وحديث عائشة في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - الركعتين بعد العصر، وأنها كانت تصليهما، وقولها: " ما تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندي، وأن " عمر كان يضرب الناس على صلاتهم حينئذ، إنما فعل ذلك عمر لمّا سمع من نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها، وفي رواية السمرقندى عن ابن عباس:" كنت أصرف مع عمر الناس عليها" مكان "أضرب"، وضرب عمر الناس عليها معلوم مأثور في "الموطأ"، وغيره، وقد جاء بعد أنه يضرب الأيدي عليها، فلعل معنى ضرب الأيدي المنع، فيكون بمعنى أصرف، لكنه قد جاء مبينًا في غير حديث ضرب عمر بالدرة عليها، وقد أخبرت عائشة وأم سلمة بعد ذلك، وأنه شغل عن الركعتين بعد الظهر فقضاهما، وقالت عائشة:: وكان إذا صلى الصلاة أثبتها"، أي داوم عليها، قال الخطابي(1): وقد قيل: إن هذا كان مخصوصًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قدمنا اختلاف الأصوليين فيما أمر به غيره ونهاه عنه، هل يدخل هو في ذلك أم لا ؟ وفي حديث أم سلمة حجة على من يرى أنه لا راتبة للعصر، وقد قدمنا الخلاف فيه لقضائه ركعتي الظهر، لأنه شغل عنها ولم يقض راتبة العصر(2)، فدل على اتصال شغله حتى صلى العصر.
وقد قيل: إن عمر إنما ضرب الناس عليها حماية لئلا تمتد بهم الصلاة إلى الوقت المحظور، وقد جاء عنه مبينا في حديثه مع زيد بن خالد.
__________
(1) قوله:" قال الخطابي " ليس في (ط).
(2) في (ط) زيادة بمقدار جملة غير واضحة.(3/370)
وقوله:" لولا أنى أخشى أن يتخذهما الناس سلمًا إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما "، وصرف عائشة أن لها عن ذلك إلى أم سلمة. قيل: لما كان عند أم سلمة من علة صلاته لها، وأنها قضاء عن ركعتي الظهر، وإن كانت النوافل لا يلزم قضاؤها إذا فات وقتها، لكنه - عليه السلام - كان كما قالت عائشة: " كان إذا صلى صلاة أثبتها "، واستدل بعضهم بفعل عائشة إلى رفع العلم للأعلم والأثبت، لرد عائشة الجواب لأم سلمة، لما علمته من ذلك، وقد ذكر مسلم عن عائشة تعليل ذلك بهذا، فلعلها سمعته من أم سلمة ؛ إذ كانت المعنية بالمسألة، والسائلة النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها. لكن في حديث عائشة أنها قالت(1): قضى ركعتين كان يصليها(2) قبل العصر،، فظاهره خلاف ما تقدم وأنها راتبة العصر، وقد يجمع بينهما أنهما ركعتا الظهر ؛ لأنهما إنمايصليان قبل العصر لئلا تختلف الأحاديث، لكن في حديث عائشة زيادة فائدة بقولها: " ثم أثبتها، وكان إذا صلى صلاة أثبتها ". فجاء هذا مطابقًا لقولها في الحديث الآخر:" ما تركهما(3) فى بيتي قط "، أي بعد قصة أم سلمة. وهذا أولى من قول من قال: كان فعله ذاك عندها سرًا، فلذلك لم تخبر به السائل، وأحالته على أم سلمة، وكيف يصح هذا وقد أخبرت به غير واحد، وقالت في رواية الأسود: " ما تركهما في بيتي قط، سرًا ولا علانية.
__________
(1) قوله:" قالت " ليس في (ط).
(2) في (ط):" يصليهما ".
(3) في (ط):" تركها ".(3/371)
وقوله:" كنا نصلى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب "، وذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يراهم يصلونها فلم يأمر ولم ينه، وأنهم كانوا إذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري، أي: بين الأذان والإقامة ؛ لأنهما إعلامان، وقيل: بل يحمل أحد الاسمين على الآخر، كما قالوا: العمران. وهذا مما اختلف فيه السلف، فروي عن جماعة من الصحابة والتابعين فعله، وإليه ذهب أحمد وإسحاق، وحجتهم هذه الأحاديث، وروي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلى وجماعة من الصحابة، أنهم كانوا لا يصلونها، وهو قول مالك والشافعي، قال النخعي: هى بدعة، قال ابن أبي صفرة: وصلاتها كان أول الإسلام لتبيين خروج الوقت المنهى عن الصلاة فيه بمغيب الشمس، ثم التزم الناس المبادرة لفريضة المغرب لئلا يتباطأ الناس بالصلاة عن وقتها الفاصل. وقد يقال: لأن وقتها واحد على أكثر أقوال العلماء. ولا خلاف بينهم في المبادرة لها وصلاتها لأول وقتها، والاشتغال بغيرها مخالف لهذا ومسبب للتواني في ذلك.
أحاديث صلاة الخوف(3/372)
قال الإمام: اختلفت الأحاديث في هيئة صلاة الخوف، فذكر ابن عمر - رضى الله عنهما - هذه الهيئة المذكورة هنا،وروى صالح بن خوات غيرها، وروى جابر هيئة أخرى غيرها(1)، وأحسن ماثبتت عليه هذه الأحاديث المختلفة أن تحمل على اختلاف أحوال أدى الاجتهاد في كل حالة إلى إيقاع الصلاة على تلك الهيئة، أحصن وأكثر تحرزًا وأمنًا من العدو، ولو وقعت على هيئة أخرى لكان فيها تفريط وإضاعة للحزم، وقد أنكر أبو يوسف أن يعمل بصلاة الخوف بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورآها من خصائصه واعتدّ بقوله تعالى: { واذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة }، فعلق فعلها بكون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم، فإذا لم يكن فيهم لم تكن، ورأى غيره من أهل العلم أن الآية خرجت مخرج التعليم لهيئة الصلاة، ولم يقصد بها قصرها على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما افتتحت بخطاب المواجهة ؛ لأنه هو المبلغ عن الله تعالى ما يقول، قد(2) قال - صلى الله عليه وسلم -:« صلو كما رأيتموني أصلي »، وعموم هذا الخبر يرد على أبي يوسف، وقد صليت في الصحابة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) قوله:" غيرها " ليس في (أ).
(2) في (ط):" وقد ".(3/373)
واختلف فقهاء الأمصار في المختار من الهيئات الواردة في الآثار، فأخذ مالك برواية صالح بن خوات التي رواها عنه في "موطئه"، وأخذ الشافعي وأشهب من أصحاب مالك برواية ابن عمر، وأخذ أبو حنيفة برواية جابر، ولا معنى للأخذ بها إلا إذا كان العدو في القبلة؛ لأن فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صف بهم صفين والعدو بينهم وبين القبلة، فذكر كون العدو في القبلة، ولو كان في دبرها لكانت الصلاة على هذه الهيئة تعرضا للتلف وركوبًا للخطر، وأما رواية صالح التي أخذ بها مالك، ورواية ابن عمر التي أخذ بها الشافعي، فإن لكل واحدة منهما ترجيحًا على صاحبتها. أما رواية ابن عمر - رضى الله عنهما - فإن فيها إثبات قضاء المأموم بعد فراغ الإمام على ما أصلته الشريعة في سائر الصلوات، ورواية صالح فيها القضاء والإمام في الصلاة، وهذا خلاف الأصول.
وأما رواية صالح فإن فيها من الترجيح أيضًا قلة العمل في الصلاة، ورواية ابن عمر تضمنت انصراف المأموم وهو في الصلاة، ومشيه وتصرفه وهو يصلى، وذلك خلاف الأصول.
وذهب إسحاق بن راهويه إلى أن الإمام يصلى ركعتين وتصلى كل طائفة ركعة لا أكثر، يحتج له بما في كتاب مسلم أن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: " فرض الله الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة "، ولأن الشرع قد ورد بأن المسافر ردت صلاته إلى الشطر من صلاة المقيم لمشقة السفر، وترد صلاة الخائف على الشطر أيضًا من صلاة الأمن، لمشقة الخوف.(3/374)
وخرَّج مسلم في بعض طرقه عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى أربع ركعات بكل طائفة ركعتين، وكانت للنبى - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات ولكل طائفة ركعتان "، وهذا يظهر وجهه على القول بأن المفترض تصح صلاته خلف المتنفل، ولكن إنما يفترض على هذه الطريقة لأنه لم يسلم من الفرض حتى دخل النافلة، ويحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد بالثنتين الآخرتين التنفل ولكنه كان مخيرًا بين القصر والإتمام في السفر، كما يقول بعض العلماء، فاختار الإتمام واختار لمن خلفه القصر.
ولكن ينظر هاهنا في اختلاف نية الإمام والمأموم في العدد، وهذا يفتقر إلى بسط، وأما ظاهر القرآن فقد يتأوله صاحب كل مقالة على رأيه، فيقول إسحاق: قال الله تعالى:{ فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم }، ولم يطلبهم بزيادة على هذه الركعة فاقتضى ذلك كونها جملة فرضهم، وتأوّلها مالك على أن المراد به: فإذا سجدوا في الركعة الباقية عليهم وفرغت صلاتهم فليكونوا من ورائكم، ويرى أن المراد بسجودهم في الركعة الثانية لا في الأولى، ويرى الشافعي وأشهب أن المراد بقوله تعالى:{ فإذا سجدوا } الركعة الأولى، ولكن يكونون من ورائنا وهم في الصلاة، لأنه لم يذكر أنهم من ورائنا مصلين أو(1) غير مصلين، ويرى أبوحنيفة أن يكونوا " من ورائنا " بمعنى يتأخرون إلى مكان الصف الثاني، ويتقدم الثاني ليسجدوا الثانية مع الإمام، وبعض هذه التأويلات أسعد بظاهر القرآن من بعض، وبسط ذلك يطول.
قال القاضي: ذكر مسلم في "الأم" في صلاة الخوف أربعة أحاديث، هى التي أشار إليها الإمام أبو عبد الله - رحمه الله -:
__________
(1) في (ط):" و ".(3/375)
أولها: حديث ابن عمر:" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى بإحدى الطائفتين ركعة والأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو "، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ثم سلّم فقضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة "، وبهذا أخذ الأوزاعي وأشهب من أصحابنا وحكاه في "المعلم" عن الشافعي. واختلف في تأويله، فقيل: قضوا معًا، وهو تأويل ابن حبيب، وعليه حمل قول أشهب، وقيل: قضوا متفرقين، مثل حديث ابن مسعود، وهو المنصوص لأشهب.
وذكر حديث(1) ابن أبي حثمة(2) بنحوه، إلا أن فيه:" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالطائفة الأولى ركعة، ثم ثبت قائمًا فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعة، ثم ثبت جالسًا حتى أتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم "، وبهذا أخذ مالك والشافعي وأبو ثور وذكر عنه من طريق آخر " أنه صفهم خلفه صفين، فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم قام فلم يزل قائمًا حتى صلى الذين خلفه ركعة، ثم تقدموا وتأخر الذين كانوا قدامهم فصلى بهم ركعة، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة ثم سلم "، زاد في كتاب أبي دارد:" بهم جميعًا "، وترجم عليه أن هذه الأولى إذا صلت ركعة أو تقدمت لم تسلم.
__________
(1) في (ط):" حديثا عن ".
(2) في (ط):" خيثمة ".(3/376)
وذكر حديث عطاء وأبي الزبير عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صفهم صفين خلفه، والعدو بينهم وبين القبلة، وذكر أنه صلى جميعهم بصلاته، حتى إذا سجد سجد معه الصف الذي يليه، وقام المؤخر في نحو العدو، فلما قضى السجود سجد الصف المؤخر وقاموا، ثم تقدموا وتأخر المتقدم، وذكر في عملهم في الركعة الثانية كما ذكر في الأولى، ونحوه حديث ابن عباس، إلا أنه ليس فيه ذكر: تقدم الصف الثاني في الركعة الثانية وتأخر(1) الأول، وبهذا قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف، إذا كان العدو في القبلة، وروي عن الشافعي أيضًا مثله، واختاره بعض أصحابنا وأصحابه، إلا أن في رواية عطاء عن جابر: " صفهم صفين صف خلفه "، وليس للفظة "صف" هنا معنى كما جاءت ساقطة في غيره، لأنهما جميعًا كانوا خلفه.
وذكر أيضًا حديث أبي(2) سلمة عن جابر، أنه صلى أربع ركعات بكل طائفة ركعتين، وهو اختيار الحسن، وذكر عن الشافعي، ورواه غير مسلم من طريق أبي بكرة وجابر وأنه سلم من كل ركعتين. وقال الطحاوي: إنما كان هذا أول الإسلام إذ كان يجوز أن تصلى الفريضة مرتين، ثم نسخ ذلك، فهذه ستة وجوه في صلاة الخوف، وفيها وجه سابع رواه ابن مسعود وأبو هريرة وهو الذي أخذ به أبو حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف، وهو نص قول أشهب من أصحابنا، خلاف ما تأول عليه ابن حبيب أن النبي - عليه السلام - صلى بالطائفة التي وراءه ركعة، ثم انصرفوا ولم يسلموا، فوقفوا بإزاء العدو وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة ثم سلم، فقضى هؤلاء من ركعتهم ثم سلموا وذهبوا، فقاموا مقام أولئك، ورجع أولئك فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا.
__________
(1) في (ط):" وتأخير ".
(2) قوله:" أبي " ليس في (ط).(3/377)
والفرق بين هذه الرواية ورواية ابن عمر أن ظاهر قضاء أولئك في حديث ابن عمر في حال واحدة، ويبقى الإمام حارسًا لهم فيه وحده وهاهنا قضاؤهم مفترق(1) على صفة صلاتهم، وقد تأول بعضهم حديث ابن عمر على مافسر في حديث ابن مسعود.
وفيه وجه ثامن، ذكره أبو داود في حديث ابن مسعود: أنه - عليه السلام - كبر فكبر معه الصفان جميعًا. وفيه أن الطائفة الثانية لما صلت معه ركعة وسلم رجعت إلى مقام أصحابها، وجاءت الطائفة الأولى فصلوا ركعة لأنفسهم فرجعوا إلى مقام أصحابهم، وأتم أولئك لأنفسهم ركعة.
وفيه وجه تاسع ذكره أبو داود من رواية أبي هريرة أنه قامت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - طائفة مقابلي(2) العدو، وظهورهم إلى القبلة، فكبر جميعهم ثم صلى بالذين معه ركعة والآخرون قيام، ثم قام وذهبت الطائفة التي معه إلى العدو وأقبلت تلك فصلى بهم ركعة، ثم أقبلت الطائفة الأولى فصلوا ركعة،[ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم، ثم صلى بهم ركعة، ثم أقبلت الأولى فصلت ركعة ](3)، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد ومن معه، ثم سلم وسلموا جميعًا.
وفيها وجه عاشر من رواية عائشة أنه - عليه السلام - كبر وكبرت معه الطائفة التي تليه، وصلى بهم ركعة وسجدة، وثبت جالسًا، وسجدوا هم السجدة التي بقيت عليهم، ثم انصرفوا القهقري حتى قاموا من ورائهم، وجاءت الطائفة الأخرى فكبروا ثم ركعوا - يعني لأنفسهم - ثم سجد النبي - صلى الله عليه وسلم -- يعني(4) سجدته التي بقيت عليه من الركعة الأولى - فسجدوا معه، ثم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتموا هم السجدة التي بقيت عليهم، ثم قامت الطائفتان فصلى بهم جميعًا ركعة كأسرع الإسراع.
__________
(1) في (أ):" متفرق ".
(2) في (ط):" مقابلوا ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(4) في (ط):" بعد " بدل:" يعني ".(3/378)
وفيه وجه حادي عشر جاء في حديث ابن أبي خيثمة من رواية صالح بن خوات بن جبير: أن الطائفة الأولى لما صلت ركعتها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم صلت الركعة الأخرى لأنفسها(1) سلمت ثم تقدمت، وجاءت الأخرى، وهذا خلاف الحديث الآخر الذي ذكر فيه آخرًا:" ثم سلم بهم جميعًا ".
وفيه وجه ثاني عشر من رواية يحيى بن سعيد عن القاسم في حديث ابن أبي خيثمة: أن النبي - عليه السلام - سلّم عند تمام صلاته الركعة بالطائفة الثانية، وأتموا بعد سلامه، خلاف الروايات الأخر عن القاسم ويزيد بن رومان: أنه انتظرهم حتى قضوا ثم سلم، وقد اختلف قول مالك في الأخذ برواية القاسم أو رواية يزيد. وبرواية يحيى عن القاسم أخذ أكثر أصحاب مالك لصحة القياس: أن القضاء يكون بعد سلام الإمام، وهو اختيار أبي ثور، واختار الشافعي الرواية الأخرى.
وفيه وجه ثالث عشر، وهو الذي حكاه الإمام أبو عبد الله عن إسحاق قبل من صلاة الإمام بكل طائفة ركعة، فيكون له ركعتان ولهم ركعة ركعة، وتجزيهم. وذكر(2) أبو داود من رواية حذيفة وأبي هريرة وابن عمر عنه - عليه السلام - قال:" ولم يقضوا "، ويعضده الحديث المتقدم في القصر من قوله:" وصلاة الخوف ركعة "، وذهب أحمد بن حنبل والطبري وإسحاق وبعض الشافعية إلى التخيير في العمل بهذه الأحاديث، وتجويز الجميع منها، قالوا: ويجوز(3) أن يكون ذلك في مراتب على حسب شدة الخوف، إلا أن أحمد اختار حديث سهل بن أبي خيثمة(4)، وقال إسحاق: كلها جائز، وذلك على قدر الخوف، وخير الثورى فيها بين ثلاثة أوجه بين العمل بحديث ابن مسعود، أو حديث حذيفة، أو حديث أبي عياش الزرقي(5)، وهو اختياري على اضطراب من قول الثوري في الباب.
__________
(1) في (ط):" لنفسها ".
(2) في (ط):" وذكره ".
(3) في (ط):" وقد يجوز ".
(4) في (ط):" خثمة ".
(5) قوله:" الزرقي " ليس في (أ).(3/379)
قال الخطابي: صلاة الخوف أنواع، صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام مختلفة وأشكال متباينة، يتوخى في كلّها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة، وهي على اختلاف صورها متفقة في المعني. وهذا يعني حديث جابر وابن عباس هو الاختيار إذا كان العدو بينهم وبين القبلة، فإذا كان وراء القبلة صلى بهم صلاة يوم ذات الرقاع، يعني على حديث سهل بن أبي خيثمة(1).
قال القاضي: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف في مواطن كثيرة، ذكر ابن القصَّار أنه صلاها في عشرة مواضع، وذكر غيره أنه صلاها أكثر من هذا العدد. ففى حديث ابن أبي حثمة وأبي هريرة وجابر صلاها في يوم ذات الرقاع سنة خمس من الهجرة(2)، وفي حديث أبي عياش الزرقي أنه صلاها بعسفان ويوم بني سليم، وحديث جابر في غزاة جهينة وفي غزوة بني محارب بنخل، وروي أنه صلاها بغزوة نجد يوم ذات الرقاع، وهي غزوة نجد وغزوة غطفان، وقد ذكر بعضهم صلاته إياها ببطن نخل على باب المدينة، وعليها حمل بعضهم صلاته بكل طائفة ركعتين، لكن مسلما قد ذكرها في غزوة ذات الرقاع، وأيضًا فقد ذكر سلامه منها(3) من كل ركعتين في حديث أبي بكرة وجابر للدارقطنى، وذكر من حديث أبي بكرة أيضًا أنه صلى المغرب بهم ثلاثًا(4).
وقوله في حديث جابر من رواية أبي الزبير:" في الركعة الثانية، ثم سجد وسجد معه الصف الأول "، يعني المقدم الآن.
__________
(1) في (ط):" خثمة ".
(2) قوله:" الهجرة " ليس في (ط).
(3) في (ط):" فيها ".
(4) في (ط):" ثلاثًا ثلاثًا ".(3/380)
وقوله:" وأقام(1) معه(2) الثاني، فلما سجد الثاني، يعني المؤخر كما جاء مفسرًا في رواية عطاء.واختلف العلماء بعد هذا في صفة صلاة الإمام المغرب في الخوف، فمالك والشافعي وأحمد وإسحاق وجماعة أنه يصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة، وأبو حنيفة وأصحاب الرأي مثله، إلا أنه يخالف في صفة القضاء على أصله، بل يخالف أصله في صلاة المغرب فيجعل إذا سلم الإمام بالآخرة نهضت من غير سلام ولا قضاء إلى مقام أصحابها وجاه العدوّ، وجاءت الأولى إذ لا تقضي على أصله إلا بعد سلام الإمام، فتقوم مقام أصحابها وتقضي ما بقي عليها وتسلم، ثم ترجع إلى مصافها، وتنصرف الأخرى فتقضي ما سبقها به الإمام، وذهب الحسن إلى أن الإمام يصلي ست ركعات، لكل(3) طائفة ثلاث ركعات.
وقوله في الحديث:" ثم قام فلم يزل قائمًا حتى صلى الذين خلفهم ركعة " وقوله في الحديث الآخر:" ثم ثبت قائمًا وأتموا لأنفسهم " لا خلاف في أن هذا حكم الإمام إذا صلى بكل طائفة ركعة أنه يثبت(4) قائمًا، وأما إن كان في صلاة حضر أو كانت المغرب، فاختلف فيه، هل ينتظرهم قائمًا أو جالسًا، واختلف فيه قول مالك وأصحابه، وهل يقرأ مادام يقضى الأولى إذا كان قائمًا أم لا حتى تأتي الطائفة الثانية ؟ اختلف فيه أصحابنا، وقال بعضهم: هو مخير بين أن يسكت أو يدعو إلى أن تحرم خلفه الطائفة الأخرى(5)الثانية، ولا يقرأ إلا أن يكون في صلاة سفر، وحيث يمكنه تطويل القراءة حتى تحرم الطائفة الثانية خلفه قبل تمامها، وحجة من قال: لا يقرأ، قوله: " فصلى بهم الركعة الثانية "، ولو قرأ قبلهم لقال: فركع بهم.
__________
(1) في (ط):" قام ".
(2) قوله:" معه " ليس في (ط).
(3) في (ط):" بكل ".
(4) في (ط):" ثبت ".
(5) قوله:" الأخرى " ليس في (ط).(3/381)
وقول ابن عمر:" فإن كان خوفًا أكثر من ذلك فصل(1) راكبًا أو قائمًا يومئ إيماء "، قال في "الموطأ": " مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها "، وبهذا أخذ مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء، وقاله أهل الظاهر لعموم قوله:{ فإن خفتم } الآية، قال بعض شيوخنا: هذا(2) بحسب الحال وحسب ما يتفق له من التمكن من الصلاة والقبلة أم لا (3)، ومنع أبو حنيفة وابن أبي ليلى من صلاة الْمُسايف، وأنه لايصلى الخائف إلا إلى القبلة، وقال جماعة من السلف: يصلى في الخوف ركعة يومئ بها إيماء، وهو قول جابر بن عبدالله والحسن وطاووس والحكم وحماد وقتادة ومجاهد، وذلك في القتال، وقاله الضحاك قال: فإن لم يقدر على ركعة فتكبيرتان حيث كان وجهه، وقال إسحاق: أمّا عند السِّلة(4) فتجزئ ركعة يومئ بها، فإن لم يقدر فسجدة، فإن لم يقدر فتكبيرة، وقال الأوزاعي نحوه إذا تهيأ الفتح، لكن إن لم يقدر على ركعة ولا على سجدة لم يجزه التكبير وأخرها حتى يأمنوا، وعن مكحول نحوه، وقد تقدم في "الأم" في باب قصر الصلاة في حديث ابن عباس:" فرض الخوف ركعة "، ومنع مكحول وبعض أهل الشام من صلاة الخائف جملة متى لم يتهيأ له صلاتها على وجهها، وأنه إن لم يقدر على ذلك أخرها حتى يقدر، وحكى عنهم أيضًا إنما ذلك إذا لم يقدروا على صلاتها إيماءً، واحتجوا بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق وبقوله:« شغلونا عن الصلاة ». قالوا: ولو كان يجوز صلاتها كيف تهيأت لم يشغله ذلك عنها، والحجة عليهم أن صلاة الخوف إنما شرعت بعد ذلك، فهي ناسخة لكل ما تقدمها، واختلف(5) بعد هذا من قال: يصلي كيف تيسر عليه في الطالب، مع اتفاقهم في المطلوب. فمالك يسوى بينهما وجماعة من أصحابه، وقال الشافعي والأوزاعي وفقهاء أصحاب
__________
(1) في (أ):" فيصلي ".
(2) في (ط):" وهذا ".
(3) قوله:" أم لا " ليس في (أ).
(4) في (ط):" المسايف ".
(5) في (أ):" واختلفا "، ولعلها:" اختلف أبعد ".(3/382)
الحديث : لا يصلي الطالب إلا بالأرض، وهو قول ابن عبد الحكم، إلا أن الشافعى يقول: إن خشي الطالب كرة المطلوبين وانقطع عن أصحابه، كان له أن يصلي إيماء. وقال الأوزاعي نحوه إن كان الطالب قرب المطلوب صلى إيماء. ثم اختلفوا -أيضًا - فيما يباح له من العمل في الصلاة ؟ فجمهورهم على جواز كل ما يحتاج إليه في مطاردة العدو، وما يضطر إليه من مدافعته والمشى إليه، وقال الشافعي: إنما يجوز من ذلك الشىء اليسير(1) والطعنة والضربة، فأما ما كثر فلا تجزيه الصلاة به، ونحوه عن محمد بن الحسن.
وقوله:" وجاه العدوّ " بكسر الواو وضمها، مثل قوله: مواجهة العدوّ، أي مقابلته،كما قال في الحديث الآخر: " وجوههم(2) إلى العدو "، وقوله في الرواية الأخرى:" في نحر العدوّ " وبمعناه، أي في مقابلته، ونحو كل شيء أوله.
وقوله في حديث جابر: " ستأتيهم صلاة هى أحب إليهم من الأولاد "، كذا روايتنا عن شيوخنا، وعند بعضهم:" من الأولى "، والصواب الأول، وكذا رواه ابن أبي شيبة: " فقال: هى أحب إليهم من أبنائهم ". ورواه الدارقطني من حديث عبد الرزاق كذلك(3)، وزاد:" وأنفسهم ".
قوله:" بذات الرقاع "، غزوة ذات الرقاع سنة خمس من الهجرة بنجد من أرض غطفان، سميت بشجرة هناك يقال لها ذات الرقاع، وقيل: فيها فرضت صلاة الخوف، وقيل: في غزوة بنى النضير، وقيل: سميت هذه الغزوة ذات الرقاع بجبل هناك يقال له: الرقاع لبياض وحمرة وسواد فيه، وقيل: بل لأن المسلمين نقبت أقدامهم وتخرقت نعالهم، فلفوا الرقاع على أرجلهم، وكذا فسره في "الأم"، وقيل: بل رقعوا راياتهم.
أحاديث الأمر بالغسل يوم الجمعة
__________
(1) في (ط):" إنما يجوز المشي اليسير ".
(2) في (ط):" وجوهكم ".
(3) في (ط):" بذلك ".(3/383)
وقوله - عليه السلام -:« غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم »، قال القاضي: اختلف السلف والعلماء في غسل الجمعة، فروي عن بعض الصحابة وجوبه، وبه قال أهل الظاهر، وتأول ابن المنذر أنه مذهب مالك وحكاه الخطابي عنه وعن الحسن، وعامة فقهاء الفتيا وأئمة الأمصار على أنه سنة، وهو حقيقة مذهب مالك والمعروف من قوله ومعظم قول أصحابه(1)، وجاء عنه ما دل أنه مستحب، وقال به طائفة من العلماء، وقال بعضهم: الطيب يجزئ منه. ومعنى ذكر وجوبه هاهنا التأكيد في امتثاله وتشبيهه بغسل الجنابة في الحديث الآخر، أي في صفة العمل لا في وجوب الحكم.
قال الإمام: من الفقهاء من أخذ بظاهر الحديث، ورأى أنه يجب، وأكثر الفقهاء على أنه لا يجب، تعلقًا بقوله - عليه السلام -:« من أتى الجمعة وقد(2) توضأ فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل ».
وقوله:" فبها ونعمت ": يفيد جواز الاقتصار على الوضوء، ولو كان ممنوعًا من الاقتصار عليه لم يقل: " فبها ونعمت "، وأيضًا فإنه قال: " ومن اغتسل فالغسل أفضل "، فدل على أن في الوضوء فضلاً حتى تصح المبالغة، واعتمدوا أيضًا على قول عمر على المنبر للداخل عليه لما قال له:" ما زدت على أن توضأت، فقال عمر: والوضوء أيضًا ! ولم يأمر باغسل ".
__________
(1) في (ط):" أصحابنا ".
(2) قوله:" قد " ليس في (ط).(3/384)
قال القاضي: وهذا قول من عمر وإقرار بمحضر جماعة الصحابة، ولا منكر له ولا مخالف، فهو كالإجماع، وعامة الفقهاء والأصوليين منهم يعدون هذا إجماعًا، وحجة، وقال(1) آخرون: في قول الواحد من الصحابة إذا انتشر ولم يعلم له مخالف وسكوتهم كالنطق، وقال آخرون: هذا حجة وليس بإجماع، والذى اختاره محققو الأصوليين: أن هذا كله ليس بإجماع، والسكوت ليس كالنطق، وهو اختيار القاضي أبي بكر وطبقته، وقد جاء في الكتاب:« غسل يوم الجمعة على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب »، ولا خلاف في السواك والطيب فكذلك الغسل، وقد قال بالاستدلال بالقرآن قوم من الأصوليين، قال الخطابي: ولم تختلف الأمة أن صلاة من لم يغتسل للجمعة جائزة.
وقد ذكر مسلم حديث عائشة في علة الغسل أن الناس كانوا ينتابون الجمعة من منازلهم فيأتون في العباء ويصيبهم الغبار، فتخرج منهم الريح، وأنهم كانوا عمال أنفسهم، ولم يكن لهم كفاة، فكان يكون لهم(2) تفل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:« لو اغتسلتم يوم الجمعة »، و« لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا »، وهذا كله يدل على الحضّ والترغيب لا على الوجوب، وكذا وقع عند السمرقندي والطبري وعامة الرواة:" في العباء "،[ وعند العذري وغيره:" في الغبار "، وهو وهم، والصواب الأول. والعباء ](3): جمع عباءة، وهي أكسية خشان فيها خطوط.
وقوله:" ينتابون "، أي: يأتون(4)، والانتياب: المجيء، والاسم النوب، وأصله ما كان من قرب. قيل: النوب ما كان على فرسخ أو فرسخين. والكفاة: جمع كاف، أي عبيد وخدم يكفونهم الخدمة والعمل.
__________
(1) في (ط):" وقاله ".
(2) قوله:" لهم " ليس في (أ).
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(4) قوله:" يأتونه " ليس في (ح).(3/385)
وقوله:" ولهم تفل "، بفتح التاء والفاء(1)، أي رائحة كريهة، وفي قوله: " ينتابون الجمعة من منازلهم ومن العوالي "، ردّ على الكوفي الذي لا يوجبها على من خارج المصر ؛ لأن عائشة هنا أخبرت عن أمر يتكرر(2) منهم لظاهر قولها:" كانوا ".
وقد اختلف في المسألة، فقال الكوفيون ما تقدم، ومالك وأصحابه يوجبونها على من كان خارج المصر بثلاثة أميال ونحوها. قال مالك: وعلى من سمع النداء، ونحوه قول أحمد وإسحاق والشافعي إلا أنهم لم يحدّوا الثلاثة الأميال.[ واختلف أصحابنا هل تراعى الثلاثة الأميال من طرف المدينة أو من المنار](3)، ولا خلاف أنها تجب على أهل المصر وإن عظم وزاد على ستة أميال، إلا شيئًا روي عن ربيعة: أن الجمعة إنما تجب على من إذا سمع النداء وخرج ماشيًا أدرك الصلاة، وروي عن جماعة من السلف أنها تجب على من آواه الليل إلى أهله، فيأتي على هذا من يكون على نصف يوم، وهو مذهب الحكم والأوزاعي وعطاء وأبي ثور، وذهب الزهري: أنها تجب على من هو من أهل(4) المصر على ستة أميال، وروي عنه وعن ابن المنكدر وربيعة: أربعة أميال، وذكر بعض الشارحين أن في قوله:" على كل محتلم " دليلاً على سقوطها على الصبيان، وهذا بين قال: وعن النساء إذ الغالب عليهن في التكليف الحيض لا الاحتلام، وفي ما قاله ضعف.
وفي قوله:" ينتابون في العباء، و " يصيبهم الغبار "، وفي رواية: "والعرق فيكون منهم الريح "، دليل على أن معنى التهجير لها السعي في الهاجرة، على ما ذهب إليه مالك، وأن سعيهم إليها لم يكن بكرة، على ما ذهب إليه المخالف، ولو كان أفضل لفعلوه، والعرق وخروج الريح لا يكون إلا مع الحر والهاجرة.
__________
(1) في (ط):" بفتح الفاء ".
(2) في (ط):" تكرر ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(4) قوله:" أهل " ليس في (ط).(3/386)
وقد اختلف أصحابنا متى يجب السعي إليها ؟ هل بالنداء أو بالنزوال، أو بمقدار ما يأتي المسجد قبل الشروع في الخطبة ؟ والخلاف في ذلك مبني على(1): هل يلزم الحضور لسماع الخطبة، ومن شرطها الجماعة ؟ وهو المتأول على "المدونة"، أو ليس ذلك بشرط ؟ وهو قول أبي حنيفة وظاهر قول جماعة من أصحابنا، ولا خلاف أن من بعدت داره في(2) المصر حتى ولو جاء عند الأذان فاتته الصلاة أنه لا ينتظر الأذان، وعليه السعي قبل المقدار ما يدرك الخطبة أو الصلاة، على القولين المتقدمين.
قال الإمام: السفر عندنا يمنع يوم الجمعة إذا زالت الشمس لدخول وقت صلاة الجمعة، توجه الخطاب خلافًا لمن منعه قبل الزوال، فإن كان في مصر يعلم أنه لا يصل من منزله إلى الجامع إلا أن يخرج قبل الزوال بساعة أو ساعتين فأرادالسفر، فهل(3) يكون المنع معلقًا بالزوال الذي خوطب به الناس على العموم أو معلقا بزمن خروجه من داره الذي يصل به إلى الجامع ؟ اختلف فيه أصحابنا على قولين، وكذلك اختلفوا على قولين في مراعاة ثلاثة أميال التي هى المقدار المقدّر بها إتيان الجمعة، هل المعتبر من الجامع أو من طرف المصر، وهذا فيمن كان سكناه خارجًا عن المصر.
__________
(1) قوله:" على" ليس في (ط).
(2) قوله:" في " ليس في (ا).
(3) في (أ):" هل ".(3/387)
قال القاضي: وقوله - عليه السلام - لهم: " لو أنكم تطهرتم ": دليل على تنزيه المساجد عن الأرواح الكريهة، ولما لم تكن هذه من الكراهة مثل رائحة البصل والثوم وإنما كانت مثل ريح الضأن، كما ذكر في الحديث، لم يمنع أهلها من حضور المساجد، لكنهم حضوا على إزالتها والتنظف جملة، ولأنها كانت من الغالب، والأكثر منهم، وكثر إلفها لهم والأنس بها، ولو أن جماعة مسجد كلهم أصحاب أرواح كريهة كالحواتين وأشباههم لا يخالطهم في مسجدهم غيرهم لم يمنعوا منه، بخلاف لو كان معهم غيرهم ممن يتأذى بذلك. وأمره بالطيب(1) للجمعة من هذا لقطع تلك الروائح وإدخال المنفعة والمسرة بذلك على من يجالسه من المسلمين، وتعظيم لحرمة المسجد، ولأجل الملائكة الكاتبين(2) فيه.
وقوله:" الغسل يوم(3) الجمعة واجب على كل محتلم " دليل على وجوب الجمعة على الأعيان. وسيأتى الكلام عليه لقوله:" على كل محتلم "، وفيه أن من لا يلزمه السعي إليها من غير المحتلمين وغيرهم فلا غسل عليه، وقد استحب العلماء، لمن حضرها ممن لا تلزمه كالنساء والعبيد والصبيان الغسل إذا حضروها، وهو مذهب مالك.
وقوله: " ويمس من الطبب ما قدر عليه ": محتمل لتكثيره، ومحتمل لتأكيده بما وجده من طيب، وبدليل قوله:" ولو من طيب امرأته "، يريد المكروه للرجال، وهو ما ظهر لونه، فأباحه هنا له لعدم غيره وللضرورة إليه، وهذا يدل على تأكيده. وقول عمر للداخل عليه وهو يخطب:" أية ساعة هذه؟" على طريق التقرير والتوبيخ والتعريف للداخل، بما فاته من فضل التهجير، وأنه وقت طي الصحف. وفيه أمر الإمام في خطبته بالمعروف ونهيه عن المنكر إذا حضره وسؤاله من يحتاج سؤاله في أمور الناس، وجواب الآخر له، وأن ليس أحد منهم لاغيًا، وإنما اللاغي من أعرض عن استماع الخطبة وشغل نفسه عنها بكلام أو غيره، مما يمنعه من السماع.
__________
(1) في (ط):" بالتطيب ".
(2) في (ط):" الكائنين ".
(3) قوله:" يوم " ليس في (أ).(3/388)
وقول عثمان وهو الداخل - رضى الله عنهما - كما جاء مفسرًا في الحديث الآخر في الكتاب:" شغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت النداء "، في "الموطأ":" انقلبت من السوق "، في ذلك كله أبدى عذره، وأنه لم يقصد التأخير اختيارًا، وإنما غافصه الوقت لشغله قبل. وفيه جواز العمل يوم الجمعة قبل النداء والتجارة والمبايعات، وقد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرهون ترك العمل يوم الجمعه كى لا يتشبه باليهود.
وقوله: " فلم أزد على أن توضأت "، اعتذار وإعلام أنه لم يشتغل(1) منذ سمع النداء بغير فرض الطهارة، ولعله إنما ترك الغسل لأنه رأى أن السعي قد تعين عليه ووجب بالنداء والغسل غير واجب، والشغل به وتطلب الماء له شغل عن الواجب، فلم يشتغل بغير الفرض من الوضوء ؛ ولهذا قالوا: لم يرده عمر للغسل، وإن كان أنكر عليه ترك الغسل.
وقوله(2):" والوضوء أيضًا ! ": تنبيه لئلا يتشاغل مرة أخرى حتى يضيق عليه الوقت ويفوته، ورأى أن استماعه للخطبة آكد وأولى من رجوعه للغسل.
وقوله:" وقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل "، يحتج به من لا يرى الأوامر على الوجوب إلا بقرينة بدليل فعل عثمان وإقرار عمر، وترك إنكار الصحابة ترك الغسل مع اعترافهم بالأمر به، وجاء في الحديث الآخر: " فعرَّض به عمر وقال: ما بال رجال يتأخرون بعد النداء ؟ "، أي لم يصرح بالإنكار عليه والتوبيخ له. فيه حسن التلطف في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وترك المواجهة بخشن القول وصريح الإنكار، وكثيرًا ما كان يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا، ولاسيما لأهل الفضل ولمن لا يظن به إلا الخير، أو من له عذر، وكذلك قوله المتقدم:" أية ساعة هذه ؟" كله من لطيف التنبيه، وأنه لا يلزم في التنبيه على ترك غير الواجبات والأمر بها إلا ميسور القول ألا ترى قول عمر:" والوضوء أيضًا !" الحديث.
__________
(1) في (ط):" يشغل ".
(2) في (ط):" بقوله ".(3/389)
وفي قول عثمان:" سمعت النداء " حجة أن السعي إنما يجب بسماعه، وأن شهود الخطبة ليس بواجب على مقتضى قول أكثر أصحابنا، ولا يشترط في صحة صلاة الجمعة، على قول آخرين، وأنه لم يعتذر عن تأخره إلى وقت سماع النداء، ولا عتبه عمر على هذا، ولو كان السعي يجب قبله لم تكن له فيه حجة ولا عذر.
وقوله:« حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام » محمول على غسل الجمعة عندنا، وقد يحتج به من يوجب الغسل لمجرد اليوم.
وقوله:« إذا أراد أحدكم أن يأتى الجمعة فليغتسل »، حجة لقول كافة العلماء: إن الغسل إنما هو بحضورها(1) لا لليوم، وأن من لا يحضرها لا غسل عليه، واختلف فيمن حضرها ممن لا تلزمه، هل عليه غسل أم لا ؟ وحكى عن بعض السلف أنه يغتسل، وإن كان مسافرًا، وهو قول أبي ثور، أنه لا يترك الغسل بحال، وهذا الحديث يرد عليهم، فرأوا الغسل لليوم، وعلى هذا اختلفوا فيمن اغتسل بعد الفجر، هل يجزيه رواحه به إذا قربت الصلاة ؟ فجمهورهم على الإجزاء، وهو قول ابن وهب من أصحابنا، وأبي ذلك مالك إلا أن يكون متصلا برواحه، وهو أحد قولى الليث، والأوزاعي.
__________
(1) في (ط):" لحضورها ".(3/390)
وقوله:« من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية »، الحديث، قوله: " غسل الجنابة "، أي على صفة غسل الجنابة وهيئته، وقد يحتج به من يذهب في قوله:« من غسّل واغتسل »، أنه جامع، يروى(1) غسل، بالتخفيف والتشديد، يقال: غسّل وغسل، إذا جامع، أو يكون أوجب الغسل على غيره، أو يكون غسّل من الجنابة بالتشديد، وغسل بالتخفيف للجمعة ؛ لأنه إذا فعل ذلك كان أغض لبصره في سعيه للجمعة، وقيل: غسل هنا أسبغ الوضوء،واغتسل: أي للجمعة، وقيل: غسل رأسه واغتسل في بقية جسمه، وقيل غسل بالتشديد، بالغ في دلك جسمه وتنظيفه، واغتسل بصب(2) الماء عليه، وقد قال في رواية البخاري:« من اغتسل يوم الجمعة وتطهر بما استطاع من طهر »، قيل: اغتسل غسلاً كاملاً إن أمكنه، وإلا تطهر بالوضوء، كما قال في الحديث الآخر:« من توضأ فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل ».
قال الإمام: قوله - عليه السلام -:" من راح إلى الجمعة " الحديث، حمل مالك الحديث على أن المراد به بعد الزوال تعلقًا بأن الرواح في اللغة لا يكون في أول النهار، وإنما يكون بعد الزوال، وخالفه بعض أصحابه، ورأى أن المراد به أول النهار تعلقًا بذكر الساعات، الأولى والثانية إلى ما ذكر، وذلك لا يكون إلا من أوّل النهار، فمالك تمسك بحقيقة الرواح وتجوز في تسمية الساعة، ويؤكده عنه(3) أيضًا قوله في بعض طرق الحديث:" مثل المهجر كمثل الذي يهدي بدنة "، والتهجير لا يكون أول النهار، وتمسك بعض أصحابه بحقيقة لفظ الساعة، وتجوز بلفظ الرواح.
__________
(1) في (ط):" فروى ".
(2) في (ط):" بصبه ".
(3) في (ط):" عنده ".(3/391)
قال القاضي: اختلف تفسير أهل اللغة في التهجير في هذا الحديث، فذهب بعضهم إلى أنه السير في الهاجرة، وكذا معناه في "مختصر العين"، وحكاه الحربي عن أبي زيد عن الفراء وغيره، وحكى عن الخليل أنه التبكير، وبه فسروا قوله:« ولو يعلمرن ما في التهجير لاستبقوا إليه »، أي: التبكير إلى كل صلاة، وذهب بعض أصحاب الشافعي في تأويله، قال: معناه هجر منزله وتركه، ولذلك قال بعضهم أيضًا في قوله: "راح " أن معناه: خف(1) إليها، يقال: تروّح القوم وراحوا إذا ساروا أي وقت كان، وأقوى معتمد مذهب(2) مالك في المسألة وكراهية البكور إليها خلاف ما قاله الشافعي، وأكثر العلماء وابن حبيب من أصحابنا على عمل(3) المدينة المتصل بترك ذلك، وسعيهم إليها قرب صلاتها وهو نقل معلوم غير منكر عندهم، ولا معمول بغيره، وما كان أهل عصر النبي - عليه السلام - ومن بعدهم ممن يترك الأفضل إلى غيره ويتمالؤون على العمل بأقل الدرجات، ومما يؤيد تأويله أيضًا أنه لو كان كما تأوله غيره في سائر ساعات النهار كان حكم الساعات كلها في الفضل واحد، ثم الثانية كذلك ثم الثالثة، على الترتيب.
__________
(1) في (أ):" أخف ".
(2) قوله:" مذهب " ليس في (أ).
(3) قوله:" على عمل " ليس في (ط).(3/392)
وقد(1) جاء في الحديث:" يكتبون الأول فالأول "، وفي الحديث الآخر: "فالمهجر(2) كمثل الذي يهدي بدنة، ثم كالذي يهدي بقرة "، وفي الرواية الأخرى:" ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه "، وهذا يقتضي أن يكون في ساعة واحدة، وأيضًا فإن الزوال إنما هو في آخر الساعة السادسة، وقد انقضت على قولهم الفضائل في الخامسة، وانما انقطعت في الحديث بخروج الإمام، فلم يبق على قولهم للسادسة إلى خروج الإمام فضل، وهو خلاف الحديث. ومعنى الساعة الأولى والثانية والثالثة على هذا أجزاؤها(3) وقت رواحه على طريق التقريب كما يقال: اقعد بنا ساعة، ولم يرد ساعة الزمان المعهودة. والبدنة من الإبل ما أهدى إلى الكعبة، سميت بذلك لأنها تبدن، والبدانة السمن، والجزور أيضًا لا يكون إلا من الإبل، وقد يحتج بهذا الشافعي وأبو حنيفة في تفضيل البدن في الضحايا على الغنم، وأنها أفضل، ثم البقر، ثم الغنم، وسووا بين الهدايا والضحايا وسائر النسك، ومالك وأصحابه يقولون: أما في الضحايا فالضأن أفضل من المعز، ثم البقر، ثم الإبل، ومن أصحابنا من قدّم الإبل على البقر ووافقوا في الهدايا، وحجتهم قوله تعالى:{ وفديناه بذبح عظيم }، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ضحى بالضأن، وما كان ليترك الأفضل كما لم يتركه في الهدايا، ولأن الغرض في الضحايا استطابة اللحم، وفي الهدايا كثرته.
وقوله:" بدنة ثم بقرة "، يحتج به عطاء في أن البدن لا يكون إلا من الإبل وحدها، ومالك يرى البقر من البدن، وفائدة هذا فيمن نذر بدنة يكون ببلد لا يجدون إلا البقرة(4)، وذلك عند عدم الإبل أو(5) قصر النفقة.
__________
(1) في (أ):" قد ".
(2) في (ط):" مثل المهجر ".
(3) في (ط):" أحرها ".
(4) في (ط):" يجد البقرة ".
(5) في (ط):" و".(3/393)
وقوله: " أهدى دجاجة وأهدى بيضة، وليس هذان مما يطلق عليه اسم هدي، لكنه لما عطفه على ما قبله من الهدايا وجاء به بعده، لزمه حكمه في اللفظ، وحمل عليه، كقوله: متقلدًا سيفًا ورمحًا، أي وحاملاً رمحًا وكذلك هنا ؛ لأنه(1) قال: كالمتقرب بالصدقة، فدجاجة(2) أو بيضة، وأطلق عليه(3) اسم الهدي لتقدمه وتحسين(4) الكلام به(5)، وقد جاء في الرواية الأخرى:" كأنما قرب" كذا، وهذا ضربٌ من التمثيل للأجور ومقاديرها لا على تمثيل الأجور وتشبيهها حتى تكون أجرها(6) كأجر هذا، وتكون الدجاجة في التمثيل والتدريج والبيضة بقدر أجريهما(7) من أجر البدنة لو كان هذا مما يهدى.
واختلف في الغنم، هل هى من الهدي أم لا ؟ وفائدة الخلاف فيمن قال: على هدي، هل تجزيه شاة أم لا ؟ وأجاز ذلك مالك مرة، ومرة لم يجزها إلا من قصر النفقة على تضعيف منه فيها.
وقوله:« فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر »، وفي رواية البخاري:" طووا صحفهم "، قالوا: هذا يدل على أنهم غير الحفظة.
وقوله:« إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغيت »، وذكر قول أبي الزناد، هى لغة أبي هريرة وإنما هو: لغوت.
قال الإمام: يقال: لغا يلغو، أو لغى يلغي، وهذه لغة أبي هريرة، ويقال: هو اللغو واللغى، وأنشد ابن السكيت:
ورب أسراب حجيج الكُظَّم عن اللّغى ورفث التكلُّم
وذكر الهروي في قوله:« ومن مسّ الحصى فقد لغا » معناه: تكلم، وقيل: لغا عن الصواب، أي مال عنه. وقال النضر: أي خاب، ألغيته: خيبته(8)، قال ابن عرفة: اللغو: الشيء المسقط الملغي.
__________
(1) في (ط):" كأنه ".
(2) في (ط):" بدجاجة ".
(3) في (ط):" على ذلك ".
(4) في (ط):" تجنيس ".
(5) قوله:" به " ليس في (ط).
(6) في (ط):" أجر هذا ".
(7) في (ط):" أجرها ".
(8) في (أ):" بخيبته ".(3/394)
قال القاضي: وقيل: اللغو واللغا: ما لا ينبغى من الكلام، ورديئه وباطله، ومالا خير فيه. وفي الحديث حجة على وجوب الإنصات لسماع الخطبة، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وعامة العلماء، وذكر عن الشعبى والنخعي وبعض السلف: أن الإنصات للخطبة غير واجب، إلا عند تلاوته فيها القرآن.
واختلفوا إذا لم يسمع الإمام، هل يلزمه من الإنصات ما لزم من سمعه أم لا ؟ فجمهورهم على التسوية، وقال أحمد والشافعي - في أحد قوليه -: إنما يلزم لمن سمع. ونحوه عن النخعي، واختلفوا إذا لغا الإمام، هل يلزم الناس الإنصات أم لا ؟ واختلف فيه عن مالك.
وقوله: " والإمام يخطب ": حجة بينة أن الإنصات إنما يجب عند خطبة الإمام، وهو قول مالك وعامة أهل العلم، وذهب أبو حنيفة إلى أن الإنصات يجب بخروج الإمام.
قال الإمام: في قوله:« إذا قلت لصاحبك: أنصت »، إنما ذكر هذه اللفظة لأنها لا تعد من الكلام الكثير، وهي أمر بالمعروف(1)، فإذا لم يبحها فأحرى وأولى ألا يباح ما سواها مما يكثر، وليس فيه أمر بمعروف، وقد قال بعض الناس: إن فيه حجة لمالك في إسقاطه تحية المسجد عن الداخل والإمام يخطب ؛ لأن في ركوعه من التشاغل عن الإمام أشد مما في قوله:" أنصت ".
قال القاضي: واختلف فيما كان من الذكر مشروعًا قوله ومأمورًا به ؛ كردّ السلام، وتشميت العاطس، فمنعه مالك والشافعي وأبو حنيفة، وأجازه الثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق.
__________
(1) في (ط):" بمعروف ".(3/395)
وقوله في يوم الجمعة:« فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلى يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه »، اختلف الناس(1) في وقتها وفي معنى " يصلي"، فذهب بعضهم إلى أنها من بعد العصر إلى الغروب، ومعنى يصلي، عند هؤلاء: يدعو، ومعنى " قائم ": ملازم ومواظب، مثل قوله تعالى: {مادمت عليه قائمًا }. وذهب آخرون إلى أنها من وقت خروج الإمام إلى تمام الصلاة، وذهب آخرون إلى أنها في وقت الصلاة نفسها من حين تقام إلى حين تتم، والصلاة على وجهها. وقيل: هى من حين يجلس الإمام على المنبر ويحرم البيع إلى انقضاء الصلاة،[ وقيل: من حين يقوم الإمام يخطب إلى حين انقضاء الصلاة ](2)، وقيل: آخر ساعة من يوم الجمعة. وقد رويت في هذا كله آثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مفسرة لكل قول من هذه الأقاويل. وذكر مسلم منها حديث أبي موسى الأشعري من حين يجلس الإمام، وقيل: هى عند الزوال، وقيل: من عند الزوال إلى نحو الذراع، وقيل: هى مخفية في اليوم كله كليلة القدر في الشهر أو العام، وقيل: من طلوع [الفجر إلى طلوع](1) الشمس وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وليس(3) معنى قول هؤلاء أن هذا كله وقت لها، إنما معناه: أن في هذه الأوقات تكون، ويدل على ذلك تقليل النبي - صلى الله عليه وسلم - لها، وإشارته بيده إلى ذلك أنها خفية(4)، ومعنى "يزهدها": يقللها، كما فسر في الحديث، وفي الحديث الآخر:« التمسوها بعد العصر إلى غروب الشمس». وقال قوم: قد رفعت، وقد رد السلف هذا على قائله. ووقع في كتاب السمرقندى: "وأشار بيده يقلبها " بالباء، وهو تصحيف. والصواب رواية الجماعة المعروفة:" يقللها " باللام، وذكر مسلم في الباب حديث أبي بردة: قال لي ابن عمر: "سمعت أباك يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن ساعة الجمعة، الحديث. هذا الحديث مما استدركه
__________
(1) في (ط):" السلف ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(3) في (أ):" فليس ".
(4) في (ط):" خفيفة ".(3/396)
الدارقطني على مسلم، وقال: لم يسنده غير مخرمة عن أبيه عن أبي بردة. ورواه جماعة عن أبي بردة من قوله.
وقوله - عليه السلام -:« خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها »، وذكر قيام الساعة فيه، الظاهر أن هذه القضايا المعدودة فيه ليست لذكر فضيلتها ؛ لأن ما وقع فيه من إخراج آدم من الجنة(1) وقيام الساعة لا يعد في الفضائل، وإنما هو على تعداد القضايا وتعظيم ما وقع فيه وحدث ويحدث من الأمور العظام، فبحسب ذلك يكون العبد مستعدًّا فيه مستخبتًا بعمل صالح لرحمة من الله تناله، أو بطشة تدفع عنه.
وقوله:« نحن الآخرون السابقون يوم القيامة » قيل: الآخرون في الزمن(2) السابقون بالفضل، وأول من يقضى بينهم يوم القيامة، ويدخل الجنة قبل سائر الأمم، على ما جاء في صحيح الأحاديث مفسرًا(3)، وذكره مسلم في بعضها، وقد يجيء على مساق الحديث الأول. وذكره السبب بقوله: «بيد أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم »، فهذا معنى قوله:"الآخرون "، ثم قال: هذا اليوم الذي هدانا الله له فالناس لنا فيه تبع»، [ فمفهوم الحديث أنه أخبر عن تأخرهم في الزمن والوجود وإعطاء الكتاب، وسبقهم بيوم الجمعة على الأيام بعدها التي هى تبع](4) له مع سبقهم بعد ذلك في الآخرة مما ذكره في الحديث، وقيل: سبقنا بالقبول والطاعة التي حرموها، وقالوا: سمعنا وعصينا.
__________
(1) قوله:" من الجنة " ليس في (أ).
(2) في (ط):" الدين ".
(3) في (ط):" مسندًا ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ).(3/397)
وقوله:« بيد أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم » الحديث، كذا هذا الحرف " بَيْد "، بفتح الباء وسكون الياء، وكذا رويناه عن شيوخنا في هذا الحديث في الأصول، ووقع عند السمرقندي في حديث عمرو الناقد وعند الطبري في حديث ابن عمر:" بأيد "، بكسر الباء وبعدها همزة مفتوحة، مثل قوله تعالى:{ والسماء بنيناها بأيد }، وليس هذا من ذاك، وقد صُحِّف، والصواب الأول عند أكثرهم، وقيل: تصح رواية: "بأيد " هاهنا، أي بقوة أعطاناها الله، وفضلنا بها لقبول أمره وطاعته، وعلى هذا يكون " إنهم" مكسورة لابتداء الكلام واستئناف التفسير.
قال الإمام: وقال الليث: يقال: بَيْد ومَيْد بمعنى " غير "، قال أبو عبيد: تكون "بيد" بمعنى " غير "، وبمعنى " على"، وبمعنى " من أجل"، وأنشد:
عمدًا فعلت ذاك بيد أنى أخاف إن هلكت لم ترني
قال الأموي: معناه: على أني، وقال غيره: من أجل أني.
قال القاضي: قوله:" اليهود غدًا "، نصب على الظرف على تقدير: عيد اليهود غدًا ؛ لأن ظروف الزمان لا تكون إخبارًا عن الجثث في العربية، ومعنى ذلك بين صحيح.
وقوله:" كتب الله علينا "،: دليل على فرض الجمعة.
وقوله:« وهذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه »، قال الإمام: فيه دليل على فساد تعلق اليهود والنصارى بالقياس في هذا الموضع ؛ لأن اليهود عظمت السبت لما كان فيه فراغ الخلق، وظنت ذلك فضيلة(1) توجب تعظيم اليوم، وعظمت النصارى الأحد، لما كان فيه ابتداء الخلق، واعتقدت لذلك تعظيم(2) ذلك اليوم، واتبع المسلمون الوحي والشرع الوارد بتعظيم يوم الجمعة، فعظموه.
__________
(1) في (ط):" دليلاً " بدل:" فضيلة.
(2) قوله:" لذلك تعظيم " ليس في (أ).(3/398)
قال القاضي: قال بعضهم: فيه حجة أن الجمعة فرض، وقال بعض المشايخ ما معناه: إنه ليس في الحديث دليل أن يوم الجمعة فرض عليهم تعيينه، فتركوه لأنه لا يجوز لأحد أن يترك فرضًا فرض عليه، والظاهر أنه فرض عليهم يوم(1) الجمعة يعظمونه بغير تعيين، ووكل إلى اختيارهم تعينه ليقيموا فيه شريعتهم، فاختلف اجتهادهم في تعيينه ولم يهدهم الله ليوم الجمعة، وذكره(2) لهذه الأمة وبيّنه لهم ولم يكله إلى اجتهادهم، ففازوا بفضيلته.
وقد جاء في بعض الأخبار أن موسى أمرهم بالجمعة فأخبرهم(3) بفضلها، فناظروه أن السبت أفضل، فقال له الله: دعهم وما اختاروا. وقد يستدل على هذا بقوله:« هذا يوم الجمعة الذي كتبه الله علينا، هدانا الله له »، وفي الآخر:« فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق »، ولو كان منصوصًا عليه لم يصح اختلافهم. بل كان يقول: خالفوا فيه.
وقوله في سند هذا الحديث: نا محمد بن رافع، نا عبد الرزاق، كذا للجماعة، وعند الهوزني: ثنا محمد بن رمح، نا عبد الرزاق.
وقوله:« من اغتسل ثم أتى الجمعة(4) فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلى معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام »، وفي الرواية الأخرى:« من توضأ فأحسن الوضوء »، ولم يذكر " الغسل "، ولا "صلى ما قدر له "، فيه فضل الغسل، وكونه مشروعًا وكون الإنصات كذلك، ووقع في الحديث الأول من رواية الشنتجالي والباجي ولغيرهما:" انتصب " مكان:" أنصت "، وهو وهم.
__________
(1) في (ط):" يوم من ".
(2) في (ط):" ودخره ".
(3) في (ط):" وأخبرهم ".
(4) في (ط):" اغتسل يوم الجمعة ".(3/399)
وقال الإمام: ينقدح في نفسى في هذا الحديث أنه - عليه السلام - إنما حدد زيادة ثلاثة أيام على الجمعة لأنه يقدر أن يوم الجمعة لما فعل فيه هذا الخير، وكانت الحسنة بعشر أمثالها، بلغ هذا التضعيف إلى ما قال، إذ أيام الجمعة سبعة، وتكمل السبعة بثلاثة أيام، وهذا كما يتأول في صوم رمضان وست من شوال مكفر للدهر، لما كان هذا القدار يبلغ تضعيفه بعشر جميع(1) أيام السنة، كما سننبه عليه في كتاب الصوم إن شاء الله. وقد يستلوح من قوله:" من توضأ" كون الغسل غير واجب، لما أثنى على المتوضئ ولم يذكر غسلاً، وتحقيق دلالة هذا اللفظ على هذا المعنى يحتاج إلى بسط.
قال القاضي: وفي قوله:" صلّى ما قدّر له ثم أنصت "، حجة لمذهب الجماعة في جواز التنفل(2) بالصلاة عند الزوال وقد تقدم.
وقوله:" ومن مس الحصا فقد لغا "؛ لأن بتحريكه له وشغله به صار لاغيًا مشغلاً غيره عن سماع الخطبة بصوت حركته.
وقوله:" كنا نصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها "، وفي الحديث الآخر:"نواضحنا "، والأول يفسرها، بمعنى أنهم يريحونها من السقى، وبذلك(3) سميت نواضح، لنضحها الماء، أي صبها، ويكون معنى " نريح ": أي من التعب أو من الرواح للرعي.
__________
(1) قوله:" جميع " ليس في (ط).
(2) في (ط):" النفل ".
(3) في (ط):" لذلك ".(3/400)
وبين في الحديث أن ذلك كان حين تزول الشمس، وكذلك جاءت الأحاديث الأخر من رواية سلمة بن الأكوع:" نصلي الجمعة فنرجع وما للحيطان ظل "، وفي حديثهم الآخر:" كنا نُجمِّع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفىء "، فهذا كله يدل أنه بعد الزوال، لكن مع صلاتها لأول وقتها، ومعنى:"نتتبع الفىء" للقائلة(1)، وكانت حيطانهم من القصر بحيث لا يمتد لها ظل حينئذ، ولقصر الظل عند الزوال في بلاد الحجاز، ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الجمعة لا تصلي إلا بعد الزوال، إلا أحمد وإسحاق، فإنهما أجازاها قبله، وروى من هذا عن الصحابة أشياء لم يصح عنهم منها إلا ما عليه الجمهور.
وأما قوله في حديث سهل:" ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة "، قال الإمام: يحتج به ابن حنبل على جواز صلاتها قبل الزوال، ومحمله عندنا على أن المراد به التبكير، وأنهم كانوا يتركون ذلك اليوم القائلة والغذاء ؛ لتشاغلهم بغسل الجمعة والتهجير.
وقد ذكر مسلم بعد هذا:" كنا نجمع(2) مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفىء.
__________
(1) في (ط):" القائلة ".
(2) في (ط):" نجتمع ".(3/401)
قال القاضي: قوله:" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة قائمًا، ثم يجلس، ثم يقوم "، وفي الحديث الآخر:" كانت له خطبتان يجلس بينهما، يقرأ القرآن ويذكر الناس "، اختلف في الخطبة لصلاة الجمعة، فكافة العلماء علي أنها شرط في صحتها وفرض من فروضها، وهو مشهور مذهب مالك، وشذ الحسن فرأى أنها تجزئ الصلاة دونها، وتابعه أهل الظاهر في هذا، وحكاه ابن الماجشون عن مالك. ثم اختلفوا، هل هى فرض أو(1) سنة ؟ واضطربت الروايات عن أصحابنا في ذلك ثم(2) اختلفوا في القيام فيها، فأجمعوا على أنه مشروع فيها، وأن الخطبة لا تكون إلا قائمًا لمن قدر على القيام، كذا حكى أبو عمر وحكى ابن القصار أن أبا حنيفة لا يراه مشروعًا ويراه مباحًا، إن شاء قام وإن شاء قعد. ثم اختلفوا في حكم القيام، هل هو مع كونه فرضا شرط في صحتها أم لا ؟ فذهبت طائفة أنه من شروطها، وأنه لا تجزى الجمعة بالخطبة جالسًا، وهو قول الشافعي إلا من عذر، وأن أول من خطب جالسًا معاوية حين ثقل، ومذهبنا أنه ليس من شروط صحة الصلاة والخطبة. ومن تركه أساء ولا شيء عليه.
قال الإمام: والخطبة(3) من شرطها القيام والجلوس بين الخطبتين. وأجاز أبو حنيفة الخطبة جالسًا. وقال ابن القصار من أصحابنا: الذي يقوى في نفسي أن القيام فيها والجلوس سنة.
وقول جابر: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائمًا، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائمًا فمن قال: إنه كان يخطب جالسًا، فقد كذب، فقد -والله- صليت معه أكثر من ألفي صلاة ": قال: ويحمل هذا على المبالغة، إن كان أراد صلوات الجمعة ؛ لأن هذا القدر من الجمع إنما يكمل في نيف وأربعين عامًا، وهذا القدر لم يصلّه النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يكون أراد سائر الصلوات.
__________
(1) في (ط):" أم ".
(2) في (ط):" و ".
(3) في (ط):" الخطبة ".(3/402)
وقد ذكر مسلم بعد هذا أن كعب بن عجرة دخل المسجد وعبد الرحمن ابن أم الحكم يخطب قاعدًا، فقال: انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدًا، وقال الله تعالى:{ وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها وتركوك قائمًا }، وهذا الذّم، وإطلاق الخبيث عليه يشير إلى أن القيام عندهم كان واجبًا، وأما ظاهر الآية فلا دليل فيها إلا من جهة إثبات القيام للنبى - صلى الله عليه وسلم -. ويحمل ذلك على أن المراد به أنه كان قائمًا يخطب. وأن أفعاله على الوجوب مع اتفاقهم على كونه مشروعًا.
قال القاضي: اختلف أئمة الفتوى في حكم الجلوس بين الخطبتين مع اتفاقهم على كونه مشروعًا، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وجمهور العلماء: هو سنة، ومن لم يجلس أساء ولا شيء عليه، وخطبة واحدة تجزئ، وتقام بها الجمعة، وقال الشافعي: هي(1) فرض، من لم يجلسها كأنه لم يخطب ولا جمعة له. وشرط للجمعة خطبتين.
قال الطحاوي: لم يقل هذا أحدٌ غيره، وحجته ظاهر الحديث المتقدم. وقد حكى غيره عن مالك مثل قول الشافعي، ورأى مالك والشافعي وأبو ثور الجلوس على المنبر قبل القيام إلى الخطبة، ومنعه أبو حنيفة، وروي عن مالك والحجة للجلوس بينهما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكونه ليس بواجب: أنه ليس من الخطبة، وإنما هو للاستراحة. والحجة للجلسة الأولى حديث السائب بن يزيد:" كان الأذان يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ".
__________
(1) في (ط):" هو ".(3/403)
وقوله:" يقرأ القرآن ويُذكِّر الناس "، مما يحتج به الشافعي أنه لابد من خطبتين، يحمد الله في كل واحدة منهما، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويوصي بتقوى الله، ويقرأ شيئًا من القرآن ؛ آية فأكثر، ويدعو في الآخرة. ومالك وجمهور العلماء لا يجيزون(1) في الخطبة إلا ما يقع عليه اسم خطبة، وأبو حنيفة وأبو يوسف يجيزا(2) من ذلك تحميدة أو تهليلة أو تسبيحة، وحكاه ابن عبدالحكم عن مالك.
وقوله: " جاءت عير من الشام، فانفتل الناس إليها، حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً فيهم أبو بكر وعمر، فنزلت هذه الآية:{ وإذا رأوا تجارة أو نهوًا انفضوا إليها }، استدل بهذا الحديث أصحابنا على الشافعي في اشتراطه أربعين رجلاً، هكذا قال جميع أصحاب حصين بن عبد الرحمن عن سالم بن أبي الجعد، وأبي سفيان عن جابر، وقد روى على بن عاصم عن حصين بسنده هذا الحديث، وفيه:" ولم يبق معه إلا أربعون رجلاً، أنا فيهم "، وتفرده وخلافه للجماعة يرد روايته.
وفيه فضل أبي بكر وعمر وأمثالهم مثل جابر، وأنه لم يستفزهم ما استفز غيرهم من الخروج للعير، وسيأتي الكلام عليه بعد بأتم من هذا. وزاد أبو مسعود الدمشقي في روايته في هذا الحديث: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادى نارًا }.
__________
(1) في (ط):" يحدون ".
(2) في (ط):" يجزى ".(3/404)
قال الإمام: اختلف الناس في أقل ما يقام بهم الجمعة، فقيل: مائتان(1). وقال عمر ابن عبد العزيز: خمسون. وقال الشافعي: أربعون، وقال غيره: اثنا عشر. واعتمد على ماوقع في هذا الحديث، وقال أبو حنيفة: أربعة إذا كانوا في مصر. وقال غيره: ثلاثة. وقال غيره: بإمام وآخر معه، فمن رأى أن أقل الجمع ثلاثة والإمام منفصل عن أقل الجمع، قال ما قال أبو حنيفة. ومن قال: أقل الجمع ثلاثة والإمام معدود فيهم، جاء منه موافقة من قال بالثلاثة. ومن قال: أقل الجمع اثنان والإمام منفصل عنهما، وافق هؤلاء في الثلاثة، وإن اختلفت الطرق. ومن قال: أقل الجمع اثنان والإمام معدود فيهما، وافق من قال: الإمام وآخر معه. ومالك -رحمه الله - لم يحد في ذلك حدا إلا أن يكون العدد ممن يمكنهم الثواء ونصب الأسواق.
__________
(1) قوله:" مائتان " ليس في (ط).(3/405)
قال القاضي: هذا الذي ذكره مالك - رحمه الله - هو شرط في وجوبها لافى إجزائها، والذى يقتض كلام أصحابه إجرائها(1) مع اثنى عشر رجلاً لاستدلالهم بهذا الحديث. قاله الباجي: وحكى أبو يعلى العبدى نحوه عن بعض(2) أصحابنا، وقال ابن القصار: رأيت لمالك أنها لا تجب على الثلاثة والأربعة ولكنها تنعقد بما دون الأربعين، وقد اختلف فيمن تلزمه الجمعة وتنعقد بهم اختلافًا أكثر مما تقدم، فحكي عن عكرمة: إذا كانوا سبعة جمعوا، وقال مطرف وعبد الملك عن مالك: لا يجب على أقل من ثلاثين بيتًا وما قاربهم، كان لهم وال أو لم يكن. وشرط بعضهم أن يكون إمام مع أربعين يقضى بينهم، فيخطب(3) ويصلى بهم الجمعة، وممن قال: إن الإمام الوالي ليس من شرط الجمعة: كما قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور واختلف فيه قول الأوزاعي، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الوالي شرط فيها، وأنه إن مات أو عزل صلوا ظهرًا حتى يقدم وال غيره. وحكى يحيى بن عمر نحوه عن مالك وأصحابه، وأنها لا تنعقد إلا بالإمام(4) الذي يخاف مخالفته، ونحوه لمحمد بن مسلمة،[ قالوا: ولا خلاف أن النظر في إقامتها للوالي إذا حضر، وقيل ](5): لا جمعة إلا في مصر جامع وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن وابن سيرين ، وداود لا يشترط فيها شرطًا ويلزمها للمنفرد، وهي ظهر ذلك اليوم عنده لكل أحد، وهو خلاف الإجماع، والخلاف كثير فيمن تجب عليهم الجمعة وفيمن يصح بهم الجمعة بعد وجوبها عليهم إذا لم يحضرها جملة من وجبت عليه(6) أو تفرقوا عن الإمام وهو في الخطبة؟ وكذلك اختلفوا إذا تفرقوا عن الإمام وهو في الصلاة على الاختلاف المتقدم من اشتراط بقاء اثنين غير الإمام، وهو قول الثوري والشافعي، أو يجزى بقاء واحد
__________
(1) في (ط):" إجازتها ".
(2) قوله:" بعض " ليس في (أ).
(3) في (ط):" فليخطب ".
(4) في (ط):" بوال الإمام ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(6) في (أ):" عليهم ".(3/406)
وهو قول أبي ثور، وحكي عن الشافعي أو يجزئ الإمام وإن أتمها وحده، وهو قول أبي يوسف وابن الحسن. وقال أبو حنيفة: إن عقد بهم ركعة وسجدة ثم نفروا عنها(1) أجزاه(2) أن يتمها جمعة، وإن كان قبل ذلك استقبل الظهر. وقال مالك والمزنى: إن كان صلى بهم ركعة بسجدتيها أتمها جمعة وإلا لم تجزه، وقال زفر: متى نفروا عنه قبل الجلوس للتشهد لم تصح جمعة ، وإن جلس ونفروا عنه قبل السلام صحت صلاته، وقال ابن القاسم وسحنون: إن نفروا عنه قبل سلامه لم تجزه جمعة، وللشافعى قول ثالث: أنه لا تجزئهم حتى يبقى معه أربعون تتم بهم الصلاة، وقال إسحاق(3): إذا بقى معه اثنا عشر رجلاً أجزته الجمعة.
وقوله في هذا الحديث:" وهو يخطب قائمًا "، يفسر مجمل قوله في الرواية الأخرى عنه في "صحيح البخاري":" بينا نحن نصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبلت عير" الحديث، وأن ذلك حين كان يخطب لا في الصلاة، وقد بينّا اختلاف العلماء في الموضعين.
__________
(1) في (ط):" عنه ".
(2) قوله:" أجزاه " ليس في (ط).
(3) في (ط):" سحنون ".(3/407)
وقوله: في الحديث الآخر: " إذ أقبلت(1) سويقة "، هو بمعنى العير المتقدم. والعير: الإبل تحمل الطعام أو التجارة، لا تسمى عيرًا إلا بذلك، والسويقة تصغير سوق، وإنما سميت بذلك لأن البضائع والأموال تساق إليها. ذكر أبو داود في "مراسله": أن خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه التي انفض(2) الناس منها إنما كانت بعد صلاته الجمعة، لم يظنوا في ترك الخطبة شيئًا عليهم وأنه قبل ذلك، إنما كان يصلى قبل الخطبة، حتى جرت هذه القصة، وهذا أشبه بحال الصحابة أنهم كانوا لا يدعون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ويتركونه، بل تأولوا بعد تمامها جواز ترك الخطبة، وهو أيضًا ظاهر الآية لقوله:{ وتركوك قائمًا}، ولم يقل: تركوا الصلاة. وان كان بعض العلماء أنكر أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب قط في الجمعة بعد الصلاة، وبحسب الخلاف فيما تقدم اختلفوا بما يدرك به صلاة الجمعة، فقال جمهور السلف وفقهاء الفتيا: إنه بإدراك ركعة مع الإمام يكون مدركًا لها، ويضيف إليها ركعة، ولا يكون له جمعة بأقل من ذلك، وجاء بمعنى(3) ذلك حديث صحيح خرجه أصحاب المصنفات، وقال الحكم وحماد وأبو حنيفة: من أدرك التشهد مع الإمام في الجمعة صلاها ركعتين، وقالت طائفة: من لم يدرك الخطبة صلى أربعًا، وروي ذلك عن عطاء(4) وطاوس، ومجاهد ومكحول.
وقوله:" سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على أعواد منبره "، فيه اتخاذ المنبر لخطبة الجمعة، وهو سنة مجمع عليها للخليفة، فأما غيره فإن شاء خطب على المنبر وإن شاء على الأرض. واختلف عمل الناس وأهل الآفاق في ذلك، قال مالك: ومن لا يرقى عندنا(5) يقف على يسار المنبر، ومنهم من يقف عن يمينه، وكلٌ واسع.
__________
(1) في (ط):" قالت ".
(2) في (ط):" انفض عنه ".
(3) في (ط):" بنص ".
(4) في (ط):" مالك ".
(5) في (ط):" عندنا فجله ".(3/408)
وقوله: « لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات »، وروى غير مسلم(1): "تركهم"، قال الإمام: معناه: تركهم، قال شمر: زعمت النحوية أن العرب أماتوا مصدره وماضيه، والنبى - عليه السلام - أفصح، وجاء في الحديث:" إذا لم ينكر الناس المنكر فقد تودِّع منهم، أي أسلموا إلى ما استحقوه من النكير عليهم، كأنهم تركوا وما استحقوا من المعاصي حتى يصروا فيستوجبوا العقوبة فيعاقبوا، وأصله من التوديع وهو الترك.
قال القاضي: كان في النسخ الداخلة إلينا من المعلم في هذا الكلام اختلال أصلحناه من كتاب أبي عبيد الهروي المنقول منه(2) بلا شك، حسب ما رويناه من طريق القاضي الشهيد عن أبي بكر المفيد عن أبي عمر المليح(3)، عن الهروي وبحسب ما قيدناه وأتقناه على الحافظ أبي الحسن بن سراج اللغوي، عن أبيه، عن السفاقسي، عن الصابوني، عن الهروي، وقد ذكر أصحاب القراء ات واللغة أنه قرئ:{ ما ودعك ربك وما قلى } بالتخفيف، بمعنى تركك، فهذا أيضًا استعمال ماضيه لا على ما زعمت النحوية.
وقوله:« أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين »، حجة بينة في وجوب الجمعة وكونها فرضًا ؟ إذ العقاب والوعيد والطبع والختم إنما يكون على الكبائر، وأصله التغطية أي غطى عليها ومنعها من الهداية، حتى لا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا، ولا تعي خيرًا، قالوا في قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم }، أي طبع عليها، قالوا: وأصل الطبع في اللغة: الوسخ والتدنس، واستعمل فيما يشبهه من الآثام ومثله الرين، وقيل: الرين أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشدها.
__________
(1) في (ط):" مسلم عن ".
(2) في (ط):" عنه ".
(3) في (ط):" المليحي ".(3/409)
وقد اختلف المتكلمون في هذا اختلافًا كثيرًا، فقيل: هو إعدام اللطف وأسباب الخير، والتمكين من أسباب ضده، وقيل: هو خلق الكفر في قلوبهم(1)، وهو قول أكثر متكلمي أهل(2) السنة، وقال غيرهم: هو الشهادة عليهم، وقيل: هو علم جعله الله في قلوبهم ؛ ليعرف به الملائكة الفرق بين من يجب مدحه وبين من يجب ذمه.
قال الإمام أبو عبدالله(3): اختلف الناس في صلاة الجمعة، هل هى فرض على الأعيان أو على الكفاية ؟ فالأكثر أنها على الأعيان ؟ وذهب بعض الشافعية إلى أنها على الكفاية، فتعلق الأولون بقول الله سبحانه:{ فاسعوا إلى ذكر الله }، وهذا خطاب لسائر الناس فيجب حمله على العموم، وبظاهر الخبر الذي قدّمناه. وتعلق الآخرون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم...»، الحديث، وصلاة الجمعة تدخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الجماعة "، فقد أثبت فضيلتها على المبالغة.
__________
(1) في (أ):" صدورهم ".
(2) قوله:" أهل " ليس في (أ).
(3) قوله:" أبو عبدالله " ليس في (أ).(3/410)
واختلف الناس أيضًا هل تجب على العبد والمسافر ؟ فأسقطها عنهما مالك وأكثر الفقهاء، وأوجبهما عليهما داود، ووجه الخلاف ورود خبر الواحد بالتخصيص، فهل يخص عموم القرآن بأخبار الآحاد أم لا ؟ فيه اختلاف بين أهل الأصول، وهذا على القول بأن العبد يدخل في الخطاب مع الحر، وأما إذا قلنا: إنه لا يدخل في خطاب الأحرار لم يكن هاهنا عموم عارض خبر واحد، بل يكون الاستمساك بالأصل واستصحاب براءة الذمة في حقه هو الأصل المعتمد عليه، وعلى أن أيضًا هذا الخبر الوارد فيه ذكر أربعة لا جمعة عليهم، وعد فيه المسافر والعبد، لا يعارضه الخبر الذي ذكرنا في كتاب مسلم ؛ ولأن المسافر ردّ من أربع إلى ركعتين لمشقة السفر، والخطبة في(1) يوم(2) الجمعة أقيمت مقام ركعتين، فلو أوجبناها عليه لأوجبنا عليه الإتمام، وذلك لا يصح، ولأن العبد لو خوطب بالجمعة لوجب عليه السعي وإيقاع عبادة في مكان مخصوص، وذلك لا يلزمه،كالحج. فإن قيل: هذا يدل على أنه إنما سقط ذلك عنه لحق السيد، فلو أذن له سيده وأسقط حقه هل يستقر عليه الوجوب لزوال العلة المسقطة له ؟ اختلف(3) أصحابنا في ذلك، ولم يختلفوا في أن الحج لا يجب عليه بإسقاط السيد حقه.
قال القاضي: ذكر بعض من نقل اختلاف قول مالك من العلماء أن ابن وهب روي عنه: أن الجمعة سنة، قال: وكذا في سماعه، وهذا لا يقوله مالك على هذا، وإنما جاء من سوء تأويل الناقل، وانما تكلم مالك في رواية ابن وهب في القرى المتصلة البيوت وفيها جماعة من المسلمين، قال: ينبغي(4) أن يجمعوا إذا كان إمامهم يأمرهم أن يجمعوا، وليأمروا رجلاً فيجمع بهم ؛ لأن الجمعة سنة، هذا نص روايته عنه، ولهما تأويلان:
__________
(1) قوله:" في " ليس في (أ).
(2) قوله:" يوم " ليس في (ط).
(3) في (ط):" قيل: اختلف ".
(4) في (ط):" ينبغي لهم ".(3/411)
أحدهما: أن التجميع لها وصلاتها على تلك الهيئة إنما(1) هو فرض بسنة الرسول ووحي الله على لسانه لا بنصِّ القرآن، وقد استمر العرف بإطلاق السنة على مثل هذا أيضًا.
والوجه الثاني: أن تكون السنة على عرفها المعهود النازل عن رتبة الفرائض، ويكون قول مالك هذا في المسألة المتكلم فيها الذي اختلف فيها العلماء، هل يجوز لهؤلاء الجمع أم لا يجمع إلا أهل الأمصار ؟ فرأى مالك المسألة والخلاف فيها، واختلاف قوله هو أيضًا هل يلزم هؤلاء التجميع كان لهم سوق أم لا، حتى يكون لهم سوق ويكون كهيئة بناء المدن والأمصار وتأكد عنده تجميعهم بأمر الوالي لهم، وأن هذا لا يقوى قوة الأمصار المجمع عليها، وإنما تجمع هؤلاء بتشبيههم بأهل الأمصار والقياس عليهم، فسمى ما أخذ بالاجتهاد ووجد عليه عمل بلده سنة، كما قيل: سنة العمرين. وأما في المصر الكبير فلا يختلف فيه قوله،وبحسب هذا اختلف قوله ومذهبه في الأخذ بحديث عثمان وإذنه لأهل العوالي يوم عيد وافق يوم الجمعة في التخلف عنها إن شاء. وقد رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل ذلك آثار، وما كان عثمان ليضع عن الناس فريضة بمحضر جماعة الصحابة فلا ينكرون، فمرة قال مالك: ليس عليه العمل، ومرة قال به، وفيه(2) روي عنه(3) عبدالملك ومطرف وابن وهب ذلك عنه.
وقوله:« بعثت أنا والساعة كهاتين »، يحتمل أنه تمثيل لمقاربتهما(4)، وأنه ليس بينهما أصبع أخرى، وأن كل واحدة متصلة بصاحبتها، كما أنه لا شيء بين محمد - عليه السلام - والساعة، وقد تكون لتقريب ما بينهما من المدة تقدر بقدر السبابة من الوسطى وقوله: " والساعة "، نصبت على المفعول معه.
__________
(1) في (ط):" مما ".
(2) في (ط):" وقد ".
(3) قوله:" عنه " ليس في (ط).
(4) في (ط):" لمقارنتهما ".(3/412)
وقوله:" كان إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش "، هذا حكم المحذر والمنذر، وأن تكون حركات الواعظ والمذكّر، وحالاته في وعظه بحسب الفصل الذي يتكلم فيه ومطابق له، حتى لا يأتى بالشيء وضده، وأما اشتداد غضبه فيحتمل أنه عند نهيه عن أمر خولف فيه شرعه، أو يريد أن صفته صفة الغضبان عند إنذاره.
وقوله:« أما بعد »، ترجم البخاري ترجمته على هذه الكلمة في الخطبة، وهو فصل بين الكلامين وبين الثناء على الله والحمد لله وبين ما يريد الخطيب أن يتكلم به، وقد قيل في قوله تعالى:{ وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب }، هو قوله:« أما بعد »، وقيل فيه غير هذا، وأولي الأقوال في الآية أنه الفصل بين الحق والباطل كما قال تعالى:{ إنه لقولٌ فصل ( وما هو بالهزل }.
وقوله:« خيرالهدي هدي محمد »، رويناه هنا بضم الهاء فيهما وفتح الدال، ومعناه: الدلالة، والهدى هديان: هدى دلالة وإرشاد وبيان وهو الذي يضاف إلى الرسول(1) والقرآن والعباد، قال الله تعالى:{ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم }، و { فاهدوهم إلى صراط الجحيم }، و { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم }، و { هدىً للمتقين }. والهداية الثانية: بمعنى التأييد والعصمة والتوفيق وهي التي تفرد بها جل جلاله وتقدست أسماؤه، قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -:{ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء }، وحملت القدرية الهدى حيث وقع على البيان بناء على أصلهم الفاسد في القدر. وقول الله تعالى:{ والله يدعو إلى دار السّلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }، وتفريقه بين الدعاء والهدى يرد قولهم.
وروينا الحرف في غير الكتاب:« خير الهدي هدي محمد »، بفتح الهاء فيهما وسكون الدال، وفي هذا الباب أدخله الهروي وفسره بالطريق، أي: إن أحسن الطريق طريق محمد، يقال: فلان حسن الهدى، أي المذهب في الأمور كلها والسيرة، ومنه: "اهدوا هدي عمار ".
__________
(1) في (ط):" الرسل ".(3/413)
وقوله:« أنا أولى بكل مؤمن من نفسه » يكون أولى هنا بمعنى أقرب، كما قال بعضهم في قوله تعالى:{ من الذين استحق عليهم الأوليان }، أي: الأقربان، وقد تكون أولى، بمعنى أحق من بعضهم بعضًا ومن أنفسهم بهما(1).
وقوله:« من ترك دينًا أوضياعًا فإلىّ وعليّ(2)»، قال الإمام: قال النضر بن شميل: الضياع: العيال، قال ابن قتيبة: هو مصدر ضاع يضيع ضياعًا، ومثله مضى يمضي مضًّا، وقضى يقضي قضاء. أراد: من ترك عيالاً عالة وأطفالاً(3)، فجاء بالمصدر هنا نائبًا عن الاسم كما يقول: وترك فقرًا، أي: فقراء، والضياع بكسر الضاد جمع ضائع، مثل جائع وجياع، وفي الحديث: « فسدّ(4) الله عليه ضيعته ». قال الهروي: ضيعة الرجل ما يكون منه معاشه من صناعة أوغلة وغيرها، وكذلك أسمعنيه الأزهري. قال شمر: ويدخل فيها الحرفة والتجارة، ويقال: ما(5) ضيعتك ؟ فيقول: كذا.
قال القاضي: اختلف الشارحون في معنى هذا الحديث، فذهب(6) بعضهم إلى أنه ناسخ لتركه الصلاة على من مات وعليه دين.
__________
(1) في (ط):" بهم ".
(2) في (ط):" أو علي ".
(3) في (ط):" أو أطفالاً ".
(4) في (ط):" أفسد ".
(5) في (ط):" نما ".
(6) في (ط):" فمذهب ".(3/414)
وقوله:« صلوا على صاحبكم »، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكفل بديون أمته والقيام بمن تركوه، وهو معنى قوله هذا عنده، وقيل: ليس بمعنى الحمالة، لكنه بمعنى الوعد بأن الله ينجز له ولأمته ما وعدهم من فتح البلاد وكنوز كسرى(1)، فيقض منها ديون من عليه دين،[ وهو معنى قوله هذا عنده، وقيل: ليس بمعنى الكفالة ](2)، وحجة هذا حديث أبي هريرة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرى الرجل(3) المتوفى عليه الدين فيسأل:« هل ترك لدينه قضاء(4)»: فإن قيل: إنه ترك وفاء صلى عليه، فلما فتح الله الفتوح قال:« وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من توفى وترك دينًا فعليّ، ومن ترك مالاً فلورثته ».
وهذا مما يلزم الأئمة من الفرض في مال الله للذرية وأهل الحاجة، والقيام بهم وقضاء ديون محتاجيهم.
وقوله:" كانت خطبته يحمد الله ويثني عليه "، هو من سنة الخطبة أن يكون أصلها(5) حمدًا وثناءً على الله.
__________
(1) في (ط):" كسرى وقيصر ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ك).
(3) في (ط):" يؤتى بالرجل ".
(4) في (ط):" فضلاً ".
(5) في (ط):" أصله ".(3/415)
وقوله:" ما سمعت مثل(1) كلماتك هؤلاء، لقد بلغن قاعوس البحر "، كذا وقع في أكثر النسخ، وكذا عند شيوخنا بالقاف، من طريق العذري والسمرقندى والطبري وابن ماهان، ووقع عند أبي محمد بن سعيد:" تاعوس" بالتاء باثنتين من فوقها، ورواه بعضهم:" ناعوس " بالنون. وذكره أبو مسعود الدمشقي في كتاب أطراف الصحيحين، وأبو عبد الله بن أبي نصر الحميدى في كتاب جمع الصحيحين:" قاموس " بالميم، وقال بعضهم: هو الصواب. قال أبو عبيد: قاموس البحر: وسطه، وفي "الجمهرة": لجته، وفي كتاب "العين": قال فلان قولاً بلغ قاموس البحر، أي: قعره الأقصى، وهذا المعنى بين في هذا الحديث ونحوه. قال الحربي: قاموس البحر قعره. وقال أبو مروان بن سراج: قاموس فاعول من قمسته إذا غمسته(2)، فقاموس البحر لجته التي تضطرب أمواجها ولا تستقر مياهها، كان بعض أجزائه تغمس بعضًا(3)، وهي لفظة عربية صحيحة.
قال القاضي: ومنه ما جاء في الحديث في المرجوم: إنه ليقمس(4) في أنهار(5) الجنة"، "وأن ملكًا موكل بقاموس البحار ". قال أبو علي الجياني: لم أجد في هذه اللفظة ثلجًا. وقال لي شيخنا أبو الحسين: قاعوس البحر صحيح في رواية من رواه أيضًا بمعنى قاموس، كأنه من القعس وهو تطامن الظهر وتعمقه، يرجع إلى عمق البحر ولجته الداخلة. وذكر أبو عمر المطرزى في كتاب اليواقيت: القاعوس الحيّة، فعلى هذا - إن صحت الرواية - يكون معناه بلغن حيوان البحر وحياته وحيتانه.
جاء في الحديث: " كانت خطبته قصدًا وصلاته قصدًا "، أي متوسطة بين الطول والقصر، ومثله القصد من الرجال، والقصد في المعيشة مجانبة السرف، وهي سنة الخطبة، لئلا يطول على الناس، ولما في تطويلها من التصنع بالكلام والتشدق في الخطاب،ولأمره - عليه السلام -:" من صلى بالناس فليخفف ".
__________
(1) في (ط):" من ".
(2) في (ط):" لبسته ".
(3) في (ط):" مغمس بعضها ".
(4) في (ط):" يتغمس ".
(5) في (ط):" رياض ".(3/416)
وقولهم لعمار وقد خطب فأبلغ وأوجز: لقد أبلغت فأوجزت، فلو كنت تنفست " أي أطلت الكلام شيئًا ووسعته، يقال: نفس الله في مدته، أي أطالها.
وقوله: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:« طول صلاة الرجل، وقصر خطبته، مَئِنَّة من فقهه »، كذا روايتنا فيه هنا مقصور مشدد النون(1)، من طريق شيخنا أبي بحر، وكذا عند الحذاق منهم والمتقنين وهو الصواب. ووقع في رواية القاضي الصدفي وابن أبي جعفر "ماينة(2)" بالمد وآخره هاء(3)، وهو غلط، وكذلك كل ضبط خالف الأول.
قال الإمام: قال الأصمعي: سألني شعبة عن هذا الحرف فقلت: هو كقولك علامة ومخلقة ومجدرة(4). قال أبو عبيد: يعني أن هذا مما يستدل به على فقه الرجل. قال أبو منصور: جعل أبو عبيد الميم فيه أصلية وهي ميم مفعلة، وإن كان كذلك فليس هو من هذا الباب، هذا الذي نقلناه عن الهروي في حرف الميم، وزاد في حرف الهمزة مع النون أن أبا عبيد أنشد للمرار:
فتهامسوا سرًّا وقالوا عرِّسوا
من غير تمئنة لغير معرَّس
وذكر الهروي عن الأزهري أن تفسير أبي عبيد صحيح، واحتجاجه بالبيت غلط ؛ لأن الميم في التمينة أصلية وهي في مئنة ميم مفعلة، وليست بأصلية، ومعنى قوله: "من غير تمئنة " أي من غير تهيئة، ولا فكر فيه، يقال(5): أتاني فلان وما مأنت مأنه وما شأنت شأنه، أي لم أفكر فيه ولم أتهيأ له.
قال القاضي: قال لي أبو الحسين شيخنا: الميم في " مئنة " أصلية. ووزنها فعلة من مأنت إذا شعرت، وقاله أبوه أبو مروان.
__________
(1) في (ط):" النون وآخره تاء ".
(2) في (ط):" ما به ".
(3) قوله:" وآخره هاء " ليس في (أ).
(4) في (ط):" مخدرة ".
(5) في (أ):" يقال أولم ".(3/417)
وقوله في هذا الحديث(1):« فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة »، غير مخالف لقوله في(2) الحديث(3):" كانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا »، وذلك أن كل واحدة قصد في بابها، إذ سنة الخطبة التقصير فكان تقصيره - عليه السلام - فيها قصدًا غير مخل بها، وسنة الصلاة التطويل، وتطويله - عليه السلام - قصد فيها غير مخرج لها بالتطويل إلى أذى من خلفه، ولكل شيء عدل وقصد في ذاته، وإن خالف قصد أحدهما(4) الأخرى(5).
وقوله:« إن من البيان سحرًا(6)»، قال أبو عبيد: هو من الفهم وذكاء القلب مع اللسان، وقيل في قوله تعالى:{ علّمه البيان }، هو الفصل بين كل شيئين، وفيه تأويلان:
أحدهما:على وجه الذم، قيل: هو إمالة القلوب وتحريكها وصرفها بمقاطع البيان إليه حتى تكتسب به من الإثم ما يكتسب به من السحر(7). واستدل هؤلاء بإدخال مالك الحديث في "موطئه" في باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله، وأنه مذهبه في تأويل الحديث،
والثانى: المدح، وهو أن الله تعالى قد امتن بتعليم البيان على عباده بقوله:{ علّمه البيان }، وشبهه بالسحر لميل القلوب إليه، وأصل السحر الصرف، فالبيان يصرف القلوب ويميلها إلى ما تدعو إليه.
وهذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم وقال: تفرد به ابن أبجر عن واصل عن أبي وائل قال: خطبنا عمار، وخالفه الأعمش وهو أحفظ لحديث أبي وائل فحدث به، عن أبي وائل، عن عبد الله.
__________
(1) في (أ):" الحديث كانت صلاته ".
(2) قوله:" في " ليس في (أ).
(3) في (ط):" الحديث الآخر ".
(4) في (أ):" أحدهما ".
(5) في (ط):" الآخر ".
(6) في (ط):" لسحرًا ".
(7) في (ط):" يكتسب بالسحر ".(3/418)
وقوله في الذي خطب فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى:« بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله »، أنكر - عليه السلام - جمع اسمه مع اسم الله في كلمة وضمير واحد ؟ لما فيه من التسوية ؟ تعظيمًا لله تعالى، وقد قال - عليه السلام -:« لا يقولن أحدكم ماشاء الله وشاء فلان، ولكن ثم شاء فلان »، وذلك لما في معنى "ثم" من التراخي، بخلاف الواو الذي تقتضى التسوية، وإن كان الله تعالى قد شرف نبينا بذكره مثل ذلك في حقه، وعدت من خصائصه، كقوله:{ أطيعوا الله والرّسول} و { آمنوا بالله ورسوله }، وشبه هذا.
وفيه: توقي(1) الكلام - المجمل والمحتمل - في حق الله، والتحفظ من إيراد أمثاله في الخطب والمقامات المشهودة وهذا بيِّن في معنى الحديث، وعليه إنكاره - عليه السلام - وقد روي أن إنكاره - عليه السلام - وقوفه على قول:" ومن يعصهما " أو احتج به المفسرون على تخطئة الوقوف على غير التام، وما رده - عليه السلام - في عليه الكتاب عليه، وهو أصح، يخالف هذه الرواية.
وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى:{ إن الله وملائكته يصلون على النبي }، هذا الضمير راجع إلى(2) نفسه والملائكة، فأجازه بعضهم، ومنعه آخرون، لعلة التسوية والتشريك، وخصوا الضمير بالملائكة، وقدّروا الآية أن الله يصلى والملائكة يصلون.
وقوله: " فقد غوى "، وقع في روايتي مسلم بفتح الواو وكسرها، والصواب الفتح هنا من الغى، وهو الانهماك في الشر. وقول بنت حارثة وأخت عمرة:" ما أخذت ق إلا من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤ بها كل جمعة على المنبر "، وذلك - والله أعلم - لما فيها من أمر الآخرة والموت والمواعظ الشديدة.
__________
(1) في (ط):" وفي ".
(2) في (ط):" على ".(3/419)
وقولها: في سند هذا(1) الحديث: عن يحيى بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، كذا هو في النسخ، وفي رواية شيوخنا وهو صواب. وقال بعض المتعقبين من شيوخنا: صوابه ابن أسعد بن زرارة، وغلط في رده، والصواب غير ما قاله، وإنما أوقعه فيه غلط ما في كتاب أبي عبد الله بن البتع فيه، فاتبعه وظن أنه الصواب، وذلك أن الحاكم قال: صواب هذا أسعد، ووهم من قال فيه: سعد، وحكاه عن البخاري، وكذا وقع في النسخ المروية عندنا عن الحاكم، فإن كان لم يهم الرواة عن ابن(2) البيع فهو الواهم، والذى حكاه عن البخاري غلط، ضده في كتاب التاريخ، وإنما قال البخاري في نسبه: سعد، ثم قال: وقال بعضهم: أسعد، ووهم، فانقلب الكلام في كتاب أبي عبد الله الحاكم، وإنما أسعد أخوه أبو أمامة أسعد بن زرارة سيد الخزرج، وأما أخوه هذا جدّ يحيى وعمرة فهو سعد وأدرك الإسلام، ولم يذكره كثير في الصحابة لأنه ذكر في المنافقين، وقال أبو عبد الله الحميدي: ذكر بعضهم في سند هذا الحديث عمرة بنت عبد الرحمن، يعني حديث يحيى بن عبد الرحمن، قال: وذلك وهم، ولم يذكر ذلك البرقاني ولا الدمشقي. وإنكار عمارة بن رؤيبة رفع اليدين في الخطبة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزد على الإشارة بالمسبحة. اختلف في هذا، فكره قوم من السلف رفع اليدين في، الخطبة والدعاء، وهو قول مالك، وحجة من قال ذلك هذا الحديث، وأجازه آخرون، وهو قول بعض أصحابنا، وحجتهم رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه ومدّها في الخطبة يوم الجمعة حين استسقى.
__________
(1) قوله:" هذا " ليس في (أ).
(2) في (أ):" ابل ".(3/420)
قوله: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، إذ جاء رجل فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:« أصليت يا فلان !» قال: لا، قال:« قم فاركع الركعتين »، ثم قال في الحديث الآخر: « إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليركع ركعتين » قد تقدم كلام(1) أبي عبدالله في(2) طرق منه أول الباب، ونزيد هنا ما لم يذكره، فنقول: ذهب مالك والليث وأبو حنيفة والثوري وأصحابهما(3) وجمهور من السلف من الصحابة والتابعين: أنه لا يركع، وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي، وحجتهم الأمر بالإنصات للإمام، وقول ابن شهاب: خروج الإمام يقطع الصلاة، ولم يخبر عن رأيه(4)، وأن ذلك سنة وعمل مستفيض في زمن الخلفاء، ولقوله للذى رآه يتخطى رقاب الناس:« اجلس فقد آذيت »، ولم يأمره بركوع، وتأولوا حديث الداخل أنه إنما أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان عريانًا أتى(5) عليه خرقة(6)، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقوم يصلي فيراه الناس، وأنه فعل به ذلك في الثانية وفي(7) الثالثة، وأمر الناس في الثالثة أن يتصدقوا بكسوة. رواه أبو سعيد الخدري، وأنها قضية في عين ورجل مخصوص ولعلة، لكن يعارضه الحديث الآخر: أمره - عليه السلام - بذلك من جاء يوم الجمعة، وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وفقهاء أصحاب الحديث إلى جواز ذلك، وحجتهم هذه الأحاديث، وقاله الحسن وأبو ثور، وقال الأوزاعي: إنما يركعهما من لم يركعهما في بيته على ظاهر الحديث، ورأى بعض المتأخربن من أصحاب الحديث استعمال الحديثين والتخيير للرجل بين الوجهين.
__________
(1) في (ط):" كلام الإمام ".
(2) في (ط):" على ".
(3) في (ط):" وأصحابهم ".
(4) في (ط):" رواية ".
(5) في (ط):" إنما ".
(6) في (ط):" خرقة خلق ".
(7) قوله:" في " ليس في (ط).(3/421)
ومضمون هذه الأحاديث كلها أن الجمعة في الجامع لا يبرز بها إلى الصحراء(1)، ولا تصلى في غير مسجد، وأنه من شروطها، وهذا إجماع من العلماء إلا شيء حكاه القزوينى تأويلا على المذهب أنه ليس من شرطها، وقد أنكره شيوخنا.
وقوله:" فأتي بكرسي، حسبت قوائمه حديدًا فجلس عليه "، كذا للجلودي ولابن ماهان، وهو الصواب، وكذا ذكره ابن أبي خيثمة: "خلت"، وهو بمعنى حسبت، وقد فسره في كتاب ابن أبي شيبة حميد فقال: أراه كان من عود أسود فحسبته حديدًا(2). ووقع في كتاب ابن الحذاء: "بكرسي خشب "، قالوا: ويحتمل أنه تغيير من حسبت، وليس تبعد صحة هذه الرواية: لأنه موافق للرواية الأولى وذكر ابن قتيبة هذا الحديث وقال: فيه:" بكرسي خُلب " قال: وهو الليف، وهذا تصحيف إنما هو "خلت" كما رواه ابن أبي شيبة، وبمعنى:" حسبت" الذي رواه مسلم.
وقوله في هذا الحديث: " رجل غريب يسأل عن دينه، لايدرى ما دينه"، فيه التلطف في سؤال العالم.
__________
(1) في (ط):" الصحن ".
(2) في (ط):" فحسبته من حديد ".(3/422)
وقوله: " فأقبل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترك خطبته "، وقوله: " فجعل يعلّمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته "، فيه المبادرة إلى الواجبات، إذ سأل نبيه عن دينه، فلو تركه حتى يتم الخطبة والصلاة لعل المنية تخترمه ؛ ولأن الإيمان على الفور. وفيه دليل أن مثل هذا كله من التعليم والأوامر والنواهي في الخطب لا يقطعها، وليس(1) بلغو فيها، ولعل جلوس النبي - صلى الله عليه وسلم - على الكرسي وتعليمه له لم يطل جدًّا، وإن طال فلعله ابتداء الخطبة، كما قاله العلماء. وفيه جواز الجلوس على الكراسي، لاسيما في مثل ذلك وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دنا من المذكور ونزل عن المنبر، وترك القيام عليه، وجلس إليه ليقرب منه ويسائله عن دينه، ويتمكن من مباحثته عنه، وارتفع على الكرسي ليسمع كلامه غيره ويشاهدوا محاورته إياه. وفيه إباحة الكلام في الخطبة لأمر يحدث، وأنه غير مفسد للخطبة، وكذلك جواز الإجابة له وأن ذلك ليس بلغو، وقد تقدم من هذا. وقال الخطابي عن بعض العلماء:إن الخطيب إذا تكلم في خطبته أعادها.
وذكر مسلم قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الجمعة بسورة الجمعة، و{ إذا جاءك المنافقون }،[ أما سورة الجمعة - والله أعلم - فلما فيها من أحكامها وعلمها، وأما سورة:{ إذا جاءك المنافقون }](2)، فلتوبيخ من يحضرها منهم إذ كان أمكن ما يجدهم لاستماعهم، وقل من كان يتخلفها منهم.
__________
(1) في (ط):" وليست ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).(3/423)
وذكر في سند هذا الحديث: ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، ثنا(1) سليمان بن بلال، عن جعفر، عن أبيه، عن ابن أبي رافع. كذا لهم، وعند العذري في كتاب الصدفي وبعض النسخ: الماهانية: عن أبي رافع، وهو وهم، والصواب ابن أبي رافع واسمه عبيد الله، وهو ابن أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء مسمى(2) في حديث قتيبة بعده، وقراءته أيضًا في الركعة الثانية:{ هل أتاك حديث الغاشية }، لما فيها من الوعظ، وأحوال أهل الآخرة، والتذكير، وأما قراءته بـ{ سبح } والغاشية في العيد وفي الجمعة إذا اجتمعا في يوم على ما ذكره في الحديث، فلعله لتخفيف صلاة الجمعة لينصرف الناس الذين يشهدون(3) العيدين من أهل العوالي إلى منازلهم، ليشهدوا بقية يوم عيدهم مع من تركوه من عيالهم.
وذكر مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة بـ" الم تنزيل السجدة" في الأولى، و{ هل أتى على الإنسان } في الثانية، قال الإمام: كره مالك(4) في المدونة أن يقرأ الإمام بسجدة في صلاة الفرض. واعتل بأنه يخلط على الناس صلاتهم، وقال بعض المتأخرين من أصحابه: لأن سجدات الصلاة محصورة بالشرع، فزيادة سجدة اختيارًا منافاة للتحديد في السجود، وقيل: إن ذلك يجوز في صلاة الجهر، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ وسجد وهو إمام كان حجة لهذا القول.
__________
(1) في (ط):" عبدالله بن سلمة ثنا ".
(2) قوله:" مسمى " ليس في (ط).
(3) في (ط):" شهدوا ".
(4) قوله:" مالك " ليس في (ط).(3/424)
قال القاضي: ذكر مسلم أحاديث الصلاة بعدالجمعة، فذكر من رواية أبي هريرة أمره أن يصلي بعدها أربعًا أيضًا(1)، وفي رواية عنه:« فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت »، وفي رواية أخرى: «من كان منكم مصليًّا بعد الجمعة فليصل أربعًا » ورواية ابن عمر:" أنه كان - عليه السلام - كان لا يصلي بعدها حتى ينصرف فيركع(2) ركعتين في بيته إذا انصرف "، وفي رواية معاوية: " إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج"، قال الإمام: لعله أشار إلى كراهة الاقتصار على ركعتين بعدها، لئلا تلتبس بالظهر التي هى أربع، وهذا التأويل على رواية:" من كان منكم مصليًّا، وأما رواية:" إذا صلى فليصل "، فلعله يكون معناه: إن شاء التنفل، بدليل الحديث الآخر.
قال القاضي: اختلف العلماء في هذا، فأخذ مالك برواية ابن عمر، وجعله في الإمام أشدّ ووسع لغيره في الركوع في المسجد، مع استحبابه ألا يفعلوا، ووجه ذلك - والله أعلم - لئلا يتطرق أهل البدع إلى صلاتها ظهرًا أربعًا، أو يظن جاهل ممن رآه يتنفل بعدها بركعتين أنها ظهر، وروي عن جماعة من السلف أنه يصلى بعدها ركعتين، ثم أربعًا، وهو مذهب الثوري وأبي يوسف، لكن استحب أبو يوسف تقديم الأربع على الاثنين، واستحب الشافعي التنفل بعدها وإن كثر أفضل وقال أبو حنيفة وإسحاق: فصل أربعًا لا تفصل بينهن. وحجة هؤلاء الحديث، ومن جهة النظر العلة المتقدمة، لئلا يظن إذا صلاها ركعتين إنها ظهر، وخيره أحمد في ركعتين أو أربع.
__________
(1) قوله:" أيضًا " ليس في (ط).
(2) في (ط):" فركع ".(3/425)
ووقع في الحديث عن يحى بن يحيى: قرأت على مالك، وذكر حديث ابن عمر المتقدم، وفي آخره: قال يحيى بن يحيى: أظنه قرأت فيصلي أو البتة، هذا لفظ يشكل ظاهره، وتفسيره: أنه شك هل قرأ على مالك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلي ركعتين، أو غير هذا اللفظ - يركع - أو سقط من كتابه لفظة "يصلي"، ثم غالب ظنه ووقوع هذه اللفظة وشهرتها في حديث مالك، قال: " أو البتة "، أي أنا متردد بين الظن واليقين في هذه اللفظة تحريًّا في الأداء، رحمه الله.
وقد جاء له في الكتاب مثل هذا في خبر جويرة(1)، حتى غلط في ذلك كثير من أهل هذا الشأن من أهل المشرق كما سنذكره في موضعه من الكتاب إن شاء الله، وكان - رحمه الله - مع علمه وحفظه كثير التشكك [في الألفاظ لورعه وتقواه](2)، حتى لقب الشكاك.
وقوله:" صليت معه الجمعة في المقصورة ": فيه عملها في الجوامع، وأول من عملها - فيما قيل - معاوية من الخلفاء، حين ضربه الخارجي فاستمر العمل عليها لهذه العلة من التحصين على الأمراء، وأما بغير ذلك فلا ينبغى فعلها، وإن كان بعض المتأخرين أجازها، وذلك خطأ، لتفريقها الصفوف وسترها الإمام عمن خلفه، وإنما استحب للعلة المتقدمة.
واختلف الناس في الصلاة فيها، فأجازه كثير من السلف، وصلوا فيها، منهم الحسن، والقاسم بن محمد، وسالم، وغيرهم، وأباه(3) آخرون وكرهوه، وروي عن ابن عمر أنه إذا حضرت الصلاة وهو في المقصورة خرج عنها إلى المسجد، وهو قول الشعبى وأحمد، وإسحاق، إلا أن إسحاق قال: فإن صلى أجزته، وقيل: هذا إذا كانت مباحة، فإن كانت محجزة إلا على آحاد من الناس لم يجز فيها صلاة الجمعة ؛ لأنها بتحجيزها خرجت عن حكم الجامع المشترط في الجمعة.
كتاب صلاة العيدين
__________
(1) في (ط):" جويرية ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(3) في (ط):" وأجازه ".(3/426)
قال القاضي: صلاة العيدين من السنن عندنا وعند كافة العلماء، وذكر عن أبي حنيفة أنها واجبة،وقال الإصطخري: هى فرض، وسمى العيد عيدًا لأنه يعود ويتكرر لأوقاته، وقيل: بل بعوده بالفرح والسرور على الناس، وقيل: تفاؤلاً لأن يعود على من أدركه، كما سميت القافلة في ابتداء خروجها تفاؤلاً لقفولها سالمة ورجوعها.
قوله:" شهدت صلاة الفطر مع نبى الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب: هذا هو المتفق عليه من مذاهب علماء الأمصار وفقهاء الفتوى، ولا خلاف بين أئمتهم فيه، وهو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الآثار الصحيحة، والخلفاء الراشدين بعده، إلا ما روى أن عثمان شطر خلافته، قدّمها، إذ رأى من الناس من تفوتهم الصلاة، فقال: لو قدّمنا الخطبة ليدركوا الصلاة، وقد روى مثل هذا عن عمر وأنه أول من قدّمها لهذه العلة ولا يصح عنه، وقيل: أول من فعل ذلك معاوية، وقيل: أو لمن فعل ذلك مروان، يعني بالمدينة، وقد ذكر مسلم خبره مع أبي سعيد. وقال ابن سيرين: إن زيادا أول من فعله، يعني بالبصرة، وذلك كله أيام معاوية لأنهما من عماله، وفعله ابن الزبير آخر أيامه. وقد قال أصحابنا: إنه إن بدأ بها أعادها بعد الصلاة، وقد علل بعضهم فعل بنى أمية وإطباقهم على ذلك: أنهم كانوا أحدثوا في الخطبتين من لعن من لا يجب لعنه ما أحدثوه، فكان الناس إذا أكملت الصلاة نفروا وتركوهم، فقدموا الخطبة لهذا.(3/427)
وأما قوله - عليه السلام - في غير هذا الحديث: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر فقال: «أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر »، ظاهره أن الخطبة قبل الصلاة، وبهذا ترجم عليه النسائي، وليس كذلك، فقد فسره حديثه الآخر من رواية البراء، ذكره البخاري: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأضحى فصلى ركعتين ثم أقبل علينا بوجهه فقال:« إن أول نسكنا في يومنا أن نبدأ بالصلاة»، وذكر الحديث، فقد فسر ما أجمل في الحديث الآخر، وأن العرب توقع الماضي موضع المستقبل، فأخبر - عليه السلام - أن هذا هر ترتيب نسكهم وعملهم في ذلك اليوم، وقد أطلق النسك هنا على الصلاة، وهو صحيح. والنسك: الطاعة، وكل شيء يتقرب به إلى الله فهو نسك، ومناسك الحج وغيره: مواضع العبادات. وصلاة العيدين سنة مؤكدة،والخطبة لهما سنة لا يسع تركها وهي عندنا لازمة لمن تلزمه الجمعة، وهو قول كافة العلماء على أصولهم في الجمعة، وأبو حنيفة على أصله أيضًا أنها لا تجب إلا على من في المصر، وأما نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته إلى النساء إذ رأى أنه لم يسمعهن فذكهرهن، فهذا كان أوّل الإسلام وتأكيد بيعة الإسلام، وفي حقه - عليه السلام - وفي ابتداء التعليم وخاص له، وليس على الأئمة فعله، ولا يباح لهم قطع الخطبة بنزول لوعظ النساء ومن بعد من الرجال، وقول عطاء في "الأم": إن ذلك لحق عليهم - يعني الأئمة - وما لهم لا يفعلون ذلك، غير موافق عليه. وقد قال - عليه السلام -:« ليبلغ الشاهد الغائب »، ولعل فعله كان لتأكيد البيعة كما قال حين تلا عليهم الآية:« أنتن على ذلك »،[ الحديث.
وفيه كون النساء بمعزل عن الرجال وبعد منهم، وغيرمختلطات بهم ](1).
وقوله:" فجلس الرجال "، كأنهم قاموا لينفضوا عند نزوله من المنبر لوعظ النساء ظنا منهم أنه أكمل خطبته.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).(3/428)
وقوله:" فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم "، وفي حديث آخر:" فجعلت المرأة تلقي سخابها وخرصها "، قال الإمام: قال ابن السكيت: الفتخة عند العرب تلبس في أصابع اليد، وجمعها فتخات وفتخ. وقال أبو نصر عن الأصمعي: هى خواتيم لا فصوص لها، ويقال أيضًا فتاخ، والسخاب: خيط فيه خرز، وجمعه سخب، مثل كتاب وكتب.
قال القاضي: قال البخاري: هي قلادة من طيب أو مسك، هو(1) قول أهل اللغة، قالوا: أو قرنفل ليس فيها من الجوهر شيء، وقيل: هو من المعاذات يلبسه الصبيان والجواري، وفي البخاري عن عبد الرزاق: الفتخ الخواتيم العظام، وفي العين أيضًا الفتخ جلجل لاجرس له، وفي الجمهرة: أن الفتخ قد يكون لها فصوص، قال ثعلب: وقد يكون في أصابع الرجل، ومنه قول الشاعر:
تسقط منه فتخي في كمي
?وقوله: " من أقرطتهن،: قيل: صواب الكلام: من قرطتهن، وإنما يجمع القرط: قرطة وأقرا ط، وقراط وقروط.
قال القاضي: ولا يبعد أن يكون أقرطة جمع جمع، جمع قراط، لاسيما وقد جاء في الحديث: قال ابن دريد: كل ما علق من شحمة الأذن فهو قرط، كان من ذهب أو خرز. والخرص قال شمر: الحلقة الصغيرة من الحلي خرصٌ.
وقوله: " وبلال قايلٌ بثوبه ": كذا روايتنا عن شيوخنا بالياء باثنتين تحتها، أي يثير به، وفي بعض الروايات " قابل، بالباء بواحدة، كأنه بمعنى قبول ما دفعن له، والأول أوجه للكلام. قال الإمام: تعلق بعض الناس بهذا الحديث في إجازة هبة المرأة مالها من غير اعتبار إذن الزوج ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسأل: هل لهن أزواج أم لا ؟
__________
(1) في (ط):" وهو ".(3/429)
قال القاضي: قد يقال: إنه لا حجة في هذا ؛ لأن الغالب من ذوات الأزواج حضور أزواجهن في ذلك المشهد، وتركهم الإنكار لفعلهن إذن لهن، وتسويغ لفعلهن، وقيل: فيه وجوب الصدقة في الحلي، وجواز تقديم الزكاة إذ لم يسألهن عن حولها(1)، وهذا لا حجة فيه، والظاهر أنه صدقة تطوع، ولذلك قال بعضهم: فيه حجة ألا زكاة فيه، لقوله: " ولو من حليكن "، ولا يقال: هذا في الواجب، وقيل: فيه حجة من يرى جواز فعل البكر، ولا حجة فيه أيضًا، إذ لم يأت فيه عن بكر أنها تصدقت معهن، ولا حضرت ذلك المشهد. وفيه أن المعاطاة في العقود تقوم مقام القول الصريح ؛ لأن النساء ألقين ما ألقين إذ طلبت منهن الصدقة، فكانت صدقة وإن لم يسمها صدقة. وفيه أن جواب الواحد من الجماعة عنهم، وهم سكوت غير منكرين عليه، أو إخباره عنهم كنطق جميعهم ؛ لقول المرأة:"! نعم " عن جميعهن، إذ قال لهن:« أنتن على ذلك »، فاكتفى - عليه السلام - بقولها.
وقوله:" فقامت امرأة واحدة " إلى قوله: " لا يدرى حينئذ من هي"، قال الإمام: كذا وقع في الكتاب عند جميع الرواة:" لا يدرى حينئذ [من هي](2)"، وغيره يقول:" لا يدرى حسن من هي"، وكذلك ذكره البخاري عن إسحاق بن نصر عن عبد الرزاق، وهو الحسن بن مسلم، ولعل قوله "حينئذ"، تصحيف.
قال القاضي: هو تصحيف لا شك فيه، والحسن بن مسلم هو راوي الحديث في كتاب مسلم عن طاوس عن ابن عباس.
__________
(1) في (ط):" حلولها ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).(3/430)
وقوله في الحديث الآخر:" فقامت امرأة من سِطةِ النساء "، قال الإمام: قيل في تفسير قوله تعالى:{ قال أوسطهم }، أي: أعدلهم وخيرهم، ومنه قوله تعالى:{ أمة وسطًا }، أي: عدلاً خيارًا، ويقال: فلان من أوسط قومه، وأنه لواسطة قومه ووسط قومه، أي من خيارهم وأهل الحسب فيهم، وقد وسط وساطة وسطة، وقول الله تعالى:{ فوسطن به جمعًا }، أي: فتوسطن(1) المكان، يقال: وسط البيوت يسطها إذا نزل في وسطها.
قال القاضي: كذا وقع هذا الحرف عند عامة شيوخنا وسائر الرواة، إلا فيما أتى به الْخُشني عن الطبري، فإنه ضبطه: "واسطة، وهو قريب من التفسير الأول، لكن حذاق شيوخنا زعموا أن هذا الحرف مغير في كتاب مسلم، وأن صوابه: "من سفلة الناس "، وكذا رواه النسائي في "سننه" وابن أبي شيبة في "مصنفه"، وذكره من طريق آخر: فقامت امرأة ليست من علية النساء، وهذا ضد التفسير المتقدم، ويعضده قوله بعد:" سفعاء الخدّين "، وهو شحوب وسواد في الوجه.
قال الإمام: قال الهروي في تفسير قوله [في الحديث الآخر](2):" أنا وسفعاء الخدّين كهاتين يوم القيامة "، أراد أنها بذلت تناضف وجهها - أي محاسنه - حتى اسودت إقامة على ولدها بعد وفاة زوجها لئلا تضيعهم، والأسفع: الثور الوحشي الذي في خدّه سواد.
وفي حديث النخعي: ولقيت غلامًا أسفع.... قال الطبي: الأسفع: إذا أصاب خده لون يخالف سائر لونه من سواد.
قال القاضي: وقوله:« يكثرن الشكاة » مثل قوله:« يكفرن الإحسان»، في الحديث الآخر، أي: ينكرنه ويسترنه. و" الشكاة " التشكي بالقول، وهي الشكوى أيضًا، و "يكفرن العشير " قيل: هو الزوج، والعشير-أيضًا- المخالط، فيحتمل أن يريد به الزوج أو كل من يعاشرها ويخالطها من زوج وغيره، قال الخليل: يقال: هذا عشيرك وشعيرك، على القلب.
__________
(1) في (ط):" فوسطن ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).(3/431)
وقوله:" لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى "، فلا خلاف بين فقهاء الأمصار في ذلك أنه لا أذان ولا إقامة للعيدين، وإنما أحدث الأذان معاوية، وقيل: زياد، وفعله آخر إمارة ابن الزبير، والناس على خلاف ذلك، وعمل أهل المدينة ونقلهم المتفق عليه برد ما أحدث.
وقوله: " كان يخرج يوم الفطر ويوم الأضحى ": حجة للبروز للعيد في الصحراء، وهو سنة، والذي عليه عمل جماعة المسلمين، إلا لأهل مكة، فيصلي في المسجد، أو من عذر.
وقول أبي سعيد:" فخرجت مخاصرًا مروان بن الحكم "، أي: ماشاه ويده في يده، فقال في هذا: خاصرني(1).
وقوله:" فإذا كثير بن الصلت(2) بنى منبرًا من طين ولبن ": وقع في غير موضع أن كثيرًا إنما بناه قبل هذا لعثمان، وظاهر هذا اللفظ يعطي إحداثه الآن، وفيه جواز خطبة العيد على المنبر، ومنازعة أبي سعيد له ليرده للصلاة قبل الخطبة.
وقوله: " الابتداء بالصلاة " أمر له بالمعروف، وفيه دليل على أن ذلك كان معهودا عندهما، وتركه حين أبي. وقوله: " لا تأتون بخير مما أعلم"، تصريخ بالحق وإن لم يكن في الواجبات، وأما قوله:" ثم انصرف "، فظاهره - والله أعلم - انصرافه عن جهة المنبر إلى جهة الصلاة، ولم يأت أنه انصرف عن المصلى، ولم يصل معه، بل دليل الحديث الآخر الذي خرجه البخاري: "أنه صلى معه وكلمه في الأمر بعد الصلاة، ولو كان عنده من المنكرات الواجبة، وأن الصلاة لا تجزئ مع تقديم الخطبة لما صلاها معه.
قال الإمام: وقوله:" يخرج في العيدين العواتق، وذوات الخدور"، والعاتق: الجارية حين تدرك، وعتقت أي أدركت.
قال القاضي: قال ابن السكيت: العاتق فيما بين أن تدرك إلى أن تعنس ما لم تتزوج، وقال ابن دريد: عتقت الجارية صارت عاتقًا إذا أوشكت البلوغ. والخدور: البيوت، وقيل: الخدر السرير الذي عليه قبة، وقيل: ستر يكون ناحية البيت، وهو بمعنى قوله:" المخبأة ".
__________
(1) في (ط):" خاصره ".
(2) في (ط):" أبي الصلت ".(3/432)
وقد اختلف السلف في خروج النساء للعيدين فرأى ذلك جماعة حقًّا عليهن، منهم أبو بكر وعلى وابن عمر وغيرهم، ومنهم من منعهن ذلك جملة، منهم: عروة والقاسم(1)، ومنع ذلك بعضهم في الشابة دون غيرها، وأجازه للمتجالة، منهم عروة، والقاسم، ويحيى بن سعيد، وهو مذهب مالك وأبي يوسف، واختلف قول أبي حنيفة في ذلك، فأجازه مرة في العيدين، ومنعه أخرى. قال الطحاوي: كان الأمر بخروجهن أوّل الإسلام لتكثير المسلمين في أعين العدو، وقال غيره: هذا يحتاج إلى تأريخ، وأيضًا فليس النساء مما يرهب بهن العدو.
وقوله:" والحيض يكن خلف الناس "، تنزيها لموضع الصلاة منهن كما منعهن المساجد وقد تقدم هذا، وخشية ظهور الخلاف على الأئمة من أن يكون النساء مجتمعات(2)، منهن من يصلى ومنهن من لايصلي، ففيه حجة لمنع هذا الباب.
وقوله:" يكثرن مع الناس "، فيه جواز الذكر لله للحائض، وقد تقدم. هذا يحتمل أنه في وقت خروجهن، وعند تكبير الإمام في خطبته وصلاته.
قال الإمام: اختلف الناس في التكبير في العيدين، فعند مالك سبع في الأولى، وعند الشافعي ثمان، وعند أبي حنيفة أربع، واتفقوا على أن ذلك قبل القراءة، وأما الثانية فست عندنا بتكبيرة القيام(3) قبل القراءة، وقال أبو حنيفة: أربع بعد القراءة. وقد قال بعض أصحابنا: فيه معنى لطيف لأنه - عليه السلام - أراد أن يثبت في هاتين الركعتين تكبير أربع ركعات، إذ في كل ركعتين سوى ركعتي العيد من(4) هذا القدر المزيد في صلاة العيدين، كما فعل في صلاة الكسوف، جعل في الركعتين ركوع أربع، يشير إلى تضعيف الأجر، وقد يستلوح منه أن هذا القدر المزيد يعني عما أخذ منه، وكان المصلي فعل بركعتيه(5) أربع ركعات.
__________
(1) بعده في (ط):"[ بن سعيد، وهو مذهب مالم وأبي يوسف]. ولعله انتقال نظر من الناسخ؛ فقد أتى في السطر التالي.
(2) في (ط):" مجتمعين ".
(3) في (ط):" الإحرام ".
(4) في (ط):" العيدين ".
(5) في (ط):" بركعته ".(3/433)
قال القاضي: وللتكبير في العيدين أربعة مواطن: في السعي إلى المصلى إلى حين يخرج الإمام، واذا كبّر الإمام في خطبته، والتكبير المشروع في صلاة العيدين، والتكبير بعد الصلاة، فاما الوجه الأول فاختلف العلماء في ذلك، فرأى جماعة من الصحابة والسلف أنهم كانوا يكبرون إذا خرجوا حتى يبلغوا المصلى يرفعون أصواتهم بذلك، وقاله مالك والأوزاعى، قال مالك: ويكبر إلى أن يخرج الإمام، وقال ذلك الشافعي وزاد استحبابه ليلة الفطر وليلة النحر، وروي عن ابن عباس إنكار التكبير في الطريق(1). وفرق أبو حنيفة بين العيدين، فقال: يكبر في الخروج يوم الأضحى، ولا يفعله في الفطر، وخالفه أصحابه فقالوا بقول الجماعة، وأما تكبيرهم بتكبير الإمام في خطبته، فمالك يرى ذلك، والمغيرة يأباه. وأما التكبير المشروع في صلاة العيدين، فاختلف العلماء وأئمة الأمصار في ذلك، فذهب مالك وأحمد وأبو ثور في آخرين إلى أنه سبع في الأولى بتكبيرة الإحرام وخمس في الثانية غير تكبيرة القيام، وقال الشافعي: سبع غير تكبيرة الإحرام(2)، وفي الثانية خمس بتكبيرة القيام، وقال أبو حنيفة والثوري: خمس في الأولى وأربع في الثانية بتكبيرة الافتتاح والقيام، لكنه تقدم عندهم القراءة على الثلاث تكبيرات في الثانية، وكلهم يرى صلة التكبير وتواليه، وقال أحمد والشافعي وعطاء: يكون بين كل تكبيرتين ثناء على الله، وصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعاء، وروي عن ابن مسعود، واختلف عن السلف والصحابة في تكبير العيد اختلافًا كثيرًا نحو اثنى عشر مذهبًا. وأما الوجه الرابع فهو التكبير بعد الصلاة في عيد النحر، فاختلف السلف والعلماء فيه أيضًا على نحو عشر مقالات:هل ابتداؤه من صبح يوم عرفة ؟ أو ظهرها ؟ أو من صبح يوم النحر ؟ أو ظهره ؟ وانتهاؤه في ظهر يوم النحر ؟ أو في ظهر أول يوم من أيام النفر ؟ أو في صلاة الصبح من آخر أيام التشريق
__________
(1) في (أ):" الطرق ".
(2) في (ط):" القيام ".(3/434)
؟ أو في صلاة الظهر ؟ أوفى صلاة العصر منه ؟ واختيار مالك والشافعي وجماعة من أهل العلم ابتداؤه صلاة الظهر يوم النحر، وانتهاؤه صلاة الصبح آخر أيام التشريق، واختار بعض أصحابنا قطعه بعد صلاة الظهر ذلك اليوم، وبعضهم بعد العصر، ومذهبنا ومذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم أنه للمنفرد والجماعة والرجال والنساء والمقيم والمسافر، وقال أبو حنيفة والثوري وابن حنبل: إنما يلزم جماعات الرجال. وكذلك اختلفوا في التكبير دبر النوافل، فلم ير ذلك مالك في المشهور عنه، والثوري وأحمد وإسحاق وقال الشافعي: يكبر، وروي عن مالك، واختلفوا في صفة التكبير،هل هو ثلاث ؟ وهومشهور قول مالك، أو لا حدّ فيه ؟ وهو الذي حكاه ابن شعبان في مختصره إن شاء ثلاثًا، وإن شاء أربعًا أو خمسا، ليس فيه شيء موصوف، أو فيه حمذ وتهليل، فيقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد ، وهو قول مالك الآخر والكوفيين وفقهاء الحديث، واختار بعضهم غير هذا من زياده ثناء وحمد مع التكبير والتهليل.
وكذلك اختلفوا، هل يكبرون تلك الأيام في غير أدبار الصلوات ؟ وهو المروي عن جماعة السلف، أم يختص بأدبار الصلوات فقط ؟. وقد ذكر مالك أنه أدرك الناس يفعلون الوجهين، وأجاز كلا لمن فعله، لكن الذي فعله من يقتدى به واختاره هو التكبير دبر الصلوات فقط، واختار بعض شيوخنا الوجه الأول للتشبيه بأهل منى.
وقوله:« لتلبسها أختها من جلبابها»، قال الإمام: الجلباب: هو الإزار، وجمعه جلابيب، ومنه قوله تعالى:{ يدنين عليهن من جلابيبهن }.(3/435)
قال القاضي: قال النضر بن شميل: الجلباب: ثوب أقصر وأعرض من الخمار، وهي المصنعة، تغطى المرأة بها(1) رأسها، وقال غيره: هو ثوب واسع دون الرداء، تغطى به المرأة ظهرها وصدرها، وقيل: هو كالملاءة والملحفة، وقيل: هو الإزار، وقيل: هو الخمار. وظاهر قوله: " لتلبسها أختها من جلبابها "، أي لتعرها جلبابها إذا تعوضت هى منه بسواه أو يكون على ظاهره، ومشاركتها فيه للضرورة، أو يكون على طريق المبالغة، أن يخرجن ولو اثنتان في جلباب، ففيه كله الحض على المواساة والتأكيد في خروجهن للعيد.
وقوله:" فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولابعدهما "، وإلى هذا ذهب مالك - رحمه الله - وأحمد، وهو المروي عن جماعة من الصحابة والتابعين، وذهب الشافعي إلى جواز الصلاة قبلها وبعدها، وروي عن جماعة من السلف أيضًا، وذهب الكوفيون والأوزاعي في جماعة من التابعين إلى أنه يصلي بعدها ولا يصلي قبلها، لكن مالكا يقول: هذا في صلاتها في الصحراء اقتداء بالمروي عنه - عليه السلام - فأما إذا صليت في المسجد فعنه ثلاث روايات: جواز الصلاة قبلها وبعدها لأنها ليست بالصورة(2) المتقدمة، وجوازها بعدها لا قبلها، كسائر التنفل بعد انصرافه إلى منزله، ومنعه في الوجهين، اتباعًا لما مضى، وقد منع بعضهم من التنفل جملة يوم العيد إلى الزوال، واختاره بعض أصحابنا.
__________
(1) في (ط):" به ".
(2) في (ط):" الصورة ".(3/436)
وذكر قراءة النبي - عليه السلام - فيها بقاف و { اقتربت الساعة }، ذهب الشافعي إلى أن القراءة بذلك من سنن صلاة العيد، ومالك وكافة العلماء لا يرون فيها حدًّا محدودًا يتعين. قال بعض أصحاب المعاني: واختصاص النبي - عليه السلام - بقراءة هاتين السورتين في العيد لما فيهما من ذكر النشور والحشر وتشبيه(1) ببروز الناس وحشرهم للعيد كذلك(2) وتذكره به، قال الله تعالى: في {اقتربت الساعة}، { يوم يخرجون من الأجداث كأنهم جرادٌ منتشر }، وفي السورة الأخرى:{ يوم تشقق الأرض عنهم سراعًا ذلك حشر علينا يسير }.
[ ذكر مسلم حديث يحيى بن يحيى عن مالك عن ضمرة بن سعيد، عن عبيد الله ابن عبد الله: أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد: " ما كان يقرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر ؟"، هذا حديث غير متصل في ظاهره من رواية مالك ؛ لأن عبيد الله لاسماع له من عمر وهو متصل بالحقيقة ؛ كما فسره في رواية فليح فيما ذكره مسلم في الطريق الآخر. وسؤال عمر أبا واقد، ومثل عمر لم يخف عليه هذه العلة، اختبار له، هل حفظ ذلك أو لا ؟ أو يكون قد دخل عليه شك أو نازعه غيره ممن سمعه يقرأ في ذلك بـ{سبح} والغاشية، على ما تقدم في باب الجمعة، فأراد عمر الاستشهاد عليه بما سمعه أيضًا أبو واقد ](3).
