقال:{ خصمان بغى بعضنا على بعض }.
ومعنى قوله:" وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه "، أي يطلب منه أن يضع له من دينه، ويحطه ويرفق به. وهذا جائز، وهو فعل معروف وسؤاله معروف أيضًا. وقد جاء مرة لمالك كراهته لما فيه الاستهزاء والامتهانة، إلا أن تدعو إليه ضرورة.(6/101)
وقوله:« أين المتألي على الله لا يفعل المعروف »، أي الحلاف. والألية اليمين، ومثله الألوة، والألوى، والألوة، ولم يعرت الأصمعي إلا الفتح، يقال: آليت بالمد، وائتليت وتأليت، قال الله تعالى:{ للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر }، وقال:{ ولا يأتل أولوا الفضل }، وذكر الحديث في "الموطأ"، ولم يذكر فيه سماع النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم. وقد جاءت أم المشتري إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال للمتألي:« ألا يفعل خيرًا »، فيحتمل الجمع بين تعارض الحديثين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع أصواتهما - كما ذكر مسلم - ولم يتبين كلامهما حتى أخبرته به أم أحدهما، كما قال مالك. وقال في كتاب مسلم: يا رسول الله ! له أي ذلك أحب، وهذا تفسير ما جاء في رواية مالك: يا رسول الله ! هو له. قال مالك في "العتبية": لا أدرى قوله: "هو له " الوضيعة أم بكل ماله.
قوله في حديث كعب بن مالك:" تقاضى ابن أبي حدرد دينًا له "، وذكر ارتفاع أصواتهما في المسجد، فيه جواز المخاصمة في المسجد وطلب الحقوق فيه، وحكم الحاكم فيه بين الناس ؛ لأن ذلك كله من إقامة شرائع الدين ومصالح المسلمين.
وفي إشارة النبي له أن:" ضع الشطر " بيان أن الإشارة تقوم مقام اللفظ، وبهذا نجيز عقود البكم وأنكحتهم، وبيعهم وشهاداتهم. وفيه حض الإمام على الصلح بالإشارة والندب لا بالإماء. وفيه أن الصلح على النصف مرغب فيه وعدل بين المتصالحين / " وسجف حجرته ": سترها، يقال بفتح السين وكسرها.
وقوله:« من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس، فهو أحق به من غيره»، وفي رواية:"من الغرماء "، وفي الرواية الأخرى في الذي يعدم إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه:« أنه لصاحبه الذي باعه »، يقال: أفلس الرجل، بفتح اللام، إذا أعدم المال. وأصله صار ذا فلوس بعد أن كان دنانير ودراهم، فهو مفلس.(6/102)
قال الإمام: اختلف الناس في مثترى السلعة إذا مات أو أفلس، ولا وفاء عنده بثمنها وهي قائمة، فقال الشافعي: بائعها أحق بها في الموت والفلس. وقال أبو حنيفة: هو أسوة فيهما. وقال مالك: هو أحق به في التفليس وأسوة في الموت. وحمل أبو حنيفة هذا الحديث على أن المتاع وديعة أو غصب ؛ لأنه لم يذكر البيع فيه. وتأويله هذا يرد ما خرجه أبو داود أنه - صلى الله عليه وسلم - قال:« أيما رجل باع متاعًا ما فلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا، فوجد متاعه بعينه، فهو أحق به، فإن مات المشتري فصاحب المتاع، أسوة غرماء ». وقال أيضًا:« فإن قضاه من ثمنها شيئًا فما بقي فهو أسوة غرماء، وأيما امرئ هلك وعنده متاع امرئ بعينه اقتض منه شيئًا أو لم يقتض، فهو أسوة غرماء »، فقد قصرها هنا على البيع، ولا معنى لقول من قال منهم: قد يكون البيع هاهنا بمعنى التساوم كما قلتم أنتم في البيعين بالخيار، أن معناح: المتساومان، وأنه قد ذكرها هنا، ولم يقض الذي باع من ثمنه شيئًا، وقال: فإن قضاه من ثمنها شيئًا ولا يصح أن يقضى من ثمنها شيئًا وهما متساومان. فإذا أوضح الرد على أبي حنيفة عندنا بعد ذلك إلى مالك والشافعي، فيقول مالك: قد فصل في هذا الحديث بين الموت والفلس، والشافعي ساوى بينهما، فيقول الشافعي: إنه قد خرج أبو داود فقال: أتينا أبا هريرة في صاحب لنا أفلس، قال: لأقضين فيكم بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « إن فلس أو مات، فوجد رجل متاعه بعينه، فهو أحق به »، فقد ساوى هاهنا بين الموت والفلس،وأنتم تفرقون بينهما، فلابد من طلب الترجيح، فيقول: قد يحتمل ما تعلق به الشافعي أنه في الودائع لا في البيع ؛ لأنه إنما ذكر: فوجد رجل متاعه بعينه، وقد يكون ذلك غصبا أو تعديا، وقال بعض أصحابنا: لعله مات وقد تبين فلسه وطلب هذا سلعته، فبادره الموت، على أنه لم ينقل لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويمكن ان يكون لو نقله لتأولناه على(6/103)
غير ما حمله عليه، هذه طريقة الترجيح لنا على الشافعي.
وأما قوله في الحديث:« فإن قضاه من ثمنها شيئًا، فما بقي فهو أسوة الغرماء »، وظاهره أنه ليس له استرجاع السلعة، وقد قال بعض من أخذ بهذا الحديث: إن هذا الظاهر منه متروك بالقياس ؛ لأنه إذا ثبت أنه أحق بالكل كان أحق بالجزء، وإنما كان له ارتجاعها في التفليس لعيب الذمة التي دخل عليها، فصار كمن وجد فيما اشتراه عيبًا فله رده، وإنما لم يرد في الموت، وإن غابت الذمة لانقطاعها رأسًا فيعظم ضرر بقية الغرماء وفي الفلس لا يعظم ضرر إذا قدم عليهم لبقاء ذمة غريمهم. وإذا وضح هذا من جهة القياس كان له رد ما قبض وارتجاع السلعة، فإن أراد الغرماء دفع الثمن إليه ليمنعوه من أخذ سلعته كان ذلك لهم ؛ لأنه إنما كان به ارتجاع السلعة لعلة فقد الثمن، فإذا زالت العلة زال حكمها، وأبي ذلك الشافعي، ولم يسقط حقه في الارتجاع بدفعهم الثمن إليه، واعتل له بأنه قد يطرأ غريم آخر، فلا يرضى بما صنعه الغرماء من تسليم بعض مال الغريم في هذه السلعة وتفاوت سلعتها، فيلحقه الضرر في ذلك.
خرَّج مسلم في هذا الباب: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا هشام بن سليمان، عن ابن جريج، الحديث. هكذا في رواية أبي العلي والكسائي، وأما في رواية الجلودي، فجعل "ابن نمير" بدل "ابن أبي عمر"، والصواب: ابن أبي عمر، وقد تقدم في كتاب الحج حديثان:
أولهما: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنى هشام بن سليمان أحدهما في حديث حفصة:" ما شاء الناس حلوا ".
والثاني: حديث:" لا تسافر المرأة إلا مع /ذى محرم "، وفي كتاب الأشربة حديث آخر رواه ابن أبي عمر عن هشام بن سليمان. وابن أبي عمر هذا هو محمد بن يحيى العدني، يعد في أهل مكه. وهشام بن سليمان مكي أيضًا.(6/104)
وخرَّج مسلم - أيضًا - في كتاب التفليس حديث شعبة عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:« إذا أفلس الرجل، فوجد متاعه بعينه، فهو أحق به »، ثم عقب بعده حديث زهير بن حرب، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة بهذا الإسناد مثله. هكذا روى أبو أحمد الإسنادين. الأول من حديث شعبة، والثانى من حديث سعيد. ووقع في رواية ابن ماهان في الإسناد الثاني "شعبة " مكان " سعيد "، والصواب ما رواه أبو أحمد، هكذا قال بعضهم.
قال القاضي: ما ذكره عن أبي داود في الحديث من ذكر البيع والنص على الفرق بالفلس والموت، هو نص حديث مالك في "الموطأ"، لم يختلف أصحاب الموطأ فيه، ومن رواية القعنبي عنه أدخله أبو داود واللخمي، ورواية مالك في "موطئه" أقوى لنا من غيره، ولا يعارضه الحديث الآخر الذي يقول فيه: " بين الموت والفلس "، فرواية أبو معمر: وقد قال أبو داود بإثره: من يأخذ بهذا ؟ وأبو المعتمر من هو ؟ أي لا يعاف، مع أن أحاديث الفلس صحيحة مشهورة من رواية الكافة من المنصفين الثقات، وعن رواية مالك وغيره من النص على زيادة الموت والتفريق بينه وبين الموت مثل هذا القياس، ولا يضطر فيه إلى تأويل ما عارضه من الحديث المحمول بهذا كالاحتجاج به، ولا ينبعث إلى من أخذ هذا الحديث من الكوفعن وما رووه فيه عن على وابن مسعود على ضعف طريق ذلك ؛ إذ لا يعارض بمثل هذا ولا بمقايسهم وتسهيلاتهم للسنن الثابتة الصحيحة.(6/105)
وذكر مسلم في الباب: حدثنا محمد بن أحمد بن أبي خلف وحجاج بن الشاعر، قال: حدثنا أبو سلمة الخزاعي، قال حجاج: حدثنا منصور بن سلمة. كذا في أكثر نسخ مسلم، وكذا عند شيوخنا كلهم. أما عند ابن عيسى: قال حجاج: هو منصور بن سلمة، وهو الصواب ؛ لأن منصور بن سلمة اسم أبي سلمة الخزاعى. بينه حجاج في حديثه، وغير ذلك خطأ، إلا أن يتأول قوله: نا منصور بن سلمة: أن ابن أبي خلف وحده وهو الذي أكناه، فقد يخرج على هذا ؛ إلا أنه بعيد بعد قوله: قالا: نا، أي أبو سلمة. قال البخاري: منصور بن سلمة أبو سلمة الخزاعي بغدادي. وفي سند الحديث الأول أربعة من التابعين، روى بعضهم عن بعض: يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمد بن حزم، عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن أبي هريرة.
وذكر مسلم حديث حذيفة في ثواب إنظار المعسر والتجاوز عن الموسر. ومعنى الإنظار: التأخير، وهو بمعنى قوله في الرواية الأخرى في رواية أبي قتادة:"فلينفس عن معسر،، أي يؤخر ويملي له في الأجل، ومنه: قوله تعالى: { والصبح إذا تنفس }، أي إذا امتد حتى يصير نهارًا بينا، ومنه: نفس الله في أجله، وقد يكون معنى أينفس عن معسر، أي: يفرج. وفيه في الحديث: « من نفس عن مسلم كربة »، أي فرج، وفي الرواية الأخرى:" فآمر فتياني"، وفي الرواية الأخرى:" غلماني أن ينظروا المعسر، ويتجوزوا عن الموسر "، والتجاوز والتجوز: المسامحة في الاقتضاء، كما في الرواية الأخرى. والتجاوز في هذا كله. فجعل التجاوز والمسامحة والإنظار للمعسر وحسن المعاملة، وأن الله قد تجوز عنه بذلك، وغفر ذنوبه، وأنه لا يستحقر شيء من فعل الخير، أو لأمرهم بالحض عليه، وأن الله قد يفسح لعبده ويتجاوز عنه، وينجيه من عذابه بالقليل من عمل الخير، كمثل هذا الذي قد اعترف أنه لم يعمل من الخير شيئًا إلا هذه المسامحة والإنظار. وفيه جواز الإذن للمعسر في التجارة، وتوكيله عليها وعلى الهبات والتأخير.(6/106)
وقوله في الحديث الآخر:" أقبلُ الميسور، وأتجاوز عن المعسور "، قال شيوخنا: أقبل بفتح الهمزة وسكون القاف وبعدها باء بواحدة مفتوحة من المعسور. والميسور هاهنا وصف لما يسر من الدين. ووقع عند ابن أبي جعفر:" أقيل " بضم الهمزة وكسر القاف وياء باثتين / تحتها، من الإقالة. ويتأول مكانهما الميسور في صاحب الشيء الميسور، وكذلك التجاوز عن المعسور والشيء المعسور ؛ لأنه لا يقال للغريم: ميسور ولا معسور.
وقوله في الحديث الآخر:" وأتجوز في السكة أو في النقد "، كذا لهم، كان شك من الراوي، أي وأحد اللفظين. وعند السمرقندي: أو التقدم، وهو خطأ ووهم.
قال الإمام: وخرَّج مسلم في إنظار المعسر والتجاوز عن الموسر: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن سعد بن طارق، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة قال:" أتى الله بعبد من عباده آتاه الله مالاً "، وذكر الحديث إلى آخره. وعن عقبة بن عامر الجهني وأبي مسعود الأنصاري، هكذا سمعناه من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هكذا روى هذا الإسناد في كتاب مسلم، والحديث محفوظ لأبي مسعود وعقبة بن عمرو الأنصارى وحده، لا لعقبة بن عامر الجهني، والوهم في هذا الإسناد من ابى خالد الأحمر، قاله الدارقطني. وصوابه: فقال عقبة بن عمرو أبو مسعود الأنصارى، كذلك رواه أصحاب أبي مالك سعد ابن طارق، وتابعهم نعيم بن أبي هند وعبد الملك بن عمير، ومنصور وغيرهم عن ربعي بن خراش، عن حذيفة، قالوا في آخر الحديث: فقال عقبة بن عمر: أبو مسعود.
وهذه الأحاديث خرجها مسلم في الباب، أعنى حديث منصور ونعيم بن أبي هند عبد الملك بن عمير.(6/107)
قال القاضي: وقوله - عليه السلام -:« مطل الغني ظلم »، المطل: منع قضاء ما استحق أداؤه. وفيه دليل على أن مطل غير الغنى ليس بظلم وإن كان مضطرًا يجوز. وقد قال الله تعالى:{ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة }، وإنما فصل بمطله من النظرة إلى ميسرة، مما يوجب الحكم وأمر به الله تعالى. وفيه حجة لمالك والشافعي وعامة العلماء، أنه إذا كان معسرًا فلا يلزم سجنه ولا ملازمته، ولا مطالبته حتى يكتسب مالأ؛ إذ قد أنظر إلى الميسرة، فكأنه من عليه دين إلى أجل وقد تقدم هذا. وإذا كان واجدًا ومنع صاحب الحق استعمال حقه لغير عذر فهو ظالم له.
وقد اختلف أصحابنا وغيرهم في أن المماطل هل يفسق وترد شهادته بمطله مرة واحدة أم لا ترد شهادته حتى يتكرر ذلك منه ويصير عادة مستمرة ومقتضى مذهبنا اشتراط التكرار، وجاء في الحديث الآخر في غير "مسلم":«لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته ». قال سفيان: عرضه: أن يقول: مطلني، وعقوبته الحبس. وهذا الحديث يدل على أن المراد بمطل الغنى ظلم ما تقدم وءهو ظاهر، وتأويل كافة العلماء، خلافًا لما ذهب إليه بعضهم من أن المراد أن الغنى هو المطول، وأنه وإن كان غنيًّا فمطله ظلم. وهو تعسف في التأويل من قائله.
وقوله:« وإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع »، معناه: إذا أحيل على ملئ فليحتل هذا هو أتبع، و " فليتبع "، ساكنة التاء فيهما، وبعض المحدثين يشددها في الحديث الآخر. والوجه إسكانها، يقال من ذلك: تبعت الرجل، بمعنى أتبعه تباعة: إذا طلبته به، فإذا له تبيع، قال الله تعالى:{ ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا }، ومعظم شيوخنا حملوا قوله:" فليتبع "، على الندب. وقد ذهب بعضهم إلى أنه على الإباحة، وأنه ليس على الندب، وحكى الداودي أنه قيل: إنه غرم.
وفي قوله:« مطل الغني ظلم »، قيل: هذا دليل أن الحوالة لا تصح إلا عن دين حال، إذ لا يكون ظالِمًا ولا مطولاً من لم يحل عليه الدين.
قال الإمام: الكلام في الحوالة في ثلاثة فصول:(6/108)
أحدها: هل يجبر المحال على التحول ؟
والثانى: هل يشترط في ذلك رضا المحال عليه ؟
والثالث: هل تبرأ ذمة المحيل بالحوالة ؟
فأما الفصل الأول: فجمهور العلماء على أنه لا يجبر على التحول، وحملوا هذا الحديث على الندب، وقال داود: يجبر على التحول، وحمل الحديث على الوجوب، وأهل الأصول مختلفون في الأمر المجرد، هل يحمل على الوجوب أم الندب ؟ وأكد مذهبهم من حمله على الندب بأن قال: إنما عامل على هذه الذمة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:« المسلمون عند شروطهم »، ولأن أحدًا لا يجبر على بيع سلعته، وهذا ملك ثمنه في هذه الذمة فلا يجبر على بيعه بذمة أخرى، فدل هذا الاستدلال على أن المراد بالحديث الندب. وأكد هذا الاستدلال دلالة مجردة عند من قال: إنه على الندب، أو نقله إلى الندب بهذه الدلالة من يقول: إن الأمر على الوجوب /.
وأما الفصل الثاني: فإن اشتراط رضا المحال عليه لا يعتبر عند أبي حنيفة، والشافعي أفلق ذلك من غير تفصيل.وقال الإصطخري: بل يعتبر رضا المحال عليه، وقال مالك: لا يعتبر - أيضًا - إلا أن يكون المحال عليه عدوًّا له، أو من تضر به حوالته عليه، فلا يجبرحينئذ على تمكينه من مطالبته. والرد على الإصطخري قوله - صلى الله عليه وسلم -:« وإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع »، ولم يشترط رضا المحال عليه، وقياسًا على ما لو وكل أحدا يقبض دينه، فإن ذلك لا يعتبر فيه رضا الموكل عليه. ووجه اشتراط مالك، ألا تكون عداوة: أن في إحالة عدوه عليه إضرارًا به، ولم يعامل على ما يؤذيه ويضر به، فكان من حقه أن يمنع من ذلك.(6/109)
وأما الفصل الثالث: فإن ذمة المحيل تبرأ على الإطلاق عند الشافعي، ولا تبرأ عند زفر، ومالك يشترط في البراءة ألا يكون غره من فلس المحال عليه. وتوجيه ما قاله مالك ينتظم الرد على المذهبين بوجه ما قاله مالك: أن الحوالة كالبيع، فلهذا جعلت رخصة من الدين بالدين، والبيع ينقل الأملاك، ويبرأ كل واحد من المتعاملين، إلا عند الاطلاع على ما يوجب التراجع كالاستحقاق في البيع أو العيب، فإذا كان هذا قد باع ذمة باخرى لم يكن له رجوع على مبايعه، إلا أن يطلع على أنه غره وخدعه، وأحاله على فقير يعلم فقره ويخفى عن المحال، ويكون ذلك عيبا يرجب له الرجوع.
قال القاضي: قال القاضي أبو الوليد الباجي: إن الإحالة ليست من باب الدين، إذا قلنا بهذا لا تصح إلا من دين حال في دين ثابت للمحيل على المحال عليه، وإنما هو من باب البيع، أن المحيل تبرأ ذمته بنفس الإحالة. وقال القاضي ابن نصر: هي استثناء من الدين بالدين، كما استثنيت العرية من بيع الرطب بالتمر.
وقوله: " نهى عن بيع فضل الماء أ، وفي الحديث الآخر: " نهى عن ضراب لجمل، وعن بيع الماء والأرض لتحرث "، وفي الحديث الآخر:" لا يمنع فضل الماء ليمنع الكلأ"، وفي الآخر:« لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ »، فأما نهيه عن ضراب لجمل وعن بيع الماء، فقد يحتمل أن بيع الماء هاهنا عائد إلى ماء الجمل، وتفسير لمعنى فصوابه وبيان لعلة النهي ؛ إذ إنما هو ماء قد يكون من جمل أو لا. وقد ينزل أو لا ينزل، ملى ما فسره بعد، كما قال في الحديث الآخر:" نهى عن عسب الفحل "، وهو ماؤه. إن كان قوله بعده: " والأرض لتحرث " يشعر أنه راجع إلى اكتراء الأرض وما بها على، تقدم، والله أعلم.(6/110)
واختلف العلماء في استئجار الفحل للضراب، فذهب الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور لي منعه جملة لجهالته، ورأوه من باب الغرر، وتمسكا بظاهر الحديث. وذهب مالك في جماعة من الصحابة والتابعين إلى جوازه إذا كان لأمر معلوم أو ضربات معدودة لا بشرط مقول الأنثى، ورخص فيه عطاء للمكتري إذا احتاج إليه ولم يكن عنده فحل، وأن يعطى لأجر عليه، وكره أخذ الأجر لصاحبه، وحملوا النهي فيه على الحث على مكارم لأخلاق، كما حمل على ما اقترن به من اكتراء الأرض، وقد تقدم.
قال الإمام: أما النهي عن ضراب الجمل فهو بيع نزوه على الناقة فأجازه مالك، وقال: لا بأس بإجارة الفحل. ومنعه أبو حنيفة والشافعي لهذا الحديث، وقال بعض أصحابنا: نحن إنما نجيز إجارته، وهذا إنما نهى عن بيعه وقد يكون هذا مخالفًا لذلك، كما يجيز إجارة الظئر للرضاع ويمنع بيع لبنها، فكذلك يجوز إجارة الفحل للنزو بخلاف بيعه، ولعل هؤلاء يرون أن لفظة: "البيع"، لا تتضمن إنزاء محدودًا ولا أمرًا معلومًا ينتفع به، فيحملون الحديث على المنع على ذلك.(6/111)
وقد تعلق المخالف بقوله:" نهى عن حسب الفحل " لأجل أنه لم يذكر فيه لفظة البيع، وهذا - أيضًا - فيه إضمار محذوف. ولأصحابنا أن يقولوا فيه ما قالوا في الأول، واعتمد المخالف في المنع على أن المقصود غير معلوم ولا محصل، وذلك يلحقه بالغرر والخطر فيمنع. وأصحابنا لا يسلمون ذلك ويجعلون المعاوضة وقعت على معلوم، والضرورة تدعو لجواز إجارته، فوجب حمل الحديث على ما تأولناه، أو يحمل على الحث على مكارم الأخلاق والندب إلى إعارته لذلك ؛ ليكثر التناسل في الحيوان /. وأما نهيه عن بيع الماء، وفي الطريق الآخر: عن فضل الماء، فاعلم أن من الناس من زعم أن الإجماع قد حصل على أن من أخذ من دجلة ماء في إنائه وحازه دون الناس أن له بيعه، إلا قولا شاذًّا ذكر في ذلك لا يعتد بخلافه عنده، ومحمل النهي عن بيع الماء مطلقا أنه باع مجهولا منه، أو باع ما لا يحتفره في أرضه واحتفره للسبيل، أو على أن النهي ندب للإسعاف به لاحتقار ثمنه وعظيم حاجة الناس إليه. وقد اختلف الناس فيس حفر بئرا للماشية في الفيافى، هل له منع فضله ؟ فعندنا ليس له منع ذلك بل يبذله بغير عوض، ومن الناس من قال: لا يمنعه، ولكن ليس عليه بذله بغير عوض بل بقيمته، قياسًا على المضطر لطعام غيره لإحياء نفسه، فإنه لا يحل له منعه، ولكن لا يلزمه بذله بغير عوض، وما وقع هاهنا من نهيه عن بيع فضل الماء يدل على صحة ما قلناه: إن الفضلة لاتمنع.
وأما إلزام المخالف بذلها بالقيمة قياسًا على ما قالوه في الطعام فقياس غير صحيح ؛ لأن الطعام يضر به بذله، ولا يخلف ما بذله إلا بسعي ومشقة، والماء ما ذهب منه عاد إليه مثله، وتفجرت به الأرض، فافترق الأصلان.(6/112)
وقوله:« لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ »، وقوله أيضًا:« لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ »، معناه: أن أصحاب الماشية إذا منعوا الماء لم يردوا عليه، وإذا لم يردوا عليه امتنعوا من رعى ما حوله لعدم الشرب، فيكون منعه الماء قصذا لمنع الكلأ الذي حوله لا فيه ؛ إضرار بالمسلمين ومنعا لهم من حقوقهم، وذلك غير جائز. وقريب من هذا. يتأول في اللفظ الآخر:« لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ ». الكلأ: مهموز مقصور بفتح الكاف هو الرعى. قال بعض أئمة - اللغة: الكلأ: النبات. قال: ومعنى الحديث: أن البئر تكون في البادية أو في صحراء ويكون قربها كلأ. فإذا ورد عليها وارد فغلب على مائها ومنع من يأتي بعده من الاستيفاء منها، كان بمنعه الماء مانعًا للكلأ ؛ لأنه متى ورد رجل بإبله فارعاها ذلك الكلأ ثم لم يسقها قتلها العطش. والذي يمنع ماء البئر يمنع النبات القريب منه، وهو مثل الحديث الآخر: إلا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ أ. قال أبو القاسم الزجاجى: الكلأ: اسم يقع على جميع النبات والمرعى، فإذا فصل بين الرطب واليابس منه، قيل للرطب: خلى مقصور، ورطب بضم الراء وإسكان الطاء، ولليابس حشيش، ومنه يقال: أحشت الناقة ولدها: إذا ألقته يابسا، وحثت يد فلان: إذا يبست.
قال القاضي: في قوله:« لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ » أصل لنا، وحجة في مع الذرائع وسد بابها، وأن منع فضل الماء لا لحاجة إليه لكن ليتذرع به إلى منع الكلأ الذي لا يمكن حرزه والحياطة عليه وكل فيه سبب لمخلوق يتسبب به إلى منعه كما يتسبب صاحب بئر الماشية لمنع فضلها بحفره له. وهذا كله فيما حفره في غير ملكه، فأما ما حفره في ملكه ونسيه ولم يخرجه صدقة به ولا أباحه للناس فله منعه. وقد اختلف شيوخنا في منع الرجل الكلأ الذي أنبته الله في أرضه، وهل يكون أحق به أو هو وغيره فيه سواء وهو أحق به إذا احتاجه لنفسه ورعى ماشيته، على تفصيل في كتب الفقه.(6/113)
وقوله:" نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن "، وفي الحديث الآخر:" ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وكسب الحجام خبيث "، وفي الحديث الآخر:« شر الكسب مهر البغي، وثمن الكلب، وكسب الحجام »، اختلف شيوخنا في تأويل قول مالك في كراهة ثمن الكلب، هل هر على التنزيه أو على التحريم ؟ وهذا قول الشافعي.
???? قال الإمام: قد تقدم في الذي ذكرناه في افتتاح البيوع ما تعرت منه علة النهي عما نهى عن بيعه، وعلة الجراز لما أجيز بيعه، وأشرنا هناك لمسألة بيع الكلب، فمن أراد حقيقتهها فليقف عليها هناك، ولكن نلحق هاهنا ما يتعلق بالمسألة حتى لا تمر بنا فتخئيها من فائدة. فاعلم أن كل حيوان ليس بنجس ولا ذي حرمة وينتفع به في الحال وفي المآل، فإن بيعه جائز، وإنما قلنا: ليس بنجس / لهذا الحديث.
قال القاضي: قال أبو عمر بن عبد البر: فمنع بيع السنور لا يثبت رفعه، وحديث أبي الزبير عن جابر في ذلك لم يروه إلا حماد بن سلمة. قال القاضي: أنت ترى في كتاب مسلم رواته غير حماد عن أبي الزبير هو معقل بن عبد الله عنه. قال أبو عمر: وروى الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مثله. وحديث أبي سفيان عن جابر لا يصح ؛ لأنها صحيفة، ورواية الأعمس في ذلك عندهم ضعيفة.
وقوله: " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب "، وفي الحديث الآخر:" إلا كلب صيد، أو كلب غنم، أو ماشية "، وفي حديث آخر:« عليكم بالأسود البهيم ذى النقطتين، فإنه شيطان »، وفي الآخر:« ما بالهم وبال الكلاب »، ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، وفي الحديث الآخر: "وكلب الزرع "، قال الإمام: أما إذا حبست الكلاب لغير منفعة وحاجة إليها، فإن ذلك ممنوع منه؛؟ لما فيها من ترويع المسلمين والتوثب عليهم، وإذا دعت الضرورة لاقتنائها للتكسب بها في الصيد أو حراسة المال، كانت الحاجة إليها في تكسب المال أو حراسته تدعر لإجازة اقتنائها.(6/114)
وقد اختلف الناس في اتخاذها لحراسة الدور، هل يجوز ذلك ؟ قياسًا على ما وقع في الحديث من إجازة اتخاذها لحراسة الزرع والضرع، أم لا يجوز ذلك ؟ وقد اعتل بعض أصحابنا للنهي عن اتخاذها لحراسة الديار بأن في ذلك مضرة وترويعة للناس، وهي إنما تتخذ حراسة من السارق، وقد تؤذى - إذا كانت في الديار - من ليس بسارق ومن لم يسرق بعد. وفي الحديث:« أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب »، وهذا المعنى هو المفرق بين اتخاذها في الديار واتخاذها لما ذكر في الحديث، وكذلك - أيضًا - تنازع العلماء في كلب الصيد إذا اتخذه من ليس بصايد، هل يجوز ؟ أخذًا بظاهر هذا الحديث أو ينهى عن ذلك، ويكون معنى الحديث إلا كلب صيد للصائد به.
قال القاضي: ذهب كثير من العلماء إلى الأخذ بالحديث في قتل الكلاب، إلا ما استثنى من كلب الصيد وما ذكره معه، وهو مذهب مالك وأصحابه. ثم اختلف القائلون بهذا، هل حكم كلب الصيد وما ذكر معه منسوخ من العموم الأول، وأن القتل كان عامًا في الجميع ؟ أم كان مخصوصًا على ما جاء في بعض الأحاديث ؟ وذهب آخرون إلى جواز اتخاذ جميعها ونسخ الأمر بقتلها والنهى عن اقتنائها، إلا ما خصه آخرًا من الأسود البهيم.
وقوله:« ما لي والكلاب »، والذي عندي في تنزيل هذه الأحاديث أو ظواهرها تقتضي أولاً: النهي العام عن اقتنائها والأمر بقتلها، ثم تحمل الأحاديث الأخر على نسخ العموم باقتصار القتل على الأسود، ومنع الاقتناء إلا لكلب الصيد والضرع والماشية، وقد أشار بعضهم إلى منع القتل فيما عدا الأسود يدل على جواز اقتنائه وليس نهى وجوب.(6/115)
وقول ابن عمر - لما سمع في حديث أبي هريرة:" أو كلب زرع "-: رحم الله أبا هريرة كان صاحب زرع، ليس على تكذيبه واتهامه، وأن ما قال تصحيح لروايته ؛ لأنه كما كان صاحب زرع أثبت بحفظ هذه الزيادة، ويدل على صحتها رواية غير أبي هريرة، وقد ذكرها مسلم من رواية عنده، ومن رواية سفيان بن أبي زهير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وذكرها مسلم - أيضًا - من رواية أبي الحكم، وهو عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي، عن ابن عمر. فلعل ابن عمر لما سمعها من أبي هريرة وتحقق هذه اللفظة عن النبي - عليه السلام - زاده في حديث بعد - والله أعلم.
وقوله في حديث داود بن رشيد: " إلا كلب صائد ": حجة لأحد القولين، على اختصاص جواز اتخاذ كلب الصيد لمن يصيد لا لمن لا يصيد، على ما تقدم. وأكثر الأحاديث إنما فيها كلب صيد، وفي حديث يحمى بن يحيى، ويحيى بن أيوب ومن ذكر معه:"إلا كلب ضارية، وتخريجه في العربية: إلا كلب ذى كلاب ضارية أو إلا كلب كلاب ضارية. وجاء في حديث إسحاق بن إبراهيم:" من اقتنى كلبًا إلا كلب ضارية "، في رواية العذري وغيره. ويخرج على إضافة الشيء إلى نفسه كقوله /: كماء بارد ومسجد الجامع، أو يكون " ضار " هنا وصفًا للرجل المعتاد للصيد، كقوله: أو ضاري. هو للعذرى دون ياء ولغيره دون ياء وللسجزى هنا ضاريًا بياء منونة وبعدها ألف وتخريج الأولى والثانية على إضافة الشيء إلى نفسه، الضارى: هو المعلم للصيد.
وقوله: " أو ضرع " مثل قوله:" أو ماشية"، وأجاز غير مالك اتخاذها للتحفظ من السارق. وأما إن اتخذ الكلب ليحفظ الدار من السراق، فليس مما أبيح اتخاذه عنده، وكذلك كلب الزرع، إنما هذا إذا كان يحفظه من الوحوش بالليل أو بالنهار لا من الحشرات.(6/116)
وقوله:« انتقص من أجره كل يوم قيراط »، وفي الرواية الأخرى: "قيراطان"، وفي الرواية الأخرى:« نقص من عمله قيراطان »، ومعنى نقص من أجره: قيل: إنه يحتمل بـ " القيراطان " جزءًا ما في نوعين من كلاب، أحدهما أشد أذى من الآخر لهم، وبسبب الترويع للمسلمين والأذى لهم يكتسب من الإثم ما ينقص من أجر عمله هذا.
وقوله:« نقص من عمله »، وقيل: ينقص مما مضى من عمله، وقيل: من مستقبله، لاتخاذه ما نهى عنه وعصيانه في ذلك. وقيل: بل من امتناع دخول الملائكة بيته بسببه، وقيل: بل لما يلحق من ترويع الكلاب، ومراقبة أحكام اتخاذه من غسل الإناء من ولوغها، ومن نجاستها عند من يراها نجسة في الاتجار للتملك منه، ولا يرعى ذلك، فيدخل عليه الإثم من أجله فيدخل عليه في هذه الوجوه من السيئات ما ينقص من أجره في يومه، فيحتسب أجره في إحسانه إليه، لما جاء من أن « في كل ذكما كبد رطبة أجرًا »، فقد يمحو أجره في ذلك،أو ينقصه ما يلحق مقتنيه من السيئات بترك أدائه العبادات فيه، ولمراعاة أحكامه، أو لترويع غيره. وقيل: يختص هذا النقص من البر مايطابق الإثم، وهو أجره من تغيير المنكر كل مرة، فينقص منه ذلك القدر لموافقته في اتخاذ الكلب مثله، والله أعلم بما أراد رسوله.
وذكر القيراط هنا تقرير لمقدار الله أعلم به، والمراد نقص جزء ما، وما جاء في الحديث الآخر من جعله قيراطًا، وقيل: يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب ؛ أحدهما أشد أذى من الآخر ولمعنى فيهما، أو يع ص ن في اختلاف المواضع، فيكون القيراطان في المدينة خاصة، والقيراط في غيرها، أو القيراطان في المدائن والحواض، والقيراط في غيرهما، أو يكون ذلك في زمنين فذكر القيراط أولاً، ثم زاد التغليظ فذكر القيراطين، والله أعلم بمراده.(6/117)
وفي جملة هذه الأحاديث جواز اتخاذها للأشياء المستثناة من الصيد وغيره، على ما تقدم. وقد استدل بعضهم من تنبيه النبي على هذه المنافع على جواز اتخاذها لكل منفعة في نحو من ذلك، وأن النهي أ إنما هو لاتخاذها لغير منفعة مقصودة، واستدل بعضهم بقوله:« نقص من أجره، ومن عمله » على أن النهي ليس نهى تحريم، وإنما نهي كراهة ؛ إذ ليس وعيد المحرمات نقص الأجور وفي هذا نقص.
وفي الباب حديث يحيى بن يحيى وقتيبة وابن حجر، ذكر سفيان بن أبي زهير الشنئي، بفتح الشين المعجمة والنون بعدها همزة مكسورة، منسوب إلى أزد شنوءة، وقد وقع مبينا في الحديث قبله. قال: وهو رجل من شنوءة، ووقع عند السمرقندى: " الشنوي" بدون الهمزة على التسهيل، ورواه بعض رواة البخاري: " الشنُوي " بضم النون على الأصل، وذكر بعده ابن أبي علية السبائي، بسين مهملة وباء موحدة، منسوب إلى سبأ.
وقوله:" احتجم رسول الله..." الحديث، وثناؤه على منفعة الحجامة: دليل على جواز الحجامة للحاجم والمحجوم، وجواز المعاناة وإعطاء الأجر عليها على ما تقدم. وأبو طيبة: هو بطاء مهملة، ثم ياء اثنتين تحتها على الباء. بواحدة. وسؤال النبي- عليه السلام - سيده أن يخففوا عنه من ضريبته، فيه جواز إلغاء الضريبة على العبيد الذين لهم صناعة، وجواز سؤال ساداتهم التخفيف عنهم. قوله:« ولا تعذبوا صبيانكم بالغمز »، يعني من العذرة، وقوة اللداد. كذا فسره في حديث آخر. والعذرة: وجع الحلق، وهو سقوط اللهاة. وحضه على معاناته بالقسط البحري حكم على الرفق في المعاناة، ولا سيما بالصغار، وقد فسر صفة معاناته بالقسط البحري، وهو العود الهندى المذكور في هذا الحديث وقال: يسعط به من العذرة. وفيه بقايا المعاناة / والاستعاط: ضم بالعرض في الدماغ، وقد ذكر مسلم أنه - عليه السلام - احتجم وأعطى الحجام أجرة واستعطى.(6/118)
وقوله - عليه السلام -:« إن الله يعرض بذكر الخمر، ولعله سينزل فيها أمرًا، فمن كان عنده منها شيء فليبعها وينتفع به »، دليل على أن الأشياء على الإباحة في جميع المنتفعات إلا ما حرمه الشرع، وأنها على ما كانت عليه قبل زمن الشرب. وقوله: النصيحة اللازمة للعامة في أمر دينها ودنياها ؛ لأنه لما أحس - عليه السلام - أنه سيحدث فيها أمر بنصحهم في تعجيل الانتفاع بها، ما دام لهم ذلك حلالاً.
وقوله:" إن الله حرم هذه الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبيع »، ويروى:" ولا ينتفع ". وفي الحديث الآخر: «إن الذي حرم شربها حرم بيعها»، فيه حجة أن ما حرم مقصود المنفعة منه وعظمها فما بقي منه من المنافع تابع للتحريم، والمقصود من الخمر الشرب، فلما حرم حرم الانتفاع بها جملة ومالا منفعة فيه لا يجوز بيعه، وقد جاء في حديث ابن عباس: أن الله إذا حرم على قوم اكل شيء سرم عليهم ثمنه. وهذا يحمل على ما بيناه مما المقصود منه جل منفعية الأكل، بخلاف ما المقصود منه غير ذلك، كالحيوان والطير عند من يعتقد تحريمها والحمر الأهليه وشبهها ؛ إذ المقصود م! جميعها منفعة غير الاكل، فلم يجز بيعه بإجماع.
وقوله:« فمن أدركته هذه الآية »، أي: من أدركته حيًّا، ولزمه الخطاب، يريد قوله تعالى:{ إنما الخمر والميسر } الآيه، وسيأتي الكلام على هذه الآية، ومقتضى حكمها، وما يتعلق بها من أحاديث الخمر والمسكر في الأشربة إن شاء الله.(6/119)
وقوله: " فاستقبل الناس بما كان عنده منها في طريق المدينة فسفكوها ": أي صبوها، فيه دليل على منع الانتفاع بها البتة، وعلى منع تخليلها. ولو كان جائزًا لبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا، وبينه للآخر الذي نهاه عن بيعها وصبها، ولنصحهم في ذلك ونهاهم عن إضاعة أموالهم، كما نصحهم عند مخافة تحريمها في الحديث قبل هذا، وكما نبه أهل ائيتة على الانتفاع بجلدها. وقد حكاه في حديث آخر: " صبها "، وجاء في حديث آخر ذكره مسلم بعد هذا إلخ. سئل - عليه السلام - عن تخليلها فقال: "لا". ويمنع تخليلها قاله مالك والشافعي وأحمد والعنبري، وأجاز تخليلها أبو حنيفة والأوزاعي والليث، وحكى عن مالك. وكذلك قال أبو حنيفة: إن عولج بالملح والسمك حتى صار مديًا جاز، وخالفه صاحبه ابن الحسن وقال: إنما يجوز التخليل فقط. وهو قول أكثر من أجاز تخليلها.
ثم اختلف المانعون لذلك إذا فعل ذلك، فعن مالك في ذلك قولان ؛ أشهرهما: أن تؤكل. وقال الشافعي: خلها حينئذ محرم نجس كما كان قبق تخليله، وقاله كبراء أصحابنا. وقال الجمهور: إذا صارت خلاًّ من ذاتها بغير معالجة آدمى أنها تؤكل، وهو قول مالك والشافعي وعامة أصحابهما، وروي عن عمرو بن شهاب وجماعة من السلف والخلف. وحكى القاضي عبد الوهاب وغيره أنه لا يختلف في جوازه، لكن روى ابن وضاح عن سحنون أنه منع ذلد وإن تخللت من غير صنع آدمى. وفي هذا - أيضًا - يمنع الانتفاع بها للتداوي وغير ذلك من العطش عند عدم الماء أو لتجويز لقمة غص بها. وهذا قول مالك والشافعي وغيرهما. وأجاز ذلك أبو حنيفة وأحمد، وقاله بعض أصحابنا، وروى عن الشافعي نحوه إذا خاف التلف، وقاله أبو ثور.(6/120)
وقوله:« هل علمت أن الله حرمها ؟» دليل على جهالة الرجل بهذا الحكم، فلعله كان بإثر التحريم وقبل انتشاره، وقد جاء في حديث آخر: «أشعرت أن الله حرم الخمر بعدك ؟» فهذا يدل على قرب المال. وقوله في هذه الرواية هل يفسر قوله في رواية مالك:« هل علمت أن الله حرمها ؟» وأنه على الاستفهام ليبين الحال، لا على التوبيخ على ما ذهب إليه بعضهم. وفيه دليل على أن الجاهل / قبل هذا لا إثم عليه بالتحريم، ما لم يفرط في التعليم بعد إمكانه. وقوله: لا. فسار إنسانًا، وقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بم ساررته ؟» قال: أمرته ببيعها: الآمر هنا والمسؤول هو المهدي الأغر، كذلك جاء مفسرًا في رواية شسمان على زيد ابن أسلم في هذا الحديث، وفيه: أن رجلاً من دوس جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر القصة، وفيه: فأمر الدوسي غلامه ببيعها، فلما ولى بها قال له النبي - عليه السلام -:« ماذا أمرت بها ؟» قال: أمرته ببيعها، الحديث. هنا خلاف ما ظنه بعض الشارحين، يوهم ظاهر اللفظ أن الذي ساره وأمره وخصه النبي - عليه السلام - هو رجل أجنبي غيره، وفيه: أن على العالم أن يكشف عما يظن أن باطنه فاسد. وقيل عن ذلك: أن يجرى فيه ما لا يجوز، كما سأل النبي - عليه السلام - عن مسارته في شأنها وعلم من جهله بحكمها، لما قد جريه قداح منه فاستكشفه عن ذلك، فإذا به كما ظنه. ولم يكن هذا من التجسس والكشف عن الأسرار وكثرة السؤال ؛ لأن المذموم من ذلك كله والمنهي عنه فيما لا يختص بالإنسان ولا بما يلزمه القيام به، وأما ما يختص بالإنسان منفعته أو مضرته أو يكون النظر والإسناد فيه والعضاء له فعليه البحث في كل ذلك ومعرفة صحيحه وسقيمه والكشف عن الأسرار ج لئلا يجرى من ذلك شيء يضره، أو يضاف إليه مما لا يرضاه ولا يسيغه.(6/121)
وقوله:« إن الذي حرم شربها حرم بيعها »، قال بعضهم: فيه دليل على منع بيع الذبول والعذرة وغيرها من النجاسات، وهو قول مالك والشافعي، وأجاز ذلك الكوفيون والطبري وبعض متقدمي أصحابنا، وأجازه آخرون منهم للمشتري دون البائع، وكذلك يقرل الشافعي في أبعار ما يؤكل لحمه وروثه لقوله: نجاسته، ومالك يجيز بيعه لقوله: بطهارته، ويحتمل أن يريد قوله:« إن الذي حرم شربها حرم بيعها »، أي: أن الله قد حرم الحكمين لا أن معناه: أن السبب الموجب بتحريم شرائها أوجب تحريم بيعها ؛ لأن موجب تحريم الشرب ما نص الله عليه من إلقاء العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، ومن لا يمنع البيع أدى بيعها من الكفار وممن لا يمنع من ذلك. والأظهر أنه على الخبر عن الله لا على ذكر التعليل بدليل الحديث الآخر: لما نزلت آخر سورة البقرة خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس، فاقبل على الناس، ثم نهى عن التجارة في الخمر، وقد يحتمل أن الحكم فيمن حرم شربه أو أكله مما هو المقصود من تحريم بيعه وسائر منافعه، كما جاء في حديث شحوم اليهود، وفي سفكهم لها في طرق المدينة ما يحتج به ربيعة، ومن قال بقولهم في طهارة الخمر، وإليه ذهب سعيد بن الحذاء والهروي لو كانت نجسة لتنجست بها الطرق، وتاذى بها المسلمون كما لا يباح إجراء الأقذار في الطرق، ويمغ من فعله، وكافة السلف والخلف على نجاسة الخمر والدليل على نجاستها مع إجماع الكافة عليها قديِمًا وحديثًا إلا من شذ تحريم بيعها، وما حرم بيعه لا يخلو تحريمه أن يكون لحرمته كالجرو، ولا حرمة للخمر، فيقال: منع من بيعها مذهبنا ومالا منفعة فيه أصلاً كالجعلان والخمر، فقد تخلل على ما تقدم وينتفع بها، أو لنجاسته كالميتة والدم والخمر من هذا القليل، ويتأول معنى صبها في طرق المدينة أن الطرق كانت واسعة يفى منها من حيث يمر المار، ولا يتأذى بذلك، وكذلك كانت طرق المدينة، وقد قيل: فعل ذلك ليشتهر الأمر ويذيع(6/122)
حكمه فيها بالأذقة ويمنع البيع.
وقوله: " ففتح المزادتين حتى ذهب ما فيهما "، ولم يذكر أنه شقهما، وفي ظاهره حجة لمن لا يرى كسر أوانى الخمر، ويرى غسلها واستعمالها. وقد اختلف العلماء في ذلك. وعن مالك فيه قولان ؟ فقال ؟ من وجد عنده خمر من آنية كسرت الظروف وشقت. فقيل: لعل ذلك عقوبة له في القول بالعقوبة في الأموال، وقيل: لأن ما فيها لا يظهر بالغسل / لتداخله فيه ولو كان يوجد الغسل لم يفسد، ونحوه لمالك إذا طبخ فيها الماء وغسلت أنها تستعمل، وقد يحتمل أن يكون أمر مالك بكسرها فيمن خيف منه العود إلى عملها وإن ضاربه ليستعين بذلك على معصية، وحديث أبي طلحة في كسرهم الجراب حجة. ولمالك وليس في هذا الحديث تصريح أنها لم تشق، وإنما قال: " ففتح "، وقد يكون الفتح بشق أجوافها.
وقوله:" ففتح المزادة "، وفي أول الحديث: " الراوية" هما بمعنى هذا قول أبي عبيد. وقال يعقوب: لا يقال: راوبة، إنما الراوية البعير، وإنما يقال: مزادة. وهذا الحديث وغيره يشهد لما قال أبو عبيد، لكن لفظ: "راوية " يستعمل في القربة الكبيرة التي يحمل فيها الماء والخمر وشبهه مما يشرب وتروي صاحبها، وبهذا سميت. وقد تستعمل توسطًا فيما يحمل فيه غير ذلك، وكذلك المزادة لما يتزود فيه الماء من ذلك للسفر لكبرها، وقيل: بل سميت بذلك ؛ لأنه يزاد فيها الجلد لتتسع، وقيل في الراوية مثله.(6/123)
وقوله:" لما نزلت الايات من آخر سورة البقرة اقترأهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس، ثم نهى عن التجارة في الخمر "، يحتمل أن يكون هذا متصلاً بعد تحريم الخمر ومنها فهم، أو أوصى إليه بمنع بيع الخمر بظاهر الحديث ؛ لأن سورة المائدة التي فيها تحريم الخمر من آخر ما نزل من القرآن، وآية الربا آخر ما نزل. قال ذلك عمر، قال: ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفسرها لنا، ويحتمل أن يكون هذا بعد بيان النبي - صلى الله عليه وسلم -حريم له في الخمر. فلما نزلت آية الربا وقد اشتملت على تحريم ماعدا البيع الصحيح أكد تحريم ذلك، ولا علم أن التجارة في الخمر من جملة ذلك، والله أعلم. كما كرر تحريمه والإعلام بذلك عام الفتح، كل ذلك تاكيد. ولما جمع عام الفتح من كافة المسلمين وأهل البوادي والأعراب الذين يجهلون الأحكام.(6/124)
وقوله:« إن الله حرم بيع الخمر والميسر والخنزير والأصنام ». فقيل: يا رسول الله ! أرأيت شحوم الميتة تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس. فقال:« لا، هو حرام » الحديث. ثم قال عند ذلك: « قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها أجملوه، ثم باعوه، فكلوا ثمنه »، قال الإمام: قد تقدم في العقد الذي افتتحنا به البيوع الكلام على هذا الحديث، وأصلنا ما يعرف منه ما يجوز بيعه مما لا يجوز، وكشفنا عن علة ما يجوز بيعه مما لا يجوز، فلا فالدة من إعادته. وقد قال الطبري: في المحرمات ما يجوز بيعه، فإن اعترض به على ما يتضمنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث من إشارته إلى أن ما حرم بيعه، قيل: إنما هذا لنجاسته. واليهود ترى الشحم نجسًا، والذي أحللنا بيعه من المحرمات ليس بنجس، والذي أراد بقوله: " لا، فهو حرام " تحريم البيع لا تحريم ما ذكره من منفعة، وإنما ظنرا أن هذه المنافع تكون سببا للرخصة لهم في البيع، فذكروا ذلك للنبى قي، لعله أن يبيح البيع لذلك، فلم يفعل. وقد تقدم في العقد الذي ذكرناه نحن في افتتاح البيوع الوجه الذي من أجله لم يعذرهم ظبض، ولم يرخص لهم في البيع، قال: فإن قيل: فإن في بعض الأحاديث كما قيل له ظبض في شحوم الميتة: إنها تدهن بها السفن، فقال: " لا تنتفعوا من الميتة بشىءأ. قيل: هذا على الكراهية، وتحرزا من النجاسة أن تمسه، بدليل ما وقع في حديث آخر أنه أباح الانتفاع بالسمن الذائب إذا وقعت فيه الفأرة، وإن طعنوا في بعض رواة هذا الحديث. وكذلك حديثهم الذي عارضوا به - أيضًا - يطعن في بعض رواته هذا الذي علق بحفظتي من معنى كلام الطبري.
قال القاضي: في هذا الحديث إبطال الحيل، والحجة على من قال بها في هذا إسقاط حدود الشرع من الكوفيين. وفيه الحجة لمالك في مراعاة الذرائع، وسد بابها. وقد اختلف الناس في الانتفاع بالنجاسات، وقد ذكرناه. واختلفوا في الانتفاع بشحوم الميتة.(6/125)
وأما ما ثبت فيه ميتة من زيت أو سمن وعسل ذائب أو تمسه نجاسة، هل يستصبح به أو يجعل من الزيت صابون، ويعلق العسل النحل، أو يطعم الميتة بكلابه، أو الطعام النجس لماشيته، أو تطلى به السفن ؟ /يتحقق من مذهب مالك وكثير من أصحابه استعمال الزيت وغيره مما وقعت فيه النجاسة في غير الأكل. واختلف في ذلك أصحابه ومنعه بعضهم، قياسًا على شحم الميتة، وهو قول عبد الملك وأحمد بن حنبل وأحمد بن صالح. وأجاز بعضهم بيع الدهن إذا بين به ممن ينتفع به، وأجاز بعضهم استعماله وبيعه بعد غسله والادهان به، وروى نحوه عن مالك، وأن الغسل يطهره. ومنعه بعضهم، وإن خسل لتعذر ذلك،ولو كاز لم يخف على من مضى. وإلى ما ذهب إليه مالك من جواز الانتفاع به ذهب الشافعي والثوري، وروي نحوه عن ابن عمر وعلي. وممن أجاز الانتفاع به فيما عدا الأكل وبيعه إذا بين به أبو حنيفة وأصحابه والليث، وروى عن أبي والقاسم وسالم، وهو قول ابن وهب من أصحابنا، وقد جاء في الحديث من رواية معمر في الفأرة تقع في السمن: «وإن كان مائعًا، فلا تقربوه ». وجاء من رواية أخرى عنه:« وإن كان مائعًا فانتفعوا به واستصبحوا ».
وأما شحوم الميتة، فجمهورهم على أنه لا ينتفع بها البتة بشيء ؛ لأن عينها نجس، خلاف ما هو ات عن النجاسة لعموم نهيه - عليه السلام - عن الانتفاع من الميتة بشيء، فخصت السنة من ذلك الجلد، وبقى سائرها على التحريم، إلا عطاء بن أبي رباح، فأجاز أن يستصبح به، وتطلى به السفن. والى نحوه أشار الطبري، وتأول الحديث بما أشار إليه قبل من النهي عن البيع لا عن غيره، وتأول عموم النهي على الندب والتنزه ؟ لئلا تتنجس بمباشرته، وفي تحريم بيع الميتة حجة على منع بيع جثة الكافر إذا قتلناه من الكفار واقترابهم منا له.(6/126)
وقد امتغ من ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الخندق، وقد بذلوا له في جسد نوفل بن عبد الله المخزومي عشرة إلا درهما فيما ذكر ابن هشام، فدفعه إليهم ولم يقبل ذلك منهم، وقال:« لا حاجة لنا بجسده ولا ثمنه »، وقد خرج الترمذي في هذا حديثًا نحوه. وفي النهي عن ثمن الأصنام منع بيع الصور المقصود شراؤها كيف كانت، إذا كان ما فيها تبعًا لها، بخلاف إذا كانت هي تبعًا، كتصاوير الثياب والبسط وغيرها مما جاءت فيها الرخصة، وكذلك لعلة ما كان تبعًا للمبيع مما لم تأت فيه رخصة وكره، كصور الأباريق والمناور والأسرة ؛ لأنها لبع لا يفسد البيع، لكن كره اتخاذها ويلزم طمسها وتغييرها. وقد رخص أهل العلم في بيع البنات، شرائها للجواري للرخصة في ذلك، وإباحة لعبهن بها. وجاء عن مالك كراهية شرائها، ورأى الرخصة في الاستعمال لا تقتضي أن تتخذ متجرًا، ولعموم التغليظ في عملها.
وقوله:" أجملوها "، وفي الرواية الأخرى:" جملوها "، قال الإمام: معناه: أذابوها، يقال: جملت الشحم وأجملته: إذا أذبته. وانشد ابن الأنباري للبيد:
فاستوى ليلة رمح واجتمل
قال الهروي وغيره: الجميل والطهارة عند العرب: ما أذيب من الشحم، والحم: ما أذيب من الإلية، قال الراجز: أنشد يعقوب:
يهم فيها القوم هَمّ الْحَم
قوله:" يهم فيها "، أي: يذوب فيه.
قال القاضي: كثير ما يعرض ملاعين اليهرد وأهل الزيغ على هذا الحديث بتحريم وطء سرية الأب على الابن، وجواز بيعها له وأكل ثمنها، وهذا إنما يموه به على غير محصول عنده من العلم، فجارية الأب لم يحرم منها إلا الاستمتاع على هذا الولد وحده من بين سائر الناس، وسائر منتفعاتها حلال والجميع حلال لغيره فلم يحرم عليه جميعها ولا على غيره. والشحوم محرم المقصود منها وهو الاكل على جميع اليهود، فكان ما عداه تبعًا له، فلا تشاكل بينها وبين سرية الأب.(6/127)
وقوله:« لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض»، وذكر في الورق مثله، وقال:« لا تبيعوا منها غائبًا بناجز »، وقوله/: « ولا الورق بالورق إلا وزنًا بوزن، سواءً بسواءٍ »، وفي الحديث الآخر: «ولا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا...»، وفي حديث آخر:« الورق بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء »، وفي الحديث الآخر: أنه نهى - عليه السلام - عن " بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا سواء بسواء، عينًا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى "، وفي الرواية الأخرى:« يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد »، وفي الرواية الأخرى:« فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء »، وفي الرواية الأخرى:« إلا ما اختلفت ألوانه »، وفي الرواية الأخرى:« الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما »، وفي الحديث الآخر:" نهى عن بيع الورق بالذهب دينا "، وفي الحديث الآخر:" ما كان يدًا بيد فلا بأس به، وما كان نسيئة فهو ربًا ».(6/128)
قال الإمام: التبايع يقع على ثلاثة أوجه: عرض بعرض، وعين بعين، وعرض بعين. ويقع التبايع بهذه الأجناس على ثلاثة أوجه أيضًا: يؤخران جميعًا، وينقدان جميعًا، وينقد أحدهما ويؤخر الآخر. فإن نقدا جميعًا كان ذلك بيعًا بنقد. فإن بيع العين بمثله كالذهب بالذهب سمى مواكلة. وإن بيع بعين خلافه كالذهب بالورق سمى مصارفة. فإن بيع العرض بعين سمى العين ثمنًا والعرض مثمونًا. وإن كانا مؤخرين جميعًا، فذلك الدين بالدين وليس ببيع شرعي ؛ لأنه منهي عنه على الجملة، وإن نقد أحدهما وأخر الآخر ؛ فإن كان المؤخر هو العين والمنقود هو العرض سمي ذلك بيعًا إلى أجل، وإن كان المنقود العين والمؤخر العرض سمي ذلك سلمًا، ويسمى - أيضًا - سلفًا، ولو كانا عرضين مختلفين سمى ذلك سلمًا - أيضًا - وسلفًا ولا تبال ما تقدم منهما أو تأخر.
واعلم بعد ذلك أن الربا محرم في الشرع، قال الله تعالى:{ وأحل الله البيع وحرم الربا }، ولعن النبي - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا ومؤكله، الحديث. فإذا ثبت تحريمه وجب أن نعقد أصلاً فيه سائر فروعه.
فاعلم أنا قدمنا أن البيع يقع نقدًا ويقع نسيئة، فأما بيع النقد وهو ما تناقدا فيه العوضين جميعًا، فيجوز التفاضل فيه والتماثل والبيع كيف يشاءان، ما لم يكن التبايع في الأثمان والأطعمة المقتاتة، فلا يجوز فيها التفاضل مع الجنسية ولا يباع منه المثل بمثله إلا متساويًا، وإن اختلفت جاز التفاضل وما سوى هذين القسمين يجوز بيعه على الإطلاق، فيحصل من هذا أن التفاضل مع الاختلاف في بياعات النقود يجوز على الإطلاق، والتفاضل مع التماثل يجوز إلا فيما قدمناه الأثمان والمقتاتات.(6/129)
والدليل على الجواز مع اختلاف الأجناس على الإطلاق قوله عز وجل: { وأحل الله البيع وحرم الربا }، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم ». والدليل على جواز التفاضل فيما سوى الثمن والمقتات، قوله تعالى:{ وأحل الله البيع وحرم الربا }.
وأيضًا فإنه لو كان التفاضل في سائر الأشياء ممنوعًا لم يكن لتخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الستة بتحريم التفاضل معنى، ولقال: التفاضل حرام عليكم في كل شيء، ولكن لما خص هذه الستة دل ذلك على أن التحريم ليس بعام في سائر الأشياء، وإنما ينفى النظر في هذه الستة، هل التحريم مقصور عليها ويكون كشريعة غير معقولة المعنى، أو يكون لاختصاصها بالتحريم معنى فيطلب ذلك المعنى فحيثما وجد حرم قياسًا على الستة، فأما أهل الظاهر النفاة للقياس فإنهم قصروا التحريم عليها، وأباحوا التفاضل في سائر الأشياء سواها، وهذا بناء منهم على فاسد، أصلهم في نفي القول بالقياس، والرد عليهم مذكور في أصول الفقه. فأما جمهور العلماء المثبتون للقياس فإنهم تطلبوا لذلك معنى. وأما مالك فإنه يعتقد / أنه إنما حرم التفاضل فيها لأمرين: أما الذهب والفضة فلكونهما ثمينين، وأما الأربعة المطعومة فلكونها تدخر للقوت أو تصلح القوت، وقد قدمنا أن ذلك كله مع تماثل الجنس.(6/130)
وأما الشافعي فوافقه على العلة في الذهب والفضة وخالفه في الأربعة، فاعتقدوا أن العلة كونها مطعومة. وأما أبو حنيفة فخالفهما في الجميع، واعتقد أن العلة في الذهب والفضة الوزن، وفي الأربعة الكيل، فخرج من مضمون ذلك أن مالكًا تطلب علته، فحرم التفاضل في الزبيب ؛ لأنه كالتمر في الاقتيات، وحرم التفاضل في القطنية ؛ لأنها في معنى القمح والشعير في الاقتيات، ويرى أن العلة الثمينة لم يتفق وجودها إلا في الذهب والفضة ولو اتفق أن يجيز الناس بينهم الجلود لنهى عن التفاضل فيها. وأما الشافعي فتطلب علته فحرم التفاضل في كل مطعوم، وأبو حنيفة يحرمه في كل مكيل أو موزون. فاما مالك فإنه استلوح ما قال لأجل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أراد الكيل أو الوزن لاكتفى باحد هذه الأربعة في الكيل، ولا تظهر للزيادة على الواحد فائدة، وكلامه ظئ كله فوائد، لاسيما في تعليم الشرائع وبيان الأحكام، وكذا كان يقتصر على واحد منها لو كانت العلة كونها مطعومة ؛ لأن الواحد منها كما سواه مما ذكر معه في الحديث.
ونقول: لما علم - صلى الله عليه وسلم - أن المراد الاقتيات أراد أن يبينه عليه ليبقى للعلماء مجالاً في الاجتهاد، ويكون داعيًا لبحثهم الذي هو من أعظم القرب إلى الله سبحانه، وليوسع لأمته في التعبد على حسب سعة أقوال علمائها، وربما كانت التوسعة أصلح للخلق أحيانا، فنص على البر الذي هو أعلى المقتاتات، ثم نص على الشعير الذي هو أدناها لينبه بالطرفين على الوسط وتنظيم الحاشيتين ما بينهما، وإذا أراد إنسان ذكر جملة الشيء فربما كان ذكر طرفيه ونهايته دل على استيعابه من اللفظ الشامل له.(6/131)
ولما عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - عادة الناس في زمنه أكل البر مع السعة والاختيار، والشعير مع الضرورة والإقتار كان ذكره لهما تنبيها على السلت والأرز والذرة والدخن ؛ لأن من اعتاد أكلها في بعض البلاد، إما أن يأكلها في حال سعته ؛ فيكون ذكر القمح منبها له على حكمها، أو في حال صفته، فيكون ذكر الشعير منبهًا له. ولو اتفق أن يكون الدخن أو غيره هو الغالب في زمنه في قوت أهل الأقتار، لأمكن أن ينبه به بدلا من الشعير. وأما التمر فانه وإن كان يقتات ففيه ضرب من التفكه، والطبع يستحيله حتى أن يؤكل على غير جهة الاقتيات، فاراد - صلى الله عليه وسلم - أن يرفع اللبس لأجل هذا المعنى الذي انفرد به وينص عليه مشيرا إلى أن كل مقتات وإن كان فيه زيادة معنى فإن ذلك لا يخرجه عن بابه. ولما علم - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الأقوات لا يصح اقتياتها إلا بعد إصلاحها، وإذا لم تكن مصلحة تكاد أن تلحق بالعدم الذي لا ينتفع به في القوت،أعطى ما لا قوام لها إلا به حكمها، ونبه بالملح على ما سواه مما يحل محله في إصلاحها ؛ لأنه لا يقتات منفردا، ولكنه يجعل ما ليس بقوت قوتًا.(6/132)
وأما الشافعي فإنه استلوح ما ذهب إليه من قوله ئ في حديث آخر: «الطعام بالطعام، مثلاً بمثل »، فيقول: إنى وإن لم أزاحمكم في تطلب التعليل، فإن عموم هذا نص مذهبي وإن زاحمتكم فيه، فإنه يشير إلى ما قلت ؛ لأنه علق الحكم بالطعام وهو مشتق من الطعم، ومعنى الاشتقاق هو علة الأحكام. وأما أبو حنيفة فإنه - أيضًا - سلك قريبا من هذا المسلك فقال: فإن عامل خيبر لما باع الصاع بالصاعين أنكر ذلك ت، فقال:« لا تفعلوا »، ولكن مثلاً بمثل، وبيعوا هذا، واشتروا بثمنه من هذا، وكذلك الميزان. ومعلوم أنه لم يرد نفس الميزان، وإنما أراد نفس الموزون، فكأنه قال: وكذلك الموزون، فيقول - أيضًا -: إن لم نزاحم في التعليل استدللت بعموم قوله:" وكذلك الموزرن "، وإن زاحمتكم فيه كان ذكر الوزن مشيرا للعلة.
وقال أصحابنا في الرد عليه: إن علته تجيز/ الربا في القليل الذي لا يتأتى فيه الكيل، وعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -:« البر بالبر » الحديث يوجب منع الربا فيه، فقد صارت العلة أخذت من أصل تنقصها عمومه، وذلك مما يبطل العلل، هذا الكلام في الربا في بياعات النقد.
وأما القسم الثاني: وهو الربا في النسيئة، فنتكلم عليه في الحديث المذكور فيه السلم، إن شاء الله تعالى. وقد اشتمل الحديث على أن الربا في النقد في هذه الستة المذكورة، وذكر عن ابن عباس أنه أجاز دينارًا بدينارين نقدًا، وذكر أنه رجع عنه، وإن ثبت عنه أنه كان يجيزه فيقسط هذا القسم على أصله، ولا يكون ربا عنده إلا في القسم الآخر الذي وعدنا بالكلام عليه، وذكر عنه مسلم ما ظاهره أنه تعلق بقوله - صلى الله عليه وسلم -:« الربا في النسيئة »، وفي بعض طرق مسلم:« إنما الربا في النسيئة »، وفي بعض طرقه:« لا ربا فيما كان يدًا بيد »، وروى البخاري:« لا ربا إلا في النسيئة ».(6/133)
فإن قيل: كيف الوجه في بناء هذه الأحاديث مع قوله:« الذهب بالذهب » الحديث، وفي آخره:« مثلاً بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد »، فقد أثبت الربا مع كونه يدًا بيد، وهذا يمنع من حمله على أن المراد به النسيئة حتى يكون مطابقًا لما تعلق به ابن عباس، وأيضًا قوله للذى كان يبغ الصاعين من التمر بصاع: " لا صاعين تمر بصاع " الحديث. قيل عنه ثلائة أجوبة: أحدها: أن يقال: قوله:« لا ربا إلا في النسيئة »، يعني في العروض وما في معناها، مما هو خارج عن الستة المنصوص عليها وعما يقاس عليها، ولا شك أن العروض يدخلها الربا نسيئة، على ما سنبينه فيما بعد، إن شاء الله تعالى.
والثانى: أن يكون المراد الأجناس المختلفة من هذه الستة أو ما في معناها، فإنه لا ربا فيها إلا مع النسيئة، فيحمل ما تعلق به ابن عباس على هذا، حتى لا يكون بين الأحاديث تعارض وتناقض. والجواب الثالث: أنه إنما أراد بقوله:« إنما الربا في النسيئة » إثبات حقيقة الربا، وحقيقة أن يكون في الشيء نفسه، وهو الربا المذكور في القرآن في قوله:{ وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم }؛ لأنهم كانوا يقولون: إما أن تقضي أو تربي. هذه طريقة في الجواب سلكها بعض العلماء، ولما عورض بما وقع من إطلاقاته - صلى الله عليه وسلم - كقوله: «فمن زاد أو استزاد فقد أربى »، وقد ذكر الذهب بالذهب والفضة بالفضة، قال: هذا على جهة المجاز والتشبيه له بالربا، وهذا عندي بعيد مع قوله في حديث بلال لما باع الصاع بالصاعين، فقال - صلى الله عليه وسلم -:« أوه عين الربا »، فنص على أنه عين الربا، وهذا يبعد معه أن يكون أراد أنه يشبه الربا.(6/134)
قال القاضي: قوله:« لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق » الحديث عام في جميع أجناسها من مشكول ومصنوع وتجر وجيد ورديء، ولا خلاف في هذا. واختلف عند أئمتنا لعلة ربا الأربع من المطعومات المذكورة في الحديث، هل هي علة الاقتيات من المدخر مما هو أصل العيش غالبًا، أم للاقتيات والادخار بمجرده دون التفات إلى غلبة العيش به، وعلى هذا الاختلاف في العلة اختلف قول مالك في الربا بالتفاضل في الجوز واللوز وشبهه، وطرد ابن نافع من أصحابنا هذه العلة بمجرد الادخار والاقتيات فيما قد يدخر نادرا كالخوخ والكمثرى والرمان، فلم يجز فيها التفاضل وهو أن المسبب التحريم في ذلك على ما يكال ويوزن من المطعرمات والمشروبات دون غيرها، وهو قول الشافعي في القديم، وبه قال أحمد بن حنبل.
قال الإمام: وقوله:« هاء وهاء »، بعض المحدثين يقولونها مقصورة، وحذاق أهل اللغة يمدونها ويجعلون ذلك بدلاً من الكاف ؛ لأن أصلها هاك، يقولون: هاك السيف، بمعنى: خذه، ويقال للاثنين: هاؤما، وللجماعة: هاؤم، قال الله تعالى:{ هاؤم اقرءوا كابيه }، ويقال: هاء، بالكسر.
قال القاضي: وحكى ثابت وغيره من أهل اللغة: ها بالقصر والسكون، مثل: خف، والاثنين: هاء، مثل: خافا، وللجميع: هاؤوا، مثل: خافوا، وللمؤنث: هاك، ومنهم من لا يثنيها ولا يجمعها على هذه اللغة /ولا يغيرها في التأنيث، ويقول في الجميع:" ها " بلفظ واحد. قال السيرافي: كأنهم جعلوها صوتًا مثل: صه، ومن ثنى وجمع قال للمؤنث: هائي، وبعضهم يقول: هاك، قال: وفيه لغة ثالثة: هاء، بالكسر مهموزة، الذكر والأنثى سواء، لكن يزيد في المؤنث ياء، فيقول: هائى، وفيه لغة رابعة حكاها بعضهم: ها، بالألف، كما يقول المحدثون، وأكثر أهل اللغة ينكرونها.(6/135)
قال القاضي: فرواية المحدثين: ش ها، وها " بالقصر على هذا أو على اللغه الثانية سهلت الهمزة. وفيه لغة خامسة:" هاءك " ممدود بعده كاف، وتكسرها للمؤنث. قال الهروي: وقيل: معناه: أن يقول كل واحد منهما لصاحبه: ها، فيعطيه ما بيده، وهذا - أيضًا - يصحح رواية المحدثين. قال الخطابي: قوله: " ها وها ". معناه: التقابص. وقال هو وغيره: إن الصواب المد والفتح، وقد ذكرنا خلافه.
وقوله:« ولا تشفوا بعضها على بعض »، قال الإمام: بمعنى لا تفضلوا، وقد يكون الثف في اللغة بمعنى: النقصان، وهو من الأضداد.
قال القاضي: فيه دليل على أن الزيادة - وإن قلت - منهي عنها حرام ؛ لأن لفظ الشفوف يقتضي الزيادة غير الكثيرة، ومنه: شفافة الإناء، وهي البقعة القليلة فيه من الماء.
وقوله:" غائبًا بناجز ". الناجز: الحاضر، والغائب: ما كان إلى أجل وغاب عن المجلس. ولم يختلف العلماء في منع المبايعة في الذهب والفضة على هذا. واختلفوا في اقتضاء أحدهما عما في الذمة أو مضاهاة أحدهما إذا كان مشتقًا في الذمة بالآخر إذ استقر في الذمة، وهل حكم هذا حكم الحاضر أو الغائب ؟ فمذهب مالك وأصحابه جواز اقتضاء الدراهم ممن لك عنده دنانير حلت عليه، ومصارفته بها وإن لم يحضر الذهب، ولابد من حضور الدراهم، وكذلك ذهمب عن دين دراهم، وكذلك أجاز أن يتصارف رجلان لأحدهما على الآخر دراهم، ولهذا على ذلك دنانير إذا حلتا جميعًا، إذا تناجزا في جميع ذلك بالحين وتراضيا في الحين على ما شاء من قليل وكثير. وأجاز ذلك كله أبو حنيفة وأصحابه، حل الأجل أم لا، وراعوا في ذلك براءة الذمم.(6/136)
وأجاز ذلك الشافعي والليث في اقتضاء أحدهما من الآخر، ومنعاه في الذهبين، وقاله ابن وهب وابن كنانة وأصحابشا، وأجاز ذلك في الاقتضاء ابن أبي ليلى وعثمان البتي بسعر يومهم من الصرف لا بغيره. ولم ير أحد من هؤلاء المجيزين أن في ذلك غائبا بناجز ولا غائبا بغائب، وكل هؤلاء يشترطون التفاضل والتناجز في المجلس. وذكر عن ابن شبرمة: لا يجوز أخذ عين عن عين أخرى، وروى مثله عن ابن عباس وابن مسعود والليث، ومنعه طاووس من بيع واجازة وفرض وما لم يحضر فهو غائب عندهم، وعند الجمهور إذا كان دالاًّ فهو كالحاضر، ولأنهما متفاضلان برئت ذممهما فكان كما لو حضر، وقد روى أبو داود وغيره عن ابن عمر عن النبي - عليه السلام - في جواز الاقتضاء في ذلك حديئا مبينًا، وذكر في بعض طرقه بسعر يومها، كما اختار عثمان البتي، وبعضهم لم يذكر هذه الزيادة.
وقوله:« وزنًا بوزن، مثلاً بمثل، سواءً بسواء »، يحتمل أن يكون تكراره تأكيدًا وبيانًا، وقد يكون اشتراط السواء في المثلية في العين وهو غير السواء في الوزن، ويكون قوله: " سواء بسواء، عائدا على الوجهين. وقد اختلف في ذلك في المماطلة، هل يشترط مع استواء الوزن مماثلة العين أم لا ؟ كما سياتى بعد.
وقول أوس بن الحدثان: " أقبلت أقول: من يصطرف "، حجة لجواز النداء في الصرف، وطلبه وطلب الزبادة فيه، وما يستقر عليه لمن احتاج إلى ذلك ما لم تجزه متجرا وصناعة. فقد كره ذلك جماعة من السلف والعلماء لضيق أمره، وكثرة حرجه، وقلة التوقى، والتخلص منه من الربا إلا مع سعة العلم وثخانة الدين. وقول طلحة: أرنا ذهبك ثم انتنا إذا جاء خادمنا نعطك/.(6/137)
قوله:" لتعطينه ورقه، أو لتردن إليه ذهبه "، ثم ذكر الحديث، فيه الحجة على وجوب المناجزة في المجلس، وهو عند مالك وأصحابه مجلس عقد الصرف لا يتاخر عنه وإن لم يقوما مش مجلسهما، وأنها إن تأخرت قبل أن يقوما من مجلسهما أو أحدهما في المجلس أو قاما إلى موضع آخر بطل الصرف وفسد. وروى عن مالك التخفيف للقيام إلى الصراف ليزنها فيما قرب دكانه، ولا مما لم يفترقا لقرب ذلك من مجلسهما. وقد روى عن مالك جواز الخيار في الصرف، ومشهور مذهبه منعه، وذهب أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما أن مراعاة المناجزة في ذلك ما لم يفترقا بابدانهما وإن قاما من مجلسهما. ويحتمل أن طلحة خفيت عليه هذه السنة، ويحتمل أنه كان يرى جواز المواعدة في الصرف، وأن قبضه للذهب لم يكن ليمسكها ويسن بها، لكن ليعلمهما، كما قال مالك في الموطأ: وأخذ الذهب لينقلها. وقد اختلف عندنا في المواعدة في الصرف على قولين. وفي قوله:« البر بالبر، والشعير بالشعير » مما يحتج به الشافعي وأبو حنينمة والثوري وابن علية وأصحابهم: أن البر والشعير صنفان لتسمية النبي لهما معا.(6/138)
وقوله في الحديث الآخر:« فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم يدًا بيد »، وهو قول أصحاب الحديث،وذهب مالك والأوزاعي والليث ومعظم علماء المدينة والشام أمن المتقدمين أنها صنف واحد، وهو قول مروى عن عمر وسعيد وغيرهما من السلف، ولم يختلف قول مالك، إذ الدخن صنف، والذرة صنف، والأرز صنف، وهو قول كافة العلماء. وكذلك العلس عند أكثر المالكية صنف منفرد. وقال الشافعي: هو من أصناف الحنطة، وقاله بعض أصحابنا. واختلف قول مالك في الفطاتينى، هل هي كلها صنف واحد أو كل جنس منها صنف على حياله ؟ وذهب الشافعي إلى أن الشلت صنف مفرد، وقال الليث: الشلت والدخن والذرة والأرز صنف واحد، وقاله ابن وهب، من أصحابنا. وقوله: " وكان فيما غنمناه انية من فضة. فأمر معاوية ببيعها أ، وذكر إنكار عبادة ابن الصامت لهذا، وذكر نهيه - عليه السلام - عن الذهب بالذهب - الحديث: يحتج بهذا من يجيز اقتناء هذه الأوانى، إذ لر لم يجز ذلك لجاز بيعه. وقد اختلف العلماء في ذلك مع اتفاقهم على منع استعمالها وتحريم الاكل والثرب منها. فذهب الشافعي إلى جواز اتخاذها واقتنانها، وأشار إليه بعض شيوخنا، وتاوله على مذهبنا، وقال غير واحد من شيرخنا: اقتناؤها حرام، وظاهر قول بعضهم الكراهة. وقوله: " فمن زاد أو استزاد فقد أربى، أي: فعل الربا المنهى عنه. وقوله: " فردّ الناس ما أخذوا "، يدل على فسخ هذه البيوع الفاسدة، وأنها إذا وقعت على الفساد فسخت، ولم يصح تقويمها على الواجب والصحة إلا بعد فسخها. ويحتمل أن معاوية لم يبئغه هذه السنة إنما يرى إنكاره لها.
وقوله:« ما بال رجال يتحدثون بأحاديث » إلى قوله:« لم نسمعها أويحتمل أنه تأول أن النهي في المصكوك والذي في منعه من التجارة به والحرص على اقتنائه مصلحة للمسلمين، إذ به التعامل وهو قيم المتعلقات، فإذا كان مملوكًا كان كسائر العروض.(6/139)
وقول معاوية:" لنحدثن بما سمعنا وإن كره"، أو قال:"وإن زعم معاوية"، ما يجب مما أخذ الله على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه وليكونوا قوامين بالقسط شهداء لله، وإغلاظه في اللفظ لمعاوية لمقابلة له على إنكارهما حرمانه مع تحققهم حلم معاوية وصبره.
ومعنى " رغم ": كره، ودل لهذه الكراهة كأنه لصق بالرغام وهي الأرض.
وقوله:« فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا »، حجة لقول الجمهور في تحريم التفاضل والنسيئة في هذه الأصناف، ولا بأس بعضها لبعض على من تعمل في جواز النسيئة في ذلك من التكليف كما تقدم.
وقد أجمع بعد علماء الأمصار/ كلهم وأئمة الفتوى على منعها وحجة في قولهم -أيضًا- في تحريم النسيئة فيها جميعًا، وإجازة التفاضل فيه، وأن عمر بن علية في شذوذه بإجازة النسيئة مع إتلافها ولا النسيئة، ورد على جميع هؤلاء المخالفين لها، الذي يكاد يقطع أنها لو بلغتهم لما تركوها لفضلهم وعلمهم. واستثنى مالك من هذه الجملة الشعير مع البر لكونه صنفًا واحدًا ؛ بدليل عمل السلف في ذلك. وقال أبو حنيفة: تجوز إذا تقابضا بالقرب وإن افترقا، وأما مالك والشافعي والليث والجمهور فيجيزون التقابض في ذلك في المجلس مثل الصرف، إلا أن الشافعي يجزئ في ذلك على مذهبه في الصرف ما لم يفترقا.
وقوله:" باع شريك لي ورقًا بنسيئة إلى الموسم "، وقول البراء: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ونحن نبيع هذا البيع، فقال:« ما كان يدًا بيد فلا بأس، وما كان نسيئة فهو ربا »، ظاهره إن باعها بذهب إلى أجل ؟ بدليل الحديث الآخر. ومعنى قوله:" نهى عن بيع الذهب والورق دينًا "، أي مؤجلاً.
وقوله في الحديث:" أمرنا أن نشترى الفضة بالذهب كيف شئنا "، الحديث، وسؤال السائل له: يدًا بيد، فقال: هكذا سمعت، فيحتمل أن يرجع على قوله:" يدًا بيد " كما جاء في الأحاديث الأخر، ويحتمل أن يقول: كذا سمعت ما حدثت به بغير زيادة.(6/140)
وقوله: أتى رسول الله وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب من المغانم تباع، فأمر رسول الله ات بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال: « الذهب بالذهب وزنا بوزن»، وفي الرواية الأخرى عن فضالة: أنه اشتراها، وفيها اثنا عشر دينارًا، وفيها ذهب وخرز، ففصتلها فوجد فيها أكثر من اثنى عشر دينارًا، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال:« لا تباع حتى تفصل »، كذا عند كافة شيوخنا: " فيها اثنى عشر دينارًا "، وسقطت هذه الجملة من أصل ابن عيسى، وأراها ساقطة عن ابن الحذاء، وسقوطها الصواب. وقال بعضهم: لعله فيها: اثنا عشر، ووجدتها مصلحة عند بعض أصحاب الشيخ أبي على الغساني باثنى عشر دينارًا، وهذا له وجه حسن، وبه يصح إثبات اللفظ إن شاء الله. هذا حكم ما كان من الحلى منظوما أن يفصل ويباع على الانفراد ؟ ذهبه وعرضه، ولا يجمعان في عقد واحد على مذهب مالك، إلا أن يكون مع الذهب تبعًا أو مع العرض من الذهب تبعًا، فيباع بخلاف ذلك من العيهن. ولا يجوز أن يباع بما فيه من العين، فإن كان مصبوغًا بالعرض مربوطا به لا يفصل فيه إلا بفساد أو نفقة ومؤنة. فإن كان مما لا يجوز اتخاذه كان حكمه حكم ما تقدم. وإن كان مما يجوز اتخاذه كحلي النساء والمصحف والسيف والخاتم وجميع آلة الحرب - على خلاف عندنا فيما عدا السيف - جاز بيعه، بخلاف ما فيه من العين ناجزًا كيف كان من فيه، ما يبين العين أو كثرته، ويجرى في بيعه مجرى الصرف فيما يحل ويحرم. وأما بيعه بجنس ما فيه من العين فيجوز إذا كان ما فيه من العين تبعًا الثلث، فأدى نقدًا عند مالك، وجمهور أصحابه وكافة العلماء. وروي عن عمر وابن عمر منع ذلك، وروى عن جماعة من السلف، وقاله محمد بن عبد الحكم من أصحابنا، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه بكثر مما فيه من الفضة، كثرت فضته أو قلت، ولا يجوز بمثلها أو أقل منها، ويقبض حصة الفضة والسيف على أصلهم في العين والعرض بعين أكثر(6/141)
منها، وهذا قول الثررى والحسن بن حيى، وقال حماد بن أبي سليمان: يجوز بيعه بما فيه، قل أو كثر، وهو منكر من القول لمخالفته السنة. واختلف فيه ثانية، فمنعه مالك وأجازه ربيعة والأوزاعي.
وكذلك اختلفوا إذا بيع هذا بغير ما فيه بنسيئة. واختلف قول مانك وأصحابه في فسخه إذا وقع، ولم يختلف إذا بيع بغير ما فيه نقدا بدنانير. واختلف قول مالك إذا كان محلى بالنقدين أو مصوغًا منهما، هل يجوز لمجعه بأقلهما ولا يجوز إلا بغيرها ؛ فإن كان معهما عرض وهما الأقل بيع باقلهما اتفاقا، وإن كان ما في السيف من ذلك تمويها أو مسبوكًا فيه مستهلكًا، قال بعض شيوخنا: هو تبع بكل حال، وأجاز بيعه كيفما كان. وعلى هذا قاس شيوخنا جواز بيع الثياب المعلمة بالذهب إذا كان ما فيها من الذهب الثلث من قيمتها فأدنى بالدنانير نقدًا، أو بالدنانير والدراهم نسيئة، على الخلاف المتقدم.(6/142)
قال الإمام - رحمه الله -: مذهب مالك: أن الذهب إذا كانت معه سلعة فلا يجوز بيعها بذهب، وكذلك إذا كانت فضة وسلعة فلا يجوز بيعه بفضة ؛ لأن ذلك يؤدي في التفاضل بين الذهبين. والذهب للمنفرد جميع أجزائه مقابل للذهب والسلعة، فلم يقع التماثل، ولا بيع الذهب بمثله سواء بسواء، ولكن مالك استثنى السيف المحلى إذا كانت حليته تبعًا له، أن يباع بالفضة وإن كانت حليته فضة، وأجاز ذلك ؛ لأن الشرع أباح تحليته ونزعه يثق وهو قليل تبع، والاتباع غير مقصودة في العقود. وأما أبو حنيفة فيجيز ذلك إذا كان الذهب المنفرد، ونحن نمغ في الحديث فالشرط الذي يكون في الذهب المنفرد أكثر من الذهب المنظم للسلعة، وإنما يمنع هذا التأويل على المخالف الذي ذكرنا أنه يجيز ذلك على الإطلاق. ورأيت الطحاوي يفصل عن حديث القلادة بانه إنما نهى عن ذلك لئلا يغبن المسلمون في المغانم، وأنه - صلى الله عليه وسلم - تخرف من الغبن، وقد ظهر ما تخوف منه ؛ لأنه وجد في ذهبه أكثر من الثمن، وقد تعسف عندي في هذا التأويل ؛ لأنه قد ذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أمر بنزع الذهب الذي فيها قال له:« الذهب بالذهب وزن بوزن »، وهذا كالنطق بالعلة، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: إنما أمرتكم بذلك حتى يحصل الذهب بالذهب، سواء بسواء، ولو كان إنما أمر بذلك للغبن لقال - صلى الله عليه وسلم -: الغبن لا يجوز في المغانم، أو ما يكون هذا معناه.
قال القاضي: وقوله في حديث فضالة: " انزع ذهبها فاجعله في كفة، واجعل ذهبك في كفة، ثم لا تاخذن إلا مثلاً بمثل ": المراطلة في الذهبين والفضتين جائزة، كانا مسكوكين، أو مصوغين، أو تبرين، أو أحدهما مخالف لصاحبه، اتفق الذهبان في الجودة أو اختلفا إذا استوت الكفتان. هذا هو المشهور في المسألة لشيوخنا، خلافًا في مراطلته بنفسه أو بغيره ؛ إذ لا يجوز بيعه جزافا حتى يعلم وزن ما في الكفة أو عدده إذا كان يجزى عددا.(6/143)
وكذلك إذا اختلفا في المراطلة بالذهب الجيدة بالرديئة والمغشوشة، ومشهور عندنا مذهب المدونة، ولمالك عند ابن شعبان فهو. كذلك اختلف شيوخنا في مراطلة المسكوك بالمصوغ أو أحدهما بجنسه لاختلاف الذهبين في الجودة وبمنع ذلك كله اجيز، والخلاف في هذه الوجوه مبنى على السكة والصياغة فيهما كالعرضين مع الدنانير أم لا، وهل تجيز الدنانير أم لا ؟
وكذلك اختلفوا في جواز المراطلة بالمثاقيل فقيل: لا تجوز، وقيل: تجوز بالمثاقيل وهذا أكئر وأصوب، ولكفة، بكسر الكاف، وكل شيء مستدير، وللثوب والصائد، وكل شيء مستطيل بالسهم، وقيل بالوجهين في الجميع.
وقوله:" ثم لا يأخذن إلا مثلاً بمثل "، لا خلاف أنه متى رجح أو زاد شيئًا - قل أو كثر - فسد المراطلة، ودخله التفاضل بين الجنسين.
وقوله: كنا نبايع اليهود الأوقية الذهب بالدينارين والثلاثة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل »، يدل أن التحريم لهذا كان لخيبر، وعليه يدل حديث بيع التمر وسنذكره /. « ولا تساكنوا اليهود»، هو نهى النبي - عليه السلام - وسنذكره، ويحتمل أنهم تأولوا جواز الربا مع الكفار.
وقوله في حديث معمر بن عبد الله: أنه أرسل غلامًا له بصاع قمح ليبيعه ويشترى بئمنه شعيرأ، وأنه أخذ به صاعًا وزيادة، وأن معمرا قال لداود: ولا تأخذن إلا مثلاً بمثل. واحتج بقوله - عليه السلام -:« والطعام بالطعام مثلاً بمثل »، قال: وكان طعامنا يومئذ الشعير، فقيل له: إنه ليس بمثله، قال: أخشى أن يضارع: فيه حجة للمالكية في جعلها صنفًا واحدًا.(6/144)
قال الإمام: مذهب مالك: أن الشعير مع القمح صنف واحد، لا يجوز التفاضل به لتقارب المنفعة فيه، وسنبين في كلامنا على السلم وجه مراعاته المنفعة دون مجرد الذوات، ونوضح ذلك: فإن القمح قد يستدل به في نفسه فيبين أعلاه وأدناه من التقارب قريب مما بين القمح والشعير، ثم حصل الاتفاق على أن أعلى القمح وأدناه لا يجوز التفاضل بينهما لتقارب الغرض فيهما، وكذلك القمح والشعير. ومذهب الشافعي جواز التفاضل بين القمح والشعير، ومال إليه بعض شيوخنا المحققين، واعتمد على أنه يخالف القمح في الصورة والتثنية كما يخالف القمح التمر، فوجب أن يكون صنفين، وقد قال ائ عقيب الحديث:« فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم »، وقد ذكر الترمذي:« بيعوا البر بالشعير كيف شئتم، يدًا بيد »، وبهذا احتج الشافعي.
وقوله للذى قدم بتمر جنيب، وذكر أنه اشترى منه الصاع بالصاعين من الجمع:« لا تفعلوا، ولكن مثلاً بمثل، بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا، وكذلك الميزان ». قال الإمام: الجنيب: صنف من أعلى التمر، والجمع صنف من أدناه. وقيل: خلط من أنواع التمر.
قال القاضي: قيل: الجنيب ليس من التمر، والجمع كل لون لا يعرف اسمه، وقيل: كل لرن من التمر جمع، وقد جاء في مسلم في نفس الحديث تفسيره: أنه الخلط من التمر، وقد جاء في حديث أبي سعيد نفسه في "مسلم" مكان "الجنيب ": " برانيًا "، وهو من أعلى التمر وأفضله.
قال الإمام: تعلق بعموم هذا الحديث من لا يحمى الذريعة، فيقول: قد أجاز ئ هنا أن يبغ الجمع بالدراهم، ثم يشترى به جنيبا. ولم يفرق بين أن يشتريه ممن باع الجمع منه أو من غيره، ولم يتهم على كون الدراهم لغوًا، ومن يحمى الذريعة يخصه بأدلة أخر.(6/145)
قال القاضي بجواز ذلك من البائع أو كل. قال الشافعي وأبو حنيفة وكافتهم. وإنما راعى الذريعة في ذلك مالك، وظاهر فعل هذا أن تحريم التفاضل في مثل هذا بعد لم يكن فاشيًا وإلا قيس، كأن يحصي على فاعله وهو عامل النبي بخيبر، وكان - عليه السلام - والأنمة بعده لا يقدمون على الناس في أمر إلا من فقه فيه وعلمه، وعلم صلاح حاله ؟ ولهذا لم يوبخه النبي ولا أدبه على مخالفة ما نهى عنه، ولا أنكر ذلك عليه أحد من أصحابه، لاسيما على رواية مالك في "الموطأ": أن النبي لحلض لما نهاهم عن بيع التمر بالتمر، قالوا له: إن عاملك على خيبر يأخذ الصاع بالصاعين، وذكر الحديث، فهذا يدل أن الأمر كان أول التحريم، وعليه يدل حديث القلادة المتقدم.
وقوله:" وكذلك الميزان "، مما يستروح إليه الحنفى في علة الربا، لذكره هنا الكيل والميزان وتسميته عليه. ولنا أن نقول: إنما نبه - عليه السلام - أن حكم الميزان فيما لا يجوز التفاضل فيه من المطعومات حكم الكيل.
وقوله - عليه السلام - في الرواية الأخرى:« أوه، عين الربا »، هي كلمة تحزن وتوجع، مثددة الواو، ويقال بالمد والضم، وقيل - أيضًا -:" أووه " بضم الواو ومدها. وقد قيل في قوله:{ أواه منيب } ابن كثير: التأوه: خوفًا وشفقة، وهو من هذا صحيح. وقوله: " عين الربا "، أي: هو الربا المحرمة نفسه من الزيادة، لا ما يشبهه ويغامر عليه.
وقوله في حديث بلال:« ردوه، ثم بيعوا تمرنا، واشتروا لنا من هذا »، دليل على فسخ البيوعات الفاسدة، وردها ورد المثل في المكيل / والموزون، وجواز الوكالة في نجيعه، وجواز مثله من غير البائع الأول. وفي هذا الحديث جواز اختيار طيب الطعام وتفضيله على رديئه.(6/146)
وقول أبي نضرة وابن عمر وابن عباس عن الصرف: فلم يريان بأسًا، وقوله: سألت عنه أبا سعيد عن الصرف فقال: هو ربا، وقوله: إنا سنكتب إليه فلا يفتيكموه يعني ابن عباس، وقوله: فأتيت ابن عمر بعد فنهاني، وقوله عن أبي الضهباء: أنه سال ابن عباس عنه بمكة فتركه، قطع للخلاف في هذا، أو رجوع من ابن عمر وابن عباس عما روى عنهما: لا ربا إلا في النسيئة.