[ قال بعضهم: مثابرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بقاف و { اقتربت الساعة } لما فيهما من ذكر النشور وتشبيهه بخروج الناس للعيد كما قال:{ يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر }، وقوله:{ ذلك يوم الخروج }](4)، والصدر عن المصلى لرجاء الغفران والسرور بالعيد كالصدر من المحشر إلى الجنة مغفور لهم. وفيه دليل على جهره بالقراءة فيها، ولا خلاف في ذلك.
__________
(1) في (ط):" تشبهه ".
(2) قوله:" كذلك " ليس في (ط).
(3) مابين المعكوفين، هذه الفقرة في (ط) جاء بعد قوله:" ولا خلاف في ذلك " بعد قليل.
(4) مابين المعكوفين ليس في (ط).(3/437)
وقوله:" وعندي جاريتان تغنيان "، قال الإمام: الغناء بآلة يمنع، وبغير آلة اختلف الناس فيه، فمنعه أبو حنيفة، وكرهه الشافعي ومالك، وحكى أصحاب الشافعي عن مالك أن مذهبه الإجازة من غير كراهة.
قال القاضي: المعروف عن مالك فيه المنع لا الإجازة، ومثل هذه القصة لعائشة وهي حينئذ - والله أعلم - بقرب ابتنائه بها، وفي سني من لم يُكلّف. وفي أول الأمر، ومعها جاريتان من سنّها، ثم ما أنشدتاه ليس فيه شعر بسب ولا رفث ؟ لأنه قال بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، وإنما هى من أشعار الحرب والمفاخرة بالشجاعة(1) والظهور والغلبة، وكل هذا مما لا يهيج على مثلهن شرًّا، ولا إنشادهما لذلك من الغناء المختلف فيه، وإنما هو رفع الصوت بالإنشاد، ألا ترى قوله في الحديث: " وليستا بمغنيتين "؛ أي: ليستا ممن يغني بما جرت به عادة المغنيات من التشويق والهوى والتعريض بالفواحش والتشبيب بأهل الجمال مما يحرك النفوس، ويبعث الهوى والغزل، كما قيل:" الغناء رقية الزنا "، أو ليستا أيضًا ممن اشتهر وعرف بالإحسان في الغناء الذي فيه تمطيط وتكسير، وعمل يحرك الساكن، ويبعث الكامن، ولا ممن اتخد هذا صناعة وكسبًا، وقد تقدم أن الجهر ورفع الصوت تسميه العرب غناء، ألا ترى كيف قال في الرواية الأخرى:"بغناء بعاث"، فسمى أشعارهم غناءً، وليس مجرد الإنشاد والترنم على عادة العرب من الغناء المختلف فيه.
__________
(1) قوله:" بالشجاعة " ليس في (أ).(3/438)
وقد استجاز الصحابة وغيرهم غناء العرب المسمى بالنصب، وهو إنشاد بصوت رقيق فيه تمطيط، وأجازوا الحداء، وفعلوه بحضرة النبي - عليه السلام - وفي هذا كله إباحة مثل هذا، وما خف منه ولم يكن لصاحبه عادة، وهذا ومثله لا يجرح به شاهد(1)، ولا يقدح في العدالة، وأيضًا فإن اللهو وضرب الدفاف جائز في الأعراس، وهو أحد أفراح المسلمين وأعيادهم من ذلك، ألا ترى قوله - عليه السلام -:« هذا عيدنا »، وفيه دليل على إظهار السرور وأسبابه في الأعياد.
وأما تسجية النبي - صلى الله عليه وسلم - بثوبه في هذا الحديث وتحويله وجهه عنهن في الحديث الآخر، فإعراض عن هذا اللهو، إذ لم يكن منه ولا من سببه(2)، وإن كان عنده مباحًا لهؤلاء، كما قال:" لست من دَدٍ، ولا دَدٌ منى "، وكذلك يكره فعله وحضوره - وإن كان مباحًا - لأهل الفضل والمروءات ومن يقتدى به، وقد قال تعالى:{ وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه }، أو لا ترى كيف كان إنكار أبي بكر أن يكون ذلك بمحضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأيضًا إنكاره فلشبهه عنده بالمنهى عنه من الغناء المنكر. وفيه فتوى المتعلم بحضرة معلّمه بما يعرف من مذهبه وعلمه، وإنكاره المنكر بحضرته. ومعنى "تقاولت"، أي: قاله بعضهم لبعض في تلك الحرب.
ويوم بعاث يوم معلوم كان بين الخزرج والأوس، كان الظهور فيه للأوس، ضبطناه هنا بالعين المهملة، وهو قول الأكثر من اللغويين، وقال(3) أبو عبيدة: يقول فيه "بغاث" بالغين(4) المعجمة، وبالوجهين ضبطناه في غير هذا المكان عن ابن سراج.
و"مزمور الشيطان "، بضم الميم، بمعنى مزمار في الحديث الآخر، وأصله الصوت بصفير، ومنه زمارة النعامة، والزمير الصوت الحسن، والزمير الغناء.
__________
(1) في (ط):" الشاهد ".
(2) في (أ):" ولا بسببه ".
(3) قوله:" وقال " ليس في (ط).
(4) في (أ):" بغين ".(3/439)
قوله(1):" ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجى بثوب "، كما قال في رواية أخرى: "مغشى"، ولعل تقدم أبي بكر لزجرهم بين يدى النبي إذ رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجى ووجهه إلى الجهة الأخرى فظن أنه نائم لا علم عنده منهن، ولا يسمع غناءهن. ومعنى الجارية العربة، قال أهل التفسير في قوله:{ عربًا أترابًا }، واحدهن عروب، وهن المتحببات لأزواجهن، وقيل غير هذا، وقيل: العربة: الغنجة، وامرأة عاربة أي ضاحكة، والعرب النشاط، فقد تكون العربة هنا المشتهية في اللعب، كما قال في الحديث الآخر: الحريصة على اللهو.
وفيه جواز اللعب بالدف في النكاح والأعياد وأفراح المسلمين ما لم يكثر ذلك، وهو الدف العربى المدور بوجه واحد، المسمى بالغربال. وفي حديث الحبشة جواز اللعب بالسلاح والمثاقفة ؛ لأن فيه تدريبًا على العمل بها في الحرب وتمرينًا للأيدي عليها، وكون ذلك في المسجد إما لأنه من هذا الباب، فكأنه من أعمال البر، أو كما قيل: كان في أول الإسلام، وقيل: النهى عن مثل هذا وغيره فيه، وفيه جواز نظر النساء إلى فعل الرجال، مثل هذا، لأنه إنما يكره لهن من النظر إلى الرجال ما يكره للرجال فيهن من تحديق النظر لتأمل المحاسن، والالتذاذ(2) بذلك، والتمتع به، وفيه ما كان عليه - عليه السلام - من حسن الخلق، وكرم العشرة مع الأزواج، وجميع الخلق.
وقوله:" دونكم يا بني أرفدة "، بفتح الفاء ضبطناه على الشيخ أبي بحر، وكذا أتقنه عن شيخه القاضي الكناني، وأما الوزير أبو الحسين فقاله لنا بكسر الفاء لا غير، وأنكر الفتح. ومعنى تسميتهم ببني أرفدة، قيل: هو لقب لهم.
وقوله:" دونكم ": لفظ يستعمل للإغراء، والمغرى به هنا محذوف دلت عليه الحالة التي هم فيها، وهو لعبهم بالحراب الذي نهاهم عمر عنه. قال الخطابي: وهي تتقدم الاسم في الجملة، إلا شاذًّا كما قال:
يا أيها الماتحُ دلوي دونكما?
__________
(1) قوله:" قوله " ليس في (أ).
(2) في (ط):" والاستلذاذ".(3/440)
وفيه أقوى دليل على إباحة مثل هذا لأمره لهم به، زايدا على إقراره إياه، وكذلك قوله في الرواية الأخرى:« دعهم يا عمر ».
وقوله:" حسبك ": هو هنا على طريق الاستفهام، أي أكفاك ؟ بدليل قولها:"نعم ".
وقوله:"اذهبي"،: أي ارجعي إلى حجرتك وانصرفي عن النظر لهم. وقوله في الحبشة: " يزفنون " في الحديث الآخر ولم يأت عندهم في سائر الأحاديث سوى اللعب بالسلاح، فقيل: معناه: يرقصون، والزَّفِنُ: الرقص، وهو وثبهم بسلاحهم تلك، وحجلهم أثناء عملهم بها كحركة المثاقف، وإنكار عمر وحصبه لهم بالحصباء - مما تقدم - مخافة أن يكون ذلك مما لا يباح، حتى زجره النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهم، ولعله لم يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرى لعبهم، حتى سمع كلامه. وقوله:" فأهوى إلى الحصباء "، أي: أمال يده لأخذها. وقول عطاء فيه:" فرس أو حبش " شك من الراوي، والصواب حبش.
وقوله:" وقال لي ابن عتيق: حبش "، كذا عند شيوخنا وعند الباجي قال لي: ابن عمير، وقد تقدم في سند هذا الحديث عبيد بن عمير: أخبرتني عائشة، وفي نسخة: وقال ابن أبي عتيق.
أحاديث الاستسقاء(3/441)
وذكر مسلم أحاديث الاستسقاء، فذكر حديث مالك عن عبد الله بن(1) حزم، عن عباد بن تميم، وفيه خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه حين استقبل القبلة، وليس فيه ذكر الصلاة، ونحوه في حديث يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن حزم، وذكره من رواية غير مالك وفيه: " وصلى ركعتين "، وذكر نحوه من حديث ابن شهاب عن عباد بن تميم وفيه: " ثم صلى ركعتين "، قال الإمام: هذا يدل أن في الاستسقاء صلاة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة لا يرى في الاستسقاء صلاة، وتعلق بالأحاديث التي فيها استسقاؤه - عليه السلام - على المنبر، وهذا لاحجة فيه، لأنه إنما قصد به الدعاء، لا بيان سنة صلاة الاستسقاء، وأيضًا فإنه كان عقيبه صلاة، فقد تنوب عن صلاة الاستسقاء، كما أن الحاح يحرم عقيب الفريضة، وتنوب عن النافلة.
__________
(1) في (ط):" بن أبي ".(3/442)
قال القاضي: لا خلاف في جواز الاستسقاء، وأنه سنة، واختلف هل له صلاة كما تقدم ؟ فالعلماء كلهم مخالفون لأبي حنيفة في هذه المسألة، وأصحابه مخالفون له فيها، إلا شيئًا روي عن النخعي. وفي الأحاديث دليل على بروز الإمام والناس لها في الصحراء، وذلك لقوله: "خرج إلى المصلى "، ولم يختلف من قال: يصلى لها، أنها ركعتان، كما نص في الحديث، واختلفوا هل يصلى قبل الخطبة ؟ وهو قول الشافعى وعامة الفقهاء والذى رجع إليه مالك، ومشهور مذهبه، أو بعدها ؟ وهو قول الليث، وقاله مالك أولاً. واختلفت الراويات في ذلك عن الصحابة، وليس في رواية من قال: "وصلى " حجة ؛ لأن الواو لا تعطى رتبة، لكن رواية من قال عن الزهري: " ثم صلى " بينة في الترتيب وتقديم الخطبة، ويعارضها رواية معمر عنه قال: " فصلى بهم ركعتين وحول رداءه ورفع يديه واستسقى "، ومن رواية إسحاق بن عيسى الطباع عن مالك أنه - عليه السلام - بدأ(1) بالصلاة قبل الخطبة، ولاختلاف هذه الآثار - والله أعلم - اختلف في ذلك قول مالك، ثم عضد عنده أحد الوجهين قياسها على سنة صلاة العيد التي تشبهها. ولم يذكر في هذه الآثار فيها تكبيرا زائدا على سائر تكبير الصلوات، وهو قول جمهور العلماء إلا الشافعي، والطبري، فإنهما قالا: يكبر فيها كما يكبر لصلاة العيد، وحجتهما قوله في بعض الأحاديث:"صلى فيهما ركعتين كما يصلي في العيد "، وليس فيه حجة إذ الظاهر العدد والجهر وكونهما بعد الخطبة إلا التكبير، واختلف في المسألة قول أحمد، وخير داود بين التكبير وتركه، وروي عن ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومكحول(2) التكبير فيها، ولم يذكر مسلم جهره بالقراءة فيها، وقد ذكره البخاري، ولا خلاف في ذلك، ولم يذكر فيها بغير أذان ولا إقامة، وقد ذكره غيره في حديث الزهري، ولا خلاف في ذلك،ولم يذكر جلوسه أثناء الخطبة، ولا أولها، وقد اختلف قول مالك في
__________
(1) في (أ):" أنه بدأ ".
(2) قوله:" ومكحول " ليس في (ط).(3/443)
جلوسه فيها أولاً، والجلوس المشهور عنه، وكذلك يجلس عنده أثناءها وبخطب خطبتين، وهو قول الشافعي، وقال أبو يوسف ومحمد ابن الحسن وعبد الرحمن بن مهدى: خطبة واحدة، وخيره الطبري.
وقوله:"استسقى": أي طلب من الله السقى بدعائه أو بتضرعه وصلاته.
وقوله: " واستقبل القبلة وحول رداءه "، وفي رواية: "وقلب رداءه "، قال الإمام: قال أهل العلم:إنما كان ذلك على جهة التفاؤل، لينقلب الجدب خصبًا.
قال القاضي: قوله:"حول رداءه "، و "قلب رداءه " حجة لمالك وعامة العلماء أنه رد ما(1) على اليمين على الشمال، كما جاء في الحديث(2) مفسرًا، وليس بتنكيسه بقلب أعلاه أسفله، وجعل ما يلي الأرض على رأسه وما على رأسه إلى الأرض، كما قال الشافعي بمصر، وكان يقول بالعراق كقول الجماعة، وقد وهم بعض المتأولين على المذهب وعلى غيره فجعلوا قول من قال: " يجعل ما على ظهره يلى السماء "، وفسر التحويل والقلب بهذا قولاً ثالثًا، وليس كذلك، بل هو القول الأول الذي عليه الجمهور، ولأنه لا يتأتى أن يجعل ما على يمينه على يساره، ولا يقلبه فيجعل أعلاه أسفله إلا بأن يجعل ما على ظهره يلي السماء، ولأن لفظة:" حول، وقلب " تقتضي هذا، ولو كان كما قال الشافعي لقال: فنكَّس أو دوَّر.
وتحويله سنة، قال بهما(3) جمهور العلماء، وقد أنكر التحويل جملة من لم يبلغه هذه السنة، وهو أبو حنيفة وصعصعة بن سلام من قدماء علماء الأندلس على مذهب الشاميين، ولم يذكر في الحديث أنه حوّل غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قول الليث ومحمد وأبي يوسف من أصحاب أبي حنيفة وابن عبد الحكم وابن وهب من أصحابنا، وقال مالك: يحول الناس معه.
__________
(1) قوله:" ما " ليس في (ط).
(2) في (ط):" الحديث الآخر ".
(3) في (ط):" بها ".(3/444)
وقوله:" لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحوَّل "، دلّ أن الخطبة كلها ليست بدعاء، وإنما هى أولاً ثناء على الله، وتذكير للناس، ووعظ لهم، وتخويف، فإذا أراد أن يدعو استقبل القبلة ودعا، وحول رداءه كما جاء في الحديث.
وقد اختلف الناس هنا في موضين: في وقت تحويل الرداء من الخطبة، هل هو بعد تمامها ؟ أو عند الإشراف على كمالها ؟ أو بين الخطبتين، وقد روى هذا كله عن مالك والأول المشهور عنه، وقاله الشافعي، وقيل: بعد مضي صدر منها، وعلى هذا الاختلاف هل يفعل ذلك قبل استقباله القبلة ؟ أو بعد استقبالها ؟ وهل يرجع بعد تمام دعائه فيذكر الناس أم لا ؟ فقال مالك مرة: إذا فرغ استقبل القبلة قائمًا فحوّل رداءه،ويحول الناس وهم جلوس ثم يدعو كما هو قائمًا،ويدعو الناس وهم جلوس، ثم ينصرف، وقال مرة: إن شاء انصرف وإن شاء حول وجهه إلى الناس، فكلم الناس ورغبهم في الصدقة، والتقرب إلى الله، واختار تحوله إليهم وإكمال بقية خطبتة بعض أصحابنا، ولا خلاف(1) في تحويل الإمام وهو قائم، ويحول الناس وهم جلوس.
وقوله:" استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) فأشار بظهر كفيه إلى السماء "، هذا اختيار جماعة من العلماء في رفع اليدين عند مواطن الدعاء، وفي الاستسقاء، واستحبابهم ذلك، وروى استحسانه عن مالك في الاستسقاء، وعنه كراهة رفع الأيدي في شيء من الأشياء، وأما صورة رفعها فهذا المروي في الحديث، وهذا الذي اختاره مالك عند عزم الإمام على الناس في رفع الأيدي، فرفع يديه كذلك، وقال: إن كان الرفع، فهكذا اقتداء منه بما جاء في الحديث، وهو الذي فسره مفسرون بالرّهب في قوله تعالى:{ ويدعوننا رغبًا ورهبًا }، قالوا: وأما عند المسألة والرغبة فبسط الأيدي وظهورها إلى الأرض، وهذا الرغب.
__________
(1) هنا نهاية السقط من المخطوطة (هـ).
(2) قوله:" رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" ليس في (أ).(3/445)
وقد ذكر مسلم: أنه - عليه السلام - كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه، إلا في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه،وهذا يدل على رفعهما فوق الصدر وحذو الأذنين ؛ لأن رفعهما مع الصدر لا يكشف بياض الإبط، وقد تقدم استيعاب هذا أوّل الصلاة. قال بعض الشارحين: وفيه دليل أن لبس النبي - صلى الله عليه وسلم - الرداء(1) كان على نحو لباس أهل بغداد ومصر والأندلس من كونه على المنكبين غير مشتمل به، ولا متعطف إياه، إذ لو كان كذلك لما قال فيه:" جعل ما على يمينه على شماله وما على شماله على يمينه ".
قال القاضي: قد جاء ما يصحح ما قاله هذا الشارح، فذكر أبو سعد عبد الملك بن محمد الحافظ الواعظ صاحب كتاب "شرف المصطفى": أنه - عليه السلام - قال:« ألا أخبركم بلبسة أهل الإيمان، فلبس رداءه وألقاه على رأسه وتقنع به، ورفع بيده اليمنى(2) على منكبه الأيسر »، وقد جاء أيضًا في كتاب أبي داود في الاستسقاء:" وجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر وعطافه الأيسر على عاتقه الأيمن "، وفسره الخطابي أنه أراد بالعطاف الرداء، أي: جعل جانب ردائه الأيمن أو شقه الأيمن.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" للرداء ".
(2) في (ط):" اليسرى ".(3/446)
قال القاضي: وعندي أنه يحتمل أنه أراد بالعطاف الطرف الذي يعطف به، وجعله على يمينه أو يساره؛ لأن التعطف(1) لبسة معروفة تخالف المتقدمة. قال الخطابي: إذا كان الرداء مربَّعًا نكَّسه، يعني على مذهب إمامه الشافعي، قال: وإن كان طيلسانًا مدوَّرا قلبه ولم ينكسه، وذكر أبوسعد عن عروة أن رداءه - عليه السلام - كان حضرميًّا طول أربعة أذرع، في عرض ذراعين وشبر، قال: وهو الذي عند الخلفاء اليوم، وذكر محمد بن سعد في "تاريخه الكبير" عن الواقدى: أن برد النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) كانت يمنية(3) طول ستة أذرع في ثلاث وشبر، وإزاره(4) من نسج عمان طول أربعة(5) أذرع وشبر في عرض ذراعين وشبر، كان يلبسهما يوم الجمعة والعيد، ثم يطويان.
وقوله:" إن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء": سميت بذلك لأنها بيعت في قضاء دين عمر بن الخطاب الذي كتبه على نفسه لبيت مال المسلمين، وأوصى أن تباع فيه(6) ماله، وما عجز استعان ببني عدي ثم بقريش، فباع عبد الله بن عمر داره هذه من معاوية وباع ماله بالغابة، وقضى دينه، فكان يقال لها: دار قضاء دين عمر، وكان الدين ثمانية وعشرين ألفًا، ثم اختصروا فقالوا: دار القضاء، وهي دار مروان، وقال بعضهم: هى دار الإمارة، وغلط لما بلغه أنها دار مروان ظن أن المراد بالقضاء الإمارة، وإنما هو ما قلناه.
__________
(1) في (هـ):" التعطيف ".
(2) في (ط):" - صلى الله عليه وسلم - رداؤه وبرده ".
(3) في (هـ):" كان يمنية ".
(4) في (ط):" إن إزاره ".
(5) في (ا) و(ط):" أربع ".
(6) في (ط):" يباع فيها ".(3/447)
وقول القائل للنبى - صلى الله عليه وسلم -:" ادع الله يغيثنا "، كذا ضبطناه هنا بضم الياء من أغاث، ومثله في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث:« اللهم ! أغثنا »، قال بعضهم: هذا من الإغاثة وليس من طلب الغيث،إنما يقال في ذلك: غثنا ؛ لأنه من غاث وقد يحتمل أن يكون هذا من ذلك بالتعدية، أي هب لنا غيثًا، أو ارزقنا غيثًا، كما يقال: سقاه الله وأسقاه، أي جعل له سقيًا، على من فرق بين اللفظين، وفي القرآن:{ وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا }، وقال: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم }، و:{ نَسقيكم }، قرئ بالوجهين. وفي إجابة النبي - عليه السلام - لهذا السائل ودعائه له جواز الاستسقاء في خطبة الجمعة، والدعاء بذلك، وعلى غير سنة الاستسقاء، وليس في هذا تحويل عن القبلة، ولا تحويل رداء، وإنما هو دعاء مجرد بالسقي، كسائر الأدعية للمسلمين في الخطبة، كما جاء في هذه الأحاديث الأخر المختصة بالسائل يوم الجمعة، وإنما تختص تلك الهيئات والسنن لمن برز لها، وبهذا اغتر الحنفي في أنه لاصلاة للاستسقاء، وفاته معرفة تلك السنن المتقدمة والثابتة.
وفيه جواز الاقتصار على الاستسقاء يوم الجمعة بالدعاء المجرد في خطبتها دون البروز، وهو معنى قول الشافعي ومن أجازه بغير صلاة ممن عرف مذهبه أنه لا يبرز لها إلا بصلاة، وبه أيضًا احتج بعض السلف أن الخروج إليها عند الزوال، إذ كان دعاء النبي - عليه السلام - في هذا الخبر يوم الجمعة، والناس كلهم علي خلافه أنها بكرة كصلاة العيدين.[ وفي كتاب ابن شعبان: وقيل: إنه يستسقي بعد الصبح والمغرب ](1).
وقوله:" وما في السماء من سحابة(2) ولا قزعة "، قال الإمام: معناه: قطعة سحاب، وجمعه قزع، قال أبو عبيد: وأكثر ما يكون في الخريف.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ ).
(2) في (ط) و(هـ):" سحاب ".(3/448)
قال القاضي: وقوله:" ما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار "، يحتمل - والله أعلم - لتحمل الناس عن تلك الجهة لشدة الجدب وحزونة الموضع وطلب الكلاء. والخصب. وسلع جبل مشهور بقرب المدينة، بفتح السين وسكون اللام، قال في "البخاري": هو الجبل الذي بالسوق.
وقوله:" فطلعت سحابة مثل الترس "، قال ثابت: لم يرد -والله أعلم - في قدره، لكن في مرحاها واستدارتها، وهو أحمد السحاب عند العرب.
وقوله:" ثم أمطرت "، تقدم الكلام عليها، ومن فرق بين مطرت في الرحمة وأمطرت في العذاب، ومن سوى في ذلك، وهو المعروف في كلام العرب، وقد قال الله تعالى:{ هذا عارضٌ ممطرنا }، وإنما زعموا(1) مطر الرحمة.
وقوله:" فوالله ما رأينا(2) الشمس سبتًا "، السبت: القطعة من الدهر، قال ثابت: والناس يحملونه على(3) أنه أراد من سبت إلى سبت، وإنما هو القطعة من الزمان، يقال: سبت من الدهر، وسبتة(4) وسبنة(5)، وقد رواه الداودي: " ستًّا " وفسره: أي ستة أيام من الدهر، أي من الجمعة إلى الجمعة،[ وهكذا وقع في النسائي:" ستًّا "، وقد جاء في الحديث الآخر:" فلم تزل تمطر إلى الجمعة الأخرى "، وفي بعض روايات الحديث في النسائي:" فدامت جمعة "، وهو(6) يصحح رواية:" ست "؛ إذ لم يحسب الجمعتين اللتين دعا فيهما(7)، وهو تصحيف(8).
قال القاضي: وأصل السبت القطع، ومنه(9) سمي يوم السبت، قالوا: لأن الله تعالى أمر فيه بنى إسرائيل بقطع الأعمال، وقيل: لأن فيه قطع الله بعض خلق الأرض.
__________
(1) في (ط):" رغبوا ".
(2) في (أ):" زالت ".
(3) قوله:" على " ليس في (ط) و(هـ).
(4) في (ط):" بسة "، وفي (هـ):" سبة ".
(5) في (هـ):" سبية ".
(6) في (ط):" وهذا ".
(7) في (ط):" التي دعا فيها ".
(8) قوله:" وهو تصحيف " ليس في (ط).
(9) في (ط) و(هـ):" وبه ".(3/449)
وقوله - عليه السلام - بعد إذ سئل الدعاء في الإمساك:« اللهم ! حوالينا ولا علينا، اللهم ! على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر »، فيه استعمال أدبه الكريم وخلقه العظيم في الدعاء، ومقابلة كل حال بما يليق بها، إذ لم يدعو - عليه السلام - برفع المطر عنهم جملة ؛ إذ كان غياثًا من الله ورحمة، ولكن دعا بكشف ما يضر بهم عنهم، وتصييره حيث يبقى نفعه، ويوجد خصبه، ولا يستضر به ساكن ولا ابن سبيل، فيجب التأدب بأدبه في مثل هذه النوازل. ومخافة التأذى بما فيه منفعة.
وقوله:" فما أشار بيده إلى ناحية إلا تفرجت "، أي: تقطعت السحاب، وبأن بعضها من بعض، والفرجة - بالضم - الخلل بين الشيئين، وهو بمعنى قوله في الحديث الآخر:" فانقطعت وخرجنا نمشى في الشمس "، وفيه وشبهه من الأحاديث جواز الاستصحاء إذا احتيج إليه وأضر المطر بالناس، ولكن ليس فيه بروز ولا صلاة. وفيه إجابة(1) دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الموطنين وكرامته على ربه .
قال الإمام: وقوله:" على الآكام والظراب "، الآكام دون الجبال، قال الثعالبي: الأكمة أعلى من الرابية. قال الإمام: والظراب: الروابي الصغار، واحدها ظرب، ومنه الحديث:" فإذا حوت(2) مثل الظرب".
وقوله:" إلا أخبر(3) بجود الجود المطر الواسع الغزير ".
قال القاضي: يقال: آكام، بالفتح والمد، وإكام، بالكسر، وأَكم وأُكم، بفتحهما وضمهما، قيل: والأكمة: الموضع الغليظ لا يبلغ أن يكون حجرًا يرتفع(4) على ما حوله، وقال الخليل: هو تلّ من حجر واحد.
__________
(1) في (ط):" إجابات ".
(2) في (هـ):" جوت ".
(3) في (هـ):" وقوله الآخر ".
(4) في (ط):" ارتفع "، وفي (هـ):" أن تقع ".(3/450)
وقوله:" حتى رأيت المدينة في(1) مثل الجوبة "، هى الفجوة بين البيوت، والجوبة أيضًا مكان متسع من الأرض، المعنى: أن السحاب تقطع حول المدينة مستديرًا، وانكشف عنها حتى باينت ما جاورها(2) مباينة الجوبة المذكورة لما حواليها، صارت من الضياء والشمس بين ظلل السحاب والمطر كالأرض البيضاء من(3) سواد البيوت، أو السهلة بين سواد الحزون، وأصله القطع، جاب يجوب جوبًا إذا قطع، قال الله تعالى:{ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد }، أي: نقبوه(4) وخرقوه، فكأنها في متكاثف السحب حولها كالثقب(5) في الشىء، وهذا مثل قوله في الحديث الآخر:" مثل الإكليل ". قال أبو عبيد(6): الإكليل: ما أحاط بالظفر من اللحم، والإكليل أيضًا العصابة(7)، وروضة مكللة محفوفة بالنور، وأصله الاستدارة، ومنه سمي الحوق، وهو ما أحاط بالكمرة(8) إكليلاً، وقال الداودي:" مثل(9) الجوبة "، أي: كالحوض المستدير، ومنه قوله تعالى:{ وجفان كالجواب(10)}، ولم يقل(11) شيئًا، وإنما واحدة الجوابى جابية.
وقوله: " وسال وادي قناة شهرا "، قناة: اسم الوادي نفسه، وهو من أودية المدينة، وعليه حرث فأضافه إلى نفسه، أو يكون سمي المكان قناة، وقد جاء في غير الكتاب:" وسال الوادي قناة "، على البدل.
وقوله:" قحط المطر " في "البارع": قحط المطر، بفتح الحاء والقاف، وقحط الناس، بفتح القاف وكسر الحاء، وفي الأفعال معًا في المطر، وحكى: قحط الناس بضم القاف.
وقوله:" واحمرَّ الشجر "، كناية عن يبس ورقها، وسقوطه(12) بالشمس، وظهور عودها.
__________
(1) قوله:" في " ليس في (ط) و(هـ).
(2) في (أ):" جاوزها ".
(3) في (ط) و(هـ):" بين ".
(4) في (ط) و(هـ):" ثقبوه ".
(5) في (أ):" كالنقب ".
(6) في (أ) و(ط):" عبيدة ".
(7) في (أ):" العصائب ".
(8) في (هـ):" بالثمرة ".
(9) في (هـ):" في مثله ".
(10) في (أ) و(ط):" كالجوابي ".
(11) في (هـ):" الداودي ".
(12) في (ط):" سقوطها ".(3/451)
وقوله:" فألف(1) الله(2) بين السحاب وهلّتنا "، كذا رويناه(3) بالهاء عن الأسدي ومعناه: أمطرتنا، قال الأزهري: يقال: هل السحاب بالمطر(4) هللاً، والهلل: المطر، ويقال: انهلَّت أيضًا، وكان(5) عند شيوخنا الصدفي عن العذري والخشني عن الطبري وغيرهم(6):"ملتنا " بالميم مخففة مكان(7) "هلتنا"، فإن لم يكن تصحيفًا من "هلتنا "، فلعل معناه: أوسعتنا مطرًا وسقيًا، وكذا قيده القاضي التميمى عن الجياني:" ملأتنا " بهمزة وميم، أو يكون:" ملتنا " مشددة اللام من قولهم: تملَّ حبيبًا، أي لتطل أيامك معه، ومن قولهم: هو أملى به: أي أوسع له، والملى - مقصور -: الصحراء الواسعة، أو يكون من الملل، أي أكثر ذلك حتى شق علينا وكرهناه(8)، وأخبر عن منتهى الحال بهم، حتى اشتكوا ذلك(9) للنبى - صلى الله عليه وسلم -، وسألوه رفع ذلك عنهم.
وقوله:" حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه أن يأتى أهله "، أي: يهتم لذلك من شدة المطر ومشقته، يقال: همه وأهمه، وقيل: همني: أذابني(10)، وأهمني: أغمني(11).
__________
(1) في (ط) و(هـ):" فأللف ".
(2) لفظ الجلالة ليس في (أ).
(3) في (أ) و(هـ):" روايتنا ".
(4) قوله:" بالمطر " ليس في (هـ).
(5) في (هـ):" كذا ".
(6) قوله:" غيرهم " ليس في (أ).
(7) في (ط) و(هـ):" اللام ".
(8) في (هـ):" كرهنا ".
(9) قوله:" ذلك " ليس في (هـ).
(10) في (ط) و(هـ):" أذاني ".
(11) في (ط) و(هـ):" غمني ".(3/452)
وقوله:"فرأيت السحاب يتمزَّق كأنه الملاء(1) حين تطوى"، الملا- مقصور- جمع ملاءة، وهي الريطة(2) مثل الملحفة وشبهها، مما ليس بلفقين(3)، فشبه(4) انقشاع السحاب وانجلاءه وتقطعه عن المدينة بالملاءة المنشورة إذا طويت، وهذا مثل قوله [ في الحديث الآخر ](5):" وانجابت عن المدينة انجياب(6) الثوب"، قيل: تقبضت وتداخلت، من قولك: جبت الفلاة، أي دخلتها، وقيل(7): تقطَّعت عنها تقطع الثوب، وانكشفت عنها انكشافه، وفي سند هارون: الأيلى في هذا الحديث: حدثني ابن وهب، قال(8): حدثني أسامة: أن حفص بن عبيدالله(9)، كذا لهم، وعند العذري: حدثني سلمة، والأول الصواب وهو أسامة بن زيد(10)،[الليثي مولاهم مدني](11) شيخ ابن وهب، مشهور،[ وقد روى عنه الكبار: الثوري، وابن المبارك، ووكيع، خرّج عنه مسلم وحده](12)، وذكر في حديث ثابت عن أنس:" أن الناس قاموا إلى النبي - عليه السلام - فصاحوا وقالوا: يانبي الله(13) قحط المطر، وفي سائر الروايات عن أنس:" أن رجلاً "،" وجاء أعرابي"، فقيل: يحتمل أن الرجل ابتدأ بالكلام فتابعه(14) الناس. واستغاثوا بالنبى - صلى الله عليه وسلم - استغاثته(15)، فمرة ذكر المبتدئ بالكلام، ومرة أخبر عن الجماعة، وقيل: يحتمل أنه أراد بالناس الرجل الأعرابي المذكور، كما قال تعالى:{ الذين قال لهم الناس }، وإنما قاله واحد، وهذا فيه بعد لما جاء
__________
(1) في (ط):" الْمُلى ".
(2) في (ط):" الرايطة ".
(3) في (هـ):" بلفتين ".
(4) في (ط) و(هـ):" شبه ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (هـ).
(6) في (هـ):" انجباب ".
(7) في (ط) و(هـ):" وقيل أي ".
(8) قوله:" قال " ليس في (ط) و(هـ).
(9) في (هـ):" عبدالله ".
(10) قوله:" زيد " ليس في (هـ).
(11) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(12) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(13) قوله:" يا نبي الله " ليس في (أ).
(14) في (ط) و(هـ):" فتتابعه ".
(15) في (هـ):" استغاثة ".(3/453)
بعده.
قوله في الحديث:" أصابنا مطر فحسر(1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبه حتى أصابه من المطر "، وقوله:« إنه حديث عهد بربه »، قال بعض أهل المعاني: معناه: حديث عهد بالكون، بإرادة الرحمة لقوله تعالى:{ بين يدي رحمته }، وقوله تعالى:{ ماء مباركًا فأنبتنا به } الآية، وقوله:{ ماء طهورًا ( لنحي به بلدة ميتا }، بخلاف ما أخبر به عنه فيما يقرب عهد كونه بإرادة الغضب والسخط وخوفه، ذلك عند هبوب الرياح وطلوع السحاب حتى تمطر، كما جاء في الحديث الآخر:" أنه(2) إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر فإذا مطرت سر به "، ويقول:« خشيت أن يكون عذابًا سلط على أمتى » الحديث، حذر - عليه السلام - أن تعمهم عقوبة بذنوب(3) العاصين منهم، ويقول إذا رأى المطر:" رحمة ". وقد ذكر مسلم أحاديث في هذا المعنى.
وقوله:" وإذا تخيلت السماء"، المخيلة - بالفتح - سحابة فيها رعد وبرق، يخيل إليك أنها ماطرة بفتح الميم، وأما السماء(4) إذا تغيمت قيل: إخالت، فهى مخيلة بالضم،:هو قول أبي عبيد في شرحه، وضبطناه في المصنف عنه في السحابة مخيلة - بالضم - وجاء في الحديث هنا فى السماء: " تخيلت ".
وقوله: " ما رأيته مستجمعًا ضاحكًا، حتى أرى لهواته"، اللهوات(5): أقصى الفم، واحدها لهاة، وتجمع لها أيضًا، وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أعلى الحنك قاله الأصمعي، وقال أبو حاتم: هى ما بين منقطع أصل(6) اللسان إلى منقطع القلب من أعلى الفم، ومعنى "مستجمعًا، أي: مجدًا في ضحكه، أتت(7) فيه(8) بغايته كما قالت بعد هذا:" إنما كان يتبسم ".
__________
(1) في (ط) و(هـ):" فحبس ".
(2) قوله:" أنه " ليس في (ط) و(هـ).
(3) في (هـ):" لذنوب ".
(4) قوله:" السماء " ليس في (ط).
(5) قوله:" اللهوات " ليس في (أ).
(6) قوله:" أصل " ليس في (أ).
(7) في (ط):" أتى "، في (هـ):" آت ".
(8) قوله:" فيه " ليس في (هـ).(3/454)
وقوله:« نصرت بالصَّبا وأهلكت عادٌ بالدبور »: الصَّبا - مقصورٌ-: الريح الشرقية، والدبور - بفتح الدال -: الغربية.
أحاديث صلاة الكسوف
ذهب بعض أهل اللغة المتقدمين(1) إلى أنه لا يقال في الشمس إلا خسفت، وفي القمر كسف، وذكر(2) بعضهم هذا(3) عن عروة، ولا يصح عنه والقرآن يرده، قال الله تعالى:{ وخسف القمر }، والذى في كتاب مسلم عن عروة: لا يقال كسفت الشمس، ولكن خسفت، ويقال بفتح الخاء، وهي لغة القرآن، وبضمها على ما لم يسم فاعله، وقال ابن دريد: يقال: خسف القمر، وانكسفت الشمس، وقال بعضهم: لا يقال: انكسف القمر أصلاً، إنما يقال: خسف القمر وكسفت الشمس، وكسفها الله، وكسفت(4) فهي(5) مكسوفة، وقيل: هو بمعنى فيهما. وقال الليث بن سعد: الخسوف في الكل والكسوف في البعض، وقال أبو عمر: الخسوف عند أهل اللغة: ذهاب لونها، والكسوف: تغييره.
وقد جاء في الأحاديث الصحاح في "مسلم" وغيره: كسفت الشمس وخسفت وانكسفت. وأن الشمس والقمر لا يخسفان ولا يكسفان ولا ينكسفان، فإذا خسفا وفإذا كسفا.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" والمتقدمين ".
(2) في (هـ):" وذهب ".
(3) في (هـ):" في هذا ".
(4) قوله:" وكسفت " ليس في (أ).
(5) في (هـ):" وهي ".(3/455)
ذكر مسلم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في كسوف الشمس، وهي سنة عند جميع الفقهاء، وكذلك التجميع لها، وحكى الخطابي عن العراقيين أنه لا يجمع لها، واختلفوا في صفتها، فجمهورهم على ما جاء في حديث عائشة من رواية عمرة وعروة وما وافقه من الأحاديث عن ابن عباس وجابر وعبد الله بن عمرو بن العاص بأنها(1) ركعتان، في كل ركعة ركعتان وسجدتان. قال أبو عمر: وهذا أصح ما في هذا الباب. وغيره(2) من الروايات التي خالفتها معلولة ضعيفة وهذا قول مالك والشافعي والليث وأحمد وأبي ثور وجمهور علماء أهل(3) الحجاز، وقال أهل الكوفة: هما ركعتان كسائر النوافل على ظاهر حديث ابن سمرة وأبي بكرة:" أنه صلى ركعتين "، وحمله أصحابنا أن(4) الأحاديث الأخر تفسرها بأنها(5) ركعتان، في كل ركعة ركعتان.
وقد ذكر مسلم من طريق عائشة وعن ابن عباس وجابر: ركعتان، في كل ركعة ثلاث ركعات، وقد ذكر عن ابن عباس أيضًا وعن على ابن أبي طالب: ركعتان، في كل ركعة أربع ركعات، والروايات الأول أصح، ورواتها أحفظ وأضبط، وذكر أبو داود من حديث أبي بن كعب:"ركعتان، في كل ركعة خمس ركعات "، وقد قال بكل مذهب منها بعض الصحابة.
قال الإمام: قال بعض أهل العلم: إنما ذلك حسب مكث الكسوف، فما طال مكثه زاد تكرير الركوع فيه، وما قصر اقتصر فيه، وما توسط اقتصد فيه.
__________
(1) في (هـ):" بأنهما ".
(2) في (هـ):" وغيرها ".
(3) قوله:" أهل " ليس في (ط) و(هـ).
(4) في (هـ):" على أن ".
(5) في (هـ):" بأنهما ".(3/456)
قال القاضي: وإلى هذا نحا الخطابي وإسحاق بن راهويه وغيرهما. وقد يُعترض عليه بأن طولها ودوامها لا يعلم من أول الحال ولا من الركعة الأولى، وقد جاء بالركعتين في كل رواية على صفة واحدة، مع أن كون النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة في المسجد لا يكاد يحقق أمرها منه(1)، وبهذا يرد قول بعض الكوفيين أن رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الركوع ثم رجوعه إليه إنما كان ليتطلع حال الشمس لا لقصده(2) لقيام آخر، إذ لا يصل إلى ذلك في صلاته في المسجد وهو مظلَّل معرَّش، ولا روى أحد أنه برز لها في الصحراء، مع أن التطويل في القيام الثاني يشهد ببطلان هذا التأويل وبعدها، وإن كان روي عن بعض السلف أنه إذا ركع فقال: سمع الله لمن حمده، نظر، فإن لم تنجل قرأ ثم ركع، فإذا قال: سمع الله لمن حمده، نظر (3)، وهكذا أبدًا لا يسجد حتى تنجلي، وقال بعض العلماء: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الكسوف غير مرة، وفي غير سنة فروى كل واحد ما شاهده من صلاته، وضبطه من فعله واختلاف صلاته فيها بحسب دوام الكسوف وخفته،[ وأن الأمر موسع ](4)؛ ولهذا نحا الطبري وإسحاق وابن المنذر، ورأوا أن المصلي لها مخير أن يأخذ بما شاء من هذه الأحاديث، إن شاء ركعتين، وإن شاء أربع ركعات في ركعتين. وإن شاء ثلاثًا في كل ركعة، وإن شاء(5) أربعًا.
__________
(1) في (أ) و(ط):" منها ".
(2) في (هـ):" يقصده ".
(3) قوله:" [ فإن لم ينجل قرأ، ثم ركع، فإذا قال: سمع الله لمن حمده نظر ] مكرر في (ط).
(4) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(5) قوله:" وإن شاء " ليس في (هـ).(3/457)
وقوله في حديث هشام:" فأطال القيام جدًّا، وذكر في كل قيام وركوع من الركعة الأولى كذلك مع قوله وهو دون الأول سنة صلاة كسوف الشمس الإطالة فيها عند مالك والشافعي وعامة العلماء، كما جاء في الأحاديث الصحيحة في ذلك من تقدير(1) قراءتها بالسور الطوال، وقد جاء حديث آخر أنه قرأ - عليه السلام - بالنجم، وروي عن قوم من السلف والصحابة أنه قرأ فيها بـ{ يس }، و{ سأل سائل }، ونحو هذا، ومجملها ليجمع(2) بين الأحاديث أنها في كسوف القمر إذ لم يأت هناك بيان أن قراءته - عليه السلام - بالنجم كانت(3) في كسوف الشمس.
واختلف المذهب عندنا، هل نقرأ في كل ركعة من الأربع بأم القرآن وهو المنصوص عن مالك ؟ أم لا يقرؤها إلا في الأولى من كل ركعة؟ وهو قول محمد بن مسلمة(4).
وقوله في جميعها:" وهو دون القيام الأول "، وفي الركوع: " وهو دون الركوع الأول"، لا إشكال في القيام الثاني والركوع الثاني من الركعة الأولى، ولا خلاف فيه بين العلماء أنه أقصر مما قبلهما، وكذلك القيام الثاني والركوع الثاني من الركعة الثانية أنه أقصر مما قبلهما.
__________
(1) في (هـ):" تقرير ".
(2) في (هـ):" للجمع ".
(3) في (هـ):" هل كانت ".
(4) في (هـ):" سلمة ".(3/458)
واختلف العلماء في القيام الأول والركوع الأول من الركعة الثانية، هل هو أقصر من القيام الثاني والركوع الثاني من الأولى، وأنه بمعنى قوله:"دون القيام الأول والركوع الأول(1)"، أو مساوٍ لذلك وأقصر من أول قيام وأول ركوع ؟ وأن هذا معنى قوله:" دون(2) القيام الأول ". والركوع الأول [ من الركعة الثانية، هل هو أقصر ](3)، والوجه الأول أظهر، وهو قول مالك: أن كل ركعة دون التي قبلها، وهو مقتضى الحديث ؛ لأنه كذلك قال في كل قيام وركعة أنه دون [التي قبلها ودون](1) الأول، يدل(4) أنه يريد الذي قبله، ويعضده قوله في الحديث الآخر عن جابر:" ليس منها ركعة إلا التي قبلها أطول من التي بعدها ".
وقوله:" ثم انصرف وقد تجلت الشمس فخطب الناس "، يحتج به الشافعي وإسحاق والطبري وفقهاء أصحاب الحديث في كون الخطبة مشروعة في صلاة الكسوف، ومالك وأبو حنيفة لا يريان(5) ذلك، وحجتهما(6) أن خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كانت لإعلام الناس أن الكسوف آية، وأنه ليس على ما قالوه من كسوفها لموت إبراهيم - عليه السلام - ولموت(7) عظيم، على ما كانت تقوله، الجاهلية، قيل: ولتعليمه سنتها(8) لقوله:« فإذا رأيتموهما(9) فافزعوا للصلاة»، وبما أطلع عليه من أمر الجنة والنار في صلاته، وهذا خاص به - عليه السلام -.
__________
(1) قوله:" والركوع الأول " ليس في (أ) و(ط).
(2) قوله:" دون " ليس في (ط).
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(4) في (هـ):" قيل " بدل:" يدل".
(5) في (ط) و(هـ):" يرون ".
(6) في (ط) و(هـ):" حجتهم ".
(7) في (هـ):" أو لموت ".
(8) في (ط):" سنتهما ".
(9) في (هـ):" رأيتموها ".(3/459)
وقوله:« إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله » الحديث، خصهما بهذا، وكل شيء له آية(1) لمعان كثيرة، منها نفي ما كان تعتقده الجاهلية فيهما، ويقوله أهل الفضاء والنجوم من دليلهما على ما يحدث في العالم، ألا ترى كيف قال في الحديث:" انكسفت الشمس يوم مات(2) إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم "، وفي الحديث الآخر:" وكانوا يقولون: لا يخسفان إلا لموت عظيم، وكيف وصل كلامه هذا بقوله:« لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته(3)»، وأيضًا فلما كان كثير من الكفرة يعتقد فيهما من التعظيم، لأنهما أعظم الأنوار الظاهرة، حتى ارتقى الحال ببعضهم(4) إلى عبادتهما، وقال جماعة من الضلال بتأثيرهما في العالم، فأعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهما آيتان على حدوثهما ونقصهما عن هذه المرتبة لطروء(5) التغير والنقص عليهما، وإزالة نورهما الذي بهما(6) عظما في النفوس عنهما، وأيضًا فلما جاء أن القيامة تكون وهما مكسوفان، ولهذا(7) - والله أعلم - جاء في الحديث الآخر: "فقام فزعًا يخشى أن تكون الساعة "، فقيل: في هذا آيتان على قيام الساعة، وأيضًا فإن الآيات غيرهما من طلوعهما وإشراقهما وجري البحار وتفجر الأنهار ونمو الثمار(8) وغير ذلك مألوف، وليس فيه تغير حال، وهذه غير مألوفة في سائر الأيام والليالي، وإلى هذا أشار بقوله في الرواية الأخرى: «يخوف الله بهما(9) عباده ». وفيه أنه(10) ليس في قولهم:" كسفت لموت إبراهيم "، ما يوجب تكفير قائله ؛ لأنه لم يجعل الفعل في ذلك لغير الله، وإنما قال ذلك القائل إنهما كالدليل والعلامة فكذب ذلك النبي -
__________
(1) في (ط):" آية تعلى "، في (ب):" آية تعلا ".
(2) في (ط):" موت ".
(3) في (ط):" حياته ".
(4) في (هـ):" لبعضهم ".
(5) في (هـ):" بطروء ".
(6) في (هـ):" به ".
(7) في (هـ):" قال: ولهذا ".
(8) في (هـ):" والثمار إذا أثمر ".
(9) في (هـ):" يخوف بهما ".
(10) في (ط) و(هـ):" أن ".(3/460)
صلى الله عليه وسلم -، وأن(1) كسوفهما ليس إلا لما ذكره.
وقوله:« يا أمة محمد، ما من أحد أغير من الله »، قال الإمام: معناه: ما من أحد أمنع للفواحش من الله، والغيور يمنع حريمه، وكلما زادت غيرته زاد منعه، فاستعير لمنع الباري سبحانه عن معاصيه اسم الغيرة مجازًا واتساعًا، وخاطبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يفهمونه.
قال القاضي: قيل: الغيرة مشتق من تغير حال الغيران لما رآه(2) من قبيح فعل من غار(3) عليه، وتغير قلبه وهيجان حفيظته بسبب هتك حريمه لديه عنهم، ومنعهم من ذاك،[ والله تعالى يتقدس عن تغير ذاته وصفاته، وغيرته ما غيره من حال العاصي بانتقامه منه وأخذه له، ومعاقبته في الدنيا والآخرة: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }](4).
وقوله:« لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا »، قال القاضي: قال الباجي: يريد أنه - عليه السلام - قد خصه الله بعلم(5) لا يعلمه غيره، ولعله مما رآه في مقامه من النار وشناعة منظرها.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" وأعلم أن ".
(2) في (هـ):" ما يراه " بدل:" لما رآه ".
(3) في (هـ):" يغار ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(5) في (هـ):" أنه - عليه السلام - خص بعلم ".(3/461)
وقوله:« ألا قد بلغت »، يعني ما أمر به من التحذير والإنذار، وما نزل إليهم، ويدل أنه لم يلزم تبليغ جميع(1) ما شاهده واطلع عليه من الغيوب، وتفصيل ذلك الذي قال:« لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً(2)»، فلو لزم تبليغه لأعلمهم بذلك. وقع عند السمرقندي في حديث قتيبة أول الباب في الركعة الثانية ورفعه رأسه من ركعتها الثانية زيادة:" فأطال القيام وهو دون القيام الأول، ثم سجد "، وهذه الزيادة وهم وليست عند غيره من رواة مسلم في هذا الحديث ولا غيره، وكلهم يقول:" ثم رفع رأسه من الركرع ثم انحدر فسجد "، وفي الآخر(3):" فقال:« سمع الله لمن حمده »، ولم يذكر أحد من الفقهاء التطويل في القيام الذي قبل السجود، لكن مسلم ذكره في حديث جابر من رواية أبي الزبير.
وقوله:« فإذا رأيتموهما فافزعوا للصلاة(4)»، أي: بادروا إليها، وقيل: فصدوا، والفزع يكون بمعنى الاستغاثة، وبمعنى المبادرة للإغاثة(5)، وبمعنى الهبوب من النوم وغيره.
وقوله في الرواية الأخرى:« فصلوا حتى يفرج عنكم »، ليس يدل أن الصلاة سبب التفريج دليلاً واضحًا ؛ لكن أمرهم بالمبادرة للطاعة عند ظهور هذه الآية العظيمة. والقدرة الشنيعة بهذا الخلق المعظم(6) عند الناس، والإخلاص لله تعالى ومخالفة الكفرة الذين يعتقدونهما إلهين.
وقوله:« فصلوا حتى يفرج الله عنكم »، يجب تطويل الصلاة ما لم تنجل، فإن أتمها على سنتها قبل الانجلاء لم يلزم الجمع لصلاة أخرى على سنتها، ولكن للناس أن يصلوا أفذاذًا ركعتين كسائر النوافل، ويدعوا ويذكروا الله، وإن انجلت وهو في الصلاة، فاختلف كبراء أصحابنا، هل يتمها على سنتها ركعة بركعتين أم بركعة واحدة كسائر النوافل ؟
__________
(1) قوله:" تبليغ جميع " ليس في (هـ).
(2) في (ط) زيادة:" ولبكيتم كثيرًا ".
(3) في (أ):" الآخرة ".
(4) في (هـ):" إلى الصلاة ".
(5) في (هـ):" لإعانة ".
(6) في (هـ):" العظيم ".(3/462)
وقوله:" فبعث مناديًا: الصلاة جامعة "، استحسن الشافعي هذا، وهو حسن، وهم متفقون أنه لا يؤذن لها.
قال الإمام: في كتاب الترمذى أنه جهر بالقراءة، وحكى أن مالكًا قال به، وهي رواية شاذة، ما وقعت(1) عليها في غير كتابه، وذكرها ابن شعبان عن الواقدي عن مالك.
قال القاضي: فذكر مسلم في حديث الوليد بن مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر في صلاة الخسوف، وتأوله بعضهم على صلاته بالليل في خسوف القمر. اختلف العلماء في ذلك، فأخذ بالجهر فيها بالنهار لهذا الحديث جماعة من السلف، وقاله محمد بن الحسن(2) وأبو يوسف، وقاله أحمد وإسحاق وفقهاء الحديث، ورواه معن، والواقدي عن مالك، ومشهور قول مالك الإسرار فيها، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والليث بن سعد وسائر أصحاب الرأي، وحجتهم تقديرهم القراءة بسورة البقرة وغيرها، وقوله في الحديث الآخر:" ولو جهر لعلم ما قرأ به "، إلى ما في حديث ابن عباس وغيره من أنه لم يسمع له قراءة، وخيّر الطبري بين الجهر والسر.
قال القاضي: قوله في حديث عطاء عن عبيد بن عمير(3):" حدثني من أصدق حديثه يريد عائشة "، كذا عند السمرقندي ولغيره من الرواة:" من أصدق - حسبته - يريد عائشة.
وقوله في هذا الحديث:" ركعتين في ثلاث ركعات "، أي: في كل ركعة ثلاث ركعات، كقوله في الرواية الأخرى: "صلى ست ركعات وأربع سجدات".
__________
(1) في (ط):" وقفت ".
(2) في (هـ):" الحسين ".
(3) في (هـ):" عمر ".(3/463)
وقولها في الحديث الآخر:" ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ذات غداة مركبًا فخسفت الشمس "، وذكر فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ](1) أتى من مركبه حتى انتهى إلى مصلاه "، وذكرت أنه في المسجد، وهو في "الموطأ" من رواية مالك أبين. فيه حجة لمالك والجمهور أن سنة صلاتها في المسجد، وأنه لا يبرز لها، إذ لو تكلف البروز لها والخروج إليها لفاتت سنتها وتجلَّت الشمس قبل الاجتماع لها، ولم يدركها كثير من الناس، ولأنه لم يرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاها بالصحراء، وكفى برجوعه منها إلى المسجد حجة، لكن أصبغ وابن حبيب يخيران في صلاتها في المسجد أو الصحراء.
وقوله في هذا الحديث:" ذات غداة مركبًا(2)"، وزاد في "الموطأ":" فرجع ضحى"، لا خلاف أن أول وقتها وقت جواز صلاة النافلة، وهو ارتفاع الشمس، واختلف في آخره، فعن مالك في ذلك ثلاث روايات، إحداها: للزوال(3)، فلا تصلى بعده، وهو معنى قول الليث. الثانية: تصلى إلى صلاة العصر ولا تصلى بعدها، وهذا قول كثير من السلف والثوري وأبي حنيفة وأصحابه والطبري، وأكثر أصحاب مالك، والثالثة: أنها تصلى في جميع النهار، وهو قول الشافعي وأبي ثور وإسحاق، قال: ما لم تصفر الشمس إلى الغروب، وكذلك يصلى لخسوف القمر ما لم تطلع الشمس إلى أن ترتفع، وفيها قول رابع: أنها تصلى النهار كله إلا في هذين الوقتين الطلوع والغروب، وعند الزوال وهو اختيار ابن المنذر، وهو على(4) القول يمنع(5) التنفل عند الزوال.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (هـ).
(2) قوله:" مركبًا " ليس في (ط).
(3) في (ط) و(هـ):" الزوال ".
(4) قوله:" وهو " ليس في (ط)، وفي (هـ):" وعلى هذا ".
(5) في (ط):" بمنع ".(3/464)
وقوله(1):" فخرجت في نسوة بين ظهري الحجر(2) في المسجد "، دليل على صلاة النساء لها، وخروجهن لصلاتها، وقد اختلف العلماء في خروجهن لها على ثلاثة أوجه - كما تقدم في صلاة العيد - وهي لازمة للنساء والمسافرين وغيرهم عند مالك، وعلى مشهور مذهبه، وعند الشافعي وعن مالك ما يدل أنها لا تلزم إلا من تلزمه الجمعة، والجمهور على أنهن يجمعن لها ويقدمن من يصلى بهن إذا لم يكن يقيمها الإمام، وكذلك من فاتته من الرجال. وذهب الكوفيون والحسن إلى أنهم(3) يصلون أفذاذًا لا جماعة، وذهب بعض أئمتنا إلى أن من فاتته مع الإمام لا تلزمه.
وذكر في هذا الحديث من رواية سليمان بن بلال الركوع مرتين لا غير، ثم قال:" ثم رفع وقد تجلَّت الشمس فقال..." الحديث، ولم يذكر سجودًا ولا تكرير ركوع، وذكر تعوذه من عذاب(4) القبر، وإخباره - عليه السلام - بذلك، وفتنة القبر عندنا صحيحة غير مستحيلة، وسيأتى الكلام عليها في الجنائز وآخر الكتاب إن شاء الله.
وقوله:« عرض على كل شيء تولجونه »، أي: تدخلونه وتصيرون إليه.
__________
(1) في (ط):" هو قول عائشة ".
(2) في (هـ):" الحجن ".
(3) في (هـ):" أنهن ".
(4) في (ط) و(هـ):" فتنة ".(3/465)
وقوله:« حتى الجنة والنار »، قال العلماء: يحتمل أنه رآهما رأى(1) عين، وأن الله كشف له عنهما وفرج الحجب بينه وبينهما، كما فرج له عن المسجد الأقصى حتى وصفه، ويكون قوله على هذا في الحديث:« في عرض هذا الحائط »؛ أي: في جهته وناحيته، أو في التمثيل لقرب المشاهدة، ويحتمل أن يكون ذلك رؤية علم وعرض وحي بإطلاعه وتعريفه من أمورهما تفصيلاً ما لم يكن يعرفه بعد، ومن(2) عظيم شأنهما ما زاده علما من(3) أمرهما(4)، وخشية وتحذيرًا، ودوام(5) ذكر، وقلة غفلة، ولهذا قال:« لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا »، والتأويل الأول أولى، وأشبه بألفاظ الحديث، لما ذكر فيه من الأمور التي تدل(6) إنها رؤيا عين، ومثل قوله:« فتناولت منها(7) عنقودًا »، وتأخره مخافة أن تصيبه لفح النار.
قال الإمام: وقوله:« فتناولت(8) منها - يعني(9) الجنة - قطفًا »، القطف: العنقود وهو اسم لكل ماقطف.
وقوله:« تكعكعت »؛ أي: جبنت، يقال: تكعكع الرجل وتكاعى وكع كعوعًا، إذا أحجم وجبن، قاله الهروي وغيره.
قال القاضي: قد ذكر مسلم هذا الحرف أيضًا في حديث عطاء عن ابن عباس بعد هذا وقال فيه:« كففت » مكان « تكعكعت »، وهما بمعنى متقارب، وقد علل في هذا(10) الحديث كفَّه وتكعكعه عن أخذه(11) بقوله في الحديث:« فقصرت يدي عنه »، وفي آخر:« ثم بدا لي أن لا أفعل »، وقد يجمع بين هذين اللفظين أنه بدا له لما تحقق أنه لا يناله، وانصرف رأيه عن ذلك.
__________
(1) في (هـ):" رؤية ".
(2) في (هـ):" فعرف من ".
(3) في (ط) و(هـ):" في ".
(4) في (هـ):" أمرها ".
(5) في (ط) و(هـ):" أو دوام ".
(6) في (هـ):" تدل على ".
(7) قوله:" منها " ليس في (أ).
(8) في (ط) و(هـ):" وتناولت ".
(9) في (هـ):" يعني عنقودًا ".
(10) قوله:" هذا " ليس في (ط) و(هـ).
(11) في (هـ):" آخر ".(3/466)
وقوله:« ورأيت جهنم يحطم بعضها بعضًا »، أي: يأكله، وبه سميت الحطمة لحطمها كل شيء ألقى فيها، وأصله الكسر والفساد بعنف. والسوائب من قوله تعالى:{ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة }، كانوا ينذرونها في الجاهلية، يسيبون(1) نوقهم فتبقى سائبة لا تمنع من رعي(2) ولا ماء، ولا ينتفع بها.
وقوله:« يجر قصبه في النار »، القصب - بضم القاف -: الأمعاء، والخشاش - بفتح الخاء والشين المعجمتين -، خشاش الأرض: هوامها، وقيل: صغار الطير، ويقال بكسر الخاء أيضًا، وحكي عن أبي على فيه الضم أيضًا، وقيل: لا يقال في الطير إلا بالفتح، وقال أبو عبيد: الخشاش: شرار الطير، وفي تعذيب الله هذه المرأة بهذه الهرة(3) حين ماتت بربطتها بخدشها إياها، المؤاخذة على الصغائر،وليس فيها أنها عذبت عليها بالنار، وقد يحتمل أن هذه المرأة كانت كافرة، فزيدت بذلك عذابًا. ولفح النار: ضرب لهبها وتأثيره، قال الله تعالى:{ تلفح وجوههم النار }، واللفح أعظم تأثيرًا من النفح، قال الله تعالى:{ ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك }، أي: أدنى شيء منه، قاله(4) الهروي.
و " آضت الشمس "، أي: رجعت لحالها الأولى، وكشف عنها الكسوف.
وقوله:« حين رأيتموني أقدم » - بضم الهمزة وفتح القاف -، بمعنى ما في الرواية الأخرى:« أتقدم ». والمحجن: العصا معقفة الطرف.
وفي الحديث: الدليل على المعاقبة على العبث بالحيوان وإهلاكه، لغير منفعة، لما ذكر(5) من تعذيب المرأة بربط الهرة حتى ماتت، وقد جاء الحديث أيضًا في قاتل العصفور بنحو ذلك.
__________
(1) في (ط):" ليسبوا ".
(2) في (ط) و(هـ):" مرعى ".
(3) قوله:" بهذه الهرة " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (هـ):" قال ".
(5) في (هـ):" روى ".(3/467)
وقولها:" حتى تجلاني الغشِيّ "، أو "العشْي": رويناه هنا وفي غير هذا الكتاب بكسر الشين في الأولى وتثقيل الياء، وبسكون الشين في الثانية، وهما بمعنى، وهي الغشاوة وذلك لطول القيام ولكثرة الحر ؛ ولذلك جعلت تصب على رأسها الماء، ولذلك قال في الحديث الآخر:" في يوم شديد الحر"، ثم قال: " فأطال القيام حتى جعلوا يخرون " أي يسقطون، وفيه أن الغشي الخفيف لا ينقض الطهارة، ووقع عند الطبري العشي بالعين المهملة مع سكون الشين، وليس بشيء، وإشارتها برأسها إلى السماء، وقول أسماء: "فقلت: آية، قالت: نعم "، أي بالإشارة أيضًا، كله دليل على جواز الإشارة، ومثل هذا العمل في الصلاة وصبها الماء على رأسها ووجهها(1) في الصلاة من ذلك، لاسيما في النوافل وغير الفرائض، وكذلك تأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة وتقدمه ومد يده، كل هذا من الباب، وقد تقدم الكلام فيه.
وقوله في ذكر فتنة القبر:« فأما المنافق أو(2) المرتاب »، دليل على أن الشاك في نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصح إيمانه، وأن الإيمان لا يتم إلا بالتصديق له، وقد يحتج به من يرى أن(3) مجرد التقليد بغير بصيرة غير نافعة، لقوله:" سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته "، وقد يكون هذا إنما هو لمن يصمم عقده ولا اطمأنت نفسه، وإنما قال كلامًا لا يعتقد صحته، ولا يعرف معناه.
وقوله للمؤمن:" نم صالحًا "، أي: وإلا(4) روع عليك مما يروع به الكفرة من العرض على النار، أو غيره(5) من عذاب القبر.
__________
(1) قوله:" ووجهها " ليس في (أ).
(2) في (هـ):" و ".
(3) قوله:" أن " ليس في (هـ).
(4) في (ط) و(هـ):" لا ".
(5) قوله:" غيره" ليس في (هـ)، وفي (ط):" غيرهم ".(3/468)
وقوله:"علمنا إن كنت(1) مؤمنا" بالكسر، أي: أنك مؤمن قاله الداودي، كما قال تعالى:{ كنتم خير أمَّة أخرجت للناس(2)}، أي: أنتم، وقال: {وكان الله عليمًا حكيمًا }، وهو لم يزل كذلك، والأظهر أنها على بابها، أي علمنا أنك كنت مؤمنًا، وكذلك أنت، وعليه مجمل الآية، وقد يكون قوله:" إن كنت مؤمنًا " أي في علم(3) الله، كما قيل في قوله تعالى:{ وماكانوا(4) مهتدين }، وقيل ذلك في قوله:{ كنتم خير أمة(5)} أيضًا.
وقوله:" ما علمك بهذا الرجل " يريد النبي محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، كنى عن نفسه، قيل: يحتمل أنه سمِّي للميت في قبره، أو مثل له، والأظهر أنه سمى له.
وقولها:" فزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم كسفت الشمس " يحتمل أنه ذعر لذلك، كما قال في الحديث الآخر:" فقام فزعًا يخشى أن تكون الساعة "، ويحتمل أن يكون من الفزع الذي هو المبادرة إلى الصلاة كما قدمناه.
وقولها:" فأخطأ بدرع "، كذا عند جميع شيوخنا، قال الهروي: يقال لمن أراد أن يفعل شيئًا ففعل غيره، أخطأ، ولمن فعل غير الصواب أخطأ، فمعناه: أن النبي - عليه السلام - لاستعجاله غلط في ثوبه فلبس درع غيره، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر:" فأخذ درعًا ".
__________
(1) في (هـ):" كنت لا ".
(2) قوله:"{ أخرجت للناس }" ليس في (ط).
(3) في (ط):" أي بعلم ".
(4) في (هـ):" وما كنا ".
(5) في (هـ) زيادة:"{ أخرجت للناس }".(3/469)
وقوله:" حتى أدرك بردائه "، ووقع في بعض الروايات فخطأ، ولعله خطئ، قال ابن عرفة: يقال: أخطأ في العمد وغير العمد، وخطئ بمعناه، وكلاهما مهموز.[ قال الأزهري: أخطأ إذا لم يتعمَّد، وخطئ إذا تعمد، والخطأ ضد الصواب مهموز](1) يمد ويقصر، والمدّ قليل، والمصدر ممدود، خطأ وأخطأ، وقرأ الحسن:( خطّاءً كبيرًا )[ بالفتح والمد، والخطئ بالكسر وسكون الطاء: الإثم، وقرأ(2) نافع:{ خِطأً كبيرًا }](1)، ويقال فيه أيضًا: الخطيئة والخاطئة، وقيل: إن "الخطئ" لغة في الخطاء مثل نَجَس ونَجِس، وأما قراءة من قرأ: خطاء، بالكسر والمد، فمعنى آخر من التخطي، أي مجاوزة عن الحق إلى الباطل، وقد أنكرها النحاس.
قال مسلم: ثنا سويد بن سعيد، ثنا حفص بن ميسرة، كذا لعامة شيوخنا وسائر النسخ، وكان في كتاب شيخنا أبي محمد بن أبي جعفر من طريق الهوزني: ثنا هارون بن سعيد.
وقوله في بعض هذه الأحاديث:« فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله »، قد بين - عليه السلام - بفعله وقوله: أن ذكر الله هنا في الصلاة وبالصلاة، وتقدم تفسير كفران العشير قبل هذا وكونه الزوج، ووقع هنا للهوزنى:"العشيرة"، ولا تعرف هذه الرواية، لكنها توافق أحد التأويلين في العشير المتقدم.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(2) في (هـ):" وقال ".(3/470)
وفيه ذم كفران الإحسان وفي إطلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - اسم الكفر عليه حجة لمن أطلق ذلك في أهل المعاصي أيضًا، وأنه ليس المراد به الكفر حقيقة، وإنما هو ستر المعروف وترك شكره. ولذلك ترجم البخاري على مثل هذا: كفر دون كفر. وأما رؤيته أكثر أهلها النساء للعلة التي ذكرها زائدًا على ما يجمعهم مع الرجال من الكفر بالله وغير ذلك من المعاصى الموجبة للعقاب ؟ ولهذا ترجح رواية يحيى بن يحيى الأندلسي في هذا الحديث في قوله:" أيكفرن(1) بالله ؟"، قال:« ويكفرن الإحسان » بزيادة واو، ولم يروه كذا غيره، وغلَّطه(2) في ذلك بعضهم، وقال: قد أثبت لهن الكفر بالله، وهذا لا يلزمه، إنما أشار إلى تقسيمهن وتكثير الأسباب الموجبة لكثرتهن في النار، وأن منهن من يكفر(3) بالله، و منهن(4) من يكفر الإحسان، فجاءت روايته حسنة صحيحة غير مردودة، ورواية من أسقط الواو صحيحة أيضًا، أي لم يكفر جميعهن، ولكن كثرن(5) بأن منهن من يكفر الإحسان. وفيه أن سوء عشرة الزوجين وترك قضاء حق الزوج وعقوقه(6) موجب للعقاب.
ووقع في هذا الحديث في "الأم" تخليط من الرواة عن مسلم، فسقط من رواية السمرقندي في أول الحديث ذكر الركوع(7) الأول والقيام الذي يليه من الركعة الأولى، وهو ثابت مستقيم مجوز(8) لغيره، ولسائر الرواة.
وقوله فيما أجمعوا عليه وهو دون القيام الأول ودون الركوع الأول يصحّح وهم من أسقط ذلك. وسقط من رواية العذرى والسمرقندي القيام الثاني، والركوع الثاني من الركعة الثانية، وثبت لغيرهما وهو الصواب.
__________
(1) في (ط):" أتكفرن ".
(2) في (هـ):" غلط ".
(3) في (هـ):" يكفرن ".
(4) في (أ) و(هـ):" منهم ".
(5) في (أ) و(ط):" كثروا ".
(6) قوله:" وعقوقه " ليس في (هـ).
(7) في (ط):" الرجوع ".
(8) في (ط):" يجوز ".(3/471)
وقوله: في حديث أبي موسى:" فقام يصلي بأطول قيام وركوع وسجود "، وكذلك قول عائشة:" ما سجدت قط ولا ركعت سجودًا ولا ركوعًا أطول منه "، وفي حديث جابر:" وركوعه نحوًا من سجوده ": حجة لمذهب المدونة، وقول إسحاق وبعض أصحاب الحديث، وحكاه الخطابي عن الشافعي أنه يطيل فيها السجود، وأنه كسائر سجود الصلوات، لا يطول كثيرًا وهو قول الشافعي المعروف.
وقوله في حديث عبد الرحمن بن سمرة:" فجعل يسبح ويحمد ويدعو "، حتى حسر عنها، فلما حسر عنها قرأ سورتين وصلى ركعتين "، معنى "حسر": كشف وأزيل ما بها، والحاسر الذي لا درع عليه، وهو بمعنى: "جلى" في الرواية الأخرى، ظاهره أن الصلاة إنما كانت بعد أن حسر عنها.
قال الإمام: إن كانت صلاته بعد الانجلاء لم يقصد بها صلاة كسوف فلا تفتقر إلى تكرير ركوع أ وسجود.
وقوله:" أترمَّى"، أي: أرمى الأغراض، كما قالوا في الرواية الأخرى، أرمى وأرتمى وأترامى. وقوله في حديث عبد الله بن عمر:" وركعتين في سجدة "، أي في ركعة، وقد تقدم أنه يعبر بالسجدة عن الركعة.(3/472)
وقوله:« فإذا رأيتموها(1) فادعوا الله وصلوا حتى تنكشف »، وتسويته في ذلك بين الكسوفين، ذهب إلى هذا من رأى(2) أن حكم صلاتهما واحد(3) في الهيئة والتجميع، وهو الشافعي وجماعة فقهاء أصحاب الحديث، وروي عن جلة من الصحابة، ووافقهم الليث وعبد العزيز،ولكنهما لم يريا في ذلك تجميعًا، وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أن الصلاة فيها ركعتان كسائر النوافل، يصليها الناس أفذاذًا، ولا يجمعون، وأجاز أشهب التجميع فيها(4)، واختلف عن مالك في الخروج لصلاتها إلى الجامع، والمعروف عنه أن الناس لا يلزمون ذلك ؛ لما فيه من المشقة وظلمة الليل، وحجتهم في هذا كله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جمع وسن صلاة الكسوف للشمس، وبقى أمره بالصلاة لكسوف القمر على المعهود من سائر صلاة النوافل، وقد استدل قوم بعموم قوله:« آيتان من آيات الله، فإذا رأيتم ذلك فصلوا »، "وإذا رأيتموها" على لزوم ذلك من(5) سائر الآيات من الزلازل، والصواعق، والهاد، والرياح الشديدة، والظلمة في الأفق، وشبهه من ا لايات، فذهب أحمد وإسحاق وأبو ثور وأشهب من أصحابنا إلى الصلاة عند ذلك، وروي عن ابن عباس وابن مسعود، وذهب مالك والشافعي إلى أن ذلك لا يلزم، وحجتهما(6) رفع الاحتمال بتخصيص ذلك بالكسوفين في الروايات الأخر بقوله:« فإذا رأيتم كسوفًا »، و « فإذا كسفا(7)»، واستحسن أصحاب الرأي الصلاة في ذلك فرادى.
وقوله: في حديث القواريري:" ويُهلِّل(8)"، وعند العذرى:" ويُهلَّ(9)" بلام واحدة والوجه الأول.
*****************
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الجنائز
__________
(1) في (ط):" رأيتموهما ".
(2) قوله:" رأى " ليس في (ط).
(3) في (ط):" واحدة ".
(4) في (هـ):" فيهما ".
(5) في (ط) و(هـ):" في ".
(6) في (ط) و(هـ):" حجتهم ".
(7) في (ط):" كسفها ".
(8) في (ط):" وقوله ويهلل ".
(9) في (ط):" ويهلل ".(3/473)
1 - وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، كِلاهُمَا عَنْ بِشْرٍ، قَالَ أَبُو كَامِلٍ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ».
وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ جَمِيعًا بِهَذَا الإِسْنَادِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الجنائز
قال الإمام أبو عبدالله قوله - عليه السلام -: " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" يحتمل أن يكون أمره - عليه السلام - بذلك لأنه موضع يتعرض فيه الشيطان لإفساد اعتقاد الإنسان، فيحتاج إلى مذكر ومنبه له على التوحيد، ويحتمل أن يريد بذلك ليكون آخر كلامه ذلك فيحصل له ما وعد به عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: " من كان آخر كلامه لاإله إلا الله دخل الجنة ".(3/474)
قال القاضي: والتلقين سنة مأثورة بهذا الحديث عمل بها المسلمون وكرهوا الإكثار عليه والموالاة، لئلا يضجر ذلك الميت، لا سيما مع ضيق الصدر بالمرض واختلال الحس بشدة الكرب، فربما كان منه فتور أو عقد لكراهة ذلك، أو قول يقبح، إن لم يأت كل ذلك عن روية فيخشى عليه منه. 2 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُثْمَانُ ابْنَا أَبِي شَيْبَةَ. ح، وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالُوا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ».(3/475)
3 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ، عَنِ ابْنِ سَفِينَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ؛ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ:{ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا »، قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا، فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي لَهُ، فَقُلْتُ: إِنَّ لِي بِنْتًا، وَأَنَا غَيُورٌ، فَقَالَ:« أَمَّا ابْنَتُهَا فَنَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا، وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَذْهَبَ بِالْغَيْرَةِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجعلوا الحد في ذلك إذا قالها مرة ألا يكرر عليه إلا أن يتكلم بكلام آخر فيعاد عليه حتى يكون آخر كلامه ليرجى له بذلك الدخول في قوله: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله حرمه الله على النار ".
[ وإن ذلك من حقوق المسلم على المسلمين ولا خلاف في ذلك ](1).
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(هـ).(3/476)
وفي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك دليل على تعيين الحضور عند الميت لاحتضاره لتذكيره وإغماضه والقيام عليه.[ وإن ذلك من حقوق المسلم على المسلمين ولا خلاف في ذلك ](1).
4 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ سَفِينَةَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ:{ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلا أَجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ، وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا ». قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتُ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي خَيْرًا مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
5 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنِي عُمَرُ - يَعْنِي ابْنَ كَثِيرٍ -، عَنِ ابْنِ سَفِينَةَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ..، بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ، وَزَادَ: قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: مَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ عَزَمَ اللَّهُ لِي فَقُلْتُهَا، قَالَتْ: فَتَزَوَّجْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).(3/477)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذكر مسلم في أول الباب حديث بشر بن المفضل، عن عمارة بن غزية، ثم قال: نا قتيبة بن سعيد قال: نا الدراوردي قال: ونا أبوبكر بن أبى شيبة نا خالد بن مخلد نا سليمان بن بلال جميعا بهذا الإسناد لم يزد، قال لنا الحافظ أبو علي معناه(1): عن عمارة بن غزية المتقدم حدث عنه: سليمان بن بلال والدراوردي في هذا الإسناد الآخر.
وقول أم سلمة: ثم عزم(2) الله لي فقلتها. لا يسمى أفعال الله عزما، وقد تقدم أول الكتاب من هذا، ولعل معناه: خلق الله لي عزما.
6 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَرِيضَ أَوِ الْمَيِّتَ فَقُولُوا خَيْرًا، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ »، قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَبَا سَلَمَةَ قَدْ مَاتَ، قَالَ:« قُولِي: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلَهُ، وَأَعْقِبْنِي مِنْهُ عُقْبَى حَسَنَةً »، قَالَتْ: فَقُلْتُ، فَأَعْقَبَنِي اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ لِي مِنْهُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم -.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها: وأنا غيور، وجاءت به في صفة ا لمؤنث، وكثيرًا(3) ما جاء فعول في الأنثى(4) كما قالوا: ضحوك للكثيرة ا لضحك، وعروب لمثلها(5).
وقيل: المتحببة للرجل(6).
__________
(1) في (هـ):" سمعناه ".
(2) في (هـ):" فعزم " بدل:" ثم عزم ".
(3) في (ط) و(هـ):" كثير ".
(4) قوله:" الأنثى " ليس في (ط).
(5) في (أ):" بمثلها ".
(6) في (هـ):" وعروب للمتحببة للرجال وسموع مثلها ".(3/478)
وقيل(1): عقبة كؤود، وأرض(2) صعود وحدور وهبوط، ورجل عروس وامرأة عروس، ويقال: امرأة غيرى ورجل غيور وغيران.
وقولها في الحديث: اللهم أجرني في مصيبتي.
وقوله:" إلا أجره الله تعالى". يقال: بالمد وبغير المد(3) حكاه صاحب الأفعال.
وقال الأصمعي: هو مقصور لا يمد، وهو الذي حكاه أكثر أهل اللغة.
ومعنى: " أجره الله " أي أثابه على عمله ووفاه أجره عليه.
وقوله: " إن الروح إذا قبض تبعه البصر " دليل(4) أن الموت ليس بفناء ولا إعدام تام، وإنما هو انتقال وتغيير حال، وإعدام الجسد دون الروح، إلا ما استثنى من عجب الذنب.
7 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، عن خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عن أَبِي قِلابَةَ، عن قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، عن أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَالَ:« إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ »، فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ:« لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ »، ثُمَّ قَالَ:« اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) قوله:" قيل " ليس في (ط)، وفي (هـ):" وقال.
(2) في (هـ):" أو أرض ".
(3) قوله:" المد " ليس في (هـ).
(4) في (هـ):" دليل على ".(3/479)
وقوله في الحديث الآخر: " يتبع بصره نفسه " حجة لمن يقول أن الروح والنفس بمعنى واحد لذكره في القصة أولا الروح بما ذكر به النفس آخرًا، وقد مضى الكلام على هذا، وسيأتي مبينًا(1) أيضًا(2).
وقوله: " شق بصره " بفتح ا لشين يقال: شق بصر الميت وشق الميت بصره إذا شخص، قاله صاحب الأفعال.
وقوله في الحديث الآخر: " شخص بصره " قال صاحب الأفعال: شخص بالفتح ولم يعرف أبو زيد الكسر.
وقوله:" فأغمضه" تغميض أعين ا لموتى سنة عمل بها المسلمون كافة.
وفيه: تحسين وجه الميت وستر تغيير بصره.
وفي الأحاديث التي(3) ذكر مسلم عن أم سلمة: تعليم ما يقال عند الميت وبعده من الدعاء له، والذكر والاسترجاع وقول الخير والدعاء لمن يخلفه فيجب التأدب بأدب النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وامتثال ما رسمه من ذلك - عليه السلام -
8 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى بْنُ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:« وَاخْلُفْهُ فِي تَرِكَتِهِ »، وَقَالَ:« اللَّهُمَّ أَوْسِعْ لَهُ فِي قَبْرِهِ »، وَلَمْ يَقُلِ:« افْسَحْ لَهُ »، وَزَادَ: قَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ: وَدَعْوَةٌ أُخْرَى سَابِعَةٌ نَسِيتُهَا.
9 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عن الْعَلاءِ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَلَمْ تَرَوُا الإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ شَخَصَ بَصَرُهُ ؟»، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «فَذَلِكَ حِينَ يَتْبَعُ بَصَرُهُ نَفْسَهُ ».
__________
(1) في (هـ):" منه ".
(2) في (ط):" نصا ".
(3) في (هـ):" الذي ".(3/480)
وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ -، عن الْعَلاءِ بِهَذَا الإِسْنَادِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعمل به وحض عليه ولفظ المصيبة في الحديث فيما يكره وإن كان أصله في كل ما يصيب من خير أ و شر، لكن عرف اللغة قد قصره على الشر كالفتنة والامتحان ونحو ذلك.
وقوله: فيقول ما أمره الله { إنا لله وإنا إليه راجعون }، فيحتمل أن يكون الأمر بها على(1) مفهوم الحض على قول ذلك من ثنائه تعالى على قائل ذلك في كتابه، وثوابه له وليس في القرآن الأمر بقول ذلك تصريحا، ويحتمل أن أمر الله في ذلك بوحي ليس من القرآن(2).
[ وقولها: وأنا غيور. كذا يقال للذكر والأنثى غيرى.
10 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كُلُّهُمْ عن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عن ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عن أَبِيهِ، عن عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ: قُلْتُ: غَرِيبٌ وَفِي أَرْضِ غُرْبَةٍ، لأَبْكِيَنَّهُ بُكَاءً يُتَحَدَّثُ عَنْهُ، فَكُنْتُ قَدْ تَهَيَّأْتُ لِلْبُكَاءِ عَلَيْهِ، إِذْ أَقَبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الصَّعِيدِ تُرِيدُ أَنْ تُسْعِدَنِي، فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَالَ:« أَتُرِيدِينَ أَنْ تُدْخِلِي الشَّيْطَانَ بَيْتًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ »، فَكَفَفْتُ عن الْبُكَاءِ فَلَمْ أَبْكِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومعنى قوله](3):" وأخلفه في عقبه في الغابرين " أى: الباقين، كقوله تعالى: { إلا امرأته كانت من الغابرين }.
__________
(1) قوله:" على " ليس في (ط).
(2) في (هـ):" الله ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).(3/481)
وقوله: ونفسه تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه - عليه السلام -.
قال الإمام: بكاؤه يدل على أن المنهي عنه من البكاء ما صاحبه النوح.
قال القاضي: قد فسر هذا - عليه السلام - في الأحاديث الأخر بقوله: " إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم " وأشار إلى لسانه.
وقوله في الحديث الآخر:" ما لم يكن نقع أو لقلقة".
وقوله:" العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول ما يسخط الله".
وقوله: فأقبلت امرأة من الصعيد، هو كل ما(1) علا وجه الأرض، وهو هاهنا إشارة والله أعلم لأعالى الأرض كأنها تريد عوالى المدينة، ومنه صعيد مصر أى أعلى بلادها.
11 - حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ -، عن عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عن أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ وَتُخْبِرُهُ: أَنَّ صَبِيًّا لَهَا أَوِ ابْنًا لَهَا فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ:« ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ »، فَعَادَ الرَّسُولُ فَقَالَ: إِنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا، قَالَ: فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمْ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ، كَأَنَّهَا فِي شَنَّةٍ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟! قَالَ: « هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ».
__________
(1) في (هـ):" ما كان ".(3/482)
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، جَمِيعًا عن عَاصِمٍ الأَحْوَلِ بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّ حَدِيثَ حَمَّادٍ أَتَمُّ وَأَطْوَلُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:" تقعقع ".
قال الإمام: قال الهروي أى: كلما صار إلى حالة لم يلبث أن يصير(1) إلى(2) أخرى تقرب من الموت، لا يثبت على حالة واحدة.
يقال: تقعقع ا لشيء إذا ا ضطرب وتحرك، ويقال: إنه لتتقعقع لحياه من الكبر.
والشنة: القربة البالية.
12 - حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّدَفِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ الْعَامِرِيُّ، قَالا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عن سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ الأَنْصَارِيِّ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِي غَشِيَّةٍ، فَقَالَ: « أَقَدْ قَضَى »، قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَكَوْا، فَقَالَ:« أَلا تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ):" يصمد ".
(2) في (هـ):" إلى حالة ".(3/483)
قال القاضي: ليس معنى اللفظ هاهنا ما قاله الهروي وحكاه في كتابه عن شمر عن خالد بن حسنة(1)، ولا يسعده قوله: كأنها في شنة، وإنما القعقعة هاهنا: صوت نفسه وحشرجة صدره به(2)، ومنه قعقعة الجلود والترسة والسلاح وهي: أصواتها، ألا ترى قوله:" كأنها في شنة "؟. فشبه صوت نفسه وقلقلته فى صدره بصوت ما ألقي فى القربة اليابسة وحرك فيها.
ومن أمثالهم: لا يقعقع له بالشنان أي: لا يفزع بصوته.
__________
(1) في (ط):" حنبة "، وفي (هـ):" حبيبة ".
(2) قوله:" به " ليس في (هـ).(3/484)
وقوله في حديث سعد: فأصابه في عشية ،كذا روايتنا فيه عن أكثر شيوخنا، بكسر ا لشين وتشديد الياء(1)، وعند ابن أبي جعفر: " عشية بسكون الشين، وفي البخاري: " في غاشية "، فحمله بعضهم(2) وهو اختيار القاضي أبي الوليد الكناني فيما أنبأنا به عنه الشيخ أبو بحر، أن معناه: من يغشاه من إله، وأن كسر الشين وتشديد الياء صوابه، واعتضد(3) بما ورد في البخاري من رواية عائشة، ولما في كتاب مسلم في الحديث الآخر بعده: 13 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، عن عُمَارَةَ يَعْنِي ابْنَ غَزِيَّةَ، عن سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُعَلَّى، عن عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ ؛ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَدْبَرَ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: « يَا أَخَا الأَنْصَارِ ! كَيْفَ أَخِي سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ؟»، فَقَالَ: صَالِحٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ يَعُودُهُ مِنْكُمْ ؟»، فَقَامَ، وَقُمْنَا مَعَهُ، وَنَحْنُ بِضْعَةَ عَشَرَ مَا عَلَيْنَا نِعَالٌ وَلا خِفَافٌ وَلا قَلانِسُ وَلا قُمُصٌ، نَمْشِي فِي تِلْكَ السِّبَاخِ حَتَّى جِئْنَاهُ، فَاسْتَأْخَرَ قَوْمُهُ مِنْ حَوْلِهِ حَتَّى دَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ مَعَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فاستأخر قومه من حوله حتى دنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان على هذا لا يصح رواية: غشية. بالتخفيف.
__________
(1) في (هـ):" الياء وكسرها ".
(2) في (هـ):" بعضهم كذا".
(3) في (هـ):" اعتمد ".(3/485)
وقد ذكر بعضهم هذا الحديث، وقال فيه: في غاشية أهله. وغيره يحمله على أن غشية وغشيه بمعنى، وأنه من غشاوة الموت.
واستدل بقوله في الأم فقال(1): " أقد قضى ؟ " أي: مات، قالوا: لا. قال لي الحافظ أبو الحسين: لا فرق بين عشية وغشية هما واحد، يريد من الغشاوة.
وقال الخطابي في غاشية: يحتمل وجهين من يغشاه من الناس، أو ما يغشاه من الكرب.
وفيه: زيارة الأئمة وأهل الفضل المرضى وحضه أصحابه على ذلك بقوله: " من يعوده منكم ؟".
14 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفيه السؤال للحاضرين عن أحوالهم، وكذلك إذا كانوا في شدة ولا يكلفونهم(2) من ذلك ما عساه يشق من الجواب عليهم.
وفيه: حضور الناس عند من احتضر، وهو مما يتعين على كافتهم، وبخاصة لآله وقرابته، وقد ترك ابن عمر صلاة الجمعة حين دعى لاحتضاره سعيد بن زيد ؛ لشدة حاجة الميت حينئذ إلى من ينظر منه ويرفق به ويقوم عليه.
وفيه: أن للرجل(3) حقًّا في مثل هذا، وأن من جاء لعيادة أو قضاء حاجته عند كبير ثم جاء غيره وقد ضاق المجلس عن الداخل أن ينصرف الأول أو يفسح له عن قرب المزور حتى يقضي إربه منه.
__________
(1) قوله:" فقال " ليس في (هـ).
(2) في (هـ):" يكلفوهم ".
(3) في (هـ):" الرجال ".(3/486)
وقوله في حديث المرأة:" إنما الصبر عند أول [صدمة "، أو قال:" عند أول الصدمة "، وفي حديث أنس:" عند](1) الصدمة الأولى " يعني: الصبر الذي يشق ويعظم تحمله ومجاهدة النفس عليه ويقل صابره ويؤجر عليه الأجر الجزيل عند وقوع المصيبة وهجومها، وأما بعد الصدمة الأولى وبرد المصيبة وابتداء التسلي فكل أحد يصبر حينئذ ويقل جزعه، ولذلك قيل: يجب العاقل أن يلتزم حين(2) مصابه ما لا بد للأحمق منه بعد ثلاث، ومن هذا المعنى النهي عن أن يحد على الميت أكثر من ثلاث إلا لزوج.
وأصل الصدم: الضرب في الشيء الصليب، ثم استعير للأمر المكروه يأتي فجأة وبمرة.
وقولها: لم أعرفك.
15 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عن ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى عَلَى امْرَأَةٍ تَبْكِي عَلَى صَبِيٍّ لَهَا، فَقَالَ لَهَا:« اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي »، فَقَالَتْ: وَمَا تُبَالِي بِمُصِيبَتِي ؟ فَلَمَّا ذَهَبَ قِيلَ لَهَا: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَخَذَهَا مِثْلُ الْمَوْتِ، فَأَتَتْ بَابَهُ فَلَمْ تَجِدْ عَلَى بَابِهِ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ:« إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ »، أَوْ قَالَ:« عِنْدَ أَوَّلِ الصَّدْمَةِ ».
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(2) في (ط):" عند ".(3/487)
وَحَدَّثَنَاه يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ - يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ - ح، وَحَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو. ح، وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالُوا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ بِقِصَّتِهِ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ.
16 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، جَمِيعًا عن ابْنِ بِشْرٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عن عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ حَفْصَةَ بَكَتْ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ: مَهْلاً يَا بُنَيَّةُ ! أَلَمْ تَعْلَمِي أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه: الاعتذار من سوء الأدب مع الفضلاء وإن لم يكن يقصدوا به ؛ لقولها: إليك عني، على رواية البخاري. وعند مسلم: وما تبالي بمصيبتي.
وقوله: فلم تجد على بابه بوابين.
17 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عن ابْنِ عُمَرَ، عن عُمَرَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ ».(3/488)
وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عن سَعِيدٍ، عن قَتَادَةَ، عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عن ابْنِ عُمَرَ، عن عُمَرَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ ».
18 - وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عن الأَعْمَشِ، عن أَبِي صَالِحٍ، عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَصِيحَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ ».
19 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عن الشَّيْبَانِيِّ، عن أَبِي بُرْدَةَ، عن أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ جَعَلَ صُهَيْبٌ يَقُولُ: وَا أَخَاهْ ! فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ ! أَمَا عَلِمْتَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه: ما كان - عليه السلام - من التواضع، قال بعضهم: حديث المرأة يدل(1) أن بكاءها كان بنوح، لقوله(2): " اتقي الله واصبري ". وفي كتاب أبي داود، فقالت: أنا أصبر امتثال الأمر(3) لها بالصبر أول الحديث وتوبة لردها ذلك عليه إذ لم تعرفه، ولذلك قال: وأخذها مثل الموت أي: خوفا من مؤاخذة الله لها(4) لسوء ردها عليه لجهلها به وخشية(5) منه لذلك، ولحلمه(6) عنها وصبره على أذاها
__________
(1) في (هـ):" يدل على ".
(2) في (هـ):" لقوله لها ".
(3) في (ط) و(هـ):" لأمره ".
(4) قوله:" لها " ليس في (هـ).
(5) في (أ):" حسمة "، وفي (ط):" حشمها ".
(6) في (ط):" تحمله ".(3/489)
20 - وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ أَبُو يَحْيَى، عن عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عن أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عن أَبِي مُوسَى قَالَ: لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ أَقْبَلَ صُهَيْبٌ مِنْ مَنْزِلِهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُمَرَ، فَقَامَ بِحِيَالِهِ يَبْكِي، فَقَالَ عُمَرُ: عَلامَ تَبْكِي ؟ أَعَلَيَّ تَبْكِي ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ ! لَعَلَيْكَ أَبْكِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ يُعَذَّبُ »، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، فَقَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ:« إِنَّمَا كَانَ أُولَئِكَ الْيَهُودَ ».
21 - حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عن ثَابِتٍ، عن أَنَسٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا طُعِنَ عَوَّلَتْ عَلَيْهِ حَفْصَةُ، فَقَالَ: يَا حَفْصَةُ! أَمَا سَمِعْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ »، وَعَوَّلَ عَلَيْهِ صُهَيْبٌ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ ! أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعذره لها إذ لم تعرفه، ولعلها لم تكن رأته قبل ذلك، أو لعظيم حزنها لم تظن(1) أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت قبل تعرفه.
وقوله: " إن الميت يعذب ببكاء أهله(2)" وفي حديث آخر: " ببعض بكاء أهله " وفي حديث آخر: " بما نيح عليه " وفي آخر: " ببكاء الحي " وفي آخر: " من يبكى عليه يعذب". وإنكار عائشة لذلك.
__________
(1) في (هـ):" تكن ".
(2) في (هـ):" أهله عليه ".(3/490)
قال الإمام قال بعضهم: الباء هاهنا في قوله:" ببكاء الحي عليه " باء الحال، والتقدير: يعذب عند بكاء أهله عليه(1)، أي: يحضر عذابه عند البكاء، وعلى هذا التأويل يكون قضية في عين.
22 - حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا إِلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ جَنَازَةَ أُمِّ أَبَانَ بِنْتِ عُثْمَانَ، وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، فَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُودُهُ قَائِدٌ، فَأُرَاهُ أَخْبَرَهُ بِمَكَانِ ابْنِ عُمَرَ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِي فَكُنْتُ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا صَوْتٌ مِنَ الدَّارِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَأَنَّهُ يَعْرِضُ عَلَى عَمْرٍو أَنْ يَقُومَ فَيَنْهَاهُمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ»، قَالَ: فَأَرْسَلَهَا عَبْدُ اللَّهِ مُرْسَلَةً، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنَّا مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ نَازِلٍ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَقَالَ لِي: اذْهَبْ فَاعْلَمْ لِي مَنْ ذَاكَ الرَّجُلُ، فَذَهَبْتُ فَإِذَا هُوَ صُهَيْبٌ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: إِنَّكَ أَمَرْتَنِي أَنْ أَعْلَمَ لَكَ مَنْ ذَاكَ، وَإِنَّهُ صُهَيْبٌ، قَالَ: مُرْهُ فَلْيَلْحَقْ بِنَا، فَقُلْتُ: إِنَّ مَعَهُ أَهْلَهُ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَهْلُهُ، وَرُبَّمَا قَالَ أَيُّوبُ مُرْهُ: فَلْيَلْحَقْ بِنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا لَمْ يَلْبَثْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ أُصِيبَ، فَجَاءَ صُهَيْبٌ يَقُولُ: وَا أَخَاهْ ! وَا صَاحِبَاهْ ! فَقَالَ عُمَرُ: أَلَمْ تَعْلَمْ، أَوَ لَمْ
__________
(1) قوله:" عليه " ليس في (ط) و(هـ).(3/491)
تَسْمَعْ، قَالَ أَيُّوبُ، أَوْ قَالَ: أَوَ لَمْ تَعْلَمْ، أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ »، قَالَ: فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ فَأَرْسَلَهَا مُرْسَلَةً، وَأَمَّا عُمَرُ فَقَالَ بِبَعْضِ، فَقُمْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَحَدَّثْتُهَا بِمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، فَقَالَتْ: لا، وَاللَّهِ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَطُّ ؛ إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: محمله على أن الميت وصى بأن يبكى عليه فيعذب إن نفذت وصيته، ومن الإيصاء بهذا المعنى قول طرفة:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يابنة معبد
بِبُكَاءِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّهُ قَالَ:« إِنَّ الْكَافِرَ يَزِيدُهُ اللَّهُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَذَابًا، وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ { أَضْحَكَ وَأَبْكَى }، { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }، قَالَ أَيُّوبُ: قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ عَائِشَةَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ، قَالَتْ: إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونِّي عن غَيْرِ كَاذِبَيْنِ وَلا مُكَذَّبَيْنِ، وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ.(3/492)
23 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: تُوُفِّيَتِ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِمَكَّةَ، قَالَ: فَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا، قَالَ: فَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا، ثُمَّ جَاءَ الآخَرُ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِي، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ - وَهُوَ مُوَاجِهُهُ -: أَلا تَنْهَى عن الْبُكَاءِ ؟ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ »، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ: ثُمَّ حَدَّثَ، فَقَالَ: صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلاءِ الرَّكْبُ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ صُهَيْبٌ، قَالَ: فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ادْعُهُ لِي، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ، فَقُلْتُ: ارْتَحِلْ فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا أَنْ أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: معنى يعذب ببكاء أهله أي:أن تلك الأفعال التي يعددها أهله بما يعدونها محاسن يعذب عليها، من إيتام الولدان وإخراب العمران على غير وجه يجوز، وأما عائشة رضي الله عنها فإنها تأولت ذلك على أنه كان في(3/493)
صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ: وَا أَخَاهْ ! وَا صَاحِبَاهْ ! فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ ! أَتَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ »، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ، لا وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَحَدٍ، وَلَكِنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، قَالَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ: حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ:{ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ: وَاللَّهُ { أَضْحَكَ وَأَبْكَى }، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: فَوَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ شَيْءٍ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: عَمْرٌو، عن ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: كُنَّا فِي جَنَازَةِ أُمِّ أَبَانَ بِنْتِ عُثْمَانَ...، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَنُصَّ رَفْعَ الْحَدِيثِ عن عُمَرَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا نَصَّهُ أَيُّوبُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَحَدِيثُهُمَا أَتَمُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرٍو.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يهودية وأنه قال:" إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها ".(3/494)
وذكر عنها مسلم أيضًا أنها لما أخبرت بقول عبدالله بن عمر: إن الميت ليعذب [ في قبره ببكاء أهله، قالت: وهل أبو عبدالرحمن، إنما قال - عليه السلام -: «إنه ليعذب](1) بخطيئته أو بذنبه، وإن أهله يبكون عليه الآن ». قالت: وهو مثل قوله: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على القليب يوم بدر وفيه قتلى بدر من المشركين، فقال لهم ما قال(2): " إنهم ليسمعون ما أقول "، وقد وهل إنما قال: " إنهم ليعلمون إنما كنت أقول لهم حق ".
24 - حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ؛ أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ ».
25 - وَحَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ وَأَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، جَمِيعًا عن حَمَّادٍ، قَالَ خَلَفٌ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عن أَبِيهِ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَحْفَظْهُ، إِنَّمَا مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ، فَقَالَ:« أَنْتُمْ تَبْكُونَ، وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) في (هـ):" ما قال فقال ".(3/495)
قال القاضي: وقد قيل(1) معناه: أنه يتعذب بسماع بكاء أهله ويرق لهم، وقد جاء هذا مفسرا في حديث قبله حين بكت عند ذكرها موت أبيها فزجرها النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: " إن أحدكم إذا بكى استعبر له صويحبه، فيا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم" وإلى هذا نحا الطبري وغيره، وهو أولى ما يقال فيه: لتفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ما أبهمه في غيره ويندفع به الاعتراض بقوله تعالى:{ ولا تزر وازرة وزر أخرى }، وذهب داود وطائفة إلى اعتقاد ظاهر الحديث وأنه إنما يعذب بنوحهم عليه لأنه أهمل نهيهم عنه قبل موته وتأديبهم بذلك، فيعذب بتفريطه في ذلك وترك ما أمره الله به من قوله: {قوا أنفسكم وأهليكم نارًا }، فيندفع عنه(2) الاعتراض بالآية على هذا، لكن في حق من أهمل ذلك وجهله من(3) يخلفه، وحمل العلماء هذا الباب كله أنه في البكاء بالصوت والصراخ والنياحة لا في بكاء العين.
__________
(1) في (هـ):" قيل أن ".
(2) في (ط):" عنده ".
(3) في (أ):" ممن ".(3/496)
26 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عن هِشَامٍ، عن أَبِيهِ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَرْفَعُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ »، فَقَالَتْ: وَهِلَ ! إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ أَوْ بِذَنْبِهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الآنَ »، وَذَاكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ عَلَى الْقَلِيبِ يَوْمَ بَدْرٍ وَفِيهِ قَتْلَى بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَ: «إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ »، وَقَدْ وَهِلَ، إِنَّمَا قَالَ:« إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ »، ثُمَّ قَرَأَتْ:{ إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ }، يَقُولُ:« حِينَ تَبَوَّءُوا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ ».
وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ، بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ، وَحَدِيثُ أَبِي أُسَامَةَ أَتَمُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام: اغتر(1) بعض الناس بحديث القليب فقال: إن الميت يسمع، وهذا غير صحيح عند أهل الأصول ؛ لأن الحياة شرط في السمع، فلا يسمع غير حي، وحمل بعض الناس ذلك على أنهم أعيدت إليهم الحياة حتى سمعوا تقريعه - عليه السلام - لهم.
وأما قولها(2): وهل. قال الهروي يقال: وهل يهل إذا ذهب وهمه إلى الشيء، ومنه قول ابن عمر: وهل أنس، يريد: غلط.
__________
(1) في (هـ):" اعترض ".
(2) في (ط):" قولها لهم "، وفي (هـ):" قولها في ابن عمر.(3/497)
فأما وهلت من كذا أوهل فمعناه: فزعت، ومنه الحديث: فقمنا وهلين، أي: فزعين.
قال القاضي قال أبو عبيد في المصنف قال أبو زيد: وهلت في الشيء ووهلت عنه، أوهل(1)، وهلا: نسيت وغلطت، ووهلت إلى الشيء، أهل،
27 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عن مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ - فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ -، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عن أَبِيهِ، عن عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ ؛ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ وَذُكِرَ لَهَا: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَ، أَوْ أَخْطَأَ، إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا، فَقَالَ:« إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أهلاً(2)، وهلا: إذا ذهب وهمك إليه.
وقال الهروي: وهل إلى الشيء يهل، ووهم يهم، وجاء في رواية السمرقندي، في رواية علي بن حجر، في حديث ابن عمر: لما طعن عمر،
زيادة بعد ابن عمر عن عمر، وهو خطأ بين، وقد جاء الكلام على سماع الموتى آخر الكتاب أيضًا.
وقوله في حديث ابن حجر: فذكرت ذلك لموسى بن طلحة. قائل هذا هو: عبدالملك بن عمير، المذكور في سند الحديث قبله.
وقوله في الحديث:عولت عليه حفصة وعول عليه صهيب، ويروي أعولت وأعول، وهو: البكاء بصوت، وهما لغتان عند بعضهم، ولم يصحح أكثرهم إلا أعول.
__________
(1) في (ط):" أيهل "، وفي (هـ):" أنهل ".
(2) قوله:" أهلاً " ليس في (ط).(3/498)
قال الإمام: خرّج مسلم ثنا أبوبكر ابن أبي شيبة، ثنا وكيع، عن سعيد ابن عبيد الطائي ومحمد بن قيس، عن علي بن ربيعة. قال: أول من نيح عليه بالكوفة، قال بعضهم: وقع في نسخة ابن الحذاء: سعد بن عبيد،
28 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عن سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ الطَّائِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عن عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ بِالْكُوفَةِ قَرَظَةُ ابْنُ كَعْبٍ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».
وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ قَيْسٍ الأَسْدِيُّ، عن عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ الأَسْدِيِّ، عن الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَهُ.
وَحَدَّثَنَاه ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ يَعْنِي الْفَزَارِيَّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّائِيُّ، عن عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ، عن الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَهُ.(3/499)
29 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ. ح، وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ ابْنُ مَنْصُورٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، أَخْبَرَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلالٍ، حَدَّثَنَا أَبَانُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى أَنَّ زَيْدًا حَدَّثَهُ ؛ أَنَّ أَبَا سَلامٍ حَدَّثَهُ ؛ أَنَّ أَبَا مَالِكٍ الأَشْعَرِيَّ حَدَّثَهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالآسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ»، وَقَالَ:« النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والصواب:[ سعيد بياء ،و](1) سعيد بن عبيد هذا(2) أخو عقبة بن عبيد(3) يكنى أبا الهذيل، ويكنى عقبة: أبا الرحال - براء مهملة وحاء مهملة مشددة -.
قال القاضي قوله:" أربع في أمتي من أمر الجاهلية " وذكر فيها: الاستسقاء بالنجوم، تقدم الكلام عليه أول الكتاب.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (هـ).
(2) في (أ):" هو ".
(3) في (هـ):" عبيد الطائي ".(3/500)
30 - وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا عَبْدُالْوَهَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ ؛ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ تَقُولُ: لَمَّا جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، قَالَتْ: وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ ؛ شَقِّ الْبَابِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ، وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَذْهَبَ فَيَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ فَأَتَاهُ ؛ فَذَكَرَ أَنَّهُنَّ لَمْ يُطِعْنَهُ، فَأَمَرَهُ الثَّانِيَةَ أَنْ يَذْهَبَ فَيَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَتْ: فَزَعَمَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « اذْهَبْ فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ مِنَ التُّرَابِ »، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، وَاللَّهِ مَا تَفْعَلُ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْعَنَاءِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام قولها: وأنا أنظر من صائر الباب، هو(1): شق الباب، والصواب: صير الباب: بكسر الصاد، وفي حديث آخر:" من اطلع من صير باب فقد دمر(2)"، تفسيره في الحديث:أن الصير الشق، ودمر(3): دخل بغير إذن.
قال القاضي: وقع في كتاب مسلم والبخاري:من صائر الباب، شق الباب، مفسرا في الحديث.
__________
(1) في (هـ):" أي من ".
(2) في (هـ):" دمن ".
(3) في (هـ):" ودمن ".(4/1)
وبكاء نساء جعفر وتماديهن بعد النهي عليه، وكذلك غيرهن من نساء المؤمنين بعد ما جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " فإذا وجب فلا تبكين باكية، استدل به(1) بعضهم أن النهي على طريق الندب والترغيب، أو يكون النهي عن البكاء الذي(2) هو الصراخ والنوح، ويدل أن هذا البكاء من نساء جعفر كان فيه ما يكره من الصراخ وما نهي عنه، بدليل نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه.
......................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:" احث في أفواههن التراب " أي إن أمكنك ذلك لتملأ به أفواههن وتسكتهن، ولو كان مجرد البكاء بالعين لم يكن لملء الأفواه بالتراب معنى(3)، وليس أمره - عليه السلام - له بذلك ليفعله بهن على كل حال، ولكن على طريق التعجيز أن هذا مما يسكتهن إن فعلته(4) فافعله إن أمكنك وهو لا يمكنه.
وفيه: تكرار النهي عن المنكر مرات وأنه إذا غلب فعله ولم ينته المنهي عنه أن يعاقب إن أمكن عقابه، وإن كان العقاب لايمكن إلا بعناء ومشقة لم يلزم وكانت الملاطفة فيه أولى.
وقول عائشة حينئذ للمأمور: أرغم الله أنفك والله ما أنت بفاعل وما تركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العناء. أي: من المشقة والتعب بكثرة تكرارك عليه إخباره عن حال النساء وبكائهن إلى أن فهمت الحرج، والله أعلم، من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: " احث في أفواههن التراب " ولذلك قالت له: والله ما تفعل ما أمرك به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تريد من ذلك أي: لاتقدر عليه وإنك عاجز عنه، ألا تراها كيف قدمت لذلك قولها: أرغم الله أنفك؟، ولم ترد الاعتراض على أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) قوله:" به " ليس في (ط).
(2) قوله:" الذي " ليس في (هـ).
(3) في (هـ):" معنى هنا ".
(4) في (ط):" فعلنه ".(4/2)
وقيل: ما أنت بفاعل، أي: ما تقدر على منعهن من البكاء جملة، إذ منه المباح لهن الذي لا صوت فيه ولا منكر، والأول أظهر.
ووقع في رواية العذري عندنا من طريق الأسدي في حديث ابن أبي شيبة: " الغي" بالمعجمة وتشديد الياء الذي هو ضد الرشد، مكان العناء، وعند
وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ نُمَيْرٍ. ح، وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ،، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عن مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ.ح، وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ -، كُلُّهُمْ عن يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْعِيِّ.
31 - حَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عن مُحَمَّدٍ، عن أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ الْبَيْعَةِ: أَلا نَنُوحَ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ إِلا خَمْسٌ: أُمُّ سُلَيْمٍ، وَأُمُّ الْعَلاءِ، وَابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ امْرَأَةُ مُعَاذٍ، أَوِ ابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ، وَامْرَأَةُ مُعَاذٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الطبري مثله، إلا أنه بالمهملة، ولا وجه لهذا اللفظ، والأول(1) أليق بالمعنى وأصح، وكذلك رواه البخاري.
وقول أم عطية: أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البيعة ألا ننوح دليل على تحريم ذلك وشدته، والمعنى في ذلك: أنه(2) يستجلب الحزن ويصد عن الصبر الذي أمر الله به وحض عليه نبيه.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" واللفظ الأول ".
(2) في (ط) و(هـ):" لأنه ".(4/3)
وقولها: فما وفت منا امرأة إلا خمس(1)، دليل على أن من الناس من كان يعصي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وأن مثل هذا وبكاء نساء جعفر وشبهه لا يستدل به على الرخصة في النوح، ويدل على ما قلناه: الحديث المتقدم: أربع في أمتي من أمر الجاهلية" وسميت من الخمس في كتاب مسلم: أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سبرة امرأة معاذ،[ أو وامرأة معاذ ](2)، فذكر ثلاثا أو أربعا، وقد عدهن في كتاب البخاري فقال: وابنة أبي سبرة امرأة معاذ
32 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،، أَخْبَرَنَا أَسْبَاطٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عن حَفْصَةَ، عن أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْبَيْعَةِ: أَلا تَنُحْنَ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا غَيْرُ خَمْسٍ، مِنْهُنَّ: أُمُّ سُلَيْمٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وامرأتان، أو ابنة أبي سبرة وامرأة معاذ، وامرأة أخرى.
ومعنى قول أم عطية هذا عندي والله أعلم: أنه لم يف ممن بايع معها على ذلك في الوقت الذي بايعت فيه(3)، لا أنه لم تترك النياحة أحد من المسلمات غير هؤلاء الخمس(4)، هذا ما لا يصح ولا يعرف من أخلاق الصحابيات رضي الله عنهن.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" خمسا ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (هـ).
(3) قوله:" فيه " ليس في (ط) و(هـ).
(4) في (ط) و(هـ):" خمسة ".(4/4)
وقوله حين قالت له أم عطية:إلا آل فلان فإن هن(1) كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بد أن أسعدهم. فقال: " إلا آل فلان " كذا جاء في الأمهات، وفيه إشكال، وهو والله أعلم: إما الحديث مبتور نقص منه فقال النبي - عليه السلام -: " لا إسعاد في الإسلام " ذكر هذه الزيادة النسائي في حديث بمعناه، وليس فيه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إلا آل فلان(2)" ولم يذكر فيه أم عطية، فيكون على هذا معنى قوله: إلا آل فلان، مع إثبات تلك الزيادة على وجه تكرار كلامها والتقرير له والتوبيخ، لا على الإباحة، ثم أجابها بأنه لا إسعاد في الإسلام.
وقد يكون على ظاهر اللفظ بالإباحة أن يكون قبل تحريم النياحة وأن يكون حديث أم عطية هذا غير الحديث الآخر، ثم منع النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسعاد(3) في الحديث الآخر.
وقد ذهب القاضي أبو عبدالله من هذا الحديث وظاهره أن النهي عن النياحة ليس بنهي عزم وفرض، وإنما هو نهي حض وندب، واستدل بقصة 33 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عن أَبِي مُعَاوِيَةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عن حَفْصَةَ، عن أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ { يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا }،{ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ }، قَالَتْ: كَانَ مِنْهُ النِّيَاحَةُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِلا آلَ فُلانٍ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَسْعَدُونِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلا بُدَّ لِي مِنْ أَنْ أُسْعِدَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِلا آلَ فُلانٍ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط) و(هـ):" فإنهم ".
(2) قوله:" فلان " ليس في (هـ).
(3) في (هـ):" الإسعاد الإسلام ".(4/5)
نساء جعفر وسكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهن آخرا، وبأحاديث كثيرة جاءت في ذلك، ولم يجعل فيها نسخا، والناس على التشديد في ذلك والله أعلم.
قال: وإنما يحرم من ذلك ما كان معه شيء من أفعال الجاهلية من: شق الجيوب وخمش الخدود ودعواها التي كانت تضيفه من فعل المصائب إلى الدهر.
وقولها(1): نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا، أي: لم يوجب ولم(2) يفرض، أو لم يشدد.
اختلف العلماء في أباحة اتباع النساء الجنائز. فجمهورهم على منعه، لظاهر النهي في هذا الحديث. وأجازه جماعة علماء المدينة.
ومالك يجيزه، ويكرهه للشابة، وفي الأمر المستنكر.
وقال ابن حبيب من أصحابنا: بالقول الأول، وحجة من أجازه أنه لم يعزم عليهن في ذلك.
34 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عن مُحَمَّدِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: كُنَّا نُنْهَى عن اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا.
35 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ. ح، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كِلاهُمَا عن هِشَامٍ، عن حَفْصَةَ، عن أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: نُهِينَا عن اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا.
__________
(1) في (هـ):" وقوله ".
(2) قوله:" لم " ليس في (ط) و(هـ).(4/6)
36 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عن أَيُّوبَ، عن مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عن أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ، فَقَالَ:« اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي »، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حَقْوَهُ، فَقَالَ:« أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في ابنته: " اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك.
قال الإمام: اختلف في غسل الميت هل هو واجب أم سنة ؟. وسبب الخلاف قوله - عليه السلام -: " إن رأيتن ذلك "، هل معناه: إن رأيتن الغسل أو رأيتن الزيادة في العدد؟. وهذا وأشباهه مما اختلف فيه أهل الأصول، وذلك أنهم مختلفون في التقييد والاستثناء والشروط إذا تعقبت الجمل،هل يرجع إلى جميعها إلا ما أخرجه الدليل، أو إلى أقربها؟.
وأما اعتبار الوتر في الغسل فإنه في الثلاث معتبر، وفيما زاد عليه معتبر
37 - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عن أَيُّوبَ، عن مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عن حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عن أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: مَشَطْنَاهَا ثَلاثَةَ قُرُونٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عندنا وعند الشافعي، وغير معتبر عند أبي حنيفة بعد الثلاث.(4/7)
قال القاضي: ليس عند مالك رحمه الله وبعض أصحابه في غسل الميت حد لازم يقتصر عليه، لكنه ينقى ولا يقتصر مع الإنقاء على دون الثلاث، فإن زاد على ثلاث استحب الوتر، وليس لذلك عنده حد، وإلى هذا يرجع قول الشافعي وغيره من العلماء، وكذا إذا احتاج الغاسل إلى ذلك أو خرج من الميت شيء بعد غسله أعاد الغسل، وحجتهم الحديث بقوله:" إن رأيتن ذلك" وصرف الأمر إلى اجتهاد الغاسل بحسب ما يحتاج إليه من زيادة الإنقاء، وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث: " أو سبعا " وإلى هذا نحا أحمد وإسحاق، أن لا يزاد على سبع، وإن خرج منه شيء بعد السبع غسل الموضع وحده، كما قال مالك وأبو حنيفة: إذا خرج منه شيء بعد الثلاث غسل الموضع وحده، وقاله الثوري والمزني وجماعة من المالكية، قالوا: وحكمه حكم الجنب إذا أحدث بعد الغسل.
ومنهم من قال: يوضى إذا خرج منه شيء بعد الثالثة.
وذهب بعضهم إلى: أنه لا حد فيه أولا ولا آخرا، وأنه تجزئ فيه ما يجزئ(1) الغسل من الجنابة ونحوه قول عطاء، الواحدة السابغة في ذلك تجزئ. وقوله: " بماء وسدر" يحتج به ابن شعبان ومن يجيز غسله بماء الورد والماء المضاف، وقد تأوله بعض شيوخنا على قول مالك: يغسل بماء وسدر، ومالك
__________
(1) في (هـ):" يجزئ في ".(4/8)
38 - وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عن مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ. ح، وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، كُلُّهُمْ عن أَيُّوبَ، عن مُحَمَّدٍ، عن أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَتْ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ قَالَتْ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ، وَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ، بِمِثْلِ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عن أَيُّوبَ، عن مُحَمَّدٍ، عن أُمِّ عَطِيَّةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وغيره ممن قال بذلك إنما اتبع لفظ الحديث، ولم يذهبوا إلىما ذهب إليه هذا.
وهو قول كافة العلماء:أن يغسل الميت(1) بماء وسدر، ولايجيزوا(2) غسله بغير الماء ا لمطلق، وحجتهم: تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - الماء وهو قول كافة العلماء أن(3) يغسل الميت بماء وسدر، وليس معنى قولهم: بماء وسدر(4) أن تلقى ورقات السدر في الماء عند كافتهم، بل أنكروه ونسبوا فعله إلى العامة.
__________
(1) في (ط):" ذلك ".
(2) في (هـ):" يجيزون ".
(3) في (ط):" وأن ".
(4) قوله:" بماء وسدر " ليس في (هـ).(4/9)
وقد ذكر الداودي نحوا منه قال: يسحق السدر ويلقى في الماء، ولكنه عند جمهورهم على أن يغسل أولا بالماء القراح، فيتم الطهارة، ثم بالثانية(1) بالماء والسدر للتنظيف، ثم بالثالثة(2) بالماء والكافور للتطييب والتجفيف(3)، وهذا حقيقة مذهب مالك، وحكاه ابن حبيب. وقال: بل يبدأ بالماء والسدر ليقع التنظيف أولاً، ثم بالماء القراح ثانيًا.
وقال أبو قلابة مثله لكنه قال: ونحسب هذا(4) غسلة واحدة، وهذا جار على قياسات الطهارة.
39 - وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عن أَيُّوبَ، عن حَفْصَةَ، عن أُمِّ عَطِيَّةَ بِنَحْوِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:« ثَلاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكِ »، فَقَالَتْ حَفْصَةُ، عن أُمِّ عَطِيَّةَ: وَجَعَلْنَا رَأْسَهَا ثَلاثَةَ قُرُونٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذهب أحمد إلى أن: الغسلات كلها تكون بالسدر، على ظاهر الحديث وفي حديث آخر:" كلهن بالماء والسدر". وقد يكون معنى قولهم: غسله بالماء والسدر ليس بأن يلقى فيه السدر كما قالوا، ولكنه يخضخض السدر بالماء حتى يخرج رغوته للغسل ثم يغسل به الميت، ويصب الماء من فوق ذلك للتطهير، ولعل هذا مراد الداودي(5) كسائر غسل ما يزال من النجاسات والأقذار اللزجة بالغاسول، فلا يكون غسلاً بمضاف، وغير السدر يقوم مقامه عند عدمه من سائر الغاسولات عند كافة العلماء، وروى عن عائشة في غسل رأس الميت بالخطمي نهي.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" في الثانية ".
(2) في (ط) و(هـ):" في الثالثة ".
(3) في (هـ):" التخفيف ".
(4) في (ط) و(هـ):" بهذا ".
(5) في (هـ):" الداروردي ".(4/10)
وغسل الميت عندنا ليس لنجاسة إلا أن تكون به ظاهرة فتزال، وإنما هو عبادة، وقيل نظافة، ولو كان لنجاسة لما زاده الغسل إلا نجاسة إذ الذات النجسة لا يطهرها الماء على القول(1) بنجاسة الآدمي إذا مات، فكيف والصحيح طهارة المؤمن حيًّا وميتًا، وقد قال عليه السلام: " المؤمن لا ينجس"، وسنذكر(2) هذا(3) بعد.
وقوله: " واجعلن(4) في الآخرة كافورا ". لشدة تبريده وتجفيف(5) جسد الميت، وحياطته عن سرعة التغيير(6) والفساد، ولتطييب رائحته للمصلين عليه(7) ومن يحضره من الملائكة.
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، وَأَخْبَرَنَا أَيُّوبُ قَالَ: وَقَالَتْ حَفْصَةُ: عن أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتِ: اغْسِلْنَهَا وِتْرًا ثَلاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا. قَالَ: وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: مَشَطْنَاهَا ثَلاثَةَ قُرُونٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعلى(8) استعمال هذا جماعة العلماء، إلا أبا حنيفة وأصحابه، وروي عن النخعي إنما ذلك في الحنوط لا في الغسل.
ويمكن أن يتأول من قال هذا في الآخرة أي: بعد تمامها، والظاهر خلافه والله أعلم.
وفائدة تخصيصه الكافور لتبريده(9) وإمساكه ومنعه سرعة التغير، ولقوة رائحته وسطوعها وغلبتها على غيرها، وإذا عدم قام غيره من الطيب مقامه.
وقوله: " فألقى إلينا حقوه، فقال: أشعرنها إياه ".
قال الإمام: الحقو: الإزار هاهنا.
والأصل في الحقو: معقد الإزار، وجمعه: أحق، وأحقاء، وحقي، ثم يقال للإزار: حقو لأنه يشد على الحقو، كقول العرب: عذت بحقو فلان، أي: استجرت به واعتصمت.
__________
(1) في (هـ):" الأقوال ".
(2) في (هـ):" سنذكرها ".
(3) قوله:" هذا " ليس في (هـ).
(4) في (هـ):" اجعلوا ".
(5) في (ط):" تجفيفه ".
(6) في (أ) و(ط):" التغير ".
(7) قوله:" عليه " ليس في (ط) و(هـ).
(8) في (ط) و(هـ):" على ".
(9) في (هـ):" لشدة تبريده ".(4/11)
ومعنى: " أشعرنها إياه" أي: اجعلنه شعارها الذي يلي جسدها، سمي شعارا لأنه يلي شعر الجسد،ومنه الحديث: " أنتم الشعار دون الدثار"، أي: أنتم الخاصة والبطانة.
قال القاضي: هذيل تقول: " حقو" بكسر الحاء، وغيرها يقول بالفتح.
ومعنى قول من فسره بالإزار: أي المئزر.
واختلف في صفة إشعارها إياه.
40 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، جَمِيعًا عن أَبِي مُعَاوِيَةَ، قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ، عن حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عن أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: لَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« اغْسِلْنَهَا وِتْرًا، ثَلاثًا، أَوْ خَمْسًا، وَاجْعَلْنَ فِي الْخَامِسَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا غَسَلْتُنَّهَا فَأَعْلِمْنَنِي »، قَالَتْ: فَأَعْلَمْنَاهُ، فَأَعْطَانَا حَقْوَهُ، وَقَالَ:« أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقيل: يجعل لها مئزرا وهو قول ابن وهب.
وقيل: لا تؤزر ولكن تلف فيه(1)، وهو قول ابن القاسم وجماعة من العلماء. قال ابن سيرين: المرأة تشعر ولا تؤزر. قال ابن جريج: أشعرنها، ألففنها. وقال النخعي: الحقو فوق الدرع. وقال ابن علية: الحقو النطاق، سبنية طويلة، يجمع به فخذاها تحصينا لها ثم تلف على عجزها، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بها لتنالها بركة ثوبه.
وفيه: جواز تكفين النساء في ثياب الرجال.
قال القاضي: وقولها(2) فمشطناها ثلاثة قرون.
__________
(1) في (هـ):" به ".
(2) في (هـ):" وقوله ".(4/12)
فيه: مشط رأس الميت وظفره، وبهذا قال الشافعي وأحمد وإسحاق وابن حبيب، على ما جاء في الحديث:" ومشطناها ثلاثة قرون، قرنيها وناصيتها " وفي غير مسلم: " مقدم رأسها وقرنيها وألقيناها خلفها ".
وقال الأوزاعي: لايجب المشط، ولم يعرف ابن القاسم الظفر، وقال: تلف.
41 - حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عن حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عن أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ نَغْسِلُ إِحْدَى بَنَاتِهِ، فَقَالَ: اغْسِلْنَهَا وِتْرًا، خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ »، بِنَحْوِ حَدِيثِ أَيُّوبَ وَعَاصِمٍ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: قَالَتْ: فَضَفَرْنَا شَعْرَهَا ثَلاثَةَ أَثْلاثٍ: قَرْنَيْهَا وَنَاصِيَتَهَا.
42 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عن خَالِدٍ، عن حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عن أُمِّ عَطِيَّةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حَيْثُ أَمَرَهَا أَنْ تَغْسِلَ ابْنَتَهُ، قَالَ لَهَا:« ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذهب الكوفيون والأوزاعي إلى: تفريقه وإرساله من الجانبين، بين ثدييها(1) دون تسريح.
ومن حجتهم: أنه ليس في الحديث معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - لفعل أم عطية، فيجعل سنة وحجة.
وقوله في هذا الحديث: لما ماتت زينب، هو(2) أكثر المروي، وذكر(3) بعض أهل السير أنها أم كلثوم.
وقوله: " ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها ".
قال الإمام: وضوء الميت مستحب عندنا وعند الشافعي، وأبو حنيفة لا يراه مستحبا.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" يديها ".
(2) في (هـ):" هذا ".
(3) في (هـ):" في ".(4/13)
قال القاضي: واختلف متى يوضأ(1) عندنا، هل في المرة الأولى، أو في الثانية، أو فيهما أو في الثالثة(2)؟
43 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ كُلُّهُمْ، عن ابْنِ عُلَيَّةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عن خَالِدٍ، عن حَفْصَةَ، عن أُمِّ عَطِيَّةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُنَّ فِي غَسْلِ ابْنَتِهِ:« ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأمره بالبداية بالميامن، على أصل الشريعة من البداية بها في الطهارة والعبادات تيمنا بلفظ اليمن(3) وتفاؤلاً ليكون من أصحاب اليمين.
استدل بعضهم بهذا الحديث أن النساء أحق بغسل المرأة من الزوج، وهو مذهب الحسن، وأنه لا يغسلها إلا عند عدمهن.
والجمهور من الفقهاء وأئمة الفتوى على خلافه وأنه أحق.
وذهب الشعبي والثوري وأصحاب الرأي إلى أنه: لا يغسلها جملة.
وأجمعوا على غسل الزوجة(4) زوجها.
وجمهورهم على أنه(5) أحق به من الأولياء.
وقال سحنون: الأولياء أحق.
ولم يذكر في هذا الحديث أمره بالغسل لمن غسلها، وهو موضع تعليم، وقد جاء في الأمر بذلك حديث من طريق أبي هريرة.
وحمله(6) الفقهاء على الاستحباب لا على الوجوب.
واختلف الصحابة في الأخذ به، ومعنى الغسل، والحكمة فيه لمن قال به، إما ليكون على يقين من طهارة جسده مخافة ما يصيبه من رش غسل الميت ويتطاير عليه من ذلك، أو لأنه إذا عزم على الاغتسال كان أبلغ في غسله وأحرى أن لا يتحفظ مما يصيبه فيجيد إنقاؤه وتنظيفه.
__________
(1) في (ط):" يتوضأ ".
(2) قوله:" أو في الثالثة " ليس في (ط) و(هـ).
(3) في (هـ):" اليمين ".
(4) في (هـ):" المرأة ".
(5) في (ط) و(هـ):" أنها ".
(6) في (ط):" جملة ".(4/14)
44 - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن الأَعْمَشِ، عن شَقِيقٍ، عن خَبَّابِ ابْنِ الأَرَتِّ قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَبِيلِ اللَّهِ نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ يُكَفَّنُ فِيهِ إِلا نَمِرَةٌ، فَكُنَّا إِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَتْ رِجْلاهُ، وَإِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الإِذْخِرَ » وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهْوَ يَهْدِبُهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختلف قول مالك في ذلك، فروى المدنيون عنه سقوط الغسل وإن اغتسل فحسن، ونحوه قول الشافعي وأبي حنيفة وأحمد، وروى غيرهم عنه: الغسل.
قال الخطابي: لا أعلم أحدا قال بوجوب ذلك. وقال أسحاق: أما الوضوء فلا بد منه، ونحوه قول أحمد بن حنبل. ومذهب كافة العلماء أنه لا يجب عليه وضوء منه.
وقوله: " فوجب أجرنا على الله ". قال الإمام: معناه وجوب شرع لا عقل كما تقول المعتزلة، وهذا نحو ما قلناه(1) في معنى قوله - عليه السلام -:" حق العباد على الله ".
وقول خباب:" ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها "، يقال: ينع الثمر وأينع إذا أدرك فهو يانع ومونع.
__________
(1) في (أ) و(ط):" قلنا ".(4/15)
وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ. ح، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ. ح، وَحَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ. ح، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عن ابْنِ عُيَيْنَةَ، عن الأَعْمَشِ بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال ابن(1) الأنباري: اليانع المدرك البالغ.
قال الفراء: أينع أكثر من ينع، قال الله تعالى: {وينعه}. الينع النضج.
قال أبوبكر: الينع جمع اليانع.
ويهدبها: أي يجتنيها ويقطفها، يقال منه: هدبها ويهدبها ويهدبها هدبا.
قال القاضي: الهدب ضرب من الحلب.
والنمرة: ضرب من الأكسية ملمعة قد ذكرناه.
وقوله: " فمنا من(2) لم يأكل من أجره شيئا " يعني(3) لم يكتسب من الدنيا شيئا ولا اقتناه(4)، فانتقل عن حال الفقر والحاجة وبقي أجره موفرا لذلك كما قال في كتاب البخاري في هذا الحديث: " لقد خشيت أن تكون عجلت(5) لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا". فتلك السعة التي وسعت على بعضهم نقص من أجره على الصبر على الفقر، فجعل ما أصاب من الدنيا وأكل من غضارتها(6) كأنه أكل لما كان يناله من أجر على الفقر والحاجة لو لم يصبها ومن لم يصب من الدنيا شيئًا ولم يأكل من فتحها شيئًا(7) بقي(8) أجره موفرًا لم يأكل عوضا عنه.
وفيه: فضل الصبر على الفقر، وقد يستدل بهذا الحديث من يفضله على الغنى.
__________
(1) قوله:" ابن " ليس في (ط).
(2) في (هـ):" من مضى ".
(3) في (هـ):" يعني من ".
(4) في (ط):" اجتناه ".
(5) في (ط):" قد عجلت ".
(6) في (هـ):" عصارتها ".
(7) قوله:" شيئًا " ليس في (أ) و(ط)..
(8) في (ط):" وقع ".(4/16)
45 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عن أَبِيهِ، عن عَائِشَةَ قَالَتْ: كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ، أَمَّا الْحُلَّةُ فَإِنَّمَا شُبِّهَ عَلَى النَّاسِ فِيهَا أَنَّهَا اشْتُرِيَتْ لَهُ لِيُكَفَّنَ فِيهَا، فَتُرِكَتِ الْحُلَّةُ، وَكُفِّنَ فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، فَأَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: لأَحْبِسَنَّهَا حَتَّى أُكَفِّنَ فِيهَا نَفْسِي، ثُمَّ قَالَ: لَوْ رَضِيَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ لَكَفَّنَهُ فِيهَا، فَبَاعَهَا وَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واحتج بعضهم من هذا الحديث أن الكفن من رأس المال لقوله:" لم يوجد له إلا نمرة " وهو قول عامة العلماء والسلف(1) وأئمة الفتوى. إلا ما حكي عن طاووس أنه من الثلث إن كان المال قليلا، ولبعض السلف أنه من الثلث على الإطلاق، ولم يتابعا على هاتين المقالتين.
وفيه: أن الكفن إذا ضاق عن الميت ولم يستر جميعه فتغطية رأس الميت أولى من رجليه لأجل تغير محاسن الوجه بالموت وإكراما للوجه والرأس.
وإن ضاق عن العورة والرأس غطيت العورة وما أمكن من أعلاه لوجوب سترها في الحياة.
وقوله: " كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب" تكفين الميت عند العلماء واجب من غير خلاف من رأس ماله على ما تقدم، فإن لم يكن له مال فعلى بيت المال، أو جماعة المسلمين.