والمراد بالصرف هنا بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا ولهذا، وإلا يدًا بيد، ولحجة أبي سعيد بقوله: التمر بالتمر أحق أن يكون ربًا أم الفضة بالفضة ؛ وهذه الأحاديث تدل أنها لم تبلغ ابن عباس ولا ابن عمر قبل، فلما بلغتهما رجع إليها ولا رأى لأحد مع النسينة ولا قياس بعدها، وإنما كان احتج ابن عباس بعموم حديث أسامة:« لا ربا إلا في النسيئة »، على ما ذكر مسلم، وقد تقدم الكلام على هذا ووجه التأويل فيه. وقيل: هو منسوخ بهذه الاثار، وبه إجماع المسلمين بعد على ترك الأخذ به برده، ويصحح نسخه إن صح رفعه.
قال الإمام: خرَّج مسلم في " باب أكل الربا " حديثًا عن جرير، عن مغيرة، قال: سألت إبراهيم، فحدثنا عن علقمة. هكذا في نسخة ابن ماهان، وعند الجلودى: عن جرير، عن مغيرة، قال: سال شباك إبراهيم، فحدثنا علقمة، فجعل السائل هو شباك، وفي رواية أبي العلاء وابن ماهان: أن السائل هو المغيرة، وشباك هذا هو صبى كوفى مشهور بالرواية عن إبراهيم النخعي.(6/147)
قال القاضي: شباك هذا، بكسر الثين المعجمة. قال البخاري: شباك الضبي الكوفي عن إبراهيم روى عنه مغيرة في "مسلم". وشباك، بفتح الشيهن وكسر الباء غيره، هو شباك بن عائز بن المنخل الأزدى،ويقال: هو قيسي بصري، حدث عنه نصر بن على وهدبة، ذكره البخاري، والدارقطني، قال عبدًالله: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله، قلت - يعني علقمة -: وكاتبه وشاهديه، قال: إنما نحدث بما سمعنا، وفي حديث جابر: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال:« هم سواء »، كذا لعامة شيوخنا، وللطبري قال: قلت: وشاهديه، قال:« هم سواء »، فهذا يحتمل أنه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، والسائل جابر، ويحتمل أنه من قول جابر والسائل غيره، لكن ذكر الكاتب والشهيدين في الحديث، وروى عن ابن المسيب. وقد ذكره البخاري في الترجمة، ودخل الكاتب والشاهد هنا لمعونته على هذه المعصية ومشاركته فيها.
قوله - عليه السلام -: " الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات " الحديث: اختلف الناس في ذكر المشتبهات، فقيل: مواقعتها حرام، وقيل: حلال، لكنه يتررع عنه لاشتباهه، وقيل: لا يقال فيها: حلال ولا حرام ؛ لقوله - عليه السلام -: « الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات »، فلم يحكم لها بشيء من الحكمين. وقوله:« لا يعلمها كثير من الناس »، فقد دل هذا أن ثتم من يعلمها، فمن علمها لابد أن يلحق عنده أحد الوجهين، فيكون لها حكمه.
قال القاضي: وما حصل عند العلماء في هذا الحد فقد خرج من المشتبه إلى البين، وإنما الكلام فيما لم يتبين لا في طريق رد، أو لم يظهر له دلالة لأحد الوجهين.
قال الإمام: هذا الحديث جليل الموقع عظيم النفع في الشرع، حتى قال بعض الناس بانه ثلث الإسلام، وذكر حديثين اخرين هما الثلثان الباقيان.(6/148)
قال القاضي: ما أشار إليه - رحمه الله - هو ما روى عن أبي داود السجستاني، قال: كتبت عن رسول الله ت خمسمائة ألف حديث، الثابت منها أربعة آلاف حديث، وهي ترجع إلى أربعة أحاديث، قوله - عليه السلام -:« إنما الأعمال بالنيات »، وقوله:« من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه »، وقوله:« لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه »، الحديث، وقوله:« الحلال بين والحرام بين » الحديث. وقد روى فيها مكان حديث:« لا يكون المؤمن مؤمنًا » حديث:« ازهد في الدنيا يحبك الله /، وازهد فيما في أيدى الناس يحبك الناس »، وقد نظمها أبو الحسن طاهر بن مفوز في بيتين بقوله:
عمدة الدين عندنا كلمات أربع من كلام خيرالبرية
اتق الشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك وعملن بنية(6/149)
قال الإمام: وإنما نبه أهل العلم على عظم هذا الحديث ؛ لأن الإنسان إنما يعتبر بطهارة قلبه وجسده، فاكثر المذام والمحظورات إنما تنبعث من القلب، فاشار - صلى الله عليه وسلم - لإصلاحه، على أن صلاحه هر صلاح الجسد، وأنه الأصل. وهذا صحيح، يؤمن به حتى من لا يؤمن بالشرع، وقد نص عليه الفلاسفة والأطباء. والأحكام والعبادات التي ينصرف اشإنسان عليها بقلبه وجسمه، تقع فيها مشكلات وأمور ملتبسات التساهل فيها، وتعويد النفس الجرأة عليها يكسب فساد الدين والعرض، فنبه - صلى الله عليه وسلم - على توفى هذه،وضرب لها مثلاً محسوسا ؛ لتكون النفس له أشد تصورا، والعقل أعظم قبولا، فاخبر - عليه السلام - أن الملوك لهم حمية، لاسيما وهكذا كانت العرب تعرف في الجاهلية، أن العزيز فيهم يحمى مروجا وأبنية، فلا تجاسر عليها، ولا يدنى منها، مهابة من سطوته، وخوفا من الوقوع في حوزته، وهكذا محارم الله - سبحانه - من ترك منها ما قرب فهو من متوسطها أبعد، ومن تحامى طرف الشيء أمن عليه أن يتوسط، ومن طرف توسط. وهذا كله صحيح، وإنما بقي أن نتكلم على هذه المشتبهات فنقول: قد أكثر العلماء من الكلام على تفسير المشتبهات، ونحن ننبهكم على أمثل طريقة، فاعلم أن الاشتباه هو الالتباس، وإنما يطلق في مقتضى هذه التسمية هاهنا على أمر ما أشبه أصلاً ما، ولكنه مع هذا يشبه أصلاً آخر يناقض الأبعل الآخر، فكأنه كثرت أشباهه، وقيل: اشتبه بمعنى اختلط، حتى كانه شيء واحد من شيئين مختلفين. وإذا أحطت بهذا علما فيجب أن تطلب هذه الحقيقة، فنقول: قد تكون أصول الشرع المختلفة تتجاذب فرعا واحدا تجاذبا متساويا في حق بعض العلماء، ولا يمكنه تصور ترجيح، ورده لبعض الأصول يوجب تحريمه، ورده لبعضها يوجب تحليله، فلا شك أن الأحوط تجنب هذا، ومن تجنبه وصف بالورع والتحفظ في الدين، وما أخذه من المسلمين بعيب فاعل هذا، بل المعلوم انتظار الألسنة بالثناء عليه والشهادة له بالورع إذا عرف(6/150)
بذلك.
وقد سئل مالك عن خنزير الماء فوقف فيه،بى كان شيخنا - رحمه الله- يقول:لما تعارضت الاى عنده فنظر إلى عموم قوله تعالى:{ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير }، فخاف أن يدخل في عمومه فيحرم، ونظر إلى عموم قوله تعالى:{ أحل لكم صيد البحر وطعامه }، وأمكن عنده أن يدخل في عموم هذه الآية فيحل، ولم تظهر له طرق الترجيح الواضحة في أن يقدم آية على آية، ووقف فيه، ومن هذا المعنى أن يعلم أصل الحكم، ولكنه يلتبس وجود شرط الإباحة حتى يتردد بينه وبين شرط التحريم، وذلك أن الإنسان يحل له أن يأكل ملكه أما في معناه مما أبيح له تملكه، ويحرم عليه أكل ملك غيره وما في معناه.
وقد وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - تمرة ساقطة فترك أكلها واعتل بأنه لولا أنه يخاف أن تكون صدقة لأكلها، فلما كانت الصدقة محرمة عليه وشك، هل حصل هذا التحريم في هذه التمرة تركها، ولحقت بالمشتبهات، وهذا إذا كان الاشتباه من جهة أصول الشرع بعد نظر صحيح فيها، أو في القسم الأخير الذي ذكرناه مع فقد أصول ترد إليها، وعدم أمارات وظنون يعرل عليها.
وأما إذا كان الأمر خلاف ذلك، فليس من الورع التوقف بل ربما خرج بعضه إلى ما يكره، وبيان ذلك بالمثال: أن من أتى إلى ماء لم يجد سواه ليتوضأ منه فقال في نفسه: لعل نجاسة سقطت فيه قبل أن أرد عليه، وامتغ من الطهارة به، فإن ذلك ليس بممدوح، وخارج عما وقع في الحديث ؛ لأن الأصل طهارة المياه وعدم الطوارى، واستصحاب هذا كالعلم الذي يظن أنه لم يسقط منه شيء، مع أن هذه الفكرة إذا /أمر معها تكررت ولم يقف عند حد وأدى ذلك إوإنقطاع عن العبادات.
وكذلك لو أن إنسانا اشتهى النساء ثم قال: لعل في العالم من رضع معي فلا يلقى امرأة إلا والعقل يجوز ذلك فيها إذا كانت في سن يمكن أن ترضع معه، فاجتنبت جميع النساء لهذا الخاطر الفاسد لم يكن مصيبًا، كمثل ما قلناه في الماء من استصحاب الحال في عدم هذه الأمور.(6/151)
وما يقع من الضرر بالإصغاء إلى هذه الخواطر قد يتسع فيها الخرق فقد صارت الشكوك التي لا أصول لها، وتتكرر على نفسه وبعظم الضرر بالمرور على موجبها ساقطة في الشرع حتى كانت المداواة غد بعض الفقهاء، والمستحسن إضراب النفس عنها والتغافل عن إخطارها بالبال، كما يقولون في الموسوس في الحدث بعد الوضوء: إنه يؤمر بأن ينهى عن ذلك ويعرض عنه، حتى إذا اعتاد الإعراض عنه لم يتكرر عليه.
وقد يكون هذا الشك له مستند ولكن الشرع عفى عنه لعظم الضرورة ؛ كمن تحقق أن امرأة أرضعت معه والتبست عليه بنساء العالم، فإنا إن قطعنا عليه شهوته وحرمنا عليه نساء العالم جملة كان ذلك إضرارًا عظيمًا وكلهن محلل، فلا يغلب حكم محرمة واحدة على مائتى ألوف محللات، ولو اختلطت هذه الرضيعة بنساء محصورات لنهى عن التزوج منهن ؛ لأن الشك ههنا له مستند وهو العلم بأن هناك رضيعة وقد شك في عينها، وله قدرة على تحصيل غرضه، مع القطع بسلامته من الوقوع في الحرام بأن يتزوج من نساء قرم آخرين، وليس من الحرام في الدين أن يكون له طريقان في تحصيل غرضه: أحدهما: محلل هو أسهل وأكثر، فإن وقع فيه قطع على عين لتحليل. والطريقة الأخرى، أقل وأندر وإن وقع فيه خاف أن يقع في عين الحرام، فيعدل عن المتحلل بما يجوز أن يكون محرما. وبهذا فارقت هذه المسألة التي قبلها، لأنه متى اختلطت بنساء العالم لم يقدر على تحصيل غرضه بطريق أخرى، فوجب ألا يكرن للشك تاثير، ط نما أريتك بهذه المسألة طريقة تسلكها، والا فمسائل هذا النوع لا تحصى كثرة، ولكن أصول جميعها لا تنفك عن الأصول التي مهدت لها، وقد يقل الضرر بالتحريم في بعض المسائل ويعظم في أخرى، ويتضح كون الشك له مستند في بعض المسائل وتخفى في أخرى، وقد تكثر أصول بعض المسائل، وقد تتضح مساواة الفرع للأصل وقد تخفى.(6/152)
ومن مجموع هذا كله واختلاف نظر الفقهاء فيه يقع به بينهم التنازع والاختلاف. من ذلك مسائل الشاك في عدد الطلاق، والشاك هل حنث في يمينه أم لا ؟ والشاك في زوجته هل هي تحبه أم لا ؟ وقد حلف على أنها تحبه والشك في الإناءين أيهما النجس ؟ والشاك هل أصاب ثوبه نجاسة أم لا ؟ والشاك في موضعها مع علمه بإصابتها ثوبه. إلى غير ذلك من المسانل التي كثر اضطراب العلماء فيها،وطريقتهم فيها هي التي نبهناك عليها.
وأنت إذا أحطت بهذه الطريقة علما أغنتك عن اضطراب الفقهاء -أيضًا- في هذا الحديث، هل المشتبهات المذكورات فيه واجب اجتنابها ؟ وهل قوله: « من وقع في الشبهات وقع في الحرام »، دلالة على أن اجتنابها واجب، أم يكون المراد أنه قد يقع في الحرام لقوله بعد ذلك:« كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه »، ولم يقل:" يرتع فيه "، فلابد مع وضعه إياها جاز اجتنابها استبراء للدين والعرض، والاستبراء يشير إلى أنها ليست بنفس الحرام الذي يجب أن يجتنب ؛ لأن هذه المسائل التي نصنا على بعضها، وأشرنا إلى بقيتها تختلف طرق الاشتباه فيها على ما أشرنا إليه به، فقد يقتضي بعضها التحريم وأن الاجتناب واجب، وقد تدق طرق الاشتباه وتضعف فيكون الاجتناب حينئذ مستحبًا غير واجب، ولكنه ت أتى بلفظ دال على استحباب التوقي. ولا شك أن استحسان التوقى يعم جميعها ما لم تكن من الشكوك الفاسدة التي أشرنا إليها.(6/153)
وقد يقال هذه المشتبهات إقا أن تكون حراما أو حلالأ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الحلال بين، وإن الحرام بين »، فإن كانت محرمة فيجب أن تكون بينة على ظاهر قوله، وإن كانت محللة فيجب أن تكون بينة على ظاهر قوله أيضًا. قيل: قد يقع منها ما هو مكروه وهو كثير فيها فلا يقال: / إنه حرام بين، ولا حلال بين لا كراهية فيه. وأيضًا فقد يكون المراد ما استقر عليه الشرع من تحريم وتحليل وما نزل بيانه واضحا بيأ، وإليه أشار بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الحلال بين، والحرام بين »، ولا شك أن تحريم الربا والميتة والدم ولحم الخنزير بين، ولا شك أن تحليل الأكل من طيبات ما اكتسبنا، وتزويج النساء حلال بين. و‘إلى هذا وأمثاله أشار، وإن كانت المشتبهات لها أحكام ما ؛ ولهذا قال:« لا يعلمهن كثير من الناس »، ولو كانت لا حكم إلا لله فيها لم يقل: "لا يعلمهن كثير من الناس "؛ لأن الكل حينئذ لا يعلمونها، وقد يدخل هذا الحديث في الاستدلال على حماية الذريعة وصحة القول به كما ذهب إليه مالك ؛ لقوله - عليه السلام -:« كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ».
قال القاضي: ما ذكره - رحمه الله - صحيح، لكن قوله في ذكر الأخت من الرضاعة إذا كانت هي بين من يرضع معه، كلام لا وجه له، ورب أخوين من الرضاعة يمكن أن يكون أحدهما في سن أمي الأخرى أكبر لتقدم رضاع الأكبر لأم الأصغر في شبابها وأول بطونة وليس من حكم الرضاع عند أحد، أو يكون في لبن ولادة واحدة وبطن واحدٍ، ولا أعلم ما اضطره إلى ذكر هذه الزيادة التي لا معنى لها وأتيا هنا خطأ.
وقوله:« ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب »، المضغة: القطعة من اللحم، وسميت في الحديث مضغة إشارة إلى تصغير هذا العضر ؛ لأن أصل المضغة قدر ما يمضغه الإنسان في فيه كالاكلة للقمة. تصغير هذا العضو بهذا اللفظ لإضافته إلى سائر الجسد.(6/154)
قال الإمام: واختلف الناس في محل العقل من الإنسان، فذهب بعض الأئمة من المتكلمين أنه في القلب، وإليه صار جمهور الفلاسفة، ويحكى عن أرسطاطاليس - وهو رئيس الفلاسفة، وقالت الأطباء: إنه في الدماغ، ويحكى هذا عن أبي حنيفة.
وقد احتج بعض الأئمة من المتكلمين على أنه في القلب بقوله سبحانه وتعالى:{ فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها }، فاضاف العقل إلى القلب، وقال تعالى:{ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب }، واحتجوا - أيضًا - بهذا الحديث، وقد جعل النبي - عليه السلام - صلاح الجسد كله وفاده كله تابعًا للقلب، والدماغ من جملة الجسد، فاقتضى ظاهر الحديث كون فساده وصلاحه تبعًا للقلب، وهذا يدل على أنه ليس بمحل العقل. وأما الأطباء، فانما عمدتهم أن الدماغ يفسد فيفسد العقل، ويكون منه الصرع والهوس عندهم، ويتغير مزاجه فيتغير العقل، ويكون فيه عندهم المالنخونيا، وغير ذلك من العلل التي يسمونها، فاقتضى ذلك عندهم كون العقل في الدماغ. ولا حجة لهم في هذا ؛ لأن الله - سبحانه - قد يجرى العادة بفساد العقل عند فساد الدماغ وإن لم يكن العقل فيه، لاسيما على أصولهم في الاشتراك الذي يذكرونه في كتبهم بين الدماغ والقلب، نعم وهم يجعلون بين رأس المعدة والدماغ اشتراكًا وبنصون في كتبهم على أن المالنخونيا على قسمين شرًّا سبعية وهي أبخرة عندهم تصعد من نواح قريبة من المعدة، وقد يكون برأس المعدة خلط يبخر لأعلى فيتغير العقل، وهذا منهم نقضن لاستدلالهم، والنوع الآخر دماغية وهو من فساد مزاج الدماغ، والعلم غدهم عليهما أن ما دام على وتيرة واحدة وهو من الدماغ وما كان تختلف الأزمان فيه فهو من أسفل البدن، فإذا صد البخار تحرك وإذا سكن سكن.(6/155)
قال القاضي: تأمل قول النعمان بن بثير في هذا الحديث: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول، وأهوى باصبعيه إلى أذنيه، يصحح سماع النعمان بن بشير عن النبي - عليه السلام - كما قال أهل العراق، ويرد ما ذكر يحيى بن معين عن أهل المدينة أنهم لا يصححون له سماعا من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد ذكر البخاري حديثه هذا من طرق، وفي بعضها: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي بعضها: فإن النبي قسمها على علة الحديث. وقد جاء في الحديث الآخر في صدقة ابن علية وإشهاده النبي له وقول النبي:" متى ذلك ؟" وقد حكاه.
وذكر مسلم حديث جابر وجمله وبيعه له من النبي - صلى الله عليه وسلم -، على أن له فقار ظهره إلى المدينة، وزجر النبي لحلض له وانطلاقه أمام الإبل بعد قد أصابته ببركته - صلى الله عليه وسلم - - ?
وفي قوله: ابل بعنيه، جواز طلب البيع من الرجل سلعته إبراء وإن لم يعرضها للبيع. وقد مضى الكلام على ما يسمى بأحكام النكاح والخلاف في معنى قوله:« تلاعبك وتلاعبها »، والحض على ركعتي المسافر إذا قدم. وفيه جواز الزيادة والرجحان في ثمن المبيع كثر أو قل، كان في مجلس القضاء أو بعده، وبهذا قال مالك وكافة العلماء، واختلف أصحاب مالك في الزيادة في الاقتضاء من السلف في المجلس، إذا كانت الزيادة عددا أو زيادة وزن وأجازوه في غير المجلس، وأجاز ذلك بعض أصحابنا بكل حال في الوزن والكيل في المبغ على البائع وفي الثمن على المشتري، إذ توفيه ما يأخذ من كل واحد منهما عليه.(6/156)
قال الإمام: من الناس من أجاز بيع الدابة واستثناء البائع ركوبها ؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث، وأما مالك فيجيزه بشرط أن تكون مسافة هذا الركوب قريبة ويحمل هذا الحديث عليه، وأما أبو حنيفة والشافعي فيمنعانه أصلاً لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثنيا وعن بيع وشرط، وكانهما يريان أن هذا لم تكن فيه حقيقة البيع ؛ لأنه أعطاه الجمل والثمن لما وصل إلى المدينة،أو كان شرط الركوب لم يكن مقارنا للعقد، ويرون أن التعلق بنهيه ت عن بيع الثنيا وعن بيع وشرط أولى من هذه الفعلة المحتملة، ونحن نخص الحديثين بهذه الفعلة ؛ لأنهما عمومان وهذه أخص منها، والخاص يقضى على العام. ورده الجمل عليه لا يناقض كون الأول بيعًا، وليس من وهب ما اشتراه بعد حجة اشترائه رافعا لكونه مشتريا له أولاً، ولو ارتفع شراؤه وسقط لارتفعت هبته وسقطت، فلا يصح حمل الحديث على أنه لم يقارن البيع هذا الشرط مع قوله: " فبعته إياه على أن لي فقار ظهره "، وهذا نص في الاشتراط عند البيع. وقد اختلفت الأحاديث في الشروط، ومن لم يكن يتفطن ذلك ونيابها اضطرب الأمر عليه.
وقد حكى أن رجلاً استفتى أبا حنيفة عن بيع وشرط، فقال: هما باطلان، ثم استفتى ابن شبرمة فقال: هما صحيحان، ثم استفتى ابن أبي ليلى فقال: البيع صحيح والشرط باطل. قال السائل: فقلت: سبحان الله، ثلاثة من فقهاء القرآن اختلفوا على في مسألة واحدة هذا الاختلاف، وأتى أبا حنيفة فاعلمه بما قال صاحباه، فقال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وشرط، وأتى ابن شبرمة فاحتج له بحديث جابر هذا، وأتى ابن أبي ليلى فاحتج له بحديث بريرة المتقدم.(6/157)
ونحن نبين الأحاديث فنقول: من الشروط ما يفسد العقد، ومنها مالا يفسده. فما كان منهما من مقتضى العقد - كالتسليم - أو مصلحته - كالرهن والجعل - صح البيع والشرط، وما كان ينافي موجب العقد ويدخل في الغرر والجهالة بالمبيع فسد العقد والشرط. وكان شيخنا - رحمه الله - يقول: ما لا فائدة فيه ولا يؤدى إلى فساد في البيع ولا يزاد في الثمن ولا ينقص منه لأجله، فهذا الذي قد يقول فيه بعض أصحابنا: البيع صحيح والشرط باطل. وقال بعض الناس: قول جابر: " وزن لي ثمن البعير فارجح لي فيه دلالة على جواز هبة المجهول.
وقوله: " أفقرني ظهره "، الإفقار في اللغة: إعارة الظهر للركوب.
قال القاضي: المماكسة معناها: المكالمة في النقص من الثمن. وأصلها من النقص، ومنه: مكس العشار، وهو ما ينتقصه وياخذه من أموال الناس. والناضح: الجمل، ومن تفسيره: ومضى أهل قسيمته بذلك. وفي حديث جابر ابتداء المشتري بذكر الثمن. وقوله: " على أن لي فقار ظهره ": كناية عن الركوب عليه، كما بينه في الحديث الآخر. وفقار الظهر: مفاصل عظامه. وصرار: بكسر الصاد المهملة وتخفيف الراء، وكذا رواه بعض رواة البخاري: هو مرضع قريب من المدينة. وقيده الدارقطني والخطابي وغيرهما، وكذا عند أكثر شيوخنا، وقال الخطابي: هي بئر قديمة على ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق، والأشبه عندي أنه موضع لا بئر، بدليل قول الشاعر:
لعل صرارًا أن تجيش بيارها
وإليها ينسب محمد بن عبد الله الصراري. وعند الصدفي والعذري: "ضرارًا " بضاد معجمة، وعند الصدفي عن العذري وهو خطأ وكذا لابن الحذاء فيما رواه البخاري وحجة في نفس الروايات.(6/158)
وقوله: أنه باعه بخمس أواق /، فزادني أوقية، وفي بعضها: بأوقيتين ودرهم أو درهمين، وفي بعضها: بأوقية ذهب، وفي رواية: باربعة دنانير، وفي الأخرى: باوقية، ولم يقل: ذهبا. وقد ذكر البخاري اختلاف بعض الروايات، وزاد قول من قال عن سالم عن جابر: بمائتى درهم، وقول أبي نضرة عن جابر: بعشرين دينار، وقول ابن القاسم عنه: أحسبه بأربع أواق. قال البخاري: وقول الشعبى: بأوقية، إنما هو الأكثر. قال أبو جعفر الداودي: ليس أوقية الذهب وزن يحفظ، وأما أوقية الفضة فاربعون درهمًا. أما اختلاف هذه الروايات فبسببه الحديث على المعنى، وبمثل هذا يحتج من غير ذلك. وقال: أما في الحديث الواحد قد حدث به جماعة من الصحابة والتابعين بالألفاظ مختلفة وعبارات متقاربة ترجع إلى معنى واحد، وإنما قاله النبي - عليه السلام - مرة واحدة وفي قصة متعددة. فاقا ذكر ذهب الاوقية المهملة فيفسرها قوله: " أوقية ذهب "، وإليه يرجع اختلاف الألفاظ ؛ إذ هي في رواية سالم بن أبي الجعد، عن جابر، مفسرة بقوله: " إن لرجل على أوقية ذهب " فهؤلاء بها، ويكون قوله في الرواية الأخرى: فبعته منه بخمس أواق، أي من فضة، صرف أوقية الذهب حينئذ، كانه أخبر مرة عما وقع به البيع أوقية الذهب، أو لأمره عما كان به القضاء من عدلها فضة أخرى - والله أعلم.(6/159)
وبعد هذا قوله: " خذ جملك ودراهمك "، ورواية من قال: " مائتي درهم ؛ لأنه خمس أواق، أو يكرن هذا كله زيادة على الأوقية كما قال: "فماذا لو زيد ". وأما ذكر الأربعة الدنانير فموافقة للأوقية ؛ إذ قد يحتمل أن يكون وزن أوقية الذهب حينئذ وزن أربعة دنانير كبار ؛ لأن دنانيرهم كانت مختلفة، وكذلك دراهمهم على ما بيناه في الزكاة ؛ ولأن أوقية الذهب غير مخففة الوزن بخلات الفضة، ويكون المراد بذلك أنهما صرف أربعين درهمًا، فاربعة دنانير موافقة لأوقية الفضة ج إذ هي غير قيمته. ثم قال: أوقية ذهب، كانه أخذ عن الأوقية عدلها من الذهب الدنانير المذكورة، وإلى هذا نحا البخاري في الجمع بين الروايتين، أو يكون ذكر الأربعة الدنانير في ابتداء المماكسة وانعقد البيع بوقية.(6/160)
وأما قوله: " أوقيتان ": يحتمل أن الواحدة هي التي وقع بها البيع، والثانية زاده إياها، ألا تراه كيف قال في الرواية الأخرى: " فزادنى الأوقية"، وذكره الدرهم أو الدرهمين مطابقة لقوله:" وزادني قيراطًا ". في بعض الروايات: أنه أرجح له في كل دينار قيراطا، وإنها الزيادة التي زاده أولاً، فذكر مرة قيراطا في هذه الرواية وشك في هذه الرواية في مقدار الزيادة، إذ صرف قيراط الذهب على ما كان قبل درهم ونحوه ؛ لأن دنانيرهم كان بعضها من عشرة قراريط، وبعضها من عشرين قيراطًا، فوجد بناء هذه الروإيات المختلفة لهما مروبا. والجمع بينها وترتيب منازلها أنه - عليه السلام - أوتر أو أعطاه أربعة دنانير حين ساومه به، ولم ينعقد البيع بذلك ولا أمضاه جابر، وإنما أمضاه له باوقيهة الذهب، ألا تراه إنما قال له: " قد أخذت منك أربعة دنانير، ولم يرد في هذا الحديث على ذلك. وفي الحديث أنه ماكسه في البيع ثم أمضاه له باوقية ذهب، وبها انعقد البيع، كما بينه في حديث سالم بن أبي الجعد، وهذا يضاعف تأويل البخاري أن الأوقية دراهم توافق أربعة دنانير، وقول البخاري: هذا يكون على حساب الدينار بعشرة دراهم، وقد تفسر في الحديث أنها أوقية ذهب ؛ وبدليل قوله في الرواية الأولى:"عشرين دينارًا"، إذ كانت دنانيرهم مختلفة، فيها ما هو من درهم وثلثين، ومن درهم وثلاثة إصاع، ومن ثلاثة دراهم. فقد يحتمل إذا اجتمعت منها عشرون كان وزنها أربعين درهما وهي أوقية، ويكون ما في الرواية الأخرى من ذكر الخمس الأواقى خبرًا عما وقع به الاقتضاء، وأن هذه الخمس الأواقى دراهم ؛ بدليل قوله في الرواية الأخرى:" خذ جملك ودراهمك "، وفي الرواية الأخرى: "مائتي درهم " وذلك صرف العشرين دينارًا لكل دينار عشرة دراهم، وذكره أوقية الذهب. وأما رواية " أربع "، فغير شك فيه روايتان، ولا تعتبر. وكذلك الرواية باقتضاء أربعة، دنانير وهم، / ولأن سائر الروايات تخالفهما، وكذلك في الرواية(6/161)
الأخرى: " أوقيتيهن "، أي الأولى التي وقع بها البيع من الذهب، وزاده كما بين ذلك في الحديث المتقدم: ش وزادنى أوقية " فيحتمل أن يكون ذهبا، ويحتمل أن تكون فضة، ألا تراه قال:" فما زال يزيدني"، وتكون زيادة الأوقية زيادة في عدد الأواقي، كل ذلك تفضل منه واحسان، ثم زاده زيادة في الوزن والرجحان. وقوله:" فزادني قيراطًا " وهو وفق الدرهم أو الدرهمين في الرواية الأخرى، كما بيناه - والله أعلم -.
وقوله: فما زال يزيدني ويقول:« والله يغفر لك » جاء في هذه الرواية في كتاب النكاح: قال أبو نضرة: وكانت كلمة يقولها المسلمون: افعل كذا وكذا والله يغفر لك. وقوله في حديث ابن نمير:« أتراني ماكستك لآخذ جملك ؟ خذ جملك ودراهمك »، كذا عند كافة شيوخنا وعامة الرواة، وغيره زاد:« على اثنى عشر لأخذ جملك ؟ خذ جملك ».(6/162)
وقوله:"استسلف بكرًا، فقضى جملاً خيارًا رباعيًّا "، وفي رواية الطبري:" رباعًا " الحديث: فيه جواز الاستسلاف والأخذ بالدين للضرورة. وقد كان - عليه السلام - يستقرض الدين والمغرم، لكن دعته الضرورة إلى ما كان يكره من ذلك لحكم زهده في الدنيا ورغبته عنها، ولو شاء لكان على غير ذلك ؛ إذ خيره الله - تعالى - في ذلك، فاختار التقلل والقناعة. وقد قال أبو عبيد الهروي: الدين ما كان لأجل، والغرم ما ليس لأجل. وفيه جواز استسلاف الحيوان، وهو قول كافة العلماء، ولا خلاف بينهم في جواز استسلاف ما له مثل في العيش والمكيل والموزون. وأجاز جمهور العلماء استسلاف سائر الأشياء من الحيوان والعروض، واستثنوا من ذلك الجواري، وعلته أنه قد يردها بنفسها فتكون من عارية الفروج. وأجازه بعض أصحابنا بشرط أن يرد غيرها، وأجاز استقراض الجواري الطبري والمزني، وروى عن داود الأصبهاني. ومنع الكوفيون، فدخل جميع الحيوان، رهذا الحديث حجة عليهم، وليس للسنة موقع وليس دعواهم النسخ بغير حجة تدفعها. وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا يجوز استقراض غير المكيل والموزون، وذكر عن داود.
قال الإمام: قد نهى - عليه السلام - عن سلف جر منفعة، وهذا سلف جر منفعة، فلابد من بناء الحديثين فيقول: النهي محمول على ما كان من المنفعة اشترط في أصل القرض، وهذا لم يشترط ؛ فلهذا أجاز، لكن المشهور عندنا في المذهب في العدد منهى عنها وإن لم تشترط في أصل القرض، وكأنهم يرون هذا الحديث مخصصًا لحديث النهي ولم يرد إلا في زيادة الصفة فحلم يتعد به ما ورد فيه. والبكر من الإبل كالغلام من الناس. والقلوص ههنا كالجارية من النساء، والذي استكمل منها ست سنين ودخل في السابعة يقال له: رباع، والأنثى رباعية، بتخفيف الياء.(6/163)
قال القاضي: قال أبو عبيد: إذا ألقى البعير رباعيته - وذلك في السابعة - فهو رباع، ولرباعيات - بتخفيف الياء - أربع أسنان تلى الثنايا من جوانبها خرجوا فيها. وقد استدل بهذا الحديث من يجيز تقدم الصدقة قبل الحول ؛ لأنه - عليه السلام - لم يستسلف لنفسه، إذ لو استسلف لنفسه لم يقضه من إبل الصدقة إذ كانت لا تحل له، فدل أنه إنما استسلفها لأصلها من أرباب الأموال. قالوا: ويحتمل أن يكون هذا الذي استسلفت منه مما لا زكاة فيه، إذ لو كان ذلك لما ردها النبي، وحجة من لا يجيز تعجيلها. ومعنى الحديث عندهم: إقا أن يكون استقرضها غيره على ذمته بامره، فلما حانت الصدقة وقبضت دفعها إليه وكان من الغارمين، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو: أنه أمره - عليه السلام - بتجهيز جيش فنفدت الإبل فأمرنا أن يأخذ على قلائص الصدقة، وبهذا يندفع اعتراض من اعترض كيف ترد من أموال المساكين ما هو خير وأفضل وإنما يفعل المرء ذلك في ماله، وذلك أنا قلنا: إنه إذا كان المستقرض غريما حل له ما أخذ من الصدقة، وإن كان فوق حقه. وقد يكون المستقرض منه من تحل له الصدقة ؟ إما لأنه لم يكن له مال إلا ما أقرض أو أصابته جائحة بعد الاقتضاء عند الانتظار من أهل الصدقة /، فكانت الزيادة له من أموال المساكين جائزة، وقيل: بل كان هذا كله قبل تحريم الصدقة على النبي وآله وتحريمها على الأغنياء. وفيه حجة على جواز استقراض الإمام للمساكين والمسلمين، كما يجوز ذلك لوصى الأيتام لأنه الناظر لهم. وفيه حجة لجواز السلم في الحيوان أنه إذا جاز قرضه بصفة تحصره ويرد مثله جاز السلم فيه، والخيار: المختار من الإبل، يقال للذكر والأنثى.(6/164)
وقوله:" فاغلظ له، فهم به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، يحتمل أن إغلاظه إياه كان في طلب حقه وتشدده فيه لا في كلام مؤذ يسمعه إياه، فإن ذلك يعد معبة مع النبي - عليه السلام - وقد يكرن الفاعل هذا غير مسلم من اليهود أو غيرهم، كما جاء مفسرًا منهم في خبر هذا الحديث.?
وقوله:« خيركم محاسنكم قضاء »، أي: ذوى المحاسن، سماهم بالصدقة والمعروف. أحاسنكم جمع أحسن، كما جاء في حديث آخر: «أحسنكم قضاء »، وقيل: يكون محاسنكم جمع محسن، بفتح الميم، وجاء في هذا الخبر في حديث محمد بن بشار: " إنا لا نجد إلا سنًّا هو خير من سنه، وكان عند الصدفي: " لا نجد إلا سنا إلا هو خير من شه،، والصواب إسقاط " إلا، الواحدة منها على الروايتين المتقدمتين، وأما مجمعهما فيحتمل بهم الكلام.
وقوله: جاء عبد فبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يشعر أنه عبد، فجاء سيده يريده، فقال: " بعنيه "، فاشتراه بعبدين أسودين، ثم لم يبايع أحدا بعد حتى يسأله: " أعبد هو ؟"، ظاهره أن مولاه كان مسلمًا، وكان النبي سرحه فاستحقه مولاه بصحة ملكه له،ثم أراد - عليه السلام - بما جبل عليه من مكارم الأخلاق ألا يرده، ولا ينقض ما عقد له، فاشتراه من مولاه. ويدل أن مولاه مسلم دفعه له العبدين وإلا فقد بايع - عليه السلام - من نزل إليه من عبيد أهل الطائف وغيرهم ولم يصرفهم على مواليهم. وشرائه العبد بالعبدين أصل في هذا الأسلوب، ولا خلاف في شراء العبد بعبدين نقدًا وسائر الأشياء والتفاضل بها وإن كانت من جنس واحد، ماعدا ما تقدم من العين وما نص معها في الحديث وليس عليها مما تقدم.(6/165)
واختلف الناس في بيع ما عدا ذلك من الجنس الواحد باختلاف العدد والصفة إلى الأجل، أو باتفاقهما تما لم يفصل بذلك سلفًا جر نفعًا والزيادة في السلف، كان هذا ربًا عند الجميع، إذا كان ظاهرًا معلومًا مقصودًا، فلا يرى أن ما كان في حكمه أو ذريعة إليه فلا يجيزه، إلآ أن تختلف الصفات والأغراض فيصيرا والجنسين ونظيرهما مقصد البيع والمعاوضة، واغتنى أولى المنافع من المتبايعين لا مقصد الزيادة في السلف كاختلاف الإبل والنجابة أو الحمولة أو الخيل بالسبق والفراهة، والعبيد بالتجارات والفصاحة والصنعة، والجواري بالطبخ والصناعة والفراهة على الصحيح من القولين، والثياب بالرقة والصباقة، والشيلوف بالقطع والجوهر وجعل الجوة في جهة وكثرة العدد في الجهة الأخرى اختلاف في الأغراض ويجيزه. والشافعي لا يكره شيئًا من ذلك في الحيوان وغيره، اختلف أم لم يختلف، ولا ربًا غيره في شيء إلا ما تقدم وهو قول أبي ثور وداود والمروزي، وروى عن ابن المسيب وابن عباس وغيرهما.(6/166)
واختلف في ذلك عن علي وابن عمر والزهري، وروى عنهم كراهة ذلك وجوازه، وحجتهم حديث عمرو بن العاص: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بأن يجهز جيشًا فنفدت الإبل، فامره أن يأخذ في قلائص الصدقة البعير بالبعيرين إلى الصدقة، ونحن نتاول الحديث على ظاهره باختلاف أجناسها ؛ لأن القلائص الفتيان من الإبل، وهي أكثر ما يؤخذ في الصدقات، وأن الاستلاف فيما هو أسن منها وأقوى على الحمل، ويشجن الاختلاف عن هؤلاء باختلاف الأحوال كنحو ما ذهب مالك مع ذلك في الحيوان على كل حال. ومنه في العروض نحو مذهب مالك، وحجتهم عموم نهيه بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وقد تكلم في هذا الحديث ورده بعضهم، ونحن ننزله على ما اتفقت فيه الأغراض، وخشى منه زيادة الصنف، ويخص عمومه بحديث عبدًالله بن عمرو بن العاص المتقدم، أو بحمل بيع الحيوان بالحيران في المضمونين، ويجمع بين الأحاديث، وتبقى الأصول من مسائل الربا وفي الزيادة في السلف مختصة بعللها ومراجهتها فتستعمل النفس ولا يطرح منها شيء إلا ما ثبت نسخه أو ضعف أصله، وسيأتى من المعلم في هذا بكل شيء أيضًا.
وقوله:" أنه - عليه السلام - اشترى من يهودي طعاما بنسيئة ورهنه درعه "، فيه معاملة اليهود وأهل الذمة وسائر الكفار، وحل ما يؤخذ منهم مع قيض، حيث مكاسبهم ومعاملاتهم. رجواز ادخار القوت، وجواز التجارة معهم بالنقد والنسيئة ؛ لأنها إذا جازت بالنسيئة فهي بالنقد أجوز، وجواز شراء الطعام بالنسيئة إذا لم يكن الثمن طعامًا، أر كان الطعام المشتري نقدًا، وفيه جواز الرهن في الحضر وهو قول الكافة، خلافًا لدارد ومجاهد.(6/167)
قال الإمام: شذ بعض الناس فمنع الرهن في الحضر ؛ تعلقًا بدليل الخطاب من قوله تعالى:{ وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان فقبوضة }، فاشترط السفر، فدل أن الحضر بخلافه. وقال أصحابنا: هذا الحديث حجة عليه في جواز الرهن في الحضر، وفيه دلالة على جواز معاملة اليهود وإن كانوا يستحلون من المكاسب ما لا يستحل. رتد كثر الناس القول في وجه مبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهودى ورهنه درعه عنده، وامثل ما بقال فيه: إنه فعل ذلك ليريه جواز معاملة اليهود،أو فعل ذلك ؛ لأنه لم يحضره حينئذ من عنده طعام سوى هذا اليهودي، أو يكون - عليه السلام - علم أن أصحابه - رضي الله عنهم - لا يقبلون منه الرهن إكرامًا له، أو لا يقتضونه في الثمن إذا حل تقربا إليه، فعدل إلى معاملة من يفعل ذلك معه لئلا يجحف باصحابه.
قال القاضي: أجمع العلماء على جواز معاملة أهل الذمة وجواز معاملة المشركين، إلا ما يتقوى به أهل الحرب على محاربة المسلمين كسلاح الحرب وآلاتها وما تصرف فيها، أو ما يستعين به جميعهم على إقامة شريعتهم، وإظهار تصرفهم وما لا يجوز تملكه لهم لحرمته كالمسلم والمصحف. ومنع ابن حبيب بيع الحرير والكتان والبسط والطعام من أهل الحرب، وتأول ذلك إما عند الشدائد فيطمع أن يتمكن منكم بضعف الجوع،فإن ما ذكر من الكتان والحرير والجسطء لما يتحملون به في حروبهم. ورهن النبي - صلى الله عليه وسلم - الدرع عند اليهودي أنه لم يكن من أهل الحرب، وممن كان بين ظهرى الإسلام، وإلا فرهنها ممن يخشى منه التقوى بها كبيعها. وظاهر الخبر ما كان عليه - عليه السلام - من التقلل من الدنيا والاكتساب، وأنه لو كان عنده غير الدرع لباعه أو رهنه مكان درعه، وفيه اتخاذ الدروع والعدد للأعداء والتحصن به، وأن ذلك غير قادح في التوكل.(6/168)
واستدل إبراهيم النخعي بهذا الحديث على جواز الرهن في السلم ؛ لأن المسلم دين في الذمة فلا فرق بينه وبين السلف، وهو مذهب مالك وكافة السلف والعلماء، وكذلك الكفيل. وذهب زفر والأوزاعي وأحمد إلى كراهة ذلك فيهما، وروى عن بعض السلف. وكره مالك الكفالة برأس مال السلف إذا كان في العقد، ويفسد بذلك السلم على تفصيل فيه في كتب الفقه.
وقوله:« من استلف في تمر فليسلف في كيل معلوم، إلى أجل معلوم »، وفي رواية السجزي:" من سلم "، وكلاهما بمعنى. سمى سلمًا ؛ لتسليمه رأس المال دون قبض عرضه، وسمى سلفًا بتغريمه رأس المال على العوض، ومنه: سلف الرجل، لمتقومين أمامه. وحكى الخطابي عن عمرو في رواية ابن عمر كراهة تسمية السلم سلفًا، وقال: هو الإسلام لله، كأنه ضن بالاسم أن يمتهن في غير هذا /.
قال الإمام: قد تقدم الكلام في ربا بيع النقد، ونحن نتكلم الآن على الربا في النسينة. فاعلم أن الربا يدخل في بيع النسينة في الستة المذكورة في الحديث وما قيس عليها، سواء اتفقت الأجناس أم اختلفت، وما سوى الستة وما قيس عليها لا يدخل الربا في بيع النسيئة فيه إذا اختلفت الأجناس ؛ كسلم عبد في ثوبين. فإن تساوت الأجناس فاختلف الناس، فمنعه أبو حنيفة، وأجازه الشافعي، وقال مالك: إذا اتفقت المنافع في الجنس منع، وإن اختلفت جاز.
وأما أبو حنيفة فحجته قول الله تعالى:{ وحرم الربا }. والربا الزيادة، وهذا موجرد في هذا البيع، فمنع بحق عمرم الآية. وإنما خص منها اختلاف الأجناس بما قدمناه من الحديث وبغير ذلك.
وأما الشافعي فإنه يحتج بانه أمر - عليه السلام - بعض أصحابه بأن يعطى بعيرا في بعيرين إلى أجل، وهذا يخص قوله تعالى:{ وحرم الربا }، إذا قلنا: إن الزيادة في عوض الشيء تسمى ربا حقيقة،وجماعة من أهل الأصول يذهبون إلى تخصيص العموم بخبر الواحد، وبعضهم يمنع منه.(6/169)
وأما مالك، فإنه توسط بين القولين، وعدل بين المذهبين، وسلك حماية الذريعة، وأصله القول بها، فينظر إلى أن الأجناس إذا اختلفت جاز التفاضل فيها نسيئة، والغرض من المتملكات الانتفاعات، وأفا نفس الذوات فلا يملكها إلا الله الذي يؤخرها ويقدمها، وإنما ملك الخلق الانتفاع بها، فإذا كانت المنافع مختلفة وهي المقصودة التي يتعلق بها الملك، وجب أن تحل محل اختلاف الأجناس.
وإذا كان الغرض في دابة الحمل عليها، والغرض من أخرى الجرى بها، صار في الأنفس كدابة يراد ركوبها، وثرب يراد لباسه. فإذا تساوت المنافع نظر إلى قوله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن سلف جر نفعا. فإذا دفع ثوبًا في ثوبين الغرض فيهما كالغرض في الثرب مكانه، أسلفه واشترط عليه أن ينتفع بالزيادة. ولو أسلم ثوبين في ثوب تتفق الأغراض فيها لأنها - أيضًا - على أن يكون أعطاه أحد الثوبين ليضمن له الثاني في ذمته أجلا سمياه، فيصير ذلك معاوضة على الضمان وسلفا لينتفع بالضمان، وذلك لا يجوز.
ولو تحققنا حصول السلف والغرض على وجه لا منفعة فيه محققة، وهي الزيادة المحسوسة، ولا منفعة فيه محققة ليتهم الناس عليها، لأجزنا ذلك إذا سلك به مسلك الفرض.
وقد وقع عندنا اضطراب في المذهب في التبايع بما اتفقت أجناسه ومنافعه ولم تقع فيه زيادة، هل يجوز أم لا، كسلم ثوب في مثله فأجيز ؛ لأن تقدير منفعة في ذلك يهم الناس عليها يبعد في النفوس، ومنع لئلا يقصد الانتفاع بضمان القابض عوضا عن منفعته بما قبض.
وأما الشافعي فيجيز ذلك، وهو يجيزه وإن حصل فيه التفاضل الذي هو منفعة محققة، فكيف به مع التساوى الذي لا منفعة فيه محققة ؛ فإذا ثبت جواز النساء فيما اختلفت أجناسه مما عدا الستة وما في معناها بالسلم يجوز في كل شيء تضبطه الصفة.(6/170)
وقد وقع اختلاف بين مالك وأبي حنيفة، وبين مالك والشافعي في مسائل، هل يجوز السلم فيها أم لا ؟، وهو اختلاف في حال، فمن يمنع السلم يعتقد أن الصفة لا تحصر ما منع منه، ومن يجيزه يعتقد أن الصفة تحصره. وهذا مثل ما يقول أصحاب أبي حنيفة: كيف يجيزون السلم في الجواري مع اختلافهن في الرشاقة والملاحة، وأنهن يتفاوتن في ذلك تفاوتًا عظيمًا يختلف الثمن باختلافه، ومالك لم يثبت عنده ما قالوا، ورأى أن ذلك مما يضبط المقصود منه أجاز السلم فيهن. وعلى هذا الاختلاف جرى الأمر في اختلافهم في غير ذلك من المسائل.