__________
(1) قوله:" والسلف " ليس في (ط).(4/17)
46 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ ابْنُ عُرْوَةَ، عن أَبِيهِ، عن عَائِشَةَ قَالَتْ: أُدْرِجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حُلَّةٍ يَمَنِيَّةٍ كَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ نُزِعَتْ عَنْهُ، وَكُفِّنَ فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ سُحُولٍ يَمَانِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا عِمَامَةٌ وَلا قَمِيصٌ، فَرَفَعَ عَبْدُ اللَّهِ الْحُلَّةَ، فَقَالَ: أُكَفَّنُ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ: لَمْ يُكَفَّنْ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأُكَفَّنُ فِيهَا، فَتَصَدَّقَ بِهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختلف أصحابنا هل يلزم ذلك من كان يلزمه نفقته في حياته أم لا ؟.
وقوله: " في ثلاثة أثواب" المستحب في الكفن الوتر وثلاثة أثواب لا ينقص منهن مع الاختيار عند مالك وكافة الفقهاء، وكلهم مجمعون أنه ليس فيه حد واجب لا يتعدى.
وذكر بعض شيوخنا أن المستحب عند مالك خمسة بالقميص والعمامة.
وقال سويد بن غفلة: يكفن في ثوبين. وقاله مالك لمن لم يجد غيرهما، وهو معنى قول الأوزاعي وأبي حنيفة.
وقال ثوبان: هما أدنى ما يكفن فيه الرجل، وهما أفضل عند أصحابنا، وعلى مساق مذهبنا من ثوب. وأجاز الشافعي الثوب الواحد.
وجمهورهم على أن السنة للمرأة خمسة أثواب وأدناها ثلاثة.
وقد اختلف فيها قول الشافعي،فقال هذا مرة، وقال مرة: يجزي ثوب واحد.
وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَابْنُ إِدْرِيسَ، وَعَبْدَةُ، وَوَكِيعٌ. ح، وَحَدَّثَنَاه يَحْيَى ابْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُالْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، كُلُّهُمْ عن هِشَامٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمْ قِصَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ.(4/18)
47 - حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عن يَزِيدَ، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عن أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ لَهَا: فِي كَمْ كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَقَالَتْ: فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ سَحُولِيَّةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " بيض " الأكفان البيض أفضل من غيرها وأولى وكره مالك والأوزاعي الثياب المصبغة في الكفن إلا العصب.
وكذلك عند مالك ما صبغ بالطيب كالورس والزعفران.
واختلف قوله في كراهة المعصفر فأجازه مرة لكونه من الطيب لاسيما مع طراءته أو لغلبة لباس العرب لها ومنعه مرة لكونه غير محسوب من الطيب ولأنها من ملابس الجمال والزينة وليس موضعه.
وقوله:" سحولية ". قال الإمام: قال ابن الأعرابي: معناه بيض نقية من القطن خاصة. قال الإمام: وكذلك(1) جاء في الحديث"سحولية من كرسف".
وقال القتيبي: سحولية(2) جمع سحل وهو ثوب أبيض. ولم يفرق بين الكرسف وغيره، وقال(3): سحولية منسوبة إلى سحول قرية باليمن.
قال القاضي: قد جاء في كتاب مسلم في الحديث الآخر:"[ثلاثة(4) أثواب سحولية يمانية". كذا عند العذري هنا وابن ماهان، وعند السمرقندي ](5)
__________
(1) في (ط) و(هـ):" لذلك ".
(2) في (ط):" سحول ".
(3) في (ط) و(هـ):" ويقال ".
(4) في (هـ):" في ثلاثة ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (ط).(4/19)
48 - وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَحَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنِي، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ-، حَدَّثَنَا أَبِي، عن صَالِحٍ، عن ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: سُجِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ مَاتَ بِثَوْبِ حِبَرَةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والشنتجالي(1): في ثلاثة أثواب سحول. هكذا مهمل اللفظ، فيحتمل أن يكون بضم السين، ويكون بدلا من أثواب إذا قلنا إنها ثياب قطن بيض تسمى بذلك.
وسحول على هذا: جمع سحل ويجمع أيضًا سحل بالضم كما يجمع(2) [كهل وكهول وكهل ](3)، وتكون أيضًا وصفًا، إذا قلنا إن معناها(4): بيض، لكن قد اعتُرض على تفسيرها ببيض لقوله قبل: بيض. فلا وجه لتكرار وصفها بالبياض، كما أنه يعترض على تفسيرها بأنها ثياب قطن معلومة؛ لقوله(5):" من كرسف"، وهو: القطن، ولكن الاعتراض على هذين الفصلين(6) قد يجاب عنه بأنه لا ينكر تكرار المعنى الواحد بلفظين مختلفين في كلام العرب للتأكيد،كما قال تعالى: { وغرابيب سود }.
وقد قال ابن وهب: السحول قطن ليس بالجيد.
وقد كره مالك وعامة العلماء تكفين الموتى ذكرانًا وإناثًا في الحرير.
قال ابن المنذر: ولا أحفظ خلافه.
قال القاضي: وأجازه ابن حبيب للإناث، وعن مالك أنه(7) إن وقع ذلك وفعل في الرجال والنساء فواسع مع كراهيته(8) له.
__________
(1) قوله:" والشنتجالي " ليس في (ط).
(2) قوله:" كما يجمع " ليس في (أ).
(3) ما بين المعكوفين ليس في (أ) و (ط).
(4) في (ط):" معناهما ".
(5) قوله:" لقوله " ليس في (أ)، وفي (ط):" بقوله ".
(6) في (هـ):" اللفظين ".
(7) قوله:" أنه " ليس في (هـ).
(8) في (ط) و(هـ):" كراهيته ".(4/20)
وقولها(1):" ليس فيها قميص ولا عمامة ".
قال الإمام: استحب الشافعي أن لا يكون في الكفن قميص ولا عمامة،
وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. ح، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عن الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ سَوَاءً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فحمل الشافعي قولها ليس فيه قميص ولا عمامة، على أن ذلك ليس في الكفن بموجود، ويحمله مالك على أنه ليس بمعدود بل يحتمل أن تكون الثلاثة الأثواب زيادة على القميص والعمامة.
ويرجح الشافعي تأويله بقول الراوي: وأما الحلة فإنما شبه على الناس فيها أنها(2) اشتريت له(3) ليكفن فيها فتركت الحلة وكفن في سواها. ويحتج أيضًا من جهة القياس بأنها لبسة في حالة المقصود فيها(4) التقرب والخضوع فشابهت لبسة المحرم.
واحتج أصحابنا بإعطائه - عليه السلام - القميص لابن(5) أبي بن سلول. وانفصلوا عن هذا الحديث بأنه قد قيل: إنما أعطاه ذلك عوضا عن القميص الذي كسا العباس.
قال القاضي: حكى ابن القصار أن القميص والعمامة غير مستحب عند مالك، ونحوه عن ابن القاسم كقول الشافعي. وهذا خلاف ما حكاه متقدمو أصحابنا ابن القاسم وغيره عن مالك من أنه يقمص ويعمم، وهو قول أبي حنيفة.
فعلى قوله: لا يقمص يدرج في ثلاثة أثواب على ما روي عنه، وعلى قوله: يقمص ويعمم يدرج في ثلاثة أثواب. فتكون خمسة على ما قاله(6) بعض شيوخنا.
......................................................................
__________
(1) في (هـ):" وقوله ".
(2) قوله:" أنها " ليس في (أ).
(3) قوله:" له " ليس في (هـ).
(4) في (هـ):" منها ".
(5) في (ط) و(هـ):" لعبدالله بن ".
(6) في (هـ):" على قول ".(4/21)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد جاء عنه أيضًا: لا بأس بالقميص في الكفن ويكفن معه بثوبين فوقه، فهذا على قوله ثلاثة أثواب.
وقولها: وأما الحلة فإنما شبه على الناس فيها لأنها(1) اشتريت ليكفن فيها فتركت الحلة وكفن في ثلاثة أثواب.
وفي الحديث بعده: أدرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حلة يمنية كانت لعبدالله بن أبي بكر ثم نزعت عنه. كذا عند العذري من رواية الأسدي عنه: "يمنية" وللصدفي عنه:"يمانية" كل ذلك منسوب إلى اليمن، وعند الفارسي:"حلة يمنة" [ بضم الياء وسكون الميم،وهو صحيح ويتكلم به على الإضافة:" حلة يمنة"](2).
قال الخليل: هي ضرب من برود اليمن ". وقال أبو عبيد: الحلة برود اليمن والحلة إزار ورداء، لا يسمى حلة حتى يكون ثوبين، وقد تقدم تفسيره.
وقولها في الحديث الآخر:" سجي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثوب حبرة" تفسير(3) اليمنة المتقدمة، وتفسير معنى قولها قبل: أدرج فيها، ثم نزعت عنه. على ظاهر ما قال في الحديث.
وفي هذا تسجية الميت في الثياب وتغطية وجهه على ما مضى به العمل لتغير صفته بالموت عما كانت عليه.
قال: واستدل بعضهم من قولها: ليس فيها قميص.أن القميص الذي غسل فيه - عليه السلام - ونهوا عن نزعه(4) حينئذ نزع(5) عنه حين كفن وستر بالأكفان، ولأنها كان(6) مبتلاً ولا يتفق كفنه فيه وهو مبلول(7). وهذا إنما يتجه(8) على تأويل من تأول(9) ليس فيها قميص أي ليس(10) في الأكفان جملة لا(11) في الثلاثة خاصة.
__________
(1) قوله:" لأنها " ليس في (أ).
(2) مابين المعكوفين ليس في (هـ).
(3) في (هـ):" تفسر ".
(4) في (ط) و(هـ):" نزعها ".
(5) في (ط) و(هـ):" نزعت ".
(6) في (ط):" وكانت ".
(7) في (ط):" كفنه فيها وهي مبلولة ".
(8) في (ط):" يتجه له ".
(9) قوله:" من تأول " ليس في (ط).
(10) في (ط) و(هـ):" ليست ".
(11) في (هـ):" إلآ ".(4/22)
وقد ذكر أبو داود عن ابن عباس: كفن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب، الحلة ثوبان، وقميصه الذي مات فيه.
وروى عنه في سبعة.
قيل: الثلاثة التي أدرج فيها، والعمامة، والقميص، والسراويل، والقطيفة التي فرشت في قبره - عليه السلام -، فعدوها سابعة.
وقد روى أنهم لما فرغوا من غسله نزعوا القميص حين أدرج في أكفانه فأخذها عبدالله(1) بن أبي بكر ليكفن فيها ثم تركها. وقال: لم يرضها الله لنبيه.
وأما ما ذكره من خبر قميص ابن أبي فالأصح في ذلك أن ابنه عبدالله طلب ذلك منه ليتبرك بها فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك، وكان ابنه من جلة الصحابة الفضلاء، وقد جاءت القصة مفسرة في صحيح البخاري. وإلى القول الأول مال سفيان بن عيينة.
[ وقد خرج البخاري أيضًا تلك القصة الأخرى](2).
وفي أمرهم بغسله في القميص ونهيهم عن نزعه عنه عليهالصلاة والسلام ما يستدل به على ستر جسد الميت واستحب العلماء أن يغسل تحت ثوبه لتغير جسده بالمرض وأنه كان في حياته يكره على(3) أن يطلع على ذلك منه بتلك الصفة.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" الرحمن ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) قوله:" على " ليس في (ط) و(هـ).(4/23)
49 - حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ قَالا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ ابْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ يُحَدِّثُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ يَوْمًا فَذَكَرَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ، فَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ، وَقُبِرَ لَيْلاً، فَزَجَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ، إِلا أَنْ يُضْطَرَّ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلِكَ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونهيه عليه - عليه السلام - في حديث الذي كفن في كفن غير طائل ودفن ليلا أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلي عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، وقال: " إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ".
فيه: تعليقه - عليه السلام - الدفن بشرط الصلاة، وهذا يدل على قول مالك وجمهور أصحابنا بوجوب الصلاة عليها، إذ لا خلاف في وجوب الدفن، وإذا تعلق بشرط الصلاة وجب الشرط.
ومعنى غير طائل، أي: لا خطر له ولا قيمة، أو لا ستر فيه ولا كفاية، أو لا نظافة لها(1) ولا نقاوة.
قال الإمام: اختلف عندنا في الصلاة على الجنازة، فقيل: فرض على الكفاية. وقيل: سنة، فمن قال أفعاله(2) على الوجوب قوي عنده القول بوجوبها، ومن قال بالندب، أو التوقيف(3) فيها قوي عنده القول بأنها سنة.
قال القاضي: ما في هذا الحديث يؤكد وجوبها، وأمره - عليه السلام - بالصلاة على الجنائز. وقد استدل بعض أصحابنا بقوله تعالى: { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا }.
__________
(1) في (أ):" في ".
(2) في (هـ):" فمن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - ".
(3) في (ط) و(هـ):" التوقف".(4/24)
قال بعضهم: هو من باب دليل الخطاب. وقال آخرون(1): هو من باب أن النهي عن الشيء أمر بضده، وهذا كله ضعف كثير وخطأ بين ليس يصح الاستدلال به بوجه من هذين الوجهين ولا دليل فيه على الوجوب جملة.
واستدل بعضهم بقوله:{ خذ من أموالهم صدقة } إلى قوله:{ وصل عليهم}. وهذا محتمل، وهو في الدعاء أظهر.
ونهيه فيه عن الدفن بالليل جمهور العلماء والسلف على جواز الدفن ليلا، إلا ما روي عن الحسن من كراهته إلا لضرورة.
وأما في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها فاختلف في الدفن والصلاة فيها السلف والخلف.
ومشهور مذهب مالك وأصحابه:[ لا يصلى عليها(2) بعد الإسفار والاصفرار حتى تطلع الشمس أو تغيب إلا أن يخشى عليها فيصلى عليها(3)](4) حينئذ، وعند ابن عبدالحكم جواز الصلاة عليها في كل وقت. وهو قول الشافعي كالفرائض. وقال أبو حنيفة: لا يصلى عليها عند الطلوع والغروب ونصف النهار. وقال الثوري: لا يصلى عليها بعد الفجر حتى تطلع الشمس ولا عند الغروب ولا نصف النهار. وقال الليث: تكره الصلاة عليها في الأوقات التي تكره فيها الصلاة.
واختلف في تأويل نهيه - عليه السلام - عن ذلك. فقيل: للعلة التي ذكرمن قوله: حتى يصلي عليه يعني لئلا يفوته صلاته هو - عليه السلام - وصلاة الكثير(5) من المسلمين وجماعتهم ليناله(6) بركة صلاته - عليه السلام - ودعائه ودعاء المسلمين وصالحيهم، بخلاف دفن الليل الذي إنما تحضره الخصوص والآحاد. وقيل: بل للعلة الأخرىالمذكورة في الحديث من قوله(7):" حتى يصلي عليه".
__________
(1) في (ط) و(هـ):" آخر ".
(2) قوله:" عليها " ليس في (أ).
(3) قوله:" فيصلى عليها " ليس في (هـ).
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(5) في (ط) و(هـ):" الكثرة ".
(6) في (ط) و(هـ):" لتنالهم ".
(7) في (ط):" الحديث لقوله ".(4/25)
وقوله:" فكفن في كفن غير طائل " وأنهم كانوا يفعلون ذلك بالليل ليستر(1) إساءة الكفن، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك لهذه العلة، ويدل عليه قوله آخر الحديث: "إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه".
قال القاضي: العلتان بينتان في الحديث، والظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصدهما جميعا وعلل بهما، وقد قيل هذا وتحسين الكفن مأمور به وليس المراد به السرف فيه، ولكن [ نظافته ونقاؤه وكثافته وستره](2) وتوسطه وكونه من جنس لباسه في حياته غالبا، وهو الذي يقضي به عندنا على الورثة إذا تشاجروا في ذلك.
وقوله:" فليحسن كفنه" كذا ضبطناه عن أبي بحر بسكون الفاء يعني(3): الفعل من عمومه وستره، وعن غيره: بالفتح. وفتحهما(4) عندي أصوب(5) وأظهر للفظ الحديث، أنه أراد الكفن نفسه لأنه الذي أنكر في الحديث لقوله: 50 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عن الزُّهْرِيِّ، عن سَعِيدٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ لَعَلَّهُ قَالَ: تُقَدِّمُونَهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ تَكُنْ غَيْرَ ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ، عن رِقَابِكُمْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"بكفن غير طائل" وإحسانه(6) من جهة الثياب سبوغها وسترها وكثافتها ونقاؤها، ولا تكون وسخة ولا هجنة.
وإذا اتفق هذا جمع تحسين الثوب والفعل، وقد فسره سلام ابن أبي مطيع في جامع الترمذي.
واختلفت عنه في تفسيره الرواية.
__________
(1) في (هـ):" ليستتر ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) في (هـ):" بمعنى ".
(4) في (ط) و(هـ):" فتحها ".
(5) في (ط):" صواب ".
(6) في (ط):" وإحسانه أيضًا ".(4/26)
ففي رواية شيخنا القاضي الشهيد هو: الصفاق وليس بالمرتفع، وفي رواية غيره هو: الصفاء، يعني: النقاء والبياض.
قوله:" أسرعوا بالجنازة" الحديث. حمل الجنازة متعين على الكافة إن لم يكن لها بما يستأجر لها به ككفنها ودفنها، وأكثر العلماء على أن معناه هنا: الإسراع بحملها إلى قبرها.
وقيل: الإسراع لتجهيزها إذا تحقق موتها، والأول أظهر. لقوله آخر الحديث: " فشر تضعونه عن رقابكم" ومعنى هذا الإسراع عند بعضهم: ترك التراخي في المشي بها والتباطئ والزهو في المشي، ويكره الإسراع الذي يشق على من يتبعها ويحرك الميت وربما سبب خروج شيء منه. وعلى هذا حملوا نهي من نهى عن الدبيب بها دبيب اليهود من السلف وأمر بالإسراع. وجمعوا بينه وبين من روى عنه النهي عن الإسراع، واستدلوا بما جاء في
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عن عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ.ح، وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ ابْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، كِلاهُمَا عن الزُّهْرِيِّ، عن سَعِيدٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ قَالَ: لا أَعْلَمُهُ إِلا رَفَعَ الْحَدِيثَ.
51 - وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، قَالَ هَارُونُ: حَدَّثَنَا، و قَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عن ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَرَّبْتُمُوهَا إِلَى الْخَيْرِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ شَرًّا تَضَعُونَهُ، عن رِقَابِكُمْ ».(4/27)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث مفسرا عنه - عليه السلام - هو ما دون الخبب. وفي حديث آخر: " عليكم بالقصد في جنائزكم ". وهذا قول جمهور العلماء وأبي حنيفة وأصحابه والشافعي وابن حبيب من أصحابنا. وحمل بعضهم ما جاء في ذلك من الآثار عن السلف على الخلاف في المسألة، والجمع بينهما على ما تقدم أولا كما أن الإسراع في الوجهين صحيح(1). فقد جاء في حديث الحصين(2): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في طلحة بن البراء: " آذنوني به وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله " ذكره أبو داود.
قوله:" فشر تضعونه عن رقابكم " يعني الميت. قيل(3): لكونها ملعونة ملعون من شهدها كما جاء في الحديث. وقيل: التعب بها ومؤنة حملها.
__________
(1) في (ط):" صحيحان ".
(2) في (ط) و(هـ):" الحصين بن وحوح ".
(3) قوله:" قيل " ليس في (ط) و(هـ).(4/28)
52 - وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ - وَاللَّفْظُ لِهَارُونَ وَحَرْمَلَةَ، قَالَ هَارُونُ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الأَعْرَجُ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ »، قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ ؟ قَالَ:« مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ ». انْتَهَى حَدِيثُ أَبِي الطَّاهِرِ، وَزَادَ الآخَرَانِ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي عَلَيْهَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَقَدْ ضَيَّعْنَا قَرَارِيطَ كَثِيرَةً.
حَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى. ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عن عَبْدِ الرَّزَّاقِ، كِلاهُمَا عن مَعْمَرٍ، عن الزُّهْرِيِّ، عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إِلَى قَوْلِهِ:« الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ »، وَلَمْ يَذْكُرَا مَا بَعْدَهُ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الأَعْلَى:« حَتَّى يُفْرَغَ مِنْهَا »، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ:« حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/29)
وقوله: " من شهد جنازة حتى يصلي عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان ". الجنازة بالفتح والكسر الميت. وقيل: يقال أيضًا للسرير الذي يحمل عليه الميت. وفرق بعضهم فجعل: الفتح للميت، والكسر للنعش(1)، وهو قول ابن الأعرابي. والحديث يدل على انطلاق اللفظ في الوجهين، ودليل هذا الحديث
وَحَدَّثَنِي عَبْدُالْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ: حَدَّثَنِي أَبِي، عن جَدِّي قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عن ابْنِ شِهَابٍ ؛ أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي رِجَالٌ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ حَدِيثِ مَعْمَرٍ. وَقَالَ:« وَمَنِ اتَّبَعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ ».
53 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنِي سُهَيْلٌ، عن أَبِيهِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ وَلَمْ يَتْبَعْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنْ تَبِعَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ »، قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ ؟ قَالَ: «أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ ».
54 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عن يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنِ اتَّبَعَهَا حَتَّى تُوضَعَ فِي الْقَبْرِ فَقِيرَاطَانِ »، قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ! وَمَا الْقِيرَاطُ ؟ قَالَ: مِثْلُ أُحُدٍ.
__________
(1) في (هـ):" للسرير ".(4/30)
55 - حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ - يَعْنِي ابْنَ حَازِمٍ -، حَدَّثَنَا نَافِعٌ قَالَ: قِيلَ لابْنِ عُمَرَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ مِنَ الأَجْرِ »، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَكْثَرَ عَلَيْنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، فَبَعَثَ إِلَى عَائِشَةَ فَسَأَلَهَا فَصَدَّقَتْ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن المصلي على الجنازة لا يحتاج إذا دفنت إلى إذن، وهو المروي عن جماعة من الصحابة والسلف. وكافة أئمة الفتوى والعلم ومشهور مذهب مالك.
ورُوي عن جماعة من الصحابة: أنهم لا ينصرفون عن الجنازة إلا بإذن. وحكاه ابن عبدالحكم عن مالك. قال: إلا أن يطول ذلك(1).
__________
(1) قوله:" ذلك " ليس في (هـ).(4/31)
56 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي حَيْوَةُ، حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ، عن يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ ؛ أَنَّهُ حَدَّثَهُ؛ أَنَّ دَاوُدَ بْنَ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ حَدَّثَهُ، عن أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، إِذْ طَلَعَ خَبَّابٌ صَاحِبُ الْمَقْصُورَةِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ ! أَلا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ ؟ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُحُدٍ »، فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ خَبَّابًا إِلَى عَائِشَةَ يَسْأَلُهَا عن قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ مَا قَالَتْ، وَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ قَبْضَةً مِنْ حَصْبَاءِ الْمَسْجِدِ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ، فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: صَدَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَضَرَبَ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَصَى الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ الأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختلف قوله هل له إذا شيعها أن ينصرف عنها ولم يصل عليها لغير علة.
وقوله في أكثر الروايات: فإن اتبعها ومن تبع جنازة. يحتج به من يرى أن المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها على ظاهر لفظ: تبع، وهو مذهب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي.(4/32)
ومذهب جمهور الصحابة وأئمة الفتوى وعلماء المدينة: أن المشي أمامها أفضل، وهو المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وذهب بعض السلف إلى: التوسعة في ذلك وأنه سواء، وهو قول: الثوري وأبي مصعب من أصحابنا. وفي إرسال ابن عمر إلى أبي هريرة في هذا 57 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنِي قَتَادَةُ، عن سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عن مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيِّ، عن ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنْ شَهِدَ دَفْنَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ، الْقِيرَاطُ مِثْلُ أُحُدٍ ».
وَحَدَّثَنِي ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ ابْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عن سَعِيدٍ. ح، وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبَانُ، كُلُّهُمْ عن قَتَادَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ.
وَفِي حَدِيثِ سَعِيدٍ وَهِشَامٍ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، عن الْقِيرَاطِ، فَقَالَ:« مِثْلُ أُحُدٍ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث، ما كانوا عليه من البحث عن ا لسنن والتقصي عن العلم وضربه بما كان في يده من الحصى(1) حين أعلمه الرسول بالخبر، وقوله: " لقد فرطنا في قراريط كثيرة ".
فيه: ما كانوا عليه من الحرص على أعمال البر واقتناء الأجر وتأسفهم على ما فاتهم من ذلك، وفي ذكر الاتباع في الحديث والحض عليه، تنبيه على الرغبة في حملها، وأن يكثر الحاضرون لحملها وتجهيزها ودفنها ومتى قلوا عجزوا عن ذلك.
والقيراط: عبارة عن قدر معلوم، وقد جاء في الحديث أنه مثل أحد.
__________
(1) قوله:" الحصى " ليس في (أ).(4/33)
58 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا سَلامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ، عن أَيُّوبَ، عن أَبِي قِلابَةَ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيعِ عَائِشَةَ، عن عَائِشَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَا مِنْ مَيِّتٍ تُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلا شُفِّعُوا فِيهِ »، قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ شُعَيْبَ بْنَ الْحَبْحَابِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي بِهِ أَنَسُ ابْنُ مَالِكٍ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
59 - حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ وَالْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ السَّكُونِيُّ، قَالَ الْوَلِيدُ: حَدَّثَنِي، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ، عن شَرِيكِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عن كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ مَاتَ ابْنٌ لَهُ بِقُدَيْدٍ، أَوْ بِعُسْفَانَ، فَقَالَ: يَا كُرَيْبُ ! انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ النَّاسِ ؟ قَالَ: فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَاسٌ قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: تَقُولُ: هُمْ أَرْبَعُونَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَخْرِجُوهُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلاً لا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلا شَفَّعَهُمُ اللَّهُ فِيهِ ».
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَعْرُوفٍ، عن شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عن كُرَيْبٍ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/34)
وقوله في حديث: " ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة إلا شفعوا فيه ". قال: فحدثت به شعيب بن الحجاب. قائل هذا هو سلام بن أبي مطيع راوي الحديث في الكتاب عن أيوب، كذا بينه النسائي. وهذا الحديث موقوف على عائشة غير مرفوع من رواية سعيد بن منصور. وذكره في هذا الحديث: مائة، وفي آخر: أربعين، وفي آخر: ثلاثة صفوف.
60 - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، كُلُّهُمْ عن ابْنِ عُلَيَّةَ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى -، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ »، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ »، قَالَ عُمَرُ: فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي ! مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ، فَقُلْتَ: «وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ »، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ:« وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ »، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيل: وجه اختلاف هذا العدد، أنها أجوبة لسائل سأل عن ذلك، ولعله لو سئل عن أقل لأجاب بمثله، وقد تكون الثلاثة صفوف أقل من أربعين، والله أعلم بمراد نبيه.(4/35)
وقوله: " أنتم شهداء الله في الأرض ". قال الداودي: معنى هذا عند الفقهاء إذا أثنى عليه أهل الفضل والصدق ؛ لأن الفسقة قد يثنون على الفاسق، فلا يدخل في الحديث، وكذلك أن يكون القائل فيه شرا عدوا له وإن كان فاضلا فلا يدخل أيضًا في هذا ؛ لأن شهادته في حياته كانت غير مقبولة عليه، وإن كان عدلا، وقيل ذلك فيمن علم الله أنه لا يحمله الحسد أو العداوة أو فرط المحبة وكثرة الإطغاء(1) والغلو المذموم، فيقول ما ليس فيه من خير أو شر ولكن إنما ذلك لمن وفق الله له(2) من يقول فيه قولا عدلا بما علمه
وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ. ح، وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، كِلاهُمَا عن ثَابِتٍ، عن أَنَسٍ قَالَ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِجَنَازَةٍ، فَذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عن أَنَسٍ، غَيْرَ أَنَّ حَدِيثَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَتَمُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ممن يريد به الله تعالى فيوجب له ما قالا، وهو الذي وفقهما الله له وسبق له في علمه، وربما قبل علمهما فيه وترك علمه من سريرته إذا كان مسلما تفضلا منه وسترا عليه وتحقيقا لظنهما فيه.
وقال بعضهم في تكراره قوله:" أنتم شهداء الله في الأرض" ثلاثا إشارة إلى القرون الثلاثة الذين قال فيهم - عليه السلام -: " خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ". والأظهر فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كرر لفظه بذلك ثلاثا تأكيدا على عادته في ذلك.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" الإطراء ".
(2) قوله:" له " ليس في (هـ).(4/36)
وقوله عليه الصلاة والسلام: هذا فيمن أثنى عليه بشر، ولم ينههم مع نهيه عن سب الأموات، أو الإمساك عن ذي قبر. غير معارض قيل: لأنه قد يكون هذا فيمن غلب عليه الشر، وكان في حياته فاسقا معلنًا بالفسق(1) فلا غيبة فيه في حياته فكذلك بعد موته بخلاف إذا كان الأغلب عليه الخير.
وقيل(2): يحتمل أن يكون هذا الذكر الذي سوغه النبي - عليه السلام - بعد الموت وقبل الدفن ليتعظ فساق الأحياء مما ينتشر عنه من سوء الذكر وربما(3) عساه يزهد كثيرا من الناس عن حضور الصلاة عليه فإذا دفن وجب الإمساك عنه، فيجمع بين الحديثين على هذا، وهذه الأحاديث كلها في المسلمين.
61 - وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عن مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ - فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ -، عن مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ، عن مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عن أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ ؛ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَقَالَ:« مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ »، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا الْمُسْتَرِيحُ، وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ ؟ فَقَالَ:« الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) قوله:" بالفسق " ليس في (أ) و(طـ).
(2) في (هـ):" وقد قيل ".
(3) في (ط) و(هـ):" وبما ".(4/37)
قال القاضي: وليس في هذين الفرقين تبيين ؛ لأن النهي عن سب الأموات عموم فيمن قبر ومن(1) لم يقبر، وممن فيه الغيبة حال الحياة، ومن لا غيبة فيه. والذي يظهر لي في الجمع بين الحديثين أن يكون قوله - عليه السلام -:" وجبت وجبت" في الذي أثنى عليه بشر وقطعه عليه - عليه السلام - ?بالنار محتملاً أنه فيمن أخبر عنه بإبطان النفاق وحدث عنه بما كان يضمره من ذلك وتظهر عليه دلائله، فلذلك قال - عليه السلام -: " وجبت له النار" إذ لا تجب ويقطع بها للمذنبين بل هم في مشيئة الله، وقد يكون نهيه - عليه السلام - عن سب الموتى بعد هذا والله أعلم.
وقوله: " أثنى عليه شر(2)" والثناء ممدود بتقديم الثاء المثلثة إنما يقال: في الخير غالبا، وقد جاء هنا في الشر وإنما الذي يستعمل فيهما الثناء المقصور بتقديم النون لكن لما جاء هاهنا أولا أثنى عليه خير قاله في الشر على طريق تجنيس الكلام ومقابلته كما قال تعالى:{ مستهزئون، الله يستهزئ بهم }. {ومكروا ومكر الله }.
وقوله:" مستريح ومستراح منه" ثم قال: " العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها" أي: من تعبها. " والعبد الفاجر تستريح منه البلاد والعباد
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ.ح، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، جَمِيعًا عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عن مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عن ابْنٍ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عن أَبِي قَتَادَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَفِي حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ:« يَسْتَرِيحُ مِنْ أَذَى الدُّنْيَا وَنَصَبِهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ ».
__________
(1) في (هـ):" وفيمن ".
(2) في (ط) و(هـ):" بشر ".(4/38)
62 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والشجر والدواب".
قال الداودي: راحة العباد منه مما يأتي(1) من المنكر، فإن أنكروا عليه نالهم أذاه، وإن تركوا أثموا، وراحة البلاد والدواب منه(2) جدبها لما يأتي من المعاصي فيهلك الحرث والنسل ".
وقال الباجي: يحتمل أن يكون أذاه للعباد بظلمهم، وأذاه للأرض والشجر والدواب بغصبها ومنعها من حقها وإتعاب الدواب فيما لا يجوز. وفي مضمون راحته هو من نصب الدنيا راحته ببشرى الله بماله من الخير، ولا تصح الراحة من الدنيا إلا بهذه الراحة الأخرى.
وقوله: نعى للناس النجاشي في(3) اليوم الذي مات فيه.
فيه: من دلائل نبوته - عليه السلام - وإخباره بالغيوب.
قال الإمام: النعي إشاعة خبر الميت.
__________
(1) في (هـ):" يأتي به ".
(2) في (ط):" منه من ".
(3) قوله:" في " ليس في (ط) و(هـ).(4/39)
63 - وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عن جَدِّي قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلُ ابْنُ خَالِدٍ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؛ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عن أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: نَعَى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّجَاشِيَ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ »، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صَفَّ بِهِمْ بِالْمُصَلَّى فَصَلَّى، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الهروي: النعي، يعني(1) بسكون العين: الفعل(2)، والنعي، يعني(1) بكسرها: الرجل الميت، ويجوز أن يجمع نعايا مثل صفي وصفايا وبري وبرايا.
قال القاضي: احتج بذلك أئمتنا في جواز الإعلام بموت الميت وأن هذا ليس من النعي الذي نهى عنه خلاف ما روى عن حذيفة: أن لا يؤذن به أحد، وقال: أخاف أن يكون نعيا، ونحوه عن ابن المسيب. وقال به بعض سلف الكوفيين من أصحاب(3) ابن مسعود. وحمل الأول النهي عن النعي فيما كان على عادة الجاهلية إذا مات منهم شريف بعثوا راكبا إلى القبائل، نعا فلانًا(4)، أو يا نعايا العرب، أي: هلكت بمهلك فلان، ويكون(5) مع النعي ضجيج وبكاء، وكره مالك الإنذار بذلك على أبواب المساجد والأسواق ورآه من النعي.
وقول النبي - عليه السلام - في الحديث الآخر: " هلا آذنتموني"، ونعيه أهل مؤتة يصحح القول الأول.
__________
(1) قوله:" يعني " ليس في (أ) و(هـ).
(2) قوله:" الفعل " ليس في (أ).
(3) في (هـ):" أصحاب عبدالله".
(4) في (أ) و(هـ):" يا فلانًا ".
(5) في (ط) و(هـ):" أو يكون ".(4/40)
وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَحَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ -، حَدَّثَنَا أَبِي، عن صَالِحٍ، عن ابْنِ شِهَابٍ، كَرِوَايَةِ عُقَيْلٍ بِالإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا.
64 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عن سَلِيمِ بْنِ حَيَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام: والنجاشي ملك الحبشة، واسمه: أصحمة، تفسيره بالعربية: عطية، قاله: ابن قتيبة وغيره.
وقال المطرز وابن خالويه وغيرهما: النجاشي اسم لكل ملك من ملوك الحبشة، وكسرى اسم لملك الفرس، وهرقل اسم لملك الروم، وقيصر كذلك، وخاقان اسم ملك الترك، وتبع اسم ملك اليمن، والقيل ملك حمير وجمعه أقيال. وقيل: بل القيل أقل درجة من الملك.
قال القاضي: ذكر مسلم اسم النجاشي أصحمة في الحديث، وهو المعروف بهمزة أوله ثم صاد ساكنة قبل حاء مفتوحة، وكذا ذكره البخاري.
وقاله ابن إسحاق.
وفي مسند ابن أبي شيبة في هذا الحديث تسميته: " صحمة " على وزن ركوة(1) بغير همزة وفتح الصاد وبسكون الحاء، وقال: هكذا قال لنا يزيد. وإنما هو:" صمحة " كذا ذكره بتقديم الميم بغير همز.
65 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عن ابْنِ جُرَيْجٍ، عن عَطَاءٍ، عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَاتَ الْيَوْمَ عَبْدٌ لِلَّهِ صَالِحٌ أَصْحَمَةُ »، فَقَامَ فَأَمَّنَا، وَصَلَّى عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط):" فعله ".(4/41)
وقوله: " فخرج إلى المصلى" يحتج به وبفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير جنازة، على أن سنتها الصلاة عليها في البقيع، وأن لصلاة الجنائز موضعا مخصوصا، وصلاته - عليه السلام - مع مغيبه قيل: إنما كان هذا ليعلم المسلمين بأنه كان مؤمنا وليستغفروا له كما أمرهم بذلك في الحديث الآخر، ولأنه كان بين قوم كفار يكتم إيمانه فلم يصل عليه وإن كان معه من تابعه(1) على الإسلام فقد لا يقدر على إظهار الصلاة(2) أو يجهل حكم ذلك، وأن هذا خصوص منه له إذ لم يصل على سائر من مات غائبا عنه من أصحابه عليه الصلاة والسلام.
وقيل: إن النجاشي رفع إليه(3) وأحضر له حتى رآه وصلى عليه، كما رفع له بيت المقدس حتى وصفه لمن سأله عنه.
وقد اختلف على هذا في الصلاة على الغائب والغريق وأكيل السبع وشبهه(4). ومالك وجماعة من العلماء لا يجيزون ذلك. وأجاز ابن حبيب الصلاة عليه.
قال الإمام: يحتج بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي من قال من أصحابنا إن الغائب والغريق يصلى عليهما، وقد انفصل عن ذلك بأنه كان خاصا للنبي - عليه السلام -، لأنه قد قيل: إن النجاشي رفع له حتى رآه فلم يصل إلا على مشاهد(5).
66 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عن أَيُّوبَ، عن أَبِي الزُّبَيْرِ، عن جَابِرِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ. ح، وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عن أَبِي الزُّبَيْرِ، عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ أَخًا لَكُمْ قَدْ مَاتَ، فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ »، قَالَ: فَقُمْنَا فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ.
__________
(1) في (هـ):" بايعه ".
(2) في (ط) و(هـ):" الصلاة عليه ".
(3) في (هـ):" له ".
(4) قوله:" وشبهه " ليس في (أ).
(5) في (هـ):" ما شاهد ".(4/42)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختلف أيضًا إذا وجد شيء من الجسد هل يصلى عليه أم لا ؟ فقيل: لا يصلى إلا على أكثر الجسد. وقيل:يصلى على ما وجد منه وينوي به الميت.
وقوله: " فخرج بهم إلى المصلى ".
قال القاضي: دليل على أن للجنائز موضعا للصلاة عندهم معلوما.
ويحتمل أن يريد مصلى الأعياد ليجتمع الناس.
وقد استدل بعض العلماء من هذا على أنه(1) لا يصلى على الجنازة في المسجد، ولا حجة فيه لوجوه منها: أن القضية هنا مخصوصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والصلاة(2) على غائب. والثانية: أن خروجه ليس فيه أكثر من جواز فعل ذلك فلو لم يأت غيره استدل على أنها سنة على كل حال، وأما المنع بالجملة(3) فلا يوخذ منه.
وقوله:" فصف بهم ". قال القاضي: فيه دليل على أن صلاة الجنازة يلزم فيها من إقامة الصفوف وتقدم الإمام ما يلزم في سائر الصلوات.
وقوله:"وكبر أربع تكبيرات".
67 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ قَالا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ. ح، وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عن أَيُّوبَ، عن أَبِي قِلابَةَ، عن أَبِي الْمُهَلَّبِ، عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ أَخًا لَكُمْ قَدْ مَاتَ، فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ »، يَعْنِي النَّجَاشِيَ.
وَفِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ:« إِنَّ أَخَاكُمْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام: وفي حديث آخر: أن زيدا كبر على جنازة خمسا، وقال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبرها ". وقد قال به بعض الناس وهذا المذهب الآن متروك ؛ لأن ذلك صار علما على القول بالرفض.
__________
(1) في (هـ):" أن ".
(2) قوله:" والصلاة " ليس في (أ).
(3) قوله:" بالجملة " ليس في (ط).(4/43)
قال القاضي: اختلفت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وقد جاء من رواية ابن أبي حثمة(1) أنه - عليه السلام - كان يكبر أربعا وخمسا وستا وسبعا وثمانيا. حتى مات النجاشي فكبر عليه أربعا وثبت على أربع حتى توفي - عليه السلام -.
وقال ابن سيرين: إنما كان التكبير ثلاثا فزادوا واحدة.
واختلف السلف من الصحابة في ذلك من ثلاث تكبيرات إلى تسع، وروى عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه كان يكبر على أهل بدر ستا، وعلى سائر الصحابة خمسًا، وعلى غيرهم أربعًا.
قال أبو عمر بن عبدالبر: وانعقد الإجماع بعد على أربع واتفق الفقهاء أهل الفتوى بالأمصار على أن التكبير أربع لا زيادة عليها على ما جاء في الأحاديث الصحاح، وما سوى ذلك عندهم شذوذ لا يلتفت إليه اليوم، ولا يعلم(2) أحداً قال من فقهاء الأمصار بخمس إلا ابن أبي ليلى.
68 - حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ قَالا: حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عن الشَّيْبَانِيِّ، عن الشَّعْبِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى قَبْرٍ بَعْدَ مَا دُفِنَ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا.
قَالَ الشَّيْبَانِيُّ: فَقُلْتُ لِلشَّعْبِيِّ مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ: الثِّقَةُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، هَذَا لَفْظُ حَدِيثِ حَسَنٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ: قَالَ: انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى قَبْرٍ رَطْبٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَصَفُّوا خَلْفَهُ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا. قُلْتُ لِعَامِرٍ: مَنْ حَدَّثَكَ ؟ قَالَ الثِّقَةُ، مَنْ شَهِدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
__________
(1) في (هـ):" خيثمة ".
(2) في (هـ):" نعلم ".(4/44)
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ. ح، وَحَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَأَبُو كَامِلٍ قَالا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ. ح، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ. ح، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ. ح، وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، كُلُّ هَؤُلاءِ عن الشَّيْبَانِيِّ، عن الشَّعْبِيِّ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَحَدٍ مِنْهُمْ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولم يذكر في كتاب مسلم: السلام منها، وقد ذكره أبو الحسن الدارقطني في سننه، وابن حبيب.
وقد اختلف العلماء في عدد السلام من صلاة الجنازة مع اتفاقهم عليه. فجمهورهم من السلف والخلف على: تسليمة واحدة، وهو أحد قولي الشافعي وقول مالك. وذهب أبو حنيفة والثوري(1) وجماعة من السلف: لتسليمتين.
69 - وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، جَمِيعًا عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، عن شُعْبَةَ، عن إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ. ح، وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الضُّرَيْسِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عن أَبِي حَصِينٍ، كِلاهُمَا عن الشَّعْبِيِّ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي صَلاتِهِ عَلَى الْقَبْرِ، نَحْوَ حَدِيثِ الشَّيْبَانِيِّ، لَيْسَ فِي حَدِيثِهِمْ: وَكَبَّرَ أَرْبَعًا.
__________
(1) في (ط):" المزني ".(4/45)
70 - وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ السَّامِيُّ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، عن ثَابِتٍ، عن أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى قَبْرٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم اختلفوا في جهر الإمام بالتسليم وهو قول ابن أبي حنيفة. أو إسراره وهو قول الشافعي. واختلف فيه قول مالك. ثم اختلفوا في المأمومين هل يردون على الإمام بتسليمة أخرى ؟ واختلف فيها قول مالك. ولم يذكر رفع الأيدي مع التكبير في الحديث. وقد اختلف فيه، واختلف فيه قول مالك على ثلاثة أقوال: الرفع في الأولى فقط، وفي الجميع، ولا رفع جملة.
وقوله: " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى إلى قبر رطب " أي: حديث الدفن فصلى عليه، وذكر مثله في حديث السوداء، يحتمل تسميته رطبا لقرب عهد المدفون فيه وأنه لم يبل بعد لرطوبة ثراه لقرب هيله وتثريته(1) عند الإقبار.
71 - وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ - وَاللَّفْظُ لأَبِي كَامِلٍ -، قَالا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ -، عن ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عن أَبِي رَافِعٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ أَوْ شَابًّا فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَ عَنْهَا، أَوْ عَنْهُ، فَقَالُوا مَاتَ، قَالَ: «أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي »، قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، أَوْ أَمْرَهُ، فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ، فَدَلُّوهُ فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ:« إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاتِي عَلَيْهِمْ ».
__________
(1) في (هـ):" تزيته ".(4/46)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام أبو عبدالله: اختلف الناس في الصلاة على الميت بعد أن يقبر.
فأجازها بعضهم، والمشهور من مذهب مالك: أنه لا يصلى عليه، والشاذ أنه يصلى عليه إذا دفن ولم يصل عليه، واحتج من منع بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على قبره، ويحتج أيضًا لمن أجاز بصلاته - صلى الله عليه وسلم - على قبر السوداء وانفصل عن ذلك بوجوه.
أحدها: أنه إنما فعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان وعدها أن يصلي عليها، فصار ذلك كالنذر عليه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ضعيف ؛ لأن النذر إنما يوفى(1) به إذا كان جائزا فلو لم تكن الصلاة على القبر جائزة لما فعلها.
والوجه الثاني: أنه(2) فعل ذلك لأنه - عليه السلام - أمرهم أن يعلموه وهو الإمام الذي إليه ا لصلاة، فلما صلوا دون علمه كان ذلك بمنزلة من دفن بغير صلاة، وهذا التأويل تسعده القولة الشاذة التي ذكرنا لمالك فيمن دفن بغير صلاة، ويحتمل عندي أن يكون وجه ذلك أنه - عليه السلام - لما صلى على القبر قال عند
72 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عن شُعْبَةَ، عن عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ زَيْدٌ يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا، وَإِنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكَبِّرُهَا.
__________
(1) في (ط):" يؤتى ".
(2) في (هـ):" إنما ".(4/47)
73 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عن الزُّهْرِيِّ، عن سَالِمٍ، عن أَبِيهِ، عن عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا لَهَا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك: " إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة وإن الله تعالى ينورها بصلاتي عليهم" أو كما قال، وهذا كالإفهام بأن هذا هو علة صلاته على القبر، وهذه علة تختص بصلاته - عليه السلام - خاصة إذ لا يقطع على وجود ذلك في غيره.
وفي الكتاب عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على القبر، ويحتمل أن يكون القبر الذي أراد ابن عباس هو قبر السوداء المذكورة.
قال القاضي: تحصيل مذهب مالك وأصحابه ومشهور أقوال أكثرهم فيمن لم يصل عليه حين(1) دفن: أنه يصلى عليه في قبره وعنه أيضًا، وهو قول سحنون. وأشهب(2) لا يصلى عليه، ومشهور قوله وقول أصحابه فيمن صلى عليه ليس لمن فاتته الصلاة عليه إعادة الصلاة عليه، وهو قول الليث، والثوري، وأبي حنيفة، قال: إلا أن يكون وليه فله إعادة الصلاة عليه.
__________
(1) في (هـ):" حتى ".
(2) في (هـ):" وأشهب أنه ".(4/48)
74 - وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ. ح، وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، جَمِيعًا عَن ابْنِ شِهَابٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِ يُونُسَ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ، وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ. ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عن نَافِعٍ، عن ابْنِ عُمَرَ، عن عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الْجَنَازَةَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاشِيًا مَعَهَا، فَلْيَقُمْ حَتَّى تُخَلِّفَهُ، أَوْ تُوضَعَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُخَلِّفَهُ ».
75 - وَحَدَّثَنِي أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ. ح، وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، جَمِيعًا عَن أَيُّوبَ. ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عن عُبَيْدِ اللَّهِ. ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عن ابْنِ عَوْنٍ. ح، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، كُلُّهُمْ عن نَافِعٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، غَيْرَ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ جُرَيْجٍ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الْجَنَازَةَ فَلْيَقُمْ حِينَ يَرَاهَا حَتَّى تُخَلِّفَهُ، إِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَّبِعِهَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن مالك أيضًا جواز ذلك، وهو قول الشافعي، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق وغيرهم.(4/49)
واختلف فيما(1) يفيت الصلاة عليه وإخراجه إذا دفن بغير صلاة، هل بإهالة التراب وهو قول أشهب، أو تسويته وهو قول عيسى وابن وهب، أو خوف التغير عليه وهو قول ابن القاسم وابن حبيب، وقاله سحنون أيضًا(2)، أو الطول وذلك فيمن لم يصل(3) عليه ما زاد على ثلاثة أيام فأكثر عند أبي حنيفة.
76 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عن سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عن أَبِيهِ، عن أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِذَا اتَّبَعْتُمْ جَنَازَةً فَلا تَجْلِسُوا حَتَّى تُوضَعَ ».
77 - وَحَدَّثَنِي سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ قَالا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ- وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ -، عن هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى - وَاللَّفْظُ لَهُ -، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلا يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَعَ».
__________
(1) في (ط):" ما ".
(2) قوله:" أيضًا " ليس في (أ).
(3) في (ط):" يصلى ".(4/50)
78 - وَحَدَّثَنِي سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ قَالا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ- وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ -، عن هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ، عن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَرَّتْ جَنَازَةٌ فَقَامَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّهَا يَهُودِيَّةٌ، فَقَالَ:« إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا ».
79 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِجَنَازَةٍ مَرَّتْ بِهِ حَتَّى تَوَارَتْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال أحمد فيمن صلى عليه: تعاد إلى شهر، وقاله: إسحاق في الغائب، قال: وفي الحاضر ثلاثة أيام.
وقال أبو عمر: وأجمع من قال بالصلاة على القبر أنه لا يصلى عليه إلا بالقرب وأكثر ما قيل في ذلك شهر.
80 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عن ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَيْضًا ؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ لِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ حَتَّى تَوَارَتْ.(4/51)
81 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عن شُعْبَةَ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عن ابْنِ أَبِي لَيْلَى: أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ كَانَا بِالْقَادِسِيَّةِ، فَمَرَّتْ بِهِمَا جَنَازَةٌ فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، فَقَالا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ يَهُودِيٌّ ! فَقَالَ: « أَلَيْسَتْ نَفْسًا ».
وَحَدَّثَنِيهِ الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عن شَيْبَانَ، عن الأَعْمَشِ، عن عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَفِيهِ: فَقَالا: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَرَّتْ عَلَيْنَا جَنَازَةٌ.
82 - وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عن يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عن وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ؛ أَنَّهُ قَالَ: رَآنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ - وَنَحْنُ فِي جَنَازَةٍ - قَائِمًا، وَقَدْ جَلَسَ يَنْتَظِرُ أَنْ تُوضَعَ الْجَنَازَةُ، فَقَالَ لِي: مَا يُقِيمُكَ ؟ فَقُلْتُ أَنْتَظِرُ أَنْ تُوضَعَ الْجَنَازَةُ، لِمَا يُحَدِّثُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، فَقَالَ نَافِعٌ: فَإِنَّ مَسْعُودَ بْنَ الْحَكَمِ حَدَّثَنِي عن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَعَدَ.(4/52)
83 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَن الثَّقَفِيِّ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى ابْنَ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي وَاقِدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الأَنْصَارِيُّ: أَنَّ نَافِعَ ابْنَ جُبَيْرٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ مَسْعُودَ بْنَ الْحَكَمِ الأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ فِي شَأْنِ الْجَنَائِزِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ ثُمَّ قَعَدَ، وَإِنَّمَا حَدَّثَ بِذَلِكَ ؛ لأَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ رَأَى وَاقِدَ بْنَ عَمْرٍو قَامَ حَتَّى وُضِعَتِ الْجَنَازَةُ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عن يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " تقم المسجد ".
قال الإمام: أي: تكنسه، والمقمة: المكنسة.
قال القاضي(1): والقمامة: الكناسة. وفي حديث السوداء هذا ما كان عليه - عليه السلام - من تفقد أحوال ضعفاء المسلمين وما جبل عليه من التواضع والرأفة والرحمة بأمته، وفي حديث إسحاق بن إبراهيم، وهارون بن عبدالله. ثنا أبو غسان: أحمد بن عمرو الرازي. وقع عند العذري فيما رواه لنا عنه(2) الصدفي حدثني أبو غسان المسمعي وهو وهم.
وقوله: كان أبوبكر يكبر على جنائزنا أربعا وأنه كبر على جنازة خمسا، وقال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبرها ". ليس فيه حجة أنه لم يكن يكبر إلا خمسا بل ظاهره فعل هذا، وهذا كما فعل زيد، وزيد هذا هو: ابن أرقم، كذا جاء مفسرًا في هذا الحديث في كتاب أبي داود.
__________
(1) قوله:" القاضي " ليس في (ط) و(هـ).
(2) قوله:" عنه " ليس في (ط).(4/53)
84 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ مَسْعُودَ بْنَ الْحَكَمِ يُحَدِّثُ عن عَلِيٍّ، قَالَ: رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ فَقُمْنَا، وَقَعَدَ فَقَعَدْنَا. يَعْنِي فِي الْجَنَازَةِ.
وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَالا: حَدَّثَنَا يَحْيَى وَهُوَ الْقَطَّانُ، عن شُعْبَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذكر مسلم أحاديث الأمر بالقيام عند رؤية الجنازة حتى تخلف أو توضع، وفي بعضها: حتى تخلفه إذا كان غير مشيعها(1)، وفي بعضها: إذا تبعها فلا تجلسوا حتى توضع، وأنه - عليه السلام - قام وأصحابه لجنازة يهودي.وقال: " أليست نفسًا ؟"، وفي آخر:" إن الموت فزع فقوموا" وفي حديث آخر رواه الطحاوي: " إنما تقومون لمن معها من الملائكة ". ثم ذكر نسخ ذلك وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام ثم قعد.
واختلف الناس في هذه الجملة، فقال جماعة منهم إن هذا نسخ لمن مرت به، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة. وقيل: بل هو على التوسعة والتخيير وليس بشيء(2)، وهو قول أحمد وإسحاق. وقاله ابن حبيب وابن الماجشون من المالكية.
وكذلك اختلفوا في قيام من يشيعها على ما تقدم، وذكر عن جماعة من الصحابة والسلف الأخذ بالأحاديث في القيام لها. وقال جماعة من السلف أن النسخ إنما هو في القيام لمن مرت به، فأما من تبعها فلا يجلس حتى توضع، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" مشبعها "،وكذا في حاشية (أ).
(2) في (ط):" بنسخ "، وفي (هـ):" نسخا ".(4/54)
85 - وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عن حَبِيبِ بْنِ عُبَيْدٍ، عن جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ سَمِعَهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ:« اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ »، قَالَ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال قوم من أهل العلم: ما جاء في القعود نسخ لكل قيام في الجنازة لمن رآها ومرت به ولقيام من تبعها حتى توضع وللقيام(1) على قبرها حتى تدفن.
وقد اختلف في القيام على القبر حتى تقبر، فكرهه قوم وعمل به آخرون، وروي ذلك عن علي وعثمان وابن عمر وغيرهم. وروى ابن عباس فيه حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن العلماء من قال: " إنما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - تأسيا بأهل الكتاب على رسمه من فعله ذلك لما لم ينزل عليه فيه شيء ثم أمر بالقعود.
وقيل: بل قام فسمع يهوديا يقول: كذلك نفعل فأمر بالقعود، وقال: " خالفوهم ". كما جاء في غير قصة أيضًا.
وقوله: " إنها من أهل الأرض". أي من أهل هذه الأرض يعني من أهل الذمة والجزية المقرون بأرضهم عليها.
__________
(1) في (هـ):" القيام ".(4/55)
وأما قيامه لجنازة اليهودي فقد علل في الحديث بما تقدم من أنها نفس وأن الموت فزع ولمن معها من الملائكة، وجاء في بعض الأحاديث أنه قام
قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ، حَدَّثَهُ عن أَبِيهِ، عن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِنَحْوِ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا.
وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ بِالإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا، نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لجنازة يهودي مرت به، وقال:" آذاني نتن ريحها " رواه الطحاوي. وذكر الطبري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قام كراهة أن تعلو جنازة اليهودي على رأسه.
وذكر في الأم آخر الباب وقال محمد بن يحيى، ومحمد بن رافع قالا: ثنا عبدالرزاق عن يحيى بن سعيد، بهذا الإسناد، كذا عند عبدالغافر الفارسي، وعند العذري: إبراهيم، ثنا مسلم(1)، ثنا محمد(2) بن يحيى وذكره قال لنا: أبو علي القاضي: صوابه عبدالرزاق عن الثوري عن يحيى بن سعيد، والصواب أن إبراهيم بن سفيان يقوله تقريب سند وأنه من زياداته لا من أصل الكتاب.
ذكر مسلم أحاديث الدعاء(3) على الجنازة. لا خلاف بين العلماء أن صلاة الجنازة تحتاج من طهارة الحدث واللباس والمكان إلى ما تحتاج إليه صلاة الفرض وأنها لا تجوز بغير طهارة. إلا ما روي عن الشعبي مما لم يتابع عليه وكذلك تحتاج إلى نية وإحرام وسلام وذكر ودعاء للميت كما جاءت به الآثار.
__________
(1) في (هـ):" مسلم بن الحجاج ".
(2) في (هـ):" محمد بن محمد ".
(3) في (هـ):" الدعاء في الصلاة ".(4/56)
واختلف في القراءة بأم القرآن فيها وفي الدعاء بعد التكبيرة الرابعة. وفي السلام منها هل هو واحدة أم اثنتان؟. وذهب محمد بن أبي صفرة إلى أنه مستحب، والثاني(1): إذ لم يأت فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت ولمالك في العتبية مثله.
قال الإمام: أما القراءة بأم القرآن في صلاة الجنازة
86 - وَحَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كِلاهُمَا عن عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عن أَبِي حَمْزَةَ الْحِمْصِيِّ. ح، وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ - وَاللَّفْظُ لأَبِي الطَّاهِرِ -، قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عن أَبِي حَمْزَةَ بْنِ سُلَيْمٍ، عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عن أَبِيهِ، عن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَصَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ يَقُولُ:« اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَاعْفُ عَنْهُ وَعَافِهِ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ ».
قَالَ عَوْفٌ: فَتَمَنَّيْتُ أَنْ لَوْ كُنْتُ أَنَا الْمَيِّتَ لِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ذَلِكَ الْمَيِّتِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فأثبتها الشافعي. وأسقطها مالك.
__________
(1) قوله:" والثاني " ليس في (ط).(4/57)
والمسألة فرع بين أصلين. أحدهما: الصلوات الخمس فإنها تفتقر إلى قراءة أم القرآن، والثاني(1): الطواف وهو لا يفتقر إلى قراءة. وصلاة الجنازة تشبه الصلوات الخمس في افتقارها للتحريم والسلام ومنع الكلام، ويشبه الطواف في أنها ليس فيها ركوع ولا سجود كما ليس ذلك في الطواف، وقد رجح المخالف مذهبه بما روي عن ابن عباس أنه لما صلى قرأ(2) بها ثم قال: "أردت أن أعلمكم أنها سنة ".
قال بعض أصحابنا: وفي قوله احتمال، هل أراد أن يخبرهم أن القراءة سنة أو نفس الصلاة(3).
87 - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، عن حُسَيْنِ بْنِ ذَكْوَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَصَلَّى عَلَى أُمِّ كَعْبٍ مَاتَتْ وَهِيَ نُفَسَاءُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلصَّلاةِ عَلَيْهَا وَسَطَهَا.
وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ. ح، وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، كُلُّهُمْ عن حُسَيْنٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ وَلَمْ يَذْكُرُوا أُمَّ كَعْبٍ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: بقول الشافعي قال محمد بن مسلمة من أصحابنا وأشهب، وهو قول أحمد وإسحاق وداود، وذهب الحسن إلى أنه يقرؤها مع كل تكبيرة.
__________
(1) قوله:" والثاني" ليس في (أ).
(2) قوله:" قرأ " ليس في (هـ).
(3) في (ط):" للصلاة ".(4/58)
وذكر مسلم في الباب حديث هارون بن سعيد الأيلي. عن ابن وهب عن معاوية بن صالح عن حبيب بن عبيد عن جبير بن نفير. الحديث، ثم قال: آخره: وحدثني عبدالرحمن بن جبير يحدثه عن أبيه الحديث مختصرا. قائل وحدثني: عبدالرحمن هو معاوية بن صالح المحدث به أولا عن حبيب.
وذكر(1) صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أم كعب حين ماتت وهي نفساء، وترجم عليها البخاري بذلك. وليدل انها وإن سميت شهيدة فليس حكمها في الصلاة حكم شهيد المعترك.
وقوله: " فقام وسطها ". كذا ضبطناه عن أبي بحر وغيره بسكون السين، وكذا ضبطه الجياني فيما حدثنا به عنه القاضي التميمي وقال: كذا رده على القاضي أبي بكر ابن صاحب الأحباس(2)".
وأما ابن دريد(3) فقد قال: وسط الدار ووسطها معاً.
88 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عن حُسَيْنٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ: لَقَدْ كُنْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غُلامًا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ عَنْهُ فَمَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْقَوْلِ إِلا أَنَّ هَا هُنَا رِجَالاً هُمْ أَسَنُّ مِنِّي، وَقَدْ صَلَّيْتُ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الصَّلاةِ وَسَطَهَا.
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ قَالَ: فَقَامَ عَلَيْهَا لِلصَّلاةِ وَسَطَهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" ذكر ".
(2) في (أ):" الأجباس ".
(3) في (أ):" أما ابن دينار ".(4/59)
اختلفت الآثار واختلف العلماء بسببها في مقام الإمام من الميت.قال الطبري: وأجمعوا أنه(1) لا يلاصقه أولا وليكن بينه وبيه فرجة. فذهب قوم إلى الأخذ بهذا الحديث في القيام وسط الجنازة ذكراً كانت أو أنثى. قال أبو هريرة في المرأة: لأنه يسترها عن الناس. وقيل: كان هذا قبل اتخاذ الأنعشة والقباب. وهو قول النخعي وأبي حنيفة. وقال آخرون: هذا حكم المرأة، فأما الرجل فعند رأسه لئلا ينظر إلى فرجه، وأما المرأة فمستورة في النعش وهو قول أبي يوسف وابن حنبل.
وقد خرّج أبو داود حديثا بمعناه.، وروى ابن غانم عن مالك نحو في المرأة وسكت عن الرجل.[ قال ابن مسعود بعكس هذا في المرأة والرجل](2). وذكر عن الحسن التوسعة في كل ذلك، وقال به أشهب وابن شعبان من أصحابنا. وقال أصحاب الرأي: يقوم فيهما(3) حذاء(4) الصدر.
وقيل: في قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - وسطها من أجل جنينها ليكونا أمامه معًا.
89 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عن مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عن سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عن جَابِرِ ابْنِ سَمُرَةَ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِفَرَسٍ مُعْرَوْرًى، فَرَكِبَهُ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ جَنَازَةِ ابْنِ الدَّحْدَاحِ، وَنَحْنُ نَمْشِي حَوْلَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول سمرة: ما يمنعني من القول إلا أن هنا رجالا هم أسن مني. من حسن الأدب وترك التقدم بين يدي الأسن والأعلم، وهذا مثل قول ابن عيينة وقد قال له سفيان الثوري: لم لا تحدث؟. فقال: أما ما أنت حي فلا.
__________
(1) في (هـ):" على أنه ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (هـ).
(3) في (هـ):" فيها ".
(4) في (هـ):" حذو ".(4/60)
وقوله: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفرس معرورى، وفي حديث آخر: بفرس عري. قال الإمام: قال أهل اللغة: يقال فرس عري وخيل أعرى. وقد اعرورى فرسه إذا ركبه عريا، ولا يقال: رجل عري ولكن عريان.
قال القاضي: قالوا ولم يأت افعوعل معدى إلا قولهم: اعروريت الفرس واحلوليت الشيء(1)، ووقع عند العذري: وفرس معرور، ولا وجه له. معنى: عقله رجل فركبه أي: حبسه له.
وقوله: فجعل يتوقص(2). أي ينزو ويقارب الخطو.
وقوله:" ونحن نتبعه نمشي خلفه ".
قال القاضي: أخبر عن صورة الحال في انصرافهم من الجنازة وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تقدمهم وأتوا بعده لا أن ذلك عادة مشيهم معه بل كان من سيرته أن يقدمهم بين يديه وينهى عن وطئ العقب.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لابْنِ الْمُثَنَّى -، قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عن جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ابْنِ الدَّحْدَاحِ، ثُمَّ أُتِيَ بِفَرَسٍ عُرْيٍ فَعَقَلَهُ رَجُلٌ فَرَكِبَهُ، فَجَعَلَ يَتَوَقَّصُ بِهِ، وَنَحْنُ نَتَّبِعُهُ نَسْعَى خَلْفَهُ. قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« كَمْ مِنْ عِذْقٍ مُعَلَّقٍ، أَوْ مُدَلًّى فِي الْجَنَّةِ لابْنِ الدَّحْدَاحِ »، أَوْ قَالَ شُعْبَةُ:« لأَبِي الدَّحْدَاحِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفيه: جواز الركوب عند الانصراف من الجنازة وكرهه العلماء في تشييعها والسير معها، وقد ذكر أصحاب المصنفات حديثا في النهي عن ذلك.
وقوله: " كم من عذق معلق أو مدلي في الجنة لابن الدحداح". العذق: بكسر العين العرجون، وبفتحها: النخلة.
__________
(1) قوله:" الشيء " ليس في (هـ).
(2) في (ط) و(هـ):" يتوقص به ".(4/61)
وقوله وقال شعبة: لأبي الدحداح. قال أبو عمر: أبو الدحداح، ويقال: أبو الدحداحة فلان ابن الدحداحة لا أقف على اسمه. ولقوله - عليه السلام - فيه هذا الكلام معنى وقصة وهو: أن يتيما خاصم أبا لبابة في نخلة فبكى الغلام فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - له: " أعطه إياها ولك بها عذق في الجنة " قال: لا فسمع بذلك ابن الدحداحة فاشتراها من أبي لبابة بحديقة له، ثم قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألي بها إن أعطيت اليتيم إياها عذق في الجنة؟ " قال: " نعم " فلما قبل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الكلام.
90 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمِسْوَرِيُّ، عن إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عن عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ؛ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ: الْحَدُوا لِي لَحْدًا وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال مسلم: ثنا يحيى بن يحيى أنا عبدالله بن جعفر المسوري كذا لهم، وعند ابن أبي جعفر رواية ابن حفص وهو وهم، والأول الصواب، وهو: عبدالله بن جعفر بن عبدالرحمن بن المسور بن مخرمة بن نوفل المدني الزهري ويقال له: المخرمي أيضًا نسب إلى جديه: إلى المسور مرة وإلى مخرمة أخرى.
وقول سعد: ألحدوا لي وانصبوا علي اللبن كما فعل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا عند أهل العلم أفضل من الشق وكل جائز، لكن هذا الذي اختاره الله لنبيه حين اشتور الصحابة في ذلك وقال(1): اللهم خر له، فجاء الذي يلحد أولا فلحد له. ودليل اشتوارهم فيما يفعل كون الأمرين في حياته عندهم معمولا به(2) وأنه لا تفضيل في أحدهما عندهم من قبله - عليه السلام -.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" وقالوا ".
(2) في (هـ):" بها ".(4/62)
وقوله: " جعل في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قطيفة حمراء " روى أن الذي ألقاها في القبر(1) شقران مولاه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبسها ويفترشها وقال شقران: والله لا يلبسك أحد بعده أبدا.
قال القاضي: ذكر مسلم تكفين النبي - صلى الله عليه وسلم - وإقباره ولم يذكر غسله ولا خلاف أنه غسل. ولا حديث الصلاة عليه.
91 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ وَوَكِيعٌ، جَمِيعًا عَن شُعْبَةَ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى - وَاللَّفْظُ لَهُ -، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جُعِلَ فِي قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ.
قَالَ مُسْلِم: أَبُو جَمْرَةَ اسْمُهُ: نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ، وَأَبُو التَّيَّاحِ وَاسْمَهْ: يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ مَاتَا بِسَرَخْسَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد اختلف في ذلك فقيل: لم يصل عليه جملة وإنما كان الناس يدخلون أرسالا فيدعون وينصرفون.
واختلف في تعليل ذلك فقيل: لفضله وأنه غير محتاج لذلك كالشهيد، وهذا ينكسر بغسله.
وقيل: بل لأنه لم يكن ثم إمام.، وهذا خطأ فإن إمامة(2) الفرائض ما(3) تتعطل ولأن البيعة تمت لأبي بكر(4) قبل دفنه وهو إمام الناس.
__________
(1) قوله:" في القبر " ليس في (هـ).
(2) في (ط) و(هـ):" إقامة ".
(3) في (ط) و(هـ):" لم ".
(4) قوله:" بكر " ليس في (هـ).(4/63)
وقيل: بل صلي عليه أفذاذ(1) فوج بعد فوج ليأخذ كل منهم نصيبه(2) من بركة(3) الصلاة عليه. وقد جاء في بعض الآثار في وفاته أنه صلي بصلاة جبريل. وهذه العلة المذكورة في عموم بركته هي أحد العلل في تأخير دفنه من يوم وفاته يومه فيدركه من غده يوم الثلاثاء، ولم يحتمل تأخيره أكثر.
وقيل: بل شغل المسلمون بقية يوم الاثنين بالبيعة(4) وخافوا من انتشار أمر الأمة وفوت ذلك فقدموا الشغل به ثم نظروا في تجهيزه يوم الثلاثاء والحفر له ودفن ليلة الأربعاء.
92 - وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ. ح، وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ فِي رِوَايَةِ أَبِي الطَّاهِرِ: أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْهَمْدَانِيَّ حَدَّثَهُ. وَفِي رِوَايَةِ هَارُونَ: أَنَّ ثُمَامَةَ بْنَ شُفَيٍّ حَدَّثَهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ بِأَرْضِ الرُّومِ بِرُودِسَ، فَتُوُفِّيَ صَاحِبٌ لَنَا، فَأَمَرَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ بِقَبْرِهِ فَسُوِّيَ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُ بِتَسْوِيَتِهَا.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" أفذاذًا ".
(2) في (ط) و(هـ):" بنصيبه ".
(3) في (هـ):" ببركة ".
(4) في (ط) و(هـ):" بخبر البيعة ".(4/64)
93 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: يَحْيَى أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عن سُفْيَانَ، عن حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عن أَبِي وَائِلٍ، عن أَبِي الْهَيَّاجِ الأَسَدِيِّ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَلا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَنْ لا تَدَعَ تِمْثَالاً إِلا طَمَسْتَهُ، وَلا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلا سَوَّيْتَهُ.
وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلادٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى - وَهُوَ الْقَطَّانُ -، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي حَبِيبٌ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: وَلا صُورَةً إِلا طَمَسْتَهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: بل أخر ذلك لاختلافهم [ هل مات أم لا ؟. وهذا يضعف ؛ لأن صحة موته - عليه السلام - استقرت للحين ](1).
وقيل: بل لاختلافهم في موضع دفنه حتى أعلمهم أبوبكر بما سمع منه:" ما دفن نبي إلا حيث يقبض".
وأولى الوجوه: الشغل أولا بالخلافة، ثم بتجهيزه، ثم استيعاب الصلاة عليه أفواجا: الرجال، ثم النساء، ثم الصبيان على ما ذكر أهل السير، وبحسب هذا أن يتم في هذه المدة والله أعلم.
94 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عن ابْنِ جُرَيْجٍ، عن أَبِي الزُّبَيْرِ، عن جَابِرٍ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).(4/65)
وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ. ح، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، جَمِيعًا عَن ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذكر(1) الأمر بتسوية القبور وفي الحديث الآخر:"ولا قبرا مشرفا إلا سويته". جاء في هذا آثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وعن العلماء(2). وجاء أنها صفة قبره [وقبر أبي بكر وعمر ](3). وجاء أيضًا أنها تسنم.
وتسنيمها(4) اختيارتها أكثر العلماء وجماعة أصحابنا وأبي حنيفة والشافعي. وحكى بعضهم فيه الخلاف، وحمله بعضهم على الوقف(5)، وجمعوا بين الأمر بتسوتها وبين تسنيمها ؛ أن تسويتها: أن لا يبنى عليها بناء عاليًا ولا يعظم ؛ كما كانت قبور المشركين، وتكون لاطيه بالأرض ثم تسنم ليتميز أنه قبر. وقد جاء عن عمر: أنه هدمها، وقال: " ينبغي أن تسوى(6) تسوية تسنيم". وهذا معنى قول الشافعي تسطح القبور ولا تبنى ولا تكون على وجه الأرض نحوا من شبر.
وقوله:" لا تدع تمثالا إلا طمسته" فيه الأمر بتغيير الصور ذوات الروح(7) وأن إبقاءها من المناكير، يحتمل أن تكون التماثيل هنا القائمة الأشخاص، ويحتمل في كل صورة من رسم وغيره دون ما في الثياب. وسيأتي الكلام عليه في موضعه إن شاء الله.
__________
(1) في (هـ):" وقوله ".
(2) قوله:" وعن العلماء" ليس في (ط).
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(4) في (ط) و(هـ):" تسمينه ".
(5) في (أ):" الرفق "، وكذا في حاشية (هـ).
(6) في (أ) و(هـ):" تكون ".
(7) في (هـ):" الأرواح ".(4/66)
95 - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عن أَيُّوبَ، عن أَبِي الزُّبَيْرِ، عن جَابِرٍ قَالَ: نُهِيَ عن تَقْصِيصِ الْقُبُورِ.?
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " نهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه" وفي الآخر: " عن(1) تقصيص القبور". وهو بمعنى. والآخر الجص: بفتح الجيم وكسرها: القصة.
قال الإمام: قال أبو عبيد: هو التجصيص، وذلك أن الجص يقال له القصة، والجصاص والقصاص واحد، فإذا خلط الجص بالرماد والنورة فهو الجيار. وقال ذلك ابن الأعرابي.
وقال الهروي:حديث عائشة لا تغتسلن حتى ترين القصة البيضاء. معناها: أن تخرج القطنة أو الخرقة التي تحتشي بها كأنها قصة لا يخالطها شيء.
قال القاضي: ذكر الهروي هذا وذكر أنه قيل: إن القصة شيء كالخيط الأبيض يخرج بعد انقطاع الدم".
وقال الحربي وقيل القصة: القطعة من القطن(2) لأنها بيضاء، قال ويدل عليه قول من رواه: حتى ترين القصة بيضاء.
قال الإمام: مذهب مالك كراهية البناء والجص على القبور.وأجازه المخالف. وهذا الحديث حجة عليه، وكذلك قوله - عليه السلام - في حديث آخر: "ولا قبرا مشرفا إلا سويته" كأن المفهوم من الشريعة أنه إنما كره للمباهاة وهؤلاء ليسوا أهل مباهاة.
96 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عن سُهَيْلٍ، عن أَبِيهِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ ».
__________
(1) قوله:" عن " ليس في (ط) و(هـ).
(2) في (هـ):" القطر ".(4/67)
وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ. ح، وَحَدَّثَنِيهِ عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كِلاهُمَا عن سُهَيْلٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ.
97 - وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عن ابْنِ جَابِرٍ، عن بُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عن وَاثِلَةَ، عن أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلا تُصَلُّوا إِلَيْهَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " وأن يقعد عليه" وفي الحديث الآخر(1):" ولا تجلسوا على القبور " وفي الحديث الآخر: " ؛ لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر".
قال الإمام: من الناس من أخذه على ظاهره، ومنهم من تأول أن المراد بالقعود الحدث.
قال القاضي: هذا هو تأويل مالك فيه(2) في الموطأ.
وقوله: " لا تصلوا إليها" أي: لا تتخذ قبلة وهذا مثل الحديث الآخر في النهي عن اتخاذ قبره مسجدا وذم اليهود بما فعلوا من ذلك. وكل ذلك لقطع الذريعة لئلا يعبد قبره. ويعتقد الجهال في الصلاة إليها وعليها، تقربا بذلك كما كان الأصل في عبادة الأصنام.
98 - وَحَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عن عَبْدِالرَّحْمَنِ ابْنِ يَزِيدَ، عن بُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عن أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، عن وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ، عن أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« لا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ وَلا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا ».
__________
(1) قوله:" الآخر " ليس في (هـ).
(2) قوله:" فيه " ليس في (هـ).(4/68)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذكر مسلم(1) حديث عائشة وإنكار الناس عليها إدخال جنازة سعد في المسجد واحتجاجها بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابن بيضاء في المسجد.
قال الإمام: مذهب الشافعي جواز الصلاة على الميت في المسجد وهذا الحديث حجة له. ومذهب مالك منع ذلك.
واختلف عندنا في نجاسة الميت، فعلى القول بنجاسته يتبين وجه المنع، وعلى القول ليس بنجس يكون المنع حماية للذريعة لئلا ينفجر منه شيء. وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نجنب صبياننا ومجانيننا المسجد.
قالوا: وهذا خيفة أن يحدث منهم النجاسة فهذا يؤيد ما وجهنا بها، ويعارض حديث عائشة حديث في كتاب أبي داود: " من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له"، أو كما قال.
قال القاضي: ضعف أحمد بن حنبل هذا الحديث، وقال: هو مما انفرد به صالح مولى التوأمة. وتأوله آخرون على الإعياء(2) في نقص(3) أجره لما فاته من تشييعه إلى قبره والمقام عليه إلى دفنه. وتأول(4) آخرون لا شيء له أي: عليه كما قال تعالى: {وإن أسأتم فلها}. أي: عليها.
__________
(1) قوله:" مسلم " ليس في (أ) و(ط).
(2) في (هـ):" الإعياء عنه ".
(3) في (هـ):" نقض ".
(4) في (هـ):" تأوله ".(4/69)
99 - وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ - وَاللَّفْظُ لإِسْحَاقَ - قَالَ عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا وَقَالَ إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عن عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ حَمْزَةَ، عن عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ عَائِشَةَ أَمَرَتْ أَنْ يَمُرَّ بِجَنَازَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْمَسْجِدِ فَتُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: مَا أَسْرَعَ مَا نَسِيَ النَّاسُ، مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى سُهَيْلِ بْنِ الْبَيْضَاءِ إِلا فِي الْمَسْجِدِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اختلف السلف والعلماء في ذلك.
فممن منع ذلك على ظاهر إنكار الصحابة: مالك وبعض أصحابه، وأبو حنيفة وابن أبي ذئب. وممن أجازه: الشافعي وأحمد وإسحاق. قال أبو عمر: ورواه المدنيون عن مالك. وقاله: ابن حبيب من أصحابنا، وحكاه عن شيوخنا(1) المدنيين. وقاله القاضي إسماعيل إذا احتيج إلىذلك. وذهب الطحاوي إلى: أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء في المسجد منسوخة وأن ترك ذلك آخر الفعلين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدليل إنكار عامة الصحابة ذلك على عائشة وما كانوا ليفعلوه إلا لما علموا خلاف ما فعلت.
__________
(1) في (ط):" شيوخنه ".(4/70)
وأما صلاة ا لناس عليها في المسجد وهي خارجة بقرب المسجد فأجازه مالك إذا ضاق ا لموضع واتصلت الصفوف. وظاهر احتجاج عائشة أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابن بيضاء إنما كان الميت داخل المسجد، وقد جاء في الحديث: 100 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عن عَبْدِ الْوَاحِدِ، عن عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ، عن عَائِشَةَ: أَنَّهَا لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنْ يَمُرُّوا بِجَنَازَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّينَ عَلَيْهِ فَفَعَلُوا، فَوُقِفَ بِهِ عَلَى حُجَرِهِنَّ يُصَلِّينَ عَلَيْهِ، أُخْرِجَ بِهِ مِنْ بَابِ الْجَنَائِزِ الَّذِي كَانَ إِلَى الْمَقَاعِدِ، فَبَلَغَهُنَّ أَنَّ النَّاسَ عَابُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: مَا كَانَتِ الْجَنَائِزُ يُدْخَلُ بِهَا الْمَسْجِدَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إِلَى أَنْ يَعِيبُوا مَا لا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، عَابُوا عَلَيْنَا أَنْ يُمَرَّ بِجَنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ إِلا فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" في جوف المسجد. وقد جعله بعضهم محتملا للوجه الآخر وأن الجنازة كانت خارجا. وعليه حملوا ما جاء من الصلاة على أبي بكر وعمر في المسجد. وبهذا الحديث احتج من قال بطهارة الميت الآدامي.
وقد اختلف فيه العلماء. واختلف قول الشافعي فيه(1).
واختلف فيه أصحابنا. وذهب بعض ا لمتأخرين أن الخلاف إنما يصح في المسلمين دون الكافرين.
__________
(1) قوله:" فيه " ليس في (أ).(4/71)
وكلام المتقدمين في العموم كافرهم ومسلمهم. وأمر عائشة أن يمر عليها بجنازة سعد لتصلي عليه(1) كما جاء في كتاب مسلم وكذلك في الحديث الآخر: " فيصلين عليه وأنه وقف به على حجرهن ليصلين عليه" يدل أن المراد بهذه الصلاة الدعاء كما جاء في الموطأ: " لتدعو له". ولو كانت الصلاة المعهودة على الموتى لم يحتج أن يوقف به على حجرهن بل رفع كل إشكال قولها في 101 - وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ - وَاللَّفْظُ لابْنِ رَافِعٍ -قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ يَعْنِي ابْنَ عُثْمَانَ، عن أَبِي النَّضْرِ، عن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ عَائِشَةَ لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَتِ: ادْخُلُوا بِهِ الْمَسْجِدَ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَأُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ.
"سُهَيْلٍ وَأَخِيهِ "، قَالَ مُسْلِم: سُهَيْلُ بْنُ دَعْدٍ، وَهُوَ ابْنُ الْبَيْضَاءِ أُمُّهُ بَيْضَاءُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حديث محمد بن حاتم: " عابوا علينا أن يمر بجنازته في المسجد " بل ظاهره أنه مر على حجرة كل واحدة تدعو له وأن الناس لم يصلوا عليه حينئذ ولو وضع في المسجد لصلين عليه(2) بصلاة الناس.
وقولها: " ما أسرع الناس " اختلف في تأويله. فقيل معناه(3): ما أسرع ما نسي الناس السنة.
__________
(1) في (هـ):" عليها ".
(2) قوله:" عليه " ليس في (هـ).
(3) في (هـ):" معناه حينئذ ".(4/72)
وقيل: ما أسرع الناس إلى الطعن والعيب. وجاء في رواية العذري أحد التأويلين في حديث علي بن(1) حجر قال: " يعني ما نسي الناس" وجاء فيه في(2) حديث ابن حاتم التأويل الآخر مفسرا من قول عائشة بما لا يجب أن يقال سواه ولا يتأول عليها غيره، إذ قد نصت عليه ورفعت الاحتمال فقالت: " ما أسرع الناس إلى(3) أن يعيبوا ما لا علم لهم به".
وذكر مسلم(4) في الباب حديث هارون بن عبدالله، وفيه: أنبأنا الضحاك يعني ابن عثمان، عن أبي النضر عن أبي سلمة.
102 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عن شَرِيكٍ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي نَمِرٍ -، عن عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عن عَائِشَةَ ؛ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ ». وَلَمْ يُقِمْ قُتَيْبَةُ قَوْلَهُ:« وَأَتَاكُمْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا مما استدركه الدارقطني على مسلم، وقال(5): "خالفه حافظان: مالك والماجشون(6) عن أبي النضر عن عائشة مرسلاً. وقيل: عن الضحاك، عن أبي النضر، عن أبي بكر بن عبدالرحمن، ولا يصح إلا مرسلاً.
__________
(1) قوله:" بن " ليس في (هـ).
(2) قوله:" من " ليس في (أ).
(3) قوله:" إلى " ليس في (هـ).
(4) قوله:" مسلم " ليس في (أ).
(5) في (هـ):" وقد ".
(6) في (هـ):" وابن الماجشون ".(4/73)
وذكر حديث عائشة في خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى القبور وسلامه عليهم.
فيه: جواز زيارة القبور للاعتبار والدعاء لهم، وجواز الترحم على أهل القبور والاستغفار لهم وسيأتي من هذا بعد، وهذا ومعنى(1) الأحاديث بعده من قوله: " أمرت أن آتي أهل البقيع فأستغفر لهم" يبين معنى حديث مالك بقوله(2): " فأصلي عليهم". وأن معنى الصلاة هنا: الدعاء والاستغفار.، وقد قال بعضهم إنه يحتمل أن تكون الصلاة المعلومة على الموتى، يكون هذا خصوصا للنبي - عليه السلام -، أو يكون أراد أن يعمهم بصلاته إذ فيهم من دفن وهو غائب، أو لم يعلم به فلم يصل عليه، فأراد أن تعمهم بركته. قيل: ولعل المراد بالصلاة عليهم هؤلاء خاصة، فاللفظ عموم والمراد به الخصوص.
__________
(1) في (هـ):" وفي هذا وفي ".
(2) قوله:" بقوله " ليس في (هـ).(4/74)
103 - وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ قَيْسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تُحَدِّثُ فَقَالَتْ: أَلا أُحَدِّثُكُمْ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَنِّي ! قُلْنَا: بَلَى. ح، وَحَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ حَجَّاجًا الأَعْوَرَ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، عن مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ ؛ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا: أَلا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ أُمِّي، قَالَ: فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أُمَّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: أَلا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا عِنْدِي انْقَلَبَ، فَوَضَعَ رِدَاءَهُ وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ فَاضْطَجَعَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ، ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا، فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي وَاخْتَمَرْتُ وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ، فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/75)
وقولها: " كلما كان ليلتها يخرج من آخر الليل" معناه والله أعلم: في آخر عمره وقبل أن يقبض لا قبل ذلك، يدل عليه الأحاديث الأخر وإنكار عائشة خروجه لأول ما خرج واستقصاؤها عليه.
وبقيع الغرقد - بالباء - موضع مدفن أهل المدينة سمي بذلك لغرقد(1) كان فيه نابتًا، وهو: ما عظم من العوسج.
وقوله: السلام عليكم دار قوم مؤمنين ".
يَدَيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ، فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ، فَلَيْسَ إِلا أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ، فَقَالَ:« مَا لَكِ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيَةً »، قَالَتْ: قُلْتُ: لا شَيْءَ، قَالَ:« لَتُخْبِرِينِي، أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ »، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ! فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي، قُلْتُ: نَعَمْ، فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي، ثُمَّ قَالَ:« أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ »، قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ. نَعَمْ. قَالَ:« فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ فَنَادَانِي، فَأَخْفَاهُ مِنْكِ، فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ، وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ »، قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: «قُولِي السَّلامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا
__________
(1) في (ط):" الغرقد ".(4/76)
إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلاحِقُونَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه: أن السلام على الأموات والأحياء سواء في تقديم السلام على المسلم عليه. وما جاء من النهي عن تأخيره بقوله(1) - عليه السلام -: " إنها تحية الموتى. يعني فعل أهل الجاهلية في زيارتهم(2) الموتى. كقوله:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما
وتقدم في كتاب الطهارة معنى قوله: " وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ".
وقولها:" ريث(3) ما ظن أني قد(4) رقدت " أي: مقدار.
وقولها(5):" فأخذ رداءه رويدا" أي: قليلا لئلا ينبهها.
104 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالا:حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ الأَسَدِيُّ، عن سُفْيَانَ، عن عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عن سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عن أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ، فَكَانَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ -: السَّلامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ. وَفِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَلاحِقُونَ، أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط):" عن قوله ".
(2) في (هـ):" رثائهم ".
(3) في (أ):" اريث ".
(4) قوله:" قد " ليس في (ط) و(هـ).
(5) في (ط):" وقوله ".(4/77)
وقولها(1): في الباب: ثم أجافه أي: أغلقه. وفعله ذلك - عليه السلام - لئلا تعلم بخروجه عنها وبقائها في الليل وحدها فيدركها ذعر وتوحش(2) كما فسر ذلك داخل الحديث وخروجها خلفه، فالظاهر(3) من معنى الحديث أنها اتهمته أنه سار إلى بعض أزواجه بدليل لهده لها في صدرها. وهو: الضرب فيه.
وقوله: " أخفت أن يحيف الله عليك ورسوله ؟ ". أي يجور. ولا يصح مع هذا أن يتأول عليها غير هذا الوجه من تعلم أو استفادة على ما أشار إليه بعضهم إذ لا يقتضيه لفظ الحديث.
واتباعها لأثره ليس من(4) التجسس لأنه كان في موضع مباح غير محجور ولا مستتر فيه.
وقولها: " فهرول فهرولت فأحضر فأحضرت ". الإحضار: الجري وهو أشد من الهرولة.
وقوله:" مالك يا عائشة حشيا رابية".
قال الإمام: قال الهروي: أي: مالك قد وقع عليك الربو، وهو: الحشا ؛ أي: البهر. يقال منه امرأة حشيا وحشية ورجل حشيان وحش.
105 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عن يَزِيدَ يَعْنِي ابْنَ كَيْسَانَ، عن أَبِي حَازِمٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأُمِّي، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: وقولها في جوابها: لأي شيء. كذا رويناه عن الأسدي، ورويناه عن الصدفي عن العذري: " لا بي شيء" بباء واحدة ورفع شيء، وفي بعض الروايات: " لا شيء" وهو الصواب إن شاء الله.
وفي تعليمه لعائشة ما تدعو به لأهل القبور وتعليمه ذلك للناس ما يجب امتثاله واختياره من الدعاء المنصوص لهم.
__________
(1) في (ط):" قوله ".
(2) في (هـ):" أو توحش ".
(3) في (ط) و(هـ):" الظاهر ".
(4) في (هـ):" من باب ".(4/78)
وفيه: أن الدعاء للموتى(1) كهو للأحياء من: تقديم الدعاء على المدعو له كما قال تعالى: { سلام على ال ياسين }. خلاف سيرة الجاهلية والعامة.
وفيه دليل على(2) تسمية المقابر دوراً.
وقوله:" أنت السواد الذي رأيته أمامي؟ " أي: الشخص.
قال الإمام(3): ذكر مسلم في سند هذا الحديث نا هارون نا ابن وهب أخبرني ابن جريج عن عبدالله بن كثير بن المطلب. أنه سمع محمد بن قيس يقول: سمعت عائشة تقول الحديث.
قال مسلم: وثنا من سمع حجاجا الأعور قال: ثنا ابن جريج قال: أخبرني عبدالله رجل من قريش عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب الحديث. هكذا قال مسلم في إسناد حديث حجاج عن ابن جريج قال: أخبرني عبدالله رجل من قريش، وكذلك رواه ابن حنبل. وقال النسائي. وأبو نعيم الجرجاني. وأبوبكر النيسابوري.[ وأبو عبدالله الجيري ](4).كلهم عن يوسف بن سعيد المصيصي. ثنا حجاج عن ابن جريج قال: أخبرني عبدالله بن أبي مليكة.[ قال بعضهم: وقد أخطأ يوسف بن سعيد في قوله عن(5) عبدالله بن أبي مليكة](6). قال الدارقطني: هو عبدالله بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي.
قال الإمام: وهذا الحديث الذي خرج مسلم في هذا الباب أحد الأحاديث المقطوعة، وهو أيضًا من الأحاديث التي وهم في رواتها، وقد رواه عبدالرزاق في مصنفه عن ابن جريج قال: أخبرني محمد بن قيس بن مخرمة أنه سمع عائشة تقول. الحديث. قال بعضهم: هكذا روى لنا هذا الإسناد.
__________
(1) في (هـ):" للأموات ".
(2) قوله:" دليل على " ليس في (أ).
(3) في (هـ):" القاضي ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(5) قوله:" عن " ليس في (هـ).
(6) مابين المعكوفين ليس في (أ).(4/79)
قال القاضي: هذا القول كله للجياني رحمه الله، وعده إياه هذا في المقطوع لا يساعد عليه وهو قد أسنده وإنما لم يسم راويه له، فهو في(1) باب المجهول لا في باب المقطوع إذ المقطوع ما لم يذكر فيه راو من دون التابعين، وأسقط من سنده دونهم رجل وهو مثل المرسل إلا أنهم قصروا المرسل على التابعين إذا لم يذكروا الصحابي وجعلوا المقطوع لمن دونهم.
ووقع في هذا السند إشكال آخر، وهو: أن نص كلام مسلم: وحدثني من سمع حجاجًا الأعور(2) واللفظ له. قال: نا حجاج بن محمد قال: نا ابن جريج. فيوهم هذا أن حجاجًا الأعور حدّث به عن حجاج بن محمد، وليس كذلك.
حجاج بن محمد هذا هو حجاج الأعور نفسه. قال البخاري:حجاج بن محمد الأعور المصيصي أبو محمد، سمع ابن جريج وأصله ترمذي مات ببغداد سنة خمس ومائتين، وحكى
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عن يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، عن أَبِي حَازِمٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أيضًا سنة ست. قال: وهو مولى سليمان بن مجالد مولى أبي جعفر الهاشمي. وإنما كرر مسلم اللفظ فقال: حدثني من سمع حجاجا الأعور، ثم حكى لفظ الذي حدثه عن حجاج فقال: قال: ثنا حجاج بن محمد.
__________
(1) في (هـ):" من ".
(2) في (أ):" الأعور حدث به ".(4/80)
وفي استئذانه - عليه السلام - في زيارة(1) قبر أمه والإذن في ذلك. دليل على جواز زيارة القبور وصلة الآباء المشركين وإذا كان هذا بعد الموت ففي الحياة أحق، وكأنه قصد - عليه السلام - قوة الموعظة والذكرى بمشاهدته(2) قبرها ورؤية مصرعها وشكر الله على ما من به عليه من الإسلام الذي حُرِمَتْه، وخص قبرها لمكانها منه، ويدل على مقصده قوله آخر الحديث: " فزوروا القبور فإنها تذكر الموت".
وقوله:" فبكي وأبكي ". بكاؤه - عليه السلام - على ما فاتها من لحاق أيامه والإيمان به.
وقوله:" فزوروها " بين في نسخ النهي، وفي علة الإباحة أن تكون زيارتها للتذكير(3) والاعتبار لا للفخر والمباهاة ولا لإقامة النوح والمأتم(4) عليه، كما قال - عليه السلام -: " فزوروها ولا تقولوا هجرا ".
106 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ ابْنُ الْمُثَنَّى - وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ نُمَيْرٍ - قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عن أَبِي سِنَانٍ وَهُوَ ضِرَارُ ابْنُ مُرَّةَ، عن مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عن ابْنِ بُرَيْدَةَ، عن أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« نَهَيْتُكُمْ عن زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، وَنَهَيْتُكُمْ عن لُحُومِ الأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلاثٍ، فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عن النَّبِيذِ إِلا فِي سِقَاءٍ، فَاشْرَبُوا فِي الأَسْقِيَةِ كُلِّهَا، وَلا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختلف العلماء هل هذا النسخ عام للرجال والنساء أم مخصوص للرجال وبقي حكم ا لنساء على المنع ؟.
والأول أظهر.
__________
(1) في (ط):" زيارته ".
(2) في (ط) و(هـ):" بمشاهدة ".
(3) في (هـ):" للتذكر ".
(4) في (ط):" المأثم ".(4/81)
وقد اختلف شيوخنا في زيارة قبر الميت مدة سابع أول موته للترحم عليه والاستغفار له على عادة الناس. فأجازه القرويون ووسعوا(1) فيه، ومنعه الأندلسيون وشددوا الكراهة في البدعة فيه. واتفقوا على أن ما كان منه على وجه (2)المباهاة والخيلاء والفخر ممنوع.
وقوله : "ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرا " نص في النسخ، وقد مضى الكلام أول الكتاب في الأشربة، ويأتي تمامه في كتابه، ووجه تخصيص الأسقية. وكذلك يأتي الكلام على حكم لحوم الأضاحي(3) في كتابه إن شاء الله.
قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ فِي رِوَايَتِهِ عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عن أَبِيهِ. ح، وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عن زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، عن مُحَارِبِ ابْنِ دِثَارٍ، عن ابْنِ بُرَيْدَةَ، أُرَاهُ عن أَبِيهِ الشَّكُّ مِنْ أَبِي خَيْثَمَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، عن سُفْيَانَ، عن عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عن سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عن أَبِيهِ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَن عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عن مَعْمَرٍ، عن عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عن أَبِيهِ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كُلُّهُمْ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي سِنَانٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط) و(هـ):" وسهلوا ".
(2) في (هـ):" جهة ".
(3) في (ط):" الضحايا ".(4/82)
وقوله: "أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه. المشاقص واحدها مشقص وهو: سهم عريض، وقد تقدم أول الكتاب. وجاء في رواية الطبري : بمشاقص وليس بشيء.
قال الإمام: المخالف يقول بهذا، ومالك يجيز الصلاة على قاتل نفسه ويصح حمل الحديث على أنه إنما ترك الصلاة هو بنفسه عليه خاصة ليكون في ذلك ردع للعصاة كما لا يصلي الإمام على من قتل في حد.
قال القاضي: قد روى ابن وهب عن مالك نحو هذا في ترك أهل الفضل الصلاة على من شهر بالفجور، ومذهبه ومذهب كافة العلماء : الصلاة على كل مسلم محدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد زنا وغيره، إلا ما روى عنه وعن غيره من اجتناب الإمام الصلاة على من قتله في حد واجتناب أهل الفضل الصلاة على أهل الفسوق، كل ذلك ردع لأمثالهم لا أن ذلك متعين عليهم. وعليه يتأول بعضهم ما جاء عن الأوزاعي وعمر بن عبدالعزيز في ترك الصلاة
107 - حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ سَلامٍ الْكُوفِيُّ، أَخْبَرَنَا زُهَيْرٌ، عن سِمَاكٍ، عن جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على قاتل نفسه.
وجاء عن بعض ا لعلماء والسلف خلاف في بعضها. فعن الزهري: لا يصلي على المرجوم ويصلي على المقتول في قود. وقال أحمد: لا يصلي الإمام على قاتل نفسه(1) ولا غال. وقال أبو حنيفة: لا يصلي على محارب ولا على من قتل من الفئة الباغية. وقال الشافعي: لا يصلي على من قتل لترك الصلاة ويصلي على من سواه. وعن الحسن : لا يصلى على النفساء تموت من زنا ولا ولدها، وقاله قتادة في ولد الزنا.
__________
(1) في (أ) و(ط):" نفس ".(4/83)
وعن بعض السلف خلاف في الصلاة على الطفل الصغير لما جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على إبراهيم، وقد جاء أنه صلى عليه، ذكر الحديثين أبو داود وغيره، والصلاة عليه أثبت. وقد اعتل من سلم ترك الصلاة عليه بعلل ضعيفة: منها: شغل النبي - صلى الله عليه وسلم - بصلاة الكسوف ذلك اليوم.
ومنها: أنه لم يصل عليه لأنه استغنى بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضيلتها عن الصلاة.
وقيل لأنه لا يصلى على نبي، وقد جاء أنه لو عاش لكان(1) نبيًّا. وقيل: معناه(2) لم يصل عليه بنفسه، وصلى عليه غيره.
وكذلك اختلفوا في الصلاة على السقط. فذهب فقهاء أصحاب ا لحديث وبعض السلف إلى : الصلاة عليه.
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجمهورهم : لا يصلى عليه حتى يستهل أو تعرف حياته. وذهب بعض(3) أصحاب الحديث وبعض السلف إلى أنه يصلى عليه متى نفخ فيه الروح وتمت له أربعة أشهر.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" كان ".
(2) في (ط) و(هـ):" معنى ".
(3) في (ط):" فقهاء "، وفي (هـ):" بعض فقهاء ".(4/84)
قال الإمام : وأما الصلاة على المقتول في معترك العدو وغسله: فساقطان عند مالك ثابتان عند غيره. وفرق أبو حنيفة بين الغسل والصلاة، فأثبت الصلاة، وأسقط الغسل. واختلف أصحابنا لو كان ا لشهيد جنبا هل يغسل أم لا؟. وللشافعي أيضًا فيه قولان. فوجه قول من أسقط الصلاة: ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على قتلى أحد وكان التحقيق يقتضي ترك ا لأخذ بهذا ا لحديث لأنه علل ترك الصلاة عليهم بعلة معينة(1) لا يعلم تعديها إلى سواهم من الشهداء وهي بعثهم يوم القيامة ولون دمهم لون الدم والريح ريح المسك. والعلة إذا كانت معينة لا تتعدى، وقد مر مالك على هذا الأصل المحقق في تطييب المحرم إذا مات ؛ لأن الحديث المروي فيه ا لنهي عن تطييب المحرم علله - صلى الله عليه وسلم - بأنه يبعث ملبيًا. وقد اعتذر(2) بعض شيوخنا عن مالك أنه إنما خالف بين المسألتين وإن كانت العلة فيهما معينة(1) لأنه رأى عمل أهل المدينة قد استقر على ترك الصلاة على الشهيد وهو يرى عملهم حجة. فعول عليه لا على الأثر.
وأما الشافعي فهو يرى أن لا يطيب المحرم. والحجة عليه ما ذكرنا من أنها قضية في عين معللة بعلة معينة(3) فلا يجب أن تتعدى، وقد روى أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على أهل أحد. وبهذا تعلق أبو حنيفة. قال أصحابنا: وترك الصلاة عليهم أثبت من هذه الرواية فلهذا أخذ به مالك.
قال القاضي:قد تقدم في صدر الكتاب الكلام على الصلاة على الشهداء(4). وأما الاعتراض علينا في ذلك بالتعليل بعلة معينة(1) لا يعلم تعديها إلى آخر ما ذكر(5)، فلا نسلمه إذ قد بين الشارع تعديها وعمومها بقوله: " ما من أحد يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما " الحديث.
[ تم الجزء الثاني من كتاب الإكمال بحمد الله وعونه
__________
(1) في (ط):" مغيبة ".
(2) في (أ):" اعتد ".
(3) في (ط):" مغيبة ".
(4) في (هـ):" الشهيد ".
(5) في (ط):" ذكره "، وفي (هـ):" ذكروه ".(4/85)
وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين
ويتلوه إن شاء الله في الثالث كتاب الزكاة ](1)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الزكاة
1 - وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ سَأَلْتُ عَمْرَو بْنَ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ فَأَخْبَرَنِي، عن أَبِيهِ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الزكاة(2)
حديث أبي سعيد الخدري " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا فيما دون خمس ذود صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة ".
قال الإمام: أصل الزكاة في اللغة : النماء.
فإن قيل:كيف يتقيم هذا الاشتقاق ومعلوم انتقاص المال بالإنفاق ؟ قيل: وإن كان نقصًا في الحال فقد يفيد النموّ في المآل ويزيد في صلاح الأموال.
قال الفقيه(3) القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه - (4): وقيل : يزكو عند الله أجرها وينمو كما قال في الحديث :" حتى تكون كالجبل ".
وقيل: لأنها لا تؤخذ إلا من الأموال المعرضة للنماء.
وقد(5) قيل: سميت زكاة لأنها تزكي صاحبها وتشهد بصحة إيمانه وتطهره كما قال: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط) و(هـ).
(2) في (هـ) ورد كتاب الصيام قبل كتاب الزكاة.
(3) قوله:" الفقيه " ليس في (هـ).
(4) قوله:" أبو الفضل - رضي الله عنه - " ليس في (هـ).
(5) قوله:" قد " ليس في (هـ).(4/86)
2 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ. ح، وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، كِلاهُمَا عن يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عن عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل سميت بذلك لأنها طاعة وإخلاص، وقيل في قوله: {لا يؤتون الزكاة}: لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ولأن مخرجها لا يخرجها إلاّ من إخلاصه وصحة إيمانه لما جُبلت عليه النفوس من الشح بالمال وحبه ومنه قوله - عليه السلام - : " الصدقة(1) برهان ".
وقيل: لأنها تزكي المال وتطهره إذ لو لم تخرج منه أخبثته وأبقت فيه أوساخه.
وأما تسميتها صدقة فمن الصدق إذ هي دليل على(2) صحة إيمانه وصدق باطنه فيه مع ظاهره وقد فسرنا هذا في أول الطهارة في قوله: " الصدقة برهان " بأتم من هذا وقد تسمى بذلك لتصديق صاحبها أمر الله بإخراجها وسمّاها الشرع أيضًا: حقا فقال:{وآتوا حقه يوم حصاده} ونفقة بقوله:{ولا ينفقونها في سبيل الله} وعفواً بقوله:{خذ العفو وأمر بالعرف(3)} وبين السلف وأهل التفسير اختلاف(4) في مراده تعالى بهذه الكلمات وهو أعلم.
قال الإمام: وقد أفهم الشرع أنها شرعت للمواساة وأن المواساة إنما تكون فيما له بال من الأموال فلهذا حدّ النُصبُ وكأنه لم ير فيما مجملاً لذلك، ثم وضعها في الأموال النامية: العين، والحرث، والماشية، فمن ذلك ما ينمى(5) بنفسه كالماشية والحرث، ومنها ما ينمى بتغير عينه وتقليبه
__________
(1) في (هـ):" والصدقة ".
(2) قوله:" على " ليس في (هـ).
(3) قوله:" وأمر بالعرف " ليس في (أ) و(هـ).
(4) في (هـ):" الاختلاف ".
(5) في (هـ):" ينموا ".(4/87)
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عن أَبِيهِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ - وَأَشَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِكَفِّهِ بِخَمْسِ أَصَابِعِهِ -، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كالعين.والإجماع على تعلق الزكاة بأعيان هذه المسميات، وأما تعلق الزكاة بما سواها من العروض ففيها للفقهاء ثلاثة أقوال:
فأبو حنيفة يوجبها على الإطلاق وداود يُسقطها، ومالك يوجبها على المدير على شروط معلومة من مذهبه. يحتج لأبي حنيفة بعموم قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}، ولداود بقوله - عليه السلام -: " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة " وفهم هاهنا أن ذلك لأجل كون ذلك خارجاً عن تلك الأموال لا لأجل أنه يقتنى. فأما مالك فيحمل عموم الآية على ما كان للتجارة والحديث على ما كان للقنية. وحدود الشرع(1) في نصاب كل جنس بقدر ما يحتمل المواساة فيه، فأما العين: فقد حدّ في نصاب الفضة منه خمس أواق وذكر ذلك في الحديث دون الذهب ؛ لأن غالب تصرفهم كان بها، وأما نصاب الذهب فهو عشرون ديناراً والمعول في تحديده على الإجماع وقد حكى فيه خلاف شاذ وورد أيضًا فيه حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأما الحرث والماشية فنصبهما معلومة فإن نقص نصاب العين ولم يجز بجواز الوازنة لم تجب الزكاة فيه وإن نقص يسيراً وجرى مجرى الوازنة وجبت الزكاة فيه، فإن كثر النقص وجرى مجرى الوازنة ففي وجوب الزكاة قولان:
__________
(1) في (هـ):" الشرع أيضًا ".(4/88)
3 - وَحَدَّثَنِي أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ يَعْنِي ابْنَ مُفَضَّلٍ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ، عن يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فمن اتبع مقتضى اللفظ والتحديد أسقطها ومن اتبع المقصود الذي هو الانتفاع بها كالانتفاع بالوازنة أوجب الزكاة فإن زاد على هذه النصب شيء فهل تكون فيه شيء أم لا ؟
أما ما زاد على النصاب في الإبل، والغنم، فغير مخصوص بزيادة من أجله من غير خلاف، وأما ما زاد على النصاب في الورق ففيه الخلاف:
أبو حنيفة جعله كالماشية، ومالك جعله كالحبّ. وأما ما دون النصاب في الحب: فأبو حنيفة يوجب فيه الزكاة ونحن نخالف. ويحتج لأبي حنيفة بقوله - عليه السلام -: " فيما سقت السماء العشر" ويحتج عليه بالأحاديث التي فيها التقييد بالنصب، والمطلق يرد إلى المقيد إذا كان في معنىً واحد بلا خلاف، وله أيضًا عموم قوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} ولنا في مقابلة العموم حديث الأوسق، وفي تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد خلاف بين الأصوليين.
قال بعض العلماء في حديث الأوسق إشارة إلى أن لا زكاة(1) في الخضر إذ ليست مما يُكال وقال بعضهم أيضًا إنه ظهر من حسن ترتيب الشريعة التدرج في المأخوذ من المال الذي يزكى بالجزء على حساب التعب فيه.
__________
(1) في (هـ):" زكاة تجب ".(4/89)
4 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عن سُفْيَانَ، عن إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عن مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عن يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلا حَبٍّ صَدَقَةٌ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فأعلى(1) ما يؤخذ الخمس مما وجد من أموال الجاهلية ولا تعب في ذلك، ثم ما فيه التعب من طرف واحد يؤخذ فيه نصف الخمس، وهو العشر فيما سقت السماء والعيون، وفيما سقى بالنضح فكان فيه التعب في الطرفين يؤخذ فيه ربع الخمس وهو نصف ا لعشر وما فيه التعب في جميع الحول كالعين يؤخذ فيه ثمن ذلك وهو ربع العشر فالمأخوذ إذاً الخمس ونصفه وربعه وثمنه.
قال الفقيه(2) القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه - (3): أفاد هذا الحديث وما يشبهه فائدتين ثنتين:
إحداهما: أنه ليس فيما دون هذه الحدود والنصب صدقة(4).
الثاني: أن فيها هي الصدقة واجبة ولا خلاف في هذين إلاّ في الحب فجمهور العلماء وأئمة الأمصار على أن الجميع سواء وخالف أبو حنيفة وبعض السلف في الحب فرأى أن الزكاة في قليله وكثيره على ما تقدم له.
__________
(1) في (هـ):" بأعلى ".
(2) قوله:" الفقيه " ليس في (أ) و(هـ).
(3) قوله:" أبو الفضل - رضي الله عنه - " ليس في (أ) و(هـ).
(4) في (هـ):" صدقة شيء ".(4/90)
وقال داود: كل ما يدخله الكيل فيراعى فيه(1) الخمسة أوسق(2) وما عداه مما لا يوسق ففي قليله وكثيره الزكاة. وكذلك أجمعوا(3) أن في عشرين ديناراً الزكاة ولا تجب في أقل منها إلا ما روي عن الحسن والزهري مما لم(4) يتابعا عليه إلاّ صدقة في أقل من أربعين ديناراً والأشهر عنهما ما روي عن الجماعة.
5 - وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ - يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيٍّ -، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عن إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عن مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عن يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لَيْسَ فِي حَبٍّ وَلا تَمْرٍ صَدَقَةٌ، حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروي عن بعض السلف أن الذهب إذا كانت قيمتها مائتي درهم فيها الزكاة، وإن لم تبلغ عشرين دينارًا (5)، وكذلك لا زكاة في العشرين إلا أن يكون قيمتها مائتي درهم، وكذلك اتفقوا فيما زاد من الحب على خمسة أوسق أن الزكاة في قليله وكثيره.
واختلفوا في الذهب والفضة:
فذهب مالك والليث والشافعي والثوري في رواية، وفقهاء أصحاب الحديث وأبو يوسف، ومحمد، والحسن، وابن ليلى، وأكثر أصحاب أبي حنيفة: أن ذلك حكم الذهب والفضة فيما زاد على نصبهما(6) وروي عن علي وبن عمر.
__________
(1) في (هـ):" منه ".
(2) في (هـ):" الأوسق ".
(3) في (هـ):" أجمعوا على ".
(4) في (هـ):" لا ".
(5) قوله:" دينارًا " ليس في (ط) و(هـ).
(6) في (ط):" نصبها ".(4/91)
وذهب أبو حنيفة وبعض أصحابه وبعض السلف وروي عن عمر أنه لا شيء فيما زاد على المائتين درهمًا(1) حتى تبلغ أربعين ولا على العشرين ديناراً حتى تبلغ أربعة دنانير فإذا زادت ففي كل أربعين درهم وفي كل أربعة دنانير درهم، وجعلوا لهما وقصًا قياسًا كالماشية، وعارضناهم بما أخرجت الأرض وهو أشبه بالعين لأنه مما تخرج الأرض فليس فيه وقص عند الجميع.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عن إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ وَمَعْمَرٌ، عن إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ بَدَلَ التَّمْرِ: ثَمَرٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولهم في ذلك حديث ضعفة أهل المعرفة وروي عن طاوس أنه لا شيء فيما زاد على مائتي درهم حتى تبلغ أربعمائة، والمعروف عن طاوس خلافه ومالك وجمهور علماء الأمصار يرون ضم الذهب والفضة في الزكاة على اختلاف بينهم. فمالك وجماعة تُراعي الوزن والضم على الأحزاء لا على القيم وينزل كل دينار منزله عشرة دراهم على الصرف القديم. وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري: يرون(2) ضمها على القيم في وقت الزكاة.وقال الشافعي وداود وأبو ثور وأحمد: لا يضم منها شيء إلى شيء ويراعى نصاب كل واحد منهما بنفسه وذهب آخرون إلى أنه(3) إنما يضم إذا كمل من أحدهما نصاب فيضم إليه الآخر ويزكى.
__________
(1) في (هـ):" مائتي درهم ".
(2) في (أ) و(ط):" يرى ".
(3) قوله:" إلى أنه" ليس في (أ) و(ط).(4/92)
قال الإمام: وأما الوسق: فهو ستون صاعًا بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم - والصاع خمسة أرطال وثلث قال شمر: كل شيء حملته فقد وسقته. يقال: ما(1) أفعل كذا ما وسقت عيني الماء ؛ أي: حملته. وقال غيره: الوسق ضمك الشيء إلى الشيء بعضه إلى بعض ومنه قوله تعالى:{ والليل وما وسق }، أي: جمع وضمّ، ويقال للذي يجمع الإبل فيطردها: وَاسِقْ، وللإبل نفسها: وَسِيقة،
6 - حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عن أَبِي الزُّبَيْرِ، عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ:« لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الإِبِلِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وطاردها يجمعها لئلا تنتشر عليه، وقد وسقها(2) فاستوسقت، أي: اجتمعت وانضمت، ومنه قول الله تعالى:{والقمر إذا اتسق}، أي: اجتمع ضوؤه في الليالي البيض.
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه - (3): جاء في حديث ابن أبي شيبة " خمسة أوساق " وهو صحيح جمع وسق بالكسر وهو مطرد جمعه، وقال الخطابي: الوسق تمام حمل ا لدواب النقالة وهو ستون صاعاً.
قال الإمام: وأما الذود فقال أبو عبيد: هو ما بين الثنتين إلى التسع من الإناث دون الذكور.
وقال غيره: قد يكون الذود واحداً، فقوله: " ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة". كأنه قال ليس فيما دون خمس من الإبل.
__________
(1) في (هـ):" لا "، وسقط من (أ).
(2) في (ط):" وسقتها ".
(3) قوله:" أبو الفضل - رضي الله عنه - " ليس في (أ) و(هـ).(4/93)
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه - (1): الذود ما بين ا لثلاثة إلى العشرة لا واحد له من لفظه إنما يقال في الواحد: بعير، كما يقال للواحد من النساء: امرأة.
وقال غيره: خمس ذودٍ، كما تقول: خمسة أبعرة(1)، خمسة جمال، وخمس نوق.
قال سيبويه: تقول ثلاث ذود؛ لأن الذود أنثى وليس باسم كُسر عليه مذكر.[ قال الداودي: لفظ به على التأنيث ؛ لأن الواحد فريضة](2).
7 - حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ وَالْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، كُلُّهُمْ عن ابْنِ وَهْبٍ قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عن عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «فِيمَا سَقَتِ الأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشُورُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ):" أبعر ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).(4/94)
وقال الحربي قال الأصمعي: الذود ما بين الثلاث إلى العشر، والصُبّة: خمس أوست، والصّرمة: ما بين العشر إلى العشرين، والعكرة(1): ما بين العشرين(2) إلى الثلاثين، والهَجمة: ما بين الستين إلى السبعين، والهُنيدة: مائة، والخطر: نحو مائتين، والعرج: من خمس مائة إلى ألف وفي المصنف: الذود ما بين الثلاث(3) إلى العشرة، والصرمة: ما بين العشرة إلى الأربعين ونحو ذلك الجِزمة، والحُدرة، والقصلة(4)، فإذا بلغت ستين فهو الصدعة، والعكرة والعرج إلى ما زادت والهجمة: الأربعون إلى ما زادت(5) وقال غيره: وهند غير مصغر مائتان، وصححه لنا شيخنا أبو الحسين قال لي(6)، وأمامة: ثلاثمائة وأنكر ابن قتيبة أن يراد به الواحد، وقال(7): لا يصح عليه أن يقال خمس ذود، كما لا يقال: خمس ثوب وما قاله غيره أشهر وأكثر عند الفقهاء، وما قاله هو أشهر عند أهل اللغة.
وقال أبو حاتم: تركوا القياس في الجمع فقالوا: ثلاث ذود لثلاث من الإبل وأربع ذود وعشر ذود على غير قياس كما قالوا: ثلاث مائة وأربع مائة والقياس مئين ومئات ولا يكادوا يقولونه.
8 - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ دِينَارٍ، عن سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عن عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ):" العكر ".
(2) في (هـ):" العشر ".
(3) في (أ) و(هـ):" الثلاثة ".
(4) في (أ):" النصلة ".
(5) قوله:" زادت " ليس في (ط).
(6) قوله:" لي " ليس في (هـ).
(7) في (أ):" وقال لي ".(4/95)
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: وروايتنا فيه(1) في جميع الأمهات خمس ذود على الإضافة، وحكى أبو عمر الحافظ: أن من الشيوخ من كان يرويه " خمس ذود " بالتنوين على البدل وهذا على مذهب ابن قتيبة وأكثر اللغويين، وكذلك وقع عند بعض شيوخنا " خمسة ذود " وعند أكثرهم " خمس " وهذا يأتي على قول أبي عبيد أنه يختص بالإناث، والأول على انطلاقه على الجميع.
[ وقال الداودي: لفظ " به " على التأنيث ؛ لأن الواحد فريضة ](2).
قال الإمام: وأما الأواقي بتشديد(3) الياء وتخفيفها، قال ابن السكيت وغيره، " الأوقية " بضم الهمزة وتشديد الياء وجمعها أواقي وأواق.
قال القاضي أبوالفضل - رضي الله عنه -: أنكر غير واحد أن يقال: وقيه بفتح الواو. وحكى(4) الجياني(5) أنه يقال: ويجمع وقايا. قال أبو عبيد: والأوقية اسم لوزن مبلغه أربعون درهماً كيلا.
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: ولا يصح أن تكون الأوقية والدراهم مجهولة القدر في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يوجب الزكاة في أعداد منها وتقع بها البياعات والأنكحة، كما جاء في الأحاديث الصحيحة وهذا كله يبين أن(6) قول من ذكر أن الدراهم لم تكن معلومة إلى زمن عبدالملك بن مروان وأنه جمعها [برأي العلماء] وجعل كل عشرة: وزن سبعة مثاقيل:ووزن الدرهم:
__________
(1) قوله:" فيه " ليس في (ط).
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) في (هـ):" فهي بتشديد ".
(4) في (هـ):" حكاه ".
(5) في (ط):" اللحياني ".
(6) قوله:" أن " ليس في (ط).(4/96)
ستة دوانق(1) أنه وهم وإنما معنى ما ذكر من ذلك أنها لم يكن منها شيء من ضرب الإسلام وعلى صفة لا تختلف وإنما كانت مجموعات من ضرب فارس والروم وصغارًا وكبترًا، وقطع فضة غير مضروبة ولا منقوشة ويمنية ومغربية، فرأوا صرفها إلى ضرب الإسلام ونقشه، وتصييرها وزناً واحداً لا تختلف وأعيانًا يستغنى فيها عن الموازين فجمعوا أكبرها وأصغرها وضربوه على وزنهم الكيل ولعله كان الوزن الذي(2) يتعامل به كيلاً حينئذ بالمجموع ولهذا سمي كيلاً وإن كانت قائمة مفردة غير مجموعة. فقال أبو عبيد: كان الجيد منها من أربع(3) دوانق، والرديء من ثمانية دوانق(4) فتوسطوا وضربوا على ستة وهذا يأتي على أن الدرهم الكيل من درهمنا الأندلسي درهم ونصف والمعروف أنه درهم وخُمسان من دراهمنا على هذا جاء تفسيرهم أجمع في كتبهم من أهل العراق وغيرهم وفي كتب أصحابنا، ولا شك أن الدراهم كانت حينئذ معلومة وإلا فكيف كان يتعلق بها حقوق الله في الزكاة وحقوق النساء في الصدقات وكانت الأوقية معلومة.
وقوله:"من الورق ". قال الإمام: قال ا لهروي: في تفسير قوله تعالى: { فابعثوا أحدكم بورقكم } أن الوَرِق، والورْق والرِقة: الدراهم خاصة.
قال غيره: الرقة بتخفيف القاف ومنه الحديث " في الرقة ربع العشر" وفي حديث آخر: " عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة" قال
......................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبوبكر: جمعها رقات(5) ورقون(6) ومنه قولهم: وجدان الرقين(7) يغطي أفن الأفين، أي وجدان الدراهم يغطي عيب المعيب ونقصانه، وغناه وقاية لحمقه.
__________
(1) في (هـ):" دانق ".
(2) في (هـ):" الذي كان ".
(3) في (هـ):" أربعة ".
(4) قوله:" دوانق " ليس في (أ) و(ط).
(5) في (هـ):" أرقات ".
(6) في (هـ):" وقوق ".
(7) في (ط):" الرقيق ".(4/97)
قال الهروي: ورجل وارق كثير الورق، فأما الورق فالمال كله.
قال القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه -: قال بعضهم لا يقال عندهم لما لم يضرب من الدراهم ورق ولا رقة من المصوغ والمسكوك وغيره، وإنما يقال له: فضة. وأما الفقهاء فالفضة والورق عندهم سواء، وكذلك قال ابن قتيبة: أن الرقة والورق: الفضة مسكوكة أو غيرها، وقد جاء في الحديث ما يؤيد قول الفقهاء ويصححه.
ولم يأت ذكر الذهب هنا إذ أكثر أموالهم وأثمانهم إنما كانت بالدراهم، وقد روى في الذهب وتحديد نصابه أحاديث ليست بالقوية ولكن المسلمين أجمعوا على صحة معناها والمفهوم من قوله: ليس في(1) دون خمس من كذا صدقة أي ليس في أقل منها وهو ظاهر لفظه(2) دون لا أنه نفى عن غير الخمس الصدقة كما زعم بعضهم في قوله ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة إنها بمعنى غير.
قال الإمام: وكما فهم عن الشريعة معنى تحديد النصاب فهم أيضًا أن ضرب الحول في العين والماشية عدل بين أرباب الأموال والمساكين ؛ لأنه أمد الغالب حصول النماء فيه ولا يجحف بالمساكين الصبر إليه، ولهذا المعنى لم يكن في الثمر(3) والحب حول ؛ لأن الغرض المقصود منه النماء، والنماء يحصل عند حصوله. ولهذه المعاني المفهومة حصل من العلماء الاتفاق على أن
9 - وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى، عن مَكْحُولٍ، عن سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عن عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - قَالَ عَمْرٌو-، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - - وَقَالَ زُهَيْرٌ: يَبْلُغُ بِهِ-: « لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" فيما ".
(2) في (ط) و(هـ):" لفظ ".
(3) في (أ) و(هـ):" التمر ".(4/98)
الزكاة لا تجب على الإطلاق بل يتوقف وجوبها على شروط معتبرة بحال المالك والملك والمملكوك. فإن كان المالك صبيا فالزكاة عندنا واجبة في ماله، وأبو حنيفة لا يوجب في مال الصبي زكاة، وحجتنا قوله تعالى:{ خذ من أموالهم صدقة } فعمّ.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" أمرت أن آخذها من أغنيائهم(1)" وغير ذلك من العمومات، ويناقض أبو حنيفة بإيجابه الأخذ من مال الصبي في الحرث، ويحتج هو بقوله تعالى:{ تطهرهم وتزكيهم بها } والصبي غير مأثوم فلا يحتاج إلى تطهير(2)، ويحتج أيضًا أن الصبي غير مكلف فلا يتوجه الخطاب عليه. قلنا الخطاب يتوجه عندنا إلى من يلي الصبي بأن يخرج منه ؛ لا أن الصبي هو المخاطب به، ووجه الخلاف بيننا من جهة المعنى أن هذا فرع بين أصلين:
أحدهما: نفقة الوالدين وهي واجبة في ماله باتفاق.
والثاني: الجزية فإنها ساقطة عن الصغير الذمي باتفاق فيرد ذلك أبو حنيفة إلى الجزية من جهة أنها شبيهة بما يؤخذ من الزكاة ونرده نحن إلى نفقة الوالدين. والشبه بينهما أنهما جميعا من باب المواساة فرد المواساة إلى المواساة أولى من ردها إلى ما هو علم على الذلة والصغار وهي تطهير وتزكية للأموال،
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ. ح، وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، كُلُّهُمْ عن خُثَيْمِ بْنِ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عن أَبِيهِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وينقص عليه رده إلى ذلك الاتفاق منا ومنه على جوب الزكاة على النساء وسقوط الجزية عنهن، وهذا دليل على أنهما ليسا بأصل واحد.
__________
(1) في (أ) و(ط):" أغنيائكم ".
(2) في (هـ):" تطهر ".(4/99)
قال القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه -: وقوله: " فيما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سقي بالسانية(1) نصف العشر".
وفي غير مسلم: " ما(2) سقت السماء والعيون والبعل العشر، وفيما سقى بالنضح نصف العشر"، كذا رويناه عن عامة شيوخنا " العشور" بفتح العين المهملة، وهو اسم المخرج من ذلك، وعن الطبري: " العشر"، ويكون " العشور" بالضمة جمع "عشر"، " والغيم" بفتح الغين المعجمة، والميم المطر، كذا هو هنا بالميم في مسلم، ورواه غيره: " الغيل" باللام، قال أبو عبيد: "الغيل" ما جرى من المياه في الأنهار، وقال: هو سيل دون السيل الكبير، وقال ابن السكيت: هو الماء الجاري على الأرض، ويكون بمعنى البعل على قول بعضهم: أنه كل ما يشرب بماء السماء، وقال أكثرهم: ما يشرب بماء السماء: هو العثري، وذلك لأنه تكسر حوله الأرض ويعثر جريه إلى أصول النخل بتراب يرفع هناك، قالوا: والبعل: ما لا يحتاج إلى ذلك وإنما يشرب بعروقه. قال بعضهم: هذا من قوله:{ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها }، أي: أنه يكتب له بإخراج عشر ما له في الزكاة أجر إخراجه(3) كله كما جاء في صوم رمضان وستة أيام من شوال صيام الدهر.
__________
(1) في (هـ):" بالساقية "، وفي (أ):" بالثانية ".
(2) في (هـ):" فيما ".
(3) في (هـ):" أجرى خراجه ".(4/100)
وأجمع العلماء على الأخذ بهذا الحديث فيما يؤخذ أنه(1) العشر مما(2) سقت السماء والأنهار. ونصف العشر مما سقي النضح، وهو ما سقي بالدلو وأصله الرشّ والصب، وهو معنى الغرب في حديث آخر وهو الدلو الكبيرة وهو معنى السانية هنا وهي الإبل يرفع عليها الماء من البئر. و "تسنو"، أي: تستقيه، يقال: سنا يسنو سنواً إذا استقى. فظاهر هذا الحديث أخذ به أبوحنيفة، فرأى إخراج الزكاة العشر ونصف العشر على ما تقدم من كل ما أخرجت الأرض من الثمار والرياحين والخضر وغيرها إلا الحشيش، وشبهه من الحطب والقصب وما لا يثمر كالسمر وشبهه، وخالفه عامة العلماء في ذلك على اختلاف بينهم في تفاصيله.
وإجماعهم على الحنطة والشعير والتمر(3) والزبيب، فرأى الحسن والثوري وابن أبي ليلى في آخرين أنه لا زكاة إلا في هذه الأربعة، وذهب مالك في المشهور عنه أنها تجب في كل ما يقتات ويدخر غالبًا، ونحوه قول الشافعي وأبي ثور إلا أنهما استثنيا الزيتون، وقال ابن الماجشون من أصحابنا: تجب في ذوات الأصول كلها ما ادخر منها وما لم يدخر، ولأصحابنا وغيرهم في هذا الباب تفاصيل وخلاف معروف في كتب الفقه.
وقوله:" ليس على المسلم في عبده وفرسه صدقة" أصل في أن ما(4) هو للقنية لا زكاة فيه وأنه لا زكاة في الرقيق ولا في الخيل المقتناة بخلاف ما اتخذ للتجارة لإضافة(5) التخصيص، وهو مذهب كافة العلماء وأئمة الفتوى إلا حماد بن أبي سليمان فأوجب في الخيل الزكاة. وقاله أبو حنيفة وزفر، قالا
__________
(1) في (ط):" له ".
(2) في (هـ):" فيما ".
(3) في (ط):" الثمر ".
(4) في (هـ):" أصل ملك فيما ".
(5) في (هـ):" ولإضافة ".(4/101)
10 - وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عن أَبِيهِ، عن عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: لَيْسَ فِي الْعَبْدِ صَدَقَةٌ إِلا صَدَقَةُ الْفِطْرِ.
11 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عن أَبِي الزِّنَادِ، عن الأَعْرَجِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقِيلَ مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: « مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا ». ثُمَّ قَالَ:« يَا عُمَرُ ! أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذلك إذا كانت إناثاً أو ذكوراً وإناثاً يبتغي نسلها ففي كل رأس دينار وإن شاء قوم وأخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم ولا حجة لهم مع صحة هذا الحديث.
وقوله: " وفي العبد إلا صدقة الفطر" حجة أن على السيد في عبده صدقة الفطر وهو قول جمهور العلماء في عبيد القنية، كانوا لخدمة أو لغلة أو لتجارة خلافاً لداود وأبي ثور في إيجابها على العبد نفسه بظاهر قوله في الحديث الآخر: " على كل عبد أو حر"، وخلافاً لأهل الكوفة في إسقاطها عن عبيد التجارة.(4/102)
واختلفوا في المكاتب فجمهورهم على أن السيد لا يؤدي ومالك وأبوثور وعطاء يرون ذلك عليه لقوله - عليه السلام - :" المكاتب عبد ما بقي عليه درهم "، واتفقوا على(1) أن المدبر كالعبد، وداود وأبو ثور فيه على أصلهما في العبد.
وقوله:" إنكم تظلمون خالداً إن خالداً احتبس(2) أدراعه واعتاده في سبيل الله ".
قال الإمام: قال الهروي وغيره العتاد هو ما أعده الرجل من السلاح والدواب والآلة للحرب، ويجمع أيضًا أعتدة وفي رواية أخرى " أدراعه وعقاره" قال الهروي: في الحديث الذي فيه: فردّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذراريهم وعقار بيوتهم. قال الأزهري: أراد متاع بيوتهم والأدوات والأواني. وقال ابن الأعرابي: عقار البيت ونضده: متاعه الذي لا يبتذل(3) إلا في الأعياد، وبيت حسن ا لعقار ؛ أي: حسن المتاع، وعقار كل شيء خياره. والعقر والعقار: الأصل، ولفلان عقار: أي أصل، قال: ومنه الحديث " من باع داراً أو عقاراً " قال الحربي: أراد أراضيهم.
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: روى في غير كتاب مسلم " اعبُدهُ واعتده " بالياء والتاء واختلف فيه رواة البخاري وهو جمع فرس عتد وهو الصلب وقيل: المعد للركوب وقيل: السريع الوثب.
ورجح بعضهم هذه الرواية بأنه لم تَجْرِ العادة لتحبيس العبد في سبيل الله، وهذا جائز غير ممتنع(4) بل قد وجد في العرب قبل، وقد ذكر ذلك في: الغوث بن مُرّ. المسمى بصوفة(5) وبالربيط ؛ وذلك أن أمه ربطت رأسه بصوفة وجعلته ربيطاً للكعبة يخدمها، وقيل: مثله في ابن الأخرم.
__________
(1) قوله:" على " ليس في (ط).
(2) في (هـ):" قد احتبس ".
(3) في (ط):" يتبدل ".
(4) في (هـ):" ممنوع ".
(5) في (هـ):" بصفوفة ".(4/103)
[قال الإمام: فيه دلالة على جواز تحبيس العروض خلافاً لمن منعه، وفيه أيضًا: إشارة إلى ثبوت التحبيس مع كون الشيء المحبس يعود إلى محبسه، وهذا على تأويل من رأى أن المال الذي في يديه ظن الساعي أنه ملكه وهو محبس. وقد تأول الحديث على أن معنى قوله:" تظلمون خالداً " أي أنه بصفة من لا يليق به منع الزكاة ؛ لأنه إذا حبس ماله تطوعاً فأحرى إلا يمنع الواجب](1).
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: وقيل يجوز أن يكون - عليه السلام - أجاز لخالد أن يحتسب بما(2) حبسه من ذلك فيما يجب عليه من الزكاة ؛ لأنه في سبيل الله فهو حجة لمالك في جواز دفعها لصنف واحد، وهو قول كافة العلماء خلافاً للشافعي في وجوب قسمتها على الأصناف الثمانية، وعلى هذا يجوز إخراج القيم في الزكاة(3)، وقد أدخل البخاري هذا الحديث في باب أخذ العرض(4) في الزكاة، فيدل أنه ذهب إلى هذا التأويل. ومذهب(5) مالك والشافعي منع إخراج القيم في الزكاة، وأبوحنيفة يجيز ذلك، وذكره البغداديون عن المذهب أيضًا، وقيل: إنما طولب خالد بأثمان ا لأدراع والأعبد ؛ إذ كانت للتجارة فأعلمهم - عليه السلام - أنه لا زكاة فيها ؛ إذ قد حبسها، ففيه على هذا إثبات زكاة التجارة، وهو قول عامة العلماء خلافًا لبعض المتأخرين، وقد حكى ابن المنذر فيه الإجماع، وفيه على الجملة دليل على جواز التحبيس، وهو قول كافة العلماء خلافًا للكوفيين في إبطاله، وسنذكره بعد. وذكر بعضهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاصّ خالدًا بما وجب عليه من الصدقة بما حبسه، وهذا على من جعل هذه الصدقة صدقة تطوع(6) بين إذ قد روى عبدالرزاق هذا الحديث وفيه أن النبي - عليه السلام - ندب الناس إلى الصدقة وذكر الحديث.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(2) في (أ):" ما ".