وأما قوله - عليه السلام -:« إلى أجل معلوم »، فقد تعلق به بعض اصحابنا في افتقار صحة السلم إلى أجل، والمشهور عندنا منع السلم الحال. وكان بعض شيوخنا يخرج من المدونة القول بجواز من ساله إذا اشترى بعروض وباع بمثلها مرابحة، وهو مذهب الشافعي. / ومن أجاز السلم الحال يحمل الحديث على أن المراد به: إن كان أجلا فليكن معلومًا. واختلف القاللون من أصحابنا بإثبات الأجل، فقال بعضهم: ثلاثة أيام، وقال بعضهم: بل أكثر من ذلك مما تتغير فيه الأسواق ؛ كنصف الشهر ونحوه، إذا كان يقبض السلم في البلد بعينه.
قال القاضي: لم يجر في الأحاديث في هذا الباب ذكر للصفة، وهي مما أجمع العلماء على شرطها في صحة السلف، لكن لما كانت العادة في التمر أنه أجناس وأنواع، ولكل نوع منه اسم وصفة والعرف في شرائه أن يسمى بجنسه قام مقام الصفة، ومثل هذا فيما له عرف جائز عندنا.?(6/171)
وشروط السلم عندنا التي لا تصح إلا بها على مشهور مذهبنا خمسة: كونه مضمونًا، وموصوفًا بصفة تحصر، ومؤجلاً لأجل معلوم، ومما لا يتعذر وجوده عند أجله، وكونه معلوم القدر من وزن أو كيل أو عدد أو تجر أو مساحة أو درع أو سن، وأن يكون رأس ماله معجلاً أو في حكم المعجل حتى لا يبعد قبضه بعد اليومين والثلاثة. ولم يجز الكوفيون والشافعي تأخيره عن العقد، والافتراق كالضرب عندهم. وليس من شرطه أن يكون المسلم وليه مالك، خلافًا لبعض السلف، وأن يكون مما لا ينقطع من أيدى الناس جملة، خلافًا لمن شرط ذلك، وأن يكرن موجودا حين العقد إلى الأجل، خلافًا لأبي حنيفة،وكل من شرطه ذكر موضع القبض عندنا، وعند فقهاء أصحاب الحديث، خلافًا للكوفيين في اشتراطهم ذلك لما له حمل ومؤونة. وعندنا إن لم يشترط فموضع البيع موضع القبض، وليس من شرطه عندنا ألا يكون رأس السلم جزافًا فيما يجوز فيه الجزاف، خلافًا لأبي حنيفة في منعه ذلك في كل شيء، وليس من شرط المسلم فيه أن يكون حيوانا، خلافًا لأبي حنيفة ؛ إذ لا تحصر عنده الصفة، ولا من شرطه ألا يكون من الجواهر كالدر والياقوت، خلافًا للشافعى ؛ إذ لا تحصر الصفة.
قال الإمام: خرَّج مسلم في الباب: نا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة له اسماعيل بن سالم، جميعًا عن ابن علية، قال بعضهم، هكذا في نسخة أبي العلاء بن ماهان عن مسلم عن شيوخه عن ابن علية، وهو إسماعيل بن إبراهيم، وفي رواية الجلودي:" ابن عيينة " بدل " ابن علية "، والصواب رواية أبي العلاء، ومن تأمل الباب بأن ذلك له.(6/172)
قال القاضي: لأنه ذكر أول الباب حديث ابن عيينة عن ابن أبي نجيح، وفيه ذكر الأجل، ثم ذكر حديث عبد الوارث عن ابن أبي نجيح، وليس فيه ذكر الأجل، ثم ذكر حديث ابن علية عن ابن أبي نجيح، وقال بمثل حديث عبد الوارث، ولم يذكر: " إلى أجل معلرم "، ثم ذكر حديث سفيان عن الثوري عن ابن أبي نجيح، وقال بمثل حديث ابن علية، فذكر فيه: " إلى أجل معلوم "، وهو بيّن.
وقوله: " من احتكر فهر خاطن، فقيل لسعيد: فانك تحتكر قال سعيد: إن معمرًا الذي كان يحدث هذا الحديث كان يحتكر "، قال الإمام: أصل هذا مراعاة الضرر بكل ما أضر بالمسلمين، وجب أن ينفى عنهم، فإذا كان شراء الشيء بالبلد يغلى سعر البلد ويضر بالناس ؛ منع المحتكر من شرائه نظرًا للمسلمين عليه كما قال العلماء: إنه إذا احتيج إلى طعام رجل واضطر الناس إيه ألزم بيعه منهم. فمراعاة الضرر هي الأصل في هذا، وقد قال بعض أصحاب مالك: إن احتكار الطعام ممنوع على كل حال ج لأن أقوات الناس لا يكون احتكارها أبدًا إلا مضر بهم، ومحمل ما روى عن رواة هذا الحديث من أنهم كانوا يحتكرون: أنهم احتكروا ما لا يضر بالناس، وحملوا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وحمله على هذا يؤكد ما قلناه.(6/173)
قال القاضي: الاحتكار: هو الادخار مما كان لقوت الإنسان، وليس بممنوع ولا مكروه، وما كان للبيع والتجارة مما كان منه مضرًا بالناس ومتعلقًا بشرائه أسعارهم منع، وأشرك فيه أهل السوق والمشترون بما اشتراه به. وما لم يضر لم يمنع، على مشهور المذهب في أي شيء كان، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، خلافًا لابن حبيب من أصحابنا في قوله: إن حكرة الطعام والحبوب كلها، والغلو في السمن والزيت والعسل واللبن ممنوع، أي وقت كان، أضر أو لم يضر، وهذا ما اشترى في أسواقهم، فأما ما جلب فلا / يبيع من مدخره إلا عند الضرورة الفادحة وحاجة الناس إليه، ولم يوجد سواه فيؤخذ بيعه. وما ذكر عن سعيد ومعمر أنهما كانا يحتكوان، قال ابن عبد البر: إنما كانا يحتكران الزيت، وحملا النهي على أنه في القوت عند الحاجة إليه، وكذلك قال الشافعي وأبو حنيفة: إنه مما يختص بالطعام المقتات الذي هو مصالح أجسام الناس، وليس هذا في الأدم والزيت والفاكهة. ومعمر هذا هو ابن عبد الله بن نضلة العدوى قديم الإسلام، كان مُعَمَّرًا، وقد قبله مسلم، وهو معمر بن أبي معمر، وقد ذكره كذا مسلم في الحديث الآخر.
قال الإمام: خرج مسلم في الباب: نا بعض أصحابنا عن عمرو بن عون، حدثنا خالد بن عبد الله، عن عمرو بن يحيى، عن محمد بن عمرو وعن سعيد بن المسيب، عن معمر بن عبد الله، أحد بني عدى بن كعب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث. وهذا حديث مقطوع الإسناد، وهو أحد الأربعة عشر حديثًا المقطوعة في كتاب مسلم. وأما أبو داود فرواه عن وهب بن بقية عن خالد بن عبد الله، عن عمرو بن يحيى.
قال القاضي: قد تكلمنا على مثل هذا قبل، وأنه لا يدخل في باب المقطوع ما يكفي.(6/174)
وقوله: عن معمر بن عبد الله، ليس هو في هذا الحديث، كذا في هذا السند، وإنما في معمر بن أبي معمر، أحد بنى عدى بن كعب، وإنما جاء ذلك في حديث سعيد بن عمرو الأشجعي، وفيه عن معمر بن عبدًالله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس في هذا أحد بني كعب.
قوله:« الحلف منفقة للسلعة ممحمة للربح »، قال الله تعالى:{ يمحق الله الربا ويربي الصدقات }، فقيل: هذا المحق هو في الآخرة كما تربو الصدقة حتى تأتي مثل أحد وذلك يمحق الربا حسناته، إما برجحانه عليه في الميزان أو بهذا من أجلها، أو لأن من تصدق به أو اكل من الربا لا يؤجر فيه كذلك إثمان لما أخره بالحلف الفاجر وزين به سلعته، وحلف أنني أعطي فيهما ما لم يعط، وغر بذلك كله أخاه المسلم، وقيل: بل المحق في الدنيا والآخرة ممحتة في الدنيا ترفع البركة منه، أو تكون لتسليط الجوائح عليه حتى يمحق - والله أعلم -.
قوله - عليه السلام -:« من كان له شريك في ربعة أو نخل، فليس له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن رضي أخذ، وإن كره ترك »، وفي بعض طرقه:" قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شركة لم تقسم، ربعة أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذن فهو أحق به "، وفي بعض طرقه:" الشفعة في كل شرك، في ربع أو أرض أو حائط، لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه فيأخذ أو يدع، فإن أبي فشريكه أحق به حتى يؤذنه ". قال الإمام: اختلف في اشتقاق الشفعة، فقيل: لأنه شفع في أخذ نصيب غيره، وقيل: لأن نصيبه كان وترًا فصار شفعًا.
قال القاضي: قيل: أصلها أن أهل الجاهلية كان الرجل إذا باع منزلاً أو حائطًا أتاه الجار، أو الشريك يشفع إليه فيما باع فيشفعه، ويجعله أولى ممن يعد شريكه، فسميت القضية: شفعة، وطالبها: شفيعا، وقيل: لأنه كثر نصيبه بما ضم إليه بالشفعة، وزاده.(6/175)
وأصل الشفعة: الزيادة. وقيل ذلك في قوله تعالى:{ من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها }، قيل: من يزدد عملاً صالحًا، وقد أجمع العلماء في وجوب الشفعة للشريك في الربع المبيع فيما لم يقاسم. واختلفوا فيما وراء ذلك. والربعة، بسكون الباء وفتح الراء، يكون تأنيث ربع وهو الدار والمسكن، وأصله: المنزل الذي كانوا يربعون فيه، وقد يصح أن يكون الربعة هو الواحد، والربع جمعه، ثم يجمع رباعا مثل تمر وتمرة وذر وذرة.
قال الإمام: الأصل أن الشفعة إنما أثبتت في الشرع لنفي الضرر، ولما كان الضرر يختلف باختلاف الأنواع خص بذلك العقار ؛ لأنه أشد ضررًا من غيره من السلع ؛ لأنه قد يدعوه المشتري إلى المقاسمة أو إلى البيع، أو يضر به ويسىء جواره. ومنه المعاني يعظم صوره في العقار. وقد اختلف أصحابنا في إثبات / الشفعة في مسائل، وسبب اختلافهم: ما وقع فيها من إشكال، هل تشبه العروض والسلع التي لا شفعة فيها، أو هي بالعقار أشبه، مثل اختلافهم في التمر إذا بيع منفردا، وقيل: فيه الشفعة ؛ لأنه من جملة الحائط وكأحد أجزائه، وقيل: لا شفعة فيه ؛ لأنه مما ينقل ويزال به فاشبه العروض.
وقد اختلف الناس في الشفعة في المقسوم، فمذهبنا أن لا منفعة فيه، وعند أبي حنيفة إئبات الشفعة في المقسوم، ورأى أن الشفعة تكون بالجوار ؛ لأنهم يضطربون في ترتيب الجوار، ويقدمون الشريك على من سواه، والشريك في الطريق على الجار.
وقد اختلفت الأحاديث، فالذى في كتاب مسلم هاهنا إثبات الشفعة للشركة، وفي طرقه: " كل شركة لم تقسم "، وفي غير كتاب مسلم: "الشفعة في كل ما لم يقسم "، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة، واعتمد أصحابنا على هذا الحديث. والرد على أبي حنيفة، بقوله: " في كل ما لم يقسم "، حصر الشفعة فيما لم يقسم، ودليله: أنه إذا قسم فلا شفعة.(6/176)
وقوله:« فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة »، فلو اقتصر على قوله:« فإذا وقعت الحدود »، ولم يضف إليه قوله:« وصرفت الطرق»، لكان ذلك حجة لأصحاب مالك في الرد على أبي حنيفة ؛ لأن الجار بينه وبين جاره حدود، ولكنه لما أضاف قوله:" وصرفت الطرق " تضمن أنها تنتفى بشرطين: ضروب الحدود، وضروب الطرق، فيقرل أصحابنا: ضرب الطرق يراد به صرف الطرق، التي كانت قبل القسمة. ويقول أصحاب أبي حنيفة: المراد به ضرب الطرق التي يشترك فيها الجاران، فينبغى النظر في أي التاوبلين أظهر.
وقد روى - أيضًا - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:« الجار أحق بصقبه »، وخرَّج الترمذي وأبو داود: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:« جار الدار أحق بجار الدار والأرض »، واحتج أبو حنيفة بظاهر هذا الحديث. ونقول نحن: لم يبين بماذا يكون أحق ؟ هل بالشفعة أو بغيرها من وجوه الرفق والمعروف ؟ ونقول أيضًا: يحتمل أن يحمل الجار على الشريك والمخالط قال الشاعر:
أيا جارتي يبقى ما بك طالعة(6/177)
فسمى الزوجة لمخالطتها له. وقد خرج أبو داود والترمذي: لمال اظلض: « الجار أحق بشفعته ينظر به وإن كان غانبا إذا كان طريقهما واحدا ا (2)، وهذا من اظهر ما يستدلون به ؛ لأنه بين بماذا يكون الحق، ونبه على الاشتراك في الطريق، ولكن هذا الحديث لم يثبت عند أصحابنا، ورأيت من بعض المحدثين الطعن فيه، وقال في رواية: إنه لو روى حديثًا آخر مثله تركت حديثه. والصقب بالصاد والسين: القرب، قال الشاعر: لا أمم دارها ولا صقب قال القاضي: حمل بعض شيرخنا قوله: " الجار أحق بصقبه " أنه على الندب للبائع، وحضه على إيثار جاره لا على وجه القضاء والحق الواجب، وهذا كما تقدم في الحديث، فلا يحل له أن يسعى حتى يؤذن شريكه، وحمله آخرون على معنى: أحق بالبر والإتحاف والصلة لجراره. قال الإمام: وقد خرج الترمذي - أيضًا - قال - صلى الله عليه وسلم -: " الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء ا (3)، وهذا - أيضًا - ظاهر مع القول بالعموم ؟ يثبت الشفعة فيما سوى العقار من العروض، وقد شذ بعض الناس ما أثبتها في العروض. وحكى بعض أصحاب الشافعي عن مالك نحرا من هذا، قال شيخنا - رحمه الله -: وما أدرى أين وقف لمالك على هذا، ولعله رأى قولنا في الحائط إذا بيع وفيه حيوان أن الشفعة فيه وفي حيوانه، فظن من ذلك أن الشفعة تثبت في العروض، وليس كما ظن لأن الحيوان هاهنا لما كان من مصلحة الحائط أعطى حكمه في الشفعة لها لما بيع مضافا إليه. والملك ينتقل في الرباع على ثلاثة أقسام: بمعاوضة وفيها الشفعة باتفاق، وبغير معاوضة وهي على قسمين ؟ اختيارية وغير اختياربة، فالاختيارية: الهبة والصدقة، وغير الاختيارية: الميراث، وقد حكى بعض أصحابنا باتفاق على أن لا شفعة في الميراث، وانفرد الخطابي فحكى عن مالك / إثبات الشفعة في الميراث، وهو قول شاذ لم يسمع إلا منه فيما أعلم، وأما الهبة والصدقة في إثبات الشفعة ففيها قولان مشهوران بالإثبات لقوله - صلى الله عليه وسلم -:«(6/178)
الشفعة فيما لم يقسم »، ولم يفرق بينها إلا مالك، ولأنها لنفي الضرر، والضرر لا يختلف باختلاف طرق الملك. ووجه نفيها قوله في كتاب مسلم:" لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فكأنه أشار إلى أن ما تقدم في صدر الحديث من إثبات الشفعة إنما يكون في البيع لتركه المبيع في آخر الحديث، ولو كان غير البيع كالبيع لقال: لا يحل أن يخرج ملكه. وقال بعض شيوخنا: قوله:" لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك "، فيه إشارة إلى وجوب الشفعة قبل البيع.
وأما ما لا يقسم من العقار فهل فيه شفعة أم لا ؟ فيه قولان عندنا بإثبات الشفعة لقوله - عليه السلام -:« الشفعة فيما لم يقسم »، وهذا لم يقسم، ولأن الضرر يلحق في ذلك بسوء المعاشرة والدعاء إلى البيع، ووجه نفيها أن الشفعة فيما لم يقسم يشعر أن ذلك مما يحتمل القسم، ولأن من الضرر المعتبر الدعاء إلى المقاسمة وهي مفقودة هاهنا.
قال القاضي: قوله:" قضى بالشفعة في كل شركة ما لم تقسم " يدل أن الشفعة فيما تصح فيه القسمة، وما لا تصح فيه فلا يقال فيه: ما لم يقسم. وما يقسم نوعان: فيما ينقسم مما لا ينقل، وما يقسم بالعدد والوزن والكيل، وما في معناه مما ينقل، كما جاء في الحديث. وما لا ينقسم لا قسم فيه، ويحتج لنفى الشفعة فيه، قوله: " فيما لم يقسم " يشعر أن ذلك فيما يحتمل القسم، ويحتج لثبوتها فيه بقوله: " الشفعة فيما لم يقسم وهذا لم يقسم "، أجمعوا على ذلك، واختلفوا في ثبوتها فيما بيع بعد القسم، فأثبتها أبو حنيفة حتى إنه أثبتها للجار - على ما تقدم - ثم إذا اختصت مما ينقسم، فظاهر الحديث - سواء انقسم بالحدود ولا ينتقل كالعقار أو انقسم بعدد أو كيل أو وزن - يدل على تخصيصها بما ينقسم بالحدود ؛ لأن الحكم إذا علق بصفة يدل على أن تلك الصفة هي علة الحكم عند كثير من الأصوليين، لاسيما وقد وقع الإجمال بقوله: " ربعة حائط ".(6/179)
وقوله:" حتى يؤذن شريكه، فإن رضى أخذوا، وإن كره تركه "، واختلف العلماء إذا أذن في البيع وتسلم المبيع منه ثم بدا له، فقال مالك وأبو حنيفة واصحابه وعثمان البتي وابن أبي ليلى، أن ذلك له، وهو مذهب الشافعي. وقال الثوري والحكم وأبو عبيد: ليس ذلك له. ولأحمد في ذلك القولان معا. وحجة هؤلاء قوله: " وإن كره ترك، ويأخذه إن رضي، وما ترك لا يرجع فيه، وحجتنا: أن الشفعة له حق، لم يجب له إلا بعد مضي البيع فحينئذ ينظر فيه، وليس ذلك الشيء أولاً بالذى يوجب إسقاط ما وجب له بعده.
وقوله: " فإن أبي فشريكه أحق به، ظاهره أنه أحق به إن وقع به التبايع من نقد أو أجل، وهو قول مالك وأصحابه، وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا يشفع إلى أجل، ولكنه إن شاء شفع الآن فيأخذ بالنقد، له إن شاء صبر إلى الأجل، فيشفع به عند حلوله بالنقد. واختلف أصحابنا إذا لم يقم الشفيع إلا بعد حلول الأجل، هل يضرب له مثل ذلك الأجل أو يأخذ بالنقد ؟ وقوله: " من كان له شريك " عموم في المسلم والذمي، وأن الشفعة بينهم وبين المسلمين.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره »، قال الإمام: اختلف المذهب عندنا، هل هذا النهي على الإلزام أم على الندب ؟ فالمشهور عندنا أنه على الندب، والحث على حسن الجوار، وقيل: بل هو على الإلزام، وبين أهل الأصول اختلاف في الأصل، قد تقدمت الإشارة إليه. وقد قال بعض أهل العلم: يحتمل أن يكون الضيعة من جداره عائدًا على الجار، فكأنه قال: لا يمنع أحد جاره أن يغرز خشبة في ملك نفسه، وهذا التحيل في التأويل لئلا يكون فيه حجة على القول المشهور.
قال القاضي: وبانه على الإلزام قال الشافعي وأحمد، وبانه على الندب قال الكوفيون.(6/180)
قوله:" خشبة "، رويناه في غير "الأم" وغيرها بوجهين ؟ بلفظ الإفراد، و" خشبه " بلفظ الجمع. قال عبد الغني: كان الناس يقوله بالجمع إلا الطحاوي. وقال روح بن الفرج: سالت أبا زيد الحارث بن بكير ويونس وكلهم يقوله: "خشبة! بالإفراد.
وقوله:" مالى أراكم عنها معرضين "، حجة للندب ؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - لا تعرض عن واجب، لكن لما فهموا الندب تساهلوا. قال الباجي: ويحتمل أن مذهب أبي هريرة الندب ؛ إذ لو كان عنده للوجوب لوبخ الحكام على تركه، ولحكم به لاءنه كان مستخلفا بالمدينة.
واختلف إذا احتاج الإذن بجداره لمنفعة له فيه أيحل له إزالته، أو حكم لزمه وإن كان لغيهر حاجة، بل لإرادة الضرر، فلم يختلف أن ليس له ذلك ؛ لأنه لا يرجع فيما أبيح، إلا أن يكون أباحه عارية لأمد انقضى.
وقوله: " لأرمين بها بين أكتافكم "، قال القاضي: " أكتافكم " هو بالتاء المثناة من فرق، والمعنى: أصرح بها لكم وأرجعكم بالتوبيخ على ترك ما رغب فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ورواه بعض رواة "الموطأ":"أكنافكم "، بالنون، ومعناه: بينكم، والكنف: الجانب.(6/181)
وقوله:« من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا، طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين »، قال الإمام: كان شيخنا أبو محمد عبد الحميد - رحمه الله - كتب إلى بعد فراقى له: هل وقع في الشرع ما يدل على كون الأراضين سبعًا؟ فكتبت إليه قول الله تعالى:{ الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن }، وذكرت له هذا الحديث الذي رواه سعيد بن زيد وأبو هريرة وعائشة في كتاب مسلم، فاعاد كتابه الذي يذكر فيه ان الآية محتملة: هل مثلهن في الشكل والهيئة ؟ أو مثلهن في العدد ؟ وأن الأخبار من أخبار الاحاد،والقران إذا احتمل، والأثر إذا لم يتواتر لم يصح القطع بذلك،?والمسألة ليست من العمليات فيتمسك فيها بالظواهر وأخبار الاحاد، فأعدت إليه المجاوبة فاحتج لبعد الاحتمال عن الفراق، وبسطت القول في ذلك، وترددت له في آخر كتابي في احتمال ما قاد أو بقطع المجاوبة.
قال القاضي: وقوله:« طوقه من سبع أرضين »، يحتمل ظاهر لفظه إليه مثله " من سبع أرضين، قيل: هو من الطاقة، والمعنى: يكلف أن يطيق حمل مثله من سبع.أرضين،كما قال تعالى:{ ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة }، ويشهد له قوله في غير "الأم":" جاء يحمله يوم القيامة إلى سبع أرضين »، وفي أخرى:« كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر ». وقيل: هو من الطوق. والمعنى: جعل مثله من سبع أرضين أطواقًا في عنقه. وغير بعيد أن يطول عنقه لمثل ذلك، كما جاء في غلظ جلد الكافر، وغلط ضرسه، كما قال تعالى: {يطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة }، ويشهد له حديث عائشة:" طوقه من سبع أرضين "، ويحتمل أن يريد أنه يلزم إثم ذلك كلزوم الطوق العنق. وقيل: المعنى: خسف به ومثل الطوق منها. ويشهد له قوله في الآخر:" إلى سبع أرضين "، وفي "البخاري": " خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين ".(6/182)
وقوله: " من سبع أرضين ": قال القاضي: الأراضون سبع طباق، وإنما الخلاف هل فتق بعضها من بعض، قال الداودى: الحديث يدل أنها لم تفتق ؛ لأنها لو فتقت لم يطوق بما ينتفع به غيره. وجاء في غلظهن وفيما بينهن خبر ليس بصحيح، واستدل به بعضهم على أن من ملك ظاهر الأرض يملك ما تحتها مما يقابله، فله منع من تصرف فيه أو يحفر.
وقد اختلف العلماء في هذا الأصل فيمن اشترى دارًا فرجد فيها كنزًا، أو وجد في أرضه معدنا، فقيل: له، وقيل: للمسلمين. ووجه الدليل من الحديث أنه غصب شبرًا فعرقب بحمله من سبع أراضين، وكذلك يملك مقابل ذلك من الهواء يرفع فيه من البناء ما شاء مالم يضرباحد. وتأول بعضهم الحديث على أن المراد بالسبع أراضين: السبعة أقاليم، وهو تأويل أبطله العلماء ؛ لأنه لو كان المراد ذلك لم يطوقه من غصب شبرًا من إقليم شبرًا من إقليم آخر، بخلاف طباق الأرض فإن من ملك شبرًا من الأرض ملك تحته.
قال الإمام: ذكر مسلم في آخر باب الشفعة حديثًا رواه يحيى بن أبي كثير عن محمد ابن إبراهيم: أن أبا سلمة حدثه: أن عائشة قالت: اجتنب الأرض، الحديث، ثم أردف عليه: نا إسحاق، نا حبان، نا أبان، نا يحيى بن محمد بن إبراهيم، حدثه - فذكر الحديث. وفي نسخة ابن ماهان: نا أبان، نا يحيى بن آدم ؟ أن محمد بن إبراهيم حدثه. قال بعضهم: وهذا خطأ، وإنما هو يحيى بن أبي كثير المذكور في الحديث الأول لا يحيى بن آدم.
وقوله:« إذا اختلفتم في الطريق جعل عرضه سبعة أذرع »، قال القاضي: قال الخطابي: هذا حديث معمول به عند العلماء وذلك بشرطين: أن يبقى لكل من الشركاء بعد ذلك ما ينتفع به دون مضرة. وأما أن يبقى لأحدهم ما لا ينتفع به فغير داخل في ذلك. قال غيره: وهذا في أصحاب الأفنية إذا أرادوا البنيان أن يجعلوها سبعة أذرع، قدر ممر الأحمال وتلاقيها.(6/183)
قال القاضي: وهذا كله عند التشاجر والاختلاف لما نص عليه في الحديث، وأما إذا اتفق أهل الأرض عند قسمها على طريق لم يعرض لهم لأنها ملكهم، وقيل: الحديث جاء في أمهات الطرق، وأما بنيات الطرق فاتفقوا عليه جاز وإن قل، فإن أراد هذا القائل بأمهات الطرق إلى قريتهم التي يقسمونها فهو ما قلناه: إنه مما يتراضون عليه، إلا أن يقال: إن هذا التراضي في أمهات الطرق مما يضر بجميعهم فيحد لهم ما فيه مصلحتهم. وإن أراد بامهات الطرق العامة للمسلمين في أرض لهم، أرادوا بناءها فالزم أن يخرجوا للمسلمين ما ذكر في الحديمث قبل. وهذا في القرى والمدن، وأما الفيافي وخارج المدن فيجب أن تكون الطرق فيها أوسع لمجرى الجيوش ومسارح الأنعام. وقد جاء في ذلك اثار نحو هذا - والله أعلم -.
قال الإمام: لم يأخذ مالك وأصحابه بهذا الحديث، ورأوا أن الطرق تختلف بحسب الحاجة إلى سعتها بقدر اختلاف أحوالها، وأن ذلك معلوم بالغالب، وليس طريق الممر كطريق الأحمال والدواب، وليس المواضع العامرة التي يتزاحم عليها الوارد كغيرها، ولعل الحديث عنده ورد فيما كانت الكفاية فيه بهذا القدر، وتنبيها على الوسط والغالب. قال: وذكر مسلم في سند هذا الحديث: عن خالد الحذاء، عن يوسف بن عبد الله، عن أبيه، وعند ابن ماهان: سفيان بن عبد الله، وهو تصحيف، إنما هو يوسف بن عبدًالله وهو يوسف بن عبد الله بن الحارث بن أخت ابن سيرين.
- - - - - - - - - - - - -
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
كتاب الفرائض(6/184)
قوله:« لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم »، مفهومه الذي اتفق عليه المسلمون: أن المراد به أنهما لا يتوارثان ميراث أهل الإسلام بعضهم من بعض وعلى حكمهم، بخلاف لو كان الكافر عبد المسلم فمات فماله للمسلم ليس بحجة التوارث، بل لأنه ماله ؛ لأن مال عبده ماله، إن شاء تركه بيده وإن قبضه وانتزعه عنه، فإذا مات العبد بقي لسيد المال العبد، ولو أعتق ثم مات على كفره لم يرثه، وكان ميراثه لجماعة المسلمين. ولا خلاف في هذه الجملة إلا ما أجازه بعض السلف من ميراث المسلم الكافر، وهو قول النخعي وإسحاق بخلاف الكافر من المسلم، وكان هذا الحديث لم يبلغهم.(6/185)
قال الإمام - رحمه الله -: أما ميراث الكافر من المسلم، فالإجماع قد انعقد عليه، وأما ميراث المسلم من الكافر فمسألة اختلاف، ولها أورد مالك الحديث في "الموطأ" مختصرًا تنبيها على موضع الخلاف، فقال:« لا يرث المسلم الكافر ». ولم يزد على هذا اتفاق الجمهور من العلماء:« لا يرث المسلم الكافر »، أخذًا بهذا الحديث، وبه قال عمر وعلى وزيد وابن مسعود وابن عباس وجمهور التابعين - رضي الله عنهم - بالحجاز والعراق. من الفقهاء: مالك والشافعي وأبو حنيفة وداود وابن حنبل وعامة العلماء. وقال بتوريث المسلم من الكافر: معاذ ومعاوية وابن المسيب ومسروق وغيرهم، وروى عن أبي الدرداء والشعبي والزهري والنخعي نحوه على اختلاف عنهم في ذلك، والصحيح عن هؤلاء خلافه، وحجة هؤلاء أن أخوين اختصما إلى يحيى بن يعمر مسلمًا ويهوديًّا في ميراث أخ يهودي، فورث المسلم، وذكر أن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:« الإسلام يزيد ولا ينقص »، واحتجوا أيضًا بقوله - عليه السلام -:« يعلو ولا يعلى عليه »، وهذا لا حجة فيه ؛ لأن المراد به فضل الإسلام على غيره، ولم يصرح في هذا بإثبات التوريث، ولا يصح أن يرد النمر في قوله: " لا يرث المسلم الكافر" بمثل هذه الاحتمالات. وأما أهل الكفر فهم عند مالك - رحمه الله - أصحاب ملل مختلفة، فلا يرث اليهردى النصراني ولا النصراني اليهودي، وكذلك المجوسي لا يرث هذين ولا يرثانه، وذهب الشافعي وأبوحنيفة وداود إلى أن الكفر ملة واحدة، وأن الكفار كلهم يتوارثون، والكافر يرث الكافر على أي كفر كان، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:« لا يتوارث أهل ملتين ». فلما اعتقد مالك أن أنواع الكفر ملل مختلفة منع التوارث بين اليهودي والنصراني، وقد قال تعالى:{ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا }. ولما اعتقد الشافعي ومن ذكرنا معه أن أنواع الكفر ملة واحدة، ورث اليهودي من النصراني، والنصراني من اليهودي، وقد قال(6/186)
تعالى:{ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم }، فوحد الملة، وقال تعالى:{ لكم دينكم ولي دين }، فوحد الدين ولم يقل: أديانكم، وقالوا: قوله - صلى الله عليه وسلم -:« لا يتوارث أهل ملتين » كقوله /:« لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر من المسلم »، وقد قال بعض من رأى أن الكفر ملل مختلفة: إن السامرية مع اليهود أهل ملة واحدة والصالحين مع النصارى أهل ملة ثانية، والمجوس ومن لا كتاب له أهل ملة، وتكون هذه عندهم ثلاث ملل سوى ملة الاسلام. يحكى هذا المذهب عن شريح وشريك وابن أبي ليلى.
قال القاضي - رحمه الله -: وقوله: " لا يرث المسلم الكافر " عموم، فيدخل فيه الكافر الأصلى والمرتد، وهو قول مالك وربيعة وابن أبي ليلى والشافعي: أن ميراث المرتد لجماعة المسلمين، وذهب الكوفيون والأوزاعي وإسحاق إلى أن ورثته من المسلمين يرثونه، وروى عن على وابن مسعود وجماعة من السلف إلا الثوري وأبا حنيفة قال: ما اكتسب من ردته فهو فىء للمسلمين، والأخرون يرون الجميع لورثته من المسلمين.
وقوله:« ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر »، كذا رواية كافة شيوخنا في هذا الحديث:" فالأولى " بسكون الواو وفتح اللام الاخرة، ووقع عند ابن الحذاء عن ابن ماهان: " فلأدنى رجل ذكر "، وهو تفسير " أولى "، أي: أقرب وأقعد بالميت.(6/187)
قال الإمام - رحمه الله -: العصبة بينه وبين الميت نسب يحوز المال إذا انفرد، ويرث ما فضل معا إن لم ينفرد كالأخ والعم، فإن كل واحد منهما يحوز المال إذا انفرد وإن كان مع ذوى سهام أخذ ما فضل، والأب والجد كذلك إلا أنهما يفرض لهما مع ذوى السهام لمعنى فيهما غير التعصيب. والتعصيب يكون بالبنوة والأبوة والجدودة، فتعصيب البنوة أولاً جاء ثم تعصيب الأبوة ثم تعصيب الجدودة، فالابن أولى من الأب، لكن الأب يفرض له السدس بمعنى غير التعصيب،وهو أيضًا أولى من الأخوة وبنيهم ؛ لأنهم إنما ينتسبون بالمشاركة في الأبوة، وقد قدمنا أن تعصيب البنوة أولى فكذلك أيضًا يقدمون على العمومة ؛ لأن تعصيب العمومة بالمشاركة في الجدودة والبوة أولى. والبنوة أولى من الأخوة ومن الجد ج لأنهم به ينتسبون فيسقطون مع وجوده، والجد أولى من بنى الأخوة ج لأنه كالأب معهم، ومن العمومة ؛ لأنهم به يهنتسبون. والأخوة ونجوهم أولى من العمومة وبنيهم ؛ لأن تعصيب الأخوة بالأبوة والعمومة بالجدودة، وقد قدمنا أن الأبوة أولاً. هذا ترتيبهم في الطبقات وإن اختلفوا، وهم في طبقة واحدة من الطبقات التي ذكرنا، وهم مختلفون في القرب ؟ فالأقرب أولى كالأخوة مع بنيهم ؛ لأنهم كلهم ينتسبون بالمشاركة في الأبوة، ولكن مشاركة الأخوة أقرب من مشاركة بنيهم، وكذلك العمومة مع بنيهم، وإن تساووا في الطبقة والقرب ولأخوهم زياده ترجيح قدم الأخ ؛ كالأخ الشقيق مع الأخ للأب ذاتهما، وإن استوت طبقاتهما ومثاركتهما في الأب الذي يقع به التعصيب فالشقيق زيادة قربهم بمشاركته في الأم والرحم، فكان أولى، وهكذا يجري الأمر في بنيهم وفي العمومة وبنيهم. وهذا إذا كان الترجيح بمعنى مناسب بجهة التعصيب مثل ما قلنا في الأخ الشقيق مع الأخ للأب، فإن الإجماع على أن الشقيق أولى بالميراث من الأخ لأب ؛ لأنهما اشتركا في الأخوة من الأب والأم بالشقيق أخوه من الأم فهي أخوة كلها فكانها أخوة أقوى من أخوة(6/188)
؛ فلهذا قدم الشقيق باتفاق. وإن كان زيادة الترجيح بمعنى غير ما هما فيه كما بين عم أحدهما أخ لأم فإنها مسألة اختلاف، فقال: يكون بالترجيح هنا قياسًا على ما تقدم في الأخ الشقيق مع الأخ للأب، وحكمرا بالمال كله لابن العم الذي هو أخ لأم، السدس بالفرض والباقي بالتعصيب. وروى ذلك عن عمر وابن مسعود، وبه قال شريح والحسن وابن سيرين والنخعي وأبو ثور وداود والطبري، ولم يثبت آخرون بذلك ترجيحًا في التعصيب، وحكموا بأن للأخ للأم السدس والباقي يقسم نصفين بينه وبين العم الآخر، روى ذلك عن على وزيد وابن عباس، وذكر عن عمر ما يدل عليه، وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء، والفرق على أهل هؤلاء بين الأخ الشقيق والأخ للأب وبين هذه المسألة ما قدمناه من التنبيه على طريق الترجيح.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« فلأولى رجل ذكر »، المراد باولى هاهنا: أقرب، ولا يراد به: أحق، مثل ما يراد بقولهم: زيد أولى بماله ؛ لأنه لو حمل على هذا الخلاء من المكايدة المرادة به ؛ لأنه لا يعلم من هذا أن يكون أحق وهو المراد ببابه، وهما أولى الناس بالسؤال عن مثل قوله هاهنا:" فلأولى رجل ذكر ". وقوله في حديث الزكاة:" لابن لبون ذكر "، والتأكيد إنما يحسن إذا كان مقدما.(6/189)
ومعلوم أن الرجل لا يكون إلا ذكرًا، كما أن المرأة لا تكون إلا أنثى، فلم حسن هاهنا وصف الرجل بأنه ذكر، مع العلم بانه لا يكون إلا كذلك، وقد أجاب بعض الناش عن حديث الزكاة بأن الابن قد يوضع موضع الولد، ألا تراهم يقولون: بنو تميم، يريدون الأنثى منهم والذكر، وإذا أمكن أن يوضع " ابن " موضع "ولد "، وكان الولد ينطلق على الذكر والأنثى، حسن التأكيد هاهنا ؛ لئلا يظن أنه أطلق الابن على الذكر والأنثى. ورأيت بعض الناس زعم: إنما قال: " ابن لبون ذكر " لوجود خنثى في الأولاد اللبون وفي غيرها من الإنسان، فقيل بالذكورية لتسير إلى منع أحد الخنثى. وهذان الجوابان لا يتلقاهما الفهم بالقبول، والذي يلوح لي في ذلك جواب ينتظم الحديثين جميعًا وهيما: أن قاعدة الشرع قد استقرت على أن الانتقال من سن إلى أعلى منه انما يكون عند الانتقال من عدد إلى أكثر منه، فالعدد الكثير أحمل للمواساة، فإذا زاد العدد زاد قدر المخرج، ولهذا كانت في الخمسة والعشرين بنت مخاض، وفي الست والثلاثين بنت لبون التي هي السن من البنت مخاض، وفي الستة والأربعين بما هو أسن وهي الحقة، لما استقر الأمر على هذا وجعل - صلى الله عليه وسلم - في الخمسة وعشرين وهو عدد واحد سنا، وأعلى منه وهي بنت مخاض، وأعلى منها وهو ابن لبون، توقع أن يهجس في النفوس أن ذلك خارج عما أصل، فنبه على أن المخرج عن العدد الواحد من أنهما كالسن الواحد ؛ لأن ابن لبون إن كان أعلى سنا فهو أدنى قدرًا لأجل الذكورية، فنبه بقوله:" ذكر " على أن ذلك بخسه حتى يصير كبنت مخاض التي هي أصغر سنًّا لكنها أنثى، وكذلك لما علم أن ش جال أرباب القيام بالأكور وفيهم معنى التعصيب، وكانت العرب ترى لهم القيام بأمور لا نراها للنساء، ذكر - صلى الله عليه وسلم - الذكورية ليجعلها كالعلة التي لأجلها خص بذلك، لكنه ذكرها هاهنا تنبيهًا على الفضل، وفي الزكاة تنبيها على النقص.(6/190)
قال القاضي - رحمه الله -: قول جابر:" مرضت فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر - رضي الله عنه - يعوداني، ما استن فيه سنة العيادة واحتساب الخُطا بالمشي وإن بعد المنزل لفضل الثواب والأخذ بما ورد أن عائد المريض في مخارف الجنة.
وقوله:" فوجدني قد أغمي علي، فتوضأ - عليه السلام - ثم صبّ على من وضوئه فأفقت "، فيه بركته - عليه السلام - وكرامته فيما لمسه أو باشره أو دعى فيه، وفيه عيادة المغمى عليه وقد فقد عقله إذا كان معه من يراعى أمره ؛ لئلا يوافق منكشفًا أو بحالة يكره كشفها. وقد قيل: أما الرجل الصالح المحتسب لأجره ومن ترجى بركة دعوته فله ذلك، والا فيكره لغيره إلا أن يكون للمريض من يرعى حاله كما تقدم.
وقوله: " فقلت: يا رسول الله ! كيف أصنع في مالي ؟ فلم يرد على شيئًا حتى نزلت آية الميراث:{ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة }، وفي الأخرى:" إنما يرثني كلالة "، وفي الحديث الآخر:" فنزلت آية الفرائض "، وفي الحديث الآخر:" فنزلت:{ يوصيكم الله في أولادكم }، وفي الأخرى: " آية المواريث "، فيه جواز الوصية للمريض وإن بلغ هذا الحد وفارقه في بعض الأحيان عقله، إذا كان في وقت وصيته يعقل ؛ لأن الله تعالى أنزل في هذه الأية:{ من بعد وصية يوصى بها أو دين }، وفيه انتظاره - عليه السلام - الوحي فيما ينزل به من النوازل، وفيه دلالة على أنه لا يعدل إلى الاجتهاد والنظر إلا عند النصوص إن قلنا بتجويز الاجتهاد من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي مسألة اختلف فيها.(6/191)
وقوله في حديث عمر: إني لا أدع بعدي شيئًا أهم عندي من الكلالة ما راجعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه حتى طعن بأصبعه في صدري، وقال:« يا عمر ! ألا يكفيك آية الصيف التي في آخر النساء »، وإني إن أعش أقضى فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن. وعند البراء: آخر آية نزلت: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة }. ومعنى آية الصيف: أي التي نزلت في زمن الصيف.
قال الإمام - رحمه الله تعالى -: اختلف الناس في اشتقاق / الكلالة، فقيل: أخذت من الإحاطة، ومنه: الإكليل ؛ لإحاطته بالرأس. فكان هذا الميت به من جنابة، وقيل: أخذت من البعد والانقطاع من قولهم: الرحم إذا تباعدت فطال انتسابها، ومنه: كل في مشيه: إذا انقطع لبعدمسافته.
واختلف العلماء بعد هذا الاشتقاق في هذا المعنى إذا وضع، هل لنفس الوراثة إذا لم يكف فيها ولد ولا والد، فيكون نصب " كلالة" على موضع المصدر، كانه قال: يورث وراثة يقال لها: كلالة، كما يقال: يقتل غيلة، ذهب إلى هذا طائفة. وقالت طائفة أخرى: بل هي تسمية للميت الذي لا ولد له ولا والد، واستوى فيه الذكر والأنثى، كما يقال: صرورة فيمن لم يحج، ذكرًا كان أو أنثى، وعقيم للرجل والمرأة، فينتصب " كلالة" على أصل هؤلاء على الحال، أي يورث في حال كونه كذا.
وقد روي عن أبي بكر وعمر وعلى وزيد وابن عباس وابن مسعود: الكلالة من لا ولد له ولا والد. وقالت طائفة أخرى: بل هي تسمية للورثة الذين لا ورثة فيهم ولا والد، واحتجوا بقول جابر:" يا رسول الله ! إنما يرثني كلالة "، وكان أبوه قتل يوم أحد. واحتجوا بقراءة من قرأ من الشواذ: " يررث " بكسر الراء، وشددها بعضهم. وقالت طائفة أخرى: الكلالة تسمية للمال الموروث كلالة، وينتصب "كلالة" على أصل هؤلاء على التمييز.(6/192)
وذهبت الشيعة أن الكلالة من لا ولد له ذكرًا أو أنثى وإن كان له أب أو جد فورثوا الأخوة والأخوات مع الأب، وروى ذلك عن ابن عباس، وهي رواية شاذة لا تصح عنه والصحيح عنه ما عليه جماعة العلماء. وذكر بعض الناس الإجماع على أن الكلالة من لا والد له ولا ولد.
واختلف في الورثة إذا كان فيهم جد، هل الوراثة كلالة أم لا ؟ فمن جعل الجد أبًا منع كون الوراثة كلالة، ومن لم يجعله أبا وورث الأخوة معه جعل الوراثة كلالة. وكذلك قال جمهور العلماء إذا ى ان في الوراثة بنت، فالوراثة كلالة لدخول العصبة معها من الأخوات والأخوة وغيرهم من العصبة، وقد قال ابن عباس: لا ترث الأخت شيئًا مع الابنة لقوله عز وجل: { ليس له ولد وله أخت }، فشرط عدم الولد، وبه قال داود. ومذهب الشيعة: أن الابنة تمغ من كون الوراثة كلالة ؛ لأنهم لا يورثون الأخ والأخت مع الابنة شيئًا لاشتراط عدم الولد في ميراث الأخوة كما ذكر في الآية، ويعطون المال كله للبنت، ويجعلون الوراثة كلالة وإن كان فيها أب أو جد.
ومجمل الشرط المذكور في القرآن على أنه لا يثبت فرض النصف الذي تعامل به الورثة إلا بقدم الولد، فإنما دخل الشرط لذلك لا لنفي التوريث أصلاً، وقد شرط الله - سبحانه - أنه في ميراث الأخ من أخته عدم الولد كما شرطه في ميراث الأخت. وأجمع الصحابة - رضي الله عنهم - أن الأخ يرثها مع البنت، فدل ذلك على صحة ما تأولناه.(6/193)
وإنما غر الشيعة - حتى ذهبت إلى أن الكلالة من لا ولد له وإن كان / له أب وورثت الأخرة من الأب - قوله سبحانه:{ قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد }، فشرط في ميراث الأخوة عدم الولد خاصة، فلو كان الأب كذلك لاشترطه، وقد رأيت رجلاً سأل ابن عباس عن الكلالة، فقال: من لا ولد له ولا والد. فقال السائل: فإن الله - سبحانه - إنما انتهى إلى ذكر الولد. قال: فانتهرني. وهذا يصحح ما قلناه من بطلان تلك الرواية الشاذة عنه. وقد قال بعض الناس: إنما لم يذكر عدم الولد - وإن كان وجوده يمنع من كون الوراثة كلالة ؛ لأن الآية نزلت في جابر وقد كان أبوه قتل يوم أحد، وإنما كان ورثته سبع أخوات، فاكتفى باشهاد عدم أبيه عند سائر الصحابة عن اشتراط ذلك. وقال آخرون: فإن الولد إشارة إلى الوالد - أيضًا - لأن الولادة معنى يتضمن اثنين أبا وولدًا، قالوا: كما أصل الذرية من: ذرى الله الخلق إلى خلقهم، والولد من الذرية، والوالد كذلك، قال الله سبحانه: {ذرية من حملنا مع نوح }.