(3) قوله:" الزكاة " ليس في (هـ).
(4) في (هـ):" العروض ".
(5) في (هـ):" وهو مذهب ".
(6) في (أ):" الصدقة تطوعًا ".(4/104)
قال ابن القصار وهذا أليق بالقصة، فلا يظن بواحد منهم منع الواجب فيكون عذر خالد واضحاً ؛ لأنه إذا أخرج أكثر ماله وحبسه في سبيل الله لا يحتمل صدقة التطوع، فعذره النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك. ويكون ابن جميل شح في التطوع الذي لا يلزمه، فعتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بما جاء في الحديث، وأخبر أن العباس يسمح بما طلب منه ومثله معه وأنه ممن(1) لا يمتنع مما ألزمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بل يعده كاللازم، لكن ظاهر الأحاديث التي في "الصحيحين" يدل(2) أنه في الفريضة بقوله: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر على الصدقة. وتعريفها بالألف واللام يدل أنها المفروضة وهي التي جرى الاستعمال والبعث عليها.
ومثله قوله في الحديث الآخر: " منع صدقته".
__________
(1) قوله:" ممن " ليس في (هـ).
(2) في (هـ):" يدل على ".(4/105)
قال الإمام: وقوله:" وأما العباس فهي عليّ ومثلها معها "، وفي غير هذا الباب " فهي عليه"، وفي رواية أخرى " فهي صدقة عليه ومثلها "، وفي رواية أخرى " له ومثلها "، يحتمل أن يريد بقوله:" عَليّ "؛ أي: أؤديها عنه ؛ يدل عليه قوله - عليه السلام - عقيب ذلك: " إن العم صنو الأب"، وقيل: أن معنى قوله: "عليّ "؛ أي: له زكاة عامين قدّمها، وهذا التأويل إنما يصح على قول من رأى جواز تقدمة الزكاة قبل حولها، وأما رواية " هي له" فيعرف معناها من رواية "عليّ " وأما رواية:" هي عليه ومثلها " فيحتمل أن يكون أخرها - صلى الله عليه وسلم - عنه إلى عام آخر تخفيفًا ونظرًا. وللإمام تأخير ذلك إذا أداه الاجتهاد إليه، وأما رواية: " صدقة عليه". فبعيدة ؛ لأن العباس من الأقارب الذين لا تحل لهم الصدقة، إلا أن يقال لعل ذلك من قبل تحريم الصدقة على آل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو رأى - عليه السلام - إسقاط الزكاة عنه عامين لوجه رآه، وقيل في الرواية المتقدمة(1) التي قال فيها: "هي له": أنها بمعنى عليه، قال الله تعالى:{ فلهم اللعنة(2)}، أي: عليهم، وقال تعالي:{ وإن أسأتم فلها }، أي: فعليها.
__________
(1) في (ط):" الأخرى ".
(2) في (هـ) زيادة:"{ ولهم سوء الدار} ".(4/106)
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: قيل إن العباس كان استدان في مفاداة نفسه ومفاداة عقيل، فكان من الغارمين الذين لا تلزمهم الصدقة ؛ فلذلك قال - عليه السلام -:" هي علينا دين ". وإلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرها عن العباس من أجل حاجته إليها ذهب أبو عبيد كما فعل عمر عام الرمادة إلى أن حيي(1) الناس من العام المقبل فأخذ منهم زكاة عامين، وهو يكون معنى قوله: " ومثلها معها"، وعلى هذا يصح معنى رواية:"صدقة عليه"، وأما المذهب الآخر أنه كان قدمها، فقد روى في ذلك حديث منصوص:" إنا تعجلنا منه صدقة عامين"، وفي حديث آخر أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فأذن له، وبه يحتج عامة الفقهاء: أبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث، ومن وافقهم من السلف على جواز تقديم الزكاة قبل حولها بالكثير، وتقديم زكاة عامين وأكثر خلافًا لقول مالك والليث، وهو قول عائشة وابن سيرين في أنها لا تجوز قبل وقتها كالصلاة.
__________
(1) في (أ):" جبى ".(4/107)
وعن مالك خلاف فيما قرب وتحديد القرب مذكور في كتبنا معلوم، وقد تأول بعض المالكية قوله:" تعجلنا منه صدقة عامين" بالمعنى الأول، أي أوجبناها عليه وضمناها إياه وتركناها عليه دينًا. وقيل: بل كان تسلف منه النبي - صلى الله عليه وسلم - مالاً لما احتاج إليه في السبل(1) فقاصه بها عند الحول، وهذا ما لا يختلف فيه، وليس من التقديم في شيء وعلى هذا تصح رواية " له " ورواية "عليّ "، أي: قرضًا، وقيل: وقد يكون معنى قوله:"فهي عليه" على الرواية الأخرى، أي: واجبة ؛ لأنه قد أداها وهذا على من يقول إنها المفروضة، وأما على الندب فقد ذكرنا وجهه. والأشبه عندي احتمال النبي - صلى الله عليه وسلم - له(2) على ما تقدم هذه الصدقة وإخراجها عنه برًا به، ويعضده رواية:" فهي له"، وصدقة عليه لا على أنه أحل له الصدقة لكنه تركها له وأخرج(3) الصدقة عنه من مال نفسه والله أعلم.
وقوله:" ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله ". تقدم القول فيه على التطوع، وأما على الفريضة فقال المهلب: كان ابن جميل منافقًا أولاً فمنع الزكاة، فأنزل الله: {وما نقموا منهم إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيراً لهم }، فقال: استتابني الله فتاب وصلحت حاله.
قال الإمام: وقوله:" فإن عم الرجل صنو أبيه"؛ أراد أن أصله وأصل أبيه واحد، قال ابن الأعرابي: الصنو: المثل أراد أبيه، وقيل في قوله تعالى: { صنوان وغير صنوان }، أن: معنى الصنوان: أن يكون الأصل واحداً فيه النخلتان والثلاث والأربع، والصنوان جمع صنو، ويجمع أصناء، مثل اسم وأسماء، فإذا أردت الجمع المكسر قلت: الصني والصُني.
__________
(1) في (هـ):" السبيل ".
(2) قوله:" له " ليس في (ط).
(3) في (هـ):" وإخراج ".(4/108)
12 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالا: حَدَّثَنَا مَالِكٌ ، وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى - وَاللَّفْظُ لَهُ - قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عن نَافِعٍ، عن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه - :كذا في النسخ الواصلة إلينا من المعلم، فإذا أردت الجمع المكسر، وإنما هو في أصل الغريبين(1)" فإذا كثرت" وأراه تصحف بـ " كسرت".
ومعنى قوله " ما ينقم ابن جميل" أي: ما ينكر، ويقال: نَقَم يَنْقم ونقِم ينقَم وكذلك من العقاب.
وفي قوله: " عم الرجل صنو أبيه" تعظيم حق العم، وقد أنزله العلماء منزلة الأب في كثير من الحقوق.
وقوله: " فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر من رمضان على الناس " الحديث. قال الإمام: اختلف الناس في زكاة الفطر هل هي واجبة أم لا؟ فاحتج من قال بالوجوب بدخولها في عموم قوله تعالى: { وآتوا الزكاة }، وبقوله: " فرض زكاة الفطر". وقد قيل: إن فرض هاهنا بمعنى: قدر لا بمعنى أوجب، وأصل الفرض: الحز والقطع، يقال: فرضت سواكي؛ إذا حززته لتشد فيه خيطًا، وفرض الحاكم نفقة المرأة إذا قطع، وفرضت القرآن قطعت بالقراءة منه جزاءًا، فإن كان الفرض غالبًا استعماله في الوجوب كان حجة لمن يقول بالإيجاب.
__________
(1) في (هـ):" اللغويين ".(4/109)
13 - حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي.ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ-وَاللَّفْظُ لَهُ -، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عن عُبَيْدِ اللَّهِ، عن نَافِعٍ، عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَوْ حُرٍّ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي:أبو الفضل - رضي الله عنه -: معنى فرض عند أكثر العلماء(1) هنا أوجب قال إسحاق بن راهويه: هو كالإجماع، وأجمعوا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بها.
ثم اختلفوا في حكمها، وهل هي منسوخة أو محكمة ؟ فقالت فرقة: هي منسوخة بالزكاة، ورووا في ذلك أثرًا عن قيس بن سعد بن عبادة، وجمهور أئمة الفتوى وعامة العلماء من السلف على أنها واجبة كما تقدم، وهو المنصوص عن مالك. واحتج بعموم قوله:{خذ من أموالهم صدقة} الآية، وبقوله:{ وآتوا الزكاة }، وقاله عامة أصحابه. وذهب بعض أهل العراق وبعض أصحاب مالك وداود في آخر قوله: أنها سنة. وقال أبو حنيفة هي واجبة وليست بفريضة على مذهبه في الفرق بين الحكمين.
وقوله: " من رمضان ". إشارة(2) إلى وقت وجوبها.
قال الإمام: اختلف فيه عندنا، فقيل: بغروب الشمس من آخر رمضان، وقيل: بطلوع الفجر من يوم الفطر.
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: كما اختلف فيها قول مالك وأصحابه
__________
(1) في (هـ):" أهل العلم ".
(2) في (ط) و(هـ):" فإشار ".(4/110)
14 - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عن أَيُّوبَ، عن نَافِعٍ، عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: فَرَضَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَدَقَةَ رَمَضَانَ عَلَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ: فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اختلف فيها قول الشافعي. وأما أبو حنيفة فيقول: إنما تجب بطلوع الفجر وللمتأخرين من أصحابنا اختلاف في وجوبها بطلوع الشمس وغير ذلك، وحقيقة معناه عندي: توسعة وقت وجوبها لا ابداؤه، وقد بيناه في كتاب التنبيهات في الفقه.
قال الإمام: وقيل: يبني(1) الخلاف على ما وقع في هذا الحديث من قوله: " فرض زكاة الفطر من رمضان" هل المراد ها هنا الفطر المعتاد في سائر الشهر فيكون الوجوب من الغروب أو أراد الفطر الطارئ بعد ذلك الذي هو بطلوع الفجر من شوال، فيكون الوجوب من حينئذٍ.
وفي قوله:" الفطر من رمضان "، تنبيه على قول من يرى أنها لا تجب إلاّ على من صام ولو يوماً من رمضان.
قال الإمام: وكأن سالك هذه الطريقة رأى أن العبادات التي تطول ويشق التحرز فيها من أمور توقع فيها وصماً جعل الشرع فيها كفارة من المال عوضاً عن التقصير؛ كالهدايا في الحج لمن أدخل فيها نقصاً يكفره بالهدى، وكذلك الفطرة كفارة لما يكون في الصوم، وقد وقع في بعض أحاديثها أنه قال:" تطهيرًا من اللغو والرفث ".
__________
(1) في (ط) و(هـ):" بني ".(4/111)
واختلف الناس أيضًا في إخراجها عن الصبي، فمن قال: لا تجب عليه، جنح إلى الطريقة التي ذكرنا وأن علتها التطهير(1)، وهو لا إثم عليه، وحجتنا 15 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عن نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَجَعَلَ النَّاسُ عَدْلَهُ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على من لم يوجبها في مال الصبي ؛ ما في بعض الأحاديث من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "على(2) كل حر أو عبد صغير أو كبير"، وكأنه إن كان وجه التعبد بها التطهير من الآثام فإن التعليل للغالب وإن وجد في بعض الأحاديث ما ليس فيه تلك العلة كما أن القصر في السفر للمشقة وإن وجد من لا يشق ذلك عليه فإنه لا يخرج عن(3) جملة من أرخص له.
قال الإمام: وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " على كل حر أو عبد " فإن داود أخذ بذلك قال: تجب على العبد كما اقتضاها اللفظ ولكن على السيد أن يتركه قبل الفطر فيكتسب(4) ذلك القدر ولا يكون له منعه من ذلك تلك المدة التي يكتسب فيها كما لا يمنعه من صلاة الفرض ومذهبنا أنها لا تجب على العبد وهو بمنزلة الفقير إذ السيد قادر على انتزاع ماله. ومحمل الحديث عندنا(5)" على" بمعنى " عن" أي يخرجها السيد عن عبده.
__________
(1) في (هـ):" التطهر ".
(2) قوله:" على " ليس في (ط).
(3) في (هـ):" من ".
(4) في (هـ):" فيكسب ".
(5) قوله:" عندنا على أن " ليس في (ط).(4/112)
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -، قال الباجي: وقد يكون " على" عندي بمعناها: على من قال إنها تجب على العبد ولكن يحملها عنه السيد، أو يكون على من قال أنها تجب على السيد كما يقول: يلزمك على كل دابة من دوابك درهم.
16 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ، عن نَافِعٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، أَوْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: وقال ابن قتيبة: معنى صدقة الفطر(1)، أي: صدقة النفوس.
والفطرة: أصل الخلقة، وفيما قاله بُعد، والأظهر ما تقدم.
وقوله: على الناس وفي الحديث الآخر:" وعلى الذكر والأنثى والحر والعبد "، فحجة لعموم وجوبها على الجميع من أهل الحواضر والبوادي والأغنياء والفقراء ؛ لأنها زكاة بدن ليست بزكاة مال، وهو قول كافة الأئمة والعلماء ؛ خلافاً لليث وربيعة والزهري وعطاء في قصر وجوبها عندهم على أهل الحواضر والقرى دون أهل العمود والخصوص. وخلافًا لأصحاب الرأي إنها لا تلزم من تحل له أخذ الزكاة.
واختلف قول مالك وأصحابه في لزومها لمن يجوز له أخذها إذا ملكها واختلفوا إذا وجد من يسلفه هل يلزمه أم لا وقد استدل بعضهم بقوله:" أو أنثى" على أنه لا تلزم الرجل إخراجها عن زوجته، وإنما تلزمها هي عن نفسها وهو قول الكوفيين. ومذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء لزومها للزوج(2) كالنفقة والكلام على احتجاجهم بـ " على كل أنثى" كالكلام على داود في إلزامها العبد، وقد تقدم.
__________
(1) قوله:" الفطر " ليس في (هـ).
(2) في (هـ):" العلماء وجوبها على الزوج ".(4/113)
17 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عن عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام: عند المخالف أن من شرطها ملك النصاب ومالك لا يشترط ذلك فمن أخذ بعموم قوله فرض زكاة الفطر على إطلاقه أوجبها على من لا نصاب له، ومن أخذ بقوله - عليه السلام -:" أمرت أن آخذها من أغنيائكم " اشترط النصاب لكون من لا يملكها ليس بغني.
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: وقوله: من المسلمين نص في أنها حكم مختص(1) بهم إنما يلزم المسلمين وتخرج عنهم دون غيرهم من أهل الكفر، وإلى هذا ذهب عامة الفقهاء وأهل الفتوى إذ قيد من تجب عليه بصفة والأصل براءة الذمة. وذهب الكوفيون وإسحاق وبعض السلف: أنها تخرج عن العبيد الكفار، وتأول الطحاوي قوله:"من المسلمين" عائد إلى السادة المخرجين، وهذا لا يقتضيه اللفظ من قوله:" على كل نفس من المسلمين حر أو عبد ".
قال الإمام: وأما القدر(2) المخرج في زكاة الفطر من غير البر مما يجزي فيها فإنه صاع. واختلف إذا كان بُرًا فعندنا: أنه لا يخرج منه أقل من صاع. وقال أبو حنيفة: يجزيه نصف صاع ويحتج بما وقع في بعض الأحاديث من ذلك، وأما الحديث الذي(3) فيه:" كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الحديث.
__________
(1) في (هـ):" مخصوص ".
(2) في (هـ):" الإمام المقدار ".
(3) في (هـ):" الذي وقع ".(4/114)
18 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ يَعْنِي ابْنَ قَيْسٍ، عن عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَكَاةَ الْفِطْرِ، عن كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ النَّاسَ أَنْ قَالَ: إِنِّي أَرَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَمَّا أَنَا فَلا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ أَبَدًا مَا عِشْتُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقد روي على(1) طريقين: فأما التي فيها " أو صاعاً " فليس له تعلق فيها بل ظاهرها حجة عليه ؛ لأن الطعام الذي أفرده باسم الطعام نوع زائد على بقية الأنواع المذكورة في الحديث، وقد قيل: أن العرف عندهم في إطلاق اسم الطعام أن المراد به البُر، وأما الرواية التي ليس فيها " أو " وإنما فيها " صاعاً من طعام وصاعاً من شعير" فقد يصح لهم أن يقولوا إنما عدد بعد لفظ الطعام بدل منه، ومن حجتنا أيضًا منه أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر أشياء من الأطعمة يختلف قيمتها وساوى بين ما يخرج منها فوجب أن لا ينقص من إخراج البر من الصاع وإن كانت قيمته أكثر من قيمة غيره.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" عن ".(4/115)
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -:" صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير" الحديث حجة في أنه لا يجزي من البر أقل من صاع كسائر الأشياء المذكورة في الحديث ؛ لأن إفراده باسم الطعام عن سائر ما سمى معه يدل أنه البر وقد ذكر أبو داود في حديث أبي سعيد " أو صاعاً من حنطة " قال: وليس بمحفوظ وهو قول مالك والشافعي وعامة الفقهاء إلا أهل الكوفة في قولهم: تجزي منه نصف صاع.
وروى عن بعض الصحابة وجماعة من التابعين واحتجوا بأحاديث جاءت في ذلك أنكرها مالك وضعفها أهل الحديث.
وأما الليث فقال: مدان بمد هشام. وللأوزاعي: مدان بمد أهل بلده. ولا خلاف في التمر والشعير أنه لا يجزي منه أقل من صاع وكافتهم أنه لا يجزي من الزبيب أقل من صاع، إلا أبا حنيفة فيجزي عنده نصف صاع.
قال القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه -: وذكر في الأحاديث الطعام الذي فسره العلماء بالبر وذكر الشعير والتمر والزبيب والأقط، ولم يختلف الرواية عندنا في مسلم في قوله: " صاعاً من طعام أو صاعاً في جميعها" واختلف أصحاب الموطأ فيه فبعضهم رواه صاعاً في الثاني وحده.
واختلف في الأنواع التي يخرج منها، ولا خلاف بينهم في جواز إخراجها من البُر والشعير والتمر والزبيب، إلا خلافًا في البر ممن لا يعتد بخلافه فلم يجزه فيه(1). وكذلك لبعض المتأخرين في الزبيب والإجماع سبق هذا الخلاف.
وأما الأقط فأجازه مالك وعامتهم واختلف فيه قول الشافعي وأباه الحسن وقالا: إن لم يكن عند أهل البادية ما يخرجون غيره فليخرجوا صاعاً من لبن ولم ير أشهب أن يخرج إلا من هذه الخمسة المذكورة وقاس مالك في أحد
__________
(1) في (أ):" فيها ".(4/116)
19 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عن مَعْمَرٍ، عن إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِينَا عن كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ حُرٍّ وَمَمْلُوكٍ مِنْ ثَلاثَةِ أَصْنَافٍ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَ مُعَاوِيَةُ، فَرَأَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ بُرٍّ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَمَّا أَنَا فَلا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَذَلِكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوليه على هذه الخمسة المسماة في الحديث جميع ما هو عيش أهل(1) كل بلد من القطاني وغيرها أن يخرجوا منه ومرة أبى من ذلك إلا ما سمي في الحديث وما في الحديث وما في معنى تلك الحبوب مما يقتات غالباً فألحق بالخمسة: الذرة والأرز والدخن والسلت وزاد بعض أصحابنا العلس ولم يجز عامة العلماء إخراج القيم في ذلك وأجازه أبو حنيفة.
وقوله: في حديث أبي سعيد: " كنا نخرج زكاة الفطر ". الحديث مما يلحق بالمسند عند أكثر أهل العلم وهو المروي عن مالك والشافعي وإن ظاهر هذا الكلام إضافته إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما على الرواية الأخرى التي زاد فيها: إذ كان فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو(2) الذي كنت أخرج في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
مما(3) لا يختلف فيه أنه مسند فيما لا يخفى أمره إذ إقرار النبي - عليه السلام - سنة، كقوله وفعله لا سيما في هذه المسألة التي إليه كانت ترفع وعنده كانت تجمع
__________
(1) في (هـ):" عيشا لأهل ".
(2) في (أ):" و ".
(3) في (هـ):" فما ".(4/117)
20 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عن الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، عن عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ ثَلاثَةِ أَصْنَافٍ الأَقِطِ وَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو يأمر بقبضها ودفعها فليس يخفى عليه ما يخرج فيها.
وقول معاوية على المنبر بحضرة الجمّ الغفير من الصحابة وغيرهم: أرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعاً من تمر وخلاف من خالفه في ذلك ولم يذكر هو ولا أحد ممن حضر النص في ذلك عن النبي - عليه السلام - يضعف مذهب رواية الكوفيين. ورواية من نص على نصف الصاع من البر إذ لو كان لم يخف على جميعهم.
فإن قيل: وهل يضعف أيضًا تأويل الطعام على البر إذ لو كان عندهم ذلك معلوماً لاحتج به الحاضرون على معاوية.
قيل: قد احتج به أبو سعيد في الحديث نفسه وهو راويه، وفيه " صاع من طعام " ثم قال آخر الحديث: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه.
وأيضًا فإن معاوية لم يطلق ذلك على كل البر إنما قال: من سمراء الشام فيها من الرَّيع وقد يكون هذا اجتهاداً منه مع معرفته بأصل الحديث المذكور.
وذكر مسلم:في الباب حديث محمد بن رافع عن عبدالرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية أخبرني عياض بن عبدالله بن سعد.
هذا مما استدركه الدارقطني على مسلم فإن سعيد بن مسلمة خالف معمراً فيه عن إسماعيل فرواه عن إسماعيل عن الحارث بن أبي ذباب(1) عن عياض. قال الدارقطني: والحديث محفوظ عن الحارث.
__________
(1) في (هـ):" ذياب ".(4/118)
21 - وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عن ابْنِ عَجْلانَ، عن عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا جَعَلَ نِصْفَ الصَّاعِ مِنَ الْحِنْطَةِ عَدْلَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، أَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُو سَعِيدٍ وَقَالَ: لا أُخْرِجُ فِيهَا إِلا الَّذِي كُنْتُ أُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ.
22 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عن مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عن نَافِعٍ، عن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ.
23 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ، عن نَافِعٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:" أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة" بهذا الحديث أخذ جمهور العلماء مالك وغيره واستحبوه لينتفع بها المساكين ويغنوا عن طواف ذلك اليوم كما جاء في الحديث، وكرهوا تأخيرها عن يوم الفطر، ورخص بعضهم في تأخيرها وقاله: مالك وأحمد بن حنبل وجعله بعض شيوخنا خلافا من قول مالك.(4/119)
24 - وَحَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ يَعْنِي ابْنَ مَيْسَرَةَ الصَّنْعَانِيَّ، عن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ »، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَالإِبِلُ ؟ قَالَ:« وَلا صَاحِبُ إِبِلٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، وَمِنْ حَقِّهَا حَلَبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، لا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلاً وَاحِدًا، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها" إلى قوله: " كلما بردت أعيدت عليه" كذا رواية ابن سعيد عن السجزي، ولكافة الرواة " ردّت " والأول الصواب.
وفي هذا الحديث النص على وجوب الحق وهو الزكاة في الذهب كما(1) في الفضة ولا خلاف في ذلك، وكذلك في الإبل والبقر والغنم ولا خلاف في ذلك أيضًا، إذ العقاب لا يتوجه إلا على ترك الواجب.
قال بعضهم: يحتمل اختصاص ما ذكر من أعضائه من(2) جبينه وجنبه وظهره بالكيّ عقاباً لتقطيبه وجهه في وجه السائل وليه بصفحه وجنبه(3) عنه إعراضه بظهره عنه.
__________
(1) في (هـ):" كما هو ".
(2) في (هـ):" فيه من ".
(3) في (هـ):" وجهه ".(4/120)
قال الإمام: وقوله: " بطح لها بقاع قرقر". أي ألقى على وجهه. والقاع: المستوى الواسع في وطاء من الأرض يعلوه ماء السماء فيمسكه وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ »، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ ؟ قَالَ:« وَلا صَاحِبُ بَقَرٍ وَلا غَنَمٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ لا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلا جَلْحَاءُ وَلا عَضْبَاءُ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلافِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَالْخَيْلُ ؟ قَالَ:« الْخَيْلُ ثَلاثَةٌ: هِيَ لِرَجُلٍ وِزْرٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويستوى نباته ذكره الهروي في قوله تعالى:{قاعاً صفصفاً} وجمعه قيعة(1) وقيعان مثل جار وجيرة وجيران. والقرقر: المستوى أيضًا من الأرض المتسع.
قال الثعالبي: إذا كانت الأرض مستوية مع الاتساع فهو الخبت، والجدد(2) والصحصح(3)، ثم القاع، والقرقر، ثم الصفصف وذكر غير ذلك.
__________
(1) في (ط):" قاعه ".
(2) في (ط) و(هـ):" الجرد ".
(3) في (هـ):" الضحضح ".(4/121)
والجلحاء: التي لا قرن لها. وفي حديث كعب: " ولأدعنك جلحاء أي لا حصن عليك والحصون تشبه بالقرون، ولذلك قيل لها: صياصي فإذا ذهبت الحصون جلحت القرى فصارت بمنزلة البقر التي لا قرون لها. والعقصاء: الملتوية القرنين ورجل عَقِصٌ، فيه: التواء وصعوبة أخلاق. والعضباء: هي التي انكسر قرنها الداخل وهو المشاش وقد يكون العضب في الأذن أيضًا. والعضباء: اسم ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تسم بذلك لأجل شيء بها. والمعضوب: الزمن الذي لا حراك به. والأعضب:[ من ألقاب الزحاف وهو ذهاب إحدى حركتي الوتد منه وذلك في ](1) الوافر خاصة كما سمي الثور الذي ذهب أحد قرنيه أعضب.أنشد الخليل شاهداً على ذلك:
__________
(1) مابين المعكوفين جاء في حاشية نسخ (هـ).(4/122)
وَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ وِزْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا رِيَاءً وَفَخْرًا وَنِوَاءً عَلَى أَهْلِ الإِسْلامِ فَهِيَ لَهُ وِزْرٌ، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا وَلا رِقَابِهَا، فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لأَهْلِ الإِسْلامِ فِي مَرْجٍ وَرَوْضَةٍ، فَمَا أَكَلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ مِنْ شَيْءٍ إِلا كُتِبَ لَهُ عَدَدَ مَا أَكَلَتْ حَسَنَاتٌ، وَكُتِبَ لَهُ عَدَدَ أَرْوَاثِهَا وَأَبْوَالِهَا حَسَنَاتٌ، وَلا تَقْطَعُ طِوَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ، إِلا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ آثَارِهَا وَأَرْوَاثِهَا حَسَنَاتٍ، وَلا مَرَّ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى نَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلا يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَهَا إِلا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ »، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَالْحُمُرُ ؟ قَالَ: مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِي الْحُمُرِ شَيْءٌ إِلا هَذِهِ الآيَةَ الْفَاذَّةُ الْجَامِعَةُ:{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا نزل الشتاء بدار قوم تجنب جار بيتهم الشتاء
وهذا الأعضب يسمى في غير الوافر أخرم وفي الطويل أثلم وليس هذا موضع شرحه.
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: ما ذكره في الأعضب والعضباء هو قول أبي عبيد وغيره. وقال ابن دريد: الأعضب: الذي انكسر أحد قرنيه. وقال أبو زيد: الأعضب: أن ينكسر مشاش قرنه إلى أقصاه.(4/123)
25 - وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّدَفِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي هَذَا الإِسْنَادِ بِمَعْنَى حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ إِلَى آخِرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لا يُؤَدِّي حَقَّهَا وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا حَقَّهَا، وَذَكَرَ فِيهِ:« لا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلاً وَاحِدًا »، وَقَالَ: «يُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ وَجَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه -: ولا يصح كسر المشاش إلا مع أعلاه وقال غير أبي زيد الأعضب: في الأذن والقرن الذي انتهى النصف فما فوقه. وقال الحربي في الحديث: كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة تسمى العضباء لا تُسْبق جاء من رواية مصعب عن مالك كانت القصواء وذكر الحديث وفي حديث آخر: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - على ناقته الجدعاء. وفي آخر: على ناقة خرماء. وفي آخر: مخضرمة. قال أبو إسحاق والعضب، والجدع(1)، والخرم(2)، والقصو، والخضرمة: كله في الأذن. قال ابن الأعرابي:القصو: قطع طرف الأذن والجدع أكثر منه. قال الأصمعي نحوه قال: وكل قطع في الأذن جدع فإذا جاوز الربع فهي عضباء. والمخضرم: المقطوع الأذنين فإذا اصطلمتا فهي صلما. قال أبو إسحاق: ففي الحديث أن العضباء اسمها فإن كانت عضباء الأذن فقد جعل لها أسماء. وقال أبو عبيدة: القصواء: المقطوعة الأذن عرضاً، والمخضرمة:المستأصلة، والعضباء: النصف(3) فما فوقه. وقال الخليل، والخضرمة: قطع الواحدة.
__________
(1) في (هـ):" والجذع ".
(2) في (أ):" الجزم ".
(3) في (هـ):" النصب ".(4/124)
وقوله: " بطح " ألقى على وجهه.كذا قاله غيره من المفسرين وقد جاء في بعض طرق البخاري في الحديث " تخبط وجهه بأخفافها" وهذا يقتضي أن 26 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الأُمَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عن أَبِيهِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إِلا أُحْمِيَ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ وَجَبِينُهُ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، وَمَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلا بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ كَأَوْفَرِ مَا كَانَتْ، تَسْتَنُّ عَلَيْهِ كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولاهَا،حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/125)
ليس من شرط البطح كونه على الوجه، وإنما هو في اللغة بمعنى البسط والمد فقد يكون على الوجه ويكون على الظهر، ومنه سميت بطحاء مكة لانبساطها. جاء في هذا الحديث من رواية زيد بن أسلم عن أبي صالح " كلما مرّ عليه أولاها ردّ عليه أخراها" قالوا وهو تغيير وقلب في الكلام وصوابه ما جاء بعده في الحديث الآخر من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه وما جاء في حديث المعرور بن سويد عن أبي ذر" كلما مرّ عليه أخراها ردّ عليه أولاها" وبه يستقيم الكلام لأنه إنما يرد الأول الذي قد مرّ قبل، وأماّ الآخر فلم يمر بعدُ فلما قال فيه:" ردّ " وجاء في الحديثين الآخرين:" تسير عليه بقوائمها" وعند السمرقندي " تستن عليه"وكذا عند ابن أبي جعفر في أحدهما(1) ولعله تصحيف أو مخرج(2) على معنى تفسير " استنت" في الحديث بعده وفيه:"قعد لها بقاع قرقر" بفتح القاف. وعند ابن عيسى " قعد " بضمها وفتحها هنا هو(3) الصواب وإنما يقال في معداه: أقعد.
وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، وَمَا مِنْ صَاحِبِ غَنَمٍ لا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلا بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ كَأَوْفَرِ مَا كَانَتْ فَتَطَؤُهُ بِأَظْلافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلا جَلْحَاءُ كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولاهَا، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط) و(هـ):" أخرهما ".
(2) في (هـ):" يخرج ".
(3) قوله:" هو " ليس في (ط).(4/126)
وقوله:" أكثر ما كانت " في غيره " أعظم ما كانت " مبالغة في عقابه بكثرتها ومنعتها(1)، وكمال خلقها وقوتها لأنه أثقل لوطئها كما أنها إذا لم تكن غير ذوات القرون جلحا ولا عقصاً كان أنكى وأصوب لطعنها بقرونها ونطحها. وفي هذا الحديث واقتصاره من الحيوان على هذه الأصناف الثلاثة وخبره عن تعذيب صاحبها بها بما وصف حجة أنه لا زكاة في غيرها من الحيوان.
وذكره بعد في الحديث، قالوا: الخيل، قال: " الخيل ثلاثة " وكذلك قوله في الحمر " لم ينزل علي فيها شيء إلا هذه الآية " ولم يذكر فيها زكاة ولا(2) عقوبة صاحبها فترك ذلك كله دليل على أنه لا زكاة إلا في الثلاثة المذكورة أولا، ورد على من زعم أن في الخيل والحمر والعبيد الزكاة.
لم يذكر مسلم أحاديث زكاة المواشي ونصبها وفرائضها ولا شيئًا(3) من كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد خرج البخاري منها حديث كتاب أبي بكر الذي كتبه لأنس وفيه: هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين وذكر فيها فرائض الإبل والغنم، وذكر البخاري أكثره في بعض أبوابه، ثم ذكر آخر فصوله مفرقاً في أبوابه. وخرج مالك حديث كتاب عمر في الصدقة
قَالَ سُهَيْلٌ: فَلا أَدْرِي أَذَكَرَ الْبَقَرَ أَمْ لا. قَالُوا: فَالْخَيْلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: « الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا »، أَوْ قَالَ:« الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا ».
__________
(1) في (ط):" عقابه بسعيها وكثرتها ".
(2) في (هـ):" ولا في ".
(3) في (هـ):" شيء ".(4/127)
قَالَ سُهَيْلٌ: أَنَا أَشُكُّ:« الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، الْخَيْلُ ثَلاثَةٌ: فَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيُعِدُّهَا لَهُ، فَلا تُغَيِّبُ شَيْئًا فِي بُطُونِهَا إِلا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرًا، وَلَوْ رَعَاهَا فِي مَرْجٍ مَا أَكَلَتْ مِنْ شَيْءٍ إِلا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا أَجْرًا، وَلَوْ سَقَاهَا مِنْ نَهْرٍ كَانَ لَهُ بِكُلِّ قَطْرَةٍ تُغَيِّبُهَا فِي بُطُونِهَا أَجْرٌ ». حَتَّى ذَكَرَ الأَجْرَ فِي أَبْوَالِهَا وَأَرْوَاثِهَا،« وَلَوِ اسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ تَخْطُوهَا أَجْرٌ، وَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا تَكَرُّمًا وَتَجَمُّلاً، وَلا يَنْسَى حَقَّ ظُهُورِهَا وَبُطُونِهَا فِي عُسْرِهَا وَيُسْرِهَا، وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ وِزْرٌ فَالَّذِي يَتَّخِذُهَا أَشَرًا وَبَطَرًا وَبَذَخًا وَرِيَاءَ النَّاسِ، فَذَاكَ الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ وِزْرٌ »، قَالُوا: فَالْحُمُرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:« مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا شَيْئًا إِلا هَذِهِ الآيَةَ الْجَامِعَةَ الْفَاذَّةَ:{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/128)
وهو بمعنى كتاب أبي بكر لكنه لم يذكر فيه ذكر(1) النبي - عليه السلام -، وخرج مالك أيضًا حديث معاذ في صدقة البقر، ولم يخرج هذين الحديثين البخاري، وخرج جميعها أصحاب المصنفات مع حديث كتاب عمرو بن حزم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل كتاب عمر وأبي بكر وحديث علي [عن النبي - عليه السلام - ](2) في الإبل والبقر والغنم وغير ذلك، وحديث عبدالله بن مسعود وعبدالله بن عباس في البقر ولم يخرج مسلم شيئا من ذلك.
وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ ابْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ، عن سُهَيْلٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ.
وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ ابْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ بَدَلَ:« عَقْصَاءُ» « عَضْبَاءُ »، وَقَالَ:« فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَظَهْرُهُ »، وَلَمْ يَذْكُر:« جَبِينُهُ ». وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ، عن ذَكْوَانَ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ:« إِذَا لَمْ يُؤَدِّ الْمَرْءُ حَقَّ اللَّهِ أَوِ الصَّدَقَةَ فِي إِبِلِهِ...»، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ سُهَيْلٍ، عن أَبِيهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" ذكر كتاب ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).(4/129)
فأما حديث كتاب عمر فلم يخرجاه ؛ إذ(1) لم يأت فيه من طريق مالك ذكر النبي - عليه السلام -، وإنما جاء من قول عمر. وقد ذكر أبو داود والترمذي والدارقطني وغيرهم أنه كان كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كتبه في الصدقة، وفي بعضها: وأنه كان عند أبي بكر فعمل به حتى قبض ثم عمل به عمر.
وأما حديث أبي بكر فلم يخرجه أيضًا مسلم لوقف بعضهم إياه على أبي بكر من قوله ولم يذكر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في كتاب عمر ؛ ولأن بعضهم رواه عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلهذا الاضطراب تركه.
وأما حديث معاذ(2) في البقر فلم يخرجاه للاختلاف في إسناده وإرساله وكذلك غيرها من الأحاديث وعلى كل حال فقد اعتمد مالك رحمه الله والعلماء والخلفاء قبلهم كافة على كتاب عمر بن الخطاب لموافقة أكثره كتاب
__________
(1) في (ط):" إذا ".
(2) في (ط):" معاوية ".(4/130)
27 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ. ح، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ ابْنُ رَافِعٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لا يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إِلا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قَطُّ، وَقَعَدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، تَسْتَنُّ عَلَيْهِ بِقَوَائِمِهَا وَأَخْفَافِهَا، وَلا صَاحِبِ بَقَرٍ لا يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إِلا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ، وَقَعَدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِقَوَائِمِهَا، وَلا صَاحِبِ غَنَمٍ لا يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إِلا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ، وَقَعَدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَنْطَحُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبي بكر وعمرو بن حزم ولأنه الذي خرج به عماله وعملوا به طول مدته ونفس حياته فلم يؤثر عن أحد من الصحابة إنكار لما فيه وهو الذي طلبه عمر بن عبدالعزيز من آل عمر مع الكتاب الذي كان عند آل حزم وهذا يدل على أن الذي كان [ عند عمر هو الذي كان](1) عند أبي بكر ؛ إذ لو كان عندهم سواء لطلبه من آله، وقد يحتمل أن مسلماً لم يخرج حديث أبي بكر لأنه كتاب.
وقد اختلف أرباب الأصول والحديث في التحدث عن الكتاب والعمل به والصحيح صحة الحديث والعمل به وقد كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عماله وأمرائه وكسرى وقيصر والملوك فكانت حجة لهم وعليهم.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (هـ).(4/131)
ولا خلاف بين المسلمين في وجوب الزكاة على الجملة في الإبل والبقر والغنم وأنه لا زكاة في أقل من خمس من الإبل وأن في خمس شاة على ما جاء في كتاب عمر(1) في النصب والفرائض إلى مائة وعشرين. ثم اختلفوا في مائة وعشرين هل فرض الحقتين قبلها باق أو يتغير الفرض بثلاث بنات لبون أو يخير
بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلافِهَا لَيْسَ فِيهَا جَمَّاءُ وَلا مُنْكَسِرٌ قَرْنُهَا، وَلا صَاحِبِ كَنْزٍ لا يَفْعَلُ فِيهِ حَقَّهُ إِلا جَاءَ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَتْبَعُهُ فَاتِحًا فَاهُ، فَإِذَا أَتَاهُ فَرَّ مِنْهُ فَيُنَادِيهِ: خُذْ كَنْزَكَ الَّذِي خَبَأْتَهُ، فَأَنَا عَنْهُ غَنِيٌّ، فَإِذَا رَأَى أَنْ لا بُدَّ مِنْهُ سَلَكَ يَدَهُ فِي فِيهِ، فَيَقْضَمُهَا قَضْمَ الْفَحْلِ ».
قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ، ثُمَّ سَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عن ذَلِكَ، فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ.
و قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا حَقُّ الإِبِلِ ؟ قَالَ:« حَلَبُهَا عَلَى الْمَاءِ، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا، وَإِعَارَةُ فَحْلِهَا وَمَنِيحَتُهَا، وَحَمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الساعي في الوجهين ؟ وكل ذلك مروي عن مالك.
__________
(1) في (هـ):" عمرو ".(4/132)
وقال أبو حنيفة: ينتقل الحكم بعد عشرين ومائة ويستأنف ابتداء فإذا كانت خمسة وعشرين زيد على الحقتين شاة وللثلاثين شاتان، وهكذا شاة لكل خمس إلى خمس وأربعين فترجع مع الحقتين بنت مخاض، فإذا بلغت خمسين فثلاث حقاق، ثم إذا زادت استأنف الفرض من أوله، فإن كثرت ففي كل خمسين حقة، وفي كل ستين جذعة وهو قول الثوري، وجمهور الفقهاء على خلافه وأنها إذا بلغت ثلاثين ومائة ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون ولا مدخل(1) للشاة في ذلك على نص ما جاء في حديث الزكاة الذي عمل به الخلفاء والمسلمون، وكذلك اتفقوا أن في ثلاثين من البقر تبيعاً وفي أربعين مسنة إلا ما روي عن سعيد بن المسيب، وبعضهم يرى أن حكمها قبل الثلاثين حكم الإبل في كل خمسين(2) شاة من الغنم وهو شاذ.
__________
(1) في (هـ):" تدخل ".
(2) في (هـ):" خمس ".(4/133)
28 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عن أَبِي الزُّبَيْرِ، عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ وَلا بَقَرٍ وَلا غَنَمٍ لا يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلا أُقْعِدَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَطَؤُهُ ذَاتُ الظِّلْفِ بِظِلْفِهَا، وَتَنْطَحُهُ ذَاتُ الْقَرْنِ بِقَرْنِهَا، لَيْسَ فِيهَا يَوْمَئِذٍ جَمَّاءُ وَلا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ »، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَمَا حَقُّهَا ؟ قَالَ:« إِطْرَاقُ فَحْلِهَا، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا وَمَنِيحَتُهَا، وَحَلَبُهَا عَلَى الْمَاءِ، وَحَمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا مِنْ صَاحِبِ مَالٍ لا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إِلا تَحَوَّلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ، يَتْبَعُ صَاحِبَهُ حَيْثُمَا ذَهَبَ، وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ، وَيُقَالُ: هَذَا مَالُكَ الَّذِي كُنْتَ تَبْخَلُ بِهِ، فَإِذَا رَأَى أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فِيهِ، فَجَعَلَ يَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختلفوا فيما بعد الأربعين فكافتهم أنه لا شيء فيها إلى ستين ففيها(1) تبيعان، ثم إذا زادت ففي كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة، وشذ أبوحنيفة هنا أيضًا في أشهر قوليه فقال: ما زاد على الأربعين فبحسابها لكل خمس ثمن مسنة ولكل عشر ربع مسنة واتفقوا أن في سائمة الغنم الزكاة على ما جاء في نصبها في الحديث.
واختلفوا في غير السائمة من العوامل والمعلوفة، فمالك والليث يريان فيها الزكاة وكافتهم لا يرون فيها الزكاة وداود لا يرى ذلك في غير سائمة الغنم خاصة ويوافقنا في غيرها لأنها في كتاب الصدقة بالذكر وحجتنا عموم الحديث.
__________
(1) قوله:" ففيها " ليس في (أ).(4/134)
29 - حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هِلالٍ الْعَبْسِيُّ، عن جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُصَدِّقِينَ يَأْتُونَنَا فَيَظْلِمُونَنَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ ».
قَالَ جَرِيرٌ: مَا صَدَرَ عَنِّي مُصَدِّقٌ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلا، وَهُوَ عَنِّي رَاضٍ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ ابْنُ سُلَيْمَانَ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ. ح، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ، كُلُّهُمْ عن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:" ما من صاحب إبل وما من(1) صاحب بقر وما من صاحب غنم " وعموم غيره من الأحاديث في ذلك دون تفصيل إلا قوله في سائمة الغنم الزكاة وهي حجتهم والاحتجاج بهذا من باب [ دليل الخطاب وهو مختلف في الحجة به عند أهل الأصول، وتأول شيوخنا](2) تخصيص السائمة هنا إذ هي الغالب من المواشي ولا سيما الغنم وبأنها عند اللغويين وصف لكل ماشية رعت أو لم ترع كما يقال: ناطق لكل آدمي وإن كان أبكم أو طفلاً لم يبلغ ذلك لعموم هذا الوصف في جنسه وتكون " من " عندنا هنا للبيان لا للتبعيض وحديث " ليس في العوامل صدقة" ليس بالقوي ولم يخرجه أهل الصحة وبعض طرقه مرسل وبعضها لين الرواية.
__________
(1) قوله:" من " ليس في (هـ).
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).(4/135)
وقوله:" تطؤه بأظلافها " الظلف: للغنم والبقر والظبا. وهو ما هو منشق من القوائم وكذلك جاء في الحديث في الغنم، وجاء في الإبل " بأخفافها ". والخف للبعير كالظلف للشاة والبقرة.
وجاء في الحديث الآخر " ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلاّ جاءت يوم القيامة "[ ثم قال ](1)" تنطحه بقرونها وتطؤها بأظلافها " فجمع في هذا الحديث الأظلاف لما جمعها في اللفظ وعند الطبري هنا " بأخفافها " فعلى كلتا(2) الروايتين غلب أحد النوعين على الآخر كما قال، أو خص(3) ذوات الظلف والخف وكما قال: تنطحه بقرونها، والإبل لا قرون لها وأراد غيرها ممن ذكر معها من البقر والغنم، وأما ما ليس بمشقوق فهو الحافر وهو(4) للخيل(5) والبغال والحمير.
وقوله: " الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ". جاء تفسير هذا الحديث في الحديث الآخر: " الأجر والغنيمة "؛ فيه: دليل على بقاء الجهاد وبقاء الإسلام إلى يوم القيامة. وفيه: الترغيب في الجهاد والحض عليه.
وقوله: " الخيل ثلاثة " الحديث.
قال الإمام: تعلق أبو حنيفة في إيجاب الزكاة في الخيل بقوله في الحديث: "ولم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها ". فنقول: يصح أن يحمل ذلك على غير الزكاة، وقد قيل: يحتمل أن يكون المراد بذلك الحمل عليها في سبيل الله وقد يقع ذلك على حالة يتعين على مالكها ذلك فيها مع أن أبا حنيفة خالف إطلاق هذا الحديث وظاهره ؛ لأنه(6) لا يوجب أخذ الزكاة من عين الخيل بل يقول إن ربها مخير بين أن يؤدي ديناراً على كل رأس منها أو يقومها ويخرج ربع عشر القيمة ولا تجب الزكاة عنده إلا في الإناث [أو في الإناث](7) مع الذكور، وإما إن كان في ملكه الذكور منها خاصة فلا زكاة عليه فيها.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) في (ط):" كلتي ".
(3) في (أ):" يخص ".
(4) قوله:" وهو " ليس في (هـ).
(5) في (ط):" الخيل ".
(6) في (أ):" أنه ".
(7) مابين المعكوفين ليس في (أ).(4/136)
وأما قوله - عليه السلام - في الحديث " والذي يتخذها أشراً " فإن ابن عرفة قال: إذا قيل فعل ذلك أشراً وبطراً فالمعنى: لج في البطر، " أب(1) أشر " أي: لجوج في البطر والبطر والبطر: الطغيان عند الحق والأشر أيضًا: سوء احتمال الغنى والمرح: التكبر قال القتبي: الأشر المرح المتكبر.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - " ونواء لأهل الإسلام " أي معاداة لهم يقال: ناوأته نواء(2) ومناواة [إذا عاديته](3) وأصله أنه: ناء إليك ونؤت إليه أي نهضت(4) ومعنى " استنت " جرت، قال أبو عبيدة: الاستنان: أن يحضر الفرس وليس عليه فارس قال غيره: ويستن في طوله أي(5) يمرح فيه من النشاط ويقال منه فرس سنين والطوال(6): الحبل. قال ابن السكيت: لا يقال إلا بالواو.
قال القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه -: رويناه في الموطأ " طيلها " بالياء وكذا قاله ثابت بالياء وحكاه بالواو أيضًا.
وقوله: " شرفا أو شرفين".
قال الإمام: الشرف: ما يعلو من الأرض. وقال بعضهم: الشرف الطلق. فكأنه يقول: جرت طلقا أو طلقين.
__________
(1) في (أ):" ابن ".
(2) في (هـ):" نواءا ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(4) في (هـ):" نهضت إليه ".
(5) في (هـ):" أي ما ".
(6) في (أ) و(هـ):" الطول ".(4/137)
32 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عن الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عن أَبِي ذَرٍّ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ:« هُمُ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ »، قَالَ: فَجِئْتُ حَتَّى جَلَسْتُ فَلَمْ أَتَقَارَّ أَنْ قُمْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي مَنْ هُمْ ؟ قَالَ:« هُمُ الأَكْثَرُونَ أَمْوَالاً، إِلا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ وَلا بَقَرٍ وَلا غَنَمٍ لا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنَهُ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤُهُ بِأَظْلافِهَا، كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولاهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه -: وقوله: " ربطها في سبيل الله(1)" أي أعدها وأصله من الربط ومنه الرباط وهو حبس الرجل نفسه وإعداده الأهبة، والعدة في الثغور وتجاه العدو. قال أبو زيد: الرباط من الخيل الخمس فما فوقها. وقال ثابت: الاستنان أن تلج في عدوها ذاهبة وراجعة وحق الله في رقابها وظهورها الصدقة مما يكتسب عليها وخص الرقاب ؛ لأنها(2) موضع وضع اليد من الماسك والراكب، وقيل: إن الاستنان هو الجري إلى فوق.
وقوله: " وبذخا" هو بمعنى بطراً وأشراً المذكورين قبله.
__________
(1) لفظ الجلالة ليس في (هـ).
(2) في (أ) و(هـ):" لأنه ".(4/138)
وقوله: في الحُمر: "لم ينزل عليّ فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة" أي العامة وهذه حجة للقائلين بالعموم وأن لفظة" شيء(1)" من صيغ العموم.
وَحَدَّثَنَاه أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن الأَعْمَشِ، عن الْمَعْرُورِ، عن أَبِي ذَرٍّ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ. فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ وَكِيعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:« وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا عَلَى الأَرْضِ رَجُلٌ يَمُوتُ فَيَدَعُ إِبِلاً أَوْ بَقَرًا أَوْ غَنَمًا لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " الفاذة " أي القليلة المثل وأشار - عليه السلام - أنه لم تفسر له فيها ما فسر في الخيل لكن هي وإن لم تتصرف تصرف الخيل فقد تستعمل في سبل البر والاكتساب ومعونة العدو.
وقوله: " ولم ينس حق الله في رقابها وظهورها".
قال الإمام: قيل إن المراد بالرقاب هاهنا الإحسان إليها. وقيل: يحمل عليها ويبتلّ عطيتها(2)، والمراد بالظهور، وقيل: يحمل عليها ثم تعود إليه. وقيل: ينزيها بغير عوض.
وقوله: قلنا يا رسول الله وما حقها؟ قال - عليه السلام -: " إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنيحتها وحلبها على الماء ".
قال الإمام: يحتمل أن يكون هذا الحق في موضع تتعين فيه المواساة، وقيل: معنى قوله: حلبها على الماء أن يقربها للمصدق وييسر ذلك عليه بإحضارها على الماء حتى يسهل عليه تناول أخذ الزكاة منها.
والمنحة عند العرب على معنيين. أحدهما: أن يعطى الرجل صاحبه صلة فتكون له، والأخرى: أن يمنحه ناقة أو شاة فينتفع بلبنها ووبرها زمانا ثم يردها وهو تأويل قوله في بعض الأحاديث" المنحة مردودة ". والمنحة: تكون في الأرض يمنحها الرجل أخاه ليزرعها ومنه الحديث: " من كانت له أرض
__________
(1) في (أ) و(ط):" من ".
(2) في (أ):" عطشها ".(4/139)
فليزرعها أو يمنحها أخاه" قال ابن حنبل: ومنحة الوَرِق هو: القرض.قال
الفراء: يقال منحته أمنَحه وأمنِحه. قال ابن دريد: أصل المنحة أن يعطي الرجل رجلاً ناقة فيشرب لبنها أو شاة ثم صارت كل عطية منحة قال غيره: ومنيحة اللبن أن يجعلها الرجل لآخر سنة.
قال الإمام: جعل أبو عبيدة وابن دريد زمانها غير محدود، وفي حديث أم زرع " آكل فأتمنح " أي أطعم غيري.
قال القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه -: قوله " حلبها يوم وردها " وفي الحديث الآخر " حلبها على الماء" هو عندنا مضبوط عن شيوخنا في الأم(1) بسكون اللام على المصدر والأصل فيما كان على فعل يفعل السكون قالوا: وقد جاء أحلب حلبا لك شطره بالفتح، قال الفارسي: وقد يكون الحلب اسم المحلوب وقال الفراء: كلما كان معدى من الثلاثية فالفعل والفعول جائزان في مصدره وأما اسم اللبن فبالفتح(2) لا غير(3)، وليس هذا موضعه.
وما في كتاب مسلم من قول النبي عليه الصلاة والسلام في تفسير حقها إذ سئل عن ذلك فقال: " إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنحتها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله " يبين أنه(4) في غير الزكاة ويفسر معنى ألفاظ الحديث وجاء في حديث آخر: " لا يؤدي زكاتها " ذكرها كلها مسلم.
وقول أبي هريرة " حق الإبل أن تنحر السمينة وتمنح الغزيرة ويفقر الظهر ويطرق الفحل ويسقى اللبن يبين معنى مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بحق الظهر والمنحة.
قيل: ولعل هذا كان قبل فرض الزكاة.
__________
(1) قوله:" في الأم " ليس في (هـ).
(2) في (ط):" فالفتح ".
(3) قوله:" لا غير " ليس في (أ).
(4) في (ط):" أنها ".(4/140)
31 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلامٍ الْجُمَحِيُّ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ، عن مُحَمَّدِ ابْنِ زِيَادٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا تَأْتِي عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلا دِينَارٌ أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ عَلَيَّ ».
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد اختلف السلف في معنى قوله تعالى: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} هل المراد به الزكاة ؟ وهو قول الجمهور، وأنه لا حق في المال يجب سواها وما جاء من غير ذلك فعلى سبيل الندب وكرم الأخلاق ولأن(1) الآية خبر(2) عن وصف قوم أثنى عليهم بخصال كريمة فيهم فليس يقتضي الوجوب كما لا يقتضي قوله فيها:{ كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون }.
وقال بعضهم: هي منسوخة بالزكاة، وإن كان لفظه خبرا ففي معناه الأمر وذهب جماعة منهم الشعبي والحسن وعطاء وطاوس ومسروق وغيرهم أنها محكمة وأن في المال حقوقاً سوى الزكاة من فك العاني وإطعام المضطر، والمواساة في العسرة وصلة القرابة.
وقال القاضي إسماعيل: قد تحدث أمور لا يجد لها وقت فتجب فيها المواساة للضرورة نحو قولهم.
وقوله " ولا صاحب كنز لا يؤدي حقها " قال الطبري: الكنز كل شيء مجموع بعضه على بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها. زاد صاحب العين وغيره: وكان مخزوناً وقال ابن دريد: الكنز كل شيء غمرته بيدك أو
__________
(1) في (أ):" وأن ".
(2) قوله:" خبر " ليس في (ط).(4/141)
32 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، كُلُّهُمْ عن أَبِي مُعَاوِيَةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن الأَعْمَشِ، عن زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عن أَبِي ذَرٍّ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَرَّةِ الْمَدِينَةِ عِشَاءً، وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَى أُحُدٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« يَا أَبَا ذَرٍّ !»، قَالَ: قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ أُحُدًا ذَاكَ عِنْدِي ذَهَبٌ أَمْسَى ثَالِثَةً عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلا دِينَارًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إِلا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا - حَثَا بَيْنَ يَدَيْهِ -، وَهَكَذَا - عن يَمِينِهِ -، وَهَكَذَا عن شِمَالِهِ -»، قَالَ: ثُمَّ مَشَيْنَا، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ ! قَالَ: قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ:« إِنَّ الأَكْثَرِينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا »، مِثْلَ مَا صَنَعَ فِي الْمَرَّةِ الأُولَى، قَالَ: ثُمَّ مَشَيْنَا، قَالَ:« يَا أَبَا ذَرٍّ! كَمَا أَنْتَ حَتَّى آتِيَكَ »، قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى تَوَارَى عَنِّي، قَالَ: سَمِعْتُ لَغَطًا وَسَمِعْتُ صَوْتًا، قَالَ: فَقُلْتُ: لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عُرِضَ لَهُ، قَالَ: فَهَمَمْتُ أَنْ أَتَّبِعَهُ، قَالَ: ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ:« لا تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ »، قَالَ: فَانْتَظَرْتُهُ فَلَمَّا جَاءَ ذَكَرْتُ لَهُ الَّذِي سَمِعْتُ، قَالَ: فَقَالَ:« ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ »، قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قَالَ:«(4/142)
وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رجلك في وعاء أو أرض واختلف السلف في معنى الكنز المذكور في القرآن والحديث.
فقال أكثرهم: هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤدّ وما أخرجت زكاته فليس بكنز وقال آخرون: نسخ ذلك الزكاة وقيل: المراد بالآية: أهل الكتاب المذكورون قبل ذلك.
وقال آخرون: كل ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز وإن أديت زكاته وقيل هو ما فضل عن الحاجة. وقيل: لعل هذا كان في مدة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأول الإسلام وضيق الحال، واتفق أئمة الفتوى على القول الأول وهو الصحيح لأنه جاء في رواية " ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته" وذكر عقابه فقد جاء مفسراً، وفي الحديث الآخر" إذا لم يؤدّ المرء حق الله أو الصدقة في(1) إبله" وذكر الحديث، وفي الحديث الآخر: " من كان عنده مال لم يؤدّ زكاته مُثل له شجاعاً أقرع" وفي آخره:" فيقول: أنا كنزك " الحديث.
قال الإمام: وقوله: " شجاعاً أقرع". الشجاع: الحية الذكر، ومنه قول الشاعر: والشجاع الشجعما.
قال اللحياني يقال: للحية شجاع وشجاع(2) وثلاثة أشجعة ثم شجعان. ويقال للحية أيضًا أشجع(3)، والأقرع من الحيات الذي تمعط رأسه لكثرة سمه ومن الناس الذي لا شعر على رأسه لذاته.
قال القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه -: قيل الشجاع من الحيات التي تواثب الفارس والراجل ويقوم على ذنبه وربما بلغ رأس الفارس يكون في الصحاري وقيل: هو الثعبان، والأقرع قيل: الأبيض الرأس من كثرة السم، وقيل: نوع من الحيات أقبحها منظراً.
__________
(1) في (أ):" من ".
(2) في (ط):" سجاع ".
(3) في (هـ):" شجاع أشجع ".(4/143)
وقوله: " مثل له شجاعاً أقرع" ظاهره أن الله خلق هذا الشجاع لعذابه ومعنى " مثل" على هذا أي: أظهر ونصب ومثله " من سره أن يمثل(1) له الرجال قياماً " أي ينتصبون وقد يكون " مثل" بمعنى: صيّر. أي صير ماله وخلق على صورة الشجاع ومنه الحديث " أشد الناس عذاباً الممثلون " أي المصورون [ويدل عليه قوله في الرواية الأخرى(2): " إلا تحول يوم القيامة " وفي الأخرى" إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعاً " ](3).
وقيل: خص الشجاع بذلك لشدة عداوة الحيات لبني آدم ولما تقدم في خبر الحية مع آدم - عليه السلام - وزاد في صفته في غير مسلم " له زبيبتان " الزبيبتان(4): في جانبي فمه من السم ويكون مثلها في شدقي الإنسان عند كثرة الكلام وقيل نكتتان على عينيه، وما هو بهذه الصفة من الحيات أشد أذى. وقال الداودي: وقيل: هما نابان يخرجان من فيه.
قوله: " سلك يده في فيه" أي أدخلها قال الله تعالى:{ما سلككم في سقر}.
وقوله:" فيقضمها قضم الفحل" أي يأكلها يقال: قضمت الدابة شعيرها بالكسر تقضمه والقضم بأطراف الأسنان.
وأمره - عليه السلام - بإرضاء المصدقين وإن ظلموا. فيه: مداراة الأمراء وترك الخروج عليهم ومدافعتهم بالتي هي أحسن، وفيه بالجملة المداراة لجميع المسلمين ومرضاتهم فيما لا يضر بالدين ومصانعة الرجل بماله ودنياه على صلاح حاله.
__________
(1) في (هـ):" يتمثل ".
(2) في (هـ):" في الحديث الآخر ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(4) قوله:" الزبيبتان " ليس في (أ).(4/144)
وقوله: في حديث الأحنف عن أبي ذر: "إذ جاء رجل أخشن الثياب أخشن الجسد أخشن الوجه". كذا لهم بالخاء والشين المعجمتين من الخشونة 33- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عن عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ ابْنُ رُفَيْعٍ، عن زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عن أَبِي ذَرٍّ قَالَ: خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْشِي وَحْدَهُ لَيْسَ مَعَهُ إِنْسَانٌ، قَالَ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ أَحَدٌ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي ظِلِّ الْقَمَرِ، فَالْتَفَتَ فَرَآنِي، فَقَالَ: « مَنْ هَذَا ؟» فَقُلْتُ: أَبُو ذَرٍّ ! جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ:« يَا أَبَا ذَرٍّ ! تَعَالَهْ »، قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً، فَقَالَ:« إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمُ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلا مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ خَيْرًا فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ، وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا »، قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً، فَقَالَ:« اجْلِسْ هَا هُنَا »،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلا عند ابن الحذاء في الآخر" حسن الوجه" من الحسن(1). وقد رواه القابسي في البخاري " حسن الشعر والثياب والهيئة" من الحسن. ولغيره "خشن(2)" من الخشونة وهو أصوب.
وقوله: "فقام عليهم" أي وقف.
وقوله: " على حلقة فيها ملأ من قريش" أي جماعة أو(3) أشراف، والملأ: مقصور مهموز الجماعة، والملأ أيضًا الأشراف.
وقوله: " بشر الكانزين برضف [يحمى عليه(4) في نار جهنم](5) فيوضع على حلمة ثدي(6) أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه.
__________
(1) قوله:" من الحسن " ليس في (ط).
(2) قوله:" خشن " ليس في (أ).
(3) في (هـ):" و ".
(4) في (هـ):" برضف عليهم ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(6) في (هـ):" ثديي ".(4/145)
ويروى " الكنازين" بالنون فيهما ووقع عند الهروي(1) "الكاثرين" بالثاء المثلثة، وأراه تغييراً إذ إنما يقال للكثير المال: مكثر، وأما ا لكاثر فبمعنى الكثير يقال: عدد(2) كثير وكاثر وكثار، ومنه قوله: فإنما العزة للكاثر أي للعدد الكثير، " والرضف ": الحجارة المحماة.
قَالَ: فَأَجْلَسَنِي فِي قَاعٍ حَوْلَهُ حِجَارَةٌ، فَقَالَ لِي:« اجْلِسْ هَا هُنَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ »، قَالَ: فَانْطَلَقَ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى لا أَرَاهُ، فَلَبِثَ عَنِّي فَأَطَالَ اللَّبْثَ، ثُمَّ إِنِّي سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ، وَهُوَ يَقُولُ:« وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى »، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ لَمْ أَصْبِرْ،، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، مَنْ تُكَلِّمُ فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ، مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرْجِعُ إِلَيْكَ شَيْئًا، قَالَ:« ذَاكَ جِبْرِيلُ عَرَضَ لِي فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ، فَقَالَ: بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ ! وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى ؟ قَالَ: نَعَمْ »، قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى، قَالَ:« نَعَمْ »، قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" الهوزني ".
(2) قوله:" عدد" ليس في (ط)، وفي (هـ):" يقال هو ".(4/146)
وقوله: " يتزلزل " بزايين معجمتين، أي يتحرك قيل: من نضج ذلك كأنه ذهب إلى أن ما نضج من لحمه تهرأ والصواب أن الحركة والتزلزل المذكور إنما هو للرضف أي أنه يتحرك ويتزلزل(1) من نغض كتفه(2) حتى يخرج من حلمة ثديه(3) كما جاء في الحديث "وحلمه الثدي" رأسه بفتح اللام " ونغض الكتف" بضم النون(4).
قال الإمام: هو العظم الرقيق الذي على طرفها وهو(5) الناغض فرع الكتف، قيل له: ناغض لتحركه ومنه قيل للظليم: نغض(6) لأنه يحرك رأسه إذا عدا.
قال القاضي: قال المهلب في هذا الحديث وجوب إخراج الزكاة عند محلها والتحذير من تأخيرها وتأول أن قوله في الحديث: " أترى أُحداً فنظرت ما عليّ من الشمس" أنه تمثيل لتعجيل الزكاة يريد ما أحب أن أحبس(7) ما أوجب الله عليّ بقدر ما بقي من النهار.
__________
(1) في (أ) و(هـ):" يتزيل ".
(2) في (ط):" كتفيه ".
(3) في (هـ):" ثدييه ".
(4) قوله:" النون " ليس في (هـ).
(5) قوله:" هو " ليس في (هـ).
(6) في (أ) و(هـ):" ناغض ".
(7) في (ط):" احتبس ".(4/147)
34 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عن الْجُرَيْرِيِّ، عن أَبِي الْعَلاءِ، عن الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَبَيْنَا أَنَا فِي حَلْقَةٍ فِيهَا مَلاٌ مِنْ قُرَيْشٍ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ أَخْشَنُ الثِّيَابِ أَخْشَنُ الْجَسَدِ، أَخْشَنُ الْوَجْهِ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفَيْهِ، وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيَيْهِ، يَتَزَلْزَلُ، قَالَ: فَوَضَعَ الْقَوْمُ رُءُوسَهُمْ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ رَجَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا، قَالَ: فَأَدْبَرَ، وَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ، فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ هَؤُلاءِ إِلا كَرِهُوا مَا قُلْتَ لَهُمْ، قَالَ: إِنَّ هَؤُلاءِ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا، إِنَّ خَلِيلِي أَبَا الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - دَعَانِي فَأَجَبْتُهُ، فَقَالَ: «أَتَرَى أُحُدًا ؟»، فَنَظَرْتُ مَا عَلَيَّ مِنَ الشَّمْسِ، وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ يَبْعَثُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ، فَقُلْتُ: أَرَاهُ، فَقَالَ:« مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي مِثْلَهُ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلا ثَلاثَةَ دَنَانِيرَ »، ثُمَّ هَؤُلاءِ يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا، لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا. قَالَ: قُلْتُ: مَا لَكَ وَلإِخْوَتِكَ مِنْ قُرَيْشٍ، لا تَعْتَرِيهِمْ وَتُصِيبُ مِنْهُمْ، قَالَ: لا وَرَبِّكَ ! لا أَسْأَلُهُمْ عن دُنْيَا، وَلا أَسْتَفْتِيهِمْ عن دِينٍ حَتَّى أَلْحَقَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/148)
قال القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه -: وهذا بعيد في التأويل ؛ لأن معنى ذلك في الحديث مبين ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قال له: " أترى أحداً قال: فنظرت ما علي من الشمس". في غير مسلم " ما بقي من النهار" وأنا أظن أنه يبعثني في حاجة فقلت: أراه. فقال: " ما يسرني أن لي مثله ذهباً" فقد بين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أراد أن ينبهه على عظم جبل أحد، ووقع له هو قبل بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - له أنه أراد
35 - وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَشْهَبِ، حَدَّثَنَا خُلَيْدٌ الْعَصَرِيُّ، عن الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كُنْتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَمَرَّ أَبُو ذَرٍّ وَهُوَ يَقُولُ: بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِكَيٍّ فِي ظُهُورِهِمْ يَخْرُجُ مِنْ جُنُوبِهِمْ، وَبِكَيٍّ مِنْ قِبَلِ أَقْفَائِهِمْ يَخْرُجُ مِنْ جِبَاهِهِمْ، قَالَ: ثُمَّ تَنَحَّى فَقَعَدَ، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: مَا شَيْءٌ سَمِعْتُكَ تَقُولُ قُبَيْلُ، قَالَ: مَا قُلْتُ: إِلا شَيْئًا قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّهِمْ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: قُلْتُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الْعَطَاءِ ؟ قَالَ: خُذْهُ، فَإِنَّ فِيهِ الْيَوْمَ مَعُونَةً، فَإِذَا كَانَ ثَمَنًا لِدِينِكَ فَدَعْهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن ينظر الشمس عليه ليعلم ما بقي من النهار ليوجهه في حاجة ولم يكن ذلك مذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - بل بين له مراده في معرفة عظم الجبل وأنه لا يسره أن يكون له مثله ذهباً ينفقه كله إلاّ ثلاثة دراهم، وفي حديث آخر" إلاّ دينار أرصده لديني" ومعنى أرصده: أي أعده وأترقب به أداء ديني.(4/149)
وقد يحتج بهذا الحديث من يقول بتفضيل الفقر على الغنى. وكان مذهب أبي ذر أن الكنز كل مال فضل عن حاجة الإنسان وهو ظاهر احتجاجه بهذا الحديث وعنه خلافه. والصحيح عنه أن إنكاره على هؤلاء اكتنازهم ما أخذه السلاطين لأنفسهم من بيت المال ولم ينفقوه في وجوهه.
وقوله: " فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي وحده فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد فجعلت أمشي في ظل القمر". فيه: حسن الأدب مع الكبراء. وفيه: أن الإنسان إذا كان منفرداً لا يجب أن يتصور(1) عليه ويلازم أو يجالس معه إلا بإذنه مالم يكن في موضع المجامع والمساجد والأسواق وشبهها.
36 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ قَالا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عن أَبِي الزِّنَادِ، عن الأَعْرَجِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ ! أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ، وَقَالَ: يَمِينُ اللَّهِ مَلآَى - وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: مَلآنُ: سَحَّاءُ -، لا يَغِيضُهَا شَيْءٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " وإن زنا وإن سرق" تقدم الكلام عليه أول الكتاب. وفيه: ما كان عليه أبو ذر من القوة والشدة في الأمر بالمعروف، وقوله " فلم أتقار أن قمت" أي لم يمكنني القرار والثبات.
وقوله: " فنفح به " أي أعطى(2) وأصله الرمى بالشيء.
وقوله: " لعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرض له " أي لقيه أحد من عداه، يقال: منه عرض لي كذا وعرض معاً إذا بدا وأنكر بعضهم الكسر إلا في عرضت القول وحدها، وحكى أبو زيد: الوجهين في القول أيضًا وحكى الفراء: الوجهين في الجميع.
__________
(1) في (ط):" ينور ".
(2) في (هـ):" أعطاه ".(4/150)
وفي حديث: أبي ذر من الفقه: جواز أخذ الدين للضرورة والحاجة إليه وقد نص الله على إباحة ذلك. وجواز قول الرجل للآخر: فدتك نفسي، وفداك أبي وأمي، وجعلني الله فداك خلافاً لمن كره ذلك، وقال لا يفدى بمسلم وجواز الجواب بلبيك وسعديك.
وقوله: " مالك لا تعتريهم وتصيب منهم" أي تأتيهم(1) وتطلب منهم(2) مما في أيديهم يقال: عروته واعتريته واعتروته واعتررته أي أتيته تطلب إليه حاجة.
37 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عن هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَخِي وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَاحَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِي: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ ». وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« يَمِينُ اللَّهِ مَلآَى لا يَغِيضُهَا سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُذْ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ »، قَالَ:« وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الْقَبْضَ يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " لا أسألهم عن دنيا". كذا في الأم، ووجهه: لا أسألهم دنيا، وكذا ذكره البخاري أي لا أطلب إليهم شيئاً من متاعها.
وقوله: " ولا أستفتيهم عن دين " يريد أنه لم يثقهم فيه.
__________
(1) قوله:" تأتيهم " ليس في (ط).
(2) قوله:" منهم " ليس في (هـ).(4/151)
وقوله: " يمين الله ملأى(1)" وفي الرواية الأخرى " ملآن سحاء الليل والنهار". وكذا ضبطناه على القاضي أبي علي، وغيره بالمد على الوصف، وعند أبي بحر " سحا " على المصدر، وانتصب(2) الليل والنهار على الظرف والسح: الصب الدائم ولا يقال في المذكر فيه أفعل ومثله " ديمة هطلاء" لا يقال في مذكره أهطل ووقع عند الطبري في حديث عبدالرزاق"لا يغيضها سح الليل والنهار بالإضافة ورفعه على الفاعل وعند الآخرين فيه أيضًا كما تقدم.
واليمين: مؤنثة ووصفها بملأى هو الصواب، وغيره خطأ، ورواه بعضهم " ملا " مثل دعا، قيل: يصح هذا على نقل الهمزة.
وقوله:"لا يغيضها شيء" أي لا ينقصها قال الله تعالى:{وما تغيض الأرحام وما تزداد} أي ما تنقص. يقال: غاض الماء وغيض وغاضه الله لازم ومتعد.
قال الإمام: هذا مما يتأول ؛ لأن اليمين إنما كانت يميناً بنسبتها إلى الشمال فلا يوصف بها تعالى لأنها تتضمن إثبات شمال وهذا يؤدي إلى التحديد، ويتقدس الباري تعالى عن أن يكون جسماً محدوداً وإنما خاطبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يفهمونه إذ أراد الإخبار عن أن الباري لا ينقصه الإنفاق ولا يمسك خشية الإملاق جلت قدرته وعظمت عن ذلك وعبر - عليه السلام - عن قدرة الله سبحانه على توالي النعم بسحّ اليمين، إذ الباذل منا والمنفق يفعل ذلك بيمينه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " وكلتا يديه يمين " فأشار - عليه السلام - إلى أنهما ليستا بجارحتين إذ اليدان الجارحتان يمين وشمال.
__________
(1) في (أ):" ملا ".
(2) في (هـ):" ينصب ".(4/152)
ويحتمل أن يريد - عليه السلام - بذلك أن قدرة الله سبحانه على الأشياء على وجه واحد لا تختلف بالضعف والقوة، وأن المقدورات تقع بها على هيئة(1) واحدة لا تتفاوت ولا تختلف في الضعف(2) والقوة كما يختلف ما يفعله الإنسان منا بيمينه وشماله تعالى الله عن صفات ا لمخلوقين ومشابهة المحدثين.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وبيده الأخرى القبض والبسط" فكأنه أفهم تعالى، وإن كانت قدرته واحدة فإنه يفعل بها المختلفات ولما كان ذلك فينا لا يتمكن إلا بيدين عبّر عن قدرته على التصرف في ذلك بذكر اليدين ليفهمهم المعنى المراد بما اعتادوه من الخطاب على سبيل المجاز.
قال القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه -: لم يُرْو في هذا الحديث في كتاب مسلم لفظة "البسط" وليس فيه إلا قوله:" القبض يخفض ويرفع " كذا لأكثرهم، وعند الفارسي فيما حدثنا عنه الخشني والأسدي بطريقيهما: الفيض. بالفاء والياء باثنتين تحتها، والأشهر والمعروف الأول وقد ذكره البخاري في بعض رواياته على الشك "القبض أو الفيض" ومعنى الفيض: بالفاء إن صحت روايته، والله أعلم: الإحسان والعطاء والرزق الواسع وقد يكون بمعنى القبض الذي في الرواية الأخرى أي الموت قال البكراوي: الفيض الموت.
__________
(1) في (أ) و(هـ):" سنة ".
(2) في (هـ):" تختلف بالضعف".(4/153)
قال القاضي: قيس يقولون فاضت نفسه بالضاد إذا مات، وطيء تقول(1): فاظت نفسه بالظاء، وقيل: متى(2) ذكرت النفس فبالضاد وإذا لم تذكر فبالظاء وفي حديث الدجال:" ثم يكون أثر ذلك الفيض "، قيل(3): الموت، وجاء في رواية أخرى:" وبيده الميزان يخفض ويرفع "، فقد تكون عبارة عن(4) الرزق، ومقاديره، وقد تكون عبارة عن جملة المقادير، ومعنى يخفض ويرفع قيل: هي عبارة عن تقدير الرزق أي يقتره على من شاء ويوسعه على من شاء ، وقد يكون الخفض والرفع عبارة عن تصرف المقادير بالخلق بالعزة والذل كما قال تعالى:{ تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء }، وقد يكون القبض والبسط المذكوران من معنى ما تقدم من تقتير الرزق وسعته أو قبض الأرواح بالموت(5) وبسطها(6) في الأجساد بالحياة أو قبض القلوب ومضيقها(7) وموحشها على(8) الهداية أو بالخوف والفتنة(9) وبسطها بتأنيسها وشرحها للهداية والإيمان أو بالرجاء والأنس(10) وقد قيل: معاني هذا كله في تفسير اسمه(11) تعالى " القابض والباسط" المذكورين في الحديث.
__________
(1) في (هـ):" يقولون ".
(2) في (هـ):" ما متى ".
(3) في (هـ):" أي " بدل:" قيل".
(4) قوله:" عن " ليس في (هـ).
(5) في (أ):" للموت ".
(6) في (ط):" باسطها ".
(7) في (هـ):" تضيقها ".
(8) في (ط) و(هـ):" عن ".
(9) في (هـ):" الهيبة ".
(10) في (ط):" الأمر ".
(11) في (ط) و(هـ):" اسميه ".(4/154)
39 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَأَبُو كُرَيْبٍ - وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبٍ -، قَالُوا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عن سُفْيَانَ، عن مُزَاحِمِ بْنِ زُفَرَ، عن مُجَاهِدٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ ».
40 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبْجَرَ الْكِنَانِيُّ، عن أَبِيهِ، عن طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عن خَيْثَمَةَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، إِذْ جَاءَهُ قَهْرَمَانٌ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَالَ: أَعْطَيْتَ الرَّقِيقَ قُوتَهُمْ ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَانْطَلِقْ فَأَعْطِهِمْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذكر مسلم أحاديث أفضل النفقة(1)، وذكر فيها تقديم النفقة على العيال ؛ لأن منهم من تجب عليه نفقته فكان آكد من التطوع، ومنهم من تظاهرت صلته لقرابته وضعفه، ومنهم من تعينت عليه بضمه له ولكونه(2) في جملته فكان حقه عليه أوجب من غيره.
وقوله: " أعظمها أجراً الذي أنفقت على أهلك" وقد ذكر النفقة في سبيل الله والعتق والصدقة يؤكد ذلك، وكذلك قوله في الحديث الآخر " كفى بالمرء إثماً أن يحبس عن من يملك قوته " يؤكد أنه في الواجب ؛ لأن الإثم إنما يتعلق بتركه.
__________
(1) في (أ):" النفقات ".
(2) في (ط) و(هـ):" كونه ".(4/155)
41 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عن أَبِي الزُّبَيْرِ، عن جَابِرٍ قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَبْدًا لَهُ عن دُبُرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:« أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ ؟»، فَقَالَ: لا، فَقَالَ:« مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي ؟»، فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَجَاءَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:« ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عن أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عن ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا، يَقُولُ فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ ».
وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ يَعْنِي ابْنَ عُلَيَّةَ، عن أَيُّوبَ، عن أَبِي الزُّبَيْرِ، عن جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو مَذْكُورٍ أَعْتَقَ غُلامًا لَهُ عن دُبُرٍ، يُقَالُ لَهُ: يَعْقُوبُ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ اللَّيْثِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي سند هذا الحديث: نا أبوبكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وأبو كريب واللفظ لأبي كريب قالوا نا وكيع عن سفيان، وسقط عند العذري من رواية الصدفي قوله: وأبو كريب واللفظ لأبي كريب.(4/156)
قال الإمام: في الحديث الذي فيه بيع النبي - صلى الله عليه وسلم - المدبر يحتج به الشافعي وتأوله أصحابنا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما باعه عليه في الدين والذي في كتاب مسلم تقوية للشافعي لأنه ذكر فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال له: " ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فَضُلَ شيء فلأهلك" ولو كان بيع للدين لقضى الثمن للغرماء ولم يأمره أن يفعل فيه ما ذكر، والشافعي أحل المدبر في البيع محل الموصى بعتقه، وأصح 42 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عن إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالاً، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَى، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ }، قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ:{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ }، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَى، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ شِئْتَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« بَخْ ! ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ »، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/157)
ما فرق به أصحابنا بينهما أن ذلك مبني على المقاصد والتدبير عندهم علامة على أنه قصد ألا يرجع في هذا الفعل ولا يحله وليس كذلك الوصية ولو صرح في الوصية بأنه لا يرجع فيها لشابهت التدبير.
قال القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه - ينفصل عن الشافعي فيما(1) وجه له من قوله: " ابدأ بنفسك " أي بحقوق نفسك والدين من أحد(2) الحقوق على النفس وأوجبها للدنيا(3) والآخرة وليس في دفعه إليه دون الغرماء ما يقتضي أخذه له لنفسه ليأكله بل ليؤديه إلى غرمائه ويقضيهم حقوقهم وإنما يكون ذلك للإمام ولا يمكن المديان من ماله إذا تم تفليسه وحجب عن ماله وليس في هذا الحديث ما يدل أن الرجل كان بهذه الصفة ولعل ثمن الغلام بقدر الدين فلا يكون مفلساً، وفي قوله: " فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك فلذي 43 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عن أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ }، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَرَى رَبَّنَا يَسْأَلُنَا مِنْ أَمْوَالِنَا، فَأُشْهِدُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ أَرْضِي بَرِيحَا لِلَّهِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« اجْعَلْهَا فِي قَرَابَتِكَ »، قَالَ: فَجَعَلَهَا فِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" فيها ".
(2) في (هـ):" آكد ".
(3) في (أ) و(هـ):" في الدنيا ".(4/158)
قرابتك " حجة في ترتيب الحقوق وتقديم الآكد فالآكد وأن الواجبات تتأكد في نفسها ؛ لأن حق النفس واجب وحق الأهل ومن تلزمه النفقة(1) واجب لكنه يقدم حق النفس عليها، وأنه من لا مال له إلا قوته لا يلزم إعطاؤه للزوجة والولد ولا مشاركتهما فيه إلا فيما فضل عن حاجته.
وقوله:في حديث أبي طلحة وصدقته بماله " بيرحاء " رويناها عن شيوخنا بفتح الراء وضمها مع كسر الباء، ورويناها أيضًا بفتح الباء والراء. قال الباجي: قرأت هذه اللفظة على أبي ذر الهروي بنصب الراء على كل حال وعليه أدركت أهل العلم والحفظ بالمشرق، وقال لي الصوري:" بيرحاء" بنصب الباء، واتفقا على أن من رفع الراء وألزمها حكم الإعراب فقد أخطأ. قال: وبالرفع قرأناه على شيوخنا بالأندلس.
وهذا الموضع يعرف بقصر بني جُديلة(2) قبلى المسجد.
وذكر مسلم: رواية حماد بن سلمة في هذا الحرف " بريحا " بكسر الراء وفتح الباء كذا سمعناه من أبي بحر عن العذري والسمرقندي وكان عند ابن سعيد عن السجزي من رواية حماد " بيرحا " بكسر الباء وفتح الراء، وضبطه الحميدي من رواية حماد:"بيرحا" بفتح الباء والراء ووقع في كتاب أبي داود(3) 44 - حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عن بُكَيْرٍ، عن كُرَيْبٍ، عن مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ ؛ أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ:« لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" النفقة عليه ".
(2) في (أ):" حديلة ".
(3) في حاشية (هـ):" كتاب مسلم".(4/159)
" جعلت أرضي بأريحاء " وأكثر روايتهم في هذا الحرف القصر، ورويناه عن بعض شيوخنا بالوجهين وبالمد وجدته بخط الأصيلي وهو: حائط يسمى بهذا الاسم وليست اسم بئر والحديث يدل عليه.
وقوله: " بخ ذلك مال رابح " يقال: بخ بالإسكان وبالتحريك والكسر وبالتنوين مع الكسر وقد ذكر الأحمر التشديد فيه، وقد روي بالرفع. قال بعضهم: فإذا كررت فالاختيار فيه التحريك والتنوين في الأول والتسكين في الثاني.
قال الإمام: قال أبوبكر معناه تعظيم الأمر وتفخيمه وسكنت الخاء فيه كما سكنت اللام في هل وبل، ومن قال: بخ. بالخفض والتنوين شبهه بالأصوات بـ " بِصِهْ، وَمَهْ ".
قال ابن السكيت: بخ بخ، وبه به(1) بمعنى واحد ومن رواه رابح بالباء فمعناه: ذو ربح كما يقال: لاَبِنٌ وتَامِرٌ أي: ذو لبن وتمر. كما قال النابغة:
كِلِيني لِهَمّ يَا أُمية(2) ناصب
أي ذو نصب، ومن رواه " رايح " بالياء فمعناه: قريب العائدة.
__________
(1) في (ط):" وبه ".
(2) في (أ) و(هـ):" يأميمة ".(4/160)
قال القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه -: يعني غير بعيد وروايتنا في كتاب مسلم بالباء بواحدة واختلفت الرواة فيه عن مالك في البخاري والموطأ وغيرهما قال ابن دينار: في رايح يروح أجره عليه في الآخرة. وقال غيره: يروح عليه كلما أثمرت الثمار وقال الداودي: " بخ " كلمة تقال إذا حمد الفعل. وقال غيره: كلمة تقال عند الإعجاب. وفي هذا الحديث(1) تبسط الرجل في مال صاحبه ومن يعلم مسرته به لما ذكر من دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - حائطه هذا وشربه من طيب مائه وفيه جواز استعذاب الماء. وفيه: أن شرب الماء المملوك من الآبار المعينة التي لا يضر بها لا يحتاج إلى إذن وفيه إن الصدقة المطلقة أو الحبس المطلق جائز وحقه أن يصرف في جميع وجوه البر وأن الصدقة على الأقارب وأولي الأرحام أفضل من الأباعد لقوله " فاجعلها في الأقربين " وقد روي هذا عن مالك وجماعة من الأئمة والسلف وذلك إذا كانوا فقراء، إذ قد جاء في بعض طرق البخاري " اجعلها في بعض(2) فقراء قرابتك " وسنزيده بعد بياناً في حديث زينب وقيل فيه دليل على أن من حبس على معين فمات، ولم يذكر لها مرجعاً أنها ترجع إلى أقرب الناس بالمحبس لصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأرض لما لم تكن لمعين وكانت للأقربين من المحبس ولهذا يتوخى في الحبس إذا لم يكن له مرجع الأقرب فالأقرب.
قال القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه -: وما قاله هذا فيه نظر ؛ لأن أبا طلحة لم يقل إنها حبس ولا مرجوعة وإنما جعلها لله فقد كان يصح بيعها في السبيل أو تمليكها لمن يستحقها، وهو ظاهر قسمته لها بين أقاربه، وقد يحتمل أن يكون قسمة غلة وتحبيس أصل ووقفه وقد روي أنها بقيت وقفاً بأيدي بني عمه وبه احتج غير واحد على جواز تحبيس الأصول خلافاً للكوفيين وسنذكره في موضعه.
__________
(1) قوله:" الحديث " ليس في (أ).
(2) قوله:" بعض " ليس في (ط) و(هـ).(4/161)
وفيه: أن الأقرب(1) فالأقرب أولى بالمعروف والصدقة لقول أنس في كتاب البخاري " فجعلها لحسان(2) وأبيّ وكانا(3) أقرب إليه مني". وفيه: أن القرابة وبني العمومة تراعى وأن بعد اجتماعهم في النسب إذ بين أبي طلحة وبين حسان وأبي آباء كثيرة وإنما يجتمعان مع أبي طلحة في عمرو(4) بن مالك بن النجار وهو السابع من آبائهم. وفيه: صحة التفويض في الوكالة لقوله: ضعها حيث شئت يا رسول الله، وجواز قبول الوكيل ذلك ورده لقوله - عليه السلام -: " اجعلها في الأقربين فقسمها أبو طلحة" وإن كان إسماعيل القاضي قد رواه فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد يجمع بين الروايتين لما كان ذلك عن رأيه وأمره واصل(5) أضيف إليه وفيه ما كان الصحابة عليه من المبادرة للخير والحرص على امتثال أوامر الله وترغيبه في البر، وفيه استعمالهم العموم وفهمهم ذلك من الشرع وتأويلهم كل محبوب في قوله{مما تحبون} قيل: وفيه جواز قسمة المال بين الشركاء وجواز إعطاء المال الكثير من الصدقة للواحد من الناس وفي صنف واحد من أهل الصدقة.
وقوله: لميمونة لما أعتقت وليدتها:" لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك ".
قال الإمام: إن لم يكن لها قرابة إلا من جهة الأم فإن الوجه تخصيص الأخوال، وإن كان لها قرابة من الجهتين فيحتمل أنه خص قرابة الأم بذلك،
__________
(1) في (ط):" الأقارب ".
(2) في (هـ):" بحسان ".
(3) في (ط):" كان ".
(4) في (أ) و(هـ):" عمر ".
(5) قوله:"واصل" ليس في (ط)و(هـ)، وتوجد إحالة غير واضحة في (أ)، والمثبت من المطبوع.(4/162)
45 - حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عن الأَعْمَشِ، عن أَبِي وَائِلٍ، عن عَمْرِو ابْنِ الْحَارِثِ، عن زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ، قَالَتْ: فَرَجَعْتُ إِلَى عَبْدِاللَّهِ، فَقُلْتُ: إِنَّكَ رَجُلٌ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ، فَأْتِهِ فَاسْأَلْهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَجْزِي عَنِّي، وَإِلا صَرَفْتُهَا إِلَى غَيْرِكُمْ، قَالَتْ: فَقَالَ لِي عَبْدُاللَّهِ: بَلِ ائْتِيهِ أَنْتِ، قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِبَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَاجَتِي حَاجَتُهَا، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْمَهَابَةُ، قَالَتْ: فَخَرَجَ عَلَيْنَا بِلالٌ، فَقُلْنَا لَهُ: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبِرْهُ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ بِالْبَابِ تَسْأَلانِكَ: أَتُجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حُجُورِهِمَا، وَلا تُخْبِرْهُ مَنْ نَحْنُ، قَالَتْ: فَدَخَلَ بِلالٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ هُمَا »، فَقَالَ: امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَزَيْنَبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَيُّ الزَّيَانِبِ »، قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لَهُمَا أَجْرَانِ، أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/163)
ورآهم(1) أولى ؛ لأن الأم لما كانت أولى بالبر كانت قرابتها أولى بالصدقة.
قال القاضي: يحتمل أنه خص قرابة الأم بذلك لأنهم كانوا أحوج وفيه أن صلة الرحم أفضل من العتق. وقد قال الإمام مالك: الصدقة على الأقارب أفضل من عتق الرقاب وهكذا جاءت هذه اللفظة في كتاب مسلم " أخوالك" باللام من غير خلاف ووقع فيها في البخاري من رواية الأصيلي " أخواتك" بالتاء، ولعله الأصح بدليل رواية مالك في "الموطأ": أعطيها لأختك وصليها
46 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، عن عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عن زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: فَذَكَرْتُ لإِبْرَاهِيمَ، فَحَدَّثَنِي عن أَبِي عُبَيْدَةَ، عن عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عن زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بِمِثْلِهِ سَوَاءً، قَالَ: قَالَتْ كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ، فَرَآنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ:« تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ »، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي الأَحْوَصِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نزعًا(2) عليها فهو خير لك ".
__________
(1) في (هـ):" يراهم ".
(2) في (أ) و(ط):" ترعى ".(4/164)
وقوله: للنساء " تصدقن ولو من حُليكن(1)". قال الإمام: هذا جعله المخالف حجة على إثبات الزكاة في الحلي على أي وجه كان ملكه وعندنا أن الحلي للباس لا زكاة فيه، وأن المتخذ للبيع فيه الزكاة واختلف عندنا فيما اتخذه النساء من الحُلي للكراء هل فيه الزكاة أم لا ؟ وسبب الخلاف أنه فرع بين هذين الأصلين فمن شبهه بحلي اللباس من جهة أنه لم يكتسب ليباع عينه لم يوجب فيه الزكاة ومن شبهه بحُلي التجارة من جهة أنه تجتنى منه منفعة أوجب فيه الزكاة. فأما المخالف فقد قال قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولو من حُليكن" فيه دليل على إثبات الزكاة على الإطلاق ويصح لنا الانفصال عن ذلك بوجهين:
أحدهما: أنه لم يصرح بأن الصدقة ها هنا هي الزكاة المفروضة في الأموال فيحتمل أن يكون(2) أراد صدقة التطوع أو الواجبة على غير جهة(3) الزكاة للمواساة وشبه ذلك.
والوجه الثاني، أن قوله: " ولو من حليكن" ربما كان الأظهر فيه، نفي الزكاة عن الحلي وأن حكمه بخلاف حكم غيره لأنه لا يقال فيما تجب فيه الزكاة: زَكِّ ولو مِنْ كَذَا، وإنما يقال: زك ولو من كذا فيما لا يجب فيه ذلك
47 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عن أَبِيهِ، عن زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عن أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! هَلْ لِي أَجْرٌ فِي بَنِي أَبِي سَلَمَةَ أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَلَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ هَكَذَا وَهَكَذَا، إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ، فَقَالَ:« نَعَمْ لَكِ فِيهِمْ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ ».
__________
(1) في (هـ):" تصدقن كحليكن ".
(2) في (هـ):" أنه ".
(3) قوله:" جهة " ليس في (هـ).(4/165)
وَحَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ. ح، وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، جَمِيعًا عَن هِشَامِ ابْنِ عُرْوَةَ فِي هَذَا الإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليكون في ذلك مبالغة كما يقول القائل: أفعل كذا وإن(1) كان لا يلزمك على سبيل الحث له على الفعل، وأما إباحته فيه إعطاء الصدقة لزوجها فيحتج به لأحد القولين عندنا في إعطاء المرأة زوجها زكاتها إذا كان فقيراً ولكن إنما يصح الاحتجاج به إذا علم أن تلك الصدقة التي استأذنت فيها زكاة وهو لعمري الأظهر في لفظ الحديث لأنها سألت هل تجزئ وهذا اللفظ إنما يستعمل في الواجب(2) غالباً.
__________
(1) في (هـ):" لو ".
(2) في (هـ):" الجواب ".(4/166)
قال القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه -: ظاهر الحديث(1) بنفسه أنها صدقة التطوع وليست بأظهر أنها في الفرض ولا بظاهر في ذلك ؛ لأن الأحاديث التي فيها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصدقة ووعظ النساء فيها والرجال إنما هي(2) في غير الفرض لا سيما مع قوله: " تصدقن ولو من حليكن" ومثل هذا لا يستعمل في الواجبات كما ذكر ويعضده ما وقع في غير هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وفيه: أن رائطة امرأة عبدالله بن مسعود وكانت امرأة صنعا(3) وأنها أتت النبي - عليه السلام - فقالت: يا رسول الله إني امرأة ذات صنعة أبيع منها وليس لزوجي 48 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن عَدِيٍّ وَهُوَ ابْنُ ثَابِتٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عن أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً.
وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، كِلاهُمَا عن مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ. ح، وَحَدَّثَنَاه أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، جَمِيعًا عَن شُعْبَةَ فِي هَذَا الإِسْنَادِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط):" بالحديث ".
(2) في (ط):" كان ".
(3) في (ط):" صناعا ".(4/167)
ولا لولدي شيء فهل فيهم من أجر؟ وقد ذكر ابن عبدالبر رائطة بنت عبدالله(1) الثقفية [ زوج عبدالله بن مسعود](2) في حرف ا لراء وذكر زينب بنت عبدالله الثقفية في حرف الزاي وقال حديثهما واحد. فيشبه أن لها اسمين. قال الطحاوي: ورائطة هذه هي زينب ولا يعلم لابن مسعود امرأة غيرها فقد أخبر أن ما تتصدق به إنما هو من صنعة يدها يدل أنه في التطوع، وفي حديث آخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهن بالصدقة وقال:" إني رأيتكن أكثر أهل النار" وإن امرأة ابن مسعود أخذت حليها لتتصدق به [وقالت لعل الله أن لا يجعلني من أهل النار فكلمهما في ذلك ابن مسعود لتتصدق به](3) على ولده فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألته فقال: " تصدقي عليه وعليهم" فهذا من صدقتها لتنجو من ا لنار ومجيئها بجميعه يدل أنه في التطوع وليس في قوله: " أيجزي " ما يدل على أنه الفرض، ويجزئ معنى ينوب عن الصدقة على الأجانب كما قال: {لا تجزي نفس عن نفس شيئاً} أي لا تنوب.
49 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عن هِشَامِ ابْنِ عُرْوَةَ، عن أَبِيهِ، عن أَسْمَاءَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَوْ رَاهِبَةٌ، أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ: « نَعَمْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد أجمع العلماء أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة وممن قال بالصدقة في الحلي عمر وابن مسعود في جماعة من الصحابة وابن المسيب وابن سيرين والزهري وجماعة من التابعين، وقاله الكوفيون.
وممن قال لا زكاة فيه: ابن عمر على اختلاف عنه وجابر وعائشة وغيرهم من الصحابة والتابعين وهو قول مالك، وأحمد، وإسحاق وأظهر قولي الشافعي.
__________
(1) قوله:" بنت عبدالله " ليس في (هـ).
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).(4/168)
واختلفوا في المرأة هل تعطي زوجها ؟ فأجازه الشافعي وأبو يوسف وابن الحسن وأبو ثور، وأبو(1) عبيد(2) وأشهب من أصحابنا إذا لم يصرفها إليها فيما يلزمه لها ولم يجزه مالك وأبو حنيفة واختلف فيه على أحمد وأجمعوا على(3) أنه لا يدفعها إلى والديه وولده في حال يلزمه الإنفاق عليهم واختلفوا في دفعها إلى المحتاجين من القرابات واختلف في ذلك قول مالك وأصحابه بالجواز والكراهة. وأصل الكراهة في ذلك لئلا يكون سبباً لقطع صلات أرحامهم من غيرها وضياع من عداهم بميل النفس إلى الأقارب دونهم قال أبوعبيد: أراهم أولاد ابن مسعود من غيرها لإجماعهم أن المرأة لا تعطي صدقتها بنيها وما قاله أبو عبيد من ذلك يعضده قولها(4) في الكتاب عنها وعن صاحبتها وعلى أيتام في حجورهما لكن في البخاري في خبرها أيضًا قولها: زعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم فقال:" صدق
50 - وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عن هِشَامٍ، عن أَبِيهِ، عن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدَهُمْ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُ أُمِّي قَالَ نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ) وحاشية (هـ):" ابن ".
(2) في (هـ):" عبيدة ".
(3) قوله:" على " ليس في (ط) و(هـ).
(4) قوله:" قولها " ليس في (أ)، وفي (هـ):" قوله ما ".(4/169)
زوجك وولدك أحق" وأما دعواه الإجماع فمالك وجمهور العلماء يقولون: إن أعطى صدقته من لا تلزمه نفقته من القرابة أجزى، والأم عندهم لا تلزمها نفقة بنيها. وقولها(1) لبلال: ولا تخبره من نحن، ثم أخبر بهما بلال النبي - عليه السلام - حين سأله ليس فيه إباحة كشف أمانة السر إما ؛ لأن بلالاً فهم من القصة أن ذلك ليس على إلزام الكتم وكأن(2) معناه: ما عليك ألاّ تعلمه بنا إذ لا ضرورة إلى ذلك، أو ؛ لأن النبي - عليه السلام - لما سأله لزمته إجابته وكان فرضاً عليه إعلامه بذلك مع أنه لا مضرة عليهما في ذلك.
وقولها(3):" إن أمي قدمت علي وهي راغبة أو راهبة أفأصلها؟"
قال: " نعم " والصحيح ما في الرواية الأخرى " راغبة " دون شك قيل راغبة عن الإسلام وكارهة له، وقيل: راغبة طامعة فيما أعطيها(4) من الرغبة والحرص وقد ذكر أبو داود هذا الحديث، وقال فيه: " قدمت عليّ أمي راغبة في عهد قريش وهي راغمة مشركة ". فالأول بالباء أي: طالبة صلتي ورفدي والثانية بالميم أي: كارهة للإسلام ساخطة له.
فيه جواز صلة المشرك ذي القرابة أو الحرمة والذمام وأمها المذكورة: قتلة بنت عبدالعزى العامرية القرشية. ويقال: قُتيلة مصغرة وكلاهما بتاء(5) باثنتين فوقها وقيل فيها نزلت {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} الآية.
51 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عن أَبِيهِ، عن عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ أُمِّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسَهَا وَلَمْ تُوصِ، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا ؟ قَالَ:« نَعَمْ ».
__________
(1) في (ط):" وقولهما ".
(2) في (أ):" فكان ".
(3) في (ط):" وقوله ".
(4) في (أ):" أعطيتها ".
(5) قوله:" بتاء " ليس في (هـ).(4/170)
وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُوكُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ. ح، وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، كُلُّهُمْ عن هِشَامٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ: وَلَمْ تُوصِ، كَمَا قَالَ ابْنُ بِشْرٍ وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ الْبَاقُونَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " إن المسلم إذا أنفق على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة" حجة أن(1) الأعمال إنما الأجر فيها بالنيات والاحتساب.
وقوله: " إن أمي افتُلِتَت نفسها " أكثر روايتنا فيه بفتح السين على المفعول الثاني، ويصح الرفع على ما لم يسم فاعله ورواه ابن قتيبة " اقتتلت " بالقاف وفسرها بأنها كلمة تقال لمن مات فجأة، ويقال أيضًا لمن قتلته الجن والعشق(2) ورواه الجمهور بالفاء.
قال الإمام: قال أبو عبيد: معناه ماتت فجأة فلتة وكل فعل فُعل على غير تمكث فقد افتلت. ويقال: افتلت الكلام واقترحه واقتضبه إذا ارتجله.
52 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، كِلاهُمَا عن أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، عن رِبْعِيِّ ابْنِ حِرَاشٍ، عن حُذَيْفَةَ فِي حَدِيثِ قُتَيْبَةَ قَالَ: قَالَ نَبِيُّكُمْ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" صدقة بأن ".
(2) في (أ) و(ط):" أو العشق ".(4/171)
وأما قوله: في الصدقة عنها فإن الإتفاق على أن الصدقة بالمال عن الميت نافعة. واختلف في عمل الأبدان فمن قاسه على المال جعله نافعاً ومن أخذ بقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} جعله غير نافع وإن عورض بعض من يقول أن عمل الأبدان لا ينفع بالحج(1) عن الغير قيل هي عبادة غُلِّبَ المال فيها على عمل البدن فردت إلى حكم الصدقة بالمال عن الغير على الجملة ويحتج من قال إن عمل البدن نافع بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من مات وعليه صوم صام عنه وليه" فيصير الخلاف مبنيًّا على معارضة الحديث لظاهر الآية فمن قدم الحديث جعل ذلك نافعاً، ومن قدم الظاهر لم يجعله نافعاً.
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: وقوله هنا: إن تصدقت(2) بكسر الهمزة ولا يصح غيره لأنه إنما سأل عما لم يفعله بعد ولم يقع.
__________
(1) في (هـ):" فالحج ".
(2) في (ط):" تصدقت عليها "، وفي (هـ):" تصدقت عنها ".(4/172)
53 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ مَوْلَى أَبِي عُيَيْنَةَ، عن يَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ، عن يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عن أَبِي الأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ، عن أَبِي ذَرٍّ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ:« أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ، إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عن مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ »، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ ؟ قَالَ:« أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلالِ كَانَ لَهُ أَجْرًا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " ذهب أهل الدثور بالأجور" أنهم أصحاب الأموال الكثيرة. والدثر: المال الكثير.(4/173)
وقوله: " أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون بكل تسبيحة صدقة" الحديث يحتمل تسميتها صدقة أي لها أجر كما للصدقة أجر وأن هذه الأفعال تقابل(1) الصدقات(2) في الأجور وسماها صدقة على طريق المقابلة وتجنيس(3) الكلام أو يكون سماها من معناها إذ في اسم الصدقة على ما قيل لما فيها من الدليل على صدق الإيمان وصحته، فكذلك سائر الطاعات فيها ذلك. وقد قيل: صدقة على نفسه أي بهذه الحسنة، وقد أشار بعض أصحاب المعاني إلى تخصيص الفقراء بهذه الأجور وقيامها لهم مقام الصدقات. وقد يحتج بقوله:"قد جعل الله لكم"وتناول قوله في الحديث الآخر:"ذلك فضل الله 54 - حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ يَعْنِي ابْنَ سَلامٍ، عن زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلامٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَرُّوخَ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلاثِ مِائَةِ مَفْصِلٍ، فَمَنْ كَبَّرَ اللَّهَ، وَحَمِدَ اللَّهَ، وَهَلَّلَ اللَّهَ، وَسَبَّحَ اللَّهَ، وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ، وَعَزَلَ حَجَرًا عن طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا عن طَرِيقِ النَّاسِ، وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهَى عن مُنْكَرٍ عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلاثِ مِائَةِ السُّلامَى، فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ، عن النَّارِ قَالَ أَبُو تَوْبَةَ وَرُبَّمَا قَالَ:« يُمْسِي ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ):" تماثل ".
(2) في (هـ):" الصدقة ".
(3) في (هـ):" تحسين ".(4/174)
يؤتيه من يشاء" على هذا وقال بعضهم: بل يرجع إلى ما رأى منهم من الفهم والعلم بقوله: " لكم بكل تسبيحة(1) صدقة" ويحتج بهذا من يفضل الفقر، وهذا غير ظاهر الحديث، وأن معنى قوله: " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" المال وفعل المعروف منه، وبهذا يحتج من يقول بتفضيل الغنى.
وقوله: " كل معروف صدقة" أي له حكمها في الثواب عند الله.
وقوله: " وفي بُضع أحدكم صدقة" فيه بيان أن المباحات تصرفها النيات الصادقة طاعات.
قال الإمام: البُضع الجماع، والبضع في غير هذا الفرج، وقال الأصمعي: ملك فلان بُضع فلانة إذا ملك عقدة نكاحها، وهو كناية عن موضع الغشيان، والمباضعة: المباشرة، والاسم البضع.
قال الإمام:لا يقال أن قولهم: " أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ إنما بعد عندهم(2) على طريقة المعتزلة في التقبيح والتحسين من جهة
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ أَخْبَرَنِي أَخِي زَيْدٌ بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ أَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ وَقَالَ فَإِنَّهُ يُمْسِي يَوْمَئِذٍ وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا عَلِيٌّ يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عن زَيْدِ بْنِ سَلامٍ، عن جَدِّهِ أَبِي سَلامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَرُّوخَ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ بِنَحْوِ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، عن زَيْدٍ وَقَالَ فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" تسبيحة أجر ".
(2) في (هـ):" عنهم ".(4/175)
العقول وأنه لا يؤجر إلا على فعله بل يحتمل أن يكون إنما بَعُدَ عندهم(1) على ما عهدوه من حكم الشريعة وتقرر عندهم أن الأجور تكون بقدر المشاق وهذا مما تدعو إليه الطباع وتستلذه، ووجه مراجعتهم له - صلى الله عليه وسلم - لا إنكاراً منهم للوحي ولكنه يحتمل أن يكون أراد أن يبين لهم موضع الحجة فبين لهم وقاس القياس المتقدم، وهذا القياس الذي قدر ضرب من قيام(2) العكس، وفي العمل به خلاف بين أهل الأصول، وهذا الحديث تقوية لأحد القولين.
قال الإمام: ذهب الكعبي إلى أنه ليس في الشريعة مباح قال: ؛ لأن كل فعل يفعله العبد من مشي أو(3) أكل وشبهه ينقطع به عن معصية فقد صار مأجوراً فيه من جهة كونه قاطعاً له عن المعصية، وأقل ما يبطل عليه به(4) هذا المذهب أن يقول(5) ينبغي أن يكون الإنسان مأجوراً في الزنا إذا تشاغل به عن معصية أخرى.
فإن قال قائل: هل في هذا الحديث المتقدم إشارة يتعلق بها الكعبي ؛ لأنه جعله مأجوراً في وضع نطفته في الحلال لما صده ذلك عن وضعها في الحرام.
__________
(1) في (هـ):" عنهم ".
(2) قوله:" قياس " ليس في (ط) و(هـ).
(3) في (ط):" و ".
(4) قوله:" به " ليس في (هـ).
(5) في (هـ):" يقال "، وفي (ط):" نقول ".(4/176)
55 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عن شُعْبَةَ، عن سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عن أَبِيهِ، عن جَدِّهِ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ »، قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ ؟ قَالَ:« يَعْتَمِلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ »، قَالَ: قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ؟ قَالَ:« يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ »، قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ؟ قَالَ:« يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ الْخَيْرِ »، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ ؟ قَالَ:« يُمْسِكُ، عن الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ ».
وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا الإِسْنَادِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيل: لا تعلق له بذلك ؛ لأن الأجر هاهنا إنما كان من جهة القصد إلى الاستعفاف بالحلال عن الحرام ولو قصد بفعل المباح الانقطاع عن المعصية لأجر على قصده لذلك مع أنه يحتمل أن يكون - عليه السلام - أراد بها ذكر التشبيه والتقريب إلى أفهامهم فكأنه قال لهم: أليس قد صح في عقولكم أن اللذة بالزنا يتعلق بها الإثم مع أن ذلك طبيعي فكذلك لا يبعد أن تؤجروا على فعل ذلك على وجه الحلال وإن كان طبيعيًّا، وهذا التأويل الثاني إنما يصح في حق من فهم عنه استبعاد تعلق التكليف بالشهوة لما كانت طبيعية ولم يتعرض لما سوى ذلك مما يفترق فيه أحكام(1) التكليف.
قال الإمام: قوله في الحديث:"عدد تلك الستين والثلاث مائة السلامى " قال أبو عبيد: السلامى في الأصل عظم في فرسن البعير، كأن المعنى: على
__________
(1) في (أ):" أحوال ".(4/177)
56 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عن هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عن مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، قَالَ: تَعْدِلُ بَيْنَ الإِثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، قَالَ: وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عن الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كل عظم من عظام بني آدم صدقة. قال في حديث خزيمة " حتى آل السلامى " يريد رجع إليه المخ يقال: آخر مايبقى فيه المخ.
قال القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه -: قد ذكر أول الحديث " خلق الإنسان على ثلاثمائة وستين مفصلا" ثم سماها بعد السلامى فدل أن ذلك أراد.
وقوله: " وعزل حجراً عن طريق الناس أو شوكة أو عظماً " كذا رويناه. وعند بعضهم: " غصناً " وكلاهما يخرج له معنى صحيح كما قال في الحديث الآخر:" نزع غصن شوك من الطريق فشكر الله له ذلك ".
وقوله:" تمسك عن الشر فإنها صدقة " مثل قوله: " من همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة " لأنه إنما تركها من جرائي.
وقد تقدم هذا ؛ لأن في تركه الشر لما نهى عنه طاعة وامتثالاً لما أمر به وسماها صدقة على ما قدمناه.(4/178)
57 - وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ وَهُوَ ابْنُ بِلالٍ -، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ، عن سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " عدد تلك الستين والثلاث مائة السلامى " كذا رويناه وصوابه في العربية: " وثلاث مائة السلامى وفيه: عَظِيم ما أوتيه - عليه السلام - من الإحاطة بعلوم الدين والدنيا وحوز معارف الأمم وحقايق التشريح والطب.
وقوله: " فإنه يمسي وقد زحزح نفسه عن النار" كذا رويناه عن عامتهم بالسين المهملة. وعند الطبري " يمشي" بالمعجمة وبعكسه لهم آخر الحديث. ثم قد ذكر مسلم الاختلاف فيه بالسين المهملة في حديث الدارمي(1) وبالمعجمة في حديث ابن نافع.
وقوله: " على كل مسلم صدقة" وفي البخاري:" كل يوم " وفي مسلم " بعد كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم"، قيل: هو إيجاب حض وترغيب على اكتساب الأجر بهذه الأعضاء وتصريفها في طاعة الله فهي صدقتها.
قال القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه -(2): وقوله: "ما من يوم يصبح إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً " هذا والله أعلم في الإنفاق في الواجبات والمندوبات والحقوق ا لمتعينة في المال والإنفاق بالمعروف.
__________
(1) في (ط) وحاشية (هـ):" الرازي ".
(2) قوله:" أبو الفضل - رضي الله عنه - " ليس في (أ) و(ط).(4/179)
58 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ نُمَيْرٍ قَالا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى - وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« تَصَدَّقُوا فَيُوشِكُ الرَّجُلُ يَمْشِي بِصَدَقَتِهِ، فَيَقُولُ الَّذِي أُعْطِيَهَا: لَوْ جِئْتَنَا بِهَا بِالأَمْسِ قَبِلْتُهَا، فَأَمَّا الآنَ فَلا حَاجَةَ لِي بِهَا، فَلا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا ».
59 - وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عن بُرَيْدٍ، عن أَبِي بُرْدَةَ، عن أَبِي مُوسَى، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ، ثُمَّ لا يَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهَا مِنْهُ، وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ ». وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ بَرَّادٍ:« وَتَرَى الرَّجُلَ ».
60 - وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ -، عن سُهَيْلٍ، عن أَبِيهِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ، حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ فَلا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ، وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/180)
ويصدقه قوله تعالى:{وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} وقوله:{ولا تبسطها كل البسط} وقوله - عليه السلام - للذي أراد الصدقة بجميع ماله: " أمسك عليك بعضه فهو خير لك ". وفيه: الحض على الإنفاق ورجاء قبول دعوة الملائكة.
61 - وَحَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عن عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عن أَبِي يُونُسَ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ، فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ صَدَقَةً، وَيُدْعَى إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: لا أَرَبَ لِي فِيهِ ».
62 - وَحَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الرِّفَاعِيُّ - وَاللَّفْظُ لِوَاصِلٍ -، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عن أَبِيهِ، عن أَبِي حَازِمٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« تَقِيءُ الأَرْضُ أَفْلاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَتَلْتُ، وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي، وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي، ثُمَّ يَدَعُونَهُ فَلا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " تقيء الأرض أفلاذ كبدها ". قال الإمام: أي تخرج الكنوز المدفونة فيها، قال ابن السكيت: الفلذ لا يكون إلاّ للبعير وهو قطعة من كبده يقال فلذة واحدة ثم يجمع فلذاً وأفلاذاً وهي القطع المقطوعة طولاً(1)، وهذا مثل قوله تعالى:{ وأخرجت الأرض أثقالها }، وسمي ما في الأرض كبداً تشبيهاً بالكبد الذي في بطن البعير وخص الكبد لأنه من أطايب الجزور.
__________
(1) قوله:" طولاً " ليس في (هـ).(4/181)
وقوله:" تقيء ". أي تخرج وتظهر.
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -:حكى أبو عبيد عن الأصمعي الحزة(1) والفلذة والحذية(2) ما قطع طولاً من اللحم ولم يخص كبداً من غيره.
63 - وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عن سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عن سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ، وَلا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلا الطَّيِّبَ، إِلا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ ».
64 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ، عن سُهَيْلٍ، عن أَبِيهِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لا يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إِلا أَخَذَهَا اللَّهُ بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ قَلُوصَهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ، أَوْ أَعْظَمَ ».
وَحَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ. ح، وَحَدَّثَنِيهِ أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ الأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ يَعْنِي: ابْنَ بِلالٍ، كِلاهُمَا عن سُهَيْلٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ فِي حَدِيثِ رَوْحٍ:« مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ فَيَضَعُهَا فِي حَقِّهَا ».
__________
(1) في (هـ):" الجزة ".
(2) في (ط):" الجرية "، وفي (هـ):" الحرية ".(4/182)
وَفِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ فَيَضَعُهَا فِي مَوْضِعِهَا، وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عن أَبِي صَالِحٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوَ حَدِيثِ يَعْقُوبَ، عن سُهَيْلٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:" أمثال الأسطوان من الذهب والفضة". بضم الهمزة والطاء هي السواري يعني لعظم ما يخرج فيها من البدرات(1) والكنوز.
وقوله: " ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب " قيل: الطيب هاهنا الكسب من الحلال كما قال تعالى:{ أنفقوا من طيبات ما
65 - وَحَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ ابْنُ مَرْزُوقٍ حَدَّثَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، عن أَبِي حَازِمٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ:{ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }، وَقَالَ:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ }، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون}.
__________
(1) في (ط):" الندرات ".(4/183)
وقوله: في الأحاديث في كثرة المال " وحتى لايوجد من يقبل الصدقة" فيه الحض على الصدقة ما دام وقت قبولها، وفيه إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يكون ولا بد من كونه إن كان قاله فإنه لا يقول إلا حقًّا.
وقوله: " حتى يهم رب المال من يقبل منه صدقته " بضم الياء وفتح الباء أي: يحزنه طلبه وعدمه يقال: أهمه إذا أحزنه: قال الأصمعي: وهمني أَذَابَني، ومنه قولهم: همك ما أهمك أي أذاب شحمك ما أحزنك وأغمك. وقد يكون هنا " يهم الرجل" بفتح الياء وضم الياء(1)؛ أي يقصده فلا يجده. يقال: هم بالشيء إذا قصده بهمته.
وقوله: " لا أرب لي فيه" أي لا حاجة.
66 - حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ سَلامٍ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ، عن أَبِي إِسْحَاقَ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، عن عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَتِرَ مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ ».
67 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَ ابْنُ حُجْرٍ: حَدَّثَنَا، و قَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عن خَيْثَمَةَ، عن عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: « مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلا يَرَى إِلا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ».
__________
(1) في (أ):" اللام "، وفي (هـ):" الباء ".(4/184)
زَادَ ابْنُ حُجْرٍ: قَالَ الأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عن خَيْثَمَةَ مِثْلَهُ.
وَزَادَ فِيهِ:« وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ».
وَقَالَ إِسْحَاقُ: قَالَ الأَعْمَشُ: عن عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عن خَيْثَمَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وما ذكر من كثرة النساء وقلة الرجال، قيل: لقلتهم(1) بكثرة الفتن وبقاء النساء أيامي ومعنى " يلذن به " أي ينحشن إليه ويطفن به، وأصله الستر كأنهن يستترن بالإسناد إليه. ومنه: " فَلاذَ مِنّي بشجرة " أي استتر بها.
وقوله: " بتمرة من كسب طيب(2)" أي كسب حلال، ويفسره قوله في الحديث الآخر: " إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً".ثم ذكر آخر الحديث: "الرجل يمد يديه إلى السماء ومطعمه حرام ومشربه حرام " ومعنى تسمية الله بالطيب هنا ولم يأت في حديث الأسماء أي المنزه عن النقائص بمعنى القدوس
68 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن الأَعْمَشِ، عن عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عن خَيْثَمَةَ، عن عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّارَ فَأَعْرَضَ وَأَشَاحَ، ثُمَّ قَالَ:« اتَّقُوا النَّارَ »، ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ:« اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ».
وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو كُرَيْبٍ: كَأَنَّمَا، وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأصل الطيب: الزكاة والطهارة والسلامة من الخبث. والاستطابة:التنظيف من القذر والطهارة منه.
__________
(1) في (ط):" بقتلهم ".
(2) في (أ):" وقوله: بصدقة من تمر طيب ".(4/185)
وقيل: سميت المدينة طابة وطيبة من الطيب وهو تطهيرها من الشرك وظهور الإسلام بها وقيل: غيره مما سنذكره إن شاء الله.
وقوله:" إلاّ أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله" وفي حديث آخر " فتربو في كف الرحمن " وفيه: فلوه أو فصيلة حتى تكون مثل الجبل.
الفلو: بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو قال غير واحد من اللغويين أنه المهر وبه فسره الهروي في(1) حديث آخر سمي بذلك لأنه فلي عن أمه أي عزل(2) واتحد.
وحكى بعضهم فيه: فلو بكسر الفاء وسكون اللام. وأنكر ابن دريد غير الوجه الأول. والفصيل: الذي فصل عن رضاع أمه من الإبل. والقلوص: الناقة من الإبل ولا تكون إلاّ فتية أنثى لا يقال للذكر.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عن خَيْثَمَةَ، عن عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، عن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ ذَكَرَ النَّارَ، فَتَعَوَّذَ مِنْهَا وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ ثَلاثَ مِرَارٍ، ثُمَّ قَالَ:« اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام: قد ذكرنا استحالة اتصاف الباري سبحانه بالجوارح وأن هذا وأمثاله إنما عبر به - عليه السلام - على ما اعتادوا في خطابهم ليفهموا عنه فكنى هاهنا عن قبول الصدقة بأخذها بالكف واليمين وعن تضعيف أجرها بالتربية.
قال القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه -:لما كان الشيء الذي يرتضى ويعز يتلقى باليمين ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا واستعير(3) للقبول والرضى كما قال:
تلقاها عرابة باليمين.
__________
(1) في (هـ):" وفي ".
(2) في (هـ):" أمه وعزل ".
(3) قوله:" واستعير " ليس في (أ).(4/186)
[وقيل: معناها هاهنا بنعمته](1) [يريد سرعة المبادرة لفعلها فلما استعار لهذه الخصال والأفعال الجميلة من خصال المجد وأنه استعار للمبادرة لفعلها تلقى باليمين على العادة فيما يحرص عليه ويبادر إليه](2)،[ وقيل معناها هنا بنعمته](3) يقبلها(4) بفضله الواسع، وقيل: عبر باليمين هاهنا عن جهة القبول والرضى إذ الشمال بضده في هذا وغيره وقد فرق الله بين أصحاب اليمين والشمال، وقد قيل: إن المراد هنا بكف الرحمن ويمينه كف المتصدق عليه ويمينه، وأضافها إلى الله إضافة ملك واختصاص بوضع هذه الصدقة لوجهه فيها، وقد قيل في تربيتها وتعظيمها حتى تكون مثل الجبل: أن المراد بذلك [تعظيم الأجر وتضعيف الثواب وقد يصح أن يكون على وجهه وأن](5) تعظيم(6) ذاتها ويبارك الله فيها ويزيدها من فضله لتعظم في الميزان وتثقل 69 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن عَوْنِ ابْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عن الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ، عن أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي صَدْرِ النَّهَارِ، قَالَ فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلالاً فَأَذَّنَ، وَأَقَامَ فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ:«{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمِ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } إِلَى آخِرِ
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (هـ).
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(4) في (هـ):" تقلبها ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (هـ).
(6) في (أ) و(ط):" يعظم ".(4/187)
الآيَةِ { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }، وَالآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ { اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ }، تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، حَتَّى قَالَ: وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ »، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولعله يصح أن يكون المراد بالكف هنا: كفة الميزان وطرف كل شيء كفه وكفته وهذا الحديث يصدقه قوله تعالى:{ يمحق الله الربا ويربي الصدقات}.(4/188)
قال الإمام: وقوله:"ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النار فأعرض وأشاح" لأشياح(1) معنيان: جدّ وانكمش على الإيصاء باتقاء النار، والآخر: حذر النار وهو في(2) 72 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ. ح، وَحَدَّثَنِيهِ بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ، عن شُعْبَةَ، عن سُلَيْمَانَ، عن أَبِي وَائِلٍ، عن أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ، قَالَ: كُنَّا نُحَامِلُ، قَالَ: فَتَصَدَّقَ أَبُو عَقِيلٍ بِنِصْفِ صَاعٍ، قَالَ: وَجَاءَ إِنْسَانٌ بِشَيْءٍ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن صَدَقَةِ هَذَا، وَمَا فَعَلَ هَذَا الآخَرُ إِلا رِيَاءً، فَنَزَلَتْ:{ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ }، وَلَمْ يَلْفِظْ بِشْرٌ بِالْمُطَّوِّعِينَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك(3) كأنه ينظر إليها. قال الأصمعي: المشح(4) الجاد والمشيح أيضًا الحذر، وقال الفراء: المشيح على معنيين، المقبل إليك، والمانع لما وراء ظهره، قال وقوله: " فأعرض وأشاح" أي أقبل.
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: قال الحربي عن أبي عمرو: المشيح الهارب وأصله بلوغ الغاية في كل شيء قال الحربي فأشبه الوجوه هنا التنحية وهي أشبه بالإعراض، وقال الخليل: أشاح بوجهه عن الشيء نحاه عنه وعدل به وهذا يطابق أعرض.
وقوله:" اتقوا النار ولو بشق تمرة" تحريض على الصدقة وأنه لا يستحقر منها شيء. وشق الشيء: نصفه، ومعنى الاستتار من النار في الحديث الآخر: التوقي منها.
__________
(1) في (ط):" للأشاح ".
(2) قوله:" وهو في " ليس في (ط) و(هـ).
(3) قوله:" ذلك " ليس في (ط) و(هـ).
(4) في (هـ):" المشيح ".(4/189)
وقوله: " مجتابي النمار أو العباء " النمار: بكسر النون جمع نمرة وهي ثياب صوف فيها تنمير مثل انصاف الحلق، والاجتياب تقوير وسطها ومنه: {وثمود الذين جابوا الصخر بالواد} أي ثقبوه وخرموه.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ. ح، وَحَدَّثَنِيهِ إِسْحَاقُ ابْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، كِلاهُمَا عن شُعْبَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ: كُنَّا نُحَامِلُ عَلَى ظُهُورِنَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتلاوته - عليه السلام - في خطبته في الحض على صدقته: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} لما فيها والله أعلم من قوله: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام}.
وقوله: " حتى رأيت كومين من طعام وثياب" كذا قيده بعضهم بفتح الكاف، وقيده آخرون: بضمها. قال أبو مروان بن سراج: هو بالضم اسم لما كوم [والكومة: بالفتح المرة الواحدة](1)، والكومة: الصبرة(2) والكوم العظيم من كل شيء، والكوم المكان المرتفع كالرابية وشبهها فالفتح هنا أولى في الحديث لأنه إنما قصد الكثرة والصبرة والتشبيه(3) بالرابية.
وقوله:" فرأيت وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتهلل كأنه مذهبة" فيه وجهان:
أحدهما: أنه أراد فضة مذهبة كما قال: كأنها فضة(4) قد مسها ذهب. يعني لحسن وجهه ونوره وإشراق ماء السرور فيه.
والوجه الثاني: أنه شبهه أيضًا في حسنه بالمذهبة من الجلود وجمعها مذاهب وهي شيء كانت تصنعه العرب من جلود وتجعل فيه خطوطاً مذهبة يرى بعضها أثر بعض وفيه يقول الشاعر:
أتعرف رسماً كأطراد المذاهب
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) في (ط):" الصرة ".
(3) في (هـ):" الشبيه ".
(4) قوله:" فضة " ليس في (ط).(4/190)
وسروره - عليه السلام - هنا لوجهين أحدهما: لما ظهر من إجابة المسلمين له وبذلهم أموالهم في حق(1) الله وجودهم بالصدقة.
73 - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عن أَبِي الزِّنَادِ، عن الأَعْرَجِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ:« أَلا رَجُلٌ يَمْنَحُ أَهْلَ بَيْتٍ نَاقَةً تَغْدُو بِعُسٍّ وَتَرُوحُ بِعُسٍّ إِنَّ أَجْرَهَا لَعَظِيمٌ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والثاني: لما فتح الله بذلك على هذه الدافة ا لعراة المحاويج.
قال الإمام: وقوله: " من سن سنة حسنة في الإسلام فله أجرها وأجر من عمل بها " الحديث، هذا على نحو ما تقدم من أن المعين على الفعل كمن فعله وذكر هذا الفصل في آخر حديث الوفد المجتابي النمار ؛ لقوله في(2) أوله: فجاء رجل بصرة كادت كفة تعجز عنها " إلى قوله:" ثم تتابع الناس"، فكان الفضل للبادئ والسابق الذي اقتفى من بعده فعله واستن بسنته.
وقوله: " كنا نحامل ". قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: تفسيره في الحديث بعده " نحامل على ظهورنا " أي نكرى أنفسنا في الحمل ونتصدق بالأجرة.
وقوله: " من منح منحة " ويروى " منيحة " المنحة: بكسر الميم والمنيحة بفتحها وبزيادة ياء: العطية والصلة ثم يستعمل عرفا عند العرب في ذوات الألبان مرة تعطى مدة لينتفع بفائدتها ثم تصرف.
وقوله(3):" غدت بصدقة وراحت بصدقة صبوحها وغبوقها ". والصبوح بالفتح: شرب أول النهار، والغبوق: شرب أول الليل. وخُفِضا على البدل من صدقة. ويصح نصبهما على الظرف للزمان والوقت.
وقوله: عن أبي هريرة يبلغ به" الأرجل يمنح أهل بيت ناقة" معناه: يبلغ بحديثه النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرفعه إليه ويسنده عنه.
وقوله:" تروح بعشاء وتغدوا بعشاء" كذا للسمرقندي ممدود فبشين
__________
(1) قوله:" حق " ليس في (أ) و(هـ).
(2) قوله:" في " ليس في (أ) و(ط).
(3) قوله:" وقوله " ليس في (أ) و(ط).(4/191)
74 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ ابْنُ عَمْرٍو، عن زَيْدٍ، عن عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عن أَبِي حَازِمٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ نَهَى فَذَكَرَ خِصَالاً، وَقَالَ:« مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةً، غَدَتْ بِصَدَقَةٍ وَرَاحَتْ بِصَدَقَةٍ صَبُوحِهَا وَغَبُوقِهَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معجمة وكذا رواه أكثرهم والذي سمعناه من متقني شيوخنا في الكتاب: " بعس " وهو القدح الضخم(1)، وهو الصواب المعروف، وقد جاء من رواية الحميدي في غير الأم: " بعساء" بسين مهملة وفسره الحميدي بالعس الكبير وهو من أهل اللسان، ولم يعرفه أهل اللغة إلا من قبله وضبطناه عن(2) القاضي التميمي عن أبي مروان بن سراج بفتح العين وكسرها معًا(3)، ولم يقيده الجيا[ني وأبو الحسين ابنه عنه إلا بالكسر وحده ](4).
__________
(1) في (ط):" الصحيح ".
(2) في (ط):" على ".
(3) قوله:" معًا " ليس في (أ).
(4) مابين المعكوفين ليس في (ط).(4/192)
وقوله: في حديث عمرو الناقد " مثل المنفق والمتصدق" هذا وهم وصوابه " مثل البخيل والمنفق والمتصدق(1)" بدليل تقسيم الكلام وضرب المثل للبخيل والمنفق بعده وكذا(2) جاء في سائر الأحاديث الأخر. وكذلك في هذا الحديث أوهام كثيرة من الرواة وتحريف وتصحيف وتقديم وتأخير يبينه ويظهر صوابه في الأحاديث الأخر ومنه قوله: " كمثل رجل عليه جبتان" وصوابه " كمثل(3) رجلين عليهما جبتان(4)" وكذا يأتي في الحديث الآخر ومنه قوله: [جبتان أو جنتان، والصواب بالنون كما جاء في الحديث الآخر بغير شك](5) جُنتان(6) والجنة الدرع ويدل عليه قوله في الحديث نفسه: " وأخذت كل حلقة موضعها" وفي الحديث الآخر " جنتان من حديد " ومنها قوله: " سبغت عليه أو مرت" بالراء قيل صوابه " مدت " بالدال بمعنى: سبغت وكما قال في الحديث الآخر
__________
(1) في (ط) و(هـ):" أو المتصدق ".
(2) في (ط):" لذلك ".
(3) في (ط):" ومثله كمثل ".
(4) قوله:" جبتان" ليس في (أ).
(5) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(6) في (هـ):" جُنتان من حديد".(4/193)
75 - حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عن أَبِي الزِّنَادِ، عن الأَعْرَجِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ عَمْرٌو: وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عن الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عن طَاوُسٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَثَلُ الْمُنْفِقِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلٍ عَلَيْهِ جُبَّتَانِ أَوْ جُنَّتَانِ مِنْ لَدُنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَإِذَا أَرَادَ الْمُنْفِقُ - وَقَالَ الآخَرُ: فَإِذَا أَرَادَ الْمُتَصَدِّقُ - أَنْ يَتَصَدَّقَ سَبَغَتْ عَلَيْهِ، أَوْ مَرَّتْ، وَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ يُنْفِقَ قَلَصَتْ عَلَيْهِ، وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَوْضِعَهَا حَتَّى تُجِنَّ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ »، قَالَ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:« فَقَالَ يُوَسِّعُهَا فَلا تَتَّسِعُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/194)
" انبسطت " لكنه قد يخرج معنى مرت على نحو هذا المعنى. والسابع: الكامل، وقد رواه رواة البخاري " مادت " بدال مخففة من: مَادَ، إذا مال ورواه بعضهم " مارت" بالراء ومعناه: سالت عليه وامتدت، وقال الأزهري: معناه: ترددت وذهبت وجاءت يعني من كمالها. ومن ذلك قوله: " وإذا أراد البخيل أن ينفق تقلصت عليه وأخذت كل حلقة موضعها حتى تُجِنّ بنانه وتعفو أثره:فقال يوسعها ولا تتسع " [وفي هذا اختلال كثير ؛ لأن قوله: " حتى تجن بنانه وتعفو أثره" إنما جاء في المتصدق لا في البخيل وهي على الضد مما مثله للبخيل من قوله " قلصت وأخذت كل حلقة موضعها" وقوله بعد هذا " فقال يوسعها ولا تتسع] " فأدخل بين هذين الفصلين من مثل البخيل ضد المعنى من وصف(1) مثل المتصدق فاختل الكلام وتناقض وهو بعد هذا مفصل مبين في الأحاديث الأخر ومن ذلك رواية من روى الحديث في موضع " تجن بنانه" تحز: بالحاء والزاي وهي رواية شيخنا الصدفي وهو وهم والصواب " حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ أَبُو أَيُّوبَ الْغَيْلانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ - يَعْنِي: الْعَقَدِيَّ -، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عن الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عن طَاوُسٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَثَلَ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ، كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدِ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَى ثُدِيِّهِمَا وَتَرَاقِيهِمَا، فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ انْبَسَطَتْ عَنْهُ، حَتَّى تُغَشِّيَ أَنَامِلَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا ». قَالَ: فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ بِإِصْبَعِهِ فِي جَيْبِهِ، فَلَوْ رَأَيْتَهُ
__________
(1) في (هـ):" وصفه ".(4/195)
يُوَسِّعُهَا وَلا تَوَسَّعُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تجن " وكذا للجماعة أي: تستر ومنها رواية بعضهم" ثيابه(1)" بالثاء والصواب رواية الجماعة " بنانه" كما قال في الحديث الآخر " أنامله" ومعنى " قلصت " في صفة البخيل: أي انقبضت ومعنى " تعفو أثره " أي: تمحو أثره بسبوغها وكمالها وهو مثل لنماء المال بالصدقة والإنفاق وعلى الضد من ذلك وتصديق معنى تسمية الزكاة وتصديق لحديث " أعط منفقاً خلفاً " الحديث وقد قيل إنه تمثيل لكثرة الجود والبخل وأن المعطي إذا أعطى انبسطت يداه بالعطاء وتعوده وإذا أمسك صار ذلك كله له عادة قال الله تعالى:{ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} الآية وقال: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم} الآية،[ وفي هذا الحديث الترغيب في الصدقة وفضلها](2)، وقيل: معنى " تعفو أثره"، أي: تذهب بخطاياه وتمحوها وكذلك(3) قوله(4) في البخيل " قلصت ولزمت كل حلقة موضعها " معناه يحمى عليه يوم القيامة فيكون بها وما تقدم أولى، والحديث إنما جاء على
__________
(1) في (هـ):" بنانه ثيابه ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) في (ط):" ولذلك ".
(4) في (هـ):" قال ".(4/196)
77 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ، عن وُهَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ، عن أَبِيهِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ: مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، إِذَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَةٍ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تُعَفِّيَ أَثَرَهُ، وَإِذَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِصَدَقَةٍ تَقَلَّصَتْ عَلَيْهِ وَانْضَمَّتْ يَدَاهُ إِلَى تَرَاقِيهِ، وَانْقَبَضَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا، قَالَ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« فَيَجْهَدُ أَنْ يُوَسِّعَهَا فَلا يَسْتَطِيعُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التمثيل لا على الخبر عن كائن، وقيل: ضرب المثل للبخيل والمتصدق بالجبتين؛ لأن المنفق يستره الله بنفقته ويستر عوراته في الدنيا والآخرة كستر(1) هذه الجبة(2) لابسها. والبخيل بإمساكه عن نفقته فيما يستره ويستر عوراته كهذا الذي لبس الجبة إلى ثدييه فبقي بادي العورة مفتضحاً في الدنيا والآخرة.
__________
(1) في (ط):" كسترة ".
(2) في (هـ):" الجنة ".(4/197)
وقوله: " فأنا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بأصبعه هكذا(1) في جيبه يقول فيجتهد أن يوسعها فلا(2) تتسع تمثيل منه - صلى الله عليه وسلم - بالعيان للمثل الذي ضربه، وفيه جواز لباس القميص(3) ذوات الجيوب في الصدور، وكذلك ترجم عليه البخاري " باب جيب القميص من عند الصدر" لأنه المفهوم من لباس النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة وهو لباس أكثر الأمم وكثير من الزعماء والعلماء من المسلمين بالمشرق وغيره ولا يسمى عند العرب قميصاً إلاّ ما كان له جيب.
[ وفي هذا الترغيب في الصدقة وفضلها ](4).
__________
(1) قوله:" هكذا " ليس في (ط).
(2) في (ط):" في جيبه فلو رأيته يوسعها ولا "، وفي (هـ):" في جيبه يقول يوسعها في جيبه فلو رأيتها يوسعها فلا ".
(3) قوله:" القمص " ليس في (أ) و(هـ).
(4) مابين المعكوفين ليس في (هـ).(4/198)
78 - حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عن مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عن أَبِي الزِّنَادِ، عن الأَعْرَجِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: لأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِيٍّ، لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، وَعَلَى غَنِيٍّ، وَعَلَى سَارِقٍ، فَأُتِيَ، فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ، أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ بِهَا عن زِنَاهَا، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ، وَلَعَلَّ السَّارِقَ يَسْتَعِفُّ بِهَا عن سَرِقَتِهِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في الذي تصدق على الغني والزانية والسارق.
اختلف في حد الغنى الذي يمنع أخذ الصدقة فقيل: من كانت له كفاية وإن كانت دون نصاب.
وقيل: المراعى النصاب ومن يلزمه إخراج الزكاة فهو الغني الذي لا تحل له صدقة وإن كان ذا عيال.
وقيل: المراد الكفاية وأن من لا كفاية له وإن كان ممن تلزمه الزكاة ومعه نصاب فيحل له أخذها وهو أضعف الأقوال.
وقيل: في الشاب القوي على الكسب أنه لا يحل له أخذ الصدقة ولا يجزئ وهو لبعض أصحابنا، وقاله الشافعي وفقهاء أصحاب الحديث.(4/199)
79 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو عَامِرٍ الأَشْعَرِيُّ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، كُلُّهُمْ عن أَبِي أُسَامَةَ، قَالَ أَبُو عَامِرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا بُرَيْدٌ، عن جَدِّهِ أَبِي بُرْدَةَ، عن أَبِي مُوسَى، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِنَّ الْخَازِنَ الْمُسْلِمَ الأَمِينَ الَّذِي يُنْفِذُ - وَرُبَّمَا قَالَ: يُعْطِي - مَا أُمِرَ بِهِ فَيُعْطِيهِ كَامِلاً مُوَفَّرًا، طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ، فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعند مالك أنه يجزئ وهو قول الطبري. وفي الحديث:" إن الأعمال بالنيات " وأن هذا قد أُجِرَ في اجتهاده ونيته وقُبِلَت صدقته وفيه أن الصدقة على أهل الفجور والمعاصي مكروهة وأنه يجب أن يتحرى لها أهل الخير والستر وهل تجزئ عن الواجب ؟
أما السارق والزانية فإن كانا محتاجين فلا خلاف في جوازها، وأما الغني ومثل(1) العبد ومن لا يجوز له أخذها إذا لم يعلم به دافعها فاختلف العلماء في ذلك وجلهم أنها لا تجزئ وهو قول مالك والشافعي والثوري وأبي يوسف وقيل يجزيه وهو قول أبي حنيفة وابن(2) الحسن والحسن البصري وأحد قولي ابن القاسم وقولي الشافعي قال أصحابنا: ولو كانت بأيديهم قائمة أخذت منهم.
واختلف(3) إذا أكلوها في غرمهم لها ولو غروا صاحبها من أنفسهم غرموها ولو دفعها عالماً بهم جازت لهم وغرمها هو للمساكين وفي الحديث الحض على الصدقة.
وقوله:" في الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملاً أحد المتصدقين" فشرط فيه الإذن.
__________
(1) قوله:" مثل " ليس في (هـ).
(2) في (هـ):" أبي ".
(3) في (هـ):" اختلفوا ".(4/200)
80 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَن جَرِيرٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عن مَنْصُورٍ، عن شَقِيقٍ، عن مَسْرُوقٍ، عن عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا ».
وَحَدَّثَنَاه ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عن مَنْصُورٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ:« مِنْ طَعَامِ زَوْجِهَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال في: " المرأة فيما أنفقت من طعام بيتها لها أجرها، وللخازن مثل ذلك وقال في المملوك الذي سأله عن صدقته من مال سيده: " الأجر بينكما نصفان".(4/201)
شرط الإذن في عطية الخازن الذي ليس له تصرف في المال أو يكون هذا في الشيء الكثير الذي لا تطيب به نفس صاحب المال إذا أخرج بغير إذنه وجعل هذا دون إذن فيما أنفقت الزوجة والخازن وتصدق به العبد المتصرف من أموال صاحب البيت مما يلزمه من النفقة على عياله وبنيه ومصالحه وللعرف الجاري عندهم من قيامهم عند مغيب أربابهم بمؤن القاصد وإطعام السائل وإضافة الضيف وإن قدر ما يتصدق به كالمأذون فيه ولذلك قال في الحديث: " غير مفسدة" وجعل لكل واحد أجره. صاحب المال لما خرج عنه ماله الذي اكتسبه وسدّ به من خلة ولهؤلاء بكسبهم وسعيهم ونياتهم. ويحتمل أن أجورهم مختلفة بقدر أحوالهم، ويكون قوله في الحديث الآخر: " فلها نصفه" وفي العبد: " الأجر بينكما نصفان" على المجاز، أي ينقسم في حقكما 81 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن الأَعْمَشِ، عن شَقِيقٍ، عن مَسْرُوقٍ، عن عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا، وَلَهُ مِثْلُهُ بِمَا اكْتَسَبَ، وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا .
وَحَدَّثَنَاه ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عن الأَعْمَشِ بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ.(4/202)
82 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَن حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عن مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عن عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ، قَالَ: كُنْتُ مَمْلُوكًا فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَأَتَصَدَّقُ مِنْ مَالِ مَوَالِيَّ بِشَيْءٍ ؟ قَالَ:« نَعَمْ، وَالأَجْرُ بَيْنَكُمَا نِصْفَانِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا في ذات الأجر أي لك أجر وله أجر إذ لا يتنصف الأجر بدليل قوله: " لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا " وقد يحتمل: أن يكون قوله " نصفان" أن(1) أجريكما مثلان فأشبه الشيء ا لمنقسم بنصفين، وأن نية هؤلاء وإخراجهم الصدقة ما ثلث قدر ما خرج من مال الآخر بغير يده أو يكون ذلك فضل(2) من الله إذ الأجور لا تدرك بقياس ولا هي بحسب الأعمال وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
__________
(1) في (هـ):" أي أن ".
(2) في (هـ):" فضلاً ".(4/203)
وحديث: عمير مولى آبي اللحم وضرب مولاه له على صدقته باللحم إذ لم يأذن له في ذلك ولا صرف نظره إليه، وإنما أمره أن يقدره، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: " الأجر بينكما " هو والله أعلم على معنى أن طابت نفسك بذلك وإلاّ فمن أعطى شيئاً من مال غيره بغير إذنه فمأثوم لا مأجور(1) فإن كان متأولاً 83 - وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ يَعْنِي ابْنَ إِسْمَاعِيلَ، عن يَزِيدَ -يَعْنِي ابْنَ أَبِي عُبَيْدٍ -، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَيْرًا مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ: أَمَرَنِي مَوْلايَ أَنْ أُقَدِّدَ لَحْمًا، فَجَاءَنِي مِسْكِينٌ فَأَطْعَمْتُهُ مِنْهُ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ مَوْلايَ، فَضَرَبَنِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَدَعَاهُ فَقَالَ:« لِمَ ضَرَبْتَهُ؟»، فَقَالَ: يُعْطِي طَعَامِي بِغَيْرِ أَنْ آمُرَهُ، فَقَالَ:« الأَجْرُ بَيْنَكُمَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كعمير هذا فله أجر وللسيد أجر بما أخذ من ماله فإن طابت نفسه به بعد ذلك فله أجر صدقته ولعل مثل هذا أراد - عليه السلام - بقوله: الأجر بينكما قيل: سمي بآبي اللحم لأنه كان لا يأكل ما ذبح على النصب وللأصنام.
وقيل: كان لا يأكل اللحم جملة.
وقيل: إنما آبي اللحم بطن من ليث في غفار فمولى عمير منهم لا أنه هو المسمى بهذا، والمسمى بهذا الذي سمي به البطن هو الذي كان لا يأكل ما ذبح على النصب.
__________
(1) قوله:" لا مأجورًا " ليس في (أ).(4/204)
وتخصيصه في بعض الروايات بهذه الخصلة " الخازن المسلم الأمين" إذ بالإسلام والتقى والأمانة يصح وصف إعطائه بالصدقة ألا تراه قال: " الذي يعطي ما أمر به كاملاً موفرا طيبة به نفسه" فإسلامه وتقاه [ أوجب إعطاءه طيبة به نفسه وأمانته](1) أوجبت أعطاه إياه كاملاً موفراً وليس كما ظن بعض المتكلمين على الحديث أن وصفه هنا بالأمين لرفع الضمان عن المودع والمستأجر فلا دليل في الحديث من لفظ ذلك ولا معناه.
84 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عن هَمَّامِ ابْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عن مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا تَصُمِ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ، وَلا تَأْذَنْ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّ نِصْفَ أَجْرِهِ لَهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " لا تصم المرأة وبعلها شاهد " هذا في التطوع ؛ لأن حق زوجها عليها واجب فلا يترك الواجب للنفل.
وقوله: " ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلاّ بإذنه" دليل أنه لا إذن بحضور رب الدار لغيره فيها لأنه مالكها.
وقوله: " من أنفق زوجين في سبيل الله ".
قال الإمام:قال الهروي: وقيل: وما زوجان؟ قال: " فرسان أو عبدان أو بعيران". قال ابن عرفة: كل شيء قرن بصاحبه فهو زوج يقال: زوجت بين الإبل إذا قرنت واحدًا بواحد.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).(4/205)
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه - وقيل: درهم ودينار ودرهم وثوب والزوج الفرد قال الله:{ من كل زوجين اثنين }، ويقع الزوج على الاثنين أيضًا وقيل: إنما يقال للفرد زوج إذا كان معه آخر. والزوج: الصنف، وقيل ذلك في قوله تعالى:{وكنتم أزواجاً ثلاثة} قيل: وقد يحتمل أن يكون هذا في جميع أعمال البر من صلى صلاتين أو صام يومين، والمقصود من هذا كله والله أعلم تشفيع صدقته بأخرى مثلها والتنبيه على فضل الصدقة والنفقة في سبيل الله والاستكثار منها.
85 - حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ - وَاللَّفْظُ لأَبِي الطَّاهِرِ-، قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عن حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ ! هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ »، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا عَلَى أَحَدٍ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " في سبيل الله" قيل يحتمل العموم في جميع وجوه(1) الخير، وقيل: الخصوص في الجهاد. والأول أظهر.
__________
(1) في (هـ):" سبل ".(4/206)
قوله: " نودي هذا خير". فيه وجهان: أي هنالك خير وثواب وغبطة. والآخر هذا الباب خير من غيره من الأبواب لك لكثرة ثوابه ونعيمه.
وقوله: " أي فل هلم" معناه: أي فلان فرخّم ونقل إعراب الكلمة على بقية الكلمة على إحدى اللغتين، وقيل: بل تستعمل فل في غير النداء والترخيم وأنها لغة في فلان وهو أعرف وأنشدوا:
أمسك فلانا عن فل
وقوله: " فمن كان من أهل الصلاة نودي من باب الصلاة" وذكر مثله في غيرها من الصيام والجهاد والصدقة.
حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَالْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ -، حَدَّثَنَا أَبِي، عن صَالِحٍ. ح، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كِلاهُمَا عن الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِ يُونُسَ، وَمَعْنَى حَدِيثِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراد من كان الغالب عليه في عمله وطاعته ونوافله الصلاة والصيام وإلا فكل مسلم يصلي ويصوم ويتصدق.
وقوله: " أنفق زوجين في سبيل الله" وذكر الصلاة والصيام فعلى هذا العمل يقع إنفاق المال وأنه في لفظه، أو على استعمال الإنفاق في جميع التصرفات وإنفاق العمر فيها، وقد يكون ا لزوجان(1) هنا صلاتين أو صيام يومين أو يكون إنفاق ذلك في سبيل الصلاة من بناء المساجد وعمارتها وإفطار من صام(2)، أو صدقته أيام صيامه.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" الزوجين ".
(2) في (هـ):" صيام ".(4/207)
وقيل: أن من أنفق زوجين في سبيل الله اختص بالجهاد وأن قوله: " دعي من أبواب الجنة" أي من جميعها كما جاء في شأن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: فيكون للمجاهدين فضل جميع أصحاب الأبواب لفضل الجهاد على سائر الأعمال ولهذا يجعل قوله " فمن كان من أهل الصلاة" كلام مستأنف خارج عن أجر المنفق زوجين في سبيل الله وعلى التأويل المتقدم يكون التفضل بعد ذلك مفسراً للمنفق زوجين، وذكر الأبواب المفصلة(1) تفسير لقوله " أبواب الجنة" المجملة أولاً.
وقوله: في صاحب الصوم " دُعي من باب الريان" قيل: لما كان في الصوم الصبر على العطش في الهواجر سمي الباب الذي يدعى منه بثوابه على 86 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ. ح، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنِي شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَعَاهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ كُلُّ خَزَنَةِ بَابٍ، أَيْ فُلُ هَلُمَّ»، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! ذَلِكَ الَّذِي لا تَوَى عَلَيْهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:«إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك وهو مشتق من الري، وقيل: يجوز أن يكون الريان اسم الباب(2) لاختصاص الداخلين منه بالري، وقيل: يحتمل أن يدعى منه كل من روى من حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - وما تقدم أولى، إذ لا يختص ري الحوض بالصائمين والباب مختص بهم.
__________
(1) في (هـ):" المفسر ".
(2) في (هـ):" اسما للباب ".(4/208)
وقوله:" لا تَوَى عليه" مقصور بتاء باثنين فوقها أي لا هلاك.
ذكر من الأبواب هنا أربعة، وقد جاء ذكر بقية الأبواب في الحديث: باب التوبة، وباب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وباب الراضين فهذه سبعة(1) جاءت بذلك الأحاديث، وجاء في الصحيح في السبعين ألفاً الذين على(2) ربهم يتوكلون دخولهم من باب الأيمن فلعله(3) الثامن الزائد.
وقوله: إن أسماء بنت أبي بكر قالت يا نبي الله ليس لي شيء إلاّ ما أدخل عليّ الزبير فهل عليّ جناح أن أرضح(4) مما يدخل علي؟ فقال " أرضخي ما استطعت [ولا توعي فيوعي الله عليك](5)".
وفي حديث آخر:" أنفقي أو أنضحي(6) أو انفحي [ ولا تُحصي](1)".
87 - حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ - يَعْنِي الْفَزَارِيَّ-، عن يَزِيدَ -وَهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ -، عن أَبِي حَازِمٍ الأَشْجَعِيِّ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا ؟»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: أَنَا، قَالَ:« فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً ؟»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: أَنَا، قَالَ:« فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا ؟»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: أَنَا، قَالَ:« فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" سبعة أبواب ".
(2) في (هـ):" هم على ".
(3) في (هـ):" فلعله الباب ".
(4) في (هـ):" أرضخ ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(6) في (هـ):" أنضخي ".(4/209)
قال الإمام: إن كانت إنما سألته عن الإعطاء مما يعطيها الزبير نفقة لها فبيّن جوازه، وإن كان(1) إنما أرادت مما كان ملكاً له فيحمل ذلك على أنه لا يكره ذلك منها وأنها عادة عودوها أزواجهم.
قال ابن القوطية: نفح الطيب نفحاً تحرك، والريح هبت باردة ضد نفحت(2)، والدابة بحافرها ضرب، والرجل بالسيف:ضرب به شزراً وبالعطاء إعطاءً وفي حديث آخر: " ما أعطت(3) من كسبه بغير أمره فإن نصف أجره له " وهو نحو مما ذكرناه.
وقوله: " من غير أمره" يحتمل أن يريد نطقاً فإن عادتهم التوسعة لنسائهم في ذلك وأما قسمة الأجر بينهما فمن جهة أن له أجر المِلك ولها أجر السعي.
وقوله: " أرضخي" الرضخ العطية القليلة يقال: رضخت(4) له من مالي رضخاً.
قول القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه -: روايتنا في الكتاب " أنضحي" كما ذكر أول الحديث، وقيل: لعله ارضخي كما فسره، وجاء في الحديث الآخر لكنه 88 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ يَعْنِي ابْنَ غِيَاثٍ، عن هِشَامٍ، عن فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَنْفِقِي، أَوِ انْضَحِي، أَوِ انْفَحِي، وَلا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يقال إلاّ لما قل من العطاء، وقد يتخرج عندي معنى انضحي كما جاء في الرواية لأنه يأتي بمعنى الصبّ والرش والعطاء يعبر عنه به كثيراً وهو بمعنى الرضخ وكان عند بعض الرواة: " انصحي(5)" المهملة، ولا وجه له ها هنا.
__________
(1) في (هـ):" كانت ".
(2) في (أ):" نفخت ".
(3) في (هـ):" أعطيت ".
(4) في (ط):" أرضخت ".
(5) في (ط) و(هـ):" انضخي ".(4/210)
وقوله: " ولا توعي فيوعي الله عليك" وفي الرواية الأخرى " ولا تحصي فيحصي الله عليك" وفي غير مسلم " ولا توكي" وكله نهي عن الإمساك والبخل أي لا تخزن مالك في وعاء ولا تشده بوكاء وأصل الوعي الحفظ وهو بمعنى الإحصاء في الحديث الآخر والإحصاء معرفة قدر الشيء.
وقوله: " فيوكي الله عليك" و " يوعي" و " يحصي" على اختلاف الأحاديث مقابلة اللفظ باللفظ وتجنيس للكلام بمثله في جزائه(1)؛ أي: يمنعك كما منعت ويقتر عليك كما قترت ويمسك فضله كما أمسكت كما قال: {ومكروا ومكر الله} [وقيل لا تحصي ما تعطي فتستكثره نفسك فيكون سبب انفطاعه ومنعك له(2)](3) وقد يراد هنا بالإحصاء والوعي معرفة عدده خوف أن تزول البركة منه كما جاء في غير حديث.
وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَن أَبِي مُعَاوِيَةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عن عَبَّادِ بْنِ حَمْزَةَ، وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عن أَسْمَاءَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« انْفَحِي، أَوِ انْضَحِي، أَوْ أَنْفِقِي، وَلا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ، وَلا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ ».
وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عن عَبَّادِ بْنِ حَمْزَةَ، عن أَسْمَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا: نَحْوَ حَدِيثِهِمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأمره " بأن يهيلوا ولا يكيلوا" وقول عائشة: " حتى كلناه ففنى " وهذا أولى ما يقال في الحديث عندي إذ قد ورد على سبب من هذا وقوله ذلك لها حين رآها تكيل الطعام(4).
__________
(1) في (هـ):" جوابه ".
(2) قوله:" له " ليس في (هـ).
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(4) في (ط) و(هـ):" طعاما ".(4/211)
وقوله: " أرضخي ما استطعت" ليس على ظاهره من ذلك بالأمر بالإرضاخ والتوسع فيه جُهد طاقتها فهذا ما لا يؤمر به أحد في مال غيره، وإنما يرجع" ما(1) استطعت " إلى العدل في ذلك والاحتياط ولذلك جاء بلفظ الرضخ الذي يدل عليه والله أعلم. ؛ لأن هذا للفظ إنما جاء في(2) نفقتها من مال الزبير وما أدخل عليها، وقد يحتمل أن المراد بذلك ما منحه إياها ووهبه لها لقولها ما أدخل عليّ فيكون الحديث على ظاهره في التوسع في العطاء والله أعلم، وقيل قد يكون أمره بالإرضاخ فيها يخصها وأهل بيتها من الإنفاق عليهم ومثله قوله: لهند " بالمعروف" وقيل: أعط من حظك منه، وقد جاء في الحديث في كتاب أبي داود في(3) المرأة التي قالت له: إنا كَلٌّ على آبائنا وأبنائنا
89 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ ابْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ عَبَّادَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ، عن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ؛ أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! لَيْسَ لِي شَيْءٌ إِلا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ ؟ فَقَالَ:« ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ، وَلا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأزواجنا فما يحل لنا من أموالهم ؟ فقال: " الرطب تأكلنه وتهدينه " وهذا والله أعلم كان عرفاً لهم.
__________
(1) في (هـ):" إلى ما ".
(2) في (هـ):" من ".
(3) قوله:" في " ليس في (ط).(4/212)
وقوله: " يا نساء المؤمنات" كذا(1) رويناه عن بعض شيوخنا بنصب نساء وخفض "المؤمنات" على الإضافة فيكون من إضافة الشيء إلى نفسه كقولهم: " مسجد الجامع، أو إضافة الأعم للأخص كقوله تعالى:{من بهيمة الأنعام} وإن كان لفظ البهيمة أعم كما أن لفظ النساء هنا أعم، أو على معنى التعظيم أي يا فاضلات المؤمنات كما يقال: هؤلاء رجال القوم أي ساداتهم وأفاضلهم. قال الباجي: وكذا رويناه عن جميع شيوخنا بالمشرق.
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -، وقيل معناه: يا نساء الجماعات المؤمنات، وقيل: يا نساء النفوس المؤمنات وكله متقارب المعنى ورويناه أيضًا برفع النساء والمؤمنات على معنى النداء والنعت. أي: يا أيها النساء المؤمنات. قال الباجي: كذا يرويه أهل بلدنا ويجوز رفع نساء وكسر المؤمنات في معنى المنصوب على النعت على الموضع كما يقال: يا زيد العاقل.
90 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. ح، وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عن سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عن أَبِيهِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ:« يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ ».
__________
(1) قوله:" كذا " ليس في (أ) و(ط).(4/213)
91 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، جَمِيعًا عَن يَحْيَى الْقَطَّانِ قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عن عُبَيْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عن حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة" أصل الفرسن في الإبل وهو مثل القدم من الإنسان.
وحكى أهل اللغة: أنه لا يقال إلا في البعير، وهذا الحديث يرد قولهم.
قيل: يحتمل أن يكون النهي عن الاحتقار للمعطاة، ويحتمل أن يكون ذلك للمعطية وأن تصل جارتها بما أمكنها ولا يمنعها إن لم تجد الكثير أن تصل بالقليل، وهذا الوجه هو الظاهر من تأويل مالك في إدخال الحديث في الموطأ في باب الترغيب في الصدقة.
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عن خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عن حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَوْ عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، بِمِثْلِ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَقَالَ:«وَرَجُلٌ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ، إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ ».(4/214)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: في حديث " السبعة الذين يظلهم الله في ظله" إضافة "الظل" هنا إلى الله إضافة ملك وكل ظل فهو لله، ومن ملكه وخلقه وسلطانه وهو ظل العرش على ما جاء في الحديث الآخر والمراد بذلك يوم القيامة إذا قام الناس لرب العالمين، ودنت منهم ا لشمس ويشتد عليهم الحر ويأخذهم العرق ولا ظل هناك لشيء إلا ظل العرش كما جاء في بعض الروايات " في ظل عرشي" وقد يراد به هنا: ظل الجنة أو ظل طوبى وهو نعيمها والكون في ذراها(1) كما قال تعالى: {وندخلهم ظلاً ظليلاً} وذهب ابن دينار إلى أن معنى الظل هنا: الكرامة والكنف والكِنّ من المكاره في ذلك الموقف(2) قال: ولم يرد الظل من الشمس وما قاله معلوم في اللسان يقال فلان في ظل فلان أي في كنفه وحمايته وهو أولى الأقوال ويكون إضافته إلى العرش لأنه مكان التقريب والكرامة وإلاّ فالشمس وسائر العالم تحت العرش وفي ظله.
وقوله: " الإمام العادل" هو كل من إليه نظر في شيء من أمور المسلمين من الولاة والحكام.
وقوله:" ورجل قلبه معلق بالمساجد"، أي شديد الحب فيه والملازمة له والعلاقة شدة الحب، فيه: فضل ا لنيات واعتقاد الخير وأنه مكتوب لصاحبه مدّخر له محسوب في عمله وفضل لزوم المساجد والصلاة فيها وعمارتها.
وقوله: " ورجلان تحابا في الله " فيه فضل المحبة لله وفي طاعاته والمحبة في الله والبغض في الله من الفرائض.
وقوله: " اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه " ظاهره أن حبهما لله صادق في حين اجتماعهما وافتراقهما، وقيل: يحتمل أن اجتماعهما على عمل طاعة تحابا وتألفا عليها وافترقا على ذلك لينفرد كل واحد منهما بعمل صالح قاله الباجي والأول أظهر.
__________
(1) في (هـ):" دارها ".
(2) في (هـ):" في الموقف ".(4/215)
وقوله:" ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله " يحتمل قوله ذلك باللفظ أو في نفسه وخص ذات المنصب والجمال لكثرة الرغبة فيها، والمنصب الشرف ومنصب الرجل ونصابه أصله وظاهره أن الدعوة هاهنا لما لا يجوز من نفسها مما لا يحل، وقيل(1): يحتمل أنها دعته إلى النكاح فخاف أن لا يقوم بحقها أو يكون الخوف من الله شغله عن لذات الدنيا ومباحاتها وزهده فيها، والأول أظهر.
وقوله: " وشاب نشأ في عبادة الله " أي شب وكبر عليها ولم تكن له صبوة يقال: نشأ الشيء ابتدأ ونشأ الصبي نبت وشب قال الله:{أو من ينشأ في الحلية } و { الذي أنشأها أول مرة }.
وقوله:" ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله" كذا روى عن مسلم هنا في جميع النسخ الواصلة إلينا والمعروف الصحيح " حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"وكذا وقع في الموطأ والبخاري وهو وجه الكلام ؛ لأن النفقة المعهود فيها باليمين ويشبه أن يكون الوهم فيها من الناقلين 92 - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عن عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عن أَبِي زُرْعَةَ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ ؟ فَقَالَ:« أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلا تُمْهِلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كَذَا، أَلا وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" وقد " بدل:" وقيل".(4/216)
عن مسلم بدليل إدخاله بعده حديث مالك، وقال بمثل حديث عبيدالله وتحرى الخلاف فيه في قوله، وقال: " رجل معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود" فلو كان ما رواه خلافاً لرواية مالك لنبه عليه كما نبه على هذا وفيه: فضل الصدقة في السر، وتأوله العلماء أنه في التطوع وأن السر أفضل فيه من العلانية وقاله ابن عباس في قوله:{إن تبدوا الصدقات فنعماهي} الآية.
وقال: جعل الله صدقة التطوع في السر تفضل علانيتها بسبعين ضعفا وكذلك في جميع الفرائض والنوافل وذكره اليمين والشمال مبالغة في الاستتار بالصدقة وضرب مثل بهما لقرب اليمين من الشمال ولتصرف اليدين جميعاً في العمل الواحد وإن كان العلم(1) لا يضاف لليد، وقيل: المراد من على يمينه وشماله من الناس والأول أظهر وأولى، وفيه: استعمال اليمين في طاعة الله من الصدقة، وأنه أفضل وأولى وبه ترجم البخاري على الحديث " الصدقة باليمين".
وقوله: " ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه". فيه: فضل البكاء وفضل أعمال السر كلها لأنها أبعد من الرياء والتصنع.
93 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عن عُمَارَةَ، عن أَبِي زُرْعَةَ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا ؟ فَقَالَ:« أَمَا وَأَبِيكَ ! لَتُنَبَّأَنَّهُ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْبَقَاءَ، وَلا تُمْهِلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلانٍ كَذَا، وَلِفُلانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ ».
__________
(1) في (هـ):" العمل ".(4/217)
حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَ حَدِيثِ جَرِيرٍ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:« أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:[ في أفضل الصدقة ](1)" وأنت صحيح شحيح " والشُح والبخل بمعنى، قال الخطابي: قيل ا لشح أعم من البخل وكأن الشح جنس والبخل نوع وأكثر ما يقال البخل في إفراد الأمور والشح عام كالوصف اللازم، وما هو من قبل الطبع ؛ لأن البخل في هذه الحالة غالب على الإنسان فإذا سمح على هذه الحالة كان أصدق لنيته وأعظم لأجره بخلاف إذا أشرف على الموت وآيس من الحياة ورأى تصيير المال إلى غيره تصدق حينئذ بما لا يشح عليه وأعطى ما غيره أحق به منه إلاّ ما أباحه له الشرع من التصرف في ثلثه مع أنه قد يكون تركه حينئذ للورثة أفضل من الصدقة به على ما سيأتي في موضعه فالبون بينهما بين.
وقوله:" بلغت نفسه الحلقوم" مجاز وتقريب لخوف الموت لا أنه على الحقيقة إذ من بلغت نفسه الحلقوم لا يجوز له صدقة ولا وصية.
وقوله: " لفلان كذا ألا وقد كان لفلان".
94 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عن مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عن نَافِعٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ، عن الْمَسْأَلَةِ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الخطابي: المراد به الوارث وقد يحتمل أن يريد به سبق القضاء به للموصي.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (هـ).(4/218)
وقوله: " اليد العليا خير من اليد السفلى" وفسر في الحديث " العليا بالمنفقة والسفلى بالسائلة" وقد جاء في حديث آخر " العليا المتعففة " ورجحه الخطابي(1) بحديث حكيم بن حزام ولقوله لما سمع هذا: ومنك يا رسول الله؟ قال: " ومني " فقال: " والله لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً " قال ولا يتوهم على حكيم أن يعتقد أن يده خير من يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما فهم أنها المنفقة.
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: هذا لا يظهر من الحديث ولا يبعد أن حكيماً إنما راعى ذلك في حق غيره - عليه السلام - لا في حقه، والنبي - عليه السلام - إنما عاب على حكيم كثرة السؤال ؛ لأن فيه " سألته فأعطاني ثلاث مرات، ثم قال: "إن هذا المال خضرة حلوة" وذكر الحديث.
قال الخطابي: وفيه تأويل ثالث أن السفلى المانعة وذكر غيره أن العليا الآخذة لأنها إذا أخذت كانت فوق ا لسفلى وهذان التأويلان يردّهما ما نصّ في الحديث من التفسير.
وقال الداودي: ليست العليا والسفلى المعطاة والمعطية بغير مسألة وإنما هي السائلة والمسئولة وليست كل سائلة تكون خيراً من المسئولة إنما ذلك لمن سأل 95 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، جَمِيعًا عَن يَحْيَى الْقَطَّانِ، قَالَ ابْنُ بَشَّارٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ يُحَدِّثُ ؛ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ، أَوْ خَيْرُ الصَّدَقَةِ عن ظَهْرِ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" الطبري ".(4/219)
وأظهر من الفقر فوق ما به، وأما عند الضرورة أو ليكافئ فليس من ذلك، وقد استطعم الخضر وموسى عليهما السلام أهل القرية.
قال القاضي: وما قاله غير مسلم في هذا الفصل الآخر(1)؛ لأن لفظ الحديث يدل على خلافه وأن الفضل للمعطية والأجر، وأما من سأل مظهراً للفقر فسؤاله حرام، وليس الحديث في مثله بل فيمن يجوز سؤاله، ومدار أحاديث الباب وما بعده في كراهة السؤال وذمه وسنزيده بياناً إن شاء الله.
وقوله:" وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول" دليل على ما تقدم من تقديم حق النفس والأهل وأن الصدقة إنما تكون بعد إحراز قوت نفس الإنسان وقوت أهله ؛ لأن حق نفسه وحقهم متعين عليه وفرض، والصدقة(2) والمواساة مرغب فيها.
وقد اختلف العلماء في جواز صدقة المرء بجميع ماله في حال صحته.
فأجازه الجمهور من أئمة أهل الأمصار، وقيل: يرد جميعه، وروى عن عمر بن الخطاب، وقيل: يمضي منه الثلث وهو قول أهل الشام، وقيل: كل من أعطى ما زاد على النصف ردّ إلى النصف، وروي عن مكحول.
96 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ قَالا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عن الزُّهْرِيِّ، عن عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدٍ، عن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ:« إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" الأخير ".
(2) في (ط):" صدقة ".(4/220)
قال الطبري: ومع جوازه فالاستحباب أن لا يفعل ليتأدب بآدب الله. لرسوله قال تعالى:{ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً} وأن تجعل من ذلك الثلث كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا لبابة وكعباً.
قال الخطابي: ومعنى قوله" عن ظهر غنى" أي متبرعاً أو عن غنى يعتمده ويستظهر به على النوائب كما قال في الحديث الآخر:" ما أبقت غنى" وقد قيل في هذا ما ترك غنىً للمتصدق عليه يعنى إجزال العطية والأول أظهر بدليل لفظة الحديث ومقصده.
وقوله: " إن هذا المال خضرة حُلوة".
قال الإمام: قال الهروي خضرة يعني غضة ناعمة طرية وأصله من خضرة الشجر، وسمعت الأزهري يقول: أخذ الشيء خضراً مضراً إذا أخذه بغير ثمن وقيل: غضاً طرياً.
قوله:" ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه".
قال القاضي: أي يتطلع إليه وتعرض وطمع كما قال في الحديث بعده:
97 - حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا شَدَّادٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ، وَلا تُلامُ عَلَى كَفَافٍ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/221)
" فمن أعطيه عن مسألة وشره" في هذا الحديث وغيره ذمّ الحرص وكثرة السؤال وكثرة عطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان لا يرد سائلاً وفضل القناعة والإجمال في الطلب لقوله: " فمن أخذه(1) بطيب نفس بورك له فيه" وفي ا لحديث الآخر " بسخاوة نفس بورك له فيه " وأن البركة مع القناعة. ويرجع طيب النفس وسخاوتها على المعطى وهو الأظهر لقوله في الحديث الآخر "فمن أعطيه عن طيب نفس" أي بغير سؤال، ومثل(2) قوله في الآخر(3) " لا تلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحدٌ شيئًا فتخرج له مسألته مني شيئًا، وأنا(4) كاره فيبارك له فيما أعطيته" وقد يحتمل رجوعه على المعطي ويكون طيب النفس بما قسم الله له وتفويضه إليه وتوكله عليه وانتظاره فضله، وأن في ضد هذا من الحرص والشره: المَحْق وعدم البركة.
وقوله: " كالذي يأكل ولا يشبع " قيل: إنه من دائه وهو الذي تسميه الأطباء الجوع الكاذب وهو عندهم من غلبة السوداء(5) وقد يكون أراد به كالبهائم الراعية ويكون من معنى قوله في الحديث الآخر الذي في معناه" وأن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم إلاّ أكلة الخضر" الحديث، وسنذكره في آخر(6) هذا اللفظ بنصه.
وقوله:" إن تبذل الفضل خير لك " يريد من حوز أجره وادخار(7) ثوابه.
__________
(1) في (هـ):" أخذه بحقه ".
(2) في (أ):" مثله ".
(3) في (ط):" الحديث الآخر ".
(4) في (أ):" وأنا له ".
(5) في (هـ):" السود".
(6) في (ط) و(هـ):" آخره ".
(7) في (هـ):" ادخاره ".(4/222)
98 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ ابْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ الْيَحْصَبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: إِيَّاكُمْ وَأَحَادِيثَ إِلا حَدِيثًا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ، فَإِنَّ عُمَرَ كَانَ يُخِيفُ النَّاسَ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقُولُ:« مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ »، وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ، فَمَنْ أَعْطَيْتُهُ عن طِيبِ نَفْسٍ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَعْطَيْتُهُ عن مَسْأَلَةٍ وَشَرَهٍ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " وإن تمسكه شر لك " إن كان عن حقوقه فبين في العقاب عليه، وإن كان عن النوافل فلما يفوته من الثواب والأجر الجزيل.
وقوله: " ولن تلام على كفاف" دليل على أن الكفاف محمود لا تباعة فيه.
وقوله: " وابدأ بمن تعول" فيه تقديم العيال والقرابة على الأجانب. وأن حقهم آكد فيما يجب وفيما يستحب.
وقول معاوية " إياكم والأحاديث إلا حديث(1) كان(2) في عهد عمر فإنه كان يخيف الناس في الله" نهى عن الإكثار بالأحاديث لما شاع في زمنه من التحدث عن أهل الكتاب وما وجدوه من كتبهم عند فتح بلادهم، والرجوع إلى ما تقدم من الأحاديث(3) قبل أيام عمر لضبطه الأمر(4) وشدته فيه وطلبه الشهادة على ما بلغه منه حتى استقرت السنن وصحيح الأحاديث.
__________
(1) في (ط):" حديثا ".
(2) قوله:" كان " ليس في (أ) و(هـ).
(3) قوله:" من الأحاديث" ليس في (ط).
(4) في (هـ):" المور ".(4/223)
99 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عن عَمْرٍو، عن وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عن أَخِيهِ هَمَّامٍ، عن مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، فَوَاللَّهِ لا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِجَ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ ».
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عن عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ - وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي دَارِهِ بِصَنْعَاءَ فَأَطْعَمَنِي مِنْ جَوْزَةٍ فِي دَارِهِ -، عن أَخِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
100 - وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ يَخْطُبُ يَقُولُ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: « مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِي اللَّهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " فيه فضل العلم والفقه في الدين ولأنه يقود إلى خشية الله وتقاه قال الله تعالى:{ إنما يخشى الله من عباده العلماء} وهذا يقود(1) إلى الخير(2) في الآخرة وعظيم الثواب.
__________
(1) في (هـ):" يعود ".
(2) في (هـ):" الخبر ".(4/224)
وقوله: " إنما أنا قاسم والله يعطي" وفي الآخر "خازن" فيه: تفويض الأمور إلى الله تعالى وكون(1) جيمعها بمشيئته وقدرته والتصريح بأن الإنسان مصرف مسخر بحكمه لا إله غيره وأنه - عليه السلام - لم يستأثر شيئا من الدنيا وإنما تصرفه فيها لمصلحة عباده وأمر ربه لا لنفسه ولا بحوله وقوته.
101 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ يَعْنِي الْحِزَامِيَّ، عن أَبِي الزِّنَادِ، عن الأَعْرَجِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ، فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ»، قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:« الَّذِي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " ليس المسكين بهذا الطواف " الحديث.
قال الإمام: قال محمد بن سلام قلت ليونس ما الفرق بين الفقير والمسكين؟ فقال: الفقير الذي يجد القوت والمسكين الذي لا شيء له.
__________
(1) في (هـ):" وأن ".(4/225)
وقال ابن عرفة: الفقير(1) عند العرب المحتاج قال الله تعالى:{ أنتم الفقراء إلى الله }؛ أي: المحتاجون، والمسكين الذي قد أذله الفقر فإذا كان هذا إنما مسكنته من جهة الفقر حلت له الصدقة وكان فقيراً مسكيناً، وإذا كان مسكيناً قد أذله شيء سوى الفقر فالصدقة لا تحل له إذا(2) كان سائغًا(3) في اللغة أن يقال ضرب فلان المسكين وظلم فلان المسكين وهو من أهل الثروة(4) واليسار وإنما لحقه اسم المسكين من جهة الذلة فمن لم تكن مسكنته من جهة الفقر فالصدقة له حرام وقد سمى الله تعالى من له الفلك مسكيناً فقال:{ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر} قال الشافعي: الفقراء(5) هم الزمناء(6) الذين لا حرفة لهم، وأهل الحرفة الذين لا تقع حرفتهم من حاجتهم موقعاً. والمساكين: السوّال من(7) له حرفة تقع موقعا ولا تغنيه وعياله.
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: اختلف أهل اللغة والفقهاء في المسكين والفقير أيهما أشد فاقة ؟. وفيه: الحض على ارتياد(8) الأولى بالصدقات
102 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ -، أَخْبَرَنِي شَرِيكٌ، عن عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلا اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ:{ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا }».
__________
(1) في (هـ):" المسكين ".
(2) في (ط):" إذ ".
(3) في (هـ):" شائعًا ".
(4) في (هـ):" الترفه ".
(5) قوله:" الفقراء " ليس في (هـ).
(6) في (هـ):" الزمنى ".
(7) في (هـ):" ممن ".
(8) في (هـ):" على أن يبادئ ".(4/226)
وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي شَرِيكٌ أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ؛ أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والأحوج وليس في هذا الحديث من قوله " ليس المسكين بهذا الطواف" نفى المسكنة عنه، وأنه ممن لا تحل له الصدقة، وإنما(1) أراد المبالغة في المسكنة في غيره كما قال تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} الآية، وقال - عليه السلام - " ليس الشديد بالصرعة " أي أن المسكين الكامل المسكنة هو الآخر المتعفف الذي لا يسأل ولا يفطن(2) له فيتصدق عليه، وأما الطواف فطوافه كالكسب له.
وقوله: {لا يسألون الناس إلحافا} قيل: إلحاحا، وقيل: عموما وشمولاً بالسؤال ومنه سمى اللحاف لعموم ستره وقيل: معناه أنهم لا يسألون جملة أي لا يكون منهم سؤال فيكون منهم إلحاف بدليل قوله:{يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} ولا يصح هذا مع السؤال، وينتصب إلحافًا على(3) المصدر وفي الوجوه(4) الأُوَل على الحال.
103 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، عن مَعْمَرٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عن حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عن أَبِيهِ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ ».
__________
(1) في (هـ):" وأنه إنما ".
(2) في (ط):" يعطي ".
(3) في (ط) و(هـ):" على هذا على ".
(4) في (هـ):" الوجه ".(4/227)
وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عن أَخِي الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُزْعَةُ.
104 - حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ، عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عن حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " ترده الأكلة والأكلتان" والأكلة بالضم اللقمة، وأما بالفتح فالمرة الواحدة والرواية هنا بالضم وهو المراد بالحديث.
وقوله:" لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وما في وجهه مزعة لحم".
قال الإمام: أي قطعة لحم. يقال: أطعمه مُزْعة لحم أي(1) قطعة منه ونتفة لحم أي: قليلاً، ومزعت المرأة: قُطْنها إذا زَبَّدتَه أي: قطعته. ثم أَللفته تُجَوّده بذلك. وفي الحديث: " فصار أنفه كأنه يتمزغ" أي يتشقق ويتقطع غضباً.
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه - قيل: معناه يأتي يوم القيامة ذليلاً ساقطاً لا وجه له عند الله.
105 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَوَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عن عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عن أَبِي زُرْعَةَ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:«مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ».
__________
(1) في (أ) و(ط):" و ".(4/228)
107 - حَدَّثَنِي هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عن بَيَانٍ أَبِي بِشْرٍ، عن قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: « لأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ بِهِ وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ مِنَ النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلاً أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ ».
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عن إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« وَاللَّهِ لأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ بَيَانٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/229)
وقيل: هو على ظاهره يحشر وجهه عظماً دون لحم عقوبة من الله وتمييزاً له وعلامة بذنبه لما طلب المسألة بالوجه كما جاءت في الأحاديث الأخر من العقوبات في الأعضاء التي كان بها العصيان وقيل: ليس على وجهه لحم يقيه حر شمس المحشر وهذا ضعيف، وهذا فيمن سأل لغير ضرورة وتكثراً كما جاء في الحديث الآخر " من سأل تكثراً فإنما هو جمر" يعني معاقبته عليه بالنار إذ غر من نفسه وأخذ باسم الفقر ما لا يحل له أو يكون مجازاً من ذل السؤال وبذل الوجه لغير فاقة مضطرة فاستعار لذلك احتراق الوجه بذلك وأن الاحتطاب وتكلف صعب المعيشة ومشقة الكسب خير له وأصون لإراقة(1) ماء وجهه ورونق محياه، وقد يكون الجمر على وجهه أن يردّ ما يأخذ جمرًا فيكوى به 107 - حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عن أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ ابْنِ عَوْفٍ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لأَنْ يَحْتَزِمَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً مِنْ حَطَبٍ فَيَحْمِلَهَا عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلاً يُعْطِيهِ أَوْ يَمْنَعُهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما جاء في مانع الزكاة وقد يكون عندي قوله: " لقي الله وما في وجهه مزعة لحم" على ضرب المثل والاستعارة لحاله في الدنيا من ذهاب الحرمة عن وجهه والصون بذل السؤال حتى مات ولم يبق له وجه عند الناس ولا قدر.
واختلف فيمن تحل له المسألة فقيل: من معه ما يغديه ويعشيه فلا تحل له(2) وتأولوا عليه قوله في الحديث: " من سأل ومعه ما يغنيه فإنما يستكثر من النار" قيل: وما يغنيه قال: يغديه ويعشيه.
__________
(1) في (هـ):" لإرزاقه ".
(2) في (هـ):" له الصدقة ".(4/230)
وقال قوم: معناه من وجد غداه وعشاه سائر الأوقات فإذا كان معه ما يكفيه لقوته مدة طويلة حرمت عليه المسألة.
قال آخرون: هذا منسوخ بغيره من الأحاديث التي تعارضه.
قال الإمام: وقوله: " إن المسألة لا تحل إلاّ لأحد ثلاثة(1) رجل تحمل بحمالة " يكون الحمل(2) هاهنا على أنه تحمل حمالةً جائزة.
وقوله: " ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى لقد أصابت فلاناً فاقة" فكلفه هاهنا إثبات فقره، وفي حديث آخر: " صدقوا السائل ولو
أتى على فرس" فيحمل الأول على من كان معروفاً ثم ادعى الفقر، ويحمل الثاني على من جهل حاله.
__________
(1) في (هـ):" ثلاثة رجال ".
(2) في (هـ):" التحمل ".(4/231)
108 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، وَسَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، قَالَ سَلَمَةُ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ - وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيُّ-، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ - وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -، عن رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عن أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، عن أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَبِيبُ الأَمِينُ، أَمَّا هُوَ فَحَبِيبٌ إِلَيَّ، وَأَمَّا هُوَ عِنْدِي فَأَمِينٌ ؛ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ:«أَلا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟»، وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! ثُمَّ قَالَ:« أَلا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟»، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! ثُمَّ قَالَ:« أَلا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ ؟»، قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا، وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَعَلامَ نُبَايِعُكَ ؟ قَالَ:« عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَتُطِيعُوا - وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً -، وَلا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا »، فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/232)
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: اشتراطه ها هنا ثلاثة وحكم الشهادة اثنان والخبر واحد ولعله أراد أن يخرج بالزيادة عن حكم الشهادة إلى طريق اشتهار(1) الخبر وانتشاره وأن المقصد بالثلاثة هنا جماعة هي أقل الجمع لا نفس العدد إذ ليس(2) الثلاثة في هذا الباب أصل.
" والحجى" العقل مقصور وشرط العقل هنا في الشاهد دليل على اعتباره(3) في الشهادة والخبر وأن ا لمغفل لا يلتفت لقوله، وشرط في الذي أصابته فاقة معرفة الناس ذلك ولم يشترطه في الذي أصابته جائحته ؛ لأنها مشهورة معلومة، وهذا حكم من طلب بحق فادعى العدم، وقد عرف بمال أنه 109 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، كِلاهُمَا عن حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عن هَارُونَ بْنِ رِيَابٍ حَدَّثَنِي كِنَانَةُ ابْنُ نُعَيْمٍ الْعَدَوِيُّ، عن قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلالِيِّ قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَسْأَلُهُ فِيهَا، فَقَالَ:« أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا »، قَالَ: ثُمَّ قَالَ:« يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إِلا لأَحَدِ ثَلاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ- أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ -، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ -،
__________
(1) في (هـ):" اشتها ".
(2) في (هـ):" ليس في ".
(3) في (ط):" اعتبار ".(4/233)
فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن كانت جائحة وتلف(1) ماله معلوماً وإلاّ كلف إثبات ذلك ولم ينفعه دعواه وهكذا يكون حكمها في الصدقة.
وقوله:" ورجل أصابته جائحة " ثم قال " حتى يصيب قواماً من عيش" أو قال " سدادًا " كذا ضبطناه بكسر ا لقاف والسين وهما بمعنى. قال صاحب العين: قوام العيش ما يغني منه والسداد ما سددت به شيئاً. وقال الهروي: وقوله: " سداد من عيش" أي ما يسد به خُلته وكل شيء سددت به خللاً فهو سداد ومنه سداد الثغر وسداد القارورة.
وقوله:" فما سوى هذا يا قبيصة سُحتاً " على إضمار فعل أي أعتقده سحتاً أو إنما يأكل سحتاً وبالرفع رواه غير مسلم وفيه أن متحمل الحمالة
110 - وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ. ح، وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عن سَالِمِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عن أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - يَقُولُ: قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِينِي الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالاً، فَقُلْتُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« خُذْهُ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لا، فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط) و(هـ):" تلاف ".(4/234)
يعطى من الزكاة وإن كان غنياً لأنه من الغارمين وهو الرجل يسعى في صلاح ذات البين في الثائرة تقع بين القوم والترات يتضمن ما لأصحاب الطوائل وديات القتلى منهم يترضاهم بذلك حتى يسكن الثائرة فهذا يعان من الزكوات وغيرها من أموال الله على ما صنع من المعروف ولا يلزم ذلك في ماله قاله أبو سليمان.
وقول عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - " أعطه أفقر مني" دليل على فضل عمر وزهده وقلة حرصه على الدنيا والتكثر منها وإيثار غيره على نفسه وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما جاءك غير مشرف ولا سائل فخذه" من معنى قوله المتقدم: بإشراف نفس. أي بتطلع وحرس وشره إليه.
وقوله:" وما لا فلا تتبعه نفسك" من الاختصار أي مالا يكون بهذه الصفة ولم يأتك على هذه الحالة فلا تتبعه نفسك أي فلا تعلقها بطلبه واتباعه، قال الطحاوي وليس معنى الحديث في الصدقات وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام على أغنياء الناس وفقرائهم(1).
__________
(1) في (هـ):" يقسمها الإمام بين الأغنياء وفقرائهم ".(4/235)
111 - وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عن سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عن أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُعْطِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - الْعَطَاءَ فَيَقُولُ لَهُ عُمَرُ أَعْطِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ قَالَ سَالِمٌ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا وَلا يَرُدُّ شَيْئًا أُعْطِيَهُ وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ عَمْرٌو وَحَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ، عن السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّعْدِيِّ، عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -، عن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الطبري: واختلف الناس فيما(1) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر من ذلك بعد إجماعهم على أنه أمر ندب وإرشاد فقيل: هو ندب من النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل من أعطي عطية أبى قبولها كانت من سلطان أو غيره إذا كان ممن تجوز عطيته.
وقيل: بل ذلك ندب إلى قبول عطية غير السلطان فأما السلطان فبعضهم حرمها وبعضهم كرهها.
وقال آخرون: بل ذلك ندب لقبول عطية(2) السلطان دون غيره.
وقال المهلب: فيه جواز إعطاء الإمام الرجل وثمّ من هو أفقر منه إذا رأى لذلك وجهاً.
__________
(1) في (هـ):" في ".
(2) في (هـ):" هدية ".(4/236)
قال الإمام: جاء في سند هذا الحديث حدثني أبو الطاهر نا ابن وهب نا عمرو يعني ابن الحارث حدثني ابن شهاب عن السائب بن يزيد عن عبدالله بن السعدي عن عمر الحديث. كذا روى هذا الإسناد وفيه انقطاع سقط منه رجل بين السائب بن يزيد وبين عبدالله بن السعدي وهو حويطب بن عبدالعزى، قال النسائي: لم يسمعه ابن يزيد من عبدالله بن السعدي رواه 112 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عن بُكَيْرٍ، عن بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عن ابْنِ السَّاعِدِيِّ الْمَالِكِيِّ ؛ أَنَّهُ قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهَا وَأَدَّيْتُهَا إِلَيْهِ أَمَرَ لِي بِعُمَالَةٍ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ وَأَجْرِي عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: خُذْ مَا أُعْطِيتَ، فَإِنِّي عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَمَّلَنِي، فَقُلْتُ مِثْلَ قَوْلِكَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ ».
وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عن بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عن بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عن ابْنِ السَّعْدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - عَلَى الصَّدَقَةِ بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْثِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/237)
عن حويطب. قال بعضهم(1): هو محفوظ من غير طريق عمرو(2) بن الحارث رواه أصحاب الزهري شعيب والزبيدي عن الزهري قال أخبرني السائب بن يزيد أن حويطباً أخبره أن عبدالله أخبره أن عمر أخبره وقد رواه يونس بن عبدالأعلى عن ابن وهب(3) ذكره أبو علي بن السكن في كتابه، وفي هذا الإسناد أربعة من الصحابة يروي بعضهم عن بعض وهو السائب بن يزيد وحويطب بن عبدالعزى وعبدالله بن السعدي وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -.
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: وجاء في الحديث بعده في حديث قتيبة بن(4) بُسر بن سعيد عن ابن الساعدي المالكي وبعده في حديث هارون عن ابن السعدي وهو الصواب واسمه قدامة، وقيل: عمرو وهو قرشي عامري مالكي من بني مالك بن حسل بن عامر بن لؤي وإنما قيل له السعدي لأنه استرضع في بني سعد بن بكر، وأما الساعدي فلا أعرف له وجها وابنه عبدالله من الصحابة.
113 - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عن أَبِي الزِّنَادِ، عن الأَعْرَجِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ عَلَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ: حُبِّ الْعَيْشِ، وَالْمَالِ ».
114 - وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ قَالا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عن يُونُسَ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ عَلَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ: طُولُ الْحَيَاةِ، وَحُبُّ الْمَالِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " أمر لي بعمالة" بضم العين اسم أجرة العامل.
__________
(1) في (أ):" غيره ".
(2) في (هـ):" عمر ".
(3) في (هـ):" وهب فذكره ".
(4) قوله:" بن " ليس في (أ) و(ط).(4/238)
وقوله: فعملني أي جعل لي العمالة وهي أجرة العمل. وفيه: جواز الأجرة على أعمال المسلمين وولاياتهم الدينية والدنيوية من الإمارة والصدقات والقضاء والحسبة وغيرها.
[وقوله: " كان يعطيني العطاء فأقول أعطه أفقر مني فقال: خذه، فيه جواز إعطاء الإمام من غيره أفقر منه لوجه يراه من المصلحة](1)، وفيه أخذ المال من أئمة العدل وأن أخذ ما جاء من غير مسألة ولا منة خير(2) من تركه إذا كان حلالاً.
قال الإمام: وقوله: " قلب الشيخ شاب على حب اثنتين:حب العيش والمال" فيه إشارة إلى أن الإرادة في القلب خلافاً لمن رأى أن ذلك في غير(3) الأعضاء.
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: والعبارة(4) هنا بالشباب عن كثرة الحرص وبعد الأمل الذي هو في الشباب أكثر وبهم أليق للرجاء في طول أعمارهم ودوام استمتاعهم ولذاتهم في الدنيا.
115 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، كُلُّهُمْ عن أَبِي عَوَانَةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عن قَتَادَةَ، عن أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَتَشِبُّ مِنْهُ اثْنَتَانِ: الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ ».
وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالا: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي، عن قَتَادَةَ، عن أَنَسٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ بِمِثْلِهِ .
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) في (هـ):" هو خير ".
(3) في (هـ):" غيره من ".
(4) في (أ):" والعباة ".(4/239)
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِنَحْوِهِ.
116 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عن قَتَادَةَ، عن أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلا يَمْلاُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " لو كان لابن آدم واديان من مال(1)" الحديث وقول ابن عباس فلا أدري أمن القرآن أم لا، وقول أنس فلا أدري أشيء نزل أم شيء كان يقوله، وقول أبي موسى إنه حفظها من سورة كانوا يشبهونها ببراءة وأنه أنسيها.
قال الإمام: يحتمل أن يكون إنما خص هذا العدد فقال: " واديان " ولم يقل ثلاثة(2) أو أكثر ؛ لأن أصول الأموال ذهب وفضة فعبرّ عن هذين الأصلين.
وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ، فَلا أَدْرِي أَشَيْءٌ أُنْزِلَ، أَمْ شَيْءٌ كَانَ يَقُولُهُ، بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: وقد جاء في رواية ابن أبي شيبة: " واديان من ذهب".
__________
(1) في (هـ):" ذهب ".
(2) قوله:" ثلاثة " ليس في (هـ).(4/240)
قال الإمام: وأما قوله " ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب" فإنه يحتمل أن يريد بالجوف القلب وأنه لا يمل من محبة المال نحو ما تقدم من قوله: " قلب الشيخ شاب" ويحتمل أن يريد غير القلب وأنه لا يشبع ويؤيد ما تأولناه من الاحتمال أن في حديث(1) بعد هذا " لا يملأ فم(2) ابن آدم " وهذا يشير إلى ما تأولناه من أن المراد به الأغذية، وفي حديث آخر " لا يملأ نفس ابن آدم" وهذا يشير إلى ما تأولناه من أن المراد به المحبة وما يكون بالقلب وكأنه - عليه السلام - عبر تارة بما يختص بأحد الوجهين وعبر تارة بما يختص بالوجه الآخر وعبرّ بالجوف عن اجتماعهما جميعاً إذ الجوف محل الأغذية ومحل القلب الذي فيه المحبة والشهوات.
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: الأظهر في هذا(3) والذي قاله أكثر من تكلم على الحديث والذي يقتضيه منحى الكلام ومقصده أن المراد بالحديث حرص القلب ورغبة النفس لا الأكل وشهوة البطن لأنه لم يجر للمطعوم هناك ذكر وإنما جرى ذكر المال والذهب، ولما كانت معظم جوارح الشهوات والرغبات في الجوف وفيه والقلب(4) الذي عنه يصدر الحرص والرغبة والشره
117 - وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؛ أَنَّهُ قَالَ:« لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنَّ لَهُ وَادِيًا آخَرَ، وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إِلا التُّرَابُ، وَاللَّهُ يَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ ».
__________
(1) في (هـ):" الحديث ".
(2) قوله:" فم " ليس في (هـ).
(3) في (هـ):" هذا الحديث ".
(4) في (ط) و(هـ):" وفيها القلب ".(4/241)
118 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ ابْنُ مُحَمَّدٍ، عن ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« لَوْ أَنَّ لابْنِ آدَمَ مِلْءَ وَادٍ مَالاً لأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ مِثْلُهُ، وَلا يَمْلاُ نَفْسَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ، وَاللَّهُ يَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ ». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلا أَدْرِي أَمِنَ الْقُرْآنِ هُوَ أَمْ لا ؟
وَفِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ: قَالَ: فَلا أَدْرِي أَمِنَ الْقُرْآنِ ؟ لَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبَّاسٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والأمل أضاف ذلك إليه، وقد قيل إن معنى " ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب(1)" أي حتى يموت فيمتلئ تراباً ويصير تراباً وينقطع أمله فعبرّ بانقطاع ذلك وتمامه بملئه بالتراب وهو يعضد ما رجحناه من التأويلين.
وأما ما جاء من أن هذا كان قرآناً أو شك راويه هل كان قرآناً ؟
قال الإمام: أما قول أبي موسى " كنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني(2) حفظت منها: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب(3) شهادة في أعناقكم(4) فتسألون عنها يوم القيامة. فيحتمل أن تكون إحدى السور المتلوة الآن ونسيها هو وحفظ منها الآية المنسوخة.
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: ونسخ ما نسخ من ذلك لهو(5) مما نسخ لفظه، والنسخ في القرآن على ثلاثة وجوه:
__________
(1) قوله:" التراب " ليس في (هـ).
(2) في (أ) و(ط):" أني قد ".
(3) في (هـ):" فكتب ".
(4) في (هـ):" أعناقهم ".
(5) في (هـ):" هو ".(4/242)
119 - حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عن دَاوُدَ، عن أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الأَسْوَدِ، عن أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلاثُ مِائَةِ رَجُلٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ، فَاتْلُوهُ وَلا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الأَمَدُ، فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ، فَأُنْسِيتُهَا غَيْرَ أَنِّي قَدْ حَفِظْتُ مِنْهَا: لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلا يَمْلاُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ. وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ فَأُنْسِيتُهَا، غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، فَتُكْتَبُ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نسخ حكم بقي لفظه وهو أكثر المنسوخ، ونسخ حكم ولفظ كما حكى من شأن خمس رضعات ونسخ لفظ وبقاء حكم كما يذكر من آية الرجم فأنس الله تعالى من ذلك ما شاء لحكمة أرادها وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد كمل النسخ وحفظ جميع القرآن ثم تأمل ما يذكره الصحابة مما نسخ من ذلك فإنما أتوا به على المعنى وبعض اللفظ لا على نص المعجز وسياق نظم القرآن يشهد لذلك ما ذكروه من ذلك وبعده عن نظم القرآن وبلاغته.(4/243)
وقوله: " ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس" العرض بفتح العين والراء [هنا قال أبو عبيد: هو حطام الدنيا يعني متاعها يدخل فيه](1) جميع الأموال العروض وغيرها فأما العرض بسكون الراء فما خلا العقار والحيوان ومايدخله الكيل والوزن هذا قول أبي عبيد وفي كتاب العين 120 - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ قَالا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عن أَبِي الزِّنَادِ، عن الأَعْرَجِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:«لَيْسَ الْغِنَى، عن كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العرض: ما نيل(2) من الدنيا قال الله تعالى: {تريدون عرض الدنيا} وبه فسره بعضهم وقال أبو زيد: العرض: بالسكون ما ليس بذهب ولا فضة وجمعه عروض. وفي العين العرض: خلاف النقد. وهذا قول الأصمعي. ومعنى الحديث: أن حقيقة الغنى والغنى المحمود هو غنى النفس وشبعها وقلة حرصها لا كثرة المال مع الحرص على التزيد منه والشح به(3) فذلك فقر بالحقيقة ؛ لأن صاحبه لم يستغن به بعد.
قال الإمام: يحتمل أن يريد أن(4) الغنى النافع والذي يكف عن الحاجة وليس ذلك على ظاهره لأنه معلوم أن الكثير المال: غني.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) في (هـ):" يقل ".
(3) في (هـ):" بذلك ".
(4) قوله:" أن " ليس في (هـ).(4/244)
وقوله: في الحديث " فقالوا وهل يأتي الخير بالشر(1)" ربما وقع كالمعارضة التي تطلب بها الفائدة ويسرع إلى النفوس قبولها لمضادة الخير للشر فيمكن أن يكون علم - عليه السلام - أنهم لم يفهموا قصده فقال: " لا يأتي الخير بالشر".ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " أو خير هو ؟ " كأنه يقول وإن سلمت قولكم فليس هذا بخير لما يؤدي إليه ويوقع فيه ثم ضرب عليه الصلاة والسلام لهم مثلاً يشير إلى حالة البطن، والمقتصد والمكثر الذي(2) يفرق ما جمع على صفة ينتفع بها فقال - عليه السلام -: " إن مما ينبت الربيع ما يقتل حطباً أو يلم" كأنه قال: أنتم تقولون إن الربيع خير وبه قوام الحيوان وها هو منه ما يقتل للتخمة عاجلاً أو يكاد يقتل فحالة المتخوم كحالة البطن(3) الذي يجمع ولا يصرف فأشار بهذا إلى أن الاعتدال والتوسط في الجمع أحسن، ثم خشي أن يقع في النفس أن من 121 - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. ح، وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ابْنُ سَعِيدٍ - وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ -، قَالَ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عن سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عن عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَعْدٍ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ:« لا وَاللَّهِ ! مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ إِلا مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا »، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ قُلْتَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه
__________
(1) في (هـ):" الشر بالخير ".
(2) في (هـ):" الذي لا ".
(3) في (ط):" البظر ".(4/245)
وسلم -:« إِنَّ الْخَيْرَ لا يَأْتِي إِلا بِخَيْرٍ، أَوَ خَيْرٌ هُوَ، إِنَّ كُلَّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا، أَوْ يُلِمُّ، إِلا آكِلَةَ الْخَضِرِ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَلأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ ثَلَطَتْ، أَوْ بَالَتْ، ثُمَّ اجْتَرَّتْ فَعَادَتْ فَأَكَلَتْ، فَمَنْ يَأْخُذْ مَالاً بِحَقِّهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ يَأْخُذْ مَالاً بِغَيْرِ حَقِّهِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/246)
المكثرين من لا ينفعه إكثاره فضرب لهم المثل بأكلة الخضر وشبهها بمن يجمع(1) ثم يفرقه(2) في وجوه المعروف ووصف - صلى الله عليه وسلم - هذه الدابة بأنها تأكل حتى تمتلئ خاصرتها(3) ثم تثلط(4) فذكر أنها تمتلئ في أول ذكره لها لما كان التشبيه يقتضي إيراده ثم قال بعد ذلك " ثم عادت فأكلت " ولم يقل حتى امتلأت كما قال أول مرة وهذا يحتمل أن يريد به أنها تأكل من جنس الأكل الأول فاستغنى عن إعادته هاهنا بالإشارة إليه ويحتمل أن يريد إنها تعود إلى أكل معتدل وكذلك حالة الجامع للمال في غالب الحال أنه يفني في جمعه أكثر عمره فإذا صرفه ثم عاد إلى الكسب كان كسبه متوسطاً وقد قال الأزهري: في هذا الحديث مثلان 122 - حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عن عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا »، قَالُوا: وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:« بَرَكَاتُ الأَرْضِ »، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَهَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ ؟ قَالَ:« لا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلا بِالْخَيْرِ، لا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلا بِالْخَيْرِ، لا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلا بِالْخَيْرِ، إِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ، إِلا آكِلَةَ الْخَضِرِ، فَإِنَّهَا تَأْكُلُ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ، ثُمَّ اجْتَرَّتْ وَبَالَتْ وَثَلَطَتْ، ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ
__________
(1) في (هـ):" يجمعه ".
(2) في (ط):" يفرق ".
(3) في (أ) و(ط):" خاصرتاها ".
(4) في (أ):" تبلط ".(4/247)
بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحدهما للمفرط في الجمع المانع من الحق وإليه الإشارة بقوله - عليه السلام - " وأن مما ينبت الربيع ما(1) يقتل" وذلك أن الربيع ينبت أحرار البقول فتستكثر منه الماشية حتى تهلك، والثاني: للمقتصد وإليه الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إلاّ آكلة الخضر" ؛ [لأن الخضر](2) ليس من إحرار البقول هذا معنى قول الأزهري في هذا الحديث.
قال الإمام: روى هذا الحديث أبو سعيد الخدري فقال في طريق منه "استقبلت الشمس ثلطت(3) وبالت واجترت" قال في طريق آخر:" استقبلت الشمس ثم اجترت وبالت وثلطت،وهذا يوهم ظاهره الاختلاف وليس مختلف؛ لأن الحديثين جميعا تضمنا(4) أنها اجترت بعد استقبال الشمس.
ففي الأول منهما: ذكر بولها قبل أن تجتر.
__________
(1) قوله:" ما " ليس في (هـ).
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(3) في (هـ):" ثم ثلطت ".
(4) في (ط):" ضمنها ".(4/248)
123 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عن هِشَامٍ صَاحِبِ الدَّسْتَوَائِيِّ، عن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عن هِلالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عن عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَالَ:« إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا »، فَقَالَ رَجُلٌ: أَوَ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ تُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلا يُكَلِّمُكَ ؟ قَالَ: وَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، فَأَفَاقَ يَمْسَحُ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ، وَقَالَ:« إِنَّ هَذَا السَّائِلَ - وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ فَقَالَ -: إِنَّهُ لا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ، إِلا آكِلَةَ الْخَضِرِ، فَإِنَّهَا أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَلأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ رَتَعَتْ وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ هُوَ لِمَنْ أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلَ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/249)
وفي الثانية منهما: ذكره بعد الاجترار ولكن بحذف(1) الواو التي لا توجب الرتبة وإنما حصل الترتيب في كون الاجترار وما عطف عليه بعد استقبال الشمس ولكن الأول من هذه المعطوفات غير مستفاد من حروف(2) الواو، وأما قوله: " ثلطت "، فقال أبو عبيد(3) في المصنف: " ثلط البعير يثلط ثلطا إذا ألقاه سهلاً رقيقا".
124 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عن مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عن عَطَاءِ ابْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ قَالَ:« مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ ».
حَدَّثَنَا عَبْدُ ابْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عن الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله - عليه السلام -: " إن هذه الدنيا حلوة خضرة " قال الهروي: خضرة يعني غضة ناعمة طرية وأصله من خضرة الشجر وسمعت الأزهري يقول: أخذ الشيء خضراً مضراً إذا أخذه بغير ثمن، وقال غضاً طرياً.
قوله: " فأفاق يمسح عنه الرحضاء". يعني: العرق من الشدة وأكثر ما يسمى به عرق الحمى.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" بحرف ".
(2) في (هـ):" حرف ".
(3) في (ط) و(هـ):" عبيدة ".(4/250)
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: قوله " أو خير هو" كذا رويناه بفتح الواو وهو وجه الكلام وقد يحتمل أن يكون معناه أو تحسبون أن كل مال خير بل فيه خير وشر ثم قسمه على ما تقدم بالمثل(1) الذي ضربه وقال بعضهم قد روى " ألا آكلة الخضر" بفتح الهمزة وتخفيف اللام على معنى استفتاح الكلام أي: انظروا آكلة الخضر وما كان منها.
وقوله:" ثم اجترت" أي مضغت جرتها وهو مما أخرجته من جوفها إلى فمها مما رعته قبل فيه.
125 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ، عن سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ - وَهُوَ ابْنُ شَرِيكٍ -، عن أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عن عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ?الْعَاصِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ) و(هـ):" بالمثال".(4/251)
ثم ضرب المثل للمقتصد في اكتساب المال فشبه جمعه له على الوجه الذي يحمده بأكل الخضر المحمود رعيه ثم اقتصارها عن(1) الأكل عند امتداد خاصرتيها لأول شبعها بالمقتصد في كسبه الذي إذا جمع كفايته استغنى بها وترك الطلب وتودّع(2) ونظر في استعمال ما جمعه وإنفاقه في مصالحه ومنافعه وسقوط بقاء التبعات فيه بخروجه من يده في وجوهه كهذه التي اجترت ما جمعته قبل في كرشها ليسهل لها هضمه(3) وتجرى منفعته في جسمها ثم امتدت للشمس(4) لتستريح جسمها ويصلح هضمه(5) وتنضج أخلاط جسمها حتى تم لها مرادها وبقي في جسمها منفعته وخرج عنها ثقله ومضرته بخلاف غيرها التي لم ترفع رأسها حتى أثقلها ذلك ولم ينهضم لها لكثرة ما رعته منه ووباله فماتت تخمة وحطباً كذلك الحريص على الجمع المكثر الذي لا يملأ عينه شيء ولا يصرف ما جمعه منه في وجوهه ويكتنزه(6) حتى يأتيه أجله وقد بقيت عليه تباعاته فكان سبب هلاكه في آخرته.
__________
(1) في (هـ):" على ".
(2) في (هـ):" تورع ".
(3) في (هـ):" مضغه ".
(4) قوله:" للشمس " ليس في (أ).
(5) في (هـ):" هضمها ".
(6) في (هـ):" ويكثره ".(4/252)
وقال بعضهم: احتج قوم(1) بهذا الحديث في تفضيل الفقر على الغنى ؛ لأن النبي - عليه السلام - لم يخش عليهم ما يفتح عليهم(2) من الدنيا إلاّ إذا ضيعوا فيها ما أمرهم الله به من إنفاقه(3) في حقوقه وإذا كسبوه من غير وجهه ويوضحه قوله: " فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم" إلى ما جاء بعده ومعنى 126 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ قَالُوا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ. ح، وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عن أَبِيهِ، كِلاهُمَا عن عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عن أَبِي زُرْعَةَ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله:" أو يلم " أي يقرب من الإهلاك والقتل.
ألمّ بالشيء: قرب منه. وسمي متاع الدنيا زهرة تشبيهاً بزهر النبات لحسنه عند الناس وإعجاب النفوس به(4) والخضر: كلأ الصيف.
وقال الأزهري: هو هنا ضرب من الجَنْبة وهي من الكلأ ما له أصل غامض في الأرض واحدتها خضرة.
قال القاضي: أبو الفضل - رضي الله عنه -: وقد وقع في الأصل من رواية العذري في حديث أبي الطاهر " إلاّ آكلة الخضرة" على الإفراد كما قاله الأزهري، وعند الطبري " الخُضرة" بالضم، ورواه بعضهم "ألا" بفتح الهمزة والتخفيف على الاستفتاح (5).
__________
(1) في (أ):" بعضهم ".
(2) قوله:" ما يفتح عليهم " ليس في (ط).
(3) في (هـ):" إنفاقهم ".
(4) قوله:" به " ليس في (هـ).
(5) في (أ) بعد هذه الموضع:" قال الإمام: وقوله: يمسح الرحضاء". يعني: العرق من الشدة وأكثر ما يسمى به عرق الحمى ". وتقدم قبل ثلاث صفحات.(4/253)
قال القاضي: وقوله: " أين السائل؟" كذا لابن سعيد وابن أبي جعفر، وعند السمرقندي " أنى السائل(1)" ويقرب من معناه. وعند العذري: " أي السائل"؟ كأنه يقول: أيكم السائل(2). وفي هذاالحديث: تسمية المال خيراً، وقيل ذلك في قوله تعالى:{إن ترك خيرا}.
وقوله: " اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً" فيه ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من القصد في أموره والتقلل من دنياه والاقتصار منها على الحاجة فدعاؤه - عليه السلام - أن
127 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عن الأَعْمَشِ، عن أَبِي وَائِلٍ، عن سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَسْمًا، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! لَغَيْرُ هَؤُلاءِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُمْ، قَالَ:« إِنَّهُمْ خَيَّرُونِي أَنْ يَسْأَلُونِي بِالْفُحْشِ أَوْ يُبَخِّلُونِي فَلَسْتُ بِبَاخِلٍ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يكون رزق آله(3) قوتاً(4) يقيم حالهم ويصلح أمرهم ويكفيهم الجهد، وليس فيه فضول يخشى عليهم فتنته ويخاف وباله.
__________
(1) قوله:" السائل " ليس في (أ) و(ط).
(2) قوله:" السائل " ليس في (ط).
(3) في (هـ):" آل محمد ".
(4) في (هـ):" قوتًا لهم ".(4/254)
وقوله: حين قسم قسماً فقال له عمر: " غير هؤلاء كان أحق به " فقال " إنهم خيروني بين أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني فلست بباخل" معناه:أنهم اشتطوا عليه(1) في المسألة التي تقتضي إن أجابهم إليها حاباهم وإن منعهم آذوه وبخلوه فاختار - عليه السلام - إعطاءهم إذ ليس البخل من طباعه، ومداراة لهم وتألفاً كما قال - عليه السلام - " إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره" كما أمره الله بإعطاء المؤلفة قلوبهم وضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي جبذه بردائه حتى أثر في عنقه وانشق البرد وقال له(2): مر لي يا محمد من مال الله الذي عندك وإعطاؤه إياه من هذا. وفيه ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الصبر والحلم والخلق العظيم والإغضاء عن الجاهلين والإعراض عنهم كما أدبه الله به [ومعنى حتى رجع النبي - عليه السلام - في نحر الأعرابي إن جبذته ضمته إليه ](3).
__________
(1) في (هـ):" على ".
(2) قوله:" له " ليس في (هـ).
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).(4/255)
128 - حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّازِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا. ح، وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى - وَاللَّفْظُ لَهُ -، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عن إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.
حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ. ح، وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ. ح، وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، كُلُّهُمْ عن إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا الْحَدِيثِ وَفِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ مِنَ الزِّيَادَةِ قَالَ ثُمَّ جَبَذَهُ إِلَيْهِ جَبْذَةً رَجَعَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي نَحْرِ الأَعْرَابِيِّ وَفِي حَدِيثِ هَمَّامٍ فَجَاذَبَهُ حَتَّى انْشَقَّ الْبُرْدُ وَحَتَّى بَقِيَتْ حَاشِيَتُهُ فِي عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ».(4/256)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " حتى بقيت حاشيته في عنقه " يحتمل أنه على وجهه بدليل قوله: حتى امشق البرد، ويحتمل أن يريد بقي(1) أثر الحاشية بدليل قوله في الحديث الآخر " حتى أثر البرد في عنقه".
وقوله: " فجاذبه " بمعنى فجبذه في الرواية الأخرى يقال: جذب وجبذ وهو من المقلوب وكذلك فعله مع مخرمة في القباء وعرضه محاسنه عليه.
129 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عن ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عن الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَقْبِيَةً، وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ شَيْئًا، فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَيَّ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، قَالَ: ادْخُلْ فَادْعُهُ لِي، قَالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا، فَقَالَ: خَبَأْتُ هَذَا لَكَ ». قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: رَضِيَ مَخْرَمَةُ.
130 - حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى الْحَسَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عن الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَقْبِيَةٌ، فَقَالَ لِي أَبِي مَخْرَمَةُ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا، قَالَ: فَقَامَ أَبِي عَلَى الْبَابِ فَتَكَلَّمَ، فَعَرَفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَوْتَهُ فَخَرَجَ وَمَعَهُ قَبَاءٌ وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، خَبَأْتُ هَذَا لَكَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط):" بقيت "، وكذا في (هـ).(4/257)
وقوله: " خبأت هذا لك كله" من مداراة الناس، وكان مخرمة من مشايخ قريش وكذلك قوله بعد هذا في حديث سعد: " إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار على وجهه".
إما بذم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسبه وتبخيله إن لم يعطه فيكفر.
أو لأنه بالعطاء يستألفه حتى يتمكن الإيمان في قلبه ويصح يقينه فينجوا من النار، وكذلك قوله في الحديث الآخر بعد هذا " إني لأعطي قوماً حديثي عهدٍ بكفر أتألفهم ".
131 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ -، حَدَّثَنَا أَبِي، عن صَالِحٍ، عن ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عن أَبِيهِ سَعْدٍ ؛ أَنَّهُ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَهْطًا، وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ، قَالَ: فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُمْ رَجُلاً لَمْ يُعْطِهِ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا لَكَ عن فُلانٍ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ:« أَوْ مُسْلِمًا »، فَسَكَتُّ قَلِيلاً ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا لَكَ عن فُلانٍ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ:« أَوْ مُسْلِمًا »، فَسَكَتُّ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا لَكَ عن فُلانٍ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ:« أَوْ مُسْلِمًا »، قَالَ:« إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ ».
وَفِي حَدِيثِ الْحُلْوَانِيِّ تَكْرِيرُ الْقَوْلِ مَرَّتَيْنِ.(4/258)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: في الحديث " مالك عن فلان والله إني لأراه مؤمنا".
قال الإمام: يحتمل أن يكون إنما حلف على ما ظهر له منه لا على معتقده ؛ لأن البواطن لا تعلم.
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه - قوله(1): " والله إني لأراه مؤمناً(2)" يبين هذا ولم يقل: " والله إنه لمسلم " فإنما حلف على ما رآه منه وظهر له.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: " أو مسلماً " بسكون الواو لا غير ومن حركها أحال المعنى(3)؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرد استفهامه وإنما أشار له إلى القسم الآخر المختص بالظاهر فجاء بـ " أو" التي للتقسيم.
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ. ح، وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ. ح، وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كُلُّهُمْ عن الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ، عَلَى مَعْنَى حَدِيثِ صَالِحٍ، عن الزُّهْرِيِّ.
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ ابْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عن صَالِحٍ، عن إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، يَعْنِي حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي، ثُمَّ قَالَ: «أَقِتَالاً ! أَيْ سَعْدُ، إِنِّي لاُعْطِي الرَّجُلَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) قوله:" قوله " ليس في (أ) و(ط).
(2) في (ط) و(هـ):" المؤمن ".
(3) في (هـ):" حركها أخل بالمعنى ".(4/259)
قال الإمام: فيه دليل على الفرق بين الإسلام والإيمان ؛ لأن الإيمان: التصديق. والإسلام: الاستسلام والانقياد للشرائع،والإيمان شعبة من ذلك فكل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيماناً لأنه قد ينقاد في الظاهر وهو منافق قال الله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} الآية.
وقوله (1): " أقتالاً أي سعد". أي مدافعه ومكابرة لما كرر عليه سعد الكلام في الرجل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يراجعه، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث بأوعب من هذا في كتاب الإيمان وفي سند حديث المسور: زياد بن يحيى الحساني كذا ضبطناه عن شيوخنا بفتح الهاء(2) ا لمهملة وسين مهملة وضبطه بعضهم بضم الحاء وهو غلط.
__________
(1) في (هـ):" قال القاضي وقوله ".
(2) في (هـ):" الحاء ".(4/260)
132 - حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ؛ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الآنْصَارِ قَالُوا يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ مَا أَفَاءَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِي رِجَالاً مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنَ الإِبِلِ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ، يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَحُدِّثَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قَوْلِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:« مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟»، فَقَالَ لَهُ فُقَهَاءُ الأَنْصَارِ: أَمَّا ذَوُو رَأْيِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ قَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ، يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالاً حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَفَلا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأَمْوَالِ وَتَرْجِعُونَ إِلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ»، فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَدْ رَضِينَا، قَالَ:« فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَثَرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ ». قَالُوا: سَنَصْبِرُ.(4/261)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " لصناديد نجد " أي ساداتهم الصنديد السيد ا لعظيم القدر، وفي العين الصنديد: الملك الضخم الشديد.
وقوله: " بعث بذهبة" كذا لكافة رواة مسلم من شيوخنا عن الجلودي. وعند ابن ماهان: "بذهيبة " على التصغير.
حَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عن صَالِحٍ، عن ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ؛ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَا أَفَاءَ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ نَصْبِرْ، وَقَالَ: فَأَمَّا أُنَاسٌ حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ.
وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عن عَمِّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ، إِلا أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: قَالُوا نَصْبِرُ، كَرِوَايَةِ يُونُسَ، عن الزُّهْرِيِّ.(4/262)
133 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ، عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الأَنْصَارَ فَقَالَ:« أَفِيكُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِكُمْ ؟»، فَقَالُوا: لا، إِلا ابْنُ أُخْتٍ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ ابْنَ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ »، فَقَالَ:« إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ، وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَجْبُرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى بُيُوتِكُمْ، لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَ الأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذكر: مسلم ما أعطاه المؤلفة قلوبهم يوم حنين من قريش ولم يعط الأنصار.
قال الإمام: هذا حجة لأحد القولين أن الغنيمة لا يملكها الغانمون حتى يملكهم إياها الإمام وهذا أصل مختلف فيه عندنا وينبني عليه الخلاف فيمن سرق من الغنيمة أو زنا بأمة منها قبل أن تقسم.(4/263)
134 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن أَبِي التَّيَّاحِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ قَسَمَ الْغَنَائِمَ فِي قُرَيْشٍ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْعَجَبُ، إِنَّ سُيُوفَنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ وَإِنَّ غَنَائِمَنَا تُرَدُّ عَلَيْهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَمَعَهُمْ فَقَالَ:« مَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكُمْ ؟»، قَالُوا: هُوَ الَّذِي بَلَغَكَ، وَكَانُوا لا يَكْذِبُونَ، قَالَ: «أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا إِلَى بُيُوتِهِمْ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى بُيُوتِكُمْ، لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ، أَوْ شِعْبَ الأَنْصَارِ ».(4/264)
135 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ يَزِيدُ، أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ الْحَرْفَ بَعْدَ الْحَرْفِ، قَالا: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عن هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسٍ، عن?أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ أَقْبَلَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ وَغَيْرُهُمْ بِذَرَارِيِّهِمْ وَنَعَمِهِمْ، وَمَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ عَشَرَةُ آلافٍ، وَمَعَهُ الطُّلَقَاءُ، فَأَدْبَرُوا عَنْهُ حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ، قَالَ: فَنَادَى يَوْمَئِذٍ نِدَاءَيْنِ لَمْ يَخْلِطْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، قَالَ: فَالْتَفَتَ عن يَمِينِهِ، فَقَالَ: « يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ !»، فَقَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ، قَالَ: ثُمَّ الْتَفَتَ عن يَسَارِهِ، فَقَالَ:« يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ! قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ، قَالَ: وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ، فَنَزَلَ فَقَالَ:« أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ »، فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، وَأَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَنَائِمَ كَثِيرَةً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/265)
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: ليس في هذا الحديث نص أنه فعل ذلك عليه الصلاة والسلام قبل إخراج الخمس أو أنه لم يحسب ما أعطاهم من الخمس والمعروف فَقَسَمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالطُّلَقَاءِ، وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئًا، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: إِذَا كَانَتِ الشِّدَّةُ فَنَحْنُ نُدْعَى، وَتُعْطَى الْغَنَائِمُ غَيْرَنَا، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ! مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ، فَسَكَتُوا، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ! أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَتَذْهَبُونَ بِمُحَمَّدٍ تَحُوزُونَهُ إِلَى بُيُوتِكُمْ »، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ! رَضِينَا، قَالَ: فَقَالَ:« لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا، لأَخَذْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ ». قَالَ هِشَامٌ: فَقُلْتُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ ! أَنْتَ شَاهِدٌ ذَاكَ ؟ قَالَ: وَأَيْنَ أَغِيبُ عَنْهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الأحاديث الأخر أن إعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن أعطى إنما كان من الخمس، وفيه أن للإمام تصريف الخمس ومال الفيء في مصالح المسلمين وأنه حل للأعنياء، وأن له أن يفضل فيه الناس على قدر ما يراه وأن يعطي منه الكثير.
وقوله: " فإنكم ستجدون أثرة شديدة" كذا رويناه عن أبي بحر وبعضهم بضم الهمزة وسكون الثاء ورويناه عن القاضي أبي علي عن العذري وعن الفقيه أبي محمد الخشني عن الطبري" أثرة " بفتحهما معاً وكلاهما صحيح وبالوجهين ضبطنا الحرف على(1) أبي الحسين بن سراج في هذا الحديث في كتاب الهروي أي تفضيلاً أي يستأثر غيركم فيفضل نفسه عليكم.
__________
(1) في (هـ):" عن ".(4/266)
قال الأزهري: الأثرة: الاستيثار وجمعه أثر وأثر وحكى لنا الأستاذ أبو عبدالله بن سليمان النحوي عن أبي علي القالي أن الأثرة: الشدة وبه كان يفسر هذا الحديث، وفي هذا من ظهور صدق ما أخبر به النبي - عليه السلام - مما يكون.
136 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، وَحَامِدُ بْنُ عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى قَالَ ابْنُ مُعَاذٍ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عن أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي السُّمَيْطُ، عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: افْتَتَحْنَا مَكَّةَ، ثُمَّ إِنَّا غَزَوْنَا حُنَيْنًا، فَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ بِأَحْسَنِ صُفُوفٍ رَأَيْتُ، قَالَ: فَصُفَّتِ الْخَيْلُ، ثُمَّ صُفَّتِ الْمُقَاتِلَةُ، ثُمَّ صُفَّتِ النِّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، ثُمَّ صُفَّتِ الْغَنَمُ، ثُمَّ صُفَّتِ النَّعَمُ، قَالَ: وَنَحْنُ بَشَرٌ كَثِيرٌ قَدْ بَلَغْنَا سِتَّةَ آلافٍ، وَعَلَى مُجَنِّبَةِ خَيْلِنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: فَجَعَلَتْ خَيْلُنَا تَلْوِي خَلْفَ ظُهُورِنَا، فَلَمْ نَلْبَثْ أَنِ انْكَشَفَتْ خَيْلُنَا، وَفَرَّتِ الأَعْرَابُ وَمَنْ نَعْلَمُ مِنَ النَّاسِ، قَالَ: فَنَادَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« يَالَ الْمُهَاجِرِينَ، يَالَ الْمُهَاجِرِينَ »، ثُمَّ قَالَ:« يَالَ الأَنْصَارِ، يَالَ الأَنْصَارِ »، قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: هَذَا حَدِيثُ عِمِّيَّةٍ، قَالَ: قُلْنَا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ: فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَايْمُ اللَّهِ مَا أَتَيْنَاهُمْ حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ، قَالَ: فَقَبَضْنَا ذَلِكَ الْمَالَ، ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الطَّائِفِ فَحَاصَرْنَاهُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى مَكَّةَ فَنَزَلْنَا، قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِي الرَّجُلَ(4/267)
الْمِائَةَ مِنَ الإِبِلِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ، كَنَحْوِ حَدِيثِ قَتَادَةَ وَأَبِي التَّيَّاحِ وَهِشَامِ بْنِ زَيْدٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام: وقوله: " لو سلك الناس وادياً أو شعباً " الشعب: هو الطريق في الجبل قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: هذا قول يعقوب.
وقال الخليل: هو ما انفرج بين جبلين وهذا أكثر(1)، ومنه شعب مكة وغيرها.
137 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عن عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عن أَبِيهِ، عن عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عن رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا?سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَالأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ دُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْـ ــدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ
فَمَا كَانَ بَدْرٌ وَلا حَابِسٌ يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا وَمَنْ تَخْفِضِ الْيَوْمَ لا يُرْفَعِ
قَالَ: فَأَتَمَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِائَةً .
138 - وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عن عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ، فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ. وَزَادَ وَأَعْطَى عَلْقَمَةَ ابْنَ عُلاثَةَ مِائَةً .
__________
(1) قوله:" أكثر " ليس في (هـ)، وفي (ط):" أكبر ".(4/268)
139 - وَحَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ خَالِدٍ الشَّعِيرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ عَلْقَمَةَ بْنَ عُلاثَةَ وَلا صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ وَلَمْ يَذْكُرِ الشِّعْرَ فِي حَدِيثِهِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام وقوله: " الأنصار شعار والناس دثار" الشعار الثوب الذي يلي الجسد والدثار الثوب الذي يلي(1) الشعار. فمعناه: الأنصار هم الخاصة والبطانة.
__________
(1) في (هـ):" في " بدل:" يلي ".(4/269)
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: وذكر مسلم في الباب نا مخلد بن خالد الشعيري، نا سفيان حدثني عمر بن سعيد كذا قيدنا اسمه ونسبه عن كافة 139 - حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عن عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عن عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا فَتَحَ حُنَيْنًا قَسَمَ الْغَنَائِمَ، فَأَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّ الأَنْصَارَ يُحِبُّونَ أَنْ يُصِيبُوا مَا أَصَابَ النَّاسُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخَطَبَهُمْ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:« يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ! أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلالاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَمُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَكُمُ اللَّهُ بِي »، وَيَقُولُونَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، فَقَالَ:« أَلا تُجِيبُونِي »، فَقَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ شِئْتُمْ أَنْ تَقُولُوا: كَذَا وَكَذَا، وَكَانَ مِنَ الأَمْرِ كَذَا وَكَذَا »، لأَشْيَاءَ عَدَّدَهَا، زَعَمَ عَمْرٌو: أَنْ لا يَحْفَظُهَا، فَقَالَ:« أَلا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالإِبِلِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى رِحَالِكُمْ، الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، وَلَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/270)
شيوخنا وكان(1) في أصل ابن عيسى بخط ابن العسال روايته من طريق ابن الحذاء نا خالد بن مخلد السعتري ولم أجد الحاكم، ولا الباجي، ولا الجياني ومن تكلم على رجال الصحيحين ذكر خالد بن مخلد السعتري، ولا مخلد بن خالد الشعيري ولا ذكر هذين النسبين مع أحد هذين الاسمين أحد من أصحاب المؤتلف والتقييد [ولا أحد ممن تكلم على رجال الصحيحين إلا أن أبا داود روى في مصنفه عن مخلد بن خالد الشعيري](2) ولا ذكروا في رجال(3) الصحيحين(4) مخلد بن خالد غير منسوب ولا خالد بن مخلد سوى 140 - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، و قَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عن مَنْصُورٍ، عن أَبِي وَائِلٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَاسًا فِي الْقِسْمَةِ، فَأَعْطَى الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ فِيهَا وَجْهُ اللَّهِ، قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ، قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ حَتَّى كَانَ كَالصِّرْفِ، ثُمَّ قَالَ:« فَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ»، قَالَ: ثُمَّ قَالَ:« يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ »، قَالَ: قُلْتُ: لا
__________
(1) قوله:" وكان " ليس في (أ).
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(3) من قوله:" الصحيحين...." إلى هنا ليس في (هـ).
(4) قوله:" في رجال الصحيحين " ليس في (أ).(4/271)
جَرَمَ لا أَرْفَعُ إِلَيْهِ بَعْدَهَا حَدِيثًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خالد بن مخلد القطواني، قيل هو منسوب إلى قرية بباب الكوفة وهو قول أبي ذر والباجي وقال البخاري والكلاباذي: معناه البقال فلعله سمى بذلك لبيعه القطاني فيشبه(1) إن كان هو أن يكون شعيرياً أيضًا(2) لذلك(3) لبيعه الشعير أو(4) إن لم يكن هو فمنسوب إلى الشعيرة إقليم بحمص من الشام كما قيل في أبي قتيبة مسلم(5) بن قتيبة الخراساني الشعيري(6) خرج عنه البخاري ولم ينسبه في الصحيح ونسبه في التاريخ.
وقوله:" أتجعل نهبي ونهب العبيد" هو اسم فرسه [والنهب: الغنيمة والاستيلاب](7).
وقوله:" ومعه الطلقاء " هم الذين أسلموا عند الفتح من قريش ومنّ عليهم النبي - عليه السلام -.
141 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عن الأَعْمَشِ، عن شَقِيقٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَسْمًا فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ قَالَ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَارَرْتُهُ فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا وَاحْمَرَّ وَجْهُهُ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَذْكُرْهُ لَهُ قَالَ ثُمَّ قَالَ قَدْ أَوُذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله " بذراريهم ونعمهم" أي بعيالاتهم ونسائهم والذرية تطلقها العرب على هذا وكذلك كان أمر هوازن كان معهم نساؤهم.
__________
(1) في (أ):" فنسبته ".
(2) قوله:" أيضًا " ليس في (هـ).
(3) قوله:" لذلك " ليس في (أ).
(4) في (هـ):" و ".
(5) في (أ):" سلم ".
(6) في (هـ):" السعيري ".
(7) مابين المعكوفين ليس في (أ).(4/272)
والنعم بالفتح: الإبل خاصة جمع لا واحد له من لفظه، وقيل: ينطلق أيضًا على جماعة المواشي [إذا كان فيها إبل وكذلك كان أمر هوازن، والأنعام المواشي](1) من الإبل وغيرها، وقيل: إن النعم والأنعام بمعنى واحد.
وقوله: في حديث ابن معاذ في هذه القصة " ونحن بشر كثير قد بلغنا ستة آلاف" هذا على الحزر(2) منه لا على التحقيق أو على الوهم من الراوي عن أنس وإنما كان المسلمون ذلك اليوم في اثني عشر ألفاً، عشرة آلاف أهل الفتح على ما قاله أهل السير وألفان من أهل مكة ومن انضاف إليهم، وقد ذكر مسلم في الحديث الآخر عن أنس " ومع ا لنبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ عشرة آلاف ومعهم الطلقاء" فهذا هو الصحيح المطابق لما قاله أهل السير.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) في (ط):" التحرز ".(4/273)
وقول: أنس " هذا حديث عِميّة" بكسر العين والميم وتشديدها(1) وفتح الياء وتشديدها كذا روايتنا في هذا الحرف عن عامة شيوخنا، وفسر بالشدة، وروايتنا فيه عن التميمي " عَمَية " بفتح العين وتخفيف الياء ويكون معناه عندي جماعتي أي هذا حديثهم(2)، قال صاحب العين: العم الجماعة وأنشد عليه 142 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عن يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عن أَبِي الزُّبَيْرِ، عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ وَفِي ثَوْبِ بِلالٍ فِضَّةٌ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْبِضُ مِنْهَا يُعْطِي النَّاسَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ قَالَ وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ فَقَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ حَدَّثَنِي قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عن جَابِرِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْسِمُ
__________
(1) قوله:" وتشديدها " ليس في (هـ).
(2) في (هـ):" حديثكم ".(4/274)
مَغَانِمَ وَسَاقَ الْحَدِيثَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابن دريد في "الجمهرة"(1):
أفنيت عماً وجبرت(2) عماً
وهذا أشبه بالحديث ومعناه، وذكره ابن أبي نصر الحميدي كذلك إلاّ أنه شدد الياء وفسره بعمومتي وتخفيفها أي هذا حديث قول(3) أعمامي أو هذا الحديث الذي حدثني به أعمامي كأنه حدث عن ما شاهد أول الحديث ثم لعله لم يضبط هذا الموضع ولا حضره لتفرق الناس وانهزامهم فحدثه به من شهده من أعمامه أو جماعته الذين شاهدوه ألا تراه كيف قال عنهم ؟ قال: قلنا لبيك يا رسول الله.
__________
(1) في (هـ) زيادة:" وقول ".
(2) في (هـ):" وجيرت ".
(3) في (أ) و(هـ):" فضل ".(4/275)
143 - حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عن سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - وَهُوَ بِالْيَمَنِ بِذَهَبَةٍ فِي تُرْبَتِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيُّ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلاثَةَ الْعَامِرِيُّ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي كِلابٍ وَزَيْدُ الْخَيْرِ الطَّائِيُّ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي نَبْهَانَ، قَالَ: فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ، فَقَالُوا: أَتُعْطِي صَنَادِيدَ نَجْدٍ وَتَدَعُنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لأَتَأَلَّفَهُمْ »، فَجَاءَ رَجُلٌ كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الْجَبِينِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« فَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِنْ عَصَيْتُهُ، أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ وَلا تَأْمَنُونِي »، قَالَ: ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فِي قَتْلِهِ، يُرَوْنَ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/276)
وقوله: " مشرف الوجنتين" أي عاليهما ومثله قول " ناشزا لجبهة " والنشز: المرتفع من الأرض [والوجنة عظم الخد يقال بفتح الواو وكسرها وضمها، ووجنة بفتح الواو وكسر الجيم. ووجنة بفتحهما جميعا. وأجنة بضم الهمزة](1).
وقوله: " فتغير وجهه حتى صار كالصرف" الصرف: صبغ أحمر تصبغ به الجلود وقد سمي(2) الدم صرفا قاله ابن دريد.
144 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، عن عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي نُعْمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْيَمَنِ بِذَهَبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا، قَالَ: فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ، بَيْنَ: عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَزَيْدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابِعُ: إِمَّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلاثَةَ، وَإِمَّا عَامِرُ ابْنُ الطُّفَيْلِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلاءِ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:« أَلا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً »، قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشَمَّرُ الإِزَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! اتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ:« وَيْلَكَ، أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ »، قَالَ: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَلا أَضْرِبُ عُنُقَهُ، فَقَالَ: لا
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(2) في (ط) و(هـ):" يسمى ".(4/277)
لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي، قَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عن قُلُوبِ النَّاسِ، وَلا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ »، قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ فَقَالَ:« إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ »، قَالَ: أَظُنُّهُ قَالَ:« لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: للذي قال له " اتق الله واعدل"، " وأن هذه قسمة ما عدل فيها" " وما أريد بها وجه الله".
145 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عن عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بِهَذَا الإِسْنَادِ: قَالَ: وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلاثَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ، وَقَالَ: نَاتِئُ الْجَبْهَةِ، وَلَمْ يَقُلْ: نَاشِزُ. وَزَادَ: فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَلا أَضْرِبُ عُنُقَهُ ؟ قَالَ:« لا »، قَالَ: ثُمَّ أَدْبَرَ، فَقَامَ إِلَيْهِ خَالِدٌ سَيْفُ اللَّهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَلا أَضْرِبُ عُنُقَهُ ؟ قَالَ:« لا »، فَقَالَ: « إِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ لَيِّنًا رَطْبًا »، وَقَالَ: قَالَ عُمَارَةُ: حَسِبْتُهُ قَالَ:« لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ ».(4/278)
146 - وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عن عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: زَيْدُ الْخَيْرِ، وَالأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَعُيَيْنَةُ ابْنُ حِصْنٍ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلاثَةَ، أَوْ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ. وَقَالَ: نَاشِزُ الْجَبْهَةِ، كَرِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَقَالَ: إِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ: لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام: من سبّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قُتل ولم يذكر في هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتقم من هذا القائل(1) ويحتمل أن يكون لم يفهم عنه الطعن في النبوة وإنما نسبه إلى أنه لم يعدل في القسمة.
والمعاصي على قسمين، فأما الكبائر: فهو عليه الصلاة والسلام معصوم منها إجماعاً وأما الصغائر: فإن المجيزين لوقوعها من ا لرسل يمنعون أن يضاف إليه - عليه السلام - على جهة الانتقاص ولعله - عليه السلام - لم يعاقب القائل لأنه لم يثبت عليه ذلك وإنما نقله عنه واحد وشهادة الواحد لا يراق بها الدم على هذا الوجه.
__________
(1) قوله:" القائل " ليس في (أ).(4/279)
147 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عن أَبِي سَلَمَةَ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُمَا أَتَيَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، فَسَأَلاهُ عن الْحَرُورِيَّةِ، هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُهَا ؟ قَالَ: لا أَدْرِي مَنِ الْحَرُورِيَّةُ ؟ وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ - وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا - قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مَعَ صَلاتِهِمْ، فَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ أَوْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَيَنْظُرُ الرَّامِي إِلَى سَهْمِهِ، إِلَى نَصْلِهِ، إِلَى رِصَافِهِ، فَيَتَمَارَى فِي الْفُوقَةِ، هَلْ عَلِقَ بِهَا مِنَ الدَّمِ شَيْءٌ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: مما يدفع هذا التأويل قوله " اعدل يا محمد واتق الله يا محمد" وأنه خاطبه خطاب المواجهة بمحضر الملأ حتى استأذن عمر وخالد النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتله فقال: " معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه" فهذه هي العلة وسلك فيها مسلكه مع غيره من المنافقين الذين آذوه وسمع منهم في غير موطن ما كرهه لكنه صبر وحلم استبقاء وتأليفاً لغيرهم، ولئلا يتحدث أنه يقتل أصحابه وقد رأى الناس هذا الصنف في جماعاتهم وعَدُّوه(1) من جملتهم. وقد أشبعنا الكلام على هذا الفصل. وعلى خطايا الأنبياء والكلام في تنقصهم وتكفير قائله في القسم الرابع من كتابنا المسمى بالشفاء وتقصيناه غاية التقصي مما لا مزيد عليه.
__________
(1) في (هـ):" عدوهم ".(4/280)
وما جاء في أحد الأحاديث أن عمر استأذن في قتله، وفي الآخر ذكر ذلك عن خالد بن الوليد فليس بخلاف قد بينه في الحديث الآخر أنهما جميعاً استأذنا في ذلك أحدهما بعد الآخر.
148 - حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. ح، وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ الْفِهْرِيُّ قَالا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ، وَالضَّحَّاكُ الْهَمْدَانِيُّ ؛ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ - وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! اعْدِلْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« وَيْلَكَ ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ، قَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ »، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! ائْذَنْ لِي فِيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: « دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا القائل: " خبت وخسرت إن لم أعدل " رويناه بضم التاء فيهما وفتحهما.(4/281)
قال الإمام: فأما الضم فظاهر المعنى، وأما الفتح فتقديره خبت أنت وخسرت إن لم أعدل أنا إذ كنت أنت مقتدياً بي وتابعاً لي.
وقوله: " يخرج من ضئضئ هذا ".
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه - قيل: بهذا اللفظ سموا خوارج، وقيل: بل لخروجهم عن الجماعة، وقيل: بل لخروجهم عليها كما سموا " مارقة " من قوله: " يمرقون من ا لدين " وروايتنا في هذا الحرف بالمعجمة عن أكثرهم، وفي فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ الْقِدْحُ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ، إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَتَدَرْدَرُ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ ».
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ، فَالْتُمِسَ فَوُجِدَ، فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي نَعَتَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب ابن عيسى معاً بالضاد المعجمة والصاد المهملة.
قال الإمام: " والضئضئ " الأصل، ويقال أيضًا بصادين مهملتين والمعنى واحد، وللأصل أسماء كثيرة منها: النجار، والنحاس، والسنخ(1)، والعنصر، والعيص، وغير ذلك مما حكى عامتها أبو علي القالي في كتاب الأمالي.
وقوله: وهو "مقف" أي مول ذاهب.
__________
(1) في (هـ):" الستح ".(4/282)
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه - وقوله: " يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية" أي يخرجون منه خروج السهم إذا نفذ الصيد من جهة أخرى ولم يتعلق به شيء منه، والرمية: الصيد الذي يرمى، فعيله بمعنى: مفعولة، والدين هنا: الإسلام.
وقال الخطابي: هو هنا الطاعة أي من(1) طاعة الإمام.
وقوله: " يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم " فيه تأويلان أي لم تفقهه قلوبهم ولا انتفعوا بما تلوا منه ولا لهم منه حظ سوى تلاوة الفم(2) والحنجرة والحلق إذ بهما تقطيع الحروف.
149 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عن سُلَيْمَانَ، عن أَبِي نَضْرَةَ، عن أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ قَوْمًا يَكُونُونَ فِي أُمَّتِهِ يَخْرُجُونَ فِي فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ سِيمَاهُمُ: التَّحَالُقُ، قَالَ:« هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ، أَوْ مِنْ أَشَرِّ الْخَلْقِ، يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ »، قَالَ: فَضَرَبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَهُمْ مَثَلاً، أَوْ قَالَ قَوْلاً:« الرَّجُلُ يَرْمِي الرَّمِيَّةَ - أَوْ قَالَ: الْغَرَضَ -، فَيَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلا يَرَى بَصِيرَةً، وَيَنْظُرُ فِي النَّضِيِّ فَلا يَرَى بَصِيرَةً، وَيَنْظُرُ فِي الْفُوقِ فَلا يَرَى بَصِيرَةً ». قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَأَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والتأويل الآخر: أنه لم يصعد لهم عمل ولا تلاوة ولا تتقبل.
وقوله في الرواية الأخرى " يتلون كتاب الله لياً رطباً " أي سهلاً لكثرة حفظهم له، وقد رواه بعض شيوخنا " ليّناً " بالنون وهو بمعنى: رطب.
وقيل: معنى ليًّا ؛ أي: يلون ألسنتهم به، أي: يحرفونه.
__________
(1) قوله:" من " ليس في (هـ).
(2) في (هـ):" الفهم ".(4/283)
وقيل: هذا بعيد لا يلتئم مع قوله " رطباً " وليست صفة الخوارج وإنما هي صفة أهل الكتاب الذين وصفهم به الله لكن قد يرجع هذا اللّي إلى تحريف معانيه وتأويله وقد يكون من اللّي في الشهادة وهو الميل قاله القتبي.
" وناشز الجبين" أي: مرتفعة، "والنصل": حديدة السهم. و"القدح": عوده، قال الإمام: والقذذ: ريش السهم."والبصيرة": طريقة الدم وجمعها بصائر. " والفوق": الحز الذي يجعل فيه الوتر. "والرصاف": مدخل السهم في النصل.
قال الهروي: والرصفة عقبة تلوى على مدخل النصل في السهم(1)، يقال: منه سهم مرصوف.
والنضي: القدح وقد فسره في الحديث.
150 - حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ - وَهُوَ ابْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ -، حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: هذا قول الأصمعي، وقال الشيباني: هو النضل وهو بفتح النون وكسر الضاد المعجمة والأول هو الصواب وقد ذكر في الحديث " النصل" أولاً ثم ذكره بعده وفسره بالقدح.
وقوله: " سيماهم التحالق" أي حلق الرؤوس وفي حديث آخر: " التحليق".
فيه:" أن مخالفتهم السنة في ترك التحليق وكراهة التحليق للتشبه(2) بهم إلاّ في البلاد التي صارت عادتهم التحليق وأن ترك الشعر شهرة.
__________
(1) في (هـ):" السهم في النصل ".
(2) في (هـ):" في التشبيه ".(4/284)
قال الإمام: " والسيماء" العلامة، وفيه ثلاث لغات: المد، والقصر، والثالثة: السيمياء بزيادة ياء مع المد لا غير. والقصر لغة القرآن وقد يتعلق بظاهر هذا الحديث من يرى تكفيرهم[ وقد اختلف أهل الأصول في تكفيرهم، وقد ينفصل عن هذا من لا يرى ](1) بأن يجعل قتلهم على أنه كالحد لهم على بدعتهم، وقد جاء الشرع بقتل من هو مسلم باتفاق في مواضع أو يحمل ذلك على أنهم بانوا بدارهم ودعوا إلى بدعتهم ويشير إلى هذا قوله - عليه السلام -" يقتلون أهل الإسلام" وفي بعض طرقه قال خالد: أنا أضرب عنقه ؟ فقال: " لعله يكون يصلي" قال خالد:وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فقال - عليه السلام -: "إني لم أومر أن أنقب على قلوب الناس" فهذا ذكر فيه الصلاة وعلل ترك قتله بقوله: " لعله أن يكون يصلي" قال بعض شيوخنا في هذا الحديث حجة على قتل تارك الصلاة قال أبو سعيد الخدري: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 151 - حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عن قَتَادَةَ، عن أَبِي نَضْرَةَ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« تَكُونُ فِي أُمَّتِي فِرْقَتَانِ، فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ، يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلاهُمْ بِالْحَقِّ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول: " يخرج في هذه الأمة" ولم يقل منها " قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم" الحديث.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ).(4/285)
قال الإمام: هذا من أدلّ الشواهد على سعة فقه الصحابة - رضي الله عنهم - وتحريرهم الألفاظ في تنبيه الخدري على التفريق بين " في" و " من" إشارة حسنة إلى القول بتكفير الخوارج لأنه أفهم بأنه لما لم يقل منها دل على أنهم ليسوا من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا وإن لم يكن مما يعتمد عليه فإنه قد أحسن ما شاء في تنبيهه على هذا اللفظ وإن كان قد روى أبو ذر بعد هذا فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" إن من بعدي من أمتي أو سيكون من بعدي من أمتي" الحديث، وفي رواية علي - رضي الله عنه -" يخرج من أمتي" فقد وقع في هذا الحديث العبارة عنهم باللفظ الذي تجنبه أبو سعيد.
وفي حديث الخوارج من أخباره - عليه السلام - عن الغيوب ما يعظم موقعه.
منها: إشارته(1) - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يكون بعده من اختلاف الأمة في تكفيرهم، والتماري في ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ويتمارى في الفوق".
وقد كادت هذه المسألة تكون أشد إشكالاً عند المتكلمين من سائر المسائل، ولقد رأيت أبا المعالي وقد رغب إليه الفقيه أبو محمد عبدالحق رحمهما الله في الكلام عليها فهرب له من ذلك واعتذر له بأن الغلط فيها
151 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عن أَبِي نَضْرَةَ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« تَمْرُقُ مَارِقَةٌ فِي فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَيَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ ».
__________
(1) في (هـ):" موقعه مما إشار به ".(4/286)
152 - حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عن حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عن الضَّحَّاكِ الْمِشْرَقِيِّ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. فِي حَدِيثٍ ذَكَرَ فِيهِ:« قَوْمًا يَخْرُجُونَ عَلَى فُرْقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ يَقْتُلُهُمْ أَقْرَبُ الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْحَقِّ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يصعب موقعه ؛ لأن إدخال كافر في الملة أو إخراج مسلم منها عظيم في الدين.
وقد اضطرب فيها قول القاضي ابن الطيب، وناهيك به في علم الأصول وأشار أيضاً القاضي رحمه الله إلى أنها من(1) المعوصات ؛ لأن القوم لم يصرحوا بنفس الكفر وإنما قالوا أقوالاً تؤدي إليه.
وأنا أكشف لك نكتة هي مدار الخلاف وسبب الإشكال وذلك: أن المعتزلي مثلاً إذا قال إن الله سبحانه عالم ولكن لا علم له وحي ولكن لا حياة له وقع الالتباس في تكفيره لأنه قد علم من دين الأمة ضرورة أن من قال إن الله ليس بحي ولا عالم بأنه كافر وقامت الحجة على أنه محال أن يكون عالماً ولا علم عنده وأن ذلك من الأوصاف المعللة لا سيما إن قلنا بنفي الأحوال فإن ذلك أوضح وآكد من(2) أن نفي [العلم هو نفي](3) لكون العالم عالماً فهل تقدر أن المعتزلة لما جهلت ثبوت العلم جهلت كون الباري تعالى عالماً وذلك كفر بإجماع واعترافها به مع إنكارها أصله لا ينفع أو يكون اعترافها بذلك وإنكارها أن تقول بأن الله تعالى غير عالم لم(4) ينفعها(5).
__________
(1) قوله:" من " ليس في (هـ).
(2) في (أ):" في ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(4) قوله:" لم " ليس في (ط) و(هـ).
(5) في (أ):" ينفعها ".(4/287)
153 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الأَشَجُّ، جَمِيعًا عَن وَكِيعٍ قَالَ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عن خَيْثَمَةَ، عن سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَلأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لايُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإن قالت بما يؤدي إلى منعها من هذا القول والتكفير بالمآل وهو موضع الإشكال.
وأخبر - صلى الله عليه وسلم - بغيب ثان وهو: قوله - صلى الله عليه وسلم - " يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق" وفي بعض طرقه " تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق" وفي بعض طرقه " أقرب الطائفتين إلى الحق" وفي هذا الإخبار بالاختلاف الذي جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وترك تكفير إحدى الطائفتين أو تفسيقها بهذا القتال لأنه وصفهم بأنهم أدنى الطائفتين إلى الحق وأقرب(1) أو أولى وسماهم مسلمين.
وأما إخباره - صلى الله عليه وسلم - بصفة الرجل وعلامته ووجد ذلك عند قتله فذلك واضح بيّن في الحديث.
__________
(1) في (هـ):" أو أقرب ".(4/288)
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى ابْنُ يُونُسَ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ قَالا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كِلاهُمَا عن الأَعْمَشِ بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ.
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، كِلاهُمَا عن الأَعْمَشِ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمَا:« يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: أجمع العلماء على أن الخوارج وأشباههم من أهل البدع والبغي متى خرجوا وخالفوا رأي الجماعة وشقوا عصا المسلمين ونصبوا راية الخلاف أن قتالهم واجب بعد إنذارهم والأعذار إليهم قال الله تعالى:{فقاتلواالتي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} لكنه لا يجهز على جريحهم ولا يتبع منهزمهم ولا يقتل أسراهم ولا يستباح أموالهم.
قال مالك: إلا أن يخاف منهم عودة(1) فيجهز على جريحهم ويتبع مدبرهم وأنهم ما لم يخرجوا ويخالفوا(2) الجماعة وأذعنوا لأحكام الجماعة وإمامهم فحكمهم(3) حكم غيرهم من المسلمين يجرى عليهم الحقوق على وجهها ويستتابون ويشتد في عقوبة(4) من أصر على بدعته(5) منهم على اختلاف بين العلماء في الاقتصار على هذا، أو يقتلون وأبى الشافعي من استتابة القدرية منهم والخلاف فيه مبني على الاختلاف في تكفير أهل البدع.
__________
(1) في (أ):" دعوة ".
(2) في (هـ):" أو يخالفوا ".
(3) قوله:" فحكمهم " ليس في (ط).
(4) في (أ):" عقوبتهم ".
(5) في (أ):" بدعة ".(4/289)
واختلف قول مالك في هذا الأصل وهذا(1) الفرع وعلى ا لقول بقتلهم وتكفيرهم يتبع منهزمهم ويجهز على جريحهم وتسبى أموالهم وهو قول طائفة 155 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ. ح، وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ - وَاللَّفْظُ لَهُمَا -، قَالا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عن أَيُّوبَ، عن مُحَمَّدٍ، عن عَبِيدَةَ، عن عَلِيٍّ قَالَ: ذَكَرَ الْخَوَارِجَ فَقَالَ: فِيهِمْ رَجُلٌ مُخْدَجُ الْيَدِ، أَوْ مُودَنُ الْيَدِ، أَوْ مَثْدُونُ الْيَدِ، لَوْلا أَنْ تَبْطَرُوا لَحَدَّثْتُكُمْ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ يَقْتُلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: قُلْتُ: آنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ: إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عن ابْنِ عَوْنٍ، عن مُحَمَّدٍ، عن عَبِيدَةَ قَالَ: لا أُحَدِّثُكُمْ إِلا مَا سَمِعْتُ مِنْهُ، فَذَكَرَ عن عَلِيٍّ نَحْوَ حَدِيثِ أَيُّوبَ مَرْفُوعًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من أهل الحديث في أموال الخوارج وهذا إذا كان بغيهم لأجل بدعة يكفرون بها وإن كان بغيهم لغير ذلك لعصبية أو طلب رئاسة دون بدعة فلا يحكم في هؤلاء حكم الكفار بوجه وحكمهم حكم أهل البغي مجرداً على القول المتقدم
وعلى الخلاف في تكفير أهل البدع جاء اختلاف العلماء في مواريثهم والصلاة عليهم والصلاة خلفهم والخلاف في كل هذا في مذهبنا معلوم
__________
(1) في (هـ):" وفي هذا ".(4/290)
ومن قتل من جميع البغاة كانوا أهل بدعة أو طالبي رئاسة في حال القتال فدمهم هدور وما استهلك من أموالهم حينئذٍ فجُبَار. وهل يقصد الانتفاع في حال الحرب بدوابهم وأسلحتهم: أباحه أبوحنيفة ومنعه غيره. وما قتلوه في 156 - حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُالْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ الْجُهَنِيُّ ؛ أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - الَّذِينَ سَارُوا إِلَى الْخَوَارِجِ، فَقَالَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه -: أَيُّهَا النَّاسُ ! إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلا صَلاتُكُمْ إِلَى صَلاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لا تُجَاوِزُ صَلاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ - صلى الله عليه وسلم -، لاتَّكَلُوا عن الْعَمَلِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلاً لَهُ عَضُدٌ، وَلَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ، عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ، عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ، فَتَذْهَبُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَأَهْلِ الشَّامِ، وَتَتْرُكُونَ هَؤُلاءِ يَخْلُفُونَكُمْ فِي ذَرَارِيِّكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَاللَّهِ ! إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكُونُوا هَؤُلاءِ الْقَوْمَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ، وَأَغَارُوا فِي سَرْحِ النَّاسِ، فَسِيرُوا(4/291)
عَلَى اسْمِ اللَّهِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حال امتناعهم أو أتلفوه من الأموال أو استحلوه من الفروج فغير مطالبين به إذا فروا أو غلبوا عند مالك وأصحابه.
وقال الشافعي: وأما ما أصابوه على غير وجه التأويل فيطالبون به وما أصابوه على التأويل فلا يطالبون به، ومذهب أصحاب الرأي نحو منه.
وحكى الماوردي أن ما فعلوه من ذلك قبل أن ينصبوا(1) إماماً وإن امتنعوا وحاربوا فهم مطالبون به، قال وفيما أصابوه في ثائرة الحرب من ذلك قولان وقد أشار أصبغ من أصحابنا أنه يقتص منهم في القتل وهو خلاف قول مالك
__________
(1) في (هـ):" يعينوا ".(4/292)
قَالَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ: فَنَزَّلَنِي زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ مَنْزِلاً، حَتَّى قَالَ: مَرَرْنَا عَلَى قَنْطَرَةٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَعَلَى الْخَوَارِجِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِيُّ، فَقَالَ لَهُمْ: أَلْقُوا الرِّمَاحَ وَسُلُّوا سُيُوفَكُمْ مِنْ جُفُونِهَا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُنَاشِدُوكُمْ كَمَا نَاشَدُوكُمْ يَوْمَ حَرُورَاءَ، فَرَجَعُوا فَوَحَّشُوا بِرِمَاحِهِمْ، وَسَلُّوا السُّيُوفَ، وَشَجَرَهُمُ النَّاسُ بِرِمَاحِهِمْ، قَالَ: وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَمَا أُصِيبَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِلا رَجُلانِ، فَقَالَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه -: الْتَمِسُوا فِيهِمُ الْمُخْدَجَ، فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَامَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - بِنَفْسِهِ حَتَّى أَتَى نَاسًا قَدْ قُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ: أَخِّرُوهُمْ، فَوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِي الأَرْضَ، فَكَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ، وَبَلَّغَ رَسُولُهُ، قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! أَلِلَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَسَمِعْتَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، حَتَّى اسْتَحْلَفَهُ ثَلاثًا وَهُوَ يَحْلِفُ لَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأصحابه وذهب الأوزاعي إلى أن الإمام يأخذ للعادلة من الباغية الحقوق من القصاص والجراح ولا خلاف فيما وجد من مال بعينه في أيديهم أن لربه أن يأخذه.(4/293)
وقوله: " يخرجون على خير فرقة" كذا لأكثر شيوخنا وعند السمرقندي وابن ماهان " حين فرقة " وكلاهما صحيح المعنى. كان خروجهم عند اختلاف عليّ ومعاوية وخير قرن وأفضله أو يكون خير فرقة هنا إشارة إلى فرقة علي وأصحابه فعليه كان خروجهم حقيقة لأنه هو كان الإمام حينئذٍ، وفيه: حجة لأهل السنة وجمهور العلماء، وأن(1) علياً مصيب في قتاله لا سيما مع قوله: " يقتلهم أولى الطائفتين بالحق(2)" وعليّ وأصحابه هم الذين قتلوهم.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" أن ".
(2) في (ط):" إلى الحق ".(4/294)
157 - حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى قَالا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عن بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عن بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّ الْحَرُورِيَّةَ لَمَّا خَرَجَتْ، - وَهُوَ مَعَ عَلِيِّ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - -، قَالُوا: لا حُكْمَ إِلا لِلَّهِ، قَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ ؛ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَفَ نَاسًا إِنِّي لأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ فِي هَؤُلاءِ، يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لا يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ - وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ -، مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، مِنْهُمْ أَسْوَدُ إِحْدَى يَدَيْهِ طُبْيُ شَاةٍ، أَوْ حَلَمَةُ ثَدْيٍ، فَلَمَّا قَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: انْظُرُوا، فَنَظَرُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا، فَقَالَ: ارْجِعُوا، فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِبْتُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، ثُمَّ وَجَدُوهُ فِي خَرِبَةٍ، فَأَتَوْا بِهِ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَأَنَا حَاضِرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَقَوْلِ عَلِيٍّ فِيهِمْ.
زَادَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ بُكَيْرٌ: وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ، عن ابْنِ حُنَيْنٍ ؛ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ ذَلِكَ الأَسْوَدَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " يقولون من قول خير ا لبرية" يعني ظاهر قولهم من الدعاء إلى كتاب الله وألاّ حكم إلا لله.
وقوله: في صفة المخدج " إحدى يديه كمثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر(1)".
__________
(1) في (ط):" تدردز ".(4/295)
قال الإمام: أي تجيء وتذهب ومثله تقلقل وتذبذب وترجرج(1) وتمرمر وتدلدل.
158 - حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلالٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عن أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:«إِنَّ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي، أَوْ سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَلاقِيمَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لا يَعُودُونَ، فِيهِ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، فَقَالَ ابْنُ الصَّامِتِ: فَلَقِيتُ رَافِعَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ أَخَا الْحَكَمِ الْغِفَارِيِّ، قُلْتُ: مَا حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي ذَرٍّ كَذَا وَكَذَا، فَذَكَرْتُ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " كأنها ظبي شاة " أي ضرع شاة. والظبي للشاة استعارة وإنما هو للكلاب والسباع، قال أبوعبيد في مصنفه: ولذوات الحافر أيضًا. قال غيره: والضرع للشاة والبقرة والخلف للناقة.
قال أبو عبيد: الأخلاف لذوات الخف ولذوات الظلف أيضًا. قال الهروي: يقال في الخف والظلف خلف وضرع.
وقوله: " مخدج اليد" أي ناقصها " ومثدن اليد " ويقال مثدون اليد. معناه: صغير اليد مجتمعها بمنزلة ثندوة الثدي، وكان أصله مثند فقدمت الدال على النون كما قالوا: جبذ وجذب وعاث في الأرض وعثى.
والثندوة: مفتوحة الثاء بلا همز فإذا ضمت الثاء همزت.
__________
(1) في (أ) و(هـ):" تدحرج ".(4/296)
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: رويناه في الأم " فيهم رجل مخدج اليد، أو مودن(1) اليد، أو مثدن اليد". كذا على الشك في هذه الحروف الثلاث لجميع الرواة لكنه وقع عند العذري والطبري والباجي " مثدون " وقد ذكر الهروي 159 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عن الشَّيْبَانِيِّ، عن يُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: سَأَلْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ الْخَوَارِجَ ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُهُ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ لا يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ.
وَحَدَّثَنَاه أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: يَخْرُجُ مِنْهُ أَقْوَامٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وغيره هذا الحرف بالوجهين ومضى تفسيره. وذكر الحربي: " المؤدن(2)" بالهمز، قال: وهو القصير القمى الخلق: قال أبو مروان بن سراج: يهمز ولا يهمز.
وقال ابن دريد: رجل مؤدون(3) ناقص الخلق وودين ومؤدن(4).
وقيل: معنى مثدن بالثاء كثير اللحم مسترخ(5). قال ابن دريد: ثدن الرجل ثدناً إذا كثر لحمه وثقل وعلى هذا لا يكون في الحرف قلب، وهذا يوافق قوله " كالبضعة تدردر " والأول يوافق قوله: " كظبي شاة " أو "كحلمة ثدي" والجمع بين هذه الألفاظ ما جاء في أحد الأحاديث في الأم " له عضد وليس له ذراع على رأس عضده مثل حلمة الثدي " فالتي هي كالبضعةوتدردر هي تلك العضد والتي على رأسها هي بالصفة الأخرى والله أعلم.
__________
(1) في (هـ):" موذن ".
(2) في (هـ):" المذن ".
(3) في (هـ):" موذون ".
(4) في (هـ):" وموذن ".
(5) في (ط):" المسترخى ".(4/297)
وقوله: " إذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة" فيه جواز التورية والتعريض في الحرب وأن ذلك ليس بمذموم ولا كذب وهو مما رخص فيه.
160 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ، جَمِيعًا عَن يَزِيدَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ ابْنُ هَارُونَ، عن الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ، عن أُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو، عن سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَتِيهُ قَوْمٌ قِبَلَ الْمَشْرِقِ مُحَلَّقَةٌ رُءُوسُهُمْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام:فيه ثلاث لغات خدعة بضم الخاء وسكون الدال، وبضم الخاء وفتح الدال، وبفتح الخاء وسكون الدال حكاه كله ابن السكيت وأبوعبيد وغيرهما من الأئمة.
وقوله: " فوحشوا برماحهم" قال الهروي في باب الواو مع الحاء المهملة: " وحشوا برماحهم " أي: رموا برماحهم. قال: ومنه الذي في حديث آخر: " فوحّشوا برماحهم(1) فاعتنق بعضهم بعضاً.
وقوله: " وشجرهم الناس برماحهم" أي داخلوهم بها.
قال القاضي: قيل في " وحشوا برماحهم" أي رموا بها عن بعد. [كما جاء قبل في الحديث " ألقوا الرماح وسلوا سيوفهم " وقيل في قوله](2): "وشجروهم بالرماح" أي مدوها إليهم. قال ابن دريد: تشاجر القوم بالرماح إذا تطاعنوا بها، ومنه ا لتشاجر في الخصومة.
__________
(1) في (هـ):" بأسنتهم ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).(4/298)
وقوله: في هذا الحديث " فنزلني زيد بن وهب منزلاً(1) حتى مررنا على قنطرة كذا جاء في الأصول مبتوراً وذكره النسائي(2) والحميدي في الصحيح " منزلاً منزلاً " وهو وجه الكلام أي ذكر لي مراحلهم بالجيش منزلاً منزلاً حتى بلغ القنطرة التي كان اللقاء عندها وهي " قنطرة الديزجان(3)" كذا جاء مبيناً في سنن النسائي وهناك خطبهم علي وذكر لهم ما جاء عنه في الأم.
......................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " أحداث الأسنان سفهاء الأحلام" فيه أن التؤدة والتثبت وقوة البصيرة مع الشيخ وكمال السن لقوة العقل وصحة التجارب وسكون غلبة الدم المثير لكثرة الحركة، وترك التوقر، وفيه قال عبيدة السلماني: بفتح العين وفتح السين(4) وبفتح اللام وسكونها معاً وبالسكون وحده ذكره الجياني، قال: وهو منسوب إلى سلمان. وفي الحديث قبله(5) الضحاك المشرقي رويناه بكسر الميم وفتح الراء على القاضي الصدفي وضبطناه عن الأسدي بفتح الميم وكسر الراء. والأول هو الصواب منسوب إلى مشرق بالكسر قبيلة من همدان وهو الضحاك الهمداني الذي جاء في هذا الحديث في الباب من حديث حرملة وكذا قيده الصدفي بخطه في تاريخ البخاري وكذا قيده الجياني وقال أبو أحمد العسكري من فتح الميم فقد صحّف وبالوجه الثاني قيده الدارقطني وابن ماكولا وهو أصح.
__________
(1) في (هـ):" منزلاً منزلاً ".
(2) قوله:" النسائي " ليس في (أ).
(3) في (أ) و(هـ):" الدبرجان ".
(4) قوله:" وفتح السين " ليس في (أ).
(5) في (ط):" قتله ".(4/299)
وقوله: في حديث قتيبة في هذا الباب في الأربعة الذين قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم الذهب التي وجه بها علي من اليمن، والرابع إما علقمة بن علاثة(1) وإما عامر بن الطفيل هذا الشك وهم، وذكر عامر هنا خطأ، عامر هلك قبل ذلك بسنين ولم يدرك هذا الحين، والصواب أنه علقمة بن علاثة(1) كما جاء في الحديث الآخر بغير شك.
وقوله:" وزيد الخيل" وعند القاضي أبي علي " وزيد الخير" وكلاهما صحيحان كان يعرف في الجاهلية بزيد الخيل فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - " زيد الخير".
" والأديم المقروظ" بالمعجمة: الجلد المدبوغ بالقرظ وهو الصمغ(2).
161 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن مُحَمَّدٍ - وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ -، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« كِخْ كِخْ ارْمِ بِهَا، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ ».
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَن وَكِيعٍ، عن شُعْبَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ:« أَنَّا لا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ».
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ جَعْفَرٍ. ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، كِلاهُمَا عن شُعْبَةَ فِي هَذَا الإِسْنَادِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مُعَاذٍ:« أَنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" علاقة ".