? قال الإمام - رحمه الله -: وهذا تأويل بعيد، وفيه تعسف. والذي يظهر لي في الجواب عن هذا: أن الأب إنما لم يذكر ها هنا: لأنا قدمنا أن القصد باشتراط عدم الولد نفى الغرض المسمى الذي يقع فيه تعادل الأخت مع الورثة لا نفى التوريث على الجملة؛ لأنا قدمنا أن الصحابة - رضي الله عنهم - سوى ابن عباس ورثوا الأخت مع البنت، وحكينا - أيضًا - اتفاقهم على توريث الأخ مع البنت.(6/194)
وإذا كان ذلك كذلك فلا يجب ذكر عدم الأب ؛ لأن الأب ينتفى معه ميراث الأخوة إلا على وجه دون وجه، وإنما القصد بالاشتراط التجوز من أحد الوجهين الذي يفارق فيه الأب الولد ؛ فلهذا ذكر الولد دون الوالد مع أنه - أيضًا - يمكن وضوح حكم الأب عندهم ؛ لأنه قد استقر عندهم في أصول الفرائض: أن من تسبب بشخص لا يرث معه كالجدة مع الأم، والجد مع الأب، وابن الابن مع الابن، والأخوة يتسببيمان بالأب فلا يشكل سقوطهم معه، وليس كذلك سقوطهم مع الولد ؛ لأنهم لا يتسببون به، ولو ورثوا معه لم يكن في ذلك مناقضة لأصول الفرائض، كيف وهم يرثون معه إذا كان الولد أنثى ولا ب ثون مع الأب بحال، واكتفى عن اشتراط عدم الوالد لما قلناه. وقد ذكرنا إجماع السلف على اشتراطه، إلا ما روى عن ابن عباس مما لا يصح عنه - والله أعلم -.
وأما وجه مراجعة عمر - رضي الله عنه - للنبى - صلى الله عليه وسلم - لم اجابته على آية الصيف، فلأنه قد نزلت آية الكلالة المذكورة في أول السورة، وذكر من الورثة الأخوة للأم خاصة، والإجماع على أن ذلك الفرض المذكور فيها على تلك الصفة ليس إلا الأخوة للأم، وبقى الإشكال فيمن سواهم، فزاد البارى - جل جلاله - بيانا بالآية الأخيرة من هذه السورة، فذكر - سبحانه - عقيب الكلالة الأخوة جملة، والمراد بهم الأشقاء أو من الأب، فاستوفت الآيتان بيان حكم جميع الأخوة، وجميعهم / كلالة إذا لم يكن والد ولا ولد، فأحال - صلى الله عليه وسلم - عمر - رضي الله عنه -?على الآية الأخيرة لزيادة البيان الذي تضمنته على الأولى، وكان ما وقع من زيادة البيان ونزول بيان بعد بيان، يهدى عمر إلى حقيقة الأمر والمعنى والمراد، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - وثقه بفهمه، وأنه إذا أشير إليه بهذه الزيادة من البيان فهم معنى ما أشكل عليه.(6/195)
وقد يطرأ الإشكال من جهة أخرى ولا يكون هو معنى ما سأل عنه عمر - رضي الله عنه - مثل دخول الجد في ذلك، وقد قدمنا تخريجه على الخلاف بهذا القدر الذي يتعلق بها في كتاب مسلم.
قال القاضي - رحمه الله -: قوله: وإن أعش أقض فيها بقضية... الحديث، ظاهره أنه من كلام عمر. وقوله: " يقضى بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن، يعني - والله أعلم - من بيانها، وأيضًا حتى يقضى بها من فهمها من كتاب الله وبان له فقهها وغيرهم ممن لا يتفقه، ولكنه اتضح له وجه صوابها لظهوره أو لاشتهار القضاء بها واجماع الناس عليه. وقد روي عن عمر في الكلالة روايات مختلفة، فتارة كان لا يجعل الوالد كلالة، وتارة كان يجعله كلالة.
ورد النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر إلى آية الصيف، ومعلوم أن عمر - رضي الله عنه - لا يخفى عليه معنى اللفظة من طريق اللغة - دليل على أن مقتضى اللفظة من جهة الشرع غير مفهوم بجملته عن طريق اللغة، فوكله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى استنباطه. ففيه دليل على تفويض الأحكام إلى أهل الاستنباط والمجتهدين، كما فوّض الجواب - عليه السلام - إلى عمر - رضي الله عنه - ووكله إلى استنباطه، وفيه رد على من يمنع استنباط معاني القرآن والكلام في تأويله واستخراج حكمه وأحكامه لظاهر النهي عن القول في القرآن بالنهى لرأى، ولما ورد أنه مخطئ وإن أصاب. وتاويل هذا عند العلماء في القائل فيه بيانه على غير أصل ومن ليس من ال العلم بالاستنباط. ولم يختلف العلماء أن المراد بالأخوة - في الآية التي في أول النساء - أنهم من أم فقط. وفي قراءة سعد - رضي الله عنه -:( وله أخ أو أخت من أم )، وأن المراد بالأخوة في الآية الأخيرة أنهم من أب وأم، أو أب فقط أفاد عدم الشقائق.(6/196)
وذكر في هذا الحديث " مالك بن مغول، بكسر الميم وسكون الغين على " أبي السَّفر" بفتح السين وسكون الفاء، وقيل: بفتحها وهو الأكثر عند المحدثين، وبالوجهين ضبطه الشيوخ، وأكثر ما قيدناه عن شيوخنا بالسكون، وعن بعضهم بالفتح، وهو الذي قيده الجياني، وبذلك قيده ابن ماكولا، وعبد الغني. مال الباجي: معظم قرائنا فيه بإسكان الفاء. وقال الدارقطني: بفتح الفاء، على ما يقوله أصحاب الحديث. وقد فرق بين المضبطين أصحاب المؤتلف فذكروا السكون في الأسماء والفتح في الكنية.
قال الإمام - رحمه الله تعالى -: رأيت أن أملي تلخيصًا في الفرائض يستقل به الفقيه إن اقتصر عليه، ونذرت في التصرف فيه إغناءه عن جمع مسائل الفرائض المستفتى عنها، وقد حفظته لجماعة ورويتهم عليه بلفظ المسائل، فالتفوا عن مطالعة الكتب. فاعلم أن الوارثين من الرجال: الأب وأبوه وإن علا، والابن وابنه وإن سفل، والأخ من أي جهة/ كان وابنه وإن سفل، سوى العم أخي الأب من الأب وولده، والزوج، ومولى النعمة. ومن النساء: الأم، وأمها، وأم الأب وإن عليا، والبنت، وبنت الابن وإن سفلت، والأخت من أي جهة كانت، والزوجة، ومولاة النعمة.
والفروض ستة: ثلثان ونصفها وربعها، والنصف ونصفه وربعه.
فالثلثان فرض أربعة أصناف: اثنتان فصاعدا من بنات الصلب، أو من بنات الابن، أو من الأخوات الشقائق، أو من الأخوات للأب.
والثلث فرض صنفين: الأم مع عدم الولد والأخوة وفرض الاثنين فصاعدا من ولد الأم ما كانوا.
والسدس فرض سبعة: كل واحد من الأبوين مع الولد وولد الابن، وأحد فروض الجد، وفرض الجدة أو الجدات إذا اجتمعن، وفرض الأم، والواحد من أولاد الأم ما كان، وفرض بنات الابن مع بنت الصلب، وفرض الأخوات للأب مع الأخت الشقيقة.
والنصف فرض الزوج، وفرض واحد من أصحاب الثلثين.
والربع فرض الزوج مع وجود الحاجب، وفرض الزوجة أو الزوجات مع عدمه.
والثمن فرض الزوجة أو الزوجات مع وجوده.(6/197)
والحجب على ضربين: نقص واسقاط.
فأما النقص: فالولد وولد الابن يردان الأبوين والجد إلى السدس، إلا أن الأب والجد يرثان ما بقي بالتعصيب، ويردان الزوج إلى الربع والزوجات إلى الثمن. واثنان من الأخوة فصاعدا يردان الأم إلى السدس، وتعطى ثلث ما بقي في مسألتين: أبوان مع زوج أو زوجة. وابنة الصلب ترد بنت الابن إلى السدس، وكذلك الأخت الشقيقة ترد الأخت للأب إلى السدس.
وأما حجب الإسقاط: فاثتان من بنت الصلب تسقطان بنات الابن إلا أن يكون مع بنات الابن ذكر في درجتهن أو تحتهن فيرد عليهن، وكذلك الشقيقتان يسقطان الأخوات للأب، إلآ أن يكون مع الأخوات للأب ذكر في درجتهن خاصة فيرد عليهن، والأم تسقط الجدات كلهن، والجدة القربى من جهة الأم تسقط البعدى من جهة الأم بل تشاركها، ووك الأم يسقطه عمود النسب: الأب والجد والولد وولد الابن.(6/198)
وأما حجب العصبة: فقد عقدنا أصله عند ذكرنا له فيما تقدم. والجد مع الأخوة يقاسمهم ما لم تنقص المتقاسمين الثلث،وإن كان في الورثة ذو سهام حكم فيما فضل عنهم بهذا الحكم والجدات أن يأخذ منهم السدس وينتزع من حكم التعصيمب كما للأخوة الاثنين المسألة المشتركة أن ينتزعوا من التعصيب، وهي: زوج وأم وأخوات لأم وأخوة أشقاء. فإن المال إذا استوعب جميعه أهل الفرض قال الأخوة الإشقاء للأخوة للأم: هب أن أبانا حمارا ليست أمنا واحدة، فيشاركونهم في الثلث وللأخوة الأشقاء معاداة الجد بالأخوة للأب وسيبتدئون بما حصل بجميعهم، إلا أن يفضل عن الإناث منهم فضلة فتزيد على فرد منهم، فتعطى/ لمن كان من جهة الأب والأم منهم. وللجد مقاسمة الأخت وإن انفردت عنه بالفرض الذي عيل لها به في الفريضة التي تسمى الأكدرية، وتسمى الفراء، هي: زوج وأم وجد وأخت شقيقة أو لأب، فإن المال إذا استوعبه من سوى الأخت عيل للأخت بالنصف، ثم ضمت نصفها إلى سدس الجد، واقتسماه للذكر مثل حظ الانثيين. ولو كان بدل الأخت أختان لم يصل لها لبقاء فضلة من المال لحجبها الأم إلى السدس.
هذه جملة الفرائض التي من أحاط بها علما علم كل ما يستفتى عنه ويكثر نزوله.
قال القاضي - رحمه الله تعالى -: وقوله: كان يؤتى بالرجل الميت عليه الدين فيسأل - عليه السلام -:« هل ترك لدينه من قضاء ؟» فإن ترك وفاءً صلى عليه، وإلا قال:« صلوا على صاحبكم »، فلما فتح الله عليه الفتوح قال:« أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته »، وفي الحديث الآخر:« فأيكم ما ترك دينًا أو ضياعًا فأنا مولاه »، الحديث، وفي رواية أخرى:« ومن ترك كلاًّ وليته »، الكلّ: بفتح الكاف، أصله: الثقل، ثم استعمل في كل أمر معل متعب، والمراد به هاهنا: العيال.(6/199)
قال الخطابي: والضيعة والضياع هاهنا وصف لورثة الميت بالمصدر، أي ترك بنين وعيالاً أُولِي ضيعة، أي لا عائل لهم. والضياع في الأصل مصدر لما ضاع، ثم جعل اسمًا لكل ما هو بصدد، وأن يضيع من عيال وبنين لا كافل لهم، وسميت الأموال التي يحتاج إلى القيام عليها من الأرضين ضيعة ؛ لأنها معرضة للضياع وإن لم يقم عليها.
وقوله: " فأنا مولاه ": أي وليه ومتولي القيام عليه، كما قال في الحديث الآخر: "وليته ". واختلف في تأويل هذا الحديث، فقيل: يحتمل أن تركه للصلاة أولاً على الميت لأجل الدين الذي عليه، إذا لم يترك له وفاء إذا تداينه في فساد، أو غير وجه مباح، وقيل: يحتمل إذا تداينه وهو يعلم أنه لا يقضيه، وأن ذمته لا تفى بما عليه، وقيل: كان هذا أول الإسلام، ثم نسخ ذلك لما فتح الله الفتوحات وصار لجميع المسلمين حق في بيت المال، وفرض لهم سهم الغارمين. والحديث المتقدم يدل عليه وينص على ذلك. فقيل على هذا في قوله: "علي "، أي: لازم من بيت المال دين الفقراء.
وقيل: بل كان فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا - من ترك الصلاة على أهل الدين - أدبًا لأصحاب الديون ليسعوا في أدائها، ويرغبوا عن الاستكثار منها، ولئلا يستأكلوا أموال الناس فتذهب. وقيل على هذا: معنى قوله: " وقد ترك دينًا فعلي"، الوعد بأن الله سيقضيه عنه بما يفتح الله على المسلمين مما وعده الله به من ذلك، لا على اللزوم والضمان.(6/200)
وقبل: معنى:« أنا أولى بالمؤمنين » كما قال الله تعالى:{ النبي أولى بالمؤمنين } لكني لا أرثهم، ويدل عليه نص حديث أبي هريرة من رواية البخاري:« ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم:{ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه } الآية، فمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فليأتني، وأنا مولاه »، فنبه أنه لا ميراث / إلا لذوي الأرحام، وأن التبني والموارثة بالحلف قد أبطلها الشرع، فمن ترك مالأ فلذوى رحمه ومن يرثه بكتاب الله تعالى، ومن ترك دينًا فعلي أداؤه مما فرض الله له من مال الله.
ومعنى قوله:« فادعوني فأنا وليه »، استغيثوا في أمره، ومنه قوله تعالى: { وادعوا شهداءكم من دون الله }، أي: استغيثوا بهم، وأصل الدعاء الاستغاثة.
قال الخطابي: وفي الحديث جواز الضمان على الميت، ترك وفاء بالديون أولاً، وهو قول الشافعي وابن أبي ليلى، وهو مذهب مالك وغيره. وقال أبو حنيفة: إن لم يترك وفاء لم يلزم الضامن.
- - - - - - - - - - - - -
كتاب الصدقات والهبات
وقوله - رضي الله عنه - حملت على فرس عتيق في سبيل الله فأاعه صاحبه لأنه أراد ابتياعه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:« لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه »، وفي الحديث الآخر:« كمثل الكلب يعود في قيئه فيأكله »، وفي الرواية الأخرى:« كمثل الكلب يقيء ثم يأكل قيأه»، وفي الحديث الآخر:« العائد في هبته » مكان قوله:« صدقته »، الفرس العتيق هو: الجواد الكريم. ومعنى الحمل هنا فيه تأويلان: أحدهما: هبته وتملكه له للجهاد. والثانى: تحبيسه عليهم.(6/201)
وإضاعته يحتمل تأويلين: أحدهما - وهو الأظهر -: أنه لم يحسن القيام عليه. والثانى: إضاعته في استعماله فيما حبس له. فإن كان جسا فقد يحتمل أن عمر- رضي الله عنه - ظن أنه يجوز له هذا ويباح شرعًا الحبس. لكن منع النبي - صلى الله عليه وسلم - من شرائه، وتعليله بالرجوع في الهبة ؛ دليل أنه لم يكن حبسًا ؛ إذ لو كان حبسا لم يخص منع شرائه بعلة الهبة ولعلل بالحبس، إلا أن يكون هذا الضياع قد بلغ به إلى عدم الانتفاع فيما حبس لذكره، فهذا يجوز بيعه عند مالك ليستبدل، وأباه عبد الملك. واختلف الناس في محمل النهي منه - عليه السلام - في هذا الحديث، هل هو على على العمرم أو على الخصوص ؟
فقال الطبري: هو خاص، فإن الهبة للثواب باشتراط ذلك أو بعرفه له بالرجوع، وكذلك الرجوع للأب فيما وهب لولده، وإنما ذلك فيما وهب لله وطلب الأجر او لصلة رحم فهذا لا رجوع له. قال غيره: وبهذا يكون قوله:" في صدقته " مفسرًا لقوله:" في هبته "، وهذا هو قول مالك في اعتصار الأم والأب والجد والجدة، ووافقه الشافعي وأبو ثور في الجد أنه يرصى، وحجة هؤلاء الحديث الذي رواه ابن عمر - رضي الله عنه -: " لا يحل للرجل أن يعطى عطية ويرجع فيها إلا الوالد فيما يعطى ولده،، وتخصيص الوالد بذلك إذ جعل له النبي - صلى الله عليه وسلم - حقًّا في مال الابن، وأنه لا يقطع فيه ولا يحد ؛ لأنه من كسبه، كما جاء في الحديث. وقاس هؤلاء الأم والجدين عليه ؛ إذ هما بمعناه، وانطلق عليه اسم الأبوة.
وقالت طائفة: هو على العموم وليس لامرئ أن يهب هبة ويرجع فيها، وروى عن بعض السلف وهو قول أحمد وطاوس، وقيل: ذلك خصوص فيما وهب لذى رحم أو زوج، وأما لغيرهم فله الرجوع، وهو قول الثوري والنخعي، وبه قال إسحاق، وروى عن عمر، وقال الكوفيون: هو خصوص في ذى الرحم المحرم لا رجوع فيه كان / زائدًا أو غيره، صغيرًا أو كبيرًا. فأما غيرهم من ذوى الأرحام والأجانب فله الرجوع.(6/202)
ثم اختلفوا هل ذلك على الإيجاب والندب والتنزه، فقال من جعلها عامة: هي واجبة لقوله: « العائد في هبته كالعائد في قيئه »، والمراد بهذا الواهب فإنها عائدة عندهم عليه، قال: فلما حرم العود في قيئه كذلك يحرم عليه العود في هبته. وهذا كلام غير سديد، وتأويل بعيد ؛ لأن القيء لا يحرم العودة إليه، وإنما يتنزه عنه ويستقبح فعله ويستقذر ؛ إلا أن يتغير بأحد أوصاف النجاسة من لون أو رائحة أو صفة، وإنما هو تمثيل كما قال في الحديث الآخر: " كالكلب يعرد في قيئه"، وهو وجه الكلام، وهو الذي يقتضيه ويبينه قوله في الرواية الأخرى: « كمثل الكلب يقيء ثم يأكل قيأه »، وبهذا يصح التشبيه.
والأولون قد يتأولون ذلك على التقديم والتأخير، أي هو يقيء ثم يأكل قيأه، كمثل الكلب. واحتجوا - أيضًا - بقوله في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - وابن عباس: "لا يحل لراهب أن يرجع في هبته ". والآخر يتأولونه على الخصوص كما تقدم. وكذلك اختلفوا في النهي عن الشراء، هل هو على التحريم أو الندب، على ما سيأتى ذكره. وحكى ابن المواز أن من العلماء من أجازه، وقالوا: وإنما فهمناه من شرائه لئلا يكون كالراغب في رد ما يخرجه لله والنادم عليه، فم شفق - عليه السلام - من فساد النية، كما يحرم على المهاجر الرجوع إلى وطنه بعد الفتح.(6/203)
قال الإمام - رحمه الله -: يحتمل بأن يعلل هذ! بأن المتصدق عليه أو الموهوب له قد يستجيبان منه فيتسامحانه في الثمن، فيكون ذلك رجوعًا في ذلك القدر الذي حط، وبهذا علل عبد الوهاب كراهة اشتراء الهبة والصدقة جميعًا، وإن كان قد وقع في الموَّازية، فيمن حمل على فرس. قال: إن لم يكن للسبيل ولا للمسكنة فلا باس أن يشتريه، وكأنه رأى أنه إذا لم يكن لذلك فهو هبة، والهبة تخالف الصدقة عنده، ولا يكون في الحديث عليه حجة لقوله:" على فرس عتيق في سبيل الله "، فإنما وقع النهي عنده لأنه على جهة الصدقة. ومن جهة المعنى: أن الصدقة مقربة لله - سبحانه - ولا يحسن الرجوع فيما تقرب به إليه تعالى، والهبة ليست كذلك فاستخف شراؤها، وما وقع في الطريق الآخر الذي ذكرناه: " العائد في هبته ا فلم يذكر ذلك عقيب نهيه عن الشراء، بل هو كلام مبتدأ، فقد يحمل على العود بغير معارضة فلا يكون فيه حجة على ما وقع في الموازية.
وظاهر إطلاق مالك يؤذن أنه حمل التمنى على الندب ؛ لأنه قال: لا ينبغى أن يشتريها وقال: يكره. وظاهر ما في الموازبة حمل النهي على المنع، وكذلك قال الداودى: إنه حرام. فعلى القول بحمل ذلك على الكراهية لا يفسخ العقد وعلى القول بحمله على التحريم قال بعض شيوخنا: يفسخ، وفيه نظر لأجل الاختلاف فيه، ولأنه ليس كل نهى يدل على فساد المنهي عنه.
واختلف المذهب في المنافع، هل هي كالرقاب أم لا ؟ فقال ابن المواز: كل من تصدق بغلة سنين ولم يتبل الأصل، فلا بأس أن يشترى المتصدق ذلك، وأباه / عبدًالملك، واحتج بحديث النهي عن الرجوع في الصدقة، وأجاز لورثته أن يشتروا المرجع. قال: والحجة لمالك حديث العرية. قال بعض الشيوخ: العرية أصل قائم بنفسه أجيز للمرفق ورفع الضرر فلا يقاس عليه غيره.(6/204)
قال القاضي - رحمه الله -: واختلفوا في الهبة للثواب، فأجازها مالك، وهو قول الطبري وإسحاق، ومنعها الشافعي وراها من البيع المجهول الثمن والأجل، وهو قول أبي ثور وأبي حنيفة. وذكر مسلم في هذا الباب: حدثنا قتيبة وابن رمح، جميعًا عن الليث، وحدثنا المقدمي ومحمد بن المثنى، قالا: نا يحيى - وهو القطان - ونا ابن نمير، ونا أبي، وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا أبو أسامة، عن عبيد الله، كلاهما عن نافع. فقوله: عن عبيدالله، يعني جميع من ذكر في غير حديث الليث وهم: القطان وابن نمير وأبو أسامة. وقوله:"كلاهما " يعني الليث المذكور. وفي السند الأول: عبيد الله، وهو العمري.
وقوله: إن النعمان بن بشير أتى به أبوه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنى نحلت ابني غلامًا كان لي، فقال - عليه السلام -:« أكل ولدك نحلته مثل هذا ؟»، فقال: لا. فقال - عليه السلام -:« فارجعه »، وفي بعض طرقه:« لا تشهدني، فإني لا أشهد على جور »، وفي بعضها:« اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم»، وفي بعضها: « أشهد على هذا غيري »، ثم قال:« أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء ؟» قال: نعم. قال:« فلا إذًا »، وفي بعض طرقه:« لا يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق ». في "مصنف الترمذي":« إذ لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم، كما إذ لك عليهم من الحق أن يبروك ».(6/205)
قال الإمام - رحمه الله -: اختلف الناس في إعطاء بعض البنين دون بعض، فالذى يحكيه بعض أصحابنأ عن مالك والشافعي وأبي حنيفة: أنهم يكرهون ذلك، ولكنه إن نزل مضى عندهم. وخالفهم غيرهم من الفقهاء وقال: ترد العطية. وقد وقع في المذهب اضطراب فيمن أخرج البنات من تحبيسه، هل ينفذ إذا وقع أو يفسخ على الإطلاق أو يفسخ بشرط ألا يموت أو بشرط ألا يموت ولا يجاز عنه. وقال بعض شيوخنا بأن هذه الأقوال تجري في هبة بعض البنين دون بعض، وعندي أن وجه الكلام في هذه الأقوال: أن من حمل النهي في هذا والأمر على الإلزام فسخ، ومن حمله على الاستحباب أمضى، ومن طلب زيادة ترجيح بين هذين الأصلين تقديرًا على الحيازة ؛ لأن الهبة قبل أن تجاز لواهبها الرجوع فيها عند جماعة من المخالفين وعلى قولة شاذة عندنا، ومن راعى الموت خاصة فإنه قال ذلك في الأب ؛ لأن له الاعتصار ما دام حيًّا وبموته يبطل الاعتصار، فراعى قدرته على الحل على وجه ما في الهبات.
وسبب اضطراب العلماء في حمل تلك على الوجوب أو الندب: ما وقع من اختلاف ألفاظ الحديث ؛ لأن قوله:« أشهد غيري » يشير عندهم إلى أنه مكروه أو خروج عن الأحسن، فأتوقاه أنا في نفسي ولا أوجب على غيري توقيه. قال: وقد علل - أيضًا - بقوله:« أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء ؟»، وظاهر هذا أن النهي لئلا يقع منهم تقصير، قالوا: وقد قال - صلى الله عليه وسلم - أيضًا:« فارجعه »/ فأمره باعتصاره لأن الأب يعتصر، ولو كان باطلا لقال: هو مردود، ولم يفتقر إلى ارتجاع المعطى.(6/206)
وقال آخرون: فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -:« لا أشهد على جور » يدل على المنع ؛ لأن الجور ممنوع منه؛ لأنه الميل عن القصد والعدول عنه. ومنه: جار السهم: إذا عدل السهم عن الغرض. ومن حمل هذه الظواهر على الندب يصح أن بسمى الميل في مثل هذا جورًا. واحتجوا - أيضًا - بقوله - صلى الله عليه وسلم -:« اتقوا الله، واعدلوا بين أبنائكم »، وظاهر الأمر على الوجوب. وفي هذا اختلاف بين أهل الأصول، والذي وقع في "الترمذي" من أمثل ما يتمسكون به ؛ لأنه قال - صلى الله عليه وسلم -:« إن لهم عليك من الحق »، وظاهر لفظه على تقيد الإلزام والوجوب.?
وقد تتوزع في عطية الصدِّيق عائشة - رضى الله عنها - إحدى وعشرين وسقًا، فاحتج به من لا يرى العدل بين البنين واجبًا. وقال آخرون: لعله أعطى قبلها من وساها، أو علم أنهم راضون بما فعل. وتضوزع - أيضًا - في صفة العدل بين البنين، فمال ابن القصار إلى التسوية بين الذكر والأنثى، ومال ابن شعبان إلى التفضيل على نسبة المواريث.
واختلف - أيضًا - في ذلك من تقدم من غير أصحابنا،وقد قال محمد بن إسحاق في سيرته: لم يكن لأبي النعمان بنت، فعلى ما حكاه ابن إسحاق لا يكون حجة في قوله - صلى الله عليه وسلم -:« أكل ولدك نحلته مثل هذا ? - ?(6/207)
قال القاضي - رحمه الله -: اختلف عن مالك في تأويل هذا الحديث، فروي عنه أنه قال: أرى ذلك أنه لم يكن له مال غيره، وإنما ذلك فيمن نحل بعض ولده ماله كله. وقد اختلف قول مالك فيمن وهب ما ا، كله لأجنبى أو لبعض ولده، هل يرد أو يمضي ؟ واختلف أصحابه كذلك، فحكى ابن المنذر وغيره عن مالك وغيره من العلماء جواز إعطاء الأب بعض بنيه دون بعض، ونحوه في كتاب محمد قال: لص انما يكره إذا نحل بعضهم جل ماله. والأشهر عن مالك كراهة ذلك لراجازته إذا وقع، وحكى أحمد بن نصر عنه أنه إن نحل جميع ماله فليرتجعه. وقال ابن القاسم: له ارتجاعه ما لم يمت. وقال سحنون: من أعطى ماله كله ولدا أو غيره ولم يبق ما يقوم به لم يجز فعله. قال غيره: مرة حمل مالك الحديث على الرجوب ومرة على الندب.(6/208)
وممن قال بمنعها كرة طاوس وعروة ومجاهد والثوري وأحمد وإسحاق وداود، والاخرون على أنها على الكراهة، وبذهبون إلى تسوية الذكر والأنثى. وممن قال منهم يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين كقسمة الميراث: عطاء والترمذي ومحمد ابن الحسن وأحمد وإسحاق. ووجه الجمع بين ألفاظ هذا الحديث إذ هو واحد وبناؤها سائغ بين وهو أولى من إطراح أحدهما أو توهين الحديث بالاضطراب في ألفاظه ؛ إذ ليس فيه ما يتنافى، وذلك بحمله على الندب والترغيب في التسوية كما جاء في بعض طرق حديث جابر: فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأكمل الأمور وأولاها ومخافة جر العقوق من بعضهم لذلك، كما نبّه عليه في الحديث الأخر المتقدم لأعلى الوجوب بدليل قوله: « أشهد غيري »، وإن كان قد استدل بعضهم لمخافة العقوق على الزجر لذلك بقوله:« أشهد غيري »، إنما هو على تأويل بعضهم على التوبيخ والزجر لا على حقيقة الإباحة لذلك ؛ إذ ما لا يجوز أن يشهد هو به لا يأمر غيره بالشهادة عليه، ولا يقبله، لكن ما تاولناه قبل أظهر في الكلام. وتسميته جورا على هذا بمعنى أنه عدول عن الأول من التسوية، أي: إنى لا أشهد ولا يعقد بين يدى إلآ الأتم في العدل والأكمل في الصلاح فأشهد غيري، ويكون قوله:« اردده » أي: إن هذا جائز لك وسائغ إن شئت إذ لك اعتصار، فالهبة دينك، فتستقيم جميع ألفاظ الحديث على هذا، لاسيما ويتأكد حمله على الكراهة بما روى أنه كان يعرف من والد النعمان ميل لأم النعمان، فكان - عليه السلام - فهم منه الضرار عن بعض ولده بماله، فخرج عن طريق المعروف إلى طريق الضرر، ويدل عليه ما يلوح من قول المرأة: لا أرضى حتى تشهد لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإلى ما ذكرناه نحا أبو القاسم بن ابى صفرة. وفيه كراهة شهادة أهل الفضل والعلم فيما يكره فعله ولو جاز عقده وأمضاه، لقوله:« أشهد غيري ».(6/209)
والاعتصار للأب فيما وهبه لابنه جائز عند مالك والشافعي، كبيرًا كان أو صغيرًا، إلآ أن مالكًا يثبت الاعتصار عنده تغيير الهبة وحدوث الدين على الموهوب أو زواجه، على اختلاف في مذهبنا فيما عدا مرض المعتصر، ولا يثبت ذلك عند الشافعي شيء، وأبو حنيفة لا يرى الاعتصار بوجه. وذلك مخصوص عند القائلين بها.
قال الخطابي: وفي قوله:« ارجعه » دليل على أن الهبة كانت مقبوضة. وفيما قاله نظر، فقد يكون " ارجعه "، بمعنى ابقه على ملكك.
وقوله:" نحلت ابنى نحلاً "، أي: أعطيت. والنحلة: العطية بغير عوض، والنحل: الشيء المنحول.
قوله:" بعض الموهبة " كذا عند ابن عيسى، وعند كافتهم:" الموهوبة"، اى بعض الأشياء الموهوبة. وأما الموهبة فاسم مصدر الهبة.
وقوله: " فالتوى بها،: مطل، فاللى: المطل.
وقوله:" قاربوا بين أولادكم "، ورويناه عن ألاتندس:" قارنوا " بالنون، ومعناه: سووا واجعلوهم في العطايا وغيرها في قران، ورويناه عن الصدفي والخشنى بالباء في المقاربة، اى لا تفضلوا بعضهم وتباينوه بالعطايا وغيرها على بعض، قالوا: وفي إشهاده النبي ظهش دلالة على جواز شهادة الحكام لم اشهادهم في الأمور.
وفي قوله:" انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: إني نحلت النعمان "، دليل على أن حوز الأب لما أعطاه ابنه الصغير حوز، وأنها لا تحتاج إلى حيازة غيره ؛ لأن النعمان كان حينئذ صغيرًا، ولذلك قال: يحمله. ولو كانت الهبة لا تصح إلآ بحوز غيره لم يحتج - عليه السلام - ؛ لقوله له: "ارجعها "، ولا خلاف في هذا بين العلماء فيما يعرف بعينه، وإنما الخلاف فيما لا يعرف بعينه من المكيل والموزون، هل يجزئ تعينها والإشهاد عليها والختم والحوز ؟ أم حتى يخرجها من يده إلى يد غيره ؟(6/210)
واختلف قول مالك في إعطاء الدنانير والدراهم بالوجهين، وكذلك اختلف قوله / في حوزه له الهبة غير امتناع من ماله، وأبو حنيفة يجيز هبته لما لا يعرف بعينه وإن لم يخرجه من يده ولا ختم عليه.
وقد اختلفوا فيما لم يقبض من الهبات، هل يلزم ؟ أم لا يلزم إلا بالقبض؟ أم يلزم ولا يتم إلا به ؟ فقال الحسن البصري وحماد بن أبي سليمان: الهبة عقد بالكلام كالبيع والنكاح ولا يحتاج إلى حوز،وهو قول أبي ثور وأحمد بن حنبل. وعند كافة العلماء: إنها تحتاج إلى حوز وقبض الموهوب لها وإلا لم تتم، وهو مشهور مذهب مالك، وإن كانت عنده لازمة بالقول، وحكى عنه قول شاذ: أنها لا تحتاج إلى حوز، وهو تأويل عليه لا يصح منه بالحوز، وأبو حنيفة والشافعي يقولان: لا يلزم إلا بحوز، وهم مجمعون على لزومها بالقبض وهبة المشاع عند مالك والشافعي وأبي ثور وأحمد بن حنبل جانرة، لكن مالكًا والشافعي يشترطان فيها الحوز، والاخران لا يشترطانه، وعند أحمد رواية في هبة ما لا يعرف بعينه: أنها لا تصح إلا بالقبض.
وقوله:« أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه »، وفي الرواية الأخرى: «فقال: قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد، فإنها للذى أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها »، زاد في رواية مالك:« أبدا ؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث »، وفي الرواية الأخرى:" فقد قطع قوله حقه فيها »، وفي الرواية الأخرى:" فهي له بتلة، لا يجوز للمعطي فيها شرط ولا ثنيا »، وفي حديث جابر:" إنما العمرى التي أجازها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها "، وفي الرواية الأخرى: " العمرى لمن وهبت له "، وفي الرواية الأخرى: " من أعمر عمرى فهي للذى أعمرها حيًّا وميتًا ولعقبه "، وفي الرواية الأخرى: "العمركما ميراث لأهلها "، وفي الرواية الأخرى: " العمرى جائزة ".(6/211)
قال الإمام - رحمه الله -: اختلف الناس في العمرى، فمذهب مالك أنها تمليك منافع، وذب المخالف إلى أنها تمليك رقبة للمعمر ولورثته بعده. وتعلق المخالف بظواهر هذه الأحاديث كقوله: " العمرى لمن وهبت "، وكقوله: "للذى أعمرها حيًّا وميتًا ولعقبه ". ومحمل هذه الأحاديث عند أصحابنا على أن المراد المنافع ؛ لأن الواهب إنما وهب منافع فلا يلزم أكثر مما وهب.
قال القاضي - رحمه الله -: أصل العمرى معناها أن يقول الرجل للرجل: هذه الدار لك عمرك، أو عمرى، قاله أبو عبيد، قال: وأصله من العمر. وقال غيره: أعمرته الدار: جعلتها له عمرة، ولا خلاف إذا قال: أعمرتك وأسكنتك عمرى أو ما عشت، أنها غير تمليك رقبة، وإنما هي مجرد تمليك منافع. وكذلك عندنا إذا أعمرها إياه وعقبه أو جعلها له عمرة وعمر عقبه، وعقب الرجل بكسر القات: ولده. فمالك يرى ذلك كله هبة منافع، ترجع عند انقراض من وهبت له وإن بعد إلى ربها، وقول القاسم ابن محمد ويزيد بن نشيط والليث بن سعد، وهو أحد قولي الشافعي، وأبو حنيفة يراها ملكًا للمعمر تورث عنه، سواء قال: لعقبك أم لم يقله، وهو قول الحسن بن في وأحمد بن حنبل والثوري وأبي عبيد والشافعي، وحكى عن الشافعي أيضًا في هذا القول أنها تمضى إذا قال: لك ولعقبك، على اتباع نهى الحديث. وحكاه أبو عبيد عن مالك، وحكاه - أيضًا - عنه الترمذي من رواية معن بن عيسى، وهو ظاهر قول مالك في الموطأ من رواية يحيى بن يحيى الأندلسي، وخالفه / غيره من الرواة، وهو آخر من ررى عنه "الموطأ" لقوله فيه: وذلك الأمر عندنا أن العمرى ترجع إلى من أعمرها إذا لم يقل: لك ولعقبك. والمشهور عن مالك ما تقدم، وهو قول أبي ثور وداود، وتأول معظم علماننا قوله في "الموطأ"، أي: فإذا قال: ولعقبك فلا ترجع إليه إلا بعد انقراضه على شهود ومذهبه. فإن قال: أعمرتك ولم يقل: ولعقبك، رجعت إذا مات لربها عند هؤلاء إذا كان حيًّا، أو لورثته بعده. وهو مفهوم قول الشافعي(6/212)
في هذا القول الذي نقله عنه ابن المنذر، والمشهور عنه مثل قول أبي حنيفة ؛ أن لفظ:" الإعمار" تمليك.
وقول أبي ثور هذا هو قول ابن شهاب وأبي سلمة بن عبد الرحمن وابن أبي ذئب: المسكن عند موت الذي أسكن كما قال مالك في العمرى، إلآ ما ذكر عن الحسن وعطاء وقتادة أنهم ساووا بين اللفظين، وجعلوا السكنى ملكًا كالعمرى على مذهبهم. وفي قوله: لا يجوز للمعطى فيها شرط ولاثنين حجة للمخالف أن تعيين العمرى يوجب كونها موروثة، وإن اشترط رجوعها إليه فالشرط باطل. قال الحربى: سمعت ابن الأعرابى يقول: لم تختلف العرب أن هذه الأشياء على ملك أرباب العمرى والرقبى والسكنى والأطراف والمنحة والعرية والعارية والأبقار ومنافعها لمن جعلت له.
وقوله:"بتلة ": أي عطية غير راجعة. ذكر مسلم في الباب: حدثنا عن أبي الزبير عن جابر قال: " أعمرت امرأة بالمدينة حائطًا لها " الحديث وفيه: فاختصموا إلى طارق مولى عثمان - رضي الله عنه - فدعى جابرًا فشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرى لصاحبها " الحديث. القائل: "أعمرت امرأة" هو أبر الزبير، ألا تراه بعد كيف حكى آخر الحديث: فدعى جابرًا. وطارق هذا هو ابن عمرو، ولاه عبد الملك المدينة آخر أيام ابن الزبير.
وقوله: " العمرى جائزة "، يحتمل أنها ماضية على ما تقدم، ويحتمل أن تكون "جائزة " أي مباحة. ولم يختلف في الاجتهاد جوازها.
وقوله:« أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها ». حض على الحوطة على المال، ونهي عن إضاعته، كما جاء في الحديث الآخر، ويحتمل أن يكون أمرهم بذلك إذا ظنوا أنها راجعة إليهم، فنهاهم عن ذلك إن كان أراد أنها موروثة على ما قال المخالف.
- - - - - - - - - - - - - - - - -
كتاب الوصايا والحبس
وقوله:« ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتان »، وفي رواية:« يبيت ليلتين »، وفي رواية أخرى:« ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة »، ولم يذكر في بعض الروايات:"يريد أن يوصي".(6/213)
قال الإمام: اختلف رحمه الله تعالى ذهب داود وغيره إلى إيجاب الوصية تعلقا بهذا الحديث، وهي عندنا على المذهب الندب، لكن إن كان عليه حق يخشى تلفه على أصحابه إن لم يوص به ؛ وجبت عليه الوصية لوجوب التنصل من الحقوق. وقد قيل: إن في هذا الحديمث دلالة على أن من كتب وصية وأقرها عنده نفذت وإن لم يخرجها من يده.
قال القاضي: لفظة "حق " أظهر من الوجوب، فإن حملت على الأظهر فعلى ما تقدم من الوجوه التي يتعين ويجب بها فيمن ترتبت عليه حقوق. قال الباجي: وهذا عندي فيما له بال من الحقوق والودائع والأموال التي لها بال وجرت العادة بعقد العقود، وبهذا ليست مما يتكرر، فأما ما يتكرر ويتجدد كل يوم من خفيف المعاملات والديون / ويتأدى في كل يوم. ويؤيد ما ذهب إليه قوله:" يبيت ثلاث ليال ". قال أبو ثور: قوله:"حق " يدل على أنها على الندب لأنه رد الحق إلى المسلم كقوله: هذا زيد، أي أنه له لا يتركه فإذا تركه لم يلزمه. قال الشافعي: يحتمل ما الحزم وما المعروف في أخلاق المسلم.
وقوله: "يريد أن "، حجة لنا وللكافر في غير إيجابها بالجملة ؛ لأنه لا يقال في الواجب: " يريد "، ولا ينصرف إلى اختياره ومشيئته.(6/214)
وقد كانت الوصية أولاً في صدر الاسلام واجبة { للوالدين والأقربين } الآية، وكذلك قوله تعالى:{ وصية لأزواجهم }، وقوله تعالى:{ كتب عليكم }، {حقًّا على المتقين } ظاهر في الوجوب، وقيل: كان ذلك ندبًا. ولم يختلف أنها أو بعضها منسوخ واختلف في المنسوخ منها وفي ناسخها، فكافتهم على أنها كلها منسوخة، وقيل: نسختها آية المواريث، وقيل: نسختها السنة، وقوله - عليه السلام -:« لا وصية لوارث »، وهذان القولان مرويان عن مالك. وهذا على قول من أجاز من العلماء نسخ القرآن بالسنة. وقيل: هذا الخبر مجمع على قبوله، فخرج عن طريق أخبار الآحاد فهو ناسخ للآية. ولا خلاف أن آية المواريث نزلت بعدها، وقيل: المنسوخ منها الوصية للوالدين والأقربين، وكذلك وصية الأزواج.
ونسخ فرض الوصية للأقربين من غير الوارثين بالتخصيص على مواساتهم من التركة بقوله تعالى:{ وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه } الآية، فهي تخصيص. فكما لا يجب رزق اليتامى والمساكين منه إذا حضروا كذلك القرابة، وقيل: بل يبقى فرض الوصية للأقربين ممن لا يرث، وهذا قول الحسن وقتادة والضحاك وطاوس، واختاره الطبري. قال الحسن: ولو أوصى بثلثه لغير قرابته فللموصى له من ذلك الثلث والبقية لقرابته، وقيل: بل هو عموم في الأقربين خصصته السنة ممن لا يرث منهم، وإلى هذا نحا أبو القاسم الكلبي.
وقوله:« له شيء يوصي فيه »، يحتمل من المال كما قال تعالى:{ إن ترك خيرًا }، ويحتمل أن يريد بقوله:« شيء يوصى فيه »، عن إثبات الوصية من الديون والأمانات والحقوق التي فرط فيها.(6/215)
وقوله:« إلا ووصيته مكتوبة »، لم يختلف قول مالك إذا كانت مكتوبة بخطه غير مشهد عليها أنها غير عاملة، إلآ ما يكون فيها من إقرار لأحد لحق عليه بخطه فيلزمه. واختلف قوله إذا شهد عليها، وقال: إن قدمت من سفري أو مرضي، فقام من ذلك المرض وقدم من ذلك السفر، ولم يخرجها في كل ذلك عن يده حتى مات بعد ذلك، هل تجوز أو ترد حتى يضعها على يد غيره، وأما إن لم يقيدها بموته من مرضه أو في سفره وأشهد وأمسكها عنده فانها تجوز بكل حال، وكذلك لو كانت مقيدة بالمرض والسفر ووضها على يد غيره فمات بعد ذلك فإنها تنفذ. ولم يختلفوا في أن للموصي تغيير وصيهته بغيرها أو نحوها.
وقوله في حديث سعد:" عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجع أشفيت منه على الموت ": فيه عيادة الأئمة المرضى، وهي من الرغائب المندوبات والافتقاد لاءمور رعيتهم. وفي كتاب الحربي: أن الوجع اسم لكل مرض. ومعنى " أشفيت "، أي: قاربت وأشرفت، يقال: أشفى وأشافا، /قاله الهروي. وقال القتبى: لا يقال: أشفى إلا في الشر. وفيه جواز ذكر المريض بشكواه وما يجد إذا كان لسبب من معاناة أو دعوة صالح أو وصية ونحوها، وإنما يكره من ذلك ما كان على معنى التشكي والتسخط، فإنه لقادح في أجر مرضه.
وقوله:" وأنا ذو مال "، دليل على إباحة جمع المال ؛ إذ هذه الصيغة لا تقع إلا للمال الكثير عرفًا، وإن صح إطلاقه لغة على القليل.
وقوله:" لا يرثنى إلا ابنة لي "، أي: لا يرثنى من الولد ومن يعز على تركه غالة، وإلا فقد كان له ورثة وعصبة، وقيل: يحتمل أنه أراد لا يرثني ممن له نصيب معلوم، وقيل: يحتمل أنه لا يرثنى من النساء إلا ابنة لي. وقيل: يحتمل أنه استكئر لها نصف تركته، أو ظن أنها تنفرد بجميع المال، أو على عادة العرب من أنها لا تعد المال للنساء إنما كانت تعده للرجال.(6/216)
وقوله: أفاتصدق بثلثى مالي ؟ قال:« لا »، إلى قوله:« الثلث والثلث كثير »، قال الإمام - رحمه الله -: جمهور العلماء على أن للمريض أن يوصى بثلثه تعلقًا بهذا الحديث، وقد قال بعض الناس: الوصية بالربع.
وذكر مسلم عن ابن عباس قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:« الثلث والثلث كثير ».
واختلف - أيضًا - فيمن لا وارث له، هل يقتصر على الثلث كمن له وارث، ويكون بيت المال كوارث معلوم يمنع من أجلها من الزيادة على الثلث ؟ أم تجوز له الصدقة بماله كله إذ لا وارث له معلوم ؟ وقد قال سعد: " لا يرثنى إلا ابنة لي واحدة "، ولم يسامحه بصدقة الشطر. وقيل: مراد سعد: لا يرثنى ممن له فرض معلوم إلا ابنة لي. والعالة: الفقراء، و يتكففون، أي: يمسكون بأكفهم الصدقة. وكانوا يكرهون الموت بمكة لأجل أنه بلد تركوه لله - سبحانه - فكرهوا أن يعودوا فيما تركوه ئله - سبحانه - فلهذا ذكر فيه ما جرى في الحديث.
قال القاضي - رحمه الله -: أجمع العلحاء أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصى بجميع ماله، إلا شيئًا روي عن بعض السلف أجمع الناس بعد على خلافه. وجمهورهم على أنه لا يوصى بجميع ماله وإن لم يكن له وارث. وذهب أبو حنيفة وأصحابه لرإسحاق وأحمد - في أحد قوليه - لإجازة ذلك، وروى عن بعض سلف الكوفيين وعن على وابن مسعود. وظاهر قوله: "أفاتصدق بثلثي مالي "، يحتمل في بتلة في مرضه أو الرصية به بعد موته، وهما عند عامة فقهاء الأمصار سواء، لا يجوز من ذلك إلا الثلث بنقص أم لا. وعند أهل الظاهر وأجازوا فعل المريض كله في ماله، وجعلوه كالصحيح بتل السنة إلا عبد في مرضه. ورد النبي ظعض أمرهم إلى الثلث حجة للكافة مع عموم ظاهر حديث سعد، واحتماله الوجهين.(6/217)
وأجمعوا على جواز الوصية بأكثر من الثلث إذ أجاز ذلك الورثة، ومنع ذلك أهل الظاهر وإن أجازوها... - عليه السلام -:« الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ». يصح في الثلث الأول النصب على الإفراد أو مفعول بهاضمار فعل، ويصح فيه الرفع على الفاعل بإضمار فعل " يكفى " ونحوه، أو خبر مبتدأ أو مبتدأ وخبره مضمر، وبالوجهين ضبطنا هذا الحرف، و " إن تذر" الوجه فيه نصب الهمزة وهو مقصود الكلام وكذا ضبطناه عن الشيوخ وقد وهم فيه بعضهم فقال: " إن"، بالكسر، وله وجه في الكلام / لا يند، يقتضي أن مراعاة الورثة خير من مراعاة المساكين، وهذا بمقدار المال ومقدار كثرة الورثة وغناهم وفقرهم.