(2) في (هـ):" الصبغ ".(4/300)
قوله:" يتيه قوم قبل المشرق" أي يذهبون عن طريق الحق، تاه الرجل في الأرض إذا ذهب فيها ولم يهتد لِمَعْلَم، ورجل تياه: إذا ذهب عن القصد في أمره.وفيه: حجة لقول من فسر قوله - عليه السلام -: " وبها قرن الشيطان وأشار نحو المشرق" وأنهم الخوارج [ولقوله: "هنا" أيضًا فيهم وأشار نحو المشرق](1).
وقوله: في سند هذا الحديث عن أسير بن عمرو عن سهل كذا لهم وعند بعض الرواة يسير بن عمرو بالياء كلاهما صحيح يقال فيه: أسير ويسير ويقال في أبيه: عمرو وجابر وقد جاء الوجهان(2) فيهما في كتاب مسلم في غير هذا الموضع.
قوله - عليه السلام - للحسن حين أخذ تمرة من تمر الصدقة:" كخ كخ ارم بها أما علمت أنا لا نأكل الصدقة ؟". يقال: بفتح الكاف وكسرها وتسكن الخاء وتمكسر وتنون أيضًا وهي كلمة لزجر الصبيان عن الشيء يأخذونه ليتركوه 162 - حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو ؛ أَنَّ أَبَا يُونُسَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؛ أَنَّهُ قَالَ:« إِنِّي لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، ثُمَّ أَرْفَعُهَا لآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويكفوا عنه.
قال الداودي: هي كلمة أعجمية عربتها العرب بمعنى بئس ولنحو هذا أشار البخاري في ترجمته عليه من(3) تكلم بالفارسية والرطانة وفي الحديث أن الصغير من أبناء المسلمين يُوقى كما(4) يوقى الكبير من المحاذير والخبائث وإن كان غير مخاطب فَوَلِيّه مخاطب بحراسته من ذلك.
وقوله - عليه السلام -: وقد وجد تمرة " لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها".
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) في (هـ):" وجابر وبالوجهان ".
(3) في (أ) و(هـ):" في من ".
(4) في (ط):" ما ".(4/301)
قال الإمام: فيه دليل على أن المال وإن كان الأقل منه حراماً يجتنب ؛ لأن الزكاة في جنب الأموال يسيرة فإذا امتنع من الأكل مع تجويز التحريم فأحرى مع ثبوته وتحققه.
قال القاضي: هذا على طريق الورع والتنزه، وأما طريق الإباحة والفتوى فالحكم للغالب والأكثر.
قال الإمام: وفيه دليل على أن اللقطة اليسيرة من الطعام وغيره مما لا يلتفت الناس إليه ولا ينتبهون إلى طلبه يستباح لأنه إنما علل في امتناعه من الأكل بالخشية من أن تكون صدقة والصدقة لا تحل له - عليه السلام - ولا لبني هاشم عندنا، واختلف [ في صدقة التطوع هل تحل لآل النبي - عليه السلام - أم لا؟. واختلف في](1) مواليه هل حكمهم حكم آله.
163 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عن هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عن مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« وَاللَّهِ إِنِّي لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، أَوْ فِي بَيْتِي، فَأَرْفَعُهَا لآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً أَوْ مِنَ الصَّدَقَةِ فَأُلْقِيهَا ».
164 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عن سُفْيَانَ، عن مَنْصُورٍ، عن طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَجَدَ تَمْرَةً فَقَالَ: «لَوْلا أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (هـ).(4/302)
قال القاضي: اختلف العلماء في الصدقة المحرمة على آل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل: الفريضة فقط وهو قول مالك وكثير من أصحابه وأحد قولي أبي حنيفة. وقال أبو حنيفة أيضًا إنها كلها حلال لبني هاشم وغيرهم وإنما كان ذلك محرماً عليهم إذ كانوا يأخذون سهم ذي القربى فلما قطع عنهم حلت لهم ونحوه عن الأبهري من شيوخنا وروى عن أبي يوسف أنها حرام عليهم من غيرهم حلال لهم صدقة بعضهم على بعض وحكى ابن القصار عن بعض أصحابنا أنها تحرم(1) عليهم التطوع دون الفريضة لأنها لا منة فيها وهذا الحديث وغيره يرد عليهم؛ لأن الأظهر في(2) الحديث أنه إنما أخذها من صدقة التمر الواجبة وقد يحتمل لقوله في كتاب البخاري كانوا عند صرام النخل يأتي هذا بتمرة وهذا بتمرة وذكر الحديث. أنه يحتمل صدقة التطوع لضعفاء المسجد فيكون أيضًا حجة على من أجازها لهم.
واختلف مَنْ هُمْ آل محمد هؤلاء ؟
165 - وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عن زَائِدَةَ، عن مَنْصُورٍ، عن طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُوسلَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِتَمْرَةٍ بِالطَّرِيقِ فَقَالَ:« لَوْلا أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا ».
166 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي، عن قَتَادَةَ، عن أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَجَدَ تَمْرَةً فَقَالَ:« لَوْلا أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً لأَكَلْتُهَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" أصحابنا إنما يحرم ".
(2) في (هـ):" من ".(4/303)
فقال مالك وأكثر أصحابه: هم بنو هاشم خاصة ومثله عن أبي حنيفة واستثنى آل أبي لهب وقال الشافعي: هم بنو هاشم ويدخل فيهم بنو المطلب أخي هاشم دون سائر بني عبد مناف لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنما نحن وبنو المطلب
شيء واحد" ولقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم مع بني هاشم سهم ذي القربى دون غيرهم ونحا إلى هذا بعض شيوخ المالكية وقال أصبغ: هم عشيرة النبي - عليه السلام - الأقربون الذين أمر بإنذارهم آل(1) قصى قال: وقيل: قريش كلها.
واختلف في مواليهم كما ذكر، فمالك والشافعي: يبيحها لهم.
والكوفيون وكثير من أصحاب مالك يحرمها عليهم وذكر ابن بطال أن الخلاف إنما هو(2) وقع(3) في موالي بني هاشم خاصة(4) وهذا غلط من(5) يحرمها على قريش كلهم ممن يدخل الموالي يجعل مواليهم مثلهم.
167 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عن مَالِكٍ، عن الزُّهْرِيِّ ؛ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ حَدَّثَهُ ؛ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ قَالَ: اجْتَمَعَ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالا: وَاللَّهِ لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ الْغُلامَيْنِ - قَالا لِي وَلِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكَلَّمَاهُ، فَأَمَّرَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ، فَأَدَّيَا مَا يُؤَدِّي النَّاسُ، وَأَصَابَا مِمَّا يُصِيبُ النَّاسُ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمَا فِي ذَلِكَ جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا، فَذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ،
__________
(1) في (ط):" إلى ".
(2) قوله:" هو " ليس في (ط).
(3) قوله:" وقع " ليس في (أ) و(ط).
(4) قوله:" خاصة " ليس في (هـ).
(5) في (ط):" فإن من ".(4/304)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام: وقوله في حديث عبدالمطلب بن ربيعة بن الحارث" ادعوا لي محمية بن جزء وهو رجل من بني أسد" هكذا قال مسلم هو رجل من بني أسد، والمحفوظ من بني زبيد.
وقوله: " فانتحاه ربيعة" معناه: عرض له وقصد.
وقوله: " ما تصرران" أي ما تجمعانه في صدوركما من الكلام، وكل شيء جمعته فقد صررته.
وقوله:" قد بلغنا النكاح" أي الحلم ومنه قوله تعالى:{ حتى إذا بلغوا النكاح } وقول علي: " والله لا أريم مكاني". معناه: لا أبرح منه ولا أزول قال زهير:
لِمَنْ طَلَلٌ بِرَامَةَ لا يَرِيم : عَفَا وخَلاَله حُقْبٌ قديم.
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: وقوله: " حتى يرجعا إليكما ابناكما(1) بحور ما بعثتما به" أي بجواب ذلك، يقال: كلمته فما رد حوراً ولا حويراً أي جواباً، قاله الهروي:قال: ويجوز أن يكون من الخيبة أي يرجع بالخيبة. وأصل
فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لا تَفْعَلا، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ بِفَاعِلٍ، فَانْتَحَاهُ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ ! مَا تَصْنَعُ هَذَا إِلا نَفَاسَةً مِنْكَ عَلَيْنَا، فَوَاللَّهِ ! لَقَدْ نِلْتَ صِهْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَا نَفِسْنَاهُ عَلَيْكَ، قَالَ عَلِيٌّ: أَرْسِلُوهُمَا، فَانْطَلَقَا
__________
(1) قوله:" ابناكما " ليس في (أ).(4/305)
وَاضْطَجَعَ عَلِيٌّ، قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ سَبَقْنَاهُ إِلَى الْحُجْرَةِ، فَقُمْنَا عِنْدَهَا حَتَّى جَاءَ، فَأَخَذَ بِآذَانِنَا، ثُمَّ قَالَ:« أَخْرِجَا مَا تُصَرِّرَانِ »، ثُمَّ دَخَلَ وَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، قَالَ: فَتَوَاكَلْنَا الْكَلامَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أَحَدُنَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ وَأَوْصَلُ النَّاسِ، وَقَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ، فَجِئْنَا لِتُؤَمِّرَنَا عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ، فَنُؤَدِّيَ إِلَيْكَ كَمَا يُؤَدِّي النَّاسُ، وَنُصِيبَ كَمَا يُصِيبُونَ، قَالَ: فَسَكَتَ طَوِيلاً حَتَّى أَرَدْنَا أَنْ نُكَلِّمَهُ، قَالَ: وَجَعَلَتْ زَيْنَبُ تُلْمِعُ عَلَيْنَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ ؛ أَنْ لا تُكَلِّمَاهُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ:« إِنَّ الصَّدَقَةَ لا تَنْبَغِي لآلِ مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، ادْعُوَا لِي مَحْمِيَةَ »، وَكَانَ عَلَى الْخُمُسِ، وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، قَالَ: فَجَاءَاهُ فَقَالَ لِمَحْمِيَةَ:« أَنْكِحْ هَذَا الْغُلامَ ابْنَتَكَ »، لِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَأَنْكَحَهُ، وَقَالَ لِنَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ:« أَنْكِحْ هَذَا الْغُلامَ ابْنَتَكَ »، لِي، فَأَنْكَحَنِي، وَقَالَ لِمَحْمِيَةَ:« أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنَ الْخُمُسِ كَذَا وَكَذَا »، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَمْ يُسَمِّهِ لِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحور: الرجوع إلى النقص.(4/306)
قال القاضي أبو الفضل - رضي الله عنه -: وهذا أشبه بسياق الحديث ووقع في رواية الشيوخ " أبناؤكما" على الجمع وهو وهم وصوابه" ابناكما" على التثنية وكذا رويناه عن أبي بحر وإنما قاله للعباس بن عبدالمطلب وربيعة بن الحارث حين 168 - حَدَّثَنَا هَارُونُ ابْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ الْهَاشِمِيِّ: أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ رَبِيعَةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ وَالْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ وَلِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ ائْتِيَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ مَالِكٍ وَقَالَ فِيهِ فَأَلْقَى عَلِيٌّ رِدَاءَهُ ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَيْهِ وَقَالَ أَنَا أَبُو حَسَنٍ الْقَرْمُ وَاللَّهِ لا أَرِيمُ مَكَانِي حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْكُمَا ابْنَاكُمَا بِحَوْرِ مَا بَعَثْتُمَا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ ثُمَّ قَالَ لَنَا إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ وَإِنَّهَا لا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلا لآلِ مُحَمَّدٍ وَقَالَ أَيْضًا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ادْعُوَا لِي مَحْمِيَةَ بْنَ جَزْءٍ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الأَخْمَاسِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/307)
وجها ابنيهما الفضل بن العباس وعبدالمطلب بن ربيعة بن الحارث. وقد تُخَرج تلك الرواية على(1) من يجمع كل اثنين من اثنين(2) كما قال " ظهراهما مثل ظهور الترسين".
وقوله: " اخرجا ما تصرران" كما ذكره رواه بعضهم وكذا فسره الهروي بما تقدم وأصله من الشدّ.
وقد يكون عندي معناه: ما تجمعان عليه.
وقيل: في قوله تعالى: { فأقبلت امرأته في صَرّة } أي في جماعة، وروايتنا في هذا الحرف " تسرران" بالسين عن(3) أكثر شيوخنا من السر ويدل عليه قوله:" أخرجا " أي أجهرا به وأظهراه، ورويناه من طريق السمرقندي 169 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عن ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ السَّبَّاقِ قَالَ: إِنَّ جُوَيْرِيَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ:« هَلْ مِنْ طَعَامٍ ؟»، قَالَتْ: لا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا طَعَامٌ إِلا عَظْمٌ مِنْ شَاةٍ أُعْطِيَتْهُ مَوْلاتِي مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ:« قَرِّبِيهِ فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا ».
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ، عن الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"تصدران(4)" ووجهه بعيد، ورواه الحميدي في صحيحه " تصوران " أي ما تزوراه(5) من صورة حديثكما.
وقوله:" فما نفسناه(6) عليك" أي لم يحسدك فيه.
__________
(1) في (هـ):" على كل ".
(2) في (هـ):" ابنين ".
(3) في (ط):" عند " وفي (هـ):" عند أكثر نسخة عن ".
(4) في (أ):" تصرران ".
(5) في (أ):" تزورانه ".
(6) في (هـ):" نفساه ".(4/308)
وقوله (1): " وجعلت زينب تلمع إلينا من وراء الحجاب" أي تشير يقال: لمع وألمع إذا أشار بثوبه أو بيده.
وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للفضل والحارث في هذا الحديث حين سألاه العمل على الصدقة" إن الصدقة لا ينبغي لآل محمد" دليل على أنها لا تحل لهم بوجه وإن كانوا عاملين عليها كما لم تحل لهم إذا كانوا محتاجين لها إكراماً لهم عنها.
وقوله: " إنما هي أوساخ الناس" يبين هذا وأنها العلة في تحريمها عليهم وإنما سماها أوساخاً لأنها تطهير لأموالهم وإلى هذا ذهب أبو(2) يوسف وذهب آخرون إلى أنها تجوز للعاملين منهم لأنها أجرة لعملهم وإليه ذهب الطحاوي
170 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، كِلاهُمَا عن شُعْبَةَ، عن قَتَادَةَ، عن أَنَسٍ. ح، وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن قَتَادَةَ سَمِعَ أَنَسَ ابْنَ مَالِكٍ قَالَ: أَهْدَتْ بَرِيرَةُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَحْمًا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهَا، فَقَال:« هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: إنما حرمت عليهم وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجرا} ومخافة الذريعة للتهمة، وما أشار إليه في الحديث من العلة أظهر.
__________
(1) في (هـ):" وقولهم ".
(2) قوله:" أبو " ليس في (هـ).(4/309)
وقول عليّ:" أنا أبو حسن القوم " كذا رويناه عن ابن(1) أبي جعفر بالإضافة وبالواو، ووجهه ظاهر، أي: أنا عالم القوم وذو رأيهم ونحو هذا ورويناه عن أبي بحر: " أنا أبو حسنٍ" بالتنوين وبعده: القوم بالرفع أي: أنا من علمتم رأيه أيها القوم.وسمعناه على القاضي الشهيد " القرم " بالراء على النعت، والقرم: السيد وأصله فحل الإبل، وكذا رويناه عن ابن أبي جعفر من طريق الباجي وهو(2) الذي صححه الخطابي قال: أي المقدم في المعرفة بالأمور(3) والرأي كالفحل.
وفي سند هذا الحديث في الأم من رواية مالك عن الزهري أن عبد الله بن عبدالله بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب حدثه، أن عبدالمطلب بن ربيعة بن الحارث حدثه قال: اجتمع ربيعة بن الحارث، وذكره من حديث ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عبدالله بن الحارث بن نوفل، أن عبدالمطلب بن ربيعة، وكذا ذكره أبو داود وهذا خلاف ما قال مالك قبل هذا، وقد رواه 171 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لابْنِ الْمُثَنَّى - قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن الْحَكَمِ، عن?إِبْرَاهِيمَ، عن الأَسْوَدِ، عن عَائِشَةَ: وَأُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِلَحْمِ بَقَرٍ فَقِيلَ: هَذَا مَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: « هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) قوله:" ابن " ليس في (هـ).
(2) في (ط):" هذا ".
(3) في (هـ):" والأمور ".(4/310)
هشيم عن ابن إسحاق عن الزهري عن محمد بن عبدالله بن الحارث وصوابه ما تقدم لمالك عبدالله بن عبدالله ولعله سقط أبوه في رواية يونس ونسبه إلى جده فيكون وفاقاً، وعبدالله بن الحارث أبو عبدالله هذا هو الملقب " ببه " قال النسائي: لا نعلم أحداً روى هذا الحديث عن مالك إلا جويرية بن أسماء.
وقوله: محمية بن جزء، كذا يقوله عامة الحفاظ وأهل الإتقان وجل الرواة بفتح الجيم وسكون الزاي وهمز آخره. قال عبدالغني: ويقال: جزى بكسر الزاي، وقال أبوعبيد: هو عندنا: جز_ّ مشدد الزاي.
وقوله: " فأصدق عنهما من الخمس" قال الخطابي: يريد من سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل أن يكون من سهم ذي القربى لأنهما منهم.
قال الإمام: في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أعلم بالشاة التي أعطيت(1) مولاة بعض نسائه من الصدقة " قريبة فقد بلغت محلها" فيه حجة لأحد القولين عندنا في جواز شراء لحم الأضحية ممن أعطيها ممن تحل له لقوله - عليه السلام - " قد بلغت محلها " ووجه القول بالمنع من الشراء أن ذلك عند القائل به بمنزلة الحبس ولو حبس شيئاً على المساكين لم يبح لهم بيعه، لكن هذا قد لا يسلم له.
172 - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عن أَبِيهِ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَتْ فِي بَرِيرَةَ ثَلاثُ قَضِيَّاتٍ: كَانَ النَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهَا وَتُهْدِي لَنَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:« هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَكُمْ هَدِيَّةٌ فَكُلُوهُ ».
__________
(1) في (ط):" أعطته ".(4/311)
173 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عن زَائِدَةَ، عن سِمَاكٍ، عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عن أَبِيهِ، عن عَائِشَةَ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ، يُحَدِّثُ عن عَائِشَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ ذَلِكَ.
وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عن رَبِيعَةَ، عن الْقَاسِمِ، عن عَائِشَةَ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: «وَهُوَ لَنَا مِنْهَا هَدِيَّةٌ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: الحبس على من حبّس عليه ممنوع من التصرف فيه مباح له الانتفاع بفائدته فكما أبيح له بيع غلته والتصرف فيها كيف شاء لأنه ملكها ملكاً مطلقاً بخلاف الرقبة المحبسة كذلك أبيح له التصرف في لحم الأضحية لما ملكها ملكاً مطلقاً وفيه بيان(1) أن(2) الأشياء المحرمة لعلل معلومة إذا ارتفعت عنها تلك العلل حلت، وأن التحريم في الأشياء ليس لأعيانها.
__________
(1) في (هـ):" بيان جواز ".
(2) قوله:" أن " ليس في (ط).(4/312)
174 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عن خَالِدٍ، عن حَفْصَةَ، عن أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشَاةٍ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَبَعَثْتُ إِلَى عَائِشَةَ مِنْهَا بِشَيْءٍ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى عَائِشَةَ قَالَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟»، قَالَتْ: لا، إِلا أَنَّ نُسَيْبَةَ بَعَثَتْ إِلَيْنَا مِنَ الشَّاةِ الَّتِي بَعَثْتُمْ بِهَا إِلَيْهَا، قَالَ:« إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا ».
175 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلامٍ الْجُمَحِيُّ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ، عن مُحَمَّدٍ وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ قِيلَ هَدِيَّةٌ أَكَلَ مِنْهَا، وَإِنْ قِيلَ صَدَقَةٌ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: مثل ذلك في بريرة مولاة عائشة حجة لأحد القولين المتقدمين أن موالي قريش تحل لهم الصدقة إذا قلنا بتحريمها على كافة قريش ؛ لأن عائشة تيمية.
وجويرة المذكورة في الحديث الآخر أيضًا وإن لم تكن قريشية فهي معتقة النبي - عليه السلام - وولاؤها له وولاء(1) مواليها لها، وفي الحديث الآخر(2)" عظم أعطيته مولاتي من الصدقة " فهي مولاة مولاته - عليه السلام -.
وقوله: كان في بريرة ثلاث قضيات فذكر هذه الواحدة من قوله " هو لها صدقة ولنا هدية". والثانية: قوله فيها: " إنما الولاء لمن أعتق".
والثالثة: تخييرها في زوجها. وسيأتي الكلام على هذا.
__________
(1) قوله:" له ولاء " ليس في (هـ).
(2) قوله:" الآخر " ليس في (ط).(4/313)
وقوله: " كان - عليه السلام - إذا أتي بطعام سأل عنه فإن كان صدقة لم يأكل منه(1)، وإن كان هدية أكل". فيه: ما يلزم أهل الدين من التقصي عن(1) مطاعمهم واتقاء المحظور منها والمحذور وفارقت هنا الهدية الصدقة لما تقدم من
176 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عن شُعْبَةَ، عن عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ أَبِي أَوْفَى. ح، وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، حَدَّثَنَا أَبِي، عن شُعْبَةَ، عن عَمْرٍو وَهُوَ ابْنُ مُرَّةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ، قَالَ: « اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ »، فَأَتَاهُ أَبِي أَبُو أَوْفَى بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ:« اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى ».
وَحَدَّثَنَاه ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عن شُعْبَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:« صَلِّ عَلَيْهِمْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن الصدقة تطهير(2) الأموال وأوساخها تشبيهاً لما يُطهر منه غيرها من الأوساخ، والهدية: أصلها المودة وتطييب النفوس وليس فيها منة الصدقة ولا تفضيل اليد العليا على السفلى.
__________
(1) في (هـ):" من ".
(2) في (أ):" تطهر ".(4/314)
وقوله: كان - عليه السلام - إذا أتاه قوم بصدقتهم قال " اللهم صلّ عليهم امتثالاً لقوله تعالى:{خذ من أموالهم صدقة} إلى قوله:{وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} وهذا ندب ندب الله تعالى النبي - صلى الله عليه وسلم - والأئمة بعده للدعاء لدافع الصدقة، وليس بواجب خلافًا لأهل الظاهر وليس في الآية دليل على(1) وجوب ذلك(2) لاحتمال أن يختص ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى:{ إن صلاتك سكن لهم} وهذا معدوم علمه في غيره ولأنه يحتمل أن المراد الصلاة عليهم بعد موتهم أو الأمر بالدعاء لهم أي وقت كان وأنه لا يختص عند أخذ الزكاة.
177 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، وَأَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَعَبْدُ الأَعْلَى، كُلُّهُمْ عن دَاوُدَ. ح، وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ، عن الشَّعْبِيِّ، عن جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِذَا أَتَاكُمُ الْمُصَدِّقُ فَلْيَصْدُرْ عَنْكُمْ وَهُوَ عَنْكُمْ رَاضٍ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: حين أتاه أبو أوفى(3):" اللهم صل على آل أبي أوفى" يحتج به من يرى الآل نفس الرجل وأن المراد بآل محمد محمد - عليه السلام - وقد ذكرناه لا سيما مع قوله قبل " إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم" وقد يحتمل أنه عمّ أبا أوفى وآله بالدعاء فدخل فيهم.
__________
(1) قوله:" على " ليس في (ط).
(2) قوله:" ذلك " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (هـ):" أوفى قال ".(4/315)
وفي الحديث دليل لمن أجاز الصلاة على غير الأنبياء وينفصل عنه من لم يجز ذلك وهو المروي عن مالك وسفيان وابن عباس قبلهما وجماعة منكمن السلف واختيار الأستاذ أبي المظفر الإسفراييني من أئمتنا المتكلمين أن هذا في حق النبي - عليه السلام - بخلاف غيره وإنما الكلام في صلاتنا نحن.
وقد تكلمنا عليه في كتاب الصلاة. وبقية الكلام على إرضاء المصدقين وأن فيه الحض على طاعة الأمراء وترك مخالفتهم ومخارجتهم وإرضائهم كل هذا حض على الألفة وأمر بجمع الكلمة التي جعلها الله أصلاً لصلاح الكافة وعمارة هذه الدار ونظام أمر الدنيا والآخرة.
*************
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الصيام
1 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ -، عن أَبِي سُهَيْلٍ، عن أَبِيهِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الصيام
أصل الصوم في اللغة الإمساك، ثم صار عرفاً لإمساك مخصوص نهاراً عن أفعال مخصوصة.
قوله - عليه السلام -: " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين" وفي الرواية الأخرى "إذا دخل رمضان".
قال القاضي: فيه حجة على جواز قول مثل هذا دون ذكر الشهر خلافاً لمن كرهه وروى أثر في النهي عن ذلك وأن رمضان اسم من أسماء الله وهو أثر لا يصح واختار القاضي ابن الطيب أن تمثيل النهي فيما أشكل مثل جاء رمضان وذهب وتم ودخل ويباح فيما لا يشكل مثل صمنا وقمنا رمضان وهذا الحديث وغيره رد على الجميع.(4/316)
وقوله: " فتحت أبواب الجنة وصفدت الشياطين " قيل: يحتمل الحقيقة وأن فتح أبواب الجنة وتغليق أبواب النار علامة لدخول الشهر وعظم قدره وكذلك تصفيد الشياطين ليمتنعوا من أذى المؤمنين وإغوائهم فيه.
2 - وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عن ابْنِ أَبِي أَنَسٍ ؛ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِذَا كَانَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ ».
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَالْحُلْوَانِيُّ قَالا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عن صَالِحٍ، عن ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي نَافِعُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ ؛ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ »، بِمِثْلِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل(1) يحتمل المجاز لكثرة الثواب والعفو والاستعارة لذلك بفتح أبواب الجنة وإغلاق أبواب النار.
وقد جاء في الحديث الآخر " وفتحت أبواب الرحمة" وبأن الشياطين كالمصفدة لما لم يتم إغواؤهم بعصمة(2) الله عباده فيه ولم يفد حثيث(3) سعيها شيئاً.
__________
(1) في (ط):" وقد".
(2) في (هـ):" لعصمة ".
(3) في (ط):" خبيث ".(4/317)
ويكون معنى تصفيد الشياطين هنا: خصوصاً عن أشياء دون أشياء ولبعض دون بعض أو على الغالب، وجاء في حديث آخر: "صفدت مردة الشياطين " وقد يكون فتح أبواب الجنة هنا عبارة عما يفتح الله على عباده من الطاعات المشروعة في هذا الشهر الذي ليست في غيره من الصيام والقيام وفعل الخيرات وأن ذلك أسباب لدخول الجنة وأبواب لها وكذلك تغليق أبواب النار وتصفيد الشياطين عبارة عماّ يكفه الصوم والشغل بفعل الخير في هذا الشهر وعظم قدره في القلوب وما جاء من النهي فيه عن أن يرفث أو يجهل والكف فيه عن المحارم والمعاصي وأن الصوم مانع عن كثير من المباحات
3 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عن نَافِعٍ، عن ابْنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ:« لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلالَ، وَلا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ».
4 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عن نَافِعٍ، عن ابْنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ رَمَضَانَ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ، فَقَالَ:« الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا - ثُمَّ عَقَدَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ -، فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلاثِينَ ».
5 - وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا ثَلاثِينَ »، نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ.(4/318)
وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عن عُبَيْدِ اللَّهِ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَمَضَانَ فَقَالَ:« الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا »، وَقَالَ:« فَاقْدِرُوا لَهُ »، وَلَمْ يَقُلْ:« ثَلاثِينَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فكيف بما وراء ذلك ومكفر للسيئات.
ومعنى صفدت أي غللت والصفد بفتح الفاء الغل، وقد روي في الحديث الآخر " سلسلت ".
قوله:" لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له " أي قدروا تمام الشهر بالعدد ثلاثين يوماً يقال: قدرت الشيء أقدره وأقدره وقدرته وأقدرته بمعنى.
وقال ابن قتيبة معناه: أي قدروه بالمنازل وحكاه الداودي.
6 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عن أَيُّوبَ، عن نَافِعٍ، عن ابْنِ عُمَرَ رَضي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَلا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، وَلا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ».
7 - وَحَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ وَهُوَ ابْنُ عَلْقَمَةَ، عن نَافِعٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ».(4/319)
8 - حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ؛ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/320)
قال الإمام:ذهب بعض العلماء إلى أن الهلال إذا التبس يحسب له بحساب المنجمين وزعم أن هذا الحديث يدل على ذلك واحتج أيضًا بقوله تعالى:{وبالنجم هم يهتدون}، وحمل جمهور الفقهاء ما في الحديث على أن المراد به إكمال العدة ثلاثين ؛ كما فسره في حديث آخر، وكذلك تأولوا قوله سبحانه:{وبالنجم هم يهتدون} على أن المراد به الاهتداء في الطرق في البر والبحر وقالوا أيضًا: لو كان التكليف يتوقف على حساب التنجيم لضاق الأمر فيه إذ(1) لا يعرف ذلك إلا قليل من الناس والشرع مبني على ما يعلمه الجماهير وأيضًا فإن الأقاليم على رأيهم مختلفة ويصح أن يرى في إقليم دون إقليم فيؤدي ذلك إلى اختلاف الصوم عند أهلها مع كون الصائمين منهم لا يعولون غالباً على طريق مقطوع به ولا يلزم قوماً ما ثبت عند قوم قال 9 - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، و قَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ -، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، وَلا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، إِلا أَنْ يُغَمَّ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الشهر تسع وعشرون " ثم قال " فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين" معناه: أن الشهر مقطوع بأنه لا بد أن يكون تسعاً وعشرين فإن ظهر الهلال وإلاّ فيطلب أعلى ا لعدد الذي هو ثلاثون وهو نهاية عدده.
__________
(1) في (أ):" أو ".(4/321)
قال القاضي: لم يحك مذهب الصوم بتقدير النجوم والمنازل إذا غمّ الهلال إلا عن مطرف ابن عبدالله بن الشخير من كبار التابعين بل من المخضرمين قال ابن سيرين: وليته لم يفعل.
وحكى بن سريج عن الشافعي مثله والمعروف من مذهب الشافعي والموجود في كتبه خلاف هذا وموافقة جميع علماء المسلمين من أن معنى: " اقدروا له " في الأيام وأكملوا عدة الشهر ثلاثين كما فسره به - عليه السلام - في حديثه الآخر بقوله:" فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين" وفي الحديث الآخر " فأكملوا العدة ثلاثين" ولهذا أدخل مالك في موطئه هذا الحديث المبين بأثر الأول ليكون كالمفسر له والرافع لإشكاله تهذيباً للتأليف وإتقاناً للعلم، وقفا البخاري أثره في ذلك ولو كلف الأمة حساب النجوم والمنازل لشق عليهم ولبين ذلك - عليه السلام - كما بين لهم أوقات الصلوات.
10 - حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا »، وَقَبَضَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ.
11 - وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا حَسَنٌ الأَشْيَبُ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عن يَحْيَى قَالَ وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ ».(4/322)
12 - وَحَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيُّ، عن عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عن مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، عَشْرًا وَعَشْرًا وَتِسْعًا ».
13 - وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن جَبَلَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« الشَّهْرُ كَذَا وَكَذَا وَكَذَا »، وَصَفَّقَ بِيَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ بِكُلِّ أَصَابِعِهِمَا، وَنَقَصَ فِي الصَّفْقَةِ الثَّالِثَةِ إِبْهَامَ الْيُمْنَى أَوِ الْيُسْرَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام في قوله: " فإن غم عليكم" أي إن حال بينكم وبينه غيم. يقال صمنا للغماء والغمى أي: عن غير رؤية ويروى:" فإن أغمي عليكم ". يقال: غم علينا الهلال وغمي وأغمي فهو مغمي، وقد غامت السماء تغيم غيمومة(1)، فهي غائمة وغيمة وأغامت وغيمت وتغيمت وأغمت وغينت. قال القاضي: وغيمت وأغمت(2) وغمت.
14 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن عُقْبَةَ - وَهُوَ ابْنُ حُرَيْثٍ -، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ »، وَطَبَّقَ شُعْبَةُ يَدَيْهِ ثَلاثَ مِرَارٍ، وَكَسَرَ الإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ.
قَالَ عُقْبَةُ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ:« الشَّهْرُ ثَلاثُونَ »، وَطَبَّقَ كَفَّيْهِ ثَلاثَ مِرَارٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط):" غمومة ".
(2) في (هـ):" وأغيمت ".(4/323)
قال القاضي: وروينا(1) هذا الحرف في الموطأ " غمّ " بضم الغين وتشديد الميم بغير خلاف وكذلك في أكثر أحاديث مسلم وعنده في حديث يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أ[ي شيبة:" أغمى "، وفي رواية بعضهم في حديث يحيى بن يحيى:" غمى " بالضم مخففاً وللعذري في حديث محمد بن سلام(2) مثله مشدد الميم وكذلك لأبي بحر في حديث عبيدالله بن معاذ وكلها صحيحة المعنى، وقيل: معنى هذه الألفاظ مأخوذ من إغماء المريض يقال: غمي عليه وأغمي(3) والرباعي أفصح وقد يصح أن يرجع إلى ما تقدم من إغماء السماء والسحاب وقد يكون أيضًا من التغطية ومنه قولهم: غممت الشيء إذا سترته.
والغمى: مقصور ما سقف به البيت من شيء ووقع في حديث محمد(4) ابن سلام الجمحي في كتاب هذا الحرف عند القاضي الشهيد " عمي " بالعين المهملة والميم المخففة وكذا حدثنا به(5) أيضًا الخشني عن الطبري ومعناه: خفي يقال عمى على الخبر أي خفي.
__________
(1) في (ط):" وروايتنا ".
(2) في حاشية (أ):" عبدالرحمن ".
(3) في (هـ):" وأغمى عليه ".
(4) في حاشية (أ):" عبدالرحمن ".
(5) في (هـ):" وكذا قاله ".(4/324)
وقيل: هو(1) من العماء وهو السحاب الرقيق، وقيل: السحاب المرتفع أي دخل في العماء أو يكون من العمى المقصور وهو عدم الرؤية وقد وقع في كتاب أبي داود " فإن حالت دونه غمامة " وفي كتاب الترمذي " غياية " وهما بمعنى. وهذا يفسر أنه من الغمام على من رواه " غم " وقد وقع عند 15 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عن شُعْبَةَ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا يُحَدِّثُ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ وَلا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا - وَعَقَدَ الإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ -، وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا »، يَعْنِي تَمَامَ ثَلاثِينَ.
وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عن سُفْيَانَ، عن الأَسْوَدِ ابْنِ قَيْسٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِلشَّهْرِ الثَّانِي ثَلاثِينَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعض رواة البخاري " غبي عليكم(2)" بفتح الغين المعجمة وتخفيف الباء ومعناه: خفي. وبعضهم ضم الغين على ما لم يسم فاعله.
وقوله: " أكملوا العدة ثلاثين" تنبيه على مراعاة هلال شعبان لأنه إذا لم يراع وتحقق فعلى ما يكمل ثلاثون(3)؟ وقد ذكر الترمذي وغيره في هذا من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أحصوا هلال شعبان لرمضان " ولكن للحديث علة ذكرها أبو عيسى.
وقوله: "صوموا لرؤيته ".
__________
(1) قوله:" هو " ليس في (هـ).
(2) في (ط):" عليه "، وليس في (هـ).
(3) في (هـ):" ثلاثين ".(4/325)
قال الإمام: إذا ثبت الهلال عند الخليفة لزم سائر الأمصار الرجوع إلى ما عنده وإن كان ذلك عند أهل مدينة فهل يلزم غيرهم ما ثبت عندهم ففيه قولان: فأما الحديث فهو محتمل أن يريد بقوله " صوموا لرؤيته " أي لرؤية من كان أو لرؤيتكم أنتم ويحتج من لا يوجب الصوم بما ذكره مسلم من حديث كريب حين قدم من الشام وصام لرؤيته ليلة الجمعة هناك وأنه 16 - حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عن سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ: سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا رَجُلاً يَقُولُ: اللَّيْلَةَ لَيْلَةُ النِّصْفِ، فَقَالَ لَهُ: مَا يُدْرِيكَ أَنَّ اللَّيْلَةَ النِّصْفُ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا »، وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ مَرَّتَيْنِ، « وَهَكَذَا »، فِي الثَّالِثَةِ وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ كُلِّهَا وَحَبَسَ أَوْ خَنَسَ إِبْهَامَهُ.
17 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلاثِينَ يَوْمًا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أعلم ابن عباس فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصومه حتى نكمل ثلاثين أن نراه فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(4/326)
قال الإمام: والفرق بين الخليفة وغيره أن سائر البلدان لما كانت بحكمه فهي كبلد واحد ويحتج للزوم الصوم من جهة القياس بأنه كما يلزم الرجوع إلى بعض أهل المصر فكذلك يرجع أهل مصر إلى أهل مصر إذ العلة حصول الخبر بذلك.
قال القاضي:قال شيوخنا إذا كان المخبر عن بلد عن رؤية شائعة ذائعة فإنه يلزم غيرهم(1) الصوم برؤيتهم وبخبر المخبر عنهم وإنما الخلاف المذكور إذا كان ثبت عندهم بالشهادة وفيهم يحتاج التفريق بين كونه عند الخليفة وغيره
18 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلامٍ الْجُمَحِيُّ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ، عن مُحَمَّدٍ - وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ -، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعَدَدَ ».
19 - وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمُ الشَّهْرُ فَعُدُّوا ثَلاثِينَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عند من فرق وعلى هذا التنزيل وقعت أقوالهم وهي رواية المدنيين عن مالك وقولهم.
وذهب إسحاق أن لكل قوم رؤيتهم وهو قول القاسم وسالم وابن عباس وهكذا ترجم البخاري على حديث كريب. وحكى أبو عمر بن عبدالبر الإجماع على أنه لا يراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كالأندلس من خراسان قال: ولكل بلد رؤيته إلا من(2) كان كالمصر الكبير وما يقارب أقطاره من بلدان المسلمين.
__________
(1) في (ط):" عندهم ".
(2) في (ط) و(هـ):" ما ".(4/327)
قال القاضي:وهذا على ما ذكره إن صح فإن الأقاليم تختلف فقد تصح رؤيته في(1) إقليم ولا يرى في آخر بحكم البعد من مغاربه والقرب منها والله أعلم، وظاهر هذا الكلام مخالف لما ذكره غيره مما تقدم.
قال الإمام: الرؤية إذا كانت فاشية صيم بغير خلاف، وإن كان(2) الغيم قبل فيه الشهادة بغير خلاف وإن كان الصحو والمصر كبير ففي قبول الشهادة مع ذلك قولان، وهو خلاف في حال هل ذلك تهمة أم لا ؟
20 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عن أَبِي الزِّنَادِ، عن الأَعْرَجِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْهِلالَ فَقَالَ:« إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلاثِينَ ».
21 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عن عَلِيِّ بْنِ مُبَارَكٍ، عن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عن أَبِي سَلَمَةَ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَيْنِ، إِلا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ ».
__________
(1) في (هـ):" من ".
(2) قوله:" في " ليس في (هـ).(4/328)
وَحَدَّثَنَاه يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ الْحَرِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ يَعْنِي ابْنَ سَلامٍ. ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ. ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ. ح، وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، كُلُّهُمْ عن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وما الذي يقبل في ذلك، أما الفطر فمالك وأبو حنيفة والشافعي يقولون(1) لا نقبل الواحد وقبله أبو ثور.
وأما الصوم: فاتفق هؤلاء على قبول الواحد فيه إلاّ مالكاً خاصة وأجاز أبو حنيفة فيه شهادة المرأة والعبد.
وسبب الخلاف هل ذلك من باب الشهادة أم من باب الأخبار وكان ما طريقه الشياع يقبل فيه الواحد كالخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحكم من الأحكام، وما كان يخص بعض الأشخاص كالقول لهذا عند هذا وشبهه فيطلب فيه اثنان 22 - حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عن الزُّهْرِيِّ؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَقْسَمَ أَنْ لا يَدْخُلَ عَلَى أَزْوَاجِهِ شَهْرًا. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً أَعُدُّهُنَّ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: بَدَأَ بِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَنْ لا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وَإِنَّكَ دَخَلْتَ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ أَعُدُّهُنَّ، فَقَالَ:« إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ ».
__________
(1) في (ط):" يقولان ".(4/329)
23 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ. ح، وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عن أَبِي الزُّبَيْرِ، عن جَابِرٍ - رضي الله عنه - ؛ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَزَلَ نِسَاءَهُ شَهْرًا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقُلْنَا: إِنَّمَا الْيَوْمُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَقَالَ:« إِنَّمَا الشَّهْرُ »، وَصَفَّقَ بِيَدَيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ وَحَبَسَ إِصْبَعًا وَاحِدَةً فِي الآخِرَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واعتمد من يجيز شهادة الواحد في الصوم بحديث الأعرابي وحديث ابن عمر شهدت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث ويصح أن يحتج في ذلك بقوله - عليه السلام -: " فكلوا وشربوا حتى ينادى ابن أم مكتوم "فأمرهم - عليه السلام - بالإمساك عن الأكل بخبره وهم في زمان يحل لهم الأكل فيه فكذلك إذا أخبر رجل عن رؤية الهلال.
قال القاضي: وفي قوله: " صوموا لرؤيته" أنه لا يلزم صيام الشك(1) احتياطاً بل يجوز عندهم وعليه جمهور الفقهاء للأثر الوارد في ذلك خلافاً لأحمد في إيجاب صومه وإن صح أنه من رمضان أجزأه، وروى صومه عن عائشة وأسماء وابن عمر وطاوس.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" الشك يوم ".(4/330)
24 - حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ قَالا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ ابْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ رَضِيَ الله عَنْهُمَا يَقُولُ: اعْتَزَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُ شَهْرًا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا صَبَاحَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّمَا أَصْبَحْنَا لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ »، ثُمَّ طَبَّقَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدَيْهِ ثَلاثًا مَرَّتَيْنِ بِأَصَابِعِ يَدَيْهِ كُلِّهَا وَالثَّالِثَةَ بِتِسْعٍ مِنْهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الأوزاعي، والكوفيون: إن صامه وتبين أنه من رمضان أجزأه وجمهورهم لا يصومه ولا يجزيه إن صامه وكان بعض الصحابة يأمر بالفصل ما بين رمضان وشعبان بفطر يوم أو يومين وكره(1) محمد بن مسلمة من أصحابنا تحرى ذلك آخر يوم كما يكره تحري صومه.
قال الإمام قوله:" لا تقدموا الشهر بيوم أو يومين " الحديث محمله على من صام تعظيماً للشهر واستقبالاً له بذلك فأما إن صيم يوم الشك على جهة التطوع ففيه اختلاف وذلك أن لم يكن عادته صوم ذلك اليوم أو نذره.
وأما صومه للاحتياط خوفاً أن يكون من رمضان فالمشهور عندنا النهي عنه وأوجبه بعض العلماء في الغيم.
قال القاضي: اختلف في صومه تطوعاً فمنعه بعضهم لظاهر عموم النهي وأجازه مالك والأوزاعي والليث وأجازه محمد بن مسلمة لمن كان يسرد لا لمن ابتدأ وقد ذكر مسلم الحديث في جواز ذلك نصًّا وهو قوله: " لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا بيومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه" فحمله ابن
__________
(1) في (هـ):" وقد كره ".(4/331)
25 - حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَيْفِيٍّ ؛ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ ؛ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا ؛ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَلَفَ أَنْ لا يَدْخُلَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ شَهْرًا، فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا غَدَا عَلَيْهِمْ أَوْ رَاحَ، فَقِيلَ لَهُ: حَلَفْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: أَنْ لا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، قَالَ:« إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ».
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا رَوْحٌ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ يَعْنِي أَبَا عَاصِمٍ، جَمِيعًا عَن ابْنِ جُرَيْجٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ.
26 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ عَلَى الأُخْرَى، فَقَالَ:« الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا »، ثُمَّ نَقَصَ فِي الثَّالِثَةِ إِصْبَعًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسلمة على ظاهره وحمله الجمهور على أن النهي لتحريه من رمضان لا لغيره لما وقع في الرواية الأخرى " لا تحروا ".
وقوله - عليه السلام -:" إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب ".(4/332)
قال الإمام: الأمية هي(1) التي هي(2) على أصل ولادات أمهاتها لم تتعلم(3) الكَتْب(4) فهي على ما ولدت عليه ومنه النبي الأمي ينسب إلى ما ولدته عليه أمه معجزة له عليه السلام.
27 - وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عن زَائِدَةَ، عن إِسْمَاعِيلَ، عن مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عن أَبِيهِ - رضي الله عنه -، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا »، عَشْرًا وَعَشْرًا وَتِسْعًا مَرَّةً.
وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُهْزَاذَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ فِي هَذَا الإِسْنَادِ بِمَعْنَى حَدِيثِهِمَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: وقد قيل إنه منسوب إلى صفة أمه من ذلك إذ هو غالب النساء. قال الداودي، وقيل: سموا أميين ؛ لأن بلدهم مكة أم القرى والأظهر غير هذا وأنه إنما أراد جميع العرب.
__________
(1) قوله:" هي " ليس في (أ).
(2) قوله:" هي " ليس في (هـ).
(3) في (ط):" تعلم ".
(4) في (هـ):" الكتاب ".(4/333)
وقوله: " الشهر هكذا وهكذا وهكذا(1)" الحديث وإشارته بيديه(2) إلى الثلاثين والتسع وعشرين حجة للحكم بالإشارة، وأنها تقوم مقام النطق في الطلاق والبيوع والوصايا وغيرها ويدل على صحة الاعتداد بها، وفيه حجة أيضًا لصحة طلاق الأبكم، وإقراره وشهادته وحده إذا فهم منه القذف وتحقق ما أشار به وفيه تقريب الأمور بالتمثيل وهو مقصده عليه الصلاة والسلام بذلك لا لغيره وليس من أجل وصفه لهم بالأمية وأنهم لا يحسبون ولا يكتبون إذ كانوا لا يجهلون ثلاثين ولا تسعاً وعشرين ولكان ذكره لها - عليه السلام - أخف عليه من الإشارة وتكريرها بيديه ثلاث مرات كما قد اختصر ذلك وقاله بلفظه في الحديث الآخر ولم ينف عنهم معرفة مثل هذا الحساب وإنما وصفهم بذلك طرحاً للاعتداد بالمنازل وطرق الحساب التي تعول عليه الأعاجم في صومها وفطرها وفصولها.
__________
(1) قوله:" وهكذا " الثالثة ليس في (أ).
(2) في (أ) و(هـ):" بيده ".(4/334)
28 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ-، عن مُحَمَّدٍ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ -، عن كُرَيْبٍ ؛ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، قَالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا، وَاسْتُهِلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الْهِلالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلالَ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلالَ ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا، وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلاثِينَ، أَوْ نَرَاهُ، فَقُلْتُ: أَوَ لا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ، فَقَالَ: لا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. وَشَكَّ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى فِي: نَكْتَفِي، أَوْ: تَكْتَفِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد وقع في الأحاديث في هيئة إشارته - عليه السلام - اختلاف وأصحها وأبينها(1) ما جاء في رواية سعيد بن عمرو بن سعيد عن ابن عمر " الشهر هكذا وهكذا هكذا وعقد الإبهام في الثالثة والشهر هكذا وهكذا وهكذا(2) يعني تمام ثلاثين" ونحوه في حديث ابن مثنى، فهذا يبين أن الشهر يكون مرة ثلاثين ومرة تسعاً وعشرين [ وكثير منها لم يقع فيها هذا البيان.
__________
(1) في (هـ):" أثبتها ".
(2) قوله:" وهكذا " الثالثة ليس في (أ).(4/335)
وبعضها اقتصر فيه على ذكر التسع وعشرين](1)، وفي بعضها من رواية موسى بن طلحة عن ابن عمر هكذا، وهكذا، وهكذا عشراً وتسعًا، كذا لهم، وللسمرقندي عشرا وعشرا وتسعا وهو الصواب.
29 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عن حُصَيْنٍ، عن عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عن أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: خَرَجْنَا لِلْعُمْرَةِ، فَلَمَّا نَزَلْنَا بِبَطْنِ نَخْلَةَ قَالَ: تَرَاءَيْنَا الْهِلالَ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ ثَلاثٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ لَيْلَتَيْنِ، قَالَ: فَلَقِينَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْنَا: إِنَّا رَأَيْنَا الْهِلالَ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ ثَلاثٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ لَيْلَتَيْنِ، فَقَالَ: أَيَّ لَيْلَةٍ رَأَيْتُمُوهُ ؟ قَالَ: فَقُلْنَا: لَيْلَةَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « إِنَّ اللَّهَ مَدَّهُ لِلرُّؤْيَةِ، فَهُوَ لِلَيْلَةٍ رَأَيْتُمُوهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومعنى هكذا في كل إشارة يعني بيديه جميعاً إشارة للعشر أصابع بدليل قوله: بيديه. وقوله في بعضها: " وصفق بيديه" وفي الحديث الآخر: " وطبق" وهما ها هنا بمعنى.
وقوله: " وخنس الإبهام" بالخاء والنون وهو أصوب ممن(2) قال "وحبس" بمعنى عطفه ويشرحه قوله في الرواية الأخرى:" وكسر الإبهام" وقد يخرج: حبس بمعنى أي أنه لم يشر به مع سائر الأصابع وعلى الشك جاء في حديث أبي كامل الجحدري وبالحاء والباء في حديث ابن رمح لكافتهم، وعند الباقين: خنس بالخاء والنون.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(2) في (أ):" فمن ".(4/336)
وفي حديث حلفه على نسائه شهراً وأنه خرج في تسعة وعشرين فقيل له: اليوم تسع وعشرون فقال: " الشهر تسع وعشرون" وفي الرواية الأخرى "خرج إلينا(1) صباح تسع وعشرين" وفي الأخرى " إنما دخلت من تسع وعشرين" معناه كله بعد تمام تسعة وعشرين وتبينه الروايات الأخر في حديث أم سلمة " فلما مضى تسعة وعشرون يوما غدا عليهم أو راح" وفي حديث 30 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عن شُعْبَةَ. ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عن عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: أَهْلَلْنَا رَمَضَانَ وَنَحْنُ بِذَاتِ عِرْقٍ، فَأَرْسَلْنَا رَجُلاً إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا يَسْأَلُهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَدَّهُ لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) قوله:" إلينا " ليس في (هـ).(4/337)
عائشة: " لما مضت تسع وعشرون أعدهن" ولو كان على ظاهره وكان دخوله في يوم تسعة(1) وعشرين لما تم له(2) الشهر لا من ثلاثين ولا من تسع وعشرين، والعرب قد تقدم النهار على الليل وتضيف الليلة الآتية لليوم الماضي فلذلك قال: صباح تسع وعشرين أي صباح الليلة التي بعد تسعة وعشرين يوما وهي صبيحة ثلاثين وقد يحتج به محمد بن عبدالحكم والشافعي في أحد قوليه فيمن عليه شهر للصيام فصامه بالأيام أنه يجزيه من ذلك تسع وعشرون إذ ظاهره أنه لم يدخل أول الشهر ولو كان ذلك لم يكن للقول له دخلت من تسع وعشرين أعدهن ولقيل له إن الشهر لم يتم لكان(3) الجواب قد أهل الهلال ولو أهل لم يحتاجوا إلى سؤاله لعلمهم به وعلى هذا تأول الحديث بعضهم.
وقيل: بل أشار إلى شهر معين وهو الذي هجر فيه نساءه ويحتمل أن السؤال لظنهم أنه لا بد من تمام أيام الشهر المعلومة وقد يحتمل ذلك قولهم إنما الشهر تسعة وعشرون وقد روى أن عائشة أنكرت قول من قال في الحديث:
31 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عن خَالِدٍ، عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عن أَبِيهِ - رضي الله عنه -، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« شَهْرَا عِيدٍ لا يَنْقُصَانِ رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشهر تسعة وعشرون، وقالت:إنما جاء حين ذهب تسع وعشرون فقيل له ذلك، فقال: إن الشهر كان تسعاً وعشرين.
__________
(1) في (هـ):" تسع ".
(2) في (أ):" به ".
(3) في (أ):" يتم ولو كان ".(4/338)
ومذهبنا أن من عليه شهر غير(1) معين أو صام شهور الكفارات(2) المتتابعة وكان ابتداء صومه للأهلة(3) فإنه يجزيه ما كان منها تسعاً وعشرين. وحكى الخطابي، أنه لا يجزيه إلاّ أن يكون معيناً ومذهب مالك أنه إن صامه [للأهلة أجزأه، وإن صامه](4) على غير الأهلة فلا يجزيه إلاّ ثلاثين يوماً.
وقوله: في حديث كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته(5) إلى معاوية، وفيه واستهل على رمضان، وفي حديث أبي البختري" أهللنا رمضان" قال الهروي: وأهللنا [ الهلال إذا دخلنا فيه وقال غيره: استهللنا الهلال بمعنى أهللناه](6)، وأهل الهلال طلع وهلّ أيضًا.
ويحتمل أن ابن عباس لم يعول على رؤية معاوية في هذا الحديث على ما حكى من مذهبه في أن لكل قوم رؤيتهم أو لأنه لم يعول في ذلك على خبر الواحد أو لأمر كان يعتقده في ذلك أو لاختلاف أُفْقَيهم(7).
وقيل: بل ؛ لأن السماء كانت مصحية بالمدينة فلما لم يروه ارتابوا بالخبر عن رؤية غيرهم.
وقوله: تراءينا الهلال فقال قوم هو ابن ثلاث، وقال قوم: هو ابن ليلتين وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله قد أمده لرؤيته، وفي الرواية الأخري: مده فهو لليلة رأيتموه.
32 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عن إِسْحَاقَ بْنِ سُوَيْدٍ وَخَالِدٍ، عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عن أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« شَهْرَا عِيدٍ لا يَنْقُصَانِ »، فِي حَدِيثِ خَالِدٍ:« شَهْرَا عِيدٍ رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) قوله:" غير " ليس في (أ).
(2) في (هـ):" الكفارة ".
(3) في (أ):" الأهلة ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(5) في (أ):" بعثت ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (هـ).
(7) في (هـ):" أفقهم ".(4/339)
قال الإمام: إذا رئي الهلال بعد الزوال فهو الليلة المقبلة، وإن رئي قبل الزوال ففيه قولان: قيل للماضية، وقيل: للمقبلة وقال بعض أصحاب الظاهر: أما في الصوم فيجعل للماضية، وأما في الفطر فجعل للمستقبلة، وهذا بناء منهم على الأخذ بالاحتياط وهو نحو القول بأنه إذا كان الشك يوم الغيم وجب الإمساك وظاهر قوله " صوموا لرؤيته" على مقتضى اللفظ يوجب الصوم حين الرؤية متى وجدت فإذا منع الإجماع من وجوب الصوم على الإطلاق حينئذ كان ذلك(1) محمولاً على المستقبل ويكون حجة للقول بأنه لليلة المقبلة على كل حال وهذا على طريقة من رأى ذلك إذ لا فرق ما بين قبل الزوال وبعده عنهم.
وقوله: " تراءينا الهلال" أي تكلفنا النظر هل نراه أو لا ؟
وقوله:" إن الله قد(2) أمده لرؤيته ".
__________
(1) قوله:" ذلك " ليس في (هـ).
(2) قوله:" قد " ليس في (هـ).(4/340)
قال القاضي: كذا رويناه عن شيوخنا(1) وكذا في جميع النسخ. قال بعضهم صوابه: " أمده بتشديد الميم من الأمد أو " مده " من الامتداد، والصواب عندي بقاء الرواية على وجهها ويكون بمعنى: أطال له مدة لرؤيته أي إن لم ير لتسع وعشرين فيرى لثلاثين(2) فإن غم فاقدروا له ذلك. يقال منه: مدّ وأمد 33 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عن حُصَيْنٍ، عن الشَّعْبِيِّ، عن عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رضي الله عنه - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } قَالَ لَهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجْعَلُ تَحْتَ وِسَادَتِي عِقَالَيْنِ عِقَالاً أَبْيَضَ وَعِقَالاً أَسْوَدَ أَعْرِفُ اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ وِسَادَتَكَ لَعَرِيضٌ إِنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الله{وإخوانهم يمدونهم في الغي} قرئ بالوجهين: أي يطليون لهم وقد يكون أمده من المدة التي جعلت له.
قال صاحب الأفعال: أمددتك مدة أعطيتكها أو يكون من الإمداد وهي: الزيادة في الشيء من غيره كأن الشهر لما كان تسعة وعشرين وقد يزيده الله يوماً فيكون ثلاثين ومنه أمددت الجيش إذا كثرته وكذلك كل شيء.
قوله: " شهرا عيد لا ينقصان".
قال الإمام: قيل معناه لا ينقصان من الأجر وإن نقص العدد، وقيل معناه: في عام بعينه: وقيل: لا يجتمعان [في عام بعينه](3) ناقصين في سنة واحدة في غالب الأمر.
__________
(1) قوله:" عن شيوخنا " ليس في (ط).
(2) في (ط):" لليلتين ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(هـ).(4/341)
قال القاضي: قال الطحاوي معناه: لا ينقصان وإن كانا تسعة وعشرين يوما فهما كاملان ؛ لأن في أحدهما الصيام وفي الآخر الحج وأحكام ذلك كله كاملة غير ناقصة قال الخطابي: وقيل لا ينقص أجر ذي الحجة عن أجر رمضان لفضل(1) العمل في العشر.
وقوله: في حديث عدى لما نزلت { وكلوا واشربوا} الآية جعلت تحت وسادتي عقالاً أبيض وعقالاً أسود.
34 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ } قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ خَيْطًا أَبْيَضَ وَخَيْطًا أَسْوَدَ، فَيَأْكُلُ حَتَّى يَسْتَبِينَهُمَا، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { مِنَ الْفَجْرِ }، فَبَيَّنَ ذَلِكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط):" بفضل ".(4/342)
العقال: ما تربط به الإبل من حبال من شعر أو غيره وفعل من فعل ذلك وتأوله على قوله تعالى:{حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} الآية حتى نزلت {من الفجر} فعلموا أن المراد به الليل والنهار ليس أن هذا كان الشرع أولاً ثم نسخ ذلك بقوله:{من الفجر}على ما أشار إليه الطحاوي والداودي أثناء كلامهما إنما المراد بفعل ذلك وتأويله ممن لا علم عنده ولا فقه من الأعراب أو من لم يكن في لغته استعمال الخيط في الليل النهار إذ لا يصح تأخير البيان عن وقت الحاجة ألا ترى إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك على عدى وقوله:" إن وسادك(1) لعريض إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار وفيه وجوب التوقف عند الألفاظ المشتركة وطلب البيان فيها وأنها لا تحمل على أظهر وجوهها وأكثر استعمالاتها إلا عند عدم البيان فيها، وقد كان البيان عتيداً بوجود النبي - عليه السلام -.
قال أبو عبيد: الخيط الأبيض الفجر الصادق، والخيط الأسود الليل. والخيط: اللون ففي هذا وفي قوله: سواد الليل وبياض النهار دليل(2) أن ما بعد الفجر من النهار.
__________
(1) في (هـ):" وسادتك ".
(2) في (هـ):" دليل على ".(4/343)
35 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:{ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ }، قَالَ: فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ الْخَيْطَ الأَسْوَدَ وَالْخَيْطَ الأَبْيَضَ، فَلا يَزَالُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رِئْيُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ { مِنَ الْفَجْرِ }، فَعَلِمُوا أَنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " إن وسادك لعريض" لقوله "أجعل تحت وسادتي(1) عقالين" أي إن جعلت تحت وسادك الخيطين اللذين أراد الله وهما الليل والنهار فوسادك الذي(2) يعلوهما ويغطيهما عريض وهو المعنى بقوله في الحديث الآخر الذي لم يذكره مسلم وذكره(3) البخاري " إنك لعريض القفا " ؛ لأن من يكون وساده هذا على عظمة قفاه من نوعه وعلى مجانسته وقد جاء في الرواية الأخرى " إنك لضخم " لا ما ذهب إليه بعضهم من أنها كناية عن الغباوة، أو عن السمن لكثرة أكله إلى بيان الخيطين، وقيل: أراد بالوساد(4): النوم، أي: أن نومك كثير، وقيل: أراد به الليل وهذان التفسيران يبعدان في هذا الموضع كأنه قال إن من لم يكن النهار عنده حتى يتبين له العقالان طال ليله وكثر نومه وقيل: أراد بالوساد هنا القفا كما نص عليه في الحديث الآخر.
__________
(1) في (ط):" وسادي ".
(2) قوله:" الذي " ليس في (ط) و(هـ).
(3) قوله:" مسلم وذكره " ليس في (ط) و(هـ).
(4) في (هـ):" الوسادة ".(4/344)
وقوله: في الحديث الآخر " ربط أحدكم في رجله خيطاً أبيض وخيطاً أسود" مثل خبر عدى وتأويله وعمل مثله من الأعراب.
وقوله: "حتى يتبين له رئيتهما" أي منظرهما وهو عندهم معنى قوله تعالى:{هم أحسن أثاثاً ورئيًا} وفي كتاب العين"الرئي" ما رأيته من حال
36 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ قَالا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ. ح، وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عن سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عن عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنه -، عن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؛ أَنَّهُ قَالَ:« إِنَّ بِلالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا تَأْذِينَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ».
37 - حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عن سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« إِنَّ بِلالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حسنة، وفي رواية بعض شيوخنا في هذا الحرف " ريهما" ولا وجه له هنا إلا على بعد في(1) التأويل إن صح سماعاً ورواية ويكون " ري" بمعنى مرئي، وإنما الري المعروف التابع من ا لجن يقال: بفتح الراء وكسرها وكأنه من هذا ا لأصل لتراييه لمن تبعه من الإنس.
__________
(1) في (هـ):" من ".(4/345)
وقوله: " إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" وفي الآخر " لا يمنعنّ أحدكم أذان بلال أو نداء بلال من سحوره فأنه يؤذن أو ينادي ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم" ففيه جواز الأذان للصبح قبل وقتها للاستعداد لها لمن عليه طهر أو طلب مائه وهي مختصة بذلك من بين سائر الصلوات وهو قول كافة العلماء خلافاً لأبي حنيفة والثوري في منعهما ذلك، وقيل: إنما يجوز ذلك إذا كان ثم من يؤذن بعد الفجر. ثم اختلف المذهب عندنا في وقت تقديمها فقيل لنصف الليل وقيل: لسدسه وقد جاءت قولة شاذة معروفة في إباحته من بعد العشاء الآخرة وقد تعلق أصحاب أبي
38 - حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عن نَافِعٍ، عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُؤَذِّنَانِ بِلالٌ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ بِلالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ »، قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا .
وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ. ح، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ. ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، كُلُّهُمْ عن عُبَيْدِ اللَّهِ بِالإِسْنَادَيْنِ كِلَيْهِمَا نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/346)
حنيفة بقوله:" ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم". وقالوا: إنما كان يؤذن للسحور لا للصلاة وهذا بعيد إذ لم يختص هذا بشهر رمضان وإنما أخبر عن عادته في أذانه ولأنه العمل المنقول في سائر الحول بالمدينة وإليه رجع أبو يوسف حين تحققه ولأنه لو كان للسحور لم تختص بصورة أذان الصلاة وجاء في كتاب مسلم أنه لم يكن بين أذانهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا وجاء في الحديث الآخر في الصحيح في "الموطأ" وغيره وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له:" أصبحت أصبحت" قالوا: أي قاربت الصباح.
وقيل: على ظاهره من ظهور الصباح.
وقد جاء في صحيح البخاري " لا يؤذن حتى يطلع الفجر" ومجموع هذا أن بلالاً كان يتربص شيئاً يدعو(1) بعد أذانه أحيانا ويرقب الفجر ثم يصعد ابن أم مكتوم لأول بادي(2) طلوعه وحيث يحرم الأكل إذا أعلمه بذلك إذ 39 - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عن سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عن أَبِي عُثْمَانَ، عن ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ أَذَانُ بِلالٍ - أَوْ قَالَ: نِدَاءُ بِلالٍ - مِنْ سُحُورِهِ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ - أَوْ قَالَ يُنَادِي - بِلَيْلٍ، لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ، وَيُوقِظَ نَائِمَكُمْ »، وَقَالَ: لَيْسَ أَنْ يَقُولَ: هَكَذَا وَهَكَذَا وَصَوَّبَ يَدَهُ وَرَفَعَهَا، حَتَّى يَقُولَ: هَكَذَا وَفَرَّجَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ .
__________
(1) في (هـ):" ويدعون ".
(2) في (ط) و(هـ):" مبادي ".(4/347)
وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ يَعْنِي الأَحْمَرَ، عن سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:« إِنَّ الْفَجْرَ لَيْسَ الَّذِي يَقُولُ هَكَذَا - وَجَمَعَ أَصَابِعَهُ ثُمَّ نَكَسَهَا إِلَى الأَرْضِ -، وَلَكِنِ الَّذِي يَقُولُ هَكَذَا »، وَوَضَعَ الْمُسَبِّحَةَ عَلَى الْمُسَبِّحَةِ وَمَدَّ يَدَيْهِ.
40 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ. ح، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ وَالْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، كِلاهُمَا عن سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَانْتَهَى حَدِيثُ الْمُعْتَمِرِ عِنْدَ قَوْلِهِ:« يُنَبِّهُ نَائِمَكُمْ وَيَرْجِعُ قَائِمَكُمْ »، و قَالَ إِسْحَاقُ: قَالَ جَرِيرٌ فِي حَدِيثِهِ:« وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا، وَلَكِنْ يَقُولُ هَكَذَا - يَعْنِي الْفَجْرَ - هُوَ الْمُعْتَرِضُ وَلَيْسَ بِالْمُسْتَطِيلِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان ابن أم مكتوم أعمى لا يؤذن حتى يقال له أصبحت أي قاربت(1) على أصح الوجهين وعليه محمل يحتمل(2) قوله: " حتى يطلع الفجر" أي قارب ذلك، وكان أذان ابن أم مكتوم علماً على وقت الامتناع من الأكل حوطة للفجر ولعل بتمام أذانه يتضح الفجر ووقت الصلاة على أحد التأويلين في أصبحت، وقيل قد
__________
(1) في (هـ):" قاربت الصباح ".
(2) قوله:" يحتمل " ليس في (ط).(4/348)
41 - حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَوَادَةَ الْقُشَيْرِيِّ، حَدَّثَنِي وَالِدِي ؛ أَنَّهُ سَمِعَ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« لا يَغُرَّنَّ أَحَدَكُمْ نِدَاءُ بِلالٍ مِنَ السَّحُورِ، وَلا هَذَا الْبَيَاضُ حَتَّى يَسْتَطِيرَ ».
42 - وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَوَادَةَ، عن أَبِيهِ، عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلالٍ، وَلا هَذَا الْبَيَاضُ لِعَمُودِ الصُّبْحِ حَتَّى يَسْتَطِيرَ هَكَذَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يكون راوي قرب ما بينهما شاهد ذلك، واختلفت حال بلال فيه فأخبر عما شاهده ومقصد الحديث يدل على أن ما بينهما ليس بقريب.
قال القاضي: وهذا التأويل يبعد على راوي هذا الحديث، وهو ابن عمر لكثرة ملازمته الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومواظبته له والتأويل الأول أظهر، وفيه حجة على الاقتداء بثقات المؤذنين وتقليدهم في الوقت والعمل بخبر الواحد في العبادات.
وفي قوله: " إن بلالاً ينادي بليل" إلى آخر الحديث دليل على أن ما بعد الفجر ليس من الليل وقد يتعلق بهذه الألفاظ من يرى رأي بعض متقدمي الصحابة والسلف في أن تبيين الخيط بعد الفجر.
ويحتج به من يرى إباحة الأكل حتى يتيقن طلوع الفجر وإن كان شاكًّا في طلوعه وهو قول الكوفيين والأوزاعي وابن حنبل وأبي ثور والشافعي.
وقال مالك: لا يأكل وإن أكل فعليه القضاء وحمله أصحابنا على الاستحباب.(4/349)
43 - وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَوَادَةَ الْقُشَيْرِيُّ، عن أَبِيهِ، عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلالٍ، وَلا بَيَاضُ الأُفُقِ الْمُسْتَطِيلُ هَكَذَا، حَتَّى يَسْتَطِيرَ هَكَذَا ».
وَحَكَاهُ حَمَّادٌ بِيَدَيْهِ قَالَ: يَعْنِي مُعْتَرِضًا.
44 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن سَوَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ - رضي الله عنه - وَهُوَ يَخْطُبُ، يُحَدِّثُ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «لا يَغُرَّنَّكُمْ نِدَاءُ بِلالٍ وَلا هَذَا الْبَيَاضُ حَتَّى يَبْدُوَ الْفَجْرُ، أَوْ قَالَ: حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ ».
وَحَدَّثَنَاه ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي سَوَادَةُ بْنُ حَنْظَلَةَ الْقُشَيْرِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ - رضي الله عنه - يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَ هَذَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم اختلفوا من ذلك إلى طلوع الشمس وإن كان أجمع أئمة الفتوى بعدهم على أنه لا يجوز الأكل بعد طلوع الفجر، واختلفوا بعد ذلك فيمن طلع عليه الفجر وهو على يقين أنه من الليل وهو يأكل أو يطأ فكفّ عنهما هل يجزيه، فقال ابن القاسم: يجزيه في الأكل والجماع وقال عبدالملك: يجزيه في الأكل ولا يجزيه في الجماع، ويقضي فيه وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وفيه جواز اتخاذ مؤذنين فأكثر للصلوات.(4/350)
وقوله: في الحديث " ليرجع قائمكم" بالنصب أي يرده إلى راحته وجمام نفسه بإعلامه بأذانه السحر، وقرب الصباح وينام(1) غفوة السحر ونومة الفجر 45 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عن عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عن أَنَسٍ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، عن ابْنِ عُلَيَّةَ، عن عَبْدِ الْعَزِيزِ، عن أَنَسٍ - رضي الله عنه -. ح، وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عن قَتَادَةَ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنِ صُهَيْبٍ، عن أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً ».
46 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عن مُوسَى بْنِ عُلَيٍّ، عن أَبِيهِ، عن أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ ».
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَأَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، جَمِيعًا عَن وَكِيعٍ. ح، وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، كِلاهُمَا عن مُوسَى بْنِ عُلَيٍّ بِهَذَا الإِسْنَادِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المستلذة المستعان بها على النشاط وذهاب كسل السهر وتغير اللون كما كان يفعل النبي - عليه السلام - من نومه بعد صلاته من الليل إذا أذن المؤذن على ما جاء في الحديث وقد يكون معنى ذلك ليكمل ويستعجل بقية ورده ويأتي بوتره(2) قبل الفجر.
__________
(1) في (هـ):" وقيام".
(2) في (هـ):" يورده ".(4/351)
وقوله: " ولينبه نائمكم" أي النائم آخر الليل أو لصلاة الوتر لمن غلبه النوم على ذلك أو معتقد الصوم للسحور(1).
وقد استدل بعضهم منه على منع الوتر بعد الفجر، ولا حجة له فيه. وفيه: قرب أذان بلال من السحر، وجاء في حديث زهير بن حرب في هذا
47 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عن هِشَامٍ، عن قَتَادَةَ، عن أَنَسٍ، عن زَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ - رضي الله عنه - قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قُمْنَا إِلَى الصَّلاةِ، قُلْتُ: كَمْ كَانَ قَدْرُ مَا بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ: خَمْسِينَ آيَةً.
وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ. ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ نُوحٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ ابْنُ عَامِرٍ، كِلاهُمَا عن قَتَادَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الباب عن أبي عثمان عن ابن مسعود، كذا لهم وهو المعروف وعند ابن(2) أبي جعفر عن أبي(3) مسعود وهو وهم.
وقوله: " ليس الفجر أن يقول هكذا" وجمع بين أصابعه ثم نكسها إلى الأرض، وفي الحديث الآخر " ورفعها " ولكن الذي يقول(4) هكذا ووضع المسبحة على المسبحة أي السبابة ومدّ يديه هذا مثل قوله في الحديث الآخر بعده: " لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا وهكذا" يعني معترضاً. والمستطير: المنتشر. وفيه: البيان بالإشارة وأنها تقوم مقام النطق.
__________
(1) في (ط):" للسحر ".
(2) قوله:" ابن " ليس في (هـ).
(3) في (أ):" ابن ".
(4) قوله:" يقول " ليس في (هـ).(4/352)
وقوله: " تسحروا فإن في السحور بركة" أصل البركة الزيادة وقد تكون هذه البركة القوة على الصيام، وقد جاء كذلك مفسراً في بعض الآثار وقد تكون الزيادة في الأكل على الإفطار وهو مما اختصت به هذه الأمة في صومها وقد تكون البركة في زيادة الأوقات المختصة بالفضل، وهذا منها لأنه في السحر ومنه اشتق اسم السحور.
48 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عن أَبِيهِ، عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ ».
وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ. ح، وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ مَهْدِيٍّ، عن سُفْيَانَ، كِلاهُمَا عن أَبِي حَازِمٍ، عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ.
49 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ قَالا: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن الأَعْمَشِ، عن عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عن أَبِي عَطِيَّةَ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْنَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ! رَجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - أَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ الإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلاةَ، وَالآخَرُ يُؤَخِّرُ الإِفْطَارَ وَيُؤَخِّرُ الصَّلاةَ ؟ قَالَتْ: أَيُّهُمَا الَّذِي يُعَجِّلُ الإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلاةَ ؟ قَالَ: قُلْنَا: عَبْدُاللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ -، قَالَتْ: كَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. زَادَ أَبُو كُرَيْبٍ وَالآخَرُ أَبُو مُوسَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/353)
وقد جاء في فضل ذلك الوقت وقبول الدعاء والعمل فيه وتنزل الرحمة ما جاء وقد تكون هذه البركة ما(1) يتفق للمتسحر من ذكر أو صلاة أو استغفار وغيره(2) من زيادات الأعمال التي لولا القيام للسحور لكان الإنسان نائماً عنها وتاركاً لها. وتجديد النية للصوم ليخرج من الاختلاف والسحور بنفسه بنية الصوم وامتثال الندب طاعة وزيادة في العمل.
وقوله: " فصل ما بيننا وبين أهل الكتاب أكلة السحور" بفتح الهمزة وصوابه ووجهه والرواية فيه: بضمها، وبالضم إنما هي بمعنى: اللقمة
50 - وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عن الأَعْمَشِ، عن عُمَارَةَ، عن أَبِي عَطِيَّةَ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ لَهَا مَسْرُوقٌ: رَجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، كِلاهُمَا لا يَأْلُو عن الْخَيْرِ أَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ الْمَغْرِبَ وَالإِفْطَارَ، وَالآخَرُ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ وَالإِفْطَارَ ؟ فَقَالَتْ: مَنْ يُعَجِّلُ الْمَغْرِبَ وَالإِفْطَارَ ؟ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ، فَقَالَتْ: هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ.
51 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَاتَّفَقُوا فِي اللَّفْظِ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، و قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، وَقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، جَمِيعًا عَن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عن أَبِيهِ، عن عَاصِمِ ابْنِ عُمَرَ، عن عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ وَأَدْبَرَ النَّهَارُ وَغَابَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ »، لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ نُمَيْرٍ: فَقَدْ.
__________
(1) في (هـ):" مما ".
(2) في (هـ):" أو غيره ".(4/354)
52 - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عن أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَلَمَّا غَابَتِ الشَّمْسُ قَالَ:« يَا فُلانُ ! انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا »، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا، قَالَ:« انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا »، قَالَ: فَنَزَلَ فَجَدَحَ، فَأَتَاهُ بِهِ فَشَرِبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ:« إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ مِنْ هَا هُنَا وَجَاءَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الواحدة، وبالفتح: الأكل مرة واحدة وهو الأشبه هنا(1). ومعنى " فصل" أي فرق، والفصل: بالصاد الفرق بين الشيئين. ففيه الحض على السحور.
وأجمع الفقهاء على أن السحور مندوب إليه ليس بواجب.
53 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ وَعَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عن الشَّيْبَانِيِّ، عن ابْنِ أَبِي أَوْفَى - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ، فَلَمَّا غَابَتِ الشَّمْسُ قَالَ لِرَجُلٍ:« انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا »، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! لَوْ أَمْسَيْتَ، قَالَ:« انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا »، قَالَ: إِنَّ عَلَيْنَا نَهَارًا، فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ فَشَرِبَ، ثُمَّ قَالَ:« إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا - وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ -، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ ».
__________
(1) في (ط):" فيها ".(4/355)
وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى - رضي الله عنه - يَقُولُ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ صَائِمٌ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَالَ:« يَا فُلانُ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا »، مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ، وَعَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ.
54 - وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ. ح، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، كِلاهُمَا عن الشَّيْبَانِيِّ، عن ابْنِ أَبِي أَوْفَى. ح، وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي. ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن الشَّيْبَانِيِّ، عن ابْنِ أَبِي أَوْفَى - رضي الله عنه -، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ وَعَبَّادٍ وَعَبْدِ الْوَاحِدِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَحَدٍ مِنْهُمْ: فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَلا قَوْلُهُ: وَجَاءَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، إِلا فِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ وَحْدَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:" لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر".
قال الإمام: ظاهره أنه - عليه السلام - أشار أن فساد الأمور يتعلق بتغيير هذه السنة التي هي تعجيل الفطر وأن تأخيره ومخالفة السنة في ذلك كالعلم على فساد الأمور.
55 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عن نَافِعٍ، عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن الْوِصَالِ، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ:« إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى ».(4/356)
56 - وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ. ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عن نَافِعٍ، عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَاصَلَ فِي رَمَضَانَ، فَوَاصَلَ النَّاسُ، فَنَهَاهُمْ، قِيلَ لَهُ: أَنْتَ تُوَاصِلُ، قَالَ:« إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى ».
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عن جَدِّي، عن أَيُّوبَ، عن نَافِعٍ، عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: فِي رَمَضَانَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " إذا أقبل الليل وأدبر النهار، وغابت الشمس فقد أفطر الصائم" أحد هذه الأشياء يتضمن بقيتها إذ لا يقبل الليل إلا إذا أدبر النهار ولا يدبر النهار إلا إذا(1) غربت الشمس ولكنه قد لا يتفق مشاهده عين الغروب ويشاهد هجوم الظلمة حتى يتيقن الغروب بذلك فيحل الإفطار.
وقوله: - عليه السلام - " فقد أفطر الصائم" إن حمل على أن المراد به قد صار مفطراً فيكون ذلك دلالة على أن زمن الليل يستحيل الصوم فيه شرعاً، وقد قال بعض العلماء أن الإمساك بعد الغروب لا يجوز وهو كإمساك(2) يوم الفطر ويوم النحر.
وقال بعضهم: ذلك جائز وله أجر الصائم.
__________
(1) قوله:" إذا " ليس في (هـ).
(2) في (هـ):" كالإمساك ".(4/357)
57 - حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؛ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، عن الْوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوَاصِلُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« وَأَيُّكُمْ مِثْلِي، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي »، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عن الْوِصَالِ، وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلالَ، فَقَالَ:« لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلالُ لَزِدْتُكُمْ »، كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واحتج هؤلاء بأن الأحاديث الواردة في الوصال التي ذكرها مسلم في ألفاظها ما يدل على أن النهي عن ذلك تخفيف ورفق، وفي بعض طرق مسلم نهاهم عن الوصال رحمة لهم، وفي بعض طرقه لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً ثم يوماً(1) ثم رأوا الهلال فقال - عليه السلام -: " لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنكل لهم وفي بعض طرقه: " لو مدّ لنا الشهر لواصلنا وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم" وهذا كله يدل على أنه لا يستحيل إمساك الليل شرعاً، ولو كان مستحيلاً ما واصل - عليه السلام - بهم ولا حملهم على ما لا يحل ولعاقب من خالف نهيه.
وقال أحمد وإسحاق: لا بأس بالوصال إلى السحر وخرج البخاري " لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر".
__________
(1) قوله:" ثم يومًا " ليس في (ط).(4/358)
وقوله: " قالوا إنك تواصل قال: " إنكم لستم في ذلك مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني فاكلفوا من العمل ما تطيقون" وهذا يحتمل أن يكون المراد به أن الله تعالى يخلق فيه من الشبع والري ما يخلقه في قلب من أكل 58 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ قَالَ زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عن عُمَارَةَ، عن أَبِي زُرْعَةَ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ ؟»، قَالُوا: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ:« إِنَّكُمْ لَسْتُمْ فِي ذَلِكَ مِثْلِي، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي، فَاكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ ».
وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ، عن أَبِي الزِّنَادِ، عن الأَعْرَجِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:« فَاكْلَفُوا مَا لَكُمْ بِهِ طَاقَةٌ ».
وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عن أَبِي صَالِحٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ نَهَى عن الْوِصَالِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ عُمَارَةَ، عن أَبِي زُرْعَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وشرب أو يكون على حقيقته في ذلك جلت قدرته يطعمه ويسقيه كرامة له - عليه السلام -.
وقوله: " اكلفوا من العمل " قال صاحب الأفعال: يقال كلف وجهه كلفاً وكلفت بالشيء كلافة تحملت وبه أولعت.
وقوله: " انزل فاجدح لنا " الجدح: خلط الشيء بغيره والمجدحة الملعقة.(4/359)
قال القاضي: المجدح المخوض قالوا: وهو عود في طرفه عودان وقوله:" لو أمسيت " أي أخرت إلى وقت المساء وتحققه كقوله " عليك نهاراً" في الرواية الأخرى لأنه اعتقد أن بقية الضوء والحمرة بعد مغيب الشمس معتبر في الصوم.
59 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عن ثَابِتٍ، عن أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ، فَجِئْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، وَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَامَ أَيْضًا، حَتَّى كُنَّا رَهْطًا، فَلَمَّا حَسَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّا خَلْفَهُ جَعَلَ يَتَجَوَّزُ فِي الصَّلاةِ، ثُمَّ دَخَلَ رَحْلَهُ فَصَلَّى صَلاةً لا يُصَلِّيهَا عِنْدَنَا، قَالَ: قُلْنَا لَهُ حِينَ أَصْبَحْنَا: أَفَطَنْتَ لَنَا اللَّيْلَةَ ؟ قَالَ: فَقَالَ:« نَعَمْ، ذَاكَ الَّذِي حَمَلَنِي عَلَى الَّذِي صَنَعْتُ »، قَالَ: فَأَخَذَ يُوَاصِلُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - وَذَاكَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ -، فَأَخَذَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُوَاصِلُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« مَا بَالُ رِجَالٍ يُوَاصِلُونَ، إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِثْلِي، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ تَمَادَّ لِيَ الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالاً يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/360)
وقيل: إنما أنكر تعجيل الفطر وليس في قول الرجل هذا مخالفة لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا معارضة بل قصد التنبيه على بقية الوقت عنده وظهور الحمرة التي ظن أن النبي - عليه السلام - لم يرها أو التثبت والتعلم ليبين له أن مثل هذا من بقايا شعاع الشمس، وما بعد مغيبها لا يلتفت إليه ولا يستحقه أمد الصوم وأن بمغيب قرصها وجب الفطر ودخل الليل أو أن التعجيل بالإفطار أولى وأحق.
قال القاضي: اختلف العلماء في أحاديث الوصال فقيل: النهي عنه رحمة(1) وتخفيف فمن قدر فلا حرج وقد واصل جماعة من السلف الأيام وأجازه ابن وهب وإسحاق وابن حنبل من سحر إلى سحر.
وحكى أبو عمر بن عبدالبر عن مالك والثوري وأبي حنيفة والشافعي وجماعة من أهل الفقه والأثر كراهة الوصال للجميع لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه ولم يجيزوه لأحد.
60 - حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ - يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ -، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عن ثَابِتٍ، عن أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: وَاصَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَوَاصَلَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ:« لَوْ مُدَّ لَنَا الشَّهْرُ لَوَاصَلْنَا وِصَالاً يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ، إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِثْلِي »، أَوْ قَالَ: « إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الخطابي: الوصال من خصائص من أبيح للنبي عليه الصلاة والسلام وهو محظور على أمته.
وقوله: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" دليل على اختصاص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوصال. ومعنى قوله: " ويطعمني ربي ويسقيني ".
فيه وجوه منها: أنه على ظاهره كرامة له واختصاصاً.
__________
(1) في (هـ):" رحمة من الله ".(4/361)
الثاني: أنه كناية عن القوة التي جعلها الله له وإن لم يطعم ويسق حتى يكون كمن فعل به ذلك.
الثالث: أنه يخلق الله فيه من الشبع والري ما يغنيه عن الطعام والشراب.
وقوله: " يدع المتعمقون تعمقهم " هم الذين لكلامهم غَوْر وبُعْد مَرْمَى، وأصله البعد ومنه: بئر عميقة(1) بعيدة القعر، وبلد عميق أي: بعيد. وهو مثل المتنطعين والمراد بكل ذا أصحاب التأويل البعيد والمشددون في الأمور.
وقول النبي - عليه السلام -:" فقد أفطر الصائم" قيل: يدل أن الليل ليس بمحل للصوم وأن بمغيب الشمس أفطر الصائم بالحكم وإن لم يأكل وقيل: يحتمل أن المراد به حان وقت إباحة الفطر للصائم وهو دليل لفظ الحديث ومساقه وكون هذا الكلام جواباً للقائل " إن عليك نهاراً ".
61 - وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، جَمِيعًا عَن عَبْدَةَ قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عن أَبِيهِ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: نَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ ! قَالَ:« إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي ».
62 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عن أَبِيهِ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ إِحْدَى نِسَائِهِ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ تَضْحَكُ.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" عميق ".(4/362)
63 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ: أَسَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدِّثُ عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ، فَسَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث عاصم " واصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أول شهر رمضان" كذا للعذري والطبري والسجزي والباجي وأكثر نسخ مسلم وهو وهم وصوابه " في آخر شهر رمضان". وكذا جاء عن(1) الهوزني وبدليل قوله في الحديث الآخر: " وذلك في آخر الشهر" ولقوله في الآخر: " لو مدّ لنا الشهر لواصلنا " وبقوله(2) في الآخر " واصل بهم يوماً ويوماً ثم رأوا الهلال " وفيها " أما والله لو تمادى لي الشهر لواصلته(3)" وعند العذري " يماد(4)" بمعنى تمدد وهو قريب المعنى بمعنى مدّ(5) في الرواية الأخرى "[ يوماً ويوماً ثم رأوا الهلال](6)".
64 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عن الْقَاسِمِ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُنِي وَهُوَ صَائِمٌ، وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْلِكُ إِرْبَهُ.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" عند ".
(2) قوله:" بقوله " ليس في (هـ).
(3) في (ط):" لوصلته ".
(4) في (ط) و(هـ):" تماد ".
(5) في (هـ):" ما ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (ط) و(هـ).(4/363)
65 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، و قَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن الأَعْمَشِ، عن إِبْرَاهِيمَ، عن الأَسْوَدِ وَعَلْقَمَةَ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا. ح، وَحَدَّثَنَا شُجَاعُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عن مُسْلِمٍ، عن مَسْرُوقٍ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلَكِنَّهُ أَمْلَكُكُمْ لإِرْبِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحاديث القُبلة للصائم
قال الإمام: اختلف الناس في جواز القبلة للصائم، ومن بديع ما روي في ذلك قوله - عليه السلام - للسائل عنها: أرأيت لو تمضمضت "، فأشار هنا فقه بديع، وذلك أن المضمضة قد تقرر عندهم أنها لا تنقض الصوم ؛ لأنهم كانوا يتوضأون وهم صيام، والمضمضة أوائل الشرب ومفتاحه، كما أن القُبلة دواعي [ الجماع ومفاتحه والشرب يفسد الصوم كما يفسده](1) الجماع، فكما ثبت عندهم أن أول الشرب الذي هو المضمضة لا يفسد الصوم فكذلك أوائل الجماع الذي هو القبلة لا تفسده.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (هـ).(4/364)
وفيه أيضًا إثبات القياس في الشريعة واستعمال الأشباه والذي أشارت إليه عائشة في قولها: " وأيكم يملك إربه(1) كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يملك إربه " إليه يرجع فقه المسألة لأنها أشارت إلى أنه - عليه السلام - يقف عند القبل ويأمن على نفسه أن يقع فيما سواه بخلاف غيره، فينبغي أن تعتبر حالة المقبل فإن كانت القبلة تثير منه الإنزال كانت محرمة عليه ؛ لأن الإنزال المكتسب يمنع منه الصائم فكذلك ما أوقع فيه وأدى إليه وإن كان إنما يكون عنها(2) المذي فيجرى ذلك على حكم القضاء منه فيمن رأى أن ذلك واجب أوجب الكف عن القبلة ومن رأى القضاء منه مستحباً استحب الكف عن ذلك وإن كانت 66 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عن مَنْصُورٍ، عن إِبْرَاهِيمَ، عن عَلْقَمَةَ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ.
67 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن مَنْصُورٍ، عن إِبْرَاهِيمَ، عن عَلْقَمَةَ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" وأيكم أملك لإربه ".
(2) في (هـ):" عنها ".(4/365)
68 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَوْنٍ، عن إِبْرَاهِيمَ، عن الأَسْوَدِ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ إِلَى عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا، فَقُلْنَا لَهَا: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ، أَوْ مِنْ أَمْلَكِكُمْ لإِرْبِهِ. شَكَّ أَبُو عَاصِمٍ.
وَحَدَّثَنِيهِ يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عن ابْنِ عَوْنٍ، عن إِبْرَاهِيمَ، عن الأَسْوَدِ، وَمَسْرُوقٍ: أَنَّهُمَا دَخَلا عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ لِيَسْأَلانِهَا، فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القبلة لا تؤدي إلى شيء مما ذكر ولا تحرك لذة فلا معنى للمنع منها إلا على طريقة من يخشى الذريعة فيكون للنهي عن ذلك وجه.
69 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عن أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخْبَرَهُ ؛ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ ؛ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ .
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ الْحَرِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ يَعْنِي ابْنَ سَلامٍ، عن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ.(4/366)
70 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: يَحْيَى أَخْبَرَنَا، و قَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عن زِيَادِ بْنِ عِلاقَةَ، عن عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ فِي شَهْرِ الصَّوْمِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد اختلف أصحابنا فيمن قبل قبلة واحدة فأنزل هل يكفر أم لا؟ وهذا منهم خلاف في حال. فمن رأى الكفارة اعتقد أن القبلة الواحدة يكون عنها الإنزال ففاعلها قاصد(1) إليه ومنتهك لحرمة الشهر فوجبت الكفارة، ومن رأى أن لا كفارة عليه اعتقد أن الإنزال لا يمكن عنها غالباً فالفاعل لها وإن وقع منه ذلك غير قاصد إليه ولا منتهك لحرمة الشهر، واتفقوا إذا والى القُبَل فأنزل على الكفارة لاتضاح وقوع الإنزال عند ذلك.
قال القاضي: قد تقدم لنا كلام على هذا الحديث أول الكتاب وما ذكر عن مالك وغيره من الاختلاف ومن أباحها على الإطلاق وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين وإليه ذهب أحمد وإسحاق وداود من الفقهاء.
ومن كرهها على الإطلاق: وهو مشهور قول مالك.
71 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّهْشَلِيُّ، حَدَّثَنَا زِيَادُ ابْنُ عِلاقَةَ، عن عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ.
__________
(1) في (هـ):" قاعد ".(4/367)
72 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عن أَبِي الزِّنَادِ، عن عَلِيِّ ابْنِ الْحُسَيْنِ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن كرهها للشاب وأباحها لشيخ: وهو المروي عن ابن عباس ومذهب أبي حنيفة والشافعي(1) والثوري والأوزاعي وحكاه الخطابي عن مالك.
ومن أباحها في النفل ومنعها في الفرض: فهي رواية ابن وهب عنه.
وقوله: في الحديث " ويباشر وهو صائم " حكم المباشرة عندهم حكم القبلة وهي أشد وأخوف قال بعض شيوخنا: ولا نعلم أحداً ممن رخص في القبلة إلا ويشترط معها السلامة وملك النفس.
وقوله: عن عائشة " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل بعض نسائه وهو صائم ثم تضحك". قيل: يحتمل ضحكها التعجب ممن خالف في هذا.
وقيل: التعجب من نفسها إذ تحدث بمثل هذا الحديث، والمفهوم منه أنها هي ومثله مما يستحي بالحديث بمثله لا سيما مع الرجال، ولكن تعجبت لضرورة الحال لإخبارها بذلك لئلا تكتم علماً علمته.
وقيل: سروراً بتذكر مكانها من النبي - صلى الله عليه وسلم - وحالها معه في ذلك، وقد يكون هذا الضحك لإخبارها عن نفسها بذلك، أو تنبيهاً بضحكها على أنها هي صاحبة القصة ليكون أبلغ في الثقة بحديثها بذلك.
73 - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، و قَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن الأَعْمَشِ، عن مُسْلِمٍ، عن شُتَيْرِ بْنِ شَكَلٍ، عن حَفْصَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ.
__________
(1) قوله:" والشافعي " ليس في (ط).(4/368)
وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عن جَرِيرٍ، كِلاهُمَا عن مَنْصُورٍ، عن مُسْلِمٍ، عن شُتَيْرِ بْنِ شَكَلٍ، عن حَفْصَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:" وأيكم يملك إربه(1) كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يملك إربه " كذا رويناه بكسر الهمزة والسكون عند أكثرهم، ومعناه: وطره، قال الله - عز وجل -:{ غير أولي الإربة من الرجال} أي الذين لا رغبة لهم ولا حاجة في النساء، والإربة أيضًا العضو.
قال الخطابي: كذا رواه أكثرهم وإنما هو لإربه أي وطره: ثم حكى مثل ما تقدم.
قال الهروي: الإرب والإربة والمأربة الحاجة.
وفيها: جواز الإخبار عن أمثال(2) هذا مما(3) يكون بين الزوجين على الجملة لضرورة تدعو إليه.
74 - حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو - وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ -، عن عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ الْحِمْيَرِيِّ، عن عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ ؛ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« سَلْ هَذِهِ » لأُمِّ سَلَمَةَ، فَأَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَمَا وَاللَّهِ ! إِنِّي لأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ ».
__________
(1) في (ط) و(هـ):" أملك لأربه ".
(2) في (هـ):" مثل ".
(3) في (ط):" ما ".(4/369)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول السائل له قد غفر الله لك ماتقدم من ذنبك وما تأخر محمول أنه اعتقد تجويز مثل هذا منه لا من غيره ولأنه قد غفر له مثل هذا ويدل عليه قوله - عليه السلام - " إني أتقاكم لله " وما روى في غير مسلم من غضبه لهذا وقد يحتمل أنه اعتقد تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك بدليل ما جاء في الموطأ " يحل الله لرسوله ما شاء" ففي جملة هذا كله وجوب الاقتداء بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - والوقوف عندها وأن حكمه(1) فيها حكمنا إلاّ ما جاء تخصيصه ببيان.
وفيه: دليل على أصح القولين أن الصغائر والمكروهات لا تقع منه إذ لو كان هذا لم يصح الاقتداء بأفعاله وجوباً أو ندباً أو إباحة إذ لا يتميز لنا ذلك من المحظور والمكروه، وغضبه - عليه السلام - وإنكاره على من تأول عليه هذا ظاهر.
وقد اختلف الناس في هذا والصحيح عصمة الأنبياء من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، وقد بسطنا الكلام على هذا في كتاب الشفا بما فيه مقنع.
__________
(1) في (ط):" حكمها ".(4/370)
75 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عن ابْنِ جُرَيْجٍ. ح، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ ابْنُ رَافِعٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن أَبِي بَكْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يَقُصُّ يَقُولُ فِي قَصَصِهِ: مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فَلا يَصُمْ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ لأَبِيهِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، فَسَأَلَهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عن ذَلِكَ، قَالَ: فَكِلْتَاهُمَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ، ثُمَّ يَصُومُ. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى مَرْوَانَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ إِلا مَا ذَهَبْتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَرَدَدْتَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ، قَالَ: فَجِئْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبُو بَكْرٍ حَاضِرُ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ: فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَهُمَا قَالَتَاهُ لَكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هُمَا أَعْلَمُ، ثُمَّ رَدَّ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنَ الْفَضْلِ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَمَّا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ، قُلْتُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَقَالَتَا فِي رَمَضَانَ، قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ(4/371)
غَيْرِ حُلُمٍ ثُمَّ يَصُومُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختلف الفقهاء والأصوليون في أفعاله: فجمهور الفقهاء على امتثال أفعاله مطلقاً وإن اختلفوا هل ذلك واجب ؟ وهو قول أكثر أصحابنا البغداديين وحكوه عن مالك وقول أكثر أصحاب الشافعي، وذهب معظم الشافعية إلى أن ذلك ندب، وذهبت طائفة إلى حملها على الإباحة، وقيد بعض 76 - وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عن عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأصوليين اتباع أفعاله(1) فيما كان من الأمور الدينية وعلم به مقصد(2) القربة وهذا متقصى في فن الأصول.
وذكر مسلم حديث أبي هريرة " من أدركه الفجر وهو جنب فلا يصم".
قال الإمام: شذ بعض الناس فأخذوا بظاهر هذا(3) ورأوا أن صوم الجنب لا ينعقد وقد أشار في كتاب مسلم إلى رجوع أبي هريرة عن ذلك وأرسل الحديث أولاً ثم أسنده لما قيل له وأحال على الفضل بن عباس.
فإن قيل كيف(4) وجب رجوعه عن ذلك ولم قال بخلافه ولم أخذ جماعة العلماء بخلاف هذا الحديث، إلاّ رجلاً أو رجلين فإنهما شذا مع أن أبا هريرة رواه عن الفضل بن عباس.
__________
(1) في (ط):" أفعالهم ".
(2) في (هـ):" قصد ".
(3) في (هـ):" هذا الحديث ".
(4) في (هـ):" كف ".(4/372)
قلنا: قد عارضه ما ذكر في الحديث عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما وأنه - عليه السلام - كان يصبح جنباً من غير حلم ثم يصوم. وأشار في الحديث إلى(1) أن أبا هريرة لما سمع هذا عنهما اعتذر بما اعتذر، وهذا فعل منه - عليه السلام - والأفعال تقدم قبل(2) الأقوال عند بعض الأصوليين، ومن قدم منهم الأقوال فإنه يرجح هاهنا الفعل لموافقة ظاهر القرآن ؛ لأن الله سبحانه أباح المباشرة إلى الفجر وإذا كانت النهاية إلى الفجر فمعلوم أن الغسل إنما يكون(3) بعد الفجر إذ كان الجماع مباحاً إليه(4) فاقتضى هذا صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو
77 - حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو-وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ -، عن عَبْدِ رَبِّهِ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ الْحِمْيَرِيِّ ؛ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَهُ ؛ أَنَّ مَرْوَانَ أَرْسَلَهُ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا يَسْأَلُ عن الرَّجُلِ يُصْبِحُ جُنُبًا ؛ أَيَصُومُ ؟ فَقَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ لا مِنْ حُلُمٍ، ثُمَّ لا يُفْطِرُ وَلا يَقْضِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جنب فلما طابق ظاهر القرآن فعله - عليه السلام - قدم على ما سواه وقد قيل إنما رواه أبو هريرة محمول على أن ذلك كان في أول الإسلام لما كانوا إذا ناموا حرم عليهم الجماع فلما نسخ ذلك نسخ ما تعلق به.
__________
(1) قوله:" إلى " ليس في (هـ).
(2) في (هـ):" على ".
(3) في (هـ):" إنما لا يكون لا ".
(4) في (هـ):" له ".(4/373)
قال القاضي: ذكر في الحديث أن أبا هريرة قال: سمعته من الفضل بن عباس، وفي النسائي أخبرنيه أسامة بن زيد وفي رواية أخرى: أخبرنيه فلان وفلان، فيحتمل أنهما جميعاً حدثاه: الفضل وأسامة، وفي الموطأ: إنما أخبرنيه رجل. وفي النسائي من رواية أبي قلابة فقال أبو هريرة: " هكذا كنت أحسب" ولم يُخله(1) على أحد.
وقد اتفق العلماء بعد على ترك هذا من رواية أبي هريرة إنما كان الخلاف فيها أولاً من بعض الصحابة والتابعين، فروي مثل قول أبي هريرة عن الحسن بن صالح وروي عن طاوس وعروة والنخعي مثله إذا أصبح وهو عالم بجنابته فإن لم يعلم أجزأه، وروى مثله عن أبي هريرة وروى عن النخعي والحسن لا يجزيه في الفرض ويجزيه في التطوع وعن الحسن البصري أيضًا وسالم والحسن بن حي يصومه ويقضيه.
78 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عن عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عن أَبِي بَكْرِ ابْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عن عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجَيِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ أَنَّهُمَا قَالَتَا: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلامٍ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ يَصُومُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذهب بعضهم في تأويل حديث أبي هريرة أن معناه من أصبح جنباً أي مجامعاً أي طلع له الفجر وهو يجامع فلا صوم له.
ولا خلاف إذا أكمل جماعه أو تمادى فيه شيئاً بين الفقهاء أنه أفسد صومه.
وقد اختلفوا فيه إذا نزع لحينه فيما ذكرناه قبل.
__________
(1) في (أ):" يرده "، وفي (ط):" يحله ".(4/374)
وقول مروان في الحديث لأبي بكر بن عبدالرحمن: عزمت عليك إلا ما ذهبت لأبي هريرة فرددت عليه، فيه ما يلزم من بيان العلم والنصيحة فيه وتبليغه من لم يبلغه، والاستثبات أيضًا ليرى ما عند أ بي هريرة فلعل عنده ما ينسخ ما خالفه نصاً. وقول أبي هريرة عن عائشة وأم سلمة هما أعلم وسؤال هؤلاء لهما دليل على الرجوع في كل حال لمن هو أعلم بالشيء وأقعد به، وأن المباشر للأمر أعلم به من المخبر عنه، وفيه دليل على ترجيح رواية صاحب الخبر إذا عارضه حديث آخر وترجيح ما رواه النسائي مما يختص بهن إذا خالفهم فيه الرجال وكذلك الأمر فيما يختص بالرجال على ما أحكمه الأصوليون في باب الترجيح للآثار.(4/375)
وقد اختلف العلماء أيضًا في الحائض تطهر قبل الفجر وتترك التطهر(1) حتى تصبح فجمهورهم على وجوب تمام الصوم عليها وإجزائه سواء تركته عمداً أو سهواً وشذّ محمد بن مسلمة فقال: لا تجزيها وعليها القضاء والكفارة وهذا 79 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - وَهُوَ ابْنُ مَعْمَرِ بْنِ حَزْمٍ الأَنْصَارِيُّ أَبُو طُوَالَةَ - أَنَّ أَبَا يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ، أَخْبَرَهُ عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا ؛ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَفْتِيهِ، وَهِيَ تَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! تُدْرِكُنِي الصَّلاةُ وَأَنَا جُنُبٌ أَفَأَصُومُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« وَأَنَا تُدْرِكُنِي الصَّلاةُ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ »، فَقَالَ: لَسْتَ مِثْلَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كله في المفرطة المتوانية فأما التي رأت الطهر فبادرت فطلع عليها الفجر قبل تمامه، فقد قال مالك: هذه كمن طلع عليها وهي حائض يومها يوم فطر.
وقاله عبدالملك وقد ذكر بعضهم قول عبدالملك هذا في المتوانية وهو أبعد من قول ابن مسلمة.
قوله: " فذكرت ذلك لعبدالرحمن بن الحارث لأبيه فأنكره".
__________
(1) في (ط) و(هـ):" التطهير ".(4/376)
قال الإمام: هكذا في النسخة عن الجلودي، وفي نسخة ابن ماهان " فذكر ذلك عبدالرحمن لأبيه(1)" قال بعضهم: والرواية الأولى هي الصواب ومعناها: أن أبابكر ذكره لأبيه عبدالرحمن، وجاء هذا من الراوي على معنى البيان جعل قوله:" لأبيه" بدلاً بإعادة حرف الجر كأنه لما قال: فذكرت ذلك لعبدالرحمن الحارث [أراد أن يعلمك أن عبدالرحمن هو والد أبي بكر، ورواه حجاج بن جريج قال: فذكرت ذلك لعبدالرحمن بن الحارث](2) فأنكره ولم يقل لأبيه وما وقع في نسخة ابن ماهان من قوله فذكر ذلك عبدالرحمن لأبيه، 80 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عن سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا، عن الرَّجُلِ يُصْبِحُ جُنُبًا أَيَصُومُ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلامٍ ثُمَّ يَصُومُ.
__________
(1) في (هـ):" لابنه " وغير منقوطة في (أ).
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).(4/377)
81 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَابْنُ نُمَيْرٍ، كُلُّهُمْ عن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عن الزُّهْرِيِّ، عن حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ:« وَمَا أَهْلَكَكَ ؟»، قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ:« هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً ؟»، قَالَ: لا قَالَ:« فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ؟»، قَالَ: لا، قَالَ:« فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ؟»، قَالَ: لا، قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: « تَصَدَّقْ بِهَذَا »، قَالَ: أَفْقَرَ مِنَّا، فَمَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خطأ لا معنى له لأنه يؤدي إلى أن عبدالرحمن بن الحارث ذكره لأبيه الحارث وهذا غير مستقيم.
قال القاضي: قال بعضهم: لعل فيه على رواية ابن ماهان تقديما وتأخيرًا، وصوابه " فذكر ذلك لأبيه(1) عبدالرحمن بن الحارث فتقدم بعض الكلام على بعض.
__________
(1) في (ط):" لابنه "، وغير منقوطة في (أ).(4/378)
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عن مَنْصُورٍ، عن مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ. وَقَالَ: بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، وَهُوَ الزِّنْبِيلُ، وَلَمْ يَذْكُرْ: فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:" يصبح جنباً في رمضان من جماع غير احتلام" نص(1) في الباب وردّ على من فرق بين العالم وبين الناسي وبين الفرض والنفل وإذا كان هذا من جماع فمعلوم تقدم علمه به.
وذكر أحاديث المجامع في رمضان.
قال الإمام: أكثر الأئمة على إيجاب الكفارة على المجامع في رمضان عامداً ودليلهم(2) [ هذا الحديث وشذ بعض الناس فقال: لا كفارة على المجامع وإن تعمد واغتروا بقوله - عليه السلام - ](3) لما أمره أن يتصدق بالعرق من التمر وشكا الفاقة " اذهب فأطعمه أهلك" فدل ذلك عنده على سقوط الكفارة.
وأحسن ما حمل عليه الحديث عندنا على أنه أباح له تأخيرها لوقت يسره لا على أنه أسقطها عنه وليس في الحديث ما يدل على إسقاطها جملة.
وأما المجامع ناسياً في رمضان فقد اختلف أصحابنا في إيجاب الكفارة عليه فقال بعضهم: تجب الكفارة لأنه - عليه السلام - لم يستفسر(4) السائل هل جامع عامداً أو ناسياً؟ فدل على أن الحكم لا يفترق.
وقال بعضهم: لا كفارة على الناسي ؛ لأن الكفارة تمحيص للذنوب والناسي غير مذنب ولا آثم.
واختلف الناس في المفطر بالأكل عامداً هل يكفر أم لا ؟ فمن رأى الحدود والكفارات لا يقاس عليها،أو رأى [ في الجماع معنى يختص به دون
__________
(1) في (هـ):" وذكر نص ".
(2) في (هـ):" دليلهم عليه".
(3) مابين المعكوفين ليس في (هـ).
(4) في (هـ):" يستفهم ".(4/379)
82 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ قَالا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ. ح، وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عن حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَجُلاً وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ، فَاسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، عن ذَلِكَ، فَقَالَ:« هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً ؟»، قَالَ: لا، قَالَ: «وَهَلْ تَسْتَطِيعُ صِيَامَ شَهْرَيْنِ ؟»، قَالَ: لا، قَالَ:« فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأكل: قصر الكفارة على ما ورد به الخبر، ومن رأى](1) إثبات القياس في الحدود والكفارات ورأى أن الأكل مساوٍ للجماع لاشتراكهما(2) في كونهما انتهاكين لحرمة الشهر وتعلق المأثم بهما أوجب الكفارة فيه.
قال القاضي: قوله " هلكت" وقوله "احترقت" مما استدل به الجمهور على أن ذلك في العامد لجماعه دون الناسي وهو مشهور قول مالك وأصحابه وذهب أحمد بن حنبل وبعض أهل الظاهر وعبدالملك بن الماجشون وابن حبيب من أصحابنا وروى عن مالك، وعن(3) عطاء إلى(4) إيجابها(5) على الناسي والعامد في الجماع. وحجتهم ترك استفسار النبي - صلى الله عليه وسلم - له وأن قوله: " وقعت على امرأتي " في الحديث الآخر ظاهره عموم الوقوع في العمد والجهالة والنسيان وحذره من المؤاخذة بذلك إلاّ أن مالكاً والليث والأوزاعي وعطاء يلزمونه القضاء وغيره(6) لا يلزمونه.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) في (هـ):" لاستوائها ".
(3) قوله:" عن " ليس في (هـ).
(4) قوله:" إلى " ليس في (ط) و(هـ).
(5) في (هـ):" إيجابها ".
(6) في (هـ):" غيرهم ".(4/380)
وقوله: " هل تجد ما تعتق" استدل به الشافعي وداود وأهل الظاهر على مذهبهم في أنه لا يلزم في الجماع على الرجل والمرأة إلا كفارة واحدة إذ لم يذكر له النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم المرأة وهو موضع البيان ولا يتركه - عليه السلام - كما لم يترك بيان شأن المرأة في حديث المتخاصمين(1) في الزنا وقال:" اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها".
83 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عن الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ: أَنَّ رَجُلاً أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُكَفِّرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولقوله في الرواية القليلة: " هلكت وأهلكت " وهذه اللفظة(2) ليست محفوظة عند الأثبات الحفاظ، والأوزاعي يوافقهم إلا إذا كفر بالصيام فعليهما جميعاً ومالك وأبو ثور وأصحاب الرأي على وجوب الكفارة على المرأة إن طاوعته ويتأول هذا الحديث لعل المرأة مكرهة أو ناسية لصومها أو ممن يباح لها الفطر ذلك اليوم لعذر المرض أو السفر أو الطهر من الحيض وسوى الأوزاعي بين المكرهة والطائعة على مذهبه. وقال مالك في مشهور مذهبه في المكرهة يكفر عنها بغير الصوم. وقال سحنون: لا شيء عليه لها ولا عليها وبهذا قال أبو ثور وابن المنذر ولم يختلف مذهبنا في قضاء المكرهة والنائمة إلا ما ذكر ابن القصار عن القاضي إسماعيل عن مالك: أنه(3) غسل على الموطوؤة نائمة ولا مكرهة ولا شيء عليها إلا أن تلتذ، قال ابن القصار فتبين من هذا أنها غير مفرطة(4).
__________
(1) في (هـ):" المتحاكمين ".
(2) في (هـ):" الرواية ".
(3) في (هـ):" من أنه ".
(4) في (ط):" مفطرة ".(4/381)
قال القاضي: فظاهره أنه لا قضاء على المكرهة إلا أن تلتذ، ولا على النائمة لأنها كالمحتلمة وهو قول أبي ثور في النائمة والمستكرهة.
واختلف(1) في وجوب الكفارة على المكره على الوطء لغيره على هذا، وحكى ابن القصار عن أبي حنيفة أنه لا يلزم المكره كفارة عن نفسه ولا عن من أكره.
84 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عن حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ رَجُلاً أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً، أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ، أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " تعتق رقبة" يحتج به من لا يشترط فيها الإيمان لإطلاقه ذلك ومالك وأصحابه يقولون لا تجزئ إلا مؤمنة لقوله في حديث السوداء فعلي رقبة، ثم قال - عليه السلام -: " أعتقها فإنها مؤمنة" ولتقييده الإيمان في كفارة القتل فحمل المطلق في الباب على المقيد، وقد تقدم من هذا في حديث السوداء.
وقوله: " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟" حجة لما عليه الجمهور وأجمع عليه بعد أئمة الفتوى من صيام الشهرين متتابعين خلاف ما روى في ذلك عن ابن أبي ليلى أنه(2) لا يلزم فيهما(3) التتابع.
واختلف القائلون بالكفارة في المتعمد بالفطر بغير الجماع.
فعامة أئمة الفتوى على أن ذلك كالجماع: الصيام في ذلك شهران متتابعان. وفيه اختلاف كثير فعن ابن المسيب شهر واحد ليوم أو أيام كأنه رأى أنه يلزمه قضاء الشهر متتابعاً لفطر ذلك اليوم أو الأيام، وعن ربيعة: اثنى عشر يوماً، ويقول: فضل رمضان على اثني عشر شهراً فمن أفطر يوماً منه كان عليه اثنا عشر يوماً.
__________
(1) في (هـ):" اختلفوا ".
(2) في (ط):" لأنه ".
(3) في (ط) و(هـ):" فيها ".(4/382)
وقال ابن سيرين: يوم واحد للقضاء. وقيل غير هذا، وعن علي وأبي هريرة وابن مسعود - رضي الله عنه -: لا يجزيه صيام الدهر وإن صامه.
حَدَّثَنَا عَبْدُ ابْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عن الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " تطعم ستين مسكيناً " حجة لعامة الفقهاء في إنهاء العدد الواجب من المساكين خلافاً لما روي عن الحسن: أنه يطعم أربعين مسكيناً عشرين صاعاً.
وقوله:" فأمره أن يجلس" قيل: يحتمل انتظار النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يأتيه كما كان ويحتمل أن يكون رجاء له فضل الله ويحتمل انتظار وحي في أمره.
وقوله: فأتى بعرق تمر فقال: " تصدق بهذا" حجة لعامة العلماء أنه مدّ لكل مسكين ؛ لأن العرق تقديره عندهم خمسة عشر صاعاً وهو مفسر في الحديث فتأتي قسمته على ستين الذين أمره النبي - عليه السلام - بإطعامهم مداً لكل مسكين وهذا كالنص خلافاً لأبي حنيفة والثوري في أنه لا يجزئ أقل من نصف صاع.
والعرق: بفتح الراء كما فسره في الحديث" الزنبيل " هذا بكسر الزاي، وفي رواية الطبري وغيره " الزنبيل " هذا بفتح الزاي وهما صحيحان وهي القُفَّة والمكتل وسمي زنبيلاً: لحمل الزبل فيه قاله ابن دريد. وسمي عرقاً لأنه جمع عرقة وهي الضفيرة(1) الواسعة من الخوص تخاط وتجمع حتى تصير زنبيلاً. ومن سماه عرقة فلأنه منها وتجمع أيضًا عرقات، وقد رواه كثير من شيوخنا وغيرهم عرق بالإسكان والصواب رواية الجمهور بفتحها.
__________
(1) في (أ):" الظفيرة "، وفي (هـ):" الصغرة ".(4/383)
وفي قوله: " تصدق بهذا " دليل على جواز تكفير الرجل عن غيره، وقوله قال: " أفقر منا ؟ " كذا رويناه بالنصب على إضمار الفعل، أتجد أفقر أو تعطي أفقر، 85 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عن يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عن مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عن عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا ؛ أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: احْتَرَقْتُ ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لِمَ »، قَالَ: وَطِئْتُ امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ نَهَارًا، قَالَ:« تَصَدَّقْ تَصَدَّقْ »، قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِسَ، فَجَاءَهُ عَرَقَانِ فِيهِمَا طَعَامٌ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد يصح رفعه على خبر المبتدأ أي أحد أفقر منا أو من يتصدق عليه أفقر منا وقد رواه النسائي هكذا " أحد أحوج منا " كما قال في الحديث الثاني " أغيرنا " ضبطناه كذلك(1) بالضم ويصح بالفتح على ما تقدم.
وقوله: " ما(2) بين لابتيها " اللابة الحرة، وهي أرض ذات حجارة سود بين جبلين أراد جانبي المدينة.
وقوله: " فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -" تعجباً من حاله ومقاطع كلامه وإشفاقه أولاً ثم طلبه ذلك لنفسه، وقد يكون من رحمة الله وتوسعته عليه وإطعامه له هذا الطعام وإحلاله له بعد أن كلف إخراجه.
__________
(1) في (هـ):" هنا " بدل "كذلك".
(2) قوله:" ما " ليس في (أ).(4/384)
وقوله: " اذهب فأطعمه أهلك" قال الزهري: هذا خاص لهذا الرجل وحده يعني أنه يجزيه أن يأكل من صدقة نفسه لسقوط الكفارة عنه لفقره فشرعها(1) له النبي - عليه السلام - وقد روي " كله وأطعمه أهلك " وقيل: هو منسوخ.
وقيل: يحتمل أنه أعطاه إياه لكفارته وأنه يجزيه عمن لا يلزمه نفقته من أهله.
86 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ:أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ: أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ ؛ أَنَّ عَبَّادَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: أَتَى رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَلَيْسَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ تَصَدَّقْ تَصَدَّقْ، وَلا قَوْلُهُ نَهَارًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل:بل لما كان عاجزاً عن نفقة أهله جاز له إعطاء الكفارة عن نفسه لهم.
وقيل: بل لما ملكها إياه النبي - عليه السلام - وهو محتاج جاز له أكلها وأهله لحاجته(2).
وقيل: يحتمل أنه لما كان لغيره أن يكفر عنه كان لغيره أن يتصدق عليه عند الحاجة بتلك الكفارة، وقد ترجم البخاري عليه" إذا أطعم المجامع أهله في رمضان من الكفارة وهم محاويج".
قال غيره: وهذا سائغ إذا عجز عن نفقتهم إذ لا يلزمه لهم نفقة فكانوا كغيرهم، قال بعضهم: أيضًا ولأن في أكله منها إذا(3) كان محتاجاً أحيا رمقه فجاز له وفيما قاله نظر.
__________
(1) في (هـ):" فسوغها ".
(2) في (هـ):" لحاجة ".
(3) في (هـ):" إذ ".(4/385)
وقيل: بل أطعمه إياه لفقره وأبقى الكفارة عليه متى(1) أيسر وهذا تحقيق مذهب كافة أئمة العلماء، وذهب الأوزاعي وأحمد إلى أن حكم من لم يجد الكفارة ممن لزمته من سائر الناس سقوطها عنه مثل هذا الرجل.
وقوله: " هل تستطيع كذا(2)".
قال الإمام: هكذا جاء على الترتيب، فذهب بعض الفقهاء إلى الأخذ بظاهر هذا، ورأوا أن استفهامه على هذا الترتيب يوجب ترتيب الإيجاب في الكفارة على حسب ما وقع في السؤال ويكون ذلك كالكفارة في الظهار،
87 - حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ ؛ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ ؛ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ ؛ أَنَّ عَبَّادَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَقُولُ: أَتَى رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! احْتَرَقْتُ احْتَرَقْتُ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا شَأْنُهُ، فَقَالَ: أَصَبْتُ أَهْلِي، قَالَ « تَصَدَّقْ »، فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! مَالِي شَيْءٌ، وَمَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، قَالَ: «اجْلِسْ »، فَجَلَسَ، فَبَيْنَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ، أَقْبَلَ رَجُلٌ يَسُوقُ حِمَارًا عَلَيْهِ طَعَامٌ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ آنِفًا ؟»، فَقَامَ الرَّجُلُ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« تَصَدَّقْ بِهَذَا »، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَغَيْرَنَا ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَجِيَاعٌ مَا لَنَا شَيْءٌ، قَالَ:« فَكُلُوهُ ».
__________
(1) في (هـ):" إذا ".
(2) قوله:" هل تستطيع كذا " مكرر في (ط) و(هـ).(4/386)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذهب بعضهم إلى التخيير لما ذكر بعد هذا في طريق آخر أن يعتق أو يصوم أو يطعم ولفظة " أو " تقتضي التخيير.
قال القاضي: ليس في قوله: " هل تستطيع ؟ " دليل على الترتيب كما ظهر(1) للمخالف ولا هو ظاهر في ذلك ولا نص وهذه الصورة في السؤال تصح في الترتيب وغير الترتيب، وإنما يقتضي ظاهر اللفظ البداية بالأولى وهو محتمل للتخيير وبهذا نقول. وبالترتيب في كفارة رمضان كترتيب الظهار قال الشافعي والكوفيون وبذلك قال ابن حبيب من أصحابنا.
وذهب مالك وأصحابه إلى التخيير في ذلك إلا أنه استحب الإطعام، وعلى هذا يتأول قوله في المدونة. خلاف من ذهب إلى غير هذا في تأويله وهو المنصوص له في غيرها.
واستحباب البداية بالإطعام لذكر الله له في القرآن وإن كان نسخ رخصته للقادر ففضله بالذكر والتعيين له غير منسوخ لاختيار الله له في حكمه وكذلك بقاء حكمه للمفرط في قضائه، وفي العاجز وذي العذر على ما سنذكره بعد هذا.
ولشمول نفعه في المساكين ولأن له مدخلاً في كفارة رمضان للمرضع والحامل والشيخ الكبير والمفرط في قضائه ولأنه مطابق لمعنى الصوم الذي هو الإمساك عن الطعام والشراب واستحب بعض أصحابنا ترتيب ذلك على ما جاء في الحديث واستحب بعضهم ترتيب ذلك بحسب الأوقات والشدائد فيكون الإطعام هناك أفضل.
وقوله: في رواية مالك في هذا الحديث " أن رجلاً أفطر في رمضان " به يحتج مالك وأصحابه لعموم قوله:" أفطر " أن المفطر بأكل أو جماع أو شرب هذا حكمه وهو قول جماعة العلماء.
قال الإمام: يتعلق به من يساوي بين الأكل والجماع(2) في الكفارة ودعوى العموم في مثل هذا ضعيف عند أهل الأصول.
__________
(1) قوله:" ظهر " ليس في (هـ).
(2) في (هـ):" والجماع والشرب ".(4/387)
قال القاضي: وذهب أبو المصعب من أصحابنا إلى أن الكفارة بالعتق والصيام إنما هي في المجامع(1)، وأما المفطر بالأكل والشرب فليس عليه غير الإطعام وذهب الشافعي وأحمد وجماعة من السلف: أن الكفارة إنما هي على المجامع وحده وعلى المنتهك بغيره القضاء فقط.
وذهب الحسن وعطاء إلى(2) أن المكفر إن لم يجد رقبة أهدى بدنة إلى مكة،
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال عطاء: أو بقرة. وقد ذكرت البدنة في حديث المفطر في رمضان بعد الرقبة من رواية عطاء عن سعيد بن المسيب وذكره مالك في الموطأ وقد أنكر سعيد على عطاء روايته عنه البدنة.
ولم يذكر مسلم في هذا الباب قضاء ذلك اليوم عليه وبه احتج من لم يره، وقد اختلف من قال بالكفارة في الجماع وغيره أو في الجماع فقط هل يلزم مع الكفارة القضاء.
فمالك يوجب عليه القضاء مع الكفارة وهو قول الشعبي والزهري والثوري وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق.
وقال الأوزاعي: إن كفر بالصوم أجزأه الشهران وإن كفر بغيره صام يوماً للقضاء.
واختلف فيه قول الشافعي وقد جاء فيه من رواية عمرو بن شعيب وأمره أن يقضي يوماً مكانه ومثله في حديث ابن المسيب في الموطأ.
واختلفوا فيمن أفطره بغير الجماع ناسياً: فمالك يرى عليه القضاء في مشهور مذهبه وهو قول جميع أصحابه وقول ربيعة. وذهب كافة الفقهاء إلى أنه لا شيء عليه وأن الله أطعمه وسقاه على ما جاء في حديث أبي هريرة.
قال الداودي: لعل مالكاً لم يبلغه الحديث أو تأول ذلك في رفع الإثم عنه.
وقال غيره: بل لإثبات عذره وسقوط الكفارة عنه وزيادة من زاد فيه " ولا قضاء عليه" أكثر أسانيدها ضعيفة، وقد صحح الدارقطني بعضها.
__________
(1) في (هـ):" المجامع وحده ".
(2) قوله:" إلى " ليس في (هـ).(4/388)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي حديث الأعرابي أن من جاء مستفتياً فيما فيه الاجتهاد دون الحدود المحدودة أنه لا يلزمه تعزير ولا عقوبة كما لم يعاقب النبي - صلى الله عليه وسلم - الأعرابي(1) على هتكه(2) حرمة الشهر ؛ لأن في مجيئه واستفتائه ظهور توبته وإقلاعه ولأنه لو عوقب كل من جاء مجيئه لم يستفت أحد غالباً عن نازلته مخافة العقوبة بخلاف ما فيه حد محدود وقامت على الاعتراف به بينة فإن التوبة لا تسقطه إلا حد الحرابة إذا تاب منها قبل القدرة عليه.
وذكر: مسلم في الباب حديث مالك وقال فيه: فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعتق رقبة. ثم ذكر بمثل حديث ابن عيينة. تعقب بعض المتعقبين على مسلم هذا. وقال: ليس حديث مالك بمعنى حديث ابن عيينة حديث مالك " بأو أو" على التخيير وذكر الفطر وحديث ابن عيينة على الترتيب " فهل تجد ؟" وتعيين الجماع ومسلم أعلى قدراً وأشرح صدراً من أن يذهب عليه هذا(3) فإن حديث مالك وإن كان أشهر روايته ما ذكر من التخيير، ولم يختلف في ذلك عنه رواة الموطأ. فقد رواه عن مالك بعض أصحابه منهم: الوليد بن مسلم وإبراهيم بن طهمان وغيرهما كرواية ابن عيينة المتقدمة ومن وافقه من رواة ابن شهاب فلعل عيسى بن إسحاق الذي رواه عنه مسلم وهو الطباع ممن(4) رواه كذا عن مالك أيضًا فلا تبقى على مسلم علة، وقد ذكر مسلم بَعْد مَنْ وافق مالكاً على ما روى عنه في الموطأ من أصحاب ابن شهاب.
__________
(1) قوله:" الأعرابي " ليس في (أ).
(2) في (أ):" هتك ".
(3) في (هـ):" مثل هذا ".
(4) في (هـ):" فمن ".(4/389)
88 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ قَالا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ. ح، وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا ؛ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ، ثُمَّ أَفْطَرَ، قَالَ: وَكَانَ صَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَّبِعُونَ الأَحْدَثَ فَالأَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحاديث الصوم في السفر
وقوله: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام(1) الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر وفيه قال ابن شهاب: " وكانوا يتبعون الأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويرونه الناسخ المحكم" بين في حديث ابن رافع أنه من كلام ابن شهاب وفسر فيه ما أبهمه ابن عيينة من قوله: لا أدري مِنْ قَول مَنْ هُو، ولذلك أدخل مسلم هذا الطريق المفسر بعد حديث(2) ابن عيينة تفسيراً لمبهمه وهو دليل إحسانه في التأليف(3).
قال الإمام أبو عبدالله: محمل قول ابن شهاب على أن النسخ في غير هذا الموضع وإنما أراد أن الأواخر من أفعاله - عليه السلام - تنسخ الأوائل إذا كان مما لا يتمكن فيه البناء إلا أن يقول قائل:أنه من ابن شهاب ميل إلى القول(4) بأن الصوم لا ينعقد في السفر فيكون كمذهب بعض أهل الظاهر وهو غير معروف عنه.
__________
(1) في (ط):" يوم ".
(2) في (هـ):" لغير حديث ".
(3) في (هـ):" التألف ".
(4) قوله:" إلى القول " ليس في (أ).(4/390)
وقوله " فصام حتى بلغ كُراع الغميم " ثم ذكر أنه دعا بقدح من ماء ثم شرب فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام فقال:" أولئك العصاة" جُلّ الفقهاء على أن من أصبح صائماً في الحضر ثم سافر أنه لا يفطر في يومه وذهب بعضهم إلى أن ذلك له وكأن هذا فرع بين أصلين أحدهما: أن من أصبح صائماً ثم عرض له مرض فإنه يباح له الفطر.
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عن سُفْيَانَ، عن الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ.
قَالَ يَحْيَى: قَالَ سُفْيَانُ: لا أَدْرِي مِنْ قَوْلِ مَنْ هُوَ يَعْنِي، وَكَانَ يُؤْخَذُ بِالآخِرِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عن الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَ الْفِطْرُ آخِرَ الأَمْرَيْنِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالآخِرِ فَالآخِرِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَصَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ لِثَلاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والثاني: أن من افتتح الصلاة في السفينة حضرية ثم انبعثت به السفينة أثناء صلاته متوجهاً إلى السفر أنه يتم صلاته(1) حضر(2) فيرد(3) المخالف الفطر إذا أحدث السفر إلى الفطر إذا حدث المرض ويرد(4) الآخرون إلى الصلاة المذكورة والفرق عندنا بين طروء المرض على الصائم وطروء السفر، إن طروء السفر أمر مكتسب، فخوطب به بحالة الابتداء والمرض أمر غالب، وقد يكون أيضًا مرض لا يمكن معه الصوم على حالٍ.
__________
(1) في (ط):" صلاة ".
(2) في (هـ):" حضرية ".
(3) في (هـ):" فرد ".
(4) في (هـ):" ويرده ".(4/391)
وأما قوله" أولئك العصاة" فلا يكون حجة لمن يقول إن الصوم لا ينعقد في السفر لأنه يحتمل أن يريد أنه قد شق عليهم الصوم حتى صاروا منهيين عنه فعصوا لذلك ويؤيد هذا التأويل أنه قال في بعض طرق هذا الحديث: إنه قيل له " إن الناس قد شق عليهم الصيام" على أن من يحتج بهذا الحديث على وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَ حَدِيثِ اللَّيْثِ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانُوا يَتَّبِعُونَ الأَحْدَثَ فَالأَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَرَوْنَهُ النَّاسِخَ الْمُحْكَمَ.
وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عن مَنْصُورٍ، عن مُجَاهِدٍ، عن طَاوُسٍ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ فَشَرِبَهُ نَهَارًا لِيَرَاهُ النَّاسُ، ثُمَّ أَفْطَرَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: فَصَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جواز الفطر بعد أن أصبح صائماً إنما يكون له حجة إذا سلم له أنه - عليه السلام - افتتح النهار بالصيام ثم أفطر، ونحن نقول: يحتمل أن يكون قوله هنا صام ثم أفطر أي ابتدأ النهار بالفطر من أوله ولم يعقد صوماً ثم حله.
قال القاضي: قيل إنما أفطر - عليه السلام - لمعنيين ليتقوى الناس على عدوهم وليتأسى به في الإفطار غيره. ويحتمل أن يصفهم بالعصيان لأمره لهم بالفطر فلم يفطروا حتى عزم عليهم بعد هذا وأفطروا. والله أعلم.(4/392)
وقوله لهم: " وإنكم مصبحو عدوكم وإن الفطر أقوى لكم" قد يحتج به من يرى(1) أوامر النبي - عليه السلام - وأفعاله على الوجوب لتعصيتهم(2) بتركها.
وقوله: " خرجنا عام الفتح في رمضان" وذكر الفطر كما تقدم حجة لجماعة أئمة الفتوى وجمهور العلماء على أن الفطر للمسافر رخصة كان شهر 89 - وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عن سُفْيَانَ، عن عَبْدِ الْكَرِيمِ، عن طَاوُسٍ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: لا تَعِبْ عَلَى مَنْ صَامَ وَلا عَلَى مَنْ أَفْطَرَ قَدْ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ.
90 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْمَجِيدِ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، عن أَبِيهِ، عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ:« أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رمضان أو غيره خرج قبل دخول الشهر أو بعد دخوله خلافاً لمن روى عنه من السلف أن من أهل عليه رمضان في(3) الحضر فقد لزمه صومه. لقوله تعالى: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه} والكافة على خلافه.
وقوله: " حتى بلغ الكديد " وفي الآخر " حتى بلغ عسفان ".
الكديد: عين جارية(4) عليها نخل على اثنين وأربعين ميلاً من مكة.
__________
(1) في (هـ):" يرى أن ".
(2) في (هـ):" لمعصيتهم ".
(3) في (هـ):" وهو في ".
(4) في (ط):" عارية ".(4/393)
وعسفان: قرية جامعة بها منبر على ستة وثلاثين ميلاً من مكة.
والكديد ما بينها وبين قديد(1). وذكر في الحديث الآخر: " حتى بلغ كراع الغميم " الغميم: بفتح الغين وادٍ أمام عسفان بثمانية أميال يضاف إليه هذا الكراع وهو جبل أسود متصل به.
والكراع: كل أنف سال من جبل أو حرة.
91 - وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ، عن جَعْفَرٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَزَادَ: فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ.
92 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، جَمِيعًا عَن مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عن شُعْبَةَ، عن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ، عن مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ، عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَرَأَى رَجُلاً قَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَقَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ:« مَا لَهُ ؟»، قَالُوا: رَجُلٌ صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ ».
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ يُحَدِّثُ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ الله عَنْهُمَا يَقُولُ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً، بِمِثْلِهِ.
__________
(1) في (ط):" ثريد ".(4/394)
وَحَدَّثَنَاه أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ. وَزَادَ: قَالَ شُعْبَةُ: وَكَانَ يَبْلُغُنِي عن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ؛ أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَفِي هَذَا الإِسْنَادِ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّذِي رَخَّصَ لَكُمْ، قَالَ: فَلَمَّا سَأَلْتُهُ لَمْ يَحْفَظْهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا كله في سفر واحد في غزاة الفتح(1) وسميت هذه(2) المواضع في هذه الأحاديث لتقاربها وإن كانت عسفان متباعدة شيئاً عن هذه المواضع فكلها مضافة إليها ومن عملها فاشتمل عليها اسمها وقد يكون الجمع بين هذين: أنه كلّم بعسفان بحال الناس ومشقة ذلك عليهم وكان فطرهم بالكديد ويعضده 93 - حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عن أَبِي نَضْرَةَ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِسِتَّ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ.