وقد يكون هذا الخبر المراد به عظم الأجر في الاخرة، أو يكون خيرًا للورثة وأحسن حالأ لهم وأطيب لنفس الموصى بتركهم بحال حسنة. وفيه أن صلة من قرب أولى وأفضل من بعد. واستدل بهذا الحديث من يفضل الغنى على الفقير ؛ إذ جعل فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - خيرًا للورثة أو للموصى، ولو كان بخلاف ذلك لكان شرا لهم وله. وروينا قوله: " إنك إن تذر ورثتك أغنياء، بفتح الهمزة وبكسرها، وكلاهما له معنى صحيح. فعلى الفتح تقدير: إنك تركك ورثتك أغنياء، تقدر "أن"، مع فعلها بتقدير المصدر، والكسر على الشرط.
قال القابسي: فيه أن ميراث العصبة مع أهل الميراث لقوله:« إن تذر ورثتك أغنياء »، وقد قال:" لا يرثني إلا ابنة لي ".
وقوله:« وانك لن تنفق نفقة فتبتغى بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك ». يقتضي أن الأجور في المباحات والإنفاق إنما هي على النيات وابتغاء وجه الله، وما كان يقصد به الستر وأداء الحقوق وصلة الأرحام، وكذلك ما ينفقه الإنسان على نفسه، أو يقصد به إحياء نفسه والتقوى على عبادة ربه. وقد يستدل به على وجوب الإنفاق على الزوجات.(6/218)
وقوله: " أُخَلَّف بعد أصحابى »، يريد بمكة، إقا إشفافا من موته بها إذا كان هاجر عنها وتركها لله، فخشى أن يقدح ذلك في هجرته أو في ثوابه على ذلك، أو خشى بقاءه بعد تحول النبي لحهئ وأصحابه إلى المدينة وتخلفه عنه لأجل المرض، فكانوا يكرهون الرجوع فيما تركوه لله ؟ ولهذا جاء في غير هذه الرواية:" أخلف عن هجرتي"، فقيل: كان حكم الهجرة باق بعد الفتح، واستدل من قاله بهذا. وقيل: ذلك لمن هاجر؟ لقوله: أذن للمهاجر أن يقيم بمكة ثلاثًا، فاما من لم يهاجر إلا هجرة له لقوله - عليه السلام -:« لا هجرة بعد الفتح »، ويحتمل أنه سال عن تخلفه في العمر وطوله بعد اصحابه.
وقوله:« إنك لن تخلف فتعمل عملاً صالحاً تبتغى به وجه الله إلا ازددت به درجة »، فيه أن الأعمال بالنيات، ويحتمل تخلفه هنا كناية عن طول عمره وهو أظهر في الحديث، لاسيما وقد روي:« إنك لن تخلف بعدي »، يحتمل التخلف بمكة للضرورة، وأن ذلك لا يقدح في هجرته وعمله.
وقد اختلف الناس في هذا، فقيل: لا يحبط أجر المهاجر بقاؤه بمكة وبقاؤه وموته فيها إذا كان لضرورة، وإنما يحبطه إذا كان ذلك بالاختيار. وقال قوم: إن موت المهاجر بها كيف كان محبط للهجرة. وهذا الحديث يصحح القول الأولى ؛ إذ جعله يزداد درجة ورفعة على ما تقدر له، وقيل: لم تفرض الهجرة إلآ على أهل مكة فقط. وفي هذا كله، وقوله:« لعلك أن تخلف حتى يستضر بك أقوام وينتفع آخرون » علامة من علامات النبوة، وإخبار وقع كما كان من تمليكه وطول عمره بعد ذلك نيفًا على أربعين سنة، ونفع من استحق النفع به، وضر من استحق الضر به في ولايته وإمارته بالعراق، وهدايته من أسلم على يديه، وقتل من قتل.(6/219)
وقوله:« اللهم امض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم »، استدل به لم أ بعضهم على أن البقاء بمكة للمهاجر كيف كان قادح / في هجرته من هذا الدعاء لقرينة القصة ولا دليل عندي، بل يحتمل أنه دعى لهم دعاءً مجردًا عامًّا. ومعنى: " ولا تردهم على أعقابهم " بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالهم، يقال ذلك لكائن رجع عن حاله كالراجع عن طريقه.
وقوله:« لكن البائس سعد بن خولة »، البانس: الذي عليه أثر البؤس.
وقوله:" يرثى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة "، قال أهل الحديث: انتهى كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله:« لكن البائس سعد بن خولة »، ثم ذكر الحاكي هذا علة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه هذا وسببه، وإن ذلك رثاء له وتوجعًا لموته بمكة. وقائل هذا الكلام قيل: هو سعد بن أبي وقاص، وكذا جاء في بعض الطرق، وأكثر ما جاء أنه من قول الزهري، وبحتمل أن يكون قوله: " أن مات بمكة " من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن قول غيره: " يرثى له رسول الله - عليه السلام - "، فقط، تفسير المعنى. قوله: " البائس " إذ قد روى في حديث آخر:« لكن سعد بن خولة البائس قد مات في الأرض التي قد هاجر منها ».
واختلف في قصة سعد بن خولة، فقيل: لم يهاجر من مكة حتى مات بها، ذكره ابن سيرين وقاله عيسى بن دينار. وذكر البخاري أنه هاجر وشهد بدرًا، ثم انصرف إلى مكة ومات بها. وقال ابن هشام: وإنه ممن هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرا وغيرها، وتوفي بمكة في حجة الوداع. وقيل: بل توفى في سنة سبع في الهدنة مدة القضية، خرج مساء إلى مكة من المدينة. فعلى هذا وعلى ما قاله عيسى يكون بؤسه بينا لسقوط هجرته برجوعه مختارًا وموته بها، وقد يكون بؤسه لموته بها على أي حال كان وإن لم يكن باختياره، لما فاته من الأجر والثواب بالموت في بلد مهاجره والغربة عن وطنه الذي هجره لله.(6/220)
وقد ورد في هذا الحديث أن النبي ظظ خلف مع سعد بن أبي وقاص رجلاً، فقال له: إن توفى بمكة فلا يدفنه بها. حيطة على كمال أجره واستبقاء ثواب هجرته.
وذكر مسلم في هذا الحديث: " وكان يكره أن يموت في الأرض التي هاجر منها ". وذكر في الرواية الأخرى عن سعد بن أبي وقاص:" خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة "، وهذا يبين أن موت سعد بن خولة بمكة لا يقطع أنه لم يهاجر، وأنه ترك هجرته. وسعد بن خولة هذا هو زوج سبيعة الأسلمية التي مات عنها، وتقدم في كتاب العدة حديثها. وفي حديث سعد يخصص عموم جواز الوصية في القرآن بالسنة بالاقتصار على الثلث، وفي هذا الأصل بين الفقهاء والأصوليين خلاف. والصواب تصحيحه أن السنة مبينة،و لما علم من اجتهاد الصحابة على مثل هذا متى ورد. وأبو داود والحفرى واسمه عمر بن سعد.
وذكر مسلم في الباب حديث حميد بن عبد الرحمن الحميرى عن ثلاثة من ولد سعد، كلهم يحدث عن أبيه. قال الدارقطني: كذا قال الثقفي، عن أيوب، عن عمرو بن سعد عن حميد. وقال حماد: عن أيوب، عن عمرو بن حميد، عن ثلاثة من ولد سعد، قالوا: مرض سعد بمكة، فأرسله. ورواه هشام عن محمد عن حميد نحوه. وقد أدخل هذه الاثار كلها مسلم.(6/221)
قال القاضي - رحمه الله -: وأرى مسلما أدخل هذه الروايات ليبين الخلاف فيها، وهي وشبهها عندي من العلل التي وعد بذكرها في مواضعها، وظن ظانون أنه يأتي بها مفردة فقالوا: توفي قبل تأليفها. وقد بسطنا هذا صدر الكتاب، ولم يدرك أحد من ولد سعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدل عليه قوله في الحديث /:" ولا يرثنى إلا ابنة لي "، وذلك في حجة الوداع آخر مدة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الحديث وإن لم يذكر في بعض طرقهم سماعهم عن سعد ذلك، فهو محمول على المسند لروايتهم عنه غير هذا على أصلهم في ذلك، وما قدمه مسلم صدر الكتاب وذكر في الباب: نا محمد بن مثنى، نا عبد الأعلى، قال: نا هشام. وكذا لجمهور شيوخنا. وفي بعض النسخ:نا "ابن عبدًالأعلى لما مكان "عبد الأعلى السماحى" بسين مهملة، أبر محمد. وقيل: أبو همام. وقاله مسلم.
وقوله في حديث ابن عباس: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:« الثلث والثك كبير أو كثير »، مما استدل ابن عباس استدل غيره باستحباب النقص من الثلث لقوله:" كثير "، وقوله:" غضوا " بالغين المعجمة: نقصوا، أي نقصوا منه جزءًا.(6/222)
وقد اختلف الناس في المستحب من الوصية بعد إجماعهم على جواز الثلث، إلا شيئًا ذهب إليه بعضم من أن الوصية بالثلث إنما هي لمن لا وارث له. وما روى عن بعض السلف من إيجاب النقص من الثلث، فعن أبي بكر أنه أوصى بالخمس، واحتج بأن الله تعالى رضي من عباده بالخمس، ونحوه من على بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعن عمر - رضي الله عنه - بالربع، وهو قول إسحاق، واختار آخرون السدس أن يكون دون ذلك. وقال الحسن: السدس أو الخمس أو الربع. وقال النخعي: كانوا يكرهون الوصية بمثل نصيب أحد الورثة. واختار آخرون العشر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض روايات سعد:« أوصي بالعشر »، وروى عن على وابن عباس وعائشة وغيرهم لمن ماله قليل وله ورثة لا ترك الوصية لقوله:« إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة ».
قال الإمام - رحمه الله -: ذكر مسلم في سند هذا الحديث: نا أبو كريب، قال: نا ابن عمير عن هشام بن عروة، هكذا في نسخة ابن ماهان، والذي في نسخة الجلودي: نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا ابن نمير. فجعل بدل "أبي كريب " "أبا بكر ".
قوله: إن أبي مات وترك مالأ ولم يوص، أفيكفر عنه أن أتصدق عنه ؟ قال:« نعم »، وفي حديث عائشة - رضى الله عنها -: إن أمى افتتلت نفسها فلي أجر ان أتصدق عنها ؟ وفي الرواية الأخرى: أفلها أجر أن أتصدق عنها ؟ قال:« نعم »، قال القاضي - رحمه الله -: فيه جواز النيابة في الطاعة في الأموال، وصدقة الحى عن الميت، والناس بعضهم عن بعض، وهذا مما أجمع المسلمون على جوازه واستحبابه. ومعنى " أيكفر عنه "، أي: من السيئات. ومعنى " لها أجر "، أي: لها حسنات بصدقتى عنها. وقد يكون انتفاع المتصدق عنه بذلك وإن لم يكن له فيه نية أن المتصدق وهبه أجرة فيه، وقيل: قد يوحى الميت والحى بما لم يكتسبه ولا نواه، كما يؤجر بغيبة غيره له وإن لم يعلم به. وإن هذه الأحاديث خاصة لعموم قوله تعالى: { وإن ليس للإنسان إلا ما سعى }.(6/223)
وقوله:" افتتلت نفسها "، رويناه بضم السين على ما لم يسم فاعله، وبفتحها على المفعول الثاني. ومعنى ذلك: ماتت فجأة. والفلتة والافتلات: ما كان بغتة وعن عجلة بغير قصد ولا روية.
وقوله:" وأظنها لو تكلمت تصدقت "، إما لما علم من حرصها على فعل الخير، أو لما علم من قصدها ونيتها في الوصية. ويدل حرصها عليه ما في حديث أم سعد من رواية مالك: أنها لما قيل لها: أوصى، قالت: إنما المال لسعد. فتوفيت قبل قدوم سعد. وإذن النبي - عليه السلام - لها في الصدقة عنها، دليل على جواز ذلك،/ ولا خلاف فيه ولا في استحبابه للوارث، وأنه غير واجب عليه في الواجبات والمندوبات. وذهب الشافعي أنه يجب على الوارث إخراج جميع ما فرط فيه من موروثه من الواجبات من رأس ماله. ومعنى قوله في الرواية الأخرى: " أفلى أجر أن أتصدق "، إن كانت هذه الرواية صحيحة فمعناها صحيح أيضًا: لي أجر في فعل ذلك أهبه لها فتنتفع به، ويكون لها هي أجر أيضًا، أو يكون لي أجر في سعمى فيه وهبتى ذلك لها، مع أنه مالي في الأصل.
وقوله:« إذا مات الميت انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية، أو علم لم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له »، وذلك لأن عمل الميت منقطع بموته، لكن هذه الأشياء لما كان هو سببها ؛ من اكتسابه الولد، وبثه العلم عند من حمله فيه، أو إيداعه تأليفًا بقي بعده، وإيقافه هذه الصدقة ؛ بقيت له أجورها ما بقيت ووجدت. وفيه دليل على جواز الوقف والحبس. ورد على من منعه من الكوفيين ؛ لأن الصدقة الجارية بعد الموت إنما تكون بالوقوف. وفي هذا دليل على أنه لا يجزئ عمل الأبدان من صلاة وصيام ولا نيابة في غير المال الذي نص عليه ونفى غيره.
?????وقوله:" أصاب عمر - رضي الله عنه - أرضا بخيبر لم يصب مالأ قط أنفس عنده منه"، أي: أفضل وأعجب إليه وأغبط، والنفيس من كل شيء، المرغوب فيه، المحروص عليه، وقد نفس نفاسة. واسم هذا المال ثمغ.(6/224)
وقوله: فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستامره، فقال:« إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها » الحديث، قال الإمام - رحمه الله -: التحبيس عندنا جائز في الخلاف العقار، خلافًا لمن منعه على الجملة. والدليل عليه الاتفاق على تحبيس المساجد والسقايات، وحديث عمر - رضي الله عنه - هذا. وعندنا في المذهب اضطراب في تحبيس الحيوان وإذا كان الحبس في الرباع على مجهول كالمساكين فلا خلاف أنه لا يعود على تحبيسه ؛ لأن من أعطيه لا ينقطع فيبقى التحبيس ما يقوى، وكذلك إن كان على رجل وعقبه فإن العقب إذا انقطع لم يرجع ملكًا للمحبس ؛ لأنه لما أعطى علق العطية بالعقب، وقد لا ينقطع ولا ذلك من قصده على أن له ملكه.
وإن كان التحبيس على قوم معينين حياتهم، فإذا ماتوا ففيه قولان: هل يرجع ملكا للمحبس إذ لا علامة على قصده التأبيد وزوال الملك، والأصل أن ملك الإنسان لا يزول إلا على الصفة التي أخرجه عليها أو يكون الأصل ألا يرجع ذلك إلى ملكه ؛ لأن لفظة "التحبيس" دالة على القصد. والدلالة الملك على هذه الطريقة. وإذا قلنا: إنه لا يرجع ملكا فإنه يرجع إلى أولى الناس بالحبس، والنكتة المعتبرة ها هنا التي يدور عليها الاختلات في هذا الأصل، فقد اضطربت الرواية فيه إذا حبس رذكر العقب، وسمى الصدلمة أو لم يسمها، إلى غير ذلك من المسائل ؛ إذ الألفاظ المصادرة عن المالك إما أن تكون نصوصا في إزالة ملكه بوضع اللغة أو بغلبة الاستعمال في العرف، أو نصوصا في اللغة أو العرف دالة على القصد لبقاء الملك، أو محتملة للوجهين، فما الاحتمال فيه يقضى بموجبه ويحكم بمقتضاه وما فيه إشكال روجع في تفسيره، فما فسره به مما يحتمله قوله قبل منه، وإن مات قبل أن يستفسر فالنظر عندي ألا يلزمه إلا أقل ما يقتضيه / قوله ؛ لأن الاملاك لا تخرج بالشك. وهذا الأصل يدور عليه جميع ما وقع في ذلك في الروايات.(6/225)
وأما قوله: " لا جناح على من وليها أن ياكل بالمعروف، أو يطعم صديقًا غير متأثل مالاً، فإن الحبس إذا استثنى محبسه منه هذا في أصل التحبيس صح ذلك. ولما اكل الصديق في حكم المعلوم مبلغه فيباح له منه قدر ما خرجت العادة به ولو لم يشترط ذلك، وكان التحبيس على المساكين ومن يليها منهم، فانه لا يحرم عليه ما لا يحرم على أحدهم وإن كان غنيًّا، واضطر إلى قيامه عليها ما لا يحرم بهذا القدر على جهة الإجازة، ويكون ما يأخذ معلومًا صح ذلك، وليست باعظم من الزكوات التي جعل الله - سبحانه - فيها حقا للعاملين عليها، وإن كانوا أغنياء.
وتقييده في قوله: ( أن ياكل منها بالمعروف " إشارة إلى ما قلناه في الرجوع إلى العادة في ذلك. وأما قوله: " غير متأثل مالاً " فمعناه: غير جامع، وكل شيء له أصل قديم أو جمع حتى يصير له أصل فهو موثل، ومنه: مجد موثل: اى قديم الأصل، وأثلة الشيء: أصله.
قال القاضي - رحمه الله -: فيه نص من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحبس والأمر به، وفيه جواز التحبيس على الأغنياء لقوله:" أو يطعم صديقًا "، وفيه جواز أكل القيم عليه منه، وأن جميع ذلك بالمعروف، كما قال الله - تعالى - في ولي اليتيم على قول بعضهم، وجواز الشرط في الحبس.
وقول مسلم آخر حديث محمد بن مثنى: في الباب زيادة قوله: وفي حديث ابن أبي عدى ما ذكره سليم في قوله: فحدثت بهذا الحديث محمدًا إلى اخره. سقطت هذه الزيادة عند العذري، وثبتت عند غيره.(6/226)
وقول السائل لابن أبي أوفى: هل أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال: لا. فقال: لم كتب على المسلمين الوصية ؟ أو فلم أمر بالوصية ؟ قال: أوصى بكتاب الله، وفي حديث عائشه - رضى الله عنها -:" ما أوصى بشيء "، قال الإمام - رحمه الله -: هذا يشير إلى أنه كان يرى المساواة في الأحكام بيننا وبينه والرجوع إلى أفعاله كتب على المسلمين الوصية، إذ كان أراد بذلك الفرض، فلعله اعتقد مقثض قوله تعالى:{ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية } الآية، وظن أنها لم تنسخ أو يكون رأى، أي: داود ومن وافقه من القائلين بإيجاب الوصية وقد قدمنا مذهبهم.
قال القاضي -رحمه الله -: ظاهر قوله:" لم يوص " يعارض الحديث الآخر في وصيته باشياء: لا يبفى دينان بارض العرب، وإخراج المشركين منها، وإجازة الوفد، وأنه أوصى بعترته وبصدقة أرضه، وإنما أراد هنا نفى الوصية بالأمر بعده التي تدعيه الشيعة والروافض وهو الذي أنكرت عائشة - رضى الله عنها - في الحديث الآخر بقولها: " متى أوصى إليه ؟"، وكذلك قوله: أوصى بكتاب الله وعترته وبالثقلين، وغير ذلك كله ليس بمناقض لقولها:" ما أوصى بشيء "؛ لأن السؤال عن الوصية بمال في وجوه البر، قالوا: ولأن أرضه التي تصدق بها حقيقة ذلك ليست بوصيته ولا صدقة محضة، بل هو حكم بركته، وإنما أخرجها صدقة شرع الله وحكمه، قال - عليه السلام -:« لا نورث ما تركناه صدقة »/. فإن سميت صدقة ووصية فعلى صورة حكمها ومجاز أمرها، فلا تناقض بين هذه الأحاديث على هذا، ولأنه لم يترك - عليه السلام - شيئًا يوصى فيه.
قال الإمام - رحمه الله -: وقولها: فلقد انخنث في حجرى. أصل الانخناث التكسر، ومنه انخناث الأسقية، ومنه سمى الرجل الذي في كلامه ومعطافه لين وتكسر: مخنثًا، فلعلها تريد أنه انخنث في حجرها، أي تمايل واجتمع.(6/227)
قال القاضي - رحمه الله -: الانخناث: التمايل والانثناء، وهو المراد هنا وهو المعنى، أي تكسر السقاء، أي انطوى بعضه على بعض، وميل بعضه على بعض. وفي " حجرىأ لغتان: فتح الحاء وكسرها إذا كان بمعنى الثوب. والحضن من الحضانة بالكسر لا غير. والحجر - الذي هو العقل - بالكسر لا غير، والحجر: المنع، بالفتح لا غير مصدرًا، والكسر لا غير اسمًا.
وقول ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس، وذكره قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اشتد به وجعه:« ائتوني اكتب لكم كتابًا بألا تضلوا بعدي»، وذكر تنازعهم في ذلك، وقول عمر - رضي الله عنه -:" حسبنا كتاب الله "، وقوله عند ذلك: « دعونى فالذى أنا فيه خيرًا »، وفي الرواية الأخرى:« قوموا عني »، وقول ابن عباس:" إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب ".(6/228)
قال الإمام- رحمه الله -: النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من أن يكذب على الله - عز وجل - أو يفسد ما يبلغه عنه، وهو مع هذا غير معصوم من الأمراض وما يكون من بعض عوارضها ما لا يعود لبعض في منزلته ولا فساد فيما مهد من شريعته. وقد كان ظض لما سحر يخيل إليه أنه عمل الشيء وما عمله، ولم يجر ها هنا منه - عليه السلام - من الكلام ما يعد مناقضا لما قدم من الأحكام والشرائع ولا الكلام في نفسه دال على الهذيان الذي يكون على الحميات، وقد بقي كثير من الأحكام عظيم خطرها في الشرع غير منصوص عليها، ولكنه قد حض على أصولها ووكل العلماء إلى الاستنباط، فيقول كل إنسان منهم بقدر ما يظهر له.وقد يقع بسبب اختلافهم فيما استنبطوه في بعض المسائل مرج وفتن، ولو وقع النص عليها لارتفع الخلاف وذهب الهرج، ولعله - صلى الله عليه وسلم - كان أراد أن يتعرض لبعض هذه المسائل، وقد قال بعض العلماء: الأظهر عندي أنه أراد - صلى الله عليه وسلم - أن ينص على الإمامة بعده ؛ ليرتفع بنصه عليها تلك الفتن العظيمة التي منها حرب صفين والجمل، وهذا الذي قاله غير بعيد. فإن قيل: كيف حسن الاختلاف مع قوله - صلى الله عليه وسلم -:« ائتوني أكتب لكم »؟، وكيف يعصونه فيما أمر ؟ قلنا: لا خلاف أن الأوامر تقارنها قرائن تنقلها من الندب إلى الوجوب عند من قال: إن أصلها على الندب، ومن الوجوب إلى الندب عند من قال: إن أصلها على الوجوب. وتنقل القرائن - أيضًا - صيغة أفعل إلى الإباحة وإلى التعجيز، وإلى غير ذلك من ضروب المعاني.(6/229)
فلعله ظهر منه - صلى الله عليه وسلم - من القرائن ما دل على أنه لم يوجب ذلك عليهم بل جعله إلى تخييرهم، فاختلف اختيارهم بحسب اجتهادهم، وهو يدل على رجوعهم إلى الاجتهاد في الشرعيات، فأرى عمر - رضي الله عنه - / اجتهاده إلى الامتناع من هذا، ولعله استلوح أن ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - صدر من غير قصد إليه جازم، وهو المعنى بقولهم:" هجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وبقول عمر - رضي الله عنه -:" غلب عليه الوجع"، وما ضامه من القرائن الدالة على أنه عن غير قصد جازم على حسن ما كانوا يعهدونه من تعوده ظي في بلاغ الشريعة، وأنه لا يجرى مجرى غيره من طرق البلاغ التي اعتادوها منه ظض. ظهر ذلك لعمر - رضي الله عنه - ولم يظهر للآخرين ما ظهر لعمر فخالفوه، فلعل عمر - رضي الله عنه - هجش في نفسه أن المنافقين قد يستطرقون إلى القدح فيما اشتهر من قواعد الإسلام، وبلغه - صلى الله عليه وسلم - لسائر المسلمين بكتاب يكتب في خلوة وأحاد، ويضيفون إليه ما يشبهون به على الذين في قلوبهم مرض، ولهذا قال عمر:" عندكم القرآن، حسبنا كتاب الله ". قال أهل اللغة: هجر العليل بمعنى هذي.
قال الإمام - رحمه الله -: فقد قدمنا نحن بيان القول فيما وقع منه - صلى الله عليه وسلم -، وبينا رما يجوز عليه وما لا يجوز.(6/230)
قال الإمام القاضي - رحمه الله -: رواية مسلم في هذا:" العجز ": وكذا وقع في كثير من الطرق، وهو أصح من رواية من روى: " هجر" و "يهجر "؛ إذ هذا كله لا يصح منه - عليه السلام - ولا يصح أن يعتقد عليه وإنما جاء هذا لمن قائله على طريق الإنكار لمن قال: لا تكتبوا، أي لا تتركوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتجعلوه كأمر من هجر في كلامه، أو هو لا يهجر، كما قال تعالى:{ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا }، أي: أنت لاتهلكنا، الصورة صورة الاستفهام، والتقدير والمعنى النفي المحض، وإلا صحت الروايات الأخر، فيكون من قائلها خطأ وعلى غير تحقيق، بل لما أصابه من الحيرة والدهش العظيم ما شاهده من النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه الحال التي دلت على فقده، وعظيم المصاب به، وخوف الفتن والضلال بعده، فلم يضبط ما قاله، وأجرى الهجر مجرى شدة الوجع، كما حملهم الإشفاق عليه على حراسته، والله تعالى يقول له ويسمعهم:{ والله يعصك من الناس }. وقد رواه بعضهم: "هجر "، بضم الهاء في غير مسلم، ويحتمل أن يرجع هذا إلى الحاضرين، أي جنتم باختلافكم وتنازعكم هجرًا ومنكرًا من القول. والهجر الفحش في المنطق، وسيأتي الكلام على ما أشار إليه من حديث سحره - عليه السلام - في موضعه إن شاء الله تعالى. واختلف العلماء - رحمهم الله - في معنى هذا الحديث مما تقدم. وقيل: إن معنى هذا الحديث بما تقدم، وقيل: إن معنى الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن المبتدئ بالأمر به، وإنما سئل ذلك فأجاب إليه، فلما رأى اختلافهم فيه وعدم اجتماعهم على كتابه قال:« قوموا عني، ودعوني»، وهذا عند القائل بهذا يدل أنه كان غير مبتدئ بل مسؤول، وأن الذي أنا فيه من إرسال الأمر وترككم، وكتاب وتدعوني بما طلبتم خير.(6/231)
وقول عمر - رضي الله عنه -:" حسبنا كتاب الله "، رد على من نازعه لا على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: خشى عمر - رضي الله عنه - أن يكتب في الكتاب ما لعلهم يعجزون عنه فيحصلون بالحرج بالمخالفة، وأن الأرفق بهم سعة الاجتهاد ورحمة الخلاف / وثواب المخطئ والمصيبة مع تقرر أصول الشريعة، وكمال الدين، وتمام النعمة. وقيل: قد يكون امتناع عمر إشفاقًا على النبي - صلى الله عليه وسلم - من تكليفه في تلك الحال إملاء كتاب ؛ ولذلك قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتد به وجعه، حسبنا كتاب الله ".
وقوله:« أوصيكم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب »، المراد بالمشركين هنا: اليهود، وكذا جاء مفسرًا في غير هذا الحديث. وقد كان المشركون قتلوا ودخلوا في الإسلام. قال أبو عبيد عن الأصمعي: جزيرة العرب ما بين أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول، وأما في العرض فمن جدة وما والاها إلى أطوار الشام. وقال أبو عبيد: هي ما بين حفر أبي السماوة في العرض.
وإنما سميت جزيرة ؛ لإحاطة البحار بها وانقطاعها من الماء. وأصل الجزر: القطع، وأضيفت إلى العرب ؛ لأنها الأرض التي كانت بأيديهم قبل الإسلام. وذكر الهروي عن مالك: جزيرة العرب المدينة. وقال المغيرة المخزومى: جزيرة العرب مكة والمدينة واليمامة بإخراج على من كان على غير الإسلام من هذه البلاد، ولا يمنع من التردد فيها مسافرين، وقاله مالك والشافعي وغيرهما، إلا أن الشافعي خص هذا الحكم بالحجاز وحده من أرض العرب والحجاز عنده مكة والمدينة واليمامة وأعمالها دون اليمن. قالوا: ويضرب لهم حيث حلوا منه أجل ثلاثة أيام لينظروا في حوائجهم، كما ضرب لهم ذلك عمر - رضي الله عنه - حين أجلاهم، ولا يدقون فيه - عند الشافعي - موتاهم، ويخرجون إلى الدفن لغيرها ما لم يتغيروا. وأجاز أبو حنيفة استيطانهم هذه البلاد.(6/232)
قال الطبري: سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته إخراج كل من دان بغير الإسلام من كان بلد للمسلمين كانت، مما أسلم عليها أهلها، أو من بلاد العنوة إذا لم يكن بالمسلمين ضرورة إليهم، يريد إما لعمارة أرض ونحوها، كما أبقى عمر - رضي الله عنه - من أقر من ذمة الثام والعراق لعمارة أرضها، وإنما خص في هذا الحديث جزيرة العرب لاءنه لم يكن يومئذ للإسلام ظهور في غيرها. فاما إقرارهم مع المسلمين في مصر لم يتقدم لهم عقد صلح قبل عقد الإقرار به فما لا نعلمه عن أئمة الهدى.. وذكر أحاديث منها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:« لا يبقى قبلتان بأرض »، ومنها إخراج أهل الذمة من الكوفة إلى الحيرة. وعن ابن عباس - رضي الله عنه -:« لا يساكنكم أهل الكتاب في مضاربها ».
قال الطبري: فالواجب على كل إمام إخراجهم من كل مصر غلب عليه السلام، إذا لم يكن من بلادهم التي صولحوا عليها، إلا أن تدعو ضرورة لبقائهم لعمارتها، فإذا كان فلا يدعوهم في مصر مع المسلمين أكثر من ثلاثة أيام، وليسكنهم الخارج عنهم، وليمنعهم اتخاذ المساكن في مصار المسلمين ويبيعها عليهم إن ملكوها. وقال غيره: إن الحكم مخض بمن كان بجزيرة العرب، كما جاء في الحديث، غدروا أو لم يغدروا، وبخرجون بكل حال، فأما غمرهم فلا يخرجون، إلا أن يغدروا أو يخاف ذلك منهم، فينقلون إلى حيث يؤمن شرهم.
وأما الحرم، فمعظم الفقهاء على منع كل كافر من حوله لا مستوطنًا ولا مارًا فيه، وإن مات فيه ميت ممن دخله نقل عنه، إلا أن يتغير. وجوَّز أبو حنيفه مرورهم فيه ودخولهم إياه.
وقوله:« وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم »، سنة منه - عليه السلام - في ذلك لازمة للأئمة بعده للوفود عليهم،/ تطييبًا لنفوسهم وترغيبًا لأمثالهم ممن يستألف، وقضاء لحق قصدهم، ومعونة بهم على سفرهم، وسواء عند أهل العلم كانوا مسلمين أو كفارا ؛ لأن الكافر إذا وفد إنما يفد فيما بينهم وبين المسلمين وفي مصالحهم غالبًا.(6/233)
وأما قوله:" وسكت عن الثالث " يعني ابن عباس وقال: " أنسيتها "، يعني سعيد ابن جبير. قال المهلب: الثالثة: تجهيز جيش أسامة.
قال القاضي - رحمه الله -: وقد يحتمل هذا قوله - عليه السلام -: " لا تتخذوا قبرى وثنا يعبد "، فقد ذكر مالك في "الموطأ" معناه، مع إجلاء اليهود من حديث عمر - صلى الله عليه وسلم -، وقال: آخر ما تكلم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقين دينان بأرض العرب ».
- - - - - - - - - - - - - -
كتاب النذور
قوله: إن سعد بن عبادة استفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه، فقال:« اقضه عنها ». قال الإمام - رحمه الله -: قد قدمنا أن الميت تقضى عنه الحقرق المالية، وذكرنا الخلاف في البدنية، وما تقدم يغني عن إعادته هاهنا.
قال القاضي - رحمه الله تعالى -: في هذا الحديث جواز النذر للطاعة. وقد جاء في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا، وأمر بالوفاء به وأثنى على فاعل ذلك، وذتم من لم يوف به. وما ورد من النهي عنه فمعناه ما كان لمعنى من أمر الدنيا، كقوله: إن شفاني الله من مرضي تصدقت بكذا، وإن قدم غائبي صمت كذا فيكره هذا ؛ لما خالطه من غرض الدنيا والاشتراك في عمله، ولذلك جاء في الحديث:« إنما هو شيء يستخرج به من البخيل ». فأما إن كان نذرًا مطلقًا لله وإرادة الثواب، وشكرًا لما أولاه الله وقضاه من حاجته فلا يكره. وسنذكر بعد.(6/234)
والنذر لازم في الجملة، قال الله تعالى:{ وليوفوا نذورهم }، وقال - عليه السلام -:« من نذر أن يطيع الله فليطعه »، وقال ذامًّا للآخرين:« وينذرون ولا يوفون ». ويلزم النذر عند مالك مطلقًا، كقوله: علي نذر، أو مقيد كقوله: على نذر صدقة أو صيام. وللشافعي في المطلق قولان: مرة ألزمه ومرة أبطله، وجعل فيه أقل ما يقع عليه ذلك الإثم. وعند مالك وكافة العلماء: فيه كفارة يمين، ويأتي فيه أثر مفسر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحيح، وسواء كان عندنا لا على وجه القصد والتوبة، أو وجه الخوف ووجه الغضب في الحرج إذا قيده أو أطلقه يلزم. وقال الشافعي: هو مخير في نذر الحرج المقيد أن يفى به أو يكفر كفارة يمين، وسيأتي ذكره.
وأما النذر بشيء مباح كالقيام والمشي إلى السوق ونحوه، فعند مالك وكافة العلماء: لا ليزم، وهو مكروه ؛ لأنه من تعظيم ما لا يعظم، بل ظاهر كلام مالك أنه من نذر المعصية. وقال أحمد بن حنبل: هو لازم يخير بين فعله أو كفارة يمين.
وقوله:" ولم تقضه "، يحتمل أنه وجب عليها فلم تقضه ؟ ولهذا حضه - عليه السلام - على قضائه عنها، وهو أظهر. من لفظ الحديث، لاسيما مع الحديث المتقدم: "إنما ماتت فجاة ". وقيل: يحتمل أن تكون عقدته ولم يجب عليها.
وهذا الحديث مما يحتج به الشافعي/ في أن من وجب عليه حق في ماله من يمين أو نذر أو كفارة، فهي مقضية من ماله كديونه اللازمة. ومالك وأبو حنيفة وأصحابهما يخالفونه في ذلك، ويرون أنه لا يقضى شيء من ذلك إلا أن يوصى به. ثم اختلفوا هل يكون في ثلثه ؟ وهو قولنا، وعند غيرنا في رأس ماله. واختلف أصحابنا فيما لم يفرط فيه من زاد كالزكاة الحالة وشبهها، فعند ابن القاسم: أنها تخرج إذا أوصى بها من رأس المال، ولا يلزم إذا لم يوص بها. وعند أشهب: يخرج من رأس المال، أوصى بها أم لا.(6/235)
واختلف في نذر أم سعد ما كان ؟ فقيل: كان نذرًا مطلقًا، وقيل: كان صومًا، وقيل: كان عتقًا، وقيل: كان صدقة. واستدل كل قائل بأحاديث وردت في قصة أم سعد. ويحتمل أن النذر عليها ورد في تلك الأحاديث، والله أعلم. وأظهر ما فيها أن نذرها كان في المال أو نذرًا مبهمًا، ويكون حديث من احتج لذلك برواية مالك لما قيل لها: أوصى، قالت: فيم أوصي وإنما المال مال سعد، أي: فأوصى فيه بقضاء نذري. ويطابق هذا قول من روي:" فأعتق عنها "، فإن العتق من الأموال ومن كفارة النذور وليس فيه كفارة قطع على أنه كان عليها عتقًا، كما استدل به من قال: إنه كان عليها رقبة،ولأن هذا كان من باب الأموال المتفقة على النيابة فيها، ويعضده-أيضًا- ما رواه الدارقطني من حديث مالك: فقال له - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -:« اسق عنها الماء ». وأما حديث القوم فقد قاله أهل الصنعة للاختلاف بين رواته في سنده وكثرة اضطرابه.
وقوله:« فاقضه عنها »، على غير الوجوب عند كافة العلماء ؛ لأنه إنما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل يفعل ذلك ؟ فأباح له ذلك، وحمله غيرهم على الندب والترغيب لقوله: افينفعها، ولا شك أن كل نافع يرغب فيه، وهذا عند كافتهم ما يتعلق بالمال. وحمل أهل الظاهر هذا على الوجوب، فألزموا الوارث قضاء النذر عن الميت مكانه. وأما غيره يلزم ذلك الأقعد منهم فالأقعد.
وقوله: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا ينهانا عن النذر، ويقول:« إنه لا يرد شيئًا »، وفي الحديث الآخر:" لا يقدم شيئًا ولا يؤخره »، وفي الحديث الآخر: « إنه لا يأتي بخير »، وفي الحديث الآخر:« لا يرد من القدر، وإنما يستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج ».(6/236)
قال الإمام - رحمه الله -: ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفظ على النذر والحفظ على الوفاء به. وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث، ويحتمل عندي أن يكون وجه النهي أن الناذر يأتي القربة مستقلاً لها لما صارت عليه ضربة لازم، وكل محبوس الاختيار كأنه لا يبسط للفعل ولا يبسط إليه نشاط مطلق الاختيار. فقد كره مالك - رحمه الله - أن ينذر الإنسان صوم يوم بعينه ويوقفه، وعلل قوله شيوخنا بمئل هذا للذى قلناه. ويحتمل - أيضًا - أن يكون الناذر لما لم ينذر ما بذل من القربة إلا بشرط أن يفعل له ما يختار، صار ذلك كالمعاوضة التي تقدح زينة التقرب، ويذهب الأجر الئهابت للقربة المجردة، وفي الحديث:« من عمل عملا أشرك فيه غيري فهو له »، ويشير إلى هذا التأويل قوله - صلى الله عليه وسلم -:« إنه لا يأتي بخير »، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« إن النذر لا يغنى من القدر شيئًا »، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن / الله قدره له، ولكن النذر قد يرافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج »، وهذا كالنفي على هذا التعليل الذي قلناه ؛ لأنه أخبر - صلى الله عليه وسلم -: أن موافقة القدر تخرج منه ما لم يرد أن يخرج، وأن القدر ليس هو الجالب للقدر.(6/237)
قال القاضي - رحمه الله تعالى -: قد يقال: هل ذلك على طريق الإعلام بما ذكر فيه من أنه لا يخالف القدر ولا يأتي الخير بسببه والنهي عن اعتقاد خلاف هذا وأن يقع بظن جاهل، وهو بالجملة عند مالك مباح فيما تأوله بعض شيوخنا، إلا إذا كان مؤبدًا، فلذلك. كرهه لتكرره عليه في أوقات قد يثقل عليه فعله، وقد لزمه فيفعله بالرغم لا بالرضى، ويتكلفه غير طيب النفس ولا منشرح الصدر، ولا خالص النية فيكثر عناه ويقل أجره وثوابه، وهذا آخر محتملات قوله:« لا يأتي بخير»، أي أن اعتقاده قد لا يحمد والوفاء به قد لا يصح، وقد يكون معناه: لا يكون سببا لخير لم يقدر وكما جاء في الحديث.(6/238)
وقوله: كانت ثقيف حلفًا لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من بنى عقيل، وأصابوا معه العضباء، فأتى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الوثاق، فقال: يا محمد ! فأتاه فقال:« ما شأنك ؟» فقال: بم أخذتني ؟ وبم أخذت سابقة الحاج؟ فقال - إعظاما لذلك -:« أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف »، ثم انصرف عنه، فناداه فقال: يا محمد ! يا محمد ! وكان - صلى الله عليه وسلم - رحيمًا رقيقًا. فرجع إليه فقال:« ما شأنك ؟» فقال: إنى مسلم. قال:« لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح »، ثم انصرف، فناداه: يا محمد ! يا محمد ! فأتاه فقال - صلى الله عليه وسلم -: " ما شانك ؟ " فقال: إنى جائع فأطعمني، وظمآن فأسقني. قال - صلى الله عليه وسلم -:« هذه حاجتك »، ففدي بالرجلين. قال: وأسرت امرأة من الأنصار وأصيبت العضباء: وفي هذا الحديث: " فانطلقت ونذروا بها، فطلبوها ولاذوا بها، فأعجزتهم، ونذرت إن نجاها عليها لتنحرنها "، وفيه: قال - صلى الله عليه وسلم -:« بئس ما جزيتها، لا وفاء بنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن ادم »، قال القاضي - رحمه الله -: ذكر في أول هذا الحديث أسر المسلمون هذا الرجل، وأصابوا معه العضباء، وقال في آخره: " وأسرت امرأة من الأنصار وأصيبت العضباء " العضباء غير القصواء على ما قاله ابن قتيبة وغير واحد، وقد تقدم قبل هذا، ما أشرنا إليه من أنه يحتمل أنها واحدة وأن العضبى والقصواء والجدع بمعنى من سمات الأذن وإن اختلفت صفاتها، وأنها اسم ناقته والقصوى والعضبى، فقد جاء في حديث الحج أنه خطب على ناقته الجدعاء، وفي رواية أخرى: القصواء، وفي أخرى: الخرمى، وفي أخرى: المخضرمة، وفي حديث مالك: كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة لا تسبق يقال لها: القصواء، وفي حديث غيره: يقال لها: العضباء، وأبو عبيد يقول: هو اسم لها، وهذه(6/239)
الأحاديث تدل على أنها صفة فرب صفة صارت اسمًا، لكن هذا الحديث والذي بعده في كتاب مسلم وغيره يدل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما اكتسبها في المدينة، وأنها كانت لبنى عقيل، وأن المشركين أغاروا عليها ثانية / فحملوها كما جاء في الحديث، وهو بين في غير مسلم، قال: فحبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العضباء لرحله، وأغار المشركون على سرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهبوا به وبالعضباء، وأسروا امرأة من المسلمين، وهي امرأة ابن أبي ذر. وذكر بقية خبر المرأة كما ذكر مسلم.
وقوله: إنى مسلم، فقال له - عليه السلام -:« لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت»، ثم ذكر الحديث:" فادى به "، قال الإمام - رحمه الله -: كيف قال له: إنى مسلم، ثم فادى به، ومن أظهر الإسلام قبل منه من غير بحث عن باطن، وقد وقع في أحاديث كثيرة الأخذ بالظواهر في هذا، أو التنبيه على أنه لم يؤمر أن يبحث على البواطن والقلوب. قيل: يمكن أن يكون هذا من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - مع هذا الرجل، فأوحي إليه فيه أنه غير مؤمن، وأنه مستباح، ألا ترى قوله - عليه السلام - بعد هذا لما سأله أن يطعمه ويسقيه:« هذه حاجتك ».(6/240)
قال القاضي - رحمه الله -: ليس في الحديث ما يدل أنه رده إلى دار الكفر، وإنما فيه أنه لم يطلق سراحه أولاً وأنه فادى به. فأما أنه لم يطلق سراحه فإنه إنما أسلم بعد الأسر وملك المسلمين له فبقى لهم، وأما المفاداة إذا لم يرد إلى دار الكفر فصواب لا اعتراض فيه ؛ لأنه أطلقه من أسر الرق ليطلق أولئك، ثم إن كل واحد منهم بعد الإطلاق موكول إلى حاله من بقانه بالأرض التي أطلق من أسره فيها أو رجوعه إلى أرضه، فقد يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اطلع من صحة إيمانه ووفق بصدق يقينه من حيث فادى، وأطلقه من الرق بإطلاق الآخرين، وبقى هو حر مع المسلمين لم يرجع إلى دار الكفر، فيكون معنى قوله:« لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح »، أي: نجوت في الدنيا من الرق وفي الآخرة من النار، لكنك قلتها وقد ملكت، أفلحت بالنجاة من النار، ولم يتم فلاحك بالحرية.
وأما قوله:« هذه حاجتك »، التي احتج بها قائل ما تقدم فما فيه عندي ظهور، لما تأوله من أنه اتهمه في إيمانه، ولو اتهمه في إيمانه لم يقل له:« لو قلتها وأنت تملك أمرك »، بل كان يقول: لو قلتها من قلبك وصدق نيتك، وإنما معنى « هذه حاجتك »: حاضرة مقضية غير متعذرة.
قال الإمام - رحمه الله -: وأما قوله:« لا وفاء بنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد »، ولم يذكر في ذلك كفارة، خلافًا لمن نذر، زعم أن النذر في المعصية يكفر، تعلقًا بما ذكره الترمذي وأبو داود:« لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين ». والجريرة: الجناية والذنب. وقد احتج بقوله - عليه السلام - في ناقته:« لا وفاء بنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد » أصحاب الشافعي على أن مال المسلم باق على ملكه وإن غنمه الجيش من أرض الحرب وقسموه، وأن صاحبه يأخذه بعد القسمة. ولعلنا أن نتكلم عليه في كتاب الجهاد إن شاء الله. والعضباء اسم ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - - ?(6/241)
وقوله:« هي ناقة منوقة »، أي: مذللة، ومنه الحديث الذي فيه: وسار معه على جمل له قد توقد، أي بأرضه وذلَله . يقال: جمل منوق ومخيس ومعبد ومديث.
وقوله:" ونذروا بها "، أي: علموا بها، يقال: نذرت بالشىء، بكسر الذال نذارة، أي علمت به، ونذرت الشيء لله، بفتح الذال، أنذر نذرًا. قال ابن عرفة: النذر ما كان وعدًا /على شرط، فكل ناذر واعد وليس كل واعد ناذر، فلو قال قائل: على أن أتصدق بدينار لم يكن ناذرًا، ولو قال: إن شفى الله مريضي أو رد على غائبي فعلي صدقة دينار أو غيره، كان ناذرًا.