__________
(1) في (ط):" واحدة ".
(2) في (ط):" كل ".(4/395)
94 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عن التَّيْمِيِّ. ح، وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ نُوحٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ يَعْنِي ابْنَ عَامِرٍ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عن سَعِيدٍ، كُلُّهُمْ عن قَتَادَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ هَمَّامٍ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ التَّيْمِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَامِرٍ وَهِشَامٍ: لِثَمَانَ عَشْرَةَ خَلَتْ. وَفِي حَدِيثِ سَعِيدٍ: فِي ثِنْتَيْ عَشْرَةَ. وَشُعْبَةَ: لِسَبْعَ عَشْرَةَ، أَوْ تِسْعَ عَشْرَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما جاء في حديث الموطأ فقيل: لرسول الله إن(1) ناساً(2) صاموا حين صمت فلما كان بالكديد دعا بقدح فشرب فأفطر وأفطر(3) الناس ونحو منه حديث أبي سعيد الذي ذكره مسلم بعد هذا في غزوة الفتح نفسها(4).
وقوله: فنزلنا منزلاً فقال عليه الصلاة والسلام: " إنكم دنوتم من عدوكم والفطر أقوىلكم" فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلاً آخر فقال:" إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا" فكانت عزمة، فهذا يفسر هذه الأحاديث الأخر وأن قوله: كان في موضع ثم عزمة وفطره بنفسه في(5) آخر أبعد منه وأن توقفهم كان ليأخذوا بالأفضل
__________
(1) قوله:" إن " ليس في (أ).
(2) في (هـ):" الناس ".
(3) قوله:" وأفطر " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (هـ):" بعينها ".
(5) في (هـ):" موضع آخر ".(4/396)
95 - حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ يَعْنِي ابْنَ مُفَضَّلٍ، عن أَبِي مَسْلَمَةَ، عن أَبِي نَضْرَةَ، عن أَبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه - قَالَ كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي رَمَضَانَ، فَمَا يُعَابُ عَلَى الصَّائِمِ صَوْمُهُ، وَلا عَلَى الْمُفْطِرِ إِفْطَارُهُ.
96 - حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عن الْجُرَيْرِيِّ، عن أَبِي نَضْرَةَ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي رَمَضَانَ، فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، فَلا يَجِدُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ ضَعْفًا فَأَفْطَرَ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فحضهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد على الفطر فاقتدوا به لما رأوه حافظ عليه حتى قيل له: إن الناس إنما(1) ينظرون إلى ما فعلت فنزل إلى حالهم وأفطر رفقاً بهم ومواساة لهم وكان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً.
__________
(1) قوله:" إنما " ليس في (هـ).(4/397)
وقد يحتج بفطر النبي - عليه السلام - مُطرف من أصحابنا ومن وافقه من فقهاء أصحاب الحديث وهو أحد قولي الشافعي في جواز الفطر لمن بيت الصوم في السفر في رمضان خلافاً للجمهور في أن ذلك لا يباح له. وهو محتمل أن يكون قد بيت الفطر وهو تأويل كثير من العلماء وظاهره غير ذلك وأنه(1) ابتدأ الفطر حينئذ، وقد يحتمل أنه للضرورة اللاحقة به وبهم والمشقة التي نالتهم كما جاء في الحديث وأنه(2) لا يفطرون(3) حتى يفطر اقتداءً به كما جاء في الحديث" وإنما ينظرون فيما فعلت فأفطر ليفطروا " كما حلق في الحديبية أو فعل هو وهم ذلك لضرورة التقوي على عدوهم كما جاء في الحديث أيضًا منصوصاً فلا يكون هذا بحكم الاختيار.
97 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ، وَسَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، وَسُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، كُلُّهُمْ عن مَرْوَانَ، قَالَ سَعِيدٌ: أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عن عَاصِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نَضْرَةَ يُحَدِّثُ عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالا: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَصُومُ الصَّائِمُ وَيُفْطِرُ الْمُفْطِرُ، فَلا يَعِيبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
98 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عن حُمَيْدٍ قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ - رضي الله عنه - عن صَوْمِ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي رَمَضَانَ، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" إنما ".
(2) في (هـ):" وأنهم ".
(3) في (ط):" يفطروا ".(4/398)
وقال المهلب في قوله:" فأفطروا" يحتمل أن يكون في يومهم بعد تبييتهم الصوم، ويحتمل أن يكون فيما يأتي [ويستقبلون بعد يومهم ويبيتون فطره](1).
ثم اختلف المانعون للفطر بعد عقد الصوم فيه هل عليه كفارة أم لا ؟ وعن مالك وأصحابه في ذلك قولان: وبسقوط الكفارة قال جمهور أصحابه وكافة أئمة الفتوى وعلماء الأمصار، وفرق ابن الماجشون في فطره فأوجب الكفارة إن كان بجماع وأسقطها بغيره وهو أحد قولي الشافعي على أصله في أنه لا يكفر إلا المجامع.
وكذلك اختلفوا في يوم خروجه، فذهب مالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وجمهور العلماء: إلى أنه لا يفطر إذا خرج صائماً ولا يوم خروجه وقد لزمه الصوم، وذهب بعض السلف وأحمد وإسحاق والمزني: إلى جواز ذلك له.
وقال الحسن: له الفطر في بيته إذا أراد السفر في يومه.
99 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، عن حُمَيْدٍ، قَالَ: خَرَجْتُ فَصُمْتُ، فَقَالُوا لِي: أَعِدْ، قَالَ: فَقُلْتُ: إِنَّ أَنَسًا أَخْبَرَنِي: أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانُوا يُسَافِرُونَ فَلا يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، فَلَقِيتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ فَأَخْبَرَنِي، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا بِمِثْلِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختلف المذهب في وجوب الكفارة عليه عندنا في هذين الوجهين إن هو أفطر قبل خروجه أو أفطر بعده.
واختلف في السفر الذي يباح فيه الفطر فجمهور الفقهاء والسلف قبلهم على أنه في السفر الذي تقصر فيه الصلاة على ما تقدم من اختلاف مقداره في كتاب الصلاة [وذهب داود وأهل الظاهر أنه يقصر في كل سفر وإن قرب وروي مثله عن بعض الصحابة](2).
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).(4/399)
قال الإمام: اختلف الناس في صوم رمضان في السفر فذهب بعض أهل الظاهر إلى(1) أن الصوم لا ينعقد فيه وأن من صام فيه قضى، أخذاً منه بظاهر الآية وبهذا(2) الحديث وجمهور العلماء على خلافه.
وقد اختلفوا هل(3) الصوم أفضل أم الفطر أم هما سواء؟ فقيل: الصوم أفضل لما ورد في ذلك من صومه - عليه السلام - هو وعبدالله بن رواحة ولغير ذلك من الآحاديث ولقوله تعالى:{وأن تصوموا خير لكم} الآية فعمّ، وقيل: الفطر أفضل لقوله - عليه السلام -: " ليس من البر أن تصوموا في السفر" ولقوله - عليه السلام -: " هي رخصة من الله فمن شاء أخذ بها فحسن ومن شاء(4) أن يصوم فلا جناح عليه(5)" فقد جعل الفطر حسناً والصوم لا جناح فيه فهذه إشارة إلى تفضيل 100 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن عَاصِمٍ، عن مُوَرِّقٍ، عن أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي السَّفَرِ، فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً فِي يَوْمٍ حَارٍّ، أَكْثَرُنَا ظِلاًّ صَاحِبُ الْكِسَاءِ، وَمِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ، قَالَ: فَسَقَطَ الصُّوَّامُ، وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ فَضَرَبُوا الأَبْنِيَةِ وَسَقَوُا الرِّكَابَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفطر على الصوم، وقيل: بل الصوم والفطر(6) سواء لقوله للذي سأله: " إن شئت فصم وإن شئت فأفطر ".
__________
(1) قوله:" إلى " ليس في (أ).
(2) في (هـ):" وبظاهر ".
(3) قوله:" هل " ليس في (ط).
(4) في (أ) و(هـ):" أهب ".
(5) قوله:" عليه " ليس في (ط) و(هـ).
(6) في (ط):" وفي الفطر ".(4/400)
قال القاضي: وقوله:" ليس البر أن تصوموا في السفر " كذا رواية مسلم فيه وقد جاء أيضًا من رواية البخاري وغيره" ليس من البر " وكلاهما بمعنى واحد كما تقول: ما جاءني أحد وما جاءني من أحد. "ومن" هنا عند بعض أهل العربية زائدة،وأبى ذلك سيبويه ورأى أن " من " في قوله: ما جاءني من أحد تأكيد(1) للاستغراق وعموم النفي، ويحتمل(2) بقوله: ما جاءني أحد أي واحد وأنه جاء(3) أكثر فإذا قال من أحد لم يقع احتمال. هذا معنى كلامه.
قال الإمام أبو عبدالله: أما احتجاج المخالف بهذا(4) على أن الصوم لا يجزئ في السفر فإنا نقول إنه عموم خرج على خرج(5) سبب فإن قلنا: بقصره على سببه كما ذهب إليه بعض ا لأصوليين لم تكن فيه حجة وإن لم يقل بذلك قلنا: يحتمل أن يكون المراد به لمن كان على مثل حال ذلك الرجل وبلغ به الصوم إلى مثل ذلك المبلغ ويحمل على ذلك بالدليل الذي قدمناه من فضيلة الصوم، أو يحتمل أن يريد أن ليس للصوم فضيلة على الفطر يكون براً.
101 - وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عن عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عن مُوَرِّقٍ، عن أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَصَامَ بَعْضٌ وَأَفْطَرَ بَعْضٌ، فَتَحَزَّمَ الْمُفْطِرُونَ وَعَمِلُوا، وَضَعُفَ الصُّوَّامُ عن بَعْضِ الْعَمَلِ، قَالَ: فَقَالَ فِي ذَلِكَ:« ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: هذا كما قال في الحديث: " ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان أي ليس البر كله الذي لا بر غيره أو البر التام الصيام في السفر بل الفطر أيضًا بر ؛ لأن الله يحب أن تؤتى رخصه. وقيل: ليس من البر المفروض اللازم.
__________
(1) في (هـ):" تأكيدا ".
(2) في (ط) و(هـ):" إذ يحتمل ".
(3) في (أ):" جاءه ".
(4) في (هـ):" بهذا الحديث ".
(5) قوله:" خرج " ليس في (هـ).(4/401)
وقوله: قال شعبة وكان يبلغني عن يحيى بن أبي كثير أنه كان يزيد في هذا الحديث أنه قال: "عليكم برخصة الله التي رخص لكم " فلما سألته لم يحفظه.
فيه حجة أنه رخصة لا أنه واجب وظاهره فضل الإفطار فيه على الصوم لقوله: " عليكم ". وحضهم عليه. وما ذكره شعبة عن يحيى من هذه الزيادة فلم يحفظها فإن كان سمعها من يحيى(1) عنه ساغ له الحديث بها عمن حدثه عنه(2) ولم يضره نسيانه لها على قول جمهور محققي الأصوليين والمحدثين خلافاً للكرخي ومن تبعه من الحنفية في أنه لا يقبل ولا يعمل به، وأما لو قال الراوي: هذا لم أحدث به قط ولا رويته فهم متفقون على طرحه لأنه مكذب للرواية عنه به والأول غير قاطع والراوي عنه مصحح لها.
__________
(1) في (أ) و(هـ):" ثقة ".
(2) قوله:" عنه " ليس في (أ).(4/402)
وقوله: في حديث ابن(1) رافع " صبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان" وفي حديث همام(2): غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة لست 102 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عن مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عن رَبِيعَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَزَعَةُ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ - رضي الله عنه - وَهُوَ مَكْثُورٌ عَلَيْهِ، فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ قُلْتُ: إِنِّي لا أَسْأَلُكَ عَمَّا يَسْأَلُكَ هَؤُلاءِ عَنْهُ، سَأَلْتُهُ عن الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ، قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلاً آخَرَ فَقَالَ إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ »، فَأَفْطِرُوا، وَكَانَتْ عَزْمَةً، فَأَفْطَرْنَا، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَصُومُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عشرة [مضت من رمضان. وفي حديث سعيد عن قتادة: ثنتي عشرة، وعن شعبة " لسبع عشرة](3) أو تسع عشرة " وغيرهم عن قتادة: ثمان عشرة، والذي قاله أصحاب السير: أن خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - لغزو مكة كان لعشر خلون من رمضان ودخوله مكة في تسع عشرة.
__________
(1) في (ط):" ابن أبي ".
(2) في (ط) و(هـ):" عباد ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).(4/403)
قال القاضي: مذهب مالك والشافعي وأصحاب الرأي وكثير من السلف إلى(1) أن الصوم أفضل ومذهب ابن المسيب والأوزاعي وأحمد وإسحاق وعبدالملك بن الماجشون إلى(2) تفضيل الفطر.
قال الخطابي: وذهبت فرقة إلى أن الأفضل الأيسر عليه والأسهل، وروي عن عمر بن عبدالعزيز وقتادة ومجاهد وما ذكر في الأحاديث من فطر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وصومهم في السفر وأنه(3) لم يعب بعضهم على بعض كله دليل على
103 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عن أَبِيهِ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا ؛ أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الأَسْلَمِيُّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، عن الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ:« إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إجماعهم على جواز الأمرين وخلاف لداود ومن وافقه من الظاهرية على تحريم الصوم في السفر كما تقدم.
وقوله: " فتحزم المفطرون" كذا لأكثر الرواة " تحزم " بالحاء المهملة وبالزاي عند(4) السجزي: "فتخدم " بالمعجمة(5) وبالدال قالوا: وهو صواب الكلام إن شاء الله أي خدموهم وقاموا بمؤن الصوام كما قال في بقية الحديث " وعملوا " وكما قال في الرواية الأخرى " فضربوا الأبنية وسقوا الركاب" قالوا: " وتحزم " تصحيف وقد يصح عندي معناه على وجوه:
أحدها: ظاهره من شد الحزام للخدمة والعمل وليس في هذا ما ينكر. الثاني: استعارة للجد في الخدمة والتشمير كما جاء كان - عليه السلام - إذا دخل رمضان شد المئزر. الثالث: أن يكون من الحزم وهو الأخذ بالقوة والثقة في هذه الخدمة والعمل.
__________
(1) قوله:" إلى " ليس في (هـ).
(2) قوله:" إلى " ليس في (ط).
(3) قوله:" أنه " ليس في (هـ).
(4) في (هـ):" عند ابي سعيد ".
(5) في (هـ):" بخاء معجمة ".(4/404)
وقوله: عن عروة، عن أبي مرواح، عن حمزة الأسلمي ؛ كذا سمعناه من القاضي الشهيد وغيره، وهي رواية العذري. وفي كتاب شيخنا القاضي التميمي أبي مراوح، وكذا جاء في غير هذا الموضع، وكذا ذكره البخاري وأصحاب الحديث.
104 - وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عن أَبِيهِ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا ؛ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنِّي رَجُلٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ، أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ ؟ قَالَ:« صُمْ إِنْ شِئْتَ، وَأَفْطِرْ إِنْ شِئْتَ ».
105 - وَحَدَّثَنَاه يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن هِشَامٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: إِنِّي رَجُلٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ.
106 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، كِلاهُمَا عن هِشَامٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ: أَنَّ حَمْزَةَ قَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أَصُومُ، أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ ؟.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: إني رجل أسرد الصوم، وفي الرواية الأخرى إني رجل أصوم في السفر فقال له: " صم إن شئت وأفطر إن شئت" ظاهر كلامه أنه سأله عن التطوع.(4/405)
وقوله: فهل علي جناح؟ قال: " هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" قد يحتج به من ير الفطر أفضل لقوله فيه"حسن" وقوله في الصوم: " لا جناح(1)" ولا حجة في هذا فإن الأخذ بالرخصة حسن كما قال، وأما قوله في الصوم: " فلا جناح" فجواب قوله: " هل علي جناح" ولا يفهم منه أنه أنزل درجة من الفطر ولا أنه ليس بحسن بل قد جاء في الحديث الآخر وصفهما جميعاً بحسن.
وقوله: في حديث مالك عن أبي النضر عن عمير مولى عبدالله(2) بن عباس كذا للطبري والهوزني وعند الجلودي وغيره مولى عبدالله وإنما وقع في الموطأ 107 - وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، قَالَ هَارُونُ: حَدَّثَنَا، و قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عن أَبِي الأَسْوَدِ، عن عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عن أَبِي مُرَاوِحٍ، عن حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ ».
قَالَ هَارُونُ فِي حَدِيثِهِ: هِيَ رُخْصَةٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنَ اللَّهِ.
__________
(1) في (هـ):" جناح عليك ".
(2) في (ط) و(هـ):" عبيدالله ".(4/406)
108 - حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عن سَعِيدِ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ، عن إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عن أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عن أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/407)
مولى ابن عباس [ وقد ذكره البخاري وقال: مولى أم الفضل ويقال مولى ابن عباس](1) وقد ذكر مسلم هذين الوجهين في كتابه، وذكر البخاري عن ابن إسحاق مولى عبيدالله ابن عباس وقال الباجي: ويقال مولى عبدالله بن عباس وذكر شرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بعرفة ليراه الناس ويعلمون أنه مفطر كما فعل في غزوة الفتح ولأن العيان أبلغ من الخبر، وفيه جواز مثل هذا لأولي الهيئات للضرورة، وقد ترجم البخاري على هذا الحديث: "من أفطر ليراه الناس وفطر يوم عرفة مستحب للحاج عند جماعة من العلماء وهو قول مالك والشافعي والكوفيين وجماعة من السلف ليتقووا بذلك على ما هم بسبيله من 109 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عن عُثْمَانَ ابْنِ حَيَّانَ الدِّمَشْقِيِّ، عن أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ:قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ:لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِالْحَرِّ،وَمَا مِنَّا أَحَدٌ صَائِمٌ إِلا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم - وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنُ رَوَاحَةَ.
110 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عن أَبِي النَّضْرِ، عن عُمَيْرٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عن أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ: أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ ؟ فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ فَشَرِبَهُ.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (هـ).(4/408)
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَابْنُ أَبِي عُمَرَ،عن سُفْيَانَ،عن أَبِي النَّضْرِ بِهَذَا الإِسْنَادِ وَلَمْ يَذْكُرْ: وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ. وَقَالَ: عن عُمَيْرٍ مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ.
حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عن سُفْيَانَ، عن سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ. وَقَالَ: عن عُمَيْرٍ مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوقوف والدعاء والسعي في عمل الحج وروى عن جماعة من السلف اختيار صومه والترغيب فيه وجاءت فيه آثار قد ذكرها مسلم وغيره(1) ويجمع بينهما أن الأفضل لسائر الناس غير الحاج صومها(2) للآثار الواردة في ذلك والأفضل للحاج فطرها لاختيار النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لنفسه وسنته ذلك لمن بعده.
والحلاب: إناء يسع حلبه ناقة، قاله الخطابي: وقال أيضًا: الحلاب اللبن المحلوب وقال الهروي: هو الإناء الذي يحلب فيه(3) ذوات الألبان وحمله
111 - وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو؛ أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ ؛ أَنَّ عُمَيْرًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا حَدَّثَهُ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ الْفَضْلِ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: شَكَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَنَحْنُ بِهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَعْبٍ فِيهِ لَبَنٌ وَهُوَ بِعَرَفَةَ فَشَرِبَهُ.
__________
(1) قوله:" وغيره " ليس في (ط).
(2) في (هـ):" صومهما ".
(3) في (هـ):" فيه لبن ".(4/409)
112 - وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عن بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عن كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، عن مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ النَّاسَ شَكُّوا فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ مَيْمُونَةُ بِحِلابِ اللَّبَنِ، وَهُوَ وَاقِفٌ فِي الْمَوْقِفِ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هنا على الآنية أولى بدليل قوله:" بحلاب لبن"، وقوله في الرواية الأخري:" بإناء فيه لبن وبقعب فيه لبن". والقعب: إناء من خشب مقعر مدور يشرب فيه تشبه به حوافر الخيل، وكما جاء في الرواية الأخرى: " بقدح لبن".
وقوله: في رواية أبي النضر " فأرسلت إليه أم الفضل بنت الحارث" فيه قبول الهدية من القرابة والأصهار وملاطفي الإخوان نساءً كنّ أو رجالاً. قالوا: وفيه ترك السؤال مما ألقي بأيدي الفضلاء والأتقياء إذ لم يسألها النبي - عليه السلام - أنه من مالها أو من مال العباس زوجها.
قال القاضي: وقد يكون هذا مما أذن للنساء بالتصرف فيه أو لعلمها أن العباس يسر بذلك من فعلها ولعلم النبي - عليه السلام - بذلك منه وأنه عمه وممن أذن للمؤمنين أن يأكلوا من بيت(1) مثله.
__________
(1) في (ط):" بيته ".(4/410)
113 - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عن أَبِيهِ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصُومُ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُهُ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ قَالَ:« مَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ ».
114 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُهُ. وَقَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: وَتَرَكَ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَرِوَايَةِ جَرِيرٍ.
حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عن الزُّهْرِيِّ، عن عُرْوَةَ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَانَ يُصَامُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلامُ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ.
115 - حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنَّ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُ بِصِيَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحاديث صيام يوم عاشوراء(4/411)
عاشوراء: فاعولاء، وهو من أبنية المؤنث صفة لليوم والليلة مضاف إليها، وقال الخليل: هو اليوم العاشر ويقال التاسع فعلى هذا هو صفة لليوم وهو في التاسع من إضافة الشيء إلى نفسه كمسجد الجامع. قال بعضهم: وإضافته لليلة أصح، وقال الحربي وغير واحد: هو العاشر وقال غيره: هو التاسع. وقيل: سمي التاسع عاشوراء(1) على عادة العرب في الورد وأنه مأخوذ 116 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، جَمِيعًا عَن اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ ابْنُ رُمْحٍ: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عن يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ ؛ أَنَّ عِرَاكًا أَخْبَرَهُ ؛ أَنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ ؛ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ ؛ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَصُومُ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِصِيَامِهِ، حَتَّى فُرِضَ رَمَضَانُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْهُ ».
117 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ. ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عن نَافِعٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صَامَهُ وَالْمُسْلِمُونَ قَبْلَ أَنْ يُفْتَرَضَ رَمَضَانُ، فَلَمَّا افْتُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ ».
__________
(1) قوله:" عاشوراء " ليس في (أ).(4/412)
وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا يَحْيَى - وَهُوَ الْقَطَّانُ -. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، كِلاهُمَا عن عُبَيْدِ اللَّهِ، بِمِثْلِهِ فِي هَذَا الإِسْنَادِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من أعشار الإبل وكانت إذا وردت لتسعة(1) أيام سموه عشرا وذلك أنهم يحسبون في الأظماء يوم الورود فإذا أقامت في الرعي يومين ثم وردت في الثالث قالوا وردت ربعاً وإن رعت(2) ثلاثًا ووردت في الرابع قالوا وردت خمساً لأنهم حسبوا في كل هذا بقية اليوم الذي وردت فيه قبل الرعي وأول اليوم الذي ترد فيه بعده.
118 - وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ. ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عن نَافِعٍ، عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا ؛ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« كَانَ يَوْمًا يَصُومُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ كَرِهَ فَلْيَدَعْهُ ».
119 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عن الْوَلِيدِ يَعْنِي ابْنَ كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا حَدَّثَهُ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ:« إِنَّ هَذَا يَوْمٌ كَانَ يَصُومُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتْرُكَهُ فَلْيَتْرُكْهُ ».
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ - رضي الله عنه - لا يَصُومُهُ إِلا أَنْ يُوَافِقَ صِيَامَهُ.
__________
(1) في (ط):" تسعة ".
(2) في (ط):" ربعت ".(4/413)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذكر مسلم: الأحاديث أنه كان تصومه قريش في الجاهلية وكان النبي - عليه السلام - يصومه وأنه لما ورد المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان قال من شاء صامه ومن شاء تركه فيه أولاً ما نبهنا عليه في(1) أول كتاب الصلاة من أن ألفاظ العبادات واردة في الشرع على ما عهده أهل اللغة خلافاً لجماهير المتكلمين والموافقين والمخالفين إذ كانوا يصومون ويعرفون الصوم ويحجون ويعزمون الحج فخاطبهم الشرع بما علموه تحقيقاً(2) لا أنه أتاهم بألفاظ مؤتنقة(3) ابتدعها لهم كما قاله المخالف أو بألفاظ لغوية لا يعلم منها المقصود إلا رمزاً كما أشار إليه المخالف وهناك بسطها وكشف الغطاء عن الحق فيها، واختلف العلماء في صيام(4) عاشوراء. فقيل: كان فرضاً فنسخ برمضان على ظاهر لفظ الحديث، وقيل: لم يكن فرضاً ولكنه كان مرغباً فيه فخفف أمره وحصل التخيير في صيامه بعد ذلك وروى عن بعض السلف أن فرضه باق لم ينسخ وقد انقرض 120 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ عُبَيْدُ اللَّهِ ابْنُ الأَخْنَسِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ سَوَاءً.
__________
(1) قوله:" في " ليس في (ط) و(هـ).
(2) في (هـ):" تخفيفًا ".
(3) في (هـ) تشبه أن تكون:" موثقة" أو:" مؤتنفة ".
(4) في (هـ):" صيام يوم ".(4/414)
121 - وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْعَسْقَلانِيُّ، حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: «ذَاكَ يَوْمٌ كَانَ يَصُومُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ ».
122 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ، جَمِيعًا عَن أَبِي مُعَاوِيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن الأَعْمَشِ، عن عُمَارَةَ، عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: دَخَلَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ يَتَغَدَّى، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ! ادْنُ إِلَى الْغَدَاءِ، فَقَالَ: أَوَلَيْسَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ؟ قَالَ: وَهَلْ تَدْرِي مَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ ؟ قَالَ: وَمَا هُوَ ؟ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ يَوْمٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَلَمَّا نَزَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ تُرِكَ.
و قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ تَرَكَهُ.
وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عن الأَعْمَشِ بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَقَالا: فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ تَرَكَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/415)
القائلون بهذا وحصل الاجماع على خلافه وروى عن ابن عمر كراهة قصد صومه وتعيينه بالصوم وقد روي في ذلك حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكره(1) مسلم عن ابن عمر وكافة العلماء على أنه مرغب فيه مقصود الصوم للأحاديث 123 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عن سُفْيَانَ. ح، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي زُبَيْدٌ الْيَامِيُّ، عن عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عن قَيْسِ بْنِ سَكَنٍ: أَنَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهُوَ يَأْكُلُ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ! ادْنُ فَكُلْ، قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: كُنَّا نَصُومُهُ، ثُمَّ تُرِكَ.
124 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عن مَنْصُورٍ، عن إِبْرَاهِيمَ، عن عَلْقَمَةَ قَالَ: دَخَلَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَأْكُلُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ! إِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ يُصَامُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ رَمَضَانُ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ تُرِكَ، فَإِنْ كُنْتَ مُفْطِرًا فَاطْعَمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ):" ذكر ".(4/416)
الواردة في فضله وصوم النبي - عليه السلام - له وكونه غير فرض لقوله - عليه السلام -:"وتصوم رمضان". وقوله: " هل علي غيره؟ قال لا: إلا أن تطوع وقوله - عليه السلام -:" كان يوم عاشوراء يوماً(1) تصومه أهل الجاهلية فمن شاء صيامه(2) فليصمه وما أحب أن يتركه" ظاهره أنه لم يكن فرضاً وإنما كان يصام تطوعاً وكذلك قوله: كان يأمر بصيام(3) عاشوراء ويتعهدنا عنده(4) ويحثنا عليه.
وقوله: عن عبدالله هو ابن مسعود: " كنا نصومه ثم ترك(5)" ليس فيه دليل على كراهة صومه وإنما هو إعلام بترك وجوبه ولزومه وإنما ذكر ذلك لمن أنكر عليه الأكل فيه كما ذكر في الحديث.
125 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ، عن أَشْعَثَ ابْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عن جَعْفَرِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عن جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُنَا بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَيَحُثُّنَا عَلَيْهِ وَيَتَعَاهَدُنَا عِنْدَهُ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا، وَلَمْ يَتَعَاهَدْنَا عِنْدَهُ.
__________
(1) قوله:" عاشوراء يومًا " ليس في (ط).
(2) في (ط):" فمن صامه ".
(3) في (هـ):" بصيام يوم ".
(4) في (هـ):" عنه ".
(5) في (هـ):" تركناه ".(4/417)
126 - حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ خَطِيبًا بِالْمَدِينَةِ يَعْنِي فِي قَدْمَةٍ قَدِمَهَا خَطَبَهُمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ لِهَذَا الْيَوْمِ:« هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، وَأَنَا صَائِمٌ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَصُومَ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُفْطِرَ فَلْيُفْطِرْ ».
حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عن ابْنِ شِهَابٍ فِي هَذَا الإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا " يحتج به من يحمل الأوامر على الوجوب.
وقول معاوية: أين علماءكم وذكر الحديث ظاهر كلامه هذا أنه سمع من يوجب صيامه أو من يمنعه على ما قدمنا(1) من الخلاف فيه عن السلف فأخبرهم بما سمع منه - عليه السلام - من قوله:"لم يكتب الله عليكم(2) صيامه" الحديث فهذا الحديث رد على الفريقين.
وقوله:" وأنا صائم" ذكر في كتاب النسائي من رواية صالح عن الزهري عن حميد قال معاوية بقوله ثم ذكر بقية الحديث وذكر من رواية قتيبة عن
وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عن الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ:« إِنِّي صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَ فَلْيَصُمْ. وَلَمْ يَذْكُرْ بَاقِي حَدِيثِ مَالِكٍ وَيُونُسَ.
__________
(1) في (هـ):" قدمناه ".
(2) في (هـ):" عليهم ".(4/418)
127 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عن أَبِي بِشْرٍ، عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ، فَوَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَسُئِلُوا عن ذَلِكَ، فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، فَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ »، فَأَمَرَ بِصَوْمِهِ.
وَحَدَّثَنَاه ابْنُ بَشَّارٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، جَمِيعًا عَن مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عن شُعْبَةَ، عن أَبِي بِشْرٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: فَسَأَلَهُمْ عن ذَلِكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سفيان عن الزهري عن حميد سمعت معاوية يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا اليوم يقول: " إني صائم فمن شاء منكم أن يصوم فليصم" وهذا نص أنه كله من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأما التخيير في صيامه فنص عنه(1) في غير حديث. واستدعاؤه العلماء تنبيه لهم على هذا الحكم أو(2) استعانة بما عندهم منه أو توبيخ إن كان رأى ما أنكره أو لم يثبتوه(3) وينكروه كما قاله أيضًا في حديث قصة الشعر. وقد استدل بعضهم على أنه كان واجباً بقوله: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصومه ويأمر بصيامه.
وقوله: في الحديث الآخر " ولم يكتب الله عليكم(4) صيامه" أي لم يفرضه،[ ويحتمل أنه لم يكن فرضًا ](5). ويحتمل أنه لم يكتبه الآن وأنه نسخه.
__________
(1) في (هـ):" عليه ".
(2) في (هـ):" و ".
(3) في (ط) و(هـ):" يبينوه ".
(4) في (هـ):" عليهم ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ).(4/419)
128 - وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عن أَيُّوبَ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عن أَبِيهِ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ فَقَالُوا هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عن أَيُّوبَ بِهَذَا الإِسْنَادِ إِلا أَنَّهُ قَالَ، عن ابْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لَمْ يُسَمِّهِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: قدم المدينة فوجد اليهود تصومه إلى قوله " نحن أحق بموسى منكم " فصامه.
قال الإمام: خبر اليهود غير مقبول فيحتمل أن يكون - عليه السلام - أوحي إليه بصدقهم فيما حكوا من قصة هذا اليوم أو يكون قد تواتر عنده - عليه السلام - خبره حتى وقع له العلم بذلك ومع ذلك أيضًا فإنه - عليه السلام - قد يكون من شرعه تعظيم الأيام التي أظهر الله فيها الرسل وأدال لهم على الكفرة واستحسان الصوم فيها.(4/420)
قال القاضي: قد تقدم أن قريشاً كانت تصومه وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصومه فلما قدم المدينة صامه فلم يحدث له حديث اليهود حكماً يحتاج إلى التكلم عليه وإنما هي صفة حال وجواب سؤال فدل أن قوله في هذا الحديث "فصامه" ليس أنه ابتدأ صومه حينئذ ولو كان هذا لوجب أن يقال: صحح هذا ممن 129 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عن أَبِي عُمَيْسٍ، عن قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عن طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عن أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَتَتَّخِذُهُ عِيدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« صُومُوهُ أَنْتُمْ ».
130 - وَحَدَّثَنَاه أَحْمَدُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ أَخْبَرَنِي قَيْسٌ، فَذَكَرَ بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ. وَزَادَ: قَالَ أَبُو أُسَامَةَ: فَحَدَّثَنِي صَدَقَةُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ، عن قَيْسِ ابْنِ مُسْلِمٍ، عن طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عن أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ أَهْلُ خَيْبَرَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَتَّخِذُونَهُ عِيدًا، وَيُلْبِسُونَ نِسَاءَهُمْ فِيهِ حُلِيَّهُمْ وَشَارَتَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَصُومُوهُ أَنْتُمْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/421)
أسلم من علمائهم ووثقة ممن هداه الله من أحبارهم كابن سلام وابن(1) سعيه وغيرهم، وقد ذهب بعضهم إلى(2) الجمع بين هذين الحديثين بأنه يحتمل أنه - عليه السلام - كان يصومه بمكة على مقتضى الحديث الأول ثم ترك صيامه حتى علم ما عند أهل الكتاب من فضل صومه فصامه وما ذكرناه أولى بلفظ الحديث. وقوله: في حديث قتيبة: إن قريشاً كانت تصوم عاشوراء في الجاهلية ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصيامه حتى فرض رمضان. كذا ضبطته(3) في كتابي.
أراه عن القاضي الشهيد: "أمر" بالضم على الهمزة وكسر الميم، وهذا حجة لمن قال إنه كان فرضاً.
وقوله: يلبسون نساءهم فيه حليهم(4) وشارتهم.
قال الإمام: الشارة: الهيئة واللباس الحسن، يقال: ما أحسن شوار(5) الرجل أي: لباسه وهيئته.
131 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، جَمِيعًا عَن سُفْيَانَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا وَسُئِلَ عن صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: مَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صَامَ يَوْمًا يَطْلُبُ فَضْلَهُ عَلَى الأَيَّامِ إِلا هَذَا الْيَوْمَ، وَلا شَهْرًا إِلا هَذَا الشَّهْرَ - يَعْنِي رَمَضَانَ -.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ فِي هَذَا الإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط) و(هـ):" وابني ".
(2) في (هـ):" إلى أن ".
(3) في (هـ):" ضبطناه ".
(4) في (هـ):" حلاهم ".
(5) في (هـ):" سوار ".(4/422)
قال القاضي: وقوله:" فصامه موسى(1) شكراً لله فنحن نصومه" فيه: جواز فعل العبادات للشكر على النعم فيما يخص الإنسان ويعم المسلمين ويخص أهل
الفضل والدين الذين ألزمنا حبهم وولايتهم من الأنبياء والصالحين وأن الشكر بالعمل والطاعة وبالقول والثناء قال الله تعالى:{ اعملوا آل داود شكرا } وقال - عليه السلام -: " أفلا أكون عبداً شكوراً " وقال الله تعالى:{ لئن شكرتم لأزيدنكم }.
وذكر مسلم حديث ابن عباس أصبح يوم التاسع صائماً قلت هكذا كان محمد يصومه قال: نعم وذكر حديثه الآخر أنه قيل له إنه يوم تعظمه اليهود فقال - عليه السلام -: " إذا كان من العام المقبل إن شاء الله صمنا التاسع ".
قال الإمام: عندنا أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم وعند المخالف أنه التاسع فمن قال إنه العاشر تعلق بأن مقتضى اللفظ أنه(2) العاشر وهو مأخوذ من العشر، ومن قال إنه التاسع تعلق بهذا الحديث وبما ورد عن 132 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عن حَاجِبِ بْنِ عُمَرَ، عن الْحَكَمِ بْنِ الأَعْرَجِ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ رِدَاءَهُ فِي زَمْزَمَ، فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبِرْنِي عن صَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتَ هِلالَ الْمُحَرَّمِ فَاعْدُدْ، وَأَصْبِحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا، قُلْتُ: هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ.
__________
(1) قوله:" موسى " ليس في (هـ).
(2) في (هـ):" أنه هو ".(4/423)
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عن مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍ. وَحَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ الأَعْرَجِ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ رِدَاءَهُ عِنْدَ زَمْزَمَ عن صَوْمِ عَاشُورَاءَ. بِمِثْلِ حَدِيثِ حَاجِبِ بْنِ عُمَرَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العرب في تسميتها الثالث من أيام الورد ربعاً وكذلك على هذا الحساب يحسبون أيام الأظماء(1) والأوراد فيكون التاسع عشرا على هذا.
قال القاضي: اختلف العلماء في ذلك على ما ذكر. فمذهب مالك والحسن وسعيد بن المسيب أنه العاشر، وهو قول جماعة من السلف وهو الذي تدل عليه الأحاديث كلها ومنها هذا الحديث الذي فيه " لأصومن التاسع" فدل أن صومه - عليه السلام - كان العاشر وهذا الآخر فلم يسنه بعد ولا بلغه ولعله على طريق الجمع مع العاشر لئلا يتشبه باليهود كما ورد في رواية أخرى " فصوموا التاسع والعاشر" وإلى هذا أيضًا ذهب جماعة من السلف وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق إما لهذه العلة أو للاحتياط للخلاف فيه ولعل معنى هذا الحديث هو الذي أخبر به ابن عباس في الحديث الآخر في صيام التاسع "
__________
(1) في (هـ):" الظما ".(4/424)
133 - وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا غَطَفَانَ بْنَ طَرِيفٍ الْمُرِّيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا يَقُولُ حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عَاشُورَاءَ: وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ ». قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
134 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عن ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عن الْقَاسِمِ بْنِ عَبَّاسٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ، لَعَلَّهُ قَالَ: عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ ».
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: يَعْنِي يَوْمَ عَاشُورَاءَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن محمداً كان يصومه" لخبره أنه سيصومه قابلاً واعتقاد ابن عباس أن النبي - عليه السلام - كان مزمعاً على فعله إذ ابن عباس راوي(1) الحديثين معاً وذهب قوم إلى أنه التاسع وهو المروي عن الشافعي.
وقوله:" إن عاشوراء يوم من أيام الله من شاء صامه" أي كسائر أيام السنة التي لم يفترض الله صيامها.
__________
(1) في (هـ):" روى ".(4/425)
135 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ يَعْنِي ابْنَ إِسْمَاعِيلَ، عن يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عن سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ - رضي الله عنه - ؛ أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ:« مَنْ كَانَ لَمْ يَصُمْ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ إِلَى اللَّيْلِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " من كان صائماً فليتم صومه، ومن أصبح مفطراً فليتم صيامه إلى الليل". وفي الرواية الأخرى " من أكل فليتم صومه".
قال الإمام: يحتج بهذا من يجيز إحداث النية في الصوم بعد الفجر وظاهر(1) هذا الحديث استئناف النية. ومالك يمنع من ذلك على الإطلاق لقوله - عليه السلام -:" لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " فعم كل الصيام.
__________
(1) في (هـ):" وها ".(4/426)
قال القاضي: ذهب أبو حنيفة والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور إلى جواز أحداث النية لصوم النافلة بالنهار لهذا الحديث، ثم اختلفوا هل يصح ذلك بعد الزوال أم لا يصح إلا قبل الزوال ؟ فأصحاب الرأي والطبري يجيزونه في النفل بعد الزوال وغيرهم يمنعه بعده واختلف فيه قول الشافعي وذهب مالك وابن أبي ذئب والليث والمزني إلى أنه لا يصح صوم نافلة إلا بنية من الليل وهو مذهب جماعة من السلف للحديث المتقدم ولقوله - عليه السلام -" إنما الأعمال بالنيات " وهذا نهار قد مرّ جزء منه بغير نية، وذهب الكوفيون إلى أن كل فرض من الصوم في وقت معين فإنه لا يحتاج إلى تبيت لهذا الحديث ويجزيه إذا نواه قبل الزوال وهو قول الأوزاعي، وإليه ذهب عبدالملك بن 136 - وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ بْنِ لاحِقٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ ابْنُ ذَكْوَانَ، عن الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: «مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ »، فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهَا إِيَّاهُ عِنْدَ الإِفْطَارِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الماجشون من أصحابنا ورواه عن مالك فيمن لم يعلم برمضان إلا في يومه وقد تأول قوم ذلك قولة لمالك ولم يفرق هؤلاء بعد الزوال أو قبله فيما يحتمل.(4/427)
وذهب مالك في مشهور قوله والشافعي وأحمد وعامتهم إلى أن الفرض لا يجزئ إلا بنية تتقدمه(1).
ثم اختلفوا هل النية أول الشهر تجزيه في رمضان وكل صوم متصل عن سائر لياليه وهو مشهور قول مالك والليث. وروي عن إسحاق مثله أم لا بدّ من التبييت فيه كل ليلة ؟ وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وحكاه ابن عبدالحكم عن مالك واختاره وشذ زفر فقال: شهر رمضان لا يحتاج إلى نية إلا المسافر(2)، وروى عنه مثل قول مالك وشذ أبو حنيفة أيضًا فقال: يجزيه صوم شهر رمضان وإن لم ينو به رمضان سواء صامه تطوعاً أو لنذر أو كفارة لاستحقاق عينه بالصوم له. ولا حجة للمخالف في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بصيام من لم يبيت يوم عاشوراء لوجوه:
137 - وَحَدَّثَنَاه يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ الْعَطَّارُ، عن خَالِدِ بْنِ ذَكْوَانَ قَالَ: سَأَلْتُ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذٍ، عن صَوْمِ عَاشُورَاءَ قَالَتْ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رُسُلَهُ فِي قُرَى الأَنْصَارِ، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ بِشْرٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَنَصْنَعُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ فَنَذْهَبُ بِهِ مَعَنَا، فَإِذَا سَأَلُونَا الطَّعَامَ أَعْطَيْنَاهُمُ اللُّعْبَةَ تُلْهِيهِمْ حَتَّى يُتِمُّوا صَوْمَهُمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط) و(هـ):" متقدمة ".
(2) في (هـ):" للمسافر ".(4/428)
أحدها(1): أنه كان عاشوراء الفرض حينئذ فما أمر النبي عليه الصلاة والسلام فيه هو مما لا يختلف فيه أنه من تذكر فرض صومه(2) أو أعلم به ممن نسيه أو ثبت أنه يوم رمضان داخل النهار أنه يلزمه تمام صومه وهذا ما لا يختلف فيه، وإنما خلافنا هل يجزئ أم لا؟ وليس في الحديث غير تمام الصوم، وقد اختلف الأصوليون في الأمر المؤقت إذا فات أداؤه هل يقتضي بنفسه إيجاب القضاء أم يحتاج إلى أمر آخر فكيف وقد روى أبو داود الحديث وزاد فيه " واقضوه" وهذا قطع لحجة المخالف ونص ما يقوله الجمهور في المسألة وقد قيل: يحتمل أن الفرض إذا سلم فيه حينئذ طرأ عليهم(3) وجوبه فأعلمهم بذلك وأمرهم به وأن حكم عاشوراء في ذلك كله منسوخ لما نسخ فرضه فلا يقاس عليه فرض ولا نفل وأيضًا فقد قال في الحديث " ومن أكل(4) فليتم صومه" ولهذا لا يقوله من يجيز النية في النهار وإنما يقول ذلك فيمن لم يأكل فدل أن حكم عاشوراء في ذلك، أما حكم غيره من الفرائض فيمن أفطر فيها(5) ناسياً أو جاهلاً أن ذلك يوم صومه فيتمه لزوماً، أو هذا حكم خاص(6) بعاشوراء ورخصة ليست لسواه وزيادة في فضله وتأكيد صومه كما ذهب إليه ابن حبيب وحكاه عن أهل العلم.
وذهب الخطابي: أن هذا على معنى الاستحباب والإرشاد لأوقات الفضل لئلا يغفل عنه عند مصادمة وقته.
قال الإمام: خرج مسلم في هذا الباب حديثا ابن أبي شيبة وابن نمير، قالا ثنا أبو أسامة وذكر حديث أبي موسى قال بعضهم: في نسخة ابن الحذاء ثنا أبوبكر ابن أبي شيبة وابن أبي عمر قالا ثنا أبو أسامة. جعل ابن أبي عمر مكان ابن نمير وهذا وهم. والأول الصواب، وهي رواية الجلودي وغيره.
وقوله: " إنهم كانوا يصومون فيه صبيانهم ويجعلون لهم اللعبة من العهن".
__________
(1) توجد حاشية طويلة في (أ).
(2) في (ط) و(هـ):" صوم يومه ".
(3) في (ط) و(هـ):" حينئذ عليهم ".
(4) في (ط):" أمكن ".
(5) في (هـ):" فيه ".
(6) في (ط):" حاصل ".(4/429)
العهن(1): الصوف واحدتها عهنة مثل صوف وصوفة، وقيل: لا يقال للصوف عهن إلا إذا كان مصبوغاً. قال زهير:
كأن فتات العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا(2) لم يحطم
قال القاضي: جاء في حديث الربيع من رواية أبي بكر بن نافع العبدي "وتجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه عند الإفطار" كذا في جميع نسخ مسلم الواقعة إلينا وفيه بتر وتغيير اختل به الكلام وصوابه " حتى تكون عند الإفطار" وبه يتم الكلام، وكذا وقع عند البخاري من رواية مسدد بهذا اللفظ وهو معنى ما ذكره مسلم في الرواية الأخرى فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم" وفي لفظ حديث ابن نافع المتقدم سياق مشكل غير هذا يدل أن فيه تغييراً ليس هو وجه الكلام.
وفيه: تمرين الصغار على فعل الخير ورجاء نزول الرحمة بصومهم والأجر بذلك لأوليائهم والصبيان لا يلزمهم صوم ولا يخاطبون به حتى يبلغوا.
وقيل: إنهم مخاطبون بالطاعات على الندب وهذا لا يصح.
وروي عن عروة: أنهم متى أطاقوا الصوم وجب عليهم.
138 - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عن أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ ؛ أَنَّهُ قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -، فَجَاءَ فَصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَيْنِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، عن صِيَامِهِمَا: يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَالآخَرُ يَوْمٌ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " شهدت العيد مع عمر فصلى ثم انصرف فخطب" حجة في تقديم الصلاة على الخطبة وقد تقدم هذا.
__________
(1) قوله:" العهن " ليس في (ط).
(2) في (أ):" الفتا ".(4/430)
وقوله: " وهذان يومان نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامهما يوم فطركم والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم" فيه تعليم الإمام الناس(1) مناسكم في أوقاتهم وما يستحب له أن يبينه في خطبته كل عيد وفصل من سننه ومناسكه وقد أجمع العلماء على تحريم صيام هذين اليومين بأي وجه كان من تطوع أو نذر أو دخول في صوم واجب متتابع ثم اختلفوا فيمن نذرهما قاصداً لتعيينهما هل عليه قضاؤها(2) فذهب عامة العلماء إلى أنه لا يصومهما ولا يقضيهما وهو قول مالك وزفر وأحد قولي الشافعي وقيل عليه القضاء فيهما إلا أن يكون نوى ألا يقضيهما وهو أحد قولي الأوزاعي.
وذهب أبو حنيفة وصاحباه والشافعي والأوزاعي في أحد قوليهما إلى وجوب قضائهما واختلف قول مالك وأصحابه إذا لم يقصد تعيينهما وإنما نذر نذراً اشتمل عليهما أو نذر يوم يقدم فلان فصادفهما هل عليه فيهما قضاء أم لا قضاء عليه في ذلك أم عليه القضاء إلا أن ينوى أن لا قضاء أم ليس عليه حتى ينوي القضاء.
139 - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عن مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عن الأَعْرَجِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الأَضْحَى، وَيَوْمِ الْفِطْرِ.
__________
(1) في (هـ):" للناس ".
(2) في (هـ):" قضاؤهما ".(4/431)
140 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عن عَبْدِ الْمَلِكِ -وَهُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ -، عن قَزَعَةَ، عن أَبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ مِنْهُ حَدِيثًا فَأَعْجَبَنِي، فَقُلْتُ لَهُ: آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ: فَأَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا لَمْ أَسْمَعْ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ:« لا يَصْلُحُ الصِّيَامُ فِي يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الأَضْحَى، وَيَوْمِ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ ».
141 - وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عن أَبِيهِ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " يوم فطركم من صيامكم " والآخر " يوم تأكلون فيه من نسككم " أي أحدهما يوم فطركم على خبر المبتدأ، أو يوم فطركم أحدهما على البدل من: يومان وصفهما بما وصف ليبين العلة لفطرهما وهو الفضل من الصوم واشتهار تمامه وحده بفطر ما بعده والآخر لأجل النسك المتقرب بها فيه ليؤكل منها ولو كان يوم صوم لم يؤكل منها فيه ذلك اليوم فلم يكن لنحرها فيه معنى، وقيل: فطرهما شرع غير معلل. وقد استدل بعضهم بتخصيص هذين اليومين بالتحريم على أن أيام التشريق ليست محرمة مثلهما وأنها(1) دون حكمهما في الشدة ولهذا أبيح صيامهما للمتمتع. واختلف فيهما لغيره كما سنذكره.
__________
(1) في (هـ):" مثلها وأنهما ".(4/432)
142 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عن ابْنِ عَوْنٍ، عن زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَصُومَ يَوْمًا فَوَافَقَ يَوْمَ أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، عن صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ.
143 - وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، عن صَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ الأَضْحَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: إني نذرت أن أصوم يوماً فوافق يوم أضحى أو فطر فقال ابن عمر: " أمرالله بوفاء النذر ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صيام هذا اليوم ".
قال الإمام: توقف ابن عمر عن الفتوى تورعاً وأشار لتعارض(1) الأدلة، وقد اختلف فقهاء الأمصار في ناذر صوم يوم الفطر والأضحى، فالذي ذهب إليه مالك أنه لا ينعقد نذره ولا يلزمه قضاؤه ولا صومه.
__________
(1) في (ط):" لبعض ".(4/433)
وقال أبوحنيفة: يصوم يوماً آخر عوضاً عنه وإن صامه في نفسه مع النهي عن صومه أجزأه. ولنا عليه قوله عليه الصلاة والسلام " لا نذر في معصية " وصوم هذا اليوم معصية لثبوت النهي عنه واتفاق العلماء على ذلك وتعويض يوم آخر ليس من مقتضى لفظة نذر(1) فلا معنى لإلزامه إياه وإن كان قد وقع عندنا قولان فيمن نذر صوم ذي الحجة هل يقضي يوم النحر وقد يكون من أوجب القضاء من أصحابنا رأى أن النذر منعقد بإجماع فيما سوى يوم النحر 144 - وَحَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا خَالِدٌ، عن أَبِي الْمَلِيحِ، عن نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ »
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ يَعْنِي ابْنَ عُلَيَّةَ، عن خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، حَدَّثَنِي أَبُو قِلابَةَ، عن أَبِي الْمَلِيحِ، عن نُبَيْشَةَ، قَالَ خَالِدٌ: فَلَقِيتُ أَبَا الْمَلِيحِ فَسَأَلْتُهُ، فَحَدَّثَنِي بِهِ، فَذَكَرَ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ حَدِيثِ هُشَيْمٍ. وَزَادَ فِيهِ:« وَذِكْرٍ لِلَّهِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وما نهي عن صومه فأجرى يوم النحر الانعقاد مجرى ما سواه بحكم التتبع له وألزم تعويضه لما امتنع صومه بعينه بخلاف من جرد النذر ليوم النحر خاصة.
وقوله: في الباب عن نبيشة الهذلي وقع في نسخة ابن ماهان " الهذلية" على التأنيث ظنه اسم امرأة وهو وهم. ونبيشة: اسم رجل معروف في الصحابة وهو ابن عم سلمة بن المحبق الهذلي.
__________
(1) في (هـ):" لفظ نذره ".(4/434)
قال القاضي: هو نبيشة بضم النون وبالشين المعجمة بن عمرو بن عوف بن سلمة الهذلي سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبيشة الخير وبذلك يعرف ولا أعلم في النساء الصحابيات من يتسمى بهذا وإنما فيهم(1) نسيبة بتقديم السين المهملة ومنهنّ بضم النون ومنهن بفتحها معروفات.
قال الإمام: وقوله " أيام التشريق أيام أكل وشرب" تعلق(2) به أبو حنيفة في منع صيام أيام منى حتى للمتمتع الذي لا يجد الهدي، وما روى أنه نهى عن صيام أيام منى وخالفه مالك وأجاز له صومها لقوله تعالى:{ فصيام ثلاثة أيام في الحج} وهذه الآية نزلت يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة وشرط في القرآن أن يكون هذه الثلاثة الأيام في الحج فإذا صام التاسع وأفطر العاشر 145 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عن أَبِي الزُّبَيْرِ، عن ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عن أَبِيهِ ؛ أَنَّهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ وَأَوْسَ بْنَ الْحَدَثَانِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَنَادَى:« أَنَّهُ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا مُؤْمِنٌ، وَأَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ ».
وَحَدَّثَنَاه عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ ابْنُ عَمْرٍ، وَحَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَنَادَيَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للنهي عن صومه لم يبق له محل في الحج إلا أيام منى وذلك يقتضي حجة لما قال مالك.
__________
(1) في (هـ):" فيهن ".
(2) في (ط) و(هـ):" يتعلق ".(4/435)
قال القاضي: بقول مالك قال الشافعي والأوزاعي وإسحاق، وعن الشافعي كقول أبي حنيفة وروى عن بعض السلف صومها مطلقاً وفي المذهب عندنا خلاف فيمن نذرها أو نذر صوماً متصلاً قبلها وهو قول الأكثر هل يصومها أم لا؟ وأيام التشريق هي الثلاثة الأيام بعد يوم النحر [وقيل: بل أيام النحر سميت بذلك لتشريق الضحايا فيها وهو تقديدها ونشرها للشمس.
وقيل: بل لصلاة العيد عند شروق الشمس في أول يوم منها وهذا يعضد دخول يوم النحر فيها ويدل عليه أيضًا قوله في الحديث " أيام التشريق أيام أكل وشرب" وفي الرواية الأخرى " أيام منى ".
وقوله:" وذكر لله " يستفاد به الحجة للتكبير أيام العيد، وقد تقدم الكلام فيه.
146 - حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عن عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عن مُحَمَّدِ ابْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ الله عَنْهُمَا وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، أَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عن صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَنَّهُ سَأَلَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ الله عَنْهُمَا بِمِثْلِهِ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله نهى عن صيام يوم الجمعة، وفي الحديث الآخر [لا تخصوا يوم الجمعة بصيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم](1)، وفي الآخر" إلا أن يصوم قبله أو بعده".
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).(4/436)
قال الإمام: قال مالك في موطأه:" لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه".
قال الإمام: ذكر بعض الناس أنه محمد بن المنكدر. قال الداودي:لم يبلغ مالكاً هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه.
قال القاضي: أخذ بظاهر الحديث الشافعي ولعل قول مالك إليه يرجع لأنه إنما قال:" وصومه حسن" ومذهبه معلوم في كراهة تخصيص يوم ما بالصوم وهذا محتمل من معنى ما جاء في الحديث " لا تخصوه بصيام " عند بعضهم وإنما حكى(1) مالك عمن حكى صومه وظن أنه كان يتحراه ولم يقل مالك إني أرى هذا ولا أحبه أعني تحريه فيحتمل أنه مذهبه، قال المهلب: 147 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عن الأَعْمَشِ. ح، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى - وَاللَّفْظُ لَهُ -، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن الأَعْمَشِ، عن أَبِي صَالِحٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: « لا يَصُمْ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِلا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ ».
148 - وَحَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ يَعْنِي الْجُعْفِيَّ، عن زَائِدَةَ، عن هِشَامٍ، عن ابْنِ سِيرِينَ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الأَيَّامِ، إِلا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" حكى عن ".(4/437)
ووجه النهي عنه خشية أن يستمر عليه فيفرض أو خشية أن يلتزم الناس من تعظيمه ما التزمه اليهود والنصارى في سبتهم وأحدهم من ترك العمل وإليه(1) يرجع نهيه عن اختصاص قيام ليلتها وقد أشار الباجي إلى أن مذهب مالك هذا يحتمل قولة له أخرى في صيام يوم الجمعة توافق الحديث.
وقال الداودي في كتاب النصيحة: ما معناه أن النهي إنما هو عن تحريه واختصاصه دون غيره وأنه متى صام مع صومه(2) يوماً غيره فقد خرج عن النهي كان(3) ذلك اليوم قبله أو بعده إذلم يقل اليوم الذي يليه وقد يرجح ما قال(4) قوله في الحديث الآخر في الأم: " لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ولا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي "وذكر الطحاوي فيه معنى آخر جاء في أثر رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " يوم الجمعة يوم عيدكم فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده".
149 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بَكْرٌ يَعْنِي ابْنَ مُضَرَ، عن عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عن بُكَيْرٍ، عن يَزِيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ، عن سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ }، كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ حَتَّى نَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول: سلمة لما نزلت هذه الآية{وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين} كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها ونسختها وفي الرواية الأخرى حتى نزلت{فمن شهد منكم الشهر فليصمه}.
__________
(1) في (أ):" أ،ه ".
(2) في (ط):" صومته ".
(3) في (ط):" لأن ".
(4) في (ط) و(هـ):" قاله ".(4/438)
قال القاضي: اختلف السلف في قوله تعالى:{وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين} هل هي محكمة أو مخصوصة أو منسوخة كلها. أو منسوخ بعضها فذهب جمهورهم إلى ما قاله سلمة من نسخها.
ثم اختلفوا هل بقي منها ما لم ينسخ. فروي عن ابن عمر والحسن وجمهورهم أن حكم الإطعام باق على من لم يطق الصوم مِنْ كِبَر.
وقال مالك وجماعة من السلف وداود وأبو ثور: جميع الإطعام منسوخ وليس على الكبير إذا لم يطق الصوم إطعام.
وعن مالك أيضًا استحباب الإطعام له. وقال قتادة: إنما كانت الرخصة خاصة للكبير الذي يقدر على الصوم ثم نسخ ذلك عنه وبقيت للذي لا يطيق.
وقال ابن عباس وغيره: نزلت في الكبير والمريض لا يقدران على الصوم فهي على قوله محكمة ويعضدها(1) قراءة يَطوقونه أو يُطوقونه بفتح الياء وضمها 150 - حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ الْعَامِرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عن بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عن يَزِيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عن سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ - رضي الله عنه - ؛ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا فِي رَمَضَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ، فَافْتَدَى بِطَعَامِ مِسْكِينٍ حَتَّى أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي: يتكلفونه أو يكلفونه ولا يقدرون عليه إلا أن المريض يقضي إذا صح وأكثر العلماء على أنه لا إطعام على المريض وجعلوا المرضع والحامل مثلهما(2) إلا أنهم اختلفوا في قضاء الحامل والمرضع فقيل: يطعمان ويقضيان إذا زال عذرهما وهو أحد قولي الشافعي وجماعة وأحد أقوال مالك.
__________
(1) في (هـ):" ويعضده ".
(2) في (ط):" مثلها "، وفي (ه):" مثله ".(4/439)
[وقيل: يقضيان ولا يطعمان وهو قول أبي حنيفة وأحد أقوال مالك](1).
وقيل: عليهما الإطعام ولا قضاء وهو الذي روي عن ابن عمر وابن عباس وإسحاق.
وقيل: ليس على الحامل إطعام وهي كالمريض وتطعم المرضع وهو مشهور قول مالك وقاله أيضًا الشافعي. وقال إسحاق: إن شاءتا قضتا ولم تطعما أو(2) أطعمتا ولم تقضيا.
قال ابن القصار: وهذا كله إذا كان الخوف على ولديهما فأما إن خافا(3) على أنفسهما فلا يختلف المذهب في ذلك قالوا وهو الإجماع يريد إلا من(4) أوجب الفدية على المريض، وروي عن ابن شهاب أنها في المريض والمسافر خاصة ثم نسخت فألزموا القضاء حتماً وبطل الخيار.
151 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عن أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلا فِي شَعْبَانَ الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، أَوْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال زيد بن أسلم وابن شهاب ومالك الآية(5) محكمة وإنما نزلت في المريض يفطر ثم يبرأ فلا يقضي حتى يدركه رمضان آخر من قابل فعليه أن يصومه ثم يقضي بعد ما أفطر ويطعم عن كل يوم مُداً من حنطة. فأما من اتصل مرضه إلى رمضان آخر فليس عليه إطعام وعليه القضاء.
ومعنى " يطيقونه " على هذا القول أي يطيقون قضاء ما عليهم فلا يقضون إلى رمضان آخر، وذكر عن الحسن أن الهاء في يطيقونه عائدة على الإطعام والكفارة لا على الصوم ثم نسخ ذلك فهي عنده عامة.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (هـ).
(2) في (هـ):" وإن شاءتا ".
(3) في (هـ):" خافتا ".
(4) في (هـ):" لمن ".
(5) في (هـ):" الآية هنا ".(4/440)
وقال بعض السلف مثل هذا في عود الضمير على الإطعام وأنه خاصة في الكبير الهرم وهي عندهم محكمة غير منسوخة.
واختلف في مقدار الإطعام. فمالك وجمهور العلماء على مُدّ عن كل يوم.
وأبو حنيفة يقول: نصف صاع وقاله صاحباه.
وقال أشهب من أصحابنا: مد وثلث لغير أهل المدينة.
وجمهور العلماء على: أن المرض المبيح للفطر هو ما يشق معه الصوم أو يخشى زيادته بسبب الصوم هذا معنى مختلف ألفاظ أئمة الفتوى في ذلك. ويحكى عن فرقة أن كل مريض يباح له الصوم(1) كان مطيقاً له أو لا.
وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: فَظَنَنْتُ أَنَّ ذَلِكَ لِمَكَانِهَا مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. يَحْيَى يَقُولُهُ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ. ح، وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كِلاهُمَا عن يَحْيَى بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرَا فِي الْحَدِيثِ: الشُّغْلُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول عائشة: يكون عَلَيّ الصوم من رمضان فما أستطيع أقضيه(2) إلا في شعبان للشغل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) في (هـ):" الفطر ".
(2) في (هـ):" أن أقضيه ".(4/441)
فيه حجة على أن قضاء رمضان ليس واجباً على الفور خلافاً لداود في إيجابه من ثاني شوال وأنه آثم متى لم يصمه، وكذلك يقول فيمن وجبت عليه(1) رقبة وتعيينه في أول رقبة يمكنه ملكها أو ملكها حينئذ فإذا لم يكن على الفور فوقته موسع مقيد ببقية(2) السنة ما لم يدخل رمضان آخر كوقت الصلاة والإنسان مخير في إيقاع ذلك أي وقت شاء من الوقت لكن الاستحباب المبادرة وتقديم ذلك على غيره من صيام النفل كالصلاة. وبهذا قال الشافعي. والأصل فيه حديث عائشة هذا وأمرها غير خفي على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلو كان ما فعلته غير جائز لما أقرها.
152 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عن يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا ؛ أَنَّهَا قَالَتْ: إِنْ كَانَتْ إِحْدَانَا لَتُفْطِرُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَمَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَقْضِيَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَأْتِيَ شَعْبَانُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال بعض العلماء ولا يعصي بموته بعد مضي اليوم الثاني من شوال على شرط العزم وهذا أيضًا على ما قالوه في الصلاة لا سيما على قولنا وقول الشافعي إن الخطاب يتعين بها لأول الوقت.
وقال أبوبكر الرازي الحنفي: إنه لا يعصي إلى السنة المقبلة.
__________
(1) في (ط):" فيمن وجب ".
(2) في (أ):" بتقيد ".(4/442)
وقال أبو القاسم إلكياه(1) الهراسي(2) الشافعي هذا خلاف قول الجماعة، قال: وقد أجمعوا أنه لو مات قبل السنة على وجوب الفدية لا لكونه عاصياً كما تجب على الشيخ الكبير وعلى من مات أول يوم من شوال.
وقال أبو الحسن ابن القصار وغيره من شيوخنا إنه عاصٍ إذا أمكنه القضاء فلم يقض حتى دخل عليه رمضان آخر.
وقد اختلف العلماء في وجوب الفدية على المفرط في الفطر حتى دخل عليه رمضان آخر فمذهب مالك والشافعي ومعظمهم وجوبها عليه مداً لكل يوم.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه وراود إلى: أنه لا كفارة على المفرط.
وجمهورهم أنه إذا مرض بقية عامه فيه(3) ولم يفرط حتى دخل عليه رمضان آخر أنه لا فدية عليه.
153 - وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عن مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عن عُرْوَةَ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحكي عن بعض السلف عليه الفدية.
__________
(1) في (هـ):" الكياه "،، وفي حاشيتها:" الكباهي ".
(2) قوله:" الهراسي " ليس في (ط) و(هـ).
(3) قوله:" فيه " ليس في (أ) و(هـ).(4/443)
قال بعض شيوخنا: واختلف مذهبنا بما يكون به مفرطاً حتى يلزمه، فالذي عليه(1) البغداديون(2) منهم ومعظم الشيوخ أنه ليس بمفرط إلا بترك ذلك عند آخر السنة وبقية عدد تلك الأيام من شعبان ولو صح فيما مضى من سنته ثم جاءه ما منعه حتى دخل عليه رمضان آخر لم تلزمه كفارة. وقال بعضهم: أنه تراعى صحته أو إقامته من أول عامه فمن صح من شوال فما بعده مدة يمكنه فيها قضاء ما عليه فلم يفعل حتى جاء ما منعه حتى دخل عليه رمضان آخر فقد لزمه القضاء، ونحوه في المدينة وعلى هذين القولين ا ختلف تأويلهم على مذهب المدونة، قال بعض شيوخنا: فعله(3) على هذا مترقباً ليس على الفور ولا على التراخي فإن صحّ منه القضاء في شعبان وكان قادراً على تعجيله لم يكن عليه إطعام قال: والقياس إما أن يقال على الفور كالصلاة المنسية فمتى لم يفعل كان مفرطاً ووجبت عليه الفدية أو على التراخي فلا شيء عليه مما صح فيه أو أقامه عاش أو مات يعني حتى تضيق الوقت عليه بآخر العام كالصلاة المؤقتة.
واختلف في قضاء رمضان هل من شرطه التتابع وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين وأهل الظاهر.
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروي عن جماعة من الصحابة والتابعين وكافة علماء الأمصار أنه ليس من شرطه، ويجوز متفرقاً.
__________
(1) قوله:" فالذي عليه " ليس في (أ).
(2) في (أ):" فالبغداديون ".
(3) في (هـ):" فلعله ".(4/444)
وقولها: الشغل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - نص منها لعلة ذلك وارتفع الشغل هنا(1) بتقدير فعل. أي: منعني منه الشغل أو شغلني ونحوه وبيان في أن أمرها بتمادي الفطر غير خاف عنه عليه الصلاة والسلام وردّ على من ضعف تعليل حالها بذلك إذ هي نفسها قد أخبرت بذلك وعلة فطرها فسقط التأويل، وفيه ما يجب من حق الزوج ولا أعلم خلافاً في التنفل أن من حق الزوج منعها منه لحديث أبي هريرة " لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ".
قال بعض شيوخنا: وأما في قضاء رمضان فليس له منعها إلا باختيارها إذ لها حق في إبراء ذمتها.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن عائشة في هذا إنما فعلت ذلك للرخصة لا لأجل النبي عليه الصلاة والسلام وأن ذكر الشغل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قول يحيى لا من قول عائشة، وقد قاله البخاري: قال يحيى الشغل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي مسلم في حديث ابن رافع عن يحيى قال: فظننت أن ذلك لمكان النبي عليه الصلاة والسلام، ولسقوط هذه العلة جملة من رواية سفيان وغيره قالوا: وقد كان له عليه الصلاة والسلام نساء غيرها وكان يقسم بينهن أي فقد كانت تتفرغ لصومها.
قال القاضي: لكنه قد جاء في حديث ابن أبي عمر ما يدل أن العلة من
154 - وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عن مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، فَقَالَ:« أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ، أَكُنْتِ تَقْضِينَهُ ؟»، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ:« فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ):" عنها ".(4/445)
قولها فقالت: إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما تقدر أن تقضيه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يأتي شعبان. قالوا وفي هذا الحديث وشبهه أن منافع العشرة والمتعة من الزوجة متملكة(1) للزوج في عامة الأحوال وحقها في نفسها محصور(2) في وقت دون وقت وقد ذكر مسلم في كتاب الزكاة " لا تصم المرأة وبعلها شاهد" وهذا أصل في الباب ومحمول على مالم(3) يتعين عليها فرض صومه.
وقوله: " من مات وعليه صيام صام عنه وليه".
قال الإمام: أخذ بظاهر هذا الحديث أحمد وإسحاق وغيرهما وجمهور الفقهاء على خلاف ذلك ويتأولون الحديث على معنى إطعام الحي عن وليه إذا مات وقد فرّط في الصوم فيكون الإطعام قائماً مقام الصيام.
قال القاضي: فأما أحمد فإنما يخصص أن يصومه وليه عنه في النذر وهو قول الليث وأبي عبيد، وروي عن الشافعي وأما قضاء رمضان فلا عندهم ولكنه يطعم عنه واجباً من رأس ماله وهو مشهور قول مالك والشافعي في وجوب الإطعام عليهم من رأس ماله دون الصوم وهو قول كافة العلماء ومالك لا يوجب عليهم الإطعام إلا أن يوصى بذلك أو يتطوعوا وأجمعوا بغير 155 - وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْوَكِيعِيُّ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عن زَائِدَةَ، عن سُلَيْمَانَ، عن مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا ؟ فَقَالَ:« لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا ؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:« فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى ».
__________
(1) في (هـ):" متملك ".
(2) في (هـ):" مقصور ".
(3) قوله:" لم " ليس في (هـ).(4/446)
قَالَ سُلَيْمَانُ: فَقَالَ الْحَكَمُ وَسَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ جَمِيعًا: وَنَحْنُ جُلُوسٌ حِينَ حَدَّثَ مُسْلِمٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالا: سَمِعْنَا مُجَاهِدًا يَذْكُرُ هَذَا، عن ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عن سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَمُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا الْحَدِيثِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خلاف أنه لا يصلي أحد عن أحد في حياته ولا موته. وأجمعوا أنه لا يصوم أحد عن أحد في حياته وإنما الخلاف في ذلك بعد موته وقد خرج النسائي من رواية ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة " وذكر الترمذي من رواية ابن عمر "من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه وليه مكان كل يوم مسكيناً " وإذا تعارضت الأحاديث رجع إلى قوله تعالى:{وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}.(4/447)
156 - وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي خَلَفٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَن زَكَرِيَّاءَ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ عَبْدٌ: حَدَّثَنِي زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عن زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا ؟ قَالَ:« أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ، أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكِ عَنْهَا ؟»، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ:« فَصُومِي عن أُمِّكِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذكر مسلم: في الباب الأحاديث المروية عن ابن عباس" أن أمي ماتت وعليها صوم شهر" الحديث إلى قوله " فدين الله أحق بالقضاء " وذكر اختلاف الروايات(1) فيه وزيادة ابن أبي أنيسة عن الحكم فيه قولها: " صوم نذر" وقد ذكر البخاري حديث ابن عباس هذا واضطراب الرواية فيه. وقول من قال فيه: " أن أختي ماتت " وقول من قال:" وعليها خمسة عشر يوماً " وقول من قال:" صوم نذر" وقول من قال: " جاء رجل" وكثرة الاضطراب فيه عن مسلم البطين، وعن من فوقه وغيرهم.
__________
(1) في (أ):" الروايتين ".(4/448)
وذكر الدارقطني ذلك(1) وقول من قال فيه " صوم شهرين متتابعين " وقد ذكر البخاري حديث أبي خالد الأحمر معلقا ولم يسنده وذكر مسلم حديث أبي سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن سلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة، ومسلم البطين عن سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء عن ابن عباس ووهم الدارقطني أبا خالد الأحمر في هذا الحديث لمخالفته رواية(2) الأعمش فيه كما قد ذكر مسلم وقال:وقد بين زائدة في روايته الوجه الذي دخل عليه الوهم منه 157 - وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ أَبُو الْحَسَنِ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عن أَبِيهِ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ، قَالَ: فَقَالَ:« وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ»، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ ؛ أَفَأَصُومُ عَنْهَا ؟ قَالَ: «صُومِي عَنْهَا »، قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ ؛ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا ؟ قَالَ:« حُجِّي عَنْهَا ».
158 - وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عن عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عن أَبِيهِ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: صَوْمُ شَهْرَيْنِ.
__________
(1) في (هـ):" مثل ذلك ".
(2) في (ط):" رواه ".(4/449)
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عن عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ، عن ابْنِ بُرَيْدَةَ، عن أَبِيهِ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَ بِمِثْلِهِ، وَقَالَ: صَوْمُ شَهْرٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أعني على أبي خالد وهو قول زائدة في حديثه قال سليمان فقال الحكم وسلمة بن كهيل جميعاً ونحن جلوس حين حدّث(1) يعني البطين بهذا الحديث فقالا سمعنا مجاهداً يذكر هذا عن ابن عباس، وقال الترمذي: سألت محمداً يعني البخاري عن هذا الحديث فقال جوده أبو خالد الأحمر واستحسن حديثه جداً وقد رواه بعض أصحاب الأعمش كذلك.
قال القاضي: وقد ذكر مسلم من رواية زيد بن أبي أنيسة عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بمعناه(2) فوافق أبا خالد الأحمر.
وَحَدَّثَنِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عن سُفْيَانَ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: صَوْمُ شَهْرَيْنِ.
وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ الْمَكِّيِّ، عن سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عن أَبِيهِ - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ، وَقَالَ:« صَوْمُ شَهْرٍ ».
__________
(1) في (أ) و(هـ):" حدث به ".
(2) في (ط):" معناه ".(4/450)
159 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عن أَبِي الزِّنَادِ، عن الأَعْرَجِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: رِوَايَةً، وَقَالَ عَمْرٌو: يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَالَ زُهَيْرٌ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ ؛ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في الحديث " حجي عنها " هذا أيضًا مما اختلف العلماء فيه هل يلزم حج الولي عن وليه إذا عجز أم لا يلزم أو يجوز أو لا يجوز؟. ومذهبنا أنه لا يلزم عن ذي العذر واختلف هل يجوز لأنه عمل له تعلق بالمال أو(1) يكره له ابتداءً فإن أوصى به أنفذت وصيته به واختلف أصحابنا في ذلك اختلافاً كثيراً وسيأتي مستوعباً في كتاب الحج واضطراب حديث ابن عباس يسقط الحجة به أو يحمل على ما جاء مفسراً بقوله: صوم نذر وهو حجة أحمد لكن يكون حكمه عند الجمهور على ما تقدم من فعل الخير بالمال(2) عنه فيقوم مقام ما لم يوف به من نذره وتنبيه البخاري ومسلم على مختلف رواياتها واضطراب رواتها للتعليل لها.
وقوله:" إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل إني صائم".
160 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عن أَبِي الزِّنَادِ، عن الأَعْرَجِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - - رِوَايَةً - قَالَ:« إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا فَلا يَرْفُثْ وَلا يَجْهَلْ، فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" و ".
(2) في (هـ):" بالمال له ".(4/451)
قال الإمام: أعمال النوافل يستحب إخفاؤها غالباً ولكن دعت الضرورة لذكر هذا فيها على جهة العذر لئلا يحدث بتخلفه تشاجراً(1) وبغضاً إذا كان المراد أن يقول ذلك نطقاً ليعذر به.
قال القاضي: فيه حجة أنه ليس للمتنفل إفساد نيته وفطر يومه لغير عذر ولو كان الفطر مباحاً له ابتداءً لم يرشده إلى العذر بصومه وسنذكره وفيه الحض على حسن المعاشرة وحسن الصحبة ومراعاة الألفة وحسن الاعتذار.
وقوله: في الحديث الآخر " فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم" وقوله:" فلا يرفث ولا يجهل ". الرفث: السخف والفحش من الكلام. والجهل مثله، يقال منه: رفث بالفتح، يرفث بالضم والكسر، ورفث بالكسر يرفث بالفتح، رفثا ساكنة في المصدر، ورفثا محركة في الاسم، ويقال: أرفث أيضًا.
وقوله: في الحديث الآخر:" ولا يصخب" بمعناه هو اختلاط الأصوات وكثرة الكلام مع رفع الصوت. يقال: بالسين والصاد. وعند الطبري:" ولا يسخر" وهو من السخرية بالناس والأول هو المعروف، وقد يكون بالقول وبالفعل(2) ومعنى قاتله أي: دافعه ونازعه ويكون بمعنى شاتمه ولاعنه وقد جاء القتل بمعنى اللعن.
161- وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ هُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ! لَخُلْفَةُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" تشا ".
(2) في (هـ):" في الفعل ".(4/452)
وقد اختلف في معنى قوله في هذا الحديث: " فليقل إني صائم" أهو على وجهه كما تقدم وِليُسمع ذلك مُشَاتِمَه ليعلم اعتصامه بالصوم فلا يؤذيه.
قال الإمام: ويحتمل أن يكون المراد به أن يخاطب بذلك نفسه على جهة الزجر لها عن السباب والمشاتمة.
قال القاضي: وقد جاء الحديث في مصنف النسائي مفسراً قال: ينهى بذلك عن مراجعة الصائم وقد جاء هنا لفظ المشاتمة والمقاتلة وهي لا تكون إلا من اثنين. فقيل معناه هنا: إن امرؤ أراد هذا(1) منه فليمتنع وأيضًا فإن المفاعلة قد تجيء لفعل الواحد كقوله: سافر وعالج الأمر وعافاه الله أيضًا فقد تكون على وجهه أي إن بدأ ذلك منهما فليرجع إلى نفسه ويذكرها بصومه فيكف.
وقوله: " الصيام جنة" أي ستر ومانع من الرفث والآثام أو مانع من النار وساتر منها أو مانع من جميع ذلك ومنه" المجن" للترس الذي يستتر به. ومنه: سميت الملائكة والشياطين جناً لاستتارهم عن أعين الناس ورؤيتهم(2). وفي بعض الروايات:" فلا يصخب" وهو من معنى يجهل، والصخب بالسين والصاد: الصياح. ورواه الطبري:" فلا يسخر" بالراء ومعناه صحيح ؛ لأن السخرية بالقول والفعل كله من الجهل وبمعناه. وقد ذهب الأوزاعي إلى أن السبّ 162 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالا: حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ - وَهُوَ الْحِزَامِيُّ -، عن أَبِي الزِّنَادِ، عن الأَعْرَجِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« الصِّيَامُ جُنَّةٌ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والغيبة يفطران الصائم وخص النهي عن الرفث والجهل هنا وهو في كل حال منهي عنه لتأكيد حق الصوم ولتضعيف الإثم بفعل ذلك فيه لإهانته حق الشهر ومراعاة(3) الصوم، أو لئلا يفسد صومه على مذهب من يراه.
__________
(1) قوله:" هذا " ليس في (هـ).
(2) في (ط):" زيادته ".
(3) في (هـ):" أو مراعاة ".(4/453)
وقوله:" كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به".
قال الإمام: تخصيصه الصوم(1) هاهنا بقوله " لي " وإن كانت أعمال البر المخلصة كلها له تعالى لأجل أن الصوم لا يمكن فيه الرياء كما يمكن في غيره من الأعمال لأنه كف وإمساك وحال الممسك شبعا أو فاقة كحال الممسك تقربا وإنما القصد وما يبطنه القلب هو المؤثر في ذلك والصلوات والحج والزكوات أعمال بدنية ظاهرة يمكن فيها الرياء والسمعة فلذلك خص الصوم بما ذكره دونها.
قال القاضي: وقال أبو عبيد: معناه أنا أتولى جزاءه إذ لا يظهر فتكتبه الحفظة إذ ليس من أعمال الجوارح الظاهرة وإنما هو نية وإمساك فأنا أجازي به من التضعيف على ما أحب، وفي قوله: " الصوم لي" وتخصيصه بيان عظم فضله وكثرة ثوابه، ويدل عليه قوله: " أنا أجزي به".
وقال الخطابي قوله: "لي" أي ليس للصائم فيه حظ قال وقيل: إن الاستغناء عن الطعام من صفات الله تعالى فكأنه يتقرب إلى الله بما يتعلق بشبه(2) صفة من صفاته وإن كان تعالى لا شبه له في صفاته.
__________
(1) في (هـ):" للصوم ".
(2) في (ط):" بسببه ".(4/454)
163 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عن أَبِي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ، وَلا يَسْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ! لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: فيه تخصيص الصوم وتشريفه بإضافته إليه تعالى كما قال: بيت الله، والكل(1) لله تعالى.
وقيل: "لي" أي(2) المنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته كما قال:" وأنا أجزي به".
قال: وغيره من الحسنات اطلعت على مقادير أجورها كما قال " كل حسنة بعشر أمثالها" الحديث، والصوم موكول إلى سعة جوده وغيب علمه كما قال تعالى:{إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}.
وقوله: " لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" هكذا الرواية الصحيحة، بضم الخاء وكثير من الشيوخ يروونه بفتحها.
قال الخطابي: وهو خطأ وحكى عن القابسي فيه: الفتح والضم. وقال: أهل المشرق يقولونه بالوجهين.
__________
(1) في (ط):" والبيت ".
(2) قوله:" أي " ليس في (هـ).(4/455)
164 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ، عن الأَعْمَشِ. ح، وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عن الأَعْمَشِ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عن أَبِي صَالِحٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام: قال الهروي يقال خلف فوه إذا تغير يخلف خلوفاً ومنه حديث علي وسئل عن قبلة الصائم قال: وما أربك إلى خلوف فيها ويقال: نومة الضحى مخلفة للفم.أي:مغيرة.
قال القاضي: وذكر مسلم من بعض الطرق " لخلفة" وهو صحيح المعنى اسم ما خلف في الفم والخلوف: مصدر قال صاحب الأفعال: خلف فوه وأخلف.
قال الباجي: قال البرقي هو تغير طعم الفم وريحه لتأخر الطعام، وقال: وليس هذا على أصل مالك إنما هو على مذهب الشافعي، وإنما هو تغير ريح الفم بما يحدث من خلو المعدة بترك الأكل.
قال القاضي: احتج الشافعي بالثناء على الخلوف لمنع(1) السواك بعد نصف النهار وهو وقت وجود الخلوف ؛ لأن السواك يذهبه وفي بقائه من الأجر والفضل ما لا يجب عنده إزالته.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" فمنع ".(4/456)
165 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عن أَبِي سِنَانٍ، عن أَبِي صَالِحٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: إِنَّ الصَّوْمَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، إِنَّ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَيْنِ: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ اللَّهَ فَرِحَ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ! لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ».
وَحَدَّثَنِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سَلِيطٍ الْهُذَلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ضِرَارُ بْنُ مُرَّةَ - وَهُوَ أَبُو سِنَانٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ - قَالَ: وَقَالَ: «إِذَا لَقِيَ اللَّهَ فَجَزَاهُ فَرِحَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذهب مالك إلى جوازه في النهار كله لأنه عنده إن كان من المعدة فلا يذهبه السواك وأيضًا فإن جعلنا الكلام في الثناء على الخلوف استعارة وتنبيهاً على فضل الصوم لا على نفس الخلوف فذهابه وبقاؤه سواء.
وقد اختلف التأويل في معنى قوله" لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".
قال الإمام:هو مجاز واستعارة ؛ لأن استطابة بعض الروائح من صفات الحيوان الذي له طبائع تميل إلى شيء فتستطيبه وتنفر عن آخر فتستقذره والله تعالى يتقدس عن ذلك لكن جرت العادة فينا بتقريب الروائح الطيبة منا واستعير ذلك في الصوم لتقريبه من الله.
قال القاضي: وقيل يجزيه الله في الآخرة حتى تكون نكهته أطيب من ريح المسك كما قال في المكلوم في سبيل الله" الريح ريح مسك".(4/457)
166 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ وَهُوَ الْقَطَوَانِيُّ، عن سُلَيْمَانَ ابْنِ بِلالٍ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لا يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ ؟ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: بل ينال صاحبها من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك عندنا لاسيما بالإضافة إلى الخلوف وهما ضدان، وقيل يعتد بها وتدخر على ما هي عليه أكثر مما يعتد بريح المسك لصاحبه وأيضًا فتكون رائحتها عند ملائكة الله أطيب من المسك وإن كانت عندنا نحن بخلافه.
وقال الداودي: يثاب عليها ما لا يثاب على رائحة المسك إذا تطيب به للصلاة والجمعة.
وقوله:"للصائم فرحتان فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربه" أما فرحته عند لقاء ربه فبينة لما يراه من الثواب وحسن الجزاء كما قال في الرواية الأخرى: " إذا لقي الله فجزاه فرح" وأما عندإفطاره فلتمام عبادته وسلامتها من الفساد وما يرجوه من ثوابها وقد يكون معناه: لما طبعت النفس عليه من الفرح بإباحة لذة الأكل وما منع منه الصائم وحاجته إلى ذهاب ألم الجوع عنه وهو ظاهر في بعض الروايات إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه.
وخالد بن مخلد القطواني بفتح القاف والطاء معاً قال البخاري والكلاباذي معناها: البقال كأنهم نسبوه إلى بيع القطنية.(4/458)
167 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ، عن ابْنِ الْهَادِ، عن سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عن النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلا بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عن النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا ».
وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ، عن سُهَيْلٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الباجي: هي قرية على باب الكوفة، وقاله أبو ذر أيضًا وفي(1) تاريخ البخاري أيضًا أن قطوان موضع.
وقوله:" إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون" من معنى ما تقدم قبل في الحديث الآخر، وفيه أن أبواب(2) الجنة حق غير مجاز ويؤكده قوله: " فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد" نوع من الكرامة لهم والاختصاص كما اختصوا به حتى لا يزاحموا فيه(3) وإن كانت لا مزاحمة في الحقيقة في أبواب الجنة لسعتها وأنه ليس بموضع ضرر(4) ولا عنت(5) ولا نصب، وجاء(6) في رواية عبدالغافر الفارسي "إذا دخل أولهم أغلق" وهو وهم.
وقوله: في فضل الصوم في سبيل الله " باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً " مبالغة في الإخبار عن البعد عنها والمعافات منها. والخريف: يعبر به عن السنة، والمراد مسيرة سبعين خريفاً وكثيراً ما جاءت السبعون عبارة عن التكثير واستعارة للنهاية في العدد قال الله تعالى:{إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم }.
__________
(1) في (هـ):" وقال في ".
(2) قوله:" أبواب " ليس في (هـ).
(3) قوله:" فيه " ليس في (هـ).
(4) في (ط):" ضر ".
(5) في (هـ):" تعب ".
(6) في (هـ):" وقد جاء ".(4/459)
168 - وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ قَالا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عن يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَسُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ: أَنَّهُمَا سَمِعَا النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيَّ يُحَدِّثُ عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاعَدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عن النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا ».
169 - وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ، عن عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ:« يَا عَائِشَةُ ! هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟» قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ، قَالَ:« فَإِنِّي صَائِمٌ »، قَالَتْ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ، أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ، قَالَتْ: فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ، أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ، وَقَدْ خَبَأْتُ لَكَ شَيْئًا، قَالَ:« مَا هُوَ ؟» قُلْتُ: حَيْسٌ، قَالَ:« هَاتِيهِ »، فَجِئْتُ بِهِ فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ:« قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا ».
قَالَ طَلْحَةُ: فَحَدَّثْتُ مُجَاهِدًا بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: ذَاكَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يُخْرِجُ الصَّدَقَةَ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/460)
وقوله عليه الصلاة والسلام لنسائه(1)" هل عندكم من شيء؟ فقالوا(2): لا " فقال إني صائم" ثم ذكر أنه أتى يوماً آخر فقلنا يا رسول الله: أهدي لنا حيس وذكر أنه أكل منه وقال:" قد كنت أصبحت صائما" هذا الحديث يفسر الآخر الذي لم يذكر فيه: أن القصة في يومين وهذا الحديث مما يحتج به من يجيز 170 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عن طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عن عَمَّتِهِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عن عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ:« هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟»، فَقُلْنَا: لا، قَالَ:« فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ »، ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ: « أَرِينِيهِ، فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا فَأَكَلَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط):" عائشة "، وكذا في حاشية (هـ)..
(2) في (ط):" فقالت "، وكذا في حاشية (هـ).(4/461)
صيام النافلة بغير تبييت وإحداث ذلك داخل(1) نهاره. وقد ذكرنا الخلاف في هذا قبل ولا حجة لهم في هذا الحديث إذ يحتمل أن سؤاله أولاً هل عندكم شيء؟ إما أنه(2) ضعف عن الصوم فاحتاج إلى الفطر فسأل فلما لم يجد بقي على صومه أو يسأل عن ذلك وهو صائم ليعلم هل عندهم ما يحتاجه عند الإفطار فتسكن نفسه إليه ولا يشقى(3) في تكلفه واكتسابه أو تعلق باله به، أو يكون: " إني صائم" بمعنى: لم آكل بعد شيئاً وعلى الوجه الأول والثالث يتأول أكله في اليوم الثاني مع قوله " أصبحت صائماً" فإنه أيضًا مما يحتج به المخالف في جواز الفطر في صوم النافلة اختياراً وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وجماعة من الصحابة مع استحبابهم له إتمامه من غير وجوب، وكرهه ابن عمر وقال: هو كالمتلاعب بدينه وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والحسن والنخعي ومكحول وألزموا إتمامه إذا دخل فيه، ثم اختلفوا في القضاء
فقال: ما أباح له الفطر لا قضاء عليه.
وقال أبو حنيفة عليه القضاء في كل فطر في التطوع إلا في الناسي على أصلهم في الفريضة وأوجبه ابن علية في المتعمد والناسي.
171 - وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عن هِشَامٍ الْقُرْدُوسِيِّ، عن مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال مالك إن أفطر مغلوباً أو ناسياً أو لعذر فلا قضاء عليه، وإن أفطر متعمداً قضاه وحكى مثله عن أبي حنيفة وأبي ثور.
__________
(1) في (هـ):" داخلة ".
(2) في (هـ):" لأنه ".
(3) في (أ):" يسعى "، وكذا في حاشية (هـ).(4/462)
واختلف أصحاب أبي حنيفة فمنهم من قال بقوله هذا ومنهم من قال مثل قول الشافعي وحكى(1) ابن عبدالبر الإجماع على المفطر لعذر أن لا قضاء عليه خلاف ما حكيناه عن أبي حنيفة قبل مما حكاه ابن القصار وغيره.
قال الإمام: حجة مالك في قضاء المتعمد في فطره حديث عائشة وحفصة في الموطأ.وقوله:" فاقضيا يوما مكانه" وحجته في منعه ابتداءً قوله تعالى:{ ولا تبطلوا أعمالكم } واتفق مالك والشافعي أن(2) من دخل في حج تطوعاً فإنه لا يقطعه واختلفا في صلاة التطوع وصوم التطوع فمنع مالك قطعهما وأجازه الشافعي لهذا الحديث وتعلق مالك بالظواهر المانعة من قطع العمل وإبطاله وقياساً(3) على الحج.
قال القاضي وقولها:" أهديت لنا هدية" أو " جاءنا زور وقد خبأت لك شيئاً ". أي: زائرون أتحفونا بما جلبوه من باديتهم أو تكلفنا لهم طعاماً أو أهدى لنا بسبب نزولهم وإلا فلا فائدة إذا لذكر الزور ولا لقولها:" خبأت لك يا رسول الله شيئاً ".
......................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام: زور أي زوار. وقال ابن دريد وغيره هو مما يكون الواحد والجماعة سواء في نعته، قال الشاعر:
كما يتهادى(4) الفتيات الزُّور
وقولها:" حيس" قال الهروي: هي ثريدة من أخلاط قال ابن دريد: هو التمر مع الأقط والسمن. قال الشاعر:
التمر والسمن جيمعاً والأقط الحيس إلا أنه لم يختلط.
قال القاضي: وقد قيل إن الزور المصدر وبه سمي الواحد والاثنان والجميع كما قالوا: رجل صوم وقوم صوم ورجل عدل ونحوه للخطابي وفيه نظر المرأة في بيتها وما يهدى لها(5) وقسمته على من تراه من أهل البيت بنظرها.
وقوله:" من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإن الله أطعمه وسقاه".
__________
(1) في (هـ):" وحكى عن ".
(2) في (هـ):" على أن ".
(3) في (هـ):" قياسًا ".
(4) في (هـ):" تهادى ".
(5) في (هـ):" له ".(4/463)
قال الإمام: تعلق المخالف في إسقاط القضاء عن من أكل في رمضان ناسياً بظاهر هذا الخبر ومحمله عند المالكية الموجبين للقضاء على نفي الحرج والإثم بنسيانه والصوم على خمسة أقسام: واجب بإيجاب الله معين كرمضان، وواجب بإيجاب الله مضمون في الذمة كالكفارات، وواجب بإيجاب الإنسان معين كنذر الصوم لشهر معين(1)، وواجب بإيجاب الإنسان مضمون غير معين كنذر صوم شهر بغير عينه(2)، والخامس التطوع فمن أفطر في جميعها عمداً فإنه يقضي ولا يكفر إلا(3) رمضان فإنه يكفر ويقضى ومن أفطر في جميعها سهواً فإنه يقضي ولا يكفر إلا(1) التطوع فإنه لا يقضي ولا يكفر.
172 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عن سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عن عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا: هَلْ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ شَهْرًا مَعْلُومًا سِوَى رَمَضَانَ ؟ قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنْ صَامَ شَهْرًا مَعْلُومًا سِوَى رَمَضَانَ حَتَّى مَضَى لِوَجْهِهِ، وَلا أَفْطَرَهُ حَتَّى يُصِيبَ مِنْهُ.
173 - وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ، عن عَبْدِاللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ شَهْرًا كُلَّهُ ؟ قَالَتْ: مَا عَلِمْتُهُ صَامَ شَهْرًا كُلَّهُ إِلا رَمَضَانَ، وَلا أَفْطَرَهُ كُلَّهُ حَتَّى يَصُومَ مِنْهُ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ - صلى الله عليه وسلم -.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" بعينه ".
(2) في (هـ):" لغير معين ".
(3) في (هـ):" إلا في ".(4/464)
قال القاضي: وقد تقدم شيء من الكلام على هذه المسألة قبل وقول مجاهد في هذا الحديث وذلك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله فإن شاء أمضاها وإن شاء أمسكها، فيه أنها إنما تجب بالخروج من اليد أو بالنذر والقول.
وقوله: " أنه عليه الصلاة والسلام ما صام شهراً معلوماً سوى رمضان حتى مضى لوجهه ولا أفطره حتى يصيب منه" أي يصوم منه وفيما وقع في الحديث الآخر يصوم منه معينا(1)ً ويفسر هذا قوله في الحديث الآخر: " ما استكمل صيام شهر قط إلا رمضان" وكذلك يفسر قوله " كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلاً" فالكلام الثاني تفسير للأول(2) وعبر بالكل عن الغالب والأكثر.وقد قيل معناه ما استكمل شهراً قط بالصيام إلا رمضان يعني معيناً ولازماً(3) وأن ما ورد ما ظاهره استكمال شعبان أي غير معين وملازم بل مرة أكمله ومرة لم يكمله. وقد يحتمل هذا قوله كان يصوم شعبان كله كان 174 - وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عن أَيُّوبَ وَهِشَامٍ، عن مُحَمَّدٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ حَمَّادٌ - وَأَظُنُّ أَيُّوبَ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ - قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا، عن صَوْمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ صَامَ قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَفْطَرَ قَدْ أَفْطَرَ، قَالَتْ: وَمَا رَأَيْتُهُ صَامَ شَهْرًا كَامِلاً مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إِلا أَنْ يَكُونَ رَمَضَانَ.
__________
(1) في (هـ):" مبينًا ".
(2) في (هـ):" الثاني يفسر الأول ".
(3) قوله:" ولازمًا " ليس في (أ) و(ط).(4/465)
وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عن أَيُّوبَ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الإِسْنَادِ هِشَامًا وَلا مُحَمَّدًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يصوم شعبان إلا قليلاً أي مرة كذا ومرة كذا(1) لئلا يتعين بصومه غير رمضان ويأتي بمثل ما تقدم من الأحاديث، وقيل معنى يصومه كله أي يصوم في أوله ووسطه وآخره لا يخص شيئاً منه ولا يعمه بصيامه، وقيل في معنى اختصاصه بأكثر صومه له(2) وتخصيصه إياه بشعبان معان ثلاث.
قيل: ذلك لفضل رمضان وتعظيمهوروي في ذلك حديث.
وقيل: بل لما جاء في الحديث أنه ترفع فيه الأعمال لله وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إني(3) أحب أن يرفع عملي وأنا صائم".
وقيل: بل كان عليه الصلاة والسلام يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فربما شغله عنها أو منعه العذر عن بعضها فيقضيها في شعبان قبل تمام عامه.
__________
(1) في (ط):" كذا ومرة كذا ".
(2) قوله:" له " ليس في (ط) و(هـ).
(3) قوله:" إني " ليس في (أ).(4/466)
وقيل: في معنى ما جاء في الحديث الآخر من صومه - عليه السلام - حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول(1) لا يصوم وتركه عليه الصلاة والسلام اختصاص أيام 175 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عن أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ.
176 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، جَمِيعًا عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عن ابْنِ أَبِي لَبِيدٍ، عن أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا عن صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَفْطَرَ، وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلا قَلِيلاً.
__________
(1) قوله:" نقول " ليس في (ط).(4/467)
177 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي، عن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الشَّهْرِ مِنَ السَّنَةِ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ، وَكَانَ يَقُولُ:« خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا »، وَكَانَ يَقُولُ:« أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلَّ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالصيام لئلا يلتبس ذلك بالفرائض ويعده من جهل منها فكان يخالف ويصوم في وقت يفطره في حال آخر.
وفيه: أن نوافل الصوم غير مختصة بوقت بل سائر السنة وقت لها إلا الأيام المنهي عن صومها، ورمضان المستحق بالفرض.
178 - حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عن أَبِي بِشْرٍ، عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: مَا صَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَهْرًا كَامِلاً قَطُّ غَيْرَ رَمَضَانَ، وَكَانَ يَصُومُ إِذَا صَامَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: لا وَاللَّهِ لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ إِذَا أَفْطَرَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: لا وَاللَّهِ لا يَصُومُ .
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، عن غُنْدَرٍ، عن شُعْبَةَ، عن أَبِي بِشْرٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: شَهْرًا مُتَتَابِعًا مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ.(4/468)
179 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ. ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ الأَنْصَارِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، عن صَوْمِ رَجَبٍ وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ فِي رَجَبٍ، فَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لا يَصُومُ.
وَحَدَّثَنِيهِ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ. ح، وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كِلاهُمَا عن عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ فِي هَذَا الإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ.
180 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي خَلَفٍ قَالا: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عن ثَابِتٍ، عن أَنَسٍ - رضي الله عنه -. ح، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عن أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَصُومُ حَتَّى يُقَالَ: قَدْ صَامَ، قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى يُقَالَ: قَدْ أَفْطَرَ، قَدْ أَفْطَرَ.(4/469)
181 - حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ يُحَدِّثُ، عن يُونُسَ، عن ابْنِ شِهَابٍ. ح، وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؛ أَنَّهُ يَقُولُ: لأَقُومَنَّ اللَّيْلَ، وَلأَصُومَنَّ النَّهَارَ مَا عِشْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: « آنْتَ الَّذِي تَقُولُ ذَلِكَ ؟»، فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« فَإِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ »، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ:« صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ »، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:« صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ - عليه السلام -، وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ »، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ »، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ الله عَنْهُمَا: لأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ الثَّلاثَةَ الأَيَّامَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/470)
وسؤاله عليه الصلاة والسلام لعبدالله بن عمرو بن العاص عن صومه الدهر وقراءته للقرآن كل ليلة وإنكاره عليه ذلك ما كان عليه من الرفق بأمته وتحبيب الإيمان لهم وتسهيله عليهم وتزيينه(1) في صدورهم وخوفه العجز عن ذلك أو ضعف الجسم عن ما هو آكد من الفرائض أو أعظم أجراً من النوافل ألا ترى ابن عمرو كيف قال في بعض هذا الحديث حين كبر: " وددت لو كنت قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأهلي ومالي أو خوف الملل لكثرته ويبينه 182 - وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ابْنُ الرُّومِيُّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ - وَهُوَ ابْنُ عَمَّارٍ -، حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَتَّى نَأْتِيَ أَبَا سَلَمَةَ، فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِ رَسُولاً فَخَرَجَ عَلَيْنَا، وَإِذَا عِنْدَ بَابِ دَارِهِ مَسْجِدٌ، قَالَ: فَكُنَّا فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: إِنْ تَشَاءُوا أَنْ تَدْخُلُوا، وَإِنْ تَشَاءُوا أَنْ تَقْعُدُوا هَا هُنَا، قَالَ: فَقُلْنَا: لا، بَلْ نَقْعُدُ هَا هُنَا، فَحَدِّثْنَا قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ أَصُومُ الدَّهْرَ، وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ، قَالَ: فَإِمَّا ذُكِرْتُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ لِي:« أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ »، فَقُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! وَلَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ إِلا الْخَيْرَ، قَالَ:« فَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ »، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:« فَإِنَّ لِزَوْجِكَ
__________
(1) في (هـ):" وتدبيبَهُ ".(4/471)
عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا »، قَالَ: فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ »، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ ؟ قَالَ: كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، قَالَ:« وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ »، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:« فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ »، قَالَ: قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:« فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ »، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:« فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ، وَلا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا »، قَالَ: فَشَدَّدْتُ، فَشُدِّدَ عَلَيَّ، قَالَ: وَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّكَ لا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمْرٌ »، قَالَ: فَصِرْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ لِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.(4/472)
183 - وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَزَادَ فِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ:« مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ »:« فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَذَلِكَ الدَّهْرُ كُلُّهُ ». وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ قُلْتُ: وَمَا صَوْمُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ ؟ قَالَ:« نِصْفُ الدَّهْرِ »، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْئًا، وَلَمْ يَقُلْ:« وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلَكِنْ قَالَ:« وَإِنَّ لِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله في الحديث الآخر:" لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل وتركه(1)" ولقوله: " فإن الله لا يمل حتى تملوا " وقد قال تعالى ذاماً لقوم:{ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها} الآية على أحد التأويلين في الآية أو لمجموع هذه العلل فقد نبه في الحديث الآخر على ذلك بقوله:" هجمت عيناك " أي غارتا ودخلتا " ونقهت(2) نفسك" أي أعيت وكقوله في الحديث الآخر: " نهكت" أي ضعفت وبلغ بك الجهد منتهاه ولحقوق غيره المتعلقة به من الأهل وحقها في الوطئ نهاراً أو ليلاً وحق زوره وهو ضيفه من خدمته وتأنيسه بالأكل وحق ولده كما جاء في الحديث وكذلك(3) اكتسابه لهم وإنفاقه عليهم وقد يدخل الولد وغيره في قوله:" إن لأهلك عليك حقا " كما جاء في الرواية الأخرى.
__________
(1) في (ط):" فتركه "، وفي (هـ):" ثم تركه".
(2) في (ط):" ونبهت ".
(3) في (ط):" وذلك ".(4/473)
وقوله:" أسرد " أي أصل(1) وأوالي ومضى الكلام على قوله:" إن الله لا يمل حتى تملوا " في كتاب الصلاة وقيل: إن في(2) قوله عليه الصلاة والسلام عند 184 - حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عن شَيْبَانَ، عن يَحْيَى، عن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى بَنِي زُهْرَةَ، عن أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: وَأَحْسَبُنِي قَدْ سَمِعْتُهُ أَنَا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« اقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ »، قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً، قَالَ:« فَاقْرَأْهُ فِي عِشْرِينَ لَيْلَةً »، قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً، قَالَ:« فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ، وَلا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ ».
185 - وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عن الأَوْزَاعِيِّ قِرَاءَةً قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عن ابْنِ الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« يَا عَبْدَ اللَّهِ ! لا تَكُنْ بِمِثْلِ فُلانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" أواصل ".
(2) قوله:" في " ليس في (هـ).(4/474)
ذكره صوم داود يوما وفطره يوما ثم وصل به " وكان(1) لا يفر إذا لاقى " تنبيهاً على هذا أنه لم يضعفه هذا عن لقاء عدوه لأنه يستعين بيوم فطره على يوم صومه ولهذا قال فيه: "وكان أعبد الناس" وقال عبدالله: من لي بهذه؟ أي الصبر عند اللقاء وقال فيه: " وهو أعدل الصيام وأحب الصيام إلى الله" وقال فيه: " لا أفضل من ذلك" وإلى ظاهر هذا ذهب أهل الظاهر من منع صيام الدهر لهذا الحديث ولقوله: " لا صام من صام الأبد(2)" والجمهور على جواز صيامه إذا لم يصم الأيام المنهي عنها، ويحتمل أن قوله:" لا أفضل من ذلك " للمخاطب لما علم من حاله ومنتهى قدر قوته وأن ما هو أكثر من ذلك يضعفه عن فرائضه ويقعد به عن حقوق نفسه.
__________
(1) قوله:" كان " ليس في (ط).
(2) في (أ):" الدهر ".(4/475)
186 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً يَزْعُمُ: أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ أَخْبَرَهُ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ الله عَنْهُمَا يَقُولُ: بَلَغَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنِّي أَصُومُ أَسْرُدُ، وَأُصَلِّي اللَّيْلَ، فَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ، وَإِمَّا لَقِيتُهُ، فَقَالَ:« أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ وَلا تُفْطِرُ، وَتُصَلِّي اللَّيْلَ، فَلا تَفْعَلْ، فَإِنَّ لِعَيْنِكَ حَظًّا، وَلِنَفْسِكَ حَظًّا، وَلأَهْلِكَ حَظًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَصَلِّ وَنَمْ، وَصُمْ مِنْ كُلِّ عَشْرَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، وَلَكَ أَجْرُ تِسْعَةٍ»، قَالَ: إِنِّي أَجِدُنِي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! قَالَ:« فَصُمْ صِيَامَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلام »، قَالَ: وَكَيْفَ كَانَ دَاوُدُ يَصُومُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! قَالَ: كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلا يَفِرُّ إِذَا لاقَى »، قَالَ: مَنْ لِي بِهَذِهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ !
قَالَ عَطَاءٌ: فَلا أَدْرِي كَيْفَ ذَكَرَ صِيَامَ الأَبَدِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« لا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ، لا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ، لا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ ».
وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَقَالَ: إِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ أَخْبَرَهُ، قَالَ مُسْلِم: أَبُو الْعَبَّاسِ السَّائِبُ بْنُ فَرُّوخَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ثِقَةٌ عَدْلٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/476)
قال الإمام: وقوله " لا صام من صام الأبد" يحتمل أن يكون ذلك على وجه الدعاء ويحتمل أن يكون هنا " لا" بمعنى: لم. كما قال:{فلا صدق ولا صلى} وأما الأبد المذكور هاهنا فقيل: محملة على أن يدخل في صومها الأيام المنهي عن صومها كالعيدين وأيام التشريق والأشبه عندنا في التأويل أن يكون محمولاً على أنه لم يضر به ذلك ألا تراه قال: " فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونهكت نفسك".
187 - وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن حَبِيبٍ سَمِعَ أَبَا الْعَبَّاسِ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو ! إِنَّكَ لَتَصُومُ الدَّهْرَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ، وَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ وَنَهَكَتْ، لا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ، صَوْمُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ، صَوْمُ الشَّهْرِ كُلِّهِ »، قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:« فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلا يَفِرُّ إِذَا لاقَى ».
وَحَدَّثَنَاه أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ بِشْرٍ، عن مِسْعَرٍ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ:« وَنَفِهَتِ النَّفْسُ ».(4/477)
188 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عن عَمْرٍو، عن أَبِي الْعَبَّاسِ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ »، قُلْتُ: إِنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ، قَالَ: فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنَاكَ، وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ، لِعَيْنِكَ حَقٌّ، وَلِنَفْسِكَ حَقٌّ، وَلأَهْلِكَ حَقٌّ، قُمْ وَنَمْ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: ومعنى قوله" أحب الصيام" أي أكثره ثواباً وأعظمه أجراً، وقوله في هذا الحديث من رواية عبدالله بن الرومي في قراءة القرآن " فاقرأه في كل عشرين" قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك قال: " فاقرأه في سبع" كذا لعامة شيوخنا وكثير من شيوخ مسلم.ووقع في كتاب ابن أبي جعفر وابن عيسى زيادة قال: " فاقرأه في عشر" قال: قلت يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك قال: " فاقرأه في سبع" ذهب كثير من العلماء إلى هذا 189 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عن عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عن عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَأَحَبَّ الصَّلاةِ إِلَى اللَّهِ صَلاةُ دَاوُدَ - عليه السلام -، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/478)
لقوله(1) عليه الصلاة والسلام " ولا تزد " واختار بعضهم ختمه في ثلاث لا في أقل للأثر الوارد في ذلك وهو اختيار أبي عبيد واختار بعضهم في خمس، وروي عن بعضهم أنه كان يختمه في ثمان، وبعضهم في ست، وبعضهم في كل ليلة، وروي عن بعضهم أكثر من ذلك. وكل بحسب اجتهاده وقوته.
وقوله: في الحديث الآخر " صم يوماً ولك أجر ما بقي" قال: إني أطيق أكثر من ذلك قال:" صم يومين ولك أجر ما بقي" ثم قال مثله في الثلاثة والأربعة. قال بعضهم معنى هذا صم يوماً ولك أجر ما بقي من العشر، وصم يومين ولك أجر ما بقي من العشرين، وفي الثلاثة ما بقي من الشهر. ويأتي في هذا كله الحسنة بعشر أمثالها قال ولا يصح أن يكثر العمل وينقص الأجر لو أخذ الحديث على ظاهره وأن له في كل ذلك أجر ما بقي من الشهر وإلى هذا نحا الخطابي.
__________
(1) في (هـ):" بقوله ".(4/479)
قال القاضي: ويضعف هذا التأويل ما زاده مسلم من قوله: " صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي" ولم يبق من الشهر بعد الثلاث شيء والذي يحتمل عندي في الحديث أن يكون على ظاهره أي(1) لك أجر ما بقي من الشهر في جميعها ؛ لأن نيته كانت صوم جميعه فمنعه منه ما حضه(2) عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من 190 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ أَخْبَرَهُ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -:« قَالَ أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ نِصْفَ الدَّهْرِ، وَأَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَلاةُ دَاوُدَ - عليه السلام - كَانَ يَرْقُدُ شَطْرَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَقُومُ، ثُمَّ يَرْقُدُ آخِرَهُ، يَقُومُ ثُلُثَ اللَّيْلِ بَعْدَ شَطْرِهِ»، قَالَ: قُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَعَمْرُو بْنُ أَوْسٍ كَانَ يَقُولُ: يَقُومُ ثُلُثَ اللَّيْلِ بَعْدَ شَطْرِهِ ؟ قَالَ نَعَمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإبقاء على نفسه وحقوق زوره وأهله فبقي أجر نيته في صومه سواء صام منه يوماً أو اثنين أو ثلاثة كما تأولوه في قوله عليه الصلاة والسلام:" نية المؤمن خير من عمله" أي أن أجره في نيته أكثر من أجر عمله لامتداد نيته بما لا يقدر على عمله.
وقوله: " فألقيت له وسادة فجلس على الأرض" فيه إكرام الداخل(3) والضيف وذي الفضل وإيثاره وما كان عليه عليه الصلاة والسلام(4) من التواضع وأنه كان لا يحب الأثرة.
__________
(1) في (هـ):" أن يكون ".
(2) في (هـ):" خصه ".
(3) في (أ):" الرجل ".
(4) في (هـ):" والسلام عليه ".(4/480)
وقوله: في هذا الحديث " أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام" ثم لما راجعه قال: " خمساً " ثم قال: " سبعاً " ثم قال:" تسعاً" ثم قال:" أحد عشر" في كل هذا دليل على إيثار الوتر ومحبته في جميع الأمور ثم رجوعه إلى صيام يوم وإفطار يوم فيه الوتر لأنه خمسة عشر يوماً من كل شهر.
وقوله في الحديث الآخر في صوم يوم وفطر يومين:" وددت إني طوقت ذلك" قيل وجهه في حق غيره لا يعجز(1) نفسه فقد كان عليه الصلاة والسلام 191 - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عن خَالِدٍ، عن أَبِي قِلابَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْمَلِيحِ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِيكَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَحَدَّثَنَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ذُكِرَ لَهُ صَوْمِي، فَدَخَلَ عَلَيَّ فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَجَلَسَ عَلَى الأَرْضِ، وَصَارَتِ الْوِسَادَةُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَقَالَ لِي:« أَمَا يَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ »، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ:« خَمْسًا »، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ:« سَبْعًا »، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ:« تِسْعًا »، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ:« أَحَدَ عَشَرَ »، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« لا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُدَ، شَطْرُ الدَّهْرِ، صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يواصل ويقول:" إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني " لكن قال هذا لما يلزمه من حقوق نسائه أو يكون هذا التمني لغيره من أمته.
__________
(1) في (هـ):" لعجز ".(4/481)
وقوله: كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام. أما صيامه ثلاثة أيام من كل شهر فلما ذكر صيام ثلاثة أيام من كل شهر ورمضان إلى رمضان صيام الدهر وذلك أن الحسنة بعشر أمثالها وبصيام ثلاثة أيام من كل شهر. قال جماعة من السلف والعلماء ولم يكد يختلفون في ذلك ما لم يعين(1) تلك الأيام.
وقوله: ولم يكن يبالي من أي أيام الشهر صام لئلا يخص والله أعلم بمراد نبيه يوماً فيحسبه الجهلة فرضاً كما خشي في غير هذا وغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي سأله عن صومه لتكليفه إياه ما يشق عليه الجواب عنه أو يكرهه لأنه إن أعلمه بصومه فلعله يعتقد تقليده فيه والتزامه ويلحق بالفرض ما ليس منه(2) أو يعرفه منه مما لا يقدر عليه فيتكلف من ذلك ما يشق عليه أو يكون ذلك أقل 192 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عن شُعْبَةَ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن زِيَادِ بْنِ فَيَّاضٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عِيَاضٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ:« صُمْ يَوْمًا، وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ »، قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:« صُمْ يَوْمَيْنِ، وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ »، قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:« صُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ »، قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:« صُمْ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ »، قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:« صُمْ أَفْضَلَ الصِّيَامِ عِنْدَ اللَّهِ، صَوْمَ دَاوُدَ - عليه السلام -، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا ».
__________
(1) في (أ):" يعين ".
(2) في (هـ):" بفرض ".(4/482)
193 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، جَمِيعًا عَن ابْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« يَا عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو ! بَلَغَنِي أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ، فَلا تَفْعَلْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَظًّا، وَلِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَظًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَظًّا، صُمْ وَأَفْطِرْ، صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَذَلِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ بِي قُوَّةً، قَالَ: فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ - عليه السلام -، صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا »، فَكَانَ يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي أَخَذْتُ بِالرُّخْصَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مما يقدر من الصوم ويسوغ له ما لا يلزمه النبي عليه الصلاة والسلام لحقوق غيره فيقصر عن فضائل كثيرة ويعتقد أنه لا يسوغ له أن يصوم أكثر مما يصومه النبي عليه الصلاة والسلام.
194 - حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عن يَزِيدَ الرِّشْكِ قَالَ: حَدَّثَتْنِي مُعَاذَةُ الْعَدَوِيَّةُ ؛ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ كَانَ يَصُومُ ؟ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُومُ.(4/483)
195 - وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ، حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ- وَهُوَ ابْنُ مَيْمُونٍ -، حَدَّثَنَا غَيْلانُ بْنُ جَرِيرٍ، عن مُطَرِّفٍ، عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا ؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ: أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَسْمَعُ يَا فُلانُ ! أَصُمْتَ مِنْ سُرَّةِ هَذَا الشَّهْرِ، قَالَ: لا، قَالَ:« فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ ».(4/484)
196 - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، جَمِيعًا عَن حَمَّادٍ قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عن غَيْلانَ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيِّ، عن أَبِي قَتَادَةَ: رَجُلٌ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: كَيْفَ تَصُومُ ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ - رضي الله عنه - غَضَبَهُ قَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ، فَجَعَلَ عُمَرُ - رضي الله عنه - يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلامَ حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ ؟ قَالَ:« لا صَامَ وَلا أَفْطَرَ »، أَوْ قَالَ:« لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ ». قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا ؟ قَالَ:« وَيُطِيقُ ذَلِكَ أَحَدٌ»، قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا ؟ قَالَ: ذَاكَ صَوْمُ دَاوُدَ - عليه السلام -»، قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ ؟ قَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي طُوِّقْتُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« ثَلاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ ».(4/485)
197 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لابْنِ الْمُثَنَّى -قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن غَيْلانَ بْنِ جَرِيرٍ سَمِعَ عَبْدَاللَّهِ بْنَ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيَّ، عن أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن صَوْمِهِ، قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه -: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَبِبَيْعَتِنَا بَيْعَةً، قَالَ: فَسُئِلَ عن صِيَامِ الدَّهْرِ، فَقَالَ: لا صَامَ وَلا أَفْطَرَ »، أَوْ:« مَا صَامَ وَمَا أَفْطَرَ »، قَالَ: فَسُئِلَ عن صَوْمِ يَوْمَيْنِ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ، قَالَ:« وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ ؟»، قَالَ: وَسُئِلَ عن صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمَيْنِ، قَالَ:« لَيْتَ أَنَّ اللَّهَ قَوَّانَا لِذَلِكَ »، قَالَ: وَسُئِلَ عن صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ، قَالَ:« ذَاكَ صَوْمُ أَخِي دَاوُدَ - عليه السلام -، قَالَ: وَسُئِلَ عن صَوْمِ يَوْمِ الاثْنَيْنِ، قَالَ:« ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ »، قَالَ: فَقَالَ:« صَوْمُ ثَلاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ، صَوْمُ الدَّهْرِ»، قَالَ: وَسُئِلَ عن صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَقَالَ:« يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ »، قَالَ: وَسُئِلَ عن صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ:« يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ ».
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ قَالَ: وَسُئِلَ عن صَوْمِ يَوْمِ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَسَكَتْنَا عن ذِكْرِ الْخَمِيسِ لَمَّا نُرَاهُ وَهْمًا .(4/486)
وَحَدَّثَنَاه عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ. ح، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، كُلُّهُمْ عن شُعْبَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلالٍ، حَدَّثَنَا أَبَانُ الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا غَيْلانُ بْنُ جَرِيرٍ فِي هَذَا الإِسْنَادِ بِمِثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ الاثْنَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْخَمِيسَ.
189 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، عن غَيْلانَ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيِّ، عن أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن صَوْمِ الاثْنَيْنِ، فَقَالَ:« فِيهِ وُلِدْتُ، وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ ».
199 - حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عن ثَابِتٍ، عن مُطَرِّفٍ وَلَمْ أَفْهَمْ مُطَرِّفًا مِنْ هَدَّابٍ، عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ أَوْ لآخَرَ:« أَصُمْتَ مِنْ سُرَرِ شَعْبَانَ ؟»، قَالَ: لا، قَالَ:« فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " أصمت من سرة هذا الشهر" ؟ وفي الرواية الأخرى: " من سرر هذا الشهر" يعني شعبان فقال:لا.(4/487)
قال الإمام: وظاهر هذا الحديث مخالف لقوله: " لا تقدموا الشهر بيوم ولا يومين" فيصح أن يحمل هذا على أن الرجل كان ممن اعتاد الصيام في سرر الشهر أو نذر ذلك وخشي أن يكون إذا صام آخر شعبان دخل(1) في النهي فيكون فيما قال عليه الصلاة والسلام دليل على أنه لا يدخل في هذا الذي نهى عنه من تقدم الشهر بالصوم وأن المراد بالنهي من هو على غير حالته.
قال الإمام: قال أهل اللغة السرار: ليلة يستسر الهلال يقال سرار الشهر وسراره وسرره(2).
200 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عن الْجُرَيْرِيِّ، عن أَبِي الْعَلاءِ، عن مُطَرِّفٍ، عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِرَجُلٍ:« هَلْ صُمْتَ مِنْ سُرَرِ هَذَا الشَّهْرِ شَيْئًا ؟»، قَالَ: لا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« فَإِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ رَمَضَانَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: وأنكر بعضهم ما قال أبو عبيد:أن سرر(3) الشهر آخره حين يستسر الهلال وقال: لم يأت في صيام آخر الشهر من شعبان حض، والسرار من كل شيء: وسطه.
وقال أبو داود عن الأوزاعي سره أوله ولم يعرف الأزهري سره أوله.
قال الهروي: والذي يعرف الناس أن سره آخره. وكذا رواه الخطابي عن الأوزاعي أيضًا من غير طريق أبي داود: سره آخره. يقال: سراره وسرره(4) وسره ويعضد قول من قال إنه وسطه رواية من روى في الحديث المتقدم من رواية عبدالله بن محمد بن أسماء الضبعي " سرته" وعند شيخنا القاضي الشهيد في حديث ابن أبي شيبة في الباب " سرره" بالضم ولغيره بالكسر " والسرر" جمع سره وسرارة والوادي وسطه وخبر موضع فيه.
__________
(1) في (ط):" داخل ".
(2) في (هـ):" وسريره ".
(3) في (هـ):" سرير ".
(4) في (هـ):" سريره ".(4/488)
وقال ابن السكيت: سرار الأرض أكرمها ووسطها، وسرار كل شيء: وسطه وأفضله وقد يكون سرر الشهر من هذا أي أفضل أيامه. وقد جاء في حديث جرير بن عبدالله البجلي وأبي هريرة وأبي ذر وغيرهم:" ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر: الأيام البيض، صبيحة ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر". وهي الغر وهي وسط الشهر على اختلاف ألفاظهم، وعلى أن الثلاثة أيام من كل شهر هي الأيام البيض تأول البخاري الحديث(1) وترجم
201 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن ابْنِ أَخِي مُطَرِّفِ ابْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرِّفًا يُحَدِّثُ، عن عِمْرَانَ ابْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِرَجُلٍ:« هَلْ صُمْتَ مِنْ سُرَرِ هَذَا الشَّهْرِ شَيْئًا »، يَعْنِي شَعْبَانَ، قَالَ: لا، قَالَ: فَقَالَ لَهُ:« إِذَا أَفْطَرْتَ رَمَضَانَ فَصُمْ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ »، شُعْبَةُ الَّذِي شَكَّ فِيهِ، قَالَ: وَأَظُنُّهُ قَالَ: «يَوْمَيْنِ ».
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، وَيَحْيَى اللُّؤْلُؤِيُّ قَالا: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَانِئِ ابْنِ أَخِي مُطَرِّفٍ فِي هَذَا الإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" في الحديث ".(4/489)
عليها بذلك وإن لم يدخلها مفسرة وبتعيين صيام هذه الأيام البيض قال جماعة من الصحابة والتابعين منهم عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبو ذر واختاره آخرون آخره منهم: النخعي، واختار آخرون الثلاثة من أول الشهر منهم: الحسن. واختار آخرون صيام السبت والأحد والاثنين في شهر ثم الثلاثاء والأربعاء والخميس منهم عائشة واختار آخرون الاثنين والخميس. وفي حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم ثلاثة من كل شهر: أول اثنين والخميس الذي(1) بعده والخميس الذي يليه. وعن أم سلمة: أول خميس والاثنين والاثنين(2). واختار بعضهم: صيام أول يوم من الشهر، ويوم العاشر، ويوم العشرين. وبه قال(3) أبو الدرداء. وروى أنه كان صيام مالك، واختاره(4) ابن شعبان. وروى عنه كراهة تعمد صيام الأيام البيض، وقال: ما هذا ببلدنا وقال ابن شعبان: أفضل صيام التطوع أول يوم من الشهر ويوم أحد عشر ويوم إحدى وعشرين. والمعروف من مذهب مالك كراهة تعين أيام مخصوصة للنفل وأن يجعل الرجل على نفسه يوماً أو شهراً يلتزمه من صيامه.
202 - حَدَّثَنِي قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عن أَبِي بِشْرٍ، عن حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ ».
__________
(1) قوله:" الذي " ليس في (أ).
(2) قوله:" والاثنين " ليس في (هـ).
(3) في (ط) و(هـ):" عمل ".
(4) في (ط):" وأجازه ".(4/490)
203 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عن عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عن مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عن حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يَرْفَعُهُ قَالَ: سُئِلَ أَيُّ الصَّلاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ، وَأَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَقَالَ:« أَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ الصَّلاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ ».
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عن زَائِدَةَ، عن عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ فِي ذِكْرِ الصِّيَامِ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الخطابي: ويحتمل أن سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا عن صيام سرر الشهر سؤال زجر وإنكار.(4/491)
قال القاضي: والأظهر في تفسير سرار الشهر أنه: آخره بدليل قوله عليه الصلاة والسلام:" فإذا أفطرت من رمضان فصم يوماً أو يومين" والشهر المشار إليه هو: شعبان كذا جاء مفسراً في الأم وغيرها وإن كان وقع في البخاري فيه: أنه رمضان فهو وهم بين من راويه(1) ولأن صوم رمضان كله مستحق لا يختص بسرره دون غيره ولو كان السرر أول شعبان أو وسطه لم يفته قضاؤها في بقيته ولم يحتج أن ينتظر تمام صيام رمضان فالأظهر أنها آخر أيامه على ما قال أبو عبيد، وأكثرهم. وإن كان يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك في 204 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَن إِسْمَاعِيلَ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ، عن عُمَرَ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْحَارِثِ الْخَزْرَجِيِّ، عن أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انسلاخه أو بعد تمامه لا سيما على رواية: " أصمت من سرر شعبان شيئاً ؟" وقول مسلم في آخر حديث ابن مثنى وابن بشار، وفي هذا الحديث من رواية شعبة: " وسئل عن صوم الاثنين والخميس فسكتنا عن ذكر الخميس لما نراه وهما " يعني لقوله: " فيه ولدت وفيه بعثت أو أنزل عليّ " وهذا إنما هو في صوم الاثنين كما جاء في الروايات الأخر(2) ليس فيه ذكر للخميس فلما كان في رواية شعبة من هذا الطريق الاثنين والخميس أسقط مسلم الخميس إذ رآه وهماً لما تقدم وقد يحتمل عندي صحة هذه الرواية ويرجع الوصف بما ذكر للاثنين وحده دون الخميس.
__________
(1) في (هـ):" رواته ".
(2) في (هـ):" الرواية الأخرى ".(4/492)
وقوله:« من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر »:
قال الإمام: قال بعض أهل العلم: معنى ذلك: أن الحسنة لما كانت بعشر أمثالها،كان مبلغ ماله من الحسنات فى صوم الشهر، والستة(1) أيام ثلاثمائة وستين حسنة،[ عدد أيام السنة، فكأنه صام سنة كاملة، يكتب له فى كل يوم منها حسنة ](2).
قال القاضى: ما حكاه(3) عن بعض أهل العلم نص فى الحديث نفسه من رواية ثوبان، قال - عليه السلام -:« صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة
وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ - أَخُو يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ -، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ثَابِتٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ بِمِثْلِهِ.
وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عن سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أَيُّوبَ - رضي الله عنه - يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بشهرين، فذلك صيام سنة ». وفى رواية أخرى:« الحسنة بعشر، فشهر بعشرة، وستة(4) بعد الفطر تمام ا لسنة » خرجه النسائى.
__________
(1) في (هـ):" الشهر والستة ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) في (هـ):" حكاه الإمام ".
(4) في (هـ):" وسنة ".(4/493)
قال الإمام (1): أخذ بهذا الحديث جماعة من العلماء، وروى عن مالك وغيره كراهة ذلك لما ذكره فى موطئه: أنه لم ير أحدا من أهل الفقه والعلم يصومها، ولم يبلغنى ذلك عن أحد من السلف، وأهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء. قال شيوخنا: ولعل مالكًا إنما كره صومه على هذا، وأن يعتقد من يصومه أنه فرض، وأما من صامه على الوجه الذى أراد(2) النبى - عليه السلام - فجائز، وقال بعضهم: لعل الحديث لم يبلغه أو لم يثبت عنده، أو لما وجد العمل بخلافه.
قال القاضي: ويحتمل أن كراهة ما كره من ذلك، وأخبر أنه(3) غير معمول به اتصال هذه الأيام برمضان إلا فضل يوم الفطر، فأما لو كان صومها فى شوال من غير تعيين ولا اتصال ومبادرة ليوم الفطر فلا، وهو(4) ظاهر كلامه بقوله فى صيام ستة أيام بعد الفطر.
205 - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عن نَافِعٍ، عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا ؛ أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ».
206 - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ ».
__________
(1) قوله:" قال الإمام " ليس في (ط).
(2) في (هـ):" أراده ".
(3) في (ط):" ذلك وإجزائه ".
(4) في (ط):" فقال وهو ".(4/494)
207 - وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عن الزُّهْرِيِّ، عن سَالِمٍ، عن أَبِيهِ - رضي الله عنه - قَالَ: رَأَى رَجُلٌ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« أَرَى رُؤْيَاكُمْ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، فَاطْلُبُوهَا فِي الْوِتْرِ مِنْهَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحاديث ليلة القدر
سميت ليلة القدر بما تقدر فيها من الأقدار، وما يكون فى تلك السنة من الأرزاق والآجال لقوله:{ تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر}(1)، ولقوله:{ فيها يفرق كل أمر حكيم }، وقيل: المراد بهذه الآية الآخرة: النصف من شعبان، ومعنى ذلك - والله أعلم - إظهار ما قدره الله فى أزله(2) من ذلك لحملة وحيه وملائكة سمواته، ونفوذ أمره بذلك لهم ووحيه، أو(3) إظهار ما شاء من أفعاله الدالة على ذلك عندهم، وإلا فقدر الله وسابق علمه بالآجال والأرزاق وقضاؤه بما كان ويكون لا أول له. وقيل: سماها بليلة القدر، أي ذات القدر العظيم، والمحل الشريف كما قال:{ وما 208 - وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ أَبَاهُ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ:« إِنَّ نَاسًا مِنْكُمْ قَدْ أُرُوا أَنَّهَا فِي السَّبْعِ الأُوَلِ، وَأُرِيَ نَاسٌ مِنْكُمْ أَنَّهَا فِي السَّبْعِ الْغَوَابِرِ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْغَوَابِرِ».
__________
(1) في (ط):" الآية ".
(2) في (ط):" أوله ".
(3) في (هـ):" و ".(4/495)
209 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن عُقْبَةَ - وَهُوَ ابْنُ حُرَيْثٍ -، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ- يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ- فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ، فَلا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي ».
210 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن جَبَلَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا يُحَدِّثُ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ:« مَنْ كَانَ مُلْتَمِسَهَا فَلْيَلْتَمِسْهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ ».
211 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عن الشَّيْبَانِيِّ، عن جَبَلَةَ وَمُحَارِبٍ، عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: « تَحَيَّنُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، أَوْ قَالَ: فِي التِّسْعِ الأَوَاخِرِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أدراك ما ليلة القدر ( ليلة القدر خير من ألف شهر }، وكما قال:{ إنا أنزلناه في ليلة مباركة } فسماها بهذا لنزول القرآن جملة فيها إلى سماء الدنيا وثبات خيرها ودوامه، وهو معني البركة.(4/496)
قال الإمام: جاء فى حديث أبى سعيد:" التمسوها فى العشر الأواخر من رمضان "، و" التمسوها فى كل وتر " و " التمسوها فى التاسعة والسابعة 212 - حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى قَالا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أَيْقَظَنِي بَعْضُ أَهْلِي فَنُسِّيتُهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْغَوَابِرِ ».
و قَالَ حَرْمَلَةُ فَنَسِيتُهَا.
213 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بَكْرٌ وَهُوَ ابْنُ مُضَرَ، عن ابْنِ الْهَادِ، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُجَاوِرُ فِي الْعَشْرِ الَّتِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ حِينِ تَمْضِي عِشْرُونَ لَيْلَةً، وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ يَرْجِعُ إِلَى مَسْكَنِهِ، وَرَجَعَ مَنْ كَانَ يُجَاوِرُ مَعَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ أَقَامَ فِي شَهْرٍ جَاوَرَ فِيهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَ يَرْجِعُ فِيهَا، فَخَطَبَ النَّاسَ فَأَمَرَهُمْ بِمَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ:« إِنِّي كُنْتُ أُجَاوِرُ هَذِهِ الْعَشْرَ، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أُجَاوِرَ هَذِهِ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ، فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَبِتْ فِي مُعْتَكَفِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَأُنْسِيتُهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي كُلِّ وِتْرٍ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ ».(4/497)
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: مُطِرْنَا لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فِي مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَقَدِ انْصَرَفَ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ وَوَجْهُهُ مُبْتَلٌّ طِينًا وَمَاءً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والخامسة، قال أبو سعيد: إذا مضت واحدة وعشرون فالتى تليها ثنتان وعشرون وهى التاسعة، وإذا مضت ثلاث وعشرون فالتى تليها السابعة، 214 - وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ -، عن يَزِيدَ، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - ؛ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُجَاوِرُ فِي رَمَضَانَ الْعَشْرَ الَّتِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَلْيَثْبُتْ فِي مُعْتَكَفِهِ. وَقَالَ: وَجَبِينُهُ مُمْتَلِئًا طِينًا وَمَاءً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/498)
جعل أبو سعيد فى ظاهر تأويله التاسعة ليلة اثنين وعشرين، والسابعة ليلة أربع وعشرين، وهذا على تمام الشهر، وتأول غيره الحديث على أن التاسعة ليلة إحدى وعشرين، والسابعة ليلة ثلاث وعشرين. قال بعضهم(1): وهذا إنما يصح على أن الشهر(2) ناقص، وقيل: إنما يصح أن لسبع بقين سواها، وقد روى فى بعض الأحاديث:« في تاسعة تبقى »، و« سابعة تبقى »، و«خامسة تبقى »، وهذا يصح تأويله على نقصان الشهر إذا كان المطلوب 215 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ الأَنْصَارِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ يُحَدِّثُ عن أَبِي سَلَمَةَ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ:« إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ، قَالَ: فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ، فَدَنَوْا مِنْهُ، فَقَالَ:« إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ، فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ، قَالَ: وَإِنِّي أُرْبِئْتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ، وَإِنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي طِينٍ وَمَاءٍ، فَأَصْبَحَ مِنْ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَقَدْ قَامَ إِلَى الصُّبْحِ، فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ، فَأَبْصَرْتُ الطِّينَ وَالْمَاءَ، فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ
__________
(1) في (ط):" قيل " بدل:" قال بعضهم ".
(2) في (هـ):" أنها لشهر ".(4/499)
وَجَبِينُهُ وَرَوْثَةُ أَنْفِهِ فِيهِمَا الطِّينُ وَالْمَاءُ، وَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنَ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوتر، والأحاديث مختلفة، وقد قيل: إنها تختلف باختلاف الأعوام، وقد تقدم القول فيه.
قال القاضى(1): ذكر مسلم الأحاديث بأمر النبي - عليه السلام - بالتماسها فى العشر الأواخر من رمضان، وأنه كان أعلمها فأنسيها، وذكر من حديث أبى بن كعب: أنها ليلة سبع وعشرين، وفى حديث عبد الله بن أنيس: ليلة ثلاث وعشرين، وذكر حديث(2) أبى سعيد المتقدم، ومثله عن ابن عباس فى كتاب البخاري،[ وذكر من حديثه أيضًا ليلة إحدى وعشرين ](3)، وذكر ابن مسعود:" من يقم الحول يصب ليلة القدر "، وجاء أنه كان يلتمسها - عليه السلام - فى العشر الوسط قبل أن تبان له، وجاء فى غير مسلم فى حديث ابن عمر:" التمسوها في السبع الأواخر "، وهذا يخرج منها ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين إذا عد على الكمال.
__________
(1) قوله:" قال القاضي " ليس في (أ).
(2) في (هـ):" في حديث ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).(4/500)
216 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عن يَحْيَى، عن أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَأَتَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ - رضي الله عنه -، وَكَانَ لِي صَدِيقًا، فَقُلْتُ: أَلا تَخْرُجُ بِنَا إِلَى النَّخْلِ، فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ، فَقُلْتُ لَهُ: سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، اعْتَكَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَشْرَ الْوُسْطَى مِنْ رَمَضَانَ، فَخَرَجْنَا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ، فَخَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:« إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَإِنِّي نَسِيتُهَا، أَوْ أُنْسِيتُهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ كُلِّ وِتْرٍ، وَإِنِّي أُرِيتُ أَنِّي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ، فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلْيَرْجِعْ، قَالَ: فَرَجَعْنَا وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً، قَالَ: وَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمُطِرْنَا حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، قَالَ: حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. ح، وَحَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، كِلاهُمَا، عن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ.(5/1)
وَفِي حَدِيثِهِمَا: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ انْصَرَفَ وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَرْنَبَتِهِ أَثَرُ الطِّينِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فحمل بعض العلماء هذه الآثار على الوفاق، وجمع بينهما بأنها فى اختلاف السنين.
فحديث أُبي فى سنة أخرى(1)، وحديث عبد الله فى سنة أخرى، وحديث أبى سعيد فى سنة أخرى،?وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها فى العشر الأواخر فى عام، وفى السبع فى عام، وكلتاهما(2) فى العشر الوسط(3) فى عام، وعلى هذا لا يصعب(4) شيء من هذه الأخبار، ولا يطرح لصحة جميعها، وعلى هذا يأتى أنها ليست فى ليلة معينة أبدًا، وأنها تنتقل فى الأعوام، ونحو هذا قول مالك والثورى والشافعى وأحمد بن حنبل وإسحق وأبى ثور وغيرهم: أنها تنتقل(5) فى العشر الأواخر من رمضان، وقيل: بل تنتقل فى شهر رمضان، وبحسب هذا ما اختلف العلماء فى ذلك. وذهب غيرهم إلى أنها معينة أبدًا ولا تنتقل عينها، وهى غير معروفة، وأنها فى العام كله، وهو قول ابن مسعود، وروي عن أبى حنيفة وصاحبيه، وقيل: بل فى شهر
__________
(1) قوله:" أخرى " ليس في (ط) و(هـ).
(2) في (ط) و(هـ):" كليهما ".
(3) في (هـ):" الأوسط ".
(4) في (هـ):" يضعف ".
(5) في (ط):" تنقل ".(5/2)
217 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خَلادٍ، قَالا:حَدَّثَنَا عَبْدُالأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عن أَبِي نَضْرَةَ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ، فَلَمَّا انْقَضَيْنَ أَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَقُوِّضَ، ثُمَّ أُبِينَتْ لَهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، فَأَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَأُعِيدَ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ:يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهَا كَانَتْ أُبِينَتْ لِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَإِنِّي خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِهَا، فَجَاءَ رَجُلانِ يَحْتَقَّانِ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ فَنُسِّيتُهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ ! إِنَّكُمْ أَعْلَمُ بِالْعَدَدِ مِنَّا، قَالَ: أَجَلْ، نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكُمْ، قَالَ: قُلْتُ: مَا التَّاسِعَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ، قَالَ: إِذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ، فَالَّتِي تَلِيهَا ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَهِيَ التَّاسِعَةُ، فَإِذَا مَضَتْ ثَلاثٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ، فَإِذَا مَضَى خَمْسٌ وَعِشْرُونَ، فَالَّتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ. و قَالَ ابْنُ خَلادٍ: مَكَانَ يَحْتَقَّانِ يَخْتَصِمَانِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/3)
رمضان كله، وهو قول ابن عمر وجماعة من الصحابة، وقيل: بل فى العشر الأوسط والآخر، وقيل: فى العشر الآخر، وهى فى هذا كله عند هؤلاء معينة، ولكن غير معروفة العين، وقيل: تختص بأوتار العشر،?وقيل: بإشفاعه على ما جاء فى حديث أبى سعيد، وقيل: بل(1) فى ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين، وهو قول(2) ابن عباس، وقيل: تتحرى فى ليلة سبع عشرة، أو إحدى وعشرين، أو(3) ثلاث وعشرين، وهو قول على وابن مسعود.
وقال آخرون: بل هى معينة معروفة، ثم اختلفوا، فقيل: ليلة إحدى
218 -وَحَدَّثَنَا سَعِيدُبْنُ عَمْرِو بْنِ سَهْلِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالا:حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، وَقَالَ ابْنُ خَشْرَمٍ: عن الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، عن أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عن بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَأَرَانِي صُبْحَهَا أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ ». قَالَ: فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَانْصَرَفَ، وَإِنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ.
قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ يَقُولُ: ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) قوله:" بل" ليس في (أ).
(2) قوله:" قول " ليس في (هـ).
(3) في (ط):" و ".(5/4)
وعشرين وروى عن على وابن مسعود، وقيل: ليلة ثلاث وعشرين، وهو قول(1) كثير من الصحابة وغيرهم، وقيل ليلة أربع وعشرين وهو قول الحسن وقتادة وابن عباس وبلال، وقيل: ليلة سبع وعشرين، وهو قول جماعة من الصحابة، وقيل: ليلة سبع عشرة وهو قول زيد بن أرقم، وروي عن ابن مسعود، وقيل: تسع عشرة، وروي أيضًا عن ابن مسعود وعلى، وقيل: آخر ليلة، وشذ قوم فقالوا: إنها كانت خاصه للنبى - صلى الله عليه وسلم - ثم رفعت، واحتجوا بالحديث الذى جاء فيه أنه أعلمها - صلى الله عليه وسلم - حتى تلاحى رجلان فرفعت، ومعنى هذا عندنا أنه رفع عنه(2) علم عينها، كما قال فى الحديث: «فأنسيتها»، وفيه شؤم الخصام والتلاحى، وعقوبة العامة بذنب الخاصة، وأن نسيان مثل هذا على النبي - صلى الله عليه وسلم - مما لم يؤمر بتبليغه، ولا هو من باب البلاغ وتقرير الشرع، جار(3) عليه النسيان فيه، واتصاله إذا بما(4) فيه إخبار عن فضيلة وقت بعينه(5) مع بقاء طلبه والاجتهاد فى إصابته وتحرى وقته.
219 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ وَوَكِيعٌ، عن هِشَامٍ، عن أَبِيهِ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: «الْتَمِسُوا»، وَقَالَ وَكِيعٌ-:«تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ».
__________
(1) قوله:" قول " ليس في (هـ).
(2) في (ط):" عنها ".
(3) في (هـ):" جائز ".
(4) في (ط) و(هـ):" إذ إنما ".
(5) في (ط) و(هـ):" وتعيينه ".(5/5)
220 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، كِلاهُمَا عن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عن عَبْدَةَ، وَعَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، سَمِعَا زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ يَقُولُ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ - رضي الله عنه - فَقُلْتُ: إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَادَ أَنْ لا يَتَّكِلَ النَّاسُ، أَمَا إِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ حَلَفَ لا يَسْتَثْنِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ ؟ قَالَ: بِالْعَلامَةِ، أَوْ بِالآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَنَّهَا تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ لا شُعَاعَ لَهَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام: وقوله:« فجاء رجلان يحتقان » قال بعضهم: معناه: يدعى كل واحد منهم حقًّا، ويؤكده قوله فى رواية أخرى مكان " يحتقان " "يختصمان".
قال القاضى: كذا هو هذا الحرف عند الجمهور ووقع عند الطبرى: "يحتقان" بنون مكسورة، ولا وجه له هاهنا.
وقوله فى أن:" الشمس فى صبيحتها لا شعاع لها ": قيل: علامة جعلها الله لها، وقيل: بل لكثرة اختلاف الملائكة فى ليلتها، ونزولها إلى الأرض وصعودها، بما تنزلت به من عند الله، وبكل أمر حكيم، وبالثواب والأجور، سترت أجسامها اللطيفة، وأجنحتها شعاعها، وحجبت نورها(5/6)
221 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَةَ بْنَ أَبِي لُبَابَةَ يُحَدِّثُ عن زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ أُبَيٌّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: وَاللَّهِ ! إِنِّي لأَعْلَمُهَا، قَالَ شُعْبَةُ: وَأَكْبَرُ عِلْمِي هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقِيَامِهَا هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ.
وَإِنَّمَا شَكَّ شُعْبَةُ فِي هَذَا الْحَرْفِ: هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ: وَحَدَّثَنِي بِهَا صَاحِبٌ لِي عَنْهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروثة الأنف: طرفه، وهو أرنبته الذى جاء فى الحديث الآخر، والروثة الأرنبة وما يليها، ووكف المسجد: أى قطر منه ماء المطر، والعريش فى هذا الحديث ظلة جعلت للمسجد من جريد تقى حر الشمس. وأصل العريش: السقف، و"تحينوها": أي اطلبوا حينها، مثل قوله:" تحروها "، وسدة القبة: بابها. وتقويض الشيء: إزالته والذهاب به، وقاض البناء وانقاض: انهدم، وإزالة الأخبية مثل هدمها، والسبع الغوابر: أى البواقي، كما قال فى الحديث الآخر:" الأواخر ".
وقوله:« وأرانى أسجد فى صبيحتها فى ماء وطين »: علامة جعلت له تلك السنة - والله أعلم - ليستدل بها عليها، كما استدل بالشمس وغيرها. ذكر البخارى عن الحميدي [ أنه كان يحتج بهذا الحديث(1)، أنه لا تمسح الجبهة فى الصلاة ](2).
وقوله:« حين طلع القمر كأنه شق جفنة »: أي نصف، يدل أنها لم تكن إلا فى آخر القمر(3). إذ لا يكون بهذه الصورة فى أوله عند طلوعه، [ولا فى نصفه عند تمامه، وقد ذكر نحوه فى كتاب النسائى. قال: قال
__________
(1) في (هـ):" يحتج بالحديث ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) في (ط) و(هـ):" العشر ".(5/7)
222 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ وَهُوَالْفَزَارِيُّ، عن يَزِيدَ وَهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ، عن أَبِي حَازِمٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ:« أَيُّكُمْ يَذْكُرُ حِينَ طَلَعَ الْقَمَرُ، وَهُوَ مِثْلُ شِقِّ جَفْنَةٍ ؟».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبو إسحق: أراه السبعة(1)، إنما ذلك صبيحة ثلاث وعشرين ](2)، قال أبو القاسم المهلب: معرفة حقيقة ليلة القدر لا تستطاع ؟ لإخبار النبى - صلى الله عليه وسلم - أن علمها قد رفع، يريد بقوله(3) في الحديث:«[ أبينت لي فخرجت لأخبركم بها ](4)، فتلاحى فيها رجلان(5) فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم » على رواية البخارى، وفي مسلم:« فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان(6) فانسيتها »، وألفاظ الحديثين(7) متقاربة المعنى، وفيه شؤم الاختلاف والمراء والعقوبة عليه. وقد قيل فى قوله تعالى:{ ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم }، قيل: للعذاب بالاختلاف خلقهم، وقيل:[للخلاف خلقهم، وقيل](8): ليكونوا فريقًا فى الجنة وفريقًا فى السعير.
__________
(1) في (ط):" الشعبى "، وفي (هـ):" السبيعي ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(3) قوله:" بقوله " ليس في (أ).
(4) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(5) في (ط) و(هـ):" فتلاحى فلان وفلان ".
(6) قوله:" معهما الشيطان " ليس في (أ).
(7) في (أ):" الحديث ".
(8) مابين المعكوفين ليس في (أ).(5/8)
ويجمع بين قوله:« رأيتها فأنسيتها »، وبين قوله:« أبينت لي حتى تلاحى فيها(1) رجلان فرفعت »، أي: أن تلاحيهما وتخاصمهما شغل سره وأنساه منها ما بين له لطفًا بهذه الأمة وليكون خيرًا لهم، كما قال فى الحديث:« وعسى أن يكون خيرًا » ليجتهدوا فى طلبها، ويكثروا العمل، ولا يتكلوا على عملهم فيها فقط إذا تعينت لهم،[ وقد جاء فى كتاب النسائي:« فجاء رجلان معهما الشيطان فانسيتها ](2)».
كتاب الاعتكاف
1 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ،حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عن مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عن نَافِعٍ، عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الاعتكاف
ومعناه: اللزوم والإقامة. ولما كان المعتكف ملازمًا للعمل بالطاعة مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم. وهو فى عرف الشرع: اللزوم على طاعة مخصوصة. ويسمى أيضًا جوارًا.
ذكر مسلم أحاديث اعتكاف النبي - صلى الله عليه وسلم - ففيها أنها عبادة مرغب فيها اقتداء بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -،ليست بواجبة، وقد أجمع المسلمون على ذلك فيها، وأنها تصح أن تكون بصوم، وإن لم يكن مشترطًا لها ومختصا بها(3) لاعتكافه فى رمضان فالصوم مختص به، ولا خلاف فى هذا الاعتكاف المتطوع به.
__________
(1) قوله:" فيها " ليس في (ط) و(هـ).
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط) و(هـ).
(3) قوله:" بها " ليس في (هـ).(5/9)
واختلف فى الواجب لنذر، هل يجزى إيقاعه فى رمضان، وفى المذهب عندنا: فيه وجهان، وكذلك دليل أحاديثه أنه لا يكون إلا بصوم ؛ إذ لم يأت أنه اعتكف إلا وهو صائم، ولأن الله تعالى إنما ذكر الاعتكاف للصُّوام لقوله:{ ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}، ولأنه عمل أهل المدينة كما ذكر مالك فى موطئه، وهو مذهب جمهور العلماء، وذهب الشافعي في أصحابه إلى أن الصوم ليس من شرطه واحتجاجه بإيقاعه فى رمضان، وفيها أن الاعتكاف لا يكون إلا فى مسجد للرجال والنساء، خلافًا للكوفيين فى النساء: لا يعتكفن إلا فى بيوتهن، ولابن لبابة 2 - وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ. قَالَ نَافِعٌ: وَقَدْ أَرَانِي عَبْدُ اللَّهِ - رضي الله عنه - الْمَكَانَ الَّذِي كَانَ يَعْتَكِفُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْمَسْجِدِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من المتأخرين من أصحابنا فى تجويزه للجميع فى غير مسجد ولا صوم.
قال الإمام: الاعتكاف جائز عندنا على الجملة فى سائر المساجد، وذكر عن حذيفة أنه لا يراه إلا فى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد إيلياء ومسجد النبي - عليه السلام -. وقال الزهرى: لا يكون إلا فى الجامع، والحجة لنا قوله:{ وأنتم عاكفون في المساجد }، فعمّ، ومن شرطه عندنا الصوم، وأجازه الشافعى من غير صوم.(5/10)
قال القاضى: اختلف العلماء فى أى مسجد هو، فأكثرهم أنه فى كل مسجد جامع أو غيره، إن اعتكف من لايلزمه الخروج إلى الجمعة ؛ إما لعذر، أو ؛ لأن مدة اعتكافه لا تصل إلى الجمعه فأما من تلزمه الجمعة فلا يعتكف إلا فى الجامع، وهذا مشهور مذهب مالك، وقول الشافعى والكوفيين، وغيرهم. وذهب جماعة من السلف إلى أنه لا يعتكف إلا فى مسجد تجمع فيه الجمعة، وروي عن مالك: زاد في رواية ابن عبد الحكم: أو فى رحابه التي تجمع فيها الجمعة. وروي عن بعضهم أنه لا يجوز إلا فى مسجد نبي، وهي المساجد الثلاثة التى ذكر(1) حذيفة.
وفى هذه الأحاديث جواز الاعتكاف فى رمضان وشوال ويقاس(2) عليهما غيرهما من الشهور، وجوازه أول الشهر ووسطه وآخره، لفعل(3)
3 - وَحَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ،حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ السَّكُونِيُّ،عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عن أَبِيهِ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط) و(هـ):" ذكر عن ".
(2) في (ط):" أو يقاس ".
(3) في (هـ):" بفعل ".(5/11)
النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وجوازه عشرًا وشهرًا كاملاً لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فى ظاهر الحديث الذى ذكره مسلم عن أبي سعيد، من رواية محمد بن عبد الأعلى. ولا خلاف أنه لا حد لأكثره لمن نذره، ولا لأقله، واستحب أن يكون أكثره عشرة أيام اقتداء بالنبي - عليه السلام -، واختلف فى أقله، وعن مالك فى ذلك روايتان، قال: أقله يوم وليلة، وقال: عشرة أيام، وذلك فيمن نذر اعتكافًا مبهما. وفيه استحباب كونه فى العشر الآخر من رمضان لمواظبة النبى - عليه السلام - على ذلك لقوله:" كان يعتكف "، وأكثر ما يستعمل هذا فيما كان، يداوم عليه، مع ما دلت عليه نصوص الآثار من تكراره، ولأن ليلة القدر مطلوبة فى ذلك العشر، على أكثر الأقوال التي قدمناها.
وقوله فى حديث أبى سعيد فى اعتكافه العشر الوسط:فإذا مضت عشرون ليلة، ويستقبل إحدى وعشرين يرجع إلى مسكنه، ورجع من كان يجاور معه، ثم إنه أقام فى شهر جاور فيه تلك الليلة التى كان يرجع فيها فخطب(1) الناس إلى(2). قوله:« من كان اعتكف معى فليبت فى معتكفه »، الحديث: يريد أنه أقام فى المسجد تلك الليلة التى كان يرجع فيها، قبل: هو والناس . فيه دليل على أن إقامته إنما كانت لاستئناف الاعتكاف فى العشر الأخر كما جاء مفسرا فى الحديث، وتبيينه للناس، وهذا تفسير ما جاء فى كتاب "الموطأ" من رواية يحيى بن يحيى، وفى الرواية الأخرى:« فلما كانت ليلة إحدى
__________
(1) في (هـ):" خطب ".
(2) قوله:" إلى " ليس في (أ).(5/12)
4 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. ح، وَحَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، أَخْبَرَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، جَمِيعًا عَن هِشَامٍ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ - وَاللَّفْظُ لَهُمَا-، قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عن أَبِيهِ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعشرين »، وهى التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه، أى التي انتظرنا خروجه منها إذ بات تلك الليلة فى معتكفه، ولم تكن عادته، وقيل: بل أراد بصبيحتها يومها الذى قبلها، فأضافه إلى ليلة إحدى وعشرين، كما قال تعالى:{ عشية أو ضحاها }، فأضاف الضحى إلى العشية وهو قبلها، ولأن العرب قد تجعل ليلة اليوم الآتية بعده، حكاه المطرز، وهذا معنى ما ذكره مسلم أيضًا: فخرجنا صبيحة عشرين، أى صبيحة تمام عشرين، على ما تقدم من إقامتهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة إحدى وعشرين، أو سمى النهار صبيحة، أى لتمام عشرين.(5/13)
ولا(1) يصح هنا تأويل من تأوله أنهم خرجوا تلك الصبيحة من يوم عشرين نفسه، إذ لايتم العشر على هذا، فكيف يخرجون(2) فى صبيحة اليوم العاشر وقد وهم فى تأويله بعض مشايخنا، ويدل على ذلك أيضًا(3) فى البخارى: فلما كانت صبيحة عشرين، ونقلنا متاعنا، فدل أن الصبيحة المراد بها من يوم عشرين، ونقلهم المتاع أمرهم بإخراجه إذ لاحاجة فيه ؛ إذ إنما مبيتهم تلك الليلة المستقبلة(4) فى منازلهم، مع رواية الحفاظ من أصحاب مالك ؛ ابن وهب، وابن القاسم، والقعنبى وغيرهم، وهى الليلة التى يخرج فيها من اعتكافه، 5 - وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عن عُقَيْلٍ، عن الزُّهْرِيِّ، عن عُرْوَةَ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (هـ):" فلا ".
(2) قوله:" يخرجون " ليس في (ط).
(3) في (ط) و(هـ):" أيضًا قوله ".
(4) في (هـ):" المقبلة ".(5/14)
وذلك أن خروجه عند كافتهم بعد الغروب، وبه تتم له العشر، وبهذا يجمع بين الأحاديث، وتسقط دعوى الوهم الذى ادعاه بعضهم على مالك وبعضهم على رواته. وقد استدل بعضهم على(1) جواز اعتكاف الليل دون النهار. ولا خلاف فيمن اعتكف عشرا فى غير رمضان أو عددا، أو فى رمضان أوله أو وسطه، أن خروجه عند تمام آخر يوم من اعتكافه، كما ذكر من عادة فعل النبى - صلى الله عليه وسلم - فى هذا الحديث، ولايلزمه أن يبيت فى معتكفه الليلة التى بعد ذلك، إلا إذا كان اعتكافه آخر شهر رمضان، فاختلف العلماء، هل ذلك كغيرها أم يبيت فى معتكفه تلك الليلة حتى يخرج ليصلى مع الناس العيد، ثم يرجع حينئذ إلى منزله ؟ وهو قول مالك وأحمد بن حنبل، وغيرهما، وحكي ذلك عن السلف وأهل الفضل واختلف أصحاب مالك إذا لم يفعل وخرج من المعتكف ليلة الفطر، هل يفسد ذلك اعتكافه أم لا ؟ وذهب الشافعي والليث، والأوزاعى والزهرى فى آخرين إلى ان آخر العشر وغيره سواء، يخرج بانقضاء آخر يوم ولا يلزمه بقاء ليلة الفطر.
وقوله:« فمن اعتكف معى فليثبث(2) فى معتكفه » وما جاء من ضرب الأبنية للمعتكفين فى الحديث والقبة للنبي - عليه السلام - وأنه دخل معتكفه دليل على جواز اتخاذ المعتكف موضعا من المسجد يختص به، ويحجره مدة اعتكافه، وينفرد فيه إذا لم يضر بأهل المسجد، ويستحب أن يكون فى مؤخر المسجد ورحابه
__________
(1) في (هـ):" منه على ".
(2) في (ط):" فليبت ".(5/15)
6 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عن عَمْرَةَ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ، وَإِنَّهُ أَمَرَ بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ. أَرَادَ الاعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَأَمَرَتْ زَيْنَبُ بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ، وَأَمَرَ غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْفَجْرَ نَظَرَ فَإِذَا الأَخْبِيَةُ، فَقَالَ:« آلْبِرَّ تُرِدْنَ»، فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ، وَتَرَكَ الاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، حَتَّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الأَوَّلِ مِنْ شَوَّالٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الداخلة فيه، وفيه دليل على أن المعتكف ملازم لاعتكافه غير مشتغل بغيره ولا خارج لأمر إلا لما تدعوه ضرورة إليه من حاجة الإنسان فيقضيه ويرجع، وكذلك فيما لابد له من شراء قوته، وما يضطر إليه.(5/16)
وقوله:" كان إذا أراد أن يعتكف - صلى الله عليه وسلم - صلى الفجر ثم دخل معتكفه ": أخذ بظاهر هذا الحديث الأوزاعى والثورى والليث فى أحد قوليه، وقال أبو ثور: يفعل هذا من نذر عشرة أيام، فإن أراد عشر ليال فقبل غروب الشمس من الليلة، وقال مالك: لا يدخل فى اعتكافه إلا قبل غروب الشمس، وقاله أحمد ووافقهما(1) الشافعى وأبو حنيفة، وأبو ثور فى الشهر، وخالفوه فى الأيام، فقال الشافعى: يدخل فيها قبل طلوع الفجر، وقال الليث فى أحد قوليه وزفر وأبو يوسف: يدخل فى الجميع قبل طلوع الفجر، وقد قال القاضى أبو محمد: من فعل هذا أجزأه، وقال عبد الملك: لا يعتد بذلك اليوم، وهذا كله على أن الليل لا يدخل فى الاعتكاف ؛ إلا أن يتقدمه اعتكاف(2)، ومذهب مالك وربيعة: أن النهار تابع الليل بكل حال ويتناول وَحَدَّثَنَاه ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ. ح، وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ. ح، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ ابْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ. ح، وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ. ح، وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، كُلُّ هَؤُلاءِ عن يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عن عَمْرَةَ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، وَابْنِ إِسْحَاقَ ذِكْرُ عَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ، وَزَيْنَبَ رَضِي الله عَنْهُنَّ: أَنَّهُنَّ ضَرَبْنَ الأَخْبِيَةَ لِلاعْتِكَافِ.
__________
(1) في (ط):" وفقها ".
(2) في (هـ):" إلا أن يتقدمه اعتكافه ".(5/17)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله أنه - عليه السلام -: كان إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه، أنه وقت دخوله المعتكف لا وقت ابتداء اعتكافه، وأنه كان فى أول ليلة غير محتاج إلى التفرد فى المعتكف لانفراده فى المسجد، فلما صلى الصبح وأراد التنحي عن الناس والانفراد دخل معتكفه للتفرغ لما هو فيه ولراحة جسمه، وما يحتاج من نوم فاته فى ليلة، وقيل: بل ذلك قبل دخوله فى الاعتكاف من ليله نومه?المستأنفة بعد ذلك، فكان قبله فى صبيحة ذلك اليوم يدخل معتكفه لتهيئته، والنظر فيما يحتاج إليه فيه ويستعده وهو غير معتكف، ثم يخرج حتى يصلي المغرب فيدخل فى اعتكافه.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - - إذ رأى أخبية نسائه -:« آلبر تردن ؟ ». إنكاره لذلك - عليه السلام - بعد ما ورد فى الحديث أنه كان عن إذنه فى ذلك لبعضهن على ما ذكره البخاري، لما خافه أن عملهن فى ذلك غير خالص للاعتكاف، وإنما هو من أجل غيرتهن عليه وحرصهن على القرب منه أو لغيرته عليهن أن يكن ملازمات للمسجد مع الرجال، ولا غناء لهن من الخروج لضرورتهن بحضورهم،?وقد يحضر المنافقون والأعراب والوفود، أو لأنه - عليه السلام - لما رأى جماعة من أزواجه معه فى المسجد خرج الأمر عنده عن صورة الاعتكاف، وكأنه فى منزله وبين أهله أو لأنهن ضيقن المسجد بأبنيتهن.
وفى الحديث دليل على جواز اعتكاف النساء إذ كان أمرهن بذلك، وإنما منعهن الآن لعلة أخرى، وفيه أن المرأة لا تعتكف إلا بإذن زوجها، وأن له منعها ما لم يأذن لها، وكذلك عبده وأمته وهو قول كافة العلماء، واختلفوا إذا أذن لهم فى ذلك فلم يبح له ذلك مالك فى جميعهم، وأباحه الشافعي وابن شعبان من أصحابنا له، ورأى له منع جميعهم، وقال الكوفيون: لا تمنع الحرة ويمنع المملوك، وحكى ابن المنذر عن أهل الرأى كقول(1) الشافعى، إلا أنه يأثم عندهم.
__________
(1) في (هـ):" بقول ".(5/18)
وأمره - عليه السلام - بتقويض خبائه - وهو إزالته - وأمر بالبناء فقوض بمعناه. قوضت البناء: أزلت عمده، والتقويض: الهدم، يريد نقض بناء اعتكافه وبيت خلوته له وخبائه وتركه الاعتكاف فى ذلك العشر، مواساة لهن، وتطييبا لقلوبهن مما منعهن من ذلك، وحسنا لعشرتهن، وظاهره أنه لم يكن دخل بعد فى اعتكافه ولا دخلن، وإنما ضربت الأخبية تقدمة للدخول فيها تلك الليلة - والله أعلم -، بدليل قوله فى "الأم":" وأنه أمر بخبائه فضرب وأراد الاعتكاف فى العشر الأواخر، ويكون قضاؤه لما كان اعتقده من فعل الخير ووفاءً بما عاهد عليه الله من ذلك.
فيه أن من نوى طاعة فلا يجب عليه فعلها بمجرد النية إلا بنذرها، والدخول(1) فيها. قال بعضهم: وفيه [ أن النوافل المعتادة تقضى إذا فاتت، وقيل: ويحتمل](2) أنه كان وكنّ دخلن فى الاعتكاف فرأى - عليه السلام - خروجه من ذلك للمصلحة التى رآها؛ ولذلك قضاه بعد. وإخراجهن منه لذلك السبب ؛ ولأنه لم يكن نذرًا فلزمه تمامه، وإنما ترك ما كان نواه من اعتكاف العشر، واقتصر على ما مضى له من اعتكاف ليلته ويومه ذلك، وذلك أقل الاعتكاف ؛ إذ ليس فى الخبر أنه قطع اعتكافه لحينه، وإنما فيه أنه ترك اعتكاف العشر، أو أنها لما دخلها من مشاركة الحرص على قربه والغيرة عليه ليست بطاعة يلزم تمامها على وجه الاعتكاف، وإن كان الحرص وحب(3) القرب من النبى - صلى الله عليه وسلم - على أى وجه كان طاعة وقربة.
__________
(1) في (ط):" أو الدخول ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(3) في (ط):" وقت ".(5/19)
وفيه جواز الاعتكاف فى شوال، وسائر الشهور مثله. قال الخطابى: وفيه أن الاعتكاف إذا لم يكن نذرًا جاز الخروج منه متى شاء، وعندنا أنه بالدخول فيه لزمه ما نوى منه ولم يصح دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه. وفى قيامه - عليه السلام - فى خبائه(1) فى اعتكافه ولزومه فيه - وهو الإمام للصلاة - أن السعى إلى موضع إمامته أو الصف الأول من موضع معتكفه وإمامته غير قادح فى الاعتكاف ؛ إذ هو من باب ما هو فيه، ومنع إمامة المعتكف سحنون فى أحد قوليه لا فى فرض ولا نفل، والكافة على جواز ذلك، وكذلك أذانه فى غير المنار، واختلف فى أذانه فى المنار، فمنعه مالك مرة وأجازه أخرى، وهو قول الكافة.
واختلف العلماء فى اشتغاله بالطاعات وخروجه إليها ؟ كزيارة المرضى والصلاة على الجنازة، فمنع ذلك مالك وكافتهم، وأجازه الحسن والنخعى وغيرهما، وأجاز إسحق والشافعي اشتراط ذلك فى التطوع دون النذر،
7 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عن أَبِي يَعْفُورٍ، عن مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، عن مَسْرُوقٍ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ، وَشَدَّ الْمِئْزَرَ.
__________
(1) في (ط):" خباته ".(5/20)
8 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، كِلاهُمَا عن عَبْدِ الْوَاحِدِ ابْنِ زِيَادٍ، قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، عن الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ يَقُولُ: سَمِعْتُ الأَسْوَدَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختلف قول أحمد فى جواز الاشتراط، ومنع مالك ذلك وغيره، وكذلك منع مالك شغله فى المسجد لسماع العلم وكتبه، أو الأمور المباحة من الحديث مع من جالسه، وشبهه من البيع والشراء فى المسجد، إلا فيما خف من هذا كله.[ وأباح له الشافعي وأبو حنيفة الشغل فى المسجد مما يباح من ذلك كله ](1)، أو يرغب فيه من طلب العلم ونحوه.
وقوله:كان - عليه السلام - إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر: قيل: هو كناية عن الجد والتشمير فى العبادة، وقيل: كناية عن ترك النساء والاشتغال بهن، فإن كان إشارة إلى عشر الاعتكاف فلا خلاف فى تحريم الجماع فيه؛ لقوله تعالى:{ ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}. وأجمعوا على أنه مفسد لاعتكافه كان فى ليل أو نهار، وكافتهم على أنه لا كفارة عليه، وذهب الحسن(2) والزهرى إلى أن عليه ما على المواقع أهله فى
9 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن الأَعْمَشِ، عن إِبْرَاهِيمَ، عن الأَسْوَدِ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (هـ).
(2) في (ط):" الشافعي ".(5/21)
10 - وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عن الأَعْمَشِ، عن إِبْرَاهِيمَ، عن الأَسْوَدِ، عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَصُمِ الْعَشْرَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رمضان، وروى عن مجاهد: يتصدق بدينارين(1)، وأجرى مالك والشافعى مرة الجماع دون الفرج، وجميع التلذذ من القبلة والمباشرة مجرى الجماع لعموم قوله:{ ولا تباشروهن }، وذهب أبو حنيفة إلى فساده بالإنزال كيف كان، وقاله صاحباه، ومذهبهم فى الجماع ناسيًا على أصولهم، فمن أفسد به الصوم أفسد به الاعتكاف، ومن لم يفسد عنده الصوم لم يفسد(2) به الاعتكاف، وخالف الشافعى فى أحد قوليه فقصر النهي على الجماع فى الفرج فقط، وهو قول عطاء، وقد تقدم فى كتاب الحيض من هذا فى حديث عائشة مما يمنع منه المعتكف وما يجوز له.
وقوله:" وأيقظ أهله ": فيه حث الرجل أهله على فعل الخيرات ونوافل البر.
وقول عائشة:" ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - صائمًا في العشر قط ": ليس يحتج به على كراهة صومه.
وقد ذكر مسلم ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل صوم عرفة، وفيه أن فعله هذا كان ليتحرى ليلة القدر في هذا العشر ؛ بدليل حديث أبي سعيد المتقدم المفسر هذه العلة. ذكر في آخر الكتاب حديث أبي بكر بن نافع: ثنا عبدالرحمن، ثنا سفيان، عن الأعمش. كذا لهم، وعند الفارسي: ثنا شعبة عن الأعمش.
**************
كتاب الحج
__________
(1) في (هـ):" بدينار ".
(2) في (هـ):" يفسد عنده ".(5/22)
الحج بالفتح المصدر، وبكسرها وفتحها معا الاسم، وبالكسر أيضًا الحجاج. وأصله(1) القصد، والحج أيضًا العمل، وقيل: الإتيان(2) مرة بعد أخرى. والحج فريضة على الأعيان الأحرار المستطيعين مرة في العمر، هذا ما أجمع المسلمون عليه. واختلفوا هل هو على الفور أو لا ؟ واختلف فيه عن أصحاب مالك وأصحاب الشافعي، فالذى يحكى العراقيون عن المذهب أنه على الفور، وهو قول أبي يوسف والمزني، وقال ابن خويز منداد: تحصيل مذهبنا أنه على التراخي، وهو قول محمد بن الحسن. وشرائط وجوب الحج عندنا: الإسلام، والحرية، والعقل، والبلوغ، والاستطاعة، وشرحها القدرة على أداء الحج بنفسه إما راجلاً، أو راكبًا، والزاد لمن ليس له عادة بالسؤال، وتخلية الطريق حتى يمكن فيه السير على العادة. وقد تقدم في كتاب الإيمان وقت فرض الحج وما ذكر فيه من خلاف، وسيأتي الكلام على الاستطاعة في حديث الخثعمية.
وقوله - وقد سئل عما يلبس المحرم - فقال:« لا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا السراويل ولا البرانس، ولا الخفاف »، الحديث، قال الإمام: سئل عما يلبس، فأجاب بما لا يلبس، ويترك(3) لأن المتروك منحصر، والملبوس لا ينحصر، فحصر ما يترك ليبين أن ما سواه مباح لباسه.
__________
(1) في (ط):" وهو ".
(2) في (ط):" الإبان ".
(3) في (ط) و(هـ):" تركه ".(5/23)
قال القاضي: أجمع المسلمون على أن ما ذكر لا يلبسه المحرم، وأنه نبه بالقميص والسراويل على كل مخيط، وبالعمائم والبرانس على كل ما يغطى به الرأس مخيطًا أو غيره، وبالخفاف على كل ما يستر الرجل، وأن لباس هذا جائز للرجال في غير الإحرام ؛ لأن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان لهم ؛ ولأن النساء مأمورات بستر رؤوسهن. قال علماؤنا: ومنع المحرم من جميع ما نهى عنه من لباس ليبعد عن الترفه، وليتسم(1) بسمات المتذللين(2) الخاشعين، الذي خروجه(3) لذلك الغرض من تذللُّه لربه، وضراعته لغفر ذنبه، وكذلك امتناعه من الطيب والنساء من ذلك ليبعد عن أعراض الدنيا في سفره، وزينة حياتها ولذاتها جهده، فيخلص نيته، وينفرد همه بما خرج له، فلعل الله أن ينيله مرغوبه من رحمته ويرحمه(4).
وقوله:« إلا أحدٌ لا يجد نعلين فليقطعهما أسفل من الكعبين »، قال الإمام: ذهب بعض الناس إلى أن الخفين لا يقطعان ؛ لأن ذلك من إضاعة المال، وهذا الحديث رد عليه. واختلف المبيحون قطعه إذا قطعهما ولبسهما، هل يفتدي أم لا ؟ فقيل: لا شيء عليه، وقيل: عليه، وليس ترخيصه له في الحديث بالذي يسقط الفدية، كما أن الرخصة في حلق الرأس لم تسقط معه(5) الفدية.
قال القاضي: هذا قول أبي حنيفة وأصحابه، والقول الأول لمالك والشافعي وأصحابهما، وحجتهم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلبسه بعد قطعه، ولو كان عليه شيء لبينه ؛ إذ هو موضع بيان وتعليم، وإذ لو كان عليه دم إذا قطعه، وإذا لم يقطعه فما(6) فائدة قطعه إلا ترك التباعة بدم أو غيره، ومالك والليث يريان على لابس الخفين المقطوعين مع وجود النعلين الفدية، وأبو حنيفة لايرى عليه شيئًا، واختلف فيه قول الشافعي.
__________
(1) في (ط):" وليتم ".
(2) في (ط):" المستبذلين "، وفي (هـ):" المبتذلين ".
(3) في (هـ):" الذين خرجوا ".
(4) قوله:" ويرحمه " ليس في (ط).
(5) في (هـ):" عنه ".
(6) في (هـ):" فأي ".(5/24)
وقوله:« ولا تلبسوا ثوبًا مسه ورس، ولا زعفران »، قال الإمام: لأن الورس والزعفران طيب، والمحرم لا يتطيب.
قال القاضي: أجمعت الأمة أن المحرم لا يلبس ما صبغ بزعفران أو ورس، وذلك لما فيهما من الطيب الذي هو داعية الجماع، ومن التجمل الذي ينافي بذاذة الحاج، والرجال والنساء في هذا سواء، وعلى لابس ذلك منهما الفدية عند مالك وأبي حنيفة، ولم ير الثوري، والشافعي وإسحاق وأحمد عليه شيئًا إذا فعل ذلك ناسيًا. واختلفوا في المعصفر، فرآه الثوري وأبو حنيفة طيبًا كالزعفران(1) وفيه الفدية، ولم يره(2) مالك والشافعي طيبًا، وكره مالك المقدم منه، واختلف عنه هل على لابسه فدية ؟ واختلف فيه أصحابه، وأجاز مالك سائر الثياب(3) المصبغة بغير هذا، وكرهها بعضهم لمن يقتدي به فيظن به جواز لباس كل مصبوغ.
وقوله في حديث ابن عباس(4) أنه « إن لم يجد الإزار فليلبس السراويل »، قال الإمام: بذلك قال الشافعي، ولم يأخذ به مالك لسقوطه من رواية ابن عمر.
قال القاضي: وقد ذكره مسلم أيضًا من رواية جابر، وقال مالك في "الموطأ": لم أسمع بهذا، ولا أرى أن يلبس المحرم السراويل، واحتج بأن النبي - عليه السلام - منع(5) لبسه، ولم يستثن فيه كما استثنى في الخفين، وظاهر الكلام يدل أن هذه الزيادة لم تبلغ مالكًا، أو لم تبلغه لبسها على حالها، وكذلك قوله: ولا أرى أن يلبسها المحرم إلا على الوجه المعتاد دون تغيير، كما قال الشافعي وأحمد وإسحاق، أو لا يلبسها دون فدية، فإن مالكًا وأبا حنيفة يريان في لبسهما(6) الفدية، وأما لو فتقت السراويل وجعل منها شبه الإزار جاز، كما جاز لباس الخف إذا قطع.
__________
(1) في (أ) و(ط):" كامزعفر ".
(2) في (هـ):" ير ذلك ".
(3) قوله:" الثياب " ليس في (هـ).
(4) في (ط):" مسعود ".
(5) في (هـ):" منع من ".
(6) في (ط) و(هـ):" لبسها ".(5/25)
وقوله في هذا الحديث:« السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفان لمن لم يجد النعلين »، بهذا يحتج أحمد أنها لا تقطع ؛ لظاهر إباحة لبسهما في هذا الحديث كذلك، والكافة تجعل الأحاديث المتقدمة مفسرة لهذا الإجمال، وأن لباسهما(1) بعد قطعهما كما تقدم، وأن الزيادة التي حفظ ابن عمر من ذاك تحكم على حديث ابن عباس، وجابر. وذكر الجعرانة، وقد اختلف فيها الحجازيون والعراقيون، أولئك يكسرون العين ويشددون الراء، وهؤلاء يخففونهما.
وقوله للمعتمر الذي رأى عليه جبة عليها خلوق:« انزع عنك الجبة، واغسل عنك الصُّفرة »، الخلوق: بفتح الخاء، الطيب المصبوغ بالزعفران، والمقطعات: الثياب المخيطة، كقوله في الحديث(2) الآخر:" جبة ".
وقوله:" فسكت عنه فلم يرجع إليه "، أي: يرد عليه جوابًا. ومعنى: "خمره ": ستره، كما جاء في الرواية الأخرى مبينًا، والغطيط مثل صوت النائم الذي يردده مع نفسه. ومعنى:" سري عنه "، أي: أزيل ما به وكشف عنه.
__________
(1) في (ط):" لباسها ".
(2) في (هـ):" الأحاديث ".(5/26)
قال الإمام: لا خلاف في منع الطيب للمحرم بعد التلبس بالإحرام. واختلف الناس في جواز استعماله قبل الإحرام، واستدامته بعده، فمنع من ذلك مالك تعلقًا بهذا الحديث، وفيه أنه أمره بغسل ما عليه منه، وأجاز ذلك الشافعي، وتأول هذا الحديث على أن الطيب كان من زعفران، وقد نهى الرجل عن الزعفران، واحتج لمذهبه بقول عائشة:" كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت "، وانفصل أصحابنا عن هذا بأنه يمكن أن يكون طيبته بما لا يبقي ريحه، أو يكون اغتسل للإحرام بعد أن طيبته فذهب الطيب عنه، وقال أبو الفرج من أصحابنا: هذا من خواصه - عليه السلام - لأن المحرم إنما منع من الطيب لئلا يدعوه إلى الجماع، والنبي - عليه السلام - كان يملك إربه فيؤمن عليه من التطيب. فإن قيل: فلم لم يأمر النبي - عليه السلام - الأعرابي بالفدية لتطيبه ولباسه ؟ قيل: يحتمل أن يكون عذره لأنه لم يكن أوحى إليه(1) بتحريم الطيب، أو لعله لم يطل مقامه عليه ولا انتفع به، وأحل مالك فيمن تطيب جاهلاً أو ناسيًا، فإنما يفتدي إذا طال لبثه عليه أو انتفع به، ومذهب الشافعي أنه لا فدية عليه أصلاً، ومذهب أبي حنيفة أنه يفتدي على كل حال. وأما أمره - عليه السلام - بنزع الجبة، فهو ردّ لقول من قال من الفقهاء: إنه يشق ما عليه من المخيط، ولا ينزعه من رأسه ؛ لئلا يكون مغطيًا لرأسه، والمحرم لا يغطي رأسه. ولم يستنكر تمزيق الثياب وإن كان إفسادا للمال، كما لم يستنكر قطع الخفين - كما جاء في الخبر - وإن كان إفسادًا لهما.
__________
(1) في (هـ):" يكن أخبر ".(5/27)
قال القاضي: القائل بشق الثوب الشعبي والنخعي، وجاء في هذا الحديث:" يا رسول الله ! إني أحرمت بعمرة وأنا كما ترى "، وفي الرواية الأخرى:" كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة(1)، بعد ما تضمخ بطيب"، ففيه بيان أن المحرم يمنع من الطيب ما كان قبل إحرامه وبعده، ورد على من زعم أن تطيبه كان بعد إحرامه اعتمادًا على احتمال الرواية الأخرى التي ليس فيها بيان، وفيه أن حكم المعتمر والحاج سواء فيما يمنع منه(2) ويباح له، وبيانه: أن السائل كان عالما بالمنع من مثل هذا في الحج وجهل حكم العمرة، فلذلك قال له - عليه السلام -:« وافعل في عمرتك ما كنت فاعلاً في حجك »، ويدل على هذا ما جاء في رواية ابن أبي(3) عمر في "الأم" من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - له حين سأله:« ما كنت صانعًا في حجك ؟» قال: أنزع عنى هذه الثياب، وأغسل عني هذا الخلوق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:« ما كنت صانعًا في حجك فاصنعه في عمرتك »، وهذا يقضي على كل تأويل ذكر في الحديث مما نذكره(4)، وتحتمله ألفاظ الروايات الأخر.
__________
(1) قوله:" جبة " ليس في (أ).
(2) في (ط):" به ".
(3) قوله:" أبي " ليس في (هـ).
(4) في (أ) و(ط):" يذكره ".(5/28)
وكذا يدل(1) من سائر الأحاديث أن حكم الحج أيضًا كان مستقرًّا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وإنما وقف في أمر العمرة حتى أوحي إليه، قيل: ويحتمل أن الإشارة بهذا القول لغير هذا السؤال، إذ قد كان - عليه السلام - قد بين له سؤاله، ثم أعلمه أن حكم العبادتين في مثل هذا سواء، ويدل على هذا قوله: « ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك »، ويحتمل على رواية الواو أنه عائد على ما سأل عنه للتأكيد، وقيل(2): يحتمل أنه عائد إلى حكم الفدية لمن لبس المخيط وتطيب، وليس بنص(3) على لزومها أو سقوطها، والأظهر أنه لم يجعل عليه فدية فيه، إذ هو موضع بيان، وبهذا قال أصحابنا، قالوا: لأنه إنما أتلف الطيب قبل الإحرام، وقيل(1): يحتمل أنه إنما سأل حين أراد الإحرام، ولم يحرم بعد، وهذا إنما يمكن على رواية من رواه:" كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟"، أو قول من قال:" كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ ؟"، وسائر الروايات تدل أنه قد كان أحرم لقوله:" أحرمت فكيف أفعل ؟"، في الرواية الأخرى، وقوله في الأخرى:" أحرمت وأنا على ما ترى "، وقال بعضهم: هاهنا شيء زائد على الطيب وهو لبس المخيط، ومذهب مالك في هذا: إن كان استدامه وانتفع به، فعليه الفدية، فلعل هذا المحرم سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بقرب إحرامه، فلذلك لم يأمره بفدية. وقوله في هذا الحديث في رواية شيبان بن فروخ:" فقال: أيسرك أن تنظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ينزل عليه ؟" كذا جاء ولم يسم(4) القائل، ولا قبله(5) ما يدل عليه، وقد جاء مبينًا في الحديث الآخر بعده أنه عمر بن الخطاب. وفي هذا الحديث أن السنن قد(6) تكون بوحي من الله كما جاء في هذه المسألة، وليست بفرض، وفيها
__________
(1) في (هـ):" تؤوّل ".
(2) في (ط):" وقد ".
(3) في (ط):" وليس فيه نص "، وفي (هـ):" وليس فيه نقص ".
(4) في (ط):" يسمه ".
(5) في (أ):" قيله ".
(6) قوله:" قد " ليس في (أ).(5/29)
ما يلزم العالم من التثبت عند السؤال ما لم يسبق له علمه.
وقوله:" أما الطيب فاغسله ثلاث مرات "، دليل على المبالغة في غسله حتى يذهب ريحه وأثره، لا أن " ثلاثًا " حد في هذا الباب، ويحتمل أن "ثلاثًا " راجع إلى قوله ذلك، أي قال: اغسله، وكرر قوله ثلاثًا تأكيدًا (1).
أحاديث المواقيت
ذكر فيها أن النبي - عليه السلام - وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، بسكون الراء،، ولأهل اليمن يلملم، وفي الرواية الأخرى: أنه أمرهم أن يهلوا من هذه المواقيت، وفي حديث جابر قال أبو الزبير: أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الحديث، وفيه:" ومهل أهل العراق من ذات عرق بكسر العين، قال الدارقطني في(2) حديث أبي الزبير: ومهل أهل العراق نظر، ولم يخرجه البخاري ولا خرج لأبي الزبير شيئًا، ولم تكن عراق يومئذ، يعني زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال القاضي: هذا مما لا يعلل به الحديث، فقد أخبر النبي - عليه السلام - عما لم يكن في زمانه مما كان، وهذا يعدّ في معجزاته - عليه السلام - فانه أخبر أنه سيكون لهم مهل، ويسلمون ويحجون، فكان ذلك.
__________
(1) في (هـ) بعده:" تم بحمد الله وحسن عونه يتلوه أحاديث المواقيت".
(2) في (هـ):" في هذا الحديث في ".(5/30)
ومهيعة: بسكون الهاء عند أكثرهم، وقاله بعضهم بكسر الهاء فسرها في الحديث أنها الجحفة، وذكر قاسم بن ثابت في "الدلائل": أنها قريب من الجحفة. والجحفة: قرية جامعة بين مكة والمدينة، سميت بذلك لأن السيول أجحفتها، وهي على ثمانية مراحل من المدينة.[ وذو الحليفة: ماء من مياه بني جشم على ستة أميال، وقيل: سبعة من المدينة ](1). ويلملم - ويقال: ألملم: جبل من جبال تهامة على ليلتين من مكة، الياء بدل من الهمزة. وقرن بسكون الراء، وهو قرن المنازل، وقرن الثعالب، وقد قاله بعضهم بفتح الراء وهو خطأ، وهو تلقاء مكة، وأصله الجبل الصغير المستطيل المنقطع عن الجبل الكبير. قال القابسي: من قاله بالإسكان أراد الجبل المشرف على الموضع، ومن فتح أراد الطريق الذي يفترق منه، فإنه موضع فيه طرق مختلفة.
وقوله عن أبي الزبير أنه:" سمع جابرًا يسأل عن المهل، فقال: سمعت، ثم انتهى فقال: أراه، يعني النبي - عليه السلام - "، قائل هذا أبو الزبير،[ وهو الذي انتهى ](1)، يعني عن تمام رفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: أراه،كما قال في الرواية الأخرى: أحسبه رفع إلى النبي - عليه السلام -.
وقوله فيه:" مهل أهل المدينة ذو(2) الحليفة "، والطريق الآخر:" الجحفة"، وفسره في الرواية الأولى(3):" ولأهل الشام الجحفة "، وطريقهم على المدينة.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(2) في (ط) و(هـ):" ذي ".
(3) في (ط):" الأخرى ".(5/31)
قال الإمام: للحج ميقاتان: ميقات زمان، وابتداؤه شوال. وميقات مكان، وهي المواضع المذكورة في الحديث، وميقات أهل العراق منها مختلف فيه، فذكر هنا ذات عرق مرفرعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يحسبه الراوي، وذكر في غير هذا الكتاب العقيق، ومنه استحب الشافعي لأهل العراق أن يهلوا. وتقدمة الحج على ميقات الزمان مكروه عندنا، وتقدمته على ميقات المكان مكروه عندنا أيضًا إذا قدمه بمكان قريب ؛ لما في ذلك من التلبيس والتضليل عن المواقيت، فإن تقدمه بمكان بعيد لا يلتبس الميقات به، فظاهر المدونة كراهته، وظاهر المختصر إجازته.
قال القاضي: أجمع المسلمون أن المواقيت مشروعة، وكافتهم على أنها سنة مؤكدة، يلزم من تركها الدم، خلافًا لعطاء والنخعي: أن لا شيء على تاركها، ولسعيد بن جبير في قوله: لا حج له، وفائدة هذا التوقيت منع جواز هذه المواضع دون إحرام لمن أراد الحج أو العمرة، وأنه مبتدأ عمل الحج والعمرة، وأنه لا يحل من أراد الحج أو العمرة جوازها دون إحرام، فأما من لم يرد النسك ودخل لحوائجه، فإن كان يتكرر عليها - كالحطابين وشبههم - فهؤلاء لا إحرام عليهم عند مالك وغيره، ويدل على هذا قوله في الحديث: « ممن أراد الحج أو العمرة »، فدل أن الإحرام إنما يلزم مثل هؤلاء المتبرزين لا غيرهم ممن يتكرر دخوله لحوائجه. وإن كان ممن يندر - كالتاجر وشبهه(1) - فعند مالك لا يدخل إلا بإحرام. واختلف في تأويله، هل هو على الوجوب أو الاستحباب ؟ وهل عليه دم أم لا على هذا ؟ وأجاز الزهري وأبو مصعب دخوله بغير إحرام، وإنما يلزم الإحرام من قصد النسك، وسيأتي من هذا بعد.
__________
(1) في (ط):" وغيره ".(5/32)
وقوله في المواقيت:« هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن »، كذا جاءت به الرواية في الصحيحين وغيرهما(1) عند أكثر الرواة، وعند بعض رواة مسلم والبخارى:« فهن لهم »، وكذا رواه أبو داود وغيره، وهذا(2) الوجه. وكذا ذكره مسلم في رواية ابن أبي شيبة ؛ لأنه ضمير أهل هذه المواضع المذكورة(3)، وقد تخرج الرواية الأخرى:« لهن » على المواضع والأقطار المذكورة قبل، أي: هذه المواقيت لهذه الأقطار والمراد أهلها.
وأما قوله:« فهن لهن »، فجمع من لا يعقل بالهاء والنون، فإن العرب تستعمل ذلك، وأكثر ما تستعمله فيما دون العشرة، ويجمع ما جاوز العشرة بالهاء، وكذلك قالوا في قوله تعالى:{ إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم »، ثم قال: { فلا تظلموا فيهن أنفسكم }، أي: في هذه الأربعة، وقيل: في الجميع.
وقوله: " وكذا وكذاك "، كذا الرواية، قيل: وجهه: وكذاك(4) فكذاك، أي: وكذا أهل كل مكان دون المواقيت منه، الدليل قوله:« حتى أهل مكة من مكة ».
وأجمعوا على جواز الإحرام ولزومه(5) من المواضع المذكورة إلا في ميقات أهل العراق، فمالك(6) وكافتهم أنه من ذات عرق نفسها، واستحب الشافعي من العقيق منها، وروى فيه أثر لا يثبت عن النبي - عليه السلام -، وروى عن بعض السلف: من الربذة منها.
وقوله:« حتى أهل(7) مكة من مكة »، أجمع العلماء على هذا، وأنهم لا يخرجون منها إلا محرمين، وهذا في الحج، ويدل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بهذا الحج خصوصًا أمره عائشة في عمرتها أن تخرج إلى التنعيم، وسيأتي من أين يحرم المعتمر من مكة عند ذكر هذا الحديث.
__________
(1) في (ط):" وغيرها ".
(2) في (ط) و(هـ):" وهو ".
(3) في (هـ):" المذكورين ".
(4) في (ط):" فكذلك ".
(5) في (ط):" لزومها ".
(6) قوله:" فمالك " ليس في (هـ).
(7) في (ط):" أهَلّ أهل ".(5/33)
وأما من منزله(1) بين مكة والمواقيت، فجمهور الفقهاء أنه يحرم من موضعه وهو ميقاته، فإن لم يحرم منه فهو كتارك ميقاته،وقال مجاهد: ميقات هؤلاء مكة، وتحديد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المواقيت لأهل هذه المواضع يدل على تخصيصهم بها، وأنه لا يجزئ أهل موضع أن يعدلوا قصدًا إلى ميقات غيرهم، إلا أن يكونوا مسافرين في جهة ذلك الميقات فيلزمهم حكمه.
وقوله في الحديث:« فهن لهم، ولمن أتى عليهن من(2) غيرهن، ممن أراد الحج والعمرة »، قال بعضهم: فيه دليل أن الحج ليس على الفور ؛ لقوله: "ممن أراد " وهذا لا حجة فيه وليس الإرادة هنا للتخيير، بل المراد بها هنا نوى، وقد تأتي للوجوب.
قال الإمام: وظاهر هذا إسقاط الدم عمن جاوز الميقات غير مريد للحج والعمرة، وقد وقع في المذهب اضطراب في الضرورة إذا جاوزه غير مريد للحج، وأما إذا جاوزه مريدا للحج، ثم أحرم بعد مجاوزته وهو في أثناء طريقه، فلا يسقط(3) الدم الواجب عليه على الجملة رجوعه إلى الميقات. وقال أبو حنيفة: تسقط إذا رجع إلى الميقات ولبى ؛ لأنه قد استدرك ما فاته وأكمل مانقصه.
__________
(1) في (هـ):" منزله من ".
(2) في (ط):" في ".
(3) في (هـ):" يسقط عنده ".(5/34)
قال القاضي: من جاوز الميقات ونيته النسك لحج أو عمرة(1) رجع ما لم يحرم عند مالك، ولا دم عليه، وقيل: يرجع ما لم يشارف مكة، فإن أحرم فلا يرجع، وعليه في هذا دم، ولا يسقطه(2) إن رجع كما قال، هذا قول مالك وابن المبارك والثوري على خلاف عنه، وكافة الفقهاء يأمرونه بالرجوع، وأن رجوعه يسقط عنه الدم إلا أبا حنيفة منهم، وزاد التلبية لكونها عنده فرضًا، فإن لم يرجع عند هؤلاء، ولم يلب في رجوعه عند أبي حنيفة وجب عليه الدم، وعن ابن الزبير: يقضى حجه ثم يرجع إلى الميقات بعمرة، وتقدم قول عطاء وسعيد بن جبير، وأما من جاوز الميقات غير مريد للنسك، ثم بدا له في النسك،[ فجمهور العلماء على أنه يحرم من مكانه ولا شيء عليه، وقال أحمد وإسحاق: يرجع إلى الميقات، وعن مالك في وجوب الدم على القاصد لدخول مكة من غير نية نسك ثم بدًّا له في النسك](3) قولان.
__________
(1) في (هـ):" الحج أو العمرة ".
(2) في (هـ):" يسقط ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).(5/35)
وذكر مسلم في الباب: ثنا(1) يحيى بن يحيى(2)، ويحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر، قال(3) يحيى: أنبأنا(4). كذا لهم، وعند الشنتجالي(5): قال ابن يحيى: قال بعض علمائنا: وفي المواقيت حجة لنا أن أقل ما يقصر فيه الصلاة، وما يسمى سفرًا مسافة يوم وليلة ؛ لأنه أقل مقادير المواقيت لأهل الآفاق المسافرين حتى يمر لهم سفر وهم محرمون، وذلك أن " قرن " أقرب المواقيت من مكة على يوم وليلة، وفيه رفق النبي - عليه السلام - في توقيته هذه المواقيت بأمته، فجعل الأمر لأهل الآفاق بالقرب، ولما كان أهل المدينة أقرب من أهل الآفاق المذكورة وقت لهم ذا الحليفة خارج المدينة بستة أميال، وجعل لمن مر بها من أهل الآفاق المصير إلى ميقاتهم الجحفة، على ثمانية مراحل من المدينة.
وقوله:« لبيك »، قال الإمام: التلبية عند أبي حنيفة واجبة، ومالك والشافعي لا يوجبانها. واختلف إذا لم يأت بها، فعند مالك: يلزمه دم، ولم يلزمه ذلك الشافعي، وعند مالك والشافعي: أن الحج يصح فيه الدخول بالنية خاصة، وأنه ينعقد بالقلب كما ينعقد الصوم، وعند أبي حنيفة: لا ينعقد إلا بمقارنة التلبية أو سوق الهدي إلى عقد القلب.
قال القاضي: قال شيوخنا البغداديون: التلبية عندنا مسنونة غير مفروضة، قال الباجي: ومعنى ذلك عندي: أنها ليست من أركان الحج، وإلا فهى واجبة، ولذلك لزم الدم بتركها.
قال القاضي: وهذا فرق ما بيننا وبين أبي حنيفة ؛ لأنه يعتقدها شرطًا في صحة الحج وركنًا من أركانه، كالتكبير في إحرام الصلاة، وقاله ابن حبيب من أصحابنا، إلا أن أبا حنيفة على أصله يجزي عنده من التلبية ما في معناها من التسبيح والتهليل وذكر الله كما يجزي ما في معنى التكبير عنده في الإحرام مما فيه التعظيم لله.
__________
(1) في (ط):" بأن ".
(2) قوله:" بن يحيى " ليس في (ط).
(3) في (ط):" قال نا ".
(4) في (ط) و(هـ):" أنبأنا أخبرنا ".
(5) في (ط):" الشختنالي ".(5/36)
وقوله:" إن تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، ظاهرة التي كان يواظب عليها ويقولها ؛ فلهذا استحب العلماء المجىء بها بلفظها ثم يقول بعد أمن الذكر والدعاء والثناء ما شاء، فإن أهل بما في معناها من التسبيح والتهليل لم يكن عليه لذلك دم، بخلاف تارك كل ذلك عندنا.
قال الإمام: وهو مصدر مثنى للتكثير والمبالغة، ومعناه: إجابة بعد إجابة، ولزوما لطاعتك فتثنيته للتاكيد لا تثنية حقيقية بمنزلة قوله تعالى:{ بل يداه مبسوطتان }، أي: نعمتاه على تأويل اليد هنا بالنعمة، ونعم الله تعالى لا تحصى، ويونس بن حبيب من أهل البصرة، يذهب(1) في لبيك إلى أنه اسم مفرد وليس بمثنى، وأن ألفه إنما انقلبت ياء لاتصالها بالضمير على حد "لدي"، و "علي" ومذهب(2) سيبويه أنه مثنى بدليل قلبها ياء مع المضمر، وأكثر الناس على ما ذهب إليه سيبويه. قال ابن الأنباري: ثنُّوا " لبيك"، كما ثنَّوا " حنانيك"، أي: تحننا بعد تحنن. وأصل لبيك: لببيك، فاستثقلوا الجمع بين ثلاث باءات فأبدلوا من الثالثة(3) ياء، كما قالوا من الظن: تظنيت والأصل تظننت، قال الشاعر:
يذهب بى في الشعركل فن حتى يرد عني التظني
واختلفوا في معنى:" لبيك " واشتقاقها، كما اختلف في صيغتها، فقيل: معنى لبيك: اتجاهي وقصدي إليك، مأخوذ من قولهم: دارى تلب دارك، أي: تواجهها. وقيل: معناها: محبتي لك، مأخوذ من قولهم: امرأة لبة: إذا كانت محبة لولدها عاطفة عليه. وقيل: معناها إخلاصي لك، مأخوذ من قولهم: حسب لباب: إذا كان خالصًا محضًا، ومن ذلك: لب الطعام ولبابه. وقيل: معناها: أنا مقيم على طاعتك وإجابتك، مأخوذ من قولهم: قد لبَّ الرجل بالمكان وألبَّ: إذا أقام فيه ولزمه. قال ابن الأنباري: وإلى هذا المعنى كان يذهب الخليل والأحمر.
__________
(1) قوله:" يذهب " ليس في (ط).
(2) في (هـ):" مذهب ".
(3) في (هـ):" الثانية ".(5/37)
قال القاضي: قيل: هذه الإجابة لقوله تعالى لإبراهيم:{ وأذن في الناس بالحج }، وقال الحربي في معنى " لبيك " أيضًا، أي: قربًا منك وطاعة. والألباب: القرب، قيل(1): وقال أبو نضر: معناه أنا ملب بين يدك، أي: مختضع.
قال الإمام: وقوله:« إن الحمد والنعمة لك » يروى بكسر الهمزة من "إن " وفتحها. قال الخطابي: الفتح رواية العامة، قال ثعلب: الاختيار كسر " إن "، وهو أجود معنى من الفتح ؛ لأن الذي يكسر يذهب إلى أن المعنى: إن الحمد والنعمة لك على كل حال، والذي يفتحها يذهب إلى أن معنى لبيك لهذا السبب، ويجوز: والنعمة لك،[ على الابتداء بالرفع، والخبر محذوف تقديره: إن الحمد لك والنعمة لك](2). قال ابن الأنباري: وإن شئت جعلت خبر " إن " محذوفًا.
قال القاضي: قال ثعلب: فمن فتح خصّ، ومن كسر عمّ.
وقوله: " وسعديك، إعرابها وتثنيتها مثل ما تقدم من(3) لبيك، ومعناها: ساعدت طاعتك يا رب مساعدة بعد مساعدة.
وقوله:« والخير بيديك »، أي: الخير كله بيد الله.
قال الإمام: وقوله:« والرغباء إليك والعمل »، يروى بفتح الراء والمد، وبضم الراء والقصر، ونظيره: العليا(4) والعلياء، والنعمى والنعماء.
قال القاضي: وحكى أبو علي القالى في ذلك أيضًا الفتح والقصر مثل سكرى، ومعناه هنا: الطلب والمسألة، أي: الرغبة إلى من بيده الخير، وهو المقصود بالعمل الحقيق بالعبادة.
وقول ابن عمر: " تلقفت التلبية من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " بالفاء، قال الإمام: أي: أخذتها بسرعة، ويروى:" تلقنت " بالنون.
قال القاضي: بالفاء رواية الكافة، وقد رويناها:" تلقيت " بالياء من طريق السجزي، ومعانيها متقاربة.
__________
(1) قوله:" قيل " ليس في (ط).
(2) مابين المعكوفين ليس في (هـ).
(3) في (ط):" في ".
(4) في (ط):" العلى ".(5/38)
وقوله: أنه - عليه السلام - كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل فقال:« لبيك »، الإهلال رفع الصوت بالتلبية عند الدخول في الإحرام، ومنه استهل الصبي: إذا صاح، ومنه:{ وما أهل لغير الله به }، أي: رفع الصوت فيه بغير اسم الله، قالوا: وإنما سمي الهلال لرفع الناس أصواتهم عند رؤيته.
وقوله:" كان - عليه السلام - يركع بذي(1) الحليفة ركعتين، فإذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل "، الركعتان قبل الإحرام مشروعة وسنة في الإحرام عند الكافة، أن يكون بإثر صلاة، واستحب مالك أن يكون بإثر صلاة ركعتي نفل فأكثر، كما جاء عنه - عليه السلام -، واستحب الحسن إثر صلاة فرض، لأنه روى أن هاتين الركعتين اللتين صلى - عليه السلام - كانت صلاة الصبح، والأول أظهر، فإن أهل بإثر صلاة فرض أجزأه عند مالك وغيره، ولا دم عليه إن أحرم بغير إثر صلاة.
وقوله هنا: " إذا استوت الناقة "، وقوله في الحديث الأخر:" حين استوت به راحلته "، وقوله في الرواية الأخرى:« حتى تنبعث به ناقته "، متفق لأن قيامها به هو انبعاثها، ولا تستوي به حتى تنبعث به، ولا يفهم منه أخذها في المشي، وبيّنه قوله في الحديث الآخر:" إذا وضع رجله في الغرز وانبعثت به قائمة "، وبما جاء في هذا الحديث أخذ مالك، وأكثر العلماء: أن يهل إذا استوت به إن كان راكبًا، ويتوجه بإثر ذلك، وإن كان راجلاً فحين يأخذ في المشي، وقال الشافعي في الراكب كذلك، وقال أبو حنيفة: إذا سلّم من الصلاة أهل على ما جاء في ذلك في حديث ابن عباس: أنه أحرم من المسجد بعد أن صلى فيه، وأوجبه في مجلسه. وفيه أن سنة التلبية عند الأخذ في الإحرام والشروع في العمل، لا قبله وفي أثناء العمل، وقطعها حيث لا عمل من أعمال الحج، قالوا: وفيه الإهلال مستقبل القبلة ؛ لأنها إجابة الداعي إبراهيم - عليه السلام -، ولا تجيب أحدًا موليًا ظهرك عنه.
__________
(1) في (ط):" بين ذي ".(5/39)
وقوله:" يهل ملبدًا "، التلبيد: هو ضفر الرأس بالخطمى أو الصمغ، وشبه ذلك مما يضم الشعر ويلزق بعضه ببعض، ويمنعه التمعط والتقمل، وفعله جائز، وهو مستحب فعله لمن يريد الحج أو العمرة قبل إحرامه.
وقوله: " هذه البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما أهل إلا من عند المسجد "، وفي الحديث الآخر:" ما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عند الشجرة"، هذا أيضًا متفق، وهو مسجد ذي الحليفة،[ وفيه كان - صلى الله عليه وسلم - قبل إهلاله، وذو الحليفة](1) على ستة أميال، وقيل: سبعة من المدينة، والشجرة هناك(2)، والبيداء هناك،كله قريب بعضه من بعض. قال الطحاوي: ويجمع بين ذلك ما جاء في حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى في مسجد ذي الحليفة أهل بالحج، فسمع ذلك أقوام فحفظوا، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه قوم ولم يشهدوه أولا - لأن الناس كانوا يأتون أرسالاً - فسمعوه يهل حينئذ، فلما وقف على شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك قوم لم يشهدوه في المرتين فنقل كل واحد ما سمع، ولكن الحديث بإهلاله بعد ما استوت به ناقته أشهر وأصح، وفي حديث سعد بن أبي وقاص: كان - عليه السلام - إذا أخذ طريق(3) الفرع أهل إذا استوت به راحلته، وإذا أخذ طريق أحد أهل إذا علا شرف البيداء. والبيداء كلها مهل، لكن الأفضل من حيث أهل - عليه السلام -.
قال الإمام: البيداء: مفازة لا شيء فيها، وبين المسجدين أرض ملساء اسمها البيداء، فأنكر ابن عمر على من يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أحرم من البيداء، وهو يقول: إنما أحرم - عليه السلام - من المسجد.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) في (ط):" معنا ".
(3) قوله:" طريق " ليس في (ط).(5/40)
قال القاضي: معنى قوله:" بين المسجدين "، أي: مكة والمدينة، كذا بينه الناس، وكذلك هو، وهذه البيداء هو الشرف الذي أمام ذي الحليفة، وهي أقرب إلى مكة من ذي الحليفة، وكل مفازة بيداء، وجمعها بيد.
قال الإمام: وقوله:" تكذبون فيها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، محمول أنه أراد أن ذلك وقع منهم على جهة السهو، ولا يظن به أنه كان ينسب إلى الصحابة تعمد الكذب الذي لا يحل.
وقوله: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« قد قد »، أي: كفاكم هذا الكلام الصحيح المستقيم الحق، إنكارًا لما كانوا يذيلون به قولهم هذا من قولهم:" إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك، فعند قوله: " قد قد " تم كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم رجع في الحديث إلى حكاية كلام الكفار الذي حكيناه، وفيه إن لم يبين هكذا تلفيق في "الأم" لمن لم يعلم، ومعنى " قل قد "،: كفى كفى، مثل قط قط، تقال بكسر الدال فيهما وسكونها.
وقول ابن جريج لابن عمر:" رأيتك تصنع أربعًا لم أر أحدًا من أصحابك يصنعها "، وذكر لمس الركنين اليمانيين،ولبس النعال السبتية... الحديث، قال الإمام: يحتمل أن يريد لا يصنعها غيرك مجتمعة، وإن كان يصنع بعضها، ثم سمى له علة فعله في الثلاث، وأنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، ويحتمل أنه - عليه السلام - إنما خصّ هذين الركنين بأنهما على قواعد إبراهيم - عليه السلام - وترك الآخرين لما قصرا(1) عن قواعد إبراهيم.
قال القاضي: على هذا اتفاق أئمة الأمصار والفقهاء، وإنما كان الخلاف في ذلك قديمًا من بعض الصحابة والتابعين.
__________
(1) في (ط):" قصروا "، وفي (هـ):" قصر ".(5/41)
قال الإمام: وأما قوله:" رأيتك تصبغ بالصفرة "، فقيل: المراد به صباغ الشعر، وقيل: صباغ الثوب، والأشبه أن يكون صبغ الثياب، لأنه أخبر أنه إنما صبغ اقتداء بالنبى - عليه السلام -، وهو - عليه السلام - لم يذكر عنه أنه صبغ - عليه السلام - شعره.
قال القاضي: هذا أظهر الوجهين وأصحهما، وإلا فقد جاءت آثار في حديث ابن عمر بين فيها تصفير ابن عمر لحيته، واحتجاجه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصفر لحيته بالورس والزعفران، ذكره أبو داود. وذكر أيضًا في حديث آخر احتجاجه بأن النبي - عليه السلام -كان يصبغ بها ثيابه حتى عمامته.
قال الإمام: وأما إجابته له عن تأخير إهلاله إلى يوم التروية بأنه لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به راحلته، فإنه أجابه بضرب من القياس لما لم يتمكن له من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الشيء بعينه ما تمكن في غيره مما سماه له، ووجه هذا القياس: أنه لما رآه - صلى الله عليه وسلم - إنما أهل عند الشروع في الفعل أخر هو أيضًا الإهلال إلى يوم التروية، الذي يبتدئ فيه بأعمال الحج، من الخروج إلى منى وغير ذلك. وأما وجه اختيار غيره من العلماء لمن أحرم من مكة أن يهل من أول العشر، فإن ذلك ليحصل للمحرم من الشعث ما يساوي فيه من أحرم من المواقيت.
قال القاضي رحمه الله: اختلف إختيار العلماء والسلف في ذلك، والقولان عند مالك، وحمل شيوخنا رواية الاستحباب أن يهل يوم التروية من كان خارجًا من مكة، ورواية استحباب الإهلال لأول الشهر لمن كان داخل مكة، وهو قول أكثر الصحابة والعلماء.
قال الإمام: وقوله:" النعال السبتية "، قال الأزهرى: إنما سميت بذلك لأن شعرها قد سبت، أي: حلق وأزيل، يقال: سبت رأسه: إذا حلقه. قال الهروى: وقيل: سميت سبتية ؛ لأنها إن سبتت بالدباغ، أي: لانت، يقال: رطبة منسبتة، أي: لينة، قال: والسبت: جلد البقر المدبوغ بالقرظ.(5/42)
قال القاضي: قال الشيباني: السبت: كل جلد مدبوغ، وقال أبو زيد: السبت: جلود البقر مدبوغة كانت أو لا، وقيل: السبت: ذراع(1) من الدباغ يقلع الشعر، وقال ابن وهب: النعال السبتية كانت سودًا لا شعر فيها، وعلى هذا تدل حجة ابن عمر لقوله:" إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس النعال التي ليس فيها شعر،، وهذا لا يخالف ما تقدم، فقد تكون مدبوغة بالقرظ ولا شعر فيها وسوداء، فإن ما يدبغ منه ما يبقى فيه شعره، ومنه ما ينزع، وكانت عادة العرب لباس النعال بشعرها غير مدبوغة، وإنما يلبس المدبوغة مما كان يعمل بالطائف وغيره أهل الرفاهية، كما قال شاعرهم(2):
يحذى نعال السبت ليس بتوأم
والسين في جميع هذه الكلمات مكسورة، والأصح عندي، أن يكون اشتقاقها وإضافتها إلى السبت، الذي هو الجلد المدبوغ، أو لدباغه بكسر السين في نسبتها، ولو كانت(3) من السبت الذي هو الحلق - كما قال الأزهري وغيره - كان سبتية بالفتح، ولم يروها أحد في هذا الحديث ولا غيره ولا في الشعر فيما علمته إلا بالكسر.
قال الإمام: وقوله:" إذا وضع رجله في الغرز "،: هو ركاب الناقة.
وقوله:" بات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة مبدأه وصلى في مسجدها ": ليس المبيت بها من السنن، ولا من حدود الحج، لكن من فعله تأسيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فحسن.
وقوله:" مبدأه " بضم الميم وفتحها وسكون الباء، أي: ابتدأ حجه.
وقول عائشة: " كنت أطيبه لحله ولحرمه ": الحرم: الإحرام بالحج.
__________
(1) في (هـ):" نوع ".
(2) في (هـ):" عنترة ".
(3) قوله:" ولو كانت " ليس في (ط).(5/43)
قال القاضي: ضبطناه بالوجهين هنا، والضم أكثر، وبالضم وحده ضبطناه في كتاب الهروى في هذا الحديث على(1) شيخنا أبي الحسين وفسره بالإحرام، وأنكر ثابت في دلائله ضم(2) المحدثين له، وقال: الصواب الكسر، كما يقال: لحله، وكما(3) في هذا الحديث(4). وقرئ:{ وحِرم على قرية }، بالكسر. وهذا الحديث مما يحتج به المخالف في جواز تطيب المحرم لإحرامه، واستدامته، وانما يمنع مما يستأنفه بعد الإحرام، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والثوري وفقهاء أصحاب الحديث، وجماعة من الصحابة والتابعين. وخالفهم جماعة أخرى من الصحابة والتابعين ومالك والزهري ومحمد بن الحسن فمنعوه واحتجوا بحديث لابس الجبة المتطيب المتقدم ويتأول من قال بهذا حديث عائشة أنه طيب لا يبقى له ريح أو أنه أذهبه غسل الإحرام ويعضد هذا التأويل الآخر ما ذكره مسلم في الحديث بعد:" صيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند إحرامه ثم طاف على نسائه ثم أصبح محرمًا فقد ظهرت علّة تطيبه إنما كانت لمباشرة نسائه وإن غسله بعد ذلك منهن وغسله للإحرام أذهبه لاسيما وقد ذكر عنه أنه كان يتطهر من كل واحدة قبل مواقعة الأخرى فأي طيب يبقى بعد اغتسالات(5) كثيرة ويكون قولها ثم أصبح ينضخ طيبًا بالخاء المعجمة، أي قبل غسله وإحرامه وقد جاء في رواية شعبة في هذا: ثم يصبح محرمًا ينضخ طيبًا أي يصبح بنية الإحرام أو يكون فيه تقديم وتأخير أي فطاف على نسائه ينضخ طيبًا ثم يصبح محرمًا وقد ثبت أن الطيب الذي طيبته به في كتاب مسلم أنه ذريرة وهي مما يذهبها الغسل ولا يبقى ريحها بعده.
وقولها:{ بأطيب الطيب وبأطيب ما أجد، وبقولها: وفيه مسك وهي الذريرة التي ذكرت ](6)، والله أعلم كان ممسكة.
__________
(1) في (ط):" كتاب الهروي وعلى ".
(2) قوله:" ضم " ليس في (ط).
(3) قوله:" كما " ليس في (ط).
(4) قوله:" هذا الحديث " ليس في (أ).
(5) في (أ) و(ط):" إغسال ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (ط).(5/44)
وفيه جواز استعمال المسك والتطيب به وطهارته، وقد ذكر بعضهم الإجماع عليه. وقد جاء فيه عن بعض السلف خلاف ذكرناه في غير هذا الموضع مع تمام المسألة فيه. وكل هذا يرد قول(1) من تأول الحديث أنه من طيب لا ريح له.
وأما قولها في الأحاديث الأخر:" كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محر"م، لا امتراء أن جسم الطيب وريحه يذهبه الغسل للإحرام، ويبقى أثر دهنه في الشعر، وقد بينته بقولها في الرواية الأخرى:" ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته بعد ذلك "، وبقية أثر الدهن وزيتية الطيب بعد ذهاب ريحه لا حكم لها، ولا على المحرم شيء إذا تدهن قبل إحرامه وإن بقي الدهن عليه باتفاق، ما لم يكن مطيبا. واختلفوا في استعمال الحاج الدهن غير المطيب، فمنعه مالك وأجازه الليث وابن حبيب، وقيل: قد يكون الطيب مما اختص به - عليه السلام - للقائه الملائكة ؛ ولأن الطيب إنما منعه المحرم؛ لأنه من دواعى الجماع، والنبي - عليه السلام - بخلاف غيره لملكه إربه. والوبيص: البريق.
وقولها:" ينضخ طيبًا "، أي: يفور، ومنه:{ عينان نضاختان }، وعلى هذا تتخرج رواية العذري(2):" ينضخ بالطيب "، وقيل: النضخ كاللطخ، وقيل: النضخ ما يبقى له أثر، وقيل: النضخ دون النضح، وقيل بعكسه، وهذا أكثر وأشهر، واختلف أصحابنا في تأويل المذهب في استعمال الطيب قبل الإحرام، فحكى القاضي أبو الحسن أنه على الكراهة، ونحوه لابن عبدالحكم. واختلفوا هل عليه دم أم لا ؟ وقولها:" ولحله "، فأما بعد تمام النسك، والخلاف وطواف الإفاضة، وتمام عمل الحج فلا خلاف فيه ولا كراهة، وهذا يأتى على قولها في بعض الأحاديث:" لحله "، وأما على أكثر الروايات:" ولحله قبل أن يفيض "، وإنما يكون بعد رمى جمرة العقبة، فكرهه مالك ولم ير عليه دمًا، وعامة العلماء على جواز ذلك حينئذ، وحجتهم هذا الحديث.
__________
(1) قوله:" قول " ليس في (هـ).
(2) قوله:" العذري " ليس في (ط).(5/45)
وقوله:" لحله قبل أن يفيض "، دليل على أنه حل، ولا خلاف أنه أحد الحلين وأنه حل من كل ما حرم على الحج(1) إلا النساء، فأجمع أنهن غير حل له حتى يطوف. واختلف في الطيب والصيد، فعامة العلماء على إباحة ذلك له، ومالك يمنع منهما.
وحديث الصَّعب بن جَثَّامة:" أنه أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - حمارَ وحشٍ وهو محرم فرده عليه "، قال الإمام: بوَّب البخاري على هذا الحديث: ما دل على أنه تأول أن الحمار كان حيًّا، فعلى هذا يكون فيه حجة على أن المحرم يرسل ما كان بيده من صيد، وفيه أيضًا أن الهبة لاتدخل في ملك الموهوب إلا بالقبول، وأن قدرته على ملكها لا تصيره مالكًا لها، وفيه إشارة إلى صحة القول(2) بأن من وهب لرجل أو أوصى له بمن يعتق عليه أنه لا يعتق عليه حتى يقبله، وأنه لا يدخل في ملكه قبل قبوله إياه وفيه تقوية لأحد القولين أن من اشترى إياه بالخيار لم يعتق عليه ؛ لأنه لم يجعله لقدرته على أن يملك(3) بالقبول مالكًا، وانظر هل يصح أن يحمل على هذا أن الهبة تدخل في الملك من قبل أن تقبلها فيكون إنما لم يرسل الحمار لأنه لم يكن(4) في يد النبي - صلى الله عليه وسلم -،[ فأشبه من أحرم وفي بيته صيد. فيقال: لا يصح هذا ؛ لأنه - عليه السلام - ](5) لو ملك الحمار لم يردّه عليه فيكون قد عرض به للقتل، ولو أن محرما في ييته صيدٌ لم يبتغ أن يهبه في حال الإحرام لمن يستبيح ذبحه، فيكون كمن عرض بصيد للقتل.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" الحاج ".
(2) في (هـ):" القبول ".
(3) في (ط):" تلك ".
(4) في (ط) و(هـ):" لم يكن ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (ط).(5/46)
وقد اختلف مالك والشافعي من أحرم وفي بيته صيد، هل يرسله أم لا؟ وسبب الخلات بينهما قوله تعالى:{ وحرّم عليكم صيد البرِّ ما دمتم حرمًا}، هل المراد بالصيد ها هنا الاصطياد، فلا يجب أن يرسل ما في البيت من صيد؟ أو المصيد نفسه الذي هو الصيد فيرسله، وإن كان تقدم اصطياده له قبل الإحرام ؟ وفي بعض طرق حديث الصعب بن جثامة ما تقدم في تأويل من تأول الحديت على أن الحمار حي، وهو قوله فيه:" رجل حمار "، وفي طريق آخر:" عجز حمار وحشي يقطر دمًا، وفي طريق آخر:" شق حمار "، وفي رواية زيد بن أرقم:" أهدي للنبي - عليه السلام - عضو من لحم صيد فردّه ". وقال: «إنا لا نأكله، إنا حرم »، وبهذه الروايات يحتج من يقول من الناس: إن المحرم لا يأكل لحم صيد وإن لم يصد من أجله، ويذكر ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر وتلا علي:{ وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرمًا}، وحمل الصيد على المصيد، والحجة على هؤلاء حديث أبي قتادة المذكور بعد هذا وفيه: أنه - عليه السلام - أكل لحم الصيد، وأباحه لغيره من المحرمين ويمكن بناء حديث أبي قتادة مع حديث زيد على مذهب مالك، فيقال: امتنع من الأكل في حديث زيد لأنه صيد(1) من أجله، ولم يمتنع في حديث أبي قتادة لأنه لم يصد من أجله، لكن قد يقدح في هذا البناء أنه - عليه السلام - إنما علل امتناع أكله(2) بأنه حرم، ولم يقل: إنه صيد من أجلي.
قال القاضي: إلى الجمع بين الأحاديث أشار القاضي إسماعيل، وأن حديث الصعب إما أن يكون حيًّا كما روى عن مالك وغيره، أو صيد من أجل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس اعتذاره بـ« إنا حرم » بالذى يقدح في هذا التأويل، إذ لم يذكر فيه: من أجله، إذ ليس كل صَيْدٍ صِيد من أجل أحد يحرم عليه حتى يكون محرمًا.
__________
(1) في (ط):" زيد لا يتصيد ".
(2) قوله:" أكله " ليس في (ط).(5/47)
وقوله في بعض الروايات:" يقطر دمًا "، يدل على قرب صيده، ويشعر أنه صيد من أجله، لكن يبقى على هذا أن النبي - عليه السلام - قد تركه له، ولو كان صيد من أجله لم يحل له ولا لغيره على ما تقدم. وقال الأصيلي: إنما رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمار الصعب، وقيل: حمار البهزي، وأمر بقسمته بين الرفاق؛ لأن البهزي كان رجلاً متكسبًا بصيد(1)، فحمله - عليه السلام - على عادته لا من أجله، ورد حمار الصعب لظنه أنه صاده من أجله لتحقيقه أنه(2) بطريق النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه، وكذلك إباحته حمار أبي قتادة لصيده إياه لنفسه وأصحابه المحلين.
وأجمع المسلمون على تحريم الاصطياد لما يؤكل من حيوان البر على المحرم في الحرم كان أو خارجه، وأن عليه جزاءه، وأن أكله عليه حرام، وأنه لا يجوز له قبول الصيد إذا وهب له بعد إحرامه، ولا شراؤه، ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه وهو محرم.
واختلف في حكم صيد المحرم لغيره، وكافة العلماء على أن ما قتله المحرم من الصيد أو ذبحه خطأ أو عمدًا أو ابتدأً أو عودًا فهو سواء في الجزاء والإثم، إلا الخاطئ فلا إثم عليه، وأن الصيد في كل هذا لا يؤكل وهو بمنزلة الميتة، وذهب الحسن(3) وسفيان، وأبو ثور، والحكم في آخرين أنه يؤكل بمنزلة ذبيحة السارق، وروي عن الشافعي، والأول أصح عنه، وقال قوم: هذا في المتعمد، وأما الخاطئ فلا جزاء عليه ؛ لقوله تعالى:{ متعمّدًا }، وهو قول جماعة من السلف، وأبي ثور. وقال بعضهم: إن عاد المتعمد فلا جزاء عليه، وإثمه أعظم لقوله:{ ومن عاد فينتقم الله منه }، وقال مجاهد مثله فيمن تعمد ذاكرًا لإحرامه.
__________
(1) في (هـ):" بصيده ".
(2) قوله:" أنه " ليس في (أ).
(3) في (أ):" الحسين ".(5/48)
واختلفوا فيما صاده الحلال، هل يأكل منه المحرم، فذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور إلى أن المحرم يأكل منه مالم يصد من أجله، قال مالك وأصحابه: فإن صيد من أجله لم يأكله(1) هو ولا غيره فهو كالميتة، قيل: وهذا فيما صيد له بعد إحرامه من أجله، وأما قبل أن يحرم فله أكله بعد اصطياده، كان من أجله أم لا، كما لو صاده حينئذ، وكذا فسره مالك، وروى عن عطاء، وابن عباس نحوه، وقال جماعة من السلف وأهل الرأي: إن المحرم يأكل من كل الصيد إذا صاده الحلال أو ذبحه، وذهبت طائفة من السلف(2) أن المحرم لا يأكل الصيد كله، وهو قول سفيان وإسحاق، وذكر نحوه عن مالك والليث، وقيل: إنما يحرم على المحرم المصيد له وحده دون غيره من محرم وحلال، وهو مذهب عثمان - رحمه الله -.
وفي اعتذار النبي - عليه السلام - له دليل على استجاز قبول هدية الصديق، وكراهة ردها لما يقع في نفسه، ألا ترى تطييب النبي - عليه السلام - قلبه بذكره له عند رده لها، وجواز رد ما لا يجوز للمهدى إليه الانتفاع به ؟! وقوله:« لم نردّه عليك »، كذا رواية المحدثين في هذا الحرف بفتح الدال، ورده محققو شيوخنا من أهل العربية:« نرده(3) »، بضم الدال، وكذا وجدته بخط بعض الأشياخ - أيضًا- وهو الصواب عندهم على مذهب سيبويه في مثل هذا من المضاعف، إذا دخلت الهاء أن يضم ما قبلها في الأمر ونحوه من المجزوم، مراعاة للواو التي توجبها ضمة الهاء بعدها لخفاء الهاء ؛ فكان ما قبلها ولي الواو، ولا يكون ما قبل الواو إلا مضموما، وهذا في المذكر، وأما المؤنث مثل: لم نردها وأختها، فمفتوح الدال مراعاة للألف.
__________
(1) في (هـ):" يأكل منه ".
(2) في (ط) و(هـ):" السلف إلى ".
(3) في (أ):" لم نرده ".(5/49)
قال الإمام: وفي حديث أبي قتادة أنهم قالوا له: لا نعينك عليه، وسألهم - عليه السلام -:« هل أعانوه »، وفي إطلاق المعونة حجة على أبي حنيفة الذي يرى أن المعونة لا تؤثر، إلا أن يكون الصيد لا يصح صيده دونها، وهذا الحديث هاهنا إنما ذكر فيه معونة مطلقة ولم يشترط، وذكر فيه أن بعضهم أكل من الصيد، وبعضهم لم يأكل، وأنه - عليه السلام - لم يلم أحدا منهم على ما فعل، وهو دليل على أن الاجتهاد في مسائل الفروع يسوغ.(5/50)
قال القاضي: قيل: إنما جاز بقاء أبي قتادة هاهنا غير محرم، أنه لم يكن وُقتت المواقيت بعد، وقيل: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بعثه في أصحابه لكشف عدو لهم لجهة الساحل على ما ذكره مسلم، وقيل: لعله لم ينو معهم حجًّا، وهذا بعيد، وقيل: بل أرسله أهل المدينة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمونه أن بعض العرب تنوي غزو المدينة. والأبواء، بفتح الهمزة ممدود، قرية من عمل الفرع، بينها وبين الجحفة مما يلى المدينة ثلاثة وعشرون ميلا. وودان، بفتح الواو كذلك، بينهما نحو ثمانية(1) أميال بقرب من الجحفة. والسقيا: قرية جامعة هناك أيضًا بينها وبين الفرع مما يلى الجحفة سبعة عشر ميلاً. وتعهن، بفتح التاء وكسرها وسكون العين، وروايتنا عن أكثرهم بالكسر، وكذا قيدها البكري في معجمه، وبلغنى عن أبي ذر أنه قال: سمعت العرب يقولها بضم التاء وفتح العين وكسر الهاء، وس عين ماء على ثلاثة أميال من السقيا. ومعنى " قايل السقيا،: أي: يقيل بها. والقاحة، بالقاف والحاء المهملة مخففة، واد على ميل من السقيا، وهو واد القباديد(2)، على ثلاث(3) مراحل من المدينة، كذا قيدها الناس بالقاف ورواها بعض الرواة عن البخاري بالفاء، ولعله وهم، والصواب القاف. وغيقة، بالغين المعجمة المفتوحة وبالقاف وبينهما ياء باثنتين تحتها، موضع من بلاد بني غفار بين مكة والمدينة، وقيل: هو قليب ماء لبني ثعلبة.
__________
(1) في (ط):" ثلاثة ".
(2) في (أ) و(هـ):" العباديد ".
(3) في (ط) و(هـ):" ثلاثة ".(5/51)
وقوله:" فجعل يضحك بعضهم إلى بعض "، ليس فيه دليل على إشارتهم إليه به، وجمهور العلماء على أنه لا يجوز للمحرم أن يشير إلى الحلال بالصيد، ولا يدله عليه، وأجاز ذلك المزني. وما جاء في رواية العذري:" فجعل بعضهم يضحك إليَّ " خطأ وتصحيف، إنما سقط بعده " بعض " على ما جاء في سائر الروايات والأحاديث، ولو ضحكوا إليه لكانت أكبر إشارة، وقد سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث:« هل منكم أحد أمره أو أشار إليه ؟ »، قالوا: لا، قال:« فكلوا »، وإذا دل المحرم الحلال على الصيد لم يؤكل.
واختلف(1) في وجوب الجزاء على الدال، فقال مالك والشافعي وأبو ثور: لا شيء عليه، وقال الكوفيون، وأحمد وإسحاق، وجماعة من الصحابة والتابعين: عليه الجزاء. وكذلك اختلفوا إذا دلّ محرم محرمًا، فذهب الكوفيون، وأشهب من أصحابنا إلى أن على كل واحد منهما جزاءٌ، وقال الشافعي ومالك وأبو ثور: الجزاء على المحرم القاتل وحده، وكذلك [ في هذا كله مناولة السوط والرمح فيه من الخلاف مثل ما تقدم، وكذلك](2) كل ما قل وكثر من المعونة حكمها عند أصحابنا سواء، خلافًا لأبي حنيفة أنه لا يؤثر فيه إلا معونة لا تقدر على الصيد إلا بها.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« هل منكم أحد أمره أو أشار إليه ؟» قالوا: لا دليل واضح في أن للإشارة تأثيرًا في الصيد والجزاء، وفسر شيوخنا هذه الإشارة المؤثرة والدلالة: أن يكون ليصطاد للمشير، والدال والكلام في أكل ما كان بهذه السبيل كالكلام فيما ذبحه المحرم أو صاده. وقالى الداودي في هذا الحديث: إن المحرم إذا ضحك ليفطن الحلال بالصيد لم يمنع من أكله، وهو نحو مما تقدم، وليس في الحديث أنهم ضحكوا لينبهوه، ولعلهم إنما ضحكوا(3) إعجابًا بتأتى هذا الصيد، وتأتى صائدة الحلال ولم يفطن له.
__________
(1) في (ط):" اختلفوا ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) في (أ):" ضحكا ".(5/52)
وقوله:« هل معكم من لحمه شيء ؟» وأكله منه، وقوله لهم:« كلوه »، دليل واضح على جواز أكل المحرم ما صاده الحلال، إذا لم يصد من أجله، وقد تقدم الكلام فيه قبل.
وقوله:« هل معكم من لحمه شيء ؟» وأكله منه: إنما فعل ذلك استطابة لنفوسهم لا على المسألة، وعندى أن ذلك ليبين لهم أكله، وجواز ذلك ابتداء ؛ لأنه قال - لما قالوا: نعم -:« كلوه ».
وقوله: ارفع فرس شأوًا ". الشأو: الطلق والغاية، أي: أجريته طلقًا فأرحته من الجري آخر.
وقوله:« هل أشرتم أو أعنم أو أصدتم ؟»، كذا رويناه بتخفيف الصاد في حديث شعبة في اللفظ الأول، ومعناه: أمرتم بالصيد، أو جعلتم من يصيد، وقيل: معناه: أثرتم الصيد من موضعه، يقال: أصدته مخفف، أي: أثرته، وهو أولى رواية من رواه:" صدتم "، أو " أصدتم ؟، بالشد ؛ إذ قد علم - عليه السلام - أنهم لم يصيدوا، وإنما سألوه عن صيد غيرهم.
وقوله: " فلما استيقظ طلحة وفق من أكله "، قيل: معناه: وفقت، أي: صوب له ذلك، كذا ضبطنا اللفظة عن كافة شيوخنا، وغيرها خطأ.
وقوله: في الرواية الأخرى: عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن(1) أبي قتادة: انطلق أبي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، وفي رواية ابن موهب عنه، عن أبيه في هذا الحديث: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجًّا(2)، وخرجنا معه.
__________
(1) قوله:" ابن " ليس في (أ) و(هـ).
(2) قوله:" حاجًّا " ليس في (أ).(5/53)
وقوله - عليه السلام - في حديث القاسم عن عائشة:« أربع كلهن فاسق يقتلن في الحل والحرم: الحدأة، والغراب، والفأرة، والكلب العقور »، وفي حديث سعيد عنها: " خمس "، وزاد:"الحية "، وفي حديث عروة عنها:" خمس "، وقال:" العقرب " مكان " الحية "، ومثله في حديث ابن عمر وحفصة، وفي الرواية الأخرى عن ابن عمر زاد:"الحية، والعقرب "، فجاءت ستة، وذكر(1) في حديث سعيد بن المسيب عن عائشة:" الغراب الأبقع "، وفي غير كتاب مسلم ذكر:" الأفعى "، فيها فهي سبعة، قال الإمام: مالك والشافعي يريان أن التحريم يتعلق بمعاني هذه الخمس دون أسمائها، وأنها إنما ذكرت لينبه بها على ما شركها في العلة، لكنهما اختلفا في العلة ما هي ؟ فقال الشافعي: العلة أن لحومها لا تؤكل، وكذلك كل ما لا يؤكل لحمه من الصيد مثلها، ورأى مالك: أن العلة كونها مضرة، وأنه إنما ذكر الكلب العقور ؛ لينبه به على ما يضر بالأبدان على جهة المواجهة والمغالبة، وذكر العقرب ؛ لينبه به على ما يضر بالأجسام على جهة الاختلاس، وكذلك ذكر الحدأة والغراب، للتنبيه على ما يضر بالأموال مجاهرة وذكر الفأرة ؛ للتنبيه على ما يضر بالأموال اختفاء.
وقد اختلف في المراد بقوله:" الكلب العقور "، فقيل: هو الكلب المألوف، وقيل: المراد به كل ما يفترس لأنه يسمى في اللغة كلبًا، ومذهب مالك أن ما لا يبتدئ جنسه بالأذى كسباع الطير لا يقتل، إلا أن يخافه المرء على نفسه فتؤدي مدافعته إياها إلى قتلها فلا شيء عليه. وأما صغار ما يجوز قتله، فهل يقتل أم لا ؟ فيه قولان، فعلى القول بأنها لا تقتل، فإن قتلت هل على قاتلها جزاء ؟ فيه قولان.
__________
(1) في (هـ):" وجاء ".(5/54)
قال القاضي: ومعنى تسميتها فواسق: أصل الفسق في كلام العرب الخروج، وسمى الفاسق لخروجه عن أمر الله، وطريق طاعته، قيل: فسميت هذه لخروجها عن الحرمة التي لغيرهن وأن قتلهن للمحرم. وفي الحرم مباح، وهذان الوجهان أولى ما قيل فيهما من قول الفراء: سميت الفأرة بذلك لخروجها من جحرها، وهو قول ابن قتيبة: سمي الغراب بذلك لتخلفه عن نوح ؛ إذ لا يسمى كل متخلف وكل خارج فاسقًا في عرف الاستعمال، وكذلك قول من قال: سميت بذلك من التحريم ؛ لقوله تعالى بعد ذكر المحرمات:{ ذلكم فسق }، ولقوله:{ أو فسقًا أهل لغير الله به }؛ إذ ليس المراد هنا بالفسق مجرد الأكل، بل الأفعال المنهي عنها، ولا خلاف بين العلماء في استعمال هذا الحديث والأخذ به، وجواز قتل ما ذكر فيه للمحرم، إلا شذوذًا يروى(1) عن على ومجاهد: لا يقتل الغراب، ولكن يرمى، ولا يصح عن علي. وروي في ذلك حديث فيما يقتل المحرم، وفيه:" ويرمى الغراب ولا يقتله، وقالت طائفة أخرى: لا يقتل من الغربان إلا الأبقع، وهو الذي في بطنه وظهره بياض، على ما جاء في حديث سعيد عن عائشة.
__________
(1) في (ط):" قرئ "، وفي (هـ):" قروى ".(5/55)
وحكى الباجي عن النخعي: أنه لا يقتل المحرم الفأرة فإن قتلها فداها، وهذا خلاف النص، وحكى الخطابي عن مالك أنه لا يقتل الغراب الصغير، وتأول أنه نوع من الغربان تأكل الحب، وعندى أنه تحريف على مالك من قوله في قتل صغارها، يعني فراخها، فمالك وكثير من أصحابه يقولون: لا يقتلها المحرم حتى تكبر وتؤذى ؛ لأن صغارها لا تؤذى. ولم يرد مالك بصغار الغربان جنسًا دون جنس. واختلف العلماء هل المراد بما سمى في الحديث أعيانها أم التنبيه على المعاني المتأذي به منها ؟ فظاهر قول جمهورهم على أن المراد أعيانها لأمور اختصت بها وتسميتها فواسق، وهو ظاهر قول مالك وأبي حنيفة، قال مالك: لا يقتل المحرم الوزغ وإن قتله وداه، ولا يقتل خنزيرًا، ولا قردًا مما لا(1) ينطلق عليه اسم كلب في اللغة ؛ إذ جعل الكلب صفة لا اسمًا. وهو قول كافة العلماء، وأنه لا يختص بالكلب نفسه، ولا من الطير ذوات المخالب سوى ما ذكر في الحديث، وقال: إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خمس "، فليس لأحد أن يجعلهن ستًّا ولا سبعًا. ورأى أن لفظة الكلب لم يختص بالإنسي، وأنها تنطلق على كل عاد مفترس غالبًا كالسباع والنمور والفهد والذئب، ووافقه أكثر العلماء على أنه لم يرد بالكلب المسمى به عرفًا، بل كل ما ينطلق عليه هذا الاسم من السباع العادية المفترسة، وهو قول الثوري وأحمد وابن عيينة، وزيد بن أسلم، وإليه نحا الشافعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح والأوزاعي: يقصر(2) اسم الكلب على الكلب العرفي، وقالوا: الذئب مثله، وحمل زفر الكلب على الذئب وحده.
__________
(1) قوله:" لا " ليس في (ط).
(2) في (ط):" يقضى ".(5/56)
وقيل: بل المراد بتعيين هذه الخمسة التنبيه على ما شابهها في الأذى، وقاسوا سائر السباع على الكلب العقور، وسائر ما يتصدى للافتراس من السباع، وعلى الحدأة والغراب ما في معناهما، وإنما خصا لقربهما من الناس، ولو وجد ذلك من الرخم والنسور لكانت مثلها، وكذلك نبه بالفأرة على ما ضرره مثلها وأشد منها كالوزغ، وكذلك نبه بالعقرب على الزنبور، وبالحية والأفعى على أشباههما(1) من ذوات السموم والمهلكات، والى هذا نحا القاضي أبو الحسن بن القصار في تفسير المذهب، وذهب الشافعي إلى أن التنبيه بذكر ما ذكر على تحريم أكلهن وجعله العلة في كل ما يقتله المحرم، فيقتل عنده كل سبع، وكل ذي مخلب من الطير كالنسور والرخم، وكذلك البازي، وكل ما ليس بصيد، ويقتل صغار كل ذلك عنده وكباره (2)، ولا يقتل عنده الضبع والثعلب والهر لجواز أكلها عنده، وكذلك لا يقتل عنده السِّمع، ولا يقتلها(3)أيضًا عند مالك ؛ لأنها ليست من المفترسة غالبًا، ولا مما يسمى كلبًا، ولا عند أبي حنيفة ؛ لأنها ليست مما نص عليه.
واتفقوا على أن كل سبع مما رأوا قتله ابتداء جائزًا، أو مما لا يرى منهم أحد قتله أنه إذا ابتدأ المحرم وخافه أنه يقتله ولا فدية عليه، كما لو شاوره ابن آدم، إلا زفر فمن قتل عنده ما(4) لا يباح(5) له قتله ابتداء فداه، وإن صال عليه، ووقع لبعض أصحابنا في سباع الطير غير الحدأة والغراب إذا قتلها المحرم الفدية، وإن ابتدأته، والمعروف خلافه، وروى عن مالك أيضًا في الغراب والحدأة أنه لا يقتلها المحرم إلا أن تبتديه، والمشهور والظاهر من مذهبه خلافه كما تقدم، وروى عنه أيضًا في الذئب أنه لا يقتله المحرم ابتداء، وكأنه ضعف عنده أمر افتراسه غالبًا، والله أعلم.
__________
(1) في (أ):" أشباهها ".
(2) في (ط) و(هـ):" أو كباره ".
(3) في (ط):" يقتل ".
(4) في (هـ):" مما ".
(5) في (ط) و(هـ):" يبيح ".(5/57)
ولم يختلف في قتل الحية والعقرب، ولا اختلف(1) في قتل الحلال الوزغ في الحرم. قال مالك: ولو تركت لكثرت، وشأن المحرم يسير، وقد خرج مسلم الأمر بقتلها آخر الكتاب.
والحدأة: بكسر الحاء مهموز، والجمع حداء مقصور مهموز، وكذا جاء في بعض الروايات، وقد يكون مفردًا يراد به المذكر(2)، وأما رواية " الحديا " فكذا جاء هنا مقصورا. قال ثابت: وصوابه الهمز على معنى التذكير، وإلا فحقيقته الحديأة، وكذا قيده الأصيلى في "صحيح البخاري" في موضع، أو "الحدية " على التسهيل والإدغام.
وقوله في الحية:« تقتل بصُغر لها »، أي: بمذلة وقهر، كما قال:{ وهم صاغرون }، ومن رواه:" صُغر لها "،[ بضم الصاد وإسكان الغين ضبطه في المشارق لها] (3)، فمعناه، أي: ذاك ذل لها. ومعنى لفظ:" العقور " هنا: الجارح، يقال: سرج معقر: إذا كان يجرح ظهر(4) الدابة، وقال الشاعر:
...... فتنفست كتنفس الظبي العقير
__________
(1) في (ط) و(هـ):" اختلاف ".
(2) في (ط):" الذكر ".
(3) ما بين المعكوفين ليس في (ط) و(هـ).
(4) في (ط) و(هـ):" أو ".(5/58)
أي: المجروح، وقيل: الدهش، وجاء في أكثر الأحاديث قتل هؤلاء الفواسق في الحرم، فيقاس عليه قتل كل من يجب قتله فيه، وإقامة الحدود به ممن اجترحها فيه، أو في غيره ثم لجأ إليه، وهذا قول لمالك وأصحابه والشافعي وغيرهما، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى التفريق بين ما اجترحه خارجًا أو فيه، وبين ما فيه النفس وغيرها(1)، فقال: ما اجترحه خارجًا ووجب فيه إتلاف النفس من الحدود لا تقام فيه، ويضيق عليه، ولا يكلم ولا يجالس ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج منه فيقام عليه خارجًا، وما كان دون النفس أو اجترحه في الحرم فيقام عليه، وروى عن ابن عباس وعطاء الشعبي والحكم نحوه، إلا أنهم لم يفرقرا بين ما فيه النفس أو غيره، وحجتهم قوله تعالى:{ ومن دخله كان آمنا }، والحجة عليهم أن من ضيق عليه هذا التضييق ليس يأمن، ومعنى الآية عندنا وعند أكثر المفسرين: أنه خبر عما كان من قبل الإسلام، وعطف على ما نص فيه من الآيات، وقيل: آمن من النار، وحكى بعضهم أن الآية منسوخة بقوله تعالى:{ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }، وروي عن ابن عمر وعائشة مثله، إلا أنه لا يهاج ولا يضيق عليه، فإذا خرج أقيم عليه الحد، وقال آخرون نحوه في التفريق، إلا أنهم قالوا: يخرج [اللاجئ إليه من غيره](2)، فيقام عليه الحد خارجًا، وهو قول ابن الزبير والحسن ومجاهد وحماد، وقيل: ظاهر الآية على البيت لا على الحرم. وقد اتفقوا أنه لا يقام ذلك عليه في البيت ولا في المسجد، ويخرج منه فيقام خارجا ؛ لأن المساجد تنزه عن إقامة الحدود.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" أو غيرها ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).(5/59)
وقوله:« لا حرج على من قتلهن »: عموم للمحرم والحلال لو لم يرد سواه، ولكن بنص(1) حديث ابن عمر رفع اللبس، بقوله:« لا جناح على من قتلهن في الحرم والإحرام »، على رواية ابن أبي عمر في كتاب مسلم، وفي رواية زهير بن حرب:" في الْحُرم " بالضم، وكذلك بيانه في حديثه الآخر: « من قتلهن وهو حرام »، وفي حديث مالك:« ليس على المحرم في قتلهن جناح ».
وذكر حديث كعب بن عجرة [ في حلق الرأس ](2)، وقوله - عليه السلام - له: «هل يؤذيك(3) هوام رأسك ؟» قال: نعم، قال:« فاحلق، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة »،[ وفي الرواية الأخرى:« أو انسك ما تيسر »، وفي الأخرى:" ثم اذبح شاة نسكًا ](4)"، وفي الأخرى: «أو تصدق بفرق بين ستة مساكين،[وفي الرواية الأخرى](1): وأطعم فرقًا(5) بين ستة مساكين »، والفرق: ثلاثة آصع(6)، وفي الأخرى:« أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على(7) ستة مساكين »، وفي الأخرى:« أو أطعم ستة مساكين نصف صاع(8) طعامًا لكل مسكين »، وكلها أحاديث متفقة المعنى في التقدير والتخيير، على ما جاء في كتاب الله تعالى من قوله عز وجل:{ ففدية من صيام أو صدقة أو نسك }، إلا ما جاء من التغيير في رواية العذري في حديث عبد الله بن مغفل(9)، من رواية ابن أبي شيبة، بقوله:« أو يطعم ستة مساكين، لكل مسكين صاع »، وهو وهم، وصوابه: رواية غيره:« لكل مسكينين » على التثنية. وفي هذا الحديث خلاف آخر في قوله أولا:« هل عندك نسك ؟»، قال: ما أقدر عليه، فأمره أن يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، ورواية ابن مثنى، وابن بشارٍ:«
__________
(1) في (أ) و(ط):" نص ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(3) في (ط) و(هـ):" له أتؤذيك ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(5) في (ط):" أو انسك ما تيسر " مكان:" وأطعم فرقًا ".
(6) في (أ):" آصوع ".
(7) في (أ) و(هـ):" على ".
(8) قوله:" نصف صاع " مكرر في (أ).
(9) في (أ) و(ط):" معقل ".(5/60)
هل تجد شاة ؟»، وعند ابن ماهان:" شيئًا" وهو وهم، وأما قوله في بعض الروايات:« أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين »، معناه: مقسومة على ستة مساكين.
قال الإمام: إن حلق رأسه لعذر فعليه أحد ثلاثة أشياء: صيام، أو صدقة، أو نسك. وكذلك إذا حلقه لغير عذر فهو مخير أيضًا عندنا، خلافًا لمن قال في المختار: عليه الدم. وذهب بعض الناس إلى أنه إذا حلق رأسه ناسيا فلا دم عليه.
قال القاضي: مذهب أبي(1) حنيفة والشافعي وأبي ثور إلى أنه لا يخير مع العمد وعدم الضرورة، ومعظم العلماء على وجوب الدم على الناسي،?وقال الشافعي في أحد قوليه، وداود وإسحاق: لا دم عليه. وحكم التطييب واللباس في هذا سواء عند هؤلاء كلهم، على ما تقدم من التخيير، والخلاف في وجوهه، قال أحمد بن صالح: حديث كعب بن عجرة معمول به عند جميع العلماء.
قال القاضي: ولم يقع في شيء منه خلاف إلا في الإطعام، فقد روى عن أبي حنيفة والثوري أن النصف صاع إنما هو في البر، وأما من التمر والشعير فصاع لكل مسكين، وهذا خلاف للحديث(2)؛ لنصه على ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين.
ذكره مسلم، وذكر مثله في الزبيب في كتاب أبي داود، وعن أحمد بن حنبل في روايته مدّ من البر أو نصف صاع من غيره، وكذلك روى عن الحسن وبعض السلف: أن الإطعام لعشرة مساكين، والصيام عشرة أيام ولم يتابعوا عليه، واتفق غيرهم ومن جاء بعدهم على ستة مساكين وثلاثة أيام، ونص الحديث يحج هؤلاء المذكورين قبل. وفي قوله في الحديث:« أطعم فرقًا بين ستة مساكين »، وفي الروايات الأخر:« أطعم ثلاثة آصع »، بيان مقدار الفرق، وأنه - كما قيل -: مقدار خمسة عشر رطلاً، إذ الثلاثة آصع ستة عشر رطلاً على مذهب أهل الحجاز، وهو بإسكان الراء، وقيل بالفتح أيضًا، وقد تقدم في الطهارة.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" ذهب أبو ".
(2) في (أ):" الحديث ".(5/61)
وقوله:« انسك شاة »، وفي الرواية الأخرى:« انسك ما تيسر »، يدل أنه الشاة لتفسيره بها في الحديث الآخر(1)، وتسميتها نسكًا دليل أن فدية الأذى ليس حكمها حكم الهدي في سوقها إلى مكة، وكذلك الإطعام، وليفعلها حيث شاء، وهو قول مالك وغيره، ولم يختلف قول الشافعي أن الدم والإطعام لا يكون إلا بمكة، واختلف فيه قول أبي حنيفة، فقال مرة بقول الشافعي، ومرة قال: إنما ذلك في الدم دون الإطعام، وهو قول أصحابه، وقول عطاء، ولم يختلف في الصيام أنه يكون حيث شاء.
وفي قوله:« احلق رأسك، ثم اذبح نسكًا »، حجة لما عليه جماعة العلماء من أن الفدية إنما تكون بعد فعل يوجب ذلك عليه.
وقوله:" والقمل يتهافت على وجهه "، أي: يتساقط.
وقوله:" فأنزل الله فيه:{ فمن كان منكم مريضًا أو به أذىً من رأسه} الآية، ظاهره أن نزول الآية بعد الحكم، وفي حديث عبد الله بن مغفل أنها قبل الحكم والله عز وجل أعلم. ويحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى فيها بوحي، ثم نزل فيه(2) القرآن يتلى.
__________
(1) قوله:" الآخر " ليس في (أ).
(2) في (أ) و(ط):" به ".(5/62)
وقوله:" احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم وسط رأسه "، لا خلاف بين العلماء في جواز ذلك له للضرورة، حيث كان من رأسه أو جسده، وأما لغير ضرورة في جسده، وحيث لا يحلق شعرا فجمهورهم على جوازه، وهو قول سحنون من أصحابنا، ومالك يمنعه لغير ضرورة، وروى عن ابن عمر. قال الداودي: وروى عن النبي - عليه السلام - أنه قال في حجامة وسط الرأس: " شفاء من النعاس والصداع والأضراس ". قال الليث: وليس وسط الرأس، لكن في فاس الرأس وهو مؤخره، وأما وسط(1) الرأس فقد يعمي، وإباحة الحجامة للمحرم لضرورة إخراجه الدم(2) عند هيجانه وغلبته، وخوف تبيغه فيقتل إن لم يبادر بإخراجه، كما جاء في الحديث الآخر من أمره - عليه السلام - بذلك لهذه العلة. واتفقوا إذا احتجم برأسه فحلق لها شعرًا أنه يفتدي، وجمهورهم على أن حكم حلق شعر الجسد كذلك، إلا داود فلا يرى في حلق شعر الجسد لضرورة الحجامة دمًا، والحسن يوجب عليه الدم في الحجامة، وفي هذا الحديث حجة لكل ما يدعو إليه المحرم من ضرورة، وزوال أذى عنه، وقطع(3) عرق وبَط خراج، وقطع ما انكسر من أظفاره ولا شيء عليه، ولا خلاف في هذا.
__________
(1) في (ط):" قافيه ".
(2) في (ط):" لضرورة الحجامة ".
(3) في (ط) و(هـ):" من قطع ".(5/63)
وقوله في المحرم إذا اشتكى عينيه:" ضمدها بالصبر " معناه: لطخهما، ولا خلاف في مثل هذا،إذ ليس بطيب ولا زينة، ولا لمعاناة(1) بكل الأدوية غير(2) المطيبة، فإن اضطر إلى المطيب افتدى. ولا خلاف أن للمحرم أن يكتحل إذا احتاج إليه، والحجة عندهم ما جاء في هذا، الحديث، ولا فدية عليه فيه ما لم يكن فيه طيب، وأما إن اكتحل فأباحه قوم وكرهه أخرون، وفي مذهبنا في ذلك قولان: المنع، والكراهة، وعلى القول بالمنع في إيجاب الفدية عليه قولان،وبكراهة ذلك للزينة قال أحمد وإسحاق والثوري، وقال الشافعي: لا أرى عليه دمًا، رجلاً كان أو امرأة.
__________
(1) في (أ) و(ط):" والمعاناة ".
(2) في (ط):" عند ".(5/64)
وذكر مسلم حديث غسل المحرم رأسه إذا اغتسل، واختلاف المسور وابن عباس في ذلك، وإرسال ابن عباس إلى أبي أيوب ؟ كيف كان يغسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه وهو محرم ؟ وقول أبي أيوب لإنسان يصب على رأسه: اصبب، ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل. فيه رجوع الصحابة إلى الحجة بالسنة، وترك آرائهم واجتهادهم لها، وفيه أن ابن عباس كان عنده علم من أن أبا أيوب يعلم ذلك لقوله:" كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه "، وترجم عليه في بعض نسخ مسلم: كيف كان يغسل المحرم رأسه من الجنابة. وليس في هذا الحديث مبينًا ولا في غسل أبي أيوب لم كان، ولا خلاف في اغتساله من الجنابة، ولا في تحريكه بيديه. فيه(1) زيادة على ما يفعله الماء ولأنها ضرورة لابد منها. وكان المسور خشي من ذلك قتل الهوام أو إلقائها بحركة اليد عن الرأس، وذلك مما(2) لا يؤمن من صب الماء عليه لو لم يحرك، فهما سواء ودل كلامهم أن اختلافهم إنما هو في التحريك للشعر لا في صب الماء، أو في اغتسال التبرد(3) أو الغسل، إذ لا خلاف في غسل رأسه من الجنابة.
واختلف في غسله تبردًا وغسل رأسه بالماء، فجمهور العلماء على إجازته، كما قال عمر: لن يزيده الماء إلا شعثًا.
واختلف في التأويل على مذهب مالك في غسل رأسه بالماء لغير جنابة، فقيل عنه مثل هذا، وقيل: كراهته، إلا أنه كره غمس رأسه في الماء، إما لأنه بتحريك يده عليه في غسله أو في غمسه قد يقتل بعض ما فيه من الدواب، وقد يتساقط بحركة يده عليه بعض شعره، وقيل: لعله رآه من باب تغطية الرأس. واختلف أصحابه في ذلك، وفي الفدية على فاعله، وأجاز مالك غسل جسده من غير تدلك.
__________
(1) في (هـ):" ليس فيه ".
(2) في (ط) و(هـ):" ما ".
(3) في (هـ):" التبريد ".(5/65)
واختلفوا في غسل المحرم رأسه بالخطمى والسدر، ففقهاء الأمصار على كراهية ذلك له، ومالك وأبو حنيفة يريان عليه إن فعل فدية، ولم ير عليه غيرهما فدية، وروى عن بعض السلف إباحة ذلك لمن كان ملبدًا.
وقوله:" فوجدته يغتسل بين القرنين "، هما الخشبتان القائمتان على رأس البئر وشبهها من البناء يمد بينهما خشبة يجر عليها الحبل ليستقى عليها، أو تعلق منها البكرة.
وقوله:"فسلمت عليه "، فيه دليل على جواز السلام على المتطهر والمتوضئ بخلاف من هو على الحدث، وحديثه معه وسلامه عليه وهو بتلك الحال ؛ لأنه كان مستورا بثوب كماجاء فى الحديث.
وقوله:" فقال لإنسان يصب، فصب على رأسه، فحرك(1) رأسه بيديه"، حجة لما تقدم، وحجة في أن معلم الطهارة إذا نوى معها(2) التطهير لا يضره.
وقوله في الذي وقص عن(3) راحلته، فمات محرماً:« اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، ولا تحنطوه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيًا »، هذا الحديث مما اعتمد عليه الشافعي في المحرم إذا مات أنه لا يحنط ولا يغطى رأسه، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال مالك والكوفيون والحسن والأوزاعي: إن المحرم يفعل به ما يفعل بالحلال، وقد احتج مالك على هذا بأن العمل إنما يلزم الإنسان ما دام حيًّا، وهذا هو الأصل، وتأويل الحديث عند من قال بخلافه: أنها قضية في عين مخصوصة لا تعدى إلا بدليل، وهذا حجة في إحرام الرجل في رأسه، ولا خلاف فيه.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" ثم حرك ".
(2) في (هـ):" بفعلها ".
(3) في (هـ):" على ".(5/66)
وقد اختلف العلماء في تغطية المحرم وجهه(1) مع اتفاقهم على وجوب إحرام رأسه، فذهب مالك إلى منعه للرجال، وأن إحرام الرجل في رأسه ووجهه، والمرأة في وجهها فقط، وهو قول أبي حنيفة، ولأصحابنا في ذلك وجهان ؟ هل هو على الوجوب أو الندب ؟ وجمهورهم على أنه لا إحرام في وجه الرجل، وأن نهيهم عن حنوطه في حقهم لكونهم محرمين، ولأن في تغطيته وتطييبه تمام المراد من غسله وتنظيفه وستره كسائر الموتى، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: « فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا »، ولا علم لنا بهذه الصفة لغيره.
وقوله:« اغسلوه بماء وسدر »، يدل أن حكم الإحرام ساقط عنه، إذ مثل هذا لا يجوز للمحرم من(2) إزالة الدرن بالسدر وشبهه من الخطمى، وقد منعه مالك من أن يغسل رأسه بالخطمى وأن يتدلك، وعليه فيهما الفدية إن فعل، ونحوه للشافعى وأبي حنيفة وصاحبيه وأبي ثور، إلا أن محمدًا وأبا يوسف قالا: إن فعل فعليه صدقة، وقال أبو ثور: لا شيء عليه. وقولهم بهذا مع ما جاء في الحديث يرد قولهم: إن حكمه ميتًا حكم المحرم. ورخص طاوس وعطاء ومجاهد للمحرم في غسل رأسه(3) بالخطمى، واختاره(4) ابن المنذر، واحتج بهذا الحديث، واحتج به أيضًا الداودي على جواز ذلك للمحرم.
__________
(1) في (ط):" رأسه ".
(2) في (ط):" من ".
(3) في (هـ):" رأسه للمحرم ".
(4) في (هـ):" أجازه ".(5/67)
وقوله:" في ثوبيه "، كذا أكثر الروايات، وفي حديث الزهري وابن بشار: " في ثوبين "، فعلى الرواية الأولى يحتج به الشافعي في بقاء حكم الإحرام عليه، وأن معناه: أن يكفن في ثياب إحرامه، لا أنه منع من الزيادة عليه إن احتاج إليه، وهو عندنا(1) على الخصوص لذاك الشخص ؛ لأنها قضية في عين وإخبار عن شخص معين. ومن رواه: " ثوبين "، فقيل: معناه ما تقدم، أي: ثوبيه اللذين عليه، ويحتمل أن يريد: ازيدوا على ثوبه(2) الذي أحرم فيه(3)، وكان عليه ثوبين(4)؛ ليكون ثلاثة، إذ الوتر في الكفن مشروع. ومعنى:" خر " سقط، و " وقص "، أي: انكسر(5) عنقه، وروي في الحديث الآخر: " فأوقصته ناقته "، وروي:" فوقصته "، وهما صحيحان، وروى:" فاقعصته(6)"، وهو بمعنى: قتلته لحينه، ومنه: قعاص(7) الغنم، وهو موتها بداء يأخذها فلا يلبثها، ويروى:" فاقعصته" كذا جاء رباعيًا، ووجهه: فقعصته، ثلاثي، أو قصعته، ومعناه: شدخته، وفضخته، من قولهم: قصعت القملة(8) بين ظفرى: فضختها، وجاء في رواية السمرقندي في حديث أبي كامل:" فوقصته بعيره "، هو بمعنى ناقته في الحديث الآخر، ويقال للناقة أيضًا(9)، بعير أيضًا، هو اسم منطلق على الذكر والأنثى، ويروى:" فإنه يبعث ملبيًا، ويروى:" ملبدًا "، ومعناه: على هيئته التي مات عليها وبعلامة حجه، فضيلة له، كما جاء في الشهداء: أنهم يحشرون بسيوفهم على عواتقهم، وفي المكلوم في سبيل الله يحشر وجرحه يثعب دمًا.
__________
(1) في (ط):" عينها ".
(2) في (هـ):" ثوبيه ".
(3) في (هـ):" فيهما ".
(4) في (هـ):" ثوبان ".
(5) في (هـ):" ووقص انكسرت ".
(6) في (أ) و(ط):" فافعصته ".
(7) في (أ):" فعاص".
(8) في (هـ):" اللقمة ".
(9) قوله:" أيضًا " ليس في (ط) و(هـ).(5/68)
وذكر مسلم في هذا الحديث: ثنا محمد بن الصباح، ثنا هشيم، ثنا أبو بشر، ثنا سعيد بن جبير. كذا لهم، وكان عند ابن أبي جعفر لابن ماهان: ثنا أبو يونس " مكان " أبي بشر، وهو وهم، والصواب: أبو بشر، كما جاء في سائر الروايات بعده. وأبو بشر هذا هو العنبري، واسمه الوليد بن مسلم يعد في البصريين. تفرد به مسلم، كذا قال الحاكم، وكذا نسبه وسماه البخاري في تاريخه.
وذكر مسلم في الباب: ثنا عبد(1) بن حميد، أنبأنا عبيد الله بن موسى، أنا إسرائيل، عن منصور، عن سعيد بن جبير: أن ابن عباس... الحديث، كذا قاله مسلم، وهو مما استدركه عليه الدارقطني، وقال: إنما سمعه منصور من الحكم، وكذا أخرجه البخاري، عن منصور، عن الحكم، عن سعيد، وهو الصواب، وقيل: عن منصور عن سلمة، ولا يصح.
وقوله في حديث ضباعة بنت الزبير:« حجي واشترطي، وقولى: اللهم محلى حيث حبستني »، قال الإمام: من الناس من ذهب إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث، وأجاز الاشتراط، وجمهور الفقهاء على أن ذلك لا ينفع، وحملوا الحديث على أنها قضيةٌ في عين خصت بها هذه المرأة. وفيه دلالة على أن الإحصار بمرض لا يحل به المحرم من إحرامه، ولو كان يحل به لم يفتقر للشرط في هذا الحديث.
__________
(1) في (ط):" عبدالله ".(5/69)
قال القاضي: اختلف العلماء فرقتين في جواز الاشتراط، فمالك وأبو حنيفة، وبعض التابعين لا يرونه نافعًا، وروى كراهته عن ابن عمر، وتأول بعضهم الحديث بما ذكره وقال(1): أظنها كانت مريضة أو ذات عذر، فخصها بذلك، كما خص أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة(2) لعلة مخالفة الجاهلية، وأجاز عمر وعلى وابن مسعود في جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول أحمد وإسحاق، وأبي ثور والشافعي القولان جميعًا،[ وقد تأوله أخرون على معنى النية بالتحلل بعمرة، وقد جاء مفسرًا من رواية ابن المسيب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر ضباعة أن تشترط: اللهم الحج أردت فإن تيسر وإلا فعمرة، وعن عائشة نحوه، أنها كانت تقول: للحج خرجت، وله قصدت، فإن قضيته فهو الحج، وإن حال دونه شيء فهو عمرة . قال الأصيلي: لا يثبت في الاشتراط إسناد صحيح، قال النسائي: لا أعلم أسنده عن الزهري غير معمر، وغيره من جماعة الحفاظ لا يذكرونه، وقد أنكر الزهري الاشتراط، وأنكره ابن عمر وغيره ](3).
وقوله: نفست أسماء بنت عميس بالشجرة، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن تغتسل وتهل.
قال القاضي: يقال في الحيض والولادة: نفست ونفست بالضم والفتح، والضم في الولادة، والفتح في الحيض أكثر، وحكى الحربي وغير واحد أنه لا يقال في الحيض إلا بالفتح، وحكى الوجهين فيهما صاحب الأفعال. قال الإمام: في الحج ثلاثة أغسال: إحداها: للاحرام. والثاني: لدخول مكة. والثالث: للوقوف بعرفة. وآكدها غسل الإحرام. والحائض والنفساء يغتسلان للإحرام، والوقوف، ولا يغتسلان لدخول مكة ؛ لأنه لأجل الطواف، وهما لا يدخلان المسجد.
__________
(1) في (هـ):" وقال فاطمة ".
(2) في (ط):" الحج والعمرة "، وفي (هـ):" الحج من العمرة ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).(5/70)
قال القاضي: هذه الأغسال عندنا سنن(1) مؤكدة غير واجبة، وقد زاد بعض علمائنا فيها غسل الطواف بالبيت وأوكدها غسل الإحرام، قال بعض أصحابنا عنه: إنه أوكد عنده من غسل الجمعة، ويستدل من قال بتأكيده بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - للنفساء به، وقد أطلق أيضًا مالك على جميعها الاستحباب. وبقولنا في تأكيد غسل الإحرام قال الشافعي وجماعة العلماء، ولم يقل بوجوبه إلا الحسن وعطاء في أحد قوليه، وقال(2) أهل الظاهر لهذا الحديث، وقال الكوفيون والأوزاعي: الوضوء يجزئ منه، كأنهم رأوه مستحبًا، وروى عن عطاء أيضًا. وفي الحديث ان الحيض والنفاس لا ينافى عمل الحج كله، إلا ما يتعلق بدخول المسجد من الطواف والركوع بعده، وما يتصل به من السعي، كما قال - عليه السلام -: " وافعلى ما يفعل الحاج غير ألا تطوفى بالبيت، ولا خلاف بين العلماء في ذلك كله، إذ لا يجوز دخول غير الطاهر المسجد، ولا صلاة بغير طهور. وفيه جواز الإحرام بغير صلاة، إذ لا تصح منها الصلاة، وقد تقدمت المسألة قبل.
وقوله:" بالشجرة(3)"، وفي الرواية الأخرى:" بذي الحليفة "، وفي رواية مالك:" بالبيداء "، فكلها مواضع متقارب بعضها من بعض، والشجرة بذي الحليفة، والبيداء طرف منها، فمحتمل أن نزولها بسبب الولادة كان بالبيداء، لتبعد عن الناس، فذكر في هذا الحديث منزلها حقيقة، وكان نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ بذي الحليفة من حيث أهل، وهناك بات، وهي عند الشجرة، فسمى منزل الناس كلهم باسم منزل إمامهم، والله أعلم. وفيه ما علم من عادة الصحابة من تحمل السنن بعضهم عن بعض بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، واكتفائهم بذلك عن سماعها منه. وفيه سؤال الرجل عما يلزم من يقوم عليه ومراعاته أمر دينهم ودنياهم.
__________
(1) في (هـ):" سنة ".
(2) في (ط) و(هـ):" وقاله ".
(3) قوله:" بالشجرة " ليس في (أ).(5/71)