قال الإمام - رحمه الله -: هذا الذي ذكره ابن عرفة مال إليه بعض الفقهاء، ورأى أن النذر الغير المشروط لا يسمى نذرًا ؛ ولهذا استحب الوفاء به، ولا يجب كما يجب المشروط المسمى نذرًا، الداخل في عموم الظواهر الواردة بالأمر بالوفاء بالنذر. ومال غير هؤلاء من الفقهاء إلى أن الجميع يسمى نذرًا، وأنشد قول الشاعر:
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما والناذرين إذا لم ألقهما دمي
وقول جميل:
فليت رجال فيك قد نذروا دمي وهموا بقتلي يا بثين لقوني
والأظهر أن النذر المذكور في البيتين غير معلق بشرط.
وقوله: " مجرسة ": أي مذللة. يقال: جرسته الأمور، أي راضته وذللته.
قال القاضي - رحمه الله -: قوله:" مدربة " بدال مهملة معنى مذللة، ومعنى منوقة ومجرسة، كله بمعنى واحد. وفي هذا الحديث جواز سفر المرأة مع غير ذى رحم عند الضرورة، وإنما ذلك مع الاختيار. وقال بعضهم: إن هذا النهي إنما هو في الأسفار المباحة، وأما الواجبة في الدين فلا نهي فيها. وهذا لا يصح إلا عند الضرورات، كضرورة هذه من الهروب من دار الكفر والخروج من الأسر، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في كتاب الحج.
وقوله:« لا نذر فيما لا يملك ابن آدم »، هذا إذا أطلق النذر بالصدقة أو العتق فيها مطلقًا، فإن قيده بملكه متى ملكه لزم في العتق عندنا على مشهور مذهبنا ولم يلزم على غيره وهذا الحديث لهذا المذهب حجة.(6/242)
وقوله:« لا نذر في معصية الله »، نفى النذر عنها، إذ النذر المقصد فيه التبرك والتقرب، والمعصية تنافيه، فلا نذر يصح فيها ولا يلزم، بل نهى عنه وعن الوفاء به. ولم يذكر في الحديث كفارة، وهذا قول مالك وكافة العلماء أنه لا كفارة في نذر المعصية، وقال الكوفيون: لا يلزم وفيه كفارة يمين، واحتجوا بما ورد في حديث عائشة - رضى الله عنها -:" لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين ". وهو حديث مقلوب معتل عند أهل الحديث، مع أنه محتمل تأويل رجوع الكفارة إلى النذر الجائز كما جاء في الحديث مبينًا.
وقوله: أنه رأى شيخا يهادى بين ابنيه. فقال:« ما بال هذا ؟» قالوا: نذر أن يمشي. قال:« إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني »، وأمره أن يركب، وفي الرواية الأخرى:« اركب، إن الله غني عن نذرك ». قال الإمام - رحمه الله -: يحمل هذا على أنه عجز عن المشي، وكذلك مجمل الحديث الذي بعده عن عقبة: أنه قال: إن أختي نذرت أن نمشي إلى بيت الله حافية، فأمرتني أن أستفتي لها النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيته. فقال:« لتمش ولتركب »، محمله - أيضًا - عندنا على أنها عجزت. وقد ذكر أبو داود في هذا الحديث أنها نذرت أن تحج ماشية وأنها لا تطيق ذلك، فقال - عليه السلام -:« إن الله لغني عن مشي أختك، فلتركب ولتهد بدنة »، فقد / نبه هاهنا - عليه السلام - على أنها غير مستطيعة وهكذا مذهب فالك - رحمه الله - أن الناذر إذا عجز عن المشي مشى ما قدر عليه، ثم ركب وأهدى.
قال القاضي - رحمه الله -: اختلف العلماء بحسب اختلاف هذه الاثار والروايات، واتفقوا على ناذر الحج والعمرة أن يلزمه فعل ذلك والسير إليه.(6/243)
واختلفوا إذا نذر مشيًا أو سيرًا ولم يذكر حجًّا ولا عمرة، فذهب مالك إلى ما تقدم من أن من نذر المشي سمي حجًّا أو عمرة أو لم يسم لزمه المشي ولم يركب، وإن عجز في بعض الطريق أو مشى رجع من قابل فمشى ما ركب، وجعل ذلك في حج أو عمرة، وأهدى لتفريق المشي إلا أن يأيس القدرة على المشي جملة، فليركب ويهدي. روى مثله عن علي وابن عباس رضى الله عنهما. وقال الحسن البصري: إن نذر حجًّا أو عمرة فلا مشي عليه ويركب، وعليه دم. وقاله أبو حنيفة، وحكى عنه أنه متى لم يسم حجًّا ولا عمرة فلا يلزمه مشى ولا سير جملة في القياس، ولكن الاستحسان في قوله على المشي إلى بيت الله أو الكعبة أو مكة دون سائر هذه الألفاظ، يسير ولا يلزمه مشى. وقال الشافعي: يلزمه المشي إن قدر عليه سش حجًّا أو لا، كقول مالك، إلا أنه إن عجز ركب ويهدى احتياطًا، ولم يلزمه رجوع لشىء ما عجز عنه، وهو مذهب أهل الكوفة. وقد روى مثله عن ابن عمر، ومذهب السلف وأهل المدينة، وهي إحدى الروايتين عن ابن عمر، ومذهب ابن الزبير أن يرجع فيمشي ما ركب ولم يجعل عليه دمًا. وروي عن علي - رضي الله عنه - قول آخر: أنه مخير إن شاء مشى، وإن شاء ركب وأهدى. وأحاديث مسلم يحتج بها الشافعي في إسقاط وجوب الرجوع والدم وإنما جعله احتياطًا. ومالك ومن يوجب عليه الرجوع والدم يحتجون بزيادة من روى في حديث أخت عقبة:" ولتهد ". ذكره أبو داود وغيره، وزاد في بعض الروايات: "ولتهد بدنة "، ذكره ابن المنذر. وهذه حجة لمالك في إيجابه البدنة لمن وجدها في هذه المسألة. وتأولوا الأحاديث في ترك الرجوع لمن لم يقدر جملة وقد روى في حديث أخت عقبة، فعجزت عنه، فأما من نذر فعليه الوفاء بنذره.(6/244)
وفي قوله في حديث أخت عقبة:« فلتمش ولتركب »، حجة على أبي حنيفة في إسقاط المشي جملة. قوله في هذا الحديث: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله وإلى مكة والمسجد الحرام، وإن لم يذكر حجًّا ولا عمرة، وكذلك متى ذكر جزءًا من الكعبة أو البيت فله حكمه. وهذا قول مالك وأصحابه.
?? واختلف أصحابه إذا قال: إلى الحرم، أو مكان منه، أو مكان من مدينة مكة، أو المسجد، هل له حكم ذكر البيت أم لا ؟ وقال الشافعي: متى قال: على المشي إلى شيء بما يشتمل عليه الحرم لزمه، وإن ذكر ما خرج عنه لم يلزمه، وهو قول أبي يوسف ومحمد والحسن وابن حبيب من أصحابنا زاد: إلا إذا ذكر عرفة فيلزمه وإن لم يكن من الحرم. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه في هذا مشي ولا سير في القياس، لكن الاستحسان في قوله: إلى بيت الله، أو الكعبة، أو مكة فقط / أن يسير ولا يلزمه ركوب على لم أصله.(6/245)
وقوله في الحديث:" حافية "، فقال:« لتمش ولتركب »، ظاهر مع ما جاء في الحديث الآخر:« إن الله عن عن تعذيب هذا نفسه »، وأمره أن يركب: أنه لا يلزم ما فيه تعذيب للنفس، لكن كل ما ذهب فيه المشقة على نفسه فلم يلزمه، إذ ليس فيه قربة، يستحب له فيه الدم، ولا يلزمه مثل المشي حافيا، أو حمل شيء على عنقه. فالدم هاهنا استحباب بخلاف مجرد المشي لمن عجز عنه ؛ لأن المشي مقدور عليه وطاعة، والخطا فيه مكتوبة، وقد قال الله تعالى:{ يأتوك رجالاً }، فليدم الإنسان ما نذر من ذلك، فإذا عجز عنه وجب عليه الدم عندنا، وسقط عند غيرنا، واستحبه آخرون على ما تقدم. وكذلك عندنا وعند أبي حنيفة: إذا حلف بالمشى إلى مكة لزمه اليمين إذا حنث، وكلاهما على مذهبه المتقدم في لزوم المشي أو سقوطه. وقال الشافعي وفقهاء أصحاب الحديث كلهم: لا يلزم في اليمين بخلاف النذر، وعليه فيهما كفارة يمين. وحكى مثله عن ابن القاسم من أصحابنا. قال المروزى: وهو قول أصحابنا كلهم في الأيمان سوى الطلاق والعتق، وروي هذا عن جماعة من السلف. وقال داود: كل يمين كمشى أو صدقة فلا تلزم ولا كفارة فيها، قال: ولا كفارة إلآ في اليمين بالله، وهو قول ابن أبي ليلى والشعبي والحسن ومحمد بن الحسن كيفما حلف.
وقوله - عليه السلام -:« كفارة النذر كفارة اليمين »، قال الإمام - رحمه الله -: النذر المبهم عندنا كفارته كفارة يمين خلافًا للشافعى وهذا الحديث حجة عليه.
قال القاضي - رحمه الله -: وقد قدمنا أول الكتاب اختلاف قول الشافعي فيه. وبهذا الحديث احتج فقهاء أصحاب الحديث أن كفارة اليمين تجري في جميع أبواب النذر، وأبو ثور معهم وزاد العتق. وحجتنا عليهم: أن ظاهره النذر المبهم المطلق. وأما المقيد بطاعة فالمخرج منه بفعلها، ولا يحتاج إلى كفارة.
- - - - - - - - - - - - - -
كتاب الأيمان(6/246)
وقوله:« إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت »، قال الإمام - رحمه الله -: هذا لئلا يترك بالتعظيم غير الله - سبحانه. وقد قال ابن عباس: لأن أحلف بالله فآثم، أحب إلى من أن أضاهى: فقيل معناه: الحلف بغير الله، وقيل: معناه: الخديعة، يرى أنه حلف وما حلف، وقد قال ابن عباس - أيضًا -: لئن أحلف بالله مائة مرة فآثم، خير من أن أحلف بغيره فابر، فلهذا ينهى عن اليمين بسائر المخلوقات.
ولا يعترض على هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم -:« أفلح وأبيه إن صدق »؛ لأنه لا يراد بهذا القسم، وإنما هذا قول جار على ألسنتهم، فقد قال تعالى:{ والتين والزيتون }، قيل: معناه: ورب التين والزيتون، أو يكون المراد به التنبيه على ما فيهما من العجائب والمن بهما عليهم، ولا يراد بهما القسم. ولو سلمنا أن المراد بها القسم من غير حذف وإضمار لم يبعد أن يكون الباري - سبحانه - يقسم بهما ويمنعنا من القسم بهما، وتعظيم الباري جلت قدرته للأشياء بخلاف تعظيمنا لها ؛ لأن كل حق بالإضافة إلى حقه - سبحانه - حقير. وكل عظيم عند الإضافة إليه تعالى هين ؛ إذ لاحق لأحد عليه، وله الحق على كل أحد، وإنما تعظيمه لبعض / الأمور تنبيه إلينا على قدرها عنده أو تعبد لنا بأن نعظمها، فلا يقاس هذا على هذا.
وقول عمر - رضي الله عنه -:" ولا آثرًا "، يعني: ولا حاكيًا إياه على أحدٍ، من قولهم: أثر الحديث يأثره: حدث به.
قال القاضي - رحمه الله -: يعني ومعنى قوله: " ولا ذاكرًا ": أي ولا قائلاً لها من قبل نفسي.(6/247)
وفي قوله:« فليحلف بالله » تنبيه على أن الحلف بأسمائه وصفاته تعالى لازم جائز ؛ لأنه حلف به تعالى، ولا خلاف في ذلك بين علماء الأمصار مع الآثار في ذلك، إلا ما ذكر عن الشافعي على أصله على من اشترط نية اليمين في الحالف بالصفات، وإلا لم يكن عليه كفارة. وأنكر بعض المتأخرين الخلاف في لزوم الحلف بالصفات. وفي الباب: وحدثني بشر بن هلال قال: نا عبد الوارث. وأرى الصواب الأول، وفيه: نا يحيى بن يحيى، ويحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر - قال يحيى بن يحيى: أنا، وقال آخرون: نا إسماعيل. كذا عند شيوخنا. وفي بعض الروايات: قال يحيى بن يحيى: أنا. وقال آخرون: حدثنا.
وقوله:« من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعالى أقامرك، فليتصدق »، قال الإمام- رحمه الله-: الحلف بما لا يجوز من هذا النوع لا كفارة مقدرة فيه عندنا، خلافًا لأبي حنيفة في إثبات الكفارة في ذلك، إلا في قوله: أنا مبتدع وأنا بريء من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الحديث حجة عليه ؛ لأنه لم يذكر فيه الكفارة. وأبو حنيفة تعلق بأن الله - سبحانه - أوجب على المظاهر الكفارة، وعلل بانه منكر من القول وزور، والحلف بهذا منكر من القول وزور. وهذا ينتقض عليه بما استثناه من قوله: أنا برىء من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم لا كفارة فيه عنده. ولو قال: واليهودية، لم تلزمه الكفارة باتفاق، فكذلك إذا قال: أنا يهودي إن فعلت، فلا معنى لتفريقهم بين اللفظين. فإنه إذا قال: واليهودية، فقد عظم ما لا حرمة له، وإذا قال: إن فعلت فأنا يهودي، فكأنه عظم الإسلام واحترم ما له حرمه ؛ لأن الجميع لا يحسن القسم بهما.(6/248)
قال القاضي - رحمه الله تعالى -: وقوله:« فليتصدق »، ولا حجة فيه للمخالف في أنه أراد الكفارة ؛ لأنه إنما جاء به بعد ذكر المقامرة على خصوص التكفير لها لا لغيرها، كما خص الحلف باللات والعزى بكفارة قوله لا إله إلا الله. ولو كان المراد بالصدقة كفارة اليمين لجاءت عنهما جميعًا ولم يختص بالمقامرة. قال الخطابي: معنا، فليتصدق بمقدار ما أراد أن يقامر به. وعندى أنه لا يختص بهذا، بل لما نوى بذل مال في غير طريق جائز لي إخراجه من يده واعتقد ذلك، كان كفارة اعتقاده ونيته أن يتصدق بمال يخرجه عن يده في طريق البر ومسالك الشرير، كما أمره أن يقول: لا إله إلا الله تكفيرًا ؛ لتعظيمه غيره ومضاهاته به كفرًا لقوله بالقول والفصل بالفعل. وفي هذا حجة لما عليه الجمهور من أن العزم ينشأ على المعصية سنة يؤاخذ بها، بخلاف الخواطر، وقد تقدم الكلام عليها أول ا لكتاب.
وقوله في الحديث الآخر:« لا تحلفوا بالطَّواغي »، مثل نهيه عن الحلف باللات والعزط. والطواغى: الأصنام. أحدها طاغية، سمى باسم المصدر لطغيان العباد له، وأنه أصل طاغيتهم وكفرهم، وكل ما عظم / وجاوز العقيدة فقد طغى، ومنه:{ إنا لما طغا الماء }، أي: كثر وجاوز القدر. والطاغوت - أيضًا - الصنم، وجمعه طواغيت. وقد يكون الطاغوت جمعًا وواحدا ومؤنثًا ومذكرًا، قال الله تعالى:{ واجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها }، وقد قال تعالى:{ يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به }.
وقوله في حديث الأشعريين:« ما أنا حملتكم بل الله حملكم، وإني والله - إن شاء الله - لا أحلف على يمين، ثم أرى خيرًا منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير »، قال الإمام - رحمه الله -: المراد بهذا أن الله - تعالى - أتى بما حملتكم عليه، ولو ما ساقه الباري - تعالى - إليه لم يكن عنده ما يحملكم عليه، ولم يرد بهذا نفى إضافة الفعل إليه.(6/249)
قال القاضي - رحمه الله -: ترجم البخاري عليه:{ والله خلقكم وما تغملون }، واحتج بالحديث على. ذلك. وقيل: يحتمل أن يكون أوحى إليه بحملهم، أو يكون مراده دخولهم في عموم من أمره الله بالقسم فيهم. وفي الحديث حجة على لزوم يمين المغضب لقوله: " وهو غضبان "، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في القصة:« إلا كفرت عن يميني »، خلافًا للشافعي ومسروق في أنه لا يلزم الفصل.
وقوله: " فأمر لنا بثلاث ذود غُرّ الذرى "، وفي رواية:" خمس زود "، قال الإمام - رحمه الله -: فمعناه: بيض الأسمر. وذروة البعير: سنامه، وذروة كل شيء أعلاه.
قال القاضي: - رحمه الله -: جاء في الرواية الأخرى:" بقع الذرى ". كذا عندنا، وفي بعض النسخ:" بقع غُرّ الذرى "، والبقع هنا بمعنى: البيض، وأصله ما فيه بياض وسواد، ومنه: كلب أبقع، وغراب أبقع. وخص الذي هنا وهي أعالى الإبل ؛ لأن أسافلها يتغير بياضها من المعاطن وعبس أبوالها وأبعارها. ومعنى: نستحمله، أي: نطلب منه، وليحملنا في الإبل ويحمل أثقالنا.
وقوله: " بخمس ذود "، من إضافة الشيء إلى نفسه، وقد يحتج به من يطلق الذود على الواحد. وقد تقدم البيان عنه في الزكاة. وقوله في الحديث الآخر: " هذين القرينين، وهذين القرينين، وهذين القرينين لستة أبعرة "، القرينتان: البعيران يقرن أحدهما لصاحبه بالربط بحبل لئلا يذهبا، ويمسك كل واحد صاحبه. ولعل رواية من روى:" ثلاث ذود " مطابق لهذا إذا قلنا: إن الاثنين ينطلق عليهما اسم ذود. وأما تانيث القرينتين فعلى أنهما راحلتان أو ناقتان، ولقوله في الرواية الأخرى:" وأتى بنهب إبل ".
قال الإمام - رحمه الله -: النهب: الغنيمة، وكان الصديق - رضي الله عنه - إذا أوتر قبل أن ينام قال: أحرزت نهبي، أي: غنيمتي.(6/250)
وقوله:« إنى والله - إن شاء الله - لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها »، وفي الرواية الأخرى:« إلا كفرت عن يمينى وأتيت الذي هو خير ». وفي الحديث الآخر:« من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير »، وفي الرواية الأخرى:« فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه »، قال القاضي - رحمه الله -: بحسب اختلاف ألفاظ هذه الرواية اختلف العلماء - رحمهم الله - في إجزاء الكفارة قبل الحنث، مع اتفاقهم أنها لا تجب إلا بعد الحنث، وأنه يجوز تأخيرها بعد الحنث، فجمهورهم على إجزائها قبل الحنث، لكن مالكًا والثوري والأوزاعي والشافعي منهم يستحبون كونها بعد الحنث ويوافقون على إجزائها / قبله، وروى هذا عن أربعة عثر من الصحابة وجماعة من التابعين - رضي الله عنهم - / وغيرهم. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنها لا تجزئ، وهي رواية أشهب عن مالك. وقال الشافعي: يجزئ فيه الكفارة بالطعام والكفارة بالكسوة والمشقة. قيل: لا يجزئ بالصوم إلا بعد الحنث. والخلاف في هذا مبني على: هل الكفارة لحل اليمين أو التكفير بإثمها بالحنث؟ فعند الجمهور أنها رخصة شرعها الله لحل ما عقد الحالف من يمينه فتجزئ قبل وبعد، وليس في الوجهين إثم، لا في الحلف ابتداء ولا في تحنيث الإنسان نفسه لإباحة الشرع له ذلك. ومعنى قوله:« فارى غيرها خيرا منها »، أي: ما حلف عليه من فعل أو ترك خير لدنياه أو لأخراه، أو أوفق لهواه وشهوته ما لم يكن إثمًا.
قال الإمام - رحمه الله -: للكفارة ثلاث حالات:
أحدها: أن يكفر قبل أن يحلف فهذا لا يجزئه.
الثانية: أن يكفر بعد أن يحلف ويحنث فهذا يجزيه.
الثالثة: أن يكفر بعد اليمين، وقبل الحنث فهل يجزئه أم لا ؟ فيه قولان، والمشهور الإجزاء.(6/251)
وقد اختلف لفظ الحديث، فقدم الكفارة مرة وأخرها أخرى، ولكن بحرف الواو، وهي لا توجب رتبة. ومن منع الإجزاء رأى أنها لم تجب قبل الحنث فصارت كالتطوع، والتطوع لا يجزئ عن الواجب.
قال القاضي - رحمه الله -: وقول أبي موسى في الحديث في الدجاج: " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل منه "، وقول الآخر:" فرأيته يأكل قذرًا "، فحلفت ألا آكل منه " الحديث. اختلف العلماء فيمن يأكل القذر والنجاسات من الحيوان، هل يؤكل ؟ فقال الطبري: كان عمر لا يأكل الدجاجة حتي يقصرها أياما لأنها تأكل العذرة.قال: وغيره كان يتأول من الجلالة التي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكلها. وكره الكوفيون أكل لحوم الإبل الجلالة حتى تحبس أيامًا. وقال الشافعي: أكره أكلها إذا لم تكن تأكل العذرة أو كانت أكثر أكلها، وإن كان أكثر أكلها غيره لم أكرهه. وأجاز أكل لحوم الجلالة وما ياكل الجيف من الطير وغيره مالك والليث. وكره ابن حبيب من أصحابنا اكله.
وقوله:" أغفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمينه " بسكون اللام، أي: صيرناه غافلا عنها، وكنا سبب ذلك إذ لم نذكره بها، إذ حبوا أنه نسى يمينه، أي أخذنا منه ما أخذنا وهو غافل، فكنا سبب غفلته. يقال: أغفلت الرجل: إذا جعلته غافلا أو سميته غافلاً، قال الله تعالى:{ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا }.
وذكر مسلم في الباب حديث الصعق بن حزن، وهو بكسر العين، عن مطر الوراق، عن زهدم. قال الدارقطني: الصعق ومطر ليسا بالقويين، ولم يسمعه مطر من زهدم، وإنما رواه عن القاسم عنه، وهذا مما استدركه الدارقطني على مسلم. ومسلم إنما أدخل حدينه لزيادته.
وقوله فيه:« إنى والله ما نسيتها »، يعني اليمين. وأتى به متبعًا بعض الطرق الصحيحة الكثيرة في الحديث على ما شرطه، والكتاب على ما بيناه فلا نعقب عليه.(6/252)
وقوله:" عن ضريب بن نقير "، مصغرين. ونقير هذا بالقاف أشهر، وهي رواية الصدفي والأسدي والتميمي من أشياخنا، وكذا قيدناه عنهم، وكان عند الخشني بالفاء. وقال لنا الحافظ أبو علي: يقال بهما والقاف أشهر، وبالقاف ذكره أئمة المحدثين وأهل المؤتلفين بغير خلاف. وأما جبير بن نفير فلم يختلف أنه بالفاء.
وضريب بن نقير هذا هو أبو السليل المذكور في السند الآخر، وهو بفتح السين وكسر اللام.
وقوله في حديث / عدي بن حاتم:" أن رجلاً سأله مائة درهم، فقال: تسألني مائة درهم وأنا ابن حاتم ؟ والله لا أعطيك "، الحديث. معنى قوله عندي:" وأنا ابن حاتم "، أي: عرفت بالجود وورثته، ولا يمكنني رد سائل إلا لعذر. وقد سأله ويعلم أنه ليس عنده ما يعطيه حينئذ، فكأنه أراد أن يبخله ؛ فلهذا قال له:" والله لا أعطيك "، إذا لم يعذره إذ أعلمه أنه ليس عنده شيء. وهذا الذي تأولناه يشهد له الحديث الآخر: أنه سأله عن نفقة وثمن خادم، فقال له:" ليس عندي ما أعطيك إلا درعي ومغفري فاكتب إلى أهلي أن يعطوكها ".
وقوله في الحديث الآخر: " لك أربعمائة في عطائي " إذ لم يكن عنده ما يعطيه فلم يرضى، فغضب عدي وقال:" والله لا أعطيك " الحديث. فهذا يدل أن قوله:" وأنا ابن حاتم " أي لا أمنع ذلك من بخل لما عرفت به من الجود، والله أعلم.
وقوله هاهنا:" فرأى ماهو أتقى منها فليأت التقوى "، وقوله:" فرأى خيرًا منها فليأت الذي هو خير "، وقد تقدم الكلام عليه.(6/253)
وقوله:« يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك »، وفي الحديث الآخر: « اليمين على نية المستحلف »، قال الإمام - رحمه الله -: المتبرع باليمين الذي لم يرفع به عن نفسه حقًّا، يمينه على نيته وإن استحلفه الطالب في حق عليه، فاختلف فيه، هل يكون اليمين على نيته أو على نية المستحلف ؛ إلا أن يكون عليه بينة فيما يقضى عليه به السلطان فلا يصدق لأجل شهادة البينة، ولا يرجع الحاكم عن القضاء بموجب قولهما إلى القضاء بموجب قوله بمجرد دعواه. فمن رد الأمر لنية المستحلف تعلق بظاهر هذا الحديث. ومن رده إلى نية الحالف حمله على استحلافه في حق له عليه مما يقضى عليه به، وليس هناك بينة عليه يتعلق بقوله:« وإنما لامرئ ما نوى ».
قال القاضي - رحمه الله -: لا خلاف نعلمه بين العلماء في الحالف غير مستحلف فيما بين العبد وربه، مما لم يتعلق به حق لادمى، ولا ما فيه حق لغيره إذا جاء مستغيثًا، ولم تقم عليه بينة إن لم ينته ويقبل قوله. وأما إن حلف لغيره في حق أو وثيقة متبرعًا أو مقضى عليه، فلا خلاف أنه يحكم عليه بظاهر يمينه إذا قامت عليه بينة، حلف متبرعًا أو مستحلفًا.
وأما فيما بينه وبين الله فاختلف هنا اختلافًا كثيرًا. فقيل: على نية المحلوف له وللمتطوع نيته، وهو قول سحنون وعبد الملك، وظاهر قول مالك وابن القاسم. وقيل عكسه، للمستحلف نيته، والمتطوع على نية المحلوف له، وهي رواية يحيى عن ابن القاسم. وقيل: ينفقه فيما لا يقضى به عليه ويفترق المتطوع وغيره فيما يقض به عليه، وروى عن ابن القاسم أيفعا. وروى عن مالك أن ما كان من ذلك على وجه المكر والخديعة فهو فيه حانث آثم، وما كان على وجه العذر فلا باس به. وقال ابن حبيب عن مالك: ما كان في المكر والخديعة فله نيته، وما كان في حق فنية المحلوف له. ولا خلاف في إثم الحالف بما يقتطع به حق غيره وإن ورى، قالوا: وهو آثم حانث في يمينه.(6/254)
وفي الباب: نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا يزيد بن هارون، قال: نا هشيم، عن عباد بن أبي صالح، عن أبيه. وفي الحديث قبله: نا هاشم، عن عبد الله، عن عبد الله بن أبي صالح. وعباد بن أبي صالح هذا هر عبد الله بن أبي صالح، وهو أخو سهيل بن أبي صالح وصالح بن أبي صالح. قال يحيى بن معين كلهم ثقات. وزاد البخاري فيهم: محمد بن أبي صالح ذكوان، قال البخاري: وقال علي: عباد بن أبي صالح بن أمين. قال بعضهم: وهذا الحديث مما ضعف على /مسملم وحديث " عشر من الفطرة".
وقوله:" لأطوفن الليلة على سبعين امرأة "، وقوله - عليه السلام -:« ولو استثنى لولدت كل واحدة غلامًا فارسًا يقاتل في سبيل الله تعالى »، وفي الرواية الأخرى:« لم يحنث، وكان دركًا لحاجته »، فيه ما يستحب من قول الرجل: إن شاء الله في يمينه وفيما يريد فعله، كما قال تعالى:{ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا ( إلا أن يشاء الله }. وفيه أن الاستثناء يحل اليمين ويرفع الحنث لقوله: " لم يحنث "، وقد جاء في ذلك أحاديث مرفوعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأجمع المسلمون على ذلك في اليمين بالله وأسمائه وصفاته، وفيه أن الاستثناء لا يكون إلا متصلاً ؛ إذ لو جاز منفصلاً على ما روى عن بعض السلف بحنث أحد في اليمين، ولا احتاج إلى كفارة.(6/255)
واختلف في الاتصال ما هو ؟ فعندنا أنه لا يكون بين الاستثناء واليمين مما ينوي الاستشاء من قبل أو لم ينوه إلآ عند تمام نطقه باليمين، هذا قول مالك والشافعي والأوزاعي وجمهور العلماء. وشرط بعض أصحابنا أنه لا ينفعه إلا أن ينويه قبل تمام نطقه بجميع حروف اليمين، وجعل الشافعي السكتة للتنفس أو انقطاع الصوت أو التذكر لا يضر وهو كالوصل. والقطع: السكوت الذي يقطع به كلامه، أو يأخذ في غير يمينه. وتأول بعضهم أن مالكًا لا يخالف هذا، والذي يمكن أن يوافق مالك من هذا أن مثل هذا لا يقطع كلامه؛ إذا كان عازما على الاستثناء ناويا له، والى هذا أشار ابن القصار في تأويل ما روى من ذلك في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - - ?
وأما إذا نواه بعد تمامه وقطعه فلا ينفعه على أصل مذهبه، وكان الحسن وطاوس وجماعة من التابعين يرون للحالف الاستثناء ما لم يقم من مجلسه. وقال قتادة: ما لم يقم أو يتكلم، وعن عطاء: قدر حلب ناقة، وعن سعيد بن جبير: بعد أربعة أشهر. وروى عن ابن عباس: أن له الاستثناء أبدًا متى يذكره. وقد تأول بعضهم أن معنى قولهم هذا: أنه يحتمل أن له الاستثناء لالتزام أمر الله وأدبه لقوله تعالى:{ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا ( إلا أن يشاء الله }، لا لحل اليمين. ويدل عليه قولهم: فقد استثنى واحتجاجه بقوله:{ واذكر ربك إذا نسيت }، ولم يقولوا: فقد سقطت يمينه.(6/256)
واختلف العلماء في الاسثشاء في غير اليمين بالله، فلم يرها مالك والأوزاعي في غير اليمين بالله وصفاته وأسمائه، وذهب الكوفيون والشافعي وأبو ثور وبعض السلف إلى جواز ذلك في الطلاق والعتق وكل شيء، ومنعه الحسن في الطلاق والعتق خاصة. واختلف المذهب إذا علق الاستثناء في اليمين بغير الله شرط فعل، هل ينفع ذلك أم لا ينفع ؟ وفي قوله:« لو قال: إن شاء الله » حجة في أن الاستئناء لا يكون إلا بالقول لا بالنية، وهو قول كافة العلماء وأئمة أهل الفتوى. وقال بعض من حدث شيوخنا: إنه يجزئ بالنية على قول مالك الآخر: أن اليمين ينعقد بالنية. وقد احتج بعضهم بهذا الحديث على جواز الاستثناء بعد مهلة لقوله: " فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله. ولا حجة لهم فيه لوجوه، منها: أنه يحتمل أن يذكره صاحبه بذلك وهو بعد في يمينه، وأيضًا فإن القسم إنما كان على ما قدر فعله من طوافه عليهن وما في قدرته، لا على ما ليس في قدرته مما عناه من مجيء كل واحدة منهن بولد يقاتل في سبيل الله. والاستثناء في هذا من الأدب المرغب فيه، والتفويض إلى الله الواجب اعتقاده، وهو الذي قال فيه - عليه السلام -:« لكان دركًا لحاجته »/، ويكون قوله - عليه السلام - في الرواية الأخرى:" لم يحنث " أي لم يخطأ ويأثم في قوله وتمنيه وأتمنى دون تفويض ذلك إلى مشيئة ربه.
قوله: " لأطوفن "، وفي رواية غير العذري:" لأطيفن "، وهما صحيحان. طفت بالشىء وأطفت: إذا درت حوله وتكررت عليه، فأنا طائف ومطيف، وهو هنا كناية عن الجماع.(6/257)
وجاء في الحديث الأول:" ستين امرأة "، وفي الأخرى: " على سبعين "، وفي الثالث: "على تسعين "، وقد رويناه في غير كتاب مسلم:" على مائة امرأة أو تسع وتسعين "، فيه ما أوتى الأنبياء من القوة على هذا، وقد كان - عليه السلام - يدور على نسائه في ليلة، وهذا كله يدل أنها فضيلة في الرجال، ودليل على صحة الذكورية والإنسانية، ولا يعترض على هذا بقوله:{ حصورًا}، فقد قيل: حصورًا عن المعاصي ممسوكًا عنها.
وقوله:" تلد كل واحدة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله "، يدل أن نيته وقصده إنما كانتا لله - تعالى - لا لغرض دنيوي. قال بعض المتكلمين: نبه - عليه السلام - في هذا الحديث على افة التمنى وشؤم الاختيار والإعراض عن التسليم والتفويض وبين آفة التمني بسلبه الاستثناء واستثنائه إياه ؛ ليتم فيه قدره، ويمضي سابق حكمه، وإن ولد له شق إنسان. في الحديث: فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل. فسر في الحديث الآخر علة قوله ذلك بقوله: "فنسى ". وقيل: صرف عن الاستثناء ليتم حكمة ربك وسابق قدره في ألا يكون ما تمناه، وقيل: هر على التقديم والتأخير، لم يقل: إن شاء الله، فقال له صاحبه: قل: قيل: يريد بصاحبه الملك يريد قرينه، وقيل: خاطره، وقيل: هو على ظاهره.
وقوله:" إلا واحدة جاءت بشق غلام "، قيل: هو الجسد الذي ذكر الله - سبحانه - أنه ألقي على كرسيه على من قال: إنه ذلك من المفسرين. وقوله:« كان دركًا لحاجته »: بفتح الراء اسم من الإدراك، أي لما قالها قال الله تعالى:{ لا تخاف دركًا ولا تخشى }. وأما الدرك بمعنى المنزلة ففيه الوجهان، وقوى بهما في الدرك الأسفل. والدركات لأسفل، والدرجات إلى فوق.
وقوله:« وايم الذي نفس محمد بيده »، فيه جواز الخلف بمثل هذا. ولاخلاف في قوله:" والذي نفسى بيده " أنها يمين ؛ لأنه حلف بالله، وقد حلف بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير قصة.(6/258)
واختلف في:" ايم الله "، هل هي يمين أم لا ؟ حكى ابن خويزمنداد. والطحاوي عن مالك: أنها يمين، وقاله ابن حبيب وترجح فيها في كتاب محمد، وقال: أخشى أن يكون يمينًا. وقال أصحاب أبي حنيفة: هي يمين. وقال الشافعي وإسحاق: إن نوى بها اليمين فهي يمين، ومعناها عند بعض أهل اللغة من اليمين والبركة، وألفها عند سيبويه ألف وصل، وقيل: أيم، بقطع الألف وفتحها، و " إيم " بكسرها، وقيل: " أيمن الله " بالفتح وزيادة نون، و " إيمن الله " بالكسر، و " أيمن الله " بفتح الميم والهمزة،?و " ليمن الله " باللام، و " من الله " و " يم الله "، و " م الله ا، وم الله، وم الله أربعة عشر لغة كلها صحيحة.
وقيل: جمع يمين، وألفها ألف قطع، وهو مذهب الفراء وأبي عبيد. قال أبو عبيد: أيمن جمع يمين، حكى زهير: فيجمع أيمن منا ومنكم، وكثر في استعمالهم، فحذفوا النون فمال: أيم الله، كما حذفوا نون لم يكن، قال الأزهري: وضم آخره. وحكم القسم الخفض كما ضموا: لعمرك، كأنه أضمر يمينًا ثانيًا، وقال: وأيخك ولاءيخك عظيمة، وعمرك ولعمرك عظيم. وقد قيل: إن ليمن إنما معناه: لا ليمن، على من جعلها ألف وصل، أقسم على النفى ما ندري. وقال بعضهم: ومعنى ليمن الله: يمين. وبه فسر من قال هذا قوله: ليمن الله: وأقسم، أي يمين الحالف بالله /، أو أيمانه بالله، وقد يكون على هذا: أي يمين الله أو أيمانه التي يحلف بها على إضافة التعظيم والتشريف، كما قيل: ناقة الله، أو الاختصاص كما قيل: عباد الله، قال: وسمى اليمين يمينا باسم يمين ليدل أنهم كانوا يبسطون أيديهم إذا تحالفوا. وعن ابن عباس: أن يمين اسم من أسماء الله تعالى.(6/259)
وقوله:« لو قال: إن شاء الله لم يحنث، ولولدت كل واحدة غلاما »، يستدل به على جواز قول: لو، ولولا. وقد ترجم البخاري على هذا: باب ما يجوز من اللو، وأدخل فيه قول لوط:{ لو أن لي بكم قوة } الآية، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« لو كنت راجمًا بغير بينة لرجمت هذه »، و « لو مد بي الشهر لوصلت »، و « لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم »، و « لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار »، ومثل هذا.
فالذي ينفهم من ترجمة البخاري، وما أدخل من القرآن والآثار في الباب من لو ولولا أنه يجوز استعماله فيما يكون من الاستقبال وتحت قدرة الإنسان فما امتنع من فعله لامتناع غيره، وهو باب لو أو امتنع من فعله لوجود غيره وهو باب لولا ؛ لأنه لم يدخل في بابه سوى ما هو للاستقبال من الآى والآثار ما هو حق وصحيح متيقن، كقوله:« لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار »، دون ما هو في الماضي والمنقضي، أو ما يكون فيه التحرض على الغيب وعلم الله، والاعتراض على قدره السابق، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن مثل هذا في حديث من قوله:« وإذا أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل »، وقد قال بعض العلماء: معنى هذا إذا قاله على الحتم والقطع على الغيب أنه لو كان كذا لكان كذا، أو دون اشتراط مشيئة الله عز وجل والالتفات إلى سابق قدره ومغيب علمه، قال: وأما من قال ذلك على التسليم، ورد الأمر إلى القضاء والمشيئة فلا نهي فيه، ولا كراهة، وكأن بعضهم أشار إلى أن "لولا"، بخلاف "لو".(6/260)
قال القاضي - رحمه الله -: والذي عندي أنهما سواء إذا استعملتا فيما لم يحط به الإنسان علمًا، ولا هو مما تحت مقدور قائلها، مما هو تحرض على الغيب واعتراض على القدر، وكما نبه عليه فيه الحديث، ومثل قول المنافقين: { لو أطاعونا ما قتلوا }، { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا }، { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا }، فرد الله عليهم قولهم وأكذبهم في تحرضهم بقوله تعالى:{ قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين }، { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم }، وبقوله: فمثل هذا هو المنهي عنه لما ذكرنا.
والنبي - عليه السلام - في هذا الحديث أخبر عن يقين نفسه أن سليمان - عليه السلام - لو قال: إن شاء الله، لولدت كل امرأة غلامًا، إذ ليس هذا مما يدرك بالظن والاجتهاد، وإنما أخبر عن حقيقة ما أعلمه الله - تعالى - من غيبه، أو هو مثل قوله:« لولا بنو إسرائيل لم يختر اللحم، ولولا حواء لم تخن امرأة زوجها»، فلا تعارض بينه وبين الحديث الآخر.(6/261)
وهذا مثل ما أخبر الله تعالى من ذلك في كتابه مما هو حق، إذ هو عالم الغيب والشهادة بقوله:{ قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم }، { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه }، وكذا كما جاء من لولاه لقوله تعالى:{ لولا كتاب من الله سبق لمسكم }، الآيتان، {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر } الآية، { فلولا أنه كان من المسبحين } الآية ؛ لأن الله مخبر في ذلك كان عما مضى، وسيأتي عن علم صادق وخبر يقين، ولو جاء مثل هذا عن عباده لكان تحرضًا على غيب الله تعالى إلا فيما شهد لصحة العقل أو يعلمه الشرع ؛ لقوله تعالى: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا }، / { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها}، { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى }، { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض }، { ولولا فضل الله عليكم ورحمته }، وكذلك قوله - عليه السلام -: « ولولا الله ما اهتدينا ».(6/262)
وأما قول لوط - عليه السلام -:{ لو أن لي بكم قوّة }، فإنما أخبر عن نفسه بأمر ممكن داخل تحت قدرة البشر من دفعهم، بشرط لو كان معه قوة لدافع بها عن ضيفه من يريد ضررهم والمنكر فيهم، ومثل هذا لا اعتراض فيه على قدر ولا تحرض على علم غيب، وكذلك كل ما يكون من " لو" و "لولا" فيما يخبر به الإنسان من علة امتناعه من فعله مما فعله تجب مقدورة فلا كراهة فيه، للإخبار حقيقة عن شيء امتنع لما وجب بلولا، أو امتنع لما امتنع، أو امتنع لما وجب أو وجب لما امتنع " لو "، لهذه المعاني تأتي، و " لولا، غالبًا إذا كانت على بابها، وكان لها جواب، فإنها تأتي لبيان السبب الموجب أو النافي، لا كما عبر عنه أكثر النحاة من أنها تأتي لامتناع الشيء لوجود غيره، إذ هذا بعض معانيها لا جميعها، فتأمله. أو يخبر بـ " لو " عما امتنع مما لولا ذلك السبب المانع له لأمكنه فعله، ومن هذا جميع الأحاديث التي أدخل البخاري في الباب مع آية لوط كقوله:« لو كنت راجمًا بغير بينة لرجمت هذه»، « لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم »، « ولو مد في الشهر لوصلت »، « ولولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك »، «ولولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة »، « ولو سلك الأنصار واديًا أو شعبًا لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم »، فمثل هذا كله لا كراهة فيه، إلا أن يكون قائله لا يقصد في ذلك الصدق والوفاء كقول المنافقين:{ لو نعلم قتالاً لاتبعناكم }، وقول الكفار استخفافًا:{ لو شاء الرحمن ما عبدناهم }.
وقوله:« لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله، آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله عليه »، فيه أن الكفارة عن الحانث في اليمين فرض، كما قال تعالى:{ ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم }. ومعنى " يلج " من اللجاج، أي يقيم على ترك الكفارة.(6/263)
وقوله:« هو آثم له من أن يعطي كفارته »، قيل: معناه على ظاهره، وقيل: إذا رأى غيرها خيرًا منها فلم يكفر. والحديث - والله أعلم - على العموم مثل الحالف على قطع منفعة عن نفسه أو عن غيره، أو على ألا يفعل ما فعله خير من صلة رحم أو كلام صديق أو فعل معروف، كما فعل أبو بكر- رضي الله عنه - في حلفه في النفقة على مسطح، فأنزل الله تعالى:{ ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا } الآية، وكما قال - عليه السلام - في الحديث الآخر قال:« ألا يفعل خيرًا » فعلى هذا ومثله يحمل الحديث ؛ لأن مواصلته هذا لإقامته على يمينه إما أن يكون معصية أو مكروها له فكفارته خير، وجاء بلفظ:" آثم "، لمقابلة اللفظ ومجانسته لما كان في المقام على ذلك إثمًا، واعتقد الآخر أن في خقه إثما فاضل بين الإثمين، أو استعار لمخالفة كل حال اسم الإثم.
وقول عمر - رضي الله عنه -:" إنى نذرت أن أعتكف في الجاهلية ليلة "، وفي رواية: " يوما في المسجد الحرام "، قال:« فأوف بنذرك »، قال الإمام - رحمه الله-: يحمل هذا عندنا على أنه أراد في أيام الجاهلية ولم يرد وهو على دين الجاهلية ؛ لأن الكافر لا يلزمه عندنا نذر، وكذلك يحمل قوله: " أن أعتكف ليلة " على أنه يمكن ان يكون عبارة عن اليوم والليلة، والعرب تعبر بالليالي عن الأيام.(6/264)
قال القاضي - رحمه / الله -: اختلف العلماء - رضي الله عنهم - فيما نذره الكافر حال كفره مما يوجبه المسلمون ثم أسلم، فقال الشافعي وأبو ثور: واجب عليه الوفاء به، وهو قول الطبري والمغيرة المخزومي والبخاري، وحملوا قوله: «أوف بنذرك » على الوجوب، وقاسوا اليمين على النذر. فإن كان النذر واليمين مما لا ينبغى الوفاء به فعليه الكفارة فيه على أصلهم في نذر المعصية. وذهب مالك والكوفيون إلى أنه لا شيء عليه، إذ الأعمال بالنيات، ولا نية له حيننذ، ويحمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - له:« أوف بنذرك » على طريق الندب والاستحباب لا على طريق الوجوب.
وهذا الحديث يحتج به الشافعي ومن يجيز الاعتكاف بالليل وبغير صوم، ولكن ما ورد فيه من الرواية الأخرى:" يوما "، يرد حجته، ويرد كون هذا الاعتكاف الذي هو بمعنى الجوار، وهذا يكون بغير صوم، ويصح بالليل والنهار. وفيه جواز الاعتكاف يومًا لمن نذره، ولا خلاف في هذا، وإنما الخلاف فيمن نذر اعتكافًا مبهمًا، وقد مر هذا مبينًا في الاعتكاف.
- - - - - - - - - - - - - -
كتاب ملك اليمين
وقوله عن ابن عمر وقد أعتق مملوكًا فاخذ من الأرض عودًا أو شيئًا، فقال: ما فيه من الأجر ما يسوى هذا إلا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من لطم مملوكًا أو كذا ضربه فكفارته أن يعتقه »، وفي الرواية الأخرى: «أو ضربه حدًّا لم يأته أو لطمه»، وقوله:" إلا أنى سمعت "، قيل: هو من الاسثثناء المنقطع. وعندى أن معناه: ما أعتقته إلا من أجل أنى سمعت، فهو على بابه من الاستثناء الخاص من العام. وقال بعضهم: لعل معناه: ألا إني سمعت: بفتح الهمزة وتخفيف اللام على الاستفتاح للكلام، والحجة لقوله الأول. أو لأني بلام التعليل والحجة، وقد تصح عندي أن يكون تشابههما على وجهه، أي ما لي فيه من أجر إلا كفارته فإنها أجر، لكنها لما كانت كفارة ضربه له لم يحسب له عتقه أجرًا إذ خرجت كفافًا.(6/265)
في هذا الحديث: الرفق بالمماليك، وحسن صحبتهم، وكذلك في الأحاديث بعده.
وفي قوله:" حدًّا لم يأته "، دليل على أن هذا التشديد فيمن ضربهم لغير ذنب استحقوه، ولا على وجه التعليم والأدب. وعتقه هنا ليس على الوجوب عند أهل العلم، وإنما هو على الترغيب ورجاء كفارة ذنبه فيه وظلمه له، ويدل أنه ليس على الوجوب حديث ابن سويد بعده عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما لطم أحدهم خادمهم وأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعتقها، فقالوا: ليس لنا خادم غيرها، قال:« فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها ».
والعلماء كلهم - فيما علمت - لا يوجبون عتق العبد بشيء مما يفعله به
مولاه من مثل هذا، من الأمر الخفيف.
واختلفوا فيما كثر من ذلك وشنع من ضرب مبرح منهك لغير موجب لذلك، أو حرق بنار، أو قطع عضو، أو إفساده، أو فعل ما شانه به، فذهب مالك وأصحابه إلى عتق العبد على سيده بذلك. قال مالك: وولاؤه له، ويعاقبه السلطان على فعله. وذهب كافة العلماء إلى أنه لا يعتق عليه، وبالعتق بالمثلة كقول مالك. قال الليث بن سعد: واختلف أصحابنا في شين الولي في العبيد والا ما يحلق الرأس واللحية. والأصل في العتق بالمثلة حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في الذي جب عبده فاعتقه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله في حديث سويد: أن جارية له لطمها إنسان /، فقال له سويد: " أما علمت لم أن الصورة محرمة، إشارة إلى الحديث الآخر:" إذا ضرب أحدكم العبد فليجتنب الوجه إكرامًا له ؛ ولأن فيه محاسن الإنسان وأعضاءه الرئيسية ؛ ولأن التشويه والآثار به أقبح منها في غيره وأشنع، وقد علله في الحديث الآخر بأنها الصورة التي خلق الله - تعالى - آدم عليها وشرفه بها، واختارها لخليفته في الأرض، وسيأتي الكلام على حديث الصورة في موضعها إن شاء الله تعالى.
و" محرمة "، يحتمل تحريم ضربها، ويحتمل أنها ذات حرمة.(6/266)
وقوله: " امتثل "، يحتمل أن يكون معناه عاقب، وقد قيل في قوله تعالى: { وقد خلت من قبلهم المثلات }: أنها العقوبات، وقد يكون " امتثل"، أي: افتعل به مثل ما فعل بك. وقوله عجز عنها الآخر وجهها: أي عجزت ولم تجد أن تضرب إلا حر وجهها، وكان هذا من المقلوب، وحد الوجه صفحته وما رق من بشرته وحرارة الحسن أحسنه وما رق منه. وحد كل شيء أرفعه وأفضله، وقد يحتمل أن يكون عجز هنا بمعنى امتنع.
وقوله في حديث أبي مسعو وقد رآه يضرب غلامً له بسوط:« إن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام» حض على الرفق بالمماليك، ووعظ بليغ في الاقتداء بحلم الله عن عباده والتأب بآبه من كظم الغيظ والعفو الذي أمر به.
وقوله: هو حر لوجه الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:«" لو لم تفعل للفحتك النار»، ليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بعتقه، لكنه راى أنه قد زاد في قدر أدبه بما استوجب عقوبة الله، ألا تراه كيف كان العبد يستعيذ منه بالله وهو يضربه حتى استعاذ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلعله لم يسمع استعاذته الأولى لشدة غضبه، كما لم يسمع نداء النبي - صلى الله عليه وسلم - له كما جاء في الحديث، أو يكون لما استعاذ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنبه لمكانه.(6/267)
وقوله:« من قذف مملوكة بالزنا أقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال »، فيه دليل على أنه لا يحد من قذف عبدًا إذا لم يحكم عليه بذلك في الدنيا كما أخبر بحكمه في الآخرة، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء ؛ لمزية الحرية على العبودية في الدنيا، فإذا كان في الآخرة ارتفعت الأملاك كلها، وخلص الملك والملك لله الواحد القهار، استوت المقادير حينئذ فحد له، ولكن عند مالك أنه ينكل العبد إذا قذفه، وهو قول كافة العلماء، وذهب بعض العلماء إلى أن العبد إذا كان له قدر وهيبة عوقب قاذفه. وحكم كل من فيه شعبة رق غر جميعهم حكج العبد في سقوط الحد عن قاذفه من مدبر أو مكاتب أو أم ولد أو معتق بعضه أو إلى أجل.
واختلف في أم الولد بعد موت سيدها، فجمهورهم على أن قاذفها يحد، وهو قول مالك والشافعي، وقول كل من يقول: إنها لا تباع ؛ لأنها صارت حرة بموت سيدها، وروى عن الحسن أنه لا يحد، ولعل ذلك قبل موت سيدها.
واختلف المذهب عندنا، فقال مالك: يحد قاذفها، وقال محمد بن المواز: لا يحد حتى تضع ج لعل الحمل ينفش فلا تكون أم ولد. وقوله: " سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - نبي التوبة ": سمي بذلك - والله أعلم - لأنه بعث بقبول التوبة بالقول والاعتقاد. وكانت التوبة من قبل بقتل أنفسهم، ويحتمل أن يكون نبى التوبة إلى الإيمان والرجوع عن الكفر إلى الإيمان /. وأصل التوبة: الرجوع، كما قال في الحديث الآخر:« أنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر».(6/268)
وقوله في حديث آخر: وكان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له:« إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم »، الحديث: فيه النهي عن التعيير بنقص الآباء، كما نهى عن الفخر بذلك، وأن الكل من فعل الجاهلية، كما قال - عليه السلام -:« كلكم بنو آدم، وآدم من تراب ». وقد استدل بعضهم بأنه لا حد على من قذف عبدًا، وليس فيه دليل عليه ؛ إذ ليس فيه أن الرجل كان عبدًا، بل قوله:" رجل من إخواني ساببته "، وقوله:« من سب الرجال سبوا أباه وأمه »، والأظهر أنه كان عربيًّا ابن أمة، فعيره بها، ولو كان عبدًا أو مولى لغيره لسابه بأبيه ونفسه ولم يقتصر على أمه. وليس في تعييره ما يدل أنه كان قذفًا حتى يحتج به على ذلك، وإنما عيره بكون أمه، لكن قوله - عليه السلام -:« هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ما يأكل » الحديث، يشعر بأنه كان عبدًا، وأن أبا ذر سماه رجلاً من إخواني ؛ لقوله - عليه السلام - له:« هم إخوانكم فمن كان أخوه تحت يده ».
وقوله:« فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون »، حمله أبو ذر على ظاهره، فكان يلبس غلامه مثل لباسه، كما جاء في الحديث، وهذا على الاستحباب، قال بعضهم: وليس إطعامه من طعامه ولباسه من لباسه على الإيجاب عند أحد من أهل العلم، ولا أنه يلزمه أن يطعمه من كل ما يكل على العموم من الأدم وطيبات العيش، بل إن أطعمه من الخبز وما يقتاته كان قد أطعمه مما يكل ؛ لأن "من"، للتبعيض، وإن كان مستحبًا أن يستأثر على عياله بشيء دونهم، ويفضل نفسه في العيش عليهم.(6/269)
وقوله:« ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، فإن كلفتموهم فأعينوهم »، فيه الرفق بالمماليك، وألا يكلفوا ما يفدحهم، فإن كلفوه أعينوا فيه حتى لا يفدح، ورواية من روى: " فليبعه "، وَهْم، والصواب:" فليعنه"، كما قال الجمهور: " للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق "، هذا فرضه وحقه اللازم ؛ من طعام يكفيه، وكسوة تستره وتقيه الحر والبرد، ولا يكلف ما يفدحه ويعنته. قوله:« إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه ثم جاءه به، وقد ولى حره ودخانه، فليقعد معه فليكل، فإن كان الطعام مشفوها قليلاً فليضع منه في يده أكلة أو أكلتين »، يعني: لقمة أو لقمتين. الأكلة، بضم الهمزة، اللقمة، كما فسر في الحديث.
قال الإمام - رحمه الله -: المشفوه: القليل، وقال بعضهم: أخذ ذلك من كثرة الشفاه عليه.
قال القاضي - رحمه الله -: وقوله بعد ذلك: " قليلاً " أي قليلاً في حق من اجتمع عليه فيه ما ذكرناه من مكارم الأخلاق وترد الاستياء ولاسيما في الطعام، وهو تفسير للحديث المتقدم ؟ أن أكله مما يكل على الاستحباب والحض لا على الإيجاب، ولما في ذلك من تعلق قلب الخادم بما صنعه مولاه وشم ريحه، وشرهت له نفسه. وقيل: في إطعامه منه ومواكلته إياه ذهاب غائلة الاستئثار عليه بالطعام ؛ لئلا يكيده فيما يصنعه ولا يغشه ولا يخرنه فيه، إذا علم أنه يكل منه ويرد شهوته ببعضه.(6/270)
وقوله:« العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين »، وذلك أن جميع تصرف العبد غالبًا في امتثال الأوامر، إما لله وإما لمالكه، بخلاف الحر الذي يتصرف / باختياره، فالعبد طائع لمولاه بما ملكه الله من منافعه، وطاعته له طاعة لله، فأجره أبدًا متصل، فإما أن يكون التضعيف المراد به كثرة الأجور وزيادتها على أجر الحر، أو لكون على وجه التضعيف المعروف في أجر العمل الواحد من طاعة الله تعالى، بما امتحن به من الرق وربقة العبودية، تفضلاً من الله تعالى عليه، كما ضعف ذلك لأسباب أخر من المرض، والمقام بالمدينة وغير ذلك.
وقول أبي هريرة في هذا الحديث:" لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي، لأحببت أن أموت وأنا مملوك "، ودليل على أنه لا يلزم العبد جهاد ولا حج حال عبوديته ج لأنه غير مالك لنفسه، ولا له خروج عن مصالح سيده وهو غير مستطيع بالملك الذي لزمه ولا للجهاد، إلا أن ينزل العدو ببلد فيتعين الجهاد على كل من فيه بقدر طاقته من عبد وحر.
وقوله:" وبر أمي "، فيه حجة أنه لا يلزم العبد النفقة على والديه ولا شيء من مؤنتهما ؛ لاستحقاق سيده رقبته وماله، وأما ما يلزمه لها من البر بالقول والملاطفة وخفض الجناح فيستوى فيه الحر والعبد، فأبو هريرة - والله أعلم - أراد ما يلزمه من السعى عليها والإلطاف لها والإحسان الذي لا يتفق مع العبودية.(6/271)
وقد يكون مراد أبي هريرة بهدا كله تعظيم أجر الحج والجهاد وبر الوالدين وأن الأجر فيها ذلك أعظم من أجر العبودية، وأن بالعبودية لا يصل إلى شيء من ذلك ؛ لمنعه من الحج والجهاد،وتغريبه عن والدته، فلا يصل إلى شيء من برها، ألا تراه كيف قال في الحديث: " وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها "؛ لأن بر الأم، وصحبتها والقيام بها فرض متعين، وأبو هريرة قد كان قضى حجة، وحجه بعد ذلك إنما كان نافلة، فقدم الفرض من بر أمه على فضل الحج، وقد قال مالك: لا يحج أحد إلا بإذن أبويه إلا الفريضة فيخرج ويدعهما. وقال أيضًا: لا يعجل عليهما في غير الفريضة وليستاذنهما العام والعامين. وقول كعب في هذا الحديث: "ليس عليه حساب ولا على مؤمن مزهد "، قال الإمام - رحمه الله -: يعني بالمزهد: القليل المال، يقال: أزهد الرجل يزهد إزهادًا إذا قل ماله، قال الأعشى.
فلن يطلبوا سرها للغنى ولن يسلموها لإزهادها
فالإزهاد قلة المال. والسر في هذا البيت يعني به النكاح، والشيء الزهيد هو القليل.
قال القاضي - رحمه الله -: معنى قول كعب:" ليس عليه حساب "، أي: ليس على عبد أدى حق الله وحق سيده حساب ؛ لكثرة أجره، فإما أن يقولها كعب عن توقيف عنده، وأن هذا مما خص بذلك كما خص به السبعون ألفًا المذكورون في الحديث ومن خص بذلك من غيرهم، أو يكون اجتهادا منه لتخفيف حسابه، فكان كمن لم يحاسب لغلبة حسناته وكثرتها، كما قال تعالى:{ فأما من أوتي كابه بيمينه ( فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا( وينقلب إلى أهله مسرورا }.
وقوله:« نعمَّا للمملوك أن يتوفى يحسن عبادة الله وصحابة سيده ». أي نعم شيء هو،أي نعم ما هو، أدغمت إحدى الميمين في الأخرى لاجتماعهما، قال الله تعالى:{ إن تبدوا الصدقات فنعمَّا هي }. وروى العذري هذا الحرف " نعمًا " بضم النون منونًا، وله وجه، أي مسرة وقرة عين، يقال: نعما ونعمة له ونعمة له، أي مسرة.(6/272)
وحديث: " من أعتق شركًا له في مملوك، تقدم في كتاب العتق.
قال الإمام- رحمه الله -: وقوله:« قيمة عدل لا وكس / ولا شطط»، الوكس: الغش والبخس، والشطط: الجور، يقال: شط الرجل وأشط واشتط: إذا جار في السوم وأفرط، وجار في الحكم أيضًا، وشط الشيء وأشط: إذا بعد.
قال القاضي - رحمه الله -: الشطط: مجاوزة الحد، قال الله تعالى: {فاحكم بيننا بالحق ولاتشطط }، أي: لا تبعد عنه، من قولهم: شطت الدار: إذا بعدت.
وقوله:« من أعتق شقيصا له »، أي نصيبًا، كذا هنا للجماعة، وقد تقدم في كتاب العتق:" شقصا له "، وكذا هنا للهوزني. قال بعضهم: هو الصواب. وكلاهما صواب صحيح. شقص وشقيص مثل نصف ونصيف.(6/273)
وقوله: " أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته "، وفي بعض طرقه: أوصى عند موته فأعتق ستة مملوكين، قال الإمام - رحمه الله -: مذهبنا إثبات القرعة في ذلك، خلافًا لأبي حنيفة في مصيره إلى نفيها تعلقا بأنها خطر، والخطر لا يجوز في الشرع ؛ لأن هذا الحديث كالنص في معناه فلا يرد بالاستدلال بشواهد الأصول، وقد ثبت في أصول الشرع استعمال القرعة في القسمة للأموال بين الشركاء فلا ينكر استعمالها في مثل هذا ؛ لأن هاهنا حقان ؟ حقا للعبيد في أن يعتق منهم بالحصص ؛ لأنه ليس أحدهم أولى بذلك من الآخر، وحقا للورثة لأنهم كالشركاء مع الميت، فلهم تمييز حقوقهم واستبدادهم بملكها، فقدم هاهنا حق الورثة ؟لأنه بالمرض تعلق لهم حق الحجر عليه على الجملة، فإذا فعل فيما تعلق لهم به حق لم يرضوه تعلق لهم الرد وإثبات القرعة لحقهم في المقاسمة والمشهور عندنا: إثبات القرعة في العتق في المرض، بتلا كان أو وصية. وفي "الموازية" نفيها في عتق البتل وإثباتها في الوصية، ولعل حمل رواية من روى: " أعتق ستة مملركين " على أن المراد بها أوصى بعتقهم لتتفق الروايتان على أن في قوله:" أوصى عند موته " و " فاعتق ستة مملوكين "، قال الشافعي: احتمالاً أيضًا لأن يكون أراد أوصى بوصية ما، فذكر فيها عتق ستة مملوكين. قال الشافعي: في هذا الحديث دلالة على أن الوصية للأجانب تجوز. وهذا منه إشارة إلى أن قول الله تعالى:{ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين } منسوخ. وفيه أيضًا عندي إثبات الثلث والرد على من يقول: لا يبلغ بالوصية الثلث، وقد تقدم.
وقوله في الحديث: " وأرق أربعة " يرد على أبي حنيفة قوله: يعتق من كل واحد منهم ما ينوبه ويستسعى في بقيته.(6/274)
قال القاضي - رحمه الله - بإثبات القرعة في هذه المسألة كقول مالك، لمال الشافعي وأحمد وإسحاق وداود والطبري وحقيقة مذهب أبي حنيفة واصحابه: إنه يعتق من كل واحد ثلثه ويستسعى في الثلثين على أصله في عتق الشريك، وبهذا قال الشافعي والنخعي والحسن وقتادة وشريح، وذكر عن سعيد بن المسيب، إلا أن أبا حنيفة يقول: حكمه مدة الاستسعاء حكم المكاتب، وصاحباه يقولان: حكمه حكم الأحرار.
وقوله في الحديث: " وقال له قولاً شديدًا "، فسر هذا القول في بعض الأحاديث، قال:" لو علمنا ما صلينا عليه "، وفي الأخرى:" وما دفن في مقابرنا ". وفي الباب: نا محمد بن منهال الضرير وأحمد بن عبدة، نا يزيد بن زريع، نا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين. هذا الحديث مما تتبع على مسلم واستدرك، قال الدارقطني: هذا لم يسمعه محمد بن سيرين من عمران فيما يقال، وإنما سمعه من خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران. ذكر ذلك ابن المديني. قال غيره: أخرج مسلم عن محمد بن سيرين عن عمران حديثين لم يصرح فيهما بسماعه منه، فهذا الحديث الذي عفى يد رجل، وحديث:« يدخل الجنه سبعون ألفا »، ويقول في غير حديث: عن عمران، نبئت عن عمران.
وقوله: أن رجلاً من الأنصار أعتق غلامًا له عن دبر لم يكن له مال غيره، فبلع ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال:« من يشتريه مني»، فاشتراه نعيم بن عبدالله بثمانمائة درهم فدفعها إليه، قال الإمام - رحمه الله -: مذهبنا بيع المدبر، خلافًا للشافعي في إجازة بيعه تعلقًا منه بهذا الحديث، وقياسًا على الموصى بعتقه أن له الرجوع فيه باتفاق. وقد تأول أصحابنا هذا الحديث على أنه كان مديانًا ؛ ولهذا تولى - صلى الله عليه وسلم - بيعه.(6/275)
وقوله هاهنا: " فدفعها إليه "، أراد به السيد. وقوله في "النسائي" و"أبي داود"، أحدهما يرويه على نحو ما يقول الآخر، وفيه: فاحتاج مولاه فأمره ببيعه، فباعه بثمانمائة درهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« أنفقها على عيالك، فإنما الصدقة عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول »، فهذا كله يمتنع من تأويل أصحابنا أنه باعه بالدين. وعند الترمذي: " فمات ولم يترك مالاً غيره فباعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاشتراه نعيم "، وقال: هذا حديث حسن. ونظن أنا قدمنا الكلام على هذا الحديث.
قال القاضي - رحمه الله -: أجمع العلماء على جواز التدبير. وأنه ما لم يزد خارج من الثلث عند كافتهم. وذكر عن بعض السلف أنه من رأس المال، وهو قول زفر والليث بن سعد. واختلف الناس في بيع المدبر وفسخ تدبيره، فذهب بعضهم إلى ظاهر هذا الحديث وأنه كالموصى يعتقه لصاحبه أن يرجع فيه ويبيعه، احتاج أم لا، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود، وقاله مجاهد وطاوس من السلف، وروى عن عائشة - رضي الله عنها - وروى عن الحسن وعطاء مثله إذا احتاج إليه سيده. وقال كافة العلماء والسلف من الحجازيين والكوفيين والشاميين: لا يباع المدبر، وقالوا: إنما باع النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا في الدين، لما روي في الحديث من قوله له:" اقض به دينك " وأنه كان مديانًا. كذا ذكره أبو الحسن الدارقطني والنسائي في "سننهما". هذا حجة لتأويل المالكية ومذهبهم، ومفسر للحديث المجمل هنا، وأنه دفع ثمنه ليقضي به دينه.
وأما تلك الزيادة الأخرى التي ذكر - رحمه الله - عن أبي داود والنسائي من قوله: "فاحتاج الرجل "، وقوله « أنفقها على عيالك »، وعندهما:« إذا كان أحدكم فقيرًا فليبدأ بنفسه، فإن فضل فضل فعلى عياله، غير مخالف » تقدم، فبدايته بنفسه قضاء دينه، وما أخذه من ذلك لنفقة عياله. وأما رواية الترمذي: أنه كان مات، فقد ذكرها غيره، وغلط داود بها أئمة الحديث.(6/276)
وقال بعض علمائنا: إنما باعه النبي - صلى الله عليه وسلم - على مشهور الأحاديث، وأما في الصحيح أنه لم يكن له مال غيره ففسخ ذلك عليه كما فسخ صدقة أبي لبابة بجميع ماله، وقال: " يكفيك من ذلك الثلث، وقد قدمنا اختلاف العلماء فيمن تصدق بماله كله، ومن رأى رده وهذا مثله. وقيل: بل كان تدبيرًا معلقًا بالموت، مثل قوله: إن مت في مرض فأنت حر. فكان هذا كالوصية التي يرجع فيها، واسم التدبير يقع عليه ؛ لأنه عتق عن دبر من عمر الميت وانقضائه. وأصل التدبير والوصية من هذا. ومعنى العتق عن دبر: أي بعد الموت، ودبر كل / شيء ودبره: آخره. والفرق عندنا بين التدبير والوصية بالعتق ذكر لفظ التدبير في ذلك إذا لم يعلقه بشرط كقوله: أنت حر عن دبر منى أو دبرتك وأنت مدبر، أو مدبر بعد موتى ومما يعلم أنه قصد إيجاب العتق.
واختلف عندنا إذا قال: أنت مدبر فانت معتق وهو صحيح غير مريد لسفر، هل هي وصية أو هي تدبير متى يريد بها الوصية، ولم يختلفوا إذا قال ذلك عند سفر أو مرض أنها وصيته، وقيل: بل باعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ورد فعله لما بأن من سفهه إذا لم يكن له مال غيره. قالوا وهو أصل في رد أفعال السفهاء. وهذا عندي بعيد ج إذ لو كان ذلك لم يصرف إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمنه ولا مكنه منه، والأشبه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك نظرا له إذ لم يترك لنفسه مالاً، ويكون حجة، إذ ليس للرجل أن يتصدق بماله كله وقد تقدم.
قال الطبري: وفيه أن للإمام أن يحمل الناس على ما فيه مصالحهم، ويبطل من أفعالهم ما فيه مضارهم. وفيه بيع الإمام على الناس أموالهم في مصالحهم. وفيه جواز بيع السلعة ممن يريد، وهو قول كافة العلماء، بل وقع عليه الآن الإجماع بعد خلاف كان من بعضهم.(6/277)
وقوله: " فاشتراه نعيم بن عبد الله "، وفي الرواية الأخرى: " فاشتراه ابن النحام "، ونعيم نفسه هو النحام. هو نعيم بن عبد الله بن أسد قرشي عدوي. وهو النحام سمي بذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له:« دخلت الجنة فسمعت فيها نحمة لنعيم ». والنحمة: الصوت، وقيل: هي السلعة، وقيل: هي النحنحة الممدود آخرها. واسم هذا الغلام: يعقوب، واسم مدبره وأبوه مذكور. ذكر ذلك في تفسير الحديث في رواية أبي داود وغيره.
كتاب القسامة والديات والحدود
ذكر مسلم حديث حويصة ومحيصة باختلاف ألفاظه وطرقه حين وجد محيصة ابن عمه عبد الله بن سهل قتيلا بخيبر في شربة نخل، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأوليائه:« تحلفون خمسين يمينًا وتستحقرن دم صاحبكم أو قاتلكم أوفى الأخرى: وتستحقون صاحبكم أو قاتلكم »، وفي الأخرى:« يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته »، وفي حديث مالك: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يأذنوا بحرب من الله »، فكتب إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فكتبوا: والله ماقتلناه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحويصة وصاحبيه:« أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟» قالوا: لا والله، وفي الرواية الأخرى: كيف نحلف ولم نشهد ؟ فقال:« فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا »، فقالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك أعطى عقله، وفي الحديث الآخر: " فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده "، وفي رواية البخاري عن سعيد وعبيد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:« تأتون بالبينة على من قتله ؟» فقالوا: مالنا بينة. قال:« فيحلفون ؟» قالوا: لانرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة.(6/278)
وقد ذكر مسلم طرقًا عن هذه الرواية مختصرة ولم يبهمهما، وهو مما انتقد عليه كما سنبينه في موضعه بعد. وذكر البخاري - أيضًا - غير مسند: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى يهود:« أنتم قتلتم هذا ؟» قالوا: لا. قال:« أفترضون نفل خمسين /من اليهود ؟» أي أيمانهم. قال: يبالون، أي يقتلوننا أجمعين ثم ينفلون. قال:« فتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم ؟» قالوا: ما كنا لنحلف، فوداه رسول الله من عنده. وذكر أبو داود وغيره نحوه.
وذكر مسلم حديثًا آخر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية، وذكر أبو داود أنه - عليه السلام - قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر.
قال القاضي - رحمه الله -: حديث القسامة المذكور أصل من أصول الشرع، وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ كافة الأئمة، والسلف من الصحابة والتابعين وعلماء الأئمة وفقهاء الأمصار من الحجازيين والشاميين والكوفيين. وإن اختلفوا في صورة الأخذ به. وروى التوقف عن الأخذ به عن طائفة فلم يروا القسامة ولا أثبتوا لها في الشرع حكمًا، وهو مذهب الحكم بن عيينة، ومسلم بن خالد، وأبو قلابة، وسالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، وقتادة، وابن علية، والمكيين، وإليه ينحو البخاري، وروى عن عمر ابن عبد العزيز مثله. وروي عنه - أيضًا - الحكم بها. واختلف قول مالك في جواز القسامة في قتل الخطأ.(6/279)
ثم اختلف القائلون بها في العمد هل يجب بها القتل والقصاص والدية فقط، فمذهب معظم الحجازيين إيجاب القود والقتل بها إذا كملمت شروطها وموجباتها، وهو قول الزهري وربيعة وأبي الزناد ومالك وأصحابه والليث والأوزاعي وأبي ثور وأحمد وإسحاق وداود والشافعي في أحد قوليه، ورري ذلك عن ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز. قال أبو الزناد: وقلنا بالقسامة، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متواترون، لأنى لأرى أنهم ألف رجل، فما اختلف منهم اثنان.وقال الكوفيون وإسحاق والشافعي -في قوله الآخر-: إنما تجب فيها الدية وهو قول الحسن البصري والحسن بن جني، وعثمان البتي، والنخعي، والشعبي، وروي عن أبي بكر، وعمر بن الخطاب،وابن عباس، ومعاوية - رضي الله عنهم -.
ثم اختلفوا - أيضًا - في المبدأ - بالأيمان. من هم ؟ فمعظم القائلين بالقود أخذ بالمشهور من تقديم الأولياء وترتيب القسامة على ماجاء في الحديث، وحجتهم هذا الحديث ومجيئه من طرق صحاح لاتدفع. وفيه تبدئة المدعي، ثم ردها حين أبي على المدعى عليهم. واحتجوا - أيضًا - بالحديث الآخر من رواية أبي هريرة عنه - عليه السلام - " البينة على المدعى، واليمين على المدعى عليهم إلا القسامة ".(6/280)
ويقول مالك: الذي اجتمعت عليه الأئمة في الحديث والقديم أن المدعين يبدؤون في القسامة، واحتجوا بأن جنبة المدعي إذا قويت بشهادة أو شبهة قوية صارت اليمين له وها هنا الشبهة قوية، وقالوا: هذه شبهة بحيالها، وأصل قائم لحياة الناس، وردع المعتدين والدعاوى في الأموال على سنتها أيضًا، فكل أصل يتبع ويستعمل ولايطرح بسنة لسنة إن شاء الله، وعللوا رواية من روى تبدئة المدعى عليهم بقول أهل الحديث: إنه وهم من رواته، وأنه أسقط تبدئة المدعين إذ لم يذكر رد اليمين، وأيضًا فإن زيادة تبدئة المدعين في هذه الأحاديث الأخر والروايات الصحاح والزيادة مقبولة معمول بها لا يضرها من لم يثبتها، وهي تقضي على من لم يعرفها. وقال كل من قال بالدية وإسقاط الدم بتبدئة المدعى / عليهم إلا أحمد والشافعي في أحد قوليه بترك القود وإيجاب الدية، فإنهما على ماعليه الجمهور من الأخذ بمساق الحديث المشهور في تبدئة المدعى وردها إن أبوا على المدعى عليهم. وقد قال بهذا القول الكوفيون وكثير من البصريين، والمدنيين، والأوزاعي وروي عن الزهري، وعن عمر بن الخطاب.
ثم اختلفت مذاهب القائلين بتبدئة المدعى عليهم، فقال الأوزاعي - فقيه الشاميين: يستهحلف من أهل الفدية خمسون رجلاً خمسين يمينًا: ما قتلنا ولا علمنا له قاتلاً، فإن حلفوا بروا، وإن نقضت قسامتهم حلف المدعون على رجل واحد واستحقوا. فإن نقضت قسامتهم أو نكل منهم واحد عادت عقلاً. ومثل هذا في التبدئة وردها قول الزهري، إلا أنه لايرى في هذا القول قودا بل إذا حلف المدعون كانت دية، وإن نكل منهم واحد فلا شيء، ونحوه قول الحسن البصري.
وقال عثمان البتي:يبدأ المدعى عليهم، فإن حلفوا فلا شيء عليهم غير ذلك. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري ومعظم الكوفيين والبصريين: يحلف المدعى عليهم ويؤدون الدية، ورووا أن بهذا قضى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فإذا لم يحلفوا سجنوا حتى يحلفوا، وهو قول زفر والحسن بن جني.(6/281)
واتفقوا كلهم أنها لا تجزئ بمجرد دعوى الأولياء حتى يقترن بها شبهة يغلب الظن بالحكم بها.
واختلفوا في الشبهة الموجبة للقسامة، وصورتها سبعة وجوه:
إحداها: قول المقتول: دمي عند فلان، وهو قتلني أوضربني، وإن لم يكن به أثر أو فعل في هذا من إنفاذ مقاتلي، أو جرحني، ويذكر العمد في ذلك، فهذا موجب للقسامة عند مالك والليث، وقال مالك: إنه مما اجتمع عليه الأئمة في الحديث والقديم، وروى عن عبد الملك بن مروان ولم يقل به من فقهاء الأمصار غيرهما ولاروى عن سواهما وخالفهما في ذلك سائر العلماء ولم يروا بهذا قسامة. وذهب بعض أصحابنا لهذا بأن تلك حالة من القتل يطلب فيها الغفلة والاستتار، وأن المرء عند الموت غالبًا يتحرى الصدق ورد المظالم والتزود من البر ويبعد عن غيره، واحتج - أيضًا - مالك في ذلك بقصة البقرة، وبقوله تعالى:{ فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى } فحيى الرجل فأخبر بقاتله. وهل يكتفي في الشهادة على قوله بشاهد واحد ؟ فيه قولان.
الوجه الثاني: اللوث من غير البينة القاطعة على معاينة القتل، وبهذا قال مالك والشافعي والليث. ولم يختلفوا أن الشاهد الواحد العدل والجماعة من لفيف الناس وإن لم يكونوا عدولاً لوث. واختلف قول مالك في الواحد غير العدل وفي المرأة، هل هي لوث أم لا ؟ وجعل الليث وربيعة ويحيى بن سعيد شهادة العبيد والصبيان والذميين لوثًا. وقال بعض أصحابنا بشهادة العبيد والصبيان وأباه أكثرهم.
الوجه الثالث: شاهدان على الجرح ويحيا المجروح بعده حياة بينة ثم يموت قبل أن يفيق منه، وبه قال مالك وأصحابه والليث. واختلف عندنا هل يجب بالشاهد الواحد على الجرح قسامة أم لايجب إلا شاهدين وهو الأصح، ولم ير الشافعي وأبو حنيفة في هذا قسامة ورأوا به القصاص إذا ثبت بشاهدين.(6/282)
الوجه الرابع: وجود المتهم عند المقتول أو قربه أو آتيًا من جهته، ومعه الة القتل وعليه أثره من التلطخ بالدم وشبهه. فهذا لوث عند مالك في رواية ابن وهب. فقاله ابن عبد الحكم، وقال الشافعي نحوه قال: وذلك إذا لم يكن هناك أحد ولا وجد به أثر سبع. قال: ومئله لو وجد في/ بيت أو صحراء أو دار ليس فيها أحد سواهم يتفرقون عن قتيل، فهذا كله شبهة توجب القسامة.
الوجه الخامس: الفئتان يقتتلان فيوجد بينهما قتيل، ففيها عندنا روايتان: الأولى: جواز القسامة بمثل هذا لأوليائه على من يدعون عليه منهما، أو من يدعى عليه المقتول، كان منهما أو من غيرهما. والأخرى: أنه لاقسامة فيه في هذه الوجوه، وفيه الدية على الطائفة التي نازعت طائفته إن كان منهما، أو عليهما إن كان من غيرهما، وبالقسامة في هذا قال الشافعي. وقال أحمد وإسحاق: عقله على الفئة المنازعة، فإن عينوا رجلاً ففيه القسامة.
الوجه السادس: الميت في مزاحمة الناس. فقال الشافعي: تثبت بذلك القسامة، ويكون فيه الدية. وعند مالك هو هدر. وقال إسحاق والثوري: ديته على بيت المال، وروي مثله عن عمر وعلى. وقال الحسن والزهري: ديته على من حضر.
الوجه السابع: أن يوجد في محلة قوم أو قبيلهم أو مسجدهم. فعند مالك والشافعي والليث وأحمد وداود وغيرهم: أنه لا يستحق بهذا بمجرده قسامة. والقتيل هدر لاءنه يقتل الرجل ويلقيه في محلة القوم ليلطخهم به. قال الشافعي: إلا أن يكون بمثل القصة التي سكم فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيبر، فيجب فيها القسامة من العداوة، وأنه لم يكن هناك سواهم، فإن خيبر كانت باليهود مختصة، والعداوة بينهم وبين الأنصار ظاهرة وخرج عبد الله بعد العصر فوجد قتيلا قبل الليل. وقال نحوه أحمد بن حنبل. وقد تأول النسائي هذا على مذهب مالك.(6/283)
وذهب أبو حنيفة والثوري ومعظم الكوفيين إلى أن وجود القتيل في القرية والمحلة يوجب القسامة، ولاسبب عندهم من الوجوه السبعة المتقدمة يوجب القسامة سواها ؛ لأنها عندهم الصورة التي قضى فيها النبي لحنئ بالقسامة، فيحلف فيه خمسون رجلاً خمسين يمينًا ووجبت عليهم الدية على ماتقدم من مذهبهم في صفة العمل بها عندهم، وذلك إذا وجد القتيل وبه أثر، وإلا فلا قسامة فيه. فإن وجد القتيل في المسجد حلف أهل المحلة والدية على بيت المال، وذلك كله إذا ادعوا على أهل المحلة. وقال الأوزاعي: وجود القتيل في المحلة يوجب القسامة وإذا لم يكن به أثر على ماتقدم من مذهبه. وقال داود بنحو من هذا أو قال لا أقضي بالقسامة في شيء إلا في الدعوى في العمد دون الخطأ على أهل القرية الكبيرة أو المدينة وهم أعداء المقتول.
قال الإمام - رحمه الله -: اختلف الناس في أيمان القسامة، من يبدأ بها؟ فعند مالك والشافعي أولياء الدم. وعند أبي حنيفة: المطالبون بالدم يحلفون وتكون الدية على من أسس المحلة. واحتج أصحابنا عليه بهذا الحديث. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:« أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ »، قالوا: لا. قال:« فتحلف لكم يهود ». ولا معنى لقولهم: قد يحمل هذا اللفظ على النكير أن يخطر ببالهم أن يحلفوا لأنه خلاف ظاهر اللفظ، وقد قال في بعض طرقه: " يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته "، ومثل هذا لا يكون في ألفاظ النكير وإن تعلقوا في مقابلة هذا بما وقع من تبدئة اليهود. قلنا: لعل الراوى اختصر ذكرهم، والزيأدة من العدل تقبل.
وإذا ثبت القول بالقسامة فاختلف الناس - أيضًا - هل يستحقون بها إراقة الدم أو الدية؟ ومذهبنا أنه يستحق بها إراقة الدم، وقد وقع في بعض طرقه:« وتستحقون قاتلكم «، وفي بعض طرقه:« دم صاحبكم »، ولايصرف هذا للقتيل لأن دمه قد فات. وهكذا يمنعهم من حمل قوله: «تستحقون صاحبكم» على أن المراد به دية صاحبكم ؛ لأن هذا خلاف الظاهر.(6/284)
وقوله في بعض طرقه:« إما أن يبدأ صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب » معناه أن الدية وجبت باعترافهم أو بالقسامة وإذا استثنى مما وجب فلا شك أنهم يؤذنون بحرب. والقسامة إذا وجبت عندنا فإنما تجب باللوث، وهو الشاهد العدل يشهد بالقتل. واختلف في الشاهد الفاسق وفي المرأة هل يلوثان لوثًا أم لا ؟ وقول القتيل: دمي عند فلان لوث عندنا.
ومن منع من كونه لوثًا قياسًا على سائر الدعاوى أنها لاتقبل ممن يدعيها، أجبناه: بأن هذا أصل قائم بنفسه، ومن يتحقق مصيره للاخرة وأشرف على الموت فلا يتهم في إراقة دم ظلمًا وعليه الظن في هذا، فتترك منزلة غلبة الظن في الشاهد. لكن لو ادعى قتل الخطأ حتى صار إنما يدعى مالاً ؛ لكان الأصح من القولين عندنا أنه لا يقسم مع دعواه. كيف وأصل القسامة فيه اضطراب؟ وكان شيوخنا المحققون يضفونها، وقد نبهناك على ماوقع في الحديث من الاضطراب. ووجود القتيل في المحلة ليس بلوث عندنا، خلافًا لمن راه لوثًا تعلقا بظاهر الحديث،لكن قد يظهر من القرائن عندنا مايقوم مقام الشاهد، كرجل وجد قائما على القتيل بيده الة القتل، وهو متخضب بدمه على هيئة القاتل، فهذا يكون عندنا لوثًا.
قال ابن مسعدة: قلت للنسائي: مالك لايقول بالقسامة إلا بلوث وهذا الحديث لا لرث فيه فلم قال به ؟ فقال النسائي: في الحديث ذكر العداوة بينهم وبين اليهود، فأنزل مالك اللوث وقول الميت بمنزلة العداوة. وعندي: أن الأظهر في الجواب أن يقال: قد سلمنا أن القرائن تقوم مقام الشاهد، فقد يكون قام من القرائن مادل على أن اليهود قتلوه وإن جهل عين القاتل، ومثل هذا لايبعد إثباته لوثًا وأجرى حكم القسامة فيه.(6/285)
قال القاضي - رحمه الله -: قوله: " يحلف خمسون منكم خمسين يمينًا " يبين معنى قوله: " يحلفون "، وأن الأيمان لاتكون أقل من خمسين، وأنها لايحلفها واحد وإنما يحلفها خمسون من أولياء المقتول، كل واحد يمين، فإن كانوا دون هذا العدد، أو نكل بعضهم ولم يكن ممن يجوز عفوه، أو صرف اليمين إلى غيره، ردت الأيمان عليهم حتى يتموا خمسين يميًا، ويجزئ في ذلك رجلان، ولايحلف في قتل العمد أقل من اثنين. هذا مشهور مذهب مالك، وعنه أن الأولياء إن كانوا أكثر من خمسين حلفوا كلهم يمينًا يمينًا، ولايحلف في ذلك عنده إلا الرجال البالغون من أوليائه ومن يستعينون به من عصبته، وهذا كله في العمد، وبهذا قال الليث وربيعة والثوري والأوزاعي وأحمد وداود وأهل / الظاهر، وأنه لايقسم النساء ولا الصبيان.
قال مالك: وأما في الخطأ فإنما يحلف الورثة على قدر مواريثهم، ذكرانا كانوا أو إنا لا، إلا أنه إن لم يكن من الورثة إلا رجل واحد حلف الأيمان كلها في الخطأ بخلاف العمد، له إن كن نساء حلفن الأيمان كلها، وكذلك امرأة واحدة أو وارث واحد لو حضر وغاب من بقى حلف جميع ذلك، واستحق حقه. ولايستحق أحد منهم ميراثه إلا بعد أن يحلف في القسامة خمسين يمينًا من جميعهم إن حضروا، أو يحلف من حضر منهم جميعها ويستحق حقه، فإن جاء من غاب حلف ماكان يجب عليه لو حضر بحسب ميراثه من نصف الأيمان أو ثلثها أو سدسها. وقال الليث: لاينقص من ثلاث أنفس.
وقال الشافعي: لا يحلف في العمد ولا في الخطأ إلا أهل الميراث على قدر مواريثهم، ولايحلف على مال من لايستحق، وهو قول أبي ثور وابن المنذر، وهذا على قوله: لاقود في القسامة، وإنما هي دية.(6/286)
وقوله في الراوية الأخرى:" يحلفون على رجل منهم فيدفع إليكم برمته"، حجة أنه في المقود، ومفسر لقوله في الروايات الأخر: " دم صاحبكم "، وكذلك قوله: "وتستحقون قاتلكم ا بين أيضًا. وفيه أن القسامة إنما تكون على واحد. وقال أحمد بن حنبل - وهو مشهور قول مالك -: يقتل ويسجن الباقون عامًا، ويضربون، بعد أن يحلفوا خمسين يمينًا. وروى عنه - أيضًا - أنه يقسم على الجماعة، ويختارون واحدًا فيقتل. وقال أشهب:يحلفرن على ماشاؤوا ولايقتلون إلا واحدًا، وبه قال ابن شريح من أصحاب الشافعي، لكنه يقول: يؤخذ من الباقين مايصيبهم. وقال المغيرة: يقسم على الجميع ويقتلون بالشهادة القاطعة. كذا حكى عنه بعضهم، وحكى آخرون عنه أن يقسم مع كل واحد منهم مفردا، ويقتل حين يتموا. وقال الشافعي في قوله القديم: إذا ادعوا على جماعة أقسموا عليهم وقتلوهم.
وبقوله:" ويستحقون "، دليل أنه لايحلف الأجانب إلا من له حق في الدم أو في المال، وبه احتج الشافعي أنه لا يحلف إلا الورثة الذين يستحقون المال على قوله الآخر.(6/287)
وقولهم: " كيف يحلف ولم يشهد ؟ " مفسرة للألفاظ الأخر في امتناعهم من اليمين في الأحاديث الأخر، وأن علة ذلك أنهم لم يحققوا تنزهًا عن اليمين بمالم يحققوا. وفيه دلل! أن أيمان القسامة إنما يكون على العلم والقطع. وفيه أنه لايجب أن يحلفها الحالف إلا بعد تحقيق بعلم معاينة أو خبرا أو صحة دليل إن كان غائبا لأن الأيمان في الحقوق كالشهادة عند العلماء، فمرة تكون الشهادة بالمعاينة والمثاهدة، ومرة تكون بالدليل ويقع عليها بالخبر المتراتر، وقرائن أحوال يقع بهما تحقيق الشهادة، فكذلك هنا. وليس أحد من أهل العلم يجيز لأحد أن يحلف على مالم يعلم أو يشهد بما لم يعلم، ولكنه قد يحلف ويشهد على مالم ير ويشاهده إذا تحقق علمه بطريق العلم التي يصح وقوعها به، كما يحلف الصبي إذا كبر، والغائب في ميراثه. وإذا لم يعلم لم يحل له أن يحلف. وفي إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم على قولهم هذا واعتزازهم به حجة لما قلناه.(6/288)
وقوله: " فتحلف لكم يهود،: ظاهر في رد الأيمان عليهم، وحجة في أن سن وجبت عليه يمين في دعوى، فنكل فيها، أن المدعى لايستحق بالنكول شيئًا / حتى يرد اليمين عليه، وهو قول مالك والشافعي، وروي عن عمر وعثمان وجماعة من السلف. وقال أبو حينفة والكوفيون وأحمد بن حنبل: يقضى له دون رد اليمين يمين. وقال ابن أبي ليلى: يؤخذ باليمين. وفي الرواية الأخرى:« فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم »، أي: تبرئكم براءة أنفسهم ودعواكم عليهم. فيه أن الأيمان إذا ردت على المدعى خمسون رجلاً خمسين يمينًا أيضًا ولا يحلفها واحد، وهذا حجة لمالك في مشهور قوله في "موطئه" وغيره أنه يحلف من أولياء المدعى عليه خمسون رجلاً خمسين يمينًا، إلا أن يبلغوا العدد فترد عليهم خمسين يمينًا، ولايحلف منهم أقل من اثنين. ولايحلف معهم المدعى عليه في رواية ابن القاسم وابن وهب عنه، وإنما يحلف هو إذا لم يجد من يحلف معه، فيحلف خمسين يمينًا وهو قوله في "الموطأ"، وفي الرواية الأخرى لمطرف عنه: ا لايحلف من ولاه المدعى عليهم أحد، وإنما يحلفون هم بأنفسهم - كانوا واحدًا أو جماعة - خمسين يمينًا يبرون بها أنفسهم، وهو قول الشافعي قال: يحلف كل واحد خمسين، وهو رواية مطرف عندي على مانطمئن في الموطأ. وقال المغيرة وعبد الملك وغيرهما: للمدعى عليهم أن يستعينوا من أوليانهم بمن يحلف معهم، وقال في "الموطأ": إذا كان المدعى عليهم يقرأ لهم عدد حلف كل واحد منهم خمسين يمينًا ولاتقطع الأيمان عليهم، وهذا هو الأصل، كما لم يستحق دم أحد بالقسامة إلا بالخمسين فلا يبرئه إلا خمسون يمينًا، إما أن يحلفها أولياؤه عنه، أو يحلفها المدعى عليه عن نفسه.(6/289)
وأما الكوفيون فيحلفون هنا المدعى عليهم من أهل المحلة والقرية فقط على ماتقدم خمسين خمسين يمينًا إلا ألايبلغوا العدد فترد الأيمان عليهم، وإن لم يكن إلا واحدًا حلفها ولزمه الدية مؤسسو المحلة وبانها حاضرًا كان أو غائبًا بقيت في ملكه أو خرجت عنه، فإن لم يكن حيا وجبت على السكان كانوا مالكيها أو غير مالكيها. وقال أبو يوسف: الدية على السكان في جميع الأحوال. واختلف الكوفيون إذا لم يحلفوا، فقال أكثرهم: يسجنون. وقال أبو يوسف: لا يسجنون. وقال البتي: إذا حلفوا لم يلزمهم شيء وإن نكلوا أدوا الدية.
وقوله: " فلما رأى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى عقله، وفي الرواية الأخرى: " وداه من عنده أ قيل ذلك لأنه - عليه السلام - لما لم يحلفوا ولم يحلفوا وتنزهوا عن اليمين لما لم يحضروه، فلم يروا إلزامها الخيبريين حذروا مجاهرتهم لله - تعالى - بالحنث فيها لكفرهم، وأنه يكون سببا لحفزهم على اغتيال المسلمين إذا علموا أنهم يحلفون لاغير،ولم يتوجه لهم حكم،أرضاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - تفضلاً منه بأن وداه من عنده أو من بيت المال. وقيل: بل فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خشى أنه يبقى في نفوس المسلمين على أهل خيبر، فلهم ذمة مما تتقى عاديته، فرأى من المصلحة قطع ذلك وحسم الطلب بما أعطاهم.
وما روي في الحديث الآخر:" فواده من إبل الصدقة "، قيل: هو غلط ؛ إذ ليس هذا مصرف الصدقات، والأصح والأكثر قول من قال من قبله أو من عنده، إما من ماله أو من مال الفئ، وقيل: يجمع بينهما أن يستلف ذلك من الصدقة حتى يؤديها لمستحقها من الفئ، وإذا قلنا على التأويل الآخر أنه المصلحة، فقد يجوز تفريقها في مثل هذا. قال بعض العلماء: في المصالح العامة، وقيل أيضًا: إذ قد يكون فيما فعل من ذلك استئلافًا لليهود رجاء إسلامهم وأعطاه عنهم فيكون من سهم المؤلفة قلوبهم، أو يكون أولياء القتيل بجامع ممن يتاح لهم الصدقة.(6/290)